شرح نهج البلاغة (موسوی) المجلد 4

هویة الکتاب

شرح نهج البلاغة (موسوی)

شارح: موسوی، عباس علی

جامع: شریف الرضی، محمد بن حسین

كاتب: علی بن ابی طالب (ع)، امام اول

لغة: العربية

الناشر: دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - بیروت لبنان

سنة النشر:1418 هجری قمری|1998 میلادی

قانون الكونجرس: / م 8 38/02 BP

مكان النشر: بیروت - لبنان

سال نشر: 1377 ش

موضوع: علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - خطب

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - حروف

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - الأمثال

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. نهج البلاغة - نقد و تفسیر

لغة: العربية

عدد المجلدات: 5

ص: 1

اشارة

شرح نهج البلاغة (موسوی)

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

شرح نهج البلاغة (موسوی)

دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - دارالمحجة البیضاء

ص: 4

تتمة باب المختار من الخطب

221 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله بعد تلاوته: «أَلْهٰاكُمُ اَلتَّكٰاثُرُ حَتّٰى زُرْتُمُ اَلْمَقٰابِرَ» .

يا له مراما (2) ما أبعده! و زورا (3) ما أغفله! و خطرا (4) ما أفظعه (5)! لقد استخلوا (6) منهم أيّ مدّكر (7)، و تناوشوهم (8) من مكان بعيد! أ فبمصارع (9) آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى (10) يتكاثرون (11)! يرتجعون منهم أجسادا خوت (12)، و حركات سكنت. و لأن يكونوا عبرا، أحقّ من أن يكونوا مفتخرا، و لأن يهبطوا بهم جناب (13) ذلّة، أحجى (14) من أن يقوموا بهم مقام عزّة! لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة (15)، و ضربوا (16) منهم في غمرة (17) جهالة، و لو استنطقوا عنهم عرصات (18) تلك الدّيار الخاوية (19)، و الرّبوع (20) الخالية، لقالت: ذهبوا في الأرض ضلاّلا (21)، و ذهبتم في أعقابهم (22) جهّالا، تطئون (23) في هامهم (24)، و تستنبتون (25) في أجسادهم، و ترتعون (26) فيما لفظوا (27)، و تسكنون فيما خرّبوا (28)، و إنّما الأيّام بينكم و بينهم بواك (29) و نوائح (30) عليكم.

أولئكم سلف (31) غايتكم (32)، و فرّاط (33) مناهلكم (34)، الّذين كانت لهم مقاوم (35) العزّ، و حلبات (36) الفخر، ملوكا و سوقا (37). سلكوا (38) في بطون البرزخ (39) سبيلا سلّطت (40) الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم، و شربت من دمائهم، فأصبحوا في فجوات (41) قبورهم جمادا لا ينمون (42)، و ضمارا (43) لا يوجدون، لا يفزعهم (44) ورود الأهوال (45)، و لا يحزنهم

ص: 5

تنكّر الأحوال، و لا يحفلون (46) بالرّواجف (47)، و لا يأذنون (48) للقواصف (49). غيّبا لا ينتظرون، و شهودا لا يحضرون، و إنّما كانوا جميعا (50) فتشتّتوا (51)، و الافا (52) فافترقوا، و ما عن طول عهدهم، و لا بعد محلّهم، عميت (53) أخبارهم، و صمّت (54) ديارهم، و لكنّهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنّطق خرسا، و بالسّمع صمما، و بالحركات سكونا، فكأنّهم في ارتجال الصّفة (55) صرعى (56) سبات (57). جيران لا يتأنّسون، و أحبّاء (58) لا يتزاورون. بليت (59) بينهم عرى (60) التّعارف، و انقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلّهم وحيد و هم جميع، و بجانب الهجر (61) و هم أخلاّء (62)، لا يتعارفون لليل صباحا، و لا لنهار مساء.

أيّ الجديدين (63) ظعنوا (64) فيه كان عليهم سرمدا (65)، شاهدوا من أخطار (66) دارهم أفظع (67) ممّا خافوا، و رأوا من آياتها أعظم ممّا قدّروا، فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة (68)، فاتت مبالغ الخوف و الرّجاء. فلو كانوا ينطقون بها لعيّوا (69) بصفة ما شاهدوا و ما عاينوا.

و لئن عميت آثارهم، و انقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر (70)، و سمعت عنهم آذان العقول، و تكلّموا من غير جهات النّطق، فقالوا: كلحت (71) الوجوه النّواضر (72)، و خوت (73) الأجسام النّواعم، و لبسنا أهدام (74) البلى، و تكاءدنا (75) ضيق المضجع (76)، و توارثنا الوحشة، و تهكّمت (77) علينا الرّبوع (78) الصّموت (79)، فانمحت (80) محاسن أجسادنا، و تنكّرت (81) معارف صورنا، و طالت في مساكن الوحشة إقامتنا، و لم نجد من كرب (82) فرجا، و لا من ضيق متّسعا! فلو مثّلتهم (83) بعقلك، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، و قد ارتسخت (84) أسماعهم

ص: 6

بالهوامّ (85) فاستكّت (86)، و اكتحلت أبصارهم بالتّراب فخسفت (87)، و تقطّعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها (88)، و همدت (89) القلوب في صدورهم بعد يقظتها، و عاث (90) في كلّ جارحة منهم جديد بلى (91) سمّجها (92)، و سهّل طرق الآفة (93) إليها، مستسلمات (94) فلا أيد تدفع، و لا قلوب تجزع (95)، لرأيت أشجان (96) قلوب، و أقذاء (97) عيون، لهم في كلّ فظاعة (98) صفة حال لا تنتقل، و غمرة (99) لا تنجلي (100). فكم أكلت الأرض من عزيز جسد، و أنيق (101) لون، كان في الدّنيا غذيّ (102) ترف، و ربيب (103) شرف! يتعلّل (104) بالسّرور في ساعة حزنه، و يفزع (105) إلى السّلوة (106) إن مصيبة (107) نزلت به، ضنّا (108) بغضارة (109) عيشه، و شحاحة (110) بلهوه و لعبه! فبينا هو يضحك إلى الدّنيا و تضحك إليه في ظلّ عيش غفول، إذ وطىء الدّهر به حسكه (111) و نقضت (112) الأيّام قواه (113)، و نظرت إليه الحتوف (114) من كثب (115)، فخالطه (116) بثّ (117) لا يعرفه، و نجيّ (118) همّ ما كان يجده، و تولّدت فيه فترات (119) علل، آنس ما كان بصحّته، ففزع إلى ما كان عوّده الأطبّاء من تسكين الحارّ بالقارّ (120)، و تحريك البارد بالحارّ، فلم يطفىء ببارد إلاّ ثوّر (121) حرارة، و لا حرّك بحارّ إلاّ هيّج (122) برودة، و لا اعتدل بممازج (123) لتلك الطّبائع إلاّ أمدّ منها كلّ ذات داء، حتّى فتر (124) معلّله (125)، و ذهل (126) ممرّضه (127)، و تعايا (128) أهله بصفة دائه، و خرسوا عن جواب السّائلين عنه، و تنازعوا (129) دونه شجيّ (130) خبر يكتمونه: فقائل يقول: هو لما به (131)، و ممنّ (132) لهم إياب (133) عافيته، و مصبّر لهم على فقده، يذكّرهم أسى (134) الماضين من قبله. فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدّنيا، و ترك الأحبّة، إذ عرض له

ص: 7

عارض من غصصه (135)، فتحيّرت نوافذ (136) فطنته (137)، و يبست رطوبة لسانه. فكم من مهمّ (138) من جوابه عرفه فعيّ (139) عن ردّه، و دعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ (140) عنه، من كبير كان يعظّمه، أو صغير كان يرحمه! و إنّ للموت لغمرات (141) هي أفظع (142) من أن تستغرق (143) بصفة، أو تعتدل (144) على عقول أهل الدّنيا.

اللغة

1 - التكاثر: التفاخر و التباهي بكثرة المال أو العدد أو غيرها.

2 - المرام: المطلوب و المراد.

3 - الزور: بفتح الزاء و سكون الواو يطلق على الواحد و الجمع معناه الزائرون.

4 - الخطر: الإشراف على الهلاك.

5 - الفظيع: الشديد الذي تجاوز الحد في شدته.

6 - استخلوا: وجدوه خاليا أو ذكر من خلا أي مضى.

7 - المدكر: مصدر ميمي من الادكار بمعنى الاعتبار.

8 - التناوش: التناول.

9 - المصارع: مكان أو زمان الصرع و أصله الطرح على الأرض و يراد به الهلاك.

10 - الهلكى: جمع هالك الميت، الفاني.

11 - يتكاثرون: يتغالبون بكثرة المال و الرجال.

12 - خوت: خلت.

13 - الجناب: الفناء.

14 - أحجى: أولى و أجدر و أحجى من الحجى و هو العقل.

15 - العشوة: كالعشا سوء البصر.

16 - ضرب: في الماء سبح و في الأرض سار و أيضا خاضوا.

17 - الغمرة: شدة الشيء.

18 - العرصات: جمع عرصة كل بقعة من الأرض صالحة للعمارة و لكن لم تعمر.

19 - الخاوية: المنهدمة أو الخالية.

20 - الربوع: الديار.

21 - الضلال: جمع ضال و هو الهالك.

ص: 8

22 - أعقابهم: بعدهم.

23 - تطئون: تدوسون.

24 - الهام: جمع الهامة الرأس.

25 - تستنبتون: تزرعون النبات.

26 - ترتعون: تتلذذون و تتنعمون.

27 - لفظوا: رموا و طرحوا.

28 - خرّبوا: دمّروا و خرب البيت دمّره و هدمه.

29 - بواك: جمع باكية.

30 - نوائح: جمع نائحة.

31 - السلف: المتقدمون.

32 - الغاية: الحد الذي ينتهي إليه.

33 - الفراط: جمع فارط السابق إلى الماء و الورد.

34 - المناهل: جمع منهل الموضع الذي فيه المشرب.

35 - مقاوم: جمع مقام المجلس.

36 - الحلبات: جمع حلبة بالفتح و هي الدفعة من الخيل في الرهان.

37 - السوق: بضم ففتح جمع سوقة بالضم بمعنى الرعية.

38 - سلكوا: دخلوا.

39 - البرزخ: القبر، ما بعد الموت إلى البعث و أصله الحاجز بين الشيئين.

40 - سلطت: من سلّطه عليه أطلق له عليه القدرة و القهر.

41 - الفجوات: جمع فجوة و هي الفرجة، المتسع من الأرض.

42 - ينمون: من النماء و هو الزيادة.

43 - الضمار: ككتاب المال لا يرجى رجوعه.

44 - يفزعهم: يخيفهم.

45 - الأهوال: الأمور المخوفة.

46 - لا يحفلون: بكسر الفاء لا يبالون.

47 - الرواجف: جمع راجفة الزلزلة توجب الاضطراب.

48 - يأذنون: من أذن له و إليه إذا استمع معجبا.

49 - القواصف: الشديد و منه قوله: قصف الرعد إذا اشتد صوته.

50 - جميعا: مجتمعين.

51 - تشتتوا: تفرقوا.

52 - آلافا: جمع آلف أي مؤتلف مع غيره.

53 - عميت أخبارهم: اختفت.

ص: 9

54 - صمّت: من صم يصمّ بالفتح فيهما خرس عن الكلام.

55 - ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل.

56 - صرعى: جمع صريع أي هالك.

57 - السبات: بالضم النوم.

58 - أحباء: جمع حبيب.

59 - بليت: رثت و فنيت.

60 - العرى: جمع عروة مقبض الكوز.

61 - الهجر: القطيعة.

62 - الأخلاء: جمع الخليل و هو الصديق المختص.

63 - الجديدان: الليل و النهار.

64 - ظعنوا: رحلوا.

65 - السرمد: الدائم الذي لا أول له و لا آخر.

66 - الأخطار: جمع خطر الإشراف على الهلاك.

67 - الفظيع: الأمر الشديد.

68 - المباءة: مكان النزول و الاستقرار، المنزل.

69 - لعيوا: بتشديد الياء من عيي إذا عجز.

70 - العبر: جمع عبرة ما فيه عبرة وعظة.

71 - كلحت: من الكلوح تكشر مع عبوس.

72 - النواضر: النواعم و النضرة الحسن و الرونق.

73 - خوت: سقطت.

74 - الأهدام: جمع هدم بالكسر الثوب البالي أو المرقع.

75 - تكاءدنا: شق عليه و صعب.

76 - المضجع: القبر.

77 - تهكمت: تهدّمت.

78 - الربوع: الديار و أماكن الإقامة.

79 - الصموت: عدم النطق.

80 - انمحت: فنيت.

81 - تنكرت: تغيرت.

82 - الكرب: الشدة.

83 - مثلتهم: شبهتهم و صورتهم.

84 - ارتسخت: ثبتت أو من رسخ الغدير إذا نش ماؤه و نضب.

85 - الهوام: الديدان و الحشرات.

ص: 10

86 - استكت: انسدّت و صمّت.

87 - خسفت: غارت و ذهبت.

88 - ذلاقة اللسان: حدته في النطق.

89 - همدت: سكنت و خمدت.

90 - عاث: مشى فيها مفسدا.

91 - البلى: التحلل و الفناء.

92 - سمّج الصورة: قبحها.

93 - الآفة: العلة، مرض يصيب الشيء فيفسده.

94 - مستسلمات: منقادات طائعات. 95 - الجزع: عدم الصبر، الحزن.

96 - الأشجان: الأحزان.

97 - الأقذاء: جمع قذى ما يقع في العين فيؤذيها.

98 - الفظاعة: الأمور الشديدة.

99 - الغمرة: الشدة.

100 - تنجلي: تنكشف.

101 - الأنيق: الحسن المعجب.

102 - غذي ترف: غذي بالنعم المطغية.

103 - الربيب: الذي تربى و نشأ.

104 - يتعلل: يظهر العلة أو يشغل نفسه بالأباطيل.

105 - يفزع: يلجىء، و يهرب.

106 - السلوة: ما ينسيك عما يحزنك.

107 - المصيبة: البلية و كل شيء مكروه.

108 - ضنا: بخلا.

109 - غضارة العيش: نعيمه ولينه.

110 - الشحاحة: البخل.

111 - الحسك: نبات شائك.

112 - نقضت: هدمت.

113 - قواه: مفرده القوة و هي ضد الضعف.

114 - الحتوف: الموت.

115 - الكثب: بالتحريك القرب. 116 - خالطه: مازجه.

117 - البث: الحزن.

ص: 11

118 - النجي: المناجي من ناجاه إذا سارّه.

119 - الفترات: جمع فترة المدة من الزمن.

120 - القار: بتشديد الراء البارد.

121 - ثوّر: هيّج.

122 - هيّج: ثوّر.

123 - الممازج: من مزج إذا خلط.

124 - فتر: سكن بعد حدته و لان بعد شدته.

125 - المعلل للمريض: من يسليه عن مرضه بترجيه الشفاء و تعلل بالأمر تشاغل.

126 - ذهل عنه: بالفتح نسيه لشغل.

127 - الممرض: الذي يقوم على خدمة المريض.

128 - تعايا: من العيي و هو العجز عن الجواب.

129 - تنازعوا: تخاصموا.

130 - الشجى: ما يعترض في الحلق.

131 - هو لما به: أي مملوك لعلته فهو هالك.

132 - الممنّي: مخيّل الأمنية.

133 - الإياب: الرجوع.

134 - أسى: جمع أسوة ما يتأسى به و يقتدى.

135 - الغصص: جمع غصة و هو ما يعترض مجرى الأنفاس.

136 - النوافذ: جمع نافذ و هو الثاقب.

137 - الفطنة: جودة الذهن.

138 - المهم: الأمر الشديد.

139 - عيي: عجز عن النطق.

140 - تصام عنه: أظهر الصمم أي عدم السمع.

141 - الغمرات: الشدائد.

142 - أفظع: أشد.

143 - تستغرق: تستوعب و يؤتى على آخرها.

144 - تعتدل: تستقيم.

الشرح

اشارة

(الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) هاتان آيتان في مطلع سورة التكاثر و قد اختلف المفسرون في تأويلهما على قولين:

ص: 12

الأول: شغلكم التكاثر بالأحياء حتى إذا استوعبتم ذلك صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات و عبّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم.

و قيل كانوا يزورون المقابر فيقولون هذا قبر فلان و هذا قبر فلان عند تفاخرهم و المعنى: ألهاكم ذلك و هو مما لا يعنيكم و لا يجدي عليكم في دنياكم و آخرتكم عما يغنيكم من أمر الدين الذي هو أهم و أعنى من كل مهم.

الثاني: ألهاكم التكاثر بالأموال و الأولاد إلى أن متم و قبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا و الاستباق إليها و التهالك عليها إلى أن أتاكم الموت.

(يا له مراما ما أبعده و زورا ما أغفله و خطرا ما أفظعه) هذا الكلام من الإمام موعظة بالغة و نصيحة غالية من أجل إيقاظ الناس وردهم إلى اللّٰه و أن التفاخر يجب أن يكون بصالح الأعمال و الخيرات لا بالأموات...

تعجب الإمام من ضعف العقول و سخفها التي قادت هؤلاء القوم إلى أن يتفاخروا و لو بالأموات و قال: إن ذلك المرام بعيد جدا فإن هؤلاء الموتى أحق بأن يكونوا عبرة وعظة من أن يكونوا فخرا و شرفا.

كما قال: إن هؤلاء الزوار للقبور ما أشد غفلتهم حيث غفلوا عن الموعظة بالأموات و أنهم سوف يصيرون مثلهم إلى أن اتخذوهم وسيلة للمفاخرة و الشرف.

ثم أشار إلى الموت و أنه أمر مهول مرعب قد تجاوز الحد في الخوف لأنه يحمل معه السكرات و شدائد الموت و عقبات الحساب و العقاب و بلوغ النار و ما فيها من فزع و خوف و عذاب لا يطيقه ابن أنثى...

(لقد استخلوا منهم أي مدكر و تناوشوهم من مكان بعيد) أي وجدوا ديارهم خالية من أي مذكر لهم من الأسلاف و الأجداد لأنهم أضحوا تحت التراب فقبورهم عبرة و فيها عظة...

ثم أشار إلى سفههم و أنهم قد تناولوا الأموات و افتخروا بهم مع بعد ما بينهم و بينهم حيث إن أولئك في عالم الآخرة و هؤلاء في عالم الدنيا و أولئك أموات و هؤلاء أحياء و العاقل لا يفتخر بميت قد أكله التراب بل يفتخر بالمناقب و المكارم و محاسن الصفات و جميل الأفعال...

(أ فبمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون يرتجعون منهم أجسادا خوت و حركات سكنت) بيّن عليه السلام أنه لا يحق لهم الافتخار بمصارع آبائهم أو التكاثر

ص: 13

بالأموات و عددهم تحقيرا لهم و بيّن علة ذلك بأنهم يطلبون أمرا غير عقلائي حيث إنهم يريدون أن يردوا إليهم أجسادهم التي كانت في دار الدنيا و قد أكلها البلى و الدود و الفنا و تلك الحركات و التحركات التي كانت لهم في دار الدنيا يريدون أن يردوها لهم و هذا أمر محال و طلب لا يقع في نظر العقلاء...

و بعبارة أخرى: إنهم يطلبون إعادة الأموات و بعثهم من جديد بهذا التفاخر و التكاثر و هذا أمر لا يطلبه عاقل و لا ينشده سديد الرأي رشيد...

(و لأن يكونوا عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا و لأن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة) هذا تأكيد لما تقدم و أن هؤلاء الأموات من الأسلاف أحق و أجدر أن يكونوا محل عبرة و عظة من أن يكونوا محل فخر و اعتزاز لأن مقامهم و ما هم فيه عظة و عبرة من حيث خمود حركتهم و سكون مقامهم و أنهم قد أضحوا بعد القوة و النشاط إلى خشب مسندة و كذلك لو اتخذ هؤلاء المفتخرون هؤلاء الأموات مصدر ذلة لهم يكون هو العقل و التدبر من أن يتخذوهم وسيلة عز و رفعة لأنهم لو نظروا إليهم في أجسادهم و قد فتتها التراب و أكلها الدود و استبد بها الزمن لخفضوا رؤوسهم ذلة للّٰه و عظمة له و لم يتخذوهم أداة فخر و وسيلة عز و أنى لهم الفخر بهم و هم رمم بالية و أجساد فانية...

(لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة و ضربوا منهم في غمرة جهالة) فهؤلاء الأحياء لأمراض نفسية أصابتهم قد انعكست الصورة عندهم و الحلق المريض يرى كل شيء مر و علقم و العين المريضة قد تقلب الأمور فترى السواد بياضا و كذلك النفوس المريضة التي آمنت بموازين الباطل تحوّل الأموات إلى أدوات و وسائل للتفاخر و الزينة و خاضوا في التفاخر بالأموات عن جهل مستحكم شديد قد أخذ عليهم مسالك التفكير السليم...

(و لو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية و الربوع الخالية لقالت: ذهبوا في الأرض ضلالا و ذهبتم في أعقابهم جهالا تطئون في هامهم و تستنبتون في أجسادهم و ترتعون فيما لفظوا و تسكنون فيما خربوا و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم) لو وقف الإنسان العاقل في معاقل الأموات و تجول في ربوعهم و قبورهم و طلب منها أن تخبره عمن مضى و ذهب... لو استفهم تلك المساكن عن أهلها و دورهم و أين صاروا و أين حلوا لأجابت حالا و إن لم تنطق مقالا و شاهد الحال أقوى من المقال... أجابتهم قد تبددت أجسادهم و تفرقت أشلاؤهم كفارا ضالين ثم جئتم بعدهم و على أثرهم جهالا لا تعرفون الحياة و لا تعرفون دوركم فيها و ما خلقتم من أجله و قد ذكر من جهلهم و عدم التفاتهم أنهم يدوسون على رءوس أولئك الأموات التي حولها الزمن إلى تراب تطئوه

ص: 14

الأرجل و لم تعتبروا بذلك أو تتعظوا به.

و كذلك انظروا كيف تنبت أشجاركم و مزروعاتكم في أجسادهم التي تحللت و أصبحت مصدرا غذائيا لها.

و ترتعون فيما لفظوا: أي تتنعمون و تأكلون ما تركوه و خلفوه و تسكنون فيما خربوا حيث كانت الديار بهم عامرة و أضحت بفقدهم خرابا فسكنتموها أو أنكم قد عمرتم بالدعاء و الذكر و طاعة اللّٰه ما قد خربوه من ديارهم حيث لم يكونوا يقيمون للّٰه فيها ذكر أو دعاء...

ثم ذكر الأيام و أنها تودع رائحا و تنعى قادما فهي باستمرار في حالة بكاء و نواح و خصوصا عليكم لأنكم القادمون على ما قدم عليه أسلافكم فكأن الأيام أمهات لهم تبكي لفراقهم و تنقلهم عنها إلى الآخرة...

(أولئكم سلف غايتكم و فرّاط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز و حلبات الفخر ملوكا و سوقا) أولئك هم أسلافكم من الأجداد و الآباء و الذين تقدموا عليكم إلى الموت الذي هو غاية كل حي و نهايته إنهم المتقدمون عليكم و السابقون لكم إلى ورود هذا المورد و إلى شرب ما سوف تشربون من الموت و سكراته لقد كانت لهم مقامات العز في الدنيا سواء كانوا ملوكا أو من عامة الناس... و سواء كانت لهم صولات و جولات على اختلاف مراتبهم الاجتماعية... إنهم الأسلاف الذين تلاقون مصيرهم المحتوم و هو الموت و أنهم على اختلاف مراكزهم و مراتبهم نزلوا القبور و تركوا الدور و القصور.

(سلكوا في بطون البرزخ سبيلا سلطت الأرض عليهم فيه فأكلت من لحومهم و شربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون و ضمارا لا يوجدون) إنها صورة تتكرر أمامنا في كل يوم حيث نودّع أحبابا و نودعهم في قبورهم... إنهم قد نزلوا تلك الديار الخالية التي احتجزوا فيها إلى يوم القيامة لا يستطيعون إلى الدنيا رجوعا و لا عن أماكنهم تحولا...

سقطوا في قبورهم فأفنتهم الأرض حيث أكلت لحومهم و شربت دماءهم و تحولوا إلى جماد لا حركة فيهم و لا حياة... مات النماء فيهم الذي ينمو في الأحياء و أضحوا بعيدين لا عودة لهم إلى دار الدنيا و أنّى يكون لرهين القبور عودة إلى الدنيا أو رجوع إليها...

(لا يفزعهم ورود الأهوال و لا يحزنهم تنكر الأحوال و لا يحفلون بالرواجف و لا يأذنون للقواصف) بعد أن تحول الإنسان في عالم البرزخ إلى كائن آخر يختلف عما هو

ص: 15

عليه في حال الحياة اختلفت الأمور بالنسبة إليه و تغيّرت العوارض التي تعرض عليه فكل الشدائد و المصاعب التي تحل فيه لا تخيفه و لا تفزعه و كل تغيرات الأحوال و تبدلها من حزن و ظلم و غم لا يعرض عليه و لا يتأثر به و كل زلازل الدنيا و دواهيها لا يبالي بها أو ينتبه إليها و لا يعير سمعه إلى الأصوات الشديدة كالرعد و ما أشبه ذلك.

(غيبا لا ينتظرون و شهودا لا يحضرون و إنما كانوا جميعا فتشتتوا و ألافا فافترقوا و ما عن طول عهدهم و لا بعد محلهم عميت أخبارهم و صمت ديارهم و لكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا و بالسمع صمما و بالحركات سكونا فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات) من عادة الغائب أنه ينتظر و هؤلاء غائبون لا ينتظرهم أحد... فلا عودة لهم و لا رجوع... إنهم حاضرون بأجسادهم موجودون بهياكلهم و لكنهم لا يحضرون كما يحضر البشر فإن للحضور آثار و حركة و هؤلاء شهود غيب... شهود بالأجساد غيّب بالأفكار و الحركة و النشاط إنهم كانوا في دار الدنيا مجتمعين و أصحابا متفقين قد أتى عليهم الموت فأضحوا متفرقين متوزعين لا لقاء بينهم و لا مجلس يجمعهم...

ثم علل اختفاء أخبارهم و عدم علمنا بما عندهم و ما يجري عليهم و عدم إجابة ديارهم لنا عند ما نناديها و نستصرخها و نستفهم أهلها علل ذلك بعدم طول العهد بيننا و بينهم فليس بيننا و بينهم مدة طويلة توجب انقطاع الأخبار و اختفاء الأحوال و ليس لبعد المكان بيننا و بينهم فهم معنا و بيننا و لا يفصلنا عنهم حاجز أو مانع و إنما السبب الذي يخفي أخبارهم و يمنع إجابتهم أنهم شربوا كأسا مرة... إنها كأس الموت... فالموت هو الذي غيّر أوضاعهم و قلب أمورهم فبدّل ذلك المنطيق المتكلم و الخطيب المفوه إلى إنسان أخرس يعجز عن النطق و التعبير... و ذلك السامع اللاقط لكل شاردة و واردة قد تحوّل إلى أصم قد فقد السمع و تعطل الالتقاط... و كذلك تحولت حركة ذلك الإنسان الذي شغل العالم و قلبه بنشاطه و حركته قد تعطلت الحركة بفعل هذا الموت و توقفت عن الانتقال و لو شبرا واحدا و إذا أراد أن يصفهم المرء ارتجالا و على الطبيعة و فور رؤيته لهم و بدون جلسة تفكر و نظر فأحسن ما يصفهم فيه و هم في قبورهم أو بين أيدي أحبتهم إنهم وقعوا على الأرض في حالة نوم... كأنهم نائمون فالأجساد موجودة و المعاني مفقودة... و لا فرق بين النائم و الميت في الصورة.

(جيران لا يتأنسون و أحباء لا يتزاورون بليت بينهم عرى التعارف و انقطعت منهم أسباب الأخاء فكلهم وحيد و هم جميع و بجانب الهجر و هم إخلاء لا يتعارفون لليل صباحا و لا لنهار مساء أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا) وصف دقيق لحال الأموات.

ص: 16

- إنهم جيران متقاربون في الديار فهذا القبر لا يفصله عن ذاك إلا بضع خطوات و مع ذلك لا يستأنس بعضهم ببعض على عادة أهل الدنيا.

- إنهم أحباء: أهل و أقارب آباء و أبناء كانت تجمعهم المحبة في دار الدنيا و لا ينقطع أحد عن أحد إنهم الآن قد انقطعوا عن زيارة بعضهم فلا أحد يزور أحدا أو يتعارف معه فكل أواصر التعارف التي كانت بينهم قد فنيت و اندرست... القرابة...

الرحم... الزوجية... العشيرة... العائلة... الآصرة الفكرية كل هذه قد فنيت و لم يعد لها بحساب الأموات وزنا لأن الأحوال تغيّرت و الأمور تبدلت... و أسباب الإخاء و المودة التي كانت توجب التواصل قد تقطعت....

ثم وصفهم: فكلهم وحيد و هم جميع: فكلهم مجتمعون في المقابر ضمن مساحة صغيرة تضم الجميع و لكن في الحقيقة كل واحد وحده لا يلتقى مع غيره و لا يجتمع معه... فالصورة موحّدة و الحقيقة متفرقة...

- و بجانب الهجر و هم أخلاء: كل واحد في حالة هجر للآخرين مع أنه حبيب لهم و صديق و رفيق أو كانوا كذلك في دار الدنيا فتحولوا إلى الهجر في القبور...

- لا يتعارفون لليل صباحا و لا لنهار مساء أيّ الجديدين ظنوا فيه كان عليهم سرمدا.

إذا مات الإنسان نهارا لا يعرف لذلك النهار ليلا و ذلك لتبدل أحوال الميت و تغيّرها فالحال التي مات عليها يظن أنه سيبقى عليها و لا يطلع عليه غيرها أو يتبدل بها سواها.

ثم قال عليه السلام: إن أي الجديدين - الليل و النهار سميا بذلك لتجددهما في كل يوم - رحل فيه الإنسان عن دار الدنيا كان عليه دائما من حيث إن صورة ذلك الوقت الذي مات فيه لو بقيت عندهم لبقيت أبدا من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها أو أنهم عند ما يموتون يشعرون بوقت موتهم و لا يشعرون بما يتعقبه من الأوقات فكأن حال موتهم هي التي سيبقون عليها دائما...

(شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا و رأوا من آياتها أعظم مما قدروا فكلتا الغايتين مدت لهم إلى مباءة فاتت مبالغ الخوف و الرجاء فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا و ما عاينوا) كانت توصف لهم تلك الدار الآخرة بشدائدها و مصائبها و مصاعبها و عذابها فكانوا يخافون منها قبل الوصول إليها و قد وصلوا إليها الآن فشاهدوا بأم العين

ص: 17

من الفجائع و الأهوال أعظم مما كان يوصف لهم و يخافون منه فليس من راء كمن سمع...

و إنهم كانوا يقدّرون عذابها و ثوابها و عقابها و أجرها بمستوى عقولهم و ما وصلهم من أنبائها و لكن بعد الوقوف عليها أدركوا من آثارها و حقائقها أعظم مما كانوا يقدّرون و يحسبون.

فكلتا الغايتين غاية السعيد و غاية الشقي التي و فرها الموت لهما قد أنزلتهما إلى دار و أرجعتهما إلى قرار فوق مبلغ ما يبلغه الخائف الراجي، فقد رأوا من أهوالها و مصائبها و عذابها و شدائدها و كذلك من نعيمها و خيرها فوق ما يبلغه الخائف الراجي.

ثم أشار إلى أنهم لو كانوا ينطقون كما ننطق لعجزوا أو حصروا عن الكلام و وصف ما رأوا و ما شاهدوا و أبصروا إنها دار يعجز اللسان عن وصفها و وصف ما فيها من ثواب و عقاب و أجر و عذاب...

(و لئن عميت آثارهم و انقطعت أخبارهم لقد رجعت فيهم أبصار العبر و سمعت عنه آذان العقول و تكلموا من غير جهات النطق فقالوا) لئن لم يستطع الأحياء قراءة ما في تلك القبور و ما يجري على أربابها و أهلها و لم يعرفوا أخبارهم و ما جرى لهم و عليهم و كيف تمر عليهم الأيام و الساعات لئن عجز الأحياء عن اكتشاف حال الأموات عن طريق الحس و الخبر فإن العقول المفكرة و البصائر الواعية هي التي تخبر عن أحوالهم و تحكي مصيرهم و تقرأ ما يجري لهم في تلك المواطن الرهيبة المخوفة تقرأها من لسان الحال دون المقال... من واقع ما يعيشون و ما هم فيه و منطق الحال أبلغ من منطق المقال ثم بيّن كلامهم و أفصح عن لسانهم بهذه الصفات الحاكية لواقعهم الشارحة لتعاستهم.

(- كلحت الوجوه النواضر) لقد تغيرت الوجوه الحسنة المملؤة التي تظهر عليها النضارة تغيّرت إلى صورة مفزعة مخوفة إنها كشرت و عبست لعبث التراب بها...

(- و خوت الأجسام النواعم) سقطت تلك الأجسام الناعمة البضة التي كانت يؤذيها الحرير بنعومته، أصبحت جافة من دمها و رطوبتها فهي رهينة القبور.

(- و لبسنا أهدام البلى) إما أن يريد أنهم لبسوا الأكفان التي ستبلى و تفنى أو أنه استعار لفظ الأهدام للتغير و التبدل و الفناء العارض لجسم الميت...

(و تكاءدنا ضيق المضجع) أي شق علينا و عذبنا ضيق القبور و ما نظر عاقل إلى القبر و ضيقه إلا و شق عليه ذلك و آلمه المقام فيه و استعاذ باللّٰه من تلك الساعات التي يكون

ص: 18

رهينا فيها ضمن ذلك المضجع الرهيب...

(و توارثنا الوحشة) أي ورثنا الوحشة من الآباء و الأجداد الذين عاشوها في ذلك المضجع الرهيب.

(و تهكّمت علينا الربوع الصموت) أي تهدمت علينا القبور الصامتة.

(فانمحت محاسن أجسادنا) فما كان فينا من محاسن و جمال قد أتى عليه القبر فذهب به و قضى عليه بل تبدلت تلك المحاسن إلى قبائح تتقزز النفس منها و تأنف أن تنظر إليها...

(و تنكرت معارف صورنا) أي تغيّرت صورنا التي كنا نعرف بها في الدنيا.

(و طالت في مساكن الوحشة إقامتنا) فإقامتنا في القبور قد امتدت طويلا «وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ » إنه وقت طويل يعلمه علاّم الغيوب.

(و لم نجد من كرب فرجا و لا من ضيق متسعا) فالهموم و الغموم و العذاب و الألم مستحكمة لم نجد من يرفعها عنا أو يخفف منها كما أن هذا الضيق في القبور لم نجد ما يوسّعه أو يخرجنا منه.

(فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك و قد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكت و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت) أي لو حلّلت بعقلك و تصورت مواقعهم التي هم فيها و عشتها لحظات في تلك القبور أو كشفت غطاءهم الذي يسترهم فبدوا لك على حقيقتهم فبهذين الأمرين أو بأحدهما لو أبصرت ذلك فإنك سوف تجد الحقيقة الصعبة و الرؤية العظيمة الرهيبة لقد جفت أسماعهم من رطوبتها و طراوتها فانسدت بالحشرات التي تتقاتل عليها و امتلأت منها تنهش نصيبها و تأخذ حصتها و كذلك تبدل كحل العيون بالأثمد إلى أن صار كحلا بالتراب و قد غارت العيون في الرءوس...

صورة مفزعة...

(و تقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها و همدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها) تمزقت و تفرقت الألسنة في الأفواه و لم تعد تجيد النطق و التعبير مع أنها كانت تمتلك المنطق و حدّة البيان و جودة التعبير و أما القلوب فقد سكنت و استقرت و توقفت عن الحركة و الحياة بعد أن كانت تنبض بالحياة و تضج بالحركة...

(و عاث في كل جارحة منهم جديد بلى سمجها و سهل طرق الآفة إليها) لقد انتشر الفساد و تجدد الفناء في كل عضو منها حتى قبّحها و غير محاسنها و سهّل وسائل الفناء

ص: 19

عليها لأن التراب إذا استولى على جسد الآدمي أسرع إليه الفناء و البلى...

(مستسلمات فلا أيد تدفع و لا قلوب تجزع) هذه الجوارح مستسلمة للنوازل خاضعة لما يحلّ بها لا تدفع بأيديها عن نفسها كما كانت في دار الدنيا تذب و تدفع و ليس لها قلوب تحزن بها و يصيبها الجزع، لقد خرجت عما كانت عليه في الدنيا.

(لرأيت أشجان قلوب و أقذاء عيون لهم في كل فظاعة صفة حال لا تنتقل و غمرة لا تنجلي) لرأيت جواب لو تصورت أي لو تصورت حالهم بخيالك لرأيت و شاهدت أحزان القلوب و أذى العيون و ذلك نتيجة أن كل أمر شديد فيهم و كل حال هم فيها من السوء لا ينتقلون منها إلى الأحسن بل إلى الأسوإ لأنه كلما طال المدى عليهم كلما ازدادت حالتهم سوءا فإن الجسد الميت في هذا اليوم أفضل منه في الغد و هو في الغد أحسن منه بعد غد و هكذا لأن التحلل و التفتت يزداد يوما بعد يوم...

(فكم أكلت الأرض من عزيز جسد و أنيق لون كان في الدنيا غذي ترف و ربيب شرف) أشار عليه السلام إلى الكثرة الكثيرة من الأجساد الفتية و الألوان المعجبة الرائعة التي أكلتها الأرض و أفنتها و أزالتها من الوجود.

هذه الأجساد التي كان أهلها يحافظون عليها و يرعونها... كانوا يغذونها بأطيب و أحسن ما يكون به التنعم و البطر و يربونها على العز و الدلال.

و بعبارة أخرى كان هناك بشر اهتموا بأجسادهم و حافظوا عليها فأكلتها الأرض و أفنتها...

(يتعلل بالسرور في ساعة حزنه و يفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت به ضنا بغضارة عيشه و شحاحة بلهوه و لعبه) هذا بيان لمحافظة هذا الفتى على صحته و تنعمه و أنه لا يريد أن ينغّص ساعات سروره أو يكدرها ضمن أي جو مسيئ فلذا هو يحاول أن يحوّل أجواء الحزن إلى الفرح فإذا مات والده علل نفسه و مناها بالثروة و المال فأبدل حزنه على أبيه بسروره بميراثه و كذلك يتسلى بأمور تنسيه مصائبه التي تنزل به و تحل بساحته كل ذلك بخلا بأن يصيب ما هو فيه من النعيم و الخير العميم أذى أو يصيب لهوه و لعبه آفة... إنه يريد أن يحفظ سروره و فرحه و عيشه السعيد و لا يعكرهم همّ أو حزن أو مصيبة أو أذى فلذا يحوّل الأتراح إلى أفراح و يخلق أجواء السرور و الفرح...

(فبينا هو يضحك إلى الدنيا و تضحك إليه في ظل عيش غفول إذ وطىء الدهر به حسكه و نقضت الأيام قواه و نظرت إليه الحتوف من كثب) هذه هي حالة أبناء الدنيا الذين

ص: 20

أقبلوا عليها و أرادوا اقتناص لذاتها و الوصول إليها فبينما هم في ظلها يتنعمون و هي تغدق بخيرها عليهم حتى كأن الدهر قد نسيهم فلم تلحقهم مصيبة و لم يصابوا بأذى فبينما هم كذلك إذ حلت مصائب الدهر و نوائبه فيهم فداستهم و درستهم و رفعت ما كان بهم من قوة و حلت محله الضعف و نظر إليهم الموت عن قرب ببعث رسله من الأمراض تصيبهم و الآفات تحل بهم.

(فخالطه بث لا يعرفه و نجي هم ما كان يجده و تولدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحته) هذه هي حالة المترف المتنعم الذي كان يطلب دوام السرور و الراحة فعند ما يهجم عليه الموت و تبتدأ رسله توفد عليه عندها تأخذ نفسه تحدثه بأحزان لا يعرفها من ذي قبل و تناجيه بهموم و طوارق ما كان عهده بها و لم يكن يحس بها من قبل... إنهم أبناء الدنيا أشد ما يكونون هلعا و خوفا عند ما يحسون أن الموت يطرق أبوابهم أو يرسل إليهم برسله... إنهم يقلقون و يفزعون و يخافون و تحدثهم أنفسهم بما لا عهد لهم به... باقتراب الأجل... و الخروج من الدنيا... و ترك ما جنوا و اكتسبوا... تحدثهم بمفارقة المال و الأهل و الملذات فيعز عليهم ذلك فيداخلهم أسى شديد و يعيشون كآبة نفسية تنغّص عليهم ما تبقى لهم من أيام و ساعات...

لقد تولدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحته: لقد أخذت العلل و الأمراض تنمو في بدنه و تتوالد من فترة إلى آخرى فكان آنس أيامه ما كان في صحته معافى...

(ففزع إلى ما كان عوّده الأطباء من تسكين الحار بالقار و تحريك البارد بالحار فلم يطفىء ببارد إلا ثوّر حرارة و لا حرك بحار إلا هيج برودة و لا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داء) هذه صورة للمترفين الذين يعز عليهم أن يمرضوا فيحافظوا على صحتهم أكثر مما تستحق و لذا بمجرد أن يصاب أحدهم بوعكة صحية أو يلمّ به مرض بسيط أو يستشعر بآفة تراه يلجأ مسرعا للأطباء و يتفحّص الأدوية و يهّب لاستعمالها...

إن هذا المسكين الذي اعتاد على و صفات الأطباء يذهب مستعجلا نحوها مستعملا لها بمجرد أن يستشعر ضعفا تراه يهدأ الحرارة بالبرودة و يرفع البرودة بما يرفعها و لكنّ هذا الاستعمال يأتي بضده فلم يطفىء ببارد حارا إلا ثور حرارة و كأنه يصب زيتا على النار و يزيدها اشتعالا يأتي ليرفع الحرارة بالبرودة فإذا به ترتفع حرارته و يريد أن يرفع البرودة بما يبعث الحرارة فإذا به يزداد برودة... إنه لم يطلب استعمال ما يعتدل به المزاج و يرّد الأمور إلى طبيعتها إلا نتج عن ذلك مضاعفات فتزداد أمراضه و يضاف إلى ما هو فيه من البلاء بلاء جديد.

ص: 21

(حتى فتر معلله و ذهل ممرضه و تعايا أهله بصفة دائه و خرسوا عن جواب السائلين عنه و تنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه فقائل يقول: هو لما به و ممن لهم إياب عافيته و مصبّر لهم على فقده يذكرهم أسى الماضين من قبله) و هذه صورة متكاملة عن أهل المريض و من حوله إذا اشتد مرضه و تطاولت علته فإن من كان يعلّله بالشفاء تفتّر همته و تقل و من كان يقوم على تمريضه فيصف له الدواء و يعتني به و بغذائه يغفل عنه لأن طول المرض يخفّف من اهتمام الممرض و الأهل حيث يدبّ إلى نفوسهم اليأس بالشفاء و إنما يكون الجد و النشاط و حسن التعلل و الاهتمام بالمريض إنما يكون في أوائل حدوث المرض لأمل الشفاء منه و أما إذا امتد و استمر فيخفّ الاهتمام و الاعتناء.

ثم بيّن حال أهله و كيف يكتمون عنه الداء و لا يفصحون له عنه حتى لا ييأس و تشتد و طأة المرض عليه.

و إذا سألهم أحد عنه أجاب بعضهم: هو لما به أي هو على ما هو عليه و قيل: إنه قد أشفى على الموت.

و بعض آخر يطمعهم في عودة عافيته و صحته و أن حالته التي هو فيها تمر على كثيرين من المرضى فيشفون منها.

و ثالث: كأنه قد فرغ من وفاته فهو يبتدأ من الآن يذكر لمن سأل عنه فائدة الصبر و أجر الصابرين و أن في أجداده و أهله و من تقدمه في هذا الطريق أسوة و أن كل حي سيرد هذا المورد و هكذا يسليهم و يعزيهم.

(فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا و ترك الأحبة إذ عرض له عارض من غصصه فتحيرت نوافذ فطنته و يبست رطوبة لسانه فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده و دعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصام عنه من كبير كان يعظّمه أو صغير كان يرحمه) بينما الأهل يتشاورون و يردون على أسئلة السائلين عنه و بينما هو في اللحظات الأخيرة من الدنيا يسرع نحو الموت حيث يفارق هذه الحياة و يدع الأحبة من الأهل و الأولاد و الأخلاء بينما هو كذلك إذ اعترض له في حلقه عارض أخذ بخناقه ألا و هو الموت و عند ما حل ببدن هذا المخلوق تغيّرت أحواله و تبدلت أطواره و انقلبت أوضاعه فجودة ذكائه و قوة فكره قد تبددت فتحيرت و لم يعد يقدر على جمعها بل تبلدت و كسلت و يبست رطوبة لسانه فجف لعابه فلم يعد يتحرك ذلك اللسان الذلق الطلق.

و أما الإجابة فكم من أسئلة بقيت ضائعة بدون جواب لأنه عجز عن الكلام و عيي عن رد الجواب.

ص: 22

و كم من دعاء له سمعه بأذنه قد أوجع قلبه من كبير يعظمه و يحترمه أو صغير يعطف عليه و يحبه فجعل نفسه و كأنه لم يسمعه لأنه لا يحسن رد الإجابة و لا يقدر على التلبية.

فالأهل يدعونه أن يرد عليهم و أطفاله يصرخون من حوله و هذا يؤلمه و يوجع قلبه و مع ذلك يصم أذنيه و يجعل نفسه كأنه لم يسمع...

(و إن للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على عقول أهل الدنيا) و هذه جملة واحدة تلخّص ما كان و ما يكون إنه الإقرار بالعجز عن استيعاب صفات الموت و ما يمر على المحتضر من شدائد و مصاعب و عقبات... إنها أكبر من الوصف و أعظم من أن تستوعبها كلمات إنها لشدائد لا تستقيم لها العقول و لا تقبلها عقول أهل الدنيا إذا شرحت لهم على حقيقتها و وصفت كما هي و اعتبر الحال بمرض مزمن شديد في دار الدنيا هل يقدر المصاب به على شرحه و بيانه كما هو و هل يفي لسانه بما يعيش فيه من ألم فكيف بعالم الاحتضار و النزع و شدائد الموت و مصاعبه و ما يمر على هذا الميت من سكراته و أوجاعه... الكلمات تعجز عن تقديم صورة صحيحة تؤدي فيها الحقيقة و تنقلها كما هي... أعاننا اللّٰه على الموت و سكراته و ما يعقبه بالنبي و آله...

ملاحظة:

لم أقدر أن أطوي كلمة صحيحة قالها ابن أبي الحديد في نهجه عن هذه الخطبة... لقد حاولت فشدني حب الإمام إلى ذكرها قهرا عني لأنها كلمة حق صادقة و أنا أقتطف من كلامه هذه الفقرات القليلة قال:

هذا موضع المثل «ملعا يا ظليم و إلا فالتخوية» من أراد أن يعظ و يخوف و يقرع صفاة القلب و يعرف الناس قدر الدنيا و تصرفها بأهلها فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح و إلا فليمسك، فإن السكوت أستر و العي خير من منطق يفضح صاحبه و من تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه: «و اللّٰه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره» و ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس و تلي عليهم أن يسجدوا كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرفاع: قلم أصاب من الدواة مدادها.

و أكمل ابن أبي الحديد حتى قال: «و أقسم بمن تقسم الأمم كلها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن أكثر من ألف مرة ما قرأتها إلا و أحدثت عندي روعة و خوفا و عظة و أثرت في قلبي وجيبا و في أعضائي رعدة و لا تأملتها إلا و ذكرت الموتى من أهلي و أقاربي و أرباب ودي و خيّلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله...».

ص: 23

222 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله عند تلاوته: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ » .

إنّ اللّٰه سبحانه و تعالى جعل الذّكر (5) جلاء (6) للقلوب، تسمع به بعد الوقرة (7)، و تبصر به بعد العشوة (8)، و تنقاد (9) به بعد المعاندة (10)، و ما برح للّٰه - عزّت (11) الاؤه (12) - في البرهة (13) بعد البرهة، و في أزمان الفترات (14)، عباد ناجاهم (15) في فكرهم، و كلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا (16) بنور يقظة (17) في الأبصار و الأسماع و الأفئدة، يذكّرون بأيّام اللّٰه، و يخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة (18) في الفلوات (19). من أخذ القصد (20) حمدوا إليه طريقه، و بشّروه بالنّجاة، و من أخذ يمينا و شمالا ذمّوا إليه الطّريق، و حذّروه من الهلكة (21)، و كانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات، و أدلّة تلك الشّبهات. و إنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه، يقطعون به أيّام الحياة، و يهتفون (22) بالزّواجر (23) عن محارم اللّٰه، في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط (24) و يأتمرون به (25)، و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه، فكأنّما قطعوا الدّنيا إلى الآخرة و هم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطّلعوا (26) غيوب أهل البرزخ (27) في طول الإقامة فيه، و حقّقت القيامة عليهم عداتها (28)، فكشفوا غطاء (29) ذلك لأهل الدّنيا، حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى النّاس، و يسمعون ما لا يسمعون. فلو

ص: 24

مثّلتهم (30) لعقلك في مقاومهم (31) المحمودة، و مجالسهم المشهودة (32)، و قد نشروا (33) دواوين (34) أعمالهم، و فرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة و كبيرة أمروا بها فقصّروا عنها (35)، أو نهوا عنها ففرّطوا (36) فيها، و حمّلوا ثقل أوزارهم (37) ظهورهم، فضعفوا عن الاستقلال (38) بها، فنشجوا (39) نشيجا، و تجاوبوا (40) نحيبا (41)، يعجّون (42) إلى ربّهم من مقام ندم و اعتراف، لرأيت أعلام (43) هدى، و مصابيح دجى (44)، قد حفّت بهم الملائكة (45)، و تنزّلت عليهم السّكينة (46)، و فتحت لهم أبواب السّماء، و أعدّت لهم مقاعد الكرامات، في مقعد (47) اطّلع اللّٰه عليهم فيه، فرضي سعيهم (48)، و حمد مقامهم. يتنسّمون (49) بدعائه روح (50) التّجاوز (51).

رهائن (52) فاقة (53) إلى فضله، و أسارى (54) ذلّة لعظمته، جرح طول الأسى (55) قلوبهم، و طول البكاء عيونهم. لكلّ باب رغبة إلى اللّٰه منهم يد قارعة، يسألون من لا تضيق لديه المنادح (56)، و لا يخيب عليه الرّاغبون.

فحاسب نفسك لنفسك، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب (57) غيرك.

اللغة

1 - التسبيح: التنزيه للّٰه.

2 - الغدو: البكور.

3 - الآصال: جمع الأصيل الوقت بين العصر و المغرب أو العشي.

4 - تلهيهم: تشغلهم.

5 - الذكر: الصلاة للّٰه و الدعاء و كل ما تستحضر به صفات اللّٰه.

6 - جلاء: بكسر الجيم من جلوت السيف إذا صقلته و أزلت منه صداه.

7 - الوقرة: ثقل في الأذن.

8 - العشوة: ضعف البصر.

9 - تنقاد: تخضع و تذل و تذعن.

ص: 25

10 - المعاندة: الميل عن القصد.

11 - عزت: كرمت و عظمت.

12 - آلاؤه: نعمه.

13 - البرهة: المدة الطويلة من الزمن.

14 - الفترات: جمع الفترة و هي ما بين ظهور النبي و النبي الذي بعده.

15 - ناجاهم: خاطبهم بالإلهام.

16 - استصبحوا: أضاءوا مصابيحهم.

17 - اليقظة: نقيض النوم.

18 - الأدلة: المرشدون، و الدليل البرهان، و الهادي إلى الشيء.

19 - الفلوات: الصحاري و القفار.

20 - القصد: الاعتدال.

21 - الهلكة: الهلاك، الموت و لا يكون إلا في ميتة السوء.

22 - يهتفون: يصيحون.

23 - الزواجر: الموانع و زجره عن كذا منعه و نهاه عنه.

24 - القسط: العدل.

25 - يأتمرون به: يمتثلون الأمر.

26 - اطلعوا: أشرفوا و نظروا، علموا.

27 - البرزخ: فترة اللبث في القبر إلى يوم البعث و الحساب.

28 - العدات: جمع عدة بكسر العين ففتح الدال مخفف الوعود.

29 - الغطاء: الستر.

30 - مثّلتهم: صوّرتهم.

31 - مقاومهم: جمع مقام و هو المجلس أي مقاماتهم في خطاب الوعظ.

32 - المشهودة: من شهد إذا حضر لحضور الملائكة.

33 - نشروا: الثوب بسطوه، خلاف الطوي و نشر الخبر أذاعه.

34 - الدواوين: جمع ديوان و هو مجتمع الصحف.

35 - قصّروا عنها: توانوا و قصّر عن الأمر أمسك عنه مع القدرة عليه.

36 - فرطّوا: قصّروا.

37 - الأوزار: الذنوب.

38 - استقل بها: انفرد في حمله.

39 - نشجوا: بكوا و النشيج صوت البكاء.

40 - تجاوبوا: أجاب بعضهم بعضا.

41 - النحيب: أشد البكاء.

ص: 26

42 - يعجّون: من عج إذا رفع صوته و صاح.

43 - الأعلام: جمع علم ما ينصب ليهتدى به.

44 - الدجى: الظلمة أو هي مع غيم.

45 - حفّت الملائكة به: أحدقت به و استدارت حوله.

46 - السكينة: الطمأنينة المهابة، الوقار.

47 - المقعد: موضع القعود.

48 - السعي: العمل.

49 - يتنسمون: يشمون أو يتنفسون و النسيم الريح الضعيفة الرقيقة.

50 - الروح: بالفتح الرحمة و الراحة.

51 - التجاوز: العفو.

52 - رهائن: جمع رهينة يقال: أنا رهينة بكذا أي مأخوذ به ضامن له و الخلق رهائن الموت أي مقيدون به.

53 - فاقة: حاجة.

54 - أسارى: جمع الأسير من قبض عليه و أخذ من قبل عدوه.

55 - الأسى: الحزن.

56 - المنادح: جمع مندح و هو المتسع و المندوحة السعة و الفسحة.

57 - الحسيب: المحاسب.

الشرح

(يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللّٰه) هذه الآية الكريمة من سورة النور و قد قرأها الإمام فكان منه هذا الكلام العظيم و الضمير في (فيها) يرجع إلى البيوت التي تقدم ذكرها في الآية عليها حيث إن الكلام هكذا.(1)«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ» .

و قالوا: إن البيوت هي المساجد و رفعها معناه تعظيمها و احترامها و رفع القدر من الأرجاس و التطهير من المعاصي و الأدناس و قيل: المراد برفعها رفع الحوائج فيها إلى اللّٰه تعالى.

ص: 27


1- سورة النور آية، - 37، 38.

و قيل: هي بيوت الأنبياء.

و يذكر فيها اسمه أي يتلى فيها كتابه و قيل: تذكر فيها أسماؤه الحسنى.

يسبح له بالغدو و الآصال أي يصلي له فيها بالبكور و العشايا.

و قيل: المراد بالتسبيح تنزيه اللّٰه تعالى عما لا يجوز عليه و وصفه بالصفات التي يستحقها لذاته و أفعاله...

و على كل حال بعد تلاوة الإمام لهذه الآية الكريمة قال عليه السلام:

(إن اللّٰه سبحانه و تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة و تبصر به بعد العشوة و تنقاد به بعد المعاندة) قيل: إن الذكر يراد به القرآن و قيل: كل ما تحمد به اللّٰه و تسبحه به و تكبره و تهلله.

و هذا الذكر يعني أن يعيش الإنسان مع اللّٰه ليس على مستوى اللسان فحسب بل هذا اللسان يتحول إلى ترجمة تنقل ما يدور في القلب و ما يتحرك في داخله فإذا استطاع الإنسان أن يداوم على ذكر اللّٰه و يبقى معه فإنه بدون شك سيأتي الوقت الذي يمحى من صفحته كل ما عدا اللّٰه و يرتفع من أمامه كل ما سواه...

هذا القلب عند ما يعيش مع اللّٰه يتطهر و لا يبقى فيه حقد أو حسد أو نميمة أو أي أثر سيء لا يرضى اللّٰه عنه فلذا تجلى القلوب بذكر اللّٰه و ترتفع عنها كل الأغشية و تتنظّف من كل غبار قد علق بها...

و بهذا الذكر أيضا يرتفع الصمم و عدم التذكر فيبادر الإنسان إلى أخذ العبرة و الاستفادة مما مر به غيره و ابتلى به.

و كذلك بهذا الذكر يبصر الإنسان الحقائق و يدرك الأمور على حقيقتها فترتفع عن عينيه الغشاوة.

و كذلك يأتي الإنسان إلى بيت الطاعة بعد الهجر و المعاندة و المباينة... يعود إلى رحاب اللّٰه بعد هذه الغربة عنه و البعد عن ساحته و كرمه...

(و ما برح اللّٰه - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة و في أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم و كلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار و الأسماع و الأفئدة يذكّرون بأيام اللّٰه و يخوفون مقامه) و هذا من لطف اللّٰه بعباده أنه لا يقطع عنهم مدد الهداية و العناية فإنه ما زال سبحانه عظمت نعمته في كل مدة بعد مدة و في كل فترة تنقطع بها

ص: 28

الرسل لا يزال سبحانه له من عباده عرفاء و أصحاب اختصاص تكون بهم الحجة على العباد فإنه سبحانه زودهم بقوة عقلية يفكرون فيها و يدركون حقائق التوحيد و التوجه إلى اللّٰه و لذا يروي لنا التاريخ عن رجال كانوا في الجاهلية قد نبذوا عادات قومهم و هجروا عبادة الأوثان و الأصنام و توجهوا إلى اللّٰه بالعبادة كورقة بن نوفل و غيره ممن كشف اللّٰه عن بصيرتهم فإنهم اهتدوا بعقولهم إلى عبادة اللّٰه و التوجه إليه لقد أشعلوا مصابيح النور في قلوبهم فانفتحت آفاق العلم و المعرفة و التفكر في خلق السماوات و الأرض حتى قلوبهم فانفتحت آفاق العلم و المعرفة و التفكر في خلق السماوات و الأرض حتى استيقظت أبصارهم فرأوا الأمور على حقيقتها و كشفوا جوهرها و أدركوا عمقها و كذلك انفتحت الأسماع على كل ما ينفع و يفيد فأدركوا جلال قدرة اللّٰه و عظمته هذا كله بالنسبة إلى أنفسهم...

أما بالنسبة إلى غيرهم فإنهم يذكّرون الناس وقائع اللّٰه بالأمم الماضية و ما جرى له معهم من حيث أخذه لهم بالعذاب و العقاب و كذلك يخوفونهم جلال اللّٰه و عظمته و أنه المالك للوجود و لكل موجود...

(بمنزلة الأدلة في الفلوات من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه و بشروه بالنجاة و من أخذ يمينا و شمالا ذموا إليه الطريق و حذروه من الهلكة و كانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات و أدلة تلك الشبهات) شبّه عباد اللّٰه بمنزلة الأدلة في الصحراء فإن الصحاري و القفار إذا كان يوجد فيها أعلام منصوبة تدل على الطريق يستطيع السائر أن يهتدي إلى مراده و يصل إلى غايته و يأمن مضلة الطريق و تحيّر السبيل و هؤلاء العباد إنهم أعلام الهداية بهم يهتدي الضالون و السائرون على غير الطريق إنهم إشعاعات النور في أيام الظلمة بهم ترتفع الغشاوة عن العيون و تنفتح القلوب للّٰه و تتوجه إليه... إنهم يوصلون العباد إلى شاطىء الأمن و السلامة...

و هم إذا وجدوا المستقيم من الناس الذي لم ينحرف مع الجاهلية و لوثاتها مدحوه على فعله و زيّنوا له ما هو فيه و رغّبوه في البقاء عليه و أعانوه على أن يبقى كذلك و بشروه بالنجاة من العذاب و الألم و من النار و غضب الملك الجبار.

و أما من عدل عن الطريق المستقيم و عن السيرة الطيبة و عن العقيدة السليمة و راح مع عقائد الجاهلية و الانحراف تارة إلى هذه العقيدة الفاسدة و أخرى إلى غيرها مما يشاركها في الفساد فهؤلاء يذمون إليه هذه الطريقة و يقبحونها له و يبيّنون له فسادها و حذروه من الوقوع في الهلاك و العذاب.

و هكذا هؤلاء العباد في طريقتهم و عملهم و سلوكهم بأنوارهم تنكشف الحجب

ص: 29

و تتبدد الظلمات... إنهم يزيفون الباطل و يبعّدون الناس عنه و يرشدونهم إلى مواضع الخطر كما أنهم يأخذون بأيديهم إلى الحق و العمل به...

(و إن للذكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة و يهتفون بالزواجر عن محارم اللّٰه في أسماع الغافلين و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه) للذكر أهل انفردوا به دون الناس... إنهم ذاقوا طعمه و وقفوا على شهده... عرفوا سره و لذة ما فيه فأخذوه بكل قوة و استبدلوه بملذات الدنيا و ما فيها... هجروا طيبات هذه الدنيا الفانية و أخذوا الذكر كنزا لهم فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه فلشدة حبهم للذكر و مداومتهم عليه و تعلقهم به ملك عليهم كل جوارحهم فأنساهم الدنيا و ما فيها... إنهم معه باستمرار يشغلهم في أوقاتهم كلها في الليل و النهار... إنهم دعاة خير و رسل بركة تراهم مع الغافلين في معركة حيث تراهم يقومون بنهيهم عما حرم اللّٰه و دائما يزجرونهم عنها و يكفون أيديهم عن تناولها... إنهم أدوات تنبيه لهؤلاء الغافلين عن الحرام أن يرفعوا أيديهم عن الحرام و يتجنبوا كل معصية و انحراف...

إنهم يأمرون الناس بالقسط و هو العدل في القول و العمل... يأمرونهم أن يكونوا كذلك و هم بأنفسهم يأتمرون به ليكون ذلك أقوى حجة و أعظم برهانا.

و كذلك من خصائصهم أنهم ينهون الناس عن المنكر و هو كل معصية للّٰه و يتناهون بأنفسهم عنه أي يكفون عنه ليكون أبلغ في التأثير...

(فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه و حققت القيامة عليهم عداتها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون) هذا بيان لما عليه هؤلاء العباد الصالحون... إنهم قطعوا رحلة الحياة الدنيا و دخلوا الآخرة... إنهم و هم في دار الدنيا كأنهم قطعوها و اجتازوها و دخلوا عالم الآخرة و شاهدوا ذلك العالم الأخروي بما يحمل من صور و ما معه من مشاهد و ما فيه من أحداث و قضايا... صورة لأهل الإيمان الذين تجردوا عن الدنيا و هم فيها و عرفوا أحوال الآخرة و هم في الدنيا...

صورة الإنسان الذي عاش مع اللّٰه و أدرك حقيقة ما جاء به الأنبياء و وقف على سر الآخرة و ما فيها... إن الحقيقة التي يعكسها هؤلاء الأولياء تتجسد في نقل الصورة الصحيحة عن الآخرة إلى الدنيا...

إنهم بما أعطاهم اللّٰه من بصيرة نافذة فكأنما كشف لهم الغطاء عن الآخرة فرأوها

ص: 30

رؤية العين و وقفوا على ما فيها و عرفوا حقيقتها و هذا على حد قول الإمام في وصف المتقين «فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون» لقد انكشفت لهم الآخرة حقيقة و كما هي و وقفوا على ما غاب عنهم من أحوال أهل البرزخ و ما يجري لهم في قبورهم طول هذه المدة التي أقاموا فيها و كأن الآخرة بالنسبة إليهم قد حققت كل ما وعدهم اللّٰه فيها من العذاب و العقاب و الثواب و النعيم و لذا تراهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لم يسمع الناس فينقلون إلى الناس ذلك مما هو ليس تحت طاقة الناس و قدرتهم... إنهم اطلعوا على أحوال الآخرة بعين لم ينظر فيها أحد من الناس و لذا راحوا ينقلون إليهم ما ليس عندهم و ما لا يرون أو يسمعون...

(فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة و مجالسهم المشهودة و قد نشروا دواوين أعمالهم و فرغوا لمحاسبة أنفسهم على كل صغيرة و كبيرة أمروا بها فقصروا عنها أو نهوا عنها ففرطوا فيها و حمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها فنشجوا نشيجا و تجاوبوا نحيبا يعجون إلى ربهم من مقام ندم و اعتراف) هذا حال العباد الأتقياء و الصورة التي إذا أراد الإنسان أن يستحضرها لهم و يشرحها لمن غاب عنهم... إنهم قوم في المقامات المحمودة التي يشكرهم اللّٰه عليها من حيث توجههم نحوه و تذللهم له و خضوعهم لمقامه الكريم... و لو رأيتهم في مجالسهم المعهودة التي يحضرها الملائكة و يشهد لهم بها أهل القرب منه.

إنهم قوم فتحوا دفاترهم و نشروا حساباتهم و أخذوا ينظرون في أعمالهم لقد تفرغوا لمحاسبة أنفسهم و أخذوا يعدّون ما ارتكبوا من صغائر الذنوب و كبيرها فهذا أمر إلهي صغير قد نهى عنه ارتكبته و هذا أمر إلهي كبير عصيته فيه فتركته و هذا محرم كبير تجاوزت حدود اللّٰه فيه فتناولته و هكذا يتتبعون موارد سقطاتهم و عصيانهم و تمردهم و يحصون على أنفسهم كل شاردة أو واردة حتى أتوا على أغلبها فوجدوا الآثام و المعاصي كثيرة لا تستطيع ظهورهم حملها أو القيام بها فأخذوا في البكاء و النحيب و أخذهم الخوف من اللّٰه و الفزع منه إلى أن صرخوا إلى ربهم و أصبحوا في مقام الندم و الحسرة يرفعون أيديهم و يتضرعون إلى اللّٰه بالدعاء أن يمنّ عليهم بقبول توبتهم و إعادتهم إلى رحابه...

إنها صورة لقوم عرفوا اللّٰه و عرفوا ما أعده للمطيعين من الثواب، كما أنهم عرفوا ما أعده للعصاة و المجرمين فطلبوا ثوابه و هربوا من عقابه و خافوه في الصغير و الكبير لعلمهم به و بقدرته و صفاته و بمقدار هذه المعرفة كان الخوف منه و كان حسابهم لأنفسهم...

(لرأيت أعلام هدى و مصابيح دجى قد حفت بهم الملائكة و تنزلت عليهم السكينة

ص: 31

و فتحت لهم أبواب السماء و أعدت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع اللّٰه عليهم فيه فرضي سعيهم و حمد مقامهم) لرأيت جواب لو تمثلتهم المتقدمة أي لو تمثلتهم في مقاماتهم المحمودة و مجالسهم المشهودة... لرأيت قوما هذه صفاتهم و أحوالهم.

- أعلام هدى: فهم منارات يهدون الناس إلى اللّٰه و إلى عبادته و التوجه إليه.

- و مصابيح دجى: يكشفون ظلمات الجهل و الضلال عن أعين الناس بسلوكهم و طريقهم المستقيم...

- قد حفت بهم الملائكة: طافت بهم الملائكة تستغفر لهم إنها اهتمت بهم تكريما لهم و احتراما لمقامهم.

- و تنزّلت عليهم السكينة: أنزل اللّٰه عليهم الطمأنينة فارتاحت نفوسهم و استقرت لحكم اللّٰه و إرادته...

- و فتحت لهم أبواب السماء: فتح اللّٰه لهم أبواب الرحمة و اللطف الإلهي فهم بعين اللّٰه و عنايته...

- و أعدت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع اللّٰه عليهم فيه فرضي سعيهم و حمد مقامهم: إنه مقعد صدق عند مليك مقتدر فهم في جواره و رحمته أعطاهم ما يستحقون... إنه مقعد مبارك اطلع اللّٰه عليهم فيه بالرحمة و المحبة و العطاء الذي لا يحد و لا يعدّ فرضي سعيهم أي قبل عملهم الذي كان لوجهه و من أجله و حمد مقامهم أثابهم على ما كان منهم من طاعات و عبادات و تقرّب إليه...

(يتنسّمون بدعائه روح التجاوز رهائن فاقة إلى فضله و أسارى ذلة لعظمته) إنهم يستشعرون و هم يتوجهون إلى اللّٰه بالدعاء أنه استجاب لهم و تجاوز عن سيئاتهم و هذه مرتبة عالية لا تحصل إلا لمن له ثقة باللّٰه كبيرة و له عمل صالح يكون ذريعة إلى القبول إنهم رهائن فاقة فإنهم لحاجتهم إلى فضله كالرهينة في يد المسترهن و كذلك هم كالأسرى بيد آسرهم ناصيتهم بيده و زمامهم عنده لا يملكون معه حولا و لا قوة.

(جرح طول الأسى قلوبهم و طول البكاء عيونهم) فالحزن الطويل أدمى قلوبهم و جرحها و طول البكاء قرّح جفونهم و جرح عيونهم و هذه الحالة هي حالة العارفين باللّٰه الذين يعرفون عذابه و عقابه و يعرفون أجره و ثوابه إنها صورة أولياء اللّٰه الذين خافوا اللّٰه بمقدار معرفتهم به فكانت هذه صورتهم و تلك هي حالتهم...

(لكل باب رغبة إلى اللّٰه منهم يد قارعة يسألون من لا تضيق لديه المنادح و لا يخيب

ص: 32

عليه الراغبون) إنهم يتوجهون إلى اللّٰه فكل أمر يرغبونه و يريدونه يتوجهون إليه به فمنهم من يتوجه إليه بالصلاة و منهم من يتوجه إليه بالصيام و منهم من يتوجه إليه بالذكر و هكذا دواليك يقرعون أبواب اللّٰه كل حسب رغبته و توجهه... إنهم يسألون مالك خزائن السماوات و الأرض الذي ليس في ساحته شح أو بخل و لا يضيق عليه ما أرادوا و لا ييأس من فضله الراغبون.

(فحاسب نفسك لنفسك فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك) هذه هي الفقرة الأخيرة من كلامه... إنها وصية بمحاسبة الإنسان لنفسه من أجل نفسه... أن يقف أمامها و يحاسبها فيمنعها عن السقوط في النار و يردها إلى طاعة اللّٰه و يمنعها عما لا يجوز... يفتح دفاتر نفسه و يحاسبها على كل صغيرة و كبيرة من عمره... عن وقته...

عن ماله... عن علاقاته و اتصالاته عن حركته و سكونه و هكذا و هذه المحاسبة تعود عليه بالنفع... و ليترك حساب غيره فإن لغيره من الأنفس من يحاسبها و يحصي عليها أنفاسها ...

ص: 33

223 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله عند تلاوته: «يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ » .

أدحض (2) مسئول حجّة. و أقطع (3) مغترّ معذرة (4)، لقد أبرح (5) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان، ما جرّأك (6) على ذنبك، و ما غرّك بربّك، و ما أنّسك (7) بهلكة (8) نفسك ؟ أما من دائك (9) بلول (10)، أم ليس من نومتك يقظة ؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك ؟ فلربّما ترى الضّاحي (11) من حرّ الشّمس فتظلّه (12)، أو ترى المبتلى (13) بألم يمضّ (14) جسده فتبكي رحمة له! فما صبّرك على دائك، و جلّدك (15) على مصابك (16)، و عزّاك (17) عن البكاء على نفسك و هي أعزّ الأنفس عليك! و كيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (18)، و قد تورّطت (19) بمعاصيه مدارج (20) سطواته (21)! فتداو (22) من داء الفترة (23) في قلبك بعزيمة (24)، و من كرى (25) الغفلة في ناظرك بيقظة، و كن للّٰه مطيعا، و بذكره آنسا. و تمثّل (26) في حال تولّيك (27) عنه إقباله عليك، يدعوك إلى ع 9 فوه، و يتغمّدك (28) بفضله، و أنت متولّ (29) عنه إلى غيره. فتعالى (30) من قويّ ما أكرمه! و تواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! و أنت في كنت (31) ستره مقيم، و في سعة فضله متقلّب (32). فلم يمنعك فضله، و لم يهتك (33) عنك ستره، بل لم تخل من لطفه مطرف عين (34) في نعمة يحدثها لك، أو سيّئة يسترها عليك، أو بليّة (35)

ص: 34

يصرفها (36) عنك. فما ظنّك به لو أطعته! و ايم اللّٰه لو أنّ هذه الصّفة كانت في متّفقين في القوّة، متوازيين (37) في القدرة، لكنت أوّل حاكم على نفسك بذميم (38) الأخلاق، و مساوىء الأعمال. و حقّا أقول! ما الدّنيا غرّتك، و لكن بها اغتررت، و لقد كاشفتك العظات (39)، و آذنتك (40) على سواء (41).

و لهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك، و النّقص في قوّتك، أصدق و أوفى من أن تكذبك، أو تغرّك. و لربّ ناصح لها عندك متّهم، و صادق من خبرها مكذّب. و لئن تعرّفتها (42) في الدّيار الخاوية (43)، و الرّبوع (44) الخالية (45)، لتجدنّها من حسن تذكيرك، و بلاغ (46) موعظتك، بمحلّة الشّفيق عليك، و الشّحيح (47) بك! و لنعم دار من لم يرض بها دارا، و محلّ من لم يوطّنها (48) محلاّ! و إنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم.

إذا رجفت (49) الرّاجفة (50)، و حقّت (51) بجلائلها (52) القيامة، و لحقّ بكلّ منسك (53) أهله، و بكلّ معبود عبدته، و بكلّ مطاع أهل طاعته، فلم يجز (54) في عدله و قسطه (55) يومئذ خرق (56) بصر في الهواء، و لا همس (57) قدم في الأرض إلاّ بحقّه، فكم حجّة يوم ذاك داحضة، و علائق (58) عذر منقطعة!.

فتحرّ (59) من أمرك ما يقوم به عذرك، و تثبت به حجّتك، و خذ ما يبقى لك ممّا لا تبقى له، و تيسّر (60) لسفرك، و شم (61) برق النّجاة، و ارحل (62) مطايا التّشمير (63).

ص: 35

اللغة

1 - غره: خدعه و أطمعه بالباطل و قولهم «ما غرك بفلان» أي كيف اجترأت عليه.

2 - دحضت الحجة: بطلت، و حجة داحضة أي باطلة.

3 - أقطع: مبالغة في قطع و هي الابانة و الفصل و قطع صلاته أبطلها.

4 - المعذرة: العذر.

5 - أبرح: أشد و أقوى و يقال أبرح فلان شجاعة أي أتى بالشديد العظيم.

6 - جرؤا: جراءة و جرأة عليه أقدم عليه و هجم فهو جريء.

7 - انسّك: بالتشديد و يروى «آنسك» بالمد و تأنست بفلان استأنست.

8 - الهلكة: الهلاك.

9 - الداء: المرض.

10 - البلول: مصدر بلّ الرجل من مرضه إذ برىء و حسنت حاله بعد الهزال.

11 - الضاحي: البارز للشمس.

12 - تظله: تجعل له ظلاّ أي فيئا يقيه حرارة الضحى.

13 - المبتلى: المصاب بالبلاء و هي المصيبة.

14 - الممضّ : المؤلم.

15 - جلّدك: قواك و صبّرك.

16 - المصاب: البلية و كل أمر مكروه.

17 - عزى تعزية الرجل: سلاه تعزى عنه و تصبّر و تسلى.

18 - بيات نقمة: طروقها ليلا و النقمة العقوبة.

19 - تورط: وقع في الورطة و هي الهلاك و أصل الورطة أرض مطمئنة لا طريق فيها.

20 - المدارج: الطرق و المسالك.

21 - السطوات: جمع سطوة و هي البطش و القهر.

22 - تداوى: عالج نفسه بالدواء.

23 - الفترة: الانكسار و الضعف.

24 - العزيمة: الجد و الاجتهاد في الأمر.

25 - الكرى: النعاس.

26 - تمثّل: تصور.

27 - توليك: إعراضك.

ص: 36

28 - يتغمدك: يسترك و يغمرك.

29 - تولى عنه: تركه و ذهب عنه.

30 - تعالى: ارتفع.

31 - الكنف: الظل و الجانب و الناحية.

32 - تقلبّ في النعمة: تمتع بها كيف تحولت.

33 - هتك الستر: نزعه و قلعه.

34 - مطرف عين: زمان طرفها و هو اطباق أحد الجفنين على الآخر.

35 - البلية: المصيبة.

36 - صرفها عنك: حولها عنك.

37 - متوازيين: متساويين.

38 - الذميم: ضد الممدوح.

39 - العظات: جمع العظة ما يلين القلب و يرققه و يصله باللّٰه.

40 - آذنتك: اعلمتك.

41 - سواء: عدل و انصاف.

42 - تعرفتها: طلبت معرفتها.

43 - الخاوية: المتهدمة الخربة.

44 - الربوع: الديار أو ما حولها...

45 - الخالية: الفارغة.

46 - بلاغ: كفاية.

47 - الشحيح: البخيل.

48 - يوّطنها: يتخذها وطنا.

49 - رجفت: اهتزت و تحركت بشدة، الزلزال.

50 - الراجفة: النفخة الأولى في الصور يوم القيامة.

51 - حقت: وجبت و ثبتت.

52 - جلائلها: أمورها العظام.

53 - المنسك: موضع العبادة أو هي العبادة نفسها.

54 - يجرى: من جرى إذا حدث أو من جار أي عدل عن الطريق.

55 - يجزي: من جاز يجوز يسوع و يرخصّ .

56 - قسطه: عدله.

57 - الخرق: الثقبة و الفرجة.

58 - الهمس: الصوت الخفي.

59 - علائق: جمع العلاقة ما يكون به الاتصال.

ص: 37

60 - التحري: طلب الأحرى و الأليق.

61 - تيّسر: تأهب.

62 - شام البرق: نظر إليه.

63 - أرحل المطية: ضع عليها رحلها.

64 - الرحل: الجل و ما أشبه ذلك كالسرج و غيره.

65 - التشمير: الجد في الأمر.

الشرح

(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) آية كريمة من آيات اللّٰه انطلق بها لسان الإمام فتحركت نفسه الطاهرة بهذا الشعور العظيم.. انطلقت هذه الكلمات تحمل معها العظة العظيمة و النصيحة الكبيرة.. الحس الرقيق يتفجر من أعماقه صيحة في وجوه المتمردين على اللّٰه ليردهم إلى رحابه و يشدهم نحو جنابه... صيحة مخلصة يريد الإمام من خلالها أن يعيد هذا الإنسان الصلة باللّٰه و العودة إليه...

«يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ » يقرأها الإنسان على نفسه و يرددها مرة أثر أخرى فيشعر أنها تخترق حواجز المعصية و التمرد و تحركّ القلب المغلق لينفتح على اللّٰه من جديد.. هكذا أحس و أنا أقرأ كلماتها و أردد عبارتها... استفهام فيه توبيخ عن سبب غرور هذا الإنسان بربه و ما هي اسباب طمعه به حتى تمرد عليه و عصاه هل أن كرمه و عطاياه وجوده كانت سبب غروره بربه و طمعه به ؟ أو هذه أمور لا تدعو إلى الغرور و إنما تدعو إلى شكر المنعم و الوقوف أمامه بكل خشوع و خضوع ورد هذا الإحسان بالقيام بكل أمر يطلبه و يريده...

ما غرّ هذا الإنسان بربه الكريم ؟! لا شيء إلا نفس هذا الإنسان الأمارة بالسوء، لا شيء إلا وسوسة الشيطان و تزينه للمعصية و التمرد...

(أدحض مسئول حجة و أقطع مغتر معذرة لقد أبرح جهالة بنفسه) إذا سألك ربك عن سبب غرورك به و ما هي حجتك التي تقدمها كمبرر لهذا الغرور فإنك لا تملك حجة تواجه بها هذا السؤال بل كل حجة تقدمها فهي أشد الحجج بطلانا للإجابة عن هذا السؤال و بعبارة أخرى: سقطت كل الحجج و المبررات التي تدعيها إنها كانت السبب للغرور...

و كذلك إذا أراد أن يعتذر فإن اعتذاراته باطلة ساقطة هل يعتذر بعدم قيام الحجة

ص: 38

عليه و قد بلغته و قرعت آذانه ؟ و هل يعتذر بالنفس الأمارة بالسوء و قد أعطاه اللّٰه ذمامها و ملكه أمرها و جعلها تحت اختياره ؟ فلا عذر له أبدا يعتذر به.

لقد أبرح جهالة بنفسه أي هذا الإنسان بالغ في تجهيل نفسه حيث انساق وراء اللذات العابرة الفانية.

(يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك و ما غرك بربك و ما انّسك بهلكة نفسك) استفهم عليه السلام توبيخا عن سبب جرأة هذا الإنسان و إقدامه على المعصية و كأنه تقرير و نفي للسبب و إنما السبب الشقاوة و خبث الباطن... الجرأة على الذنب و الإقدام عليه و ارتكابه تعود إلى ضعف الإيمان باللّٰه و غلبة الشيطان و كثرة وسوسته و أغراؤه لهذا الإنسان...

و ما غرك بربك ؟ لا سبب للغرور إلا النفس الأمارة بالسوء التي تشد الإنسان نحو المعصية و التمرد...

و ما انّسك بهلكة نفسك ؟ أي شيء جعلك تستأنس بما تهلك به نفسك... تأنس باللذة من الحرام و فيها هلاك نفسك و تأنس بالكلمة المحرمة و فيها هلاك نفسك..

و تأنس بالموقف المحرم و فيه هلاك نفسك... و هل هناك أكثر تعاسة و أشد بؤسا من إنسان يستأنس بما فيه هلاكه و عذابه... العقلاء يستأنسون بما فيه سعادتهم و راحتهم فكيف تبدلت موازين هذا الإنسان المغتر بربه ؟ إنه أمر عجيب...

(أما من دائك بلول) استفهام فيه طلب و مضمونه أليس لك من هذا المرض شفاء... مرض المعاصي و التمرد على اللّٰه و الخروج عن إرادته أليس لهذه الأمراض شفاء؟! أخرج منها أيها الإنسان... اهجرها.. أتركها.. داوي هذا المرض بدواء الطاعة و الالتزام بأمر اللّٰه و العمل بما أراد و أحب... هذا المرض المزمن ليس له طبيب غيرك و دواؤه عندك... فأنت طبيب نفسك و وصفته إلهية في كتاب اللّٰه و سنة نبيه و هدى المعصومين.

(أم ليس من نومتك يقظة ؟) أنت نائم عن الآخرة و ما فيها لا تسعى لها و لا تعمل من أجلها و متى تستيقظ من هذا النوم و تقوم للعمل.. تؤدي الواجبات تترك المحرمات...

تأمر بمعروف... تنهى عن منكر... تعين الضعفاء ترفع الظلم تربي نفسك تربيه صالحة تؤهلها إلى الجنة و تدفعها عن النار...

(أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده فتبكي رحمة له) هذا حث لهذا الإنسان أن يلتفت لنفسه

ص: 39

فيرحمها مما بها من داء و مرض و يحاول شفاؤها و يطلب لها ما يصلحها و ذلك بأن يجعلها كغيرها بالنسبة له فهو إذا رأى نفسا تتعرض لحرارة الشمس بادر إلى أن يظللها منها و يدفع عنها حرارتها و إذا رأى مصابا بألم شديد في جسده كمرض مزمن مؤلم تراه يبكي له و يتأثر لما حل به رحمة له، فهذا الإنسان الذي يملك هذا الشعور بالنسبة إلى الغير يجب أن يملك مثله نحو نفسه... فيجب أن يبحث عما يقيه حر جهنم و عذابها و يرفع عنه مرض المعصية و التمرد...

(فما صبرك على دائك و جلدك على مصابك و عزاك عن البكاء على نفسك و هي أعز الأنفس عليك) استفهام توبيخ و لوم و إن هذا الإنسان يجب أن يقلع عما هو عليه من هذه المعايب...

أي سبب يدعوك إلى الصبر على دائك و هو مرض المعاصي و الانحراف و ارتكاب الحرام و أي سبب جعلك تقوى على أن تقف أمام مصائبك و مشاكلك و تتحملها بهذا المستوى و لا تحاول أن تضع هذا الحمل و تنزله عن كاهلك...

و ما هو الذي سلاك و الهاك عن البكاء على نفسك و النوح عليها و هي أعز الأنفس و أغلاها عليك... انقطعت الأسباب عن كل هذه الأمور التي هي فيك و إذا انقطعت الأسباب و الدواعي وجب على العاقل أن يقلع عنها و يتحول إلى نفسه فيصلحها و ينعشها و يحركها لتلتحق بركب عباد اللّٰه و أوليائه...

(و كيف لا يوقظك خوف بيات نقمة و قد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته) كيف لا تخاف أن يأخذك اللّٰه بالعقوبات و أنت نائم فلو فكرت في ذلك لارتدعت و لو فكرت في أخذه الأمم و كيف أخذها لاعتبرت و اتعظت قال تعالى: «أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنٰا بَيٰاتاً وَ هُمْ نٰائِمُونَ » و قد بيّن عليه السلام السبب الموجب لتخوفه من أخذ اللّٰه له بالعقوبة أنه إنما كان لدخوله في الخطايا و الآثام و بلوغه فيها الأنواع المختلفة التي تحركت بين الصغيرة و الكبيرة على تعددها و اختلافها و تنوع افرادها...

(فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة و من كرى الغفلة في ناظرك بيقظة) إذا أصابك فتور و كسل في خدمة اللّٰه و طاعته فتداوى منه بداوء العزيمة و قوة الهمة و استشعر عظمته و قوته و عذابه و سطوته و عندها سينتعش القلب و يبادر إلى الطاعة بكل قوة و ستتجدد العزيمة بأقوى و أشد و تسرع إلى امتثال الأمر الإلهي و كذلك أمسح عن ناظرك نعاسا يمنعك عن النظر إلى حقائق الأمور و دقائقها و استعمل عقلك في تشريح القضايا و تحليلها...

ص: 40

(و كن للّٰه مطيعا و بذكره آنسا) إنها أعظم وصية و من أجلها جاء الأنبياء و هي الوصية بطاعة اللّٰه و من كان للّٰه مطيعا فقد أدرك أعظم حظه و وصل إلى غاية طلبه.. كن للّٰه مطيعا شعارا يلخصّ كل دعوات الانبياء و الرسل و به جاءت الكتب و من أجله كانت التضحيات.

و كان البذل و العطاء بل كانت القرابين و الدماء... كن للّٰه مطيعا في السر و العلن فيما تحب و فيما تكره... في أمورك الخاصة و العامة.. في مواقفك... و في سلوكك في حركتك و في حديثك.. في سياستك و اقتصادك في كل أمر بجب أن تكون للّٰه مطيعا.

و بذكر اللّٰه آنسا: و لا أنس إلا لمن عرف اللّٰه و وقف على كرمه وجوده و عذابه و عقابه... فمن عرف اللّٰه لم يعد يستأنس إلا به و قد عرفه رجال فعاشوا لذة هذا الأنس و انفردوا بها دون غيرهم...

(و تمثل في حال توليك عنه إقباله عليك يدعوك إلى عفوه و يتغمدك بفضله و أنت متول عنه إلى غيره) قرأت هذه العبارات فهزتني من الأعماق و تصورت هذا الإنسان الهارب من دعوة اللّٰه و اللّٰه وراءه يدعوه إلى فضله و عفوه و مغفرته.. تصورت سرعة السير عند هذا الإنسان يريد أن يلقي نفسه في جهنم و يرفض دعوة اللّٰه و نداءه إلى العفو و المغفرة... تصورت صحيحة الأنبياء فيه تقرع أذنه و تناديه أقبل على اللّٰه بقلبك و عملك و هو يتولى عن ذلك و يعرض عنه و يذهب إلى غيره جهلا منه أو عنادا... صورة الإنسان الهارب من الرحمة إلى العذاب و من النعيم إلى الشقاء... صورة الإنسان الذي لم يعرف خلاصه و لم يعرف ما ينفعه مما يضره... و في دعاء الافتتاح «إنك تدعوني فأولي عنك و تتحبب إليّ فأتبغض إليك و تتودد إلي فلا أقبل منك...».

(فتعالى من قوي ما أكرمه و تواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته و أنت في كنف ستره مقيم و في سعة فضله متقلب فلم يمنعك فضله و لم يهتك عنك ستره بل لم تخل من لطفه مطرف عين في نعمة يحدثها لك أو سيئة يسترها عليك أو بلية يصرفها عنك فما ظنك به لو أطعته) جلّ جلالك يا رب أنت القوي المطلق و الكريم المطلق تقول للشيء كن فيكون... تحيي من تشاء و تميت من تشاء و بيدك الوجود و كل موجود و مع ذلك يقف هذا الإنسان الذليل الحقير يتجرأ على معصيتك و يرتكب ما نهيت عنه و زجرت.. هذا العبد الذليل الذي يعيش في سترك فلا تفضحه أو تشهّر به أو تكشف عيوبه و مساويه... هذا الإنسان الذي يعيش بعطائك وجودك و تمده بكل قوة و حول و بكل اسباب الحياة و البقاء فلا تمنع فضلك عنه و لم تقطع صلاتك عنه و لم تكشف سترك

ص: 41

المرخى عليه و لم تهتكه بما فعل أو ارتكب... بل إنك يا رب تمده بالعطاء بحيث أنك لو قطعت مددك عنه لم يبق في هذا الوجود... لو إنك سبحانك تخليت عنه طرفة عين لسقط و هوى و انعدم من هذا الوجود بل إن لطف اللّٰه في كل لحظة و يتجسد هذا اللطف في نعمة يحدثها و يجددها لهذا الإنسان من مال و أولاد و جاه و سلطان كما أن هذا اللطف يحدث في كل سيئة يرتكبها هذا الإنسان فلا يفضحه بها و لا يكشف ستره عنها و لا يهتكه أمام الناس بل يسترها عليه و ينبهه إلى وجوب التوبة رحمة به و رعاية له.

و كذلك من وجوه هذا اللطف إنه سبحانه يصرف عنه المصائب و البلايا و المحن.

و في دعاء الافتتاح «فكم يا إلهي من كربة قد فرجتها و هموم قد كشفتها و عثرة قد اقلتها و حلقة بلاء قد فككتها» و إذا كانت هذه هي حالة اللّٰه مع هذا الإنسان العاصي المتمرد يعطيه و يفيض عليه و يدفع عنه البلايا و المصائب فكيف حال العبد المطيع له الملتزم بأمره السائر على خطه إنه بدون شك يصبح يده التي يبطش بها و عينه التي يرى بها على حد تعبير ما ورد في بعض الأحاديث...

(و أيم اللّٰه لو أن هذه الصفة كانت في متفقين في القوة متوازيين في القدرة لكنت أول حاكم على نفسك بذميم الأخلاق و مساوىء الأعمال) و هذا أسلوب رائع في جذب الناس إلى الحق و العمل به و دفعهم نحو الفضيلة فأقسم لو أن هذا الموقف كان بين متقابلين متساويين في القوة - من اقبال اللّٰه على العبد و هروب العبد منه و توليه عنه - و القدرة ثم يحصل هذا المشهد و تكون هذه الصورة لكان هذا الإنسان هو الذي يدين نفسه و يحكم عليها بقبائح الأخلاق و سيئات الأعمال فإن هذه المقابلة قبيحة أخلاقيا و عمليا فإن منطق الأخلاق يحكم بوجوب المقابلة «فما جزاء الإحسان إلا الإحسان» و من أقبل عليك أن تقبل عليه و من اقترب منك شبرا أن تقترب منه ذراعا و المنطق العملي يحكم أيضا بعدم الإختلاف لأن البناء و العمران و الحضارة لا يكون إلا بالتعاون و الاجتماع و اللقاء و لا يكون بالتنافر و العداوة و الهجر و البغضاء.

(و حقا أقول! ما الدنيا غرتك و لكن بها اغتررت) هذا تصحيح لما يدعيه الناس عن سؤال: ما غرّك بربك الكريم فيقولون غرتنا الدنيا و زخارفها و ما فيها فأراد عليه السلام أن يصحح الجواب و يرد أصحابه عن الخطأ بأن الدنيا لا تملك أن تغرك و ليس بمقدورها ذلك و لكنك أنت الذي اغتررت بها و أقدمت عليها و رحت تتسابق على حطامها...

الدنيا مادة عمياء صماء لا تملك القدرة على اغرائك و إغوائك و أنت و حدك العاقل المفكر الواعي الضعيف... أنت اغتررت بالدنيا و سقطت على فتاتها تلتقط ما يقع فيها...

ص: 42

(و لقد كاشفتك العظات و آذنتك على سواء و لهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك و النقص في قوتك أصدق و أوفى من أن تكذبك أو تغرك) هذا بيان أن الدنيا لم تغر الإنسان بل هو الذي اغتر بها و ذلك بذكر نسبته ضد الاغترار إليها و هو النصيحة له بمكاشفته بالمواعظ، فإن الدنيا قد انكشفت له بالمواعظ البليغة من تقلباتها و تصرفاتها و قضائها على الآباء و الأجداد و الأسلاف و كيف ترمي في كل يوم بسهم المنية فتصيب به من تريد... إنها بسرائها و ضرائها و بؤسها و شقائها تعلم هذا الإنسان بحقيقتها و تنبهه إلى فعلها... إنها تعلمه بمنطق العدل و الصدق إنها لا تغره لأن من يغر هو الذي يخفي فعله و يموهه على الناس قاصدا اضلالهم و انحرافهم و جرّهم إليه أما من يكشف أعماله و يظهر ما يبطن و يحذّر الناس من فعله و عمله فلا يغر الناس أبدا و مسيرة الدنيا مع هذا الإنسان بهذا المستوى و على هذه الصورة...

ثم استشهد عليه السلام بأن الدنيا بصدقها بما تعدك من حيث نزول البلاء بجسمك و النقص في قوتك أصدق و أوفى من أن تكذبك أو تغرك.. فإن الدنيا قالت لهذا الإنسان بلسان الحال سأرميك بالمصائب و البلاء فمن مرض إلى هم إلى غم إلى نقص في القوة و هكذا و هي قد صدقت في كل ذلك و نجد الحال أمام أعيننا في أنفسنا و فيمن حولنا و هي بهذا ترفع عن نفسها الكذب و أن تكون هي التي تغر هذا الإنسان...

(و لرب ناصح لها عندك متهم و صادق من خبرها مكذب) أنت تتهم ما ينصحك من عبرها و عظاتها تتهمه في نصيحته، كما إنك تكذّب من يحدثك عنها و ينقل إليك أخبارها و فجائعها و هو صادق في أخباره حيث أن أخبارها و أحداثها صادقة نراها رؤية العين...

(و لئن تعرفتها في الديار الخاوية و الربوع الخالية لتجدنها من حسن تذكيرك و بلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك و الشحيح بك) هذا بيان لصدق الدنيا مع هذا الإنسان و نصيحتها له.. إنك تعرف ذلك إذا مررت بالديار التي أتى عليها الزمن فاندرست و لم يبق منها إلا الأثر يحكي عنها و ينطق بأنها كانت و الربوع التي خلت من سكانها و أقفرت من نزّالها فإن العاقل إذا رأى ذلك رأى الموعظة في أبلغ ما يكون و الشفقة في أرق معانيها و البخل بهذا الإنسان أن يصيبه أذى فيها لأن كل هذه الآثار و المواقع تقول لهذا الإنسان خذ العبرة و الدرس و تأهب للمسير و السفر الطويل و إن الدنيا سوف تأتي عليك كما أتت على من سبقك و تقدم عليك و هل هناك أرق و أشفق ممن يدلك على موارد العطب لتجتنبها و تترك الإقدام عليها و الدخول فيها كلا ثم ألف كلا...

(و لنعم دار من لم يرض بها دارا و محل من لم يوطنها محلا و إن السعداء بالدنيا غدا

ص: 43

هم الهاربون منها اليوم) هذا مدح للدنيا و تنعيم لها إذا وضعت في موضعها من حيث الاعتبار بها و الاجتناب لمساويها و عدم الرضا بها دارا يستقر بها الإنسان و يعمل لها..

فهي دار يعمل بها للآخرة و لا يعمل لها و هذا موقعها الذي يجب أن تقع فيه و كذلك هي نعم الدار إذا لم يتخذها المرء وطنا له يبني بها و يظن إنها الباقية له و الباقي عليها بل يتخذها معبرا نحو الآخرة لا استقرار فيها و لا راحة...

ثم أشار إلى أن السعداء بالدنيا غدا هم الهاربون منها اليوم فمن يهرب اليوم من عبودية الدنيا و رقتها و يتحرر منها و مما فيها و يعمل بها للآخرة،. من يترك ملذاتها و يهجر ما فيها فهذا هو السعيد في الآخرة...

(إذا رجفت الراجفة و حقت بجلائلها القيامة و لحق كل منسك أهله و بكل معبود عبدته و بكل مطاع أهل طاعته فلم يجز في عدله و قسطه يومئذ خرق بصر في الهواء و لا همس قدم في الأرض إلا بحقه) هذا بيان للغد الذي يسعد به الهاربون من الدنيا إنه يوم رهيب يوم القيامة حيث تضطرب الأرض و ترجف و تهتز و تتزلزل كما قال تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ اَلرّٰاجِفَةُ تَتْبَعُهَا اَلرّٰادِفَةُ » فهناك رجفة أولى للأرض تهتز لها الأشياء و تضطرب ثم تتبعها أخرى و هي الرادفة و جاءت القيامة بأمورها العظيمة و أهاويلها الشديدة و لحق كل إنسان بمعبوده و ما كان يهواه في الدنيا و يتعلق به و يدين له بالطاعة إن كل فرد يحشر مع من كان يحب و يهوى و لو أحب حجرا لحشر معه و لو أطاع فاسقا لكان معه... و إذا كان الأمر كذلك فهناك يأتي عدل اللّٰه و انصافه و إن كل حركة و لو أن تفتح عينيك في الهواء و هو مباح أو تحرك قدمك و لو حركة بسيطة تنقلها من محلها فإنك تجزى بها بالعدل، إنك محاسب على كل صغيرة و كبيرة بالقسط و العدل و لا يظلم ربك أحدا...

(فكم حجة يوم ذاك داحضة و علائق عذر منقطعة). أراد أن يبين أن هناك كثيرا من الحجج الباطلة و الأسباب المنقطعة التي لا تنهض في مقام الاعتذار لمن يتكل على نسبه أو مقامه أو عمل غيره و هناك بعض الناس الذين يذهبون إلى الآخرة و ليس لهم ما يعتقدون أنه حجة لهم تنقذهم من عذاب اللّٰه و لكنهم يتمسكون بذلك ضلالا منهم و غرورا بما عندهم...

(فتحر من أمرك ما يقوم به عذرك و تثبت به حجتك و خذ ما يبقى لك مما لا تبقى له) بعد أن بيّن أن هناك من الحجج ما لا يقوم عذرا أو يكون مقبولا رغب فيما ينفع و يفيد و يكون حجة بين يدي العبد تؤهله للاعتذار و لدخول الجنة و ذلك بأن يطلب من أعماله و أموره ما يصح أن يكون عذرا عند اللّٰه و حجة صحيحة تثبته على الصراط و هذا لا يتحقق

ص: 44

إلا بمتابعة الأنبياء و السير خلفهم فيما شرعوا و سنوا و تصحيح سلوك الإنسان بمناهج الشرع و الدين و تحصيل الكمالات النفسية...

ثم أمره أن يأخذ ما يبقى له و هو الإيمان باللّٰه و العمل الصالح و يترك ما لا يبقى له و هو الدنيا و ما فيها من متاع و حطام...

(و تيسر لسفرك) على الإنسان أن يتأهب لهذا السفر الطويل و هو رحلة الموت إلى الآخرة و التأهب يكون بالاستعداد بأن يرى ما ينفع و يفيد فيهيؤه و ذلك بالقيام بالواجبات و ترك المحرمات و التزام جادة الشرع و البعد عن كل ما يخالف أمر اللّٰه و خير الزاد التقوى...

(و شم برق النجاة و أرحل مطايا التشمير) أنظر إلى مواقع النجاة و أطلب سبل الهداية و الفوز و الفلاح و شمر عن سواعد الجد و الكفاح للوصول إلى الآخرة سعيدا منتصرا ...

ص: 45

224 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يتبرأ من الظلم و اللّٰه لأن أبيت (1) على حسك (2) السّعدان (3) مسهّدا (4)، أو أجرّ (5) في الأغلال (6) مصفّدا (7)، أحبّ إليّ من أن ألقى اللّٰه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، و غاصبا لشيء من الحطام (8)، و كيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى (9) قفولها (10)، و يطول في الثّرى (11) حلولها؟!.

و اللّٰه لقد رأيت عقيلا و قد أملق (12) حتّى استماحني (13) من برّكم (14) صاعا (15)، و رأيت صبيانه (16) شعث (17) الشّعور، غبر (18) الألوان، من فقرهم، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم (19)، و عاودني (20) مؤكّدا، و كرّر (21) عليّ القول مردّدا، فأصغيت إليه (22) سمعي، فظنّ أنّي أبيعه ديني، و أتّبع قياده (23) مفارقا طريقتي، فأحميت (24) له حديدة، ثمّ أدنيتها (25) من جسمه ليعتبر بها، فضجّ (26) ضجيج ذي دنف (27) من ألمها (28)، و كاد أن يحترق من ميسمها (29)، فقلت له: ثكلتك (30) الثّواكل (31)، يا عقيل! أتئنّ (32) من حديدة أحماها إنسانها للعبه، و تجرّني إلى نار سجرها (33) جبّارها لغضبه! أتئنّ من الأذى (34) و لا أئنّ من لظى (35)؟! و أعجب من ذلك طارق (36) طرقنا بملفوفة (37) في وعائها، و معجونة شنئتها (38)، كأنّما عجنت (39) بريق (40) حيّة (41) أو قيئها (42)، فقلت: أصلة (43)، أم زكاة (44)، أم صدقة (45)؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت! فقال: لا ذا و لا ذاك، و لكنّها

ص: 46

هديّة. فقلت: هبلتك (46) الهبول (47)! أعن دين اللّٰه أتيتني لتخدعني ؟ أ مختبط (48) أنت أم ذو جنّة (49)، أم تهجر (50)؟ و اللّٰه لو أعطيت الأقاليم السّبعة (51) بما تحت أفلاكها، على أن أعصي اللّٰه في نملة أسلبها (52) جلب (53) شعيرة ما فعلته، و إنّ دنياكم عندي لأهون (54) من ورقة في فم جرادة (55) تقضمها (56). ما لعليّ و لنعيم يفنى، و لذّة لا تبقى! نعوذ باللّٰه من سبات (57) العقل، و قبح الزّلل (58). و به نستعين.

اللغة

1 - بات: بياتا و مبيتا كل من أدركه الليل نام أم لم ينم.

2 - الحسك: الشوك.

3 - السعدان: نبت شوكي ترعاه الإبل.

4 - المسهد: الأرق، الذي لا يتمكن من النوم.

5 - أجر: أسحب.

6 - الأغلال: القيود.

7 - المصفّد: المقيّد و الموثوق بغل أو قيد.

8 - الحطام: بالضم عروض الدنيا و متاعها و في الأصل ما يتحطم من العيدان و يتكسر.

9 - البلى: الفناء.

10 - قفولها: رجوعها.

11 - الثرى: التراب.

12 - أملق: افتقر.

13 - استماحني: طلب مني منحة أي عطية.

14 - البر: القمح.

15 - الصاع: مكيال.

16 - الصبيان: جمع الصبي و هو دون الفتى عمرا.

17 - الأشعث من الشعر: ما تلبد و توسخ.

18 - غبر: جمع أغبر المتغير اللون شاحبه.

19 - العظلم: بكسر الحرفين نبت يصبغ به ما يراد اسوداده.

ص: 47

20 - عاودني: سألني مرة بعد أخرى.

21 - كرّر الشيء: أعاده مرة بعد أخرى أو مرارا.

22 - أصغيت إليه: أملت سمعي نحوه.

23 - القياد: بالكسر ما يقاد به.

24 - أحميت الحديدة: أسخنتها شديدا.

25 - أدنيتها: قرّبتها.

26 - ضج: صاح و جلّب لفزعه من شيء أخافه.

27 - الدنف: شدة المرض.

28 - الألم: الوجع.

29 - الميسم: بكسر الميم و فتح السين آلة الوسم و هي المكواة.

30 - الثكل: بالضم و بالتحريك فقدان الحبيب أو الولد و ثكلتك فقدتك.

31 - الثواكل: النساء الفاقدات لأولادهن.

32 - تأن: من أنّ أنينا إذا تأوه.

33 - سجرها: أوقدها و أحماها.

34 - الأذى: الضرر اليسير.

35 - لظى: اسم من أسماء جهنم.

36 - الطارق: الآتي ليلا و سمي كذلك لاحتياجه إلى طرق الباب بالمطرقة.

37 - الملفوفة: نوع من الحلواء.

38 - شنئتها: أبغضتها من الشنآن و هو البغض و الكراهية.

39 - عجنت: الدقيق إذا خلطته بالماء و غمزته بكفي.

40 - ريق: لعاب.

41 - الحية: الأفعى.

42 - القيىء: الرجيع.

43 - الصلة: العطية، الرشوة.

44 - الزكاة: ما يخرج من المال الزكوي إذا تم النصاب.

45 - الصدقة: ما يدفع قربة إلى اللّٰه ابتغاء الأجر و الثواب.

46 - هبلتك: ثكلتك.

47 - الهبول: التي لا يبقى لها ولد من النساء.

48 - المختبط: المصروع و المختل توازنه.

49 - الجنة: الجنون، أو من به مس من الشيطان.

50 - الهجر: الهذيان من مرض كالمحموم.

51 - الأقاليم السبعة: الدنيا حيث كانوا يقسمونها إلى سبعة أقاليم.

ص: 48

52 - أسلبها: انتزعها منها قهرا، اختلسها منها.

53 - جلب الشعيرة: قشرتها.

54 - أهون: أحقر.

55 - الجرادة: دويبة من مستقيمات الأجنحة تغزو المزروعات فتتلفها.

56 - القضم: الأكل بأطراف الأسنان.

57 - السبات: النوم، أو النوم الخفيف.

58 - الزلل: السقوط في الخطأ.

الشرح

اشارة

(و اللّٰه لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا أو أجر في الأغلال مصفدا أحب إليّ من أن ألقى اللّٰه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد و غاصبا لشيء من الحطام و كيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها و يطول في الثرى حلولها) يوم القيامة يوم رهيب تجتمع الخلائق للحساب أمام محكمة عادلة لا تظلم أحدا و لا تجوز على أحد و تأخذ لكل ذي حق حقه ممن هو عليه... يوم تشخص فيه الأبصار... يوم يجعل الولدان شيبا... يوم تذهل كل مرضعة عما ارضعت و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب اللّٰه شديد... يوم يفر فيه المرء من أبيه و أمه و أخيه و فصيلته التي تؤويه لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه يوم لا يغني والد عن ولده و لا مولد عن والده شيئا... هذا اليوم كان محط نظر الأنبياء و الأوصياء و الأولياء و أهل اللّٰه... هذا اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يعمل الإنسان من أجله و يبذل قصارى جهده في سبيل أن يصل إليه و لا تبعة عليه أو مظلمة تلاحقه... و أمير المؤمنين هو الشخصية الإلهية الربانية التي عرفت اللّٰه حق المعرفة و عرفت ذلك اليوم بحقيقته و اطلعت على كنهه و ما يجري فيه فلذا كان عليه السلام ينظر إلى ذلك اليوم فيعمل له و يعدّ العدة لقدومه.

و هذه الخطبة الشريفة و الكلام الكريم يخرج من قلب علي على سجيته يحكي عن عقيدته و شعوره و كيف ينظر إلى ذلك اليوم الرهيب... إنه ينفي الظلم عن نفسه... ظلم العباد و البلاد و يرفض أن يعطي ابن أمه و أقرب الناس إليه قليلا من مال المسلمين يسد به رمقه و رمق عياله... أقسم عليه السلام أن المبيت على الشوك المؤرق المانع من النوم و السحب بالقيود و الاغلال مكبلا و هذه صوره يرسمها لمن يرى مثل هذا الإنسان بهذه الحالة و كم فيها من الألم و المعاناة و العذاب و الهوان و لكنه عليه السلام

ص: 49

يقسم أن وجوده على هذه الحالة أحب إليه من أن يلقى اللّٰه و رسوله يوم القيامة و لأحد من الناس مظلمة عنده أو يكون غاصبا شيئا من فتات الدنيا و ذلك لأن عذاب الدنيا مهما كان كبيرا فهو صغير بالنسبة إلى عذاب الآخرة.

ثم بيّن سبب بعده عن الظلم و نفرته منه و قد استفهم مستنكرا ذلك و مبعّدا له عن نفسه.

بأنه كيف يظلم أحدا من أجل نفسه و هذه النفس لها حالتان كل حالة منهما تستدعي رفض الظلم و تمنع العاقل من ارتكابه.

الأولى: إن هذه النفس سترجع من رحلتها في الدنيا إلى الفناء و من كانت هذه آخرته وجب عليه أن يرفض الظلم من أجل نفسه التي تفنى.

الثانية: إن هذه النفس بعد موتها سيطول بقاؤها في القبر إلى يوم القيامة و هي مدة لا يعلمها إلا اللّٰه و من كان بقاؤه في القبر طويلا يجب أن يرفض الظلم لئلا يتحول قبره إلى حفرة من حفر النيران جراء هذا الظلم القاتل...

(و اللّٰه لقد رأيت عقيلا و قد أملق حتى استماحني من بركم صاعا و رأيت صبيانه شعت الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم و عاودني مؤكدا و كرر عليّ القول مرددا فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني و اتبع قياده مفارقا طريقتي) صورة عظيمة و حادثة رهيبة ينقلها الإمام مع أعز أهله عليه... لا أظن أن في التاريخ رجلا ثانيا قدمته البشرية يشبه أمير المؤمنين أو يماثله.. إنه يقسم باللّٰه و هو الصادق البار الأمين إنه رأى أخاه و ابن امه.. رأى أخاه عقيلا و قد افتقر حتى بلغ به الفقر أن مدّ يده إلى الإمام يستعطيه و يطلب منه صاعا من قمح المسلمين يسد به جوعه و جوع عياله...

يحكي الإمام ما يرى من فقر أولاد أخيه و ما يعانونه من الحاجة... إنهم صبية قد اضناهم الجوع فغيّر ملامحهم الأصيلة فعلامات الفقر بادية عليهم ظاهرة في وجوههم و شعورهم، تقرءوها بمجرد أن تراهم فشعورهم مبعثرة قد تلبدت على عادة من اصابهم الفقر و وجوههم شاحبة من الجوع كأنها صبغت بالسواد فتغيرت سحنتها و طبيعتها.

لقد القى عقيل حاجته بين يدي أخيه و رأى الإمام واقع حاله و ما يعيشه صبيته الصغار و عاد عقيل من جديد يطلب حاجته و كرر طلبه مرددا ما يريد فأصغى إليه الإمام، و أعطاه إذنه فظن صاحب الحاجة أن عليا يبيعه دينه و ينقاد لمراده و يطيعه فيما طلب

ص: 50

مخالفا طريقته التي هي جزء من كيانه و طبيعته التي جبل عليها حيث كان العدل جزءا مقوما لوجوده و ما هو عليه...

مشهد رائع يحكيه الإمام بفصوله العظيمة... مشهد الأخ بقرابته و رحمه...

و مشهد المحتاج الفقير الذي طرق الفقر بابه يطلب العطاء... مشهد الأولاد الذي غير الفقر حالتهم فبدت عليهم اماراته في وجوههم و شعورهم... مشهد الإنسان الذي قصد أخاه و ألحّ عليه بالطلب فأصغى إليه الأخ تأدبا و كيف تكرر الطلب... مشهد مؤثر لا يستطيع الإنسان أن يخفي شعوره الحزين نحوه... مشهد البؤس الذي يعيشه هذا الإنسان فتتكدر على أهل الإيمان رؤيتهم...

بهذه الصورة المؤثرة كان عقيل الأخ الأكبر للإمام أمير المؤمنين فكيف كان علي معه ؟! و هل تأثر لهذا المشهد البائس ؟! هل أخذته العاطفة و شدته الرحم للتنازل عما يؤمن به من العدالة و الحق و عدم الظلم ؟!.. هل استطاع الإمام أن يتغلب عل عاطفته و يبقى فوق الميل و الهوى و الرحم و العاطفة ؟!...

لقد أعطى لأخيه درسا تناقلته الخطباء و وعظت به الوعاظ و ضربته الحكام مثلا لقد سارت به الركبان تنقل من خلاله عدل الإمام و عدم محاباته لأخيه و أحب الناس إليه إنه درس للملوك و الحكام و السلاطين و الأمراء الذين متى جلسوا على كرسي الحكم جمعوا أقاربهم و أرحامهم و من لهم علاقة بهم و أخذوا يفرقون عليهم من أموال المسلمين و يتحول أهل الحاكم و أرحامه و أقرباؤه و من لهم صلة به يتحولون في لحظة عين إلى أغنياء العالم فضلا عن اغنياء بلدهم... بلحظة واحدة يتحول الفقراء بالأمس إلى أغنياء اليوم و أثرياؤهم...

يحكي الإمام ما تبقى من المشهد الحزين المؤثر... إنه فصل رائع و درس عظيم .. يقول عليه السلام...

(فأحميت له حديدة ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من المها و كاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه و تجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه أتئن من الأذى و لا أئن من لظى) هذه حديدة علي التي اصبحت درسا... أحمى الإمام حديدة بالنار و كان عقيل قد كف بصره ثم قربها منه و قال له خذ هذه فأقدم عليها عقيل بإقدام البائس الفقير ظنا منه إنها بدرة دراهم أو كيس دنانير.. لقد أهوى يده إليها ليأخذها فإذا هي حديدة محماة فكانت الصدمة العنيفة و الصيحة الرهيبة... لقد صرخ صراخ مريض قد اشتد به المرض

ص: 51

فآلمه.. إنه يقبض على نار حامية كاد أن يحترق منها...

إنها صرخة من نار الدنيا ينتقل الإمام منها إلى نار الآخرة ليقول لأخيه «ثكلتك الثواكل يا عقيل» فقدتك نساؤك و حزنت عليك.. دعاء عليه بالموت... تصرخ يا عقيل و تضج من هذه الحديدة البسيطة التي أحماها إنسانها للعبه لأن طريقة الإمام معه كانت أشبه باللعب بالنسبة إلى نار الآخرة و عذابها فإنه لم يرد أن يقتص منه و إنما أراد أن يلفت نظره و ينبهه إلى خطر الآخرة، فأنت يا عقيل تصرخ و تتأوه من هذه الحديدة التي هي أشبه باللعبة و تجرني إلى نار أو قدها جبارها الذي لا يقوى على غضبه أحد و هو اللّٰه تجرني إلى تلك النار الكبرى... أتأن و تتأوه من الأذى البسيط و الألم الخفيف الذي أصابك من حديدة بسيطة و أنا لا أتأوه من نار جهنم و عذابها، فإن كنت تتأذى و تصرخ من نار الدنيا فأنا أحق و أولى أن أصرخ من نار الآخرة...

بهذه العظة البليغة يسدل الستار عن فصل رائع من فصول العدل العلوي لينتقل منه إلى فصل آخر...

(و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها و معجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة ؟ فذلك محرم علينا أهل البيت، فقال:

لا ذا و لا ذاك و لكنها هدية فقلت: هبلتك الهبول أعن دين اللّٰه أتيتني لتخدعني ؟ ا مختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر) و هذا حدث آخر أهم و أعظم من قصة عقيل و حدثه...

إنه فصل آخر بشع و قبيح يتندى له جبين الحياء.. إنه فصل من فصول الاحتيال و زيادة قبحه يتجسد في كونه عن طريق الدين... إنه عن طريق الدين يريد الاحتيال لاستمالة قلب الحاكم و عن هذا الطريق يستطيع الوصول إلى مراده و إدراك ما يؤمل...

لئن جاء عقيل إلينا يطلب استماحتنا صاعا من البر إنما جاء للرحم الذي بيننا و لحاجته الشديدة و لأن له الحق في بيت مال المسلمين أما هذا الرجل و هو الأشعث بن قيس إنما جاء يحتال على الدنيا باسم الدين و هذا أمر أشد عجبا من الأول فعند الأول شبهة حق و أما عند الثاني فلا شبهة أبدا إنه يريد أن يرشي الحاكم ليأخذ منه ما يريد...

هذه هي قصة الأشعث بن قيس مع الإمام... فالأشعث رجل منحرف عن الإمام لا يحبه بل يكّن له البغضاء و يحقد عليه و لكن بما أن الإمام هو الحاكم و المتولي للأمر أراد أن يستميله فصنع توعا من الحلواء و تأنق فيه و جاء به إلى الإمام يقدّمه إليه هدية...

عرف الإمام باطن الأشعث و عرف داخله.. عرف أن هذه الهدية ليست للّٰه و لا من أجل اللّٰه و إنما أراد الأشعث أن يتوصل بها إلى الدنيا.

ص: 52

ما يفعله الأشعث أمر عجيب... إنها صورة الانتهازي القبيح فهو يأتي إلى بيت الإمام ليلا لئلا ينكشف أمره للناس.. في الليل تستر العيوب فلذا اتخذه الأشعث زمانا لتمرير حيلته... فبعد أن صنع الحلوى بدقة متناهية و تأنق في صنعها و وضعها في وعائها و لفها كما تلف الهدية عندها قصد بيت الإمام يريد أهداءها إليه...

يرى الإمام الطارق إنه الأشعث فيشمئز منه و يتصور بغضه له و حقده عليه و ممارساته الظالمة بحقه فيشمئز من الحلوى و يصفها بما ينفر الطبع منها و ما ترفضه النفس و تأباه.. كأنها عجنت بريق حية أو قيئها... بسم الحية أو رجيعها و هل يتصور الإنسان هذا المنظر ثم يبقى مستقيم المزاج معتدله.. كلا.. لا بد و أن تشمئز نفسه و يعرض عنها.. و مع هذا فقد حاول الإمام أن يستفسر عن السبب الموجب لمجيئه بها.

فقال له: ما هذه ؟.

هل هي صلة: كما يصل الرحم رحمه ؟.

أم زكاة وجبت عليك و أردت إخراجها من أموالك ؟ أم صدقة تريد بها وجه اللّٰه و الدار الآخرة ؟ و هذه كلها - يا أشعث - محرمة علينا أهل البيت و أمام هذا الاستفهام من الإمام ورد جميع الاحتمالات بادر الأشعث إلى القول إنها ليست ما ذكرت بل هي هدية محللة و لا حرمة في الهدية فالمسلمون يتهادون و هنا تثور ثائرة الإمام... يعرف الغاية التي دفعت الأشعث إلى ذلك... إنه يقرأ خلفيات هذه الهدية و ما وراءها إنه يريد أن يخدع الإمام بهذه الهدية و يحرفه عن دينه عن طريق الدين يريد خديعة حافظ الدين و راعيه.. «هبلتك الهبول» دعاء على الأشعث أن تصاب أمه به فيموت و تحزن عليه كيف جاء عن طريق الدين يخدع الإمام و يصرفه عن الحق...

و يلك يا أشعث ا مختبط أنت أي مصروع لا تدري ما تفعل يسّيرك غيرك و يتصرف بك حتى جئت بهذا الفعل الشنيع ؟.

أم اصبت بالجنون و الخبل أو استولت عليك الجن أم تهجر و تهذي و لا تعرف ما تقول و لا تدري كيف تتصرف..؟.

استفهام توبيخي فيه إهانة للأشعث ورد للهدية و إن فعل الأشعث لا يفعله عاقل...

(و اللّٰه لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أن أعصي اللّٰه في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته) هذا نشيد الأحرار... قيثارة الحب الإلهي و الطاعة للّٰه، ما

ص: 53

أجملها من مقطوعة و ما أروعها من كلمات... و اللّٰه قسما صادقا لو جمعت الدنيا بما فيها... بأقاليمها السبعة و ما تحت أفلاكها و أعطيت لعلي مقابل أن يعصي اللّٰه في قشرة شعيرة يسلبها من نملة ما فعل أي إنسان هذا تكبر عنده معصية اللّٰه الصغيرة حتى تتحول عنده كل قضية.. تصبح معصية اللّٰه الصغيرة لا تقابلها الدنيا كلها... يتخلى علي عن الدنيا بما فيها إذا كانت توجب معصية صغيرة للّٰه...

درس لأهل الدنيا حكاما و محكومين.. رعاة و رعية قادة و سوقة... درس في المحافظة على طاعة اللّٰه و أن لا يرتكبوا معصية مهما صغرت و إن ربحوا الدنيا بما فيها..

درس رائع يقطع به الإمام طمع الأشعث و كل طامع فيه يريد أن يحرفه عن دينه...

(و إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي و لنعيم يفنى و لذة لا تبقى نعوذ باللّٰه من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين) هذا منتهى الزهد و أقصى غاية التقشف أن تصغر الدنيا عند الإمام حتى تصبح أحقر من ورقة في فم جرادة تقضمها...

ثم استفهم منكرا أن تكون نفسه تطلب لذات الدنيا أو تتعلق بشيء منها.. ما لعلي و لنعيم يفنى فهذا النعيم الدنيوي الذي يفنى لا يتعلق به الإمام و لا يطلبه كما أن اللذة التي لا تبقى ليست من مهمته و لا يريدها...

و أخيرا استعان باللّٰه من غفلة العقل و ضعفه أو عدم تنبهه إلى ذلك النعيم الذي يفنى و تلك اللذات التي لا تبقى و نعوذ به من قبح الانحراف في القول و العمل و نستعين به على كل ما يرضيه...

ترجمة عقيل بن أبي طالب.

عقيل بن أبي طالب عليه السلام بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخو أمير المؤمنين عليه السلام لأمه و أبيه و كان بنو أبي طالب أربعة طالب و هو أسن من عقيل بعشر سنين، و عقيل و هو أسن من جعفر بعشر سنين و جعفر و هو أسن من علي بعشر سنين، و علي و هو أصغرهم سنا و أعظمهم قدرا بل أعظم الناس بعد ابن عمه قدرا.

و كان عقيل يكنى أبا يزيد و قال له رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم «يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني و حبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك».

و ذلك أن أبا طالب قال للنبي و للعباس حين أتياه ليقتسما بنيه عام المحل فيخففا عنه ثقلهم «دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم..».

ص: 54

أخرج عقيل إلى بدر مكرها فأسر و فدي و عاد إلى مكة ثم أقبل مسلما مهاجرا قبل الحديبية و شهد غزوة مؤته مع أخيه جعفر عليه السلام.

كان عقيل أنسب قريش و أعلمهم بأيامهم و كان مبغضا إليهم لأنه كان يعدّ مساوئهم...

كان اسرع الناس جوابا و أشدهم عارضة.

ذهب بصره في أواخر عمره...

و اختلف الناس في أنه هل التحق بمعاوية في حياة الإمام و الأظهر كما ذهب إليه المحققون إنه لم يلتحق به في حياة أخيه الإمام...

مات في نهاية خلافة معاوية بن أبي سفيان...

ص: 55

225 - و من دعاء له عليه السلام

اشارة

يلتجىء إلى الله أن يغنيه اللّهمّ صن (1) وجهي (2) باليسار (3)، و لا تبذل (4) جاهي (5) بالإقتار (6)، فأسترزق (7) طالبي رزقك، و أستعطف (8) شرار خلقك، و أبتلى (9) بحمد من أعطاني، و أفتتن بذمّ من منعني، و أنت من وراء ذلك كلّه وليّ الإعطاء و المنع: «إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» .

اللغة

1 - الصيانة: الحفظ و صون الوجه حفظه من التعرض للسؤال.

2 - الوجه: معروف و المقصود هنا الجاه و العز.

3 - اليسار: الغنى.

4 - البذل: الابتذال ضد الصيانة و بذل الجاه إسقاط المنزلة من القلوب.

5 - الجاه: القدر و الشرف و علو المنزلة.

6 - الإقتار: الفقر، ضيق الرزق.

7 - أسترزق: أطلب الرزق.

8 - أستعطف: أطلب العطف.

9 - أبتلى: أفتتن.

الشرح

(اللهم صن وجهي باليسار و لا تبذل جاهي بالإقتار فأسترزق طالبي رزقك و أستعطف شرار خلقك و أبتلى بحمد من أعطاني و أفتتن بذم من منعني و أنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء و المنع، «إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» ) هذا الدعاء توجه به الإمام

ص: 56

إلى اللّٰه و هو على مستوى الدعاء بطلب الجنة و غفران الذنوب لأنه الطريق إليها من حيث رفع الموانع أو دفعها...

اللهم يا رب احفظ ماء وجهي بالغنى فإن الغنى يحفظ للمرء كرامته و عزته و يدفع عنه الكثير من التهم و الظنون الفاسدة.

و لا تبذل جاهي بالإقتار أي لا تحط من شأني و تسقط اعتباري بالفقر، لأن الفقر يعري الإنسان من فضائل نفسه و تسهل إلصاق التهم بصاحبه بيسر و سهولة و هذا ملحوظ في المجتمع متداول معروف و كل منا يرى كيف تزدري العيون الفقراء و كيف تحتقر وجودهم، و كم من غني سفيه ستر عليه الغنى سفهه و كم من فقير عاقل ضاع عقله في فقره... الغني عند ما يتكلم يصبح فصيحا و مقبول الكلام و الفقير تضيع حجته و لا يسمع لقوله.

الفقر يسقط هيبة الرجل الوقور و يهوّن شأنه في نظر الناس عكس الغنى...

و الإمام يطلب الغنى ليصون به وجهه و يسأل اللّٰه أن لا يذله بالافتقار لأنه يحمل معه لوازمه القبيحة السيئة التي تضر بدين الرجال و آخرتهم و قد ذكر من تلك الأضرار.

أولا: فأسترزق طالبي رزقك: فأنا أجعل بيني و بينك واسطة قاصرة هي تتوجه إليك تطلب الرزق منك و أنا أطلب منها و في هذا فساد للنفس و إساءة و فيه مهانة عظيمة و ثقل على النفس العالية الشريفة...

ثانيا: و أستعطف شرار خلقك: أطلب عطف الأشرار من خلقك و كم جرحت قلبي وقفة بعض المؤمنين على أعتاب بعض الفاسدين يطلبون منهم قرضا أو صدقة أو عطية.

ثالثا: أبتلى بمحمد من أعطاني و أفتتن بذم من منعني: و هذه سيئة عظمى حيث يخرج المرء عن حد الاعتدال فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها فتقوم بمدحه و الثناء عليه كما أنّها تفتن ببغض من منعها و على ذلك تذهب إلى ذمه و القدح فيه و في المدح بغير الحق كما أن في الذم بغير الحق شطط و معصية و انحراف و إثم.

و في النهاية رد الأمر إلى اللّٰه و أنه العالم بالأمور كلها القادر عليها و هو ولي الأمر و ولي الإعطاء و المنع عن يديه تجري و بفضله تكون... إنك يا رب تملك حق العطاء و حق المنع فأعطنا حتى لا نحتاج أحدا من خلقك و نبقى في عزة نفس و كرامة لا نتعرض للإهانة و المذلة... إنك على كل شيء قدير لا يعجزك شيء و لا يمنع عطاؤك أحد...

ص: 57

226 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

في التنفير من الدنيا دار بالبلاء (1) محفوفة (2)، و بالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، و لا يسلم نزّالها (3).

أحوال مختلفة، و تارات (4) متصرّفة (5)، العيش فيها مذموم، و الأمان منها معدوم، و إنّما أهلها فيها أغراض (6) مستهدفة (7)، ترميهم بسهامها، و تفنيهم بحمامها (8).

و اعلموا عباد اللّٰه أنّكم و ما أنتم فيه من هذه الدّنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممّن كان أطول منكم أعمارا، و أعمر ديارا، و أبعد آثارا، أصبحت أصواتهم هامدة (9)، و رياحهم راكدة (10)، و أجسادهم بالية (11)، و ديارهم خالية (12)، و آثارهم عافية (13). فاستبدلوا بالقصور المشيّدة (14)، و النّمارق (15) الممهّدة (16)، الصّخور و الأحجار المسنّدة (17)، و القبور اللاّطئة (18) الملحدة (19)، الّتي قد بني على الخراب فناؤها (20)، و شيّد بالتّراب بناؤها، فمحلّها (21) مقترب، و ساكنها مغترب، بين أهل محلّة موحشين (22)، و أهل فراغ متشاغلين، لا يستأنسون بالأوطان، و لا يتواصلون تواصل الجيران، على ما بينهم من قرب الجوار، و دنوّ (23) الدّار. و كيف يكون بينهم تزاور (24)، و قد طحنهم بكلكله (25) البلى (26)، و أكلتهم الجنادل (27) و الثّرى (28)!.

ص: 58

و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه، و ارتهنكم ذلك المضجع (29)، و ضمّكم ذلك المستودع. فكيف بكم لو تناهت (30) بكم الأمور، و بعثرت القبور (31): «هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ » .

اللغة

1 - البلاء: الآفات و المصائب.

2 - محفوفة: محيطة و محدقة.

3 - النزّال: بالضم و تشديد الزاي جمع نازل.

4 - تارات: جمع تارة و هي المرة الواحدة.

5 - متصرفة: متنقلة متحولة.

6 - أغراض: جمع غرض و هو الهدف الذي يرمي.

7 - مستهدفة: بكسر الدال و هي التي نصبت هدفا للرمي.

8 - الحمام: بكسر الحاء الموت.

9 - هامدة: ساكنة.

10 - راكدة: ساكنة و ركود الريح انقطاع العمل و بطلان الحركة.

11 - البالية: الرثة الفانية.

12 - الخالية: الفارغة.

13 - آثارهم عافية: مندرسة.

14 - المشيدة: بالتشديد العالية و بالتخفيف و كسر الشين المعمولة بالشيد و هو الحصن.

15 - النمارق: الوسائد.

16 - الممهدة: المفروشة.

17 - المسندة: من استند إليه إذا اعتمد عليه.

18 - اللاطئة: اللاصقة.

19 - الملحدة: من اللحد القبر إذا جعل له لحدا أي شقا في وسطه.

20 - فناء الدار: ساحتها و ما اتسع أمامها.

21 - محلها: مكانها.

22 - موحشين: من الوحشة التي هي ضد الأنس.

ص: 59

23 - دنو: قرب.

24 - تزاور: من الزيارة و التزاور أن يزور بعضهم بعضا.

25 - الكلكل: الصدر.

26 - البلى: بكسر الباء الفناء.

27 - الجنادل: الحجارة و الصخور.

28 - الثرى: التراب.

29 - المضجع: القبر.

30 - تناهت بكم الأمور: وصلت إلى غايتها.

31 - بعثرت القبور: قلب ترابها و أخرجت موتاها.

32 - تبلو: تخبر بما عندها من خير أو شر.

33 - ما أسلفت: ما قدّمت.

34 - يفترون: من افترى عليه الكذب إذا اختلقه.

الشرح

(دار بالبلاء محفوفة و بالغدر معروفة لا تدوم أحوالها و لا يسلم نزالها) في هذه الخطبة تحذير من الدنيا و ما فيها حتى لا تغر الإنسان و تشغله عن اللّٰه كما أن فيها ذكر معايبها كي يتنفر منها و يبتعد عنها و قد ذكر لها عدة معايب.

1 - دار بالبلاء محفوفة: فالمصائب و الآفات محيطة بها من كل جانب و كيف تحرك هذا الإنسان تراه يعيش مشكلة و تحيط به مصيبة لا تنفك عنه طالما أنه في هذا الدنيا و كما قيل: «أي الناس تصفو مشاربه» أو كما قيل: «طبعت على كدر».

2 - و بالغدر معروفة: غدرها من حيث إنها تعطي الناس من حلوها ثم تذيقهم مرها فإنك تجد الغني المترف قد يصبح فجأة فقيرا متسولا، و قد تجد السلطان المالك رقاب العباد قد يصبح فجأة على الأبواب يستجدي قوته و كذلك تجد الفتى المستقوي بعضلاته قد أصبح طريح الفراش يعالج سكرات الموت و هكذا تغدر بأهلها و تنكّل بهم...

3 - لا تدوم أحوالها: لا تستقر على حال... لا تدوم صحة... و لا تدوم قوة... و لا يدوم مال... و لا يدوم استقرار... و لا يدوم أهل و ولد و هكذا نطفة...

فطفل... فشباب... فكهولة... و كما قيل: «دوام الحال من المحال».

4 - و لا يسلم نزالها: و من أين تأتي السلامة لنازل الدنيا و هو هدف الآفات

ص: 60

و المصيبات بل هو هدف الموت منذ أن يحط رحله فيها...

(أحوال مختلفة و تارات متصرفة العيش فيها مذموم و الأمان منها معدوم، و إنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها و تفنيهم بحمامها).

5 - أحوال مختلفة: ففقر بعد غنى و مرض بعد صحة و مشيب بعد شباب و خوف بعد أمن و هكذا لا تستقر على حال...

6 - و تارات متصرفة: تحوّل أهلها تارة إلى بلاء و أخرى إلى رخاء، و تارة إلى علو و أخرى إلى سقوط و تارة إلى غنى و أخرى إلى فقر إنها تتصرف بهم و توجههم كما تريد و من كانت الدنيا هي التي تنغّص عليه حياته حق له أن لا يطمئن لها و لا يتخذها دارا...

7 - العيش فيها مذموم: نعيم الدنيا مذموم حتى عند من يعيش لذته و نعيمه لأنه يؤدي إلى الغفلة عن اللّٰه من جهة و لأنه لا يصفو من جهة أخرى و لذا تسمع الشكوى من صاحب النعيم بمجرد أن يصاب ببعض الأذى...

8 - و الأمان منها معدوم: الإنسان هدف ترميه الدنيا بنبال فواجعها و تأتيه طوارقها بالليل و تزوره بالنهار فهو مهدد في صحته و في ماله و في سلطانه و في معنوياته بل مهدد في وجوده و أي أمان و استقرار لإنسان قد يغمض عينيه و لا يفتحهما أو يتنفس بنفس لا يتبعه آخر...

9 - و إنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها و تفنيهم بحمامها: أهل الدنيا و من يعيش فيها هدف تتوجه إليه الدنيا بالمصائب و البلايا و ترميه بسهام العلل و الآفات و تقضي عليهم في النهاية بالموت الذي كتبه اللّٰه على عباده و أوجبه على خلقه.

و إذا كانت الدنيا هذه هي صفاتها و هذه هي أعمالها و أفعالها مع هذا الإنسان فكيف يطمئن إليها و يرتاح فيها بل كيف يسألمها أو يستسلم إليها، إن على هذا الإنسان أن يكون يقظا متنبها يعرف مواطن أقدامه و يعرف كيف يتحرك للوصول إلى هدفه المتمثل برضى اللّٰه و إدراك جنته...

(و اعلموا عباد اللّٰه أنكم و ما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم ممن كان أطول منكم أعمارا و أعمر ديارا و أبعد آثارا) هذا تذكير للناس و تنبيه لهم بأحوال الماضين و أنهم على أثرهم سائرون، فلو أعاد الحاضرون الآن نظرهم في حال الماضين قبلهم و ما انتهى إليه أمرهم لأخذوا العبرة و هيئوا الزاد لهذا السفر الطويل و قد ذكر بعض خصائص الماضين و مع ذلك طواهم الموت.

ص: 61

ذكر طول أعمارهم و أنهم كانوا يعمّرون طويلا أكثر من أجيالنا هذه و ينقل لنا القرآن عمر نوح فكان ألف سنة إلا خمسين عاما و تنقل الأحاديث أسماء من عمّروا مئات السنين.

و كذلك هم أعمر ديارا قال تعالى: «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثٰارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهٰا أَكْثَرَ مِمّٰا عَمَرُوهٰا» (1) فقد عمّروا ديارهم و نحتوا بيوتهم في الصخور و تركوا اثارهم شاهدة عليهم حتى اليوم و مع هذا فقد طواهم الموت و سيطوي الحاضرين و يأخذهم كما أخذ الماضين...

(أصبحت أصواتهم هامدة) أخذ في وصف حالهم و ما آلت إليه أمورهم بعد طول الأعمار و عمارة الديار ليعتبر الحاضرون بحالهم و يستعدوا لمآلهم...

فقد سكنت تلك الأصوات التي كانت ترتفع و تصرخ بل اختفت من الوجود و انعدمت من الأساس فلا تسمع لهم حسا...

(و رياحهم راكدة) أصبحت قوتهم و ما كانوا عليه من الغلبة و السطوة في زاوية العدم، و ذكرهم الذي كان يرعب الناس قد خمل و انطفأ...

(و أجسادهم بالية) فقد تحلّلت أجسادهم الناعمة القوية و تفتت فأصبحت رميما في القبور و كم من قبر تفتحه لا تجد فيه غير بقايا ميت تحول إلى تراب...

(و ديارهم خالية) فهذه ديارهم التي كانوا يسكنون فيها قد خلت منهم و تعطلت فهي فارغة تحكي فقدهم و بعدهم عنها.

(و آثارهم عافية) ما تركوه من تلك الديار قد اندرست و انمحت و لم يبق إلا الأطلال تحكي أنهم كانوا...

(فاستبدلوا بالقصور المشيدة و النمارق الممهدة الصخور و الأحجار المسندة و القبور اللاطئة الملحدة التي قد بني على الخراب فناؤها و شيد بالتراب بناؤها) ففي دار الدنيا كانت لهم قصور عالية محكمة البناء قد تعبوا في رسم خرائطها و تنفيذها و اتقنوا صنعها و كذلك كانت لهم الوسائد التي يتكئون عليها و يستريحون فهذه قد استبدلت بأضدادها فبدل القصور المشيدة حلّت الصخور و الأحجار المسندة فقد بنيت قبورهم9.

ص: 62


1- سورة الروم، آية - 9.

بالأحجار و الصخور التي تراكم بعضها على بعض اللاصقة بالأرض المشقوقة التي بناها بنّاؤها و هو يعلم أنها ستمتد إليها يد الخراب و ستهدم في يوم ما و خصوصا أنها قد بنيت بالتراب الذي هو أسرع في التحلل و الفناء و الاندراس...

(فمحلها مقترب و ساكنها مغترب) ا لقبور متلاصقة لا يفصل أحدها عن الآخر إلا بعض خطوات و قد لا يفصلها إلا جدار بسيط و لكن أهل تلك القبور يعيشون الغربة فلا أنيس و لا صديق... و لا سمير و لا من إليه يشكى أو منه يشتكى...

(بين أهل محلة موحشين) فهم أهل حي واحد بل دار واحدة و مع ذلك يستوحش الإنسان الحي منهم إذا دخل حيهم، فلا يستأنسون بالأحياء و لا الأحياء يستأنسون بهم...

(و أهل فراغ متشاغلين) فهم أهل فراغ لا تشغلهم أموالهم و لا أولادهم و لا أنفسهم كما هي حال أهل الدنيا و لكن مع ذلك في شغل كل بما ارتكب في الدنيا من عمل و ما جنت يداه من الإثم...

(لا يستأنسون بالأوطان) فأهل الوطن الواحد يرتاحون لبعضهم و يعيشون فيما بينهم، يطردون الوحشة بالحديث و الحوار و السمر و اللقاء و أما الأموات فإنهم و إن كانوا أهل وطن واحد و هو عالم البرزخ و لكن مع ذلك في وحشة و عدم أنس...

(و لا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار و دنو الدار و كيف يكون بينهم تزاور و قد طحنهم بكلكه البلى و أكلتهم الجنادل و الثرى) فهؤلاء الأموات يخالفون سنن الجيران في اللقاء و الهدايا و التحيات فهم مع قربهم و جيرتهم فإنهم لا يزور أحد أحدا و لا يعرف أحد أحدا و لا يلتقي أحد مع أحد.

ثم استفهم مستنكرا لقاؤهم و أن يحدث شيء من ذلك بأنه كيف و قد صيرهم الموت رميما و أفنتهم الحجارة و التراب، فقد شبّه البلى بالجمل الذي ألقى بصدره على عدوه فدقه و طحنه و المراد أنهم لا يمكنهم زيارة بعضهم لتفتت أجسامهم و انحلالها...

(و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه و ارتهنكم ذلك المضجع و ضمكم ذلك المستودع) هذا تذكير للحاضرين بأنهم سيلحقون بالماضين و أنهم على أثرهم و بأقصى سرعة ممكنة سيصيرون... إنهم سيصيرون إلى ما صاروا إليه من ضيق القبور بدل سعة القصور و سيعيش كل في قبره رهين عمله يضمه ذلك المستودع إلى أن يحين يوم الحساب فيكشف عنه و يقف بين يدي اللّٰه لنيل الجزاء...

ص: 63

(فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور و بعثرت القبور: «هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ » ) تذكير لهم بما يصيبهم يوم القيامة و أنهم إذا انتهت مدة إقامتهم في البرزخ و بعثرت القبور فخرج أهلها منها ففي تلك الأوقات الصعبة الحرجة الحاسمة تطلع كل نفس على ما كانت قد عملت فتجده محضرا و عندها يرجع الإنسان إلى اللّٰه و يتزيف الباطل و ترد الدعاوى الفاسدة الضالة و يظهر الحق من الباطل و الصحيح من الفاسد و هذا تخويف لهم و تذكير بشدة ذلك اليوم ليفزعوا إلى العمل الصالح...

ص: 64

227 - و من دعاء له عليه السلام

اشارة

يلجأ فيه إلى الله ليهديه إلى الرشاد اللّهمّ إنّك آنس (1) الآنسين لأوليائك، و أحضرهم بالكفاية (2) للمتوكّلين عليك. تشاهدهم (3) في سرائرهم، و تطّلع عليهم في ضمائرهم، و تعلم مبلغ بصائرهم (4). فأسرارهم لك مكشوفة، و قلوبهم إليك ملهوفة (5).

إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، و إن صبّت (6) عليهم المصائب (7) لجؤوا (8) إلى الاستجارة (9) بك، علما بأنّ أزمّة الأمور (10) بيدك، و مصادرها عن قضائك (11).

اللّهمّ إن فههت (12) عن مسألتي، أو عميت عن طلبتي (13)، فدلّني على مصالحي، و خذ بقلبي إلى مراشدي (14)، فليس ذلك بنكر (15) من هداياتك، و لا ببدع (16) من كفاياتك.

اللّهمّ احملني على عفوك، و لا تحملني على عدلك.

اللغة

1 - آنس: أشد أنسا و الأنس ضد الوحشة.

2 - الكفاية: ما يحصل به الاستغناء عن سواه.

3 - تشاهدهم: تراهم، تحضرهم.

4 - البصائر: جمع البصيرة الفطنة و العقل و هي للقلب كالعين الخارجية.

5 - ملهوفة: مستغيثة صارخة بحسرة.

6 - صبّت: سكبت و صبّ الماء سكبه و انصب الماء انسكب.

ص: 65

7 - المصائب: جمع المصيبة البلية و كل أمر مكروه.

8 - لجؤوا إليه: لاذوا إليه و اعتصموا به.

9 - استجار: فلانا و به استغاث به و التجأ إليه.

10 - أزمة الأمور: مقاليدها.

11 - مصادرها عن قضائك: خروجها من تحت أمرك و حكمك.

12 - فههت: عييت.

13 - الطلبة: بكسر الطاء المطلوب.

14 - المراشد: مواضع الرشد.

15 - النكر: بالضم المنكر.

16 - البدع: بالكسر الأمر يكون أولا أي الغريب غير المعهود.

الشرح

(اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك و أحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك) هذا الدعاء تشويق للنفوس و ترغيب لها أن تلتحق في ركب اللّٰه و طاعته و تستأنس بوجوده و عبادته و تخلو معه في سرها و انفرادها.

«اللهم» صرخة أشعرها من عمق النفس الضعيفة نحو مقام العزة الكاملة فأولياؤك الذين أخلصت نفوسهم لك و عبدوك وحدك دون سواك و توجهوا إليك دون غيرك هؤلاء أشد المستأنسين بك بل أنسهم بك كامل غير منقوص لأن كل أنس بغيرك يشوبه شائبة تعكره أما الأنس بك لا يعكره شيء...

و إنك يا رب تكفي المتوكلين عليك بأبلغ ما يكون لأن المقتضى موجود و المانع مفقود فأنت أهل الجود و الكرم و العطاء و هم عبادك الذين أخلصوا لك و توكلوا عليك فرحمتك تصل إليهم بدون مانع أو حاجز...

(تشاهدهم في سرائرهم و تطلع عليهم في ضمائرهم و تعلم مبلغ بصائرهم) فسرائرهم و دخائلهم تبصرها و تعرفها و هي سرائر إجلال لك و إكبار و تعظيم، و أنت تعرف كل ما يضمرون و هم لا يضمرون إلا الخير للناس و الطاعة لك و الالتزام بأمرك كما و أنك تعلم قدرة كل واحد منهم للكمال و بلوغ المراتب العالية لتفاوت هذه البصائر و العقول، فهو سبحانه يعلم من خفايا الناس و سرائرهم كل شيء و لا يخفى عليه شيء...

ص: 66

(فأسرارهم لك مكشوفة) هذا تأكيد لما تقدم و بيان لعلمه بباطن أمور أوليائه و أن كل أسرارهم و نواياهم ظاهرة له سبحانه يعلمها بتفصيلاتها و خصوصياتها.

(و قلوبهم إليك ملهوفة) قلوب الأولياء تعيش العشق للّٰه و التلهف باستمرار لإدراك رحمته... إنها قلوب أحرقها الوجد و أضناها المسير نحو أعتاب قدسه فتراها باستمرار في شوق إليه و رغبة إلى رحمته و رضاه...

(إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك) إن عاشوا في دار الدنيا غرباء مستوحشين مما فيها فإنهم بذكر اللّٰه يستأنسون «أَلاٰ بِذِكْرِ اَللّٰهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ » .

(و إن صبت عليهم المصائب لجؤوا إلى الاستجارة بك علما بأن أزمة الأمور بيدك و مصادرها عن قضائك) إذا نزلت عليهم البلايا و الآفات رجعوا إلى اللّٰه و استغاثوا به لأنهم توكلوا عليه و كانوا معه في كل أمورهم و شئون حياتهم و هم على يقين بأن الأمور كلها بيده يتصرف فيها كيف يشاء و متى يشاء يدفع المصائب فلا تصل أو يرفعها بعد وقوعها، بمشيئته تكون و هي بتقديره تصدر فإذا أراد وقوعها هيأ أسبابها و إذا أراد زوالها أسقط أسباب بقائها و استمرارها و هكذا فعباد اللّٰه و أولياؤه يسلّمون أمورهم للّٰه و يعلمون أنها كلها منه و بيده هو ينزلها و هو يرفعها...

(اللهم إن فههت عن مسألتي أو عميت عن طلبتي فدلني على مصالحي و خذ بقلبي إلى مراشدي فليس ذلك بنكر من هداياتك و لا ببدع من كفاياتك) هذا هو بيت القصيد و هذا هو المطلب الأصيل الذي من أجله كانت هذه المقدمة.

إنه الإقرار بالعجز و إيكال الأمر إلى اللّٰه فهو الذي يتولى أموره.

اللهم يا رب إن عجزت و كلّ لساني عن إيضاح مسألتي و بيانها و ما أريد و أحب و تحيرت في بيان مقصودي و ما أطلب و لم أهتد إلى مصالحي و وجوه المنافع لي فأنت يا رب تولى هدايتي إلى ما فيه صلاح ديني و دنياي و وجهني الوجهة الصحيحة السليمة إلى كل أمر فيه رشدي و صلاحي و ما فيه نجاحي في مبدئي و معادي.

ثم استعطف اللّٰه مجددا بأن دلالته على مصالحه و ما فيه رشده ليس أمر منكرا لم يعرفه بل جرت عاداته تعالى بها و تعوّدها العباد منه كما أن كفايته لعباده ليس أمرا حادثا بل هي أمور قديمة يعرفها الخلق.

(اللهم أحملني على عفوك و لا تحملني على عدلك) و هذا طالب الرحمة...

الإنسان العاصي... المخطئ فإنه عليه السلام المسدد من قبل اللّٰه المعصوم بإرادة اللّٰه

ص: 67

يعلمنا نحن كيف نتوجه إلى اللّٰه... يعلمنا أن نطلب من اللّٰه الرحمة و العفو... لا أن نشمخ و نظن أننا أمام الحساب أهل حق... بل بحكم العدل نكون عصاة... و بحكم العدل يحكم علينا... بحكم العدل يجري علينا القصاص و العقاب... بينما بحكم العفو ننجو... و نجتاز العقبات... و نربح النتيجة السعيدة...

ص: 68

228 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يريد به بعض أصحابه للّٰه بلاء فلان (1)، فلقد قوّم الأود (2)، و داوى العمد (3)، و أقام السّنّة (4)، و خلّف الفتنة (5)! ذهب نقيّ الثّوب (6)، قليل العيب. أصاب خيرها، و سبق شرّها. أدّى إلى اللّٰه طاعته، و اتّقاه بحقّه. رحل و تركهم في طرق متشعّبة (7)، لا يهتدي بها الضّالّ ، و لا يستيقن المهتدي.

اللغة

1 - للّٰه بلاء فلان: صيغة مدح متعارفة عند العرب فإنهم إذا أرادوا مدحه نسبوه إلى اللّٰه و البلاء هو العمل الطيب و الحسن.

2 - قوم الأود: عدّل الاعوجاج.

3 - العمد: بالتحريك العلة و المرض.

4 - أقام السنة: أحياها بالعمل بها.

5 - خلف الفتنة: مات قبل حدوثها.

6 - نقي الثوب: لم يذم.

7 - متشعبة: متباينة مختلفة.

الشرح

(للّٰه بلاء فلان فلقد قوم الأود و داوى العمد و أقام السنة و خلّف الفتنة ذهب نقي الثوب قليل العيب أصاب خيرها و سبق شرها) هذا الكلام منه عليه السلام يمدح به بعض أصحابه و لعله الأشتر النخعي كما استظهره بعضهم و قد مدحه بعمله فقال: للّٰه بلاء فلان و هي صيغة مدح متعارفة عند العرب فإنهم إذا أرادوا مدح أحد نسبوه إلى اللّٰه فقالوا:

ص: 69

للّٰه دره و للّٰه أبوه و الإمام عليه السلام يمدح عمل هذا الإنسان و قد كانت أعمال الأشتر تستحق هذا المدح فقد كانت في سبيل اللّٰه و من أجل اللّٰه مع ولي اللّٰه «فلقد قوم الأود» فما كان معوجا و غير مستقيم من أمور المسلمين فقد قوّمه و عدله على طريق اللّٰه و قد كانت مواقفه سديدة و آراؤه صائبة.

و داوى العمد أي شفى أسقام النفوس و أمراضها بالمواعظ و الزواجر و بالمواقف الصلبة التي انتصر فيها للحق و أوضح من خلالها العدل و الاستقامة...

و أقام السنة: أحياها بعمله و سلوكه في الجهاد و في كل المواقف المطابقة لها و الموافقة للحق...

و خلف الفتنة: فقد ذهب إلى ربه دون أن يكون في أيامه فتنة فقد كان لحكمته و دهائه و حسن سياسته تجري الأمور على الموازين الصحيحة المانعة من الفتنة و لذا اختاره الإمام لولاية مصر لأنه يعرف ضبطه للأمور و حسن سياسته للبلاد...

ذهب نقي الثوب قليل العيب: انتقل إلى ربه شريفا لم يذم أو يقدح فيه قليل العيوب كما هو عادة الأخيار الأبرار و لقد أبنّه الإمام بكلمته المشهورة عند ما سئل عنه قال: كان مالك لي كما كنت لرسول اللّٰه صاحبا...

أصاب خيرها و سبق شرها: أصاب خيرها من تقويم الأود و مداواة العمد و إقامة السنة و مات قبل أن تصل إلى الحكم العصابة الأموية فيستشري شرها و ينتشر.

(أدى إلى اللّٰه طاعته و اتقاه بحقه) فقد التزم بالمواظبة على طاعة اللّٰه فكل أمر مطلوب امتثله و عمل بمضمونه و اتقاه كما أراد بدون معصية و لا انحراف.

(رحل و تركهم في طرق متشعبة لا يهتدي بها الضال و لا يستيقن المهتدي) مات و ترك الخلق في طرق متشعبة متعددة و مختلفة لا توصل إلى اللّٰه و لا ترضيه و لتعددها و اختلافها من خرج عن السبيل لا يعود يستطيع الهداية إليه و من اهتدى إليه و سار عليه ليس على يقين أنه على الهدى و الطريق السليم...

ص: 70

229 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في وصف بيعته بالخلافة قال الشريف: و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفة.

و بسطتم يدي فكففتها (1)، و مددتموها فقبضتها، ثمّ تداككتم (2) عليّ تداكّ الإبل الهيم (3) على حياضها (4) يوم وردها (5)، حتّى انقطعت النّعل (6)، و سقط الرّداء (7)، و وطىء (8) الضّعيف، و بلغ من سرور النّاس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج (9) بها الصّغير، و هدج (10) إليها الكبير، و تحامل (11) نحوها العليل (12)، و حسرت (13) إليها الكعاب (14).

اللغة

1 - كففتها: رددتّها.

2 - التداك: التزاحم، و تداككتم تزاحمتم.

3 - الهيم: العطاش.

4 - الحياض: جمع حوض و هو مجتمع الماء.

5 - الورد: بالكسر الشرب.

6 - النعل: الحذاء، ما وقيت به القدم من الأرض.

7 - الرداء: الثوب.

8 - و وطىء: ديس.

9 - ابتهج: فرح.

10 - هدج: مشى مشيا ضعيفا مرتعشا.

11 - التحامل: تكلف الأمر مع المشقة.

12 - العليل: المريض.

ص: 71

13 - حسرت: كشفت عن وجهها.

14 - الكعاب: كسحاب الجارية نهد ثديها أي برز و امتلأ.

الشرح

(و بسطتم يدي فكففتها و مددتموها فقبضتها ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها حتى انقطعت النعل و سقط الرداء و وطىء الضعيف) هذا الكلام منه عليه السلام في وصف بيعته يتوجه به إلى الناكثين كي يكفوا لأن من تمت له البيعة بهذه المثابة لم يكن لأحد أن يخرج عليه أو ينكث بيعته و قد بيّن أنه عليه السلام أخذوا يده فبسطوها للبيعة فكان يمتنع عنها و كانوا يمدونها و هو يقبضها كناية عن تمنعه و عدم رغبته بالخلافة لأنه يعلم ما سيجري و يحدث و لكنهم رغم امتناعه و رفضه ازدحموا عليه ازدحاما شديدا يدفع بعضهم بعضا و قد شبههم بما يرونه، شبههم بالإبل العطاش التي سرحت يوم شربها فإنها تزدحم و يدفع بعضها بعضا كل واحد يريد الوصول إلى الماء و الارتواء منه و أخذ نصيبه و هؤلاء قد اجتمعوا على الإمام كل يريد أن يصل إليه ليبايعه و يصفّق على يمينه حتى بلغ من شدة الإزدحام أن انقطع الحذاء لأن بعضهم يدوس على أرجل البعض و سقط الرداء بحيث اشتغل كل بنجاة نفسه من هذا الازدحام فأدى إلى سقوط الرداء و بلغ من اشتغال الناس و ازدحامهم أنهم لم ينتبهوا إلى الضعيف فوطئ و ديس و هذا لا يكون إلا عند الاضطرار و عدم الانتباه من أجل أمر مهم...

(و بلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير و هدج إليها الكبير و تحامل نحوها العليل و حسرت إليها الكعاب) و هذا خروج عن العادة و أن من لا يهمه ذلك و من ليس من شأنه كالصغير فإنه فرح ببيعة الإمام و انشرح لها و تحرك نحوها الهم الكبير الذي لا يستطيع المشي إليها إلا بمشقة لفرحه و سروره مشى متحملا المشقة و التعب و حتى المريض تحامل على نفسه و تكلف المجيء للبيعة رغبة في إتمامها لأهلها.

و حسرت إليها الكعاب فالصبايا اللاتي من شأنهن الستر و العفاف حسرن فرحا بذلك و رغبن فيها و إذا كان كل هؤلاء قد أقدموا على البيعة و فرحوا بها فحق أن لا يخرج أحد عليها أو ينكثها و لكن القلوب المريضة مهما جئتها بألف آية و آية تبقى على مرضها و لن يشفيها إلا حد السيف...

ص: 72

230 - و من خطبة له عليه السلام

في مقاصد أخرى

فإنّ تقوى اللّٰه مفتاح سداد (1)، و ذخيرة (2) معاد (3)، و عتق (4) من كلّ ملكة (5)، و نجاة من كلّ هلكة (6). بها ينجح الطّالب، و ينجو الهارب، و تنال (7) الرّغائب (8).

فضل العمل

فاعملوا و العمل يرفع، و التّوبة تنفع، و الدّعاء يسمع، و الحال هادئة، و الأقلام جارية. و بادروا (9) بالأعمال عمرا ناكسا (10)، أو مرضا حابسا (11)، أو موتا خالسا (12). فإنّ الموت هادم لذّاتكم، و مكدّر (13) شهواتكم، و مباعد طيّاتكم (14). زائر غير محبوب، و قرن (15) غير مغلوب، و واتر (16) غير مطلوب. قد أعلقتكم (17) حبائله (18)، و تكنّفتكم (19) غوائله (20)، و أقصدتكم (21) معابله (22) و عظمت فيكم سطوته (23)، و تتابعت عليكم عدوته (24)، و قلّت عنكم نبوته (25). فيوشك (26) أن تغشاكم (27) دواجي (28) ظلله (29) و احتدام (30) علله (31)، و حنادس (32) غمراته (33)، و غواشي (34) سكراته، و أليم إرهاقه (35)، و دجوّ (36) أطباقه (37)، و جشوبة (38) مذاقه.

فكأن قد أتاكم بغتة (39) فأسكت نجيّكم (40)، و فرّق نديّكم (41)، و عفّى آثاركم (42)، و عطّل دياركم، و بعث ورّاثكم، يقتسمون تراثكم (43)، بين حميم (44) خاصّ لم ينفع، و قريب محزون لم يمنع، و آخر شامت (45) لم يجزع (46).

ص: 73

فضل الجد

فعليكم بالجدّ (47) و الاجتهاد، و التّأهّب و الاستعداد، و التّزوّد في منزل الزّاد. و لا تغرّنكم الحياة الدّنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية، و القرون الخالية (48)، الّذين احتلبوا درّتها (49)، و أصابوا غرّتها (50)، و أفنوا عدّتها، و أخلقوا جدّتها (51). و أصبحت مساكنهم أجداثا (52)، و أموالهم ميراثا. لا يعرفون من أتاهم، و لا يحفلون (53) من بكاهم، و لا يجيبون من دعاهم. فاحذروا الدّنيا فإنّها غدّارة غرّارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، لا يدوم رخاؤها (54)، و لا ينقضي عناؤها (55)، و لا يركد (56) بلاؤها (57).

و منها في صفة الزهاد: كانوا قوما من أهل الدّنيا و ليسوا من أهلها، فكانوا فيها كمن ليس منها، عملوا فيها بما يبصرون، و بادروا فيها ما يحذرون، تقلّب أبدانهم بين ظهراني (58) أهل الآخرة، و يرون أهل الدّنيا يعظّمون موت أجسادهم و هم أشدّ إعظاما لموت قلوب أحيائهم.

اللغة

1 - السداد: بالفتح الصواب من القول و العمل.

2 - الذخيرة: جمعها ذخائر ما خبأه لوقت الحاجة، ما أعده لدنياه أو لآخرته.

3 - المعاد: المرجع و المصير.

4 - عتق: تحرير.

5 - الملكة: بالتحريك مملوك، مستبد به قادر عليه.

6 - الهلكة: بالتحريك الهلاك.

7 - تنال: تدرك.

8 - الرغائب: الأمور المرغوبة، العطاء الكثير.

9 - بادروا: أسبقوا و أسرعوا.

ص: 74

10 - النكس: أن يقلب الرأس إلى الأسفل و الرجلين تصبحان فوق.

11 - الحابس: المانع.

12 - الخالس: المختطف و خلس الشيء خطفه.

13 - الكدر: ضد الصافي.

14 - الطيات: جمع طية بالكسر منزل السفر.

15 - القرن: بالكسر الكفؤ في الشجاعة.

16 - الواتر: الجاني.

17 - أعلقتكم: جعلتكم معتلقين فيها.

18 - الحبائل: جمع حبالة المصيدة من الحبال.

19 - تكنفتكم: أحاطتكم.

20 - الغوائل: المصايب و الدواهي.

21 - أقصدتكم: أصابتكم.

22 - المعابل: جمع معبلة و هو النصل الطويل العريض.

23 - السطوة: القهر و الغلبة.

24 - العدوة: التعدي و الظلم.

25 - نبوته: من نبا السيف إذا كلّ و لم يؤثر.

26 - يوشك: يقرب.

27 - تغشاكم: تحيط بكم.

28 - الدواجي: جمع داجية أي مظلمة.

29 - الظلل: جمع الظلة أي السحابة.

30 - الاحتدام: الاشتداد.

31 - علله: أمراضه.

32 - الحنادس: الظلمات.

33 - الغمرات: الشدائد.

34 - الغواشي: الطامات الغامرات.

35 - إرهاقه: إعجاله من أرهقه إذا أعجله أو حمله ما لا يطاق.

36 - الدجو: الظلام.

37 - الأطباق: جمع طبق و هو الغطاء للشيء.

38 - الجشوبة: غلظ الطعام و خشونته.

39 - بغتة: فجأة.

40 - النجي: من تناجيه و تتكلم معه أو القوم يتناجون.

41 - النديّ : القوم يجتمعون في النادي و هو المجتمع.

ص: 75

42 - عفى الآثار: محاها.

43 - التراث: الميراث.

44 - الحميم: الصديق.

45 - الشامت: الذي يفرح ببلية غيره.

46 - جزع: حزن.

47 - الجد: الاجتهاد، ضد الهزل.

48 - الخالية: الماضية.

49 - الدرة: بالكسر اللبن.

50 - الغرة: بالكسر الغفلة.

51 - أخلقوا جدتها: جعلوا جديدها قديما خلقا باليا.

52 - الأجداث: القبور.

53 - لا يحفلون: لا يبالون و الاحتفال بالشيء الاعتناء به.

54 - الرخاء: السعة و الرفاهية.

55 - العناء: التعب.

56 - لا يركد: لا يسكن.

57 - بلاؤها: مصائبها.

58 - ظهرانيهم: بفتح النون وسطهم.

الشرح

(فإن تقوى اللّٰه مفتاح سداد) في هذه الخطبة حث على التقوى و وجوب العمل الصالح و المبادرة إليه كما أن فيها تأكيد على أعمال البر و الخير و أن يستعد الإنسان لما بعد الموت.

و ابتدأ عليه السلام بذكر التقوى و قد ذكر لها عدة آثار.

فإن تقوى اللّٰه مفتاح سداد: و كونها كذلك لأن السداد هو الصواب و الاستقامة و لما كانت التقوى هي الخشية من اللّٰه و الخوف منه فإنها تجعل الإنسان يقوم بالواجبات و يترك المحرمات و بذلك يحقق الاستقامة و يكون ذلك سببا للاستقامة و منه يفتح الطريق إلى الصواب...

(و ذخيرة معاد) فإن تقوى اللّٰه أفضل ما يحرزه الإنسان و يعدّه لأيام حاجته و فاقته و أصعب أيام الحاجة تلك التي تكون القيامة للحساب فإن التقوى المتجسدة بالأعمال

ص: 76

الصالحة هي أفضل ذخيرة لذلك اليوم...

(و عتق من كل ملكة) و التقوى تعتق الإنسان و تحرره من كل ما يملكه فإن الإنسان المتقي يتحرر من شهوات النفس و البطن و الفرج و من العشيرة و الحزب و القومية و الجغرافيا و كل أمر يخالف إرادة اللّٰه...

(و نجاة من كل هلكة) فإن الأتقياء هم العاملون بأمر اللّٰه المنفذون لإرادته و بهذه الصفة ينجون من الهلاك و العذاب فالتقوى هي التي تأخذ بيد الإنسان للنجاة من العذاب و الهلاك...

(بها ينجح الطالب) بهذه التقوى ينجح و يفوز من يطلب الآخرة و الدنيا أما في الآخرة فقد كان الأجر و الثواب منوطا بها فمن اتقى اللّٰه أدرك الآخرة و نجح في إدراك بغيته أما في الدنيا فإن صاحب التقوى ينجح في كل أمر يريده لاحترام الناس له و تقديرهم لواقعه و صحة سلوكه و حركته.

(و ينجو الهارب) بالتقوى ينجو الهارب من النار لأنها السد المنيع الذي يحجز النار أن تطال هذا الإنسان المتقي.

(و تنال الرغائب) بهذه التقوى ينال الإنسان ما يرغب و يشتهي من الآخرة و لذاتها و مسراتها و ما فيها من حور و قصور و نعيم مقيم...

(فاعملوا و العمل يرفع) نبه عليه السلام على وجوب العمل الصالح و قد رغّب فيه لاعتبارات منها أن ما يعمله الإنسان في الدنيا خالصا لوجه اللّٰه يرفع إلى اللّٰه و معنى رفعه إليه أنه يقبل عنده و يثيب فاعله.

(و التوبة تنفع) فإن التوبة تكون في الحياة و من تاب تاب اللّٰه عليه و من تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له، فإن التوبة تنفع في إسقاط الذنوب و محو السيئات بل ربما تحولت السيئات إلى حسنات كما قال تعالى: «إِلاّٰ مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صٰالِحاً فَأُوْلٰئِكَ يُبَدِّلُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِهِمْ حَسَنٰاتٍ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً» (1).

(و الدعاء يسمع) فإن اللّٰه أمرنا بالدعاء و أخذ على نفسه الاستجابة و من استجاب اللّٰه له فقد أدرك ما يريد قال تعالى: ادعوني أستجب لكم...

(و الحال هادئة) أي حال الإنسان هادئة تستطيعون العمل و ليس هناك في الآخرة0.

ص: 77


1- سورة الفرقان، آية - 70.

حالة هادئة بل هي في أشد الاضطراب.

(و الأقلام جارية) أي أقلام الملائكة تكتب ما تقولون و تفعلون فاتعبوا لكي تكتب لكم الحسنات و الأعمال الصالحة...

(و بادروا بالأعمال عمرا ناكسا أو مرضا حابسا أو موتا خالسا) أمرهم أن يسرعوا في الأعمال الصالحة و يستغلوا الفرصة السانحة من أجل هذا الزاد الكريم... أسرعوا إلى الأعمال الصالحة قبل أن يرتد بكم الأمر إلى أرذل العمر فإن من تكتب له الحياة و يعيش قد يصل إلى عمر يرتفع معه التكليف لخرف و هرم فيعود كما بدأ و كأنه طفل صغير لا يكسب حسنة و لا يجني فائدة.

و قد يكون مرضا يحبسه عن العمل فيجب أن يغتنم وقت صحته و شبابه لاكتساب الحسنات و الأعمال الصالحة.

و قد يكون موتا يأتيه فجأة فيأخذه على حين غرة فيتعطل العمل و يتوقف السعي.

و إن الإنسان لو فكّر في هذه الحالات و إمكان طروها عليه في كل ساعة من ساعاته لبادر مسرعا و بدون توقف نحو العمل و الجدّ فيه فإنها فرصة قد يضيق مجالها أو يمتنع فيها المجال عن العمل...

(فإن الموت هادم لذاتكم و مكدر شهواتكم و مباعد طياتكم) و هذا أهم مذكّر للإنسان و به يندفع نحو العمل و يسرع للقيام بالصالحات... و من هو الذي تصور الموت ثم بقي في لذته مسرورا؟! و من هو الذي ذكره وصفت له الدنيا و ما يريد؟! إنه الموت الذي يزيل اللذات و يحوّل أجواءها إلى كآبة و يكدّر الشهوات و يجعلها منغصات... إنه الموت يباعد أسفاركم عن الدنيا أو يباعد بين ما تنون و ما تعملون لأنه يقطع الأمنيات...

(زائر غير محبوب) و هذا زائر غير الزوّار الآخرين ففي الوقت الذي يكون الزائر محبوبا يهش له المزار فإن الموت زائر غير محبوب و لا مرغوب لأنه زائر يأخذ الحبيب من حبيبه و الولد من والده و هكذا...

(و قرن غير مغلوب) فهو ندّ لكم و مقابل إذا تصارعتم معه لا يغلب و لا يقهر بل تكون الغلبة و القهر عليكم...

(و واتر غير مطلوب) إنه يقتل الناس و لا يقدرون على أخذ ثأرهم منه أو إدراكه بشيء يغلبونه به...

ص: 78

(قد أعلقتكم حبائله) فإن حبائل الموت قد أحكمت خيوطها عليكم و وقعتم في مصيدتها و هذه الأمراض و الآفات كلها قد دخلت أبدانكم تنذركم بالموت...

(و تكنفتكم غوائله) أحاطت بكم مصائبه التي تغتالكم و تقضي عليكم.

(و أقصدتكم معابله) توجهت إليكم شفاره و نصاله القاتلة و هي كناية عن أمراضه و علله و آفاته...

(و عظمت فيكم سطوته) استفحل قهره لكم و ظلمه فيكم و لا تستطيعون رفع شيء منه عنكم أو رده عن ساحتكم.

(و تتابعت عليكم عدوته) فهو دائما يعتدي عليكم و يشن غاراته فيكم فظلمه لكم مستمر لا يهدأ.

(و قلّت عنكم نبوته) لا تخطىء ضرباته من قصده، فإذا ضربكم أصاب و أثّرت ضربته فيكم فليس هو كالسيف الذي قد لا يؤثر في مضروبه...

(فيوشك أن تغاشكم دواجي ظلله) خوفهم من قرب ما يحل بهم من الموت و مقدماته فعن قريب تحيط بكم ظلمات سحائبه التي هي الأمراض و العلل المستعصية و من كان الموت يطلبه فإنه واقع به لا محالة لا يدري متى يسقط عليه و يحل فيه...

(و احتدام علله و حنادس غمراته) بيان لبعض ما يحل بهذا الإنسان المطلوب للموت فإن أسباب الموت ستزدحم عليكم و تتسابق كما أن شدائده و كربه ستتراكم عليكم و تتجمع...

(و غواشي سكراته و أليم إرهاقه) أجارنا اللّٰه من تلك الحالات الصعبة ساعة الموت عند ما تشتد سكراته فيفقد الإنسان وعيه من شدة الألم و عظيم وقعه... حينما يهجم الموت فيفقد الإنسان تماسكه و يسقط من شدته...

(و دجو أطباقه و جشوبة مذاقه) حيث تتراكم شدائده شدة فوق شدة و تزداد آلامه ألما فوق ألم و يتحول طعمه عند الإنسان إلى أمر لا يستسيغه أو يستطيع ابتلاعه و هل يمكن للإنسان أن يستمرىء الموت أو يستسهل تجرعه؟...

(فكأن قد أتاكم بغتة فأسكت نجيكم و فرّق نديكم) هذا تخويف لهم و تحذير و أنه ربما أتاكم فجأة بدون إنذار أو تحذير فإذا جاء و الحال كذلك فإنه يسكت المتناجين المتحاورين في حب و رضى و سرور و أنهم سيسكتون إلى الأبد و أما المجتمعون في ناديهم يتبادلون قضاياهم و يدرسون شئونهم قد توقف اجتماعهم و تفرقوا إلى لا لقاء...

ص: 79

(و عفى آثاركم و عطل دياركم) درس ما عمرتموه و محاه من صفحة الوجود و بقيت دياركم خالية ليس فيها أنيس أو جليس فإن الموت يقضي على الإنسان و إذا قضى عليه خلت الديار و خربت...

(و بعث وراثكم يقتسمون تراثكم) و هكذا يموت السلف فيأتي الخلف لتوزيع الميراث و تقسيمه فيما بينهم و العاقل من يعمل في ماله ما يحب دون أن ينتظر توريث من خلفه...

(بين حميم خاص لم ينفع و قريب محزون لم يمنع و آخر شامت لم يجزع) و هذه هي حالات الناس مع هذا الصريع الذي حلّ فيه الموت فهذه الصداقة الحميمة التي كانت تربطه بالآخرين لم تنفع و لم تفيد لقد سقطت أمام الموت كل العلاقات الحميمة.

و كذلك لم يمنع الموت قريب محزون من أب أو ابن أو أخ أو أي قريب لما حلّ بهذا الحبيب... فالحزن و التأثر لم يمنع الموت من حلوله و سقوطه.

و في مقابل هذا الذي يتأثر له من حميم أو قريب هناك الشامت الذي لم يحزن أو يتأثر بل تفرح نفسه لما حل بهذا الإنسان و على كل حال فالناس بأحوالهم المختلفة لن يؤثروا في دفع الموت أو رفعه بل لا بد من وقوعه و حلوله و إذا كان هذا هو الواقع فلا بد للإنسان من الاستعداد و أخذ الأهبة لهذه الساعات الصعبة...

(فعليكم بالجد و الاجتهاد و التأهب و الاستعداد و التزود في منزل الزاد) بعد أن ذكر الموت و عوارضه و ما يلحق من حلّ به من كرب و شدائد توجه إلى الناس و أوصاهم بما ينفعهم بأن يشمروا عن سواعد الجد و النشاط و يبذلوا طاقتهم و قدرتهم في العمل الصالح... أن يتأهب الإنسان و يستعد و يأخذ بالأسباب التي هي الأعمال الصالحة من القيام بالواجبات و ترك المحرمات و فعل الخيرات و يتزود منها و هو في دار الدنيا التي فيها فإن الدنيا دار عمل و الآخرة دار حساب...

(و لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية و القرون الخالية الذين احتلبوا درتها و أصابوا غرتها و افنوا عدتها و أخلقوا جدتها) نهاهم أن يغتروا بالحياة و زينتها و ما فيها كما غرّت من كان قبلهم من الأمم السابقة و القرون المتقدمة ثم وصف الذين تقدموا بأنهم أدركوا في غفلة من الدنيا بعض منافعها فاستمتعوا بها و لكنها لم تغفل عنهم و لم تتركهم و كذلك فإنهم انتفعوا ببعض منافعها و فوائدها و أبلوا بعض جديدها و لكن مع ذلك لم تمهلهم حتى أفنتهم و أخرجتهم عنها...

(و أصبحت مساكنهم أجداثا و أموالهم ميراثا لا يعرفون من أتاهم و لا يحفلون من

ص: 80

بكاهم و لا يجيبون من دعاهم) هذه نهاية هؤلاء الناس الماضين الذين تمتعوا ببعض زينة الحياة الدنيا و غرهم ما فيها فتجاوزوا الحدود إنهم ماتوا فأصبحت مساكنهم التي كانوا يسكنون بها قبورا لهم تضمهم جوانبها و أموالهم التي خلفوها ميراثا للورثة يتنعمون بها...

إنهم في غربة تامة و في عالم آخر مفصول عن عالم الدنيا فلذا تختلف حالاتهم... لا يعرفون من أتاهم للزيارة سواء كان من الأقرباء أم البعداء من الأحباب أم المبغضين... إنهم لا يبالون بمن بكاهم و لا يتأثرون لبكائه كما أنهم لا يجيبون من دعاهم و ناداهم، لقد عاشوا بعيدين عن حالات الناس التي يعيشها أبناء الدنيا...

(فاحذروا الدنيا فإنها غدارة غرارة خدوع) احذروا الدنيا ألف مرة و مرة، احذروها حذر العدو الذي يتربص بكم الدوائر فإنها كثيرة الغدر بأهلها تفترسهم و تغر الناس ببعض حلاوتها فيغترون بها كما أنها تخدع أهلها فتظهر لهم خلاف ما تبطن، تظهر لهم لينها و حلاوتها و في حقيقتها تبطن القساوة و المرارة فهي تظهر خلاف ما تبطن...

(معطية منوع ملبسة نزوع) إنها تعطي في الظاهر و لكنها تمنع في الواقع لم تقدّم شهدها إلا لتصطاد فريستها و لم تلبس روادها بعض زينتها و رياشها إلا نزعت ذلك اللباس عنهم و لو بالموت.

(لا يدوم رخاؤها و لا ينقضي عناؤها و لا يركد بلاؤها) و هذه هي الدنيا باختصار فأيام الرخاء و الهناء و الغنى و الثروة و الجاه و السلطان كل ذلك لا يدوم بل تأتي عليه الأحداث فتزيله.

و أما أيام التعب و الشقاء فإنها أيام لا تنقضي أو تزول بل هي دائمة مستمرة و المرء يكابد المشقة و التعب من أول يوم ولد حتى آخر أيامه في الدنيا فعند ما يخرج إلى الدنيا يصرخ منها و عند ما يخرج منها يبكي منها و عليها... و أما بلاؤها و هي مصائبها و مشاكلها فإنها تشتد و تزداد كلما ازداد عمر الإنسان و كبر...

(كانوا قوما من أهل الدنيا و ليسوا من أهلها فكانوا فيها كمن ليس منها) قالوا: إنه عليه السلام يصف بعض أصحابه الذين درجوا قبله و قالوا: إنه يصف بعض الزهاد و على كل فالعبرة بعموم الوصف فإنهم قوم كانوا من أهل الدنيا بأجسامهم يعيشون مع الناس في صورتهم و يتحركون كما يتحركون و لكنهم بقلوبهم ليسوا معهم بل قلوبهم متعلقة بالآخرة تنظر إليها و تعمل لها و تحسب حسابها فهم فيها و كمن ليس فيها...

(عملوا فيها بما يبصرون و بادروا فيها ما يحذرون) هم على بصيرة من أمرهم و يقين

ص: 81

من حركتهم و ما يؤول إليه حالهم... فهم يعرفون الآخرة و نعيمها و مصيرها و هم على يقين من ذلك فيعملون ما يحقق لهم ترك كل المحرمات و الممنوعات و فعل كل الواجبات و المطلوبات و إنهم في سباق مع الموت يريد أن يخطف أرواحهم قبل إتمام أعمالهم و هم يسبقونه في إكمالها و إتمامها قبل حلوله...

(تقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة و يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم و هم أشد إعظاما لموت قلوب أحيائهم) فإنه لما كانت أعمالهم صالحة فهم كأنهم في الجنة مع أهل الآخرة باعتبار وصولهم إلى ما وصلوا إليه.

أو باعتبار أنهم في الدنيا لا يعاشرون إلا أهل التقوى و الإيمان.

ثم حكى بلسان أهل العرفان و نظرتهم التي تختلف عن نظر أهل الدنيا، ففي حين أن أهل الدنيا إذا مات إنسان منهم يعظمون موت جسده بينما هم - أهل العرفان - يعظمون موت قلوب الأحياء فإنه الموت الحقيقي الجدير أن يعظم و يكبر و يهتم به الناس ...

ص: 82

231 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

خطبها بذي قار (1)، و هو متوجه إلى البصرة، ذكرها الواقدي في كتاب «الجمل»:

فصدع بما أمر به، و بلّغ رسالات ربّه، فلمّ (2) اللّٰه به الصّدع (3)، و رتق (4) به الفتق (5)، و ألّف (6) به الشّمل (7) بين ذوي الأرحام، بعد العداوة الواغرة (8) في الصّدور، و الضّغائن (9) القادحة (10) في القلوب.

اللغة

1 - ذو قار: موضع قريب البصرة كانت فيه وقعة للعرب مع الفرس قبل الإسلام.

2 - لمّ : جمع.

3 - الصدع: الشق و صدع بالحق تكلم به جهارا.

4 - الرتق: ضد الفتق، خاط و ألحم.

5 - الفتق: نقض خياطة الثوب فينفصل بعض أجزائه عن بعض.

6 - ألّف: الشيء وصل بعضه ببعض و ألف الكتاب جمعه.

7 - الشمل: ما اجتمع من الأمر و يقال: فرّق اللّٰه شملهم أي ما اجتمع من أمرهم.

8 - الواغرة: ذات الوغرة و هي شدة توقد الحر.

9 - الضغائن: الأحقاد.

10 - القادحة: من قدح بالزند رام الإيراء به و القادحة في القلوب كأنها تقدح النار فيها.

الشرح

(فصدع بما أمر به و بلغ رسالات ربه فلم اللّٰه به الصدع و رتق به الفتق و ألّف به الشمل بين ذوي الأرحام بعد العداوة الواغرة في الصدور و الضغائن القادحة في القلوب) هذه الخطبة خطبها الإمام في منطقة ذي قار قرب البصرة و هو متوجه إلى قتال الناكثين

ص: 83

و فيها بذكر أوصاف رسول اللّٰه و شمائله الحميدة و أفعاله العظيمة.

فابتدأ بذكر دعوته صلوات اللّٰه عليه و أنه أعلنها للناس و جهر بها امتثالا لقوله تعالى: «فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ» و قد مزق من خلال دعوته و الجهر بها زمر الكفر و فرق شملهم و بلّغ رسالات ربه إلى جميع الناس حتى وصلت إلى كل مكان فبلغت كسرى و قيصر و النجاشي و سمع بها الملوك و السوقة و الحكام و الشعوب.

و كان من نتيجة هذه الرسالة أن جمع اللّٰه به القلوب و ارتفعت الخلافات و النزاعات و ما كان يجري بين الناس من العداوة و القتال.

لقد حل الوفاق بعد الخلاف و الاجتماع بعد الفرقة و الحب بعد العداوة و المودة و الصلح بعد البغض و الحرب لقد تبدلت الأمور بأضدادها لقد كانت تقطّع الأرحام و تتناحر الأسرة الواحدة و تشن الحروب و المعارك كانت القلوب تغلي بالحقد و كانت العداوة تسري في النفوس فأبدلها اللّٰه ببركة رسول اللّٰه بأضدادها...

و إن من قرأ تاريخ العرب و ماضيهم في أيام جاهليتهم و قارنها بأيام الإسلام في زمن رسول اللّٰه لا يشك إنها كانت طفرة معجزة خارقة للعادة لا يمكن تفسيرها بحسب قوانين الاجتماع و المدنية فإن هذه النقلة النوعية لا يمكن أن تحدث بهذه السرعة بل لا بدّ لها من قرون حتى تحصل و بشكل تدريجي و تصل بعدها إلى ما وصلت إليه... إنها تعاليم الإسلام و مبادئه على يد القادة الرساليين تقطع بلحظات ما يقطعه غيرها في سنوات... إنها خطابات اللّٰه التي تخاطب هذه النفوس بما تعرف أنه علاجها الحاسم... تخاطب هذه النفوس بما تحتاجه و تتوق إليه و يعيش في داخلها و لذا حدثت هذه الطفرة و يمكن أن تحدث في كل وقت...

ص: 84

232 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

كلم به عبد الله بن زمعة، و هو من شيعته، و ذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا، فقال عليه السلام:

إنّ هذا المال ليس لي و لا لك، و إنّما هو فيء (1) للمسلمين، و جلب (2) أسيافهم، فإن شركتهم (3) في حربهم، كان لك مثل حظّهم (4)، و إلاّ فجناة (5) أيديهم لا تكون لغير أفواههم.

اللغة

1 - الفيء: في اللغة الرجوع و عند الفقهاء الخراج و قيل: إنه ما أخذ من الكفار بغير قتال الغنيمة.

2 - الجلب: المال المجلوب.

3 - شركتهم: شاركتهم.

4 - حظهم: نصيبهم و سهمهم.

5 - الجناة: بفتح الجيم ما يجنى أي يقطف.

الشرح

اشارة

(إن هذا المال ليس لي و لا لك و إنما هو فيء للمسلمين و جلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم و إلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم) بيان لنزاهة حكمه و شدة عدله و في هذا الكلام يرسم سياسته المالية في التوزيع و سيرته فيه و قد استطاع أن يسنّ للشرفاء أروع طريقة مبدئية يسيرون عليها مهما كلفهم الأمر...

و هذا الرجل مصداق تنفّذ عليه هذه الخطة العلوية جاءه عبد اللّٰه بن زمعة يطلب منه مالا فأجابه بهذا الجواب الحاسم القاطع.

ص: 85

إن هذا المال ليس لي حتى أعطيك منه و أظهر كرمي فيه و لا لك حتى أوصله إليك و بعد أن نفى ذلك بيّن أنه فيء للمسلمين و غنيمة لهم ضربوا بسيوفهم أعداء اللّٰه حتى غنموه و أتوا به فإن شاركتهم في الحرب اشتركت معهم في الغنيمة و كان لك سهمك المقدّر منه و حصّتك المعينة المفروضة و إلا إذا لم تشترك معهم في الحرب فليس لك شيء فإن أتعابهم تعود إليهم فحسب و هم الذين ينبغي أن يتمتعوا بما غنموا و ليس من العدل و الإنصاف رجل يغرم و آخر يغنم بل الغرم بالغنم و بمقدار جهاد الإنسان يحصل على نتيجة...

و في هذا النص العلوي درس رائع لكل الحكام و الملوك و الأمراء و أصحاب الوظائف و المراتب العالية... درس في النزاهة و الحفاظ على حقوق المسلمين كي يضعوها في مواضعها دون محاباة لأحد على حساب أحد...

ترجمة عبد الله بن زمعة:

عبد الله بن زمعة بفتح الميم بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي أمه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة أم المؤمنين.

قال ابن حجر إنه من الصحابة و أنه استشهد يوم الدار مع عثمان و لكن هذا يتنافى و قول الرضي هنا...

ص: 86

233 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

بعد أن أقدم أحدهم على الكلام فحصر، و هو في فضل أهل البيت، و وصف فساد الزمان.

ألا و إنّ اللّسان بضعة (1) من الإنسان، فلا يسعده (2) القول إذا امتنع، و لا يمهله النّطق (3) إذا اتّسع. و إنّا لأمراء الكلام، و فينا تنشّبت (4) عروقه (5)، و علينا تهدّلت (6) غصونه.

فساد الزمان

و اعلموا رحمكم اللّٰه أنّكم في زمان القائل فيه بالحقّ قليل، و اللّسان عن الصّدق كليل (7)، و اللاّزم للحقّ ذليل. أهله معتكفون (8) على العصيان، مصطلحون (9) على الإدهان (10)، فتاهم (11) عارم (12)، و شائبهم (13) آثم (14)، و عالمهم منافق، و قارنهم (15) مماذق (16). لا يعظّم صغيرهم كبيرهم، و لا يعول (17) غنيّهم فقيرهم.

اللغة

1 - بضعة: قطعة.

2 - فلا يسعده: لا يعينه.

3 - النطق: اللفظ الخارجي و الكلام.

4 - تنشّبت: علقت و ثبتت.

5 - العروق: جمع عرق و هو أصل كل شيء و عروق البدن أوردته التي يجري فيها الدم.

6 - تهدّلت: تدلّت.

7 - كلّ لسانه: نبا عن الغرض و الكلال التعب و الإعياء.

ص: 87

8 - عكف في المكان: أقام فيه و لازمه و اعتكف احتبس و توقف و لبث.

9 - اصطلحوا: اتفقوا.

10 - الإدهان: المداهنة و هي الإظهار خلاف ما يضمر.

11 - فتاهم: الفتى الشاب الحدث.

12 - عارم: شرس، سيئ الأخلاق، المؤذي.

13 - الشائب: من الشيب و هو بياض الشعر و هو مقابل الفتى.

14 - آثم: عاص.

15 - القاري: الناسك العابد.

16 - المماذق: غير المخلص.

17 - لا يعول: لا يقوم بمعاشهم.

الشرح

اشارة

(ألا و إن اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع و لا يمهله النطق إذا اتسع) هذا الكلام منه عليه السلام قاله عند ما أمر ابن أخته أم هاني و اسمه جعدة بن هبيرة المخزومي أن يخطب الناس فلما صعد المنبر أحصر و لم يستطع الكلام فصعد عندها الإمام المنبر و قال هذه الكلمات: إن اللسان جزء من الإنسان يتأثر إذا تأثر الإنسان سلبا و إيجابا و يتكيف طبقا لنفسية هذا الإنسان و ما تربى عليه فإذا لم تحضر الفكرة عنده أو وجد المانع أو اهتز من الداخل نتيجة الموقف و رهبته و كثرة الجموع أو علو الحاضرين في العلم و المعرفة فلا يستجيب القول لهذا اللسان فيمتنع عن الخروج و يحصر في الكلام.

أما إذا حضرت الفكرة و ارتفع المانع و كان الجو النفسي مهيئا انطلق اللسان ليبدي الفكرة فورا و لذا نجد أن بعض الأجواء ينفتح الإنسان فيها على الكلام و يسترسل و ربما عجز عن نفس الكلام بمحضر آخرين و كأن هذا اعتذار عما أصاب جعدة و تخفيف عما أصابه من هذه الصدمة و لعل وجود أمير المؤمنين كان السبب الذي منع جعدة من الكلام تهيبا منه و تعظيما له فلم ينطلق لسانه بوجود خاله الذي سن الفصاحة و البلاغة و كان إمام الخطابة...

(و إنا لأمراء الكلام و فينا تنشبت عروقه و علينا تهدلت غصونه) أشار عليه السلام إلى نفسه و أهل بيته أنهم أمراء الكلام إذا تكلموا... إنهم يمتلكون نواصي البيان و يتصرفون فيه تصرف الملوك في أملاكها كناية عن امتلاكهم زمام الكلام يوردون المعنى

ص: 88

الذي يريدون بأفصح بيان و أبلغ كلام و الكلام أصل فينا و طبيعة من طبائعنا فنحن معدن الكلام و منشأه و ما عند الناس إنما هو شيء عنا فاض منا فأخذوه و تكلموا به...

(و اعلموا رحمكم اللّٰه إنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل و اللسان عن الصدق كليل و اللازم للحق ذليل) ذكر الزمان و بعض قبائحه فإنه زمان سيء قبيح لئيم و الزمان بأهله، يخاطب و يراد من خلاله الناس الذين فيه.

و قد وصف أهل الزمان «القائل فيه بالحق قليل فالمتكلمون بالحق قليلون و أما أكثر الناس فيتكلمون بالباطل إما لخبثهم أو للخوف على أنفسهم أو مداراة للناس أو لبعض الدواعي غير الشرعية مخالفة منهم لأمر اللّٰه و حكمه.

و أما اللسان فإنه يعجز عن قول الصدق لغلبة الهوى و قوته و لخوف الإنسان على نفسه و ماله من حكام الزمان و أهله...

و أما اللازم للحق فهو ذليل لأن الغلبة لأهل الباطل و للظالمين فلا يستطيع صاحب الحق أن يظهر في دولتهم و أيام حكمهم حقه فكم من حكم شرعي قد اختفى نتيجة الحكم الظالم و لم يبق إلا عند ثلة قليلة من الناس...

(أهله معتكفون على العصيان مصطلحون على الإدهان) فأهل ذلك الزمان ملازمون للمعاصي مقيمون عليها لا ينفكون عنها لأنهم بعد ابتعادهم عن الحق دخلوا في الضلال و العصيان و إذا كان أمير المؤمنين ينعى أهل زمانه فكيف بزماننا هذا الذي نعيشه إنه أسوأ زمان عرفه التاريخ... زمان أصبح للمعاصي مدارسها الخاصة و قد التزم الناس بالمعاصي تحت عنوان الفن فترى كل الوسائل المرئية و المسموعة قد امتلأت بالرذيلة و شحنت بالمعاصي و دخلت كل بيت و أصبحت في كل زاوية بحيث تحول المجتمع إلى مجتمع معصية و رذيلة...

و ذكر عليه السلام أن أهل ذلك الزمان مصطلحون على الإدهان أي مجتمعون متفقون على المصانعة باللسان دون القلوب فظاهرهم لا يحكي عن باطنهم، ففي الباطن تناكر و تحاسد و تباغض و أما في اللسان فمجاملة و متفقون على الكذب على بعضهم...

(فتاهم عارم) فالشاب منهم سيء الأخلاق بدون أدب لأن اليد التي تعهدته بالتربية لم تكن أمينة عليه فلم ترب بذور الفضيلة و الأخلاق الكريمة في نفسه.

(و شآئبهم آثم) فترى تلك الشيبة ملطخة بعار الإثم و المعصية و الانحراف عن دين اللّٰه و من حق من دب الشيب في رأسه و ابيضت مفارقه أن يقلع عن المعصية و يتوب إلى اللّٰه و يتوجه إليه فيما بقي من عمره...

ص: 89

(و عالمهم منافق) يمدح الأشرار تزلفا لهم و يظهر للناس العفة و السداد و هو أبعد ما يكون عنهما يبيع الدين بالدنيا بل يبيع دينه بدنيا غيره.

(و قارئهم مماذق) فالناسك العابد و المثقف، مدرس القرآن و معلمه الذي يجب أن يكون قدوة و مثلا أعلى فهذا لم يخلص في عمله و لم يصدق في توجهه و لم ينسجم مع هدفه يفعل خلاف ما يقول و يتودد إلى الناس طمعا بما عندهم...

(لا يعظّم صغيرهم كبيرهم) لأنهم لم يتعلموا وصايا الأنبياء و الصالحين و لم يدرسوا مناهج الحق و الدين و لم يسمعوا قول المعصوم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا».

(و لا يعول غنيهم فقيرهم) لا يقوم الغني بسد حاجة المحتاجين و الفقراء لبخله و قلة معروفه و بعده عن الالتزام الشرعي الذي يفرض على الأغنياء سدّ حاجة الفقراء...

ترجمة جعدة بن هبيرة المخزومي:

جعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عائد بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي و مات هبيرة بنجران مشركا.

أمه: أم هاني بنت أبي طالب ولدت لزوجها أربعة بنين جعدة و عمرا و هانئا و يوسف.

ولد على عهد رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و قال البخاري له صحبة و في تهذيب التهذيب: جعدة بن هبيرة له صحبة.

استعمله الإمام على خرسان.

قال ابن أبي الحديد في شرحه: كان جعدة فارسا شجاعا فقيها ولي خرسان لأمير المؤمنين علي عليه السلام و هو من الصحابة الذين أدركوا رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - يوم الفتح مع أمه أم هاني بنت أبي طالب...

لما دخل علي عليه السلام الكوفة بعد رجوعه من حرب الجمل نزل على جعدة بن هبيرة و قد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 37 أن عليا بعث جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خرسان بعد عودته من صفين فانتهى إلى نيسابور و قد كفروا و امتنعوا فرجع إلى علي فبعث خليد بن قره اليربوعي فحاصر أهلها حتى صالحوه و صالحه أهل مرو قال عتبة بن أبي سفيان لجعدة بن هبيرة: إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك.

فقال له جعدة: لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك...

مات جعدة في خلافة معاوية...

ص: 90

234 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

روى ذعلب اليماني عن أحمد بن قتيبة، عن عبد الله بن يزيد، عن مالك بن دحية، قال:

كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام، و قد ذكر عنده اختلاف الناس فقال:

إنّما فرّق (1) بينهم مبادئ (2) طينهم (3)، و ذلك أنّهم كانوا فلقة (4) من سبخ (5) أرض و عذبها (6)، و حزن (7) تربة و سهلها، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، و على قدر اختلافها يتفاوتون (8)، فتامّ الرّواء (9) ناقص العقل، و مادّ القامة (10) قصير الهمّة (11)، و زاكي (12) العمل قبيح المنظر (13)، و قريب القعر (14) بعيد السّبر (15)، و معروف الضّريبة (16) منكر الجليبة (17)، و تائه (18) القلب متفرّق اللّبّ (19)، و طليق اللّسان (20) حديد (21) الجنان (22).

اللغة

1 - فرّق: وزّع و ميّز.

2 - مبادئ: جمع مبدأ الأصل و السبب.

3 - طينهم: جمع طينة و هو الوحل و المراد هنا الخلقة و الجبلة.

4 - الفلقة: بكسر الفاء القطعة من الشيء.

5 - السبخة: محركة و مسكنة الأرض المالحة التي لا ينبت فيها شيء.

6 - العذب: ما طاب من الأرض و صلح للزرع.

7 - الحزن: على وزن فلس ما غلظ من الأرض و هو ضد السهل.

8 - يتفاوتون: يختلفون.

9 - الرواء: بالضم و المد المنظر الحسن.

10 - ماد القامة: طويلها.

ص: 91

11 - الهمة: بالكسر و الفتح ما همّ به من أمر ليفعل، العزم القوي.

12 - الزاكي: النامي الطاهر.

13 - المنظر: الشكل و الهيئة.

14 - قريب القعر: قصير.

15 - السبر: في الأصل إدخال الميل في الجراحة لمعرفة غورها و سبرت الرجل اختبرت باطنه و غوره.

16 - الضريبة: الخلق و الطبيعة.

17 - الجليبة: ما يتصنعه الإنسان على خلاف طبعه.

18 - التائه: الحيران.

19 - اللب: العقل.

20 - طليق اللسان: فصيح ذو حدة.

21 - حديد: نافذ.

22 - الجنان: بالفتح القلب.

الشرح

(إنما فرّق بينهم مبادئ طينهم و ذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها و حزن تربة و سهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون و على قدر اختلافها يتفاوتون). وقع الخلاف في اختلاف الناس و تباينهم فقال الإمام هذا الكلام و بيّن فيه السبب و أنه إنما كان افتراق بعضهم و تمايزهم عن بعض بحيث تختلف أشكالهم و أهدافهم و فطنتهم و بلادتهم و شقاوتهم و سعادتهم إنما كان لاختلاف مبادئ طينتهم و مادة تركيبهم و أصولهم التي تكوّنوا منها.

إن الطينة التي جبلوا منها اختلفت و تباينت فاختلف الناس و قيل: إن المراد هي النطفة التي تكوّنت في أصلاب الرجال اختلفت باختلاف المأكول فاختلف الناس...

و قيل: إن كلامه عليه السلام له تأويل باطن و هو أنه يريد به أن اختلاف النفوس المدبّرة للأبدان و كنى عنها مبادئ طينهم و ذلك أنها لما كانت الماسكة للبدن من الإنحلال العاصمة له من تفرّق العناصر صارت كالمبدأ و العلة له من حيث إنها كانت علة في بقاء امتزاجه و اختلاط عناصره بعضها ببعض و لذلك إذا فارقتها عند الموت افترقت العناصر و انحلت الأجزاء فرجع اللطيف منها إلى الهواء و الكثيف إلى الأرض و من هنا إذا

ص: 92

كانت النفوس متقاربة اقتربت الأشخاص و إلا افترقت...

ثم بيّن عناصر تكوينهم المؤدي إلى اختلافهم و تباعدهم أو اتفاقهم و تقاربهم و ذلك بأنهم تكوّنوا من أجزاء مختلفة... فجزء من الأرض المالحة التي لا تصلح للزراعة و النمو و لا تعطي الخير، و جزء آخر عذب طيب صالح للنمو و العطاء و جزء من تراب سهل لين طري و آخر صعب قاس و على هذا التركيب يتم الوفاق و الخلاف فمن قربت أرضهم من بعضهم و تكونت جبلتهم من نفس الطينة تقاربوا و تعارفوا و تشابهوا و إذا تباينت الطينة و عناصر التركيب كان الاختلاف و التباعد و التباين...

(فتام الرواء ناقص العقل) هذه مصاديق يضربها الإمام لاختلاف الأخلاق مع الخلقة أو لاختلاف بعضها مع بعض و هذه صادقة في الأعم الأغلب و ليست قاعدة عامة لا تخترق...

فهذا الذي يرويك بجماله... إنه صورة تعشقها العين يجذبك إليه قهرا عنك...

هذا هو بنفسه لو أردت اختبار عقله وجدته ناقص العقل فلم يتم الانسجام و الوفاق بين جمال فائق و عقل ناقص إنه تدبير اللّٰه و حكمته و من أراد استجلاء ذلك فليقصد المصحات العقلية ليجد الجمال عند بعض المجانين الذين فقدوا عقولهم...

(و ماد القامة قصير الهمة) و هذا تراه طويل القامة مديدها لو خليت و نفسك لقرأته في همة الأسود و عزيمة أبطال التاريخ لينسجم الظاهر مع الباطن و يحكي الشكل عن المضمون و لكنك تفاجأ بأن همته لا تتعلق إلا بأتفه الأمور و أحقرها و أقلها شأنا... فلا تنسجم القامة المديدة مع الهمة القصيرة...

(و زاكي العمل قبيح المنظر) قد يكون قبيح الشكل و الصورة مشوه المنظر و لكن مع ذلك من أطيب الناس عملا و أحسنهم فعلا و قد رأينا ذلك كنا نسمع بأعمالهم فنظن أنهم في غاية الجمال و الكمال الجسماني فإذا بنا نفاجأ بأنهم قصار دمام تزدريهم العيون التي لم تختبرهم و تقف على أفعالهم فسبحان الذي يحرم الإنسان من جهة ليعوضه عنها من جهة أخرى يبرز بها و يمتاز...

(و قريب القعر بعيد السبر) و هذا قصير و لكنه يمتلك ذكاء و فطنة يغوص في الأمور ليصل إلى حقائقها و دقائقها.

(و معروف الضريبة منكر الجليبة) فهذا صاحب سجية كريمة و أخلاق رضية جبلت نفسه على حب الخير و الطاعة و لكنه يأتي بأعمال منكرة غير سليمة و لا مرضية خلاف طبيعته و ما جبلت عليه نفسه...

ص: 93

(و تائه القلب متفرق اللب) ذكر سابقا أفرادا لاختلاف الظاهر مع الباطن و الآن يذكر امثالا لما توافق فيه الظاهر مع الباطن و كان الانسجام بين الصورة و الحقيقة و الشكل و المضمون فهذا تائه القلب موزعه لم يهتد إلى ما يسعده فتراه موزع العقل مضطربه لا يستطيع أن يجمع عقله لحيرة قلبه و عدم استقامته و معرفته الصحيحة فهو كالهمج الرعاع من الناس يميلون مع كل ناعق دون أن يفكروا فيما يتحركون أو يقومون...

(و طليق اللسان حديد الجنان) و هذا أعطاه اللّٰه حسن البيان مع الفصاحة و البلاغة و في نفس الوقت نافذ الفكر دقيق الملاحظة واقعي النظرة فتوافق الظاهر مع الباطن.

ص: 94

235 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله و هو يلي غسل رسول اللّٰه، صلى اللّٰه عليه و آله، و تجهيزه:

بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّٰه! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النّبوّة و الإنباء (1) و أخبار السّماء (2). خصّصت حتّى صرت مسلّيا (3) عمّن سواك، و عمّمت حتّى صار النّاس فيك سواء (4). و لو لا أنّك أمرت بالصّبر، و نهيت عن الجزع (5)، لأنفدنا (6) عليك ماء الشّؤون (7)، و لكان الدّاء (8) مماطلا (9)، و الكمد (10) محالفا (11)، و قلاّ لك (12)! و لكنّه ما لا يملك ردّه، و لا يستطاع دفعه! بأبي أنت و أمّي! اذكرنا عند ربّك، و اجعلنا من بالك (13)!.

اللغة

1 - الإنباء: بكسر الهمزة الإخبار مصدر أنبأ و الأنباء بالفتح هو الخبر جمع نبأ.

2 - أخبار السماء: الوحي.

3 - المسلي: من التسلية يقال: سلاّني من همي إذا كشفه عني.

4 - سواء: متساوون.

5 - الجزع: بالتحريك ورود ما يغم النفس، نقيض الصبر.

6 - الإنفاذ: الإفناء.

7 - الشئون: منابع الدمع و مجاريها.

8 - الداء: المرض.

9 - المماطل: المسوّف.

10 - الكمد: الحزن المكتوم.

11 - المحالف: الملازم.

ص: 95

12 - قلاّ: من القلة اتصل بها ألف الاثنين.

13 - البال: القلب.

الشرح

(بأبي أنت و أمي يا رسول اللّٰه، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة و الإنباء و أخبار السماء) هذا الكلام من الإمام قاله كما ذكر الشريف و هو يلي غسل رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

بأبي أنت و أمي و هي عبارة تقال لمن يعز عليك و له مقامه السامي لديك فتجعل أبويك فداء عنه و أنه عندك أغلى منهما و الإمام يفدي أبويه من أجل رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

و يذكر الأثر الكبير الذي حدث بوفاة رسول اللّٰه، إنه حدث لم يجر عند موت غيره من الأنبياء... لقد توقفت النبوة و ارتفعت من الأرض... و امتنعت الأخبار التي يأتي بها الأنبياء و انقطع وحي السماء فلا حديث بين اللّٰه و بين هذا الإنسان عن طريق الأنبياء... انقطع بموت رسول اللّٰه ما لم ينقطع بموت غيره من الأنبياء لأنه إذا قبض النبي يبقى الوحي ينزل على النبي الذي بعده و باعتبار أن رسول اللّٰه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده ينقطع الوحي بموته و تمتنع أخبار السماء أن تصل إلى أهل الأرض...

(خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك و عمّمت حتى صار الناس فيك سواء) خصت مصيبتك أهل بيتك حتى صارت مسلية عن كل مصيبة تصيبهم بعدك لأنهم إذا أصيبوا بموت أعظم البشرية هانت عليهم أنفسهم و من دونهم مهما كان عزيزا و غاليا و كذلك عمت مصيبتك جميع الناس حتى تساووا فيها فهانت عليهم مصائبهم و فقد الأعزة عندهم.

(و لو لا أنك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون) اعتذر عليه السلام عن كثرة البكاء على الرسول بأنه لو لا أنه صلوات اللّٰه عليه قد أمر بالصبر عند كل مصيبة و حادثة شاقة و نهى عن الجزع و الحزن و اليأس لاستمر بكاؤه حتى جفّت منابعها و أصولها أي كثر بكاؤه...

(و لكان الداء مماطلا و الكمد محالفا و قلاّ لك و لكنه ما لا يملك رده و لا يستطاع دفعه) و كذلك اعتذر للنبي بعدم جدوى الألم و الحزن و أنه لو كانا يفيدان لاستمر الألم

ص: 96

دائما و الحزن حليفا لازما و هما قليلا في حقه و لكنه صلوات اللّٰه عليه قد نهى عن ذلك و منع منه...

ثم اعتذر بسقوط الحيلة أمام الموت و أنه لا يملك مع الموت أي دواء و إذا أتى لا يمكن رده أو رفعه و ليس من وسيلة ممكنة في منعه أو دفعه، تسقط أمام الموت كل الوسائل و الوسائط فلا يدفع بمال و لا بجاه و لا بسلطان و لا بالوساطات و الشفاعات، يتجرعه الغني كما يتجرعه الفقير، و الكبير كما هو حال الصغير و الشريف كما هو الوضيع و النبي و عامة الناس... «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ » «كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ » .

(بأبي أنت و أمي اذكرنا عند ربك و اجعلنا من بالك) عاد إلى التفدية لزيادة الاهتمام و طلب من النبي بلسان الاستعطاف أن يذكره عند ربه بالشفاعة و أن يجعله موضع اهتمامه و في فكره و من ذكره النبي فاز بالحظ الأوفر و لا شك أن عليا في قلب رسول اللّٰه و ضميره لأنه كان ساعده و قوته به يدفع الأعداء و ينال منهم كما أنه الشخصية الرسالية التي تولت مكانه بحق و صدق و كذلك صهره و والد ولديه الحسن و الحسين...

ص: 97

236 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - ثم لحاقه به:

فجعلت (1) أتبع مأخذ رسول اللّٰه (2) - صلّى اللّٰه عليه و آله - فأطأ (3) ذكره، حتّى انتهيت إلى العرج (4).

قال السيد الشريف رضي اللّٰه عنه في كلام طويل:

قوله عليه السلام: «فأطأ ذكره»، من الكلام الذي رمى به إلى غايتي الإيجاز و الفصاحة، أراد أني كنت أعطى خبره - صلّى اللّٰه عليه و آله - من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع، فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة.

اللغة

1 - جعلت: أخذت و شرعت.

2 - مأخذ رسول اللّٰه: الجهة التي سلكها رسول اللّٰه.

3 - أطأ: أدوس و أتبع.

4 - العرج: بفتح أوله و سكون ثانيه مكان بين مكة و المدينة.

الشرح

(فجعلت أتبع مأخذ رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - فأطأ ذكره حتى انتهيت إلى العرج) يحكي صلوات اللّٰه عليه شدة اهتمامه برسول اللّٰه و تقصي أخباره حتى أنه كان يتتبع كل مرحلة يقطعها في هجرته و كل خطوة يخطوها.

جعل عليه السلام بعد أن خرج رسول اللّٰه من مكة إلى المدينة مهاجرا يتبع ما كان يأخذه من الطرق ليسلك إلى المدينة فاتخذه قدوة و سار على أثره حتى وصل إلى العرج فاطمأن عندها إلى وصول رسول اللّٰه سالما...

ص: 98

237 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في المسارعة إلى العمل فاعملوا و أنتم في نفس البقاء (1)، و الصّحف (2) منشورة (3)، و التّوبة مبسوطة (4)، و المدبر (5) يدعى، و المسيء يرجى، قبل أن يخمد (6) العمل، و ينقطع المهل (7)، و ينقضي الأجل (8)، و يسدّ باب التّوبة، و تصعد الملائكة.

فأخذ امرؤ من نفسه لنفسه، و أخذ من حيّ لميّت، و من فان لباق، و من ذاهب لدائم. امرؤ خاف اللّٰه و هو معمّر (9) إلى أجله، و منظور إلى عمله.

امرؤ ألجم نفسه بلجامها، و زمّها بزمامها (10)، فأمسكها بلجامها عن معاصي اللّٰه، و قادها بزمامها إلى طاعة اللّٰه.

اللغة

1 - نفس البقاء: بفتح الفاء أي في سعته.

2 - الصحف: جمع الصحيفة أي الكتاب و يراد بها هنا صحائف الأعمال.

3 - منشورة: ضد مطوية، مفتوحة و مبسوطة.

4 - بسط التوبة: أي مقبولة.

5 - المدبر: هو المعرض الذي أعطى دبره للشيء و تولى.

6 - خمد: سكن و هدأ و خمدت النار إذا سكن لهبها و لم يطفأ جمرها.

7 - المهل: الإمهال.

8 - الأجل: الوقت المضروب.

9 - المعمّر: الذي يعيش عمرا طويلا.

10 - زمها بزمامها: قادها بقيادها.

ص: 99

الشرح

(فاعملوا و أنتم في نفس البقاء و الصحف منشورة و التوبة مبسوطة و المدبر يدعى و المسيئ يرجى) في هذا الكلام الشريف حث للناس على العمل و المبادرة إليه في وقته كما أن فيه دعوة إلى التوبة و الرجوع إلى اللّٰه اعملوا الخيرات و ما فيه نفع و فائدة لكم في آخرتكم و أنتم في سعة من الزمان و لا تزالون على قيد الحياة فإن اللّٰه أمهل عبده و أخره ليعمل.

و الصحف منشورة: صحف العباد منشورة - و هم الأحياء - و إنما تطوي و تمتنع فيها الكتابة إذا مات هذا الإنسان و طالما أن الإنسان حي فإن الملائكة تكتب عليه حسناته و سيئاته.

و التوبة مبسوطة: فإذا أخطأ الإنسان و عاد إلى اللّٰه بالتوبة فإن اللّٰه يقبلها منه و يتوب عليه و لا يرده خائبا بل هو الذي قال: «تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ » .

و المدبر يدعى: من أعطى ظهره للّٰه و أحكامه و أخذ في المعصية و الانحراف يدعوه اللّٰه إلى التوبة و الرجوع إليه و يستقبله بالعفو و المغفرة و هذه هي فرصة هذا الإنسان الأخيرة و هو على قيد الحياة...

و المسيئ يرجى: المسيئ يؤّمل منه الرجوع عن إسائته و العودة إلى رحاب الطاعة لأن الوقت أمامه يستطيع ذلك و يقدر عليه.

(قبل أن يخمد العمل و ينقطع المهل و ينقضي الأجل و يسد باب التوبة و تصعد الملائكة) فيما تقدم ذكر أحوال الترغيب في العمل و هنا ينقل الأحوال التي يمنع فيها العمل تنفيرا منها هذه الحالات هي:

قبل أن يخمد العمل: اعملوا و أنتم في دار الدنيا قبل أن يتوقف العمل و ينقطع بالموت كما ورد في الحديث إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث صدقة جارية و ولد صالح يستغفر له و كتاب علم ينتفع به.

و ينقطع المهل: قبل أن تنتهي مدة إمهال اللّٰه لهذا الإنسان و هي مدة عمره و بقائه في دار الدنيا فإذا مات فلا فسحة من زمان يتدارك بها ما فات.

و ينقضي الأجل: فإن للإنسان وقت معلوم يقضيه في دار الدنيا ثم ينتهي فالعمل يجب أن يكون قبل انتهاء هذه المدة و هذا الأجل المضروب.

ص: 100

و يسد باب التوبة: فإن التوبة تقبل إلى آخر أيام هذا الإنسان فإذا انتهت أيامه و لقي حمامه مضى زمن التوبة و وقعت الحوبة...

و تصعد الملائكة: فإن الإنسان يشغل الملائكة بما يعمل حيث تكتب عليه جميع ما يعمل و تصعد به إلى الملأ الأعلى فإذا مات انقطع صعودها فلا تكتب له و العاقل هو الذي يغتنم هذا العمر ليتزود فيه لآخرته...

(فأخذ امرؤ من نفسه لنفسه) إخبار يراد به الأمر أي فليأخذ امرؤ من نفسه فيتعبها بالطاعات و ترك الشهوات و هجر المحرمات و العمل في سبيل اللّٰه من أجل نفسه في الآخرة كي يسعدها و يوصلها إلى مراقي الكمال و الدرجات العالية في الجنة.

(و أخذ من حي لميت و من فان لباق و من ذاهب لدائم) أي أخذ من نفسه باعتبار أنه حي إلى ما يصير إليه من حال الموت و من فان و هي الحياة الدنيا إلى باق و هي الحياة الآخرة و من ذاهب لا يبقى و لا يدوم و هو الدنيا و ما فيها إلى باق دائم لا يزول و هو الآخرة و ما فيها من نعيم...

(امرؤ خاف اللّٰه و هو معمر إلى أجله و منظور إلى عمله) هذه هي أوصاف المرء الذي أمره بالأوامر المتقدمة إنه امرؤ خاف اللّٰه و عذابه مدة عمره التي يقضيها في دار الدنيا و كذلك يتطلع إلى أن اللّٰه ينظر إلى عمله و يعرف كل حركاته فهو في خوف طول عمره و يراقب اللّٰه الذي يراقب عمله و من عاش هذه الحالة سعى في إصلاح نفسه و تهذيبها بل هذه الحالة من أهم ما يصلح النفس و يهذبها و يدفعها لزيادة عمل البر و الخير و القيام بالطاعات و اجتناب المحرمات.

(امرؤ ألجم نفسه بلجامها و زمها بزمامها فأمسكها بلجامها عن معاصي اللّٰه و قادها بزمامها إلى طاعة اللّٰه) شبه النفس بدابة صعبة فإنه إذا وضع لجامها في فمها منعها عما لا يريد و وجهها إلى ما يحب و يريد و كذلك النفس إذا أخذها بتقوى اللّٰه فإن هذه التقوى تمنعه عن ارتكاب المعاصي و الانحرافات و تردعه عن جميع المحرمات كما أنها بنفسها تقوده إلى طاعة اللّٰه و العمل بأمره و القيام بكل أوامره و مراداته، و هذا هو الإنسان العاقل الذي يعرف مصلحته فيسعى لتحقيقها و سعادة نفسه فيوفر السعادة لها...

ص: 101

238 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في شأن الحكمين و ذم أهل الشام جفاة (1) طغام (2)، و عبيد أقزام (3)، جمعوا من كلّ أوب (4)، و تلقّطوا (5) من كلّ شوب (6)، ممّن ينبغي أن يفقّه (7) و يؤدّب، و يعلّم و يدرّب (8)، و يولّى عليه (9)، و يؤخذ (10) على يديه. ليسوا من المهاجرين و الأنصار، و لا من الّذين تبوّؤوا (11) الدّار و الإيمان.

ألا و إنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا تحبّون، و إنّكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون. و إنّما عهدكم (12) بعبد اللّٰه بن قيس بالأمس يقول: «إنّها فتنة، فقطّعوا أوتاركم (13)، و شيموا (14) سيوفكم». فإن كان صادقا فقد أخطأ بمسيره غير مستكره، و إن كان كاذبا فقد لزمته التّهمة.

فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد اللّٰه بن العبّاس، و خذوا مهل (15) الأيّام، و حوطوا قواصي (16) الإسلام. ألا ترون إلى بلادكم تغزى (17)، و إلى صفاتكم (18) ترمى ؟.

اللغة

1 - الجفاة: بضم الجيم جمع جاف غليظ الطبع فظ.

2 - الطغام: على وزن طعام أو غاد الناس و أراذلهم.

3 - أقزام: جمع قزم بالتحريك الأراذل و السفلة من الناس.

4 - أوب: يقال: جمعوا من كل أوب أي من كل ناحية.

ص: 102

5 - تلقطوا: يقال: تلقط التمر أي التقطه من هنا و هنا...

6 - الشوب: الخلط.

7 - يفقّه: يعلّم الفقه.

8 - يدرّب: يعوّد بالعادات الجميلة و يمرّن بمحاسن الأفعال.

9 - يولّى عليه: يملك أمره و يقوم بشئونه.

10 - يؤخذ على يديه: يمنع من التصرف.

11 - تبوءوا الدار: نزلوها و المباءة المنزل.

12 - عهدكم: معرفتكم و لقائكم.

13 - أوتار: جمع وتر بالتحريك و هو شرعة القوس أي أوتار القسي التي يرمى عنها.

14 - شيموا سيوفكم: أغمدوها و لا تقاتلوا.

15 - المهل: سعة الوقت.

16 - القواصي: النواحي و الأطراف.

17 - تغزى: يغار عليها.

18 - الصفاة: الحجر الأملس لا تؤثر فيه السهام و المقصود هنا القوة.

الشرح

اشارة

(جفاة طغام و عبيد أقزام جمعوا من كل أوب و تلقطوا من كل شوب) الخطبة في ذم أهل الشام الذين بايعوا معاوية كما أن فيها ذم الحكمين الخبيثين الأشعري و ابن العاص و فيها أيضا حث لأهل الكوفة أن يدفعوا عن أنفسهم ذل الهجمات و الغارات التي يشنها جند معاوية عليهم و هذا وصف دقيق لما كان عليه جند الشام و أتباع معاوية إنهم أعراب غلاظ القلوب قساة المعاملة من أراذل الناس و سفلتهم أذلاء النفوس لا يحملون روح الأحرار و تصرفاتهم قد جمعتهم العصبية و حب المال و المصلحة الشخصية و المنافع الآنية، جمعتهم الجاهلية لقتال أهل الحق... إنهم جمعوا من كل الأطراف التي تواجدوا فيها... إنهم خليط غريب التقطتهم أيدي الشيطان و زبانيته التي تمثلت بمعاوية و من تابعه، إن معاوية قد خرج على الجماعة و أعلن الحرب على الخليفة الشرعي و جمع معه كل مناوىء للحق و عدو للإسلام... جمع حوله كل إنسان يبحث عن مصلحة شخصية أو زعامة أو عنده حب في تفكيك عرى الإسلام و محاربته...

(ممن ينبغي أن يفقّه و يؤدب) نفى عنهم صفة التفقه في دين اللّٰه كما نفى عنهم

ص: 103

الأدب الإسلامي المفروض على عامة الناس و من كان خلوا منهما فهو ناقص ينبغي أن يكمّل نفسه بهما...

(و يعلم و يدرب) يجب أن يعلّموا ما يجب تعلمه حتى يقوموا بالواجب لأن من لم يتعلم فهو جاهل أعمى كما أنه يجب عليهم أن يدربوا و يمرّنوا على عادات الخير و الإحسان حتى يكفّوا و يقلعوا عن العادات السيئة.

(و يولى عليه و يؤخذ على يديه) وصفهم بالنقص و عدم الرشد و الكمال و لذا أوجب أن يكون عليهم وليا يدير أمورهم و يقوم بشئونهم و يصرّف أعمالهم و يضبط سلوكهم كما هو حال الأطفال و المجانين الذين لم يرشدوا و لم يؤهلوا لتولي أمورهم و ما يعود إليهم.

كما أنه يجب أن يؤخذ على أيديهم فيمنعوا من التصرف في شيء يعود إليهم كما يجب أن يمنعوا عن كل قبيح أو رذيلة يمارسونها...

(ليسوا من المهاجرين و الأنصار و لا من الذين تبوءوا الدار و الإيمان) هذا نفي لهذه الصفات الكريمة التي يمتاز بها المسلمون عن جند معاوية و أتباعه و من مشى في ركابه إنهم ليسوا من المهاجرين الأولين الذين تركوا أهلهم و ديارهم من أجل الإسلام و لا من الأنصار الذين تداعوا إلى نصرة رسول اللّٰه و حماية الإسلام و لا من الذين تبوءوا الدار و الإيمان أي ليسوا من أهل المدينة الذين سكنوها و أسلموا قبل مجيء رسول اللّٰه إليها فليس في أهل الشام صفة كريمة عظيمة تجعلهم شرفاء فضلاء...

(ألا و إن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبون و إنكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم مما تكرهون و إنما عهدكم بعبد الله بن قيس بالأمس يقول: «إنها فتنة فقطّعوا أوتاركم و شيموا سيوفكم» فإن كان صادقا فقد أخطأ بمسيره غير مستكره و إن كان كاذبا فقد لزمته التهمة) هذا بيان لسوء اختيار أهل العراق على عكس أهل الشام يقول: إن القوم و هم أهل الشام قد اختاروا لأنفسهم أقرب الناس ممن يحقق لهم ما يحبون...

إنهم اختاروا عمرو بن العاص الذي هو منهم و فيهم و يحقق أهدافهم التي يحبونها و هي الانتصار على أهل العراق و تحقيق ذلك بما يملك من حيل و خدع و مكر بينما أنتم اخترتم الرجل الذي هو بعيد عنكم و لا يحقق لكم إلا ما تكرهون. اخترتم أبا موسى الأشعري الذي هو ليس منكم و لا يدعو إلى ما تدعون إليه و ليس على هدفكم و لن يحقق لكم إلا ما تكرهون من الهزيمة و الانكسار لبلهه و سوء طويته و موقفه المعادي لكم...

ثم ذكّرهم بموقف مشين وقفه أبو موسى الأشعري - المسمى عبد الله بن قيس - في موقعة الجمل: إنه موقف يسقطه عن الاعتبار و عن كونه مؤهلا للحكومة الآن... إنه

ص: 104

خذّل الناس عن الإمام و ثبطهم عن الخروج معه فقد كان في الكوفة يقول لأهلها: هذه هي الفتنة التي و عدنا بها فقطعّوا أوتار قسيكم و شيموا سيوفكم و الإمام يفسقه و يسقطه عن الأهلية للتحكيم بدليل أن هذا القول من أبي موسى لا يخلو إما أن يكون صادقا فيه و هنا نقول لما ذا خرج معنا و خروجه لم يكن مكرها عليه و لا مضطرا إليه فيكون خروجه خطأ محضا و لمصلحة ينشدها من ورائه.

و إن كان كاذبا في قوله: «إنها فتنة» لزمته التهمة و صار فاسقا بكذبه و على التقديرين لا يجوز أن يعتمد عليه في قضية خطيرة بمستوى التحكيم.

(فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس و خذوا مهل الأيام و حوطوا قواصي الإسلام ألا ترون إلى بلادكم تغزى و إلى صفاتكم ترمى) اختار الإمام أول ما اختار للتحكيم عند ما فرض عليه اختار الأشتر فرفض الأشعث و أهل العراق و قالوا: و هل سعّر الحرب غير الأشتر.

فقال لهم: اجعلوا ابن عباس هو الحكم فرفضوا و قالوا: لا نبالي كنت أنت أم ابن عباس ثم قالوا: نريد رجلا يكون منك و من معاوية على حد سواء و أشاروا عليه بأبي موسى الأشعري فرفض الإمام و أصر على الرفض و بيّن لهم عدم نصح الأشعري له و عدم ثقته به و لكنهم أصروا على الإمام و أكرهوه على القبول به كما أكرهوه على أصل التحكيم و قال الإمام كلمته: «لقد جاؤني بأبي موسى مبرنسا»... فالإمام يقول لأصحابه: إن أبيتم إلا التحكيم فليكن ابن عباس في مواجهة بن العاص فإنه الشاطر اللبيب الذي لا يعقد ابن العاص عقدة إلا و يحلها ابن عباس و لكنهم رفضوا فخسروا... رفضوا ابن عباس و اختاروا أبا موسى فلم يحكم بالحق و لا بالعدل و ذهب الحق ضحية انحراف الحكمين و عدم حكمهما بالعدل... انفض التحكيم بالشتائم بين الحكمين حيث قال أبو موسى لابن العاص بعد الخدعة مثلك مثل الكلب فأجابه ابن العاص و مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا...

ثم أمرهم أن ينتظروا الأيام المقبلة و فسحتها فسيجدون الحق معهم و إلى جانبهم.

كما أمرهم أن يدافعوا عن أطراف البلاد الإسلامية التي هي تحت حكم الإمام و يحفظوها من غزو الأعداء و اعتداءاتهم و أخيرا أثار حميتهم للدفاع عن بلادهم و وجودهم بقوله: «ألا ترون إلى بلادكم تغزى» فهذه جنود معاوية تغير على أطراف بلادكم بل وصلت غاراتها إلى أطراف عاصمة الإمام فكيف يرضى الغيور بهذا الغزو المذل المهين.

ص: 105

و كيف ترضون إلى صفاتكم ترمى أي إلى بلدكم و هي الكوفة التي تقيمون فيها و التي هي عنوان مجدكم و مركز قوتكم التي يعجز أحد عن النيل منها و مع ذلك معاوية يغير على أطرافها و يرميها بجنوده و يشن عليها غاراته فكيف ترضون بذلك أو تقبلون به.

ترجمة أبي موسى الأشعري.

«أبو موسى الأشعري» هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر...

أمه امرأة من عك أسلمت و ماتت بالمدينة.

أسلم زمن النبي ثم عاد إلى قومه و عاد مع ناس من الأشعريين على رسول اللّٰه فوافوا قدوم جعفر و من معه من الحبشة.

استعمله النبي على بعض اليمن كزبيد و عدن و أعمالهما و استعمله عمر على البصرة بعد المغيرة كما استعمله عثمان على الكوفة و عند ما تولى الإمام علي الخلافة انحرف عنه أبو موسى و خذّل الناس في الكوفة و معروف بانحرافه عن علي.

ثم كان أحد الحكمين في قضية التحكيم و قد فرض على الإمام فحذرهم منه و صرّح بأنه ليس له بثقة و لكن الخوارج أصروا على أن يكون أحد الحكمين و قد تم الأمر بينه و بين ابن العاص على عزل علي و معاوية و إرجاع الأمر شورى بين المسلمين فلم يحكما بالعدل و على كل حال قدمه عمرو خدعة منه فخلع الإمام من الخلافة و لما قام عمرو أثبت معاوية فيها فتنابزا أبو موسى شبّهه بالكلب و عمرو شبه أبا موسى بالحمار و بين الحمار و الكلب ضاعت الوحدة و تمزقت الأمة.

مات أبو موسى سنة اثنين و خمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان.

ص: 106

239 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يذكر فيها آل محمد - صلى الله عليه و آله - هم عيش العلم، و موت الجهل. يخبركم حلمهم عن علمهم، و ظاهرهم عن باطنهم، و صمتهم عن حكم (1) منطقهم. لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه. و هم دعائم (2) الإسلام، و ولائج (3) الاعتصام (4). بهم عاد الحقّ إلى نصابه (5)، و انزاح (6) الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته (7).

عقلوا الدّين عقل (8) و عاية و رعاية (9)، لا عقل سماع و رواية. فإنّ رواة العلم كثير، و رعاته قليل.

اللغة

1 - الحكم: جمع حكمة الكلام الموافق للحق، صواب الأمر و سداده.

2 - الدعائم: الأركان.

3 - الولائج: جمع وليجة الموضع الذي يعتصم به.

4 - الاعتصام: الالتجاء و الامتناع و اعتصم باللّٰه امتنع بلطفه من المعصية.

5 - نصاب الحق: أصله و مستقره.

6 - انزاح: زال.

7 - المنبت: الأصل.

8 - عقل الوعاية: حفظ في فهم.

9 - و عقل الرعاية: الحيطة عليه و دفع الشبهات عنه.

الشرح

(هم عيش العلم و موت الجهل) صفات أهل البيت لا تعدّ و لا تحصى و مآثرهم لا يمكن أن يجمعها قلم أو قرطاس و ما قيمة قلم قاصر عاجز من إنسان ممكن

ص: 107

أمام قمة شامخة إنهم ثلة تولى اللّٰه مدحهم و الثناء عليهم و هل يبقى مجال لأحد بعد حديث اللّٰه ؟ نعم لا يبقى عليه إلا أن يحمل كلام اللّٰه و سفراءه و يكون له هذا الشرف في هذا الحمل الكريم...

أهل البيت أكمل الناس على الإطلاق فإذا أراد أن يكون لهذا الإنسان مثل أعلى يتطلع نحوه و يتحرك باتجاهه فهم أهل البيت عليهم السلام...

و الإمام يذكر بعض أوصافهم حسب ما اقتضت به الضرورة و حكمت به تلك الأحوال يذكر أنهم هم عيش العلم و موت الجهل بهم يحيى العلم و ينتعش و يتحرك و هذا ما يحكيه واقعهم و ما صدر عنهم فاقرأ الإسلام في أوسع مجالاته الفقهية و العقيدية و السياسية و الاجتماعية و غيرها فإنك تجد الموسوعات العلمية الصادرة عن أهل البيت بحيث أحيوا الدين و تعاليمه و نشروا أحكام الإسلام و قوانينه... إنهم عيبة علم اللّٰه و مستودع سره... تفجر العلم من جوانبهم فكانوا أربابه و سادته... إليهم يقصد المتعطشون و عن أيديهم يرتوي الظامئون.

و في المقابل هم موت الجهل فلا يبقى في الأمة جهل و أهل البيت يعيشون...

لقد كشفوا حجب الجهل و العمى و أوضحوا مغاليق الأمور و صعابها... لقد أماتوا الجهل بتعاليمهم و أحكامهم و ما بثوه في الناس من علم...

(يخبركم حلمهم عن علمهم و ظاهرهم عن باطنهم و صمتهم عن حكم منطقهم) قد تقرأ الشيء من نظيره و تحكم بالنتيجة من مقدماتها و قد تقرأ و تحكم على الشيء من خلال ظاهره و بعض مواصفاته و أهل البيت تقرأهم في صفة من صفاتهم و تحكم عليهم كما تقرأهم في جميع صفاتهم...

فمن حلمهم و رزانتهم و معرفتهم بمواقع الحلم و متى يكون تقرأ علم أهل البيت و علو منزلتهم في هذا المضمار فهم حلماء علماء...

و تقرأهم في باطنهم من خلال ظاهرهم فإن سمتهم و هديهم يحكي عن باطنهم و عمقهم فهم فقهاء الأمة و حملة الإسلام و الدين و هذا يدل على تقواهم و صلاحهم و حسن قيادتهم.

(و صمتهم عن حكم منطقهم) لأن من يعرف متى يصمت و يسكت يعرف متى يتكلم فيكون السكوت في محله و هو يدل على حسن المنطق عند ما يتكلمون فلو تكلم في موضع الصمت لم يكن الصمت عن حكمة و هذا خلاف المفروض...

ص: 108

(لا يخالفون الحق و لا يختلفون فيه) فهم مع الحق و الحق معهم يميلون حيث مال و يدور هو حيث داروا... بل هم الحق روحا و جسدا شكلا و مضمونا مظهرا و جوهرا فكيف يجري في حقهم خلاف الحق.

كما أنهم لا يختلفون فيه بل هم جميعا يصدرون عن عين واحدة و يتكلمون بمنطق واحد و ينطقون عن لسان واحد اختلف الزمان و المكان و بقيت كلمتهم واحدة.

(و هم دعائم الإسلام) هم أركان هذا الدين عليهم يقوم و يرتفع، و أهل البيت كانوا الحفظة لهذا الدين و الذابّين عنه ألسنة الجاحدين و المعاندين و المنافقين... إنهم الأركان التي تحفظ هذا الدين و ترعاه من الانهيار و السقوط.

(و ولائج الاعتصام) من عاد إلى أهل البيت و احتمى بحماهم أمن من الزيغ و الانحراف و أمن من عذاب اللّٰه و عقابه... بهم يأمن الإنسان شر الدنيا و عذاب الآخرة...

(بهم عاد الحق إلى نصابه و انزاح الباطل عن مقامه و انقطع لسانه عن منبته) أشار عليه السلام إلى خلافته و حكمه و أن بحكمه عاد الحق إلى مكانه و موقعه الطبيعي حيث كان بنو أمية قد تسلطوا على رقاب الأمة و استولوا على ممتلكاتها و سلبوا بيوت أموالها و أفسدوا البلاد و العباد و عاثوا في الأرض الفساد فعند ما تولى الإمام الحكم اجتث أصول الفساد و أعاد الحق إلى مكانه و أعطاه لأهله، كفّ أيدي الأمويين بل عمد إلى كل مال تسلطوا عليه و أخذوه بدون حق فانتزعه منهم و رده إلى أصحابه.

و بهذا ارتفع الباطل من بين الناس و سقط عما كان عليه كما أن من كان يدافع عنه قد خرس و لم يعد في مقام الدفاع عنه لسقوط الحجة منه بسقوط الحكم الأموي الفاسد.

(عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية فإن رواة العلم كثير و رعاته قليل) أهل البيت ليسوا نقلة أحاديث و رواة لها فحسب بل إنهم الوعاة الرعاة لها فهم أهل الإسلام و الدين فهموه فهما حقيقيا و صحيحا كما يجب و طبقوه في المجالات العملية و السلوكية... فهم ليس كغيرهم ممن حملوا الرواية و تركوا الدراية سمعوا الحديث فنقلوه و لم يعرفوا معناه و مضمونه...

هم وعاة الدين منهم يؤخذ و عن أيديهم يكون... استخلفهم النبي قادة للدين و الدنيا يحفظون الدين من التحريف و التخريب و ينشرونه بين الناس و يؤدونه إلى الخلق و يرعونه حق رعايته من حيث تطبيقه و تنفيذه و المحافظة عليه و الاهتمام به و هم يمتازون

ص: 109

عن غيرهم و لا يقاس بهم أحد من الأمة... و كم هو الفرق الجلي بين الأئمة من أهل البيت الذي كان كل همهم حفظ الإسلام و رعايته و نشره بين الناس و بين غيرهم ممن انصرفوا إلى الدنيا و قاتلوا من أجلها و لم يهتموا بغيرها...

ثم أشار أخيرا إلى حقيقة منتشرة بين الناس و هي أن رواة العلم كثير و لكن رعاته قليل الذين يحفظون كثيرون... يحفظون عن ظهر قلب و يرددون في المجالس و التجمعات و اللقاءات... و لكن ما أقل من يرعى هذا العلم و يطبقه على نفسه و يسعى لتطبيقه في الخارج... إنهم قلة تنحصر بأهل البيت...

ص: 110

240 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله لعبد الله بن العباس، و قد جاءه برسالة من عثمان، و هو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع (1)، ليقلّ هتف الناس باسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال عليه السلام:

يابن عبّاس، ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملا ناضحا (2) بالغرب (3): أقبل و أدبر! بعث إلىّ أن أخرج، ثمّ بعث إليّ أن أقدم (4) ثمّ هو الآن يبعث إليّ أن أخرج! و اللّٰه لقد دفعت عنه حتّى خشيت أن أكون آثما (5).

اللغة

1 - ينبع: على وزن ينصر قرية كبيرة بها حصن على سبع مراحل أو أربعة من المدينة.

2 - الناضح: البعير يحمل عليه الماء لسقي الزرع.

3 - الغرب: بفتح الغاء و سكون الراء الدلو العظيمة.

4 - أقدم: إيت من قدم البلد إذا أتاها.

5 - الآثم: العاصي من الإثم و هي المعصية.

الشرح

(يابن عباس ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب أقبل و أدبر بعث إليّ أن أخرج ثم بعث إليّ أن أقدم ثم هو الآن يبعث إليّ أن أخرج و اللّٰه لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما) كلامه عليه السلام استهجان على عثمان و ما كان يمارسه في حقه و هذا نموذج لأفعال عثمان التي كان يقوم بها ثم يتراجع عنها تحت الضغط الأموي المتمثل بمروان و العصابة الأموية ثم يعود فيفعلها ثم يعتذر منها، يأخذ عثمان على نفسه أن يرفع الظلم عن الناس و يكف عنهم أيدي الأمويين من عماله و لكنه يتراجع عن ذلك

ص: 111

و يبقي الأمور كما هي فتزداد النقمة عليه و تشتد المعارضة فيعلن توبته من جديد ثم يعود لممارسة مظالمه و هكذا دواليك حتى أجهز عليه عمله و قضت عليه ممارساته...

لقد كان عثمان ضعيفا أمام مروان و الأمويين إلى حد أنهم انتزعوا منه القرار و أصبحوا هم الخليفة فعلا و حقيقة بينما أضحى عثمان خليفة رمزا و شكلا.

حصر الثوار عثمان و ضيقوا عليه و لم يقدر أن يتخلص من قبضتهم و عقابهم فنظر فلم يجد إلا عليا ظن أنه وراء هذه الأحداث أو ظن أنه يستطيع وحده أن يوقف زحفهم و يمنعهم من إكمال ما يريدونه فلذا طلب من الإمام بواسطة ابن عباس أن يخرج الإمام من المدينة إلى أرضه بينبع التي كانت ملكا للإمام فخرج الإمام فازدادت النقمة على عثمان و كثر الهتاف باسم الإمام فعاد عثمان ليطلب عودة الإمام فعاد ثم أراد عثمان من الإمام أن يخرج من جديد فقال عليه السلام هذه المقالة التي تحمل العتاب و الاستهجان و قبح هذا التصرف الذي لا يستند إلى أساس شرعي و لا عقلي و لا عرفي...

«يا ابن عباس ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب» يريد أن يسلبني إرادتي و حريتي و يحوّلني إلى آلة مسخرة لمشيئته أتصرف كما يريد و كما يجب طبقا لإرادته و ما يشتهي إذا قال: أقبل يجب أن أقبل و إذا قال: أدبر يجب أن أدبر، شبّه حاله عليه السلام بالبعير المسخّر لنقل الماء ليس له حرية الحركة و لا حرية الاختيار.

ثم فسر ذلك بقوله: أقبل و أدبر بعث إليّ أن أخرج ثم بعث إليّ أن أقدم ثم هو الآن يبعث إليّ أن أخرج...

ثم أقسم عليه بقوله: «و اللّٰه لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما» خشي الإمام من الإثم لأنه كان يدفع المهاجمين و الثائرين على عثمان... إنه كان يدفعهم لعله يتوب و يرجع فإذا به يتمرد و يعصي و يصر على موقفه الخاطئ و حق له أن يخشى الإثم مع إصرار الطرف الآخر على الخطأ...

ص: 112

241 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يحث به أصحابه على الجهاد و اللّٰه مستأديكم (1) شكره و مورّثكم (2) أمره (3)، و ممهلكم (4) في مضمار (5) محدود، لتتنازعوا (6) سبقه (7)، فشدّوا (8) عقد (9) المآزر (10)، و اطووا (11) فضول (12) الخواصر (13)، و لا تجتمع عزيمة (14) و وليمة (15). ما أنقض (16) النّوم لعزائم اليوم، و أمحى الظّلم (17) لتذاكير (18) الهمم!.

و صلى اللّٰه على سيدنا محمد النبي الأمي، و على آله مصابيح الدجى و العروة الوثقى، و سلم تسليما كثيرا.

اللغة

1 - مستأديكم: طالب منكم الإداء.

2 - مورثكم: مملككم من الإرث و هو انتقال مال الميت إلى ورثته.

3 - أمره: أرضه و سلطانه.

4 - ممهلكم: معطيكم مهلة و أمهله إذا أنظره و أجّله.

5 - المضمار: أصله المكان الذي تحضر فيه الخيل للسباق، أو زمانه و مضمار الإنسان عمره.

6 - لتتنازعوا: لتتنافسوا.

7 - السبق: بالتحريك ما يوضع بين المتنافسين ليأخذه السابق.

8 - شدوا: أربطوا.

9 - العقد: جمع عقدة الرباط.

10 - المآزر: جمع مئرز ما يسترك و هو قطعة من ثلاث يكفن بها الميت.

11 - أطووا: من الطي و هو الثني، ضد النشر.

12 - الفضول: الزوائد.

ص: 113

13 - الخواصر: جمع الخاصرة جنب الإنسان فوق رأس الورك.

14 - العزيمة: من العزم و هي الهمة العالية، الصبر و الثبات.

15 - الوليمة: طعام العرس أو كل طعام صنع لدعوة أو كل طعام صنع لجمع.

16 - انقض: من نقض الشيء إذا حلّه.

17 - الظلم: جمع ظلمة، الليل.

18 - التذاكير: جمع التذكرة الأمور التي تذكرك بالشيء.

19 - الهمم: جمع الهمة العزم القوي.

الشرح

(و اللّٰه مستأديكم شكره و مورثكم أمره و ممهلكم في مضمار محدود لتتنازعوا سبقه) حث لأصحابه أن يتركوا الدعة و الاسترخاء و يشمروا عن سواعد الجد و النشاط.

و بيّن عليه السلام أن اللّٰه سوف يطلب منهم أن يؤدوا إليه شكره على نعمه و أفضل الشكر أن يعرف الإنسان مواقع نعم اللّٰه فيضعها موضعها و يقوم بالطاعات و يجتنب المحرمات.

ثم بيّن أنه إذا التزمتم بما أمر و أديتم حق الشكر للّٰه سوف تكونون أصحاب الكلمة الإلهية تنفذون أمره و تحكمون بإرادته و أسند الكلمة إليهم باعتبارهم المباشرين بالتنفيذ.

و ممهلكم في مضمار محدود لتتنازعوا سبقه: ترك لكم فسحة زمنية و هي مدة أعماركم تستطيعون أن تقرروا خلالها آخرتكم و تصلوا إلى ما تحبون أو تكرهون...

إنكم تتسابقون في هذه المدة من أعماركم لتحصلوا على جائزة ثمينة إنها الجنة و ما فيها فهذا السباق من أجل هذا الهدف و هو هدف يستحق كل تعب و كل جهاد...

(فشدّوا عقد المآزر و أطووا فضول الخواصر) شمروا عن سواعد الجد و ارفعوا الموانع التي تعرقل مسيرتكم نحو الفوز بهذا الكأس و الظفر بهذه النتيجة، كنى عما قلناه بشد عقد المآزر باعتبار أن من ربط مئزره سهل عليه القراع و الضراب و ملك حرية الحركة التي كان الإزار يمنعه منها و كذلك من طوى الزوائد من ثيابه أمن العثار بها و الوقوع من جرائها...

(و لا تجتمع عزيمة و وليمة) لا تجتمع الهمم العالية التي تنشد معالي الأمور و كبيرها مع الاشتغال بالشهوات و الرغبات و ما يحب الإنسان و يطلب فإن البطون إذا

ص: 114

كانت هي الحاكمة على الناس و هي الموجهة لهم و بيدها الأمر و النهي ضاعت مطالبهم الرفيعة و أهدافهم الكبيرة.

(و ما أنقض النوم لعزائم اليوم) صيغة تعجب تفيد ما تقدم من أن الشهوات تميت الأمور الكبيرة و أن الاسترخاء يقتل الطموح و ما يريد الإنسان إنجازه و القيام به.

و بعضهم فسرها بأن النوم يغير مجرى تفكير الإنسان و ما يعزم عليه من فعل، و مثّل لذلك بأن الإنسان إذا كان يعيش مأساة و يريد مثلا القيام بجريمة فإنه عند ما ينام و يسترخي و ترتاح أعصابه يرجع إلى عقله و تعود إليه رويته فيعدل عما كان قد عزم عليه من الجريمة...

و قيل: إن أصل ذلك أن الإنسان يعزم في النهار على المسير بالليل ليقرب المنزل فإذا جاء الليل نام إلى الصباح فانتقض بذلك عزمه فضربه مثلا لمن يعزم على تحصيل الأمور ثم ينام عنها و لا يسعى في سبيل تحصيلها...

(و أمحى الظلم لتذاكير الهمم) و هذا مفاده كالذي تقدم فإنك إذا أردت إنجاز ما تتذكره من معالي الأمور يأتي الظلام فيمحو كل ذلك و يذهب به أدراج الرياح...

إلى هنا تمت خطب سيدنا و مولانا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد شرحها العبد الفقير إلى اللّٰه عباس علي الموسوي (أبو علي) و قد سجلت نهايتها مساء يوم الأربعاء الواقع في الرابع من شهر ذي القعدة الحرام من سنة 1412 هجرية الموافق السادس من شهر أيار سنة 1992 ميلادية في شقتنا الواقعة في منطقة حارة حريك من ضواحي بيروت العامرة و أسأل اللّٰه بحرمة هذه الكلمات العلوية أن يوفقني لاتمام شرح ما تبقى من نهج البلاغة كما أسأله أن يثيبنا عليها و يجعلها وسيلتنا يوم الدين يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى اللّٰه بقلب سليم و الحمد للّٰه رب العالمين...

ص: 115

ص: 116

باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام

اشارة

باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، و رسائله إلى أعدائه و أمراء بلاده، و يدخل في ذلك ما اختير من عهوده إلى عماله و وصاياه لأهله و أصحابه

ص: 117

ص: 118

1 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة من عبد اللّٰه عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، جبهة (1) الأنصار (2)، و سنام (3) العرب.

أمّا بعد، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعه كعيانه (4). إنّ النّاس طعنوا (5) عليه، فكنت رجلا من المهاجرين (6) أكثر استعتابه (7)، و أقلّ عتابه (8)، و كان طلحة و الزّبير أهون (9) سيرهما فيه الوجيف (10)، و أرفق (11) حدائهما (12) العنيف (13). و كان من عائشة فيه فلتة (14) غضب، فأتيح له (15) قوم فقتلوه، و بايعني النّاس غير مستكرهين (16) و لا مجبرين، بل طائعين مخيّرين.

و اعلموا أنّ دار الهجرة (17) قد قلعت بأهلها و قلعوا بها (18)، و جاشت (19) جيش المرجل (20)، و قامت الفتنة على القطب (21)، فأسرعوا إلى أميركم، و بادروا (22) جهاد عدوّكم، إن شاء اللّٰه عزّ و جلّ .

اللغة

1 - الجبهة: ما بين الحاجبين إلى قصاص مقدم الرأس و تطلق كما هنا على الأشراف و الرؤساء.

2 - الأنصار: الأعوان.

3 - السنام: بفتح أوله و الجمع أسنمة حدبة في ظهر البعير و يشبه الرفيع العظيم بالسنام.

ص: 119

4 - العيان: بالكسر كالضراب، الرؤية و عاينه معاينة إذا شاهده.

5 - طعنوا فيه: عابوه و في الأصل الضرب بالرمح.

6 - المهاجرين: هم الصحابة الذين تركوا مكة و هاجروا مع النبي إلى المدينة.

7 - استعتبه: استرضيه.

8 - العتاب: اللوم و التعنيف على الأمور.

9 - أهون: أيسر و أخف و أسهل.

10 - الوجيف: السير السريع.

11 - أرفق: من الرفق لين الجانب و اللطف.

12 - الحداء: غناء للإبل تسرع عند سماعه.

13 - العنيف: الشديد من السير و القول، المعاملة بشدة.

14 - الفلتة: الهفوة، الأمر الصادر عن شخص بدون تدبر.

15 - أتيح له: قدّر له و تهيأ.

16 - استكرهت الشيء: كرهته و غير مستكرهين غير مجبرين.

17 - دار الهجرة: مدينة الرسول.

18 - قلعت بهم الدار: فارقتهم و لم تصلح لهم و هذا منزل قلعة بالضم أي ليس بمستوطن.

19 - جاشت: اضطربت.

20 - المرجل: القدر وعاء يطبخ فيه.

21 - القطب: المركز الذي تدور عليه الأمور.

22 - بادروا: أسرعوا.

الشرح

(من عبد اللّٰه علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار و سنام العرب) هذه الرسالة تكشف حال عثمان و ما كان عليه من الظلم و كيف أن الصحابة هم الذين ألّبوا الناس عليه و حثوهم على الخلاص منه، و فيها أيضا إيضاح لموقف الإمام منه و نصحه له و في ختامها بيان و إيذان بظهور الفتنة و دعوة إلى الجهاد معه...

من عبد الله و العبودية أشرف مرتبة وصف اللّٰه بها أخلص عباده فقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا... و نبه الناس إليها حينما قال: و اذكر عبدنا أيوب... و اذكر عبدنا داود و هكذا فالأنبياء هم أشد الناس عبودية للّٰه و أخلصهم له و أن الخلق بمقدار تعبدهم للّٰه و عبوديتهم له يكون تحررهم من كل ما عداه.

إن الابتداء بذكر عبوديته للّٰه هو اعتراف منه و هو الخليفة و على رأس السلطة أنه

ص: 120

عبد الله و إن تولى الأمر و أصبح الأمر بيده و في هذا أيضا تواضع للّٰه به يكبر الإنسان و يعظم...

ثم وصف أهل الكوفة بأنهم سادة الأعوان و أشرافهم و أعظم العرب و أعلاهم.

(أما بعد فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه إن الناس طعنوا عليه فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه و أقل عتابه) بأبلغ عبارة و أوجزها يكشف الإمام حقيقة عثمان أمام أهل الكوفة... إنه يصف واقعه حتى يصبح وصفه لأحواله كأنهم يرونها رأي العين بحيث تزول كل شبهة و ترتفع كل غشاوة و يصبح الأمر لديهم كفلق الصبح بل أوضح و ملخصه أن الناس طعنوا عليه أي عابوه بتصرفاته و أعماله و ما كان يمارسه من قبيح الأعمال و ما أجمل قوله: «إن الناس» أي عامة المجتمع.

و أجمل منه قوله: فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه و أقل عتابه أي كنت من جملة المهاجرين الذين لهم الحل و العقد و بهم قام عمود الدين أكثر من الأمور التي يمكن أن ترضيه و ليس فيها غضب للّٰه، أبيّن له وجه الأمور التي تصلحه و تنفعه و كنت في المقابل أقلل من ذكر عيوبه و ما يوجب النقمة عليه حيث إن همّ الإمام الإصلاح و ليس نشر العيوب و إذاعتها و تعنيف أصحابها و توبيخهم...

أما العيوب التي عابه الناس بها فهي أمور كثيرة أذكر أهمها:

1 - أوطأ بني أمية رقاب الناس و ولاهم الولايات و أقطعهم القطايع.

2 - افتتحت إفريقية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان.

3 - طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم.

4 - أعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله قد سيّره ثم لم يرده أبو بكر و لا عمر و أعطاه مائة ألف درهم.

5 - تصدق رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزوز على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم.

6 - أقطع مروان فدك و قد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها تارة بالميراث و تارة بالنحلة فدفعت عنها.

7 - حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية.

8 - أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء اللّٰه عليه من فتح إفريقية بالمغرب

ص: 121

و هي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

9 - أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في نفس اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف.

10 - أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني أمية.

11 - تسييره لأبي ذر صاحب رسول اللّٰه إلى الربذة حيث مات في أرض غربة.

12 - ضربه لعبد اللّٰه بن مسعود حتى كسر أضلاعه.

13 - كتابته الكتاب الذي يأمر فيه بقتل جماعة من المسلمين.

هذه عينات من المخالفات التي ارتكبها و قد حاول المصلحون رده عنها و التوبة منها فأبى...

و كما يقول ابن أبي الحديد: «و أمير المؤمنين عليه السلام أبرأ الناس من دمه»(1)و قد صرح بذلك في كثير من كلامه من ذلك قوله عليه السلام: «و اللّٰه ما قتلت عثمان و لا مالأت على قتله» و صدق صلوات اللّٰه عليه.

(و كان طلحة و الزبير أهون سيرهما فيه الوجيف و أرفق حدائهما العنيف) مواقف طلحة و الزبير من عثمان معروفة مشهورة، فقد روى البلاذري من طريق ابن سيرين: لم يكن من أصحاب النبي صلى اللّٰه عليه و آله أشد على عثمان من طلحة.

و نقل ابن أبي الحديد في شرحه: كان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه - على عثمان - و كان الزبير دونه في ذلك رووا أن الزبير كان يقول: اقتلوه فقد بدّل دينكم فقالوا له: إن ابنك يحامي عنه بالباب فقال: ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدىء بابني إن عثمان لجيفة على الصراط غدا.

و قول الإمام فيهما: أهون سيرهما فيه الوجيف و أرفق حدائهما العنيف مثل يضرب للمشمرين في الطعن عليه حتى أن السير السريع أبطأ ما يسيران في أمره و الحداء العنيف أرفق و أيسر ما يحرضان به عليه فهما في أشد ما يكونان عليه.

(و كان من عائشة فيه فلتة غضب فأتيح له قوم فقتلوه و بايعني الناس غير مستكرهين و لا مجبرين بل طائعين مخيّرين) أخذ أم المؤمنين عائشة ما يأخذ النساء من الضغن فراحت تشن الحرب على عثمان فقد روى الدينوري في الإمامة و السياسة: إن عائشة كانت أول من طعن على عثمان و أطمع الناس فيه و كانت تقول لابن عباس: إن اللّٰه قد أعطاك عقلا و فهما و بيانا فإياك أن0.

ص: 122


1- ابن أبي الحديد ج 1 ص 200.

ترد الناس عن هذا الطاغية و هي التي أخرجت ثوبا من ثياب رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله فنصبته في منزلها و كانت تقول للداخلين عليها هذا ثوب رسول اللّٰه لم يبل و عثمان قد أبلى سنته.

و قالوا: أول من سمى عثمان نعثلا - اسم رجل يهودي بالمدينة - عائشة و كانت تقول:

اقتلوا نعثلا قتل اللّٰه نعثلا... فكانت الحرب الإعلامية يقودها طلحة و الزبير و أم المؤمنين و قد كان لهم قدرة على نشر فضائح عثمان و ذكر معايبه حتى وصلت الأنباء إلى جميع الناس و عمت الشكاوى سائر طبقات المجتمع الإسلامي فتداعى عندها المخلصون لردعه و كفه فلم يفلحوا في ذلك فما كان منهم إلا أن أجهزوا عليه و قضوا على حياته و بعد أن قتل عثمان أقبل الناس نحو الإمام فهو الرجل الوحيد التي تتوجه الأنظار إليه و تحنّ إلى حكمه و عدله.

لقد زحفت الجماهير نحوه تطلب منه أن تبايعه فكان يدفعها لما يعلم من تطورات ستجري على الساحة و ما تحمل هذه الحادثة من الفتن و لكن تحت شدة الطلب و الإلحاح قبلها على أن تكون في المسجد أمام الملأ و بالاختيار التام الكامل و هكذا كان هجمت الجماهير على بيعته و قد بايعه طلحة و كانت أول يد تبايعه و قد تشاءم منها الناس لأنها شلاء ثم بايعه الزبير و هكذا سائر من حضر حتى أن نفرا توقفوا عن البيعة كعبد الله بن عمر و غيره لم يجبرهم على بيعته و لم يحملهم عليها بالقوة بل تركهم و شأنهم فقد كانت بيعة الناس له عن رغبة منهم فيه و عن اندفاع و لم يستكره أحدا أو يجبره و إذا وقعت البيعة بهذه الصورة كانت ملزمة للجميع فليس للحاضر الذي بايع أن يرجع و ينكث و ليس للغائب البعيد أن يختار و بهذا أصبح الإمام الخليفة الشرعي الذي يحق له إدارة حكم البلاد و يكون كل من يخرج عليه يخرج على السلطة الشرعية يجب قتاله ورده إلى اللّٰه و هكذا كانت سيرة الإمام استتابهم فلم يتوبوا أو يرجعوا فأعلن الحرب عليهم...

(و اعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها و جاشت جيش المرجل و قامت الفتنة على القطب فأسرعوا إلى أميركم و بادروا جهاد عدوكم إن شاء اللّٰه عز و جل) هذه خاتمة الكتاب يحثهم على الخروج معه و لقائه لحرب الناكثين يذكر أهل المدينة الذين خرجوا منها معه و تركوها للجهاد و بيّن أن المدينة قد اضطربت و تحركت كل قواها غضبا للّٰه إنها تغلي كما يغلي القدر و تتحرك بسرعة و غضب منزعجة مما حدث و حصل.

ثم أخبرهم أن الفتنة قد وقعت تريد أن تقضي على القطب - المركز الأساس الذي تدور عليه الأمور و هو محورها - يريد شخصه الشريف لأنه قطب الإسلام و بيده الأمور و منه تصدر... و ربما يريد أن الفتنة قد تحركت و دارت و إذا كان الأمر كذلك فكان الهلاك و الدمار و أخيرا أمرهم بأن يسرعوا إلى استجابته في جهاد عدوهم الذي يريد أن يفكك عرى الوحدة و يمزق شمل الأمة...

ص: 123

2 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إليهم، بعد فتح البصرة و جزاكم (1) اللّٰه من أهل مصر (2) عن أهل بيت نبيّكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، و الشّاكرين لنعمته، فقد سمعتم و أطعتم، و دعيتم فأجبتم.

اللغة

1 - جزاكم: من جزى الرجل بكذا و على كذا كافأه.

2 - المصر: القطر.

الشرح

(و جزاكم اللّٰه من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته و الشاكرين لنعمته فقد سمعتم و أطعتم و دعيتم فأجبتم) هذا الكتاب من الإمام لأهل الكوفة يشكر سعيهم و يثني على طاعتهم و انقيادهم فإنه عليه السلام المعلم و المهذب و المؤدب لا يفوته مدحهم و الثناء عليهم كي يشد عزائمهم و يدفعهم إلى الخروج معه متى أراد مضافا إلى أن النفس ترتاح إذا سمعت الثناء و تندفع في طريق الخير إذا وجدت من يعرف قيمتها و يحترم عملها و موقفها...

دعا لهم أن يعطيهم اللّٰه أحسن ما يعطي العاملين بطاعته الشاكرين لنعمته فإنهم قد أعطوا الطاعة و شكروا النعمة و سمعوا منه و أطاعوا أمره و دعاهم إلى الجهاد فلبوا و أسرعوا لقتال الأعداء...

ص: 124

3 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

لشريح بن الحارث قاضيه و روي أن شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السلام، اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا، فبلغه ذلك، فاستدعى شريحا، و قال له:

بلغني أنّك ابتعت (1) دارا بثمانين دينارا، و كتبت لها كتابا، و أشهدت (2) فيه شهودا.

فقال له شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فنظر إليه نظر المغضب ثم قال له:

يا شريح، أما إنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، و لا يسألك عن بيّنتك (3)، حتّى يخرجك منها شاخصا (4)، و يسلمك (5) إلى قبرك خالصا (6).

فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدّار من غير مالك، أو نقدت الثّمن (7) من غير حلالك! فإذا أنت قد خسرت دار الدّنيا و دار الآخرة! أمّا إنّك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النّسخة، فلم ترغب في شراء هذه الدّار بدرهم فما فوق.

و النسخة هذه: «هذا ما اشترى عبد ذليل، من ميّت قد أزعج (8) للرّحيل، اشترى منه دارا من دار الغرور (9)، من جانب الفانين، و خطّة (11) الهالكين (11). و تجمع هذه الدّار حدود أربعة: الحدّ الأوّل ينتهي إلى دواعي (12) الآفات (13)، و الحدّ الثّاني ينتهي إلى دواعي المصيبات (14)، و الحدّ الثّالث ينتهي إلى الهوى المردي (15)، و الحدّ الرّابع ينتهي إلى

ص: 125

الشّيطان المغوي (16)، و فيه يشرع (17) باب هذه الدّار. اشترى هذا المغترّ (18) بالأمل، من هذا المزعج بالأجل (19)، هذه الدّار بالخروج من عزّ القناعة (20)، و الدّخول في ذلّ الطّلب و الضّراعة (21)، فما أدرك (22) هذا المشتري فيما اشترى منه من درك (23)، فعلى مبلبل (24) أجسام الملوك، و سالب (25) نفوس الجبابرة (26)، و مزيل (27) ملك الفراعنة (28)، مثل كسرى (29) و قيصر (30)، و تبّع (31) و حمير (32)، و من جمع المال على المال فأكثر، و من بنى و شيّد (33)، و زخرف (34) و نجّد (35)، و ادّخر (36) و اعتقد (37)، و نظر (38) بزعمه للولد، إشخاصهم (39) جميعا إلى موقف العرض (40) و الحساب، و موضع الثّواب و العقاب: إذا وقع الأمر بفصل (43) القضاء «وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ » شهد (44) على ذلك العقل إذا خرج من أسر (45) الهوى، و سلم من علائق (46) الدّنيا».

اللغة

1 - ابتعت: اشتريت.

2 - أشهدت فلانا: جعلته شاهدا.

3 - البينة: الحجة، ما يظهر به الشيء و ينكشف.

4 - الشاخص: الذاهب و الراحل و شخص بصره إذا فتحه و صار لا يطرف.

5 - يسلمك: يسلمك و يعطيك.

6 - خالصا: صافيا محضا.

7 - نقدت الثمن: أي أعطيته أياه نقدا معجلا.

8 - أزعج: سيق و شخص.

9 - الغرور: الباطل.

10 - الخطة: بالكسر الأرض يختطها الرجل لنفسه و هو أن يعلّم علامة ليبنيها دارا و المراد هنا البقعة و الناحية.

11 - الهالكين: الفانين، الميتين.

12 - الدواعي: الأسباب.

ص: 126

13 - الآفات: جمع آفة و هي الداء الذي يصيب الشيء.

14 - المصيبات: جمع مصيبة البلية و كل أمر مكروه.

15 - المردي: المهلك من الردى و هو الهلاك.

16 - المغوي: من الإغواء و المغوي المضل.

17 - يشرع: يفتح.

18 - اغتر: انخدع.

19 - الأجل: الوقت، وقت الموت.

20 - القناعة: الرضى بما قسم له.

21 - الضراعة: الذلة.

22 - أدرك: لحق.

23 - الدرك: بالتحريك التبعة.

24 - مبلبل الأجسام: مهيجها و موقعها في الهم و وسواس الصدور.

25 - سالب: من سلب الشيء إذا انتزعه بالقهر و القوة.

26 - الجبابرة: الملوك أو يكون الملوك أحد مصاديق الجبابرة.

27 - مزيل: رافع.

28 - الفراعنة: ملوك مصر.

29 - كسرى: لقب ملك الفرس.

30 - قيصر: لقب ملك الروم.

31 - تبّع: جمعه تبابعة ملوك اليمن.

32 - حمير: بكسر أوله و فتح ثالثه أبو قبيلة من اليمن.

33 - شيد: رفع البناء.

34 - زخرف الشيء: زيّنه و حسنه.

35 - نجّد: بتشديد الجيم زيّن.

36 - أدخر: خبأ ما اكتسب.

37 - اعتقد مالا: جمعه و العقدة الضيعة و العقار.

38 - نظر للولد: أعانه ورثاه.

39 - إشخاصهم: إخراجهم و أشخص فلانا إلى قومه إذا أرجعه إليهم.

40 - عرض الشيء: أراه إياه.

عليه و له 41 - الفصل: إبانة أحد الشيئين من الآخر.

42 - يوم الفصل: يوم القيامة.

43 - فصل القضاء: إبانة الحكم و إظهاره و تميز الحق من الباطل.

ص: 127

44 - شهد على كذا: أخبر به خبرا قاطعا، شهد به العقل و حكم به.

45 - الأسر: القيد و الحبس.

46 - العلائق: جمع علاقة، الارتباط بالشيء.

الشرح

اشارة

(بلغني أنك ابتعت دارا بثمانين دينارا و كتبت لها كتابا و أشهدت فيه شهودا) رقابة علوية دائمة تكشف حركة عماله و مسيرتهم... إنه الحاكم العادل الذي لا يغفل عن كل صغيرة أو كبيرة يقوم بها الموظفون و من هم تحت أمرته و في ضمن إدارته...

و هذه موعظة بليغة و درس رائع يلقيه إلى بعض من يمكن أن يكون قد انحرف في بعض تصرفاته و استغل مكانته الاجتماعية و وظيفته التي تولاها ليثري على حساب الحق و يغتني من الحرام...

هذا هو شريح بن الحارث القاضي على ثغر الكوفة و قد تولى هذا المنصب منذ زمن طويل يشتري دارا بثمانين دينارا فيبلغ الخبر مسامع الإمام فيهزه النبأ و تتحرك في نفسه الشكوك فيستدعي شريحا و يقول له:

بلغني إنك ابتعت دارا بثمانين دينارا أي وصلني خبر أنك اشتريت دارا بثمانين دينارا و كتبت لها كتابا ينقلها إليك و يثبت ملكيتها لك و أشهدت في ذلك شهودا حتى يثبت البيع و يكون لك حجة على لزومه و انتقالها إليك.

و يسمع شريح مقالة الإمام و ما وصله من الخبر فيقول شريح: كان ذلك يا أمير المؤمنين، لقد وقع ذلك كما سمعت و ما بلغك هو الصحيح...

يقول الراوي: فنظر الإمام إلى شريح نظر المغضب... و غضب الإمام و نظرته تلك لم تكن إلا لأنه يحتمل أن يكون شريحا قد امتدت يده إلى الحرام أو خالف أمرا إلهيا أو ارتشى حتى جمع هذا المبلغ الذي اشترى به هذه الدار... إنها نظرة غاضبة للّٰه و ليس لنفسه ثم قال له:

(يا شريح، أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا و يسلمك إلى قبرك خالصا) بعد أن نظر الإمام إلى شريح مغضبا التفت إليه بهذه الكلمات التي تمس عمق النفس و تذكر الإنسان بحقيقة لا بد له من الوصول إليها... نبهه إلى أمر سيدركه و يأتيه، إنه الموت أو ملك الموت الذي سيحل

ص: 128

بساحته بدون إذن منه و لا ينظر في هذا الكتاب و لا يسأل عن الحجة الشرعية فيه و ليس بمقدور هذا الملك أن يخلّد صاحبه في الدنيا بل سيأتي الموت فيخرجك عن هذه الدار قهرا عنك مرفوعا على أكف الناس في نعشك يضعك في قبرك وحيدا فريدا قد تركت جميع ما ملكت و تخليت عن كل ما سعيت له... بدون مال و لا عقار و لا أهل و لا ولد...

(فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك أو نقدت الثمن من غير حلالك فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا و دار الآخرة أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النسخة فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوق) انظر يا شريح لدينك و دنياك فإنك إن كنت قد اشتريت هذه الدار من مال الناس أو من المال الحرام فإنك ستقع في خسران الدنيا من جهة أنني سأستردها منك و يفتضح أمرك و تسقط منزلتك من النفوس و إما خسران الآخرة فلأن الآخرة لا تكتسب إلا بالعمل الصالح و ارتكابك للحرام لا يؤهلك لاكتساب الآخرة السعيدة فالحرام تخسر به الآخرة...

ثم نبهه إلى أمر و هو أنه لو أتاه قبل شرائه هذه الدار لكتب إليه كتابا زهده في شرائها و لم يعد يقدم عليها بدرهم فما دون زهدا بها و عدم رغبة.

ثم بيّن له ما كان يريد أن يكتبه إليه...

(هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت قد أزعج للرحيل اشترى منه دارا من دار الغرور، من جانب الفانين و خطة الهالكين) هذه هي الديباجة التي تكتب في صكوك التمليك و البيع المتعارفة عند أهل الدين و الشرع يكتبون اشترى فلان من فلان دارا أو عقارا أو غيرهما ثم يذكر حدود ما اشترى من جهاته الأربع.

و ابن أبي الحديد يقول: إنه عليه السلام أملى عليه كتابا زهديا و عظيا مماثلا لكتب الشروط التي تكتب في ابتياع الأملاك ثم يقول... و هذا يدل على أن الشروط المكتوبة الآن قد كانت في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها إلا أنا ما سمعنا عن أحد منهم نقل صيغة الشرط الفقهي إلى معنى آخر كما قد نظمه هو عليه السلام و لا غرو فما زال سباقا إلى العجائب و الغرائب...

و على كل حال ابتدأ - كما هي العادة - بذكر المشتري: هذا ما اشترى عبد ذليل لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا من ميت قد أزعج للرحيل البائع ميت قد أخرج من دار الدنيا إلى الآخرة باعتبار أن الموت له بالمرصاد و لا مناص له منه.

ص: 129

ثم بيّن الأمر المشتري اشترى دارا من دار الغرور... إنها دار تغرّ الإنسان و تغويه و تجذبه إليها فيطمئن ثم تصرعه بعد ذلك فتدعه ميتا.

إنها دار منتقلة عن الفانين و الهالكين... من ناحيتهم قد جاءت و عنهم قد انتقلت و هم هلكى و من أهل الفناء...

(و تجمع هذا الدار حدود أربعة: الحد الأولى ينتهي إلى دواعي الآفات و الحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات و الحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي و الحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي و فيه يشرع باب هذه الدار) هذه الحدود هي ما نراه في الدنيا...

فكل دار تنتهي إلى ذلك فهناك الحد الأول الذي ينتهي إلى أسباب العاهات التي تهلك الإنسان و الحد الثاني ينتهي إلى أسباب المصيبات و فقد الأحبة و فراق الأعزة و الحد الثالث يوصل الإنسان إلى الهلاك و الحد الرابع ينتهي بهذا الإنسان إلى الشيطان المغوي الذي يقوده إلى المعصية و الانحراف و من هذا الحد الرابع يفتح باب هذه الدار فيدخلها كل فساد و معصية لأنه باب داخل في حد الشيطان المغوي...

(اشترى هذا المغتر بالأمل من هذا المزبالأجل هذه الدار بالخروج من عز القناعة و الدخول في ذل الطلب و الضراعة) اشترى هذا المغتر بالأمل و هو شريح الذي كان يأمل أن يعمّر طويلا و يتمتع كثيرا اغترارا منه و غفلة اشترى من هذا الرجل الذي انتهى أجله في دار الدنيا و أوشك على الرحيل عنها اشترى هذه الدار التي أخرجته من عز القناعة إلى ذل الحاجة لأن من لم يقنع بالقليل امتد بصره إلى الكثير و هذا يكلفه التنازل عن كثير من كرامته من أجل الوصول إلى بغيته...

(فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى منه من درك فعلى مبلبل أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة و مزيل ملك الفراعنة مثل كسرى و قيصر و تبع و حمير و من جمع المال على المال فأكثر و من بنى و شيّد و زخرف و نجد و ادخر و اعتقد و نظر بزعمه للولد) بيّن عليه السلام أن هذا المشتري يدرك ما يلحقه من نقص يكون في هذه الدار يدرك ذلك عند اللّٰه و على اللّٰه أن يوقف الجميع للحساب و يفصل بين الحق و الباطل...

فما يعرض من نقص فعلى اللّٰه ضمانه الذي أهلك أجسام الملوك و بعثرها و بددها و كتب عليها الفناء. و سلب نفوس الطغاة و أزال ملك الفراعنة مثل كسرى فارس و قيصر الروم و تبع ملك اليمن و حمير أحد ملوك العرب و من جمع المال على المال فأكثر و أوعى و من بنى الأبنية و شيد المباني العالية وزين البيوت و علاها أو فرشها بما يزينها من السجاد و البسط، و كذلك من اكتسب المال و ادخره ليوم الحاجة و اقتنى الضياع و العقار و غيرها

ص: 130

و نظر بزعمه للولد أي نظر فيما يصلحهم بعده و ما يوفر لهم حياة السعادة...

(أشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب و موضع الثواب و العقاب إذا وقع الأمر بفصل القضاء و خسر هنالك المبطلون) إن على اللّٰه الذي بيده كل ما تقدم من الأمور إشخاصهم أي إخراجهم جميعا... إنه سبحانه سيحضر البائع و المشتري في ساحة المحكمة و عندها تعرض الأعمال و الأقوال و الأفعال و يحاسب فيها الناس فيأخذ المطيع جزاءه من الثواب و يأخذ العاصي جزاءه من العقاب و هناك يفصل في الحكم فلا تبقى قضية معلقة لم تفصل أو مجهولة غير معروفة الوجه... إن اللّٰه إذا أمر بالحساب انتهت كل الأمور و انكشفت كل القضايا على حقيقتها و هنالك يخسر المبطلون و يربح المحقون...

و أخيرا قال: إن العقل إذا لم يحكمه الهوى و الشهوة و تشده الدنيا بما فيها من مال و جاه و سلطان و غيرها مما يحكم التوجه الصحيح سوف يحكم بما قلت و يذهب إلى ما شرحت و بينت...

ترجمة شريح بن الحارث الكندي.

شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع - بالتشديد للتاء - الكندي...

و في أسد الغابة: إنه أدرك النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - و لم يلقه... استقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة فقضى بها أيام عمر و عثمان و علي و لم يزل بها قاضيا إلى أيام الحجاج فاستعفاه من العمل فأعفاه بقى قاضيا ستون سنة و قال ابن عبد البر: و كان شاعرا محسنا و هو أحد السادات الطلس(1).

و كان شريح خفيف الروح مزاحا دخل عليه عدي بن أرطأة فقال له: أين أنت أصلحك اللّٰه.

فقال: بيني و بينك الحائط.

قال: استمع مني.

قال: قل أسمع.

ص: 131


1- الأطلس: الذي لا شعر في وجهه.

قال: إني رجل من أهل الشام.

قال: من مكان سحيق.

قال: تزوجت عندكم.

قال: بالرفاء و البنين.

قال: و أردت أن أرحلها.

قال: الرجل أحق بأهله.

قال: و شرطت لها دارها.

قال: الشرط أملك.

قال: فاحكم الآن بيننا.

قال: قد فعلت.

قال: فعلى من حكمت.

قال: على ابن أمك.

قال: بشهادة من ؟.

قال: بشهادة ابن أخت خالتك.

و شريح هذا هو الذي رد قوم هاني بن عروة عند ما أحاطوا بقصر الإمارة لما بلغهم مقتله فأخبرهم بسلامته فعادوا...

و هذا هو أيضا الذي لم ينصر الحسين ابن بنت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - على الطغاة الظالمين...

و في أخبارنا أنه عمل قاضيا للإمام في الكوفة و لكن اشترط عليه الإمام أن لا يمضي حكما حتى يراجعه فيه.

ص: 132

4 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى بعض أمراء جيشه فإن عادوا إلى ظلّ الطّاعة فذاك الّذي نحبّ ، و إن توافت (1) الأمور بالقوم إلى الشّقاق (2) و العصيان فانهد (3) بمن أطاعك إلى من عصاك، و استعن بمن انقاد (4) معك عمّن تقاعس (5) عنك، فإنّ المتكاره (6) مغيبه (7) خير من مشهده (8)، و قعوده أغنى من نهوضه.

اللغة

1 - توافت: تمت و اجتمعت.

2 - الشقاق: المخالفة و العداوة.

3 - أنهد: أنهض.

4 - انقاد: أطاع.

5 - تقاعس: أبطأ و تأخر.

6 - المتكاره: المتسخط الذي يتثاقل لكراهته للحرب.

7 - مغيبه: غيابه و عدم وجوده.

8 - مشهده: حضوره.

الشرح

(فإن عادوا إلى ظل الطاعة فذاك الذي نحب و إن توافت الأمور بالقوم إلى الشقاق و العصيان فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك و استغن بمن انقاد معك عمّن تقاعس عنك فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده و قعوده أغنى من نهوضه) هذه رسالة إلى والي البصرة و في بعض الشروح استنادا إلى بعض المصادر أنه عثمان بن حنيف الذي تولاها

ص: 133

من قبل الإمام و كان أصحاب الجمل قد وافوه فكتب إلى أمير المؤمنين يخبره بخبرهم فكتب الإمام إليه هذه الرسالة...

إن أصحاب الجمل قد نكثوا البيعة و فارقوا الجماعة و خرجوا عصاة للّٰه متمردين على الحاكم الشرعي فعليك أن تعظهم و تخوفهم فإن عادوا و رجعوا عن تمردهم و التحقوا بصفوف الجماعة و دخلوا مع الأمة فذاك الذي نحب لأن تمردهم يضر بالأمة و يفتت الوحدة فإن رجعوا فهذا الذي نحبه و نريده و هو مطلبنا الأساس.

و أما إذا رفضوا العودة عن الخطأ و التقوا كلهم و توحدت آراءهم و اجتمعوا يدا واحدة على الفرقة و شق عصا المسلمين فانهض إليهم بمن معك و لا تكره أحدا لا يريد القتال...

ثم قسّم الناس كما هم في واقع الحال إلى ثلاثة أقسام قسم معك يؤيدونك و يقاتلون معك و قوم ضدك و يبغون حربك خارجون على حكمك، و قوم متقاعسون يكرهون القتل و القتال جبناء عن ملاقاة الأعداء.

و هنا الإمام يوجهه إلى أن ينهض بمن معه و على رأيه إلى من هو ضده من عدوه الذي يريد حربه و يعصي أمره فيواجهه في ساحة الجهاد و النضال... قاتل بمن معك من هم عليك و اترك أهل التقاعس و الجبن و لا تستكره منهم أحدا فإن هؤلاء إذا غابوا عن الساحة كان غيابهم أفضل من حضورهم، و جلوسهم في بيوتهم خيرا من خروجهم، لأنهم يملكون روح الانهزام و التثبط و الإحباط فيخشى أن ينشروا هذه الروح بين المقاتلين فيكون خطرهم كبيرا و من هنا يكون قعودهم أفضل من قيامهم و غيابهم أحسن من حضورهم و هذا ما أخبر القرآن عنهم في قوله: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مٰا زٰادُوكُمْ إِلاّٰ خَبٰالاً» (1).8.

ص: 134


1- سورة التوبة، آية - 48.

5 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أشعث بن قيس عامل أذربيجان (1) و إنّ عملك ليس لك بطعمة (2) و لكنّه في عنقك أمانة، و أنت مسترعى (3) لمن فوقك. ليس لك أن تفتات (4) في رعيّة (5)، و لا تخاطر (6) إلاّ بوثيقة (7)، و في يديك مال من مال اللّٰه عزّ و جلّ ، و أنت من خزّانه (8) حتّى تسلّمه إليّ ، و لعلّي ألاّ أكون شرّ و لا تك لك، و السّلام.

اللغة

1 - أذربيجان: اسم أعجمي غير مصروف و النسبة إليه أذري.

2 - الطعمة: بضم الطاء المأكلة.

3 - مسترعى: على هيئة المفعول أي من استرعاه آخر فوقه أي طلب حفظ أمر من الأمور.

4 - تفتات: مضارع أفتأت و أصله فأت و أفتأت برأيه استبد.

5 - الرعية: المرعية عامة الشعب.

6 - تخاطر: من المخاطرة و هي الإقدام على الأمور العظام و الإشراف فيها على الهلاك.

7 - الوثيقة: ما يحتاط به المرء لنفسه من صك أو تعهد أو رهن أو غير ذلك.

8 - الخزّان: جمع خازن و هو الذي يتولى حفظ المال المخزون.

الشرح

(و إن عملك ليس لك بطعمة و لكنه في عنقك أمانة و أنت مسترعى لمن فوقك) هذه رسالة كتبها الإمام إلى الأشعث بن قيس و قد كان عاملا لعثمان عند ما قتل

ص: 135

و لما تولى الإمام الأمر و رأى الأشعث يتصرف في الأموال كيفما يشاء و حسبما يريد كتب إليه هذا الكتاب يقول له فيه:

إن عملك و ما تجنيه منه من خراج و جباية و أموال أهل الذمة و غيرها ليس ملكا شخصيا لك تجمعه و تتصرف فيه كما تشاء... و إنما هو أمانة - لأنه من الأموال العامة - التي هي ملك المسلمين و ترجع إليهم و أنت حافظ له و مؤتمن عليه يجب أن تراعي المصلحة فيه قد وضعك من فوقك راعيا عنه و أنت مسئول أمامه عن كل تصرف تقوم به فيه... فأنت مسئول أمام الخليفة الذي جعلك مسؤولا عن هذه الأموال و هو فوقك يسألك عنه و يحاسبك عن كل تصرف فيه...

(ليس لك أن تفتات في رعية و لا تخاطر إلا بوثيقة) و هذه لفتة كريمة و توجيه عظيم... إنها التعاليم التي يجب لكل من تولى أمرا أن يحفظها و يرعاها و ينفذ مدلولها... و هي أن العامل ليس له أن يستبد في الأمور المالية للرعية و يتصرف في أموالها مستقلا دون أن يراجع ولي الأمر و الخليفة لأن الدولة لها سياستها المالية و مشاريعها و خططها فيجب أن يكون ولي الأمر على كامل الإطلاع في سياسة المال حتى يضع الثروة في محلها اللازم... و كذلك نبهه إلى أن من الواجب عليه أن لا يخاطر في هذا المال و يعرضه للهلكة و التلف بل يجب عليه أن يأخذ به وثيقة تحفظه لئلا يضيع فإذا أقرض أحدا يجب أن يكتب عليه كتابا يحفظ بموجبه هذا المال...

(و في يديك مال من مال اللّٰه عز و جل و أنت من خزانه حتى تسلّمه إليّ و لعلي ألاّ أكون شر و لا تك لك و السلام) ثم قرّر أن بين يدي الأشعث مال من أموال اللّٰه و هو لعباد اللّٰه و أنت من خزانه و حفظته و مسئول عنه حتى تسلمه إليّ فكل نقص يطرأ عليه تحاسب به و تسأل عنه حتى تسلمه إليّ كما استلمته من أربابه ثم أشار إلى أنه عليه السلام - و فيه شيء من الإيناس و تطيب الخاطر بعد البيان السابق - لن يكون أقسى الخلفاء عليه و أشدهم إذا لزم الحق و اتبعه. و هكذا يقرر الإمام أن يحاسب عماله و لا يتركهم في فوضى كل واحد منهم يستقل في عمله و يطمئن إلى ما يقوم به دون محاسب أو رقيب.

ص: 136

6 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشّاهد (1) أن يختار، و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشّورى (2) للمهاجرين (3) و الأنصار (4)، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما كان ذلك للّٰه رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن (5) أو بدعة (6) ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين (7)، و ولاّه اللّٰه ما تولّى.

و لعمري، يا معاوية، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ النّاس من دم عثمان، و لتعلمنّ أنّي كنت في عزلة (8) عنه إلاّ أن تتجنّى (9)، فتجنّ ما بدا لك! و السّلام.

اللغة

1 - الشاهد: الحاضر.

2 - الشورى: فعلى من المشاورة و هي الحوار في الكلام ليظهر الحق و شاورته و استشرته راجعته لأرى رأيه فيه.

3 - المهاجرين: هم المسلمون الذين تركوا مكة و هاجروا إلى المدينة زمن رسول اللّٰه.

4 - الأنصار: هم المسلمون الذين يسكنون المدينة و قد استقبلوا النبي عند قدومه إليها.

5 - الطعن: العيب.

6 - البدعة: ما أحدث على غير مثال، إدخال ما ليس في الدين على أنه منه.

7 - سبيل المؤمنين: طريقهم و ما هم عليه.

ص: 137

8 - العزلة: الاعتزال و هو الانفراد عن الناس.

9 - تجنى عليه: رماه بإثم لم يفعله.

الشرح

(إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد) هذه الرسالة بعثها الإمام إلى معاوية مع جرير بن عبد اللّٰه البجلي و فيها بيان بعض الخصوصيات التي أحاطت بالإمام و تم فيها انتخابه.

إنه قد بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و هم المهاجرون و الأنصار و جميع المسلمين المقيمين في المدينة على ما بايعوهم عليه من لزوم الطاعة و جهاد العدو و الإعانة على البر و التقوى و حفظ الدين و حياطته و رعاية المسلمين و توفير مواردهم و إسعادهم في دنياهم و آخرتهم و كل ما يريده اللّٰه منهم و إذا تمت البيعة فليس للحاضر و هو الذي عبّر عنه الشاهد المبايع أن يختار غيري لأن الاختيار إنما يكون قبل إتمام البيعة أما بعدها فلا كما أنه ليس للغائب البعيد عن المدينة أن يرد ما انعقدت عليه البيعة أو يرفض ذلك.

(و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار فإن اجتمعوا على رجل و سموه إماما كان ذلك للّٰه رضى) إذا تم اتفاق المهاجرين و الأنصار على رجل لإمامة المسلمين فقد تعين إماما و كان في ذلك الاختيار للّٰه رضى فإنهم لا يجتمعون على باطل قطعا لوجود الإمام معهم لأنه سيدهم و رأسهم، أو كان هو نفسه مختارهم للخلافة فإن وجوده معهم يعصمهم عن الخطأ.

(فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين و ولاه اللّٰه ما تولى) بعد اجتماع المهاجرين و الأنصار على رجل و رضاهم به إماما لهم فإن خرج بعد ذلك على اجتماعهم هذا خارج عليهم بأن طعن عليهم فيمن اختاروا و لم يوافق عليه و يرضاه أو جاء ببدعة جديدة مخالفة لذلك الإجماع بأن بايع لخليفة آخر مع إتمام البيعة للأول ردوه إلى الجماعة و أعادوه إلى رشده و أدخلوه في ظلال الطاعة و لزوم الجماعة فإن أبي العودة و الرجوع إلى ما خرج منه و أصر على موقفه المتمرد فإن على المسلمين أن يقاتلوه لمخالفته سبيل المؤمنين و ما تمّ عليه اجتماعهم و ولاه اللّٰه ما تولى تركه و ما اختاره من السوء من حيث إن هذه المخالفة عاقبتها النار و بئس القرار و هذا مأخوذ من قوله تعالى: «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ »

ص: 138

«اَلْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً» و كأن هذا يستبطن التهديد لمعاوية إن تمرد أو خالف ما اجتمع عليه المهاجرون و الأنصار و هو إمامة أمير المؤمنين.

(و لعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان و لتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى فتجنّ ما بدا لك و السلام) أقسم عليه السلام بحياته تعزيزا لما يقوله و تقوية له أنه لو نظر معاوية بعين عقله و فكر قليلا و تخلى عن هواه و ميوله لوجد الإمام أبرأ الناس و أطهرهم من دم عثمان و قد كان معتزلا لم يشارك في قتله و لم يحرض على ذلك كما فعل غيره من المسلمين كطلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة و عمرو بن العاص و غيرهم من الأقطاب الذين عابوه و حرضوا على قتله ثم أرادوا أن يستثمروا دمه لمصالحهم الشخصية و منافعهم الدنيوية.

ثم قال له: إن هذا هو موقفي و إذا أردت أن تفتري عليّ زورا و بهتانا فافتري عليّ بما تشاء و كيفما تشاء فإنك لن تضرني بشيء.

هذا هو موقف الإمام و هو معروف مشهور كل من يحترم نفسه و دينه و رأيه و نزاهته يذهب إليه و يكفي لبراءته و طهارة ساحته ما هو معروف من مبدئيته و قدسيته و أنه لو لم يكن أبرأ الناس ما تبرأ أبدا نفهم هذا و نعقله من علي و سيرته طيلة حياته...

ص: 139

7 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إليه أيضا أمّا بعد، فقد أتتني منك موعظة موصّلة (1)، و رسالة محبّرة (2)، نمّقتها (3) بضلالك، و أمضيتها (4) بسوء رأيك، و كتاب امرىء ليس له بصر (5) يهديه، و لا قائد يرشده، قد دعاه الهوى فأجابه و قاده الضّلال فاتّبعه، فهجر (6) لا غطا (7)، و ضلّ (8) خابطا (9).

و منه: لأنّها بيعة واحدة لا يثنّى (10) فيها النّظر، و لا يستأنف فيها الخيار.

الخارج منها طاعن، و المروّي (11) فيها مداهن (12).

اللغة

1 - موصّلة: من وصل الشيء بالشيء أي لأمه بمعنى ربطه و المراد هنا ملفقة من هنا و هناك غير مترابطة.

2 - محبّرة: مزيّنة.

3 - التنميق: التزيين.

4 - أمضيتها: أنفذتها أو من الإمضاء بمعنى التوقيع.

5 - البصر: العين، و المراد هنا بصر القلب.

6 - الهجر: الهذيان.

7 - اللاغط: ذو اللغط و هو الكلام غير البيّن لما فيه من الجلبة و الاختلاط.

8 - ضلّ : لم يهتد.

9 - الخبط: الحركة على غير نظام.

10 - لا يثنّى: لا ينظر فيها ثانيا بعد النظر الأول.

11 - المرويّ : المتفكر في قبوله الشيء و رفضه.

12 - المداهن: المنافق، المصانع.

ص: 140

الشرح

(أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصّلة و رسالة محبّرة نمقتها بضلالك و أمضيتها بسوء رأيك) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى معاوية ردا على رسالة كان معاوية قد كتبها إليه و في هذه الرسالة حملة عنيفة على معاوية و على رسالته لما فيها من الهجر و الهوى و الإسفاف و من سيئات الزمن أن يكتب علي لمعاوية و يصبح هذا الصعلوك - و معاوية كما هو معروف من الصعاليك - ندا يقف في وجه ابن أبي طالب و لكنها الدنيا الدنية...

يكتب الإمام إلى معاوية يخبره أن رسالته قد وصلت إليه و فيها موعظة غير مترابطة و لا متلاحمة و لم تقع في محلها و لم تخرج من معدنها...

معاوية الطليق ابن الطليق الذي ضربه الإمام حتى أدخله الإسلام كرها يوجه رسالة إلى الإمام يعظه فيها... و هل هذه الموعظة إلا على مستوى موعظة الكافرين للأنبياء...

إنها رسالة فيها موعظة لكنها ملتقطة من هنا و هناك لا يجمعها نظام و لا يوحّدها هدف لأن عليا ليس فيه مغمز يستطيع معاوية أن يدخل منه إلى موعظته...

إنها رسالة محبرة منسقة مزينة ظاهرها أنيق مطلية بطلاء يظهر منه الجودة و إن كانت في الداخل فاسدة...، إنها رسالة زينها معاوية بضلاله حيث احتال على العبارة فأظهرها بمظهر الموعظة و إن كانت في عمقها تدل على الانحراف و سوء النية و القصد القبيح...

فهو ربما نطق بكلمة الحق ليقتل الحق و ربما لهج بالإسلام من أجل القضاء على الإسلام و هذه الرسالة منمقة و مزينة بألفاظ منها التقوى و إن كانت في عمقها تحمل السم و الانحراف و الاستغلال، إنه أنفذها بما يحمل من رأي سيئ يقصده من ورائها و يسعى إليه من خلفها...

(و كتاب امرىء ليس له بصر يهديه و لا قائد يرشده قد دعاه الهوى فأجابه و قاده الضلال فاتبعه فهجر لا غطا و ضل خابطا) إنه كتاب رجل لم ينظر بعقله إلى مواقع الهداية و الرشد لقد فقد التفكير في السبل الآيلة إلى سعادة الآخرة فلا قائد من دين أو ضمير يأخذ به إلى الاستقامة و العدل و من شدة خطره أنه استجاب لأهوائه و شهواته و ميوله بمجرد أن دعته هذه إلى الانحراف و الرذيلة... لقد قاده الضلال - بدل الهدي و الرشد - فاتبعه دون مناقشة أو ردّ أو إشكال أو توقف فكان حديثه و منه كتابه هذا بحمل اللغط

ص: 141

و الهذيان و لا يكاد يفهم لسوئه و انحرافه... إنه يتحرك على غير هدى من اللّٰه و لا طريق له يرشده إلى الخير...

(لأنها بيعة واحدة لا يثنّى فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار الخارج منها طاعن و المرويّ فيها مداهن) أخبرها أنها بيعة واحدة قد تمت و كملت و استجمعت شرائط صحتها فلا يجوز أن يعاد النظر فيها مرة أخرى... يعنى ليست محلا للشك و لا يجوز أن تكون مورد الأخذ و الرد.

كما أنها ليست بعد وقوعها موردا لخيار ترد أو تبطل فيه... إنها مستحكمة لازمة في أعناق الجميع...

و إذا لزمت و استقرت فمن خرج منها فهو طاعن فيها معيب لها يستحق أن يؤدب و يعاقب و يرد إلى الطاعة و لا يجوز أن يخرج عليها أو يعيبها...

و أما المتروي الذي يفكر في قبولها و عدم القبول بعد وقوعها فهو منافق لأنه بعد وقوعها و إتمامها و تعيين الخليفة يكون المتروي فيها و المترقب الذي يرصد الأحداث المستجدة يكون منافقا لا يريدها واقعا و لذا يتربص حتى ينقض عليها فهو يتوقف عن إبداء الرأي و عن مساندتها و الوقوف إلى جانبها لذلك...

ص: 142

8 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية (1) على الفصل (2)، و خذه بالأمر الجزم (3)، ثمّ خيّره بين حرب مجلية (4)، أو سلم مخزية (5) فإن اختار الحرب فانبذ إليه (6)، و إن اختار السّلم فخذ بيعته و السّلام.

اللغة

1 - احمل على الأمر: ألزمه به و حمله على الأمر أغراه به.

2 - الفصل: الحكم القطعي و بدون تردد و أصله القطع و إبانة أحد الشيئين عن الآخر.

3 - الجزم: القطع.

4 - المجلية: من الإجلاء و هو الإخراج من الوطن قهرا.

5 - المخزية: المهينة، المذلة.

6 - انبذ إليه: أعلن عليه الحرب و أصل النبذ الإلقاء و الرمي.

الشرح

(أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل و خذه بالأمر الجزم ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية فإن اختار الحرب فانبذ إليه و إن اختار السلم فخذ بيعته و السلام) هذه الرسالة موجهة إلى جرير بن عبد الله البجلي رسول الإمام إلى معاوية في الشام و كان الإمام قد أرسله لأخذ البيعة و لكن معاوية استعمل معه سياسة التأخير و التسويف و أخذ يماطل جريرا و يدافعه فلما استبطأ الإمام ذلك كتب هذه الرسالة.

إذا أتاك كتابي فلا تترك معاوية يتلاعب بك و يؤخرك و يماطلك و لا يعطيك الجواب

ص: 143

الحاسم بل ألزمه بالقول الفصل و اجعله يختار و يحسم أمره بين إعطاء البيعة أو إعلان الحرب، إما الحرب التي تخرجه عن الشام و تجليه عنها و إما السلم المخزية لأنه أعطى الطاعة و رضي البيعة بعد تريث و تأخير و لم يكن السبّاق في التسليم بالأمر و المبادرة للبيعة و من تأخر عن المبادرة ليس له إلا العزل المخزي...

ثم أمره أنه إذا اختار الحرب فأعلنها عليه و ارميها إليه أي آذنه بها و قد شبهه بالكافرين إذا أراد الحرب و مصداقا لقوله تعالى: «وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىٰ سَوٰاءٍ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْخٰائِنِينَ » .

ثم إذا اختار البيعة فليأخذ البيعة منه كما أخذت من المسلمين...

ص: 144

9 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية فأراد قومنا قتل نبيّنا، و اجتياح (1) أصلنا (2)، و همّوا بنا الهموم و فعلوا بنا الأفاعيل (3)، و منعونا العذب (4)، و أحلسونا (5) الخوف، و اضطرّونا (6) إلى جبل وعر (7)، و أوقدوا (8) لنا نار الحرب، فعزم اللّٰه (9) لنا على الذّبّ (10) عن حوزته (11)، و الرّمي من وراء حرمته (12). مؤمننا يبغي (13) بذلك الأجر (14)، و كافرنا يحامي (15) عن الأصل. و من أسلم من قريش خلو (16) ممّا نحن فيه بحلف (17) يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه (18)، فهو من القتل بمكان أمن.

و كان رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - إذا احمرّ البأس (19) و أحجم (20) النّاس، قدّم أهل بيته فوقى (21) بهم أصحابه حرّ السّيوف (22) و الأسنّة (23)، فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر (24)، و قتل حمزة يوم أحد (25)، و قتل جعفر يوم مؤتة (26). و أراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الّذي أرادوا من الشّهادة، و لكنّ آجالهم (27) عجّلت، و منيّته (29) أجّلت.

فيا عجبا للدّهر! إذ صرت يقرن (30) بي من لم يسع (31) بقدمي (32)، و لم تكن له كسابقتي (33) الّتي لا يدلي (34) أحد بمثلها، إلاّ أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه، و لا أظنّ اللّٰه يعرفه. و الحمد للّٰه على كلّ حال.

و أمّا ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك، فإنّي نظرت في هذا الأمر،

ص: 145

فلم أره يسعني دفعهم إليك و لا إلى غيرك، و لعمري لئن لم تنزع (35) عن غيّك (36) و شقاقك (37) لتعرفنّهم عن قليل يطلبونك، لا يكلّفونك (38) طلبهم في برّ و لا بحر، و لا جبل و لا سهل، إلاّ أنّه طلب يسوءك (39) وجدانه (40)، و زور (41) لا يسرّك لقيانه (42)، و السّلام لأهله.

اللغة

1 - الاجتياح: الاستئصال و الهلاك.

2 - أصلنا: الأصل أسفل الشيء ما يقابل الفرع.

3 - الأفاعيل: الإساءات، الأفعال المنكرة.

4 - العذب: السائغ الطيب من العيش و الشراب و غيرها.

5 - أحلسونا: من الحلس و هو كساء رقيق يكون تحت بردعة البعير و هنا يقصد به ألزمونا.

6 - اضطرونا: ألجئونا.

7 - الوعر: المكان الصلب الغليظ أو المخيف، ضد السهل.

8 - أوقد النار: أشعلها و الحرب أدارها.

9 - عزم الأمر: جد فيه و العزم الثبات و الشدة.

10 - الذبّ : الدفع و المنع.

11 - الحوزة: الناحية و حوزة اللّٰه دينه و شريعته.

12 - الحرمة: ما لا يحلّ انتهاكه.

13 - يبغي: يطلب.

14 - الأجر: الثواب.

15 - يحامي: يدافع.

16 - خلو: خال.

17 - الحلف: العهد.

18 - يقوم دونه: يدفع عنه و يحامي فلا يسمح لأحد بالوصول إليه.

19 - احمرار البأس: اشتداد القتال.

20 - أحجم الناس: تأخروا و نكصوا.

21 - وقى بهم: صان و ستر عن الأذى أي دفع بهم عن غيرهم.

22 - حر السيوف: شدة وقعها.

ص: 146

23 - الأسنة: جمع السنان نصل الرمح.

24 - بدر: بالفتح ثم السكون ماء مشهور بين مكة و المدينة و فيه كانت أولى غزوات النبي ضد قريش.

25 - أحد: بضم أوله و ثانيه معا اسم لجبل ظاهر المدينة كانت عنده الغزوة المشهورة.

26 - مؤتة: موضع جنوبي شرقي بحر لوط كانت الواقعة بين المسلمين و الروم.

27 - آجالهم: جمع الأجل و هو وقت الموت.

28 - عجلت: أسرعت.

29 - المنية: الوفاة، الموت.

30 - يقرن بي: يجعل لي قرنا و مشابها و مقابلا و القرن: النظير و الشبيه.

31 - لم يسع: من السعي و هو العمل و المشي.

32 - القدم: ما بين طرف إبهام الرجل و طرف العقب، و القدم التقدم في الأمر و قدم صدق سابقة صدق.

33 - السابقة: يقال له سابقة في هذا الأمر أي إنه سبق الناس إليه.

34 - يدلي: يتوسل.

35 - نزع عنه: كف و ارتدع.

36 - الغي: الضلال.

37 - الشقاق: الخلاف.

38 - لا يكلفونك: من الكلفة و هي المشقة.

39 - يسوءك: ضد يسرّك.

40 - الوجدان: مصدر وجدت كذا أي أصبته.

41 - الزور: الزائر.

42 - لقيانه: بضم اللام و كسرها مصدر من لقيت فلانا أي صادفته و رأيته.

الشرح

اشارة

(فأراد قومنا قتل نبينا و اجتياح أصلنا و هموا بنا الهموم و فعلوا بنا الأفاعيل و منعونا العذب و أحلسونا الخوف و اضطرونا إلى جبل وعر و أوقدوا لنا نار الحرب) هذه الرسالة رد على رسالة لمعاوية كان قد أرسلها إليه يطلب فيها زورا و بهتانا تسليم قتلة عثمان إليه و قد ذكر الإمام خلالها أعمال الهاشميين و جهادهم و بعض مناقبهم و ما مرّ عليهم من القهر و الاضطهاد في ابتداء الدعوة...

ص: 147

يذكر الإمام أن قريشا أرادت قتل النبي و التقت بكل قبائلها على التخلص منه و الانتهاء كليا من الهاشميين الذين وقفوا إلى جانبه و من ألقى نظرة سريعة على ما جرى من أحداث في ابتداء الدعوة و خصوصا في مكة يستكشف مدى الخطر الذي كان يحيق بالنبي و آله و أنه لو لا أبو طالب لم يستطع النبي أن يعلن كلمة الحق و يصرخ في وجه قريش و يدعوها إلى الإيمان و لو قدر على ذلك لم يأمن على نفسه من التلف و لكن وجود أبي طالب الذي أخذ على نفسه حمايته و حماية دعوته كان السند الأساس في ذلك و استطاع النبي أن يصدع بالأمر و يعلن الإسلام دون أن يمس شخصه الشريف بأذى و قد حاربته قريش و حاصرته في الشعب و كتبت صحيفة المقاطعة التي حرمت بموجبها الزواج من الهاشميات و الهاشميين و قطع العلاقات التجارية و الاجتماعية و غيرها و لكن كل ذلك لم يؤثر على النبي و دعوته بل بقي على إصراره و إلى جانبه شيخ الأبطح ينصره و يشد عزيمته...

لقد كانت الأيام صعبة في أشد ما تكون الأيام صعوبة و قد هموا بنا الهموم أي قصدونا بكل الإساءات و الاعتداءات و تجاوزوا حدود الأعراف و القوانين و حاربونا بكل ما يملكون من وسائل.

و منعونا العذب أي الحياة الطيبة العذبة و أي حياة هي تلك التي يحاصر فيها الإنسان مع أهله و أسرته و الأقربين و يمنع من ممارسة حقه في الحرية و الحياة العامة...

يحاصر اقتصاديا و يحارب اجتماعيا و سياسيا...

و أحلسونا الخوف أي جعلونا نعيش في حالة خوف دائمة بحيث عاش الخوف في قلوبنا لأن الحصار الذي فرضته قريش و الصحيفة التي كتبتها لمقاطعة الهاشميين و الأعمال التي كانت تصدر منهم كل ذلك يشكل تهديدا للحياة و الوجود و اضطروا إلى جبل وعر: أي ألزمونا إلى أن ننحاز إلى شعاب مكة و نتخذها مقاما لنا و هي صعبة قاسية.

ثم أخيرا شنوا علينا الحرب أي أعلنوها و قاموا بها.

(فعزم اللّٰه لنا على الذب عن حوزته و الرمي من وراء حرمته مؤمننا يبغي بذلك الأجر و كافرنا يحامي عن الأصل) أراد اللّٰه لنا أن ندفع عن دينه و شريعته و نقاتل من أجل المقدسات التي تتجسد كلها في محمد و رسالته... إننا بني هاشم انتدبنا اللّٰه للدفاع عن الدين المتجسد بالنبي المؤمن منا يدفعه إيمانه و يطلب بذلك الأجر و الثواب و الكافر منا يدفع عن محمد غيرة و حفظا للأنساب من الاستئصال فالحمية كانت تدفع كافرنا للوقوف

ص: 148

في وجه من يريد أن يقتل محمدا أو يستأصله...

(و من أسلم من قريش خلو مما نحن فيه بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه فهو من القتل بمكان أمن) هذا هو الفارق الكبير بين الهاشميين و غيرهم من المسلمين ففي حين كان يتعرض الهاشميون إلى أقسى حملة و أعظم اضطهاد و يهددون بالموت كان من أسلم من قريش في راحة من ذلك لا يتعرض لشيء منه إما بالحلف - العهد - مع إحدى القبائل تمنعه من الأذى أو الضرر أو يكون له عشيرة تدفع عنه و تمنع وصول الأذية إليه و على كل حال كان في محل نجاة من الموت لا يصل إليه و لا يقترب منه عكس الهاشميين الذين تهددهم قريش بالقضاء عليهم و استئصال شأفتهم...

(و كان رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - إذا احمّر البأس و أحجم الناس قدّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف و الأسنة فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر و قتل حمزة يوم أحد و قتل جعفر يوم مؤتة و أراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة و لكنّ آجالهم عجلت و منيته أجلّت) هذه عادة أصحاب الرسالات و المباديء الإنسانية الكبرى إنهم في شدة الأزمات و إذا احتاجت رسالاتهم إلى دماء يقدمون أرواحهم دون رسالاتهم... يقدمون على التضحية بأنفسهم و أعز ما عندهم و أغلى ما يحبون من أجل أهدافهم... و هذا رسول اللّٰه عند ما كان يشتد إوار الحرب و تدور رحاها و يتأخر الناس عن خوضها و الدخول فيها خوفا من الموت كان رسول اللّٰه يقدم أغلى أحبته و أعزهم عنده يحمي بهم أصحابه من السيوف و وقعها...

ثم يذكر بعض تلك المواقع... ففي بدر ندب النبي عمه حمزة و عبيدة بن الحارث و ابن عمه علي بن أبي طالب و قال لهم ابرزوا إلى المشركين فإن الحمل الثقيل لا يقوم به إلا أهله فنهضوا في وجه المشركين و قتل أثناءها عبيدة شهيدا.

و في يوم أحد أراد المشركون استئصال شأفة المسلمين فنهض النبي لهم و قدّم عمه حمزة شهيدا في سبيل اللّٰه و في معركة مؤتة التي كانت بين المسلمين و الروم قدّم النبي جعفرا شهيدا و سماه ذا الجناحين و هكذا نقرأ سيرة العظماء يقدمون أغلى أحبتهم في سبيل الدعوة...

ثم ذكر أنه عليه السلام أراد مثل ما أرادوا من الشهادة و لكن لم تكتب له يومذاك فإن شهادتهم أسرعت إليهم بينما شهادته تأخرت عنه.

(فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي و لم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه و لا أظن اللّٰه يعرفه و الحمد للّٰه على كل

ص: 149

حال) حق لعلي أن يأخذه العجب من الدهر و تقلباته و حق لنا أن نعجب... و أي حدث لا يثير العجب... علي بسابقة إيمانه و جهاده و بذله و عطائه... علي ثالث ثلاثة يقوم بهم الإسلام... علي أول من أسلم و صلى و صام... علي أول من ضرب بسيف في سبيل اللّٰه... علي بطل الإسلام و سيفه و فتاه... على صاحب راية رسول اللّٰه في كل الغزوات... علي أصبح يقرن به غيره ممن أسلم خوف السيف... يقرن بعلي معاوية الطليق الذي ضربه الإمام حتى استسلم بل يقرن بعلي غيره من الخلفاء الذين لا يملكون سابقته و جهاده و نضاله... إنه حقا شيء يثير العجب.

يقول ابن أبي الحديد قوله: «إذ صرت يقرن بي ما لم يسع بقدمي» إشارة إلى معاوية في الظاهر و إلى من تقدم عليه من الخلفاء في الباطن و الدليل عليه قوله: «التي لا يدلي أحد بمثلها» فأطلق القول إطلاقا عاما مستغرقا لكل الناس أجمعين...

و بالجملة أضحى يقرن بعلي غيره ممن ليس له ساحة جهاده و لا سابقة إيمانه و هذا هو مثار العجب ثم نفى أن يكون لأحد من الناس مثل هذه الدعوة إلا أن يدعي أمرا لا يعرفه الإمام و الإمام يعرف كل دعوة فتكون هذه الدعوة كاذبة من حيث إنّها لم تقع تحت معلومات الإمام.

و قوله: و لا أظن اللّٰه يعرفها أي أن اللّٰه يعرف انتفاءها و عدم صحتها و كل ما يعلم اللّٰه انتفاؤه فليس بثابت.

و بعبارة موجزة ينفي أن يكون لأحد من الناس جهاده و سابقته و من ادعى ذلك فهو كاذب لانتفاء جهاد غيره و سابقته و هذا أمر يعرفه الإمام و يعلمه اللّٰه...

و الحمد للّٰه على كل حال في حال الجهاد و القتال و في حال الإيمان و الصبر على البلاء و هو الذي يوفي الصابرين أجورهم بغير حساب...

(و أما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فإني نظرت في هذا الأمر فلم أره يسعني دفعهم إليك و لا إلى غيرك) هذا رد من الإمام على طلب معاوية منه أن يسلمه قتلة عثمان... إنه طلب في منتهى الوقاحة و قديما قيل: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» و معاوية ليس عنده أمر ممنوع كل الأبواب مشرعة أمامه دون خجل أو حياء... لا يقرّ بخلافة الإمام ثم يطالبه بتسليمه قتلة عثمان...

و الإمام يرد عليه بأني فكرت في هذا الطلب فلم أر مبررا يوجب لي دفعهم إليك و لا إلى غيرك و ذلك من منظور أن معاوية ليس وليا للدم ثم إن أولياء الدم يجب أن يرفعوا الدعوة و يطلبوا فصل القضاء و ذلك يوجب عليهم اعترافهم بالخليفة و عندها ينظر في

ص: 150

الدعوة و يقتص من الجاني بعد أن تثبت الجريمة... ثم أخيرا فإن الجماهير هي التي قتلت عثمان لأحداث عملها و أمور نقموها عليه فراح ضحية ارتكابه للمخالفات القانونية و لا يمكن الانتقام من شعب قام بثورة ضد ملك جائر...

(و لعمري لئن لم تنزع عن غيك و شقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفونك طلبهم في بر و لا بحر و لا جبل و لا سهل إلا أنه طلب يسوءك وجدانه و زور لا يسرك لقيانه و السلام لأهله) أقسم الإمام بحياته و عمره لئن لم يكف معاوية عن ضلاله و انحرافه و ما هو فيه من شق عصا المسلمين و تفريق وحدتهم و تشتيت شملهم فإن أولئك القوم الذين تريدهم و تطلبهم لن يكلفوك مشقة الطلب و السعي في أي مكان في بر أو بحر أو جبل أو سهل بل هم سيطلبونك و يقصدونك و لكن سترى ما يسوءك عند لقائهم لأن لقائهم سيكون في ساحات الحرب و القتال و هذه ساحات لا تسرك لأنها ستأخذك و تقضي عليك و لا تدعك تهنأ في عيش أو حياة...

ثم أخيرا سلم على من يستحق السلام من أهل السلام تنبيها على أن معاوية ليس منهم و لا يستحق السلام عليه...

ترجمة جعفر بن أبي طالب.
اشارة

جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

أمه فاطمة بنت أسد و هي أم أخوته طالب و عقيل و علي و أم هانىء كان أكبرهم طالب و أصغرهم علي و يكبر الواحد الآخر عشر سنوات.

لم يسبقه إلى الإسلام سوى الإمام و خديجة بنت خويلد زوجة رسول اللّٰه.

الهجرة إلى الحبشة.

لما اشتد الضغط على المسلمين و كثر أذى المشركين لهم و عملوا من أجل أن يردوهم عن دينهم قال لهم النبي (صلی الله علیه و آله) : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد و هي أرض صدق حتى يجعل اللّٰه لكم فرجا مما أنتم فيه فخرجوا و قد كان عددهم ثلاثة و ثمانين رجلا يرأسهم جعفر بن أبي طالب و عند ما دخلوا على النجاشي أكرمهم و أحسن جوارهم فعبدوا اللّٰه لا يخافون على ذلك أحدا.

ص: 151

جعفر في مواجهة وفد قريش.

عرفت قريش بخبر هجرة المسلمين إلى الحبشة فهيأت وفدا من عبد اللّٰه بن أبي ربيعة و عمرو بن العاص و جهزتهما بهدايا شملت مع النجاشي ملك الحبشة جميع بطارقته و من له مقام عنده و قد تكلم وفد قريش و أراد من النجاشي أن يفتك بهم أو يسلمهم إليهم فاستدعى عندها جعفرا و بعض المسلمين و دارت هذه المحاورة الرقيقة.

قال النجاشي: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم و لم تدخلوا في ديني و لا في دين أحد من هذه الملل.

فتكلم جعفر فقال: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام و نأكل الميتة و نأتي الفواحش و نقطع الأرحام و نسيىء الجوار و يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث اللّٰه إلينا رسولا منا نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه فدعانا إلى اللّٰه لنوحده و نعبده و نخلع ما كنا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان و أمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة و صلة الرحم و هكذا راح جعفر يعدّد محاسن ما جاء به النبي.

و بعد أن استمع النجاشي إليه قال له: هل معك مما جاء به عن اللّٰه من شيء؟.

فقال جعفر: نعم.

فقال النجاشي: اقرأه عليّ فقرأ عليه صدرا من صورة «كهيعص» فبكى النجاشي و من كان حوله و قال: إن هذا و الذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة فانطلقا فلا و اللّٰه لا أسلمهم إليكما...

لقد فشل وفد قريش في الوقيعة بالمسلمين(1) و لكن عمروا أراد أن يعيد الكرة فعاد في اليوم الثاني ليقول للنجاشي: إن المسلمين يقولون في المسيح قولا عظيما فاستدعاهم النجاشي فقال: ما ذا تقولون في عيسى بن مريم ؟.

فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا - صلّى اللّٰه عليه و آله - يقول: هو عبد اللّٰه و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فعند ما سمع النجاشي ذلك ضرب بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: و اللّٰه ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود و بهذا استقر المسلمون و كان جعفر هو رائد الإسلام و حامل رسالته إلى تلك البلاد و قد أسلم النجاشي على يديه...

ص: 152


1- السيرة النبوية لابن هشام.

بقي المهاجرون في الحبشة إلى السنة السابعة فعادوا منها و قد فتح اللّٰه للمسلمين خيبر فقال النبي و قد جاءته البشرى بالفتح و قدوم جعفر فقال بعد أن التزم جعفرا و قبّل ما بين عينيه قال: ما أدري بأيهما(1) أنا أفرح، بقدوم جعفر أو بفتح خبير.

الشهادة في موقعة مؤتة.

في السنة الثامنة من الهجرة سمع النبي بأن الروم يعدون العدة لغزو المدينة و القضاء على المسلمين فجهز النبي جيشا عدته ثلاثة آلاف مقاتل و أمّر عليهم جعفر بن أبي طالب فإن قتل فزيد بن حارثة فإن قتل فعبد اللّٰه بن رواحة...

خرج جيش الإسلام إلى مؤتة من أرض الأردن و قد التقوا بالروم فدارت معارك رهيبة سقط فيها الأمراء الثلاثة شهداء في سبيل اللّٰه...

قال النبي في حق جعفر: إن لجعفر بن أبي طالب جناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة و سمي ذو الجناحين لأنه قاتل حتى قطعت يداه.

كناه رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - أبا المساكين و قال له: أشبهت خلقي و خلقي.

ترجمة حمزة بن عبد المطلب.
اشارة

أسد اللّٰه و أسد رسوله و عمه و أخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب ولد قبل النبي بسنتين و قيل: بأربع و أسلم في السنة الثانية من البعثة.

إسلام حمزة.

قال أرباب التاريخ و أصحاب السير أن أبا جهل مرّ برسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و هو جالس عند الصفا فآذاه(2) و شتمه و نال منه و عاب دينه و مولاة لعبد اللّٰه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ثم انصرف عنه فجلس في نادي قريش عند الكعبة فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل من قنصه متوشحا قوسه و كان إذا رجع لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة و كان يقف على أندية قريش و يسلّم عليهم و يتحدث معهم و كان أعز قريش و أشدهم شكيمة فلما مرّ بالمولاة و قد قام رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و رجع إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن

ص: 153


1- الطبقات لابن سعد.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 2 ص 83.

هشام فإنه سبه و آذاه ثم انصرف عنه و لم يكلمه محمد.

قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد اللّٰه به من كرامته فخرج سريعا لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالكعبة معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به حتى دخل المسجد فرآه جالسا في القوم فأقبل نحوه و ضرب رأسه بالقوس فشجّه شجة منكرة و قال: أ تشتمه و أنا على دينه أقول ما يقول فاردد علي إن استطعت... و بقي الحمزة إلى جنب رسول اللّٰه حتى إذن اللّٰه للمسلمين بالهجرة فكان حمزة من جملة المسلمين المهاجرين و آخى النبي بينه و بين زيد بن حارثة و شهد حمزة موقعة بدر و قد أبلى بلاء حسنا فقد قتل شيبة بن ربيعة و شارك في قتل عتبة بن ربيعة و أعز اللّٰه الإسلام بسيفه و سيف ابن أخيه علي بن أبي طالب قال ابن سعد في طبقاته: أول لواء عقده رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - حين قدم المدينة لحمزة بن عبد المطلب بعثه سرية في ثلاثين راكبا حتى بلغوا قريبا من سيف البحر يعترض لعير قريش و هي منحدرة إلى مكة قد جاءت من الشام و فيها أبو جهل بن هشام في ثلاثماية راكب فانصرف و لم يكن بينهم قتال...

شهادته.

استشهد الحمزة بن عبد المطلب في موقعة أحد سنة 3 للهجرة و روى ابن إسحاق في سيرته عن وحشي قاتل حمزة كيفية مقتله و قد رماه بحربة عن بعد و بعد أن صرع مرّ عليه أبو سفيان فطعنه بحربة في فمه و تقدمت هند زوجة أبي سفيان و بعض نساء قريش فأخذن يجدعن الآذان و الأنف حتى اتخذت هند من آذان الرجال و آنفهم خدما (خلخال) و قلائد و أعطت خدمها و قلائدها و قرطها وحشيا و بقرت بطن الحمزة و أخرجت كبده فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.

و لما رأى رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ما رأى من فعل الكفار بحمزة قال:

لو لا أن تحزن صفية - عمة النبي و اخت حمزة - و يكون سنّة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع و حواصل الطير.. ثم قال: لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ إليّ من هذا ثم قال: جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد اللّٰه و أسد رسوله.

و في الإصابة: إن رسول اللّٰه عند ما وقف على حمزة قال: رحمك اللّٰه أي عم لقد كنت وصولا للرحم فعولا للخيرات و دفن بأحد حيث استشهد.

ص: 154

ترجمة عبيدة بن الحارث.
اشارة

عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب(1) بن عبد مناف بن قصي و أمه سخيلة بنت خزاعي بن الحويرث بن حبيب بن مالك بن الحارث بن حطيط بن جشم بن قسي و هو ثقيف.

قال ابن حجر في الإصابة: أسلم قديما و كان رأس بني عبد مناف حينئذ.

و قال ابن سعد في طبقاته: و كان عبيدة أسنّ من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بعشر سنين و كان يكنى أبا الحارث و كان مربوعا أسمر حسن الوجه.

أسلم عبيدة بن الحارث قبل دخول رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - دار الأرقم بن أبي الأرقم و قبل أن يدعو فيها هاجر إلى المدينة مع المسلمين و آخى النبي بينه و بين عمير بن الحمام الأنصاري و قتلا جميعا يوم بدر.

و قال ابن سعد في طبقاته: كان أول لواء عقده رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بعد أن قدم المدينة لحمزة بن عبد المطلب ثم عقد بعده لواء عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب و بعثه في ستين راكبا فلقوا أبا سفيان بن حرب بن أمية في رابغ...

شهادته.

برز في معركة بدر عتبة و شيبة(2) ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة و دعوا إلى المبارزة فخرج إليهم عوف و معوذ ابنا عفراء و عبد اللّٰه بن رواحة كلهم من الأنصار فقالوا: من أنتم ؟ قالوا: من الأنصار.

فقالوا: أكفاء كرام و ما لنا بكم من حاجة ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا.

فقال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: قم يا حمزة قم يا عبيدة بن الحارث قم يا علي فقاموا ودنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبة و بارز حمزة شيبة و بارز علي الوليد فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله و أما علي فلم يمهل الوليد أن قتله و اختلف عبيدة و عتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه وكر حمزة و علي على عتبة فقتلاه و احتملا عبيدة إلى أصحابه و قد قطعت رجله فلما أتوا به النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - قال: أ لست شهيدا يا رسول اللّٰه قال: بلى ثم مات.

و قال ابن سعد في طبقاته: و كان عبيدة(3) يوم قتل ابن ثلاث و ستين سنة.

ص: 155


1- الطبقات ج 3 ص 51.
2- ابن الأثير حوادث سنة 2.
3- الطبقات ج ص 3 52.

10 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إليه أيضا و كيف أنت صانع إذا تكشّفت (1) عنك جلابيب (2) ما أنت فيه من دنيا قد تبهّجت (3) بزينتها، و خدعت بلذّتها. دعتك فأجبتها، و قادتك فاتبعتها، و أمرتك فأطعتها. و إنّه يوشك (4) أن يقفك (5) واقف على ما لا ينجيك منه مجنّ (6)، فاقعس (7) عن هذا الأمر، و خذ أهبة (8) الحساب، و شمّر (9) لما قد نزل بك، و لا تمكّن (10) الغواة (11) من سمعك، و إلاّ تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك، فإنّك مترف (12) قد أخذ الشّيطان منك مأخذه، و بلغ فيك أمله، و جرى منك مجرى الرّوح و الدّم.

و متى كنتم يا معاوية ساسة (13) الرّعيّة (14)، و ولاة (15) أمر الأمّة ؟ بغير قدم سابق (16) و لا شرف باسق (17)، و نعوذ (18) باللّٰه من لزوم سوابق الشّقاء.

و أحذّرك أن تكون متماديا (19) في غرّة (20) الأمنيّة (21)، مختلف العلانية و السّريرة.

و قد دعوت إلى الحرب، فدع النّاس جانبا و اخرج إليّ ، و أعف (22) الفريقين من القتال، لتعلم أيّنا المرين (23) على قلبه، و المغطّى (24) على بصره! فأنا أبو حسن قاتل جدّك و أخيك و خالك شدخا يوم بدر، و ذلك السّيف معي، و بذلك القلب ألقى عدوّي، ما استبدلت دينا، و لا استحدثت نبيّا. و إنّي لعلى المنهاج (26) الّذي تركتموه طائعين، و دخلتم فيه مكرهين.

ص: 156

و زعمت أنّك جئت ثائرا (27) بدم عثمان. و لقد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالبا، فكأنّي قد رأيتك تضجّ من الحرب إذا عضّتك (29) ضجيج الجمال بالأثقال (30)، و كأنّي بجماعتك تدعوني جزعا (31) من الضّرّب المتتابع، و القضاء (32) الواقع، و مصارع بعد مصارع، إلى كتاب اللّٰه، و هي كافرة جاحدة (33)، أو مبايعة حائدة (34).

اللغة

1 - تكشفت عنك: ارتفعت و زالت عنك.

2 - الجلابيب: جمع جلباب بكسر الجيم و سكون اللام الثوب الواسع فوق جميع الثياب.

3 - تبهجّت: تحسنّت و تزّينت.

4 - يوشك: بالكسر يقرب و يدنو.

5 - يوقفك واقف: يطلعك و وقفته على ذنبه اطلعته عليه.

6 - المجن: الترس.

7 - أقعس: أمر من قعس أي تأخر.

8 - الأهبة: بضم الهمزة العدة و ما يهيأ للأمر و يستعد له.

9 - شمّر: جد و اجتهد.

10 - مكنّه من الشيء: جعل له عليه سلطانا و قدره.

11 - الغواة: جمع غاو و هو الضال.

12 - المترف: الذي اطغته النعمة فحرفته عن طاعة اللّٰه.

13 - ساسة: جمع سائس الذي يدير أمور الناس و يسوسهم.

14 - الرعية: الناس المحكومين للحاكم.

15 - الولاة: جمع وال و هو الذي يتولى الأمور.

16 - قدم سابق: أعمال طيبة قديمة.

17 - الباسق: العالي الرفيع.

18 - نعوذ: نستجير.

19 - التمادي في الأمر: تطويل المدة فيه.

20 - الغرة: بالكسر الغفلة.

ص: 157

21 - الأمنية: بضم الهمزة ما يتمناه الإنسان و يأمل ادراكه.

22 - اعف: أمر من الإعفاء و هو تركه و اعفني من الخروج معك أي دعني منه.

23 - المرين: بفتح فكسر من ران و أصله الطبع و التغطية.

24 - المغطّى: المستور.

25 - الشدخ: كسر الشيء الاجوف كالرأس.

26 - المنهاج: الطريق الواضح.

27 - الثائر: طالب الثأر و هو قتل القاتل.

28 - تضج: تصيح و تصرخ.

29 - عضه: امسكه بأسنانه.

30 - الأثقال: جمع ثقل المتاع و الأثقال الأمتعة.

31 - الجزع: عدم الصبر، الحزن و الكدر.

32 - القضاء: الحكم.

33 - الجاحدة: المنكرة.

34 - حائدة: عادلة عن الحق و مائلة عنه.

الشرح

(و كيف أنت صانع إذا تكشّفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها و خدعت بلذتها دعتك فأجبتها و قادتك فاتبعتها و أمرتك فأطعتها) هذه الرسالة كتبها الإمام و بعث بها إلى معاوية و هي موعظة بالغة و تذكير بالآخرة، يهجم الإمام من خلالها عليه و يعرّيه و يذكره فيها إنه قاتل أهل بيته فإذا كان شجاعا فليبرز إليه ثم هدده بالحرب و حذره منها...

استفهم مستنكرا على معاوية و موبخا له و منبها على غفلته و إنه مشغول في ملذاته و دنياه التي تسد عليه رؤية الحق و الرضوخ إليه فإن الموت إذا أتاه ظهرت له نتيجة تعلقه بالدنيا و قتاله من أجلها، فإنه استجاب لها حين دعته و اتبعها حيث قادته و أطاعها عند ما أمرته فأضحى عبدا ذليلا لها اغتر بها و بما فيها فأضحت له كالملحفة يلتحف بها...

و بعبارة أخرى ليس لك عذر أو حجة إذا أتاك الموت و سقطت عنك هذه الأوراق التي تتستر بها و تختبىء خلفها...

(و إنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجن) و إنه عما قريب تنكشف الأمور و يطلعك المطلع على أمور رهيبة بعد الموت من أهوال و فجائع لا يغنيك عنها

ص: 158

مغني و لا يحجزك من عذابها حاجز أو مانع.

(فاقعس عن هذا الأمر و خذ أهبة الحساب و شمر لما قد نزل بك) ارتدع و تأخر عن طلب الخلافة التي لا تستحقها و لست من أهلها فإن الخلافة لا تحل لطليق..

ثم أمره بالاستعداد للحساب و أن يهيىء أسباب النجاة من الأعمال الصالحات و أن يجدّ و يتأهب لنزول ما ينزل به من أمور عظيمة و فظائع رهيبة...

(و لا تمكّن الغواة من سمعك) لا تجعل الضالين المضلين كعمرو بن العاص و مروان بن الحكم و غيرهما يسيطرون عليك و يوجهون مسيرتك و يوشوشون لك في الأمور الباطلة و ما يكون به انحرافك و ضلالك...

(و ألا تفعل اعلمك ما أغفلت من نفسك فإنك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه و بلغ فيك أمله و جرى منك مجرى الروح و الدم) إن لم تسمع كلامي و تفعل ما أمرتك به من النظر إلى آخرتك و الكف عن طلب الخلافة التي لست لها بكفىء سأوقفك على ما أغفلته من نفسك و تهذيبها و أخذها بما يجب عليها فأذيقك حر السيوف و طعم الحتوف.

ثم بيّن له حقيقة نفسه فإنه مترف قد اطغته النعمة فأخرجته عن طاعة اللّٰه إلى معصيته و تسلّط عليه الشيطان حتى أضحى جنديا من جنوده فكل ما أراده منه أدركه و تناوله من جميع السبل و أخذه من جميع الجهات حتى جرى منه مجرى الروح في البدن و الدم في العروق كناية عن شدة قربه منه بحيث أضحى الشيطان جزءا منه لا يحيا معاوية أو يعيش بدونه...

(و متى كنتم يا معاوية ساسة الرعية و ولاة أمر الأمة ؟ بغير قدم سابق و لا شرف باسق) استنكر الإمام على معاوية طلبه الخلافة و هو ليس أهلا لها و لا تحل له و متى كنتم يا معاوية - أنت و الأسرة الأموية - ساسة الرعية التي تقودونها و تنظمون أمورها و تهتمون بها و متى كنتم ولاة أمر الأمة تتصرفون في شئونها و تتولون قضاياها و الإمام يريد أن ينفي كونهم ساسة و قادة في الإسلام أو ساسة و قادة بالحق و العدل.

ثم استدل على ذلك بأن من له حق ساسة الرعية و تولي أمر الأمة هو من له جهاد قديم زمن رسول اللّٰه و من قدّم و بذل و من له كرامة كريمة عظيمة تؤهله لتسلم الرياسة و الريادة و القيادة و معاوية و أسرته قد تخلت عن تلك الصفات و تلبست بغيرها، إنها حاربت النبي بكل وسيلة و أرادت استئصال شأفته و إن أبا سفيان هو الذي جهز الجيوش و قادها لحرب رسول اللّٰه و بقي كذلك حتى عام فتح مكة فاستسلم للواقع ليحفظ حياته و وجوده و مثله لا يستحق أن يتولى الأمر أو يقود الأمة...

ص: 159

(و نعوذ باللّٰه من لزوم سوابق الشقاء) استجار الإمام باللّٰه من الشقاء اللازم المقدر على المرء من قديم و هذا تعريض بمعاوية و إنه من الأشقياء الذين كتب عليهم ذلك من قديم فلن يخرجوا منه لخبثهم و فساد طينتهم.

(و أحذرك أن تكون متماديا في غرة الأمنية مختلف العلانية و السريرة) أخوفك اللّٰه فلا تتمادى و تستمر في الأماني الباطلة و الأهواء الكاذبة بأن تطلب الخلافة و تمني نفسك بها و تعمل لذلك فإنها أمنية باطلة و رغبة فاسدة كما أحذرك أن تعيش النفاق فتعلن غير ما تبطن و هذا كشف لحقيقة معاوية و حكاية عن واقعه فإن الظاهر إنه يطلب بدم عثمان و في الواقع يطلب الخلافة فهو يظهر خلاف ما يبطن و هذه صفة أهل النفاق...

(و قد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانبا و أخرج إليّ و أعف الفريقين من القتال لتعلم أينا المرين على قلبه و المغطى على بصره فأنا أبو حسن قاتل جدك و أخيك و خالك شدخا يوم بدر و ذلك السيف معي و بذلك القلب ألقى عدوي، ما استبدلت دينا و لا استحدثت نبيا. و إني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين و دخلتم فيه مكرهين) كان معاوية قد دعى الإمام للحرب فأجابه الإمام هنا بهذا الجواب الذي أخرسه و أقعده عن طلب أمر ليس من أهله...

دعاه عليه السلام أن يترك الفريقان الحرب فيما بينهما و ينزل معاوية في مواجهة الإمام و عندها يعلم من هو المطبوع على قلبه فلا يفلح المغطى عليه بحجب المعاصي و البعد عن اللّٰه و السبب في ذلك أن من يقف دفاعا عن حق و يجاهد عن عقيدة و إيمان لا يفر و لا يهرب بل يضحى بفرح و سرور و يتمنى الشهادة و لا ينهزم و مثل هذا غالبا يكون النصر له و معاوية لن يثبت أمام علي لأنه لم يؤمن بآخرة و لم يحارب من أجل دين و إنما يحارب من أجل الدنيا فلذا لن يقبل المواجهة و المخاطرة بنفسه و يخسر دنياه و هذا هو المغطى على قلبه الذي أصيب بالرين و الشك...

ثم زاد تهديده له بأنه هو هو أبو الحسن الذي قتل جده عتبة بن ربيعة و أخاه حنظلة بن أبي سفيان و خاله الوليد يوم بدر فقد كسر رؤوسهم بسيفه و لا يزال ذلك السيف بيده مستعدا لضرب أمثالهم من أرحامهم و أحفادهم و بذلك القلب القوي الشجاع المطمئن إلى سلامة مقصده يلقى عدوه و يلقنه درس الموت الأحمر...

ثم أشار عليه السلام إلى ثباته على الدين الذي ضحى من أجله ما استبدل به غيره و لا اتخذ نبيا بعد رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و إنه على الطريق الواضح و الشريعة الغراء التي رسمها النبي و هي دين الإسلام الذي تركه الأمويون باختيارهم و ملىء حريتهم و إنهم لم يدخلوا

ص: 160

فيه عند ما دخلوا إلا مستسلمين مكرهين خوف السيف أن يطالهم...

و كأن هذا الكلام غمز في معاوية و طعن فيه إنه استبدل هذه الأمور بغيرها أو إنه لم يؤمن بها أبدا.

(و زعمت إنك جئت ثائرا بدم عثمان و لقد علمت حيث وقع دم عثمان فأطلبه من هناك أن كنت طالبا) هذا بيان لبطلان دعوة معاوية و إنها دعوة كاذبة جاءت زورا و بهتانا حيث زعم معاوية أنه يطلب ثأر عثمان يريد أن يقتص من قتلته و يأخذ بثأره و أمره الإمام إنك إذا كنت صادقا و جادا في الطلب بدم عثمان فأطلبه ممن سفكه و أباحه و هو طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة بل و نفسك حيث كنت تستطيع نصره فلم تنصره و إنما تربصت به الدوائر و وقفت تراقب ما يجري حتى إذا قتل انقلبت تطلب بدمه كذبا.. إنك ترفع شعار الثأر لدم عثمان و تخفي وراءه أمرا عظيما و هو طلب الخلافة و الوصول إليها و هكذا كان معاوية انتهازيا من الدرجة الأولى سنّ أبشع السنن و أقبحها على الاطلاق و أضحى مدرسة في هذا الحقل الانتهازي الفاسد...

(فكأني قد رأيتك تضج من الحرب إذا عضتك ضجيج الجمال بالأثقال و كأني بجماعتك تدعوني جزعا من الضرب المتتابع و القضاء الواقع و مصارع بعد مصارع إلى كتاب اللّٰه و هي كافرة جاحدة أو مبايعة حائدة) و هذه إحدى إخبارات علي بالغيب و ما إخباراته في ذلك إلا لكونه يستشرف الزمن و يطوي المستقبل ليحكي ما يجري فيه أو يقع في وقته.

و هنا يخبر عليه السلام بما سينال معاوية من الذل نتيجة الحرب التي ستقع - و هي حرب صفين - حيث سيقع معاوية في مأزق كبير و صعب حينما تقع الحرب و سوف يتضور منها و يئن من ثقلها لشدتها و ضراوتها كما تئن الجمال بالأحمال الثقيلة كناية عن ثقلها عليه و صعوبتها عنده ثم أخبر عما سيحدث مع جماعته من أهل الشام و على رأسهم عمرو بن العاص إنه أخبار بغيب مجهول قرأه الإمام بوضوح قال عنه ابن أبي الحديد كلمة جيدة قال: و أعلم أن قوله «و كأني بجماعتك يدعونني جزعا من السيف إلى كتاب اللّٰه» إما أن يكون فراسة نبوية صادقة و هذا عظيم و أما أن يكون إخبارا عن غيب مفصّل و هو أعظم و أعجب و على كلا الأمرين فهو غاية العجب...

فهذا إخبار منه بما سيلحق أهل الشام من الشدة في الضرب و القتل المتتالي واحدا أثر واحد حتى يدعوهم ذلك إلى المكر و الخديعة فيرفعوا كتاب اللّٰه كذبا و ينادون بالتحكيم ظلما و هم فرقتان فرقة منافقة و قد عبّر عنها بالجاحدة الكافرة و أخرى ناكثة للبيعة و هي التي عدلت عن بيعته و أعلنت عليه الحرب مع معاوية...

ص: 161

11 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

وصى بها جيشا بعثه إلى العدو فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم، فليكن معسكركم (1) في قبل (2) الأشراف (3)، أو سفاح (4) الجبال، أو أثناء (5) الأنهار، كيما يكون لكم ردءا (6)، و دونكم مردّا (7). و لتكن مقاتلتكم من وجة واحد أو اثنين، و اجعلوا لكم رقباء (8) في صياصي (9) الجبال، و مناكب (10) الهضاب (11)، لئلاّ يأتيكم العدوّ من مكان مخافة (12) أو أمن. و اعلموا أنّ مقدّمة (13) القوم عيونهم، و عيون (14) المقدّمة طلائعهم (15). و إيّاكم و التّفرّق: فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، و إذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا، و إذا غشيكم (16) اللّيل فاجعلوا الرّماح كفّة (17)، و لا تذوقوا النّوم إلاّ غرارا (18) أو مضمضة (19).

اللغة

1 - المعسكر: بفتح الكاف موضع العسكر و حيث ينزل.

2 - قبل: ضد دبر، قدّام.

3 - الاشراف: جمع شرف محركه الأماكن العالية.

4 - سفاح الجبال: اسافلها.

5 - الاثناء: واحدها ثني و هو المنعطف.

6 - الردء: العون.

7 - المردّ: بتشديد الدال مكان الرد و الدفع.

8 - الرقباء: جمع رقيب الحارس و الحافظ، الذي ينتقد أعماله لئلا يلام.

9 - الصياصي: أصلها القرون ثم استعير للحصون لأنه يمتنع بها كما يمتنع ذو القرن بقرنه.

ص: 162

10 - المناكب: المرتفعات.

11 - الهضاب: جمع هضبة بفتح فسكون الجبل لا يرتفع عن الأرض كثيرا مع انبساط في أعلاه.

12 - المخافة: الفزع ضد الأمن.

13 - مقدمة كل شيء: أوله.

14 - العيون: واحد العين الجاسوس و الراصد.

15 - الطلائع: جمع الطليعة و هي عيون المقدمة.

16 - غشيكم: غطاكم و غشيكم الليل أي أظلم و تغشى بثوبه تغطى به.

17 - الكفة: بكسر الكاف المستديرة.

18 - الغرار: بكسر الغين النوم الخفيف.

19 - المضمضة: أن ينام ثم يستيقظ ثم ينام تشبيها بمضمضة الماء في الفم.

الشرح

(فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح الجبال أو اثناء الأنهار كيما يكون لكم ردءا و دونكم مردا) هذا الكتاب أرسله الإمام إلى زياد بن النضر الحارثي حين سرّحه على مقدمة جيشه لقتال أهل الشام، و في الكتاب خطط حربية عظيمة صالحة لكل زمان تدللّ على أن الإمام كان يملك ناصية التخطيط لكل حرب يقودها و هو على جانب كبير في الحرب و فنونها و سبل الانتصار فيها، و قد ذكر عدة وصايا.

1 - أوصاه إذا نزل بعدو أو نزل به عدو أن يكون في موقع محصّن يحميه و يدفع عنه مباغتة العدو و أخذه بسهولة و ذلك بأن يكون في أماكن مشرفة تحميهم و يشرفون منها على العدو أو في سفوح الجبال أو منعطفات الأنهار و هي مراكز مهمة للمقاتل يحتاج من يقتحمها إلى قوة ضاربة و عدة و عدد و قد يعجز إذا وجد المدافع الشجاع فيرتد على أعقابه و قد علل الإمام السبب في اختيار هذه المواقع بأنها تكون لكم عونا و دونكم حاجزا أي هذه قوة دفاعية طبيعية تعينك في دفع العدو و تأخيره و حجزه عنكم و تكون عونا لكم عليه...

2 - (و لتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين) و هذا توجيه عسكري حكيم و هو أن تتوحد الجبهة و يكون القتال من جهة واحدة أو جهتين بعد أن يكونوا قد أمنوا الجهات الأخرى بحاجز جبلي أو نهري أو خندق أو غير ذلك و هذا التوحد يبعث القوة بينما

ص: 163

التشعب و التعدد يضعف الهمة و يوهنها.

3 - (و اجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال و مناكب الهضاب لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن) أن يكون لهم حرّاس و حفظة في أعالي الجبال و على رءوس الهضاب هؤلاء يراقبون الأفق و الأرض و يعرفون كل حركة و كل ما يمر بهم بل كل ما يرون يكونون على علم به و ذلك خوفا من تسلل الأعداء من الثغرات الخطرة التي يمكن أن يدخلوا منها في حين غفلة أو من الأماكن الآمنة التي لا يخطر بالبال أن يدخلوها و على كل حال لا بد من العيون التي تراقب و تحرس و تحفظ غدرات العدو و تسلله عبر بعض المواقع...

4 - (و أعلموا أن مقدمة القوم عيونهم و عيون المقدمة طلائعهم) هذا بيان لأهمية المقدمة بالنسبة إلى الجيش لأنها هي التي تستطلع الأمور و تختبر قوة العدو و ضعفه و ترى كل حركاته و سكناته و لكن هناك ضمن المقدمة أيضا عيونها و هي الطلائع التي تتقدم على المقدمة و تكشف مواقع العدو و تحركاته و عدته و عدده و كل خصوصياته حتى تنقل ذلك إلى أصحابها فيعرفون كيف يديرون المعركة و من أي جهات الضعف يدخلون منها لضرب العدو...

5 - (و إياكم و التفرق: فإذا نزلتم فانزلوا جميعا و إذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا) حذّرهم التفرق فلا تنفصل هذه الفرقة عن تلك أو هذه الفرقة تنزل و الأخرى ترحل بل إذا رحلوا فليرحلوا جميعا و إذا نزلوا فلينزلوا جميعا لأن ذلك يرعب العدو و يخيفه.

6 - (و إذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة و لا تذوقوا النوم إلا غرارا أو مضمضة) إذا جنّ عليكم الليل و أقبل بظلامه فاجعلوا الرماح مستديره حولكم كالحلقة لتكون لكم جنة من هجوم الأعداء، و ذلك باعتبار أن الرماة يدفعون مباشرة الأعداء و يحفظون جندهم...

ثم نهاهم عن النوم إلا النوم القليل القلق الذي يقوم منه النائم بين لحظة و أخرى و هو رفض للنوم المطمئن الذي لا يطلب صاحبه بشيء بل شدّدوا الحراسة و لا تغفلوا عن الأعداء حتى في زمن نومكم و استقراركم و كونوا مستنفرين مهيئن لكل أمر حادث و لكل غرض طارئ...

ص: 164

12 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

وصى بها معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له:

اتّق اللّٰه الّذي لا بدّ لك من لقائه، و لا منتهى (1) لك دونه، و لا تقاتلنّ إلاّ من قاتلك، و سر البردين (2)، و غوّر (3) بالنّاس، و رفّه (4) في السّير، و لا تسر أوّل اللّيل، فإنّ اللّٰه جعله سكنا (5) و قدّره مقاما لا ظعنا (6). فأرح (7) فيه بدنك، و روّح (8) ظهرك (9). فإذا وقفت حين ينبطح (10) السّحر (11)، أو حين ينفجر (12) الفجر (13)، فسر على بركة اللّٰه. فإذا لقيت العدوّ فقف من أصحابك وسطا، و لا تدن (14) من القوم دنوّ من يريد أن ينشب (15) الحرب.

و لا تباعد عنهم تباعد من يهاب (16) البأس (17)، حتّى يأتيك أمري، و لا يحملنّكم شنآنهم (18) على قتالهم، قبل دعائهم و الإعذار (19) إليهم.

اللغة

1 - المنتهى: النهاية و هي غاية الشيء و آخره.

2 - سر البردين: الغداة و العشي أمر بالسير في هذين الوقتين.

3 - غوّر: أمر مأخوذ من الغائرة و هي الظهيرة و في الصحاح التغوير القيلولة.

4 - رفّه: من الترفيه و هي الإراحة و التخفيف و التوسعة.

5 - السكن: ما سكنت إليه أي اطمأننت.

6 - الظعن: الارتحال و السفر.

7 - أرح: من الاراحة.

8 - روّح الإبل: ردها إلى المراح.

ص: 165

9 - الظهر: الركاب من فرس وابل أو غيرهما من الدواب.

10 - ينبطح: ينبسط و يتسع.

11 - السحر: وقت ما قبل الفجر الصادق.

12 - ينفجر: الماء يجري و الصبح ينكشف.

13 - الفجر: وقت انتشار الضوء الأفقي من جهة المشرق.

14 - لا تدن: لا تقترب.

15 - نشب الشيء: علق به و نشبت الحرب بين القوم ثارت.

بالشيء 16 - يهاب: يخاف و يحذر.

17 - البأس: الحرب.

18 - الشنآن: البغض.

19 - الاعذار: تقديم ما يوجب العذر في حربهم.

الشرح

(اتق اللّٰه الذي لا بد لك من لقائه و لا منتهى لك دونه) هذه وصية من وصاياه الكريمة أوصى بها معقل بن قيس الرياحي حين انفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له و هي تحكي عن مدى اتصاله باللّٰه و قربه منه و عن مدى محافظته على الناس و رحمته بهم، ابتدأها بهذا الأمر: اتق اللّٰه فإن تقوى اللّٰه خير الزاد يحتاجها المجاهد أكثر مما يحتاجها أي فرد في الأمة لأنه قد يتعرض للاستفزاز و قد تطغى عليه قوته فينسى اللّٰه و قد تكون هناك عوامل الانتقام و غيرها فكان هذا القائد المجاهد بحاجة إلى ربط باللّٰه و أن يكون على تقوى منه ثم ذكّره بأنه لا بد له من لقاء اللّٰه و لا بد و أن ينتهي إليه و إذا كان لا بد من الوصول إلى اللّٰه و الانتهاء إليه فيجب أن يكون على تقوى منه بحيث يكون في خطه و على منهاجه و ضمن التزامه...

(و لا تقاتلن إلا من قاتلك) لا تبتدأ في الحرب و لكن إذا قاتلك أحد فقاتله و هذه رؤية كريمة تحكي عمق حب السلم و إن الحرب ضرورة وقتية قد يوقتها الطرف الآخر...

(و سر البردين و غور بالناس و رفه في السير) هذه أوامر من أجل مصلحة المقاتلين كي يكونوا في أقوى قوتهم لم تستهلكها الحركة نحو العدو.

أمره أن يسير في وقتي الغداة و العشي لما في ذلك من برودة الجو و رطوبته التي لا تؤلم العسكر و ما معه من دواب و أمره أن يريحهم في وقت القيلولة لأنه الوقت الذي يشتد

ص: 166

فيه الحر فيكون السير فيه صعبا شاقا و موجبا للارهاق و أمره ثالثا أن يرفق بالسائرين كي لا يتفرقوا و لا يتخلف الضعيف...

(و لا تسر أول الليل فإن اللّٰه جعله سكنا و قدره مقاما لا ظعنا فأرح فيه بدنك و روّح ظهرك فإذا وقفت حين ينبطح السحر أو حين ينفجر الفجر فسر على بركة اللّٰه) نهى عن السير في أول الليل و علل ذلك بأن اللّٰه جعله سكنا يستريح فيه الإنسان من هموم النهار و مشاكله و ما يحصل فيه من التعب و المشقة و هذا إشارة إلى قوله تعالى:(1)«وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً» .

ثم أكد ذلك بأنه ليس الليل وقتا للسفر و الرحيل و إذا كان للراحة فليرح بدنه و أبدان جنوده و كذلك ليرح ركائبه من أفراس و جمال إلى أماكن راحتها في المراح كي تستعيد قوتها و يتجدد نشاطها لقطع ما تبقى عليها من واجبات و مراده على وجه الاجمال أن يرفق بنفسه و جنده و دوابهم.

ثم أمره إذا استيقظ من نومه حين يظهر السحر و يكون وقته أو حين يظهر الفجر أمره أن يغتنم أحد هذين الوقتين فيسير فيهما على بركة اللّٰه الذي تطلبه و من أجله تسير...

(فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطا) إذا عبأت الصفوف و وقفت في مواجهة العدو و كنت و إياه في حالة المقابلة فوزع عساكرك و كن في وسطهم تدير المعركة من القلب و تشرف منه على كل كتائبك و تكون على اتصال مستمر بهم...

(و لا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب و لا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس حتى يأتيك أمري) أمره أن يكون موقعه من العدو على حد وسط فلا يقترب منهم حتى يشعرهم إنه يريد ايقاد الحرب و اشعالها و لا يبتعد عنهم بعدا مفرطا يكون موهما لهم أنه لخوفه منهم و فزعه من الحرب قد ابتعد عنهم و كذلك يجب أن يبقى حتى يأتيه أمر الإمام فإنه أعرف بالمصلحة و أدرى بأوقات الحرب و عدمها...

(و لا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم و الاعذار إليهم) لا تجعلوا بغضكم لهم سببا لشن الحرب عليهم و قتالهم بل ادعوهم إلى العودة و التوبة و إلى الوحدة و الألفة و جمع الشمل... ادعوهم إلى نبذ الفرقة فإذا تمردوا بعد دعوتكم لهم كان لكم العذر في قتالهم...7.

ص: 167


1- سورة الأنعام، آية - 97.

13 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

و قد أمّرت عليكما و على من في حيّزكما (1) مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له و أطيعا، و اجعلاه درعا (2) و مجنّا (3)، فإنّه ممّن لا يخاف وهنه (4) و لا سقطته (5) و لا بطؤه (6) عمّا الإسراع إليه أحزم (7)، و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل (8).

اللغة

1 - حيزكما: ناحيتكما.

2 - الدرع: بكسر الدال ما يلبس في الحروب للوقاية من الضرب و الطعن.

3 - المجن: بالكسر الترس.

4 - الوهن: الضعف.

5 - السقطة: العثرة و الزلة، الغلطة.

6 - البطء: التأخير و عدم الإسراع في الشيء.

7 - أحزم: أقرب للحزم و هي الشدة و الانضباط.

8 - أمثل: أصوب و أحسن.

الشرح

(و قد أمرت عليكما و على من في حيزكما مالك بن الحارث الأشتر فاسمعا له و أطيعا و اجعلاه درعا و مجنا فإنه ممّن لا يخاف وهنه و لا سقطته و لا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم و لا اسراعه إلى ما البطء عنه أمثل) هذا الكتاب أرسله الإمام إلى أميرين من أمرائه هما زياد بن النضر و شريح بن هاني أرسلهما مقدمة له عند توجهه لقتال معاوية فالتقيا بأبي الأعور السلمي في جند من أهل الشام فبعثا إلى الإمام أن يأمرهما بأمره

ص: 168

فأرسل إليهما هذه الرسالة و أمّر عليهما و على من معهما مالك الأشتر بعد أن زوده بالتوجيهات اللازمة لاتخاذ المواقف الحاسمة.

و هذا الكتاب ينبىء عن عظمة مالك و مدى ثقة الإمام به و قد كتبنا عنه دراسة مستقلة أخرجتها دار الأضواء تحت عنوان «مالك الأشتر و عهد الإمام له» و قد اتينا على جملة من مناقبه و كلمات الإمام فيه و بيان شخصيته العظيمة و هذا الكتاب من الشواهد على علو رتبته و مقامه...

قد جعلت عليكما و على من تحت أمرتكما مالك بن الحارث الأشتر أميرا فكونوا تحت أمرته و اسمعا له ما يقول و أطيعا أمره... لا تناقشا فيما يذهب إليه بل نفذا أمره و اجعلاه درعا و مجنا اجعلاه في الواجهة على رأس الجيش فإنه يدفع عنكما القتل و الضرب و هو صاحب الرأي.

ثم أعطاه ثقة كبيرة قلما يعطيها الإمام لأحد: فإنه مما لا يخاف وهنه و لا سقطته فليس بالضعيف الذليل الذي يسقط أمام الضرب و في ميدان المعركة كما أن أخطاؤه مأمونة يفكر في الأمور فلا يعثر أو تزلّ به القدم...

و أخيرا أثنى عليه و أعطاه ثقته ليطمئن قلبيهما إلى صحة هذا الاختيار.

«و لا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم و لا أسراعه إلى ما البطء عنه أمثل».

فهو حكيم يضع الأمور مواضعها فإن كان الاسراع في أمر هو المطلوب فإنه لا يتأخر و لا يسّوف بل يسرع فيه و ينفذه بقوة و إذا كان البطء هو المطلوب و الأحسن فإنه لا يبادر و لا يسرع بل يؤخر الأمور و يسوفها حتى يأتي وقتها...

ص: 169

14 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

لعسكره قبل لقاء العدو بصفيّن لا تقاتلوهم حتّى يبدءوكم، فإنّكم بحمد اللّٰه على حجّة (1)، و ترككم إيّاهم حتّى يبدءوكم حجّة أخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّٰه فلا تقتلوا مدبرا (3)، و لا تصيبوا معورا (4)، و لا تجهزوا (5) على جريح (6)، و لا تهيجوا (7) النّساء بأذى. و إن شتمن (8) أعراضكم (9)، و سببن أمراءكم، فإنّهنّ ضعيفات القوى و الأنفس و العقول، إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ و إنّهنّ لمشركات، و إن كان الرّجل ليتناول المرأة في الجاهليّة بالفهر (10) أو الهراوة (11) فيعيّر (12) بها و عقبه (13) من بعده.

اللغة

1 - الحجة: البرهان.

2 - هزم العدو: كسر و فلّ و أصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى يتحطم.

3 - المدبر: الهارب، الذي أعطى دبره للمعركة و هرب.

4 - المعور: من العورة قال ابن الأثير كل عيب و خلل في شيء فهو عوره و العوره سوأة الإنسان.

5 - اجهز على الجريح: شد عليه و أسرع و أتم قتله.

6 - الجريح: المجروح المصاب بجرح.

7 - اهجت الشيء: أثرته و حركته.

8 - الشتم: السب.

9 - العرض: بكسر العين ما يفتخر الإنسان به من حسب و شرف، ما يصونه الإنسان.

ص: 170

10 - الفهر: بالكسر الحجر ملء الكف.

11 - الهراوة: بالكسر العصا.

12 - يعير: يعاب و يذام.

13 - عقب الرجل: ولده و ولد ولده و من يأتي من ذريته.

الشرح

(لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم فإنكم بحمد اللّٰه على حجة و ترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم عليهم) هذه وصية لمقاتليه إن حالفهم النصر أن يكونوا أهل أدب و أخلاق و خصوصا في معركة قائمة أخذت معها الأحبة و الأعزاء فقد ينتقم عندها المقاتل لنفسه و ينسى ربه، فهذه الوصية نور يهدي المقاتل إلى اللّٰه و ابتدأها بهذا النهي عن البدء بقتال العدو... لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم لتتأكد الحجة عليهم و تقوى و تصبح حجة أخرى فضلا عن الأولى...

الحجة الأولى هي أن أصحابه مع الخلافة الشرعية و مع الخليفة الذي انعقدت له البيعة فالخارج عنها معتدّ من البغاة الذين يستحقون القتال و يجب ردهم إلى ما اتفقت عليه الناس.

و الحجة الأخرى بعد هذه هي ابتداؤهم لكم بالقتال فتقوم عليهم حجتان...

(فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّٰه فلا تقتلوا مدبرا و لا تصيبوا معورا و لا تجهزوا على جريح) إذا كانت الهزيمة للأعداء بإذن اللّٰه فلا تقتلوا موليا هاربا فارا بنفسه و لا تقتلوا أيضا من وقع تحت أيديكم و استطعتم الإمساك به و امكنتكم الفرصة من أخذه.

كما نهاهم أن يجهزوا على جريح أي لا تشتدوا عليه فتتموا قتله...

(و لا تهيجوا النساء بأذى و إن شتمن اعراضكم و سببن امراءكم فإنهن ضعيفات القوى و الأنفس و العقول إن كنا لنؤمر بالكف عنهن و إنهن لمشركات و إن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعيّر بها و عقبه من بعده) و هذه نظرة علوية عميقة و إحساس بشعور الآخرين حتى مع اساءتهم و اعتدائهم شعورا معهم بالمصاب الذي أحاط بهم و انسجاما مع شخصيتهم الضعيفة...

لا تهيجوا النساء بأذى أي لا تثيروا شعورهن بأذى يحصل منكم حتى و إن نلن من اعراضكم بأن عابوكم بها و سببن امراءكم لأنهن ضعيفات القوى أي قدرة المرأة ضعيفة لا

ص: 171

تستطيع مواجهة الرجل فلذا تنتقم منه بسلاحها الذي بين يديها و هو لسانها و أما كونهن ضعيفات الأنفس فلأنهن عاطفيات ينجررن بأبسط نظرة أو كلمة طيبة إنهن لا يملكن إلا الدمعة و البسمة و بهما تتحول المرأة من خط المواجهة إلى خط الموافقة و إذا كانت العاطفة قوية مشبوبة تعطلت لغة العقول و توقف العمل بها إذ تقع تحت تأثير تلك العاطفة فتخضع لها و تكون ضعيفة في مواجهتها...

ثم أراد أن يثير حفائظ جنده ليقوموا بهذا الأمر و يمتثلوا ما قاله لهم من عدم أثارة النساء و ذلك من خلال ذكره لحالتين:

الأولى: تذكيرهم بأن المرأة في الجاهلية كان لا يتعرض لها أحد و إن سبت و شتمت و نالت من المقاتلين فإذا كانت في الجاهلية تعامل بهذا الأسلوب فلا يجوز أن تعامل و ظاهرها الإسلام بالإثارة و الازعاج...

الثانية: تذكيرهم بأمر فيه العار الذي يلاحق الرجل المتعرض للمرأة بحيث لو تناول أحدهم امرأة بحجر أو عصا يعيّر هو بذلك في حياته و يعيّر به خلفه و ذريته من بعده...

ص: 172

15 - و من دعاء له عليه السلام

اشارة

كان عليه السلام يقول إذا لقي العدو محاربا:

اللّهمّ إليك أفضت (1) القلوب، و مدّت (2) الأعناق (3)، و شخصت (4) الأبصار، و نقلت الأقدام، و أنضيت (5) الأبدان (6). اللّهمّ قد صرّح (7) مكنون (8) الشّنان (9)، و جاشت (10) مراجل (11) الأضغان (12) اللّهمّ إنّا نشكو إليك غيبة (13) نبيّنا، و كثرة عدوّنا، و تشتّت (14) أهوائنا «ربّنا افتح (15) بيننا و بين قومنا بالحقّ ، و أنت خير الفاتحين».

اللغة

1 - أفضت: وصلت و دنت و قربت.

2 - مدت: تطاولت.

3 - الأعناق: جمع عنق وصلة ما بين الرأس و البدن.

4 - شخصت الأبصار: ارتفعت نحو الشيء بحيث لا تطرف.

5 - النضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار و أذهبت لحمها و أنضيت الأبدان بمعنى هزلت.

6 - الأبدان: الأجسام و الأجساد.

7 - صرّح: انكشف و ظهر.

8 - المكنون: المستور.

9 - الشنآن: البغض و الكراهية.

10 - جاشت: غلت و اضطربت.

11 - المراجل: جمع المرجل و هو القدر.

12 - الاضغان: الأحقاد.

13 - الغيبة: البعد عن الشيء، عدم الحضور.

ص: 173

14 - التشتت: التفرق.

15 - افتح: أحكم.

الشرح

(اللهم إليك أفضت القلوب و مدت الأعناق و شخصت الأبصار و نقلت الأقدام و انضيت الأبدان) لم يقاتل الإمام إلا للّٰه فهو على صلة به مستمرة، إليه يتوجه و في سبيله يجاهد و من هنا كانت ضرباته من أجل اللّٰه و كلماته من أجله، جهاده باللسان على حد جهاده بالسنان، كان هناك الترابط المتين و اللقاء الحميم بين المعركة المسلحة و المعركة في الكلام...

عند ما يتوجه الإمام إلى العدو يتوجه إلى اللّٰه بالدعاء و عند ما يلتحم الجيشان يكون الدعاء... و عند ما تنتهي المعركة يكون الدعاء... بين استعانة باللّٰه و حاجة إليه و شكر لنعمه... و كلمات الإمام في أدعيته سواء في الحرب أو في السلم صورة عميقة عن النفس الشفافة الطاهرة التي عرفت اللّٰه و عشقت مناجاته و حب اللقاء به... في دعاء كميل بن زياد... في دعاء الصباح في غيرهما من الأدعية تقرأ النفس المشتاقة إلى اللّٰه المحبة له التي تذوب أمامه و تصغر أمام عظمته... استرحاما و استعطافا و شرح الحال الفقيرة.. طلب المغفرة.. التوبة.. و هكذا... و هذا الدعاء من الإمام نموذج من تلك الأدعية التي تعددت و تكثرت عنه و عن أولاده...

انطلق اللسان يحكي عن عمق ما في القلب و بكلمة (اللهم) التي تحمل الانكسار، انكسار الحاجة من المنادي نحو المنادى و تحمل الاستعطاف و الرقة إليك يا رب وحدك لا شريك لك اتصلت بك القلوب و توجهت إليك و حلّت بساحتك فالنية إليك و إلى الجهاد في سبيلك، لقد تطاولت الأعناق و استشرفت أبواب رحمتك و كذلك ارتفعت الأبصار ناظرة إلى جودك و كرمك و لا تلتفت إلى سوى فضلك... إليك يا رب تحركت الأقدام من مواطنها و أماكن سكنها قاصدة رضاك و جهاد عدوك و إليك و من أجلك اتعبنا الأبدان و أهزلناها في هذا السفر المضني الطويل...

(اللهم قد صرّح مكنون الشنآن و جاشت مراجل الاضغان) هذا بيان لسبب قتال أعدائه له إنهم كانوا يقاتلونه لبغضهم له و قد كان هذا البغض مستورا في زمن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم و لكن الأحداث الآن كشفته و أظهرته.

و كذلك كانت نفوسهم تغلي عليه و تتقد، كانوا يتحرقون على أخذ الثأر منه لأنه

ص: 174

و ترهم في آبائهم و أجدادهم و أقربائهم في معارك الإسلام في بدر و أحد و الأحزاب فمنذ ذلك الوقت و ضرام الحقد يغلي في النفوس و يتحينون الفرص للأخذ بثأرهم و قد آن الأوان لذلك.. لقد حان الوقت الذي يستطيعون فيه القصاص من قاتل آبائهم و أحبابهم...

(اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا و كثرة عدونا و تشتت أهوائنا «ربنا أفتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين») ما أعظم هذا الكلمات و شدة ربطها بما تقدم... اللهم نداء و دعاء و استعطاف... بها يرتاح الإنسان من ألمه و يرتفع عن حزنه.. بيان لأسباب الحرب التي شنها الأعداء عليه، إنها غيبة رسول اللّٰه و شهادته التي جمعت العدو و وحدّت صفوفهم لقد كانوا زمن رسول اللّٰه مقهورين أذلاء أما الآن و بعد فقده فقد تجمعوا و التقوا على حرب أهله و في مقابل اجتماعهم و كثرتهم هناك تفرقنا في الآراء و الأهواء فلا يجمعنا وحدة هدف و لا لقاء في سبيل اللّٰه و هذا بيان لأختلاف مشارب أصحابه و توجهاتهم و ما هم عليه من عدم الوفاق.

و أخيرا دعا بالنصر لمن كان الحق معه...

ص: 175

16 - و كان يقول عليه السلام

اشارة

لأصحابه عند الحرب:

لا تشتدّنّ (1) عليكم فرّة (2) بعدها كرّة (3)، و لا جولة (4) بعدها حملة (5)، و أعطوا السّيوف حقوقها، و وطّئوا (7) للجنوب (8) مصارعها (9)، و اذمروا (10) أنفسكم على الطّعن (11) الدّعسيّ (12)، و الضّرب الطّلحفيّ (13)، و أميتوا الأصوات (14)، فإنّه أطرد (15) للفشل (16). فوالّذي فلق (17) الحبّة (18)، و برأ النّسمة (20)، ما أسلموا و لكن استسلموا، و أسرّوا (21) الكفر، فلمّا وجدوا أعوانا (22) عليه أظهروه.

اللغة

1 - اشتد عليه الأمر: شق عليه و استصعبه.

2 - الفرة: المرة من الفرار و هو الهرب.

3 - الكرة: الرجوع.

4 - الجولة: الدورة في الحرب.

5 - الحملة في الحرب: الكرة في الحرب.

6 - التوطين: اتخاذ المكان محل سكن له.

7 - التوطئة: التمهيد.

8 - الجنوب: جمع الجنب و في الأصل للجارحة و يستعار للجهة التي تليها.

9 - المصارع: جمع مصرع مكان القتل.

10 - ذمّره على الأمر: حثه عليه بشدة و حرضه.

11 - الطعن في الرمح: ضربه و وخزه به.

12 - الدعسي: منسوب إلى الدعس و هو الأثر و قيل الأصل معناه الدفع ثم يستعمل في الطعن و الشدة و الأثر و قيل أن أصل الدعس الحشو.

ص: 176

13 - الطلحفي: بكسر الطاء و فتح اللام أشد الضرب.

14 - إماتة الصوت: اخفاؤه.

15 - اطرد: من الطرد و هو الإبعاد.

16 - الفشل: جبن مع ضعف القلب.

17 - فلق: شق.

18 - الحبة: البزرة.

19 - برأ: خلق.

20 - النسمة: النفس و الروح.

21 - اسروا: ابطنوا.

22 - الأعوان: الأنصار.

الشرح

(لا تشتدن عليكم فرة بعدها كرة و لا جولة بعدها حملة) وصيته إلى أصحابه المقاتلين كيف ينبغي أن يكون حالهم عند ما يلتقون مع الأعداء في ساحات القتال و كيف تكون مواجهتهم لهم و استعدادهم و مقابلتهم...

و باعتبار أن الفرار عار فقد هونه عليهم قائلا لا تستصعبوا فرة من أمام الأعداء تفرونها إذا اعقبتها كرة عليهم تكون لصالحكم فالعار و الصعوبة إنما يكون في فرّ لا كرّ بعده كما إنه لا عيب و لا صعوبة في حملة يقوم بها الأعداء عليكم تنال منكم و تقهركم مؤقتا إذا اعقبتها حملة منكم شديدة على اعدائكم تؤدبهم و تعذبهم... فالحرب كرّ و فرّ و العيب كل العيب في الفر بدون كر...

(و اعطوا السيوف حقوقها) هذا تحريض شديد لهم على الجد في القتال و إن للسيف حقا على صاحبه و هو أن يضرب به الأعداء ضربات فتك و قوة في الأعناق و الأطراف...

(و وطئوا للجنوب مصارعها) هيؤا بضرباتكم الحاسمة لأجداث الأعداء و صرعاها موطنا دائما لا تقوم منها و بعبارة أخرى أ جعلوا ضرباتكم تلحق أعداءكم في قبورهم...

(و أذمروا انفسكم على الطعن الدعسي و الضرب الطلحفي) أمرهم أن يشتدوا في ضرب الأعداء ضربا يظهر أثره في قتلاهم ضربا بالسيوف و طعنا بالرماح من أشد الطعن و الضرب...

ص: 177

(و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل) أمرهم بخفض الأصوات و عدم ارتفاعها و علل ذلك بأنها تدفع الجبن و الهلع فإن القوي صامت هادىء كالبحر في سكونه و هدؤه و أما الذي يهدّد و يهدر و يتوعد و يرتفع صوته فدليل خوفه و جبنه...

(فوالذي فلق الحبة و برأ النسمة ما اسلموا و لكن استسملوا و اسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه اظهروه) أقسم عليه السلام و هو الصادق أقسم باللّٰه الذي شق الحبة - البذرة - فأخرج منها الزرع و الأشجار و كذلك أقسم باللّٰه الذي خلق الأنفس أن معاوية و عمرو بن العاص و من معهما لم يسملوا و لكن استسلموا خوفا من أن يطالهم سيف الإسلام فتذهب دماؤهم، إنهم ابطنوا الكفر و أخفوه في نفوسهم فلما وجدوا له متنفسا و استطاعوا اظهاره بعد أن وجدوا الأعوان عليه اظهروه و هذه الحرب هي التي أخرجت كفرهم و كشفتهم على حقيقتهم...

ص: 178

17 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية، جوابا عن كتاب منه إليه و أمّا طلبك إليّ الشّام فإنّي لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس. و أمّا قولك: إنّ الحرب قد أكلت العرب إلاّ حشاشات (1) أنفس بقيت، ألا و من أكله الحقّ فإلى الجنّة، و من أكله الباطل فإلى النّار. و أمّا استواؤنا (2) في الحرب و الرّجال فلست بأمضى على الشّكّ منّي على اليقين، و ليس أهل الشّام بأحرص (3) على الدّنيا من أهل العراق على الآخرة. و أمّا قولك: إنّا بنو عبد مناف (4)، فكذلك نحن، و لكن ليس أميّة (5) كهاشم (6)، و لا حرب (7) كعبد المطّلب (8)، و لا أبو سفيان (9) كأبي طالب (10)، و لا المهاجر (11) كالطّليق (12)، و لا الصّريح (13) كالّلصيق (14)، و لا المحقّ كالمبطل، و لا المؤمن كالمدغل (15). و لبئس الخلف (16) خلف يتبع سلفا (17) هوى في نار جهنّم.

و في أيدينا بعد فضل (18) النّبوّة الّتي أذللنا بها العزيز، و نعشنا (19) بها الذّليل. و لمّا أدخل اللّٰه العرب في دينه أفواجا (20)، و أسلمت له هذه الأمّة طوعا و كرها، كنتم ممّن دخل في الدّين: إمّا رغبة و إمّا رهبة، على حين فاز أهل السّبق بسبقهم، و ذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم. فلا تجعلنّ للشّيطان فيك نصيبا، و لا على نفسك سبيلا، و السّلام.

ص: 179

اللغة

1 - الحشاشات: جمع حشاشة بالضم بقية الروح في بدن المريض.

2 - استواؤنا: مساواتنا و اعتدالنا.

3 - أحرص: الجشع و البخل و حرص على الشيء اشتد شرهه إليه و عظم تمسكه و بخله به.

4 - عبد مناف: والد هاشم و أمية.

5 - أمية: الجد الأعلى لمعاوية.

6 - هاشم: الجد الأعلى للإمام علي.

7 - حرب: والد أبو سفيان وجد معاوية.

8 - عبد المطلب: والد أبو طالب وجد الإمام علي.

9 - أبو سفيان: صخر بن حرب والد معاوية بن أبي سفيان.

10 - أبو طالب: شيخ الأبطح و والد الإمام علي.

11 - المهاجر: من آمن في المخافة و هاجر تخلصا منها.

12 - الطليق: الأسير إذا أطلق سبيله و طلقاء الفتح هم الذين تركهم النبي و لم يسترقهم يوم الفتح.

13 - الصريح: الخالص من كل شيء و يقال صريح النسب خالص النسب صحيحه.

14 - اللصيق: الدعي في قوم الملصق بهم و ليس منهم.

15 - المدغل: من الدغل و هو الفساد من الداخل.

16 - الخلف: المتأخر من الأولاد و الأحفاد.

17 - السلف: ما تقدم من الآباء و الأجداد.

18 - الفضل: البقية، الزيادة، الإحسان ابتداء.

19 - نعشنا: رفعنا.

20 - الأفواج: جمع فوج الجماعة.

الشرح

(و أما طلبك إليّ الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس، و أما قولك: إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت، ألا و من أكله الحق فإلى الجنة و من أكله الباطل فإلى النار) كان معاوية قد كتب إلى الإمام كتابا يطلب منه أن يعطيه الشام و أن لا يكون له في عنقه بيعة.

ص: 180

ثم إنه في أيام صفين الشديدة قال معاوية إلى عمرو بن العاص: قد رأيت أن أعاود عليا و أسأله إقراري على الشام فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه و لأكتبن ثانية فألقي في نفسه الشك و الرقة.

فقال له عمرو بن العاص و ضحك: أين أنت يا معاوية من خدعة علي عليه السلام.

قال: ألسنا بني عبد مناف.

قال: بلى و لكن لهم النبوة دونك و إن شئت أن تكتب فاكتب.

فكتب معاوية إلى علي عليه السلام مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة و كان من نافلة أهل العراق:

أما بعد فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض و لئن كنا قد غلبنا على عقولنا لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى و نصلح به ما بقي و قد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك بيعة و طاعة فأبيت ذلك عليّ فأعطاني اللّٰه ما منعت، و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو و لا أخاف من الموت إلا ما تخاف و قد و اللّٰه فارقت الأجناد و ذهبت الرجال و نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز و لا يسترق به حر و السلام...

فلما وصل الكتاب إلى الإمام كتب إليه هذا الكتاب يرد فيه عليه و يفند دعواه...

أولا: رفض عليه السلام أن يعطيه الشام الآن كما رفض إعطاؤها له بالأمس و بهذا قطع أمنيته و ما كان يحلم به فإن عليا عليه السلام رجل المبدأ و العقيدة لم يكن ليداهن في أمره أو يغير موقفه.

ثانيا: إن معاوية كتب إليه أنه لم يبق إلا أنفس جريحة مكلومة نتيجة للحرب فرد عليه السلام رد الواثق بنفسه و بطريقه و بما يهدف إليه... رد الإنسان الذي يجاهد في سبيل اللّٰه و يعرف أن طريقه و طريق من معه إلى الجنة... إن أصحابنا الذين استشهدوا في سبيل الحق فإلى الجنة و أما أنت و من معك فلجهادكم في سبيل الباطل فإلى النار...(1)

(و أما استواؤنا في الحرب و الرجال فلست بأمضى على الشك مني على اليقين21

ص: 181


1- ابن أبي الحديد ج 15 ص 121

و ليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة) و ثالثا: بيّن عدم المساواة في الحرب فإن عليا يحارب و هو على يقين من أنه يجاهد في سبيل اللّٰه لأنه الخليفة الشرعي و واجبه قتال البغاة و ردهم إلى الطاعة بينما معاوية يحارب و هو على شك بل على يقين من بغيه و فساده... و أما الرجال فإن أهل العراق أحرص على الآخرة و طلبها من حرص أهل الشام على الدنيا و طلبهم لها، و من يكون أشد حرصا على الآخرة لا بد و أن ينتصر على من يكون حريصا على الدنيا...

(و أما قولك: إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن و لكن ليس أمية كهاشم و لا حرب كعبد المطلب و لا أبو سفيان كأبي طالب) أراد معاوية بقوله: إننا و أنتم من عبد مناف أراد استعطاف أمير المؤمنين أو مضاهاته في شرف النسب فأجابه الإمام لقد فرّقت بيننا الأعمال و ميزتنا المناقب و الصفات فليس آبائي كآبائك فآباء الإمام أهل شرف و كرم بل كانوا أكرم الناس و أشرفهم أما أبو طالب فهو الذي منع قريشا من إيذاء النبي و دافع عنه أشد الدفاع.

قال اليعقوبي عنه: و كان أبو طالب سيدا شريفا مطاعا مهيبا مع إملاقه بينما كان أبو سفيان أشد الناس عداء للنبي و هو الذي جيّش الجيوش لحرب المسلمين في بدر و أحد و الأحزاب و لم يسلم بل استسلم ليحفظ خيط رقبته.

و أما عبد المطلب ففي سيرة ابن هشام أنه ولي السقاية و الرفادة... فأقامها للناس... و شرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه و أحبه قومه و عظم خطره فيهم.

و ينقل التاريخ رؤياه في حفر بئر زمزم و ما نذره من نذر يذبح فيه ولده.

و أما عبد المطلب فكان شيخ قريش يبسط له في ظل الكعبة فراشا يجلس عليه و يلتف حوله بنوه و كان رسول اللّٰه يأتي فيجلس على نفس الفراش فيريدون أخذه فيقول عبد المطلب: دعوا ابني فواللّٰه إن له لشأنا ثم يجلسه على فراشه.

و أما هاشم فهناك بيت القصيد سنّ الرحلتين لقريش و كان أجود العرب و به قال الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه *** قوم بمكة مسنتين عجاف

سنت إليه الرحلتان كلاهما *** سفر الشتاء و رحلة الأصياف

هذه لمحة سريعة عن آباء علي و اذهب و اقرأ سيرة آباء معاوية دناءة و مؤامرة و اعتداء و تجاوز على الحقوق، إن تزعّموا فلا عن استحقاق و إن ترأسوا فبالباطل و الظلم

ص: 182

فلا الآباء كالآباء و لا الأمهات كالأمهات و أنى لعاقل أن يقيس الدر بالصدف و الذهب بالزخرف...

(و لا المهاجر كالطليق) أشار عليه السلام إلى نفسه و إلى معاوية فعلي قد خرج مع المسلمين تاركا مكة مهاجرا إلى المدينة و تلك منقبة عظيمة رفعت المهاجرين و منهم الإمام قال تعالى: «وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ » (1).

و أين هذا من معاوية الطليق الذي أسر في فتح مكة فمنّ عليه رسول اللّٰه فأطلقه...

(و لا الصريح كاللصيق) فالصريح هو الطاهر الخالص من عيوب الآباء و الأمهات و إن عفة الأمهات و طهارة الآباء كانت معروفة عند بني هاشم عكس الأمويين و كلام الإمام يشير إلى غمز في نسب معاوية و هذا ما تصدقه الروايات و تحكيه كتب الأنساب.

و قيل: إن الصريح إشارة إلى نفسه مسلم خالص دون شك بينما معاوية لم يسلم عن اعتقاد و إنما أسلم خوف السيف...

(و لا المحق كالمبطل و لا المؤمن كالمدغل) و هذه أيضا من الصفات المتقابلة فكل صفة كريمة فيه يقابلها صفة ذميمة في معاوية.

فإن عليا على الحق لأنه الخليفة الذي تم انتخابه و بايعه المسلمون فانعقدت له البيعة و وجبت في أعناق المسلمين و لا يمكن لأحد الخروج منها.

أما معاوية فهو رجل باغ معتد خرج على الجماعة و فرّق وحدة الأمة فهو مبطل في طلبه و فيما يذهب إليه و لا يتساوى المحق و المبطل في ميزان العدل و حكم العقل...

و كذلك لا يتساوى المؤمن الذي أسلم عن عقيدة راسخة و التزم أحكام اللّٰه يشير إلى نفسه و بين المدغل الذي هو خبيث الباطن منافق فاسق.

(و لبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم) و هذا ذم لمعاوية و لآبائه بما فيهم أبو سفيان فأنت يا معاوية لرذائلك بئس الخلف تتبع سلفا سقطوا في نار جهنم فلرذائله تساوى مع أسلافه الذين سقطوا في نار جهنم...0.

ص: 183


1- سورة التوبة، آية - 100.

(و في أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز و نعشنا بها الذليل) هذا رد على ما ورد في كتاب معاوية الذي يقول فيه: «ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز و لا يسترق به حر».

فالإمام يقول له: إن لنا فضلا آخر عليكم بعد الفضائل المتقدمة و هو فضل النبوة و لما استثنى معاوية أن يكون الفضل مما يستذل به أو يسترق ذكر الإمام أن هذا الفضل قد أذل العزيز من الطغاة و الظالمين كأبي سفيان و أبي جهل و غيرهما كما أن به ارتفعت منازل الضعفاء و الفقراء و أصبحوا قادة و سادة.

(و لما أدخل اللّٰه العرب في دينه أفواجا و أسلمت له هذه الأمة طوعا و كرها كنتم ممن دخل في الدين: إما رغبة و إما رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقهم و ذهب المهاجرون الأولون بفضلهم فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا و لا على نفسك سبيلا، و السلام) بعد ذكره لفضائله و فضائل بني هاشم على بني أمية أتبع عليه السلام ذلك بذكر رذيلة أموية تكشف عن عدم قناعتهم بالإسلام كدين يحكم النفس و الضمير و السلوك و ذلك بذكر أن العرب دخلت في دين اللّٰه أفواجا فمنهم من دخل عن إيمان و قناعة و منهم من دخل كرها عنه لما رأى قوة الإسلام و اندفاع المسلمين و ما يتمتعون به من مقدرة و فتوحات.

و أما الأمويون فإنهم لم يدخلوا في الإسلام إلا لأحد أمرين إما رغبة في الغنائم و المكاسب و المنافع و إما خوفا من حد السيف أن يطالهم و مثل هذا الدخول في الإسلام إنما هو دخول شكلا لا حقيقة و ظاهرا لا عمقا ففي حين كنتم هكذا فقد فاز أهل القدم السابقة ممن دخلوا الإسلام عن عقيدة كالأنصار و المهاجرين الذين دخلوا الإسلام لإيمانهم و عقيدتهم بأنه دين اللّٰه...

ثم نهاه أن يستمر الشيطان في تسييره و يبقى ضاربا معه بنصيب كما نهاه أن يجعل على نفسه سبيلا من القتل أو المطاردة و الحرب...

ص: 184

18 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عبد الله بن عباس و هو عامله على البصرة و اعلم أنّ البصرة مهبط إبليس (1)، و مغرس (2) الفتن (3)، فحادث (4) أهلها بالإحسان إليهم، و احلل (5) عقدة (6) الخوف عن قلوبهم.

و قد بلغني تنمّرك (7) لبني تميم (8)، و غلظتك (9) عليهم، و إنّ بني تميم لم يغب لهم نجم (10) إلاّ طلع لهم آخر، و إنّهم لم يسبقوا بوغم (11) في جاهليّة و لا إسلام، و إنّ لهم بنا رحما (12) ماسّة، و قرابة خاصّة، نحن مأجورون (13) على صلتها، و مأزورون (14) على قطيعتها. فاربع (15) أبا العبّاس، رحمك اللّٰه، فيما جرى على لسانك و يدك من خير و شرّ! فإنّا شريكان في ذلك، و كن عند صالح ظنّي بك، و لا يفيلنّ (16) رأيي فيك، و السّلام.

اللغة

1 - مهبط إبليس: موضع هبوطه و نزوله.

2 - المغرس: موضع الغرس يقال: غرس الشجرة إذا أثبتها في الأرض.

3 - الفتن: جمع فتنة اختلاف الناس في الآراء.

4 - حادث أهلها: تعهدهم و حادثوا القلوب بذكر اللّٰه اجلوها و اغسلوا درنها.

5 - أحلل: من حلّ العقدة إذا فكّها و نقضها فانحلت.

6 - العقدة: الأمر المبرم.

7 - التنمر: سوء الأخلاق و تغيرها و هو مأخوذ من النمر الحيوان المعروف بشراسة خلقه.

ص: 185

8 - تميم: قبيلة عربية.

9 - الغلظة: الخشونة، ضد الرقة.

10 - النجم: الكوكب و يطلق على سيد القوم و الشريف فيهم.

11 - الوغم: الترة، و الحرب، الحقد الثابت في الصدر.

12 - الرحم الماسة: القرابة القريبة.

13 - مأجورون: من الأجر و هو الثواب و العوض.

14 - مأزورون: من الوزر و هو الإثم.

15 - أربع: قف، و تثبّت، و كفّ .

16 - لا يفيلن: من فال رأيه ضعف و أخطأ.

الشرح

اشارة

(و اعلم أن البصرة مهبط إبليس و مغرس الفتن فحادث أهلها بالإحسان إليهم و احلل عقدة الخوف عن قلوبهم) بعد أن انتصر الإمام في معركة الجمل على الناكثين و أراد الرحيل عنها إلى الكوفة عيّن عبد الله بن عباس واليا عليها.

و لما كان بنو تميم من الذين جاهروا بعدائهم للإمام و وقفوا في الحرب إلى جانب الناكثين و قاتلوا معهم حمل عليهم ابن عباس و أقصاهم و تنكر لهم و عيّرهم بفعلهم فاشتد ذلك على بعض بني تميم ممّن هم أولياء للإمام فكتب بذلك حارثة بن قدامة إلى الإمام يشكو ابن عباس فكتب له الإمام هذه الرسالة.

اعلم يا ابن عباس أن البصرة محل نزول إبليس و هي مهوى فؤاده و هي منشأ الفتن و فيها غرست أصولها و ذلك باعتبار أن الفرقة الناكثة نزلت فيها و دارت رحى الحرب على أرضها و فتحت منها أبواب الفتن بين المسلمين فلتسلط إبليس على الناكثين و تسخيره لهم و تحويلهم إلى جند له في المعصية و التمرد فكأنه لعنه اللّٰه قد نزل فيها...

ثم أمره بأمر فيه مصلحة المجتمع و الدولة و إن كانت البصرة مرتع إبليس و محل الفتنة، أمره أن يتعهدهم بما ينفعهم و يفيدهم و يرفع عنهم اللوم و يكف عن ذمهم و تهديدهم و أن لا يأخذهم بما سلف منهم بل يتسامح معهم و يصفح عنهم و يتجاوز عما كان و يستبدل إساءتهم بالإحسان إليهم...

و بعبارة أخرى ازرع في قلوبهم الطمأنينة و الأمن و إنك لا تأخذ أحدا منهم بما كان منه و هذه من خصائص أمير المؤمنين الذاتية أنه يتجاوز عن سيئات الآخرين و إساءاتهم...

ص: 186

(و قد بلغني تنمرك لبني تميم و غلظتك عليهم) هذا ما وصل إلى الإمام عن ابن عباس و أوجب عليه أن يكتب له هذه الرسالة و هي أن أخلاق ابن عباس قد تغيرت و ساءت مع بني تميم فكان غليظا عليهم يزدريهم و يحتقرهم و يعيبهم و هذه لم تعهد من ابن عباس من ذي قبل و إنما اتخذ هذا الأمر لموقفهم العدائي لأمير المؤمنين و قتالهم له...

(و إن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر و أنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية و لا إسلام و أن لهم بنا رحما ماسة و قرابة خاصة نحن مأجورون على صلتها و مأزورون على قطيعتها) ذكر الإمام ثلاث صفات يتمتع بها بنو تميم توجب على ابن عباس أن يغيّر موقفه منهم.

1 - إنهم لم يفقدوا القيادة الرشيدة منهم و لم يعدموا الزعامة بل كان إذا مات زعيم منهم لمع آخر مكانه، سد فراغه و ملأ مكانه و من كانت هذه حالهم يجب أن لا يثاروا و لا يؤخذوا بالإزدراء و الإهانة.

2 - إنهم لشرف نفوسهم و إبائهم الذل لم يهدر لهم دم لا في الجاهلية و لا في الإسلام فإنهم يأخذون بثأرهم و لا يحقدون على أحد أو أنهم لشرفهم لا يحقدون على أحد لأن الضعيف هو الذي يحقد.

3 - إن لهم قرابة و رحما ببني هاشم و فسّرت هذه القرابة من جهة اتصالهما بجد واحد و هو إلياس بن مضر أحد أجدادهما المتقدمين و قيل: لأن الإمام كان صهرا لهم و على كل حال رتب عليه السلام على صلة الرحم الأجر و الثواب إن وصلها و الإثم و الوزر إن قطعها و العاقل لا يختار على رضا اللّٰه و ثوابه شيئا...

(فاربع أبا العباس رحمك اللّٰه فيما جرى على لسانك و يدك من خير و شر فإنا شريكان في ذلك و كن عند صالح ظني بك و لا يفيلن رأي فيك و السلام) أمره عليه السلام أن يتثبت فيما يقوله و يتدبر فيما يتكلم و يحسب لكل كلمة أو فعل حسابه في ميزان الخير و الشر فإن كان خيرا أقدم عليه و إن كان شرا كف عنه و لا يستعجل فيما يخطر له أو يهمّ به لأنه قد يضر بالمصلحة العامة و بسياسة الدولة العادلة.

ثم بيّن له أن كل خطيئة يرتكبها ابن عباس فهو عليه السلام شريك له فيها فابن عباس بالمباشرة و الإمام بالتسبيب لأنه هو الذي عيّنه في مكانه الذي هو فيه.

ثم أخيرا قال له: إني أظن بك الصلاح و الكفاءة لإدارة البلاد فكن عند حسن ظني بك و لا تعمل ما يوجب سوء الظن بك و قلة الثقة بتصرفك و السلام...

ص: 187

ترجمة عبد الله بن عباس.

عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن عم رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

و أمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين.

ولد قبل الهجرة بثلاث سنين و توفي رسول اللّٰه و له من العمر ثلاث عشرة سنة.

و هو والد الخلفاء العباسيين و أخو أخوة عشرة ذكور من أم الفضل للعباس و هو آخرهم مولدا و قد مات كل واحد منهم في بلد.

كان يقال له: الحبر و البحر أخذ علمه عن الصحابة و لازم الإمام و اغترف من نميره فكان قطرة من بحر الإمام تولى إمارة الحج سنة خمس و ثلاثين بإمرة عثمان و عثمان محصور و في غيبته قتل.

حضر مع الإمام يوم الجمل و كان على الميسرة يوم صفين و شهد قتال الخوارج ولاه الإمام على البصرة فكان أهلها سعداء به يفقههم في الدين و يعلمهم أحكامه و يعظهم و يعطي فقيرهم.

و عند ما أراد الحسين الخروج إلى كربلاء أشار ابن عباس بخلاف ذلك و كان قد أضر فلم يخرج معه لذلك.

و لما وقع النزاع بين ابن الزبير و بين عبد الملك بن مروان اعتزل ابن عباس و محمد بن الحنفية الناس فدعاهما ابن الزبير ليبايعان فأبيا عليه و قال كل منهما: لا نبايعك و لا نخالفك فهمّ بهما و كاد أن يحرق عليهما بيوتهما فاستنجدا بالمختار فكان الفرج و الخلاص على يديه فخرجا مع بني هاشم إلى الطائف.

توفي ابن عباس بالطائف سنة ثمان و ستين و صلى عليه محمد بن الحنفية.

ص: 188

19 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى بعض عماله أمّا بعد، فإنّ دهاقين (1) أهل بلدك شكوا منك غلظة (2) و قسوة، و احتقارا و جفوة (3)، و نظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا (4) لشركهم، و لا أن يقصوا (5) و يجفوا (6) لعهدهم (7)، فالبس لهم جلبابا (8) من الّلين تشوبه (9) بطرف (10) من الشّدّة (11)، و داول (12) لهم بين القسوة و الرّأفة (13)، و امزج (14) لهم بين التّقريب و الإدناء، و الإبعاد و الإقصاء. إن شاء اللّٰه.

اللغة

1 - الدهاقين: جمع دهقان فارسي معرب و أصله رئيس القرية و يطلق على التاجر و صاحب المال و العقار.

2 - الغلظة: الخشونة، ضد الرقة.

3 - الجفوة: ضد المواصلة و المؤانسة خلاف البر.

4 - يدنوا: من الإدناء و هو التقريب.

5 - الإقصاء: الإبعاد.

6 - يجفوا: يعاملوا بخشونة.

7 - العهد: الذمة و الأمان.

8 - الجلباب: إزار، ثوب يلبس فوق جميع الثياب كالعباءة.

9 - تشوبه: تخلطه و تمزجه.

10 - طرف: بالتحريك طائفة من الشيء و قطعة منه.

11 - الشدة: نقيض اللين و الرخاء.

12 - داول: مرة هذا و أخرى ذاك و يراد هنا وسّط بينهما.

13 - الرأفة: الرحمة.

14 - أمزج: أمر من مزج الشيء بالشيء إذا خلطه.

ص: 189

الشرح

(أما بعد فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة و قسوة و احتقارا و جفوة و نظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم و لا أن يقصوا و يجفوا لعهدهم) هذه رسالة إلى عامله على فارس و هو عمر بن أبي سلمة و كان أهلها مجوسا فشكوا خشونة أميرهم و قساوته و شدة معاملته لهم فكتب إليه الإمام هذا الكتاب.

أما بعد فإن ملاك الأرض عندك و المتزعمين و أصحاب النفوذ فيها اشتكوا لي منك خشونتك عليهم و شدتك و احتقارك و استصغارك لهم و تبعيدهم عن ساحتك...

و أنا قد نظرت و فكّرت في واقعهم فلم أجد مبررا يؤهلهم أن تدنيهم و تقربهم منك لشركهم و الشرك إسفاف في التفكير و انحطاط في العقل و يجب أن يصغر من يحمل ذلك و لا يجعل قريبا من أصحاب الولاية و كذلك في المقابل نظرت فإذا لهم عهد و ذمام و ذمة فيجب أن يحفظوا من خلالها و بمقتضاها إذن هناك جانب سلبي و آخر إيجابي و يجب أن تتعامل بكلا الأمرين و قد أشار الإمام إلى ذلك بقوله:

(فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة وداول لهم بين القسوة و الرأفة و امزج لهم بين التقريب و الإدناء و الإبعاد و الإقصاء إن شاء اللّٰه) أمره باتخاذ الحد الوسط و الاعتدال في معاملتهم، عاملهم باللين مع شيء من الشدة بحيث لا يطمعوا في لينك فيخرجوا عن حدودهم و يمنعوا حقوقهم و يتمردوا على الحكم ظنا منهم أن اللين إنما كان عن ضعف...

و أمره أن لا يستعمل القسوة دائما و لا الرأفة دائما بل تارة يأخذ هذا الجانب و أخرى ذاك و كذلك يستعمل معهم أسلوب تقريبهم مرة و إبعادهم أخرى لئلا يطمعوا بتقريبهم و لا يتذمروا بتبعيدهم مع مراعاة وجه المصلحة فيما يقتضيه الوقت...

ص: 190

20 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى زياد بن أبيه و هو خليفة عامله عبد اللّٰه بن عباس على البصرة، و عبد اللّٰه عامل أمير المؤمنين يومئذ عليها و على كور الأهواز و فارس و كرمان و غيرها و إنّي أقسم باللّٰه قسما صادقا، لئن بلغني أنّك خنت (1) من فيء (2) المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا، لأشدّنّ (3) عليك شدّة تدعك (4) قليل الوفر (5)، ثقيل الظّهر (6)، ضئيل الأمر (7)، و السّلام.

اللغة

1 - خنت: من خان إذا لم يف بما عهد إليه يقال: خان العهد إذا نقضه.

2 - الفيء: الغنيمة أو الخراج.

3 - شدّ على العدو: حمل عليه.

4 - تدعك: تتركك.

5 - الوفر: المال.

6 - ثقيل الظهر: مسكين لا تقدر على مؤنة عيالك.

7 - ضئيل الأمر: الحقير الصغير.

الشرح

(و إني أقسم باللّٰه قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر و السلام) كان زياد بن أبيه من أتباع الإمام و شيعته و قد ولاه البصرة بعد انتصاره على أهل الجمل ثم و صلته الأنباء بخيانته فكتب إليه الإمام هذه الرسالة يتهدده فيها و يتوعده و يحذره من الخيانة و عاقبتها القبيحة في الدنيا و الآخرة...

ص: 191

يقسم الإمام باللّٰه و يؤكده بأنه أقسم صادقا أنه إذا بلغه الأمر و كان على حقيقته من خيانته لأموال المسلمين و ما جلبته سيوفهم و أفاءه اللّٰه عليهم سواء كان ذلك صغيرا أم كبيرا فإنه سيحمل عليه حملة شديدة يتركه بحالة أسوأ ما يكون يجرده من أمواله و يحوّله إلى مسكين لا مال له و يثقل ظهره بما أخذه من حيث إنه يقتص منه و أخيرا يجعله حقيرا صغيرا من حيث إسقاط منزلته من أعين الناس فإن من اتهم بالخيانة و سلب منه ماله كان جديرا بازدراء الناس له و احتقارهم و استصغار شأنه...

أقول: هذا الأسلوب العلوي من مفردات العدل الذي تمتع به الإمام و انفرد عن غيره بهذه الخصائص الكريمة...

انظر كيف لا تأخذه في اللّٰه لومة لائم لا يراعي إلا اللّٰه و لا يهمه إلا أمره و إرادته فمن هنا نجد هذه الحملة على هذا الوالي كما يحمل على غيره من ولاته إن شعر منهم خيانة أو بعض التقصير...

ص: 192

21 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى زياد أيضا فدع (1) الإسراف (2) مقتصدا (3)، و اذكر في اليوم غدا، و أمسك من المال بقدر ضرورتك، و قدّم الفضل (4) ليوم حاجتك.

أترجوا أن يعطيك اللّٰه أجر المتواضعين و أنت عنده من المتكبّرين! و تطمع - و أنت متمرّغ (5) في النّعيم (6)، تمنعه الضّعيف و الأرملة (7) - أن يوجب لك ثواب المتصدّقين ؟ و إنّما المرء مجزيّ (8) بما أسلف (9) و قادم على ما قدّم، و السّلام.

اللغة

1 - دع: اترك.

2 - الإسراف: صرف المال زيادة عما ينبغي و التبذير إنفاقه فيما لا ينبغي.

3 - الاقتصاد: الاعتدال في الأمور فلا يسرف و لا يبخل.

4 - الفضل: ما يفضل من الشيء، الزيادة.

5 - متمرغ: من مرّغه بالتراب إذا معكه به و المتمرغ بالنعيم المتقلب فيه.

6 - النعيم: رغد العيش، و الدعة.

7 - الأرملة: المرأة التي مات عنها زوجها و الأرمل صفة يشترك فيها المذكر و المؤنث.

8 - مجزي: من الجزاء و هو الأجر و الثواب.

9 - أسلف: قدم.

ص: 193

الشرح

(فدع الإسراف مقتصدا و اذكر في اليوم غدا و أمسك من المال بقدر ضرورتك و قدم الفضل ليوم حاجتك) أحسن الإمام إلى زياد بن أبيه فولاه البصرة فأخذ زياد يسرف في الصرف و أطايب الطعام فكتب الإمام إليه هذا الكتاب يأمره فيه بعدة أوامر.

1 - دع الإسراف مقتصدا أي خذ طريق الاعتدال في صرف المال فلا تسرف زيادة عن اللزوم و لا تقتّر لتصبح من البخلاء بل توسط في ذلك.

2 - نبهه أن لا تشغله الطيبات و الملذات بل يعمل في هذا اليوم - في الدنيا - إلى الغد و هو ما بعد الموت و ما هو صائر إليه يوم القيامة.

3 - أمره أن يحفظ من المال بقدر ضرورته و حاجته فلا يدخر منه شيئا أزيد من الحاجة.

4 - أن يقدّم ما زاد عن الضرورة و ما هو بحاجة إليه يقدّمه ليوم الفاقة و هو يوم القيامة فإنه يوم يحتاج فيه الإنسان إلى أصغر عمل طيب يدفع به حر جهنم و نارها...

(أ ترجو أن يعطيك اللّٰه أجر المتواضعين و أنت عنده من المتكبرين و تطمع و أنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف و الأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين ؟ و إنما المرء مجزي بما أسلف و قادم على ما قدّم، و السلام) استفهم عليه السلام مستنكرا عليه ما يذهب إليه من أنه يرجو أن يعطيه اللّٰه أجر المتواضعين بينما هو من المتكبرين فإن من أراد أن يحصل على أجر المتواضعين يجب أن يتصف بهذه الصفة لا أن يتصف بضدها و خلافها...

و كذلك استنكر عليه أن يطلب أجر المتصدقين بأموالهم بينما هو يعيش البطر و الاسترخاء و يتقلب في صرف الأموال يمنعها المسكين و الفقير و الأرملة فهو يطلب أجرا لا يتفق و عمله و ما يقوم به إذن فلا أجر.

ثم أعطاه كبرى كلية و قاعدة عامة و هي «إن بين العمل و الجزاء ارتباط خاص و تلازم تام لا ينفك فما عملت من خير تجزى به خيرا تصدقت كتب اللّٰه لك أجر الصدقة... أقرضت محتاجا كتب اللّٰه لك أجر القرض و هكذا.

كما أن هناك ارتباطا أشد بين ما يعمله الإنسان في الدنيا و ما يلاقيه في الآخرة فمن عمل عملا في الدنيا قدم عليه في الآخرة فما قدمته في حياتك الدنيا وجدته في آخرتك...

ص: 194

22 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عبد اللّٰه بن العباس رحمه اللّٰه تعالى، و كان عبد اللّٰه يقول: «ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -، كانتفاعي بهذا الكلام!» أمّا بعد، فإنّ المرء قد يسرّه (1) درك (2) ما لم يكن ليفوته (3)، و يسوؤه (4) فوت ما لم يكن ليدركه (5)، فليكن سرورك بما نلت (6) من آخرتك، و ليكن أسفك على ما فاتك منها، و ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تأس (7) عليه جزعا (8)، و ليكن همّك (9) فيما بعد الموت.

اللغة

1 - سرّه: أعجبه و أفرحه.

2 - الدرك: بالتحريك اللحاق و الوصول إلى الشيء.

3 - فاته الشيء: ذهب عنه فلا يستطيع إدراكه.

4 - ساءه: أحزنه، ضد سره.

5 - يدركه: يناله و يصيبه.

6 - نلت: بلغت مقصودك منها.

7 - لا تأس: لا تحزن.

8 - الجزع: أشد الحزن.

9 - همك: قلقك و حزنك.

الشرح

(أما بعد فإن المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته و يسؤوه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك و ليكن أسفك على ما فاتك منها و ما نلت من دنياك فلا

ص: 195

تكثر به فرحا و ما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا و ليكن همّك فيما بعد الموت) هذا الكلام موعظة رحيمة و نصيحة غالية كريمة... و توجيه من إنسان واثق باللّٰه أدرك أفعاله و حكمتها فآمن بكل ما جرى و استسلمت روحه لما كان...

يقول لابن عباس - و إن كان يريد كل فرد منا - يقول له: لا تفرح بما نلت و أدركت إلا إذا كان ينفعك في الآخرة و لا تأسف أو تحزن على شيء يفوتك إلا إذا كنت تنتفع به في الآخرة.

الإنسان قد يفرح بما قدر اللّٰه له و كان لا بد له من الحصول عليه و قد يحزن و يتأثر لأمر كان من المقدر له أن لا يدركه فالمقدر له الحصول عليه يفرح به مع أنه حاصل له لا محالة و المقدر له عدم الحصول عليه يحزنه مع أنه لا محالة سوف لن يحصل عليه، و هذا لجهل الإنسان و عدم إدراكه لحكمة اللّٰه في تقدير الأمور.

ثم إنه عليه السلام بيّن موارد الفرح و بيّن موارد الحزن إذا أردت أن تفرح و تسر فافرح بما ينفعك في آخرتك من صلاة و صوم و حج و صلة رحم و إعانة فقير و إغاثة ملهوف و غير ذلك من وجوه البر و ليكن أسفك و حزنك على معصية ارتكبتها أو إثم فعلته أو أمر حرام أقدمت عليه لأنه يضر بآخرتك و يلزم منه الشقاء الدائم و العذاب الباقي...

و أما ما يفوتك من الدنيا فلا تحزن عليه و ما يأتيك منها فلا تفرح به لأن أثر ذلك مؤقت و هذا مأخوذ من قوله تعالى: «لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ» .

ثم أمره بأمر فيه سعادته و هو أن يصرف كل همه و يعمل لما بعد الموت فإن في ذلك اليوم إما سعادة دائمة أو شقاء دائم فهو الذي يستحق الاهتمام و الاعتناء.

ص: 196

23 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّٰه:

وصيّتي (1) لكم: أن لا تشركوا باللّٰه شيئا، و محمّد - صلّى اللّٰه عليه و آله - فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين (2)، و أوقدوا (3) هذين المصباحين (4)، و خلاكم ذمّ (5)!.

أنا بالأمس صاحبكم، و اليوم عبرة (6) لكم، و غدا مفارقكم. إن أبق فأنا وليّ دمي، و إن أفن فالفناء ميعادي، و إن أعف فالعفو لي قربة، و هو لكم حسنة، فاعفوا: «ألا تحبّون أن يغفر اللّٰه لكم».

و اللّٰه ما فجأني (7) من الموت وارد (8) كرهته، و لا طالع (9) أنكرته (10)، و ما كنت إلاّ كقارب (11) ورد، و طالب وجد، «وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ» .

قال السيد الشريف رضي اللّٰه عنه: أقول: «و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب، إلا أن فيه ها هنا زيادة أوجبت تكريره».

اللغة

1 - ضيّع الشيء: فقده، و أهمله.

2 - العمود: ما يقوم عليه البيت و غيره.

3 - أوقدوا: أشعلوا.

4 - المصباح: السراج.

5 - خلاكم ذم: كالمثال يقال: افعل كذا و خلاك ذم أي فقد أعذرت و سقط عنك الذم.

6 - عبرة: عظة.

ص: 197

7 - فجأني: باغتني.

8 - الوارد: خلاف الصادر، صار إلى الشيء و أدناه و بلغه.

9 - طالع: من طلع الشيء إذا ظهر.

10 - أنكره: جهله، جحده.

11 - القارب: طالب الماء ليلا.

الشرح

(وصيتي لكم: أن لا تشركوا باللّٰه شيئا، و محمدا - صلّى اللّٰه عليه و آله - فلا تضيعوا سنته أقيموا هذين العمودين و أوقدوا هذين المصباحين و خلاكم ذم) هذه الوصية قالها عليه السلام لأهله صبيحة الليلة التي ضربه فيها عبد الرحمن بن ملجم لعنه اللّٰه و فيها قيم عالية تردهم إلى اللّٰه و إلى رسوله و فيها موعظة بالغة أن يعتبروا بحاله و كيف أنه كان على استعداد تام للموت و لما بعده...

أوصى أهله أن لا يشركوا باللّٰه شيئا لأن الشرك ظلم عظيم و هو من الذنوب التي لا تغفر و أوصاهم برسول اللّٰه من خلال الوصية بسنة رسول اللّٰه بأن يعملوا بها و يقوموا بمضمونها و يبادروا إلى أحيائها و نشرها...

أوصاهم أن يقيموا هذين العمودين اللذين يرتكز عليهما الإسلام و اللذين يشكلان العمود الفقري للدين و الشريعة.

أوقدوا هذين المصباحين و خلاكم ذم أي اعملوا بهذين المصباحين المنيرين اللذين على أساسهما تسعدوا و تنجحوا و لا ملامة عليكم و لا ذم يلحقكم بعد ذلك...

(أنا بالأمس صاحبكم و اليوم عبرة لكم و غدا مفارقكم إن أبقى فأنا ولي دمي و إن أفنى فالفناء ميعادي و إن أعف فالعفو لي قربة و هو لكم حسنة فاعفوا «ألا تحبون أن يغفر اللّٰه لكم») نعى عليه السلام إليهم نفسه و وعظهم بحاله باعتبار أوقاته الثلاثة الأمس و اليوم و الغد.

فأنا بالأمس صاحبكم الذي تعرفونه بالقوة و الشجاعة و إدارة البلاد و سياسة العباد.

و أنا اليوم عبرة لكم و موعظة ترون كيف قلّت حيلتي و خمدت قوتي و توقفت الحياة في بدني و أنا غدا مفارقكم و تارككم إلى عالم الآخرة حيث رحمة اللّٰه و رضوانه...

ثم بيّن أمره مع قاتله فذكر أنه إن بقي على قيد الحياة و لم تقض عليه الضربة فهو

ص: 198

ولي دمه و بيده زمام أمره يرى في عدوه رأيه و يحكم فيه بما أحب اللّٰه و أراد و اللّٰه أحب العفو و أنا أعفوا عنه ترغيبا لهم في ذلك و إن كانت الأخرى - التي لا تبقى حياة و يكون فيها الموت - فهذا الموت أمر طبيعي و كل حي سيصل إليه و هو ميعاد الجمع و ما أجمل أن تعفوا عنه لأنكم أولياء الدم و العفو إن كان لي فهو قربة و إن كان لكم فهو حسنة تثابون عليها و استشهد على ذلك بالآية ترغيبا لهم و بهذه الصيغة الاستفهامية الترغيبية «أَ لاٰ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَكُمْ » إذن فاغفروا للذين ظلموا و لمن هم تحت أيديكم و منهم هذا الظالم المتمرد الذي جنى هذه الجناية الفظيعة التي اهتزت لها السماوات و اضطربت لها الأرض...

(و اللّٰه ما فجأني من الموت وارد كرهته و لا طالع أنكرته و ما كنت إلا كقارب ورد و طالب وجد و ما عند اللّٰه خير للأبرار) أقسم عليه السلام أنه لم يفاجأ بالموت بأمر ورد عليه كرهه و لا طلع أمر جديد أنكره و لم يعرفه لأنه عليه السلام كان على بينة مما وصل إليه الآن و قد كان يترقبه و يعدّ لكل أمر يقع فيه علاجه و ما ينتفع به... لقد كان الإمام على بينة واضحة من أمر الموت و ما بعده و ما يصلح شأنه في ذلك اليوم... كان يعمل لذلك و يعرف كل ما ينفع فيه فلذا لم يفاجأ بما يكون فيه ثم شبّه نفسه بالقارب الذي ورد أي طالب الماء الذي وصل إلى ما يطلب فهو عليه السلام كان يبحث عن عالم الحقيقة و الخلود و الوصول إلى رحمة اللّٰه و قد أدرك ما سعى إليه و وصل إلى ما كان يعمل من أجله.

و كذلك شبه نفسه بطالب أمر ضائع منه فوجده و هو عليه السلام كان يطلب الوصول إلى اللّٰه و الانتقال من هذه الدار الفانية و كان يقول: متى ينبعث أشقاها يشير إلى قاتله و استشهد بالآية الكريمة تدليلا على أنه قد وجد مطلوبه «وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ» ما عند اللّٰه من ثواب و أجر و نعيم و خلود أفضل للأبرار و الأتقياء من الدنيا و ما فيها من عذاب و شقاء...

ص: 199

24 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

بما يعمل في أمواله، كتبها بعد منصرفه من صفين:

هذا ما أمر به عبد اللّٰه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين في ماله، ابتغاء (1) وجه اللّٰه، ليولجه (2) به الجنّة، و يعطيه به الأمنة (3).

منها: فإنّه يقوم بذلك الحسن بن عليّ يأكل منه بالمعروف، و ينفق منه بالمعروف، فإن حدث بحسن حدث (4) و حسين حيّ ، قام بالأمر بعده، و أصدره (5) مصدره.

و إنّ لابني فاطمة من صدقة عليّ مثل الّذي لبني عليّ ، و إنّي إنّما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه اللّٰه، و قربة إلى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، و تكريما لحرمته (6)، و تشريفا لوصلته (7).

و يشترط على الّذي يجعله إلّيه أن يترك المال على أصوله (8)، و ينفق (9) من ثمره حيث أمر به و هدي (10) له، و ألاّ يبيع من أولاد نخيل هذه القرى و ديّة (11) حتّى تشكل (12) أرضها غراسا (13) و من كان من إمائي (14) - اللاّتي أطوف عليهنّ (15) - لها ولد، أو هي حامل، فتمسك على ولدها و هي من حظّه (16)، فإن مات ولدها و هي حيّة فهي عتيقة (17)، قد أفرج (18) عنها الرّقّ (19)، و حرّرها (20) العتق (21).

قال الشريف: قوله عليه السلام في هذه الوصية «و ألا يبيع من نخلها و ديّة»، الوديّة:

الفسيلة، و جمعها وديّ . و قوله عليه السلام: «حتى تشكل أرضها غراسا» هو من أفصح الكلام،

ص: 200

و المراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها و يحسبها غيرها.

اللغة

1 - الابتغاء: الطلب و ابتغيت الشيء طلبته.

2 - ليولجه: ليدخله.

3 - الأمنة: الأمن.

4 - الحدث: بالتحريك الحادث أي الموت.

5 - اصدره مصدره: أجراه كما كان يجري من قبل.

6 - الحرمة: ما وجب القيام به من الحقوق.

7 - الوصلة: بالضم الصلة و القرابة.

8 - تركها على أصولها: أي لا يقطع منها شيئا لئلا تفسد.

9 - ينفق: يصرف.

10 - هدي له: أرشد إليه.

11 - الودّية: كهدّية واحدة الودي أي الفسيل و هو صغار النخيل.

12 - يشكل: من اشكل إذا اشتبه.

13 - الغراس: بالكسر فصيل النخيل.

14 - امائي: جمع أمه و هي العبدة.

15 - أطوف عليهن: كناية عن غشيانهن.

16 - الحظ: النصيب.

17 - عتيقة: معتوقة محررة.

18 - أفرج عن الشيء: أطلق سراحه و حرره.

19 - الرق: العبودية.

20 - حررّها: جعلها حرة.

21 - العتق للعبد: تحريره و اطلاقه من رق العبودية.

الشرح

(هذا ما أمر به عبد اللّٰه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين في ماله ابتغاء وجه اللّٰه ليولجه به الجنة و يعطيه به الأمنة) هذه وصية الإمام إلى أولاده كتبها بعد منصرفه من صفين يبيّن لهم فيها كيف يتصرفون بأمواله و ممتلكاته و هي من الدروس المفيدة لكل

ص: 201

عاقل ينظر لنفسه و يريد وجه اللّٰه بعمله و يبحث عما ينفعه في الدار الآخرة...

بيّن عليه السلام الوجه الداعي إلى هذه الوصية إنه لم يقصد بذلك إلا القربة للّٰه و طلب ثوابه ليدخله الجنة بها و يمنّ عليه بالأمن يوم الخوف من الفزع الأكبر في مواقف القيامة و هذا الهدف من أنبل الأهداف لدى المسلم يجب أن يسعى باستمرار إليه و يقصر النظر عليه...

(فإنه يقوم بذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف و ينفق منه بالمعروف فإن حدث بحسن حدث و حسين حي قام بالأمر بعده و أصدره مصدره) جعل الحسن وصيا له و قائما مقامه و المتولي لشئون هذه الصدقة و نص على جواز أن يأكل منها لينفي ما ربما يخطر بالبال من أن من عهد إليه بالوصية لا يجوز أن يتناول منها شيئا و قد أمره عليه السلام أن يصرف على نفسه بالمعروف أي بقدر الحاجة بدون إسراف و لا تقتير و كذلك ينفق منها و يصرف على غيره بهذا الشكل بالمعروف و بما جرت به العادة كالصدقات و القربات و صلة الأرحام و مساعدة المحتاجين...

ثم بيّن أن الولاية إذا مات الإمام الحسن فهي للحسين فإنه يقوم مقام الحسن و يفعل بالأموال ما كان يفعله الحسن من الوجوه التي رسمت لها و وضعت فيها...

(و إن لابني فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي و إني إنما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه اللّٰه و قربة إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم و تكريما لحرمته و تشريفا لوصلته) بيّن عليه السلام تساوي أولاده جميعا في جواز تناولهم من هذه الأموال بدون فرق بين ابنائه من الزهراء أو ابنائه من غيرها.

ثم شرح الأسباب و الدواعي التي دفعته لاختصاص ابني الزهراء بتولية هذه الأموال و الإشراف عليها و القيام بشئونها...

إنه أراد التقرب إلى اللّٰه من خلال هذا التخصيص لهما لأنهما أقرب أولاده إلى اللّٰه و أعزهما عليه كما ورد ذلك في الآيات النازلة فيهما و في أبيهما و أمهما فهما حجتا اللّٰه على الخلق و سيديّ شباب أهل الجنة.

و كذلك تقربا من رسول اللّٰه بابني ابنته و أعز الخلق عليه فإن رسول اللّٰه كان يحبهما و يوصي بحبهما و يثني عليهما و يوصي لهما و يقول إنهما ريحانتي من الدنيا.

ثم بيّن أن للرسول حرمة و كرامة فأنا جعلت ابني ابنته أريد أن أصله بهذا العمل و أكرمه به قال ابن أبي الحديد: «ثم بيّن لما ذا خصهما بالولاية ؟» فقال: إنما فعلت ذلك

ص: 202

لشرفهما برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فتقربت إلى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بأن جعلت لسبطيه هذه الرياسة و في هذا رمز و ازراء بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم مع وجود من يصلح للأمر، أي كان الأليق بالمسلمين و الأولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله قربة إلى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم و تكريما لحرمته و طاعة له و أنفة لقدره صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أن تكون ورثته سوقة يليهم الأجانب و من ليس من شجرته و أصله ألا ترى أن هيبة الرياسة و النبوة في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان و الحاكم في الخلق من بيت النبوة و ليس يوجد مثل هذه الهيبة و الجلال في نفوس الناس للنبوة إذا كان السلطان الأعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة عليه السلام...

(و يشترط على الذي يجعله إليه أن يترك المال على أصوله و ينفق من ثمره حيث أمر به و هدى له و ألاّ يبيع من أولاد نخيل هذه القرى و دية حتى تشكل أرضا غراسا) اشترط عليه السلام على من جعله وليا على هذا المال أن يتركه كما استلمه من يد صاحبه فلا يقطعه أو يقتلعه و يبيعه خشبا نعم يصرف من ثمره و يوزع منه بحسب ما رسم له في مصاريفه و عيّن له صاحبه من مواقعه فإن ذلك هو مقتضى الوقف لأنه تحبيس الأصل و تسبيل الثمرة فالأصل لا يتغيّر أو يتبدل عما أوقف فلا يجوز بيعه و لا تحل هبته و لا يجوز تغيره عما هو عليه نعم الثمرة و النماء يصرف حسب ما عيّن الواقف كما و كيفا و شكلا...

و كذلك اشترط أن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى و دية أي لا يقتلع فسيلا و يبيعه بل يبقيها كما هي حتى تقوى و تكثر و تغطي الفراغ بحيث لو رآها أحد لذهب إلى أنها غير الأولى لكثرتها و كثافتها...

(و من كان من إمائي - اللاتي أطوف عليهن - لها ولد أو هي حامل فتمسك على ولدها و هي من حظه فإن مات ولدها و هي حية فهي عتيقة قد أفرج عنها الرق و حررها العتق) كنى بالطواف على إمائه عن وطئهن فقضى فيهن إن حدث فيه حدث الموت فمن كانت منهن أم ولد أو حبلى لم تورث بل تقوّم على ولدها و تجعل له و باعتبار أن العمودين - الأب و الأم - لا يملكان فتحرر بهذا الاعتبار و تطلق لها الحرية و هذا الأمر يجري حتى لو مات ولدها و هي حية - بعد موت مولاها - فإنها تطلق حريتها و لا تعود إلى الرقية لأنها بعد أن دخلت في ملك ولدها و قومت عليه تحررّت و إن مات بعد ذلك فلا تعود إلى الرقية...

ص: 203

25 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات قال الشريف: و إنما ذكرنا هنا جملا ليعلم بها إنه عليه السلام كان يقيم عماد الحق، و يشرع أمثلة العدل، في صغير الأمور و كبيرها و دقيقها و جليلها انطلق على تقوى اللّٰه وحده لا شريك له، و لا تروّعنّ (1) مسلما و لا تجتازنّ (2) عليه كارها، و لا تأخذنّ منه أكثر من حقّ اللّٰه في ماله، فإذا قدمت (3) على الحيّ (4) فانزل بمائهم من غير أن تخالط (5) أبياتهم، ثمّ امض إليهم بالسّكينة (6) و الوقار (7)، حتّى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج (8) بالتّحيّة لهم، ثمّ تقول: عباد اللّٰه، أرسلني إليكم وليّ اللّٰه و خليفته، لآخذ منكم حقّ اللّٰه في أموالكم، فهل للّٰه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه (9) إلى وليّه.

فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، و إن أنعم (10) لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه (11) أو توعده أو تعسفه (12) أو ترهقه (13) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة، فإن كان له ماشية (14) أو إبل (15) فلا تدخلها إلاّ بإذنه، فإنّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط (16) عليه و لا عنيف (17) به.

و لا تنفّرنّ (18) بهيمة (19) و لا تفزعنّها (20)، و لا تسوءنّ (21) صاحبها فيها، و اصدع (22) المال صدعين ثمّ خيّره (23)، فإذا اختار فلا تعرضنّ (24) لما اختاره. ثمّ اصدع الباقي صدعين، ثمّ خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتّى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّٰه في ماله، فاقبض حقّ اللّٰه منه. فإن استقالك (25) فأقله، ثمّ اخلطهما ثمّ اصنع مثل الّذي صنعت أوّلا

ص: 204

حتّى تأخذ حقّ اللّٰه في ماله، و لا تأخذنّ عودا (26) و لا هرمة (27) و لا مكسورة و لا مهلوسة (28)، و لا ذات عوار (29)، و لا تأمننّ عليها إلاّ من تثق بدينه، رافقا بمال المسلمين حتّى يوصّله إلى وليّهم فيقسمه بينهم، و لا توكّل بها إلاّ ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا، غير معنف (30) و لا مجحف (31)، و لا ملغب (32) و لا متعب. ثمّ احدر (33) إلينا ما اجتمع عندك نصيّره (34) حيث أمر اللّٰه به، فإذا أخذها أمينك فأوعز (35) إليه ألاّ يحول (36) بين ناقة و بين فصيلها (37)، و لا يمصر (38) لبنها فيضرّ (39) ذلك بولدها، و لا يجهدنّها (40) ركوبا، و ليعدل بين صواحباتها في ذلك و بينها، و ليرفّه (41) على اللاّغب (42)، و ليستأن (43) بالنّقب (44) و الظّالع (45)، و ليوردها ما تمرّ به من الغدر (46) و لا يعدل (47) بها عن نبت الأرض إلى جوادّ (48) الطّرق، و ليروّحها (49) في السّاعات، و ليمهلها عند النّطاف (50) و الأعشاب (51)، حتّى تأتينا بإذن اللّٰه بدّنا (52) منقيات (53)، غير متعبات و لا مجهودات (54)، لنقسمها على كتاب اللّٰه و سنّة نبيّه - صلّى اللّٰه عليه و آله - فإنّ ذلك أعظم لأجرك (55)، و أقرب لرشدك (56)، إن شاء اللّٰه.

اللغة

1 - روّعه: أفزعه و خوفه من الروع و هو الخوف.

2 - الاجتياز: المرور.

3 - قدم المدينة: أتاها.

4 - الحي: محلة القوم - البطن من بطون العرب.

5 - خالطه: مازجه و داخله، عاشره.

6 - السكينة: الوقار، الطمأنينة، المهابة.

7 - الوقار: الرزانة و الحلم.

8 - لا تخدّج بالتحية: لا تنقص منها و لا تبخل بها.

ص: 205

9 - أداه: أوصله، فتؤدوه: فتوصلوه.

10 - أنعم لك: قال لك نعم.

11 - تخيفه: تفزعه.

12 - العسف: الأخذ بالشدة، و العسف الجور.

13 - الأرهاق: التكليف بما فيه العسر و المشقة.

14 - الماشية: جمعها المواشي اسم يقع على الإبل و البقر و الغنم و أكثر ما يستعمل في الغنم.

15 - الإبل: الجمال.

16 - تسلط عليه: صار مسلطا عليه أي قاهرا قادرا عليه.

17 - العنف: بالضم الشدة و المشقة، ضد الرفق.

18 - نفرت الدابة: جزعت و تباعدت.

19 - البهيمة: كل ذات أربع قوائم من دواب البر و الماء ما عدا السباع و الطيور و تطلق على كل ما لا نطق له.

20 - الفزع: الذعر.

21 - ساءه: احزنه و غمّه.

22 - اصدع: اقسم من الصدع و هو الشق و صدعين شقين و قسمين.

23 - خيّره: اترك له حرية الاختيار.

24 - تعرض: تصدى.

25 - استقالك: طلب الإقالة و الإقالة فسخ العقد و رجوع كل عوض إلى صاحبه.

26 - العود: بفتح فسكون المسن من الإبل.

27 - الهرمة: من الإبل أسن من العود.

28 - المهلوسة: الضعيفة.

29 - العوار: بفتح العين العيب.

30 - المعنف: ذو العنف، الشدة، ضد الرفق.

31 - المجحف: من يشتد في سوق الإبل حتى تهزل.

32 - الملغب: المتعب و اللغوب الأعياء.

33 - أحدر: اسرع.

34 - نصيّره: نحولّه إلى أهله و أصل التصيير تحويل الشيء من حال إلى أخرى.

35 - أو عزت إليه: أمرته.

36 - حال بين هذا و ذاك: أي حجز بينهما.

37 - الفصيل: ولد الناقة.

38 - لا يمصر لبنها: لا يحلب كل ما في الضرع.

ص: 206

39 - الضرّ: ضد النفع، الشدة و الضيق، و سوء الحال، النقصان يدخل في الشيء.

40 - لا يجهدنها: من الجهد بالفتح و هي المشقة.

41 - يرّفه: من الرفاهية و هي الدعة و الراحة.

42 - اللاغب: من اللغوب التعب و الأعياء.

43 - و ليستأن: أي يرفق من الأناة بمعنى الرفق.

44 - النقب: البعير الذي رقّت اخفافه.

45 - الظالع: من الظلع و هو العرج أو الذي يعمز في مشيه.

46 - الغدر: جمع غدير و هو مجمع الماء من السيل.

47 - عدل عن كذا: مال عنه إلى غيره.

48 - جوّاد: بتشديد الدال جمع الجادة و هي وسط الطريق.

49 - روّحها: انعشها، و أرحها.

50 - النطاف: جمع النطفة الماء الصافي قل أو كثر.

51 - الأعشاب: جمع عشب بضم فسكون و هو الكلأ الرطب.

52 - البدّن: بضم الباء و تشديد الدال السمان واحدها بادن.

53 - المنقيات: اسم فاعل من انقت الإبل إذا سمنت و أصله صارت ذات نقى بكسر أي مخ.

54 - مجهودات: متعبات تعبا شديدا.

55 - لأجرك: لثوابك و جزائك.

56 - الرشد: الاستقامة على طريق الحق، ضد الغي.

الشرح

(انطلق على تقوى اللّٰه وحده لا شريك له و لا تروعن مسلما و لا تجتازن عليه كارها و لا تأخذن منه أكثر من حق اللّٰه في ماله) هذه الوصية الشريفة من أعظم الوصايا في إقامة عماد الحق كما قال الشريف و فيها من الآداب الاجتماعية و الأخلاقية و السلوكية مع الناس ما يجعلها تكتب بماء الذهب و توجب على من يتولى أمر الأمة حفظها ليأمر بها من يتولى جياية الصدقات من الناس...

تتضمن هذه الوصية، وصية للجابي بحق نفسه و وصية له في حق الناس و الثالث وصية له بحق المال الذي يأخذه...

ابتدأ عليه السلام بالوصية بتقوى اللّٰه قال له: انطلق على تقوى اللّٰه... ليكن مسيرك و انطلاقتك من أولها مزودا بتقوى اللّٰه فلا تفارقها في كل حركة تقوم بها فإنه وحده

ص: 207

لا شريك له... أراد أن يربطه باللّٰه الواحد الأحد كي يعتمد عليه و لا يتوكل على سواه و يخشاه في كل حركاته و يراقبه في كل أعماله.

و لا تروعن مسلما أي لا تخيفه أو تفزعه فإن إخافة المسلم حرام و هذا نهي له عما يفعله أعوان السلاطين و ولاتهم الظالمين عند ما يريدون من الرعية أمرا فإنهم يستعملون الترهيب و التخويف ظنا منهم أن ذلك يحفظ هيبة الحاكم و قوة شوكته...

و لا تجتازن عليه كارها أي لا تمرن في أرض مسلم أو بساتينه إذا كان يكره مرورك بها لأن ذلك لا يجوز لحرمة دخول أرض المسلم بدون رضاه...

و نهاه أن يأخذ أكثر من حق اللّٰه المفروض عليه.

(فإذا قدمت على الحي فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم أمض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم و لا تخدج بالتحية لهم) ما أروع هذه التعاليم و أجملها إنها تنّم عن عمق الشعور مع المسلمين و تحكي أدب المسلم مع المسلمين.. هذا الجابي للصدقات يجب أن يكون مؤدبا بأدب الأسلام و أخلاقياته و لا يجوز أبدا إذا كان موكلا من قبل السلطة أن يتخلى عن آدابه و أخلاقه...

و الإمام يأمره إنك إذا دخلت محلة قوم تقصدهم لجمع الصدقات فانزل على مائهم و من عادة المياه أن تكون خارج المحلة و الحي التي يقطنون، فلا يدخل عليهم الحي مباشرة إذ لعلهم يكرهون للغريب أن يخالطهم و يقف على بعض أمورهم التي لا يرغبون كشفها و اطلاع أحد عليها... ثم أمره أن ينزل على مائهم و يكون ذلك توطئة للدخول إلى حيهم ثم يمضي إليهم بهدوء و دعة و على رزانة و رضانة فإذا أصبح بينهم سلم عليهم بتحية الإسلام تحية كاملة تامة ليس مشوبة بالعبوس أو الشدة أو أي أمر آخر مقترن بها ينم عن التكبر و الجبروت...

(ثم تقول) عباد اللّٰه أرسلني إليكم ولي اللّٰه و خليفته لآخذ منكم حق اللّٰه في أموالكم فهل للّٰه في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه و إن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه فإن أكثرها له فإذا اتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه و لا عنيف به و لا تنفرنّ من بهيمة و لا تفزعنها و لا تسوءن صاحبها فيها) بهذه الصيغة الطيبة و العبارة الندية الطرية التي تحمل العطف و الرقة و الحنان يتوجه جابي الصدقة إلى الناس.. عباد اللّٰه و ما أجمله من نداء... إنه يردهم إلى اللّٰه الذي أعطاهم و خولهم هذا الخير... ارسلني ولي اللّٰه و خليفته الذي يتولى تنفيذ أمر اللّٰه لآخذ منكم

ص: 208

حق اللّٰه المفروض في كتابه عليكم «وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ » ...

فهل للّٰه في أموالكم من حق أي هل وجبت الزكاة في أموالكم فتؤدوها إلى ولي اللّٰه ليؤديها إلى أربابها و المستحقين لها...

و هنا بهذه البساطة و السهولة و بدون تردد أو استقصاء أخبار إن قال قائل: لا ليس في أموالنا حق فلا تراجعوه.. لا تقل له لما ذا؟ و كيف ؟ و لا تبحث بعد أن نفي وجوب الصدقة في ماله. لا تبحث عن صحة نفيه و كذبه بل اقبل قوله و تجاوز عنه.

و أما إذا قال لك أحدهم نعم إن في أموالي حق للّٰه فانطلق معه بدون أن تخيفه عليها أو على نفسه أو على أمر متعلق به و لا تتوعده بشر أو بسوء أو تأخذه بشدة و عنف أو أمر فيه إرهاق أو ما لا يطيق فإذا كان المال ذهبا أو فضة فخذ ما أعطاك و اقبضه منه لسهولة القبض من العين النقدية...

و إن كان ماشية - إبل - بقر - غنم - فلا تدخل عليها بدون إذنه و قد علل الإمام سبب ذلك بأن أكثرها له لأن الحق الشرعي - الزكاة - جزء من المجموع و هو قليل من كثير قال ابن أبي الحديد:

كلام لا مزيد عليه في الفصاحة و الرياسة و الدين و ذلك لأن الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب و الشريك إذا كان له الأكثر حرم عليه أن يدخل و يتصرف إلا بإذن شريكه فكيف إذا كان له الأقل.

ثم لما كان الرزق يعادل الروح كما يقولون نبهه إلى مراعاة شئون هذه الماشية بحيث لا يؤذي صاحبها بها فإن صاحبها يتعهدها و يرعاها و يحفظها و لا يؤذيها فهو عليه السلام يقول لهذا الجابي إذا دخلت بإذن صاحبها فلا تدخل عليها دخول متسلط كما يدخل الجبابرة الظالمين الذين يستقلون بالتصرف فيأخذون ما يشاؤن قهرا عن أصحابها مع الشدة عليهم و العنف بهم و كذلك لا تصرخ بها لتنفرها و تهيجها لانتقاء الأفضل كما هي عادة الظالمين و لا تؤذي صاحبها فيها كأن تضربها فتؤذي صاحبها بضربك لها...

(و اصدع المال صدعين ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق اللّٰه في ماله فاقبض حق اللّٰه منه فإن استقالك فأقله ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّٰه في ماله) هذا بيان لتعيين حق اللّٰه في المال و هذه طريقة عادلة حكيمة لا تظلم المالك و لا تبخس الحق الشرعي حقه أن يقسم المال إلى قسمين و يخير المالك في الحصة التي يختارها له ثم ما لم يختاره يقسّم إلى قسمين و يخير أيضا

ص: 209

المالك و هكذا حتى يبقى بمقدار الحق الشرعي الواجب فيأخذه الجابي...

ثم إنه عليه السلام عالج قضية يمكن أن تحدث في بعض الحالات و عند بعض الناس كأن يندم و يرى الغبن في تعيين الصدقة التي تعينت فهنا الإمام لا يقول للجابي خذ الحق و انصرف بل يقول له عدّ من جديد إلى القسمة فاخلط الماشية و أقسمها كما قسمتها أولا و عين الحق الشرعي كما عينته و طيّب خاطر الرجل بإعادة التعيين للحق الشرعي...

(و لا تأخذن عودا) و هذا لحفظ حق اللّٰه أن لا يأخذ مسنا كبيرا في السن.

(و لا هرمة) و هي التي أكبر سنا من العود.

(و لا مكسورة و لا مهلوسة و لا ذات عوار) لا تقبض المعيبة في قوائمها و لا الضعيفة الهزيلة و لا ذات العيب فإن ذلك يقلل قيمتها و لا يجبر قلب آخذها من أرباب الصدقات المستحقين لها...

(و لا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم و لا توكل بها إلا ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا غير معنف و لا مجحف و لا ملغب و لا متعب ثم أحدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر اللّٰه به) هذا بيان حال حارسها و موصلها إلى ولي الأمر و اشترط عليه أن لا يأتمن عليها إلا صاحب الدين الملتزم لئلا يقع في الخيانة و أن يكون من أهل الرفق و اللين فلا يعّنف بها فيهزلها، يجب أن يكون المتولي لشئون ماشية الصدقة ناصحا يترقب موارد صلاحها رحيما بأموال المسلمين محافظا عليها... لا يأخذها بالشدة و العنف و لا يكلفها سيرا مضنيا يهزلها أو يميتها أو يكون موجبا لاعيائها أو متعبا لها.

و بعبارة موجزة يجب أن يراعي شئون الماشية لما يصلحها و يرفع عنها كل ما يجحف بها أو يضر... ثم أمره أن يسرع في إيصال ما اجتمع عنده ليوزعه على أهله لئلا يتأخر عن مستحق حقه...

(فإذا أخذها امينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة و بين فصيلها و لا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها) و هذا تأكيد على من يتولى ماشية الصدقة أن لا يفصل بين ناقة و ابنها كما نهاه أن يحلب جميع حليبها و لا يترك للفصيل شيئا فيضر به...

(و لا يجهدنها ركوبا و ليعدل بين صواحباتها في ذلك و بينها و ليرفه على اللاغب و ليستأن بالنقب و الظالع) نهاه أن يخصها بالركوب فيتعبها تعبا شديدا بل أمره أن يجعل ركوبه مفرقا بينها و بين غيرها من النياق و يعدل بينها بصورة طبيعية رحيمة.

ص: 210

و أما من وقع في الأعياء فيرفه عنه أي لا يركب ظهره و يتأنى و يرفق بالنقب و هو من ضعفت أخفافه بحيث يؤذيها ما تقع عليه و كذلك يرفق بالظالع و هو الأعرج الذي يتأخر عن غيره و لا يلتحق به...

(و ليوردها ما تمر به من الغدر و لا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق و ليروحها في الساعات و ليمهلها عند النطاف و الأعشاب حتى تأتينا بإذن اللّٰه بدنا منقيات غير متعبات و لا مجهودات لنقسمها على كتاب اللّٰه و سنة نبيه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فإن ذلك أعظم لأجرك و أقرب لرشدك إن شاء اللّٰه) و هذه أيضا تعاليم تحفظ الماشية و تراعي شئونها و هي أن المتولي لأمرها إذا مرّ بغدير ماء أن يسقيها منه و يوردها عليه.

و لا يأخذ الطريق الأجرد الذي لا نبت فيه و يترك أماكن النبات التي على مقربة منه و كذلك ينبغي أن يريحها في بعض الساعات فإنها أرواح تكلّ و تتعب فيجب أن ترتاح في بعض الساعات و لا يعجل أو يسرع في إخراجها إذا وقعت على ماء أو عشب بل يمهلها حتى تأخذ نصيبها منه.

فإذا فعل ذلك وصلت إلينا سمانا مكتنزة غير متعبة و ليس بها أعياء فنقسمها بإذن اللّٰه على أربابها كما فصّل الكتاب الكريم و السنة النبوية حيث قال تعالى:(1)«إِنَّمَا اَلصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اَلْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقٰابِ وَ اَلْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » .

ثم رغبه في ذلك بأن اللّٰه يزيد ثوابه و يضاعف أجره و يكون ذلك الفعل منه دليل هدى و عقل نافذ و أقرب إلى طريق الحق...0.

ص: 211


1- سورة التوبة آية، - 60.

26 - و من عهد له عليه السلام

اشارة

إلى بعض عماله و قد بعثه على الصدقة أمره بتقوى اللّٰه في سرائر (1) أمره و خفيّات (2) عمله، حيث لا شهيد (3) غيره، و لا وكيل دونه. و أمره ألاّ يعمل بشيء من طاعة اللّٰه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ، و من لم يختلف سرّه و علانيته و فعله و مقالته (4)، فقد أدّى (5) الأمانة، و أخلص العبادة.

و أمره ألاّ يجبههم (6) و لا يعضههم (7)، و لا يرغب عنهم (8) تفضّلا (9) بالإمارة عليهم، فإنّهم الإخوان في الدّين، و الأعوان (10) على استخراج الحقوق.

و إنّ لك في هذه الصّدقة نصيبا (11) مفروضا (12)، و حقّا معلوما، و شركاء أهل مسكنة (13)، و ضعفاء ذوي فاقة (14)، و إنّا موفّوك (15) حقّك، فوفّهم حقوقهم، و إلاّ تفعل فإنّك من أكثر النّاس خصوما (16) يوم القيامة، و بؤسى (17) لمن - خصمه عند اللّٰه - الفقراء و المساكين و السّائلون (18) و المدفوعون (19)، و الغارمون (20) و ابن السّبيل (21)! و من استهان (22) بالأمانة، و رتع (23) في الخيانة، و لم ينزّه (24) نفسه و دينه عنها، فقد أحلّ بنفسه الذّلّ و الخزي (25) في الدّنيا، و هو في الآخرة أذلّ و أخزى. و إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة، و أفظع (26) الغشّ غشّ الأئمّة، و السّلام.

ص: 212

اللغة

1 - السرائر: جمع السريرة ما يسره الإنسان من أمره، النية.

2 - الخفيات: من خفي الشيء إذا استتر و لم يظهر.

3 - الشهيد: الذي لا يغيب شيء عن علمه.

4 - مقالته: كلامه.

5 - أدى: أوصل.

6 - يجبههم: من الجبه و هو الاستقبال بالمكروه و أصله من إصابة الجبهة.

7 - يعضههم: يرميهم بالبهتان و العضه ذكر القبيح كذبا و زورا.

8 - رغب عنه: أعرض عنه و تركه.

9 - التفضل: من تفضّل عليه ادعى الفضل عليه.

10 - الأعوان: المساعدون.

11 - النصيب: الحظ.

12 - المفروض: المحدود، ما أوجبه اللّٰه على عباده.

13 - المسكنة: الفقر، و الذل و الضعف.

14 - فاقة: حاجة.

15 - موفوك: من وفاه حقه إذا أداه إليه تاما.

16 - خصوما: جمع خصم و هو المنازع.

17 - بؤسى: فعلى أي عذابا و شدة.

18 - السائلون: جمع سائل المستعطي.

19 - المدفوعون: جمع المدفوع من دفعه إذا نحاه و أبعده و رده و يراد به هنا الفقير.

20 - الغارمون: جمع غارم الذي عجز عن وفاء دينه الذي عليه.

21 - ابن السبيل: المنقطع في غير بلده و لا يجد ما يوصله إليها.

22 - استهان به: استحقره و استهزأ به و استخف به.

23 - رتع: سرح على هواه يأكل و يشرب في خصب و سعة.

24 - ينزّه عن كذا: يباعد و يصان، يترفع عما يذم.

25 - الخزي: بكسر الخاء و سكون الزاي أشد الذل.

26 - أفظع: من فظع الأمر فظاعة اشتدت شناعته و جاوز المقدار في ذلك.

ص: 213

الشرح

(أمره بتقوى اللّٰه في سرائر أمره و خفيات عمله حيث لا شهيد غيره و لا وكيل دونه و أمره ألاّ يعمل بشيء من طاعة اللّٰه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر و من لم يختلف سره و علانيته و فعله و مقالته فقد أدى الأمانة و أخلص العبادة) يقول بعض شرّاح النهج إن هذه الوصية كتبها الإمام إلى مخنف بن سليم الأزدي لما بعثه على الصدقة و المهم عندنا عموم الخطاب و ليس خصوص السبب.

وصية بتقوى اللّٰه هذه التقوى التي جمعت فيها خيرات الدنيا و الآخرة.

و ليست التقوى في خصوص ما يظهر للناس بل هي تتجسد أكثر في السر عند ما لا يكون من رقيب أو حسيب... عند ما يختفي الإنسان عن العيون و يشعر أن عين اللّٰه تراه و ترعاه و تحصي عليه أنفاسه و حركاته فلا يتعدى المرسوم له و لا يدخل في الحرام...

تتجسد التقوى و تظهر عند ما تشتد رقابة الإنسان على نفسه فيترك كل معصية و يقوم بكل طاعة و الإمام هنا يأمر هذا الرجل بتقوى اللّٰه في سر ما ينوي و في كل عمل يخفى على الناس عند ما لا يكون إلا اللّٰه هو الناظر و المراقب...

و نهاه عن مخالفة ظاهره لباطنه و هو المعبّر عنه بالنفاق ففي الظاهر يبدو عليه الالتزام و الطاعة بينما في السر يعيش التهتك و المعصية.

ثم رغّبه في وحدة السر و العلانية و الفعل و القول لما لهذه الوحدة من أثر من حيث إنه يكون قد أدى الأمانة المفروضة عليه لأنه جابي الصدقة فيجب أن يكون أمينا و كذلك يخرج من عملية الرياء التي تبطل العمل و تفسده...

(و أمره ألا يجبههم و لا يعضههم و لا يرغب عنهم تفضلا بالإمارة عليهم فإنهم الإخوان في الدين و الأعوان على استخراج الحقوق) و هذا أمر له أن لا يواجههم بما يكرهون أو يرميهم بأمر ليس فيهم فيبهتهم بأن يقول لهم: إن الزكاة أكثر مما تدفعون أو أن اللّٰه لا يتقبلها منكم و هكذا و لا يتجافى عنهم أو يعرض عن مجالستهم لظنه أنه أحسن منهم و أفضل لمنزل الإمارة و مكانه منها حيث إنه المتولي لجمع الصدقة و قد علّل له عدم التطاول عليهم و التجافي عنهم بأمرين.

الأول: إنهم الإخوان في الدين فالعقيدة وحّدت الاتجاه و لمّت الشمل و جعلت للمسلم على المسلم حق الاحترام و التقدير و العشرة الحسنة و غير ذلك من الحقوق...

ص: 214

الثاني: إنهم المساعدون في استخراج الحقوق المالية و تقديمها إلى الفقراء و المساكين و في ذلك أعظم خدمة يسديها هؤلاء إلى هذه الطبقة، إنهم بإخراج هذه الحقوق يرفعون عوز الفقراء و في ذلك صلاح المجتمع و عمارة البلاد و مثل هؤلاء يجب معاملتهم بالحسنى و اللين دون إهانة أو إزعاج أو ترفع عليهم...

(و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا و حقا معلوما و شركاء أهل مسكنة و ضعفاء ذوي فاقة و إنا موفوك حقك فوفهم حقوقهم و إلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة و بؤسى لمن - خصمه عند اللّٰه - الفقراء و المساكين و السائلون و المدفوعون و الغارمون و ابن السبيل) بيّن عليه السلام ما لهذا العامل من النصيب... إن له نصيبا واجبا محددا مقدرا لكونه عاملا على الصدقات و لكن ليس مستقلا يتصرف في هذا المال كيف يشاء بل له شركاء من الفقراء و المساكين و أصحاب الحاجة و إذا كانوا شركاء له كيف يستأثر لنفسه بمالهم و كيف يحوزه دونهم و يستبد به من غير أن يوصله إليهم...

يقول له الإمام: إن لك حقا نحن نقدسه لك و نحفظه و نعطيك إياه و لكن يجب أن تعطي لشركائك حقوقهم ثم هدّده بعذاب اللّٰه و رده إليه و بيّن له أنه إذا لم يؤدي لهم حقهم سيكون من أكثر الناس أعداء يوم القيامة و أن العذاب و الشدة و الشقاء لمن كان خصمه هذا الجيش الكبير من الفقراء و المساكين و السائلين الذين اضطرتهم حالاتهم السيئة إلى الطلب و الاستجداء و كذلك المدفوعون الذين يردون عن الأبواب و لا يعطون ما يسألون.

و الغارمون و هم الذين وقعوا تحت الديون و عجزوا عن وفائها.

و ابن السبيل و هو المنقطع في غير بلده الذي لم يملك مصرفه و ما يوصله إلى أهله...

إن هذا الجيش الكثيف كله يقف يوم القيامة خصما لهذا الجابي الذي منعهم حقهم و استأثر به دونهم...

(و من استهان بالأمانة و رتع في الخيانة و لم ينزه نفسه و دينه عنها فقد أحل بنفسه الذل و الخزي في الدنيا و هو في الآخرة أذل و أخزى و إن أعظم الخيانة خيانة الأمة و أفظع الغش غش الأئمة و السلام) حذّره من عاقبة الخيانة و عدم الالتزام بالأمانة فإن من أكل الأموال المؤتمن عليها و تمتع بها و كأنها أمواله و ملك يمينه و لم يرفع نفسه عن هذا السقوط المهين و يحفظ دينه عن هذه الخيانة فقد أنزل بنفسه الذل و الخزي في الدنيا حيث تسقط منزلته و يشار إليه بالخيانة و أكل أموال الفقراء و المساكين فتزدريه العيون و تحتقره النفوس.

ص: 215

و أما في الآخرة فهو أذل و أخزى لأنه ليس بعد العرض و كشف الأمور - أمام اللّٰه و الناس يوم الحساب - أشد خزيا و عارا ثم كان عاقبته النار التي هي مركز الخزي و مقام العذاب.

و إن أعظم الخيانة خيانة الأمة لأنها خيانة عامة لجميع الناس في مصالحهم و منافعهم و ما يفيدهم فتعظم لعظم أثرها و شمولها و عمومها.

و أفظع الغش غش الأئمة لأن الغش إذا كان حراما مطلقا فيشتد و يعظم إذا كان مع إنسان عظيم يمثّل جهة كالأئمة فإن غشهم لا ينحصر فيهم بل يعود غشا لجميع الناس باعتبار أن الأئمة أولياء في تصريف الزكاة و إيصالها إلى مستحقيها.

و هذا كله تنفير عن الخيانة و تحريض على الالتزام بالأمانة و الوفاء بها...

ص: 216

27 - و من عهد له عليه السلام

اشارة

إلى محمد بن أبي بكر - رضي اللّٰه عنه - حين قلده مصر:

فاخفض لهم جناحك (1)، و ألن (2) لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك (3) واس (4) بينهم في الّلحظة (5) و النّظرة (6)، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك (7) لهم، و لا ييأس (8) الضّعفاء من عدلك عليهم، فإنّ اللّٰه تعالى يسائلكم معشر (9) عباده عن الصّغيرة من أعمالكم و الكبيرة، و الظّاهرة و المستورة، فإن يعذّب فأنتم أظلم، و إن يعف فهو أكرم.

و اعلموا عباد اللّٰه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدّنيا و اجل الآخرة، فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم، و لم يشاركوا أهل الدّنيا في آخرتهم، سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا (10) من الدّنيا بما حظي به المترفون (11)، و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة (12) المتكبّرون، ثمّ انقلبوا (13) عنها بالزّاد المبلّغ (14)، و المتجر الرّابح. أصابوا لذّة زهد الدّنيا في دنياهم، و تيقّنوا أنّهم جيران اللّٰه غدا في آخرتهم. لا تردّ لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من لذّة. فاحذروا عباد اللّٰه الموت و قربه، و أعدّوا (15) له عدّته (16)، فإنّه يأتي بأمر عظيم، و خطب (17) جليل، بخير لا يكون معه شرّ أبدا، أو شرّ لا يكون معه خير أبدا. فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها! و من أقرب إلى النّار من عاملها! و أنتم طرداء (18) الموت، إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم (19)، و هو ألزم لكم من ظلّكم. الموت معقود

ص: 217

بنواصيكم (20)، و الدّنيا تطوى من خلفكم. فاحذروا نارا قعرها (21) بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد. دار ليس فيها رحمة، و لا تسمع فيها دعوة، و لا تفرّج فيها كربة (22). و إن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من اللّٰه، و أن يحسن ظنّكم به، فاجمعوا بينهما، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه، و إنّ أحسن النّاس ظنّا باللّٰه أشدّهم خوفا للّٰه.

و اعلم - يا محمّد بن أبي بكر - أنّي قد ولّيتك أعظم أجنادي (23) في نفسي أهل مصر، فأنت محقوق (24) أن تخالف على نفسك (25)، و أن تنافح (26) عن دينك، و لو لم يكن لك إلاّ ساعة من الدّهر، و لا تسخط (27) اللّٰه برضى أحد من خلقه، فإنّ في اللّٰه خلفا (28) من غيره، و ليس من اللّٰه خلف في غيره.

صلّ الصّلاة لوقتها المؤقّت لها، و لا تعجّل وقتها لفراغ، و لا تؤخّرها عن وقتها لاشتغال. و اعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع (29) لصلاتك.

و منه: فإنّه لا سواء (30)، إمام الهدى و إمام الرّدى (31)، و وليّ النّبيّ ، و عدوّ النّبيّ . و لقد قال لي رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «إنّي لا أخاف على أمّتي مؤمنا و لا مشركا، أمّا المؤمن فيمنعه اللّٰه بإيمانه، و أمّا المشرك فيقمعه (32) اللّٰه بشركه. و لكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان (33)، عالم الّلسان، يقول ما تعرفون، و يفعل ما تنكرون».

اللغة

1 - اخفض جناحك: ألن لهم و أرفق و تواضع و أصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم خفضه.

ص: 218

2 - اللين: الرقة و الملاطفة، ضد الخشونة.

3 - بسط وجهه: انشرح و تهلل و الانبساط ضد الانقباض.

4 - آس: أمر من آسى بمد الهمزة أي سوّى.

5 - اللحظة: النظرة بمؤخرة العين.

6 - النظرة: المرة من نظر أي أبصر.

7 - الحيف: الجور.

8 - ييأس: يقنط، يقطع الأمل.

9 - المعشر: الجماعة.

10 - حظوا: نالوا من الحظوة و هي المنزلة و الحظ الوافر.

11 - المترفون: المنعّمون الذين أبطرتهم النعمة.

12 - الجبابرة: جمع جبار البالغ في التكبر.

13 - انقلبوا: عادوا و رجعوا.

14 - الزاد المبلغ: الزاد الكافي.

15 - أعدوا: استعدوا، هيئوا له و حضروا.

16 - العدة: الوسائل و الآلات.

17 - الخطب: الأمر الفظيع المكروه.

18 - طرداء: جمع طريد و هو المطرود.

19 - أدرككم: لحقكم.

20 - النواصي: جمع ناصية مقدم شعر الرأس و معقود بنواصيكم أي ملازم لكم.

21 - القعر: عمق الشيء و أسفله.

22 - فرج الكربة: أزال الشدة و نحاها.

23 - الأجناد: جمع جند و هو العسكر و يطلق على الإقليم فيقال جند الشام.

24 - محقوق: أي حقيق و جدير و خليق.

25 - تخالف على نفسك: تخالف شهوة نفسك.

26 - تنافح: تدافع و تجالد.

27 - تسخط: تغضب.

28 - الخلف: العوض.

29 - تبع: مشى خلفه، سار في أثره.

30 - لا سواء: لا يستوي و يتساوى.

31 - الردى: الهلاك.

32 - يقمعه: يقهره و يذلّه.

33 - الجنان: القلب.

ص: 219

الشرح

(فاخفض لهم جناحك و ألن لهم جانبك و ابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللحظة و النظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم) هذا العهد الشريف من أعظم عهوده إلى عماله يشتمل على التذكير بيوم الحساب و إعداد العدة له و ما فيه من الأهوال و ما بعده من الجزاء و هو موجّه إلى محمد بن أبي بكر الذي ولاه مصر و كان محمد هذا يعدّه الإمام بمنزلة أولاده و يقول: محمد بن أبي بكر ابني من ظهر أبي بكر قد تربى في بيته و على يديه و تخلّق بأخلاقه و تأدب بآدابه فسكب الإمام في روعه كل المعاني الطيبة فجاء إنسانا كبيرا عظيما مجاهدا لم يفارق الإمام إلا حين ولاه مصر فكتب إليه الإمام هذا الكتاب و ابتدأ بالوصية له أن يحسن عشرة رعيته ضمن أوامر.

أ - فاخفض لهم جناحك: أي ارفق بهم و تواضع لهم و أصل خفض الجناح أن الطائر يمدّ جناحيه و يخفضهما ليجمع أفراخه تحتها شفقة عليهم.

ب - ألن لهم جانبك: تعامل معهم بلطف ورقة في أقوالك و أفعالك و لا تستعمل الغلظة و الخشونة.

ج - ابسط لهم وجهك: تلقاهم بالبسمة المعبرة لهم عن سرورك بهم و لا تعبس بهم فتؤذيهم...

د - و آس بينهم في اللحظة و النظرة: و هذا منتهى العدل بين الرعية فإنهم إذا كانوا بحضرتك فلا تعطي وجهك لأحدهم و تحرم الآخر منه فإن ذلك دليل اهتمامك بالأول و احتقارك للآخر و في ذلك ظلم له.

ثم علل ذلك - المساواة في اللحظة و النظرة - بأن هذه النظرة قد تزرع في نفوس الأقوياء طمعا في ظلم غيرهم لصالحهم و في المقابل فإن الضعفاء إذا وجدوا عدم النظر إليهم المعبّر عن عدم الاهتمام بهم فإنهم قد يصابون باليأس من عدلك على الأقوياء و أنك لن تحكم عليهم إذا كان خصمهم من الضعفاء و في هذين الأمرين مفسدة عظمى يجب أن يتلافاها الوالي و يقضي عليها بالمساواة بين الضعفاء و العظماء...

(فإن اللّٰه تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم و الكبيرة و الظاهرة و المستورة فإن يعذّب فأنتم أظلم و إن يعف فهو أكرم) نبههم إلى قاعدة كلية و كبرى صادقة حقيقية و هي أن اللّٰه سيسأل عباده و يحاسبهم على كل صغيرة من أعمالهم و كل كبيرة و كل

ص: 220

ما ظهر منها و خفي... ستنعقد المحكمة الإلهية و يكون هناك سؤال و جواب و ثواب و عقاب فإن يعذّبكم بعد مخالفتكم له و عصيانكم و تمردكم فأنتم الظالمون لأنفسكم بمخالفته و إن يعفو فهو أهل الكرم و العفو و الصفح عن كل ذنب...

(و اعلموا عباد اللّٰه أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ و المتجر الرابح أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم و تيقنوا أنهم جيران اللّٰه غدا في آخرتهم لا ترد لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيب من لذة) هذا ترغيب للناس أن يقتدوا بالمتقين و يسيروا على منهاجهم و طريقة حياتهم فإنهم بعبارة موجزة نالوا حظهم من الدنيا و فازوا بسعادة الآخرة فجمعت لهم الدارين و نالوا الحسنيين شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا الطيبات و لبسوا أنعم الثياب و تزوجوا أجمل النساء و تمتعوا بخيرات الدنيا المحللة و تنعموا في القصور و الدور و لم يتركوا أمرا مباحا إلا و فعلوه و نالوا لذتهم منه.

و في نفس الوقت لم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم فإن أهل الدنيا الذين قصروا نظرهم عليها فارتكبوا الحرام و سلبوا الأموال و هتكوا الأعراض و قتلوا الأنفس هؤلاء لم ينالوا الآخرة السعيدة التي كانت لأهل التقوى في الدنيا و إنما سيكون نصيبهم النار و عذاب الجبار بينما المتقون في منجاة من هذا المصير... إنهم افترقوا عن أهل الدنيا في الآخرة فأولئك إلى النار و هؤلاء إلى الجنة...

ثم إنه عليه السلام ذكر وجوه مشاركة المتقين لأهل الدنيا فالمتقون سكنوا الدور و القصور كما سكنها أبناء الدنيا و أكلوا من الطيبات كأحسن ما أكل أبناء الدنيا فكل ما هو محلل لهم تناولوه و في الحلال غنى و كفاية عن الحرام... و في الحلال لذة تفوق لذات الحرام حتى لو قطعنا النظر عن الدين و الشرع المبين... إنهم قد أخذوا حظهم و نصيبهم من الدنيا كما أخذ المترفون و المنعمون حظهم منها فإن هؤلاء لا تتسع بطونهم لأكثر من حاجتها و أولئك كذلك و كل منهما يملؤها بما يشتهي مع فارق أن المترف قد يطغى فيتناول الحرام بينما المتقي يتناول الحلال الطيب... فالمتقون أخذوا من الدنيا ما أخذه الجبابرة المتكبرون نعم قد زاد هؤلاء المتكبرون أنهم أخذوا الظلم و الانحراف و المعصية و الاستبداد و قتل الناس بينما الأتقياء أخذوا عبادة اللّٰه و تقواه و إعانة الناس و سد حاجاتهم... عاد الأتقياء إلى الآخرة بالزاد الكافي الذي يحتاجون إليه و عادوا بالتجارة الرابحة التي تاجروها في الدنيا مع اللّٰه من حيث طاعتهم له و جهادهم في سبيله بأنفسهم

ص: 221

و أموالهم فربحوا الجنة و تلك هي أربح التجارات...

لقد أدركوا لذة زهدهم في الدنيا عاشوا لذة الاحتقار للدنيا و لم يرتضوها عن الآخرة فعاشوا فيها أعزة كراما و أدركوا في الآخرة الجنة و دار السلام... و تيقنوا أنهم جيران اللّٰه غدا في آخرتهم... إنهم قريبون منه و في رحمته يصلهم و يمنحهم و يمنّ عليهم من عطاياه و لهم بعد ذلك خصوصية أن دعوتهم لا تردّ إذا دعوا و لا ينقص لهم نصيب أو حظ من لذة بل كل اللذة تصلهم كاملة تامة...

(فاحذروا عباد اللّٰه الموت و قربه و أعدّوا له عدته فإنه يأتي بأمر عظيم و خطب جليل بخير لا يكون معه شر أبدا أو شر لا يكون معه خيرا أبدا) اتخذوا الحيطة للموت فهو قريب منكم لا تدرون متى يأتيكم قد تخرج الكلمة منك فتموت اختها بعدها و قد تغمض عينيك و لا تملك فتحهما فأعدوا له عدته من التقوى و العمل الصالح و الإحسان إلى الناس إنه إذا جاء جاء بأمر عظيم فهناك كربه و شدائده و هناك أهواله و فجائعه... إنه يأتي بأحد أمرين بخير لا يكون معه شر أبدا و هو الجنة و ما فيها من نعيم لا يكدره شيء أو يأتي بشر لا يكون معه خير أبدا و هو النار و ما فيها من عذاب مقيم قال تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» .

(فمن أقرب إلى الجنة من عاملها و من أقرب إلى النار من عاملها و أنتم طرداء الموت إن أقمتم له أخذكم و إن فررتم منه أدرككم و هو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من خلفكم) هذا ترغيب في العمل الصالح الموصل إلى الجنة و ترهيب من العمل القبيح الموصل إلى النار فأقرب الناس إلى الجنة من عمل لها و أقرب الناس إلى النار من عمل لها لأن كل عامل يجزى بعمله فإن عمل خيرا قطع الطريق بسرعة و دخل الجنة و إن عمل شرا قطع الطريق و وصل إلى النار و كل فرد يختار العمل الذي يوصله إلى هدفه الذي يسعى إليه.

ثم بيّن ملازمة الموت لنا لنحذر منه و نعدّ العدة له فقال: و أنتم طرداء الموت: أي يلحقكم و يطاردكم أينما كنتم فيخرجكم عن أوطانكم و دياركم، إنه يحل بكم إن أقمتم في مكانكم و لزمتم محلكم كما أنه يلحقكم و يأخذكم إن فررتم منه «أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ » «قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ » .

و بيّن شدة ملازمته لنا و عدم انفكاكه عنا بقوله: و هو ألزم لكم من ظلكم فكما أن

ص: 222

الظل ملازم للإنسان لا ينفك عنه بحال طالما هو على قيد الحياة و لا يفارقه إلا بالموت كذلك الموت ملازم لهذا الإنسان ففي كل لحظة يموت هذا الإنسان ليخلق بديلا عنه و لا تأتي الساعة الثانية إلا و قد ماتت الساعة الأولى و هكذا حتى تنتهي ساعات هذا الإنسان فيعود إلى اللّٰه.

و كذلك «الموت معقود بنواصيكم» أي ملازم لكم كالشيء المعقود في مقدم شعر رأسكم كيفما يتحرك الإنسان يتحرك معه ذلك الشيء.

«و الدنيا تطوى من خلفكم» فكل يوم يمضي يطوى و لا يعاد أبدا.

(فاحذروا نارا قعرها بعيد و حرها شديد و عذابها جديد دار ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة و لا تفرج فيها كربة) عاد إلى التحذير من النار و التخويف منها و قد وصفها بأوصاف مرعبة.

أ - قعرها بعيد: إنها عميقة لا يدرك عمقها.

ب - حرها شديد: قل نار جهنم أشد حرا فكل نار تقول: إنها شديدة الحرارة فجهنم أشد حرا.

ج - عذابها جديد: كل وقت يتجدد غير الوقت الآخر «كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا» .

د - دار ليس فيها رحمة: لأنها دار العذاب و العقاب أعدت للانتقام فكيف يشوبها رحمة.

ه - لا تسمع فيها دعوة: لانقطاع التكليف هناك و قد كانت الدعوة مستجابة قبل الموت بل اللّٰه دعانا لدعائه و أخذ على نفسه الاستجابة لنا بقوله: «ادعوني أستجب لكم» و لكن التمرد و العناد و سوء التفكير و التدبير هو الذي أدى إلى هذا الخسران.

و - و لا تفرج فيها كربة: فشدائد الآخرة و مصاعبها ملازمة لهذا الشقي لا تنفك عنه و لا تتركه.

(و إن استطعتم أن يشتد خوفكم من اللّٰه و أن يحسن ظنكم به فاجمعوا بينهما فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه و إن أحسن الناس ظنا باللّٰه أشدهم خوفا للّٰه) و هذا مفهوم إسلامي و عقيدة دينية: أن يكون الإنسان بين الخوف و الرجاء فلا يطغى جانب على جانب فتفسد الحياة و يضل الإنسان يجب أن يبقى الخوف من عقابه

ص: 223

قائما مهما عملت من حسنات و يجب أن يبقى حسن الظن به و أنه الغفور الرحيم مهما عملت من المعاصي.

و إن الإنسان كلما زادت معرفته باللّٰه زاد خوفه منه و كلما زاد خوفه منه زاد رجاؤه فيه لتكامل عظمته و جلاله و سلطانه و رحمته فهو شديد العقاب و هو في نفس الوقت الغفور الرحيم.

قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: لو أنزل اللّٰه عز و جل كتابا أنه معذب رجلا واحدا لرجوت أن أكونه و أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه أو أنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهادا لئلا أرجع إلى نفسي بلائمة...

(و اعلم يا محمد بن أبي بكر أني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر فأنت محقوق أن تخالف على نفسك و أن تنافح عن دينك و لو لم يكن لك إلا ساعة من الدهر و لا تسخط اللّٰه برضى أحد من خلقه فإن في اللّٰه خلفا من غيره و ليس من اللّٰه خلف من غيره) نبهه إلى ما اختصه به و هي ولاية مصر ليدخل من ذلك إلى ما يريد أن يوصيه به و هذه شهادة منه أيضا أنه ولّى محمدا أعظم عساكره و بلاده في نفسه و هي فضيلة لمحمد لأنه أهل لذلك.

ثم أوصاه بأنه جدير و خليق أن يخالف هواه و ما تدعوه إليه نفسه إذا كان فيما تدعوه إليه مخالفة للّٰه أو فيه ضرر على المجتمع.

كما أمره أن يدافع عن دينه و لو لم يبق من عمره إلا ساعة و أخذ الساعة كناية عن قلة الوقت يعني لو بقى من عمرك لحظة فاجعلها في الدفاع عن الدين و الشريعة.

ثم وجهه إلى المحافظة على رضا اللّٰه و أن يتسقط مواقع رضاه فيطلبها و أوصاه أن لا يسخط اللّٰه برضى أحد من خلقه و علل ذلك بأن في رضى اللّٰه عوضا عن سخط الناس و غضبهم لأنه الذي يثيب و يعاقب بينما ليس في سخط اللّٰه عوض من الناس عن سخطه و ما كان فيه عوض يقدّم على ما ليس فيه عوض فرضى اللّٰه مقدم على رضى كل واحد...

(صل الصلاة لوقتها المؤقت لها و لا تعجّل وقتها لفراغ و لا تؤخرها عن وقتها لاشتغال و اعلم أن كل شيء من عملك تبع لصلاتك) أمره بأمر يخصّه و يتفرع عليه صلاحه ألا و هو المحافظة على الصلاة و أدائها في وقتها فإن لها وقتا محدودا بحدود معينة لا يجوز تقديمها عليه و لا يجوز تأخيرها عنه فهو عليه السلام يقول له: صل الصلاة في وقتها المؤقت لها المحدد و لا تعجل بها فتصليها قبل وقتها تغتنم فراغك في ذلك

ص: 224

الوقت فتؤديها فيه فإن ذلك يفسدها و لا تقع منك صحيحة كما أنه يجب عليك أن لا تؤخرها عن وقتها بحجة أنك مشغول عنها بأمر أهم منها فتقع و الحال ذلك باطلة لفوت محلها.

ثم رغبه في المحافظة عليها و رعاية أوقاتها و شروطها بأن جعلها محور قبول الأعمال الأخرى منه فإن صحت و قبلت صح ما يأتي به من أعمال أخرى و إلا فتكون باطلة تبعا لبطلانها.

و في الحديث عن رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - قال: إن عمود الدين الصلاة:

و هي أول ما ينظر فيه من عمل ابن آدم فإن صحت نظر في عمله و إن لم تصح لم ينظر في بقية عمله.

(فإنه لا سواء إمام الهدى و إمام الردى و ولي النبي و عدو النبي و لقد قال لي رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: إني لا أخاف على أمتي مؤمنا و لا مشركا أما المؤمن فيمنعه اللّٰه بإيمانه و أما المشرك فيقمعه اللّٰه بشركه و لكني أخاف عليكم كل منافق الجنان عالم اللسان يقول ما تعرفون و يفعل ما تنكرون) لا يستوي إمام الهدى يريد به نفسه الشريفة و إمام الردى الذي يقود الناس إلى الهلاك و العذاب أشار بهذا إلى معاوية كما لا يتساوى ولي النبي و ناصره و المدافع عنه في كل المواطن و هو نفسه الشريفة و بين عدو النبي الذي حاربه في حياته و حارب خليفته من بعده و هذا منه ترغيب في الحق الذي هو عليه و تزهيد و تنفير في الباطل الذي عليه معاوية.

ثم نقل الحديث عن رسول اللّٰه و هو ظاهر المعنى بيّن الدلالة فإن المؤمن يحجزه إيمانه فلا يضلل الناس أو يسعى في إفسادهم كما أن الكافر يرتد كيده إلى نحره و لا يفلح فيما يسعى إليه من إضلال المسلمين و تمزيقهم و زرع الشك في قلوبهم لأنه مكشوف الغرض و الهدف لا يقبل منه أحد من المسلمين ما يقول و يرفض كل ما يتكلم به و ينطق...

نعم الخطر كل الخطر في المنافق الذي يمتلك لسانا يطيعه في كل ما ينوي و يريد يقول ما تعرفون و يفعل ما تنكرون... إنه يعرف مشاكل المسلمين و عوراتهم فينقلها إلى الأعداء فتكون ثغرة يدخلون منها لهدم الدين و الإضرار بالمسلمين... الخطر يمكن في المنافق الذي يقول ما تقولون و لكنه يفعل ما تنكرون فهو يظهر بمظهر المصلح المقيم للعدل و لكنه يفعل بضد ذلك و خلافه و في مثل هذا يمكن الخطر و تكون المصيبة.

ص: 225

28 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية جوابا، قال الشريف: و هو من محاسن الكتب أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء (1) اللّٰه محمّدا - صلّى اللّٰه عليه و آله - لدينه، و تأييده (2) إيّاه بمن أيّده من أصحابه، فلقد خبّأ (3) لنا الدّهر منك عجبا، إذ طفقت (4) تخبرنا ببلاء اللّٰه (5) تعالى عندنا، و نعمته علينا في نبيّنا، فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر (6)، أو داعي (7) مسدّده (8) إلى النّضال (9). و زعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان و فلان، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك (10) كلّه، و إن نقص لم يلحقك ثلمه (11). و ما أنت و الفاضل و المفضول، و السّائس و المسوس! و ما للطّلقاء (12) و أبناء الطّلقاء، و التّمييز بين المهاجرين الأوّلين، و ترتيب درجاتهم، و تعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ (13) قدح (14) ليس منها، و طفق (15) يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع (16) أيّها الإنسان على ظلعك (17)، و تعرف قصور ذرعك (18)، و تتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب، و لا ظفر الظّافر!.

و إنّك لذهّاب (19) في التّيه (20)، روّاغ (21) عن القصد (22). ألا ترى - غير مخبر لك، و لكن بنعمة اللّٰه أحدّث - أنّ قوما استشهدوا في سبيل اللّٰه تعالى من المهاجرين و الأنصار، و لكلّ فضل، حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل:

سيّد الشّهداء، و خصّه رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه! أو لا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل اللّٰه - و لكلّ فضل -

ص: 226

حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم، قيل: «الطّيّار في الجنّة و ذو الجناحين!» و لو لا ما نهى اللّٰه عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمّة (23)، تعرفها قلوب المؤمنين، و لا تمجّها (24) آذان السّامعين. فدع عنك من مالت به الرّميّة (25) فإنّا صنائع (26) ربّنا، و النّاس بعد صنائع لنا. لم يمنعنا قديم عزّنا و لا عاديّ (27) طولنا (28) على قومك أن خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا و أنكحنا، فعل الأكفاء (29)، و لستم هناك! و أنّى يكون ذلك و منّا النّبيّ و منكم المكذّب (30)، و منّا أسد اللّٰه (31) و منكم أسد الأحلاف (32)، و منّا سيّدا (33) شباب أهل الجنّة و منكم صبية النّار (34)، و منّا خير نساء العالمين (35)، و منكم حمّالة الحطب (36)، في كثير ممّا لنا و عليكم!.

فإسلامنا قد سمع، و جاهليّتنا لا تدفع (37)، و كتاب اللّٰه يجمع لنا ما شذّ (38) عنّا، و هو قوله سبحانه و تعالى: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ » و قوله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ » ، فنحن مرّة أولى بالقرابة، و تارة أولى بالطّاعة. و لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة (39) برسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - فلجوا (40) عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، و إن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.

و زعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت، و على كلّهم بغيت (41)، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية (42) عليك، فيكون العذر إليك.

و تلك شكاة (43) ظاهر (44) عنك عارها

و قلت: إنّي كنت أقاد (45) كما يقاد الجمل المخشوش (46) حتّى أبايع، و لعمر اللّٰه لقد أردت أن تذمّ فمدحت، و أن تفضح (47) فافتضحت! و ما على

ص: 227

المسلم من غضاضة (48) في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه، و لا مرتابا (49) بيقينه! و هذه حجّتي إلى غيرك قصدها، و لكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح (50) من ذكرها.

ثمّ ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأيّنا كان أعدى له (51)، و أهدى إلى مقاتله (52)! أمن بذل له نصرته فاستقعده (53) و استكفّه (54)، أم من استنصره فتراخى (55) عنه و بثّ المنون (56) إليه، حتّى أتى قدره عليه. كلاّ و اللّٰه ل «قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً» .

و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم (59) عليه أحداثا (60)، فإن كان الذّنب إليه إرشادي و هدايتي له، فربّ ملوم (61) لا ذنب له.

و قد يستفيد الظّنّة (62) المنتصّح (63)

و ما أردت «إلاّ الإصلاح ما استطعت، و ما توفيقي إلاّ باللّٰه عليه توكّلت و إليه أنيب».

و ذكرت أنّه ليس لي و لأصحابي عندك إلاّ السّيف، فلقد أضحكت بعد استعبار (64)! متّى ألفيت (65) بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين (66)، و بالسّيف مخوّفين ؟!.

ف

لبّث (67) قليلا يلحق الهيجا (68) حمل (69)

فسيطلبك من تطلب، و يقرب منكك ما تستبعد، و أنا مرقل (70) نحوك في جحفل (71) من المهاجرين و الأنصار، و التّابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم (72)، ساطع (73) قتامهم (74)، متسربلين (75) سرابيل الموت، أحبّ

ص: 228

اللّقاء إليهم لقاء ربّهم، و قد صحبتهم ذرّيّة بدرية (76)، و سيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها (77) في أخيك و خالك و جدّك و أهلك «و ما هي من الظّالمين ببعيد».

اللغة

1 - الاصطفاء: الاختيار و الاجتباء.

2 - تأييده: نصره و تسديده.

3 - خبأ: أخفى.

4 - طفقت: أخذت.

5 - بلاء اللّٰه: إنعامه و إحسانه.

6 - هجر: بلد في اليمن يكثر فيها التمر و ينقل منها إلى غيرها.

7 - داعي: طالب.

8 - المسدّد: المعلم لرمي السهام.

9 - النصال: الترامي بالسهام.

10 - اعتزلك: تباعد عنك.

11 - ثلمه: عيبه.

12 - الطلقاء: جمع طليق هو من أسر و أطلق و ترك.

13 - حنّ : صوّت.

14 - القدح: بالكسر السهم و حنّ قدح ليس منها مثل يضرب لمن يفتخر بقوم ليس منهم.

15 - طفق: أخذ و شرع.

16 - تربع: تقف و تكف.

17 - الظلع: بسكون اللام العيب و بفتحها العرج.

18 - الذرع: الطاقة و الوسع، بسط اليد.

19 - ذهاب: بتشديد الهاء كثير الذهاب.

20 - التيه: الضلال.

21 - الرواغ: كثير الرواغ و هو الميل عن الشيء، المكر و الخداع.

22 - القصد: الاعتدال.

23 - جمّة: كثيرة.

ص: 229

24 - مجّ الماء: إذا ألقاه و قذفه.

25 - الرمية: الصيد يرميه الصائد و مالت به الرمية خالفت قصده فأتبعها مثل يضرب لمن اعوج غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه.

26 - الصنائع: جمع صنيعة من يصطنعه الملك و يرفع قدره.

27 - العادي: الاعتيادي المعروف، القديم.

28 - الطول: الفضل.

29 - الإكفاء: جمع كفؤ بالضم النظير في الشرف.

30 - المكذب: أبو جهل.

31 - أسد اللّٰه: حمزة بن عبد المطلب عم النبي.

32 - أسد الأحلاف: أبو سفيان لأنه جمع الأحزاب و حالفهم لحرب النبي.

33 - سيدا شباب أهل الجنة: الحسن و الحسين بنص رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

34 - صبية النار: أولاد مروان بن الحكم أخبر النبي و هم صبيان أنهم من أهل النار.

35 - خير نساء العالمين: فاطمة الزهراء.

36 - حمّالة الحطب: أم جميل بنت حرب عمة معاوية و زوجة أبي لهب.

37 - جاهليتنا لا تدفع: أي شرفنا فيها لا ينكره أحد.

38 - شذّ: تفرق و انتشر.

39 - يوم السقيفة: يوم تم اغتصاب الخلافة من الإمام في سقيفة بني ساعدة.

40 - الفلج: الظفر.

41 - بغيت: تعديت و تجاوزت الحد.

42 - الجناية: الذنب.

43 - شكاة: بالفتح الشكاية و هي المرض.

44 - ظاهر عنك: زائل عنك و بعيد.

45 - أقاد: أجّر بالمقود و هو الزمام.

46 - الجمل المخشوش: الذي جعل في أنفه الخشاش و هو عويد يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع للانقياد.

47 - تفضح: تكشف العيب و تعيّر به.

48 - الغضاضة: الذلة و المنقصة.

49 - المرتاب: المشكك.

50 - سنح: اعترض و ظهر.

51 - أعدى له: أكثر عداوة.

52 - المقاتل: وجوه القتال و مواضعه.

ص: 230

53 - استقعده: طلب قعوده و لم يقبل نصرته.

54 - استكفه: طلب كفه عن الشيء.

55 - تراخى عن الشيء: تباطأ و تأخر.

56 - المنون: الموت.

57 - المعوقين: المثبطين، المانعين عن النصرة.

58 - البأس: الشدة.

59 - أنقم عليه: أعيب عليه.

60 - أحداثا: جمع حدث البدعة.

61 - ملوم: من اللوم و هو العتب.

62 - الظنة: بالكسر التهمة.

63 - المتنصح: المبالغ في النصح.

64 - الاستعبار: البكاء.

65 - ألفيت: وجدت.

66 - ناكلين: راجعين متأخرين جبنا.

67 - لبّث: من لبث أي مكث و لبّث تمهّل.

68 - الهيجا: الحرب.

69 - حمل: بالتحريك اسم رجل و هو ابن بدر رجل من قشير أغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها.

70 - مرقل: مسرع.

71 - الجحفل: الجيش العظيم.

72 - الزحام: من زحم فلان فلانا إذا دافعه في مكان ضيق.

73 - ساطع: منتشر.

74 - القتام: بالفتح الغبار.

75 - متسربلين: لابسين.

76 - بدرية: من ذراري أهل بدر.

77 - النصال: السيوف.

الشرح

(أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّٰه محمدا - صلّى اللّٰه عليه و آله - لدينه و تأييده إياه بمن أيده من أصحابه فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء اللّٰه تعالى عندنا و نعمته علينا في نبينا فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر أو داعي مسدده إلى

ص: 231

النضال) هذا الكتاب أجاب به الإمام على كتاب كان قد بعث به معاوية إليه يحمل عليه فيه و يدعي كثيرا من الأمور الكاذبة و يلصق بالإمام من العيوب و التهم ما هو برىء منه ثم أخيرا يهدده بالحرب فتناوله الإمام بالرد عليه مفندا و مفصلا.

يذكر معاوية في رسالته اصطفاء اللّٰه لنبيه و تقويته بمن قواه من أصحابه.

و يقف الإمام من هذا الكلام موقف المتعجب و هو كلام حقا يثير العجب...

معاوية يخبر أهل بيت رسول اللّٰه بمزايا النبي و هم يعيشون معه في بيت واحد و قد تربوا على يديه فكانوا ورقة من غصن و غصنا من تلك الشجرة... أهل البيت أولاد رسول اللّٰه... و علي ظل النبي الدائم الذي لم يفارقه في حياته و شهد معه جميع مشاهده يقوم معاوية بشرح حاله إليه و يبيّن له نعم اللّٰه و كرمه على أهل البيت ببركة رسول اللّٰه.

و قد أزرى الإمام على معاوية و عابه بمثلين ضربهما له.

الأول: إنه كناقل التمر إلى هجر و هو مثل يضرب لمن يحمل الشيء إلى معدنه لينتفع به فيه و هو دليل الغشم و سوء التدبير و فساد الرأي و أصل المثل أن رجلا قدم من هجر - بلد في اليمن معروفة بكثرة تمرها - قدم إلى البصرة بمال أراد أن يشتري به شيئا للربح فلم يجد أكسد من التمر فاشترى بماله تمرا و حمله إلى هجر و ادخره في البيوت ينتظر به السعر فلم يزدد إلا رخصا حتى فسد جميعه و تلف ماله فضرب به المثل... و معاوية حمل الخبر إلى معدنه الذي هو أعرف به من كل واحد.

الثاني: إن معاوية حاله مع الإمام كداعي مسدده إلى النضال أي حالي معك كحال الجاهل الذي يتعلم الرمي فهو و في حال التعلم يدعو معلمه إلى المبارزة و الرمي فعلي الذي عنده كل حركات النبي و جهاده و كل شئونه و الذي يعرف كل خصوصيات الرسول علي هذا يريد معاوية أن يذكر له بعض كرم اللّٰه على أهل البيت ببركة النبي و وجوده...

(و زعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان و فلان فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله و إن نقص لم يلحقك ثلمه و ما أنت و الفاضل و المفضول و السائس و المسوس و ما للطلقاء و أبناء الطلقاء و التمييز بين المهاجرين الأولين و ترتيب درجاتهم و تعريف طبقاتهم) كان معاوية قد ذكر في الكتاب أن أفضل الناس في الإسلام أبو بكر و عمر و قد أجابه الإمام بانك قد زعمت و الزعم مبني على عدم الصحة أن فلانا و فلانا أفضل الناس في الإسلام.

و قد رد عليه الإمام بأننا لو سلمنا ذلك فلا يلحقك شيء من أفضليتهما و إن لم يكونا كما ذكرت - أفضل الناس - فلا يلحقك شيء من تأخرهما و قصورهما...

ص: 232

ثم نفى عنه أن يكون صالحا للحكم في هذه الأمور و أن مقامه ليس مقام الإنسان الذي يميز بين الفاضل و المفضول و الحاكم و المحكوم و قد استبعد أكثر أن يكون للطلقاء و أبناءهم - و هم الذين وقعوا يوم فتح مكة في يد النبي أسرى فمنّ عليهم و أطلقهم - و قد كان معاوية منهم... استبعد بل نفى أن يكون لهم حق التمييز و التفاضل بين المهاجرين الأولين و ترتيب درجاتهم و منازلهم و تفاضلهم و تقديم بعضهم على بعض إذ لو حق ذلك لأحد لحق ذلك للمهاجرين أنفسهم دون من كان بعيدا عنهم لا يلتقي معهم في موقف أو هدف أو ساحة...

(هيهات لقد حنّ قدح ليس منها و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها إلا تربع أيها الإنسان على ظلعك و تعرف قصور ذرعك و تتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة المغلوب و لا ظفر الظافر) بعد أن نفى عن معاوية أهلية الحكم بين المهاجرين ضرب له مثلين تصغيرا لقدره و احتقارا له فقال له: بعد ما ذهبت إليه من كونك أهلا للتحكيم.

«لقد حنّ قدح ليس منها» و هو مثل يضرب للرجل يفتخر بقبيلة ليس هو منها أو يتمدح بما لا يوجد فيه و أصل المثل كما يقول الميداني في مجمعه: القدح أحد أقداح الميسر و إذا كان أحد القداح من غير جوهرة أخواته ثم أجاله المفيض خرج له صوت يخالف أصواتها يعرف به أنه ليس من جملة القداح.

و كذلك استهان عليه السلام بمعاوية بالقول له: «و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها» أي ليس لك الحكم يا معاوية في هذا الأمر بل لهؤلاء القوم الحكم النافذ عليك فأنت عند ما تعكس القضية تكون سفيها غير رشيد.

ثم استفهمه تقريعا و توبيخا و نبهه إلى وجوب الانكفاء على ذاته و يدع ما هو فيه فيحبس نفسه على عيبه و يقعد عن ذكر غيره فإن صاحب العيب لا يستطيع أن يعيب غيره ثم وبخه بقصر باعه أي لا يستطيع أن ينال شيئا من الفضائل و ليس بمقدوره بلوغ ما بلغه الأولون و أيضا وبخه و استهان به و ذكره أنه في ذيل القافلة و من الطلقاء و الصعاليك فعليه أن يحفظ موقعه فيهم و لا يتقدم إلى غيره مما لا يستحقه ثم فرّع على ذلك توبيخا له أيضا بإنه غريب عن المهاجرين و أجنبي عنهم فلا تنفعهم تقدمته لأحدهم و تأخيره الآخرين و يكون دخولك في المفاضلة فضولا بل سفها لأنك أجنبي غريب عن المهاجرين لا تضرك غلبة أحدهم و ظفر الآخر.

(و إنك لذهّاب في التيه روّاغ عن القصد ألا ترى - غير مخبر لك و لكن بنعمة اللّٰه أحدث - أن قوما استشهدوا في سبيل اللّٰه تعالى من المهاجرين و الأنصار و لكل فضل حتى

ص: 233

إذا استشهد شهيدنا قيل: سيد الشهداء و خصّه رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه أو لا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل اللّٰه - و لكل فضل - حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل: الطيار في الجنة و ذو الجناحين و لو لا ما نهى اللّٰه عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين و لا تمجها آذان السامعين) إنك يا معاوية كثير الذهاب في الباطل و الضلال حائد عن الحق و العدل كثير الميل عما نحن فيه من الهدف إلى غيره مما لا يعنيك و ليس لك شأن فيه.

ثم ذكر الإمام مناقب خصّص اللّٰه بها بني هاشم قائلا له: لا أريد أن أخبرك لأنك أحقر من أن تخاطب و ليس مثلي يخاطب مثلك و لكن من باب التحدث بنعمة اللّٰه و أداء لحق شكر هذه النعم أتحدث: ثم ذكر أن قوما من المهاجرين و الأنصار استشهدوا في سبيل اللّٰه و قد نالوا الدرجات العليا و ارتفعوا إلى حيث أراد اللّٰه لهم من المكانة السامية و لكن يبقى فضل استشهاد شهيدنا حمزة بن عبد المطلب عم النبي أرفع درجة و أعلى منزلة حيث سماه رسول اللّٰه سيد الشهداء و كبّر عليه سبعين تكبيرة في الصلاة و قد خصّه بذلك دون غيره.

و كذلك قطعت أيدي جملة من الناس و لكل أجره و ثوابه و لكن لما قطعت يدا جعفر بن أبي طالب سماه النبي جعفر الطيار و أطلق عليه «ذو الجناحين» تكريما له و تعزيزا و تقديرا لقربه من رسول اللّٰه ثم قال له: لو لا أن أكون ممن يزكي نفسه و اللّٰه سبحانه قد نهى عن ذلك لذكرت من فضائلي الشيء الكثير التي تعرفها قلوب المؤمنين و لا تدفعها آذان السامعين أو تنكرها...

و من هو الذي ينكر فضائل علي و جهاده و تضحياته ؟ نعم ينكرها عدو لئيم متعصب عنيد لا يعرف اللّٰه و لا يعرف الحق...

(فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا) اترك يا معاوية و اعرض عمن مالت به الدنيا و انحرفت به عن الاستقامة و العدل كعمرو بن العاص و غيره من زبانيتك... أعرض عن ذلك و اتبعنا على الحق فإنا صنائع ربنا أي أهل الاختيار له هو الذي اصطفانا مباشرة و اختارنا لدينه دون واسطة أحد من الناس و بعد ذلك و بواسطتنا اهتدى الناس و على أيدينا خرجوا من الظلمات إلى النور فلا يستوي من اعتنى به اللّٰه و رباه و اختاره لما أراد و اصطنعه على عينه و قرّبه منه لا يستوي هذا و سائر الناس الذين اهتدوا به و على يديه...

(لم يمنعنا قديم عزنا و لا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا

ص: 234

و أنكحنا فعل الأكفاء و لستم هناك) افتخر عليه و امتن بأن قديم عزنا و كبير فضلنا عليكم لم يمنعنا أن خلطناكم بأنفسنا فزوجناكم كما تزوجنا منكم فعلنا كما يفعل الأكفاء مع بعضهم و لكن و الحال أنكم لستم أكفاء لنا أو نظراء.

(و أنى يكون ذلك و منا النبي و منكم المكذب و منا أسد اللّٰه و منكم أسد الأحلاف) هذا بيان للتفاوت فيما بينهم و بين الأمويين و قد ذكر عليه السلام عدة مصاديق لهذا التفاوت و إن كان لا يجوز المقارنة إلا من باب الاضطرار فذكر أن من بني هاشم النبي الكريم رسول رب العالمين بينما من بني أمية المكذب بالنبوة الجاحد لها و هو أبو سفيان و قيل: أبو جهل و منا أسد اللّٰه حمزة بن عبد المطلب و منكم أسد الأحلاف و هو أبو سفيان الذي جمع الأحزاب و قادها لحرب النبي في واقعة الخندق...

(و منا سيدا شباب أهل الجنة) و هما الحسن و الحسين بنص النبي المتفق عليه بين جميع المسلمين.

(و منكم صبية النار) و هم ملوك بني أمية أو صبية عقبة بن أبي معيط الذي قتله النبي صبرا و لما أراد قتله قال: فمن للصبية يا محمد - أي الأولاد الصغار - قال له النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: النار...

(و منا خير نساء العالمين) و هي فاطمة الزهراء ففي صحيح البخاري عن النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - أنه قال: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة و قال ابن أبي الحديد: فلأنه قد تواتر الخبر عنه - صلّى اللّٰه عليه و آله - أنه قال: «فاطمة سيدة نساء العالمين» إما هذا اللفظ بعينه أو لفظ يؤدي هذا المعنى روى أنه قال و قد رآها تبكي عند موته: «ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة» و روي أنه قال: «سادات نساء العالمين أربع خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد و آسية بنت مزاحم و مريم بنت عمران»...

(و منكم حمالة الحطب في كثير مما لنا و عليكم) و حمالة الحطب هي أم جميل امرأة أبي لهب و هي اخت أبي سفيان و عمة معاوية و فيها و في زوجها نزلت سورة «تبّت».

ثم ذكر عليه السلام أن ما ذكرناه من فضائلنا و ما ذكرناه من رذائلكم قليل من كثير في كلا الجانبين و من يرى يعرف الحقيقة و يدرك صحة ما نقول...

(فإسلامنا قد سمع و جاهليتنا لا تدفع) إسلامنا قد ظهر للناس و عرفوه حيث كنا أول الناس إسلاما و إيمانا و كنا في أعلى طبقات الأمة من الرعيل الأول في الجهاد و القتال و الدفاع عن الحق و قد أخذنا المناقب باستحقاق و حزنا المكارم بجدارة و كذلك في الجاهلية فإنا كنا أهل الكرم و الجود و أهل الفضائل و المكارم و يكفي عظمة و رفعة ما تمتع

ص: 235

به هاشم و عبد المطلب و أبو طالب فإنك تجدهم أعلى الناس كعبا و أعظمهم منزلة و أكثر الناس فضلا و خيرا...

(و كتاب اللّٰه يجمع لنا ما شذّ عنا و هو قوله سبحانه و تعالى: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ » و قوله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ » فنحن مرة أولى بالقرابة و تارة أولى بالطاعة) أراد عليه السلام أن يدلّل على أحقيته بالخلافة و أنه أولى بها من غيره و هي له دونهم و قد اعتمد على كتاب اللّٰه في إثبات ذلك و قال: إن الكتاب يلحق بنا ما أخذ منا فإن الأمر ليس فوضى و بدون حساب و تدقيق ثم بين ذلك بأحد أمرين ذكرهما الكتاب العزيز.

أحدهما القرابة و قد استدل عليه بآية أولي الأرحام و أنهم أولى ببعضهم و نحن أولى الناس بالنبي و أقربهم منه و أشدهم رحما.

و الآخر: الاتباع و قد كان علي من أول أتباع النبي و أشدهم مناصرة و دفاعا فاستحق الخلافة و كانت له دون غيره... و ذلك بآية الأتباع و أن أولى الناس بإبراهيم و الأنبياء أشدهم اتباعا لهم و هذا يثبت أنه عليه السلام أولى ممن تقدمه و من كل من ينازعه...

(و لما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - فلجوا عليهم فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم و إن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم) ذكر عليه السلام ما احتج به المهاجرون على الأنصار و كيف انتصروا عليهم و سلبوا الخلافة منهم و غلبوهم عليها...

احتجوا بأنهم قرابة النبي و أولى الناس به و قد ذكر الإمام ذلك بقوله: احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة فإذا كان ما يدعيه المهاجرون صحيح و أنهم انتصروا برسول اللّٰه و نجحوا في دعواهم به فهذا ما يجب أن ينتصر به أهل البيت على المهاجرين أنفسهم لأن أهل البيت أقرب من جميع المهاجرين فهم أهل بيته و ذريته و أشد الناس رحما له و أما إذا كانت حجة المهاجرين بغير رسول اللّٰه فالأنصار على دعواهم من أن الخلافة لهم و فيهم لأنهم أقدم الناس إسلاما و أشدهم انتصارا للّٰه و لرسوله و عليهم قامت المعارك و بهم انتصر الإسلام و قام...

(و زعمت أني لكل الخلفاء حسدت و على كلهم بغيت فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر إليك

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها)

بدّد الإمام مقولة معاوية و قال له: زعمت كذبا و زورا أنني حسدت كل الخلفاء

ص: 236

و الحقيقة أن الحسد ليس من شأني و لا من خلقي و ديني.

و أما اعتدائي عليهم - و ذلك لم يصدر - و حتى لو فرضنا ذلك فرضا و قلنا بصدوره فلا علاقة لك بذلك ليس الاعتداء عليك حتى يكون العذر إليك.

ثم تمثل بقول أبي ذؤيب و أوله:

و عيّرها الواشون أني أحبها *** و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و هو مثل يضرب لمن ينكر أمرا ليس منه في شيء فلا يلزم عليه إنكاره.

(و قلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع و لعمر اللّٰه لقد أردت أن تذم فمدحت و أن تفضح فافتضحت و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه و لا مرتابا في يقينه و هذه حجتي إلى غيرك قصدها و لكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها) رد الإمام على ما وجهه إليه معاوية بأنه أجبر على البيعة للخلفاء الذين تقدموه و أكره عليها - رد عليه بأن قوله - إن القوم قادوا الإمام كما يقاد الجمل المخشوش أي حملوه بالقوة و العنف على البيعة فحاله كحال الجمل الذي وضعوا في أنفه عودا ليسهّل عليهم انقياده.

رد الإمام بالحلف باللّٰه أنه أراد أن يذم فمدح لأنه أبان ظلم الخلفاء للإمام و أنه لم يبايع بالاختيار و أراد أن يفضح الإمام و يكشف عيبه - في نظره - فافتضح معاوية حيث أظهر ظلم الخلفاء و أنه على سيرتهم و المؤيد لفكرتهم استلاب الخلافة...

ثم بيّن عليه السلام أنه لا منقصة و لا عيب أو حيف على المسلم في أن يكون مظلوما و بالصورة التي كانت تمارس على الإمام نفسه لأن الحساب سيأتي و سيقف الظالم و المظلوم أمام المحكمة العادلة فيقتص للمظلوم من الظالم... لا منقصة على المسلم إذا كان مظلوما شرط أن لا يكون في شك من دينه أو شك في عقيدته و ما عمله من قضاياه و هذه إشارة إلى معاوية و أنه على غير دين و لا يحمل عقيدة أو يقين.

ثم ذكر عليه السلام أن هذه الحجة التي بيّنها إنما هي لغيره من الخلفاء الذين ظلموا و يجب أن يسمعها المخلصون من الأمة و لم يقصد بها معاوية لأنه صعلوك صغير لا يستحق المخاطبة أو البيان و لكن أطلق منها بقدر ما مرّ في خاطره و دعت الضرورة إليه...

(ثم ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأينا كان أعدى له و أهدى إلى مقاتله أمن بذل له نصرته فاستقعده و استكفه أم من استنصره

ص: 237

فتراخى عنه و بث المنون إليه حتى أتى قدره عليه. كلا و اللّٰه ل «قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً» ) كان معاوية قد ذكر للإمام خلافه من عثمان و تحميله دمه لأنه كما يدعي أنه لم ينصره فيقول له: أما هذه الدعوة فأنت تستحق أن أجيبك عليها لأن عثمان من أرحامك تجمعكما الشجرة الأموية فحق لك أن تجاب عن هذه.

ثم بيّن الإمام أن عثمان هو الذي رفض وساطة الإمام بينه و بيّن الثوار و قد حاول الإمام أن يصلح الأمر و في كل مرة يخرج مروان و زمرته فيفسدوا القضايا و يعكروا الأجواء و هكذا يعود الإمام حتى طلب عثمان منه أن يقعد عن مساعدته و يكف عن وساطته هكذا كانت حالة الإمام.

أما معاوية فقد استنصره عثمان و طلب منه المدد فجهز جيشا و حدّد له حدا ينتهي إليه لا يغادره و لا يتركه و بقي هكذا عثمان يستنصره و هو يتأخر عنه لا يبادر إلى نصرته حتى قتل فلما قتل رفع معاوية ثوبه و نادى بثأره و بهذا يتضح أيهما أشد عداوة لعثمان علي أم معاوية، من كان ينصره فيستقعده عثمان أم من كان يستنصره فلا ينصره.

و من هنا يعرف من هو الأشد عداء لعثمان و الأهدى إلى مقاتله علي أم معاوية من يملك الجند و القوة و يستنصره عثمان فلا ينصره أم من بذل وسعه في السعي لرفع القتل فرفض الخليفة المسعى...

ثم استشهد الإمام بالآية الكريمة و أن عثمان استنصره فثبط معاوية الجيش و أخره عن النصرة حتى أتى قضاء اللّٰه فقتل عثمان...

(و ما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحدثا فإن كان الذنب إليه إرشادي و هدايتي له فرب ملوم لا ذنب له

و قد يستفيد الظنة المتنصح

و ما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، و ما توفيقي إلا باللّٰه عليه توكلت و إليه أنيب) رفض الإمام أن يعتذر عما كان ينقمه على عثمان من أحداث و بدع و أمور مخالفة للإسلام و للحق و العدل و هي أمور مشهورة معروفة ذكرها المؤرخون و قد كان الإمام ينتقده عليها و يحاول أن يرده عنها و لا عيب أو ذنب في النقد و محاولة الرد عن الخطأ.

فليس في إرشاده لعثمان و هدايته له أي ذنب أو عيب ثم ضرب له المثل القائل «فرب ملوم لا ذنب له» و هو مثل يضرب لمن قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه و هم لا

ص: 238

يعرفون حجته و عذره و لو عرفوه لم يلوموه و مثل هذا استشهاده بقوله: «و قد يستفيد الظنة المتنصح» و هو أيضا مثل يضرب لمن يبالغ في النصيحة حتى يتهم أنه غاش و على كل حال فاللّٰه هو الذي يعلم أني لم أرد بكل محاولاتي مع عثمان إلا الإصلاح و رأب الصدع ما استطعت...

(و ذكرت أنه ليس لي و لأصحابي عندك إلا السيف فلقد أضحكت بعد استعبار متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين و بالسيف مخوفين ف

«لبث قليلا يلحق الهيجا حمل»

فسيطلبك من تطلب و يقرب منك ما تستبعد) كان معاوية قد هدّد الإمام بالحرب فأجابه الإمام بهذا الجواب الذي يحمل الاستهزاء به و الاحتقار لشخصه ؟ لقد أضحكت المؤمنين و أنا معهم بعد أن كانوا يبكون على الدين و ما جنيته من الرزايا و تفريق كلمة المسلمين، و الضحك بعد البكاء أمر غريب و غير مألوف إلا إذا كان الأمر فاقع لا يطاق حبسه أو كتمانه...

ثم ذكره بأمر معروف مشهور و استفهمه استفهام إنكار عليه بأن بني عبد المطلب لا ينكلون عن الأعداء و لا يخوّفون بالموت و ضرب السيف ثم أوعده الإمام بصدر بيت قاله حمل بن بدر

لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل *** ما أحسن الموت إذا الموت نزل

و هو مثل يضرب للوعيد بالحرب.

ثم بادله بأن من تطلبه و هو نحن هو الذي يطلبك و يقصدك، و سيقترب منك من تراه بعيدا عنك...

(و أنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، و قد صحبتهم ذرية بدرية و سيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك وجدك و أهلك «و ما هي من الظالمين ببعيد») أنا زاحف إليك في جيش من المهاجرين و الأنصار و هذا هو جيش رسول اللّٰه الذي كان يقاتل به أبا سفيان و العرب... إنهم النخبة الطيبة المختارة و معها أبناؤهم من التابعين لهم بإحسان و على خطهم و طريقة حياتهم... لم يتخلف من المهاجرين و الأنصار عن علي إلا بعضهم ممن يريدون الدنيا و يتوقعون أن يكون لهم دور فقدوه بين الأشراف و الأبرار و أهل الدين كسمرة بن جندب المضار و المغيرة بن شعبة الفاجر و أبي هريرة الدوسي الكذاب الوضاع...

ص: 239

ثم وصف مسيرة هؤلاء المهاجرين و الأنصار و من تابعهم بإحسان و أنهم لشوقهم لقتاله و رغبتهم في نزاله و لكثرتهم و التقرب إلى اللّٰه بجهاده ترى ازدحامهم شديد كل يدفع الآخر للوصول إلى شرف قتال الباغي العادي.

و كذلك لابسين أكفانهم على استعداد للموت و الشهادة و أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم شهداء في سبيله و من أجل إعلاء كلمته.

ثم أضاف إلى ذلك أن ذرية أهل بدر و أبناءهم قد رافقت المهاجرين و الأنصار في هذا الجيش المجاهد و كذلك رافقتهم السيوف الهاشمية التي و ترت العرب و قتلت صناديد المشركين و أنت يا معاوية تعرف مواقعها و مواضعها في أخيك حنظلة بن أبي سفيان و خالك الوليد بن عتبة وجدك عتبة و ما هي عن الظالمين أمثالك ببعيدة بل هي قريبة منك...

ص: 240

29 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أهل البصرة و قد كان من انتشار حبلكم (1) و شقاقكم (2) ما لم تغبوا (3) عنه، فعفوت عن مجرمكم (4)، و رفعت السّيف عن مدبركم (5)، و قبلت من مقبلكم. فإن خطت (6) بكم الأمور المردية (7)، و سفه (8) الآراء الجائرة (9)، إلى منابذتي (10) و خلافي، فهأنذا قد قرّبت جيادي (11)، و رحلت (12) ركابي (13).

و لئن ألجأتموني (14) إلى المسير إليكم لأوقعنّ (15) بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقة (16) لاعق، مع أنّي عارف لذي الطّاعة منكم فضله، و لذي النّصيحة حقّه، غير متجاوز (17) متّهما إلى بريّ ، و لا ناكثا (18) إلى وفيّ .

اللغة

1 - انتشار الحبل: تفرق طاقاته و انحلال فتله مجاز عن التفرق.

2 - الشقاق: الفرقة و الخلاف.

3 - تغبوا: من غبي إذا لم يفطن للشيء و غبا عنه جهله.

4 - المجرم: المذنب.

5 - المدبر: الهارب.

6 - خطت بكم: من الخطو أي تجاوزت.

7 - المردية: المهلكة.

8 - السفه: ضد الرشد و سفه الآراء ضعفها.

9 - الجائرة: الظالمة و المائلة عن الحق.

10 - المنابذة: المخالفة و العداوة و نبذت إليه عهده القيته إليه و اعلنت عليه الحرب.

ص: 241

11 - الجياد: جمع جواد الفرس السريع الجري.

12 - رحل البعير: شد على ظهره الرحل و الرحل للإبل كالجلال للحمار.

13 - الركاب: الإبل.

14 - الجأه: اضطره.

15 - أوقع به: بالغ في قتاله و النيل منه.

16 - اللعقة: اللحسة و لعقة لاعق مثل يضرب للشيء الحقير التافه.

17 - المتجاوز: المتعدي و تجاوز المحل إذا تعداه.

18 - الناكث: ناقض العهد.

الشرح

(و قد كان من انتشار حبلكم و شقاقكم ما لم تغبوا عنه فعفوت عن مجرمكم و رفعت السيف عن مدبركم و قبلت من مقبلكم..) هذه الرسالة أرسلها الإمام لأهل البصرة يذّكرهم فيها بما كان منهم في واقعة الجمل و كيف نكثوا العهد و خالفوا الأمر تنبيها لهم أن لا يعودوا لمثلها و أن لا يقبلوا وسوسة معاوية و إيحاءاته لهم بالتمرد و العصيان و إلا كان لهم منه يوم عظيم أعظم من يوم الجمل و أشد هولا بل يحتقر يوم الجمل و يصغر في مقابله...

ذكرّهم قبيح فعلهم معه و إنه قد كان له في أعناقهم بيعة فنكثوها و خالفوا العهد و لم يكن ذلك منهم عن غباء أو عن غفلة بل كان عن تصميم و علم قاموا بتنفيذه عن سابق معرفة و اصرار.

ثم ذكرّهم إحسانه إليهم و فضله عليهم بعد إساءتهم و قبح تصرفهم بأنه قد غفر عن مجرمهم و من يستحق القتل منهم و رفع السيف عن الهارب منهم و لم يلحق ليقتص منه و من أقبل منهم بعد الهزيمة قبل توبته و عفى عنه و صفح عما كان منه و هذه سجايا علوية و طبائع ربانية إلهية...

(فإن خطت بكم الأمور المردية و سفه الآراء الجائرة إلى منابذتي و خلافي فهأنذا قد قرّبت جيادي و رحلت ركابي) هددهم عليه السلام إن نقضوا العهد من جديد بأشد العقوبات و إنه إن مشت بكم الأهواء و قادتكم أهل الآراء المهلكة و الأحلام السفيهة الحائدة عن الحق فنقضتم عهدي و أبطلتم بيعتي و صممتم على خلافي و عصياني و التمرد على حكمي و أمري فأنا على أتم الاستعداد لحربكم فأفراسي مسرجة و إبلي مهيأة قد

ص: 242

وضعت عليها رحالها كناية عن وقوفه لهم بالمرصاد و إنه على أتم الاستعداد ليشنها عليهم حربا بأسرع ما يتصورون...

(و لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق مع إني عارف لذي الطاعة منكم فضله و لذي النصيحة حقه غير متجاوز متهما إلى بريء و لا ناكثا إلى وفي) هددهم أنه إذا اضطر للخروج إليهم و ذلك في حال نكث بيعته و الخروج على سلطانه فإنه سيأخذهم أخذا شديدا يكون ما وقع لهم في يوم الجمل قليلا بالنسبة إلى ما سيقع عليهم بحيث يقدر باللحسة القليلة لشدة ما سينالهم.

ثم اطمعهم بمعروفه و إنه يحفظ لأهل الطاعة و الاستقامة حظهم و معروفهم و لن يذهب ذلك هدرا بل سيكافؤن بالمعروف و كذلك سيحفظ لأهل النصيحة نصيحتهم و يجزيهم عليها بالاحسان إليهم.

و أكدّ عدالته و جميل سيرته بأنه لن يتجاوز في عقابه من المسيء إلى البريء و لا ناكث العهد و مخالف البيعة إلى من وفى بها و التزم بمضمونها بل لكل نفس ما كسبت و عليها ما اكتسبت، عليها ذنبها و عقابها و لها أجرها و ثوابها...

ص: 243

30 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية فاتّق اللّٰه فيما لديك، و انظر في حقّه عليك، و ارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته، فإنّ للطّاعة أعلاما (1) واضحة، و سبلا (2) نيّرة (3)، و محجّة (4) نهجة (5)، و غاية مطّلبة (6)، يردها (7) الأكياس (8)، و يخالفها الأنكاس (9) من نكب (10) عنها جار (11) عن الحقّ ، و خبط (12) في التّيه (13)، و غيّر اللّٰه نعمته (14)، و أحلّ به نقمته (15). فنفسك نفسك! فقد بيّن اللّٰه لك سبيلك، و حيث تناهت (16) بك أمورك، فقد أجريت (17) إلى غاية خسر (18)، و محلّة (19) كفر، فإنّ نفسك قد أولجتك (20) شرّا، و أقحمتك (21) غيّا (22)، و أوردتك المهالك، و أوعرت (23) عليك المسالك (24).

اللغة

1 - اعلاما: علامات، دلائل.

2 - السبل: الطرق.

3 - نيرة: مضيئة.

4 - المحجة: الطريق المستقيم.

5 - النهجة: الواضحة.

6 - مطلّبة: بالتشديد مساعفة لطالبها بما يطلبه.

7 - يردها: يقصدها.

8 - الأكياس: جمع كيس العاقل.

9 - الإنكاس: جمع نكس بكسر النون، الدنيء الخسيس.

ص: 244

10 - نكب عنها: عدل عنها.

11 - جار: مال عن القصد.

12 - الخبط: المشي على غير استقامة.

13 - التيه: الضلال.

14 - غيّر اللّٰه نعمته: بدّله.

15 - نقمته: بفتح النون و كسر القاف الانتقام، المكافأة بالعقوبة.

16 - تناهت: بلغت و وصلت.

17 - أجريت: أجرى فلان إلى غاية كذا أي قصدها بفعله.

18 - الخسر: الخسران.

19 - المحلة: المنزلة.

20 - أولجتك: أدخلتك.

21 - اقحمتك: رمت بك من الاقتحام و هو الدخول في الأمر بشدة و عنف.

22 - الغي: الضلال.

23 - أوعرت: من الوعر أي الصعب وزنا و معنى.

24 - المسالك: المداخل.

الشرح

(فاتق اللّٰه فيما لديك و انظر في حقه عليك و ارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته) هذا الكتاب موّجه إلى معاوية و فيه موعظة بتقوى اللّٰه و الرجوع إليه و النظر فيما وجب عليه استهله بالأمر بتقوى اللّٰه فيما أضحى لديه و قد اضحت الشام معه و الأموال بين يديه ظلما و عدوانا أمره بردها إلى أهلها و من هو أحق بها منه.

و انظر في حق اللّٰه عليك و حقه تعالى أن تعبده لا تشرك به شيئا و تؤدي لصاحب الحق حقه.

و ارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته أي عد إلى معرفة ما لا يقبل عذرك في جهله إن اعتذرت بأنك جاهل فيه و هو طاعة اللّٰه و رسوله و طاعة الإمام العدل...

(فإن للطاعة اعلاما واضحة و سبلا نيرة و محجة نهجة و غاية مطلبة) بيّن لمعاوية أن للطاعة علامات و دلائل واضحة تظهر أمام العيون فمنها السعي في لمّ الشمل و العمل للوحدة و إطاعة اللّٰه و رسوله فيما أمرا و نهيا عنه كما أن للطاعة طرقا مضيئة لا يضل فيها

ص: 245

الإنسان أو ينحرف و طرقا مستقيمة مطلوبة و مرادة فلا يبقى بعدها لهذا الإنسان عذر إن تمرد أو عصى...

و بعبارة أخرى إذا كانت الغاية مطلوبة و هي القرب من اللّٰه و كان لتلك الغاية اعلاما منصوبة تدل على الطرق الواضحة انسدت أمام الإنسان الأعذار حتى إذا أراد الاعتذار بجهله لا يقبل عذره.

(يردها الأكياس و يخالفها الانكاس من نكب عنها جار عن الحق و خبط في التيه و غير اللّٰه نعمته و أحل به نقمته) هذه الطاعة التي هي الغاية المقصودة يردها العقلاء لأنهم الذين يفكرون في عواقب الأمور و الغايات الشريفة التي تسعدهم و تأخذ بأيديهم إلى رضوان اللّٰه و أما الانكاس و هم الادنياء أصحاب النفوس المريضة و الخسيسة فإنهم يخالفونها و يعدلون عنها إلى الغاية الباطلة و الطرق الشيطانية المنحرفة فمن حاد عن هذه الغاية - التي هي طاعة اللّٰه - فإنه مال عن العدل و الحق و مشى متخبطا في الضلال لا يعرف كيف يمشي و لا يهتدي إلى نجاة و لا بد من كانت هذه مسيرته أن يغير اللّٰه عليه نعمته فيزيلها عنه و يبدله بها عذابا و هوانا لأن السنن الإلهية جارية على أن من رفض الحق و العدل سلبه اللّٰه هذا الحق و العدل و أبدله بهما الظلم و الجور...

(فنفسك نفسك فقد بيّن اللّٰه لك سبيلك) أمره أن يحفظ نفسه من النار فقد بيّن اللّٰه له طريق الحق و العدل الموصل إلى السعادة.

(و حيث تناهت بك أمورك فقد أجريت إلى غاية خسر و محلة كفر فإن نفسك قد أولجتك شرا و اقحمتك غيا و أوردتك المهالك و أوعرت عليك المسالك) يا معاوية و حيث انتهت بك أمورك إلى ما أنت عليه من الضلال فقد سرت إلى نهاية الخسران في النار و إلى منزل الكفار من حيث حاربت الحق و فرّقت الجماعة و قضيت على الوحدة و مزقت المجتمع الموّحد.

إن نفسك يا معاوية قد ادخلتك شرا عظيما لا يطاق و أوردتك دون وعي منك لشدة حماقتك و طيشك و تسرعك ضلالا ليس بعده ضلال و أوردتك المهالك الدنيوية و الأخروية و جعلت طرقك صعبة شاقة يعسر المسير فيها كناية عن أن نفس معاوية خبيثة بوساوسها الشيطانية و قد اوردته سبل الضلال و سهلت عليه سلوكها بتحسينها للغايات الباطلة و بسبب ذلك لزمه البعد عن طرق الهدى و مسالك الخير و صعب عليه سلوك طرق الخير و الصلاح...

ص: 246

31 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

للحسن بن علي عليهما السلام، كتبها إليه «بحاضرين» عند انصرافه من صفين من الوالد الفان، المقرّ (1) للزّمان، المدبر العمر، المستسلم للدّنيا، السّاكن مساكن الموتى (2)، و الظّاعن عنها غدا، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك، السّالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام (4)، و رهينة الأيّام، و رميّة المصائب (5)، و عبد الدّنيا، و تاجر الغرور، و غريم (7) المنايا (8)، و أسير (9) الموت، و حليف (10) الهموم، و قرين (11) الأحزان، و نصب (12) الآفات (13)، و صريع (14) الشّهوات، و خليفة الأموات.

أمّا بعد، فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّي، و جموح الدّهر عليّ ، و إقبال الآخرة إليّ ، ما يزعني عن ذكر من سواي، و الاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي، فصدفني (15) رأيي، و صرفني عن هواي، و صرّح لي محض أمري، فأفضى (16) بي إلى جدّ (17) لا يكون فيه لعب، و صدق لا يشوبه كذب. و وجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتّى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني، و كأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت.

فإنّي أوصيك بتقوى اللّٰه - أي بنيّ - و لزوم أمره، و عمارة قلبك بذكره،

ص: 247

و الاعتصام (19) بحبله. و أيّ سبب أوثق من سبب بينك و بين اللّٰه إن أنت أخذت به!.

أحي قلبك بالموعظة، و أمته بالزّهادة، و قوّه باليقين، و نوّره بالحكمة، و ذلّله بذكر الموت، و قرّره بالفناء، و بصّره فجائع (20) الدّنيا، و حذّره (21) صولة الدّهر (22) و فحش (23) تقلّب الّليالي و الأيّام، و اعرض عليه أخبار المّاضين، و ذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين، و سر في ديارهم و آثارهم، فانظر فيما فعلوا و عمّا انتقلوا، و أين حلّوا و نزلوا! فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، و حلّوا ديار الغربة، و كأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم.

فأصلح مثواك (24)، و لا تبع آخرتك بدنياك، و دع القول فيما لا تعرف، و الخطاب (25) فيما لم تكلّف. و أمسك (26) عن طريق إذا خفت ضلالته، فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال (27). و أمر بالمعروف تكن من أهله، و أنكر المنكر بيدك و لسانك، و باين (28) من فعله بجهدك (29)، و جاهد في اللّٰه حقّ جهاده، و لا تأخذك في اللّٰه لومة لائم. و خض (30) الغمرات (31) للحقّ حيث كان، و تفقّه في الدّين، و عوّد نفسك التّصبّر على المكروه، و نعم الخلق (32) التّصبر في الحقّ ! و ألجيء نفسك في أمورك كلّها إلى إلهك، فإنّك تلجئها إلى كهف (33) حريز (34)، و مانع عزيز. و أخلص في المسألة لربّك، فإنّ بيده العطاء و الحرمان، و أكثر الاستخارة، و تفهّم وصيّتي، و لا تذهبنّ عنك صفحا، فإنّ خير القول ما نفع. و اعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع، و لا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه.

أي بنيّ ، إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّا، و رأيتني أزداد و هنا، بادرت (35) بوصيّتي إليك، و أوردت خصالا (36) منها قبل أن يعجل بي أجلي

ص: 248

دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدّنيا، فتكون كالصّعب النّفور. و إنّما قلب الحدث (38) كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته.

فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، و يشتغل لبّك (39)، لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته و تجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطّلب، و عوفيت من علاج التّجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه، و استبان لك ما ربّما أظلم علينا منه.

أي بنيّ ، إنّي و إن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، و فكّرت في أخبارهم، و سرت في آثارهم، حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إلّيّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، و نفعه من ضرره، فاستخلّصت لك من كلّ أمر نخيله، و توخّيت لك جميلة، و صرفت عنك مجهوله، و رأيت حيث عناني (41) من أمرك ما يعني الوالد الشّفيق، و أجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك و أنت مقبل العمر و مقتبل الدّهر، ذو نيّة سليمة، و نفس صافية، و أن أبتدئك بتعليم كتاب اللّٰه عزّ و جلّ و تأويله، و شرائع الإسلام و أحكامه، و حلاله و حرامه، لا أجاوز (42) ذلك بك إلى غيره. ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم و آرائهم مثل الّذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة (43)، و رجوت أن يوفّقك اللّٰه فيه لرشدك (44)، و أن يهديك، لقصدك (45)، فعهدت إليك وصيّتي هذه.

و اعلم يا بنيّ أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي تقوى اللّٰه

ص: 249

و الاقتصار على ما فرضه اللّٰه عليك، و الأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك، و الصّالحون من أهل بيتك، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، و فكّروا كما أنت مفكّر، ثمّ ردّهم (46) آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، و الإمساك (47) عمّا لم يكلّفوا، فإن أبت (48) نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفّهم و تعلّم، لا بتورّط الشّبهات (49)، و علق (50) الخصومات (51). و ابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، و الرّغبة إليه في توفيقك، و ترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة (52). فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع (53)، و تمّ رأيك فاجتمع، و كان همّك في ذلك همّا واحدا، فانظر فيما فسّرت لك، و إن لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك، و فراق نظرك و فكرك، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء، و تتورّط الظّلماء. و ليس طالب الدّين من خبط أو خلط، و الإمساك (54) عن ذلك أمثل.

فتفهّم يا بنيّ وصيّتي، و اعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة، و أنّ الخالق هو المميت، و أنّ المفني هو المعيد، و أنّ المبتلي هو المعافي، و أنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها اللّٰه عليه من النّعماء (55)، و الابتلاء، و الجزاء في المعاد، أو ما شاء ممّا لا تعلم، فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإنّك أوّل ما خلقت به جاهلا ثمّ علّمت، و ما أكثر ما تجهل من الأمر، و يتحيّر فيه رأيك، و يضلّ فيه بصرك ثمّ تبصره بعد ذلك! فاعتصم بالّذي خلقك و رزقك و سوّاك، و ليكن له تعبّدك، و إليه رغبتك، و منه شفقتك.

و اعلم يا بنيّ أنّ أحدا لم ينبىء (56) عن اللّٰه سبحانه كما أنبأ عنه الرّسول

ص: 250

- صلّى اللّٰه عليه و آله - فارض به رائدا، و إلى النّجاة قائدا، فإنّي لم آلك نصيحة. و إنّك لن تبلغ في النّظر لنفسك - و إن اجتهدت - مبلغ نظري لك.

و اعلم يا بنيّ أنّه لو كان لرّبّك شريك لأتتك رسله، و لرأيت آثار ملكه و سلطانه، و لعرفت أفعاله و صفاته، و لكنّه إله واحد كما وصف نفسه. لا يضادّه (57) في ملكه أحد، و لا يزول أبدا و لم يزل. أوّل قبل الأشياء بلا أوّليّة، و آخر بعد الأشياء بلا نهاية. عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر. فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، و قلّة مقدرته، و كثرة عجزه (58)، و عظيم حاجته إلى ربّه. في طلب طاعته، و الخشية (60) من عقوبته، و الشّفقة من سخطه (61) فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن، و لم ينهك إلاّ عن قبيح.

يا بنيّ إنّي قد أنبأتك (62) عن الدّنيا و حالها، و زوالها و انتقالها، و أنبأتك عن الآخرة و ما أعدّ (63) لأهلها فيها، و ضربت لك فيهما الأمثال، لتعتبر بها، و تحذو عليها. إنّما مثل من خبر (64) الدّنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب (65)، فأمّوا منزلا خصيبا و جنابا مريعا (66)، فاحتملوا و عثاء الطّريق، و فراق الصّديق، و خشونة السّفر، و جشوبة المطعم، ليأتوا سعة دارهم، و منزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألما، و لا يرون نفقة فيه مغرما. و لا شيء أحبّ إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم، و أدناهم من محلّتهم.

و مثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب، فنبا بهم إلى منزل جديب، فليس شيء أكره إليهم و لا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه، إلى ما يهجمون عليه، و يّصيرون إليه.

ص: 251

يا بنيّ اجعل نفسك ميزانا (67) فيما بينك و بين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، و اكره له ما تكره لها، و لا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم، و أحسن كما تحبّ أن يحسن إليك، و استقبح (68) من نفسك ما تستقبحه من غيرك، و ارض من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك، و لا تقل ما لا تعلم و إن قلّ ما تعلم، و لا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك.

و اعلم أنّ الإعجاب ضدّ الصّواب، و آفة الألباب (69). فاسع (70) في كدحك (71)، و لا تكن خازنا لغيرك، و إذا أنت هديت لقصدك (72) فكن أخشع (73) ما تكون لربّك.

و اعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة، و مشقّة (74) شديدة، و أنّه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، و قدر (75) بلاغك من الزّاد (76)، مع خفّة الظّهر، فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك (77)، فيكون ثقل (78) ذلك وبالا (79) عليك، و إذا وجدت من أهل الفاقة (80) من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك (81) به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه (82) و حمّله إيّاه، و أكثر من تزويده و أنت قادر عليه، فلعلّك تطلبه فلا تجده. و اغتنم من استقرضك (83) في حال غناك، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.

و اعلم أنّ أمامك عقبة (84) كؤودا، المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل (85)، و المبطئ (86) عليها أقبح حالا من المسرع، و أنّ مهبطك (87) بها لا محالة إمّا على جنّة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، و وطّىء (89) المنزل قبل خلوا لك، «فليس بعد الموت مستعتب» و لا إلى الدّنيا منصرف (90).

و اعلم أنّ الّذي بيده خزائن السّموات و الأرض قد أذن لك (91) في

ص: 252

الدّعاء، و تكفّل (92) لك بالإجابة، و أمرك أن تسأله ليعطيك، و تسترحمه ليرحمك، و لم يجعل بينك و بينه من يحجبك عنه، و لم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، و لم يمنعك إن أسأت من التّوبة، و لم يعاجلك بالنّقمة، و لم يعيّرك (93) بالإنابة، و لم يفضحك (94) حيث الفضيحة بك أولى، و لم يشدّد (95) عليك في قبول الإنابة، و لم يناقشك بالجريمة (96) و لم يؤيسك (97) من الرّحمة، بل جعل نزوعك عن الذّنب حسنة، و حسب سيّئتك واحدة، و حسب حسنتك عشرا، و فتح لك باب المتاب (98)، و باب الاستعتاب (99)، فإذا ناديته (100) سمع نداك، و إذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، و أبثثته (101) ذات نفسك، و شكوت (102) إليه همومك، و استكشفته كروبك، و استعنته على أمورك، و سألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره، من زيادة الأعمار، و صحّة الأبدان، و سعة الأرزاق. ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته، و استمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنّطنّك (103) إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة (104) على قدر النّيّة. و ربّما أخّرت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل، و أجزل (105) لعطاء الآمل. و ربّما سألت الشّيء فلا تؤتاه، و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، و ينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له.

و اعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا، و للفناء لا للبقاء، و للموت لا للحياة، و أنّك في قلعة و دار بلغة، و طريق إلى الآخرة، و أنّك طريد الموت الّذي لا ينجو منه هاربه، و لا يفوته طالبه. و لا بدّ أنّه

ص: 253

مدركه (106)، فكن منه على حذر (107) أن يدركك و أنت على حال سيّئة، قد كنت تحدّث نفسك منها بالتّوبة، فيحول (108) بينك و بين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.

ذكر الموت

يا بنيّ أكثر من ذكر الموت، و ذكر ما تهجم (109) عليه، و تفضي (110) بعد الموت إليه، حتّى يأتيك و قد أخذت منه حذرك، و شددت له أزرك (111)، و لا يأتيك بغتة (112) فيبهرك. و إيّاك أن تغترّ (113) بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها، و تكالبهم عليها، فقد نبّأك (114) اللّٰه عنها، و نعت (115) هي لك عن نفسها، و تكشّفت لك عن مساويها، فإنّما أهلها كلاب عاوية، و سباع ضارية، يهرّ بعضها على بعض، و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر (116) كبيرها صغيرها. نعم معقّلة، و أخرى مهملة (117)، قد أضلّت (118) عقولها، و ركبت مجهولها. سروح عاهة بواد وعث، ليس لها راع يقيمها، و لا مسيم يسيمها. سلكت بهم الدّنيا طريق العمى، و أخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، و غرقوا في نعمتها، و اتّخذوها ربّا، فلعبت بهم و لعبوا بها، و نسوا ما وراءها.

الترفق في الطلب

رويدا (120) يسفر الظّلام، كأن قد وردت الأظعان، يوشك من أسرع أن يلحق! و اعلم يا بنيّ أنّ من كانت مطيّته الّليل و النّهار، فإنّه يسار به و إن كان واقفا، و يقطع المسافة و إن كان مقيما و ادعا.

و اعلم يقينا أنّك لن تبلغ (121) أملك، و لن تعدو (122) أجلك (123)،

ص: 254

و أنّك في سبيل (124) من كان قبلك فخفّض في الطّلب، و أجمل (125) في المكتسب، فإنّه ربّ طلب قد جرّ (126) إلى حرب، فليس كلّ طالب بمرزوق، و لا كلّ مجمل (127) بمحروم (128). و أكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقتك (129) إلى الرّغائب (130)، فإنّك لن تعتاض (131) بما تبذل (132) من نفسك عوضا (133). و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّٰه حرّا. و ما خير خير لا ينال إلاّ بشرّ، و يسر لا ينال إلاّ بعسر؟!.

و إيّاك أن توجف بك مطايا (134) الطّمع، فتوردك (135) مناهل (136) الهلكة (137). و إن استطعت ألاّ يكون بينك و بين اللّٰه ذو نعمة فافعل، فإنّك مدرك قسمك (138)، و آخذ سهمك (139)، و إنّ اليسير من اللّٰه سبحانه أعظم و أكرم من الكثير من خلقه و إن كان كلّ منه.

وصايا شتى

و تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، و حفظ ما في الوعاء (140) بشدّ الوكاء، و حفظ ما في يديك أحبّ إليّ من طلب ما في يدي غيرك. و مرارة (141) اليأس (142) خير من الطّلب إلى النّاس، و الحرفة مع العفّة (143) خير من الغنى مع الفجور (144)، و المرء أحفظ لسرّه، و ربّ ساع (145) فيما يضرّه! من أكثر أهجر، و من تفكّر أبصر. قارن أهل الخير تكن منهم، و باين (146) أهل الشّرّ تبن عنهم. بئس الطّعام الحرام! و ظلم الضّعيف أفحش (147) الظّلم! إذا كان الرّفق (148) خرقا كان الخرق رفقا. ربّما كان الدّواء داء (149)، و الدّاء دواء. و ربّما نصح غير النّاصح، و غشّ المستنصح. و إيّاك و الاتّكال على المنى فإنّها بضائع (150) النّوكى، و العقل حفظ التّجارب (151)، و خير ما جرّبت ما وعظك. بادر (152) الفرصة

ص: 255

قبل أن تكون غصّة. ليس كلّ طالب يصيب، و لا كلّ غائب يئوب (155).

و من الفساد (156) إضاعة (157) الزّاد، و مفسدة المعاد. و لكلّ أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدّر لك. التّاجر مخاطر (158) و ربّ يسير أنمى (159) من كثير! لا خير في معين (160) مهين، و لا في صديق ظنين. ساهل الدّهر ما ذلّ (161) لك قعوده، و لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه، و إيّاك أن تجمح (162) بك مطيّة (163) اللّجاج (164).

احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصّلة (165)، و عند صدوده على اللّطف و المقاربة، و عند جموده على البذل، و عند تباعده على الدّنوّ (166)، و عند شدّته على اللّين، و عند جرمه (167) على العذر، حتّى كأنّك له عبد، و كأنّه ذو نعمة عليك. و إيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله. لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك، و امحض (168) أخاك النّصيحة، حسنة كانت أو قبيحة، و تجرّع (169) الغيط فإنّي لم أر جرعة أحلى منها عاقبة، و لا ألذّ مغبّة. و لن (170) لمن غالظك، فإنّه يوشك أن يلين لك، و خذ على عدوّك بالفضل فإنّه أحلى الظّفرين. و إن أردت قطيعة (171) أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا (172) له ذلك يوما مّا. و من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه، و لا تضيعنّ (173) حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك و بينه، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه. و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك، و لا ترغبنّ فيمن زهد عنك، و لا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك (174) منك على صلته، و لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان. و لا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك، فإنّه يسعى في مضرّته و نفعك، و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه.

ص: 256

و اعلم يا بنيّ أنّ الرّزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك، فإن أنت لم تأته أتاك. ما أقبح الخضوع (175) عند الحاجة، و الجفاء (176) عند الغنى! إنّما لك من دنياك، ما أصلحت به مثواك، و إن كنت جازعا (177) على ما تفلّت من يديك، فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك. استدلّ على ما لم يكن بما قد كان، فإنّ الأمور أشباه، و لا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في إيلامه (178)، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب، و البهائم لا تتّعظ إلاّ بالضّرب.

اطرح عنك واردات الهموم (179) بعزائم (180) الصّبر و حسن اليقين. من ترك القصد جار، و الصّاحب مناسب، و الصّديق من صدق غيبه. و الهوى شريك العمى، و ربّ بعيد أقرب من قريب، و قريب أبعد من بعيد، و الغريب من لم يكن له حبيب. من تعدّى (181) الحقّ ضاق مذهبه، و من اقتصر على قدره كان أبقى له. و أوثق (183) سبب أخذت به سبب بينك و بين اللّٰه سبحانه. و من لم يبالك فهو عدوّك. قد يكون اليأس إدراكا، إذا كان الطّمع هلاكا. ليس كلّ عورة (184) تظهر، و لا كلّ فرصة (185) تصاب، و ربّما أخطأ البصير قصده (186)، و أصاب الأعمى رشده (187). أخّر الشّرّ فإنّك إذا شئت تعجّلته، و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. من أمن (188) الزّمان خانه (189)، و من أعظمه (190) أهانه (191). ليس كلّ من رمى أصاب. إذا تغيّر السّلطان تغيّر الزّمان. سل عن الرّفيق قبل الطّريق، و عن الجار قبل الدّار. إيّاك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا، و إن حكيت ذلك عن غيرك.

الرأي في المرأة

و إيّاك و مشاورة (192) النّساء فإنّ رأيهنّ (193) إلى أفن، و عزمهنّ (194) إلى وهن. و اكفف (195) عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ ، فإنّ شدّة

ص: 257

الحجاب أبقى عليهنّ ، و ليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ ، و إن استطعت ألاّ يعرفن غيرك فافعل. و لا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، و فإنّ المرأة ريحانة (196)، و ليست بقهرمانة. و لا تعد (197) بكرامتها نفسها، و لا تطمعها في أن تشفع لغيرها. و إيّاك و التّغاير في غير موضع غيرة، فإنّ ذلك يدعو الصّحيحة إلى السّقم (198)، و البرئية إلى الرّيب (199). و اجعل لكلّ إنسان من خدمك (200) عملا تأخذه به (201)، فإنّه أحرى (202) ألاّ يتواكلوا (203) في خدمتك. و أكرم عشيرتك، فإنّهم جناحك الّذي به تطير، و أصلك الّذي إليه تصير و يدك الّتي بها تصول (204).

دعاء

استودع اللّٰه دينك و دنياك، و اسأله خير القضاء لك في العاجلة و الآجلة، و الدّنيا و الآخرة، و السّلام.

اللغة

1 - المقرّ: المذعن، المعترف.

2 - الموتى: مات الحي موتا: فارقته الحياة و الشيء همد و سكن و الميت الذي فارق الحياة جمع أموات و موتى.

3 - السالك: سلك الطريق: سار فيه متبعا إيّاه.

4 - الأسقام: الأمراض.

5 - المصائب: المصيبة كل مكروه يحلّ بالإنسان جمعه مصائب (على غير قياس و قياسها مصاوب).

6 - الغرور: الأباطيل.

7 - الغريم: جمع غرماء و هو المديون.

8 - المنايا: جمع منيّة، الموت.

9 - أسير: جمعه أسرى و أسراء و أسارى: من قبض عليه و أخذ.

ص: 258

10 - الحليف: جمعه حلفاء كل شيء لزم شيئا فلم يفارقه يقال: فلان حليف الجود أي لا يفارقه و فلان حليف الهموم أي لا يفارقها.

11 - قرين: جمعه قرناء المقرون بآخر، المصاحب. قرين الأحزان أي مصاحبها (و ملازمها).

12 - نصب: الداء البلاء، جمع نصاب، النصيب، كل ما جعل علما (يصبح هدف للآفات).

13 - الآفات: آفت البلاء أوفا و آفة: أصابتها آفة من قحط أو مرض و غيره الآفة كل ما يصيب شيئا فيفسده.

14 - صريع: صرعه صرعا و مصرعا أي طرحه على الأرض.

15 - صدفني: صدف صدفا و صدوفا: انصرف و مال و صدفا عنه: أعرض و صدّ، صدفني رأيي: صدّني.

16 - فأفضى: أفضى به إلى جدّ أي بلغ و انتهى به إليه، و أوصله إليه.

17 - جدّ: الجدّ ضد الهزل.

18 - يشوبه: الشوب ما اختلط بغيره من الأشياء.

19 - اعتصم: اعتصم بالشيء أمسكه بيده و اعتصم باللّٰه: امتنع بلطفه من المعصية.

20 - فجائع: رزايا جمع رزيئة أو رزية و هي المصيبة العظيمة.

21 - حذّره: خوّفه نبّهه و حرّزه.

22 - صولة الدهر: الصولة: السطوة في الحرب و غيره. صولة الدهر: سطوة الدهر.

23 - فحش: القبيح من القول و الفعل.

24 - مثواك: مقامك بعد الموت في القبر.

25 - الخطاب: ما يكلّم به الرجل صاحبه و نقيضه الجواب.

26 - أمسك: أمسك عن الأمر كف عنه و امتنع.

27 - الأهوال: هال يهول هولا: هال الأمر فلانا أفزعه و عظم عليه و الهول جمع أهوال و هؤول: المخافة من الأمر.

28 - باين: بان بينا و بيونا و بينونة عنه انقطع عنه و فارقه. باينه: هاجره.

29 - الجهد: الجهد و الجّهد و المجهود الطاقة و الاستطاعة يقال: بذل جهده و مجهوده أي طاقته.

30 - خض: خاض خوضا و خياضا. الماء: دخله و خاض الغمرات: اقتحمها يقال: إنه يخوض المنايا أي يلقي نفسه في المهالك و هو يخوض الليل أي يخبط فيه غير مكترث.

31 - الغمرات: غمار و غمر جمع غمرة: الشدة. غمرة الشيء شدته بالأهوال يقال:

غمرات الموت: مكارهه و شدائده.

ص: 259

32 - الخلق: الخلق و الخلق: المروءة، العادة، السجية، الطّبع.

33 - الكهف: الملجأ.

34 - الحريز: الحرز الموضع الحصين.

35 - بادرت: بدر بدورا إلى الشيء: أسرع بادرت: أسرعت.

36 - الخصال: جمع خصلة: الخلّة الفضيلة.

37 - أجلي: الأجل جمع آجال غاية الوقت، وقت الموت.

38 - الحدث: الحدث جمعه أحداث و حدثان: الشاب، قلب الحدث أي قلب الشاب.

39 - لبّك: اللّب جمعه ألباب و ألبّ و ألبب خالص كل شيء، العقل الخالص من الشوائب.

40 - الكدر: نقيض الصافي.

41 - عناني: عنى و عناية و عناية و عنيّا الأمر فلانا: شغله و أهمّه.

42 - أجاوز: تجاوز المكان: جازه و تخطّاه و اجتاز سلك و جاوز المكان تعدّاه.

43 - الهلكة: الهلك واحده الهلكة، الشيء الذي يهوي و يسقط و التهلكة كل ما عاقبته إلى الهلاك.

44 - الرشد: الاستقامة على طريق الحق: ضدّ الغي.

45 - القصد: استقامة الطريق يقال: طريق قصد أي مستقيم و يقال إنه على قصد أي على رشد و على اللّٰه قصد السبيل أي بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق.

46 - ردّهم: صرفهم و أرجعهم.

47 - الإمساك: الكف و الامتناع.

48 - أبت: أي الامتناع. أبيت الشيء أباة، الإباء: أن تعرض على الرجل الشيء فيأبى قبوله.

49 - تورّط الشبهات: يقال تورّطت الماشية وقعت في موحل أو في مكان لا تتخلّص منه و تورّط الرجل وقع في الورطة أو في أمر مشكل و الشبهات كل أمر يلتبس فيه الحق بالباطل و الحلال بالحرام.

50 - علق: تعلق الشوك بالثوب: علق و علق الوحش أو الظبي بالحبالة أي وقع فيها و أمسكته و علق الشيء بالشيء و به نشب فيه و استمسك به.

51 - الخصومات: خاصم و خصاما و مخاصمة نازعه و جادله.

52 - الضلالة: الهلاك.

53 - خشع: خشوعا له تطأمن و ذلّ و خضع.

54 - الإمساك: الكف و الامتناع.

ص: 260

55 - النعماء: التمتع و التنعم.

56 - ينبىء: يخبر.

57 - يضاده: الضدّ أي النظير يقال: لا ضدّ له أي لا نظير له و لا مثيل له و لا يخالفه أحد.

58 - العجز: عجز عن كذا أي لم يقتدر عليه.

59 - الرهبة: الخوف.

60 - الخشية: الخوف و الاتقاء خشيء اللّٰه خافه و اتقاه.

61 - السّخط: الغضب و الشفقة من سخطه أي من غضبه.

62 - انبأتك: أخبرتك و أعلمتك.

63 - أعدّ: يقال: أعدّه لأمره هيّأه له و أحضره.

64 - خبر: خبر الدنيا علمها بحقيقتها و كنهها.

65 - جديب: أجدب المكان انقطع عنه المطر فيبست أرضه.

66 - المريع: جمعه أمراع و أمرع: خصيب يقال: مريع الجناب أي كثير الخير.

67 - الميزان: جمعه موازين آلة يوزن بها الشيء و يعرف مقداره.

68 - استقبح: استقبح الشيء: ضد استحسنه.

69 - الألباب: آفة الألباب: آفة العقول الخالصة.

70 - أسع: أسع في الأمر أي اهتم بتحصيله.

71 - القصد: استقامة الطريق يعني إذا أنت اهتديت إلى الطريق المستقيم الذي يوصلك إلى الحق فكن أخشع و أخضع و أكثر تضرعا لربك.

72 - الخشوع: الخضوع التضرع.

73 - كدح: كدح كدحا في العمل جهد نفسه فيه و كدّ حتى يؤثر فيها و كدح لعياله أي كسب.

74 - المشقّة: الصعوبة و المحنة و العناء.

75 - قدّر: قدّر الشيء بالشيء جعله على مقداره و قدّر الرجل فكّر في تسوية أمره و تدبيره.

76 - الزاد: ما يتخذ من الطعام للسفر.

77 - الطاقة: القدرة على الشيء يقال: لا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي ما يصعب علينا حمله.

78 - الثقل: ضد الخفّة و الثقل جمعه أثقال: الحمل الثقيل.

79 - الوبال: الشدة الوخامة سوء العاقبة.

80 - الفاقة: من أهل الفاقة من أهل الفقر و الحاجة.

81 - يوافيك: أوفى فلانا حقّه أعطاه إيّاه تاما.

ص: 261

82 - اغتنمه: غنم غنما الشيء: فاز به و ناله بلا بدل، و اغتنم و استغنم الشيء عدّه غنيمة.

83 - استقرضك: استقرض منه: طلب منه القرض و القرض و القرض جمع قروض ما سلّفت من إحسان أو إساءة: ما تعطيه غيرك من المال شرط أن يعيده لك بعد أجل معلوم.

84 - عقبة: جمعه عقاب و عقبات: المرقى الصعب من الجبال. عقبة كؤود أي شاقة المصعد صعبة المرتقى.

85 - الثقل: الثقل جمع أثقال الحمل الثقيل.

86 - المبطئ: أبطأ ضد أسرع.

87 - مهبطك: المهبط: موضع الهبوط.

88 - لا محالة: لا محالة يعني لا بدّ و لا حيلة يعني أمر مؤكد لا مفرّ منه.

89 - و وطّيء: وطّأ الشيء: هيّأه و سهّله و مهّده.

90 - منصرف: يقال: انصرف الرجل أي انكفأ و رجع.

91 - أذن لك: أذن له في الشيء أباحه له أجازه فهو مأذون.

92 - تكفّل: تكفّل لك الإجابة ضمنها لك أي التزمها و ألزم نفسه بها.

93 - لم يعيّرك: العار: العيب كل ما يعيّر به الإنسان من قول أو فعل.

94 - لم يفضحك: لم يكشف مساوئك.

95 - لم يشدد عليك: لم يضيّق عليك.

96 - الجريمة: الجرم و الذنب.

97 - لم يؤيسك: لم يقنطك و لم يقطع أملك و رجاءك.

98 - المثاب: فتح لك باب المثاب أي باب الجزاء على الأعمال.

99 - الاستعتاب: استعتبه: طلب منه العتبى أي استرضاه يقال: أعطاه العتبى أي أرضاه.

100 - ناديته: فإذا ناديته فإذا دعوته. النداء، الدعاء.

101 - بثثته: بثّ و باثّ و أباثّ فلانا الخبر أطلعه عليه و أخبره به كاشفه به.

102 - شكوت: شكا أمره إلى اللّٰه أي أظهره له.

103 - يقنّطك: القنوط: اليأس لا ييئسك.

104 - العطيّة: ما يعطى.

105 - أجزل: أجزل العطاء أوسع و أكثر العطاء.

106 - مدركه: أدرك الشيء لحقه.

107 - حذر: فكن في الموت على حذر أي تحرّز منه.

ص: 262

108 - يحول: حال حيلولة بينهما حجز و اعترض و الحوال كل ما حجز بين شيئين يحول بينك و بين كذا أي يحجز بينك و بينه.

109 - هجم عليه: هجوما انتهى إليه بغتة على غفلة منه أو دخل بغير إذن.

110 - تفضي: أفضى الرجل أي افتقر أي ما تفتقر بعد الموت إليه. و يقال: أفضى به إلى كذا: بلغ و انتهى به إليه.

111 - أزرك: الأزر: الظهر يقال: شدّ به أزره أي ظهره. و الأزر: القوّة.

112 - بغتة: فجأة. يقال: لست آمن من بغتات العدو أي من فجأته.

113 - تغتر: أي لا تنخدع و لا تغفل.

114 - نبأ: أخبر و أعلم.

115 - نعت: أخبرت و أظهرت. و نعت: وصف.

116 - يقهر: يغلب.

117 - مهملة: أهمل، ترك و هملت الإبل تركت سدى أي مسيّبة ليلا و نهارا ترعى بلا راع.

118 - أضلّت: الضلال ضد الهدى أضلّت أي أضاعت.

119 - ركبت: ركب فلان رأسه مضى على وجهه بغير رويّة.

120 - رويدا: يقال ساروا سيرا رويدا و ساروا رويدا أي برفق و توءدة.

121 - بلغ: وصل و بلغ الشيء أي وصل إليه و البلاغ الوصول إلى الشيء المطلوب.

122 - تعدو: تعدّى الشيء جاوزه، تعدو تتجاوز.

123 - أجلك: الأجل وقت الموت و غاية الوقت.

124 - سبيل: السبيل الطريق أو ما وضح منها.

125 - أجمل: يقال: أجمل في الطلب أي اعتدل و لا تفرّط و أجمل في العمل أي أحسن و في الكلام تلطّف.

126 - جرّ: إلى حرب قاد إلى حرب.

127 - مجمل: معتدل غير مفرّط.

128 - محروم: المحروم الممنوع عن الخير.

129 - ساقتك: يقال: ساق الماشية أي حثها على السّير من خلف.

130 - الرغائب: الأمر المرغوب فيه: العطاء الكثير.

131 - تعتاض: لن تعتاض أي لن تأخذ و لن تحصل على الخلف و البدل.

132 - تبذل: تعطي تجود، و البذل العطاء و الكرم.

133 - عوضا: بدلا و خلفا.

134 - المطايا: جمع مطيّة الدابة التي تركب.

ص: 263

135 - تورّدك: تورّده و استورد، أحضره المورد و تورّدك تحضرك و تدنيك و تبلغك.

136 - مناهل: جمع منهل: المورد مناهل موارد.

137 - الهلكة: الهلك الواحدة هلكة الشيء الذي يهوي و يسقط و التهلكة: كل ما عاقبته إلى الهلاك و المهلكة موضع الهلاك.

138 - قسمك: القسم: الجزء من الشيء المقسوم: قسمك نصيبك.

139 - سهمك: السّهم: النصيب.

140 - الوعاء: يقال: أوعى الزاد جعله في الوعاء و الوعاء ما يوعى فيه الشيء أي يجمع و يحفظ.

141 - المرارة: مرّ مرارة أي صار مرا.

142 - اليأس: اليأس و اليئاسة، القنوط نقيض الرجاء.

143 - العفّة: ترك الشهوات من كل شيء. و غلب في حفظ الفرج مما لا يحلّ .

144 - الفجور: فجر فجورا عن الحق أي عدل عن الحق، كذب و أصله الميل عن الصدق و القصد، ركب المعاصي.

145 - ساع: الساعي الرسول الذي يرسل من مكان إلى آخر في حاجة.

146 - باين: بان انقطع و فارق و باينه هاجره باين أهل الشر انقطع عنهم و فارقهم و اهجرهم.

147 - أفحش: فعل الفحشاء و الفحش القبيح من القول أو الفعل.

148 - الرفق: لين الجانب و اللطف.

149 - الداء: المرض و العلة.

150 - بضائع: هي من المال ما أعدّ للتجارة.

151 - التجارب: التجربة الاختبار و الامتحان.

152 - بادر: أسرع و عاجل.

153 - الفرصة: الوقت المناسب و النهزة: يقال: انتهز الفرصة أي اغتنمها.

154 - الغصّة: ما غصّ به الإنسان، الحزن الهم.

155 - يئوب: يرجع، آب رجع.

156 - الفساد: فسد: ضد صلح، و الفساد اللهو و اللعب.

157 - الإضاعة: ضيّع الشيء، أهمله، أهلكه، فقده.

158 - مخاطر: خاطر مخاطرة بنفسه عرضها للخطر.

159 - أنمى: نمى، زاد و كثر.

160 - معين: مساعد.

161 - زلّ : أزلّ إليه نعمة أي أسداها و أعطاها و أزلّ إليه من حقّه شيئا، أي أعطاه.

ص: 264

162 - تجمح: يقال: جمح الفرس أي تغلّب على راكبه و ذهب به لا ينثني، استعصى و يقال: جمح الرجل إذا ركب هواه.

163 - المطيّة: الدابة التي تركب.

164 - اللّجاج: العناد في الخصومة و التمادي في العناد إلى الفعل المزجور عنه.

165 - الصلة: ضد القطيعة.

166 - الدّنو: الاقتراب دنا منه و إليه قرب فهو دان.

167 - الجرم: الذنب و الخطأ.

168 - أمحض: امحض أخاك النصيحة أي النصيحة الخالصة لا غش فيها.

169 - تجرّع: تجرّع الغيظ أي كظمه.

170 - لن: لان، ضد خشن: و ضد صلب يقال: لاينه أي لان له و لا طفه.

171 - القطيعة: الهجران.

172 - بدا: بدا له في أمر: خطر له فيه رأي.

173 - تضيّعنّ : ضيّع: أهمل، أهلك، أفقد.

174 - القطيعة: الهجران.

175 - الخضوع: التواضع.

176 - الجفاء: يقال: جفا صاحبه أي أعرض عنه ضد و اصله و آنسه.

177 - جزعت: و جزع منه: لم يصبر عليه فأظهر الحزن أو الكدر.

178 - الإيلام: آلمه إيلاما: أوجعه.

179 - واردات الهموم: طوارق الأحزان.

180 - العزائم: العزم، الثبات و الشدة، العزائم: الإرادة المؤكدة.

181 - العناء: النّصب و التّعب.

182 - تعدّى: الحق جاوزه و تجاوزه.

183 - أوثق: أشد و أحكم و أقوى.

184 - العورة: كل شيء يستره الإنسان من أعضائه أنفة و حياء.

185 - الفرصة: الوقت المناسب.

186 - القصد: استقامة الطريق يقال: و على اللّٰه قصد السبيل أي بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق.

187 - الرشد: يقال: رشد رشدا: أي اهتدى و استقام، و الرشد الاستقامة على طريق الحق.

188 - أمن: وثق به و أركن إليه و اطمأن.

189 - خانه: خانه في كذا أي ائتمن فلم ينصح.

190 - أعظمه: عظّمه: فخّمه و كبّره و بجّله، و أعظم الشيء صيّره عظيما.

ص: 265

191 - أهانه: استخفّ به ذلّه و حقّره.

192 - المشاورة: شاوره في الأمر طلب منه المشورة.

193 - رأيهنّ : الرأي ما اعتقده الإنسان و ارتاه.

194 - عزمهن: العزم الثبات و الشدة في ما يعزم عليه الإنسان.

195 - اكفف: يقال: تكافّ القوم تحاجزوا اكفف احجز و امنع.

196 - ريحانة: الريحان جمعه رياحين كل نبات طيّب الرائحة، الريحانة: طاقة الريحان.

197 - تعد: تتجاوز و تترك.

198 - السّقم: المرض.

199 - الريب: الريبة و الرّيب: الظن و الشك و التهمة.

200 - الخدم: يقال قوم مخدّمون أي كثيروا الخدم و الحشم، و الخدم: العبيد.

201 - أخذته به: أخذه بذنبه مؤاخذة أي عاقبه.

202 - أحرى: الأولى و الأجدر و الأخلق.

203 - تواكل: تواكل القوم اتكل بعضهم على بعض تواكلوه أي لم يعينوه و تركوه.

204 - تصول: الصولة: السطوة و الوثبة أي تسطو بها و تثب و تقهر.

الشرح

اشارة

(من الوالد الفان، المقرّ للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذامّ للدنيا، الساكن مساكن الموتى، و الظاعن عنها غدا) هذه وصية أمير المؤمنين (ع) الذي خبر الحياة و وقف على أسرارها و ذاق حلوها و مرّها و عاش آلامها و مصائبها و جاهد باطلها في زمن النبي كما جالد انحرافها بعده، عاش في ظلال النبوة الرحيمة و رشف من معينها و غاص إلى عمق الأمور و بواطنها و حلّل أسرارها و ألغازها، إنه وقف على هذه الحياة وقفة العملاق ينظر إلى خصمه القزم فيترفع عن أن يمدّ يده إليه، و تأبى كبرياؤه أن تتصاغر إلى مستواه، و وقف من علوّ بترفّع نفس و إباء همة ينظر إلى هذه الحياة و يقرأ معالمها، ينظر إلى رجالها... إلى الاستقامة و العدل، إلى الاعوجاج و الانحراف...

إلى المباديء و المثل... إلى الضعة و السفالة... إلى المجاهدين الصابرين، و إلى الكسالى الخانعين... وقف عند كل منعطف يدرس ظواهره كما يدرس بواطنه و يستخلص العبر و الحكم كي يقدمها خلاصة مملوءة بالتجارب النافعة و الوصايا الناجعة إلى البشرية كلها... القريب و البعيد... المسلم و غير المسلم...

من الوالد الفان: الوالد بعطفه و حنانه، برقته و شفقته، بكل ما يحمل هذا الاسم

ص: 266

من المضمون و العمق من الرعاية للأبناء و المحافظة عليهم و الحيطة لهم، من الوالد الذي يذوب من أجل أبنائه و يستعذب مرّ الحياة و علقمها من أجلهم، من الأبوّة التي ينساب منها رحيق العطاء و لا تعرف الكلل و لا الملل، من الأبوّة لا من غيرها كي تتقرر في ذهن الولد أهمية الوصية و عظمتها، كي يدرس الولد مضمونها و يقف عند كل كلمة فيكرر قراءتها، و يتمعّن بمدلولها و يعمل بنصها لأنها خرجت من قلب رحيم به يتمنى له الفوز و النجاة...

من الوالد الفان: الوالد الذي كتب عليه الفناء لأنه مصداق يدخل في قوله تعالى:

«كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ » ، تقريرا للنفس و اعترافا بهذا المصير... الفناء الذي لا بد أن يمر على هذا الإنسان بعد أن يقطع شوط الحياة بحلوه و مره، بطاعته للّٰه أو بعصيانه له.

المقر للزمان: هذا الزمان الذي عاند الحق و أهله، الذي نحّى عليا من خلافة المسلمين ربع قرن من الزمن و حوّل مدة خلافته إلى حروب طاحنة دارت بين الحق و الباطل، هذا هو الزمن الذي استطاع أن يقتص من علي جزاء استقامته و عدله بضربة سيف من يد شقي أصابت غرته الشريفة، هذا الزمن في حالة حرب مع علي، و علي يعترف لهذا الزمان، يعترف له في أيامه القليلة، و سيكون اعترافا عليه عند ما يقف ليشهد بالحق و الاستقامة و المبدئية الرسالية الفذة...

المدبر العمر: حيث إن الإنسان من أول يوم يوضع فيه على الأرض يبدأ في هدم عمره، و كلما تقدم به العمر تقدم نحو الآخرة و أدبر عمره الذي كتب له أن يعيشه، و من كان عمره ينقص و يدبر يجب أن يكون على أهبة الاستعداد لنتائج هذا العمر و ما يقدمه فيه...

المستسلم للدهر: فإن من فاتته الحيلة في التغلب على خصمه و كان هذا الخصم قاهرا لسائر الناس آتيا على كل أحلامهم و آمالهم يحق له الاستسلام و ليس الإقرار فقط... بل الاستسلام له كي يفعل ما يريد.

الذامّ للدنيا: و هل هناك إنسان وقف على الدنيا كما وقف عليها علي، و هل هناك إنسان ذمها كما ذمّها علي ؟ إنه الكبير الذي خاطبها بما تستحق و تعامل معها كما يحق لها أن تعامل و وصفها بحقيقتها التي تكشفت له عن خبرة و ممارسة...

الساكن مساكن الموتى: فإنه على هذه الأرض قد مرت أجيال و أجيال سجلها التاريخ و ذكر تاريخها و أيامها و سلمها و حربها و ما جرى عليها و ما حدث فيها، هذه الدار

ص: 267

كان يسكنها الأجداد و الآباء و من قبلهم أجدادهم و آباؤهم و كل تلك الوجوه قد ارتحلت و لم يبق منهم إلا الآثار و الأخبار، تروى عنهم المآثر و المكارم كما تروى النقائص و المثالب... إن هذه الدار قد سكنها قبلي قوم ماتوا و ارتحلوا فكيف يكون حالي و أنا أتنقل بين تلك الأطلال و الآثار و هل يروق للساكن مساكنهم و هو يرى آياتهم و آثارهم أن ينشرح أو يفرح!! إنه يتصوّر حاله عن قريب و قد ارتحل. فلم يبق عليه إلا أن يحسّن سلوكه و يستعد...

و الظاعن عنها غدا: غدا في حساب العمر الذي انقضى شطره الكبير، و في حساب المعتبر الخبير الذي سلك مسالك الموتى و سكن مساكنهم و لم يختلف عنهم بأمر واحد بل هو مثلهم يعترضه الهرم و يقطع أمنيته الموت كما اعترضهم الهرم و قطع أمنيتهم الموت، هي السنون!! ما أسرعها في العمر!! بالأمس كنا أطفالا نسبح في أحلامنا و آمالنا، و اليوم انكفأنا على أنفسنا و أخذتنا العبرة بأننا على أهبة الاستعداد لسفر طويل، إنه الغد ينتظر مناديا بالرحيل، فلا بد من الاستعداد له.

(إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام و رهينة الأيام، و رميّة المصائب، و عبد الدنيا، و تاجر الغرور، و غريم المنايا، و أسير الموت، و حليف الهموم، و قرين الأحزان، و نصب الآفات، و صريع الشهوات، و خليفة الأموات) إنها أربع عشرة صفة متلاحقة تنصبّ كلها على هذا الصغير و ترافقه في مسيرة حياته، إنك تقرأها في صور متعددة من هذا الإنسان، إنه يأمل أن يعيش عمرا مديدا و يأمل أن يثري و يغني و يأمل أن يعمّر و يبني و يأمل أن يرتفع نجمه و يعلو صيته، و يأمل و يحلم و يتمنى أن تتحقق هذه الأحلام و الآمال و لكن دون تحقيقها عقبات و معوقات و دون الوصول إليها خنادق و بحار و صحارى و قفار، لا يكاد يقطع مفازة إلا و يتيه في أخرى أوسع منها، و لا يكاد يسبح في بحر حتى يغوص في محيط لا يدرك نهايته إلا اللّٰه، لا تكاد تتحقق لديه أمنية إلا و تراءت أمام عينيه أمنيات عديدة لا يزال عاجزا عن تحقيقها، إنه يأمل ما لا يدرك من طول العمر و كثرة المال و علوّ الجاه و السلطان.

إن هذا الإنسان هو نفسه الذي يتحرك اليوم، سواء كنت أنت أم أنا أم غيرنا من الأحياء، إننا جميعا نسعى كما سعى الأولون من آبائنا و أجدادنا... على الطريق نفسها و في الاتجاه ذاته. إن كل يوم نقطعه هو يوم يقرّبنا نحو الآخرة و يبعدنا عن الدنيا، كل يوم يمضي يهدم عمرنا و ينقصه و يدنينا من عالم آخر من عوالم الآخرة... إننا على السبيل عينه الذي مضى عليه الأولون من أهلنا و لا بد من أن نصل إليه، فما أحسن أن يلتفت

ص: 268

الإنسان إلى هذا المصير و يعدّ له عدته التي يرتفع بها عن الذل و الهوان فيلتحق بركب الصالحين من الأنبياء...

هذا الإنسان هدف للنوائب، فترى النكبات تنصبّ عليه من كل جانب، إنك تراه فاقدا لعزيز من أخ أو أب أو ابن، أو مفجوعا بقريب أو صاحب أو خليل، إنه مرهون بعوامل الأيام و ما يجري فيها و يمر عليها، فإذا أدبرت أزعجت و إذا فاتت أماتت.

إن هذا الإنسان عبد للدنيا يؤثرها على الآخرة و يتعامل معها و كأنها هي الخالدة و الباقية، يقر لمن فيها من الطواغيت و الجبابرة بحق الوجود كما يقر للظلم و الجور أن يستشري و يستفحل و يستمر أمره... العجب كل العجب لهذا الإنسان الذي يسمى حرا و هو من أشد الناس عبودية لغير اللّٰه، إنه يميل مع هواه و يخضع لمن أحب و يذل نفسه لمن هو أقوى منه، هذا الإنسان يجب أن يتحرر من كل العبوديات الأرضية و ينبذ كل الآلهة المصطنعة و يكون عند ما يقول لا إله إلا اللّٰه. مدركا لمدلولها و مفهومها، يعيش بعمقها و سعتها، يجب أن يقول لا إله في الكون... ليس الشهوة إله، و لا الغريزة إله، و لا الجاه إله، و لا العشيرة إله، و لا المال إله، و لا شيء من متاع الدنيا بإله... إنما اللّٰه هو الإله، اللّٰه وحده لا شريك له هو الذي يستحق العبادة و هو وحده الذي يستحق التوحيد... و هو وحده مالك الأمر و النهي، و متى تعبّد الإنسان للّٰه تحرر من كل هذه العبوديات... و انطلق في رحاب اللّٰه يحقق إرادته و ينفد أمره و نهيه و يعمل وفق تشريعه و حكمه، و ما أروع أن يكون الإنسان عبدا للّٰه يعيش معه و يدرك لذة هذه العبودية التي ترادف تحرر هذا الإنسان من كل العبوديات الأخرى...

و يصف الإمام هذا الإنسان بتاجر الغرور لأنه يظن الربح في هذه الحركات و الأعمال التي تصدر منه، فهو يعمل من أجل أن يترفّه و يتنعّم، يعمل و كأنه يخلد في الدنيا ناسيا أنه غريم المنايا و مطلوبها، و الغريم لا بد و أن يدّرك خصوصا إذا كان من يطلبه له موعد و قدرة في الوصول إليه... إن هذا الإنسان مطلوب و طالبه قادر على الوصول إليه فكيف ينسى و لا يعدّ لذلك اليوم عدته... و كيف لا يستعدّ و هو أسير الموت الذي لا يستطيع الخلاص أو الهروب منه...

ثم إن الإمام يصف هذا الإنسان بأنه حليف الهموم، و ما أروعه من وصف ينطبق على كل إنسان منا لنرجع إلى أنفسنا لننظر هل استطعنا أن نتخلى عن هذه الهموم و هل استطعنا أن نطردها من بيننا؟! إن كل إنسان يهمّه قوته و تهمه معيشته، يهمه منصبه و جاهه، يهمه ماله و أولاده، أكبر همه دنياه إن كان من أبناء الدنيا، و هم أشد الناس هموما، أو آخرته و يجب أن تأخذ من المؤمن هما أوسع من جميع الهموم...

ص: 269

ثم إن هذا الإنسان، قرين الأحزان، فمن يومه الأول الذي يرى فيه الحياة، يصرخ و يبكي، و يستمر في الحزن و البكاء في أعماق نفسه حتى و لو استطاع أن يبسم ثغره و تضحك شفتاه... لأنه نصب للآفات و صريع الشهوات و خليفة الأموات على حد قول الإمام، و من كان يمثل هذه الأوصاف حق له أن تدمع عيناه دما، و يذوب قلبه ألما، خشية من عذاب اللّٰه و نقمته و شوقا إلى رحمة اللّٰه و جنته.

(أما بعد فإنّ فيما بيّنت من إدبار الدنيا عني و جموح الدهر عليّ و إقبال الآخرة إليّ ما يزعني عن ذكر من سواي و الاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرّد بي دون هموم الناس همّ نفسي، فصدفني رأيي و صرفني عن هواي، و صرّح لي محض أمري فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب، و صدق لا يشوبه كذب، و وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، و كأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي فكتبت إليك كتابي مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت) إني أشعر من خلال هذه الكلمات عمق الجراح التي يشعر بها الإمام و عظيم المأساة التي تختلج بين جوانحه، أشعر بالأسى و المرارة يملآن ذلك القلب الكبير الذي وسع الأحداث و الآلام و المحن و المصائب... إنني أحس بوقع هذه الكلمات التي تخرج و في كل واحدة منها مضاضة و ألم و جرح غائر لا يدرك مداه إلا اللّٰه و علي نفسه...

إدبار الدنيا عني و جموح الدهر علي، كلمات ينطوي فيها تاريخ النضال و الكفاح و يظهر من خلالها كبر المعاناة و شدة هول الأحداث... بحيث قد انزوت الدنيا و أعطت ظهرها لذلك المجاهد الذي عن يديه صدر طعمها و معناها، الدنيا بزخارفها قد تنكّبت عن علي و تنكرت له. و الدهر العنيد قد استعصى عليه و تغلّب على تطلعاته و آماله...

و من نكد الدهر أن يرتفع نجم الصعاليك كمعاوية و تخبو نجوم العظماء كعلي بحيث يسوي بينهما الدهر و يقرن بين علي و معاوية... من هوان الدنيا على اللّٰه و حقارتها أن يقرن معاوية بعليّ و يقارن بينهما فيقال: علي و معاوية... و هل هناك أشد مرارة و أقسى وقعا من أن تقارن الثريّا بالثرى و التبر بالتبن و الرفيع بالوضيع، و علي بمعاوية!!.

أيّ دهر هذا لا يشكوه علي!! يوم نحي عن الخلافة و تمت مؤامرة السقيفة!! أم يوم تمت بيعة التجار لعثمان و رفضت عليا خليفة!! أم يوم جاءت الخلافة فنكثت طائفة و مرقت أخرى و بغت ثالثة!!! للّٰه أنت يا علي... صبرت على شيء أمر من الصبر...

صبرت على دهر أضحى يقال فيه علي و معاوية... و هل هناك شيء أمرّ من هذا...

و على كل حال لئن أدبرت الدنيا و جمح الدهر عليك... فإن الآخرة بانتظارك،

ص: 270

و لئن جهل مقامك و بقي الناس لا يعرفونك حق معرفتك في الدنيا فإنهم في الآخرة و هي مقبلة سيعرفونك عن كثب، هناك تنكشف أقنعة الهوى و يعرف عليّ على حقيقته...

و الإمام هنا يريد أن يعلمنا كيف أن الإنسان إذا تقدم به العمر يجب أن يلتفت إلى نفسه و يهتم لها فلا تذهب به مذاهب الهوى و الكذب بل يجب أن يعد العدة و يستعد و يأخذ حذره في سبيل الوصول إلى الآخرة و هو نظيف طاهر... إن الإمام يريد أن يعلمنا وجوب الاهتمام بأنفسنا و الحذر عليها من الهوى و السعي في سبيل إعدادها إعدادا كاملا لملاقاة اللّٰه و حسابه... و هذا الاستعداد و الإعداد لهذه النفس يتطلب أن ينظر من خلاله إلى أولاده... فإنهم جزء متمم لسعادته و مكمّل لسروره و نجاته... هؤلاء الأولاد هم جزء من الآباء بل بتعبير الإمام: الولد هو كل الوالد، إنه صورة مصغرة عن الأب يحمل هوية الأب و شخصيته، عقيدته و رسالته، هدفه و سلوكه، هو نسخة عن الأب فيجب الاهتمام به و الاعتناء بتربيته و جعله عنصرا صالحا يحب الخير و يسعى في سبيله.

ما أجمل و أروع تعبير الإمام، ما أشرف هذا التعبير الذي كرّرته مرات و مرات و رددته بيني و بين نفسي و بين و بين الناس و عشت معه في أحلام وردية ندية كنت أحس بوقعها في نفسي راحة و سرورا و أشعر أنها ترنيمة سماوية تشق هذا القلب الصغير لتدخل أعماقه تاركة أثرا طيبا من آثار الإمام و عبقة عطرة الشذى: (و وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني و كأن الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي).

هذا هو منطق الأبوة المسئولة التي تحمل عواطف البشر و قلوبها و تتفاعل مع هذا الصغير بعطف و حنان ورقة و دعة، تتفاعل مع هذا الصغير لتحسّ بضغط المرض في بدنها و نفسها، إن ألمّ بهذا المخلوق الصغير ألم أو مرض و تعيش فرحه و سروره في نفسها عند ما تحس منه الفرح و السرور...

الولد قرة العين و فلذة الكبد و أمل المستقبل و لا يدرك قيمة الكلام العلويّ و مفعوله إلا من أصبح أبا و تحركت عواطف الأبوّة فيه نحو الأبناء. قبل أن يرزق الإنسان ولدا يتصور أن القضية سهلة، مات الولد أو عاش، تألم أو فرح، جاع أو شبع، احتاج أو اغتنى، يتصور أن كل هذه أمور سهلة يجب أن تطوى و لا تأخذ من اهتمام المرء شيئا.

و لكن هذا التصور يتساقط كله عند ما تأتي القضية إلى العالم الخارجي و تبصر النور على مسرح الوجود عندئذ ترى الآباء يختلفون في حساباتهم و عواطفهم و ميولهم و حركاتهم و كل سلوكياتهم، عندها فقط يخرج الأب ليبحث عن لقمة العيش و رفع الألم و إدخال

ص: 271

السرور على قلوب أولاده و إن كان في ذلك شقاؤه و تعبه و غربته بل موته.

فمن هنا كانت كلمة الإمام: (فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي) كيف اهتم بنفسي و أحافظ عليها و أتمنى لها النجاح و العز، كيف أسعى في سبيل فلاحها و سعادتها! هكذا، و بالاهتمام ذاته اهتم بك و اعتني بسعادتك.

(فإني أوصيك بتقوى اللّٰه، أي بني و لزوم أمره، و عمارة قلبك بذكره، و الاعتصام بحبله، و أي سبب أوثق من سبب بينك و بين اللّٰه إن أنت أخذت به ؟) هذا هو مطلع الوصية العلوية الذي يجب أن يكون المطلع لكل وصايا الآباء للأبناء، الوصية بتقوى اللّٰه الذي لا يعلو إنسان عن الأمر بها... إنها تمثل الخضوع للّٰه في الجوارح و الإذعان من داخل الجوانح، إنها رعشة في القلب تجعل هذا الإنسان يهتز من الأعماق في خضوع و تضرع إلى اللّٰه باسطا يديه إلى ربه متفانيا في طاعة اللّٰه و خدمة عباده... التقوى!! تمثل منتهى الغايات التي يطمح إليها الإنسان و من أجلها كانت كل تكاليف اللّٰه من طهارة و صيام و صلاة و غيرها لأن كل هذه الواجبات تخلق من هذا الإنسان عضوا منضبطا ضمن الخط الإلهي لا يخرج عنه و لا يدخل في غيره، كل هذه التكاليف تبني الشخصية الملتزمة بالإسلام فكرا و عملا و سلوكا، عقيدة و طريقة حياة... فالتقوى تمثل الدرجة العليا من الالتزام و الخضوع لأنها تتخذ طابع الانقياد المطلق الصادر من القلب و الضمير و الوجدان...

ثم إنه عليه السلام أمره بملازمة أمر اللّٰه و عمارة قلبه بذكره و الاعتصام بحبله و هذا الاعتصام بحبل اللّٰه هو أوثق الأسباب و أشرفها و أضمنها لنجاح الإنسان و فوزه في الحياة الدنيا و الآخرة...

(أحي قلبك بالموعظة، و أمته بالزهادة و قوه باليقين، و نوره بالحكمة، و ذلله بذكر الموت، و قرره بالفناء، و بصره فجائع الدنيا، و حذره صولة الدهر، و فحش تقلب الليالي و الأيام) أحي قلبك بالموعظة: فيما يمر أمامك من مشاهد الحياة و صورها فإذا أبصرت مبتلى فاعتبر بابتلائه و افرض نفسك مكانه و خذ العبرة و الحكمة منه، و إذا رأيت غنيا قد افتقر أو فقيرا اغتنى فخذ أيضا منه العبرة و أدر بصرك فيما حولك فإنها كلها مواعظ و عبر، و إذا قرأت سيرة الصالحين و مناقب الشرفاء فاقتد بهم و سر على دربهم النير الرباني و هكذا دواليك، اقرأ الأحداث و الناس و خذ من كل منها الموعظة و العبرة التي تحيي قلبك.

و أمته بالزهادة: فإن الزهد عبارة عن اختصار الكثير من الملذات و الكماليات بل

ص: 272

الضروريات من أجل الفقراء و المساكين و أهل العوز و المحتاجين. و في هذا الأسلوب من الترفع عن الذات و الإنكار للملذات ما يطامن من شهوة الإنسان بل يميت جمحات الأهواء و ميولها الشريرة الخبيثة، فإن من عاش مع الفقير و اليتيم و المحتاج و المسكين و يشعر معهم بقلبه و ضميره بادر إلى قهر الذات من أجلهم و إماتة الكثير من الشهوات في سبيل راحتهم و سعادتهم...

و قوه باليقين: لأنه يجعل للإنسان قوة و اطمئنانا و يخلق منه عضوا مستسلما للّٰه في كل حركاته و سكناته، يندفع نحو هدفه و هو على بصيرة من أمره دون شك أو تردد لأن من كان على شك أو تردد في عمل لم يفلح فيه و لم ينجح...

و نوره بالحكمة: حيث تجعل فيه إشراقة يطلّ منها نور يضيء جوانب ظلمات القلب، فإن الحكماء قوم عاشوا تجارب الحياة و استخلصوا أسرارها و قدموها للناس صافية من كل كدر، فيحسن بمن وقف عليها أن يأخذها بجد و يعمل بها في يقين.

و ذلله بذكر الموت: الذي ما ذكره إنسان إلا و تغيرت أحواله، فتبدل نعيمه إلى بؤس، و فرحه إلى ترح، و وجم بعد انشراح، و عبس بعد ابتسام، أو كما يقول الإمام في موقع آخر: «هازم اللذات و منغص الشهوات و قاطع الأمنيات». إن العاقل عند ما يتمثل نفسه جنازة محمولة على أكتاف الرجال و قد انقطع عمله و سكت صوته و انطفأ نور عينيه و لم يعد يسمع و تعطلت جوارحه كلها عن الالتقاط و الإرسال، و ضج الأهل و الأقارب حوله يبكون و تمنوا تعجيل دفنه خوف انتشار رائحته و هتكه... إذا نظر الإنسان بعين البصيرة و العبرة إلى هذا المشهد المؤلم و إلى حفرة صغيرة سيحل فيها انخفض رأسه و ذلت نفسه و عمل لذلك اليوم العظيم.

و قرره بالفناء: الذي كتب على كل الناس فإنه إذا أقرّ بذلك حكم عليه بمقتضى إقراره من جهة و وجب أن يعمل لصالح نفسه من جهة أخرى كي يرتفع في عالم الآخرة و يلتقي مع النبيين و الصديقين و الشهداء...

و بصّره فجائع الدنيا: التي لم تكن لتدوم على حال و لا تستقر على منوال، بل كما قال سيد الأوصياء علي: «أو لستم ترون أهل الدنيا يصبحون و يمسون على أحوال شتى:

فميت يبكى و آخر يعزى و صريع مبتلى و عائد يعود و آخر بنفسه يجود و طالب للدنيا و الموت يطلبه و غافل و ليس بمغفول عنه»...

تلك هي الدنيا ممتلئة بالفجائع و المصائب، فمن حروب تدمر البشرية و تقضي على الحرث و النسل و من أمراض فتاكة تأتي على الأخوة و الأحبة، و من لم يصب بأذى ؟

ص: 273

و أي بيت لم تدخله التعاسة ؟ من الذي لم يفقد حبيبا عزيزا على قلبه ؟ والدا تارة و ولدا أخرى و زوجا ثم أخا و هكذا؟ من منا لم يسمع بعزيز قوم ذلّ ، أو غني افتقر أو عالم ارتد، أو جاهل أبي أن يتعلم ؟ من منا لم يمر عليه شريط الأحداث و هو ينقل إليه مآسي الزمن و مصائبه ؟ من علة في بدنه أو نقص في دينه أو اضمحلال في ثروته أو أذية من أقاربه! إن هذا القلب البشري إذا أدرك أن الدنيا لا تصفو مشاربها، ففي كل مطلع شمس و مغربها فواجع و مصائب بل في كل دقيقة بل ثانية أكثر من مصيبة و فاجعة، يعلم أنه لا بد من الإعداد لتحمل كل ما يطرأ عليه و لا بد من الاستعداد و الصبر و الاعتصام باللّٰه كي تهون تلك الرزايا و يخف وقع تلك المصائب...

و حذره صولة الدهر و فحش تقلب الليالي و الأيام: و أي إنسان يستطيع أن يتحمل صولة الدهر إذا تنكب عن هذا الإنسان أو تنمر عليه فإن محاسنه يحولها إلى مساوىء، و فضائله إلى نقائص، و جماله إلى قبح، و أصدقاءه إلى أعداء، يتحول نهاره ليلا حالك السواد، و ماؤه العذب الفرات إلى حميم آسن مستكره، تأتيه الابتلاءات من كل جانب و تزدحم عليه العلل من كل صوب حتى يروح مخاطبا كل نازلة منها كما خاطبها المتنبي بقوله:

أبنت الدهر عندي كل بنت *** فكيف وصلت أنت من الزحام

أو بقوله في تصوير المصائب و كثرتها:

فصرت إذا أصابتني سهام *** تكسرت النصال على النصال

(و اعرض عليه أخبار الماضين، و ذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، و سر في ديارهم و آثارهم، فانظر فيما فعلوا و عما انتقلوا، و أين حلّوا و نزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، و حلوا ديار الغربة) و اعرض عليه أخبار الماضين: من الأمم و الأشخاص كقوم هود و صالح و يونس و موسى أو فرعون و هامان و قارون و السامري، فإن في مراجعة أحوالهم و الوقوف على أخبارهم عبرا لمن اعتبر و موعظة لمن اتعظ، إن في الطغيان الفردي ما يردي الفرد و يقتله، فمن تجاوز حدوده البشرية و ادعى الألوهية كما فعل فرعون فإن مصيره كمصيره لا محالة، و كذلك من جمع المال و ادعى أنه حصل عليه بما عنده من العلم و تبجح و بطر فلا محالة أن يناله الخسف و الضياع كما نال قارون و السائرين على خطاه... إن في عرض سجلات الماضين و الوقوف على تاريخهم ما يجعل عند المرء رؤية شخصية بتحسين واقعه و الارتفاع عن الحضيض إلى التكامل و السمو... و كما أن الطغيان الفردي يردي بصاحبه، فكذلك الطغيان الاجتماعي و الانحراف العام، فإنه يحيق بالجماعة الانحلال و الضياع المؤدي إلى نكبة الطوفان كما

ص: 274

في قوم نوح أو الخسف و الوباء كما في أقوام آخرين... و إن اللّٰه قد أمرنا و حثنا على النظر في أحوال الماضين كي نعتبر بما جرى عليهم و ما حاق بهم، قال تعالى: «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً » (1)و قال تعالى: «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثٰارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهٰا أَكْثَرَ مِمّٰا عَمَرُوهٰا وَ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (2).

إن في عرض أخبار الماضين تذكرة لمن ينسى و عبر لمن اعتبر... إن الإنسان إذا عاش مع الأولين الماضين في مسيرتهم فنظر في أفعالهم الصالحة فاقتدى بها و نظر في أعمالهم القبيحة فاجتنبها فقد استفاد في حياته الدنيا و في آخرته، إنه يجتنب مواضع العطب الذي دخل عليهم و يسد النوافذ و الأبواب التي دخل منها الفساد و الضلال، يجتنب الكفر و الانحلال و المفاسد الاجتماعية و الأخلاقية و يسير على الخط الإلهي لا ينحرف عنه و لا يتعداه...

إن الإنسان العاقل ينظر في أفعالهم و يتبصر كيف انتقلوا عن هذه الدار و حلوا دار القرار... إن هذه الأرض التي نسير عليها نحن الآن قد سار عليها قوم قبلنا... قد تنقلوا عليها فزرعوا و بنوا و امتلكوا ثم لم يلبثوا أن ارتحلوا عنها و تركوها لنا و سنرحل نحن أيضا و نتركها لغيرنا. و العظيم من اتعظ بغيره و اعتبر بما جرى عليه و ما صار إليه... إن أولئك السابقين من الأهل و الأجداد كان لهم أحبة فانتقلوا عنهم و كان لهم أموال ففارقوها، و كان لهم كثير كثير و لكنهم تخلوا قهرا عما يحبون، تخلوا عن كل ذلك و حلوا في ديار الغربة... و أي غربة أعظم و أفظع من غربة القبر...

(و كأنك عن قليل قد صرت كأحدهم: فأصلح مثواك، و لا تبع آخرتك بدنياك، و دع القول فيما لا تعرف. و الخطاب فيما لم تكلف، و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عند حيرة الضلال، خير من ركوب الأهوال) و كأنك عن قليل قد صرت كأحدهم: رهين الثرى و دفين التراب و ما أشرفها موعظة تجعل الإنسان يرجع إلى حقيقته و يقف عند قدره، يتذكر تلك الحفرة الصغيرة التي يستطيع أن يوسعها بأعماله الصالحة و مناقبه الحميدة و إطاعته للّٰه و لرسوله و لأولي الأمر الذين فرض اللّٰه طاعتهم، كما يستطيع أن يضيقها أزيد مما هي عليه، و يصغر حجمها أكثر مما هي صغيرة بقبائح9.

ص: 275


1- سورة فاطر، آية - 44.
2- سورة الروم، آية - 59.

أعماله و سيئاتها و عصيانه لأوامر اللّٰه و تكاليفه. إن المسلم يستطيع بحسن عمله أن يوسع قبره كما في وصية النبي التي يقول فيها: «و إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حي و تدفن معه و أنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، و إن كان لئيما أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به و إن فسد لا تستوحش إلا منه و هو فعلك».

و قد نظم قيس هذا المعنى النبوي بأبيات من الشعر فقال:

تخير خليطا من فعالك إنما *** قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

و لا بد بعد الموت من أن تعده *** ليوم ينادى المرء فيه فيقبل

فإن كنت مشغولا بشيء فلا تكن *** بغير الذي يرضي به اللّٰه تشغل

فلن يصحب الإنسان من بعد موته *** و من قبله إلا الذي كان يعمل

ألا إنما الإنسان ضيف لأهله *** يقيم قليلا بينهم ثم يرحل

فاصلح مثواك و لا تبع آخرتك بدنياك: أصلح مقرك الذي سترحل إليه و هو قبرك بالعمل الصالح و التقوى و الورع و الخوف من اللّٰه و كل السبل التي ترضي اللّٰه تعالى، و لا تبع تلك الدار الآخرة التي فيها الاستقرار و الدوام بهذه الدار التي لا استقرار فيها و لا ارتياح، هذه الدنيا لا تعادل الآخرة و لا تساويها، فالغبي من غبي مع وجود المنبه و المرشد و الناصح و الدال على الخير...

و إذا كان الشقي من باع آخرته بدنياه، فهناك من هو أشقى منه و هو الذي باع آخرته بدنيا غيره، إنه غبي في منتهى الغباوة و شقي في منتهى الشقاوة، إنه يقاتل و يقتل في سبيل طاغوت من طواغيت الأرض كي يتربع على كرسي الحكم، إنه يضحي و يبذل دنياه و يخسر آخرته من أجل أن تتحقق الأحلام الفرعونية التي تدفع هذا الرئيس أو ذاك لتسلم عرش السلطة... ما ذا جنى هذا الشقي ؟ إنه أقدم على بذل نفسه و سفك دمه فخسر الدنيا و خسر الآخرة في سبيل أمجاد زائفة يسعى إليها هذا الجبار أو ذاك... و هل هناك من هو أشد تعاسة و شقاء منه... لا.. لا.. ليس هناك أشقى منه و أتعس... إن اللّٰه سبحانه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة، فهذا هو البيع الحقيقي و من أجل اللّٰه يكون الجهاد الحقيقي... و من أجل اللّٰه يكون بذل النفس و المال... من أجل اللّٰه فقط يكون بيع الدنيا بالآخرة، و تلك تجارة لن تبور و لن تخسر، بل نتيجتها الربح فقط و الربح الوافر...

و دع القول فيما لا تعرف و الخطاب فيما لم تكلف: لأن من تكلم بما لا يعرف فضح

ص: 276

نفسه و أظهر معايبها و دلل على جهله، و كفى بهذا صغارا و احتقارا. إن بعض الناس عنده حب الكلام، و حب الحديث، لا يكل و لا يمل و في كل العلوم على اختلافها و تشعب فروعها تراه يخوض فيها حتى بين أربابها و أهل الاختصاص فيها و هذا ما نراه جليا في مجالس الفقهاء و العلماء، فترى الغريب أو القريب يطرح مسألته مستفهما عنها و قبل أن يتكلم العالم بالإجابة ترى بعض الحجاج أو المتفقهين بثلاث أو أربع مسائل يبادر للإجابة كأنه هو المسئول، إنه يخرج من جرابه الخاص دون مراجعة أهل الخبرة و الاطلاع، يجيب خطأ و فسادا بدل أن ينتظر جواب العالم كي يفهم المسألة و حلها...

إنه يدل على ضعف نفسه و صغرها و ما أحسنه لو صبر حتى يعلم...

و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال: و هذا شيء مدرك بالوجدان، ظاهر للعيان، لا يحتاج إلى دليل و لا إلى برهان، فإن الإمام الصادق عليه السلام يقول: «العامل على غير بصيرة كالسائر على سراب(1)بقيعة لا تزيده سرعة السير إلا بعدا. و قد أمرنا الأئمة (ع) أن نتوقف عن الكلام في ما لا نعلم و نكف عن الشبهات و نقف عند عدم تبين الطريق و وضوحه.

قال أبو جعفر (ع): الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، و تركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه.

و قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات و هلك من حيث لا يعلم».

و في حديث الرضا (ع) في اختلاف الأحاديث:... و عليكم بالكف و التثبت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا...

(و أمر بالمعروف تكن من أهله، و أنكر المنكر بيدك و لسانك، و باين من فعله بجهدك، و جاهد في اللّٰه حق جهاده، و لا تأخذك في اللّٰه لومة لائم، و خض الغمرات للحق حيث كان) و أمر بالمعروف تكن من أهله و انكر المنكر بيدك و لسانك و باين من فعله:

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أهم ما جاء به الأنبياء بل دعوتهم كلها توجهت إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فإنهم رأوا الفراعنة و أنصاف الآلهة تتربع على كراسي الضلال و تدعي ما ليس لها بحق فكان على الأنبياء أن يقفوا في وجوههمي.

ص: 277


1- هذه الأحاديث من الوسائل، باب 12، من أبواب صفات القاضي.

و يعيدوهم إلى حجمهم الطبيعي، فمن هنا بادر موسى (ع) إلى الوقوف في وجه فرعون عند ما ادعى الربوبية، و قال: أنا ربكم الأعلى فحجمه في إطاره، و لما رفض و أبي و أراد أن يفتك بموسى و من معه من المؤمنين كانت المعجزة التي سقط فيها فرعون غريقا لم يقدر أن ينقذ نفسه، و كذلك بادر نوح إلى قومه و صالح و ثمود و شيخ الأنبياء إبراهيم و لوط و محمد صلوات اللّٰه عليهم أجمعين... إنهم كلهم أرادوا أن يردوا هذا الإنسان إلى واقعه الصحيح و مساره السليم، كلهم رأوا المنكرات تعج في المجتمع و تفتك بهذا الجسم، فقاموا بنشر الإصلاح و بث الهداية...

الأنبياء هم الطليعة الأولى التي شقت ظلمات الجهل و الضلال و أمرت بالمعروف و نهت عن المنكر و على خطاهم سار المصلحون و المؤمنون و أكد الإسلام على هذه الفريضة و فرضها على المؤمنين فقال في محكم كتابه: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» . و قال تعالى: «وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» . و كذلك جاءت السنة الشريفة لتغرس هذا المفهوم في ذهن الأمة و تؤكد على أهميته و دوره إذ يشكل الرقابة الدائمة من الأمة على نفسها، يجعل من كل فرد مراقبا لكل انحراف أو تصدع فيحاول إصلاحه و علاجه...

- عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع): «ويل لقوم لا يدينون اللّٰه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر».

- عن أبي الحسن الرضا (ع) يقول: «لتأمرن بالمعروف و لتنهين عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم».

- و عن أبي جعفر (ع) قال: «يكون في آخر الزمان قوم ينبع فيهم قوم مراؤون»، إلى أن يقول: «... و لو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض و أشرفها، إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب اللّٰه عز و جل عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار و الصغار في دار الكبار، إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج العلماء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمر الأرض و ينتصف من الأعداء و يستقيم الأمر».

- و عن أبي عبد الله قال: قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم و فسق شبابكم و لم تأمروا بالمعروف و تنهوا عن المنكر».

ص: 278

فقيل له: و يكون ذلك يا رسول اللّٰه ؟.

فقال: نعم، و شر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف.

فقيل له: يا رسول اللّٰه و يكون ذلك ؟.

قال: نعم، و شر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا و المنكر معروفا.

إن للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر شروطا و مراتب يجب أن تراعى في هذا الواجب العظيم و نحن نذكرها بإيجاز و اختصار حتى يقف عليها المسلم و يرى انطباقها عليه و اتصافه بها.

حتى يجب الأمر بالمعروف على الإنسان يجب أن تتوفر فيه شروط:.

الأول: معرفة المعروف و المنكر و لو إجمالا لأن من لا يعرف المعروف و لا المنكر كيف يأمر بالأول و ينهى عن الثاني.

الثاني: احتمال ائتمار المأمور بالمعروف و تأثّره بالأمر و النهي و إلا إذا كان الأمر و عدمه سواء فلا يجب و إذا سقط الوجوب يبقى الجواز.

الثالث: أن يكون المرتكب للمنكر و الفاعل له مصرا على المنكر، أما إذا كان المنكر قد صدر منه خطأ أو اضطرارا فلا يجب الإنكار.

الرابع: أن لا يلزم من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ضرر في النفس أو العرض أو في المال على الآمر أو على غيره من المسلمين.

و أما مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فهي:

أولا: الإنكار بالقلب و هو تعبير عن إظهار كراهة المنكر، و من هنا قال الإمام أمير المؤمنين (ع): من ترك إنكار المنكر بقلبه و لسانه و يده فهو ميت بين الأحياء، و من هنا قال أيضا: أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فانكره بقلبه فقد سلم و بريء، و من أنكره بلسانه فقد أجر، و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّٰه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب الهدى و قام على الطريق و نور في قلبه اليقين.

ثانيا: الإنكار باللسان بأن يعظه و ينصحه و يوقفه على حقيقة الأمر.

قال أبو جعفر (ع): من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى اللّٰه و وعظه و خوفه كان له مثل أجر الثقلين الجن و الإنس و مثل أعمالهم.

ص: 279

و منها الحديث المشهور: أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر.

ثالثا: الإنكار باليد بالضرب الرادع عن المعصية، و هذا هو الحل الأخير الذي لا بد منه و هو في أغلب الأحيان أنجح الحلول و أنجعها، فإن العصاة و الفسقة لا يخافون إلا من السوط و السيف، لا يخافون إلا على جلودهم، و هذا قد وردت الأحاديث فيه إذا توقف رفع المنكر عليه...

ففي الحديث عن علي (ع) يقول فيه: «و من أنكر بالسيف لتكون كلمة اللّٰه العليا و كلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نور في قلبه اليقين».

و في الحديث عن رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «من رأى منكم منكرا فلينكره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه».

هذا هو الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر الذي دعا الإمام ولده كي يقوم به حتى يكون من أهله، و أهل المعروف في الدنيا كما تصفهم الأحاديث هم أهل المعروف في الآخرة و هم كما عن رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «أول من يدخل الجنة المعروف و أهله و أول من يرد على الحوض و إن لهم بابا خاصا من أبواب الجنة يقال له المعروف و لا يدخله إلا أهل المعروف». فيجب أن يخوض الغمرات من أجل الحق فإن في خوضها إحقاقا للحق فضلا عن اللذة النفسية التي يحصل عليها الإنسان من خلال إقدامه و مغامرته.

(و تفقه في الدين و عوّد نفسك التصبر على المكروه، و نعم الخلق التصبر في الحق، و ألجىء نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز و مانع عزيز، و أخلص في المسألة لربك، فإن بيده العطاء و الحرمان، و أكثر الاستخارة، و تفهم وصيتي و لا تذهبن عنك صفحا، فإن خير القول ما نفع. و اعلم أنه لا خير في علم لا ينفع، و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه) و تفقه في الدين: فإن الدين دستور المسلم و برنامجه الذي يجب أن يتحرك ضمن خطوطه، فإذا لم يكن المسلم متفهما له و واعيا لأحكامه، إذا لم يعرفه و لم يدرسه كيف يسير عليه ؟ و هل يمكن أن نقول لإنسان لا يعرف الطريق فأخذ يمشي يمينا و يسارا إنه يمشي على الجادة ؟ إن أول ما يجب على كل فرد مسلم أن يعرف تكليفه في كل مسألة فإن للّٰه في كل مسألة حكما، و لا تخلو قضية أو حادثة بدون حكم من اللّٰه فيها، فيجب أن تنسجم أعمال الإنسان و تصرفاته مع أحكام اللّٰه و مراداته، و هذا لا يتم إلا بالوعي لها. و الوقوف عندها، و الفهم لكل حكم منها. و الدين كما نفهمه و كما فهمه المسلمون و كما هو في واقعه يتناول الحياة بجميع جهاتها العبادية منها

ص: 280

و الاقتصادية، السياسية و العسكرية، الاجتماعية و الأخلاقية... إنه الإسلام الدين و الدولة له في كل قضية و في كل حادثة حكما، و قد أكد القرآن و السنة على وجوب التعلم و التفقه فيه.

1 - عن أبي عبد الله (ع): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إن اللّٰه يحب بغاة العلم.

2 - عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقه منك في الدين فهو أعرابي، إن اللّٰه يقول في كتابه: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » .

3 - و عن فضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: عليكم بالتفقه في دين اللّٰه و لا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين اللّٰه لم ينظر اللّٰه إليه يوم القيامة و لم يزكّ له عملا.

و عن أبي عبد الله (ع) قال: لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا.

عن أبي عبد الله (ع) قال: قال له رجل: جعلت فداك. رجل عرف هذا الأمر لزم بيته و لم يتعرف إلى أحد من إخوانه ؟ قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه.

فالتفقه في الدين و معرفة أحكامه ليست قضية نافلة أو استحبابا شرعيا بل هو واجب على كل إنسان و لا عذر لأحد في هذا الأمر المهم الواجب، و لا يقبل اللّٰه قول التاجر الذي لم يتفقه في تجارته ثم يقع في الحرام من جراء معاملة ربوية لا يعرفها أو بيع شيء حرام لا يجوز بيعه. و كذلك غيره من الأشخاص الذين يتقلبون في الحياة و يرتكبون المحرمات دون علم بها... فما أحسن كل واحد منا أن يبدأ من الآن - إذا لم يعرف أحكام دينه - بتعلمها و وعيها حتى تكون تصرفاته شرعية يرضاها اللّٰه و يقبلها منه.

و عود نفسك التصبر على المكروه و نعم الخلق التصبر في الحق: فبالصبر يستطيع الإنسان أن يصل إلى مراده، و بالصبر يستطيع أن يحقق آماله، و بالصبر يستطيع أن يقهر نفسه و ينتصر عليها، و يحقق بعدها الانتصار على الآخرين.

نعم الصبر في مفهوم الإسلام و كما يفهمه المسلمون و ليس الصبر الذي أراده المستعمرون و حاولوا أن يفسروه بما يخدم مصالحهم و يحفظ لهم منافعهم.

نعم ليس معنى الصبر الاستسلام و الخضوع و الذل، بل الصبر (هو الحركة الواعية

ص: 281

في طريق الهدف الإسلامي) فهو حركة لا استسلام و واعية لا مضطربة و في خط اللّٰه، و ليس في خط الشيطان، فإن المؤمن إنسان صبور لا تتزلزل أقدامه عند الحوادث و لا تضطرب أعصابه عند الأزمات، بل يبقى على اتزانه و هدوئه يقابل الأحداث و المشاكل بعقل و روية، و يفكر في حلولها بصفاء الإيمان و طهره، و هذا المعنى من الصبر هو المراد إسلاميا.

قال تعالى: «وَ اِتَّبِعْ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ » .

يعني لا تتوان فيما أوحى إليك بل اتبعه كاملا و اصبر على أدائه و لا تخف من مشقات الطريق و عقباتها بل تابع سيرك و اعمل بما أوحي إليك.

- و عن أبي عبد الله: إن الحر حرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها و إن تداكّت عليه المصائب لم تكسره و إن أسر و قهر و استبدل باليسر عسرا...

فالصبر جميل و مطلوب خصوصا إذا كان الإنسان على الحق...

و الجيء نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز و مانع عزيز: و أي كهف هو أمنع و أعز من الالتجاء إلى اللّٰه ؟ الرجوع إلى اللّٰه في الأمور كلها الصغير منها و الكبير المهم و الأهم، الالتجاء إلى اللّٰه و الانقطاع إليه أن يتعلق القلب بحضرته و تنحصر الخطوات في خطه و ضمن الشرط الذي رسمه له.

و اخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء و الحرمان: و الإخلاص ضد الرياء فكما نهي عن الرياء أمر بالإخلاص، و الإخلاص عبارة عن تجريد القصد من جميع الشوائب، فمن صلى ممتثلا لأمر اللّٰه متقربا منه، دون أن يقترن بنيته أي أمر آخر من عجب أو كبر أو وجاهة أو رياء أو غيرها فهو مخلص...

و هذا الإخلاص إن قصد به وجه اللّٰه تعالى دون توقع نفع في الدارين فهو أعلى درجات الإخلاص، و إن كان يقصد بهذا المأمور به نفعا يجره لنفسه أو شرا يدفعه عنها فهو في الدرجة الثانية.

و قد أمرنا بالإخلاص في قوله تعالى: «وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ » (1) و قال تعالى: «أَلاٰ لِلّٰهِ اَلدِّينُ اَلْخٰالِصُ » (2).

و قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: أخلص العلم يجزك منه القليل...3.

ص: 282


1- سورة البينة، آية - 5.
2- سورة الزمر، آية - 3.

و قال أمير المؤمنين (ع): طوبى لمن أخلص للّٰه العبادة و الدعاء و لم يشغل قلبه بما ترى عيناه، و لم ينس ذكر اللّٰه بما تسمع أذناه، و لم يحزن صدره بما أعطى غيره.

إن الإنسان إذا أخلص للّٰه تمام الإخلاص و انقطع قلبه عمن سواه فإن اللّٰه سيكفيه المهم من أموره.

إن الأمور كلها بيد اللّٰه فمن أخلص له فإنه يتولى أمره و ينجح طلبته.

و أكثر الاستخارة و تفهم وصيتي و لا تذهبن عنك صفحا فإن خير القول ما نفع و اعلم أنه لا خير في علم لا ينفع و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه: و أكثر الاستخارة و هي طلب الخير من اللّٰه، فإنه الذي يملك الخير كله ثم يوصيه أن يتفهم الوصية و لا يعرض عنها إعراض من لا يهتم بمهام الأمور و محاسنها فإن فيها ما نفع في الدنيا و في الآخرة، و القول إذا كان فيه ذلك حق فيه النظر و له الاعتبار.

إن العلم النافع هو الذي حث عليه الإسلام و أمر بتعلمه و تعليمه، أما العلم غير النافع فإنه نهى عنه بل منعه. و لذا نراه منع السحر و الشعوذة و الكهانة و غيرها من العلوم المضرة أو التي لا نفع فيها، بينما أمر بوجوب التفقه و الأدب و أوجب الاختصاص كفائيا في بعض مجالات العلوم التي يفتقر إليها المجتمع و يحتاجها في تسيير دفة الحياة و الحركة الاجتماعية كالطب و الهندسة و كل ما يوفر للمجتمع المسلم القوة و العزة و المنعة.

و من هنا نرى النبي قد نهى عن علم لا ينتفع به، ففي الحديث عن أبي الحسن موسى (ع) قال: دخل رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - المسجد فإذا جماعة قد طافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل علاّمة، فقال: و ما العلاّمة ؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها و أيام الجاهلية و الأشعار العربية، قال: فقال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: ذاك علم لا يضر من جهله و لا ينفع من علمه، ثم قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة و ما خلاهن فهو فضل.

(أي بني، إني لما رأيتني قد بلغت سنا، و رأيتني أزداد و هنا، بادرت بوصيتي إليك، و أوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا فتكون كالصعب النفور) أي بني: برقتها و نعومتها، بحنانها و عطفها بما يحويه قلب الأبوّة الكبير الذي يرعى الصغير و يرأف به و يتعهده بالتربية و الأدب (أي بني) يا كلمة

ص: 283

تذوب فيها الرجولة و تتصابى أمامها الأبطال.

إني لما رأيتني قد بلغت سنا: متقدمة لا بأس بها و رأيتني أزداد و هنا فإن الفتوة و الشباب و القوة و القدرة ليست ملكات ثابتة و قادرة على الصمود أمام عوامل الزمن و تكرار الليالي و الأيام، بل إن كل تلك القوى و القدرات و كل ذلك الجسم العامر و الصحة الوافرة كلها تذوب و تتراخى بفعل الزمن و ضرباته. إن كل يوم يمضي يتلف نصيبا من أجسامنا حتى يأتي اليوم الذي يتهاوى الجسد كله و يموت... و لما كان الأمر كذلك بادرت بوصيتي إليك و أوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي فإني أخاف أن يدركني الموت قبل أن أنفذ إليك وصيتي التي أعددتها لك. أو أخاف أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي فإن بعض الناس يفقد الذاكرة أو تضعف عنده هذه الملكة و هذا يؤدي إلى فقدان وصيته التي كان يجب أن يقدمها لأحبابه عند ما كان يمتلك الرأي الصائب و النظرة الرشيدة، و كما يجب على الإنسان أن يلاحظ الأمور المتعلقة فيه و يبادر إلى اغتنامها يجب أن يلاحظ الأمور المتعلقة بغيره و يغتنمها. و من جملة هذه الأمور المتعلقة بالغير أن يغتنم القبول عنده أو يغتنم الطهارة و النزاهة و الصفاء فيدخل إلى قلبه فيصلحه و إلى روحه فيداويها. و إن عالم الطفولة عالم البراءة و الطهارة، عالم الصفاء، و في هذا الوقت يقبل الطفل الترويض و التهذيب بينما إذا سبقت إليه الأشرار و غرست في نفسه الإجرام فإنه يصعب إصلاحه و ردّه إلى الخيرات و الأعمال الصالحات. فلذا قال الإمام إن هذه الوصية كانت قبل أن يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا فتكون كالصعب النفور، أي كالجمل الذي لا يسلس قياده لراكبه بل يستوحش من كل من رأى و هذا يؤدي إلى عدم تأثير الوصية و فقدان مفعولها...

(و إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته و تجربته فتكون قد كفيت مئونة الطلب و عوفيت من علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، و استبان لك ما ربما أظلم علينا منه) و إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته: و هذه حقيقة اهتم بها الإسلام و شرع لها أسلوبا فذا في زرع المفاهيم و الأفكار الإسلامية، فإن الشارع المقدس قد رسم للطفل عند ولادته سننا رائعة، إنه ندب إلى الأذان في أذنه اليمنى و الإقامة في أذنه اليسرى إن كلمة (اللّٰه أكبر) و (لا إله إلا اللّٰه محمد رسول اللّٰه) و غيرها من فصول الأذان و الإقامة تدخل نفس الطفل عند دخوله الحياة و رؤيته النور.

يدخل الطفل الحياة و تدخل قلبه ترانيم الأذان كي يلتقي الدخولان دفعة واحدة

ص: 284

فيشكلان توافقا و انسجاما مع بعضهما.

ثم يأخذ الإسلام بيد هذا الطفل تدريجيا كي يصوغه صياغة صالحة فيمنع إرضاعه ممن ولدت من الزنا، فعند ما يسأل الإمام عن امرأة ولدت من الزنا، هل يصلح أن يسترضع بلبنها؟ يقول: لا يصلح و لا لبن ابنتها التي ولدت من الزنا... و كذلك يمنعه عن لبن المجوسية و اليهودية و النصرانية، و هكذا عن الحمقاء و الخبيثة و يقول فيهما: لا تسترضعوا الحمقاء، فإن اللبن يغلب الطباع و يقول: استرضع لولدك بلبن الحسان و إياك و القباح، فإن اللبن قد يعدي. و في مقابل ذلك يأمر الولي أن يتخيّر للرضاع كما يتخير للنكاح، و يقول: انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه. و يقول: تخيروا للرضاع كما تخيرون للنكاح، فإن الرضاع يغير الطباع... و بعد أن يشب الولد و يكبر يضع الإسلام للأبوين برنامجا تعليميا تربويا إن أخذا به أفلح الولد و سعد و إلا سقط و هوى. يقول الإمام الصادق (ع): «دع ابنك يلعب سبع سنين و الزمه نفسك سبع سنين». و عن النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: لأن يؤدب أحدكم ولدا خير له من أن يتصدق بنصف صاع كل يوم».

و يقول النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - أيضا: رحم اللّٰه من أعان ولده على بره، قيل كيف يعينه، قال: يضعه موضعا حسنا.

و يقول أيضا: حق الولد على والده إذا كان ذكرا أن يستفره أمه، و يستحسن اسمه، و يعلمه كتاب اللّٰه و يطهره و يعلمه السباحة.

و يقول النبي أيضا: رحم اللّٰه من أعان ولده على بره، قيل كيف يعينه على بره ؟ قال: يقبل ميسوره، و يتجاوز عن معسوره و لا يرهقه و لا يخرق به...

إن الطفل صفحة بيضاء تستطيع أن ترقم عليها الإسلام حكما حكما و شرعة شرعة كما تستطيع أن ترقم عليها الكفر و الضلال و الانحلال، و الخيار يرجع إلى المربي و الكافل، فإن كان صالحا حاول جهده في سبيل أن يزرع في نفس الطفل الخير و الصلاح و كل المعاني الطيبة من الوفاء و أداء الأمانة و الحب و البذل و العطاء، و إن كان فاسدا زرع أضداد هذه المحاسن، زرع الغدر و نكث العهد و البغض و الأنانية و الأثرة و كل المساوئ و القبائح.

إن هذا الطفل يشب على ما يعوّده عليه مجتمعه الصغير و الكبير: البيت و المدرسة و الشارع، فإن كانت كلها صالحة نشأ عنصرا صالحا، و إن كانت فاسدة نشأ عنصرا فاسدا

«إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت».

ص: 285

الطفل كالعجينة الرخوة تستطيع أن تصنعها ما شئت، تستطيع أن تخلق منه بطلا رساليا كما تستطيع أن تجعل منه مجرما تاريخيا، تستطيع أن تجعله مهملا تافها يعيش الكسل و الخمول لا يفكر إلا في اللذة كيف يقتنصها و في اللهو كيف يحصل عليه، كما تستطيع أن تجعل منه عنصرا فذا يتوقد نشاطا و حركة يفكر في نهضة أمته و إحياء تراثه و عودة إسلامه...

إن مجتمعنا اليوم يفقد التربية الإسلامية الصحيحة لأن الأب و الأم لا يهتمان إلا بإعالته ماديا من تنظيفه و تهيئة ملابسه و مطعمه و مشربه، أما غيرها من الأمور الأخرى فإنهما يفقدانها من أنفسهما فكيف يعطيانها لغيرهما. و إذا خرجنا من البيت و الأسرة إلى المدرسة فإننا نجدها أبعد ما يكون عن تلقين الإسلام و غرس مفاهيمه و أفكاره، بل على العكس من ذلك نرى مناهج الدراسة تعطي أفكارا جاهلية قومية أو عنصرية أو عرقية أو إلحادية أو علمانية أو غيرها من الأباطيل التي حاربها الدين و قضى عليها و نجد المعلم يفقد العناصر المثالية التي يجب أن تتوفر في القدوة و الأسوة باعتباره المثل الأعلى الذي ينظر إليه الطفل، فإذا كان المعلم فاسدا أخلاقيا أو متحللا اجتماعيا كيف يستطع أن يقدم للمجتمع عناصر صالحة!.

و إذا خرجنا إلى الحياة بشكل عام نجد الانحراف و الضلال، ففي السوق ينتشر الربا و التطفيف و الغش و الاحتيال، و في القضاء نجد الرشوة و المحاباة، و في الدولة نجد رجال السلطة و زبانية الحكم يستأثرون لأنفسهم و أقربائهم و من حولهم من العصابات بأهم مرافق الدولة و مراكزها الحساسة دون كفاءة و لا أهلية، و هكذا نجد المجتمع بجميع و سائله يتحول ضد الإسلام و ضد التربية الإسلامية الصحيحة، فإن وسائل الإعلام المسموعة و المرئية و المصورة كلها تصب لصالح دعاة الانحلال و الفوضى و الفساد.

و في ضمن هذا الجوء الموبوء كيف يستطيع أن ينشأ الطفل نشأة إسلامية! إنه يحتاج إلى مضاعفات من الجهد و التعب و إلى رقابة مستمرة من أوليائه و ملاحقة دائمة لكل حركاته و تصرفاته فيشجعونه على الخيرات و يسددونه نحوها كما يردعونه عن المفسدات و يسدون في وجهه أبواب الضلال و الفساد. إن الطفل يحتاج إلى البيت المسلم و المدرسة المسلمة و المجتمع المسلم و عندها تسهل تربيته، و هذا ما أشار إليه الإمام بقوله: «و إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شي قبلته» إن كان طيبا طاهرا قبله و إن كان نكدا خبيثا قبله و لذا يجب المسارعة في هذه الفترة إلى الأدب و التهذيب و إلى صب مفاهيم الخير و الإحسان في ذهن الطفل كي تنمو و تتأصل و يستطيع أن يواجه الحياة بطهارة و نزاهة و استقامة، و أما إذا غلب الانحراف و تأصلت بذور

ص: 286

الجريمة و الفساد في نفس الطفل، فإن صلاحه يتوقف على نزع هذه البذور المتأصلة و هدم المفاسد المتأججة في نفسه و هذا يحتاج إلى مدة مديدة - إن قدر على اقتلاعها الإنسان - ثم بعد الاقتلاع يبتدىء زرع المفاهيم الصالحة من جديد و هذا يستغرق وقتا طويلا و قد لا يوفق الإنسان إلى هذه العملية خصوصا إذا كانت تيارات الأعداء و دعاياتهم كثيرة و تتوافق مع ميول النفس الشريرة و نزواتها، فإن هذه الطريق تكاد أن تفقد مفعولها إن لم نقل إنها عقيمة عن إعطاء أي النتائج... و من هنا يجب على أولياء الطفل أن يبادروا إلى تأديبه و تهذيبه كما يقول الإمام: فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبك.

ثم إن الإمام أراد أن يحبب إليه هذه الوصية و يرغبه في قبولها و العناية بها و ذلك بذكر الأتعاب و المشقات التي خاضها أهل التجارب كي يحصلوا على ما حصلوا عليه، إنهم تعبوا و كدوا و اجتهدوا و أخطئوا كثيرا حتى استطاعوا أن يحصلوا على النتيجة التي وصلوا إليها. إن النتائج التي بأيدينا لم تأت بهذه السهولة و اليسر الذي يتصوره بعض الناس بل كانت حصيلة سنين متمادية تخللها كثير من العرق و الدموع بل من الدماء في بعض الأحيان. و إن هذه العلوم التي توصل إليها الإنسان و المعارف التي حصل عليها كانت نتيجة طاقات هائلة من العقل و الفكر بذلت في هذا الطريق من أجل هذه الغاية.

و الإنسان إذا التفت إلى تلك النتائج حق له أن يأخذها و يعتبر بها بل وجب عليه أن يأخذها ليسر مأخذها و سهولته فإنهم كفونا مئونة الطلب و التعب و أعفينا من علاج التجربة التي تحمل الأخطاء و العثرات بل حصلنا على النتيجة بفضل تجارب الأولين و أتعابهم.

(أي بني إني و إن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم و فكرت في أخبارهم و سرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره و نفعه من ضرره فاستخلصت لك من كل أمر نخيله، و توخيت لك جميله، و صرفت عنك مجهوله) في هذا الفصل الشريف من الوصية بيان مرغب لقبولها و دفع لما يتوهم من أنه كيف يقبلها الإنسان و هي تجربة لزمن قصير و أيام معدودة.

إن فترة ستين سنة من عمر الإمام مدة قصيرة بحساب الزمن و عمقه و امتداده الطويل فكيف تكون هذه الفترة مؤهلة لإعطاء النصائح التي تستوعب الزمان و تغوص في أحشائه لتستخرج حكم الحياة و عبرها و ما فيها من الخير و الشر! إنه عليه السلام أراد أن يدفع هذا التوهم بقوله: أي بني إني و إن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، و لم تستوعب

ص: 287

حياتي حياة السابقين كلهم و لكن نظرت في أعمالهم ما ذا فعل فرعون و هامان و كيف قابل موسى طغيانهما و عنادهما للحق! كيف عقر الشقي ناقة صالح و وافقه قومه على فعله و كيف كان رد اللّٰه عليهم، إنه نظر في أفعال الأنبياء و أعمالهم كما نظر في أفعال الطغاة و أعمالهم و أخذ من كل منهم العظة و العبرة. إنه وقف على الدروس التي تؤهله لجنة اللّٰه كما وقف على الدروس التي تبعده عن نار اللّٰه، إنه على علم بكل ما جرى في ماضي الأمم و سوابقها لأنه نظر في أعمالهم و فكر في أخبارهم و سار في آثارهم و ما تركوه من شواهد على إيمانهم أو على كفرهم، على حقهم أو على باطلهم. إنه بعد أن درس أحوالهم بشكل دقيق و عميق عاد و كأنه عايشهم كلهم، كأنه رافق أولهم و بقي مستمرا إلى يومه هذا. فإن العبرة بما يحصل عليه الإنسان من العلم و التحليل و البحث و التحقيق و أخذ صفو ذلك كله من أجل بناء حياة يرضاها اللّٰه و يحبها و لذا يقول الإمام: فقد نظرت في أعمالهم و فكرت في أخبارهم و سرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره و نفعه من ضرره فاستخلصت لك من كل أمر نخيله (صفوه) و توخيت لك جميله و صرفت عنك مجهوله.

(و رأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، و أجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك و أنت مقبل العمر و مقتبل الدهر، ذو نية سليمة، و نفس صافية، و أن ابتدئك بتعليم كتاب اللّٰه عز و جل و تأويله، و شرائع الإسلام و أحكامه، و حلاله و حرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره) هكذا تتجسد الأبوّة حبا و عطفا و حنانا و تتحرك في ضمير أبنائها زارعة الخير، ناظرة ما يصلحهم في أمور دنياهم و آخرتهم... إن شفقة الأبوة و حنانها تستدعي منها المسارعة في تلقين الأبناء مبادئ الأدب و الاحترام و مبادئ الحلال و الحرام كما تعلمهم كتاب اللّٰه الذي هو المفتاح لكل خير و الناهي عن كل شر...

إن كتاب اللّٰه هو المصدر الرئيسي لكل المسلمين... ففيه الأحكام من حلال و حرام، و فيه القصص و الحكم، و فيه الآداب و الأخلاق، فيه الحدود و الديات، فيه القصاص و العقوبات، فيه العبادات و المعاملات، إنه كتاب الحياة بجميع أدوارها و مختلف شئونها و أطوارها يتناول الإنسان كما يتناول الكون و يتناول الدنيا، كما يتناول الآخرة، إنه الحياة للقلوب و الجلاء للنفوس، و العروة للوحدة و الملتقى لكل المسلمين.

إن هذا الكتاب خلق من رعاة الإبل و الشاء رعاة للعالم بأسره و صنع من الضائعين في متاهات الصحراء أمة من أرقى الأمم و أعظمها، و بني من نفوس القتلة و المجرمين نفوسا تقية صالحة تحب الخير و تعمل به و تدعو إليه...

ص: 288

و لكن و للأسف الشديد، عند ما تركنا العمل بهذا القرآن و أهملنا النظر في أحكامه و عطلنا حدوده، عند ما تركناه وراء ظهورنا و استبدلنا به غيره كانت النتيجة خسارة فادحة و ضربة قاصمة أصابت المقاتل منا حيث أضحينا في تفكك و انهيار و عبودية و إذلال.

إن تلك الأمة العظيمة التي خلقها هذا القرآن عادت أحقر الأمم و أذلها عند ما تركت العمل به و أهملت إقامة أحكامه و حدوده، و ما دور اليهود و أعمالهم اليوم في بلادنا من قتل و تشريد و من احتلال و تنكيل، إلا نتيجة للابتعاد عن هذا القرآن و ترك العمل بمضامينه و تشريعاته.

و ما أعظم الأهل الذين يربون أولادهم على حب القرآن و تلاوته و يدربونهم للعمل بمضمونه آية آية، و حكما حكما. و يأخذون بأيديهم إلى مواطن الأدب فيؤدبونهم بها و إلى مواطن العظة فيعظونهم بها، و إلى كل عبرة فيه و مثل فيقدمون لهم العبر و يضربون لهم الأمثال.

إن أعظم ما يقدمه الأهل لأبنائهم أن يخلقوا منهم أشخاصا تتحرك بالقرآن و تعمل به حتى يتحولوا في وقت ما إلى قرائين ناطقة تدب على وجه الأرض كما كان الإمام علي يعبر عن نفسه «أنا القرآن الناطق و ذاك القرآن الصامت»، فإن شدة الانسجام و الالتحام و قوة التأثر و اللقاء تجعل من الإنسان قرآنا في إهاب إنسان بحيث تتحول كل حركات هذا الإنسان و تصرفاته ترجمة حرفية لمضمون الآيات.

إن الأهل إذا اعتنوا بالأولاد فزرعوا في نفوسهم القرآن و السنّة و أوضحوا لهم معالم الحلال و الحرام و أخذ الطفل مع نموّه المتصاعد تتعمق عقيدته في اللّٰه و تتركز معاني الحلال و الحرام عنده كانوا قد أدوا واجبهم، و إنه لا يأتي سن البلوغ إلا و قد بلغ الدرجة العليا في العقيدة و العمل و الرؤية الإسلامية السليمة.

أما لو كان الأهل يفقدون هذه الالتفاتة و هذه التربية و لم يهتموا بهذه الجوانب من التربية القرآنية بالخصوص و الإسلامية بالعموم بل يتركون الأبناء للأقدار و للمجتمع الفاسد و التيارات الوافدة، يتركونهم للمدرسة التي تقتل فيهم التطلع نحو الإسلام و العمل بمضمونه و تقضي على كل حرف يستمد من القرآن أو يعتمد عليه، فإنه لا محالة تخلق الأجيال المتنكرة لدينها و مبادئها المستهزئة بكل معالم الخير و المثل التي ينشدها الإسلام و ينادي بها...

و من هنا ينبه الإمام في وصيته هذه إلى هذه الجهة من الاهتمام بالقرآن و توضيح معالم الحلال و الحرام لهذا الناشىء الصغير فإن هذه الأمور إذا غرست في نفس الطفل أثمرت و أعطت أحسن الخيرات...

ص: 289

(ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم و آرائهم، مثل الذي التبس عليهم فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة، و رجوت أن يوفقك اللّٰه فيه لرشدك، و أن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه) هكذا يبحث الأب الشفيق الواعي العاقل عما يصلح ولده الضعيف الرقيق الناشىء، إنه لا يتركه في مهب الريح تتلاعب به و تقذفه من جانب إلى جانب و من جهة إلى أخرى، بل إن الوالد باعتباره قد مر بتجربة سابقة عليه و أدرك مواطن الخطر و الانزلاق و مواطن القوة و الصمود، إنه يدرك بعد أن مر بهذه التجربة أغلب الشبهات التي تحركت في عقله و أثارها أمامه غيره، و رأى بأم عينه كيف زلت أقدام كثير ممن عاصروه نتيجة هذه الشبهات التي لم يجدوا حلالها، أو لم يسألوا عن حلها فاستحكمت في نفوسهم و استعصى قلعها، فكفروا بعد إيمان، و ضلوا بعد هدى، و انحرفوا بعد استقامة. إن الأب الواعي المدرك لهذه المخاطر لا يترك أولاده في متاهات و مجاهل لا يعرف سلامتهم فيها و لا نجاتهم منها، بل يبادر إلى وضع خطوط عريضة تتعين من خلالها وجهة المسير و حدوده و مقدار سعته و ضيقه... إن إيضاح الطريق و وضع المعالم البارزة التي توصل إلى الهدف من أهم ما يتوجب على الأب. و من هنا بادر الإمام إلى بيان هذه النقطة بعد أن كان عازما على عدم ذكرها إنه عاد إلى بيانها و توضيح الحق فيما اختلف فيه الناس و اشتبه الأمر على بعضهم فيه...

إن بيان هذه القضية المشتبه فيها و إبراز معالم الحق فيها أولى من ترك هذا الولد و شأنه في معركة قد لا تكون لصالحه. إذ ربما غلبت الشبهة على عقله و استحكمت و عندها تكون الهلكة التي تقود هذا الإنسان إلى خطر ما بعده خطر آخر. إنه خطر العقيدة التي يصغر عندها كل خطر آخر، إنه خطر الإيمان الذي ربما تزلزل فهوى بصاحبه إلى نار جهنم، و عندها تكون الكارثة الكبرى التي تهون عندها كل الكوارث الأخرى.

(و اعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى اللّٰه و الاقتصار على ما فرضه اللّٰه عليك. و الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك و الصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر و فكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا) تقوى اللّٰه و اجتناب محارمه من أهم الأمور و أوجبها على الإنسان المسلم فلا يفيد عمل بدون تقوى و لا تثمر تضحيات بدون تقوى و لا ينفع اجتهاد بدون تقوى... بالتقوى تتفاضل الناس و بها تقترب من اللّٰه.

و التقوى كما يفسرها الصادق (ع): أن لا يفقدك اللّٰه حيث أمرك و لا يراك حيث نهاك.

ص: 290

و إن اللّٰه أثنى على المتقين و حث على التقوى في كتابه الكريم قال تعالى: «الم ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » ، و قال تعالى: «تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّٰادِ اَلتَّقْوىٰ وَ اِتَّقُونِ يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ » . قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ وَ لاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » . و قال تعالى: «وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ » . و قال تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ » .

و قال تعالى: «إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .

و أما سنّة المعصومين فقد طفحت بالحث و التأكيد على التقوى.

قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: لو أن السموات و الأرض كانتا رتقا على عبد ثم اتقى اللّٰه لجعل اللّٰه له منهما فرجا و مخرجا.

و قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: أصل الدين الورع، كن ورعا تكن أعبد الناس و كن بالعمل بالتقوى أشد اهتماما منك بالعمل بغيره، فإنه لا يقلّ عمل بالتقوى، و كيف يقل عمل يتقبل لقول اللّٰه عز و جل: «إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ » .

و قال الإمام علي (ع): اتقوا اللّٰه الذي إن قلتم سمع، و إن أضمرتم علم، و بادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم و إن أقمتم أخذكم و إن نسيتموه ذكركم.

و قال علي (ع): «فإني أوصيكم بتقوى اللّٰه الذي ابتدأ خلقكم، فإن تقوى اللّٰه دواء داء قلوبكم و بصر عمى أفئدتكم و شفاء مرض أجسادكم و صلاح فساد صدوركم و طهور دنس أنفسكم و جلاء غشاء أبصاركم و أمن فزع جأشكم و ضياء سواد ظلمتكم».

و قال الصادق (ع): من أخرجه اللّٰه من ذل المعصية إلى عز التقوى أغناه اللّٰه بلا مال و أعزه بلا عشيرة و آنسه بلا بشر.

و قال الصادق (ع): التقوى على ثلاثة أوجه: تقوى باللّٰه (في اللّٰه) و هو ترك الحلال فضلا عن الشبهة و هو تقوى خاص الخاص و تقوى من اللّٰه و هو ترك الشبهات فضلا عن الحرام و هو تقوى الخاص و تقوى من خوف النار و العقاب و هو ترك الحرام و هو تقوى العام...

بالتقوى تقبل الأعمال فإن من صلّى بدون تقوى لا تقبل صلاته و إنما بأدائها يسقط العقاب فحسب، و أما ترتيب الأجر و الثواب فهذا لا يتحقق إلا بالتقوى التي تتم باجتناب جميع المحارم...

ص: 291

بالقيام بجميع الواجبات المفروضة على الإنسان و الاجتناب عن جميع المحرمات تتحقق التقوى و تقبل الأعمال و بدون ذلك لا يقبل عمل و لا يثاب عامل، و إنما العمل يسقط العقاب فحسب...

و الإمام هنا في وصيته يسكب في روع ولده و روع كل الناس أن يتمسكوا بهذه الخصلة الشريفة التي لا تعادلها خصلة و يضعها الإمام في هذه العبارة الجميلة و الصياغة اللطيفة قائلا: «و اعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إليّ من وصيتي تقوى اللّٰه و الاقتصار على ما فرضه اللّٰه عليك من الواجبات و ترك المحرمات التي بها يتم العمل الصالح و تتحقق التقوى و تكون سهلة المنال لا ترهق كاهل العامل و لا تجعله يمل من الزيادة و كثرة العمل.

ثم إن الإمام ذكّر ولده بسيرة الصالحين من أهل بيته من أجداده و أعمامه الذين نظروا في أمور الدنيا و الآخرة، ذكره بهم و بما كانوا عليه من التفكير في مصالحهم و ما ينفعهم... فإن هؤلاء العظماء كانوا على جانب كبير من رجحان العقل و سلامته و أنهم لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد أن ثبت لهم صحته كدين و ثبت لهم صدق الرسول في دعواه النبوّة، فإن حمزة بن عبد المطلب أسد اللّٰه و أسد رسوله قد آمن بالنبي و دافع عنه ورد كيد المشركين و الكفار و كل أذية كانت تصل إلى الرسول الأكرم و قد اندفع في «أحد» يقاتل في سبيل اللّٰه حتى سقط شهيدا مضمخا بدمه...

و كذلك جعفر بن أبي طالب الذي هاجر في سبيل اللّٰه ثم استشهد في «مؤتة» مسطرا أروع البطولات و أعظمها. و هكذا غيرهما من أقرباء النبي و أهل بيته قد نظروا إلى الدنيا و فكروا فيها و اختاروا لأنفسهم أقرب الطرق إلى اللّٰه و أصلحها لهم في دنياهم و آخرتهم...

إن هذا الرعيل من الصالحين كانوا يمثلون الطلائع الواعية في مجتمعهم، لم تكن تصرفاتهم خاضعة للأهواء و الميول أو للعصبية و المزاج، و إنما كانت تنطلق من قناعات صحيحة و سليمة فأخذوا بما عرفوا من شرائع الدين و أحكامه و قوانينه و سننه و كفوا عما لم يكلفوا فيه مما هو محجوب عنهم أو غير مطلوب منهم.

(فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم و تعلم، لا بتورط الشبهات، و علق الخصومات. و ابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك و الرغبة إليه في توفيقك، و ترك كل شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلاله، فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع و تم رأيك فاجتمع، و كان همك في ذلك هما

ص: 292

واحدا، فانظر فيما فسرت لك، و إن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك و فراغ نظرك و فكرك فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، و تتورط الظلماء. و ليس طالب الدين من خبط أو خلط، و الإمساك عن ذلك أمثل) في هذا الفصل من الوصية يقف الإمام ليعطي درسا لكل المتعلمين الذين يريدون الغوص في عالم المعقولات و المجردات، الذين يريدون أن يدخلوا إلى عمق الأمور و حقائقها و يستكنهوا لباب الأشياء و أسرارها. إن هناك عالما مجهولا إذا دخله الإنسان بدون دليل معه أو بدون أن توضع له معالم تحدد له وجهة المسير سوف يضل و يتيه و قد يعود إلى النقطة التي انطلق منها على أحسن التقادير إن لم يستمر في التيه و الضلال حتى ينقضي العمر و تدبر الأيام.

إن الدخول في أمور يكثر فيها الزلل و الخطل و يتعرض الإنسان خلالها إلى مزالق كثيرة لا تحصى، يجب قبل الخوض في عباب ذلك المجهول أن يعد العدة و يشحذ الهمة و يكون مؤهلا لخوض هذه المعركة التي لم يعرف فيها النجاح من الفشل، يجب أن يهيء الأسباب التي توفر له النجاح و الفوز و العودة بالظفر بعد تجوال قد يستمر طويلا في استخراج النتيجة التي يرضاها اللّٰه و يحبها...

إن للمتعلمين صفات وضعها علماء الأخلاق و الآداب و قد ذكر الشهيد الثاني في كتابه (منية المريد في آداب المفيد و المستفيد)، ما يجب أن يتحلى به طالب العلم في نفسه من الإيمان و التقوى و الإخلاص و ما يجب أن يوفره لنفسه من الصفات أمام شيخه و استاذه و إلى غير ذلك مما رشح به قلمه السعيد في استخلاص هذه الفوائد الجليلة. و إن الإمام هنا يلقي الأضواء أمام المتعلم الذي يريد أن يحرر بعض هذه المسائل المهمة فيقول له:

1 - يجب أولا أن يطلب هذه المطالب المهمة من أجل الفهم و العلم، من أجل الوصول إلى الحقيقة التي هي أنشودة المخلصين لا أن يطلب هذه الأمور ليزيد الشبهات و يتخذها عضدا له في الخصومات...

2 - يجب عليه أن يبتدىء قبل كل شيء بطلب الاستعانة من اللّٰه بالتوفيق إلى وجوه الصواب و إدراك الحقائق و الثبوت على الاستقامة و هذا التوجه الرباني مطلوب من الإنسان في كل أعماله و تصرفاته، فإن طلب المدد من اللّٰه و الاستعانة به يجب أن لا ينقطع عنه أو يتهاون فيه...

3 - يجب أن يكون بحث هذه القضايا بحثا موضوعيا دون أن تشده المذاهب و الأهواء إلى رأي معين أو جهة معينة بل يتخذ الحق و العلم و جهته، أن يبني بينه و بين

ص: 293

نفسه أنه سيتخذ الدليل و البرهان هدفا له في الوصول إلى الحقيقة دون أي أمر آخر، و ما أصعب و أشق البحث الموضوعي النزيه فإنه أصعب من إزالة الجبال عن أماكنها. و أنّى للرجال أن يتركوا موروثات قومهم و يتخلوا عن عادات أهلهم و يتجاهلوا دين أسلافهم! إننا رأينا بعض المفكرين تعصبا منه لمذهبه أو قومه ينحرف عن الاستقامة و يسف في التفكير و يطوّع آيات اللّٰه و كلامه زورا و بهتانا من أجل أن تتفق و ما عنده من رواسب مذهبية و عادات قومية... رأينا ذلك الشموخ في الرأي و الأصالة في البحث كلها تتهاوى عند الدخول في بحث العقيدة و الأديان... إنه لا يستطع أن يتخذ الموضوعية باستمرار بل يتخذها في ما لا يضره و لا يؤذي حسه الديني أو التقليدي...

ثم إن الإمام بعد أن يحدد له هذه الخطوط العريضة في منهج البحث يقول له: فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع و تم رأيك فاجتمع و كان همك واحدا - و هو الوصول إلى الحقيقة و إدراك الواقع - فانظر في ما فسرت لك...

و أما إذا لم يتوفر له ذلك بل كان قصده من أول الأمر خلاف هذه الشروط فلا بد أن يتيه و يضل و يخبط خبط الأعمى الذي لا يهتدي الطريق أو خبط السائر في ظلمات الليل البهيم مع جهله و عدم الدليل... و طالب الدين بعيد كل البعد عن مثل هذه المهاوي و الأضاليل.

(فتفهم يا بني وصيتي، و اعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، و أن الخالق هو المميت، و أن المفني هو المعيد، و أن المبتلي هو المعافي، و أن الدنيا لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها اللّٰه عليه من النعماء و الابتلاء و الجزاء في المعاد، أو ما شاء مما لا تعلم، فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإنك أول ما خلقت به جاهلا ثم علمت، و ما أكثر ما تجهل من الأمر و يتحير فيه رأيك، و يضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك فاعتصم بالذي خلقك و رزقك و سواك، و ليكن له تعبدك و إليه رغبتك و منه شفقتك) لقد تعلقت قلوب الأئمة باللّٰه و انقطعت عما عداه، فهي تعيش معه في كل لحظات وجودها، في السر و العلن، في الليل و النهار، في البيت و الشارع، عند الأكل و الشرب، في اللذة و الألم، لقد تحولت تلك القلوب إلى محاريب لا ترى فيها غير اللّٰه... إن هذه القلوب قد اتصلت باللّٰه و أولته كل شيء، و توجهت نحوه في كل شيء... إنها أعطته الذمام المطلق، فله حق الأمر، كما له حق النهي، و بيده الحياة، كما أن بيده الموت...

إن هذه الأنفاس العالية غرست في كل نفوس المحبين و المطيعين و السائرين على خط هؤلاء الأئمة العظام...

إن غريزة حب الحياة و استمرارية الدوام فيها أهم ما ينظر إليه الإنسان، فقد يتخلى

ص: 294

عن أرض ملكها، أو مال اكتسبه، أو شرف رفيع حازه، أو مقام عال حصل عليه، بل قد يرضى بالفقر و الذل و الاستعباد، و لكنه يرفض أن يتنازل عن حياته... يرفض الكثيرون منا الموت لأنه يشكل القتل للحياة، و القضاء على استمراريتها. و إذا قضي عليها فات كل شيء في الحياة... فمن هنا نرى بعض الناس من أصحاب الرسالات يتنازلون عن رسالتهم مقابل أن يمن الطغاة عليهم بالعيش بضعة أيام و لو في بحار الذل و عرق الخزي... و هناك بعض آخر يتوقى الكلام في الحق و الافصاح عنه و يتنازل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر خوفا من أذية تلحقه و حفظا على نفس يريد لها الحياة...

إن انتشار الفساد و شيوع الفواحش و استعباد العباد و استعمار البلاد و العباد، بل قتل الأنبياء و المرسلين و العلماء و الصالحين أهون عند بعض الناس من نفس يملكونها، إنهم يضحون من أجلها بكل هذه المقدسات و الشخصيات دون أي حرج أو مرارة...

إن الإمام هنا يريد أن يوجه هذا الإنسان بقطع النظر عن انتمائه، و عائلته، و هويته، يريد أن يوجهه إلى اللّٰه، و يربطه و يقوي علاقته به... إنه يريد أن يسكب في وعي هذا الإنسان و في ضميره و في وجدانه و عمقه مالكية اللّٰه المطلق لهذا الإنسان ملكيته التي تستولي على الأحياء كما تستولي على سلب الحياة... فاللّٰه وحده الذي يملك حق الممات كما يملك حق الحياة... ليس للطغاة... و لا للجبابرة... و لا للفراعنة...

و لا لكل الناس مجتمعين... حق في سلب هذه الحياة كما لم يكن لهم من قبل حق هبتها...

اللّٰه تعالى وحده هو الذي بيده الموت و الحياة و الفناء و الإعادة وحده الذي يقول للإنسان مت فيموت، و يقول إحي فيحيا... بكلمة (كن) أخصر كلمة، يمكن أن يتم بها التعبير عن المشيئة المطلقة، يتم الفناء كما تتم الحياة...

إن الموت و الحياة بيد اللّٰه و هذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: «إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ» (1)«وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىٰ وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ وَ أَنَّهُ هُوَ أَمٰاتَ وَ أَحْيٰا» (2)«قُلِ اَللّٰهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ » (3).

و إن اللّٰه تعالى ينقل إلينا الحوار الذي جرى بين إبراهيم و بين فرعون من فراعنة6.

ص: 295


1- سورة ق، آية - 43.
2- سورة النجم، آية - 44.
3- سورة الجاثية آية، - 26.

عصره ادعى أنه يستطيع هبة الحياة كما يستطيع أن يقضي عليها، و كيف رد عليه إبراهيم الخليل حجته و أفحمه، كما ينقل إلينا قصة ذلك الرجل الذي مر على القرية الخاوية فتعجب كيف يحييها اللّٰه، فأعطاه اللّٰه مثلا حيا من نفسه و من حماره، قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْرٰاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قٰالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ فَإِنَّ اَللّٰهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهٰا مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ » .

(1) «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلىٰ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا قٰالَ أَنّٰى يُحْيِي هٰذِهِ اَللّٰهُ بَعْدَ مَوْتِهٰا فَأَمٰاتَهُ اَللّٰهُ مِائَةَ عٰامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قٰالَ كَمْ لَبِثْتَ قٰالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قٰالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عٰامٍ فَانْظُرْ إِلىٰ طَعٰامِكَ وَ شَرٰابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ اُنْظُرْ إِلىٰ حِمٰارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظٰامِ كَيْفَ نُنْشِزُهٰا ثُمَّ نَكْسُوهٰا لَحْماً فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ قٰالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» .

إن أمير المؤمنين يريد أن يحرر هذا الإنسان من الذل و الخنوع و العبودية و الاستسلام عن طريق الإلقاء في روعه أن الحياة و الموت بيد اللّٰه، و إذا كانت هذه بيد اللّٰه، و هو الذي يملكها، فلا يجوز لهذا المخلوق أن يخاف أحدا عليها، بل إن عليه أن يعتصم باللّٰه و يلتجىء إليه و يتخذه كهفا و حرزا، و يعقد القلب على أن الإنسان مهما أعطي من قوة و امتلك من حيلة و مكر فإنه لن يستطيع أن يؤثّر على غيره إذا أراد اللّٰه أن يمنعه عن التأثير و الإيذاء! و هذا ما أشار إليه الحديث الوارد عن المعصومين...

- فعن أبي عبد الله (ع) قال: كان علي بن أبي طالب (ع) يقول: «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، و أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه و أن الضار النافع هو اللّٰه عز و جل».

فإن قلت: إذا كان الأمر كله يرجع إلى اللّٰه... الحياة و الموت المعاناة، و الابتلاء، فما معنى رجوعنا إلى غيره كرجوعنا إلى الطبيب عند المرض و رجوعنا إلى التجارة و الاكتساب عند إرادة الربح و طلبه و رجوعنا إلى دفع المحاذير التي يمكن أن تلحقنا من جراء بقائنا تحت سقف يصر، أو حائط يخر أو زلزال يمر...

قلنا: إن رجوعنا إلى تلك الأسباب رجوع إلى اللّٰه باعتبار أنه هو الذي وفرها للإنسان و أمر باتباعها، و أوصى بالاقتفاء لأثرها، إنه تعالى هو الذي طلب منا السعي في9.

ص: 296


1- سورة البقرة، آية - 158-259.

مناكب الأرض من أجل الربح و توفير الحياة السعيدة، و هو الذي أمرنا بالعودة إلى الطبيب عند حصول المرض، و هكذا جميع الأسباب التي كانت محققة لمسبباتها، و لذا نجد بعض الأحاديث تصرح أن اللّٰه لا يستجيب دعاء (اللهم ارزقني) لمن جلس في بيته و اكتفى بالدعاء دون الخروج و السعي في سبيل تحصيله. نعم إن نظر المؤمن و إيمانه هو أن هذا السبب وضعه اللّٰه تعالى لذاك المسبب، و قدرة اللّٰه يمكن أن تتدخل لترفع مفعول هذا السبب و تمنعه من التأثير كما حصل في نار الخليل إبراهيم حيث قال اللّٰه لها: «كُونِي بَرْداً وَ سَلاٰماً» و كما في معاجز الأنبياء التي خرقت قانون الأسباب و المسببات، فإن اللّٰه تعالى يملك كل شيء و قادر على كل شيء...

ثم إن الإمام ينبه إلى حال الدنيا و أنها لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها اللّٰه عليه من النعماء و الابتلاء، فإن النعم تضع الإنسان وجها لوجه أمام فضل اللّٰه و رحمته، و عطائه وجوده. إن هذه النعم تجعل من هذا الإنسان عنصرا صالحا يبحث عن كل السبل التي تؤدي به إلى شكر هذه النعم و أدامتها عليه... إنه ينظر إلى نفسه و جسده و يقف أمام كل جارحة من جوارحه وقفة تأمل و تبصر، يقف أمام عينه و يبحث فيها بدقة كيف تكشف الأمور و تعكس الأشياء و هي بعد على صغرها تستوعب ما يحيط بها و ما يقع تحتها من أمور، ينظر إلى تركيبها و شرايينها و إلى عظمة اللّٰه فيها... ينظر إلى أذنه، هذا الجهاز اللاقط الذي يسمع به الأصوات على اختلافها و يميز بين الحسن منها و القبيح و بين القوي و الضعيف... و ينظر إلى يده و ينظر إلى رجله بل ينظر إلى أي عضو منه فإنه يرى النعمة فيه و الفضل في عطائه... إن هذه النعم تحتاج إلى الشكر... تحتاج إلى قلب واع و نفس صافية و ضمير طاهر... تحتاج إلى لفتة من هذا الإنسان كي يعترف و يقر بالعجز عن أداء شكرها.

و في المقابل يجب أن ينظر إلى أهل الابتلاءات و المصائب، إلى المرضى و الزمنى، و إلى الفقراء و المساكين، و إلى الأيتام و المحتاجين... ينظر إلى كل كارثة أو حادثة مؤلمة ليأخذ منها درسا عمليا يعيشه مع شخصه و نفسه فيأخذ العبرة منه و العظة و تكون هذه العبر محطات يتزود فيها التقوى و العمل الصالح و حب الخير و الإحسان...

إن هذه الدنيا لم تكن لتستقر و تهدأ و تبنى و تعمر إلا بتركيبتها القائمة، فلو أن كل الناس في حالة من الرخاء و الدعة لدفع هذا الوضع إلى نسيان الآخرة، و لو أن الناس كلهم في فقر و مسكنة لأوجب ذلك كفرا و فسادا، و لو أن الناس لا يموتون أبدا لتكاثروا إلى درجة تضر بالجميع... و لو أن الناس كلهم في رغبة واحدة و رأي واحد لوقع الاضطراب في الأعمال عسرا و يسرا في دفة الحياة... إن هذه الدنيا بصيغتها الربانية هي

ص: 297

أبدع ما يجب عليه أن تكون... ففيها الخيرون و فيها الأشرار و فيها المعافون و فيها المبتلون و فيها... و فيها... اختلاف في الطبقات و الأذواق و المعاش و الصحة و المرض و غيرها لعمارة الحياة و بنائها. إن هذه الدنيا محطة اختبار يجري على ثراها، تميز الصالح من الطالح، و فيها شوط قصير ينجح خلاله الفائزون و يسقط المقصرون.

و اللّٰه سبحانه يعد للمطيعين جنات تجري من تحتها الأنهار عند مليك مقتدر، يجدون فيها نتيجة أتعابهم و جهادهم و ما قدموه من الخيرات و الأعمال الصالحة. إن النتيجة لا تظهر إلا في ذلك اليوم الذي تجري فيه تصفية الحسابات، إنه يوم القيامة... و قد يعجل اللّٰه لبعض عباده أجرا أو عقابا كي يرده إلى الطريق السليم فيكون ذلك لصالحه. إنه يذيقه حلاوة الطاعة كي يزداد منها، كما أنه قد يذيقه مرارة العذاب كي يرده إلى العدل و الاستقامة... إنه اللّٰه تعالى الذي خلق الدنيا و يعلم ما يصلحها مما يفسدها.

ثم إن الإمام يلفت النظر إلى أنه إذا أشكل علينا شيء و لم نفهم وجه الحكمة فيه، و لم ندرك أسراره و أبعاده، فعلينا أن لا ننكره و نجحد تشريعه و نرفض قبوله... و كأن الإمام ينظر إلى نماذج عاشت معه و مرت في هذا الطريق، كما نرى نحن اليوم الجهلة و أنصاف المتعلمين كيف يرفضون بعض الأحكام لمجرد أنها لا تعجب أذواقهم و لا تتوافق مع رغباتهم... إننا نرى و نبصر و تمر علينا الدمى المتحركة التي تقوم في كل مكان و محل، و في كل شارع و زاوية تارة تعترض على هذا الحكم... و أخرى ترفض ذلك الحكم... و ثالثة تشكك في أحقية هذه القضية و هكذا دواليك... و يا ليتها تمتلك الرصيد العلمي الذي يبيح لها جواز الكلام و الحديث في هذا المضمار... ليتها تمتلك مقومات إبداء النظر و حق النقض و الإبرام... إنها عزلاء من كل أسلحة العلم و المعرفة لا تمتلك إلا كلمة (لا...) رفضا لكل ما لا يعجبها، و قد تكون في بعض الأحيان مدفوعة بحب الظهور و المخالفة من باب (خالف تعرف...) إن هذه الطبقة من الناس، و إن لم يكن لها الحق في الرفض و النقض و لكنها للطلاء الذي موهت نفسها فيه، و هو طلاء الثقافة العصرية، قد غرت الكثير من الناس بآرائها، و صورت لهم أنها بما حصلت عليه من شهادات مزورة، و ثقافة فارغة، تمتلك حق ابداء وجهات النظر...

و أما الطبقة الواعية الجديرة بحق النقض و إبداء الرأي، هذه الطبقة تحترم نفسها و عقلها و لا تقدم على رفض رأي إلا بعد أن تقيم الأدلة الناطقة على رفضه... إنها تبقى في حالة توقف دون رأي حتى يتضح الأمر كنور الشمس، و حتى يسطع الدليل و البرهان كفلق الصبح... إنها تحترم عقلها و رأيها، فلذا تتوقف عن إصدار الأحكام حتى تتيقن منها... إن الطريقة العلمية التي تسد جميع الاحتمالات في المسألة المعروضة و تبرهن

ص: 298

على صحة رأيك من خلال الدليل عليه هي الطريقة التي يسلكها العلماء و المحققون فإذا لم يسدوا جميع المنافذ المحتملة التي تخالف رأيهم لا يستطيعون إبداء رأيهم و وجهة نظرهم...

إن الإمام في حديثه هنا يريد أن يقرر حقيقة عقلانية، فيقول (إذا أشكل عليك شيء من ذلك) و لم تقدر أن تصل إلى حقيقته بعقلك و بصيرتك فلا تجحده و لا تنكره و لا ترده لأنك أول ما خلقت جاهلا، خلقت طفلا لا تمتلك ذرة من العلم و الثقافة، ثم بالتدريج تعلمت... إنك كنت جاهلا لا تمتلك أي شيء من العلم، ثم تدرجت في المعرفة حتى صرت تعرف بعض الأمور، و لكن ما أكثر ما تجهل! فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك فإنك أول ما خلقت جاهلا ثم ما أكثر ما تجهل من المعلومات...

إنك لم تحط بجميع العلوم و الفنون و مختلف الفروع و الشئون... إن كنت تمتلك ناصية علم الطب فأنت في غيره قد تكون جاهلا، و إن كنت مخصصا في الهندسة فقد تكون في الفيزياء أميا جاهلا، و هكذا دواليك، و اللّٰه سبحانه و تعالى يقول: «وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً» و يخاطب اللّٰه رسوله قائلا: «وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» و يقول تعالى: «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ » . و يقول الشاعر:

فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة *** حفظت شيئا و غابت عنك أشياء

(و اعلم يا بني أن أحدا لم ينبىء عن اللّٰه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول - صلّى اللّٰه عليه و آله -، فارض به رائدا، و إلى النجاة قائدا، فإني لم آلك نصيحة. و إنك لن تبلغ في النظر لنفسك - و إن اجتهدت - مبلغ نظري لك) سبقت الهداية البشرية. و من اليوم الأول الذي خطت قدم الإنسان على هذه الأرض كانت النبوة معه تتقدم ركب الحياة هادية لئلا يكون للناس على اللّٰه حجة. و النبوة تعني السفارة بين اللّٰه و بين الإنسان تتلقى الأحكام و تأخذ الوصايا و التشريعات ثم تبلغها أهلها، و قد تعددت النبوات و تكثرت حسب الظروف و الأحوال التي مرت بها البشرية، و قد كان خمسة من بين ذلك الرعيل يمثلون قمة النبوة سموا أولو العزم، باعتبار أن دعوتهم عامة و شاملة لم تقتصر على شعب و لا وطن. و كانت كل رسالة لاحقة تنسخ الرسالة السابقة حتى وصل الأمر إلى رسالة الإسلام التي جاء بها رسول اللّٰه محمد عن اللّٰه، فكانت الرسالة الخاتمة و المهيمنة على جميع الرسالات، كانت هذه الرسالة هي الرسالة العالمية التي لم و لن تنسخ بغيرها من الأديان و الرسالات... إنها رسالة اخترقت الزمان و المكان و تجاوزت الأجناس و الألوان و بنت قواعدها على أسس متينة قوية لا مجال فيها لعنصرية أو طائفية أو امتيازات عشوائية...

ص: 299

الإسلام رسالة الدنيا و الآخرة، نظرت إلى الإنسان فوضعت له ما يسعده و يحييه و يأخذ بيده نحو التكامل و السمو...

إذا جئت إلى العبادة رأيت الاتصال باللّٰه يتمثل في عالم الصلاة و الزكاة و الحج و غيرها مما يقرب منه و يوثق العلاقة و الاتصال. إنك تجد هذا المخلوق الضعيف الصغير يتصل باللّٰه القوي الكبير، تجد المناجاة ينطلق بها لسان المؤمن ليعبر عن قلبه و ضميره بأعظم صور الاتصال و اللقاء، إنه لقاء متى أحببته تحقق و متى أردته صار... ليس بينك و بينه كهنة و لا قساوسة و لا وسائط بل إنك تستطيع أن تطرق أبواب رحمته و تخلو معه في كل آن... إنك تستطيع أن تدعوه فيستجيب لك و تشكره فيزيدك... إنك تجد في كل واحدة من العبادات ما يسمو بك و يأخذ بروحك صفاء و طهرا و نزاهة... فعند ما تقف في صلاتك لتقول في كل فريضة: إياك نعبد و إياك نستعين، معناه أنك تتمرد على كل طاغية أو فرعون يريد أن يعلو على الإنسان و يدعي الربوبية أو الحكم بغير ما أنزل اللّٰه. إن وقفتك أمام اللّٰه و مناجاته بهذه الصيغة العظيمة ذات المدلول العميق تريد أن تقول لكل الجبابرة و المستبدين إننا براء منكم و من أعمالكم و من كل مخالفاتكم التي تعصون اللّٰه بها... إنها وقفة عز بل وقفات عز إذا اعتادها المسلم يرفض أن يقف غيرها من مواقف الذل و الاستهانة...

و إذا جئت إلى الصوم فهو رياضة روحية و بدنية تتجلى في ترك ملذات الحياة و شهواتها من أجل اللّٰه و في سبيله و في ذلك تغلب على الذات و ترفع عن كل ما يشد هذا الإنسان نحو المأكل و المشرب الذي يتقاتل عليه الناس و تجري بينهم الحروب من أجله...

و أما الحج فالق النظر نحوه و اعتبر بكل فعل تقوم به و خذ درسا فذا لن تهتدي إليه في غيره... ابتداء من التلبية التي تقول فيها: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك...» ردد هذه الأنشودة و عش معها بعض الوقت و تخيل بل تحقق أن هناك نداء من رب العزة يدعوك إليه و أنت الآن تستجيب له و تقول لبيك...

و إذا أردت أن تطوف بالبيت فتمثل الفضيلة و تمثل طوافك حولها، و إذا رجمت الشيطان فتمثل الرذيلة و تمثل رجمك لها... هذه دروس عملية لإحياء الفضيلة و القضاء على الرذيلة يتخذها المسلم في حياته كي يطبقها في الحج و غيره من جميع شئون الحياة... و هكذا غير هذه الأمور من العبادات...

و أما المعاملات فللإسلام قصبة السبق فيها. ارم ببصرك نحو المتاجر فتجد

ص: 300

المعاملة الصحيحة من الفاسدة... اقرأ شروط الصحة و موانعها... ابتداء من العقد المتضمن لصيغته و كيف يجب أن تكون إلى شروط المتعاقدين و ما يجب أن يكونا عليه، إلى العوضين أنفسهما و ما يجب أن يتوفر فيهما...

انظر إلى المساقاة و المزارعة و المضاربة و الشركة و الهبة و الهدية و الصلح و غيرها من الأبواب التي تقف أمامها مشدوها مأخوذا بروعة الإسلام و عظمة تعاليمه...

و إذا جئت إلى الحدود و الديات و القصاص و الميراث و النكاح تجد التكامل الرائع الذي يتمثل في الإسلام عقيدة و نظاما حكما و إدارة...

إن الإسلام هو الأطروحة الإلهية الخاتمة التي تكاملت من جميع جوانبها فجاءت علاجا واقيا لهذا الإنسان من كل ضلال و انحراف... هذه الأطروحة الكاملة لم تستطع أن تبلغها رسالة موسى أو رسالة عيسى أو غيرهما من رسالات الأنبياء... إن محمدا قد حمل هذه الرسالة و استوعبها قلبه الكبير و استطاع أن يبلغها للناس، فهو قد بلّغ عن اللّٰه ما لم يبلغه غيره من الأنبياء... ففي حين نجد النبوات المتقدمة جاءت علاجا لفترة معينة نجد الإسلام هو العلاج الدائم لكل الأزمنة و الأمكنة و الناس و ما ذلك إلا لعظمة تشريعاته و علوها فإنها الغذاء الذي لا يستغني عنه إنسان اليوم كما لا يستغني عنه إنسان الغد...

و إذا كان النبي هو الذي أدى عن اللّٰه ما لم يؤده رسول قبله فأحرى بهذا الإنسان أن يرضى به رائدا يقوده إلى الخير و يرشده إلى النجاة. و كيف لا يكون النبي كذلك و قد تحققت على يديه أعظم المعجزات، إنه صنع من أولئك الأعراب الذين كانوا يتيهون في الصحراء، يعيشون على السلب و النهب، يعبدون الأصنام و يتمسحون بها و يقربون لها القرابين... صنع من الجفاة الحفاة أمة من أرقى الأمم، صنعهم قادة الدنيا و رواد الحياة، تقرأ في كل واحد منهم معلما و رائدا... تقرأه زاهدا عابدا و فارسا بطلا...

تقرأه باكيا من خشية اللّٰه، مستهزئا بأعظم ملوك الدنيا و سلاطينها... كبر اللّٰه في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم... إنهم اقتدوا بالنبي فكان أن تطوعت الدنيا لخدمتهم فاقتلعوا قصور كسرى كما هدموا مجد قيصر، و حملوا الإسلام رسالة لهم في الحياة يريدون أن يخرجوا بها العباد من ذل العبادة لغيره إلى عز الطاعة له فكانت المعجزة التي استطاع النبي أن يحققها حيث بسط الإسلام ذراعيه في أقل فترة زمنية على شرق الأرض و غربها... عند ما سار المسلمون خلف النبي و ارتضوه قائدا و رائدا... و أما عند ما رفضنا قيادته و أنكرنا الإسلام مصدرا للحكم و التشريع، و نبذنا القرآن خلف ظهورنا، بل عند ما حاربنا الإسلام و الإيمان، و أخذت بنا الطريق ذات اليمين تارة و ذات اليسار أخرى، كانت النتيجة التي نحن فيها، الذل... العار... الاستعباد... الامتهان...

ص: 301

الاحتقار... أصبحنا ريشة في مهب الرياح كيف اتجهت اتجهنا معها دون استقلالية في رأي أو عز في موقف أو بطولة في حلبة... لقد تلاعبت بنا الدول فأضحينا نعيش على فتات موائد الدول الكبرى، هي التي تنصب الطغاة علينا، و هي التي تحرمنا حقوقنا بل أبسط حقوقنا و أيسرها... لم يعد لنا من رأي يسمع أو كلمة يؤخذ بها... حتى وصل الأمر أن اجتمع شذاذ الآفاق من أقطار الدنيا و التقى الشتات اليهودي من أطراف المعمورة من أوروبا و أمريكا و إفريقيا و آسيا و كل زاوية في العالم، التقى اليهود الذين لم يجتمعوا في زمن و لم يتوحدوا في مكان، اجتمعوا... و كوّنوا دولة في قلب العالم الإسلامي. و ها هي اليوم تتوسع و تتوسع و ستبقى في توسعها إن لم يرجع المسلمون إلى دينهم و أصالتهم الإسلامية... إن هؤلاء اليهود لم يستقروا في بلاد الإسلام إلا أهل ذمة... فقد قضى الإسلام على شرورهم و مكايدهم و حيلهم... نعم الإسلام...

و ليس العرب... الإيمان باللّٰه و برسوله و كتابه و العمل بمضمون هذه الرسالة... و ليس باليمين و لا باليسار و لا بالمبادىء المستوردة... إذا أردنا أن نتحرر و نحرر بلادنا فليس أمامنا من خيار غير الإسلام فكما تحررنا سابقا نتحرر الآن و كما قضينا على مكر اليهود و غدرهم نقضي عليهم الآن... نعم إذا حفظنا وصية الإمام في قوله: و اعلم يا بني أن أحدا لم ينبىء عن اللّٰه سبحانه كما أنبأنا عنه الرسول - صلّى اللّٰه عليه و آله -، فارض به رائدا و إلى النجاة قائدا...

فمن اتخذ الرسول قدوة له في حياته يترسم خطاه و يقتدي بهداه، و حول الإسلام إلى لحم و دم يتحرك في إهاب إنسان، إذا استطاع هذا الإنسان أن يتغلب على نفسه و هواه و يشق الطريق قدما نحو القمة السامقة التي تمثلث بالإسلام فلا شك في أنه سيفلح و ينجح و يحقق المعجزات...

ثم إن الإمام (ع) يلقي في الفقرة الأخيرة في روع ولده نصيحة عظيمة لقبول قوله و هي أنه لم يقصر في النصيحة له، و هل مثل أمير المؤمنين يشك في إخلاصه و معرفته و في تجربته و خبرته، و هو الذي إن قال فصل و إن حكم عدل... لم يعثر له الدهر على زلة و لم يكب في موطن، و كيف يعثر أو يكبو و هو تلميذ النبوة الفذ الذي رافق مسيرتها الطاهرة من طفولته و نعومة أظفاره و تلقى تعاليم هذه الشريعة بندا بندا و دستورا دستورا... حتى قال النبي فيه: «أنا مدينة العلم و علي بابها». و قال - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «أقضاكم علي» و قال هو عن نفسه: «علمني رسول اللّٰه ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب» فعلي الذي شرب الإسلام مع حليبه لا و لن يقع في خطأ مع ما وفقه اللّٰه إليه من العصمة و السداد في الرأي و الصواب في القول و العمل... و من كان

ص: 302

بهذه المرتبة العالية التي بلغت الرقم القياسي إذا نظر في أمر لا بد من أن يعود منه بالوجه الصحيح و السليم، و لن يكون لغيره ممن ينظرون لأنفسهم عمق نظرته و سعتها لأن نظره لهم كان عن خبرة و دراية و دخول إلى بواطن الأمور و حقائقها... فربّ ناظر لنفسه بعين الشهوة و الرغبة، و ربّ ناظر آخر ينظر بعين المنفعة و الربح المؤقت ناسيا خلفيات و سلبيات هذا الاختيار. و كم يكون الفرق شاسعا بين إنسان اختبر الحياة و وقف على مجاري الأمور و مداخلها و مالها و ما عليها. و بين آخر نظر إليها نظرة سطحية من الخارج! فلا شك في أن نظر الأول أشد صوابا و أقرب إلى الحق من إنسان يعيش على هامش الأمور و ظواهرها. فالإمام يريد أن يقول لنا أن توجيهاته و نصائحه و تعليماته و إرشاداته أقوى و أعظم و أشد صوابا من نصائحنا و إرشاداتنا لأنفسنا... و إننا مهما بالغنا في البحث و الاستقصاء فلن نبلغ مبلغ بحثه و استقصائه...

(و اعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله و لرأيت آثار ملكه و سلطانه، و لعرفت أفعاله و صفاته، و لكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضاده في ملكه أحد و لا يزول أبدا و لم يزل. أول قبل الأشياء بلا أولية و آخر بعد الأشياء بلا نهاية. عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر) الإسلام ليس معناه أن تؤمن باللّٰه فحسب، و إنما جوهر هذا الإيمان وحدانية اللّٰه و تنزيهه عن الشريك فإن لا إله إلا اللّٰه نفي لكل إله في الكون ما عدا اللّٰه... و الإيمان باللّٰه الواحد الأحد قامت البراهين عليه نذكر منها:

الأول: إنهما لو كانا اثنين و أراد أحدهما تحريك جسم مثلا و أراد الآخرة أن يسكن فإن وقع المرادان اجتمع النقيضان، و إن لم يقع شيء منهما ارتفع النقيضان، و إن وقع أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح و الكل محال.

الثاني: إننا نرى وحدة النظام و التوافق التام بين جميع أجزائه من صغيرها إلى كبيرها، من قمرها و شمسها و بحارها و أنهارها إلى كل ذرة في الكون. و هذا النظام و التنسيق و الترتيب لم يحصل و لن يحصل لو كان هناك إلهان، بل يؤدي وجودهما إلى فساد السماوات و الأرض إذ كل واحد يستقل برأيه و ينفرد بصنعه، و هذا يؤدي إلى الفساد و الضلال، فمن وحدة النظام و تناسقه نستدل على وحدة الصانع و هذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا» ... و قد قال الإمام الصادق عند ما سأله هشام بن الحكم: ما الدليل على أن اللّٰه واحد؟ فقال: اتصال التدبير و تمام الصنع كما قال عز و جل: «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا» .

الثالث: إجماع الأنبياء فإنه لم يأت نبي من الأنبياء يدعي أنه من عند غير اللّٰه

ص: 303

الواحد الأحد و هذا ما أشار إليه الإمام في حديثه هنا بقوله: «لو كان لربك شريك لأتتك رسله».

الرابع: لو كان للّٰه شريك لزم التركيب في ذات اللّٰه و انتفى وجوب وجوده بل أضحى ممكنا و هذا غير اللّٰه الذي نعتقد بوجوب وجوده، و ذلك أنهما يشتركان في كونهما واجبي الوجود كما يشترك الإنسان مع غيره في الحيوانية، فلا بد من مائز يميز بين المشتركين كما يميز الصاهل الفرس عن الإنسان و إلا لما حصلت الاثنينية. و متى ثبت المائز حصل التركيب لاشتراكهما في جنس و افتراقهما في فصل، و المركب من الجنس و الفصل ممكن فيكون الواجب ممكنا و هذا خلف...

و هناك أدلة عقلية كثيرة على نفي الشريك. و أما القرآن الكريم فهو مشحون بالأدلة الصارخة على وحدانية اللّٰه و أنه لا شريك له. قال تعالى: «قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» و قال تعالى: «أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ» ....

و قال تعالى: «وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ » . و قال اللّٰه تعالى: «لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتُلْقىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً» . فاللّٰه سبحانه واحد في ذاته واحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه و قد نطق القرآن بكفر من اتخذ التثليث عقيدة له، قال تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلاٰثَةٍ » .

و من هذا البيان العقلي و القرآني يتوجه الحديث نحو النصارى الذين يقولون بالأقانيم الثلاثة: (الأب و الابن و روح القدس)، و يقولون: إن الثلاثة يصبحون واحدا و الواحد ثلاثة... إنه المسخ للعقول و القلوب و الضرب عليها بالعمى و الضلال. كيف يصبح الثلاثة واحدا و الواحد ثلاثة ؟ و ما دور كل واحد منهم في تدبير العالم ؟ إنها سخافات وثنية دخلت النصرانية و أين هذه الضلالة من الفطرة الإنسانية التي تصرخ بوحدانية اللّٰه الذاتية و الصفتية! و ما هذا التهافت البين بين الثلاثة و الواحد؟ و كيف تقبلها عقول العقلاء منهم ؟ بل كيف يسكتون على هذا الإسفاف و الهبوط إلى الحضيض في الرؤى و الفكر.. حاشاك يا رب أن يكون لك شريك و أنت القوي المطلق. ثم إنه لو كان للّٰه شريك لكان له صفات خاصة يمتاز بها عن غيره، ثم رأيت آثار ملكه و سلطانه، و لكن بما أن كل تلك الأفعال و الصفات و الآثار لم تظهر فإنا نستدل من عدمها على عدم وجوده و من فقدانها فقدانه.

ثم إن الإمام وصف اللّٰه تعالى بقوله: «و لكنه آله واحد كما وصف نفسه» و ليس مقصوده بالواحد المقابل للاثنين العددي إذ لا يمكن فرض الثاني حتى يقاس الواحد به بل هو واحد واجب الوجود و هذا هو الذي يفسره الحديث الوارد عن كتاب التوحيد كما

ص: 304

يروي الشيخ الصدوق حيث يقول: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن اللّٰه واحد؟! قال: فحمل الناس عليه، و قالوا: يا أعرابي أما نرى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟.

فقال أمير المؤمنين (ع): دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم.

ثم قال: إن القول في أن اللّٰه واحد على أربعة أقسام، منها وجهان لا يجوزان على اللّٰه عز و جل و وجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: إنه ثالث ثلاثة. و قول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه و جلّ ربنا و تعالى عن ذلك.

و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربنا، و قول القائل: إنه عز و جل أحديّ المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم كذلك ربنا عز و جل.

و اللّٰه سبحانه الذي هو واجب الوجود و مبدع الوجود لا يمكن لأحد أن يضادّه في ملكه، فبيده عالم التكوين و عالم التشريع، بيده خلق الكائنات بكلمة (كن) يكون كل شيء، كما أن الأمر و النهي بيده فهو الذي أرسل الأنبياء و أنزل الكتب و ليس لأحد من خلقه أن يتصرف تكوينا أو تشريعا إلا بإذنه و أمره.

كما أنه سبحانه و تعالى: «لا يزول أبدا و لم يزل أول قبل الأشياء بلا أولية و آخر بعد الأشياء بلا نهاية»، و معنى أنه لا يزول أبدا و لم يزل هو عين ما عبر عنه المتكلمون عند حديثهم عن صفاته تعالى حيث يقولون: إنه قديم أزلي بمعنى أنه لا أول لوجوده، باق أبدي بمعنى أنه لا آخر لوجوده و ذلك لأنه واجب الوجود لذاته فيستحيل عليه تطرق العدم السابق و اللاحق و إلا لما كان واجبا.

و قول الإمام: «أول قبل الأشياء بلا أولية و آخر بعد الأشياء بلا نهاية» بمثابة التفسير لقوله تعالى: «هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ» ... «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » ، يعني ليس قبله شيء و لا بعده شيء.

ثم إن الإمام يصف اللّٰه بما هو حقه حيث يقول: «عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر»، و هذا ما أشار إليه القرآن الكريم حيث يقول: «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ» و يقول أمير المؤمنين في فقراته التوحيدية عند ما يسأله ذعلب اليماني قائلا له: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين:

ص: 305

أ فأعبد ما لا أرى ؟ فقال: و كيف تراه ؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكنه تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد عنها غير مباين، متكلم لا بروّية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة... و يقول في موضع آخر من نهجه:

الأول لا شيء قبله، و الآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة و لا تعتد القلوب منه على كيفية، و لا تناله التجزئة و التبعيض و لا تحيط به الأبصار و القلوب...

و يقول في موضع آخر: لا يدرك بوهم و لا يقدر بفهم لا يشغله سائل، و لا ينقصه نائل، و لا ينظر بعين و لا يحدّ بأين، و لا يدرك بالحواس و لا يقاس بالناس...

و يقول عليه السلام أيضا: أول الدين معرفته - معرفة اللّٰه - و كمال معرفته التصديق به و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف اللّٰه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه، فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزأه، و من جزأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال: فيم فقد ضمّنه، و من قال: علام ؟ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة و غير كل شيء لا بمزايلة فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة بصير إذ لا منظور إليه من خلقه...

و مضافا إلى ذلك فإن المرئي محدود و يكون جسما و الجسم محتاج. و اللّٰه سبحانه غني غير مركب و لا محتاج إلى أجزائه كما أنه ليس محتاجا لغيره.

و اللّٰه سبحانه بنفسه ينفي رؤية الناس له حيث نفاها عن أقرب المقربين إليه و هم الأنبياء، ففي جواب موسى حيث طلب الرؤية بقوله: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ » فقال تعالى: «لَنْ تَرٰانِي» ...

فربوبية اللّٰه و هيمنته على الوجود و إثبات صفاته من علم و قدرة و حياة و وحدانية و غيرها من صفات الكمال أو صفات الجلال كلها تثبت بالفطرة، و بدليل العقل و الوجدان و بسائر الأدلة الأخرى التي يقر الإنسان و يعترف من خلالها بأن اللّٰه وحده الصانع المكوّن، و أما أن ترى اللّٰه كما ترى غيره من الأشياء و الأمور المحسوسة فهذا يتناقض و عقيدتنا الإلهية في الإسلام. و من هنا يبطل ادّعاء من يقول أن المسيح هو اللّٰه... و كيف يكون العاجز ربا و كيف يكون المخلوق ربا؟... و كيف يكون المحتاج ربا؟ و كيف يموت هذا الإله و كيف يطرأ عليه الصلب بزعمهم ؟ إن ربا لا يدفع الصلب و القتل عن نفسه هذا - ليس ربا يستحق العبادة أو التوجه نحوه. إن ربنا تعالى جل ذكره

ص: 306

هو الواحد الأحد الذي لا شريك له و لا ندّ، و لا والد له و لا ولد و لا صاحبة، و هو الغني المطلق و الحي المطلق و القوي المطلق و العليم... و بعبارة جامعة هو الواجب الوجود الغني عن كل موجود...

(فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، و قلة مقدرته و كثرة عجزه، و عظيم حاجته إلى ربه في طلب طاعته و الرهبة و الخشية من عقوبته و الشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلا بحسن. و لم ينهك إلا عن قبيح) من طبيعة الإنسان أنه إذا رأى نفسه في معرض الضرر أو الخطر حاول قدر استطاعته أن يدفع هذا الخطر و الضرر، و خصوصا إذا كان هذا الضرر و الخطر صادرا عن شخص ذي شأن كبير يستطيع أن يبطش و بيده القوة و المنعة. فإن المواطن الاعتيادي يخاف الدولة و يحسب لها حسابها و يحاول في كل قضية أن يجد مبررا قانونيا له إذا تصرف في أمر أو أقدم على فعل. و يتصور أن مخالفته ستؤدي به إلى العقاب من سجن أو تغريم أو قتل على حسب اختلاف الجرم الذي يرتكبه هذا ما نراه أمامنا و نعيشه في واقعنا و مع أنفسنا.

و لكن كيف نتعامل مع اللّٰه اللّٰه سبحانه و تعالى يملك كل شيء و بيده كل شيء، و قادر على كل شيء، و عالم بكل شيء، و لا يعجزه شيء، يرفع من يشاء، و يخفض من يشاء، يعز من يشاء و يذل من يشاء، يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك ممن يشاء، و الإنسان، هذا المخلوق، الضعيف... الفقير، المسكين... الجاهل، العاجز، لا يملك لنفسه حياة و لا موتا... و لا بعثا و لا نشورا، لا يملك أن يدفع عنها ضرا أو يجلب لها نفعا... فتراه قويا يهدّ و يرعد و يقتل و يفتك، و إذا به لألم بسيط في جسده أو وجع قليل في بدنه، يرتمي أرضا يصيح و يستغيث و يستنجد و يستصرخ... مسكين ابن آدم تقتله الشرقة و تؤلمه البقة و تنتنه العرقة كما يقول أمير المؤمنين، هذا الإنسان لا يقاس باللّٰه... فلا قوة له و لا حول أمام قوة اللّٰه و حوله و لا يملك شيئا اتجاه ملك اللّٰه و سلطانه، و لا وجود له إلا بمقدار ما يسمح اللّٰه له بالوجود، و لا حياة له إلا بما يسمح اللّٰه له من الحياة، و لا غنى إلا بما أغناه اللّٰه و لا عطاء إلا بما أعطاه اللّٰه، و لا شي له إلا بما أذن به اللّٰه، إذا عرف الإنسان قدره و عرف منزلته و مستواه و عرف في المقابل ربه، و ما هو فيه، و ما يتمتع به من صفات، حق لهذا الإنسان أن يتعامل معه بما هو أهله و بما هو حق له أن يعامل. هذا المخلوق ذو الصفات الخالصة التي لم يوفرها لنفسه و لم يحصل عليها بجهده كيف يتعامل مع ربه و خالقه ؟ هل يتعامل معه معاملة الجاحد لربوبيته، المنكر لفضله و إحسانه، الذي يرفض الاعتراف به و الإيمان بوجوده، أم أنه يؤمن به و يصدق حكمه و يعمل بأمره و نهيه. إن العاقل، بل العقلاء جميعا يقفون أمام هذه القضية عند رأي

ص: 307

واحد... الإيمان به و التصديق بوجوده و العمل بمقتضى أمره و نهيه. العقلاء يقفون أمام اللّٰه وقفة الصغير المطلق مقابل الكبير المطلق، وقفة المحتاج أمام الغني المطلق، وقفة الضعيف أمام القوي المطلق، و إن كل وقفة تقفها أمام ربك و بمقدار تصاغرك أمامه تزداد عزا و رفعة أمام غيره من الطواغيت و الفراعنة و أنصاف الآلهة...

الإنسان العاقل إذا عرف ربه و عرف صفاته، صفات ذاته أو صفات أفعاله، يجب أن يتعامل مع هذه المعرفة على حقيقتها و واقعها. إذا عرف أن اللّٰه قوي و هو ضعيف، يجب أن يتعامل على أساس هذه المعرفة، فلا يطغى في قوته و لا يتجاوز على الآخرين من منطلق قدرته و قوته. و إذا عرف أن اللّٰه هو الغني و أن نفسه فقيرة يجب أن يتعامل مع غنى اللّٰه و فقر نفسه على حقيقته، يعترف أن اللّٰه هو الغني و بيده العطاء، و أن ما بيد هذا الإنسان كله من اللّٰه و من فيض عطائه، فلا يبخل بما أمر اللّٰه به من العطاء لعباده و لا يشح عليهم بما في يديه لأن ذلك من اللّٰه و هو قادر أن يسلبه في لحظة واحدة من لحظاته، يجب على الإنسان أن يتعامل مع اللّٰه في إطاعته و امتثال أوامره و أن لا يتراخى أو يتهاون في هذا الأمر، فإن اللّٰه إذا أمر بفعل أو نهى عن آخر فإنه لا يأمر إلا بحسن و لا ينهى إلا عن قبيح. و من كانت أوامره و نواهيه بهذه الصفات حق أن يطاع في أمره أو نهيه، لأنه و مهما وصلت عقول الناس إلى بعض الأمور فلن تصل إلى درجة المواجهة بين رأي اللّٰه و رأي عبد ضعيف من عباده. و ما قيمة رأي يخرج عن إنسان ممكن يعرض عليه الخطأ و النسيان في مقابل رأي اللّٰه الخالق المبدع الواجب الوجود الذي كله خير و كله علم و حلم و كله صفات كمال و جمال...

(يا بني إني قد أنبأتك عن الدنيا و حالها و زوالها، و انتقالها، و أنبأتك عن الآخرة و ما أعد لأهلها فيها، و ضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها و تحذو عليها. إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأموا منزلا خصيبا و جنابا مريعا، فاحتملوا و عثاء الطريق و فراق الصديق و خشونة السفر و جشوبة المطعم ليأتوا سعة دارهم و منزل قرارهم، فليس يجدون لشيء من ذلك ألما، و لا يرون نفقة مغرما، و لا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم و أدناهم من محلتهم. و مثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب فليس شيء أكره إليهم و لا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه و يصيرون إليه) الحديث عن الدنيا ذو شجون لا يكاد المرء يسد بابا إلا انفتحت له أبواب، و لا يكاد ينتهي من الكلام عن جهة إلا و تجدد له الحديث عن جهات و جهات. و نحن هنا سنستعرض بعض ما ورد في ذمها، كما سنستعرض

ص: 308

بعض ما ورد فيها من المدح و نخلص في النتيجة إلى عملية الجمع بينهما و تحديد وجهة النظر الإسلامية التي يريدها اللّٰه و يطلبها منا...

ذم الدنيا:

ذم اللّٰه الدنيا ذما شديدا و نفر منها تنفيرا قويا و حذر منها أولياءه و ضرب لهم الأمثال حتى لا تستعبدهم فتستذلهم...

- قال تعالى: «زُيِّنَ لِلنّٰاسِ حُبُّ اَلشَّهَوٰاتِ مِنَ اَلنِّسٰاءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَنٰاطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعٰامِ وَ اَلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا» (1).

- قال تعالى: «أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ» (2).

- قال تعالى: «مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمٰالَهُمْ فِيهٰا وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يُبْخَسُونَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّٰارُ وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا فِيهٰا وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ » (3).

- قال تعالى: «فَأَمّٰا مَنْ طَغىٰ وَ آثَرَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوىٰ » (4).

- قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ فَلاٰ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا وَ لاٰ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ اَلْغَرُورُ» (5).

- قال تعالى: «وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً اَلْمٰالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْبٰاقِيٰاتُ اَلصّٰالِحٰاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً» (6).

- قال تعالى: «وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتُهٰا وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ أَ فَمَنْ وَعَدْنٰاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاٰقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنٰاهُ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ » (7).

ص: 309


1- سورة آل عمران، آية - 14.
2- سورة الحديد، آية - 20.
3- سورة هود، آية - 15-16.
4- سورة النازعات، آية - 40.
5- سورة فاطر، آية - 5.
6- سورة الكهف، آية - 45-46.
7- سورة القصص، آية - 61.

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «لو كانت الدنيا تعدل عند اللّٰه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «من أصبح و الدنيا أكبر همه فليس من اللّٰه في شيء و ألزم اللّٰه قلبه أربع خصال: هما لا ينقطع أبدا، و شغلا لا ينفرغ منه أبدا، و فقرا لا ينال منه أبدا، و أملا لا يبلغ منتهاه أبدا».

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «الدنيا دار من لا دار له و مال من لا مال له و لها يجمع من لا عقل له و عليها يعادي من لا علم عنده و عليها يحسد من لا فقه له و لها يسعى من لا يقين له».

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «لتجيئن أقوام يوم القيامة و أعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار فقيل: يا رسول اللّٰه: أ مصلين ؟ قال: نعم! كانوا يصومون و يصلون و يأخذون هنيئة من الليل فإذا عرض لهم من الدنيا شيء وثبوا عليه.

- قال أمير المؤمنين في نهجه: «ألا و أن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها و ترغبون فيها و أصبحت تغضبكم و ترضيكم ليست بداركم و لا منزلكم الذي خلقتم له و لا الذي دعيتم إليه. ألا و أنها ليست بباقية لكم و لا تبقون عليها، و هي و إن غرتكم منها فقد حذرتكم شرها فدعوا غرورها لتحذيرها، و أطماعها لتخويفها، و سابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها و انصرفوا بقلوبكم عنها، و لا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوي عنه منها».

- و يقول عليه السلام: «و لقد كان رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كاف لك في الأسوة و دليل لك على ذم الدنيا و عيبها و كثرة مخازيها و مساويها إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت لغيره أكنافها و فطم عن رضاعها و زوي عن زخارفها.

- و قال عليه السلام: «دار بالبلاء محفوفة، و بالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها و لا يسلم نزّالها...».

- و قال عليه السلام: «و أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة و ليست بدار نجعة، قد تزينت بغرورها و غرت بزينتها، دارها هانت على ربها فخلط حلالها بحرامها، و خيرها بشرها، و حياتها بموتها، و حلوها بمرها. لم يصفها اللّٰه تعالى لأوليائه و لم يضنّ بها على أعدائه. خيرها زهيد و شرها عتيد، و جمعها ينفد، و ملكها يسلب و عامرها يخرب فيما

ص: 310

خير دار تنقض نقض البناء».

- و قال عليه السلام: «الدنيا دار ممر لا دار مقر و الناس فيها رجلان، رجل باع فيها نفسه فأوبقها و رجل ابتاع نفسه فأعتقها».

- و قال الصادق عليه السلام: «مثل الدنيا كماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله».

- قال لقمان لابنه: يا بني، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، و لا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعا. و قال له: يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها ناس كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّٰه عز و جل و حشوها الإيمان و شراعها التوكل على اللّٰه لعلك ناج و ما أراك ناجيا...

- روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز شمطاء هتماء عليها من كل زينة.

فقال لها: كم تزوجت ؟.

قالت: لا أحصيهم.

قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك ؟.

قالت: بل كلهم قتلت.

فقال عيسى: بؤسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين كيف تهلكينهم واحدا واحدا و لا يكونون منك على حذر.

هذه نبذة قليلة من الآيات و الأخبار التي وردت في ذم الدنيا فقد جعلتها عدوا للإنسان و حولتها إلى حية في جوفها السم الناقع تتحين الفرص للانقضاض على هذا الإنسان و الإجهاز عليه... الدنيا بما فيها من أشياء و ما تحويه من جواهر و أعراض كلها تشكل ثقلا على هذا الإنسان و حملا لا يستطيع القيام به أو النهوض بأعبائه...

و إننا نجد مقابل هذه الطائفة التي تتجه هذا الاتجاه طائفة أخرى تتجه باتجاه مغاير لها تماما، إذ تحض على الدنيا و تدفع الناس إلى السعي في مناكبها و الضرب في أرجائها و هذه هي عينات من تلك الآيات و الأخبار و الآثار...

- و قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ »

ص: 311

«رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ» (1) .

- قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي اَلْأَرْضِ حَلاٰلاً طَيِّباً» (2).

- و قال تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ اَلطَّيِّبٰاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ » (3).

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال».

قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «ملعون ملعون من ألقى كله على الناس».

قال الصادق عليه السلام: «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّٰه».

- قال الصادق عليه السلام: «إن اللّٰه تبارك و تعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق».

- قال الصادق عليه السلام: «ليس منا من ترك دنياه لآخرته و لا آخرته لدنياه».

- قال الصادق عليه السلام لما قيل له في رجل، قال: لأقعدنّ في بيتي و لأصمن و لأعبدّن ربي فأما رزقي فسيأتيني، قال أبو عبد الله عليه السلام: «هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم».

- و قال الإمام علي عليه السلام: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

من هاتين الطائفتين، و للنظرة الأولى، قد يتصور التنافي و التناقض، و من هنا تمسك أهل الرفض للدنيا بالطائفة الأولى فنبذوا الدنيا و جمالها و طلقوا حلالها فضلا عن حرامها و باعوا كل غال و نفيس في سبيل عتق أنفسهم منها... إنهم نظروا إليها من خلال أحاديث العداء لها و صوّروها لأنفسهم، «مثل الحية التي يلين مسّها و يقتل سمها أو مثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله، أو مثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت». و من أجل هذه المحاذير التي تترتب على من تعلقت نفسه بالدنيا نرى قوما هجروا النساء و آخرين حرموا الطيبات و نرى الدراويش ساحوا في البراري و القفار و أنسوا بالوحوش و الطيور، و نرى الصوفيين2.

ص: 312


1- سورة الملك، آية - 15.
2- سورة البقرة، آية - 168.
3- سورة الأعراف، آية - 32.

كيف لم يعد نظرهم يلتفت نحو الدنيا من قليل أو كثير، و هكذا سار قوم على هذا الخط و في هذا الاتجاه...

بينما نجد قوما آخرين بل الأغلبية الساحقة من البشر و من المؤمنين قد اتخذوا الخط الآخر فأخذوا نصيبهم من الدنيا و تمتعوا بزينتها و زخرفها فأكلوا طيباتها و تزوجوا نساءها و عاشوا في قصورها و قالوا: إذا أقبلت الدنيا كان خيارها أولى بها من شرارها.

و نحن إزاء هذين الرأيين المتنافيين نجد الإسلام يبني نظرته على خلافهما، إنه نظر بكلتا عيني الحقيقة، و لم ينظر بعين واحدة و أغمض الأخرى، إنه نظر إلى الدنيا و إلى الآخرة معا. و قال: إن الدنيا إذا طلبت من أجل الآخرة فهي الدنيا المحبوبة المرغوبة التي يريدها اللّٰه و يحبها لعباده، إذا حوّل الإنسان دنياه كلها إلى طاعات للّٰه و اكتساب مرضاته، فهي ليست الدنيا المذمومة، و إنما هي الدنيا المطلوبة للإسلام و التي يحض أتباعه عليها... و فيها يقول الإمام الصادق لمن قال له: و اللّٰه إنا لنحب الدنيا و نحب أن نؤتاها فيقول له: تحب أن تصنع بها ما ذا؟ قال: أعود بها على نفسي و عيالي و أصل بها و أتصدق بها و أحج و اعتمر.

قال الصادق: «ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة»... و في هذا المجال يقول الصادق: «نعم العون على تقوى اللّٰه الغنى».

فإذا كان الإنسان ينظر إلى الدنيا و ما فيها على أنها وسيلة يكتسب بها الآخرة و ينال من خلالها الجنة، فهذه الدنيا مرغوب فيها مطلوبة من الإنسان و بهذا نكون قد أحرزنا الدنيا للآخرة، فإن النتيجة الأخروية تتوقف على مقدار ما يكتسبه الإنسان في الدنيا من الخيرات و الحسنات و الصدقات...

و تكون الدنيا المذمومة هي تلك الدنيا التي تستعبد الإنسان و تستذله و تقطع نظره عن آخرته و لا يعود يفكر فيها، الدنيا التي تتحول عنده إلى إله يعبد من دون اللّٰه و تتحول إلى قدس من الأقداس يقاتل من أجل تحصيلها و يبذل نفسه في طلب حرامها، الدنيا التي تملك عليه رؤيته كلها و شعوره كله و نفسه كلها و فكره كله، و التي تقطع صلته باللّٰه و باليوم الآخر و لا يكون للّٰه منها نصيب هذه هي الدنيا التي يرفضها الإسلام و يذم أهلها... و لا يرضاها للمؤمنين...

إن هذه الدنيا قد غرت أجيالا و أجيالا و صرعت الملايين و الملايين من بني آدم، لقد قضت على أجدادنا و آبائنا و هي قاضية علينا و سوف تقضي على من يأتي بعدنا. لقد تصورت هذه الأرض التي أمر عليها، و فكرت في الناس الذين مروا قبلي و داسوها كما

ص: 313

أدوسها الآن، فكرت كم و كم من الأجيال قد مروا، إنهم عبروها و تركوها، كأن استقرارهم عليها لا يتجاوز طرفة عين من عمر الزمن، سفكوا الدماء عليها، لقد تمردوا على طاعة اللّٰه، و ادعى بعضهم الربوبية، تجبروا، تكبروا، تطاولوا، و اعتدوا. مرت على أرضنا أقوام من البشر، قوم نوح و لوط و شعيب و إبراهيم و موسى و عيسى. لقد مر عليها أقوام طغوا و بغوا فكانت لهم وقائع فأخذهم اللّٰه أخذ عزيز مقتدر. كان يمر في مخيلتي و يجول في ذهني شريط طويل يمتد من آدم أبي البشر إلى يومنا هذا. شريط مثقل بالمعاصي و الآثام و الانحراف و الضلال، شريط مملوء بالمحن و الكوارث و المصائب، سجل طافح بالجرائم و الطغيان. كانت هذه كلها تمر في ذهني فأزهد... و أنبذ الحياة و انتبذ جانبا مفكرا في حالي و مالي و كيف أني سأتبع تلك القوافل التي تقدمتني ممن عاشوا قبلي على ثرى هذه الأرض و فوق هضابها. كنت أفكر في الطغاة و المتمردين على اللّٰه و كيف كانت عاقبتهم من اللّٰه، كيف ضربهم و قضى عليهم. كيف انتهى أمرهم إلى شر انتهاء... كنت أحتقر الدنيا، و استصغر نفسي فيها، كنت أقول: إنني حبة رمل في صحراء واسعة شاسعة، دودة صغيرة تدب دون أن يحس بها أحد من الناس، كنت أنظر إلى أهل الدنيا و إلى سعيهم فيها، و أنظر إلى مصيرهم الذي ينتظرهم، كنت أتخيل أن تلك الوجوه المنعمة و التي يخاف عليها أصحابها من نسمة تحمل بعض الغبار، كيف يأكلها الدود و تطرح على التراب كيف يفتتها الزمن و تحللها الأيام.

و لكن بعد كل هذا التطواف السريع في الدنيا من هذه الجهة كانت تخطر ببالي صور الأنبياء الذين شرفوا الحياة و أكسبوها معنى جديدا و نكهة جديدة. كنت أتصور ذلك الرعيل المبارك من رسل اللّٰه... و أتصور جهادهم الميمون و دعوتهم الصادقة المنقذة... كنت أتصور الصالحين و المتقين الذين عاشوا على هذه الأرض و عمروها بالتقوى... و الإيمان، و الحب، و الإخلاص، الذين زرعوا على دروبها الوفاء...

و بنوا في مرابعها الصدق و الطهارة... كنت أتصور مع الأنبياء و على رأسهم سيدنا العظيم رسول اللّٰه محمد، كنت أقرأ في تعاليمهم... و أسلك دروبهم فأحلّق في عالم علوي و ارتفع إلى الشاهقات من القمم، كنت أحس أنني موصول بهم، قريب منهم، بل معهم، و بخدمتهم، كنت أشعر بالكبرياء تجذبني إلى رحابهم. فأحلم بالسعادة و أتذوق نعيمها و أرتشف من كأسها. كنت أشعر و أنا مع الأنبياء أنني كبير و يمتد عمري من أول يوم خطت قدم الأنبياء على هذه الأرض و سأبقى طالما بقي لهم أثر عليها. و كنت أشعر أنني على خط الأنبياء فتكبر نفسي و ترفرف روحي في سماء المجد و الجهاد. و أقرر الاستمرار على خطاهم و الدفاع عن ميراثهم و القتال من أجل دعوتهم. كنت أشعر بنشوة

ص: 314

المجاهد الذي ظفر بعد تعب شديد بمناله و مطلوبه... و تلك أمنيتي التي أعض عليها بالنواجذ و أوصي بها أبنائي... إنني أقول لأبنائي - علي و صادق و رضا و حسين و أخواتهم -:

يا أبنائي كونوا مع اللّٰه و في خطه... سيروا خلف الأنبياء... و على خطاهم، إن جدّكم رسول اللّٰه فخر الكائنات، قد شق لكم طريق السعادة و بيّنها لكم فما عليكم إلا سلوكها، لا تتكاسلوا، و تتهاونوا، و لا تسوّفوا، و لا تعصوا اللّٰه في ما بلّغه جدكم عنه، و اعلموا يا أبنائي، إن أردتم عز الدنيا و الآخرة، فعليكم بالدين، اعملوا بأوامره و اجتنبوا نواهيه و لا تتمردوا على أحكامه و سلطانه، اعلموا يا أبنائي أن قرة عيني أن أراكم على طاعة اللّٰه و في خدمة عباد اللّٰه تخففون الام الناس و تأخذون بأيديهم إلى رضا اللّٰه، تهدونهم إلى شريعة جدكم فإن فيها الفلاح و الفوز و النجاح. إن أحب ما أبتغيه لأولادي أن يتفرغوا لطلب العلم الديني فإن فيه متابعة للأنبياء و إكمالا لمسيرتهم المباركة الطاهرة، فإن العلماء ورثة الأنبياء و كيف لا أحب لفلذة كبدي هذا المقام الرفيع الذي يقصر عنه كل مقام آخر في الدنيا... فإنني يا أبنائي أشعر في قرارة نفسي، و كما هي قناعاتي - و اللّٰه على ما أقول شهيد - أنّ هذا المقام أجلّ مقام في نظري لأنه منصب الرسل و الأنبياء، و هم المبلغون عن اللّٰه، و الأمر بأيديهم، و كل من تقدم عليهم هلك كما أن كل من تابعهم سعد. يا أبنائي لا تغرنكم الدنيا و ما فيها من نعيم و لا تأخذكم زخارفها و زينتها، فإنه ستزول و تنقضي و لا يبقى إلا العمل الصالح. فالدنيا إذا طلب بها الآخرة فهي دنيا محبوبة يطلبها اللّٰه و يرضاها لأنصاره فيجب أن تتحول كل دنيانا إلى الآخرة، حياتنا، أكلنا، شربنا، قيامنا، قعودنا، حركاتنا، سكناتنا، لذتنا، ألمنا، يجب أن يتحول كل شيء عندنا إلى اللّٰه، و قضية تحويله إلى اللّٰه قضية سهلة ميسورة و هي أن يتوجه إليه تعالى و ينوى التقرب منه و يطلب بالعمل الدار الآخرة... ليس المطلوب منك إلا أن تغير نيتك و تقصد به وجه اللّٰه و تؤدي ما وجب عليك منه و تحوله إلى عمل نافع يخدم الإنسان و يخفف آلامه و مصائبه...

و باعتبار أن الناس يتمسكون بالدنيا و يرضعون من أثدائها و يعيشون في كنفها و تحت ظلالها، باعتبار قربها منهم و أنها تحت أيديهم، نجد تعلقهم بها و إخلادهم إليها، باعتبار تعلقهم الشديد بها و ركونهم إليها نجد أحاديث الذم و التشبيهات القاسية لها كثيرة و شديدة. و إذا كانت ردة الفعل يجب أن تكون بمقدار الفعل فيجب أن يكون التحذير منها و من أفعالها بمقدار تعلق الإنسان بها... و من هنا شبهه الإمام من خبر الدنيا و جربها بقوم سافروا من منزل جديب إلى منزل خصيب فإنهم يتجاوزون كل ما يمر عليهم من عقبات في الطريق من أجل الوصول إلى الهدف... إن كل الصعوبات التي

ص: 315

تعترض طريقهم يسهلها أملهم في الوصول إلى ذلك المرتع الخصيب و هذا هو حال من آمن بالآخرة و سعى لها سعيها في الدنيا، أما من كانت الدنيا همه و شغله فإنه مثل الذين يسافرون من منزل خصيب إلى منزل جديب فإنه يتحول من الرخاء و النعيم إلى الشقاء و الجحيم فجدير بمن يعرف نهايته و مستقره أن يختار الصالح له و ما يحقق له سعادة المنقلب و حسن الخاتمة...

إن تشبيه الدنيا قد ورد على لسان الأنبياء و الأئمة و الصالحين و نحن سنستعرض بعض تلك التشبيهات كي يتفكر فيها القارئ الكريم و يحللها في ذهنه و يخلو فيها مع نفسه ليجد صحة ذلك و يأخذ العبرة و العظة منها...

ذكر صاحب كتاب جامع السعادات.

قد شبه بعض الحكماء حال الإنسان و اغتراره بالدنيا و غفلته عن الموت و ما بعده من الأهوال و انهماكه في اللذات العاجلة الفانية الممتزجة بالكدورات بشخص مدلّى في بئر مشدود وسطه بحبل و في أسفل تلك البئر ثعبان عظيم متوجه إليه منتظر سقوطه فاتح فاه لالتقامه، و في أعلى تلك البئر جرذان أبيض و أسود لا يزالان يقرضان ذلك الحبل شيئا فشيئا و لا يفتران عن قرضه آنا من الآنات. و ذلك الشخص، مع أنه يرى ذلك الثعبان و يشاهد انقراض الحبل آنا فآنا. قد أقبل على قليل عسل قد لطخ به جدران تلك البئر و امتزج بترابه. و اجتمعت عليه زنابير كثيرة و هو مشغول بلطعه، منهمك فيه، ملتذ بما أصاب منه، مخاصم لتلك الزنابير عليه، قد صرف باله بأجمعه إلى ذلك غير ملتفت إلى ما فوقه و إلى ما تحته، فالبئر هي الدنيا و الحبل هو العمر و الثعبان الفاتح فاه هو الموت، و الجرذان الليل و النهار القارضان للعمر، و العسل المختلط بالتراب هو الذات الدنيا الممتزجة بالكدورات و الآلام و الزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها...

و روي أنه يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوّه خلقها، فتشرف على الخلائق و يقال لهم: تعرفون هذه ؟.

فيقولون: نعوذ باللّٰه من معرفة هذه فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم عليها، و بها تقاطعتم الأرحام و بها تحاسدتم و تباغضتم و أغررتم ثم يقذف بها في جهنم فتنادي: أي رب! أين أتباعي و أشياعي ؟ فيقول اللّٰه عز و جل: ألحقوا بها أتباعها و أشياعها. إن هذه الدنيا لم يجعلها اللّٰه من حظ أنبيائه و لم يجعلها أجر جهادهم و أتعابهم، و يكفي هذا ذما لها، و أن لا يتخذها الإنسان هدفا له في حياته...

(يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك

ص: 316

و اكره له ما تكره لها، و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم، و أحسن كما تحب أن يحسن إليك، و استقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، و ارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، و لا تقل ما لا تعلم، و إن قلّ ما تعلم، و لا تقل ما لا تحب أن يقال لك) هذه قاعدة تربوية يجب أن يضعها كل إنسان في لوحة مكتوبة بماء الذهب و يبقى يديم النظر إليها و يكرره في كل يوم حتى يتعمق مدلولها في داخله و ينطلق منها في سلوكه و عمله...

إن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان يشوبها الكثير من الاضطراب و تتعرض في أكثر الأحيان إلى هزات عنيفة قد تأتي على صلات القربى فتفصلها، و على روابط المحبة فتفكك عراها، و هكذا يتحول الأحباب إلى أعداء و الأقرباء إلى بعداء، و يفسد حبل الود و الوئام...

إن كثيرا من المشاكل و الأحداث تكون نتيجة لعدم إنصاف الناس و تجاوزهم عما رسم لهم، حيث يطلبون من غيرهم ما لا يؤدونه إليهم. إن عدم الإنصاف في القول و في العلم يثير الغبار بين الأخوة فيحجب الرؤى الصحيحة السليمة التي يجب أن يكون عليها كل إنسان اتجاه الآخرين.

إنك تطلب من الناس أن يحترموك و يقدروك و يقدموا لك فروض الولاء و الطاعة، و لكنك لا تكلف نفسك أن تعاملهم بالمثل. إنك تصرخ في وجوههم لأدنى بادرة سيئة منهم أو خطأ، و لكن تفرض عليهم أن يتقبلوا منك كل خطأ بل كل معصية، إنك لا تتبرع بقضاء حوائجهم بل لا تحاول قضاءها إذا طلبوها منك، غير أنك تفرض عليهم أن يتبرعوا بقضاء حوائجك دون طلب منك أو استدعاء...

إذا طلب أحد منك عارية أو دينا، منعت و بخلت، و لكن لو أنت طلبت ذلك وجب عليهم أن يلبوا طلبك بسرعة و دون إبطاء.

و هكذا دواليك إنك كما يقال: ترى القشة في عين غيرك و تنسى الجذع في عينك...

و من هذا المنطلق السيء من كونك تطلب من الناس أكثر مما تؤدي إليهم، و تريد أن تأخذ منهم أكثر مما تعطيهم، تنشأ المشاكل و تمتلئ القلوب بالأحقاد... إنك لم تنصفهم من نفسك و لم تحب لهم ما تحب لنفسك، و لم ترض لهم بما ترضى لنفسك... فلو إنك عرضت الأمر على نفسك فإن قبلته فاعرضه على الآخرين، و إلا فارفض عرضه عليهم كما رفضته لنفسك. اكره لهم ما تكرهه لنفسك و أحسن إليهم كما تحب أن يحسنوا إليك. و هكذا سائر الأفراد تندرج تحت قاعدة واحدة أصلية و هي أن

ص: 317

يجعل نفسه ميزانا يوزن به الأمور كلها. فكل ما ترتضيه نفسه و تقبله يجوز له أن يعرضه على الآخرين و يقبله لهم. فإذا أحب الظلم لنفسه - و هو لا يحبه قطعا - فليظلم غيره، و إذا كان يستقبح من نفسه أمرا فليستقبحه من الآخرين و إذا كان يرتضيه لنفسه فليرتضيه للآخرين... إنها قاعدة توفر على الناس كثيرا من المشقات و الأتعاب و تجعلهم يعيشون الدعة و الهدوء و الحب و الإخلاص. إنها قاعدة وردت الأحاديث الكثيرة في الحث عليها و العيش تحت ظلالها و هذه باقة من تلك الروائع في هذا الصدد...

1 - جاء أعرابي إلى النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله، زوهو يريد بعض غزواته فأخذ بغرز(1) راحتله فقال: يا رسول اللّٰه علمني عملا أدخل به الجنة.

فقال: ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم و ما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم، خل سبيل الراحلة.

2 - عن أبي عبد الله (ع) قال: أوحى اللّٰه عز و جل إلى آدم (ع) إني سأجمع لك الكلام في أربع كلمات.

قال: يا رب و ما هن ؟.

قال: واحدة لي و واحدة لك و واحدة فيما بيني و بينك و واحدة فيما بينك و بين الناس...

قال: بيّنهنّ لي حتى أعلمهن ؟.

قال: أما التي لي فتعبدني، و لا تشرك بي شيئا، و أما التي لك فأجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه، و أما التي بيني و بينك فعليك الدعاء و عليّ الإجابة، و أما التي بينك و بين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك و تكره لهم ما تكره لنفسك.

3 - قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: ثلاثة خصال من كنّ فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش اللّٰه يوم لا ظل إلا ظله، رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم، و رجل لم يقدم رجلا و لم يؤخر رجلا حتى يعلم أن ذلك للّٰه رضى، و رجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه، فإنه لا ينفي منها عيبا إلا بدا له عيب.

و كفى المرء شغلا بنفسه عن الناس.

(و اعلم أن الإعجاب ضد الصواب، و آفة الألباب. فاسع في كدحك و لا تكن خازناد.

ص: 318


1- الغرز بفتح و سكون الركاب من الجد.

لغيرك، و إذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك) الإسلام أشد و أقوى طبيب نفساني يعالج الأمراض المستعصية و المزمنة في النفس الإنسانية... إنه يمارس مع الفرد أسلوبا رائعا إذا أخذ به كما هو و على حقيقته... و الإعجاب مرض خطير يتحرك في داخل النفس فيفسدها و يخرجها عن طبيعتها... إن هذه النفس إذا أعجبت بعملها زهت كالطاووس، و أخذ هذا الزهو و التيه يزداد و يزداد حتى يأتي إلى مسخ كل الأعمال الصالحة عند غيره و لا يعود يرى أمامه إلا عمله. بل إذا ارتفعت درجات هذا الإعجاب قد يصل به الأمر إلى أن يمنّ على ربه و يدلّ بعمله، و يرى نفسه فوق التقصير و أكبر من أن يسأل عن عبادة ربه و طاعته. و هذا الموقف منه يحجب القلب عن الرب و يمنع رؤية كرمه و نعمه و آلائه و فضله... و في ذلك إفساد للقلب و النفس أيّما إفساد و إضلال... و قد رأى الإسلام أن العبد مع التقصير إذا شعر بتقصيره و حاول الارتفاع عنه أحسن حالا و أقرب إلى اللّٰه من الإنسان المعجب بنفسه المدّل على ربه. و قد وردت الأحاديث في ذلك و كفى بذلك أن يكون ضد الصواب و خلافه...

1 - عن علي بن سويد عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن العجب الذي يفسد العمل ؟ فقال: العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه و يحسب أنه يحسن صنعا. و منها أن يؤمن العبد بربه فيمنّ على اللّٰه عز و جل و للّٰه عليه فيه المنّ .

2 - عن أبي عبد الله (ع) قال: أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك ؟ فقال:

مثلي يسأل عن صلاته ؟ و أنا أعبد اللّٰه منذ كذا و كذا. قال: فكيف بكاؤك ؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي فقال له العالم: فإن ضحكك و أنت خائف أفضل من بكائك و أنت مدل، إن المدل لا يصعد من عمله شيء.

3 - عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (ع): الرجل يعمل العمل و هو خائف مشفق ثم يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به ؟ فقال: هو في حاله الأولى و هو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه. و هكذا تأتي الأحاديث لتكشف عن أخطار العجب و مبغوضيته للّٰه...

ثم إن الإمام يكمل وصيته إلى ولده بالسعي في كدحه. و قد فسر الكدح تارة بالمال و أن ينفقه في سبيل اللّٰه، و أخرى بالمعنى الأعم و هو أن يسعى في كسب الطاعات. و على كل حال قد يكون المعنى الأول أقرب لوجود القرينة المتصلة في الكلام و هي قوله و لا تكن خازنا لغيرك، فإن الخازن لا يستفيد إلا التعب و النصب، و أما الذين ينالون اللذة منه و الفائدة فأولئك الذين يأخذونه دون تعب و لا كدح، بل يصل إليهم بدون مشقة،

ص: 319

يتلذذون به و يتنعمون بصرفه في وجوه قد تكون محللة و قد تكون محرمة... لمن يوصي به ؟ إنه يوصي به إلى أحد رجلين: رجل فاجر يصرفه في معصية اللّٰه فيكون قد أعانه بماله على الانحراف و المعصية، أو إلى رجل بر تقي يزداد فيه خيرا فيكون قد حرم هو من أجره و أكسب غيره ذلك الأجر. و العاقل يسعى من أجل نفسه و خلاصها و نجاتها من النار، أولا و بالذات...

و العاقل هو الذي لا يدع الوراث يتحكمون بأمواله و أرزاقه، و كذلك لا يدع للأيام أن تفتك بها أو تصرفها عنه إلى غيره... بل هو الذي يحدد وجه الصرف و النفقة في حياته قبل وفاته و قبل أن يقع في أيدي غيره.

و مما يثير العجب ذهاب بعض الناس إلى تجميد ما لديهم من أموال و خيرات يحبسون أنفسهم عن تناولها و يمنعون الفقراء حقهم منها ثم يقومون بالوصية ببعض المصاريف و المبرات، أو يوصون بإخراج الحقوق منها و ما وجب عليهم... و هل هناك أشقى من إنسان يستطيع أن ينفذ في حياته كل ما يريد فيعدل عنه إلى الإيصاء به.

إن الإيصاء بالمال بعد الممات طريق الفقراء في عقولهم و خطة الضعفاء في تفكيرهم... و رحم اللّٰه الشريف الرضي حيث يقول:

يا آمن الأقدار بادر صرفها *** و اعلم بأن الطالبين حثاث

خذ من تراثك ما استطعت *** فإنما شركاؤك الأيام و الورّاث

لم يقض حق المال إلا معشر *** وجدوا الزمان يعيث فيه فعاثوا

(و اعلم أن أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة و مشقة شديدة و أنه لا غنى لك فيه عن حسن الارتياد. و قدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك، فيكون ثقل ذلك و بالا عليك. و إذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه و حمله إياه و أكثر من تزويده و أنت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده.

و اغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك) الطريق إلى الجنة بعيدة و شاقة. و هل هناك أبعد من الجنة ؟! إنها بعيدة... و بعيدة جدا لمن يعصي اللّٰه في نظره و في سمعه و في حركته و في سكونه، و في منطقه و في يده... إنه لا يكاد يرتفع عن معصية حتى يقع في أخرى، و لا يكاد يخلص من إثم حتى يرتكب غيره.

إنه الإنسان الذي يعرف من يعصي و يعرف من يخالف و يعاند و لكنه مع ذلك دائم الإصرار على الذنب و باستمرار يقترفه...

ص: 320

إن هذا الطريق فيه الكثير من المشقات و الأتعاب و كما يقول أمير المؤمنين:

«حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات». فالطريق إلى الجنة يحتوي الكثير من المزالق التي قد تزل فيها الأقدام و تضل العقول... فهناك هذه النفس التي تمني الإنسان و تدفعه إلى ما تشتهيه و إن كان مخالفا لأمر اللّٰه و نهيه فهي قد تلح عليه بشدة و قوة، و قد يصل فيه الأمر إلى أن يصبح عبدا لها تتحكم فيه كما تشاء، توجهه إلى الضلال و الانحراف و إلى الميوعة و الفساد... قد تزين له القبيح بعد أن تلبسه ثوب الحسن و الجمال. إنها تخلق له الأعذار و تصطنع له المبررات و تدفعه إلى اقتحام الحرام... إن هذه النفس إذا لم تروض على الطاعة و لم تؤخذ بالتربية الصالحة و الرياضة الروحية المستقيمة، إذا لم يحاسبها الإنسان و يوقفها عند كل فعل و يعودها على قبول الحق مهما كان صعبا و شاقا، فلا محالة تقتحم به اقتحام الفرس الجموح التي فقد راكبها زمامها فأضحت تجري به كما تشاء. إن هذه النفس إذا فسدت استسهلت المعصية و استهانت بالمقدسات. إنها تفقد الحياء فتخرج عارية داعرة دون خجل. و ما تلك الصور المتحركة في عالمنا إلا نموذج حي لهذا القول. أدر طرفك في المنزل فترى المحرمات منتشرة، و عرّج به إلى الشارع، و أبصر العري بين النساء، فلا خوف من اللّٰه، و لا استعداد لحسابه... و هكذا في جميع الزوايا تجد المنكرات منتشرة و الفساد لا تخلو منه بقعة.

و إن المؤمن في هذا الجو الموبوء و المضطرب و في هذه الأزمنة الداعرة و الفاسدة يجد نفسه في ضيق لا مثيل له، و تصدق أعلام النبوة الكريمة القائلة: «يأتي زمان على أمتي القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر»، فإن المؤمن في زماننا إذا استمسك بدينه و أبى التنازل عنه و لو في حكم واحد أخذته التهم من كل جانب، و لاكته الألسن من كل طرف. فإذا رفض التعامل مع الظالمين قالوا فيه: إنه لا يلاحظ مصلحة المسلمين، و إذا لم يتعاون مع المنحرفين و المفسدين قالوا: لا علم له بالسياسة، و إذا لم يكذب و يماري قالوا: إنه لا يعرف كيف يداري الناس و يستفيد منهم، و إذا عبس في وجه الفسقة و العصاة قالوا: إنه جلف قاس. و هكذا تتوالى عليه التهم و تتدفق الشتائم و عندها يأتي الزلزال الشديد لهذه النفس البشرية و يأتي الامتحان القاسي. فإن كان الإيمان ثابتا بقي مستمرا في شوطه دون أن تأخذ هذه التهم و الشتائم منه شيئا، بل يزداد تمسكا بموقفه و إصرارا على رأيه حتى يلقى اللّٰه فيوفيه أجر الصابرين. و أما إذا كان الإيمان ضعيفا فتراه يتهاوى امام هذه التهم، تراه يخور و يتراخى و يتراجع عن كثير من معتقداته و مواقفه، يستسلم للواقع بدلا من الوقوف في وجهه و محاولة تغييره.

و كثيرون هم الذين يمثلون الموقف الثاني حتى من أصحاب الشعارات و الدعايات. و قد رأينا هذا النموذج في حياتنا بكثرة و رأينا التراجعات و التنازلات عن

ص: 321

كثير من المواقف و القضايا أمام تحديات الباطل و زهوه... و انحرافه و دجله...

إذن فالطريق إلى الجنة شاقة تتطلب الحزم و العزم و القوة و الثبات، تتطلب الكلمة الجريئة و الموقف الصلب و الإيمان الراسخ و الأعصاب المتينة...

الطريق إلى الجنة تتطلب منك المثابرة على صلاتك مهما استهزأ بك المستهزءون، و يتطلب منك الدوام في صيامك مهما قال عنك الجاهلون، و الاستمرار في الحفاظ على ستر المرأة و عفافها مهما قال السماسرة و تجار الباطل في ذلك. يجب أن تكون أيها المسلم و المسلمة أصلب من الجبال و أقوى من الحديد و النار، تقف بكل شموخ و اعتزاز رافعا رايتك الإسلامية دون خجل أو حياء، و هذا هو زادك الذي لا بد لك من أن تأخذه معك في رحلتك هذه، رحلة الجنة تتطلب منك أن تتزود بكل الخيرات و الأعمال الصالحة، و تخفف عن ظهرك من الذنوب و الخطايا مهما أمكن فإن الجنة غالية لا تخطب إلا على المحسنين و العاملين في سبيل اللّٰه و سبيل الإنسان... الجنة عروس تتربع في آخر شوط الحياة لا يصل إليها إلا الخيرون و الطيبون الذين يصبرون على مشقة هذا الطريق و أتعابه، و يحملون أنفسهم على العمل بطاعة اللّٰه و اجتناب معاصيه. إن هؤلاء فقط يصلون إليها و يتنعمون بها، أما أصحاب الخطايا الذين يحملون على ظهورهم حملا ثقيلا يرهق كاهلهم، هؤلاء ليسوا من أهلها و لا هي أهل لهم، بل هناك، في آخر رحلتهم، تنتظرهم نار مؤصدة لا يقوى عليها بشر...

إن الإمام ينبهه - بل ينبهنا - إلى طريق نستطيع أن نحفظ بها ودائعنا و نجمد بها أرصدتنا ليوم فقرنا و حاجتنا. إنه يرشدنا إلى أمين يحمل لنا زادنا و مئونة نحتاجها يوم نغدو إلى ربنا... إنه يدلنا على هؤلاء الفقراء أن نمد أيدينا إليهم بالصدقة و الإحسان و قضاء الحاجة و إدخال السرور عليهم، أن نتواضع لهم و نفعل لهم الخير و نهتم بشئونهم، أن ننصحهم و نصلح بينهم و نسعى في تفريج كربهم... فإن كل ما نفعله و نسديه لهم يرجع أجره لنا و ثوابه علينا... «فمن أدخل سرورا على مؤمن كان كمن أدخله على الأئمة(1) و النبي و من قضى حاجة مؤمن ناداه اللّٰه تبارك و تعالى: عليّ ثوابك و لا أرضى لك بدون الجنة». و من نفّس عن مؤمن كربة نفّس اللّٰه عنه كرب الآخرة...

و من أطعم مؤمنا من جوع أطعمه اللّٰه من ثمار الجنة و من سقى مؤمنا سقاه اللّٰه من الرحيق المختوم، و من كسا مؤمنا ثوبا من عرى كساه اللّٰه من استبرق الجنة، و من كسا مؤمنا ثوبا من غنى لم يزل في ستر من اللّٰه ما بقي من الثوب خرقة. و من أخذ من وجه أخيه المؤمني.

ص: 322


1- هذه متون الأحاديث في كتاب الكافي.

قذاة كتب اللّٰه له عشر حسنات، و من تبسم في وجه أخيه كانت له حسنة... و من زار أخاه في اللّٰه قال اللّٰه عز و جل: «إياي زرت و ثوابك عليّ و لست أرضى لك ثوابا دون الجنة...».

فإن هذا النموذج الطيب من الأحاديث يكشف عن أن كل فعل يقوم به الإنسان يعود صالحه له و ثوابه عليه كما يقول تبارك و تعالى: «مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسٰاءَ فَعَلَيْهٰا» . و العاقل هو ذلك الرجل الذي يتزود من الدنيا و يحمّل غيره الثواب و الأجر كي يلاقيه به في تلك الكرب العظام يوم القيامة...

العاقل هو الذي لا يتأخر عن فعل الإحسان مع الناس عند أول قدرته بل يغتنم الفرص كي يسدي المعروف إلى أهله لأنهم السبب في عود الخير عليه و درّ المنفعة لجانبه، فلعله يطلبهم في يوم ما فلا يجدهم و يبحث عنهم فيفقدهم... فيكون قد خسر ربحا و ضيّع ما هو بحاجة إليه...

(و اعلم أن أمامك عقبة كؤودا، المخف فيها أحسن حالا من المثقل و المبطئ عليها أقبح حالا من المسرع، و أن مهبطك بها لا محالة إما على جنة أو على نار. فارتد لنفسك قبل نزولك، و وطّىء المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب، و لا إلى الدنيا منصرف) 6 نعم إنها عقبة صعبة المرتقى، عقبة مرتفعة شاهقة يتعثر الإنسان بما فيها من منعرجات و منعطفات، و ما فيها من عثار و مشاكل. عقبة و لا عقبات الدنيا التي يستطيع المرء أن يقتحمها و يجتازها... إنها عقبة كؤود مخيفة يجتازها الإنسان وسط الأهوال المرعبة و المنعطفات المضلة... إنها عقبة لا يجتازها إلا من استعد لها و هيأ نفسه، إلا من نظر إليها و عرف حقيقتها. و كيف أن عقبات الدنيا يكون المخف أيسر اجتيازا لها من المثقل، فكذلك عقبات الآخرة من كان أقل وزرا و أخف حملا، من لم يرتكب حراما و لم يفعل إثما، من لم يعتد و لم يتجاوز المرسوم له. يكن أسرع في اجتيازها و أشد قوة في اقتحامها. من كان خفيف الحمل من أوزار الدنيا و آثامها أصبح يسيرا عليه عبورها، و هذا عكس المثقل. عكس من حمل على ظهره و بيده و كان بدينا فإنه سيسقط في منتصف الطريق! سيهوي إلى الأرض و يصعب عليه أن يقف بعدها.

و لربما استطاع أن يترك حمله و يتخفف في الدنيا لاجتيازها و لكن كيف يتخفف في الآخرة من الأوزار و الآثام و هي لازمة له لا تتركه و لن يستطيع التخلي عنها لأنها كسب يديه و جوارحه التي لن تفارقه بل سيحاسب عليها و يعاقب على فعلها...

و إن هذه العقبة كانت أمام أنظار الأتقياء، و في رأس القائمة التي كانوا يحسبون لها ألف حساب و حساب. كانوا إذا تذكروها جرت مدامعهم و تحركت عواطفهم و جاشت

ص: 323

أنفسهم و خافوا من ذنوبهم فبكوا، و تأسفوا و تحسروا، و ندموا على ما مضى من أعمارهم. إن هذه العقبة قد نظر إليها أناس بعين البصيرة فرسموا لها طريق الخلاص فكانوا و الجنة كمن هم فيها فهم فيها منعمون و هم و النار كمن هم فيها فهم فيها معذبون... كانوا يعدون العدة لاجتيازها بكل يسر و سهولة... كانوا يعرفون أن الأوزار و الآثام و أفعال الحرام و الاعتداء على الناس و الظلم و التجاوز على العباد كلها أثقال تبطىء الإنسان عن اجتيازها، فلذا لم يفعلوا حراما و لم يكسبوا مأثما، بل إن الأئمة كانوا في مواقفهم أمام اللّٰه يحسبون له الحساب و يستعدون ليوم اللقاء و هم المعصومون المنزهون الذين لم يقترفوا ذنبا و لم يفعلوا حراما. فاسمعوا إلى الإمام زين العابدين في حديث طاوس اليماني... يقول طاوس: رأيت علي بن الحسين يطوف من العشاء إلى سحر و يتعبد فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه و قال: إلهي غارت نجوم سماواتك و هجعت عيون أنامك و أبوابك مفتحات للسائلين، جئتك لتغفر لي و ترحمني و تريني وجه جدّي محمد في عرصات القيامة ثم بكى و قال: و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك و ما عصيتك إذ عصيتك و أنا بك شاك و لا بنكالك جاهل و لا لعقوبتك متعرض و لكن سولت لي نفسي و أعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ فأنا الآن من عذابك من يستنقذني و بحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا و للمثقلين حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط. و يلي كلما طال عمري كثرت خطاياي و لم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربي ؟ ثم بكي و قال:

أ تحرقني بالنار يا غاية المنى *** فأين رجائي ثم أين محبتي

أتيت بأعمال قباح ردية *** و ما في الورى جنى كجنايتي

ثم بكى و قال: سبحانك تعصى كأنك لا ترى و تحلم كأنك لم تعص، تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم و أنت يا سيدي الغني عنهم. ثم خرّ إلى الأرض ساجدا فدنوت منه و شلت رأسه و وضعته على ركبتي و بكيت حتى جرت دموعي على خده فاستوى جالسا و قال: من ذا الذي شغلني عن ذكر ربي فقلت: أنا طاوس يا ابن رسول اللّٰه، ما هذا الجزع و الفزع ؟ و نحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا و نحن عاصون جافون، أبوك الحسين بن علي و أمك فاطمة الزهراء وجدك رسول اللّٰه.

قال: فالتفت إليّ و قال: هيهات، هيهات يا طاوس دع عني حديث أبي و أمي وجدي، خلق اللّٰه الجنة لمن أطاعه و لو كان حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و لو كان سيدا قرشيا، أما سمعت قوله تعالى: «فَإِذٰا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاٰ أَنْسٰابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ» و اللّٰه

ص: 324

لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح...

ففي هذه الحادثة الرائعة نقف أمام نموذج من أرقى النماذج البشرية على الإطلاق و ندرك السر العميق في تقدم أهل البيت صلوات اللّٰه عليهم على جميع العالمين. إنهم عرفوا الحقيقة و وقفوا عليها و عاشوا معها و تفاعلوا مع إرادتها فكانوا من أخلص الناس للّٰه و أشدهم تعبدا له و رهبة منه. كانوا يعدون العدة لذلك الموقف الرهيب و يستعدون للإجابة عن كل حركة قاموا بها أو يقومون. إنهم لم يعصوا اللّٰه ما أمرهم و مع ذلك كانت هذه سيرتهم... كانو يرسمون لنا الطريق و يضعون لنا المعالم البارزة التي تقودنا إلى مرضاة اللّٰه و جنانه... فإن هذه العقبة لا بد و أن توصل إلى أحد موضعين، في أحدهما يجد الإنسان النعيم و السرور و الكرامة و العزة و في الآخر يجد الذل و الهوان و الخزي و العار، في الأول يدرك رضا اللّٰه و يفوز بجنة عرضها السماوات و الأرض و في الآخر يهوي إلى النار و غضب الجبار، و يا بئس المنزل و المكان.

إن هذه النتيجة التي تنتظر الإنسان بعد العقبة يستطيع أن يقررها بيده. و أي عاقل يتنازل عن الجنة و ما فيها؟ و فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و لكن هذا المقصد و الهدف يتطلب منك أن تقدم أمامك و أنت في دار الدنيا، أن تقدم ما يؤهلك للوصول إلى مرادك. و ما يؤهلك لذلك إنما هو العمل الصالح و الإحسان للناس و معونتهم و تخفيف آلامهم و القيام بأوامر اللّٰه كلها و الاجتناب عن معاصيه كلها، فإذا الجنة بين يديك و إذا أنت في رياضها و نعيمها... و أما إذا وفدت بدون أعمال صالحة فليس لك عودة إلى الدنيا كي تحسن أعمالك و تقوم بالواجب عليك و تدرك الجنة من جديد. إنه امتحان واحد من استعد له و نجح فاز و من أهمل و ضيّع سقط و لم يفلح و لم يستطع تدارك ما فات...

(و اعلم أن الذي بيده خزائن السماوات و الأرض قد أذن لك في الدعاء و تكفل لك بالإجابة، و أمرك أن تسأله ليعطيك و تسترحمه ليرحمك و لم يجعل بينك و بينه من يحجبك عنه، و لم يلجئك إلى من يشفع لك إليه و لم يمنعك إن أسأت من التوبة، و لم يعاجلك بالنقمة، و لم يعيرك بالإنابة، و لم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، و لم يشدد عليك في قبول الإنابة، و لم يناقشك بالجريمة و لم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة و حسب سيئتك واحدة، و حسب حسنتك عشرا، و فتح لك باب المثاب و باب الاستعتاب) في هذا الفصل الشريف من الوصية العلوية يطرح الإمام أمامنا مسألتين و هما من صلب الإيمان و من أهم الواجبات في الإسلام (الدعاء، و التوبة) و نحن نريد أن نقف أمام كل موضوع وقفة قصيرة.

ص: 325

الدعاء:
اشارة

تعبير عن لقاء بين هذا الإنسان و بين اللّٰه، فالعبد يتوجه إليه بخشوع و ضراعة و هو تعالى يقبل عليه و يستجيب له فيلتقي الدعاء مع الإجابة للتدليل على أن اللّٰه الخالق البارىء المصور الذي خلق هذا الكون و صوره و نفخ في هذا الإنسان فأحياه لم يتخل عنه و لم يتركه و شأنه في متاهات الحياة و مساربها بل هو قريب منه يسمع شكواه و تضرعه، بل أكثر من ذلك هو الذي يأمر هذا العبد و يدفعه إلى الدعاء و السؤال كي يتوجه هذا العبد بإخلاص و صفاء و نزاهة نحوه ينشده و ينقطع إليه فيحقق العبودية الكاملة باللجوء إليه و الاستغناء به عن من سواه...

الدعاء و القرآن:

أكد القرآن على التزام الدعاء و التعبد به و الحث عليه و الاعتناء به و هذه نماذج قليلة مما ورد فيه.

- قال تعالى: «وَ إِذٰا سَأَلَكَ عِبٰادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّٰاعِ إِذٰا دَعٰانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » (1).

- قال تعالى: «وَ قٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ » (2).

- قال تعالى: «فَادْعُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ » (3).

- قال تعالى: «قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ » (4).

الدعاء و السنة:

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: الدعاء سلاح المؤمن و عماد الدين و نور السماوات و الأرض.

- قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: ما من شيء أكرم على اللّٰه تعالى من الدعاء.

- عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت للباقر عليه السلام: أي العبادة أفضل ؟

ص: 326


1- سورة البقرة، آية - 186.
2- سورة المؤمن، آية - 60.
3- سورة المؤمن، آية - 24.
4- سورة الفرقان آية، - 77.

فقال: ما من شيء أحب إلى اللّٰه من أن يسأل و يطلب ما عنده و ما أحد أبغض إلى اللّٰه عز و جل ممن يستكبر عن عبادته و لا يسأل ما عنده.

- عن الصادق عليه السلام: عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون إلى اللّٰه بمثله و لا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها صاحب الصغار هو صاحب الكبار.

- عن علي عليه السلام قال: أحبّ الأعمال إلى اللّٰه سبحانه في الأرض الدعاء و أفضل العبادة العفاف.

تساؤل:
اشارة

إذا كان اللّٰه تعالى يحب الدعاء و يحث عليه و يعد الإنسان بالاستجابة له فما معنى عدم الاستجابة لكثير من الداعين و المتوجهين إليه ؟ إننا ندعوه كثيرا و نتوسل إليه كثيرا و نضرع إليه كثيرا و مع ذلك لم نجد الاستجابة إلا في بعض الأحيان فما هو السر في ذلك ؟! إن السر في ذلك هو عدم اجتماع شرائط الدعاء فكما أن التجربة لا تعطي نتيجتها المطلوبة إلا إذا اكتملت كل عناصرها كذلك الدعاء لا يكون مستجابا إلا إذا اجتمعت فيه كل الشرائط و نحن نذكرها باختصار.

الأول: الإخلاص في الدعاء

بأن يخرج الدعاء من القلب، من العمق الداخلي للإنسان، بأن يستشعر عظمة اللّٰه و يستحضر حاله بين يديه، و يناجيه بصدق و يقين فيشعر عند دعائه أنه أمام اللّٰه من حيث إن اللّٰه يرى المقام و يسمع الكلام و يخاطبه بتضرع و خشوع و توجه و انقطاع. و هذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: «وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ » .

و هكذا في تعبير الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: إن اللّٰه لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة.

الثاني: تقوى الداعي

بأن يكون المسلم ملتزما جانب السماء لا ينحرف يمينا و لا شمالا و لا يترك واجبا أو يرتكب محرما بل يكون مستقيما في سلوكه سائرا على الجادة الواضحة التي رسمها اللّٰه تعالى فإنما يتقبل اللّٰه من المتقين الذين خافوا من اللّٰه و حسبوا له حسابه في أيام رخائهم كما حسبوا حسابه في أيام شدتهم... أما من كان يعج بالمعاصي و يتقلب بالحرام و يسبح في بحار الرذيلة فهذا بعيد عن الاستجابة.

- عن الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام قال: إذا أراد أحدكم أن يستجاب له فليطب كسبه و ليخرج من مظالم الناس و أن اللّٰه لا يرفع إليه دعاء عبد و في بطنه حرام أو عنده مظلمة لأحد من خلقه.

ص: 327

- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من عذر ظالما بظلمه سلط اللّٰه عليه من يظلمه و إن دعا لم يستجب له و لم يؤجره اللّٰه على ظلامته.

- عن بعض أصحاب الإمام الصادق قال: قلت له: آيتان في كتاب اللّٰه لا أدري ما تأويلهما؟ فقال: و ما هما؟ قال: قلت: قوله تعالى: «اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » ثم أدعو فلا أرى الإجابة. قال: فقال لي: أفترى اللّٰه تعالى أخلف وعده ؟ قال: قلت: لا... إلى أن قال: لكني أخبرك إن شاء اللّٰه تعالى: أما أنكم لو أطعتموه في ما أمركم به ثم دعوتموه لأجابكم و لكن تخالفونه و تعصونه فلا يجيبكم...

الثالث: المصلحة في المطلوب - و التعجيل:

الإنسان باعتباره يجهل الكثير من المصالح فربما دعا بما فيه الضرر له و اللّٰه سبحانه نظر إلى ذلك حينما قال: «وَ يَدْعُ اَلْإِنْسٰانُ بِالشَّرِّ دُعٰاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ عَجُولاً» فإذا دعا بما فيه ضرر عليه فاللّٰه لن يستجيب له إذ ربما رغبت الزواج بامرأة كانت في نظرك صالحة مطيعة ذات أخلاق حسنة فتدعو اللّٰه أن يوفقك للزواج منها و لكن اللّٰه باعتباره الخالق و العالم بالحقيقة و الواقع بما أنه يعلم واقعها و أنها على خلاف ذلك فلا يستجيب لمصلحة راجعة لك فنظرك كان سطحيا و على أساسه رغبت فيها جاهلا ما سوف يقع من مشاكل و أحداث إذا تم الزواج. و هذا ما عبر عنه الإمام بدعائه: و لعل الذي أبطأ - في الإجابة - عني هو خير لي لعلمه بعاقبة الأمور. هذا في المصلحة الشخصية و قد تكون المصلحة العامة هي المطلوبة كما لو دعوت اللّٰه أن ينزل الغيث لمصلحتك الشخصية مع أن نزوله فيه ضرر عام...

و كذلك قد يستجيب اللّٰه الدعاء و لكن يؤخر التنفيذ إلى الوقت المناسب لمصلحة يعلمها هو و نجهلها نحن.

عن أبي عبد الله (ع) قال: إن العبد ليدعو فيقول اللّٰه عز و جل للملكين قد استجبت له و لكن احبسوه بحاجته فإني أحب أن أسمع صوته.

عن أبي عبد الله قال: كان بين قول اللّٰه عز و جل: «قد أجيب دعوتكما» و بين أخذ فرعون أربعون عاما.

آداب الدعاء:

ذكرت كتب الأدعية آدابا ينبغي أن يكون(1) عليها الداعي منها:

ص: 328


1- عن البحار.

1 - ما يتقدم الدعاء: و هو الطهارة و شم الطيب و الرواح إلى المسجد و الصدقة و استقبال القبلة، و حسن الظن باللّٰه في تعجيل إجابته و إقباله بقلبه و أن لا يسأل محرما و تنظيف البطن من الحرام بالصوم و تجديد التوبة.

2 - ما يقارن الدعاء و هو ترك العجلة فيه و الإسرار به و التعميم و تسمية الحاجة و الخشوع و البكاء و الاعتراف بالذنب و تقديم الأخوان و رفع اليدين به و الدعاء بما كان متضمنا بالاسم الأعظم و المدحة للّٰه و الثناء عليه تعالى و أيسر ذلك قراءة سورة التوحيد و تلاوة الأسماء الحسنى.

3 - ما يتأخر عن الدعاء و هو معاودة الدعاء مع الإجابة و عدمها و أن يختم دعاءه بالصلاة على محمد و آل محمد و قول ما شاء اللّٰه لا قوة إلا باللّٰه.

4 - أن يتحين الأوقات الشريفة.

من لا تستجاب دعوته:

هناك روايات تعرضت لأسباب عدم إجابة الدعاء و لعل أهمها أن لا يكون الإنسان متواكلا متخاذلا كسولا خمولا يعتمد على الدعاء فحسب دون الأخذ بالأسباب و المقدمات التي أمر اللّٰه بها. فإن العبد إذا توجه إلى اللّٰه و ترك الأخذ بالأسباب التي جعلها اللّٰه لا يكون دعاؤه ناجحا لأنه لم يستكمل شروطه التي من جملتها تهيئة الأسباب، فإن اللّٰه و إن كنا نعتقد و نعلم أنه القادر - أنه يخرق الأسباب و تحصل المعجزة بكلمة (كن) فيكون، هو سبحانه الذي جعل قبول الدعاء مشروطا بتهيئة المقدمات من الإنسان فمن مرض وجب عليه أن يذهب إلى الطبيب و يستعمل الأدوية، و مع ذلك يتوجه إلى اللّٰه بالدعاء، فيكون قد فعل ما أمره اللّٰه به، و من أراد أن ينتصر في معركته على الأعداء هيأ أسباب النصر من العدة و العدد و القوة ثم يدعو اللّٰه فيستجيب اللّٰه دعاءه. فالرجوع إلى الأسباب ترجع إلى اللّٰه الذي جعلها و فرض علينا القيام بها، و ما ذلك إلا لكي نرفض الخمول و الكسل و التواني و هذه نماذج لمن لا يستجيب اللّٰه دعاءه:

- عن الصادق عليه السلام: أربعة لا يستجاب لهم دعاء، رجل جلس في بيته يقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالطلب ؟ و رجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك ؟ و رجل كان له مال فأفسده فيقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالإصلاح ثم قرأ: «وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً» ، و رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة فيقول: ألم آمرك بالشهادة...

ص: 329

ففي هذا الحديث الشريف نقف على أهمية السبب و دوره في استجابة الدعاء و إن من تركه لا تقبل دعوته.

الدعاء في أيام الرخاء:

كثيرون هم الذين لا يعرفون اللّٰه إلا في أوقات الشدة و الألم و في أوقات المصيبة و النكبة، و أما إذا انكشفت عنهم تلك الغيوم السوداء نسوا اللّٰه و لم يتعرفوا عليه... إذا كانوا في رخاء وسعة و في صحة و أمن لم يعرفوا اللّٰه و لم يحسبوا حسابه و لم يتوجهوا إليه بالدعاء و الضراعة، و هذا ما عبّر اللّٰه تعالى عنه بقوله: «وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ اَلضُّرُّ دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنٰا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ » . و قال تعالى: «وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ » . فهذه الآية القرآنية تكشف حقيقة يعيشها الكثيرون منا إن لم نكن كلنا نعيشها... و هي تذّم هؤلاء القوم و تريد من الإنسان أن يكون مع اللّٰه في سرائه، كما هو في ضرّائه و في ضيقه كما هو في سعته، يجب أن يبقى هذا الإنسان مع اللّٰه في كل أحواله بل الأحاديث الشريفة تؤكد على أن المؤمن يجب أن يكون أقرب إلى اللّٰه في حال الرخاء من أيام البأساء و الضراء...

- عن النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «تعرّف إلى اللّٰه في الرخاء يعرفك في الشدة فإذا سألت فاسأل اللّٰه و إذا استعنت فاستعن باللّٰه..».

- قال الإمام الصادق عليه السلام: «أوحى اللّٰه تبارك و تعالى إلى داود عليه السلام:

اذكرني في سرائك استجب لك في ضرائك».

لمن ندعوا:

وردت الأحاديث في الحث على أن يدعو المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب أكثر مما يدعو لنفسه، و هذه النظرة الإسلامية تعكس صورة التعاون بين أفراد المجتمع الإسلامي فيشعر الأخ أن معه الناس كلهم فإنهم إذا لم يستطيعوا أن يقدموا له معونة أو يرفدوه بما هو بحاجة إليه، أو ينقذوه من المحنة التي ألمّت به فإنهم معه في شعورهم و عواطفهم و أفكارهم يعيشون معه ألمه و مشاكله و كما يقول الشاعر:

لا خيل عندك تهديها و لا مال *** فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

فلئن عز الحل و استعصت المشكلة لقصر في اليد أو لعدم الحيلة لوجه المطلوب،

ص: 330

فليكن الدعاء هو الوسيلة التعبيرية عن الرصيد الداخلي لهذا الإنسان اتجاه أخيه الإنسان...

و إن هذه الأحاديث الكريمة تعكس مدى فيض اللّٰه وجوده و مقدار كرمه و عطائه، و كيف يعطي الداعي لأخيه ضعف بل أضعاف ما طلبه لأخيه و تلك فيوضات اللّٰه و عطاءاته السخية الكريمة.

- يقول الصادق عليه السلام: من دعا لأخيه بظهر الغيب و كلّ اللّٰه به ملكا يقول:

و لك مثلاه فأردت أن أكون إنما أدعو لإخواني و يكون الملك يدعو لي لأني في شك من دعائي لنفسي و لست في شك من دعاء الملك لي.

- عن عبد اللّٰه بن سنان قال: مررت بعبد اللّٰه بن جندب فرأيته قائما على الصفا و كان شيخا كبيرا فرأيته يدعو و يقول في دعائه: اللهم فلان بن فلان، اللهم فلان بن فلان، اللهم فلان بن فلان ما لم أحصهم كثرة. فلما سلم قلت له: يا عبد اللّٰه لم أر موقفا قط أحسن من موقفك إلا أني نقمت عليك خلة واحدة.

فقال لي: و ما الذي نقمت عليّ .

فقلت له: تدعو للكثير من اخوانك و لم أسمعك تدعو لنفسك شيئا. فقال لي: يا عبد اللّٰه سمعت مولانا الصادق عليه السلام يقول: من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب نودي من أعنان السماء: لك يا هذا مثل ما سألت في أخيك و لك مئة ألف ضعف مثله، فلم أحب أن أترك مئة ألف ضعف مضمونة بواحدة لا أدري تستجاب أم لا...

و انظر إلى هذه الحادثة لبعض الصالحين التي تدلل على أن المؤمن يجب أن يتفاعل مع اخوانه و لا يقتصر على ألفاظ الدعاء فحسب، بل يجب عليه أن يمد إليهم يده بكل ما يستطيع و يوفر لهم أسباب النجاح لكل غاية يأملونها و لكل مشكلة يريدون حلّها.

يقال إن بعض الصالحين كان في المسجد يدعو لإخوانه بعد ما فرغ من صلاته، فلما خرج من المسجد وافى أباه قد مات، فلما فرغ من جهازه أخذ يقسّم تركته على إخوانه الذين كان يدعو لهم فقيل له في ذلك. فقال: كنت في المسجد أدعو لهم في الجنة و أبخل عليهم بالفاني...

مدرسة أهل البيت في الدعاء:

تمتاز مدرسة أهل البيت بمنهاج خاص في الدعاء. تجد على كل فقرة من الفقرات الثابتة عنهم روح العترة الطاهرة و أنفاس أهل بيت النبوة، إنها تمتاز بقوة السبك و عمق

ص: 331

المعنى تشد الفرد إليها قهرا عنه و تطهره من كل خبث و زيف و تجعل منه إنسانا صالحا تنعكس على نفسه كل معالم الخير و الرحمة و التعاون و التآلف...

إن هذه الأدعية تمثل خلاصة الإسلام في تعاليمه و مفاهيمه عن اللّٰه و عن الإنسان، عن الكون و عن الحياة، عن الموت و ما بعد الموت، و تعد الفرد إعداد فذا لمواجهة المجتمع و مشاكله و أحداثه و شئونه، و تدخل على نفس هذا الإنسان لتصفيها من جميع الشوائب و المشاكل و تطهرها من جميع النقائص و الرذائل و تحملها على جناح الفضائل إلى رحاب اللّٰه و رحمته.

فانظر إلى دعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين تجد صحة ما نقول، و عرّج على دعاء الصباح أيضا و كرر النظر فتجد التعليم و الإرشاد و النصيحة و الموعظة و تجد العظمة و السمو...

و هكذا أرم ببصرك نحو الصحيفة السجادية (زبور آل محمد) فاقرأها و تمعن بها و فكر في فقراتها، و احكم كما شئت و لا أراك إن أن تحكم بأنها تشكل الحلقة المفقودة عند سائر المذاهب الإسلامية الأخرى. إنها حلقة تربط القرآن بالسنة بمفاهيم الإسلام و تعاليمه و أنعم بها من حلقة ترفع الرأس و يعلو بها الجبين.

هذا الحديث كله كان بالنسبة إلى الدعاء قدّمناه بصوره موجزة و كنا قد وعدنا بالحديث عن التوبة، و قد جاء دورها...

التوبة:
اشارة

المعصية تمرّد على اللّٰه و طغيان على أحكامه، إنها تشكل الوقوف في وجهه و التحدي له في بعض صورها، و تشكل في بعضها الآخر ضعفا في الإيمان و خفة في اليقين، يتغلب فيها جانب النفس و الشهوة على جانب الأوامر الإلهية و الأحكام الشرعية.

المعصية عملية اجتياز للقانون و مخالفة له، و بمقدار احترام المشرع و نفوذ كلمته لديك و قيمته عندك تحاول أن تمتنع عن مخالفة أحكامه، بل تسعى بكل طاقاتك أن تقترب منه بإظهار الطاعة و المودة و حصول أكبر مقدار من الامتثال لكل أمنياته فضلا عن أوامره و أحكامه. و إذا كانت المعصية تشكل التمرد و الطغيان فإن التوبة إليه تشكل الرجوع و الإنابة، و تشكل الندم و الاعتذار و تشكل التصميم على السير وفق نهجه الذي رسمه و الخطة التي يرتئيها. إنها تتمثل بلوعة في القلب و بحرقة إثم المعصية السابق و دمعة في العين يسكبها التائب في جوف الليل، و تصميم على عمل البر و الخير فيما بقي من أيام

ص: 332

عمره. التوبة عودة إلى رحاب اللّٰه الواسعة، إلى الطاعات و الأعمال الصالحة... إلى كنف جبار السماوات و الأرض، إلى القوة المطلقة المهيمنة على الكون و الوجود، إلى مصدر النعم و مفيضها على الكائنات بأسرها...

بين التوبة الإسلامية و الاعتراف المسيحي:

بين التوبة و الاعتراف المسيحي فارق جوهري، ففي حين أن التوبة رجوع إلى اللّٰه و استغفار منه، و هو الذي عصي نجد أن الرجل في المسيحية يقف أمام القس ليعترف بكل جرائمه و انحرافاته ظنا منه أن هذا الاعتراف يمحو عنه السيئات و يكفر الخطيئات، و الإسلام يرى حرمة الحديث أمام الناس في المعصية التي اقترفها الفرد، لأنه يعترف لإنسان خطاء مثله يحتاج هو إلى الاعتراف، مضافا إلى أن هذا الشخص المعترف أمامه من هو الذي وكّله عن اللّٰه حتى يعترف أمامه ؟! و قد يكون أسوأ حالا من صاحب الاعتراف.

ففي حين يقف المسلم أمام اللّٰه الذي عصاه وقفة عودة إليه و رجوع إلى رحابه، يناجيه بلسانه و يتوجه إليه بقلبه دون واسطة و لا شفيع، يقف المسيحي أمام إنسان مثله ليفضح نفسه و يهتك ستره و يظهر معايبه دون أن يملك الوسيط حق الشفاعة أو المغفرة.

الاعتراف في المسيحية مبني على الطبقية و أن هناك طبقة الكهنة تمتلك حق المغفرة للذنب و بيدها الحل و العقد دون سائر الناس. و هذا خلاف النظرة الإسلامية التي ترفض مصطلح رجال الدين، كما ترفض احتكار إقامة الشعائر الدينية ضمن طبقة معيّنة تمتاز عن غيرها، إذ يرى الإسلام أن المسلمين كلهم مكلفون بمعرفة دينهم يؤمّهم في صلاتهم العدل منهم و يعقد لهم عقد النكاح أي إنسان يعرف أداء صيغته كما يحلّ هذا العقد بالطلاق كل من كان عدلا و قد توفرت شروط الطلاق، و هكذا سائر التكاليف يشترك فيها المسلمون كلهم دون ميزة لأحد منهم على الآخرين إلا بالعلم و التقوى...

الاعتراف في المسيحية تكريس لسلطة رجال الدين الذين مارسوا الظلم خلال العصور المظلمة من التاريخ حيث تحالفوا مع الملك الظالم و الإقطاعي الفاسد في قهر الشعب الأعزل و استعباده. و قد كان لقضية صكوك الغفران و النكتة التي يعبر عنها شراؤها أسوأ الأثر على الدين و اللّٰه، و ألحق الضرر بكل الأديان و رسالات السماء. و لو لا هذه الطبقية لرجال الدين المسيحي و الممارسات الحمقاء التي استغلوا فيها الدين من أجل صيد الدنيا لما كان للشيوعية أثر أو خبر، و لكن ردة الفعل على تجاوزات رجال الدين المسيحي جاءت ماركسية تحارب الدين و تعاديه و تنبذه بكل عيب و ضلال.

ص: 333

فما أجمل و أروع الوقفة أمام اللّٰه الذي يملك الحكم و الأمر و النهي، و ما أقبح الوقفة أمام إنسان مثلك لا يملك من أمره فضلا عن أمرك شيئا.

الوقفة أمام اللّٰه وقفة عز و شموخ و رجوع إلى مالك السماوات و الأرض و الوقفة أمام الإنسان وقفة مضحكة و مسرحية صنعتها أيدي التجار من رجال الدين.

التوبة في القرآن:

أكد القرآن على وجوب التوبة و الرجوع إلى اللّٰه في أكثر من آية من آياته.

- قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» (1).

- قال تعالى: «أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ » (2).

- قال تعالى: «وَ تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (3).

- قال تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئٰاتِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ » (4).

- قال تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ » (5).

التوبة في السنة:

و قد وردت أيضا الأحاديث الشريفة عن المعصومين تؤكد وجوب التوبة و تحث عليها و تبين شروطها و أهميتها و نحن سنكتفي بنقل عيّنات من تلك الأحاديث الكريمة...

1 - قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: التائب حبيب اللّٰه، و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

2 - قال الإمام الباقر عليه السلام: إن اللّٰه تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل

ص: 334


1- سورة التحريم، آية - 8.
2- سورة التوبة، آية - 104.
3- سورة النور، آية - 39.
4- سورة الشورى، آية - 25.
5- سورة البقرة، آية - 222.

راحلته و زاده في ليلة ظلماء فوجدها، فاللّٰه أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها...

3 - عن الإمام الباقر عليه السلام: التائب من الذنب كمن لا ذنب له و المقيم على الذنب و هو مستغفر منه كالمستهزىء.

التوبة الصحيحة:

قد يظن البعض أن كل من قال استغفر اللّٰه و أتوب إليه أو من ندم على فعل القبيح و تركه قد تحققت توبته و قبل اعتذاره، و لكن الصحيح أنه يجب مع ترك المعصية نهائيا و الندم عليها و الاستغفار منها أن يقوم بما يمليه عليه اللّٰه من الإصلاح و التدارك لما فات، فإن هناك أمورا يجب أن تتدارك بإقامتها أو ردها إلى أهلها أو الاستحلال منهم أو الاستغفار لهم و غير ذلك.

- فمن ترك الواجبات كالصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و الخمس وجب عليه كي تتحقق التوبة الصحيحة أن يقوم بقضائها كلها.

من ارتكب المحرمات كالزنا و شرب الخمر و السحاق و غيرها أن يندم على فعلها و ينوي عدم العودة إليها أبدا.

- و من ارتكب أمرا بينه و بين العباد كالسرقة منهم و الغصب وجب عليه أن يرد المسروق و المغصوب و كذا وجب أن يرد كل ما أخذه من الربا، فإن كان صاحبها موجودا و هو غني أوصلها إليه و إلا وجب الاستحلال و المسامحة منه، و إما إذا كان غائبا و لا يعرف مكانه استغفر اللّٰه له و طلب المغفرة و الرحمة... و تصدق به عنه...

- و إن كانت المعصية قتل نفس خطأ أوصل الدية إلى أهله و إن كانت عمدا اعترف أمامهم و خيرهم بمقتضى الشرع بين الأمور المذكورة في كتب الفقه و هكذا دواليك في سائر الأمور. فليس التوبة مجرد لقلقة لسان و إنما هي حرقة في الجنان، و كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لمن قال بحضرته: استغفر اللّٰه: ثكلتك أمك. أ تدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين و هو اسم واقع على ستة معان:

أولها: الندم على ما مضى.

و الثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا.

و الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّٰه أملس ليس عليك تبعة.

ص: 335

و الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها تؤدي حقها.

و الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم و ينشأ منهما لحم جديد.

السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول استغفر اللّٰه...

و هذا الحديث الشريف من الإمام يكشف لنا حقيقة التوبة و جوهرها و ما يتبعها من الواجبات التي يجب أن تتوفر فيها كي تقع صحيحة...

كل ذنب قابل للتوبة:

أريد أن ألفت النظر هنا إلى أن كل ذنب يقبل التوبة، و ليس في المقام ذنب لا يغفر، بل إن الذنوب كلها قابلة للتوبة صغيرها و كبيرها مهما تصور الإنسان كبر الذنب و شدته و مهما عظم في عينه و تضخم عنده، فعند اللّٰه ليس كبيرا و لا جليلا إذا تداركته التوبة الصحيحة و الرجوع إلى اللّٰه رجوعا سليما، فإن قدرة اللّٰه لا يعجزها ذنب خاطئ أو انحراف منحرف إذا عاد إليه و استغفره و تاب...

قال تعالى: «قُلْ يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ » (1) فهذه الآية الكريمة تفصح أن اللّٰه يغفر الذنوب جميعا فليس عند العصاة من ذنب مهما عظم إلا و هو قابل للتوبة و اللّٰه يقبلها إذا استكملت شروطها...

و إن العصاة مهما كانت جرائمهم يجب أن يضعوا في تصورهم أن اللّٰه يغفرها إذا صدقوا في توبتهم و لا يظنن أن جرمهم أكبر من عفوه فظنهم ذاك أكبر من خطيئتهم لأن هذا الظن فيه تحديد لصلاحية اللّٰه و قدرته من جهة و فيه تكذيب لصريح هذه الآية الكريمة التي تنطق بكل صراحة بقبول كل الذنوب للمغفرة...

إن القنوط من رحمة اللّٰه و اليأس من مغفرته أكبر من الذنب و أشد، و هذا التصور يجب أن يضعه الإنسان أمامه و يتحرك على أساسه و لذا نهى اللّٰه عن القنوط من رحمته كما نهى عن اليأس منها كما قال: «وَ لاٰ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِنَّهُ لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ » (2).

ص: 336


1- سورة الزمر، آية - 53.
2- سورة يوسف آية، - 87.

و نحن من هذا البيان لأهمية الدعاء و دوره في صقل روح المؤمن و نفسه، و لأهمية التوبة و دورها و أهميتها، نرى الإمام في فقراته العلوية يشدد على التوجه نحو اللّٰه بالدعاء و يقول: «و اعلم أن الذي بيده خزائن السماوات و الأرض قد أذن لك في الدعاء و تكفّل لك بالإجابة» - ادعوني أستجب لكم - «و أمرك أن تسأله ليعطيك و تسترحمه ليرحمك و لم يجعل بينك و بينه من يحجبك عنه و لم يلجئك إلى من يشفع لك إليه...» بل يستطيع كل فرد أن يلتقي باللّٰه في دعائه و يتوجه إليه في آناء الليل و أطراف النهار، فليس هناك أوقات محظور فيها اللقاء و ليس هناك موانع بل كل الأبواب مشرعة في كل الأوقات و الأزمان.

و كذلك يشدد الإمام على التوبة فيقول: «و لم يمنعك إن أسأت من التوبة و لم يعاجلك بالنقمة»، و كما في الدعاء و إنما يعجل من يخاف الفوت - «و لم يعيرك بالإنابة» كسائر الناس الذين إن أسأت معهم عيروك باعتذارك و رجوعك إليهم... «و لم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى و لم يشدد عليك في قبول الإنابة و لم يناقشك بالجريمة»، بل إذا صحت توبتك ستر عليك ذنبك و محاسبتك و سدل الستار عليها و كأن لم تكن... «و لم يؤيسك من الرحمة بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، و حسب سيئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا» كما في التنزيل حيث قال تعالى: «مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاٰ يُجْزىٰ إِلاّٰ مِثْلَهٰا وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ » (1).

(فإذا ناديته سمع نداءك، و إذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، و أبثثته ذات نفسك، و شكوت إليه همومك و استكشفته كروبك، و استعنته على أمورك، و سألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار و صحة الأبدان، و سعة الأرزاق. ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، و استمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته فإن العطية على قدر النية. و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل و أجزل لعطاء الآمل) فإذا ناديته سمع نداءك و هو أقرب إلينا من حبل الوريد، و كيف لا يسمع عبده الذي توجه إليه بقلبه و ضميره و هو قد أخذ على نفسه أن يستجيب الدعاء و يقبل النداء و إذا ناجيته علم نجواك و هو الذي يعلم السر و أخفى و يعلم ما تخفي الصدور و لا يخفى على اللّٰه خافية فإذا أفضت إليه بحاجتك و أبثثته ذات نفسك و شكوت إليه همومك و استكشفته كروبك و استعنته على أمورك و سألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره. فإن الإنسان إذا أخلص في الدعاء و أيقن الاستجابة كان اللّٰه عند حسن ظنه و يقينه.0.

ص: 337


1- سورة الأنعام، آية - 160.

و ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه في أموره كلها و لكن أهمها و أحسنها الزيادة في العمر فإنه رأس المال و لكن هذا العمر يكون له جدواه و فائدته إذا كان عامرا بطاعة اللّٰه و تقواه و في خدمة عباده و مصالحهم، و كما يقول مضمون بعض الأحاديث: ليس الحياة إلا لأحد رجلين: رجل أخطأ فيتدارك خطأه بالتوبة، و رجل يزداد من طاعة اللّٰه.

و إلا فالعمر يكون وبالا عليه و مصيبة، فإن عمرا يصرف في الملاهي و المجون و الخيانة و الدعارة و يلقي صاحبه في جهنم إنه لعمر سيء مشؤوم. و ما أكثر الذين تمتد بهم الأعمار و يعمرون في هذه الديار، و لكن أعمارهم كلها قضيت في التفاهات و في إيذاء الناس و إهاناتهم.

مثل هذه الأعمار تعود على أصحابها بالخسران و عذاب اللّٰه العزيز الجبار...

فينبغي للمؤمن أن يستغل عمره كله في طاعة اللّٰه و مرضاته...

ثم إن من الأمور المهمة و التي تحتاج إلى الدعاء كي تستمر و تدوم صحة الأبدان، فإنها النعمة التي لا يعرف السليم قيمتها و لا يدرك أبعادها إلا بعد أن يقع فريسة المرض و عندها فقط يدرك أهمية الصحة و قيمتها و كما قيل: نعمتان مجهولتان الصحة و الأمان... فإن الصحة تجعل من الإنسان حركة دائمة و مسيرة مستمرة. بصحة البدن يؤدي المرء حق اللّٰه من صلاة و صيام و حج و غيرها، كما يؤدي حق العباد في إعانتهم و مساعدتهم و مد يد العون إليهم. بالصحة يحقق الحركة التي تتطلبها الحياة العزيزة الكريمة... و يحق عمارة البلاد و ازدهارها، و أما المرض فإنه يقعد الأسد الهصور و الشجاع الغيور، و كم رأينا من الناس العظام الذين ألّم بهم المرض فأقعدهم عن نشاطهم و شل حركتهم و أوقف مسيرتهم. إن هذا البدن من أشد الأجهزة تعقيدا و من أدقها حكمة و صنعة فتبارك اللّٰه أحسن الخالقين الذي نظم حركة هذا الجسد و رتبها ترتيبا معجزا في كل شيء. فلو أخذنا العين هذه العدسة اللاقطة للصور ترى كم فيها من ألياف و أعصاب، و كم فيها من الأمور الدقيقة و الجليلة بحيث لو تلف بعضها لفقد الإنسان الرؤية، و كذلك سائر أعضاء البدن تجدها من الدقة و الحكمة في منتهى الإعجاز...

إن هذا الجسد العامر القوي الذي كان يتحدى الأبطال و الفرسان، إذا نزل به المرض و خصوصا إذا كان بدرجة قوية فتراه يتراخى و يتهاوى و يطلب النجدة و الإسعاف...

و كما يقول أمير المؤمنين (ع): مسكين ابن آدم تقتله الشرقة و تنتنه العرقة و تؤلمه البقة...

ص: 338

و إزاء هذه الحالات الطارئة على الإنسان و الذي لا يعرف متى تحدث و مم تحدث، و قد تحدث صباحا أو ظهرا أو مساء، قد تحدث من أكلة يتناولها أو شربة يرتوي منها، أو حادثة مزعجة تفقده أعصابه أو غير ذلك مما يمر علينا في الحياة. إزاء هذا الأمر المتوقع في كل لحظة و في كل أمر يجب علينا أن نغتنم الفرص، فرص الصحة و العافية، يجب أن نغتنم أوقات الصحة لكي نؤدي حق اللّٰه و حق العباد لكي نؤدي الواجبات علينا، و نزداد من النوافل و المستحبات...

و كما يقول النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: اغتنم خمسا قبل خمس و عدّ منها «..

صحتك قبل سقمك»، فإن الجسد إذا كان صحيحا و تهاون الإنسان بالقيام بواجباته أو في ازدياد الخيرات و الأعمال الصالحة سيندم و تأكل نفسه الحسرات، سيندم عند ما يمرض و يرى بأم عينه عجزه عن ممارسة ما يريد و عن القيام بما يتمنى...

ثم يذكر الإمام من الأمور التي لا يجب أن ينساها الإنسان في دعائه «سعة الأرزاق» فإن الإنسان إذا وسع اللّٰه عليه في رزقه وجب أن يتحول هذا الرزق إلى طاعة اللّٰه، و يجب أن يمد به الفقراء و المساكين و يساعد المعوزين و المحتاجين، يجب أن يتحول هذا المال إلى طاعة اللّٰه المتمثلة في إشباع الجياع و إكساء العراة و بناء البيوت للضعفاء.

إن سعة الرزق تمنع الإنسان أن يمد يديه إلى ما عند أخيه، فيمتنع عن سرقة أموال الناس كما تجعل يده هي العليا و اليد العليا التي تعطي أفضل من اليد السفلى التي تأخذ، كما أن سعة الرزق يكون بها التوسعة على العيال و في ذلك راحة و اطمئنان...

المال يجب أن يتحول إلى أداة تستخدم في إنعاش المجتمع و في الترفيه عن الناس يجب أن تتداوله الأيدي بالتجارة تارة و القرض أخرى و الهبة ثالثة و الصدقة رابعة و البر و الإحسان خامسة و هكذا دواليك... يجب أن يتحول إلى نفع الناس و ما فيه خيرهم و لا يجوز أن يتحول إلى غاية و هدف. لا يجوز أن يتحول إلى صنم يتجه إليه الإنسان فلا يفكر إلا في اقتناصه و تحصيله و كيفية اختزانه و منعه عن أهله. لا يجوز أن يتحول المال إلى أداة إفساد و رعب، لا يجوز أن يجعل رشوة أو وسيلة لقطع الأرحام و محاربة الأولياء و الأتقياء... يجب أن ينفق في سبيل اللّٰه و لا يجوز اختزانه و كنزه كما قال تعالى في كتابه: «وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ » (1). إن سعة الرزق نعمة يجب أن يزداد المرء بها من5.

ص: 339


1- سورة التوبة، آية - 35.

تقوى اللّٰه، و حبا له و طاعة لأوامره و شكرا له على إحسانه و كرمه. إن سعة الرزق تستحق أن يقف الإنسان عندها وقفة اعتراف بالكرم الإلهي فيؤدي شكرها، و لكن للأسف الشديد فبدل ذلك سار أصحاب الأرزاق في الضلال و الإسراف و البغي و العناد، لقد حولوا هذه السعة في الرزق إلى أداة زرع الفساد و نشر الضلال، و لقد رأينا بأعيننا كيف تحولت بعض الأموال و الأرزاق من نعمة إلى نقمة، و من منحة إلى محنة، فعند ما كان فقيرا كان يتقي اللّٰه و يطيعه و لكن عند ما مدّ اللّٰه له في الرزق و العطاء بغى و طغى فشرب الخمر و أكل الحرام و فتح باب السكر و الانحراف و راح يسعى في إضلال الناس و إغوائهم و يساعد على انحراف المجتمع و إفساده. لقد تحول إلى عنصر مخرب يضرم نار الفساد في كل ما تطاله يده.

ثم إن الإمام رغبنا في أن القضية بأيدينا و مفتاح ذلك معنا نستطيع أن نستعمله متى أردنا و لذا قال: «ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته و استمطرت شآبيب رحمته... فلا يقنطنك إبطاء إجابته فإن العطية على قدر النية و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل و أجزل لعطاء الآمل. و قد تقدم منا في مبحث الدعاء ما ينير لنا الدرب في شرح هذه الفقرات العلوية المباركة...

(و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك. فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته. فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله و ينفى عنك و باله، فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له) نعم ربما طلب الإنسان أمرا فلا يؤتاه و يظن عندها الظنون و الخواطر و الأوهام و لكن قد يكون بطلبه ذاك ضياع دينه و خسران سعادته فعسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم، فإن الإنسان لقصوره قد يتصور أن سعادته تتحقق في هذا الأمر المطلوب و لكنه يجهل أن شقاءه قد يكون فيه.

ثم إن الإمام يوجه هذا الإنسان إلى أن يطلب معالي الأمور و كبارها و يهتم بالعظيم و الجليل مما يحقق له سعادة الدارين و يكسبه رضا اللّٰه و لا يجعل كل همه في طلب المال الذي لن يبقى لهذا الإنسان و لا هذا الإنسان يبقى له.

(و اعلم يا بني أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا و للفناء لا للبقاء، و للموت لا للحياة، و إنك في منزل قلعة و دار بلغة و طريق إلى الآخرة، و أنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه، و لا يفوته طالبه، و لا بد أنه مدركه. فكن منه على حذر أن يدركك و أنت

ص: 340

على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك و بين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك) و اعلم يا بني: أن هناك علة خلقت من أجلها فيجب أن تكون محط نظرك و جهاد عملك و لا يجوز لك أن تتوانى في تحصيلها أو تتكاسل في طلبها فمن توانى أو تكاسل لم يدرك مطلوبه و لم يحصل على غايته، و من سوّف في تحصليها رجع خاسرا خاسئا يندم في وقت لا ينفع فيه الندم، و إن هذه الغاية هي الآخرة التي يجب أن يبذل كل طاقاته من أجل ضمانها و إدراكها. و هذا لا يكون إلا إذا استطاع أن يقوم بمهامه الواجبة عليه و استطاع أن يخترق كل الموانع و العقبات التي قد تعترض طريقه أو تحجز مسيرته.. إنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، و كيف يخلق للدنيا من تنقضي دنياه و هل يخلق لشيء يمر عليه دون استقرار و كيف يخلق لأمر لا دوام له و لا بقاء، مع ما في هذه الدنيا من المتاعب و المصاعب و مع ما فيها من الأحداث و المشاكل. لا لم يخلق الإنسان للدنيا كما أنه لم يخلق ليبقى فيها. و كما يعبر الإمام إنها منزل (قلعة) يعني يقتلع منها الإنسان و لا يبقى فيها بل يتحرك عنها ليحل محله آخرون يقومون فيها بما رسم لهم من عمل و ما وجب عليهم من حق كما أنها دار يتبلغ بها الإنسان إلى الآخرة و يتزود فيها لأجل أن يعبرها نحو الآخرة.

ثم إن الإمام ينبه الأنظار إلى أن الإنسان في هذه الدنيا طريد الموت، فالموت يطارده و لا بد و أنه مدركه «أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ » (1).

قد تطول بعض الأعمار و قد يقصر البعض الآخر و لكن في النهاية لا بد من هذا الكأس الذي سيشربه كل إنسان. و إذا كان الإنسان ينتظر هذا الزائر القابض فلا بد و أن يكون دائم الاستعداد للرحيل، موطن النفس على قبوله. يجب أن يبقى في خط اللّٰه و ضمن حدوده التي رسمها له... و لا يجوز له أن يتجاوزها أو يتخطى عنها. لا يجوز له إذا كان عاقلا رشيدا عالما، و الموت يطلبه و قد يفاجئه في كل لحظة و في كل ثانية، لا يجوز له أن ينحرف أو يضل و لا يجوز له أن يعصي اللّٰه أو يخالفه إذ ربما أتاه الموت و هو على تلك الحالة السيئة التي لم يتداركها بالتوبة فيهلك نفسه و يوبق آخرته. إنها ميتة السوء تلك التي تأتي الإنسان و هو على معصية من معاصي اللّٰه... و ما أشأمها من ميتة و ما أقبحه من مصير... أدركه الموت و هو متلبس بالجريمة و المخالفة... لقد قبض عليه بالجرم المشهود... قبض عليه و كلتا يديه في دم الضحية سابحة... و ما أصعب الإجابة عندها... و ما أقبح الاعتذار؟! هل يستطيع أن يقف أمام المحكمة العادلة التي8.

ص: 341


1- سورة النساء، آية - 78.

لا تطلب شهودا غير جوارحه و أعضائه...؟ فتبادر اليد لتشهد عليه بما جنى و اقترف و تشهد العين عليه بالنظرة الحرام و المشهد الباطل، و تشهد الرجل عليه لأي حرام سار و في أي طريق سلك. يشهد عليه جلده و سمعه و قلبه و فؤاده. تشهد عليه كل جوارحه يومئذ. «وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدٰاءُ اَللّٰهِ إِلَى اَلنّٰارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّٰى إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ قٰالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنٰا قٰالُوا أَنْطَقَنَا اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاٰ أَبْصٰارُكُمْ وَ لاٰ جُلُودُكُمْ وَ لٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّٰا تَعْمَلُونَ » (1).

إن المعصية جريمة فإذا مات الإنسان على معصية اللّٰه يكون كما يقول أمير المؤمنين: قد أهلك نفسه، قال عليه السلام: فكن منه على حذر أن يدركك و أنت على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك و بين ذلك فإذا أنت قد أهلكت نفسك.

(يا بني أكثر من ذكر الموت و ذكر ما تهجم عليه و تفضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك و قد أخذت منه حذرك، و شددت له أزرك و لا يأتيك بغتة فيبهرك و إياك أن تغتر بما ترى منه إخلاد أهل الدنيا إليها و تكالبهم عليها، فقد نبأ اللّٰه عنها و نعت لك نفسها.

و تكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية يهر بعضها على بعض و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها. نعم معقلة و أخرى مهملة قد أضلت عقولها و ركبت مجهولها، سروح عاهة بواد وعث، ليس لها راع يقيمها و لا مسيم يسيمها، سلكت بهم الدنيا طريق العمى و أخذت بأبصارهم عن منار الهدى فتاهوا في حيرتها و غرقوا في نعمتها و اتخذوها ربا فلعبت بهم و لعبوا بها و نسوا ما وراءها. رويدا يسفر الظلام كأن قد وردت الأظعان، يوشك من أسرع أن يلحق) تأكد الحثّ من الإمام على ذكر الموت و الاعتبار بالأموات و ما يعقب الموت من منزل الوحشة و دار الغربة، و ما في تلك الحفرة الضيقة الصغيرة المعتمة و ما ينتاب ذلك الجسد المدلل في دار الدنيا من البلى و التلف، و ما يعرض عليه من التحلل و التآكل، فإنه سيصبح طعمة للدود و الحشرات، و سيتحول ذلك اللحم الذي نما على الحرام إلى تراب تدوسه الناس بعد مئات السنين. و ستصبح تلك العظام القوية إلى رميم، تتفتتت إلى ذرات صغيرة لا يعلمها إلا اللّٰه... هذا كله ما نراه بالعين المجردة عند مرورنا على المقابر القديمة أو2.

ص: 342


1- سورة فصلت، الآيات - 19، 20، 21، 22.

عند ما نفتح بعض القبور الدارسة... و لكن هذا يجب أن لا ينسينا الموقف الأهم الذي يتعرض له هذا الإنسان خلال فترة البرزخ و حساب الملكين له. و ما أعده اللّٰه للمطيعين و العاصين، و يوم الحشر و النشر و العرض و الحساب، هذه الأمور و إن كانت غائبة عن حواسنا و لسنا ندركها بعين البصر، فقد أدركناها من منطق الإيمان و وقفنا على الكثير من التفصيلات عن طريق أهل بيت العصمة و النبوة حيث زودنا الرسول الكريم و أهل بيته بما سوف يتعرض له الإنسان و ما يمر عليه من المشاهد و المواقف، إنها مشاهد مروعة عند ما يعيشها الإنسان و هو في دار الدنيا، عند ما يقرأها تأخذ بمجامع قلبه و تهزه من الداخل و يشعر أنه يعيش تلك اللحظات القاسية التي يقف فيها أمام الملكين و يمر فيها على الصراط و كذلك خروج الناس من الأجداث حفاة عراة، كل إنسان قد شغله حاله و أهمته نفسه.

و نحن سنذكر طرفا مما نقل في هذا المجال كي يقف كل واحد منا على بعض المشاهد فيستعد لها و يعد العدة لذلك اليوم الذي لا بد أن يأتي... إننا نذكر بعض تلك المشاهد لا لمجرد العرض بل لكي نستعد لها و نهيء أنفسنا لاجتيازها بنجاح و نصر.

ففي الكافي كما ينقل صاحب المحجة البيضاء بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا و أول يوم من أيام الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله فيلتفت إلى ماله فيقول: و اللّٰه إني كنت عليك حريصا شحيحا فما لي عندك ؟ فيقول: خذ مني كفنك. قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: و اللّٰه إني كنت لكم محبا و أني كنت لكم محاميا فما لي عندكم ؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك فنواريك فيها، قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: و اللّٰه إني كنت فيك لزاهدا و إنك كنت علي لثقيلا فما ذا عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك و يوم نشرك حتى أعرض أنا و أنت على ربك، قال: فإن كان للّٰه وليا أتاه أطيب الناس ريحا و أحسنهم منظرا و أحسنهم رياشا، فقال:

أبشر بروح و ريحان و جنة و نعيم، و مقدمك خير مقدم فيقول له: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك الصالح المرتحل من الدنيا إلى الجنة. و إنه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يعجله، فإذا أدخل قبره أتاه ملكا القبر يجران أشعارهما و يخدان الأرض بأقدامهما، أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف فيقولان له: من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فيقول: اللّٰه ربي و ديني الإسلام و نبيي محمد. فيقولان له: ثبتك اللّٰه فيما تحب و ترضى و هو قول اللّٰه عز و جل: «يُثَبِّتُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّٰابِتِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ » ، ثم يفسحان له في قبره مدّ بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة ثم يقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم. فإن اللّٰه يقول: «أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ»

ص: 343

«مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً» . قال: و إذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح من خلق اللّٰه زيا و رؤيّأ و أنتنه ريحا فيقول له: أبشر بنزل من حميم و تصلية جحيم و أنه ليعرف غاسله و يناشد حملته أن يحبسوه فإذا أدخل القبر أتاه ممتحنا القبر فألقيا عنه أكفانه ثم يقولان له من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فيقول: لا أدري فيقولان: لا دريت و لا هديت فيضربان يا فوخه بمرزبّه - عصاة كبيرة من حديد - معهما ضربة ما خلق اللّٰه من دابة إلا و تذعر لها ما خلا الثقلين ثم يفتحان له بابا إلى النار يقولان له: نم بشرّ حال، فيه من الضيق مثل ما فيه القنا من الزجّ حتى أن دماغه ليخرج من بين ظفره و لحمه، و يسلط اللّٰه عليه حيّات الأرض و عقاربها و هوامها فتنهشه حتى يبعثه اللّٰه من قبره...

و روى الصدوق في المرور على الصراط عن الصادق عليه السلام قال: الناس يمرون على الصراط طبقات، و الصراط أدق من الشعر و أحدّ من السيف فمنهم من يمر مثل البرق، و منهم من يمر مثل عدو الفرس، و منهم من يمر حبوا، و منهم من يمر مشيا، و منهم من يمر متعلقا قد تأخذ النار منه شيئا و تترك شيئا.

و في الكافي عن بشير الدهان عن الصادق عليه السلام قال: إن للقبر كلاما في كل يوم، يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. قال الشيخ الصدوق في رسالة الاعتقاد: اعتقادنا في ذلك - في العقبات التي على طريق المحشر - إن هذه العقبات اسم كل عقبة منها اسم على حدة اسم فرض أو أمر أو نهي، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها الفرض، و كان قد قصّر في ذلك الفرض حبس عندها و طولب بحق اللّٰه فيها، فإن خرج منه بعمل صالح قدّمه و برحمة تداركه، نجا منها إلى عقبة عقبة أخرى فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة و يحبس عند كل عقبة فيسأل عما قصّر فيه من معنى اسمها فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيى حياة لا يموت فيها أبدا و يسعد سعادة لا شقاوة معها، و سكن في جوار اللّٰه مع أنبيائه و حججه و الصديقين و الشهداء و الصالحين من عباده، و إن حبس على عقبة فطولب بحق قصر فيه فلم ينجه عمل صالح قدمه و لا أدركته من اللّٰه تعالى رحمة زلّت به قدمه عن العقبة فهوى في نار جهنم...

هذه بعض اللقطات أكتفي بها عن ذكر غيرها و من أراد الزيادة فعليه بمراجعة الكتب المتعرضة(1) لذلك و هذه الصور يجب أن يستعد المسلم لمقدماتها فيحسن أعماله و لا يتهاون فيما فرض اللّٰه عليه و أوجب، بل يبادر إلى إحقاق الحق و إزهاق الباطل و إلىن.

ص: 344


1- مثل كتاب البحار، و المحجة البيضاء، و حق اليقين.

الجهاد و العمل الصالح و يبادر إلى تصحيح مساره و سلوكه كي تتوافق كلها مع أوامر اللّٰه و نواهيه و تأتي منطبقة تماما مع مرادات اللّٰه و أحكامه.

إن على المسلم أن يكون دائم الاستعداد للرحيل من هذه الدنيا فيجب أن يقطع تعلقه بما فيها من بهارج و من مال و عقار و يكون في شوق مستمر إلى لقاء ربه و خالقه.

و هذا الفرد المتطلع إلى ذلك اليوم الكريم و المنتظر له، إنما هو الصالح من الناس الذي حسن عمله و زكّى تصرفه و أطاع ربه... إن على المرء أن يكون على الدوام مستعدا للرحيل حتى إذا فاجأه الموت كان على وضع يرضاه اللّٰه و يقبله، أما إذا فاجأه الموت و هو على خلاف ذلك فإنها الخسارة و الإهانة و لذا قال الإمام: يا بني أكثر من ذكر الموت و ذكر ما تهجم عليه و تفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك و قد أخذت منه حذرك و شددت له أزرك و لا يأتيك بغتة فيبهرك.

ثم إن الإمام ينهاه بل ينهانا عن الاغترار بإخلاد أهل الدنيا إليها و تكالبهم عليها.

و ما أروع هذا النهي و أجلّه، إنه لا يرضى أن نخلد إلى الدنيا خلود أهلها إليها، فإن من أخلد إلى الدنيا و سكن إليها و إطمأنّ بها قطع الأرحام من أجلها و قتل النفوس من أجل تحصيلها و باع الأوطان في سبيلها من أخلد إلى الدنيا لم يعد يفكر إلا في الحصول عليها و الوصول إليها، و لو كان ذلك على حساب الدين و الضمير و المباديء و القيم. إن كل شيء يتبخر أمام حفنة من المال يجمعها، أو لذة يقتنصها، أو شهرة يرتفع بها أو كرسي يعلو عليها. إن من انقطع إلى الدنيا و ذاب في أشيائها و ملذاتها ابتعد عن الحق و سار في طريق الباطل و غامر بكل ما يستطيع في سبيل تحصيلها. و ما نجده أمامنا من الصور المأساوية من أدلّ الأمور على ذلك حيث نجد أهل الدنيا لا ينظرون إلى الفقراء و نجد الطغاة يتحكمون في رقاب الضعفاء و نجد الأقوياء يسيرون في عمليات البطش و الدمار.

إن حب الدنيا يعمي و يصم فتتقطع به الأرحام فلا الوالد يعطف على ولده و لا الولد يحترم أباه و هكذا دواليك. إن الدنيا إذا تحولت إلى هدف بذاتها أفسدت الطبيعة البشرية و أضلت العقول السليمة، و راح كل إنسان يسابق الآخرين من أجل تحصيلها و تحصيل ما فيها... فيستبيح الغش و الخيانة كما يستبيح الربا و السرقة و يستبيح جميع المحرمات من أجل أن يكسب الدنيا و يجمع ثرواتها. و من هنا شبهها الإمام و شبّه أهلها بهذه التشابيه العادلة...

شبّه أهلها بالكلاب العاوية و السباع الضارية فكل واحد يصيح في وجه الآخرين و يشن عليهم حملة مسعورة من أجل مغنم يريده أو مكسب يبتغيه، و هم كالسباع الضارية الكاسرة، القوي يأكل الضعيف، و الكبير يقهر الصغير. بعضهم لا يستطيع الحركة فهو

ص: 345

كالناقة المعقلة التي ربطت رجلها فامتنعت عن التصرف كما تشاء بل هي خاضعة لهذا العقال، و منهم مرسلة مهملة تسرح كما تشاء و تتصرف كما تشاء و تعمل ما تشاء فليس لها رادع من دين أو مانع من ضمير فأفسدت و قتلت و سلبت و ركبت رأسها وسعت في إضلال غيرها و لكن كل ذلك سيكشف أمام الملك العلاّم فينجو المؤمنون السائرون على خطى اللّٰه و يسقط المتهاونون و المبتعدون عن ساحته و رضاه.

(و اعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل و النهار فإنه يسار به و إن كان واقفا، و يقطع المسافة و إن كان مقيما و ادعا.

و اعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك، و لن تعدو أجلك، و أنك في سبيل من كان قبلك) شبه الليل و النهار بالمطية التي يركبها الإنسان ليقطع بها إلى مراده. و لئن كانت المطية قد تتعب الراكب و تضنيه إذا استغرقت الرحلة مدة طويلة و يشعر معها بالملل و التعب فإن الليل و النهار يسيران بالإنسان دون أن يشعر بهما أو يحس بوجودهما و ذلك لأنهما يتكرران باستمرار، و متى تكرر الشيء بطل الإحساس به و التفكير بأبعاده، لأنه يصبح أمرا مألوفا كجزء منك...

ثم إن الإمام ينبه هذا الإنسان إلى أنه لن يدرك أمله و يعني بالأمل ليس أملا معينا فلربما أدركه و لكن ما إن يحقق الفرد أملا إلا و بدت له آمال، و انفتح أمامه الكثير من الآمال. و هكذا دواليك فيأتي الموت و الآمال تتراىء أمام الإنسان و لا يدركها، و هذا شيء مدرك بالوجدان يمر على كل واحد منا، كنا صغارا و كانت آمالنا لا تعدو آمال أقراننا من أكلة نحصل عليها أو لذة نستوفيها، أو مقدار من المال نكتسبه، و عند ما تقدمت بنا السن إلى الشباب تبدلت آمالنا فغدت زوجة و دارا و سيارة و مالا، و لما تحققت هذه الأمور ارتفعت الآمال بارتفاع الهمم و الرؤى، فغدت نظرة مستقبلية تتضمن تحقيق الحق و إزهاق الباطل و تحرير الأوطان و الإنسان... بعد أن تقدمت بنا السن غدت آمالنا تحقيق إرادة اللّٰه و نشر الإسلام و رفع راية التوحيد. غدت فكرا إسلاميا يشع على الكون و شرعة ربانية تحكم الإنسان و المجتمع... إنه الأمل الذي يتجدد في كل مرة و يسير في عدة اتجاهات. و الآمال التي تتخذ طابع النظرة إلى اللّٰه و الدار الآخرة آمال ممدوحة لا تخالف أوامر اللّٰه و مرضاته بل هي من صميم الإسلام و مقتضيات الإيمان و لذا يتقدم الشهداء إلى ساحة المعركة أملا بالنصر، فإن ماتوا قبل تحقيقه فقد يتحقق على أيدي المجاهدين بعدهم، و من زرع ليأكل هو إن استمر على قيد الحياة أو يأكل غيره إن مات فهو أمل مقبول... أما الأمل المبغّض هو الذي ينسي الآخرة و يمنع عن رؤية الحق...

فيسترسل وراء أمله دون نظر إلى عواقب الأمور و نتائجها...

ص: 346

(فخفض في الطلب و أجمل في المكتسب فإنه رب طلب قد جر إلى حرب فليس كل طالب بمرزوق و لا كل مجمل بمحروم، و أكرم نفسك عن كل دنية و إن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا. و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّٰه حرا. و ما خير خير لا ينال إلا بشر، و يسر لا ينال إلا بعسر. و إياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة، و إن استطعت ألا يكون بينك و بين اللّٰه ذو نعمة فافعل فإنك مدرك قسمك، و آخذ سهمك. و إن اليسير من اللّٰه أعظم و أكرم من الكثير من خلقه و إن كان كل منه) لقد أمرنا بالطلب و السعي وراء الرزق و أن الجالس في بيته المكتفي بدعاء اللهم ارزقني أحد الثلاثة الذين لا تستجاب دعوتهم لأنه قد طلب الرزق بغير أسبابه المشروعة التي وضعها اللّٰه و سنها لتحصيل ذلك. و لكن هذا الطلب و السعي يجب أن لا يكون إلى درجة النهم و الجشع بل يجب أن يخفض الإنسان فيه و يرفق لئلا يحصل على عكس المطلوب فإن بعض أبناء الدنيا تراه ساعيا ليلا نهارا في سفره و حضره مجتمعا مع الناس أو منفردا بنفسه، حتى في صلاته و عبادته يفكر في الحصول على الدنيا و يبحث في عوامل اكتسابها و ربحها. إنك تراه في هم دائم و حركة مستمرة و سعي متواصل لا ينام إلا في آخر الأوقات و تراه أول الناس قياما، لا يأكل مع عائلته لقمة واحدة و لا يراهم إلا في قليل من الأوقات. تراه يشتاق إلى رؤية أبنائه لأنه لا يعود إليهم إلا في آخر وقته عند ما يكونون قد رقدوا إلى فراشهم، و يغادرهم قبل أن يستيقظوا. تراه تارة يركب البحر و أخرى يمتطي الجو و ثالثة يقطع المفاوز و الجبال. حياة كلها شقاء و تعب و عرق و نصب، حياة مملوءة بالمخاطر و المهالك. يطلب الثراء الفاحش و الغنى الكثير، يريد أن يفاخر الأغنياء و يعيش مع الكبار من الطغاة و قوارنة المال. يريد أن يصبح من كبار أثرياء العالم... و لكن و للأسف ربّ طلب قد جرّ إلى حرب، كما يقول الإمام: فرب إنسان كانت تجارته صغيرة ذات رأس مال قليل تفي بحاجته و مصاريفه و هو بعد في حياة سعيدة فإذا به يحب أن يوسعها و يغامر بما عنده فإذا به يخسر كل ما عنده و يعلن إفلاسه أمام الناس، و ربّ مهاجر مغامر قد جنى على نفسه. فليس كل طالب بمرزوق كما أن من أجمل بطلبه فليس بمحروم إذ ربما أتت النعمة و نزل الرزق على إنسان يجمل في الطلب و لا يكدح كدح المستميت... و هذا ما نراه بأم أعيننا...

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه *** و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

ثم إنه عليه السلام أمرنا أن نكرم أنفسنا عن كل دنية مهما كانت عاقبتها. فالسرقة عمل دنيء و سافل و إن كان في ذلك تحصيل للمال و اكتساب محرم له... و الكذب عمل شائن و مهين و إن كان فيه جلب للمنفعة أو دفع للمفسدة. و الخيانة جريمة و دناءة

ص: 347

و إن كان فيها ربح و مال. فإن كل هذا و ما يشبهه و إن عادت على الفاعل بشيء من الفائدة و الربح، و لكنها لن تعدل ما بذله من حق نفسه و ماء محيّاه. لأنه إذا انكشف أمره فيسقط من أعين الناس و يحتقره المجتمع و إذا بقي جرمه بينه و بين نفسه و خيانته لم تتعدّاه، فإن كان ذا دين و ضمير فإنه يعيش الألم و المعصية لشعوره بمخالفة دينه و ضميره، و في ذلك عذاب كبير و مهما كانت النتائج كبيرة تعدّ صغيرة إذا ما قيست بهذه المخالفة الإلهية و الضميرية. هذا كله إذا كانت الدنيّة تتضمن مخالفة شرعية محرمة و قد تقتضي غير ذلك كما هي الحال في دنيّة السؤال و الطلب، و مدّ اليد إلى الأغنياء و الاستجداء من أصحاب الثراء، فإن هذه الدنيّة فيها بذل ماء الوجه و لا يعادل ذلك مال الدنيا، فيها يد سفلى تمتد إلى يد فوقها و في ذلك منتهى الضعة و الهوان، فإن الكرامة و العزة لا تقابل بالمال مهما كان كثيرا... لأنه يأتي و يذهب و تتداوله الأيدي و لا يستقر، و لكن الكرامة و العزة إذا أهدرت لا تعوّض و إذا ذهبت لا تعود...

ثم إنه ينهانا أن نتحول عبيدا لغير اللّٰه و قد جعلنا اللّٰه أحرارا... جعلنا أحرارا نمتلك حرية الإرادة و الرأي فلا يجوز أن نتحول إلى أدوات تحركنا من خلفنا آراء الآخرين و تسيّرنا كما تحب و تشتهي. كما أننا أحرار في عقائدنا و أفكارنا فلا يجوز أن تملى علينا عقائد مستوردة و أفكار دخيلة غريبة، بل يجب أن نستقل في تفكرينا و عقيدتنا كما نستقل في إرادتنا و مرادنا...

كذلك يجب أن نبقى أحرارا في تصرفنا و حركتنا فلا يجوز لإنسان يمنّ علينا بقبضة من المال أن يشل حركتنا و يمنع مسيرتنا... و كما أن الفرد يجب أن يستقل في إرادته و حركته كذلك الدول يجب أن تستقل بطريقة أولى، بل يجب أن تمتلك وحدها حرية رأيها و إرادتها و حركتها، يجب أن تملك قرارها... قرار حربها و سلمها و قرار سكونها و حركتها، و قرار رأيها و عقيدتها، يجب على الدولة أن تستقل في كل شيء و لا تبقى تدور في فلك غيرها، و تنفذ ما يقوله الغير فحسب. و للأسف الشديد قد صار الأشخاص تابعين في أفكارهم و آرائهم لما تمليه عليهم شخصيات لم يؤمنوا بها و لم يروا صحة رأيها و لكن المنفعة دفعتهم إلى قبول آرائهم و كذلك الدول أضحت تدور كلها في فلك الاستكبار العالمي الذي يقود زعامته - أميركا و روسيا - و أصبحت الدول كلها لا تمتلك حرية رأيها و إرادتها بل أضحت خاضعة لآراء القوتين الطاغوتيين: أميركا و روسيا. لقد تحولت الدول الأخرى إلى مستعمرات عليها تنفيذ القرار الصادر من أولياء أمورها حتى وصل الأمر إلى أن صعود حاكم و نزول آخر عن كرسي الحكم أضحى بقرار دولي تصدره إحدى هاتين الدولتين المستكبرتين. و أضحى كل حاكم صغير و بلد صغير يحتمي خلف

ص: 348

واحدة منهما عبدا مطيعا و رقيقا خالصا لا يملك من أمره شيئا. و إذا أراد أحد أن تسوّل له نفسه الانفكاك من هذه التبعية و الاستقلال في الرأي و الحركة فإنها ستعلن عليه الحرب الباردة و توجه نحوه كل ما تملك من عملاء في الداخل و الخارج كي يمنعوه تحقيق قراره و تنفيذ مراده.

إن الدول الصغرى قد اكتفت باسم الاستقلال و عاشت على هذا الاسم تحلم به و تظن أنها على شيء من الاستقلالية، و هي في الحقيقة على خلاف ذلك، إنها أقل شأنا من المستعمرات التي تحكمها تلك الدول مباشرة. فالإنسان، كما الشعوب و الدول يجب أن تكون حرة كما أراد اللّٰه و أحب لا كما أرادت - أميركا و روسيا - يجب أن ينبع قرارها من ذاتها مهما كانت العواقب فإن ذلك لمصلحة الفرد و المجتمع و الدولة. و هذا ما حصل فعلا في إيران الإسلام عند ما حطمت عرش الطاوس و رفضت التبعية لأمريكا أو روسيا و أخذت على نفسها أن يخرج قرارها من إسلامها و عقيدتها و من دينها و تراثها، عند ما رفضت التبعية و الدوران في فلك غيرها، قام العملاء في الداخل و الخارج لمحاربتها بتوجيه من أسيادهم في واشنطن و موسكو، و لكن هذه الأمة ستنتصر مهما كانت التضحيات جسيمة و البذل و العطاء كبيرا لأن من أراد أن يعيش عزيزا حرا و سيدا مستقلا عليه أن يوطّن نفسه لكل التبعات التي تنتج من وراء ذلك القرار الثوري الرباني...

ثم إنه عليه السلام ينبهنا إلى سوء الطمع و عاقبته القبيحة إذ ربما قاده الطمع في أمر إلى ارتكاب حرام من أجل الحصول عليه و ربما دفعه طمعه إلى قطيعة رحم أو هجر خليل أو الإساءة إلى صديق، فيكون الطمع مسيئا له مذلا لنفسه، و لذا ورد في الروايات عن الإمام الباقر (ع) قال: بئس العبد عبد له طمع يقوده، و بئس العبد عبد له رغبة تذله...

و يقول الإمام علي بن الحسين عليهما السلام: رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس.

و يقول النبي الكريم - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «إياك و الطمع فإنه الفقر الحاضر».

و قال أمير المؤمنين (ع): استغن عمن شئت تكن نظيره و ارغب إلى من شئت تكن أسيره و أحسن إلى من شئت تكن أميره...

و بعد هذا يوجهنا الإمام إلى الانقطاع إلى اللّٰه و التخلي عن كل ما نعتبره واسطة إلينا في إيصال الخير، فإن هذه الواسطة سيكون لها المنّة و الفضل علينا و نجد من أنفسنا

ص: 349

خضوعا لها و تذللا و يكفي ذلك سببا لرفض كل واسطة و الرجوع إلى اللّٰه خالق الأسباب و مسببها...

(و تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، و حفظ ما في الوعاء بشد الوكاء و حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يدي غيرك و مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس) منطق المسلم يتصف بالرزانة و العفة و العدل و الصدق، لا يتكلم إلا بما يرضي اللّٰه و ينفع الناس فلا لغو و لا هذر و لا استطالة و لا غيبة و لا بهتان و لا سباب و لا شتائم، يفكر في الكلمة قبل أن تخرج و يدرس مفعولها قبل أن تنطلق و يعلم آثارها قبل أن تقع، الكلمة في قاموسه يجب أن تكون طيبة، لأنها تكون ثابتة الجذور متينة القرار شامخة الفروع و الآثار مثل كلمة طيبة «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي اَلسَّمٰاءِ » .

الكلمة في الإسلام لها مفعولها الذي قد يخلق جيلا صالحا يحمل أهداف الأنبياء و الرسل كما أن لها آثارها التي تهدم البيوت و تخرب الأفكار و تقضي على كل الحضارات التي بنتها الإنسانية خلال عمرها الطويل. الكلمة التي تنطلق من هذا اللسان قد تهدي إنسانا إلى الرشد و ترده عن الضلال، قد توحد المتفرقات و تجمع الشتات، كما أنها قد ينعكس أثرها و تأتي بخلاف ذلك. و المسلم هو الذي يملك لسانه فلا يتطاول على كرامات الناس و أعراضهم. كما لا يتفكه في مجالسه بغيبتهم و ازدرائهم...

و هناك الثرثارون المصابون بكثرة الكلام و الحديث، إنهم مرضى الكلام فتجد أحدهم يحدثك ساعة كاملة لا تستفيد منها و لو بكلمة واحدة... يتحدث في مجلسك وحده دون غيره، إنه يبدأ بالحديث و يستمر يستطرد تارة و يعيد أخرى، و يصعد إلى السماء مرة و يهبط إلى الأرض ثانية و هكذا دواليك لا يكاد ينتهي من حديث حتى يدخل في حادثة قد تطول و تتأخر و تجعل عندك مللا و سأما و تتمنى ساعة فراقه و رحيله...

هؤلاء المرضى لا تخلو مجالسهم من الهفوات و الهنات و الخطل و الشطط، يكثر عثارهم و اعتذارهم و توبتهم و رجوعهم... تكثر خطاياهم و معاصيهم... و إن بعض العثرات لا تقال و بعض الأعذار لا تنفع... و قد ورد عن أهل البيت من الوصايا و التعاليم في حفظ اللسان ما يجعلنا نقف عندها قليلا كي ندرسها و نفكر بها و نعمل بمضمونها فإن السعيد من تدبّر و اعتبر...

قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «من كف لسانه ستر اللّٰه عورته».

قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «رحم اللّٰه عبدا تكلم خيرا فغنم أو سكت عن سوء فسلم».

ص: 350

قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه، ثم أمضاه بلسانه و إن لسان المنافق أمام قلبه فإذا همّ بشيء أمضاه بلسانه و لم يتدبره بقلبه».

قال أمير المؤمنين في نهجه: «و اجعلوا اللسان واحدا و ليخزن الرجل لسانه فإن هذا اللسان جموح بصاحبه. و اللّٰه ما أرى عبدا يتقي تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه، و إن لسان المؤمن من وراء قلبه و إن قلب المنافق من وراء لسانه لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه فإن كان خيرا أبداه و إن كان شرا و اراه، و إن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له و ما ذا عليه و لقد قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه و لا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».

و قال الصادق عليه السلام: لا يزال العبد المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا فإذا تكلم كتب محسنا أو مسيئا.

و قد وردت الأحاديث أيضا بمدح الصمت منها ما عن الإمام الرضا: من علامات الفقه: الحلم و العلم و الصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة، إنه دليل على كل خير.

و قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: من صمت نجا، و قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: ألا أخبركم بأيسر العبادة و أهونها على البدن: الصمت و حسن الخلق.

و هذا المدح للسكوت و كف اللسان يكون له فائدته و ثمرته إذا خاف الإنسان أن يقع في الحرام و إلا فإن السكوت يعد جريمة إذا استطاع أن ينطق الإنسان بكلمة الحق ثم يسكت، كما أن بالمنطق و البيان يعلم الجاهل و يرشد الضال و يهدي الحيران، فيجب على الإنسان أن يعرف متى يتكلم ليكون مثابا على كلامه، و يجب أن يعرف متى يسكت و يصمت حتى يثاب على صمته و سكوته، و إلا إذا خالف ذلك عصى و تردّى...

و الإمام يسن لنا قاعدة عقلائية تعارف الناس عليها و هي أن خطأ اللسان يصعب تداركه و الاعتذار منه، فمن هفافي منطقه أمام جمع من الناس حفظوا عليه خطأه و ذكروه به متى نسي، و صعب عليه الاعتذار منه، لأن ما وقع لا يمكن رده و الناس عنيدة في محفوظاتها لا تسقطها بيسر و سهولة، أما إذا عابه الناس لعدم حديثه أو لقلته فإنه يمكن تداركه بالنزول إلى ساحة الكلام و يسدل الستار عما قصّر أو قلل.

ثم إنه عليه السلام حبّب إليه أن يحفظ ما في يديه على أن يبذله و يطلب مثله من

ص: 351

الناس و المقصود من حفظه أن يعمل فيه بما أمر اللّٰه فلا إسراف و لا تبذير، و لا ما يجعله عالة على الناس بحيث يضطر إلى مدّ يده استجداء و صدقة، فإن العاقل يحافظ على ما عنده فينفق على الوجه الصحيح و يقدم على الوجه اللائق و يتصرف طبق الموازين الشرعية التي تحقق العدالة و ترفع الحيف و تقضي على الفقر و الفاقة.

ثم إنه عليه السلام يضع بين أيدينا مقولة مثالية يريد منا أن ننتهجها في حياتنا و نحرك خطانا نحوها و نعمل بمضمونها و هي أن نيأس مما في أيدي الناس، و هذا اليأس مهما كان مرا فهو كالشهد بالنسبة إلى الطلب من الناس و مد اليد إليهم و الظهور أمامهم بمظهر الحاجة و المسكنة... نعم إن الظهور أمام الأغنياء بمظهر الغنى أشرف بألف مرة من الظهور بمظهر الفقر و الحاجة لأنهم أناس فقدوا الموازين الصحيحة السليمة التي توزن بها الأمور و تقاس بها الحقائق و أخذوا يقيسون الرجال بما عندهم من الأموال و الأثاث و الأرصدة و السندات... لقد انطمست المعالم التي تقودهم إلى الرؤيا الصحيحة و انغمسوا في الماديات بحيث تحول عندهم كل شيء إلى مادة و مال، منه يأخذون الكرامة... و منه يأخذون العزة، و منه يأخذون الفخر، و على قدره يكبر قدرهم و جاههم و كرامتهم و احترامهم. و قد سار بعض العلماء الذين غرّتهم الدنيا خلف هذه المقاييس الباطلة فأخذوا يكرمون بعض الناس مع فسقهم و انحرافهم لأنهم أغنياء يبشون لهم و يضحكون في وجوههم و ينشرحون أمامهم و يقبلون عليهم، و أما إذا جاءهم مؤمن فقير فلا يلتفتون إليه إلا شذرا بوجه عبوس و حواجب مقطبة و غضب شديد ناسين أو متناسين موازين الإسلام و أحكامه...

(و الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور، و المرء أحفظ لسره. و رب ساع فيما يضره، من أكثر أهجر و من تفكر أبصر. قارن أهل الخير تكن منهم و باين أهل الشر تبن عنهم) في هذا الفصل من الوصية أمور خمسة:

الأول: يكشف الإمام عن حقيقة لا يقبلها الكثير من الناس، بل يعملون خلافها و ضدها، ففي حين يذهب علي عليه السلام مع الشرفاء و أصحاب المباديء الرفيعة إلى أن العفة و الصبر على الحرمان أفضل من اكتساب المال و الغنى مع الفجور و الانحلال يذهب غيره من أبناء الدنيا و أصحاب الأهواء و الشهوات إلى عكس ذلك حيث يستحلون كل حرام و يدخلون في كل باطل و يبيعون كل ضمير و كرامة من أجل المال و الغنى. إن عصرنا الذي نقيم فيه من أقبح عصور التاريخ و أسوأها على الإطلاق من هذه الناحية، إنك ترى بيوت الدعارة شاهرة راياتها من أجل المال، إنك ترى حانات الخمر و اللهو في كل شارع من أجل المال، إنك ترى الرشوة و الكذب من أجل المال كيف نظرت و أنى

ص: 352

اتجهت رأيت السعي في سبيل المال دون أن يلحظ الطريق الذي يؤمنه و لا الوسيلة التي يوفرها... و هكذا الدول و الأمم تستعبد العباد و تستبد بالبلاد و تستعمر و تفتك و تقتل من أجل أن تنهب خيرات العالم. أي عصر هذا الذي نعيش ؟ إنه عصر المادة، عصر المال، عصر الثراء عصر الفحش و الانحلال، لا يسأل الفرد من أين اكتسب ماله و لا من أين جناه بل يسأل عن مقداره و كميته.

الثاني: ثم يقول عليه السلام: و المرء أحفظ لسره تدليلا على أن من أراد أن يبقى سره محفوظا يجب أن يبقى عنده فقط و لا يجوز أن يعطيه لأحد أو يسرّ به إلى غيره، و كما قيل: «كل سر جاوز الاثنين شاع» الذي قد يراد به أن كل سر تجاوز الشفتين و خرج من بينهما سوف يشيع و ينتشر، و أي إنسان ليس عنده أسرار؟ و أهم الأسرار و أفظعها تلك التي يناط بها أمن البلاد و العباد و التي تكون أثناء الحرب و الجهاد، إذ أن هناك خططا حربية يجب كتمها و إخفاؤها لئلا يظهر عليها العدو فيفشلها و يقضي عليها، و هناك أسرار تأتي بدرجة أدنى بحسب أهميتها و آثارها...

قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «استعينوا على الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود».

و قالوا: من ارتاد لسره موضعا فقد أذاعه.

و قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر؟ قال: «ما قلبي إلا قبر».

و قيل لرجل: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجحد المخبر و أحلف للمستخبر.

و قيل: ما كنت كاتمة من عدوك فلا تظهر عليه صديقك.

قال الشاعر مفتخرا بكتمانه للسر:

لا تسألي القوم ما مالي و ما حسبي *** وسائلي القوم ما حزمي و ما خلقي

القوم أعلم أني من سراتهم *** إذا تطيش يد الرعديدة الفرق

أعطي السنان غداة الروح حصته *** و عامل الرمح أرويه من العلق

قد أركب الهول مسدولا عساكره *** و أكتم السر فيه ضربة العنق

و قال آخر:

أواخي رجالا لست أطلع بعضهم *** على سر بعص غير أني جماعها

يظلون شتى في بلادهم و سرهم *** إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها

و قال آخر:

ص: 353

إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها *** فسرك عند الناس أفشى و أضيع

الثالث: ثم قال عليه السلام: رب ساع في ما يضرّه.

بعض الأمور يرغب فيها الإنسان و يحبها و يندفع في سبيل تحقيقها، إنه يريدها بأسرع ما يكون... فإذا أحب سلعة أراد تحقيق المعاملة بدون سؤال عن الثمن و إذا أراد رحلة هيأ مقدماتها و ركب على جناح السرعة لقطع المسافة و الوصول إلى الهدف و إذا أراد فتاة سعى لخطوبتها متخطيا العقبات المادية و عقبات المعارضة من الأهل و الأقارب و عقبات العيوب التي فيها حيث يعكسها محاسن و مناقب. و هكذا دواليك... يقوم بتذليل كل ما يعترض طريقه أو يقف في وجه أمنيته، مع العلم أن بعض الأمور تحتاج إلى موضوعية في التقييم و إلى حياد في الحكم و إلى تنظيم وثيق للمقدمات... إن هذه التجاوزات لكل الحقائق و الغض من الاعتناء بها، و عدم التحقيق فيها لتكوين رؤيا صحيحة و سليمة تؤدي في كثير من الأحيان إلى الوقوع في الضرر و المفسدة... و لو أن كل فرد، قبل إقدامه على أي موضوع و قضية، يدرسه دراسة جيدة، و ينظر إلى مقدماته و خلفياته، ثم يتوكل بعد ذلك على اللّٰه لقلّ الخطأ و ندر... و لكن لعدم الوقوف على حقائق الأمور و عدم استيعابها نقع في المشاكل و الأحداث و نقع في الفساد و الضرر.

و الإمام هنا يريد أن ينبهنا إلى هذه القضية و هي أن الإنسان قد يسعى في شيء و يعود ذلك عليه بالضرر و المفسدة لأنه لم يتقنه جيدا و لم يعرف أبعاده بشكل مفصل و دقيق فينبغي أن لا يذوب في ما يسعى إليه و لا يجعله المفيد الذي لا فساد فيه...

الرابع: قوله عليه السلام: من أكثر أهجر، و من تفكر أبصر.

و لهذا نجد الحكماء يقولون: «من كثر كلامه كثر سقطه»، و هذه قضية حقيقية، فإن المهذار الثرثار في الكلام تضيع أمامه الموازين فتراه تارة يختلق ما لم يوجد، و أخرى يزيد على ما وجد، و من طبيعة الكثرة في الكلام، إنك تجد الاختلاف و التهافت فيه.

و في مقابل ذلك و خلافه، الإنسان الذي فكر في كل كلمة يقولها و كل موقف يتخذه و كل قضية يريد وجه الحق فيها. من تفكر أبصر... من تفكر و أعطى كل مسألة حقها من الاهتمام و العناية قلّ خطأه و ندرت أغلاطه... و استطاع أن يقدم اعتذاره في ما ذهب إليه و ارتأى... و أما الذي يرتجل المواقف و يقذف بالكلمة كما يقذف بالطلقة دون نظر لآثارها و مخلفاتها فهذا إنسان لا يستحق المعاشرة فضلا عن الأهم من ذلك و الأرقى...

- و قد أمر اللّٰه بالتفكر و أثنى على المتفكرين...

- قال تعالى: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ »

ص: 354

«اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً» (1) .

- قال تعالى: «كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » ... «وَ تِلْكَ اَلْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » ... «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » ... إلى كثير من الآيات الآمرة بالتفكر و التدبر...

- قال الإمام أمير المؤمنين (ع): «نبّه بالتفكر قلبك و جاف عن الليل جنبك و اتق اللّٰه ربك».

- عن الإمام الرضا عليه السلام: «ليس العبادة كثرة الصلاة و الصوم، و إنما العبادة التفكر في أمر اللّٰه عز و جل».

- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن التفكر يدعو إلى البر و العمل به».

- و قال الصادق (ع): «أفضل العبادة إدمان التفكر في اللّٰه و في قدرته».

- و روي أن الحواريين قالوا لعيسى بن مريم عليه السلام: هل على الأرض اليوم مثلك ؟.

فقال: نعم من كان منطقه ذكرا و صمته فكرا و نظره عبرة فإنه مثلي...

فما أجدرنا أن نعمل بهذه الآيات و الأحاديث، و ننتفكر في مخلوقات اللّٰه سماواته و أرضه، بره و بحره، إنسانه و حيوانه، الحياة و الموت، الصنع و التدبير. التفكر في كل ما تقع العين عليه و ما تتحرك فيه و حوله... يفكر ليأخذ العبرة... و يعمل بمقتضاها و يحيا بها...

الخامس: قوله عليه السلام: قارن أهل الخير تكن منهم و باين أهل الشر تبن عنهم.

و هذه قضية ظاهرة للعيان و آثارها بينة لكل إنسان فإن الفرد يأخذ من عادات صديقة و يتأثر به إلى درجة بعيدة فإن كان مع أهل الخير تراه ينعكس سلوكهم عليه و يتأثر بهم و بعاداتهم فيصبح كأحدهم، و إن عاشر أهل الشر و الفتنة تراه يأخذ عنهم شرورهم و فتنتهم و لذا قيل: «قل لي من تعاشر أقل لك من أنت». و قيل أيضا: «إن الطيور على أشكالها تقع». و قيل: «كل إلى شكله ألف». فالأخيار لا يألفون إلا الأخيار و الأشرار لا يروق لهم إلا عشرة الأشرار...1.

ص: 355


1- سورة آل عمران، آية - 191.

و قد حدد الأئمة من نعاشر، و أعطوا صفات القرين و الرفيق، و قد اشترطوا صحبة العاقل و ترك الأحمق و ينسب إلى الإمام علي قوله:

فلا تصحب أخ الجهل و إياك و إياه *** فكم من جاهل أردى حكيما حين آخاه

يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ما شاه *** و للشيء على الشيء مقاييس و أشباه

و قد نهي عن مقارنة الأحمق لما فيها من الضرر، قال الشاعر:

إني لآمن من عدو عاقل *** و أخاف خلا يعتريه جنون

فالعقل فن واحد و طريقه *** أدرى و أرصد و الجنون فنون

و عن الإمام الكاظم قال: «قال عيسى عليه السلام: إن صاحب الشر يعدي و قرين السوء يردي فانظر من تقارن».

و في الحديث الصحيح عن الصادق قال: لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال: قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: المرء على دين خليله و قرينه.

(بئس الطعام الحرام، و ظلم الضعيف أفحش الظلم، إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا، ربما كان الدواء داء و الداء دواء، ربما نصح غير الناصح، و غش المستنصح) في هذا الفصل من الوصية خمسة أمور مهمة يجب التعرض لكل منها:

الأول: قوله عليه السلام بئس الطعام الحرام.

بئس الطعام الحرام... و هل حرّم اللّٰه شيئا إلا لضرره و فساده ؟ و إذا كان الحرام مرفوضا في الإسلام إذا وقع على الغير فهو إذا وقع على النفس يكون أشد سوءا أو أقوى ضررا. و يتأكد هذا الضرر في ما يعود إلى غذاء هذا الإنسان و ما يقوّي بدنه و يشد لحمه و عظمه... الحرام في الإسلام يعد جريمة و خروجا عن دائرة العبودية و تمردا على إرادته و حكمه... و أكل هذا الحرام أشد حرمة و أقوى فسادا و ضررا... بدون فرق بين أن يسرق اللقمة الحرام و يأكلها أو يظلم الناس أموالهم و يأكل بها... و قد أكد القرآن و السنة على ذلك...

قال تعالى: «وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ » .

و قال تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» .

ص: 356

و قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبٰا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » .

و قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كما في الكافي: «العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال».

و قال أبو عبد الله عليه السلام: أقرئوا من لقيتم من أصحابكم السلام و قولوا لهم:

فلان ابن فلان يقرئكم السلام، و قولوا لهم: عليكم بتقوى اللّٰه عز و جل و ما ينال به ما عند اللّٰه، و إني و اللّٰه ما آمركم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجد و الاجتهاد و إذا صليتم الصبح و انصرفتم فبكروا في طلب الرزق و اطلبوا الحلال فإن اللّٰه عز و جل سيرزقكم و يعينكم عليه...

و عن أبي الحسن عليه السلام: إن الحرام لا ينمي و إن نما لم يبارك فيه و ما أنفقه لم يؤجر عليه و ما خلفه كان زاده إلى النار.

و عن أبي عبد الله: كسب الحرام يبين في الذرية.

ثم إن الحرام قد بينته كتب الفقه... في كتاب الأطعمة و الأشربة تفصيل لما يحرم منها... نذكر منها بشكل موجز... أما من حيوان البحر، فإن لدينا قاعدة أو شبه قاعدة تقول: كل حيوان بحري حرام إلا السمك و كل سمك حرام إلا ما له فلس.

فالحيوانات البحرية طبقا لهذه القاعدة محرمة كلها إلا السمك الذي له فلس، فالسلحفاة و السرطان و الضفادع و غيرها كلها حرام...

و يحرم من حيوانات البر: الكلب و الخنزير و السنور و الأسد و النمر و الفهد و الثعلب و الأرنب و الضبع و ابن آوى و الضبّ ، و الحشرات: كالحيات و الفأرة و العقرب و الخنافس و البراغيت و القنفذ و السنجاب.

و يحرم من الطير كل ما له مخلاب كالبازي و العقاب و الصقر و الشاهين و الرخم و البغات و الغراب، و كل ما كان صفيفه أكثر من دفيفه و كذلك يحرم ما ليس له قانصة و لا حوصلة و لا صيصة.

و تحرم الميتة و هي التي لم تذبح على الطريقة الشرعية، و هناك محرمات في الذبيحة نفسها إذا كان ذبحها على الوجه الشرعي و هي:

الدم، الطحال، القضيب، البيضتان، الفرث، المثانة، المرارة، المشيمة، الفرج، العلباء (و هما عصبتان عريضتان ممدودتان من الرقبة إلى عجب الذنب) و النخاع

ص: 357

(الخيط الأبيض الموجود في وسط فقرات الظهر) الغدد و خرزة الدماغ.

و كذلك يحرم الخمر و البيرة و النبيذ و كل مسكّر، و كل نجس أو متنجس، هذا كله في الأكل و الشرب... و كذلك تحرم المعاملة على كثير من هذه المحرمات و كذلك كل عقد إذا وقع فاسدا لا يجوز للإنسان أن يأخذ الثمن و بالتالي يكون حراما لا يجوز له التصرف فيه استعمالا أو أكلا، فإذا اشترى به شيئا حرم أكله و استعماله له كما كان الثمن نفسه حراما، و هكذا دواليك...

و إن تأكد الكراهة في المطعم الحرام فلأن هذا الإنسان يتكون عندها بدنه من الحرام، فهو يتقلب في الحرام و يتحرك في الحرام و قد يضع نطفته التي تكونت من الحرام في رحم امرأة تلد له ولدا حراما، و هكذا... و من هنا جاءت بعض الأحاديث لتقول لمن تغذى على الحرام و أراد أن يتوب جاءت لتقول له: صم و أذب هذا الجسد الذي نما من الحرام حتى يلتصق الجلد بالعظم و ينمو من جديد على الحلال...

الثاني: قوله عليه السلام: أفحش الظلم ظلم الضعيف.

الظلم و العدل من الأضداد، و بمقدار حب الإسلام للعدل أبغض الظلم. لئن كان العدل أحلى من الشهد فالظلم أمر من العلقم، و لئن كان العدل وضع الشيء موضعه فالظلم وضع الشيء في غير موضعه. و الأديان بصورة عامة و الإسلام منها بصورة خاصة حارب الظلم و الظالمين و شنّ عليهم حملته الشديدة، ليس في الكلام و حسب، بل بالسيف و القوة و بكل طاقاته و قدراته. لم يتوان الإسلام في ضرب الظالمين و القضاء عليهم و على ظلمهم و جورهم... و قد شهد تاريخ هذا الدين منذ يومه الأول كيف دافع النبي عن الضعفاء المظلومين و كيف ندّد بالظالمين و ضرب على أيديهم بالحديد و النار و بكل الوسائل الممكنة و التي يستطيع أن يردعهم بها. الظلم هو تجاوز الحدود المرسومة لهذا الإنسان و التعدي على حرمات الناس و حرياتهم و كرامتهم... إنه التجاوز بالحديث الظالم و اليد الظالمة و الممارسة الظالمة. و الظلم تشهد بقبحه العقول و تتسالم على هذا القبح كل العقلاء، و إن لم يكن لهم دين أو ارتباط بخالق السماوات و الأرض... و هو يعد من المستقلات العقلية لدى بني الإنسان، فلذا نرى الظالمين أنفسهم ينكرون هذه الوصمة و يتنكرون لها و يتبرءون منها. إنهم يظلمون و يفعلون القبيح و لكنهم لا يرضون أن يقال لهم ظلمة فليس هناك أدلّ على قبحه من ذلك.

و الظلم إذا كان معناه التجاوز و الخروج عن العدل فقد يكون تجاوزا من الإنسان على أخيه الإنسان، و قد يكون تجاوزا من هذا الإنسان على نفسه بأن يظلمها بالخروج

ص: 358

عن طاعة اللّٰه أو يظلمها بالإلقاء إلى التهلكة أو يظلمها بسبب آخر...

و الظلم كما يكون فرديا قد يكون ظلما اجتماعيا، فتتكوّن الطبقية في المجتمع و تصنف الناس إلى فئة فرعونية حاكمة ظالمة تمارس الإرهاب و الكبت و الضغط و فئة مستضعفة فقيرة بائسة لا تملك حولا و لا قوة.

و في جميع هذه الصور يتمثل الظلم شيئا قبيحا و رذيلة مرفوضة ممقوتة. و الإسلام قد أمرنا أن نمارس العدل حتى على أعدائنا، حتى على خصومنا، و من نكّن لهم البغض، فالبغض موضعه القلب و العدل موضعه الممارسة و العمل... أنت لا تريد أن تحب إنسانا، أو ليس باستطاعتك أن تحبه فهذا يرجع إلى قلبك، و لكن هذا البغض لا يجوز أن يكون عاملا من عوامل ظلمه و التعدي عليه، فلذا نرى القرآن قد نهى عن ذلك و قال: «وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ » (1).

و الحرب التي يخوضها الإسلام و يدفع بالمسلمين إلى أحضانها إنما هي حرب ضد الظالمين و المستكبرين... ضد الذين يتألهون على الناس و يمارسون عليهم الظلم و القهر و الغلبة... فلم تكن حروبه من أجل البلاد أو استعباد العباد... إنما كانت حروبه من أجل تحرير هذا الإنسان من ظلم الفراعنة الذين ساموه الخسف و الهوان و أذاقوه المرارة و العذاب... حتى الشعوب غير المسلمة يحارب الإسلام من أجلها إذا كانت مظلومة و مقهورة...

و الإسلام لا يرضى من المظلومين أن يستمروا في مظلوميتهم و لا يقبل منهم البقاء تحت سياط الجلادين و سيوف الظالمين بل يلقي أمامهم الأضواء و يفتح أمامهم الطريق للثورة و التمرد على الظلم... إنه يقول لهم تحركوا في سبيل رفع الظلم عنكم، جريمة منكم أن تساعدوا الظالم بسكوتكم عنه... بل افضحوه... ثوروا عليه، حطموا عروشه، ارفضوا كل أوامره، اعصوا كل نواهيه، أعلنوها ثورة بركانية تنفجر حمما و صواعق على رءوس الظالمين... إنه يقول للشعب المظلوم لا تقبل قول السلطة الظالمة، خالفها، تمرد عليها، حاربها في مصالحها و في اقتصادها، في سياستها، في توجهها، في كل حركاتها أسقطها من حسابك و تصرف و كأنها لم تكن... اضرب عليها، احتجّ تظاهر ما أروعك أيها الإسلام العظيم، و ما أسمى تعاليمك، أنت الثورة على الجهل و التخلف، و أنت الثورة على الميوعة و التهتك و أنت الثورة على الفقر و المرض، و أنت الثورة على الاستغلال و الاستعباد، و أنت الثورة على الكذب و الحقد8.

ص: 359


1- سورة المائدة، آية - 8.

أنت الثورة على الخيانة و القتل... أنت الثورة على هذه و على كل انحراف لأنها كلها تمثل الظلم...

و الإسلام قد أكد على حرمة الظلم و حرّم معونة الظالمين بل منع من الركون إليهم و السكوت عنهم، و قد بين ذلك و وضحه كتاب اللّٰه و سنة المعصومين. و هذه نفحة عطرة من تلك الآيات و الأحاديث الكريمة...

قال تعالى: «وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ » .

و قال تعالى: «وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ » .

قال تعالى: «وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ» .

قال تعالى: «هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلىٰ رَبِّهِمْ أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ » .

قال تعالى: «رَبَّنٰا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ» .

قال تعالى: «فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظّٰالِمِينَ » .

قال تعالى: «إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ نٰاراً أَحٰاطَ بِهِمْ سُرٰادِقُهٰا» .

قال تعالى: «وَ أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ عَذٰاباً أَلِيماً» .

قال الإمام أبو جعفر الباقر (ع): لما حضرت علي بن الحسين عليهما السلام الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين حضرته الوفاة، و بما ذكر أن أباه أوصاه به، فقال: يا بني إياك و ظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا اللّٰه.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ألا و إن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر و ظلم لا يترك، و ظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك باللّٰه، قال اللّٰه تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » و أما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات و أما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا.

عن الصادق عن آبائه (ع) قال: كان علي عليه السلام يقول: العامل بالظلم و المعين عليه و الراضي به شركاء ثلاثة.

قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: أفضل الجهاد من أصبح لا يهم بظلم أحد.

ص: 360

قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة و أعوانهم ؟ من لاق لهم دواة أو ربط لهم كيسا أو مد لهم قلم فاحشروهم معهم.

الثالث: قوله عليه السلام: إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا.

وضع الشيء في غير موضعه يكون مضرا، فالقاتل عمدا و عن سبق تصور و إصرار إذا عفوت عنه دون أن تتقدم منه التوبة يكون هذا العفو مضرا له و للمجتمع، مشجعا له على معاودة الجريمة و زهق الأنفس الطيبة الشريفة، إنه يتمادى، و يتجرأ، و يروح في الأرض فسادا و قتلا لأنه أمن العقوبة و اطمأن إلى يسر المعاملة و سلامة يده التي تقتل و تفتك. و كذلك من يسرق أو يزني أو ينحرف و لا يجد جزاء عمله و لا القصاص الرادع له. فالرفق في هذه المواطن يعد مفسدة، و إنما يجب أن يستعمل مع الجاني عمدا القصاص في النفس حتى لا يعود إلى عمله أبدا من جهة، و يكون عبرة لغيره و عظة. من جهة أخرى فإن اللّٰه تعالى يقول: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ » ففي القصاص الحياة لمن تسول له نفسه الإجرام لأنه يتصور مقدار العقوبة فيرتدع، و كذلك إذا نزلت به العقوبة يكون تأديبا لغيره و في هذا القصاص فائدة لا يعد لها فائدة الرفق و اللين، لأن الرفق و اللين يدفع بمن في نفوسهم مرض أن تتحرك تلك النفوس لتنشر الرعب في المجتمع و تفسد في الأرض بغير الحق و لذا قيل: من أمن العقوبة أساء الأدب.

و قال الشاعر:

و وضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

كما أن القضية تنعكس، فلو كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا، فإذا استعملت القسوة مع ولدك لعصيانه و سوء أدبه و هززت له العصا و إن احتاج الأمر ضربته تأديبا، كان ذلك أحسن من الحنوّ عليه و الرفق به، لأنه يفسده و يطمعه في المعصية و التمرد و مخالفة الأدب. فالعنف هنا هو الذي يؤدي و يقود هذا الإنسان إلى الرفق و السيرة الحسنة و الطريقة المثلى... هذه القساوة هي التي تخلق رجلا عدلا مستقيما يحمل نفسه على الحق و إن كان كريها، و يسير على الهدى و إن كان على النفس ثقيلا، يجانب الأشرار و المفسدين و يسير على هدى الصالحين و المخلصين. فالخرق هنا هو الذي يفيد و يعطي الآثار و النتائج الطيبة...

الرابع: قوله عليه السلام: ربما كان الدواء داء و الداء دواء.

نعم ربما تحول الدواء إلى داء قاتل فاتك، الدواء سواء كان عقاقير و أدوية أو مواعظ و حكما أو كانت نظما و تشريعات، فكما أن الدواء إذا كان قد أكله الزمن و أتلفه لا

ص: 361

يجوز استعماله لأنه يفقد مفعوله و خواصه و ربما تحول إلى ضرر يودي بحياة المريض و يتلف أعصابه و عصارة وجوده كذلك إذا كانت الموعظة لم تخرج من طبيب متفاعل مع المريض و لم يشخّص مرضه فإنها تفقد معناها و يقف المريض أمام الواعظ السخيف ليقول له مع الشاعر:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما *** إن كنت تأتي أمورا أنت تنهاها

و كذلك إذا كانت النصيحة و الموعظة على أسلوب و طريقة قديمة لم تتمش مع الزمن و لم تأخذ بعين الاعتبار التطور البشري و الحياتي لهذا الإنسان فإن هذه الموعظة التي تلبس ثوب القديم دون أن تقدم بثوب جديد و أسلوب جديد يتمشى و روح العصر تفقد الموعظة مادتها و روحها مثل هذه الموعظة لا تجد أذنا صاغية كما لا تجد روحا متأثرة متعظة...

و كذلك في عالم النظم فإن من أنكر الرأسمالية الظالمة التي استبد من خلالها الغني بالفقير و صاحب النفوذ و الامتياز بفاقدها، و تقدم الاستعمار يزحف على العباد و البلاد يحتل و يستعمر و يفتك و يقتل و يستعبد، إن من يرى جرائم الاستكبار الغربي بما فيه من انحراف فكري و التصاق بالمادة و إنكار و تنكر لكل حق و عدل و صدق و تجاهل لكل حقوق الضعفاء... من يرى ذلك لا يجوز له أن يعالج هذا الداء بدواء الشيوعية الحمراء، فإنه وباء أيضا، و لا يجوز الفرار من الرمضاء إلى النار و لا من الخطر إلى الأخطر... فإن هذا المسكين الصغير، الضعيف العقل و الجسم تخيّل أن شفاءه لا يكون إلا بالشيوعية، لقد تخيّل أنها الدواء الذي يقضي على مخاطر الرأسمالية و يجتث أصولها من الأعماق، و لكنه وقع في داء أشد و أصعب، وقع في استعمار متطور و مهذب يأتي بثوب الناصح الشفوق، إنه يأتي مع شعارات براقة ترتاح لها النفس و تتشوق إلى لقياها القلوب، و لكنها كالحية ملمسها ناعم و تخفي في جوفها السم الناقع... إن العدول من الرأسمالية إلى الشيوعية عدول من خطر إلى خطر إن لم نقل أنه إلى الأخطر...

إن الدواء يجب أن يتلاءم مع المرض كما يجب أن لا يترك وراءه من الخلفيات و الآثار ما يضر و يفتك بالجسم من جهة أخرى فيكون دواء لهذا المرض و لكنه يترك داء خبيثا أصعب من الأول من جهة أخرى... نعم ربما كان الدواء داء و كذلك قد تنعكس القضية و يتحول الداء إلى دواء فرب مرض مستحكم فيك قد أخذ منك مأخذه و امتدت جذوره حتى زلزلت استقرارك و راحتك فإذا بمرض آخر لا يؤذيك أذى شديدا فتحاول علاج الخفيف فيكون شفاء للقوي و الشديد، فالداء البسيط كان دواء للمرض القوي الشديد، و رب خطيئة أدبت عليها حفظت حياتك و صححت مسارك على امتداد

ص: 362

الحياة... فالطفل إذا حكت أصابعه لو سرق، كان هذا دواء لشيء أخطر بكثير مما لو كبر و سرق و أدّى ذلك إلى قطع يده... و رب موعظة لخطأ ارتكبته أدخلتك في رحاب اللّٰه و حولتك إلى عنصر صالح تحب الخير و تعمل به و تجاهد من أجل إعلاء كلمته، فهذا المرض قد حول جسمك إلى جسم صحيح سليم تستطيع أن تقاوم به عوامل الزمن و مشاكل الحياة...

الخامس: قوله عليه السلام: و ربما نصح غير الناصح و غش المستنصح.

النصيحة واجبة لكل مسلم و من استنصحك أولاك فضلا كبيرا لأن ذلك معناه أنك موضع ثقته و أمانته و إنك خبير بشئون هذه النصيحة و أهل أن تستنصح. يجب أن تقدر مجيئه إليك و عدم مجيئه إلى غيرك! لما ذا قصدك أنت بالذات و لم يقصد سواك ؟! لما ذا توجه إليك وحدك ؟! إنه الإيمان بصدقك... و معرفتك... و خبرتك... فكن عند حسن ظنه... كن حسب ما هو يراك من أهلية المقام و الصدق و الإخلاص. فلا تفتك به و لا تخنه في نصيحته. امحضه النصيحة و اقلب ظهرها لبطنها و غص في أعماقها حتى تستخرج له وجه الحق و تقتنص له الصالح.

إن طبيعة المؤمن أن يتمتع بالإخلاص في النصيحة و بذل الوسع في سبيل استجداء وجهها. لا يرتجل رأيا خطيرا و لا يقتصر على ظواهر محدودة بل يجهد و يجتهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة، و لكن للأسف الشديد أن نرى كبوات المؤمنين كثيرة... من كنت ترى النصيحة عن أيديهم و الإخلاص في نصائحهم... يخيبون آمالك و تأتي العثرات و الزلات عن أيديهم. إن في منظور الناس أن الحاج يجب أن يتمتع بالصدق و يسعى في النصيحة و إذا القضية تنعكس فتراه لا يصدق النصيحة كما لا يصدق في القول و نرى من نحتمل في حقه الكذب و الغش إذا به لا يكذب و لا يغش بل يبدي النصيحة على وجهها السليم...

كنا نترّقب أن تكون الثغرة عند المنحرف فإذا بها تأتي من جهة المؤمن بالصورة...

نعم ربما نصح غير الناصح ممن ليس من طبعه ذلك و لا تترقب النصيحة منه، و ربما انعكست الآية فغش من دأبه النصح و طبيعته عدم الغش...

(و إياك و الاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى، و العقل حفظ التجارب، و خير ما جربت ما وعظك بادر الفرصة قبل أن تكون غصة، ليس كل طالب يصيب. و لا كل غائب يئوب) في هذا الفصل خمسة أمور و هي:

ص: 363

الأول: قوله عليه السلام: و إياك و الاتكال على المنى فإنها بضائع النوكي.

الأماني بدون العمل سندات بدون رصيد أو عملة مزيفة لا سوق لها، و صاحب الأماني إنسان يعيش حالما في السعادة و المال حالما في المجد و الشهرة، حالما في اللذة و النعيم. إنه يحلق باستمرار في عالم مملوء بالأوهام، إنه في حلم لذيذ لا يحب أن يزعج أو يستيقظ منه خوفا على انقطاع لذته و فقدان حلمه. تراه يسرح وراء الدنيا بما فيها من مال و لذة دون أن يعمل من أجل ذلك و لو شيئا يسيرا. فهو يعشق أن يصبح أمبراطورا في المال و لكنه لن يحرك ساكنا و لن يتعب فكره و لا بدنه و لن يسعى في سبيل ذلك من قريب أو بعيد. و إنه يريد أن يصبح نجما لا معا يبرز في عالم الدنيا و لكنه لن يتحرك من كوخه أو يمشي في تحقيق ذلك و لو خطوة واحدة. إنها أماني تعيش بين ضلوع المساكين دون أن ترى النور أو يكتب لها الظهور إلى عالم الحياة و الأحياء.

و ليس الأمر منحصرا بأبناء الدنيا، بل هناك من الناس المؤمنين الذين يطلبون الآخرة و يعيشون فردوسها الأعلى و يسبحون في نعيمها و سؤددها و يغوصون في بحارها و خيراتها، حتى هؤلاء بالذات منهم أناس يعيشون الأماني و لا يسعون في سبيلها أو يعملون من أجلها. إنهم يتقاعسون عن الجهاد و النضال و مد يد المعونة إلى الفقراء و الأيتام. إنهم يريدون جنة اللّٰه و يحلمون بها و يتصورون أنفسهم في أجوائها يحلقون و يسبحون في نعيمها دون عمل و لا جهاد. إنهم يظنون أن باستطاعتهم خديعة اللّٰه عن جنته بهذه الأمنيات الفارغة و الآمال الحالمة... لا... إن اللّٰه جعل للجنة ثمنا و ثمنها التضحية بالنفس أولا و بما تملك اليد ثانيا، البذل الفعلي و السعي في سبيل اللّٰه، و بدون أن تتحرك الطلائع المؤمنة و تثبت بعملها و سلوكها أنها أهل للجنة فلن تنالها و لن تحظى برؤيتها إلا لزيادة همها و أساها.

و إن بعض المؤمنين كما نرى و نسمع يحبون للإسلام أن يحكم و يحبون أن تكون أحكامه و قوانينه هي التي تحكم الناس و تفصل في قضاياهم. إنه يقرءون في صلواتهم دعاء: اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام و أهله و تذل بها النفاق و أهله... و لا يعملون من أجل بناء هذه الدولة و لا في سبيل تحقيق هذه الرغبة أدنى حركة و لا أقل خطوة. إنهم يريدون دولة من المهدي المنتظر صلوات اللّٰه عليه و على آلة ينتظرون خروجه حتى يحققها لهم. إنهم يقبعون في بيوتهم و يحلمون في دولتهم التي لا تتحق بالرغبة و الأمنية... لو كانت الدول تبنى بالرغبة و الأمنية لكان المسحوقون و الضعفاء من أعز الناس دولا... و لكن للأسف لا يتحقق و لن يتحقق شيء من ذلك.

الدنيا مملوءة بالذئاب و هي في عراك مستمر من أجل الحصول على أكبر قدر منها. الدنيا

ص: 364

تضم أشتاتا مختلفة من الناس. إنها تضم الملحد، و تضم الوثني و تضم اليهودي و تضم النصراني و تضم... و تضم. و كل هذه الفئات تسعى إلى تثبيت تصورها على الأرض تحلم أن تكون هي الحاكمة و المسيطرة، و تعمل في سبيل تحقيق حلمها و بسط نفوذها و سيطرتها... و المؤمنون فئة تعيش ضمن هذه الأجواء المحمومة و المعركة الشرسة، فهل يكتفى منهم بالأماني و الدعاء؟! هل غاية ما عندهم أن يعيشوا في أحلامهم الحلوة و أمانيهم الساخرة دون أن يتحركوا من مواقعهم إلى الساحة و يقفوا في صف المجاهدين و المناضلين و يثبتوا هويتهم و أصالتهم و يحققوا الحكم الإسلامي الصحيح!! إن تاريخ الإسلام الذي صنعته الأيدي المؤمنة بقيادة الرسول الكريم و الصحابة النجباء لم يؤسس على الأماني و الأحلام بل كان الجهاد و التضحية و كان البذل و العطاء و كان الاندفاع حتى الموت هو الطريق الذي رسموه لنا و عبّدوه بدمائهم و أشلاء المجاهدين منهم.

إن رغبة المؤمن يجب أن تبرز في الخارج عملا و سلوكا و سيرا حثيثا و متواصلا في سبيل تحقيقها... هكذا علمنا النبي و الصحابة و هكذا كانت مسيرة الرواد الطلائعيين الساعين في سبيل اللّٰه. إن من يمشي في سبيل اللّٰه لا يرى للأمنية مكانا إذا لم تتحقق في الخارج تجسيدا حيا و حركة و نضالا... حتى كلمة التوحيد (لا إله إلا اللّٰه...) لا يكون لها معنى إذا كانت الأصنام منصوبة من حولك تعبد من دون اللّٰه. لا قيمة لهذه الكلمة إذا لم تحرك فيك ثورة جبارة مدمرة تقضي على لوثات الصنمية و أسفافها الأرضي السخيف. لا قيمة لهذه الكلمة إذا لم تأخذ حجما بركانيا يقذف اللهب و الحمم على كل الأوثان و الأصنام و تحاول أن تقضي عليها و ترد أتباعها إلى الدرب السليم... إن كلمة لا إله إلا اللّٰه تفقد مدلولها و معناها عند ما تتجرد عن حرارتها و إثارتها، و عند ما تفقد الجذوة التي تستطيع أن تعقم بها مجتمعك من الانحراف و الإسفاف و الرذيلة.

إن من يعيش الأمنيات و يسبح في بحر الخيال و الأوهام دون أن يحثه شيء منها للحركة و العمل في سبيل تحقيقها و تجسيدها يكون إنسانا بطالا، أحمقا، يبيع و يشتري دون رأس مال... و يغوص في بحر دون أن يعرف السباحة أو يقود عربة لا علم له بقيادتها... و لا شك أن نصيبه الفشل أو الغرق و العاقبة موتا سخيفا مضحكا فيشمت به الأعداء و يرثي له الأصدقاء...

الثاني: قوله عليه السلام: و العقل حفظ التجارب.

بالتجربة استطاع الإنسان أن يشق عنان السماء و يصعد إلى القمر... و بالتجربة استطاع أن يقهر الجبال الشاهقة و البحار و المحيطات.. استطاع بالتجربة أن يبني مدنية

ص: 365

و يؤسس حضارة... استطاع بواسطة التجربة أن يفجر الذرة و يطلق الصاروخ...

و يستطيع أن يحرق كل ما بناه بلحظة واحدة...

التجربة كادت أن تصبح ربا... اتخذتها المدنية الحديثة مبدأ على أساسه تقبل فكرا و ترفض فكرا، تؤمن بنظرية و ترفض نظرية، آمنت بكل ما تقدمه التجربة و ما تعطيه من حقائق و منجزات و كفرت بكل القيم و المثل، و بكل الحقائق و المسلمات إذا لم تستند إلى التجربة و لم تكن من نتائجها... و من هنا كفرت بكل العوالم الغيبية المعبر عنها (الميتفيزيقيا). إنها اتخذت هذه التجربة نقطة الفصل بين الحقائق و الأوهام و على أساسها ميزت السليم من السقيم و الصالح من الطالح... و بقطع النظر عن صحة هذا التعميم في الحكم رفضا و قبولا يبقى للتجربة دورها الذي لا يمكن تجاهله، و يبقى لها قيمتها الكبرى و نتائجها التي لا يمكن أن يوفرها أي أمر آخر غيرها...

إن التجربة لها قيمتها و دورها و مجالها المحدود في ما يخضع للتجربة و لا يقوم إلا بها... إن مجالها المادة تفتيتا و تمزيقا، جمعا و تركيبا، لها مجال في عالم الاختراع و الإبداع، و هذا هو الإمام الذي عاش عصرا قديما يتخطى زمنه و عصره ليضع بين أيدينا حكمته المتعالية التي يدفعنا من خلالها إلى التجربة و ممارستها... و إلى استغلال هذه التجارب كي نتقدم و نترقى و نصعد في سلم الحضارة و التقدم...

و لكن صحيحة هذا الإمام و صرخته وقعت صرخة في مقبرة لم يسمعها المسلمون، و لم يعيشوا في رحابها و آفاقها الواسعة، بل أسدلوا دونها الستار و لم يعطوها بالا فاستغلها غيرهم... لقد وصلت إلى مسامع الغرب فراح العلماء منهم و أصحاب الفكر يدرسون التجربة بوعي و دقة حتى استطاعوا من خلالها أن يقدموا منجزات الحضارة الحديثة بوسائلها و سبلها و بكل ما تزخر به من تقدم ورقي، لقد تقدموا و تأخرنا، و قطعوا شوطا طويلا في تذليل الصعاب و العقبات و لا نزال نحبو على الركب نلهث في الصحراء القاحلة، نفتش عن جرادة نقتاتها أو ناقة شاردة نردها إلى حظيرتها، حتى خيرات بلادنا، حتى ذهبنا الأسود - النفط المتدفق من بطن الأرض - نعجز أن نصنّعه كما نشاء و نفتقر إلى أوليات استخراجه فضلا عن درجات تصنيعه و تصنيفه... مأساة كبرى، و اللّٰه إنها مأساة، حتى صناعة النفط نستسلم فيها للخبراء و المستشارين الأجانب، و يبقى سر استخراجه و تسويقه و تصديره و تصنيعه محتكرا لهم. و ليس لنا من الأمر إلا أن نقبل بالأسعار التي يريدون و بالقيمة التي يشترون، ليس لنا من الأمر إلا أن نقبل بكل ما يطرحه علينا الأعداء المستغلون، واجبنا أن نقبل... و نخضع و نرضى دون إظهار لاشمئزاز أو تأفف أو شكوى. ما أتفه هذا الزمن و ما أحقر أهله... كنا أسياد العالم و عباقرة الدنيا،

ص: 366

كنا إذا سرنا سار معنا العلم و الفكر و الحضارة... سارت معنا الثقافة و الحرية و الكرامة... و صرنا اليوم عالة ثقيلة... لا ندخل في حساب الأمم إلا للإستهلاك و تصريف منتوجاتها و تسويق بضاعتها... إن كل هذه الملايين بأرقامها الضخمة تتحطم أمام عدو صغير مرتزق جمع شتاته من أطراف الدنيا و لمّ متفرقاته من أركان الأرض و أخذ يحتل الأرض الإسلامية تدريجيا و يؤسس أمبراطوريته التي حلم بها منذ آلاف السنين. إن اليهود الذين احتلوا فلسطين و شردوا أهلها و فتكوا بلبنان و اجتاحته معداتهم و دمرت قراه و مدنه، هذه الدولة اللقيطة... ربيبة الاستعمار الأمريكي لم تكن لتستقر أو تتخذ موطن أقدام لها لو كان المسلمون يسيرون خلف دينهم و يعملون بما أمرهم به ربهم. إنهم تركوا وصايا نبيهم و أهملوا تعاليم العظماء منهم ففسدت عليهم الحياة و تأخروا عن غيرهم. إن غيرهم قد سار على الدرب حتى وصل، أما المسلمون فإنهم أهملوا العلم و الخبرة و تركوا التجربة و منجزاتها فأضحوا في مؤخرة القافلة البشرية يعيشون على فتات موائد الكبار من المستعمرين و المستكبرين.

إننا في زمن التجارب و الخبرات و هي لا تتنافى مع العقيدة و الإيمان... بل الإيمان و الإسلام يدعوان إلى أن نعد العدة و نشحذ الهمة و نقابل الأعداء بما عندهم من أسلحة و معدات فلا يفل الحديد إلا الحديد و لا يسكت أصوات المدافع و الراجمات و القذائف النووية إلا نظائرها. يوم يملك المسلمون القوة و تصبح بأيديهم مقاليد الخبرة و التطور يستطيعون أن يفرضوا وجودهم على العالم بل يستطيعون أن يحققوا العدالة و الكرامة لكل الناس على اختلاف أديانهم و تعدد مذاهبهم و مشاربهم...

إننا نعيش في عصر قام و نهض على التجربة... بل نستطيع أن نقول أن حضارتنا هي حضارة التجارب و لن نستطيع البقاء و الاستمرار و لن تكتب لنا الحياة إلا إذا سرنا في خط التجربة يرافقها الإيمان و تحدوها العقيدة.

إننا مع الإمام في منهجه الفذ الكريم منهج التجربة بل التجارب في كل موطن يكون للتجربة فيه مجال فإنها من العقل، بل هي العقل على حد قول الإمام عليه السلام...

الثالث: قوله عليه السلام: و خير ما جربت ما وعظك.

التجربة ليست هدفا في حد ذاتها بل هي مقدمة لنتيجة ترغب بها و تريد تحقيقها، نحن هنا نستطيع أن نحول هذه التجربة إلى عبادة نؤجر عليها... كما أن هذه التجربة يظهر خيرها فيما إذا أعطت ما أملّته منها و أفادتك في تحقيق مطلوبك و غايتك... إن

ص: 367

خير التجارب ما تستطيع أن تأخذ منه الفائدة و العبرة و يسهل لك قصدك و يوضح لك الرؤيا في مسيرتك الحياتية و يعظك كي تصحح سلوكك و عملك و يشحذ من همتك للسير وفق العدل و الحق و الصدق.

إذا اتعظت من خلال تجربتك فأنت الرابح و المستفيد... إذا كنت تظن الثقة بإنسان يظهر منه الدعة و الورع فجربه بالأمانة... أودع عنده مقدارا من المال، ثم انتظر ردّه لك أو جحده... فلو ذهب المال منك فأنت الرابح. إنك بتجربتك هذه قد عرفت أمانة الرجل من خيانته فلربما استأمنته على أعظم من ذلك و أهم... فيكون الخطر عظيما و جسيما... و كذلك لو أقرضت إنسانا مالا دون أن تكتبه و تشهد عليه ثم أنكره عليك فإن إضاعة هذا المال إذا جعل منك رجلا حذرا و وعظك بأن لا تعود لمثلها فأنت الرابح و المصيب و هكذا دواليك...

الرابع: قوله عليه السلام: بادر الفرصة قبل أن تكون غصة.

في المأثور «الدنيا ساعة فاجعلها طاعة»، و كذلك «اغتنموا الفرص فإنها تمر مر السحاب»، و الشاعر يقول:

إذا درّت نياقك فاحتلبها *** فما تدري الفصيل لمن يكون

تفويت الفرص و إضاعتها يعد في بعض الأحيان جريمة يحاسب عليها الإنسان أمام اللّٰه و أمام أخيه الإنسان... فالشباب فرصة من فرص العمر تستطيع أن تقدم فيه الصالحات و الأعمال الطيبة حيث إن القوى البدنية و العقلية و الفكرية مؤهلة للعطاء، فلو أضعت هذه الفرصة سوف تندم عند ما تكبر و تشيب... سوف تندم عند ما تضعف قواك فلا تستطيع المشي كما لا تستطيع الحركة و لا تستطيع التفكير السليم و التوجه المستقيم... عند ما تأتي السنون لتنقض بنيتك و تحولك إلى هيكل بشري يحتاج إلى الإعانة و تقديم المساعدة... عندها فقط ستعض على يديك بل ستأكلها ندما و حسرة دون أن تنفع الندامة أو تفيد الحسرة.

إن بعض المشاهد القرآنية تنقل لنا نموذجا لهذه الحالة المريرة... تنقل لنا طلب الرجعة إلى الدنيا كي يصلح الإنسان ما أفسد أو أهمل من العمل و لكن لا رجعة و لا عودة فقد واتتك الفرصة و كنت قادرا على العمل و النجاح فلما ذا لم تعمل «قٰالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ » . لقد كنت في الحياة كان معك المتسع للعمل و الجهاد و دعم الحق و النضال فلما ذا لم تنزل إلى هذا المعترك ؟! لما ذا تخليت عن هذه الميادين و قبعت في

ص: 368

زوايا بيتك و عكفت على ملذاتك و شهواتك... إن ميدان الحياة هو الميدان الذي يسمح لك أن تخوض تجاربه و تقرر على أساس العمل فيه النجاح و الفشل... إنه فرصة العمر فلا يجوز إضاعتها...

إن بعض الناس الكسالى الذين يهملون الجد و النشاط في أيام شبابهم سيندمون على إضاعة هذا الوقت و سيبكون على إضاعته و تفويته... و إن إضاعة الفرص قد يكون على مستوى أكبر و أعظم و أشد خطرا كما لو كانت الفرصة مؤاتية لإقامة حكم إسلامي ثم تهاون المؤمنون في إقامته و سوفوا في بنائه و إقامته. إذا توفرت الظروف من أجل تحكيم الإسلام و جعله المحور الذي تدور عليه كل التحركات و النظريات و الأفكار لا يجوز إهمال هذه الظروف بل يجب علينا أن نبادر من أجل تجذير الإسلام و تحكيمه و جعله القانون الذي يحكم الحياة بكل نواحيها. و إذا استطعت أن تقدم نصيحتك و موعظتك و توجيهك و إرشادك إلى إنسان ضال أو تائه أو متردد و كنت تترقب لها النجاح و التأثير وجب عليك أن تغتنم هذه الفرصة و تسعى بكل طاقاتك من أجل إيصالها إلى قلبه فإنها فرصة مواتية قد تفوت و لا تعود. و هكذا دواليك في كل مجال و في كل ناحية... و في كل قضية أو مسألة...

الخامس: قوله عليه السلام: ليس كل طالب يصيب و لا كل غائب يئوب.

كل إنسان يجب أن يسعى في سبيل الحصول على المكارم و يكد في الحياة من أجل اكتساب لقمة العيش الحلال و يكف نفسه عن الاستجداء و الاستعطاء. و لا يجوز بحال أن ينطوي على نفسه و يقعد عن السعي و طلب الرزق و الصفات الكريمة...

و مضافا إلى هذا الاندفاع و السعي المطلوب إسلاميا و عقلائيا نجد أن بعض الأمور المطلوبة قد لا تدرك، قد يحول الزمن دون تحقيقها و تقف العقبات و المشاكل في طريق الوصول إليها... فيجب في منطق الإمام بل في منطق المفكرين و العقلاء أن لا يكون عدم تحقيق بعض الأمور سبيلا للكسل أو مجالا لتقديم الأعذار الكاذبة لعدم السعي و الحركة، فإن طبيعة الأمور أن لا تتحقق كلها حتى مع الاجتهاد فيها و التعب من أجل الوصول إليها... لأن بعض المقدمات التي تأخذ بيدك قد لا تكون تحت سلطانك و قدرتك بل تحت سلطة الآخرين و قدرتهم. و أضرب لذلك مثلا من واقعنا المعاش، فإن المفكرين و أصحاب الرأي الصائب من أمتنا بذلوا كل طاقاتهم و قدراتهم من أجل توحيد هذه الأمة و لمّ شملها و جمع شتاتها، لقد حاول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء و السيد جمال الدين الأفغاني و الشيخ محمد عبده، حاولوا كلهم مع لفيف آخر من أبناء

ص: 369

هذه الأمة أن يوحّدوا صفوف المسلمين و يجمعوهم تحت راية التوحيد، و مع كل تلك الجهود لم يفلحوا و لم ينجحوا، لأن تحركهم و نشاطهم المحدود كان يقابله نشاط و جهاد كل القوى المستعمرة و المستكبرة لزرع الفتنة و تأجيج روح العداوة بين المسلم و أخيه المسلم، و عاونهم على ذلك المتعصبون من المذاهب و الطوائف و أصحاب الامتيازات الذين لا يظهر لهم صوت و لا ترتفع لهم كلمة إلا ضمن الحزازات الطائفية و المشاكل المذهبية.

لقد كانت صيحة أولئك العظماء في جانب و مسيرة الشعب و من تولى قيادته زورا و بهتانا في جانب آخر... فكانت العقبات أشد و أقوى من أن يتخطاها رجال محددون بحدود ضئيلة و قليلة، و قدرات صغيرة غير مؤثرة. و لكن فشل هؤلاء العظماء في تحقيق مرادهم و الوصول إلى مطلوبهم لا يستدعي منهم و بالتالي منا أن نكف عن محاولة الجمع و السعي في سبيل توحيد هذه الأمة و رفع كلمتها، فإن المسلمين يشكلون أعظم قوة و أكبرها لو اتحدوا و اجتمعت صفوفهم. إنهم القوة الأكثر فعالية و حركة و قدرة لو اجتمعوا على كلمة واحدة. و كما الأمر في الأعمال فقد يكون في الخصال و الصفات، فإنك قد تطلب الرياسة و الزعامة التي تتصور أنك من خلالها تحقق العدالة و تبسط سلطان الدين و الحق في المجتمع و لا توفق في ذلك إلى النجاح، فلا يجوز لك التقاعس و الكسل و لا يجوز لك أن تسترسل أو تستسلم لفشلك بل يجب أن تبقى في حركة و سعي دائمين حتى تحقق مطلوبك أو تعجز عجزا نهائيا و دائميا عن ذلك. فالإمام يريد أن يوضح هذه الفكرة... و هي فكرة أن كل من يطلب شيئا قد لا يتحقق هذا الشيء، و لكن عدم تحقيقه لا يجوز أن يكون من دواعيه الخمول و الكسل و القعود عن الاستمرار في السعي و الطلب. و كذلك بنفس المفاد قوله: «و ليس كل غائب يئوب»، فرب غائب عن العيون قد لا تراه أبدا لأنه لن يعود، قد يطويه الموت أو يسجنه الظالمون في غياهب المطامير و الزنازين... فرب مجاهد قرر أن يعمل عملية فدائية في سبيل اللّٰه لضرب المجرمين اليهود أو الصليبيين ثم قبض عليه و أودع السجن فحالت بينه و بين أحبابه قضبان السجن و جدران تلك الزنزانة المنفردة... و لكن هذا الاغتراب و هذا التغييب و عدم العودة لا يجوز أن يكون مانعا لنا عن الحركة و عن الاغتراب و عن المهاجرة في سبيل اللّٰه و في سبيل المستضعفين...

إن غياب وجه قد لا يعود و فقدان حبيب قد لا يئوب يكون من أشرف الأمور و أجلّها إذا كانت رحلته و غيبته في سبيل اللّٰه و في سبيل الحق و العدل...

فليس المهم أن تفقد وجها بل المهم أن تكمل مسيرة ذلك الوجه و تسير على نفس

ص: 370

الخط و لا يكون غيابه و عدم أوبته عاملا من عوامل إضعافك أو مبررا لكسلك و جمودك...

(و من الفساد إضاعة الزاد. و مفسدة المعاد. و لكل أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدر لك. التاجر مخاطر و رب يسير أنمى من كثير) و في هذا الفضل خمسة أمور:

الأول: قوله عليه السلام: و من الفساد إضاعة الزاد و مفسدة المعاد.

الفساد يختلف ضعفا و شدة، قلة و كثرة فالسرقة فساد و الغش فساد، و الغيبة فساد، و أكل المال الحرام فساد، و لكن هذه أقل سوءا من قتل الأنفس و هتك الأعراض و المتاجرة بالأديان و الأوطان. نعم كل منهما فساد و انحراف و ضلال و لكن أحدهما أكبر من الآخر و أعظم جرما و أشد أهمية لما يتبعه من الآثار و ما يتركه من الخلفيات المؤلمة و المصائب المرهقة...

إن من كان بسفر و هو بأمس الحاجة إلى الزاد هل يضيع زاده و يتلفه ؟! هل من المنطق و المعقول أن يضيع ما هو أهم شيء بالنسبة إليه... قد يستغني المرء عن الكماليات و قد يسقط من حسابه بعض الأمور المهمة فيكتفي بالخيمة بدل البناء و يكتفي بالمنزل المتواضع بدل المنزل الضخم الفخم، و يتنازل عن الثياب الفاخرة الثمينة و يستعيض عنها بثوب بسيط قليل الثمن... قد يتنازل عن بعض الكماليات الأخرى من أصناف الطعام و تعدد ألوانه و يكتفي بتناول الضروري منه و لكن هل يصل به الأمر إلى إضاعة ما هو ضروري و يتوقف عليه قوام الحياة ؟! الزاد ليس ضروريا و حسب و إنما هو فوق الضرورة... إنه لا يقوم الإنسان إلا به و لا يستطيع الحياة بدونه، لا يستطيع أن يكافح في الحياة أو يدافع إلا بعد أن يوفر له زادا يشد من قوته و يقوي بدنه و يساعده على الاستمرار في الحياة و مشاكلها... و كما أن الحياة تتوقف على الزاد و لا يستطيع الإنسان أن يتحرك بدونه كذلك الآخرة... يوم المعاد... فإن هذه الدنيا مزرعة الآخرة و في هذه يكون التزود للآخرة... و الآخرة هي منتهى الغايات و إليها يرجع الجميع... فما هو زادها؟ و ما مئونتها؟ هل مئونتها من مؤن الحياة أم أنها من نوع آخر...

إن للآخرة زادا يتمثل بالإيمان و العمل الصالح... «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فِي رَوْضٰاتِ اَلْجَنّٰاتِ » ، فزاد الآخرة أن يطفح هذا القلب بالإيمان باللّٰه و رسوله، الإيمان باللّٰه الذي يجعل الإنسان منه رقيبا دائما على كل نواياه و أقواله و أفعاله، الإيمان باللّٰه الذي يربطه مع اللّٰه في كل الحركات و السكنات و في جميع الأعمال و التصرفات... زاد الآخرة يتمثل بإطاعة اللّٰه فلا تعصي له أمرا و تتمثل بإعانة الإنسان

ص: 371

و شد أزره، و الأخذ بيده نحو المستقبل الحر الكريم... الزاد للمعاد يكون بصلة الرحم و حسن الجوار و إعانة الفقير، يكون بهداية الناس و إرشادهم و تقويم سلوكهم... يكون بالصلاة و الصيام و الحج و الزكاة و إداء الحقوق و الواجبات، يكون بتنفيذ إرادة اللّٰه في الحدود و القصاص و الديات، يكون في كل أمر من أوامر اللّٰه التي لا تخلو منها حركة و لا يتجرد عنها فعل... و إفساد المعاد يكون بعدم القيام بهذه الأمور... و أي فساد هو إفساد المعاد؟! إنه فساد يهون عنده كل فساد لأن على أساسه يتعين المستقر إما إلى جنة أو إلى نار... و إن إنسانا نهايته تتأرجح بين الجنة و النار، و يستطيع أن يختار أحبهما إليه ثم يفسد عمله و يدخل النار لإنسان تافه و أحمق بل ليس هناك أحمق منه و أتعس...

و إضاعة زاد الآخرة كما جاء عن النبي بما مفاده عند ما سئل عن المفلس فقال: أن يأتي الإنسان بأعمال صالحة و لكنه يأتي يوم القيامة و قد شتم هذا و ضرب ذاك فيؤخذ من حسناته حتى إذا لم يبق منها شيء أخذ من سيئاتهم فوضعت في ميزانه... فإن العمل الصالح إذا لم تلحقه بنار تأكله يعطي ثماره... أما إذا أتيت بفعل حسن و أتبعته بالسيئات من كل جانب كيف يقوم هذا الفعل الحسن مقابل تلك الجرائم و الموبقات ؟.

الثاني: قوله عليه السلام: لكل أمر عاقبة.

كل أمر من الأمور له حكم شرعي و لكل حدث من الأحداث وجهة نظر شرعية، فالصدق له عاقبة محمودة و إن كان ضرره فعليا قد يطال بعض الأشخاص الصادقين على أيدي الظالمين، ورد الأمانة تعكس التزام المؤمن بدينه و التوافق بين رأيه و عمله لما يحكم به اللّٰه، و إقامة العدل في المجتمع و نشر المساواة له عاقبة دوام الحكم و استمراره و رغد الحياة و سؤددها. و هكذا دواليك قد تأكل أكلة منعت عنها تترك لك آثارا سيئة و تحرمك أكلات، و قد ترتكب خطيئة يكون عاقبتها نار جهنم... و إزاء هذه العواقب التي تنتجها هذه الأفعال يتراىء للإنسان العاقل أن يفكر في عاقبة كل أمر يقوم به و في كل حركة يتحركها ثم يوازن بينها و بين حكمها الشرعي ليرى مدى انطباقها على الحلال و الحرام فإن كانت تدخل ضمن الأولى يقوم بها و يعمل بمضمونها و إن كانت الأخرى اجتنبها و ابتعد عنها...

إن العاقل الكّيس هو ذلك الإنسان الذي يتصور عواقب الأمور و خلفياتها و ما تتركه على الساحة من الأثر و العاقبة فإن كانت آثارها لصالح الإسلام و الإنسان و لو على المدى البعيد سعى في سبيل تحقيقها و إقامتها، و إن كانت الأمور على خلاف ذلك لم يحرك ساكنا و لم يتحرك من مكانه...

ص: 372

يبقى أمر مهم و سؤال وجيه يفرض نفسه أمام كل قضية من القضايا و مسألة من المسائل... و هو هل يحق لكل فرد أن يقيّم الأمور و يتصرف كما يرى من خلال رؤيته الخاصة لعواقبها أو أن المسألة خلاف ذلك ؟.

و الجواب عن ذلك: أما الأمور الشخصية فيجب أن يمشي حسب مقلّده - إن كان عاميا غير مجتهد - فيجب أن يكون في طهارته و نجاسته و صلاته و صيامه و غيرها من الأمور التي قد تتخذ صفة الأمور الشخصية و العلاقات الذاتية مقلدا للمجتهد، و في الموضوعات الخارجية ككون هذا المائع خمرا أو هذا نجس و ذاك بول فهذا يرجع إلى اجتهاده الشخصي و تشخيصه الخاص... و أما إذا كانت الأمور من القضايا الراجعة إلى المجتمع ككل و تؤثر على النظام في إقامته و هدمه و في إعلان الحرب و إيقافها و في التصرف مع الدول و إقامة العلاقة بينهم و بين دولة الإسلام فهذا يجب أن يرجع فيه إلى أولي الأمر المتمثلين في زماننا بالفقهاء العدول الذين يحق لهم الأمر و النهي و لهم الحكم و السلطة في غيبة الإمام المنتظر عليه السلام...

إن إعلان الحرب و إيقافها يخضع لآرائهم و اجتهاداتهم حسب ما يرونه من المصلحة للإسلام و المسلمين، و ليس لغيرهم من الناس أن يجتهدوا في هذا الأمر و يحكموا على أمر بالصحة و آخر بالفساد... كما أنه ليس لكل فرد أن يستقل في اتخاذ القرار و إصدار الأحكام، بل يجب أن يرجع في هذا الأمر إلى أولي الأمر و إلاّ لو استقل كل فرد بما يرى لساد الهرج و المرج و اختل النظام و فسدت الأمور...

و الإنسان العاقل هو ذلك الذي يرى العواقب إما من خلال رؤيته إن كان من أهل الرأي أو من خلال الاعتماد على آراء غيره ممن يصح له الاعتماد عليهم، و عندها يختار العاقبة الصحيحة و السليمة التي توصله إلى رضوان اللّٰه و جنانه...

الثالث: قوله عليه السلام: سوف يأتيك ما قدر لك.

ما قدر لك سوف يأتيك و لكن ليس لك أن تترك الأسباب المنصوبة و تجلس في بيتك تنتظر ذلك الأمر المقدر، بل عليك أن تمشي على طبق الموازين التي وضعها اللّٰه فإن لكل شيء سببا و لكل حادث محدثا و لكل قفل مفتاحا... و لا يجوز أن تتجاوز المرسوم لك شرعا و تتخطاه إلى الحرام... فإن رزقك سيصلك عن طريق الحلال إذا بحثت عنه و تدبرته، فبدلا من أن تقتحم أبواب الحرام فاطرق أبواب الحلال و ادخل إلى تحصيل الطيبات عن طريق مشروع و جائز...

ص: 373

الرابع: قوله عليه السلام: التاجر مخاطر.

لقد استبطنت لفظة التاجر كثيرا من المكر و الاحتيال و أضحت وصفا لقوم استحوذ عليهم الطمع و الجشع و الغش و الاحتكار و قد مارس التجار طرقا و أساليب ملتوية من أجل الحصول على الربح ضاربين عرض الجدار كل القيم و المثل و كل الآداب و الأخلاقيات، فترى التاجر لا همّ له إلا اقتناص الربح و توفيره و لو كان على حساب راحة الناس و كرامتهم و أمنهم و سعادتهم... لم يعد للمبادئ في نظر التجار أي أثر بل كلها تطوى و يقفز عنها في سبيل حفنة من المال. لم نعد نجد التاجر الذي يتورع عن الاكتساب الحرام، بل أباح التجار لأنفسهم كل شيء يعود عليهم بالنفع فأباحوا الربا و حللوا الغش و حكموا بجواز بيع الخمور و آلات اللهو و المعصية، و استوردوا المفاسد التي تميت النفوس و تقتل الأوقات و تقتضي على التطلع نحو المستقبل المزدهر السعيد...

إن تجارنا اليوم لم يعرفوا الحلال من الحرام و لا الجائز من الممنوع و لا الباطل من الحق، إن على قلوبهم أغشية عن رؤية الحق و كفى بهذه مخاطرة، كفى بها هلاكا، إن من اشتبهت عليه الأمور فباع حلالها و حرامها و ممنوعها و جائزها كيف يأمن عن الوقوع في الخطر... إن التاجر الذي لم يتفقه و لم يدرس معالم الحلال و الحرام فيعرف ما يجوز له بيعه و ما يحرم ؟! و ما يصح شراؤه و ما يمنع ؟! و يعرف متى يتحقق الربا و متى تفسد المعاملة ؟! التاجر الذي يبيع دون ضوابط و يشتري دون ضوابط كيف لا يقع في خطر المعصية و كيف ينجو من خطر الحرام... كان المسلم قبل هذه الأيام إذا أراد أن يشتغل في التجارة تفقه في هذا الباب و درس ما يمكن أن يبتلى به و وقف على كل ما يهمه في هذا الشأن ثم بعد ذلك يدخل في هذا المجال.

و كان التاجر أيضا تبركا و تيمنا لا يدشّن محله إلا في يوم يكون فيه مناسبة إسلامية كيوم ولادة النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - أو مبعثه أو هجرته أو ذكرى ولادة أمير المؤمنين علي، أو يوم الغدير، أو في بعض الأيام المباركة التي تحمل طابعا إسلاميا و حدثا له قيمته و مدلوله و بركته. و كان التاجر يتبرك بقراءة مجلس عزاء سيد الشهداء و يتصدق على الفقراء و يعين المساكين و يخفف ربحه عن المؤمنين، كان فيما مضى لتجارنا أسلوب رائع و طريقة لطيفة جميلة، لقد عهدنا بعض التجار المؤمنين في مدينة النجف الأشرف يعرفون باب التجارة و فقهها و آدابها و مستحباتها بشكل يريح النفس و يسرها...

و أين منهم تجارنا اليوم ؟ لو دخلت أسواقنا لأنكرت أن يكون فيها مسلم...

التجار المسلمون في لبنان - إلا النادر القليل - ليس فيهم من الإسلام أثر، لا تميزهم عن

ص: 374

اليهود و النصارى بشيء، بل رأينا بعض التجار و قد أتخمه الغنى و أفسده الثراء يضع النساء العاريات باعة في محله و يفتح اسطوانات الغناء و مكبرات الصوت بقصد جلب الزبائن و لفت أنظارهم إلى محله، لم يعد له من همّ إلا همّ الربح فهو يفكر في قيامه و منامه و في حركته و سكونه و هو مع أهله و في سهرته و على طعامه، يفكر بشكل مستمر في أنجح الطرق و أيسرها لتوفير الربح و ازدياده دون نظر إلى حلّيته و حرمته و هذا هو منتهى المخاطرة الدينية...

و هناك مخاطرة مادية و هي أن التاجر قد يشتري متوقعا الربح، و لكن بما أنه فرد في مجتمع التجار، و كل منهم يبتغي الربح فقد تنزل قيمة السلعة عما اشتراها به، فيهوي في الخسارة و الإفلاس، و هكذا قد يشتري سلعة و يصيبها الكساد أو التلف أو غيرها من عوامل الزمن من حريق أو غريق أو غير ذلك...

إن التاجر معرض للإفلاس في كل وقت و قد رأينا بأم أعيننا في هذه السنوات العجاف التي مرّت بوطننا لبنان كيف أصيب كثير من التجار بضربات قاضية أتت على أموالهم كلها و استحقوا الحقوق الشرعية بعد أن كانوا يؤدونها أو هي واجبة عليهم قصروا في أدائها و سوّفوا في إخراجها. لقد وجدنا ذلك الملاك الكبير و التاجر العظيم قد استحق الرحمة و الإحسان و وقف على بعض الأبواب يطرقها كي يستدين قليلا من المال يصرفه على نفسه و عائلته... بل وصل الحال ببعضهم أن ماتوا غما و حزنا على ما أصابهم من ذل بعد عز و من فاقة بعد غنى و من فقر بعد ثراء، و هذه كلها عبر و عظات كي يأخذها تجارنا لإصلاح دينهم و مراقبة اللّٰه في تصرفهم في بيعهم و شرائهم و لا تغرّنهم الحياة الدنيا فإنها إلى انقضاء و زوال.

الخامس: قوله عليه السلام: رب يسير أنمى من كثير.

أما على المستوى الشرعي فهذا شيء لا ريب فيه و لا شك يعتريه فإن الشارع اعتبر درهم الصدقة بواحدة و اعتبر درهم القرض بثماني عشرة حسنة، كما اعتبر درهما من الربا يصيبه الرجل أعظم من سبعين زنية كلها بذات محرم... كما أن الإنسان لو تصدق بما عنده و ما ملكت يمينه كلها و كانت قناطير مقنطرة من الذهب و الفضة و ما غلا ثمنه من الجواهر و العقيان ثم لم يتقرب بذلك إلى اللّٰه و لم يخلص في عمله، كل تلك الصدقات لم تزن عند اللّٰه جناح بعوضة... بينما لو أنفق الرجل بعض ما قدرت عليه يده و كان إنفاقه عن طيب نفس و إخلاص و قربة إلى اللّٰه فإن هذا التقرب بالأمر اليسير ليس له عدل في دار الدنيا و لا نظير و إنما الذي يوفيه أجره هو اللّٰه، و اللّٰه أكرم و أجل من أن يجعل أجره

ص: 375

و ثوابه دون الجنة، و لنا في قصة أهل البيت التي يقصها القرآن في سورة الدهر أعظم الأمثال و أجلها حيث إن هؤلاء الأطهار المبرءون من العيب قدموا أقراصا معدودة لليتيم و المسكين و الأسير و لكنها خرجت من داخل قلوبهم و عاشوا مع هذه الأصناف في آلامهم و أحزانهم و تعاستهم و تفاعلوا معهم بجميع جوارحهم فقدموهم على أنفسهم و آثروهم على ذواتهم. و لما علم اللّٰه إخلاصهم في العطاء و التقرب إليه في البذل أنزل فيهم آيات بينات يرددها العالم كله و يتمثلها المخلصون في سلوكهم و سيرتهم... إن هناك الكثير ممن قدم و بذل و أعطى و لم تنزل في حقه آية واحدة بل و لا حرف واحد و قد يكون عطاؤه أكبر و أكثر بكثير من هذه الأقراص المصنوعة من خبز الشعير التي تصدّق بها أهل البيت، فإن القليل مع التوجه به إلى اللّٰه و الإخلاص في طريقة تقديمه يكون أنمى أجرا و ثوابا ممن يقدم الكثير و هو عار عن نية التقرب إلى اللّٰه و التوجه إليه...

(لا خير في معين مهين و لا في صديق ظنين. ساهل الدهر ما زل لك قعوده، و لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه. و إياك أن تجمح بك مطية اللجاج) في هذا الفصل الشريف خمسة أمور:

الأول: قوله عليه السلام: لا خير في معين مهين.

إذا أردت أن تستعين فعليك بأصحاب القدم السابقة في معالي الأمور و وجوهها، توخّ أطيبها نفسا و أسخاها يدا و أعلاها منزلة. إذا أردت أن تستعين دون منّة بل مع الاحتفاظ بكرامتك و عزتك فارم ببصرك نحو من تعرّق و تجذّر في المناقبية و التسامي فإنه لن يردك خائبا و لن يشوش عليك عملك أو يلحق بك و بحاجتك التهمة المسيئة و السمعة القبيحة. إذا كانت حاجتك عند شخص كبير فترقب الرجل الكبير و استعن به لقضائها عنده و لا تتوسط بالخادم و الحاجب و البواب.

إن النفوس الكبيرة لممارستها الخير و قضاء حاجات الناس تعود و كأن هذه الأمور من طبائعها بل ترى لذة في إعانة الناس و كشف كروبهم و تسهيل أمورهم، تعود حاجات الناس بالنسبة إلى ذوي النفوس الكبيرة عادة يأنسون بها بل يستوحشون لفقدها و يتأذون عند عدم قضائها... فكما أن حاتم الطائي كان يجد اللذة في الكرم و يطلب الضيوف من أجل قراهم حتى أضحت هذه الخصلة عادة له يستوحش إذا أكل منفردا بل لا يستطيع أن يجلس على مائدة خالية من الضيوف هكذا حال أصحاب الهمم الكبيرة و أصحاب الكرامة الصحيحة يأنسون في قضاء حاجات الناس و سدّ عوزهم و ستر عيبهم و لا يقصرون في هذا المجال...

ص: 376

أما السفلة من الناس، أبناء الشارع و أهل المجون... أما المهين الذي تزدريه الناس لخسته و وضاعته و لسوء تصرفاته و قلة حيائه الذي يمارس الانحرافات و يعمل بالمعاصي و الخطايا فإن الاستعانة به مذلة و مهانة... و كيف تستشفع بمنحرف أو تستعين بظالم في قضاء حاجة أو إنجاز معاملة! و كيف تنظر الناس إليك و إلى حاجتك التي استعنت لقضائها بهذا المنحرف المهين، فإنهم بدون شك سينظرون إليك باحتقار و ازدراء و سفالة و ضعة و كفى بهذا سوءا و كفى به خزيا. و هذا هو رأي الإسلام و هذه هي تعاليمه يوم كان في البين إسلام يحكم و مسلمون ملتزمون، أما اليوم، و سلام على هذا اليوم بل على هذه الأيام، فقد انقلبت الموازين و تغيرت الوجوه و تنكرت الدنيا و أدبرت و جاءتنا تعاليم الصهيونية و الصليبية فزرعت في مجتمعنا المسمّى بالإسلامي مفاهيم و أفكارا تخالف كل هذه القيم و المثل... صارت المومسات وسائط في إيصال هذا الفرد إلى أعلى المنازل في الدولة... و أضحت الانحرافات هي السبل التي تؤهل الإنسان ليعلو و يرتفع نجمه على أعتاب السلطان، بل السلطان نفسه كما كانوا يسمونه قديما و يسمونه الآن الحاكم أو رئيس الجمهورية، حتى هذا صارت تأتي به العاهرات و المؤامرات و أضحى تعرّقه في الباطل هو ميزان تقدمه و انتصاره فهذا (ريغان) رئيس أميركا كان ممثلا جاءت به الصهيونية العالمية زعيما على رأس أكبر دولة في العالم و هكذا من كان قبله، جاءت بهم المنظمات اليهودية لأنهم يخدمونها و يخدمون مصالحها و كم تسربت فضائح الزعماء و انكشفت أدوارهم المشبوهة و خلفياتهم الدنيئة.

إن هذا الزمن، زمن العهر و النفاق، فبمقدار نفاقك و تملقك و تنازلك عن شخصيتك و كرامتك تستطيع أن تتقدم في الدولة و تترقى في مناصبها، و أنا أحيل القارئ إلى أن يدرس كل مسئول - إلا القليل - بعين التحقيق و التدقيق ليرى صدق ما أقول.

الثاني: قوله عليه السلام: و لا في صديق ظنين.

لأن الصديق الذي يحمل نفسية مملوءة بالشك و يحمل كل بادرة من صديقه على أسوئها، مثل هذا الإنسان لا يستطيع أحد المشي معه كما لا يستطيع أن يصفي الأجواء و ينقيها من الشرور و الآلام، لأن وراء كل حركة مشكلة و وراء كل كلمة ألف معنى مما يضر بالوئام و يفسد الود، و قد رأى بعضنا هذا النوع من الأصدقاء الذين لا يصفو ودّهم ساعة حتى يعتكر ساعات و لا تنقّى أجواؤهم في وقت حتى تثار فيها الغبار في أوقات و سيأتي الحديث عن الصديق بشكل مفصل بعد قليل من الوصية إن شاء اللّٰه...

الثالث: قوله عليه السلام: ساهل الدهر ما زل لك قعوده.

الدهر يومان: يوم لك و يوم عليك، هكذا تكون الحياة و هكذا رسمت صورتها

ص: 377

و تبينت معالمها فمن كانت له أعارته محاسن غيره، و من كانت عليه سلبته حتى محاسن نفسه، هكذا قال علي في إحدى كلماته و هكذا واقع الحال و المشاهد للعيان... فهناك أناس قد أنزلهم الدهر من عليائهم فأسقط تيجانهم و شدد عليهم حتى أحوجهم إلى أن يمدوا أيديهم للاستجداء و الاستعطاء، و هناك أناس رفعهم الدهر من الحضيض، من أسفل طبقات المجتمع و الحياة إلى عز لا يدانيه عز... فقد كان هناك من يعرف الإمارات العربية، و يعرف تلك الوجوه القديمة التي كان أصحابها يركضون خلف البعير في حر الهجير ليردّوه إلى حظيرته... و هناك من كان يطارد الجراد ليجمعه و يدخره لموسم الشتاء... و هناك من لم يعرف القميص و لا السروال... ثم مد اللّٰه لهم في طغيانهم و أنزل نعمه عليهم ليعرفهم حقيقتهم و يقررهم على ظلمهم... و هكذا دواليك في غيرهم...

و الإمام هنا يريد أن يقول لنا استغلوا حالة سلام الدهر معكم و لا تحاربوه أو تكلفوه فوق ما تقدرون و قد قال الشاعر:

و مكلّف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار

فإذا سهلت الأيام و ذل الدهر فيجب أن يتحين الإنسان الفرصة لاستغلالها و الاستفادة منها بمقدار طاقاته و لا يتكلف أكثر من ذلك فإنه لن يستطيع، و لا يحمل نفسه هما و غما بل كل شيء يأتي في وقته و يدركه الإنسان في أيامه...

الرابع: قوله عليه السلام: و لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه.

العقلاء يسيرون في طريقتهم الحياتية على ضمان النتيجة أو اعتقاد ضمانها أو الظن القوي فيها، و لكنهم لا يقدمون على عمل فيه احتمال المنفعة أو رجاء الربح خصوصا إذا كان ما يبذل مقابل هذا الاحتمال كبير كمن يخاطر للحصول على ماية بدفع التسعين فإن المخاطرة بالتسعين قد تأتي عليها و تذهب بها و هذا عمل غير عقلائي... و قد استعمل السفهاء اليانصيب و روّجوه بين الناس فمن بين آلاف الأوراق تربح عدة أوراق منها و الباقي كلها تذهب هدرا، فمن يخاطر بعشر ليرات مقابل المبلغ المعلوم و يبذلها لاحتمال الربح، فإنه يقدم على عمل غير طبيعي، و كم سمعنا أو رأينا أشخاصا قد مضى شطر كبير من أعمارهم يشترون من هذه الأوراق دون أن يربحوا و لو فلسا واحدا...

الخامس: قوله عليه السلام: و إياك أن تجمح بك مطية اللجاج.

اللجاج في الخصومة يفسد الحق و يشوش الرؤية السليمة فإذا كنت ذا حق فتأن في طلبه و الوصول إليه، يجب عليك أن تسعى بهدوء و لين في طلبه... فإذا اعتذر صاحبك

ص: 378

بعدم توفر المال و تعسره فاقبل منه ذلك و أنظره إلى ميسرة... و إذا كان عند صاحبك شبهة حق في خصومه فلا تلجّ و لا تلحّ و تكرر التهديد و الوعيد فإن ذلك قد يكون عليك ليس لك، و كم من إنسان طلب الحق بجانبه و تبين أن الحق عليه... فمن كان في أمر أو قضية فليتأن في طلبها و لا يلجّ في الحصول عليها...

(احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة. و عند صدوده على اللطف و المقاربة و عند جموده على البذل و عند تباعده على الدنو و عند شدته على اللين، و عند جرمه على العذر حتى كأنك له عبد و كأنه ذو نعمة عليك. و إياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو أن تفعله بغير أهله. و لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك) في هذا الفصل الشريف سيكون الحديث حول أمرين مهمين:

الأول: في الصداقة.

الثاني: في الأخوّة.

أما الصداقة:

فقد تشوه معناها في هذا الزمن و تلبدت بغيوم داكنة حتى لم يعد يرى و يميز الصديق من العدو، إن الصداقة في هذا الزمن وليدة المصالح و المنافع فقد تأسست و ابتنت على الأساس الواهي فبمجرد أن تنقضي المصالح و المنافع تذوب الصحبة و تضمحل المحبة... أما الصداقة إذا ابتنت على حب و قناعة و عن اختيار للمناقب الصالحة و الصفات الحميدة في الصديق، فإن مثل هذه الصداقة تستمر و تدوم فلا يتغير الصديق إذا جاءته الدنيا ساحبة إليه أذيالها و لا يتبدل موقفه منك إذا صار صاحب سطوة و سلطان أو قوة و تيجان.

إن كل ما في الدنيا لا يغير نفسية الصديق و لا يبدله عن قديمه الذي كان بينك و بينه لأن هذه الصداقة تبتني على أسس متينة يصعب إزالتها أو تغيرها.

و إن أحاديث أهل البيت قد تكفلت في بيان الصداقة و متى تتحقق ؟ و الإنكار على الصديق المتقلب و كيف نحافظ على الصداقة و نرعى دوامها و استمرارها؟.

- فالإمام الصادق يحدد الصداقة حيث يقول: الصداقة محدودة و من لم تكن فيه تلك الحدود فلا تنسبه إلى كمال الصداقة و من لم يكن فيه شيء من تلك الحدود فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة.

أولها: أن تكون سريرته و علانيته لك واحدة.

ص: 379

و الثانية: أن يرى زينك زينة و شينك شينه.

و الثالثة: لا يغيره عليك مال و لا ولاية.

و الرابعة: أن لا يمنعك شيئا مما تصل إليه مقدرته.

و الخامسة: أن لا يسلمك عند النكبات.

- و يقول الصادق أيضا لبعض أصحابه: من غضب عليك من اخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك شرا فاتخذه لنفسك صديقا.

- و في نهج البلاغة: لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته و غيبته و وفاته.

- و عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لا تسم الرجل صديقا سمة معروفة حتى تختبره بثلاث: تغضبه فتنظر غضبه يخرجه من الحق إلى الباطل، و عند الدينار و الدرهم و حتى تسافر معه...

- عن الصادق عليه السلام عن آبائه قال: قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: اعمل بفرائض اللّٰه تكن أتقى الناس و أرض بقسم اللّٰه تكن أغنى الناس و كف عن محارم اللّٰه تكن أورع الناس و أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمنا و أحسن مصاحبة من صاحبك تكن مسلما.

- و في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه.

- و قال الإمام علي عليه السلام: من أطاع الواشي ضيع الصديق.

- و قال الإمام عليه السلام: أصدقاؤك ثلاثة و أعداؤك ثلاثة: فأصدقاؤك:

صديقك، و صديق صديقك، و عدو عدوك. و أعداؤك: عدوك، و عدو صديقك، و صديق عدوك.

- و قال الرضا عليه السلام: أصحب السلطان بالحذر و الصديق بالتواضع و العدو بالتحرز و العامة بالبشر.

- قال المأمون للرضا عليه السلام: أنشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل و ترك عقاب الصديق، فقال عليه السلام:

إني ليهجرني الصديق تجنبا *** فأريه أن لهجره أسبابا

ص: 380

و أراه إن عاتبته أغريته *** فأرى له ترك العتاب عتابا

و إذا بليت بجاهل متحكم *** يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته مني السكوت و ربما *** كان السكوت عن الجواب جوابا

أما الأخوّة:

الأخوة رباط المؤمنين و عرى المتقين أحبها اللّٰه لخلقه فعاقدهم عليها، إنها تتجسد في بذل ما في اليد و السخاء بما عند الفرد و كف الأذى بل الإحسان و العطاء دون منّ و لا جزاء... يشعر المؤمن اتجاه أخيه و كأنه نفسه لا يستثقل له حاجة و لا يؤخر له طلبا و لا يحوجه إلى المعاودة بل يبادر بمجرد أن يعرف أن أخاه يتمنى أمرا أو يريد حاجة يبادر فورا إلى قضائها. الأخوة بين المؤمنين تتجسد في بذل كل الطاقات من أجل خير الأخ و إسداء المعروف له و تقديم ما تحت يده، يحب له ما يحب لنفسه و يكره له ما يكره لها... يمد يده إلى كيسه دون استئذان و لا طلب...

و لو جئنا إلى تعاليم الإسلام في هذه الناحية لوجدنا المسلمين يعيشون في عالم آخر و كأنهم لا يعرفون الإسلام بل كأنه لم يمر عليهم بعد و لم يسمعوا به و بأحكامه، أين هذه المثل و القيم التي تصور الأخ كالنفس، بل أهم من النفس في بعض الأخبار؟ أين هذا من واقعنا المر الأليم حيث التناحر و القتال و حيث الحرب و العداء فتجد المسلم في قطر يحارب المسلم في قطر آخر، و تجد العداء يستحكم كل يوم و تدور المهاترات و المنازعات و تدور الشتائم و التكفير؟ و لو ألقينا نظرة بسيطة على أمتنا العربية و الإسلامية لوجدنا مصداق ذلك ظاهرا للعيان، إنك تجد الحدود الجغرافية التي وضعها المستعمر الكافر هي التي تفصل المسلم اللبناني عن المسلم السوري و السوري عن المصري و هكذا دواليك، و قد ساعد هذا الانفصال و الاستغلالية ظلم الحاكمين و تكريسهم هذه الفرقة التي تخدم مصالحهم و تحفظ لهم عروشهم...

إن غباء المسلمين و عدم وقوفهم بشكل صحيح على إسلامهم جعلهم في حالة تفكك و تصدع و نكد و شقاء لا يقفون من كبوة حتى يقعوا في أخرى و لا يسدون ثغرة إلا و تفتح أمامهم ثغرات... أين تلك التعاليم العظيمة التي لم نر منها على مسرح الحياة شيئا يذكر، لقد تبخرت كل تلك الإرشادات و الأوامر و ذهبت كلها أدراج الرياح...

فانظر رعاك اللّٰه إلى قليل من كثير من حقوق هذه الأخوة و اعتبر بها و انظر إلى واقعنا و تحقق من المفارقة الفاقعة بل المناقضات الصارخة...

- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يخونه .

ص: 381

و يحق على المسلم الاجتهاد في التواصل و التعاقد على التعاطف و المواساة لأهل الحاجة و تعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّٰه عز و جل رحماء بينكم...

- قال أبو عبد الله عليه السلام: المسلم أخو المسلم هو عينه و مرآته و دليله، لا يخونه و لا يخدعه و لا يظلمه و لا يكذبه و لا يغتابه.

- عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يشبع جوعته و يواري عورته و يفرج عنه كربته و يقضي دينه فإذا مات خلفه في أهله و ولده.

- عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ما حق المسلم على المسلم ؟ قال: له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا و هو عليه واجب إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية اللّٰه و طاعته و لم يكن للّٰه فيه نصيب.

قلت له: جعلت فداك و ما هي ؟.

قال: يا معلى إني عليك شفيق، أخاف أن تضيع و لا تحفظ و تعلم و لا تعمل.

قلت: لا قوة إلا باللّٰه.

قال: أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك و تكره له ما تكره لنفسك.

و الحق الثاني: أن تجتنب سخطه و تتبع مرضاته و تطيع أمره.

و الحق الثالث: أن تعينه بنفسك و مالك و لسانك و يدك و رجلك.

و الحق الرابع: أن تكون عينه و دليله و مرآته.

و الحق الخامس: أن لا تشبع و يجوع و لا تروى و يظمأ و لا تلبس و يعرى.

و الحق السادس: أن يكون لك خادم و ليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فتغسل ثيابه و تصنع طعامه و تمهد فراشه.

و الحق السابع: أن تبر قسمه و تجيب دعوته و تعود مريضه و تشهد جنازته و إذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها و لا تلجئه أن يسألكها، و لكن تبادره مبادرة فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته و ولايته بولايتك.

- عن أبان بن تغلب قال: كنت أطوف مع أبي عبد الله فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته فأشار إليّ فرآه أبو عبد الله فقال: يا أبان إياك يريد هذا؟.

ص: 382

قلت: نعم.

قال: هو مثل ما أنت عليه ؟.

قلت: نعم.

قال: فاذهب إليه و اقطع الطواف.

قلت: و إن كان طواف الفريضة.

قال: نعم.

قال: فذهبت معه ثم دخلت عليه بعد فسألته عن حق المؤمن ؟.

فقال: دعه لا ترده فلم أزل أرد عليه.

قال: يا أبان تقاسمه شطر مالك ثم نظر إليّ فرأى ما دخلني.

فقال: يا أبان أما تعلم أن اللّٰه قد ذكر المؤثرين على أنفسهم.

قلت: بلى.

قال: إذا أنت قاسمته فلم تؤثره، إنما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر.

- و عن الإمام علي عليه السلام قال: قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -:

للمسلم على أخيه ثلاثون حقا لا براءة له منها إلا بأدائها أو العفو:

1 - يغفر زلته.

2 - و يرحم عبرته.

3 - و يستر عورته.

4 - و يقيل عثرته.

5 - و يقبل معذرته.

6 - و يرد غيبته.

7 - و يديم نصيحته.

8 - و يحفظ خلته.

9 - و يرعى ذمته.

ص: 383

10 - و يعود مرضه.

11 - و يشهد ميته.

12 - و يجب دعوته.

13 - و يقبل هديته.

14 - و يكافي صلته.

15 - و يشكر نعمته.

16 - و يحسن نصرته.

17 - و يحفظ حليلته.

18 - و يقضي حاجته.

19 - و يستنجح مسألته.

20 - و يسمت عطسته.

21 - و يرشد ضالته.

22 - و يرد سلامه.

23 - و يطيب كلامه.

24 - و يبر أنعامه.

25 - و يصدق أقسامه.

26 - و يوالي وليه.

27 - و لا يعاديه.

28 - و ينصره ظالما و مظلوما، فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه و أما نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقه.

29 - و لا يسلمه و لا يخذله.

30 - و يحب له من الخير ما يحب لنفسه و يكره له ما يكره لنفسه.

و قد ذكر صاحب «المحجة البيضاء» للأخوة ثمانية حقوق نذكر فهارسها مع بعض الالتفاتات...

ص: 384

- الأول: المال: فقد قال الإمام علي بن الحسين عليهما السلام لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه و كيسه فيأخذ منه ما يريد من غير إذن ؟.

قال: لا.

قال: فلستم باخوان.

- الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات و القيام بها قبل السؤال و تقديمها على الحاجات الخاصة.

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني.

- الثالث: اللسان بالسكوت مرة و النطق أخرى، أما السكوت فإن يسكت عن ذكر عيوبه في حضرته و غيبته.

- الرابع: حق اللسان في الكلام كأن يذكر فضائله.

- الخامس: الدعاء للأخ في حياته و مماته بكل ما يحبه لنفسه و لأهله.

- السادس: العفو عن الزلات.

- السابع: الوفاء و الإخلاص.

- الثامن: التخفيف و ترك التكليف و ذلك أن لا يكلف أخاه ما يشق عليه.

إن الإمام في وصيته يريد أن يؤكد التلاحم القوي بين الأخوة و يسعى إلى ردم أي هوة يمكن أن توسع الخلاف أو تعمقه. فإذا بدرت من صديق بادرة أو صدرت هفوة أو كان الصديق لأمر ما قد تغير فيجب أن يقابله الصديق الآخر بعكس ذلك فيصله عند القطيعة و يلطف به عند الصدود و يبذل له عند بخله، و يدنو منه عند بعده و بهذا المفاد وردت الأحاديث الكثيرة. منها ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام عن النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - قال: قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - في خطبة: ألا أخبركم بخير خلايق الدنيا و الآخرة ؟ العفو عمن ظلمك، و تصل من قطعنا و الإحسان إلى من أساء إليك و إعطاء من حرمك.

و في حديث آخر عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين قال: سمعته يقول:

إذا كان يوم القيامة جمع اللّٰه تبارك و تعالى الأولين و الآخرين في صعيد واحد ثم ينادي

ص: 385

مناد أين أهل الفضل ؟ قال: فيقوم عنق(1) من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون: و ما كان فضلكم ؟ فيقولون: كنا نصل من قطعنا و نعطي من حرمنا و نعفو عمن ظلمنا فقال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنة.

(و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة و تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذ مغبة. و لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك. و خذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين. و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما) في هذا الفصل الشريف خمسة أمور:

الأول: قوله عليه السلام: و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة.

كان للنصيحة قيمتها و أهميتها يوم كان الود بين المسلمين قائما و التحابب بينهم ساريا، كان المسلم يلتقي مع أخيه المسلم ليقدم له النصيحة التي يراها لنفسه حيث كانت الروح الإيجابية بين الأخوة تتفاعل فيما بينهم و كانوا يعيشون كالجسد الواحد يرى أحدهم زين أخيه زينه و شين أخيه شينه. كان الأخ يندفع في سبيل بذل النصيحة لأنها تحمل الخير و الود و توجه الأخ إلى ما فيه الصلاح و السعادة... و كان الأخ المتوجهة نحوه النصيحة يتقلبها برحابة صدر و وعي، يصغي إليها و يعطيها أهمية كبرى، يحرك فكره فيها و يأخذها بعين الاعتبار... هكذا كان المسلمون بل أكثر من ذلك... و أين هم منا اليوم... لا يجرؤ أحد أن ينصح أحدا لأن هذه النصيحة أما أنها ترفض أو تهمل أو تأتي بشر قبيح للناصح الأمين... و هذا يعود تارة للناصح للشك في إخلاصه و تهمته في النصيحة أو لنفس الشخص المنصوح حيث يجد نفسه أكبر من النصيحة أو أكبر من الناصح دون أن ينظر إلى النصيحة نفسها و يحلل معناها و يدرسها بجدية و واقعية...

ففي حين يسلك المسلمون خلاف دينهم يصر الإسلام و يؤكد و يكرر الطلب من الأخوة أن يبذلوا النصيحة لبعضهم البعض، ليس النصيحة التي تكسب الود و ترضي الأخ فحسب، ليست النصيحة التي توافق مزاج الأخ و توفر له الرضا بها و الارتياح، بل يجب أن تكون النصيحة حتى فيما يكون ثقيلا عليه قاسيا على سمعه و قلبه إذا كانت النصيحة صحيحة و سليمة و لها حقيقتها و واقعيتها... يجب أن تكون النصيحة من الأخ نحو أخيه مطلقة العنان في ما أحب و كره لأنها في كلتا الحالتين تعود عليه بالنفع و الصلاح و هذا هو غاية الأخوة و هدفها البعيد.ة.

ص: 386


1- عنق: جماعة.

قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: إن أعظم الناس منزلة عند اللّٰه يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه، و يقول الإمام الصادق: عليكم بالنصح للّٰه في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه.

الثاني: قوله عليه السلام: و تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذ مغبة.

ما أجمل الإنسان و أكبره عند ما يعلو على غضبه و يرتفع عن تفجيره ضربة قاصمة أو كلمة قاسية أو صرخة مؤذية... ما أروع الإنسان عند ما يبتسم ثغره و جوفه يغلي، و يضحك سنه و يكاد قلبه ينفجر من الغضب، إنه يحلم، يقابل الإساءة بالإحسان و يحلم و إن جهل عليه و يحاور بالكلمة الطيبة و النظرة العطوفة دون أن يثار أو ينفجر في وجه خصمه...

كظم الغيظ أن تحبس غضبك مهما كانت أسبابه و تعيش مع من أثارك باللين و الوعي فتفتح له باب الحوار الأخوي و تحلم عليه حتى يعود عن غضبه و يرتدع عن تصرفه...

إن الإنسان إذا امتلك غضبه و استولى على أعصابه يستطيع أن يعيش في ارتياح و هدوء بال... و كم وجدنا أولئك الحمقى الذين يثورون لأتفه الأسباب و أحقرها...

و كم رأينا من المشاكل التي كانت يمكن أن تحل بابتسامة أو كلمة طيبة أو تجاوز عن أمر حقير لا يستحق الوقوف عنده...

كظم الغيظ عملية امتلاك لما يتحرك في الإنسان من إحساسات و انفعالات غير عقلانية و سيطرة كاملة عليها عند حب الانتقام و الثأر و قد وردت الأحاديث الكثيرة التي تحث عليه و تمدح فاعله.

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول ما أحب أن لي بذلّ نفسي حمر النعم، و ما تجرعت جرعة أحب إليّ من جرعة لا أكافي بها صاحبها.

- قال أبو عبد الله عليه السلام: ما من عبد كظم غيظا إلا زاده اللّٰه عز و جل عزا في الدنيا و الآخرة. و قد قال اللّٰه عز و جل: «اَلْكٰاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعٰافِينَ عَنِ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ » ، و أثابه اللّٰه مكان غيظه ذلك.

- عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -:

ص: 387

من أحبّ السبيل إلى اللّٰه عز و جل جرعتان: جرعة غيظ تردّها بحلم و جرعة مصيبة تردها بصبر.

- قال أبو عبد الله عليه السلام: ما من جرعة يتجرعها العبد أحبّ إلى اللّٰه عز و جل من جرعة غيظ يتجرعها عند ترددها في قلبه، إما بصبر و إما بحلم.

الثالث: قوله عليه السلام: و لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك.

إن اللّٰه سبحانه و تعالى مدح نبيه و بين له فضيلة لينه و عطفه و حنانه فقال تعالى:

«وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ » . فكما أن الغلظة و الخشونة تنفر الناس و تفرقهم فإن اللين و العطف و الحب يجمعهم... إذا كنت مع أصدقائك غليظا حركت نفوسهم عليك و أثرتها نحوك فإن النفوس إذا كانت لينة تتحبب إلى الناس و تقترب منهم لأن اللين نوع من الإحسان و النفوس مطبوعة على حب من أحسن إليها، و هذا عكس الغلظة و الجفاء، فإنه منفر للمرء مبعد له عن اخوانه و أصدقائه. فمن غالظك في حديث أو نظرة أو نحوها فلن معه و تحبب إليه تجده عما قريب يعود إليك و يقابلك بأفعالك خيرا و يجازيك بإحسانك إحسانا...

الرابع: قوله عليه السلام: و خذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين.

الظفرين أحدهما الغلبة على العدو و الانتصار عليه في ساحة الجهاد، و الآخر أن تأخذ عليه بالفضل من الإحسان و الإكرام حتى تسكته بل تجعله لسانا ينطلق في مدحك و تقريظك و هذا الأخير من الظفرين أهم من الأول و أحلى و أثمن و أجمل... فإن في الأول تقضي عليه ماديا و تنتصر عليه عسكريا بقوة زندك و سلاحك الذي يشترك فيه أي حيوان يكون أقوى منك بينما في الآخر يتمثل الانتصار الفكري و الغلبة العلمية حيث تحوله بهذا الإحسان و الفضل إلى لسان ينطق بحمدك و يذكر فضلك و إحسانك، في الأول تجده يتململ لينقّض عليك لأنه لم يذعن لك إلا تحت وطأة الغلبة بينما في الآخر يذعن لك من الداخل و يشعر أنك بإحسانك متفضل عليه محسن إليه.

الخامس: قوله عليه السلام: و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما.

جاءت كلمة الإمام هنا تعليما سماويا لهذا الإنسان الذي تنزع نفسه إلى الشر و يريد أن يسلك مع أخيه خلاف المرسوم له شرعا. يريد الإمام أن يقول لهذا الإنسان: إن أخاك ليس عاريا عن كل فضيلة و لا مسلوب الحسنات كلها بل لا يخلون أن يكون فيه بعض

ص: 388

المزايا الحميدة و الصفات الطيبة، فإذا تشاكست معه في أمر و تفرقت كلمتكما إلى غير اجتماع فيجب أن تحتفظ له ببقية باقية في نفسك من هذه الصفات يمكن أن يرجع إليها إذا عادت الأمور إلى مجاريها وصفت الموارد لشاربيها...

إن بعض الناس إذا غضب على أخيه أو لم يعجبه أخوه في بعض تصرفاته أو خالفه في رأي أو اتجاه أو ارتكب معه خطيئة عمدا أو خطأ، تراه يتعامل معه معاملة العدو فيكشف كل أوراقه التي وضعها هذا الأخ بين يديه أيام السرور و الهناء، إنه لا يبقي بقية من تلك الأسرار التي كان يسرها إليه صديقه فتراه يكشفها سرا سرا و يبوح بها واحدة إثر أخرى، و يعمد إلى صفاته ليعرّيه من كل فضيلة و ينسب إليه كل سيئة ذميمة... لقد انقطع حبل الود بينهما و تمزق ذلك الشمل الذي كان ملتئما فيما مضى...

إن من يقطع كل الخطوط بينه و بين أخيه يصعب عليه العود إليه حتى لو كان الأخ يتمتع بإيجابيات و حسنات و يريد أن يرجع أدراجه نحوه...

كيف يرجع إليه و قد تقطعت السبل التي كانت تصله به ؟! لم يعد خيط رفيع يصل بينهما أو يجمعهما؟! فالإمام ينبهنا إلى معنى دقيق و عظيم و هو أن لا نقطع كل الخطوط و الخيوط التي بيننا و بين الأخ بل يجب أن نبقي بعضها حتى إذا أراد الرجوع أمكن ذلك و سهل الأمر...

(و من ظن بك خيرا فصدق ظنه، و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك، و لا ترغبن في من زهد عنك. و لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، و لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان و لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته و نفعك. و ليس جزاء من سرك أن تسوءه) في هذا الفصل أمور يجب التعرض لها.

الأول: قوله عليه السلام: و من ظن بك خيرا فصدق ظنه.

ترغيب في عمل الخير و قوة دفع في سبيل الصالحات... إنه أسلوب من أروع الأساليب و طريقة رائعة من الطرق التي تأخذ بيد الإنسان نحو الفضيلة... أسلوب الظن الحسن بمن ابتدأ الخطوة الأولى في طريق إصلاح النفس و تهذيبها... إن حسن ظنك بإنسان يجعله قهرا عنه أن يصدق ظنك، حسن الظن يشكل قوة الدفع في المظنون به، فمن ناديته بصفة حميدة أو خصلة عالية اضطر أن يتصنع أو يتكلف حتى يبلغ هذه الخصلة... فمن كررت عليه يا صادق اضطر أن يحقق هذه الصفة في نفسه و يظهرها لك

ص: 389

بصورة صادقة و إذا تكرر منه هذا الفعل و استمر فيعود بعد مدة عادة - أئمه يعسر عليه أن يتخلى عنها بسهولة...

الثاني: قوله عليه السلام: و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه.

إذا صدقت الأخوة وجب الإخلاص فيها و البذل لها و عدم منع شيء عنها، فيتحول الأخ إلى نفس ثانية يرعاها أخوه و يحافظ عليها و يهتم بشئونها و يبذل ما تحت يده لها و من أجلها.

و قد أكد الأئمة على رعاية حق الأخوة و المحافظة عليها و قد رسموا في حديثهم الشريف كيف نتعامل مع اخواننا و كيف نستطيع أن نكتسب مودتهم و نديم اخوتهم...

و من جملة هذه الأمور التي أكد عليها الأئمة رعاية حق الأخوة و المحافظة على القيام بما تتطلبه هذه الأخوة و لا يترك الأخ هذه الحقوق اتكالا على هذه الأخوة.

بعض الأخوة يهملون حقوق اخوتهم بحجة أنهم من البيت تارة و بحجة أنهم كأنفسهم أخرى و بحجة أنهم اخوة ثالثة، و الإمام يؤكد أن هذا الأخ لا يسقط حقوقه هذه الأعذار و الحجج... فإذا مرض وجبت زيارته و إذا عاد من سفره وجبت تهنئته و إذا صار عنده مناسبة وجب الحضور عنده و لا يجوز التعليل و خلق الأعذار بأنه أخ فلا يعتب و أنه أخ و هو يغفر... و خصوصا إذا تكررت هذه المخالفات و كثرت هذه الاعتذارات فإن عقد الأخوة تتحلل عراه و تنفصل و يفقد الأخ عندها أخاه، و الغبي من فقد أخا له عاش معه و أعجبه و استفاد من سلوكه و حديثه بما يقربه من اللّٰه و جنته...

الثالث: قوله عليه السلام: و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك.

نفهم من خلال الحض في أحاديث المعصومين على صلة الرحم و الجوار و الأهل و القرابة و الأصدقاء و الأخوة أن للإسلام عناية زائدة بمن يتصل بهم و تربطهم به رابطة و لو كانت ضعيفة... هذه الصلة يمتّنها الإسلام و يقويها و يرفع من طريق تحقيقها كل العقبات و المعوقات و يوصي المسلمين بالعفو و الصفح و التسامح و يؤكد على هذه المعاني في حق الأهل و الأقرباء و الرحم...

إن الأحاديث تؤكد على التراحم بين الناس جميعا و لكنها تؤكد هذا المعنى في حق الأقرباء من الأهل و الأولاد و الأرحام... و الإمام هنا ينهي أن يكون أهل الإنسان أشقى الناس به بدل أن يكونوا أسعد الناس به... فإذا لم تستطع أن تكون وسيلة السعادة

ص: 390

لأهلك فلا أقل من أن لا تكون وسيلة شقاء لهم... و إننا نسمع عن بعض الناس أنهم خارج بيوتهم ينشرحون و يفرحون، يضحكون و يمرحون، حتى إذا عادوا إلى أهلهم تغيرت أوضاعهم و انقلبت أحوالهم، تراهم تسوء أخلاقهم و تعلو أصواتهم بالصياح و السباب و الشتم و الضرب و كأنهم غير أولئك الذين كانوا قبل ساعة خارج بيوتهم أصحاب الأخلاق و الآداب و الفرح و الانشراح. إن هؤلاء يخالفون وصية الإمام هذه و يعملون بخلافها، و قانا اللّٰه من الزلل و الخطأ و وفقنا لما فيه الخير و الفلاح...

الرابع: قوله عليه السلام: و لا ترغبن فيمن زهد عنك.

إذا رغبت فيمن زهد عنك زادته رغبتك فيه احتقارا لك لأنه ينظر إليك بعين الحاجة إليه و العوز إلى فضله فإن الرغبة في إنسان لو قابلته الرغبة من الطرف الآخر أثمرت هذه الرغبة و أثّرت و أعطت ثمارا طيبة و نتائج حسنة...

إذا كانت الدنيا إلى جانب إنسان و قد أقبلت عليه من أطرافها تراه يزهد بأصحابه القدامى و يتنكر لجميلهم القديم معه و يتناسى كل إحسانهم و فضلهم و يزهد فيهم على حد تعبير الإمام لأنه يجد نوعا جديدا من الأصحاب و الخلاّن على شاكلته و سمته، و قد عهدنا أناسا ممن اغتنوا بعد فقر و ارتفعوا بعد ذل رأيناهم قد زهدوا بأصحابهم و تنكروا لهم بل لم يعودوا يعرفونهم، فأجمل بهؤلاء الناس أن يقابلوا مثل هذا المتكبر المتعالي بالزهد فيه و الاحتقار لمجالسه، فإن ذلك أحسن لحالهم و أجمع لشئونهم...

الخامس: قوله عليه السلام: و لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته و لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان.

الأحياء على وجه هذه الأرض في سباق مستمر بعضهم مع بعض، و كل واحد قد رسم شوطه و حدد هدفه فمنهم من حدد الحدود بالإفساد و المعاصي و الخطايا كأبناء هذا الزمن الذي أخذ أهله يسارعون فيما بينهم أيّهم يكسب إثما أكثر من غيره، فترى هذا الفرد يشرب كأسا محرمة فيسابقه جاره ليشرب كأسين و ترى هذا الإنسان يتباهى بعدم الصلاة فيبادله الآخر متباهيا بعدم الصلاة و الصيام، و ترى هذه المرأة تتباهى بسفورها و خلاعتها فتبادر اختها لتباهيها بهذا، و بعدم القيام بشيء من واجبات اللّٰه و هكذا دواليك.

هذا هو سلوك الناس في زماننا، و لكن الإسلام له شوط يرسمه ضمن حدود اللّٰه و يقول لهذا الإنسان: إذا بادر أخوك لقطيعتك و سارع إلى ذلك فكن أنت السابق على صلته و كن أنت الذي ترسم له طريقا حسنا و أنت الذي تعلمه درسا في الخير و العمل الصالح... لا يكن بمعصيته أسرع منك في طاعتك فأنت على حق و خطواتك كريمة و مباركة فلا يجوز

ص: 391

أن يسبقك العاصي في معصيته على شوط الطاعة في طاعتك، و على حسن المبادرة إلى صلة من قطعك و الإحسان إلى من أساء إليك.

و الآن و أنا أكتب هذه الكلمات أسمع بأذني أهل الفسوق يحيون ليلتهم بالمعصية و أصواتهم ترتفع بالغناء الحرام في ساعة متأخرة من بعد منتصف الليل، إنهم يسارعون في المعصية و الانحراف و يتجاهرون بالحرام على رءوس الأشهاد، في هذه اللحظات التي يتسابق فيها الفسقة على معصية اللّٰه يغط المؤمنون في سبات عميق و تأخذهم راحة النوم و الكرى فيا ليتهم سهروا على طاعة اللّٰه كما سهر العصاة على معصية اللّٰه و يا ليتهم اجتمعوا على الطاعة كما اجتمع العصاة على المعصية.. نحن نسارع في الإهمال و التسويف و التأجيل، إنهم يسارعون في الانحراف و نتباطأ في الإصلاح، و إن بقينا هكذا هم يسرعون و نحن نتباطأ سيغلب باطلهم حقنا و سيأتي انحرافهم على استقامتنا و سنندم في موضع لا يفيد الندم فيه.

السادس: قوله عليه السلام: و لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته و نفعك.

الظلم من أشد الكبائر و أعظمها في الإسلام و لم يسمح به لأحد بل الإسلام حارب الظالمين من أول يوم عرفت فيه هذه الأرض كلمة الإسلام. إن تاريخ هذا الدين معروف لكل الواقفين عليه و السائرين على هداه و كما أنه لم يرض بالظلم فقد أكد على الناس أن يثوروا في وجه الظالم و لا يستسلموا لظلمه و قهره بل يجب عليهم أن يقفوا في وجهه بكل السبل الممكنة التي تردعه عن ظلمه و توقفه عن ممارسة الظلم.

و الإمام هنا في هذه الكلمة الشريفة يريد أن يعالج الموضوع من ناحية أخرى و هي تقدير الأضرار التي تلحق بالظالم من جراء ظلمه و بيان أن هذا الظلم إنما يحيق بأهله لأن اللّٰه أوعد الظالم بنار يدخله فيها، فعاقبة الظلم تعود إليه و هو الذي يختار هذا الجزاء بيده. و من طرف آخر يأخذ المظلوم أجر مظلوميته و يقتص اللّٰه له من الظالم و يعوّضه عن آلامه التي لحقته بجنات تجري من تحتها الأنهار، و هذا العقاب للظالم شيء محقق لا بد منه، و يكون للمظلوم أجر إذا رفض الظلم و الاضطهاد و عمل من أجل رفعه و إقصائه، أما إذا استسلم للظلم و رضخ للظالم، أما إذا امتنعت يده أن ترتفع في وجه الظالم و كذلك إذا حبست كلمته عن الانطلاق و رضيت نفسه بالذل فإن اللّٰه لا يثيبه على مظلوميته بل يعاقبه عليها و يدخله النار مع الظالمين لتركه مقارعة الظالم و الركون إليه و السكوت عنه.

السابع: قوله عليه السلام: و ليس جزاء من سرك أن تسوءه.

بل جزاء الإحسان الإحسان و جزاء المعروف معروف مثله، فمن رآك بعين واحدة

ص: 392

ينبغي أن تراه بكلتا عينيك، و على أقل تقدير أن تراه بعين واحدة كما رآك. و هذا هو فعل الكرام من الناس و الشرفاء منهم إنهم يكبرون الذي يسدون إليهم معروفا و يجلّون من تحملوا من أجلهم أقلّ تعب و مشقة و عجيب أن يبادل المحسن بالإساءة و المعطي بالصدود و الكريم بالبخل، و من أدخل عليك السرور بإدخال الحزن و الألم عليه. إن هناك بعض الجبلات الثقيلة التي تتعامل بهذا الأسلوب، إنها جبلات لئيمة طبعت على الخسة و الدناءة فهي ترفض الإحسان و إذا عوملت به تنكرت لفاعله و أساءت إليه. و لكن المسلمين الطيبين يتعاملون بيسر و سهولة و يكبرون كل إحسان إليهم و يتحينون الفرص من أجل وفائه، إنهم يرونه دينا يترقبون الأوقات ليردوه إلى أهله و أصحابه، فهم في طوايا نفوسهم يرون هذا الجميل نعمة تحتاج إلى شكر و شكرها أن تكافىء صاحبها و ترد إليه بإحسان أشد و أفضل...

(و اعلم يا بني أن الرزق رزقان: رزق تطلبه و رزق يطلبك. فإن أنت لم تأته أتاك.

ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى. إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك.

و إن جزعت على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك. استدل على ما لم يكن بما قد كان فإن الأمور أشباه) في هذا الفصل الشريف أمور:

الأول: قوله عليه السلام: و اعلم يا بني أن الرزق رزقان، رزق تطلبه و رزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك.

قسم الإمام في حديثه هنا الرزق إلى قسمين: رزق تطلبه و يتوقف الحصول عليه إلى أن تنهج معه الأسباب الطبيعية التي سنها الشارع و وضعها لكل فائدة و ثمرة و ربح، فهناك أسواق مفتوحة و بيع و شراء و هناك معاملات يجب أن تتخذ إليها الطريق من أجل توفير الربح و الثراء و لا يجوز لك أن تكون اتكاليا تعيش في زوايا بيتك و ضمن جدران غرفتك الأربعة دون أن تتجاوزها بحجة أن اللّٰه قد تكفل لك برزقك و مئونتك فإنك إن عملت ذلك تكن مخالفا للمرسوم شرعا و مناقضا لأقوال المعصومين الذين كانوا يدفعون المسلمين إلى الخروج إلى الأسواق و يأمرونهم بالبكور إلى عزّهم كما في بعض الأخبار و كذلك تكون من الذين لا يستجيب اللّٰه دعاءهم على حد قول المعصوم في حديث آخر... فهذا هو القسم الأول من الرزق، و هو الرزق الذي يتطلب منك أن تطلبه و تسعى في الحصول عليه. و أما القسم الثاني و هو الرزق الذي يطلبك فقد يتعجب بعض الناس من هذا الكلام و لكن و شرف الحق و عزة اللّٰه لقد لمست هذا بيدي و عشته في أيام حياتي أكثر من مرة... لقد كنت أرصد أن يأتيني الرزق من جهة فإذا بها تقفل و يمتنع الرزق منها، و لكن ما أن تنغلق أبوابها حتى تفتح من أبواب أخرى لم تكن بالحسبان ممن لا

ص: 393

أعرف و ممن لا أحسب له حسابا في عالم الرزق. آمنت أن اللّٰه يحب الانقطاع إليه فحسب، و التوكل على قدسه دون سواه... إنه كان يعطيني دروسا فذة تقطع أملي من أي جهة كنت آمل أن يكون عن طريقها رزقي و يفتح لي الأبواب عن طرق أخرى أوسع و أجمل و أكرم مما كنت أتوقع.

الثاني: قوله عليه السلام: ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى.

بعض النفوس تتغير بتغيرات الأحوال الاجتماعية و الظروف المادية و المعنوية الأرضية، و هذه النفوس ليس لها أصالة النفوس المسلمة و لا واقعيتها و لا تتمتع برصيد إيماني قوي و لا بوعي إسلامي عميق... إنها نفوس تعيش الجاهلية في عمقها و الانحراف في طبيعتها و الفساد من داخلها و تظهر كل هذه في صور و أشكال مختلفة و متباينة و من هذه الصور النابية المنحرفة المشوهة صورة الإنسان الذليل المسكين الذي يركع أمامك و يخضع لكل ما تمليه عليه عند ما يكون بحاجة إليك و له غرض عندك، و أما إذا استغنى عنك و لم يعد بحاجة إليك تنكر لك و ابتعد عن ساحتك بل تنمّر في وجهك و استأسد عليك و كأن لم يكن بينك و بينه معرفة سابقة و لا صلة قديمة...

و إن كل واحد منا قد مر بتجربة من هذا النوع، و كل واحد منا رأى هذه الصورة التي يرسمها الإمام في كلمته هذه، و كم وقفنا مع أنفسنا وقفات، وقفنا نتأمل في هذا الفرد من الناس الذي كان بالأمس يتردد عليك و يطرق بابك من أجل حاجة يريد أن تقضيها له، و اليوم بعد أن قضيت و استغنى عنك يمر و كأن لم يعرفك... كم وقفنا و تألمنا من دناءة هذا الإنسان و تنكره للجميل و الإتيان على كل ذلك الماضي الذي كان فيه ذليلا و دنيئا و لم يعد يتذكر منه إلا الساعة التي هو فيها، فما أقبح الإنسان صاحب هذه الخصلة و ما أقل وفاءه و إخلاصه. و هذا النوع من التصرف يتنزه عنه المؤمنون و لا يتعاملون مع بعضهم على هذا الأساس بل يبقى المسلم يتصرف مع أخيه المسلم و ينظر إليه حال حاجته إليه نظرته إليه في حال غناه عنه، و بهذا يفترق المؤمن عن غيره ممن لم يعيشوا العمق الإيماني و الأصالة الرسالية و التربية و الآداب الإسلامية...

الثالث: قوله عليه السلام: إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك.

باعتبار أن الدنيا دار ممر إلى أخرى دار مقر، و الإنسان العاقل هو الذي يأخذ من ممره إلى مقره، و يصلح مكان إقامته الدائم و يأخذ من طريقه ما يصلح ذلك المثوى الذي لا يتحول عنه و هو واحد من أمرين: إما إلى جنة عرضها السماوات و الأرض و هي لا تحصّل بالتمنّي و لا بالأحلام إنما تحصّل بالعلم و العمل به، إنما تحصل بالجهاد و الكد

ص: 394

و التعب، تحصل إذا استطاع هذا الإنسان أن يقف مع نفسه و يفكر في خلواته منفردا في الأسباب الموصلة إلى تلك السعادة الأخروية التي لا ينضب نعيمها و لا يجف سرورها، إنه و لا شك سيقوده عقله و يأخذ به تفكيره إلى الإيمان باللّٰه و رسله و يتبنى طريق الأنبياء و الرسل و التقيد بتعاليمهم الموصلة إلى تلك الدار التي لا عناء فيها و لا شقاء لأن طريق الأنبياء هو الطريق الوحيد الذي يقودهم إلى ذلك المقام الأمين، و لا شك أن رسالة الإسلام التي نزلت على قلب النبي محمد - صلّى اللّٰه عليه و آله - باعتبارها الناسخة لكل رسالات اللّٰه المتقدمة و الواجب على كل إنسان أن يرجع إليها و التدين بها، فإنها الرسالة التي يسعد بتطبيقها الناس في الدنيا و الآخرة...

الرابع: قوله عليه السلام: و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك.

لملمة و كفكفة لأحزان هذا الإنسان الذي امتلكت عليه الحياة كل شئونه و شجونه فيضحي يلطم و ينوح إذا فقد أمرا كان بيده فلو كانت عنده ثروة و ضاعت منه بكى عليها و ابتلت الأرض من دموعه و أزعج الجيران بأنينه و عنينه، و إذا هدم بيته لأمر تراه يضج و ينشر الأحزان في نفسه و بين أسرته، بل قد يصل الحال في بعض الأشخاص أن يموت غمّا بمجرد أن يسمع بضياع ثروته أو هلاك متاعه و بذلك يخسر أمواله و يخسر نفسه.

و الإمام هنا يريد أن يوقظ هذه النفوس و ينبهها إلى أمر و هو في منتهى البداهة، و لكنها غافلة عنه و هو واضح للعيان و لكنها ساهية عن أبعاده، إنه يريد أن يصب في روع هذا الإنسان أنك إذا كنت جازعا من فوت أمر كان بيدك فيجب أن تجزع لأمر لم يصل إليك... إن هناك أمورا كثيرة تتمناها و تستشرف نفسك إلبها، و تتمنى أن تصبح ملكا أو أميرا و تتمنى أن تصبح صاحب أعظم ثروة في العالم و أغنى الناس و تتمنى أن تحصل على الأمر الفلاني و المنزلة الفلانية، فإذا كنت تجزع للأول فيجب أن تجزع لهذا أيضا فكما أنك لا تجزع لهذا الأخير فيجب أن لا تجزع للأول، يجب عليك أن تفكر في الطريق إلى إعادة ما فقدته و إلى تكوين ما ضاع من يديك من جديد... يجب أن لا تجزع و تحزن بل يجب أن تبتدىء و كأنك خلقت من جديد تصارع الحياة و تخوض غمراتها من أجل البناء الجديد و الحياة الجديدة...

الخامس: قوله عليه السلام: استدل على ما لم يكن بما قد كان فإن الأمور أشباه.

يقال: إنك بعد لم تمت و لكن ألم تر من مات. فيجب أن تأخذ العبرة من غيرك و يجب أن لا تكون أنت محط التجربة و قد مرت على غيرك، بل احمد اللّٰه الذي لم يجرها

ص: 395

عليك فربما لم تكن على استعداد لتحملها أو الصمود في وجهها... إنك نجوت من حوادث الدهر و آفاته. فصحتك عامرة و أموالك موفرة و تتمتع بمنزلة رفيعة و كلمة مسموعة و لكن اعتبر بمن كانت له تلك الصحة فأضحى عليلا و بمن كانت له تلك الثروة و قد أتت عليها الأحداث، و بمن كانت له تلك الوجاهة حيث أضحت نكالا له و عبرة لمن بعده. يجب عليك أن ترى الحياة و تأخذ لها الاستعداد، أن تأخذ العبرة ممن مرض أو افتقر أو انحط بعد صحة و غنى و جاه فتستعمل كل هذا في وقته و في محله دون أن تشدك هذه الأمور إلى الطغيان أو الإنحلال... أو الاستعلاء على الناس... و لكن و بكل أسف أنّى لهذا الإنسان أن يعتبر و كل الحياة تحمل العبر، إنه يمشي في موكب الموتى و يحمل على أكتافه نعش أحب الناس إليه و لكنه غافل عما يحمله الغد إليه إذ ربما كان هو المحمول فليعتبر بحال هذا الإنسان و ينظر إليه بعين مجردة لا تحمل حبا و لا بغضا بل تحمل عدلا و إنصافا و يوازي بين أعماله الصالحة فيقتدي بها و بين أعماله الطالحة فيتجنبها و بهذا يستفيد من تجربة غيره و ينجح في مستقبل أيامه...

(و لا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه. فإن العاقل، يتعظ بالآداب و البهائم لا تتعظ إلا بالضرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر و حسن اليقين.

من ترك القصد جار. و الصاحب مناسب. و الصديق من صدق غيبه. و الهوى شريك العناء. رب قريب أبعد من بعيد و رب بعيد أقرب من قريب. و الغريب من لم يكن له حبيب، من تعدى الحق ضاق مذهبه و من اقتصر على قدره كان أبقى له) في هذا الفصل الشريف أمور:

الأول: قوله عليه السلام: و لا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بالغت في إيلامه فإن العاقل يتعظ بالآداب و البهائم لا تتعظ إلا بالضرب.

قد تأتمن إنسانا بدينار فيجحده و ينكره و لا يؤديه إليك فإذا لم تتعظ بهذا القليل وعدت لتأتمنه على ألف دينار و ينكرها عليك فلا تلومن إلا نفسك. إن العظة بالدينار يجب أن تكون محفزا قويا لك لأخذ العبرة و الانتفاع من التجربة فإن الإنسان العاقل هو الذي يتعظ بأبسط الأمور و أيسرها و لا يحتاج إلى أن يمر بامتحان شديد و درس قاس أليم...

إن الأحرار من الناس و الشرفاء من البشر تجرح مشاعرهم أدنى كلمة من إنسان تخرج في حقهم فيحفظونها درسا عمليا طيلة حياتهم و مدى عمرهم...

و أما العبيد الذين تربوا على الصغار و الضعة هؤلاء لا تنفعهم ألف كلمة و لا

ص: 396

تحركهم ألف موعظة و لا تستشير مشاعرهم مدافع المواعظ و صواريخها لأن حسهم الداخلي قد مات و شعورهم قد تبلد بحيث فقدت الكلمات مدلولها و المواعظ وقعها و لم يبق أمامهم إلا أن تهز العصي و يرتفع السوط تأديبا. قديما قال الشاعر:

العبد يقرع بالعصا *** و الحر تكفيه الملامة

و قال المتنبي مبينا صفة العبيد:

لا تشتر العبد إلا و العصا معه *** إن العبيد لأنجاس مناكيد

الثاني: قوله عليه السلام: اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر و حسن اليقين.

إنها دعوة للتحلي بالصبر و حسن اليقين باللّٰه كي يقضي على كل هم يشغل فكر هذا العبد الضعيف و يربكه عن المسير، فإن الدنيا لم تكن تصفو لأحد فما من هم يزول حتى تحل محله هموم و لا يستطيع الفرد أن يتغلب عليها إلا بالصبر الذي يتمتع به الإنسان و يقوده إلى النصر و الفتح...

الثالث: قوله عليه السلام: من ترك القصد جار، و الصاحب مناسب، و الصديق من صدق غيبه.

الطريق الوسط هو خير الطرق و أسلمها، و الاعتدال في كل الأمور محبوب و مرغوب و هو الصواب و الموافق للحكمة و العدل، فإن الشجاعة هي الحد الوسط بين طرفي الإفراط و التفريط و هما الجبن و التهور، و الكرم هو الحد الوسط بين الإسراف و التقتير، و الإسلام هو الوسط و العدل، و أما اليمين و الشمال فهما المضلة و هكذا دواليك، و من ترك طريق العدل و الإنصاف فلا إشكال أنه سيجور لأن الجبن جور كما أن التهور جور و قديما قيل:

حب التناهي شطط *** خير الأمور الوسط

و أما الصاحب فهو الذي يتحول من إنسان بعيد عنك و غريب عنك إلى إنسان يرتبط بك بعلاقة تكاد تصبح نسبية، بل إن النسيب قد لا يصل الأمر بينك و بينه أن تفتح صفحاتك أمامه إما حياء و خجلا أو خوفا و فزعا أو لأمر آخر، بينما كل ذلك ينكشف أمام الصديق، فالأسرار تستباح و الخفايا تظهر، و لم يعد أمام الصديق أي ستر أو غطاء، و إذا أضحى الصديق بهذا المستوى من العلاقة و تحول إلى قريب روحيا و فكريا و انسجاما، فيجب أن تحفظه كما تحفظ الأنسباء و ترعاه كما ترعاهم و تدفع عنه كما تدفع عنهم، و قد بينا في فصل سابق حق الصديق و لزوم مراعاة الصداقة و الحفاظ عليها...

ص: 397

الرابع: قوله عليه السلام: و الهوى شريك العمى و رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد و الغريب من لم يكن له حبيب.

من غلبه هواه لم يعد يبصر طريق الحق و الرشاد فإذا طغى هوى القرابة و النسب لم يعد للعدل مجال و لا للإنصاف دور، فإذا اعتدى قريبك بررت اعتداءه و إذا ظلم بررت ظلمه، و إذا ضرب بررت ضربه، و هكذا تخلق المبررات و التأويلات من أجل أن توافق هواك في قرابتك. و إذا غلب هوى العشيرة ضربت صفحا عن كل المعاني السامية الرفيعة التي كنت تحلم بها في أيام الود و الصفاء...

و قد عبر اللّٰه في كتابه عمن يتخذ الهوى دينا له و سيرة عبر عنه بالإله لهذا الشخص قال تعالى: «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ » فإن هذا الهوى يتحول إلى إله يأمر و ينهي و يحرك و يجمد المرء عن الحركة...

و قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: إنما أخاف عليكم اثنين إتباع الهوى و طول الأمل، أما إتباع الهوى فإنه يصد عن الحق و أما طول الأمل فينسي الآخرة. و قال أعرابي: الهوى هو ان و لكن غلط باسمه.

و قال الهزلي:

أبن لي ما ترى و المرء *** تأبى: عزيمته و يغلبه هواه

فيعمى ما يرى فيه عليه *** و يحسب ما يراه لا يراه

و أما قوله رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد فهذا شيء خاضع لموازين الإسلام و مدى ارتباط الفرد بها... فرب إنسان بعيد لا تعرفه و لا تعرف بلاده ترتبط معه في أجواء العقيدة و تأنس به و ترتاح للقياه، و رب قريب تعيش معه تحت سقف بيت واحد لا تحب رؤياه و لا تتمنى لقياه فالمسلم الذي يعيش مع أخيه القريب النسبي و هو يعانده في عقيدته و لا يلتقي معه في فكره و سلوكه بل يتخذ اليمين أو اليسار أو الضلال و الانحراف مثل هذا الأخ القريب كمثل أبعد الناس ممن لم تجتمع معهم و لم تلتق بهم، بل هم أخف شرا و أقل ضررا لأنك لم تنكشف إليهم بينما أنت مكشوف له، و قال الحكيم مصورا حال بعد القريب و قرب البعيد:

كانت مودة سلمان لهم رحما *** و لم يكن بين نوح و ابنه رحم

فإن الغريب يلتفت يمنة و يسرة فلا يجد من يحدب عليه و لا من يعينه على مشاكله و مصاعبه، لا يجد أما تحن عليه و لا أبا يهتم بشئونه و لا أقارب يدفعون عنه و لا أخوة يحفظونه... إنه يعيش منفردا إن مات لم يشعر بموته أحد و إن عاش لم يحس بحياته

ص: 398

أحد... إنه عضو غريب ليس من أهل هذه البلدة و لا من سكانها و هكذا هي حال من لم يكن محبوبا من أقربائه و جيرانه و خلانه، فإنه لسوء فعله و شؤم تصرفه يكون منبوذا، و إن كان مع أهله و يكون مبعدا عنهم و إن كان يعيش في وسطهم... إنه غريب حيث لا محب له و لا شفيق عليه.

الخامس: قوله عليه السلام: من تعدى الحق ضاق مذهبه و من اقتصر على قدره كان أبقى له.

من تجاوز الحق و تخطاه لا شك أنه يتيه و يضل. و هذا التيه و الضلال مهما جعلت له المبررات فإنها ضيقة و لا تقوم حجة على دعم الباطل و تصيره حقا... فمن تجاوز الصدق إلى الكذب مهما برر كذبه فإنه لن يفلح و لن يجد الأذن الصاغية لإعذاره بل سيجد الضيق و الضعف في ما يقدمه من مبررات و يجد بينه و بين نفسه عجزا عن إيجاد وسيلة تقنع الغير و تقنع نفسه.

و أما قوله: من اقتصر على قدره كان أبقى له، فإن من عرف قدره و منزلته و وضع نفسه في موضعها يبقى مصان الجانب محترم المقام، فمن عرف أنه عامي غير مجتهد ثم تنطح و تطاول على المجتهدين، و وضع نفسه في غير موضعها، فلا بد و بدون شك أنه سيصغر في أعين الرجال و لا يبقى له هيبته و مقامه، و من كان وضيعا سافلا عاصيا للّٰه ثم وضع نفسه في صف الأتقياء فلا بد و أن الأيدي ستشير إليه و العيون ستتغامز عليه، و من كان جاهلا و ادعى الفهم و العلم سيسقط من أعين الناس و يحتقر... بينما الإنسان إذا عرف قيمته و مكانته و التزمهما فإنه يبقى عزيز الجانب محترم المقام لا يذم و لا يلام...

و العجب العجاب أن نرى الناس في هذا الزمن جلسوا في غير أماكنهم و تكلموا بما هو أرفع من مستواهم فصار الجاهل يفتي و الأمي يناقش و الفلاح يجادل و عامل التنظيفات يحاور، إنهم ارتفعوا عن أماكنهم ليحتلوا غيرها دون حق أو جدارة...

(و أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين اللّٰه، و من لم يبالك فهو عدوك. قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا، ليس كل عورة تظهر و لا كل فرصة تصاب. و ربما أخطأ البصير قصده و أصاب الأعمى رشده. أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته. و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل) في هذا الفصل الشريف أمور:

الأول: قوله عليه السلام: و أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين اللّٰه.

الأسباب التي بين أيدينا أسباب واهية لا يكاد يعتمد الإنسان على أحدها حتى

ص: 399

ينقطع فأنت تعتمد على وظيفتك و تظن أنها السبب الذي يؤمن لك الحياة الرغيدة و العيش السعيد و تظن أنها الفرصة الوحيدة التي تستطيع أن توفر من خلالها الغنى و الثروة. و لكن ما يكاد ظنك يذهب إلى ذلك حتى تفاجئك الأحداث بتنحيتك عنها بتهمة زائفة أو خطأ متوقع أو أمر لم يخطر بالبال. و أنت في متجرك تظن أنه المكان الوحيد الذي يمحو عنك الفقر و السبب الفريد الذي يوفر لك رغيد العيش و بحبوحته و تحلم في مستقبل عزيز و تأخذك الأماني إلى فردوس النعيم و السعة و الغنى و الثراء و لكن ما هي إلا أوقات يرصدها الزمن لك حتى تأتيك الأخبار بخراب محلك أو حريقه أو كساد بضاعتك و تعطيل الأسواق. و هكذا كل منا لا بد و أن يتخذ سببا لحياته و ديمومتها بعز و كرامة، و لكن يجب أن يكون سببنا الأوثق و الأنجع هو السبب الذي يكون موصولا باللّٰه و من اللّٰه، فإن هذا السبب هو الذي لا ينقطع و السبب الذي لا يطرأ عليه الفساد أو الضياع و لا يعتريه شيء من عوامل الفناء و الاضمحلال و هذا السبب هو مسبب الأسباب و خالقها و هو أن تكون في كل عمل تقوم به تتحول فيه إلى عبد اللّٰه، تطلب القرب منه و الزلفى لديه و يكون أكبر همك القربة إليه و التقريب من ساحات قدسه و رضاه، و هذا أوثق الأسباب و أضمنها لك في الحياة الدنيا و في الآخرة. لئن تقطعت الأسباب كلها و تعطلت العلل بأجمعها يبقى السبب الذي تلتقي فيه مع اللّٰه قائما لا ينقطع و لا ينفصم...

الثاني: قوله عليه السلام: و من لم يبالك فهو عدوك.

اللامبالاة تتخذ أوجها و أشكالا مختلفة باختلاف الأشخاص الذين تصدر منهم و اتجاه من تكون نحوهم... فإذا كانت اللامبالاة صادرة من الرعية نحو الوالي فهذا معناه عداؤها له و لسلطانه لأنها صفة الاستهانة به و بعدده و عدته و لا يتخذ هذا التوجه إلا عدو، فإذا رأيت فردا لا يبالي بحكم قائم فاعلم أنه ضده و عدوه...

و إذا صدرت اللامبالاة من الصديق فاعلم أيضا أنها وليدة الاستهانة و الازدراء أو الطيش و الخفة أو بداية العداوة و البغضاء، و أما إذا صدرت ممن لا تعرفه فاحملها على أنها طبيعة فيه أو عادة أو سوء أدب. و على كل حال ليس لك حق واجب يفرض عليه الاهتمام بشأنك، نعم هناك أدب شرعي يحبب إليه و إلى كل الناس أن يشعر بعضهم نحو بعض بالاهتمام و الاعتناء...

الثالث: قوله عليه السلام: قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا.

قد تطلب أمرا تتصور فيه الفوز و الفلاح و تسعى في سبيل تحقيقه حتى تصل إليه و يكون فيه هلاكك، فالنملة طلبت جناحين و عند ما تحققا لها طارت فوقعت على وجه

ص: 400

الإنسان فقتلها... و لو بقيت بدونهما لسلمت و قد تسعى في الوصول إلى مطلب أو أمر و تيأس منه، و يكون يأسك سببا لحياتك و ديمومة بقائك. فيجب أن لا يكون عدم إدراكك لأمر مجلبة للهم و الحزن، و لا تجعله عقبة يصعب عليك اجتيازها بل إذا سدت الأبواب أمامك فافتحها بالتوجه إلى اللّٰه و لا تذهب نفسك حسرات على ما فات بل كن أكبر و أعظم مما فاتك و تغلب على جراحك و أحزانك فإنه أيسر و أسهل من القضاء على حياتك...

الرابع: قوله عليه السلام: ليس كل عورة تظهر و لا كل فرصة تصاب و ربما أخطأ البصير قصده و أصاب الأعمى رشده.

ليس كل عورة تظهر و إلا لأضحت مستمسكا سهلا بأيدي الأعداء و الأخصام فإن الحسد عورة و الجبن عورة و البخل عورة. و هذه قد تبقى ضمن القلوب لا تظهر و قد يظهر بعضها و يختفي بعضها الآخر...

و ليس كل فرصة تصاب إذ ربما فتحت الأبواب و ارتفعت الحجب و تراءت لك الأعلام و لكن دون الوصول إليه عقبات و عقبات، فأنت تستطيع أن تنتقم من عدوك و لكن العفو عنه يقف حاجزا، و كما يقول الإمام صلوات اللّٰه عليه: قد يرى القلب الحول وجه الحيلة و لكن دونها حاجز من تقوى اللّٰه... فأنت تستطيع أن تكوّن ثروة ضخمة من خلال الغش و السرقة كما يفعل أكثر الناس اليوم و لكن يحجزك عن ذلك الخوف من اللّٰه و عذاب الملك الجبار...

الخامس: قوله عليه السلام: أخّر الشر فإنك شئت تعجلته و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.

لا تفعل الشر فإنه تحت يدك إذ تستطيع أن تفتح ألف مشكلة في ساعة واحدة و لا تستطيع أن تغلق مشكلة واحدة انفتحت فأنت قادر على أن تجتنب الشر بما أعطاك اللّٰه من حرية الحركة و الاختيار... و أما قطيعة الجاهل فإنها تعادل صلة العاقل لأن الجاهل إذ قطعته أمنت شره و دفعت ضرره و هو يعادل صلة العاقل الذي يوفر لك سبل الخير و طرقه...

(من أمن الزمان خانه. و من أعظمه أهانه. ليس كل من رمى أصاب. إذا تغير السلطان تغير الزمان. سل عن الرفيق قبل الطريق. و عن الجار قبل الدار. إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا و إن حكيت ذلك عن غيرك) في هذا الفصل الشريف أمور:

ص: 401

الأول: من أمن الزمان خانه و من أعظمه أهانه، ليس كل من رمى أصاب.

فربما قلت و أنت في بحبوحة من العيش و رغد من الحياة ما أجمل الدنيا و أطيب الأيام، و لكنك و أنت تتكلم بذلك يرصد الزمن أنفاسك و يعد لك العدة ليقلب لك ظهر المجن... فكم من ملوك استرخوا على عروشهم و أمنوا و ثبات الزمن و إذا بهم يمسون ملوكا و يصبحون سوقة إن لم يكونوا مشردين أو مسجونين أو مقتولين.

و أما من أعظم الزمان و رفعه و اهتم بما فيه من ثروة و مال و من جاه و سلطان. فإن هذا الزمن سيأتي ليفرق بينه و بين ما يشتهي، سيأتي هذا الزمن ليضع حاجزا بين ما أعظمت و رفعت و بينك و بهذا يكون قد أهانك و لم يترك لك المجال كي تسترسل في ملذاتك. و أما قوله ليس كل من رمى أصاب، فإن الإصابة تحتاج إلى توفيق بعد التمرين و الاستعداد و أخذ الحيطة و المقدمات فكثيرون الذين يطلبون الجاه فيفشلون أو يطلبون الغنى فلا يدركون أو يريدون التقدم فيتأخرون...

و أما قوله: إذا تغير السلطان تغير الزمان، الحديث عن السلطان حديث ذو شجون و أول شيء يطرح علينا هو سؤال لمن الحكم ؟ هل الحكم للّٰه أم للناس و ما هي مواصفات الحاكم في الإسلام و شروطه. أما الحق فالحكم للّٰه و ليس لأحد من الخلق، و الحاكم يحكم و ينفذ إرادة اللّٰه دون إرادته و يقوم بإصلاح البلاد، و تقريب العباد نحو اللّٰه بحسب الموازين التي وضعها اللّٰه. و لا يجوز له أن يستبد أو يظلم كما لا يجوز له أن يهمل الناس ليفسدوا في الأرض و يزرعوا الرعب و الاضطراب. و إن الأمة الإنسانية كلها متفقة على أنه لا بد للناس من إمام بر أو فاجر، و إلا لاضطرب حبل الأمن و أكل القوي في هذه الحياة الضعيف و تسلط الجبابرة على الأقزام و هكذا دواليك...

و السلطان بمقدار التزامه بالحق و نزاهته في الحكم و عدالته في توزيع الأموال و الوظائف و الرتب ينعكس ذلك على الرعية، فإذا كان السلطان صالحا انعكس صلاحه على مجتمعه و أثر أثره فيهم فصلحت الرعية، و إذا كان ظالما جائرا اضطرب حبل المجتمع و ساد الفساد و الظلم بين أفراد المجتمع...

إن السلطان بيده الأمر و النهي و هو القائم على تنفيذ القانون و صيانته فإذا كان مؤمنا عادلا كان الزمن زمان إيمان و عدل، فالمجتمع كله يتغير و إذا كان الحاكم لا يهمه إلا شهوته و لذته و جمع المال و الجواهر، فلا بد و أن تسير الناس في ركابه و تقتدي به و قد قيل: الناس على دين ملوكهم.

و قوله: سل عن الرفيق قبل الطريق و عن الجار قبل الدار. للسفر آداب و مستحبات

ص: 402

ذكرها المعصومون في أحاديثهم و بينوا كل جوانب هذا الأمر فأمروا بالسفر من أجل بلوغ الطاعات و أداء الحقوق و إقامة الجماعات أو من أجل اكتساب الرزق و الجهاد و أباحوا السفر في كل أيام الأسبوع و فضلوا السبت و الخميس و رفضوا التشاؤم من الأيام و حلوا عقدة بعض الناس بقولهم: تصدق و اخرج أي يوم شئت...

و قد حببوا للمسافر أن يرافق من يتزين به و يعرف حقه، كما أنهم حكموا باستحباب أن يكون الرفيق من صنف المسافر فإن كانت حالته متوسطة فليرتقب أمثاله فإن ذلك يحفظ عليه كرامته و يديم له مودته، فعن أبي جعفر (ع) قال: إذا صحبت فاصحب نحوك و لا تصحب من يكفيك فإن ذلك مذلة للمؤمنين...

كما أنه يكره السفر منفردا فعن أبي عبد اللّٰه (ع) قال: قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: ألا أنبئكم بشر الناس قالوا: بلى يا رسول اللّٰه.

قال: من سافر وحده و منع رفده و ضرب عبده.

و عن موسى بن جعفر (ع) قال: لعن رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ثلاثة:

الآكل زاده وحده، و النائم في بيت وحده، و الراكب في الفلاة وحده.

فالرفيق في السفر يشترط أن تتوفر فيه الأخلاق الحسنة و التمسك بالدين و المحافظة على الحقوق و رعاية الأخ و الحفاظ على مودته فلا يشتم و لا يقذف و لا يغتاب و لا يغضب و لا يحسد و لا يخيف. يشترط أن يكون السفر معه مقربا من اللّٰه و مبعدا عن الشيطان. أما إذا كان الرفيق سيء العشرة، سيء الأخلاق، غضوبا، شرسا فأنه يحول السفر إلى جحيم و يحتم الافتراق في منتصف الطريق...

و في السفر يختبر الإنسان على وجه الحقيقة و تظهر معادن الأخلاق التي تكون طبيعة فيه عن المصطنعة التي تكلفها في بعض الأحيان. و في السفر تظهر عدالة الإنسان من فسقه و أمانته من خيانته و جميل أخلاقه من قبيحها.

أما قوله: و عن الجار قبل الدار. فإن الحفاظ على الجار من وصايا اللّٰه في كتابه و وصايا النبي و الأئمة في سنتهم.

فأول مراتب الأمر من المعصوم أن يحسن الإنسان مجاورة من جاوره، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال و البيت غاص بأهله: اعلموا أنه ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره.

قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: حسن الجوار يعمر الديار و ينسىء في الأعمار.

ص: 403

و إذا عجز عن الإحسان فليكف عن أذى الجار.

فعن أبي عبد الله (ع) قال: جاءت فاطمة عليها السلام تشكو إلى رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بعض أمرها فأعطاها كربة و قال: تعلمي ما فيها، فإذا فيها: من كان يؤمن باللّٰه و اليوم الآخر فلا يؤذي جاره و من كان يؤمن باللّٰه و اليوم الاخر فليكرم ضيفه، و من كان يؤمن باللّٰه و اليوم الآخر فليقل خيرا أو يسكت. و عن رسول اللّٰه (في حديث المناهي) من أذى جاره حرم اللّٰه عليه ريح الجنة و مأواه جهنم و بئس المصير.

كما أنه يكره مجاورة جار السوء لما فيه من الأضرار و التسبب في الحرام، إذا كان الجار ضعيف الإيمان. ففي الحديث عن أبي جعفر عليه السلام قال: من القواصم التي تقصم الظهر جار السوء إن رأى حسنة أخفاها و إن رأى سئة أفشاها... و في الدعاء:

«و أعوذ بك من جار سوء...» و إذا ابتلى الإنسان بجار سوء فما عليه إلا أن يصبر و لا يبادله الأذى بل يحسن عشرته لعله يتوب أو يرعوي...

و أما قوله: إياك أن تذكر في الكلام ما يكون مضحكا و إن حكيت ذلك عن غيرك.

الكلام الظريف الذي يدخل السرور على قلب المؤمن من الأمور المحبوبة لدى الشارع شريطة أن لا يطال أحدا بالإيذاء و الازدراء و الاستهانة و الغيبة، و المزاح الذي يتضمن الكذب منهي عنه لا يجوز، و إن استعمله البطالون و استساغه بعض المتفكهين فقد شاع رمي النكتة التي تتضمن الإيذاء و الإهانة دون أن يبصر ما تؤدي إليه من معصية و إنما ينظر إلى مقدار ما تثيره من الضحك و مدى ما تترك من الترفيه و راحة النفس و غالبا ما تتضمن أذية أو كذبة أو غيبة أو بهتانا. و حكاية فعل أو قول لشخص لا يرضى بحكايته...

(و إياك مشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن و عزمهن إلى وهن. و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن فإن شدة الحجاب أبقى عليهن. و ليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن. و إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل.

و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة. و لا تعد بكرامتها نفسها و لا تطمعها في أن تشفع لغيرها. و إياك و التغاير في غير موضع غيرة فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم و البريئة إلى الريب) في هذا الفصل الشريف يتعرض الإمام إلى المرأة و كيف يجب أن يعاملها الرجل. و نحن يستحسن بنا أن نلم بهذا الأمر من بعض جوانبه بشكل موجز فنقول: المرأة في ظل الإسلام لعبت دورا مهما و رائعا و قد

ص: 404

اعتنى بها الإسلام عناية فائقة النظير و أعطاها من الحقوق ما يتلاءم و طبيعة تركيبها البدني و النفسي.

و قد أكد الإسلام على حب البنات و هن صغار و أوصى بهن خيرا. فعن الصادق عليه السلام قال: البنات حسنات و البنون نعمة و الحسنات يثاب عليها و النعمة يسأل عنها.

و عن أبي عبد الله (ع) قال لبعض أصحابه: بلغني أنه ولد لك ابنة فتسخّطّها. و ما عليك منها. ريحانة تشمها و قد كفيت رزقها و كان رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - أبا بنات، ثم عند ما تكبر جعل الشارع أمر زواجها بيدها.

فعن أبي جعفر قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولّى عليها، تزويجها بغير ولي جائز.

ثم بعد أن تصبح زوجة فإنها غير مسئولة عن شيء حتى نفقتها واجبة على زوجها و كذلك أطفالها تجب نفقتهم على أبيهم. كما أن الإسلام أعطاها من الحقوق ما نكاد أن نقول إن أعظم التشريعات على امتداد عمر الحياة لم تعطها إياها، إنها و هي في بيت زوجها غير مسئولة عن تهيئة الطعام و لا فرش الفراش و لا غسل الثياب و لا كنس البيت و لا يجب عليها تربية الأطفال و لا حضانتهم و لا شيء من أمورهم، بل كل ذلك يجب على الأب. و عند ما نذكر هذه الأمور لا نطرحها كشعار من أجل المزايدات بل إن التشريع أمامنا و رسائل فقهائنا في متناول أيدينا، فهيّا اسألوا عن ذلك فهل أعطاها الغرب و الشرق حقوقا كهذه الحقوق... نعم أعطاها التعب و المشاكل فأوجب عليها العمل خارج البيت في المصانع و المعامل و في المكاتب و الشركات و استخدمها في البيت فجمع عليها هم الداخل و هم الخارج و استذلها باسم الحرية و هي عين العبودية، طرح أمامها لفظة الحرية و أغراها بالاسم ناسية أن خلف الأكمة ما خلفها فأخذت تشاطر الرجل بل تزيد عليه في الأتعاب، لقد حولها إلى دمية يحركها و يستغلها متى أراد...

نعم إن الإسلام نظر إلى التركيب الجسدي و النفسي للمرأة فأوجب عليها الحجاب الشرعي الذي يستر العورة و هذا الحجاب لا يقف حاجبا دون العلم و الثقافة و دون الإدراك و الوعي و لا يقف دون التحرر و الثورة، إن هذا الحجاب هو عنوان التمرد على الانحلال و الميوعة و إثبات شخصيتها المستقلة و هويتها الإسلامية الرفيعة... إن هذا الحجاب لا يقف دون أن تبيع المرأة أو تشتري أو تتملك أو تهب أو تتعامل مع الناس و مع المجتمع... بل إن هذا الحجاب يمنع الفتنة و الإغراء الذي تحدثه طبيعة الجسد

ص: 405

الأنثوي. فأراد الإسلام أن يحد من هذه الثورة و يمنع كل ما يؤدي إلى الفساد و الانحلال.

و نحن نرى المشاكل التي تحدث و القضايا التي تظهر في المجتمع من جراء هذا الفلتان الغريزي و الحيواني لدى المرأة و الرجل. و الإسلام عند ما منع أن تجتمع امرأة برجل منفردين إنما أراد أن يمنع دخول الشيطان بينهما فيسول لهما الرذيلة و يفتنهما عن دينهما و يضلهما الطريق، و هذا ينسجم مع الخط العام الذي يحسم مادة الفساد و ما يوصل إليه...

و إن المرأة لا يجوز أن تضع نفسها في صف الرجل من الجهة البدنية، فإن لها خصائص تميزها عنه منها الجاذبية فيها و كونها مطلوبة، و منها أنها تحمل و تلد و منها أنها صاحبة عادة شهرية، و هذه فوارق مهمة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار: فالإسلام حينما فرض عليها بعض القيود فإنما لاحظ المصلحة العامة للمجتمع و أخذ في البين طبيعتها و ما يتحمله بدنها و تقدر على القيام به... و هذا كله في الحياة الدنيا...

أما في ميزان اللّٰه، في الآخرة فلا ميزة للرجل على الأنثى إنهما معا أمام اللّٰه على حد سواء من يعمل خيرا يره و من يعمل سوءا يجزى به «فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاٰ أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » فمن يعمل الصالحات يجز بها و من يعمل المعاصي يجز بها...

فرب امرأة فاقت ملايين الرجال و اللّٰه تعالى يقص علينا قصة المرأة المؤمنة التي رفضت فرعون و سلطانه و كفرت به و بكل قصوره، و توجهت نحو اللّٰه طالبة رضاه و طاعته، قال تعالى: «وَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قٰالَتْ رَبِّ اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ » إنها صورة فذة لامرأة مثلت دور البطولة و العظمة في وجه الطاغية فرعون و زمرته. و في الإسلام برزت المرأة المسلمة في معارك الجهاد و القتال و وقفت أمام الطواغيت و المنحرفين فكانت سمية أول شهيدة في الإسلام، و كانت الحوراء زينب بوقفتها البطولية العظيمة أمام يزيد الفاجر تعطي الصورة المشرقة للمرأة التي تمتلك العقيدة و الإيمان و تدافع من أجلهما و تبذل في سبيلهما كل ما تملك من غال و نفيس...

إن في تاريخنا أروع الأمثال و النماذج لتضحيات قامت بها المرأة بدافع من إيمانها و عقيدتها...

نعم إن الممارسات الخارجية التي يقفها الرجل في بعض الأحيان و التي تشكل

ص: 406

الانحراف و الشواذ فإنه لا يمثل رأي الإسلام و لا تطلعاته و آماله. فإن النفوس مجبولة على الظلم إذا لم يكن عندها دين يردعها أو قوة أكبر منها تمنعها. إن هذه الممارسات اللاشرعية التي يمارسها الرجل أو يفرضها على المرأة لا يعترف بها الإسلام و ليس مسؤولا عنها و إنما المسئول أولا و بالذات هو الرجل صاحب الإرادة الحرة و الاختيار و المسئول عنها ثانيا المجتمع الظالم المنحرف.

و لنعد إلى كلام الإمام لنقف عند كل فقرة فقرة.

إن الإمام يوصي ولده و يحذره من مشاورة النساء بقوله: و إياك و مشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن و عزمهن إلى وهن.

أما المشورة فإنها مستحبة بأصل الشرع، و الإمام في إحدى كلماته يقول: و من شاور الرجال فقد شاركهم في عقولهم، و لكن للمشورة أصول أهمها أن يكون المستشار أهلا للمشورة و من أهل الخبرة فيها و مشاورة النساء ليس في الأكل و الشرب و بعض الأمور العائلية حتى نقول كيف ينهى الشارع عنها و يحبب عدمها، فإن هذه الأمور التي لا يمتد خطرها بل ليس فيها خطر، قضيتها سهلة ميسورة. و إنما الإشكال هو عدم مشاورة النساء في الأمور المهمة ذات الخطر الواسع، فإن المرأة في مثل هذه الأمور ينبغي أن لا تستشار لأنها ليست على اطلاع في الأمور السياسية و لا خبرة عندها في القضايا العسكرية و لا علم لها بالأمور الاقتصادية، فإذا استشيرت و الحال هذه، فلا بد و أن رأيها لا يكون صائبا. و بتعبير الإمام رأيها إلى أفن أي نقصان و خسران، و إذا عزمن على رأي فإن عزمهن لا يبقي على إبرامه بل ينقض بسرعة و كم من رأي لهن يظن الإنسان أنه عقدة لا تحل و إذا بلحظات قليلة تأتي عليه فتتراخى المرأة و تتراجع عن رأيها... مهما كانت المرأة صلبة و قوية في أمر فإنها تتراجع عنه بل قد تنتقل إلى نقيضه...

و أما قول الإمام: و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن فإن شدة الحجاب أبقى عليهن و ليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن و إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل. و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن فإن هذا الحجاب يقف حاجزا بينهن و بين الابتذال و الميوعة، فإن المرأة إذا سفرت أفسدت و إذا خرجت من بيتها أضرت خصوصا في هذه الأجواء الموبوءة التي شمر اليهود فيها لإفساد المجتمعات و الانحراف بها عن جادة الصواب، و قد استعملوا كل وسائلهم الخبيثة و الشيطانية و سخروا المرأة و زينوا لها التبرج و السفور و الخروج إلى الأسواق العامة و الاختلاط بالرجال في المدارس و المستشفيات و في كل المؤسسات و الدوائر، و تبرعوا بالدعايات

ص: 407

لذلك تارة باسم التقدم و أخرى باسم التحرر حتى انهار صرح العفة و الكرامة و تداعى كل ما يسمى شرفا و غيرة فأضحت أسواق الدعارة تفتح بشكل رسمي و بإجازة مصدقة من الحكومة، و أخذ الرجل ينظر إلى زوجته أو ابنته أو أخته في أحضان الغريب تراقصه فيبادر ليهنئها على نجاحها في هذا الدور الذي قامت به. و استرسلت المرأة تبرز محاسنها من قميص قصير إلى ما فوق نصف الركبة إلى بنطلون ضيق يشخص المفاتن و يفسد الشباب و يغريهم... إن هذه المصائب التي تطالعنا في كل يوم هي نتيجة هذا التبذل و الاستهتار بالقيم و الأخلاق و المثل...

إن الإسلام يريد أن يحصن المرأة عن الانحراف و يريد أن يقومها على الصراط المستقيم كي تصلح الأسرة و يصلح المجتمع فمن هنا كره للمرأة أن تخرج لتختلط بالرجال كذلك منع من إدخال من لا يؤتمن عليها...

ثم إن الإمام يريد أن يحسم القضية بشكل واضح و حسمها يتحقق بأنك إذا استطعت أن لا تعرف نساؤك غيرك فافعل فإنها بذلك تمتنع عن التطلع لغيرك إذ ربما نظرت نظرة أعقبتها حسرة أو أمنية إلى الحرام تفسد عليك مقامك و هناءة عيشك...

ثم إن الإمام نهاه عن ترك الأمور للمرأة كي تتصرف فيها كما تريد و تحب فإن بعض الأمور كما قلنا سابقا لها قيمتها و أهميتها فيجب ألا تشترك فيها، بل إن للمرأة عالمها الخاص بها و لها شخصيتها الخاصة و إن قدرت أن لا تعطيها أكثر مما لها من هذه الشخصية فافعل...

ثم نهاه الإمام أن يستعمل الغيرة في غير موضعها فلا يتجاوز ما رسمه اللّٰه له و ما نهاه عنه، لا يجوز أن يكون أشد غيرة من اللّٰه، بل اللّٰه هو صاحب الغيرة و واضع الغيرة فيجب أن نكون كما أراد و أحب و علل الإمام الغيرة التي في غير محلها، بأنها تسبب مشكلة خطيرة من حيث تدعو الصحيحة من النساء إلى الفساد و البريئة إلى الريب و هذا أمر منهي عنه...

(و اجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به فإنه أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك. و أكرم عشيرتك فإنها جناحك الذي به تطير و أصلك الذي إليه تصير. و يدك التي بها تصول.

استودع اللّٰه دينك و دنياك و اسأله خير القضاء في العاجلة و الآجلة و الدنيا و الآخرة و السلام).

في هذا الفصل الشريف أمور:

ص: 408

الأول: لفت نظره إلى الخدم و أن يجعل لكل واحد منهم عمله المخصوص حتى إذا قصر يعاقب و إن اجتهد و نبغ في أمر أحسن جزاؤه و أثيب على فعله و إحسانه...

الثاني: الوصية بالعشيرة بالإحسان إليها و إكرامها و أن لا يعيش بعيدا عنها محتقرا لها جافيا لأفرادها فإن العشيرة هي عز الإنسان و قوته و مهما ابتعد عنها فإنه سيعود إليها... هذا بالطبع إذا لم تتخذ طريق الضلال و الانحراف و ألا تكون عادات جاهلية يمقتها الإسلام و يرفضها. الإسلام يحب العشيرة و يريدها و يجمع أفرادها على الإسلام و أحكامه و على الحق و العدل، و أما إذا اتخذت العشيرة الباطل و الظلم فلا يجوز للفرد أن يعاونها أو يؤيدها بل يجب أن يردعها و يوقفها عن ممارساتها الضالة و الظالمة.

ترجمة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
اشارة

ولد في 15 رمضان سنة 2 أو 3 و استشهد في 7 صفر سنة 50.

نسبه:

الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

والده: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

أمه: فاطمة بنت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

جده: محمد رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -.

جدته: خديجة بنت خويلد عليها السلام.

بهذا النسب الكريم يختصر الإمام الحسن المجد و البطولة و الشرف و الكرامة و كل مناقب العظماء و عبقرياتهم و ما تجمعه الإنسانية من فضائل و محاسن يضاف إلى ذلك ما هو أعظم منه و أكبر إذ به تلتقي النبوة و الإمامة و عندها تقصر الأنساب و الأعراف و تتقزم العبقريات و البطولات...

مولده:

في منتصف شهر رمضان من السنة الثانية أو الثالثة للهجرة تخرج وردة من أكمامها و تتفتح... بل يضع الزمن بطلا من أبطاله التاريخيين الرساليين... في منتصف شهر اللّٰه تعم الفرحة بيت رسول اللّٰه و يتوافد المسلمون لتهنئة الجد بالمولود الكريم.

ص: 409

نشأته.

نشأ الإمام الحسن في كنف جده رسول اللّٰه و أخذ الجد يغدق عليه من عطاياه و سجاياه و يسكب في قلبه الفضائل و المناقب و يغذيه بكل كريم من الصفات و عظيم حتى اكتملت شخصيته على يد النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - و كيف تكون شخصية رباها رسول اللّٰه و اعتنى بها الإمام علي و تخرّجت من مدرسة النبوة و الإمامة... إنها لا شك فريدة... يتيمة... وحيدة... عظيمة فاقدة النظير و الشبيه و هكذا جاء الإمام الحسن بل هكذا كان... عاش الإمام الحسن مع جده ثمان سنوات أو تزيد قليلا و مع أبيه ثمان و ثلاثين سنة تقريبا و كان إلى جانبه في جميع مراحل حياته و حروبه.

فضائله.

في كتاب اللّٰه عشرات الآيات التي ذكرت أهل البيت و مدحتهم و أثنت عليهم و كان الإمام الحسن أحد أفراد ذلك البيت الكريم نذكر بعضها تيمنا و تبركا.

1 - قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ » فقد أطبق المفسرون و اجتمعت كلمتهم على أن النبي لم يأت للمباهلة إلا بعلي و فاطمة و الحسنين... و ندع الفخر الرازي أحد كبار علماء السنة يقول كما في تفسيره: هذه الآية دالة على أن الحسن و الحسين (ع) كانا ابني رسول اللّٰه وعد - الرسول - أن يدعو أبناءه فدعا الحسن و الحسين عليهما السلام فوجب أن يكونا ابنيه.

2 - قوله تعالى: «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ذكر مسلم في صحيحه - و هو الكتاب المعتبر عند السنة و عدّوه من الصحاح في كتاب فضائل الصحابة في باب فضائل أهل بيت النبي قالت عائشة: خرج رسول اللّٰه غداة و عليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: إنما يريد اللّٰه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا...

3 - قوله تعالى: «وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّٰهِ » فقد ذكر أن الحسن و الحسين مرضا فعادهما جدهما رسول اللّٰه و عادهما المسلمون فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك نذرا فقال عليه السلام: إن برئا مما بهما صمت للّٰه عز و جل ثلاثة أيام شكرا و قالت فاطمة (ع) كذلك و قالت فضة كذلك

ص: 410

فشفي الحسنان و ليس عند آل محمد قليل و لا كثير فانطلق علي (ع) إلى شمعون الخيبري - اليهودي - فاستقرض منه ثلاثة أصواع من الشعير فطحنت الزهراء منه صاعا و خبزته و عند ما وضع الطعام بين أيديهم إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من أولاد المسلمين أطعموني أطعمكم اللّٰه عز و جل على موائد الجنة فسمعه علي فأمرهم فأعطوه الطعام و مكثوا يومهم و ليلتهم لم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الثاني جاءهم أسير فأعطوه عشاءهم و أتاهم رسول اللّٰه في اليوم الثالث فرأى ما بهم من الجوع فأنزل اللّٰه تعالى الآية و يطعمون الطعام...

4 - قوله تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ » ففي حلية الأولياء عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - فقال: يا محمد أعرض علي الإسلام فقال: تشهد أن لا إله إلا اللّٰه وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله.

قال: تسألني أجرا؟.

قال: لا، إلا المودة في القربى.

قال: قرباي أو قرباك ؟.

قال: قرباي.

قال: هات أبايعك فعلى من لا يحبك و لا يحب قرباك لعنة اللّٰه.

قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: آمين.

و نحن جميع المسلمين نقول: آمين.

و أما الأحاديث فهي كثيرة و وصايا النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - في حق أهل بيته و خصوصا الحسن و الحسين كثيرة نتبرك ببعضها.

1 - قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة.

2 - عن البراء قال: رأيت النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - و الحسن بن علي على عاتقه يقول: اللهم إني أحبه فأحبه.

3 - قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا.

ص: 411

4 - أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: هما ريحانتي في الدنيا يعني الحسن و الحسين.

صلح الإمام الحسن مع معاوية.

أهم حدث في حياة الإمام الحسن هو صلحه مع معاوية و لكي نلم به بشكل سريع حسب ما تقتضيه ظروف هذه الأسطر الموجزة لا بد لنا من أن نعود إلى الوراء قليلا إلى ما قبل الصلح و بالتحديد إلى فترة خلافة الإمام علي و الظروف الصعبة التي مر بها الإمام مع قومه و أصحابه و من كان معه من المسلمين فإنها فترة لها الأثر الكبير في عملية الصلح مع معاوية.

حكومة الإمام و شعبه.

من المعروف أن الإمام علي بويع خليفة على المسلمين... بايعه أهل الحل و العقد الذين بايعوا الخلفاء قبله و تمت البيعة الشرعية له و أضحى الخليفة الذي عن يديه تمضي الأمور و استجابت له البلاد الإسلامية قاطبة ما عدا الشام التي كان أميرها معاوية فإنها رفضت البيعة و أعلنت الحرب و خصوصا بعد أن فتح أصحاب الجمل حربهم على الإمام في البصرة بقيادة أم المؤمنين عائشة و صاحبي النبي طلحة و الزبير.

تمرد معاوية على الخلافة الشرعية فكانت معركة صفين التي ذهبت بأرواح جملة من المسلمين قدرت بعشرات الآلاف و كانت خدعة ابن العاص برفع المصاحف أعقبها هدنة مشؤومة ثم حكومة الحكمين عمرو بن العاص و أبو موسى الأشعري التي ثبتت معاوية على عرش الشام و بذلك كان لا بد للإمام من متابعة الحرب و إعادة الأمور إلى شرعيتها بتطهير الأرض من معاوية و أصحابه وردهم إلى الطاعة المفروضة في مثل ذلك.

أخذ الإمام يهيء أصحابه و يحثهم بل يدفعهم للخروج لحرب معاوية و قتاله و لكن دون جدوى و كان معاوية في تلك الأوقات يبعث بسراياه و أمرائه إلى أطراف دولة الإمام يشنون عليها الغارات فيسلبون و ينهبون و يقتلون حتى وصلت سراياه إلى اليمن و الإمام أمام كل ذلك يحترق ألما و يتجرع مرارة من أصحابه المتقاعسين المتكاسلين الذين لا يستجيبون لندائه و لا يسمعون لقوله لقد كان مجتمع الكوفة مجتمعا رهيبا و مزاجا غريبا لا تجمعه وحدة القيادة و لا وحدة الهدف و لا أي شيء آخر... أخلد إلى الدعة و الاستكانة ما خلا قلة قليلة و صفوة ضئيلة...

حتى وصل الأمر بالإمام أن عاتبهم فأكثر عتابهم و وبخهم بأشد و أقسى ما يكون

ص: 412

التوبيخ أسمعه يقول: للّٰه أنتم أما دين يجمعكم، و لا حمية تشحذكم أو ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة و لا عطاء و أنا أدعوكم و أنتم تريكة الإسلام و بقية الناس إلى المعونة أو طائفة من العطاء فتتفرقون عني و تختلفون علي...

حتى وصل به الأمر إلى قوله: لقد كنت بالأمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا و كنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا... بل تمنى فراقهم و دعى عليهم قائلا: اللهم إني قد مللتهم و ملوني و سئمتهم و سئموني فأبدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرا مني، اللهم مث (أذب) قلوبهم كما يماث الملح في الماء أما و اللّٰه لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم.

هنا لك لو دعوت أتاك منهم *** فوارس مثل أرمية الحميم

الحسن يتسلم الأمر.

في هذه الظروف الصعبة التي تخاذل أهل الكوفة عن إمامهم و تفرقوا أيادي سبأ حتى تمنى الإمام في إحدى كلماته أن يصرفه معاوية صرف الدرهم بالدينار فيأخذ عشرة من أهل الكوفة بواحد من أهل الشام... أقول في هذه الظروف الصعبة يستشهد الإمام علي بسيف ابن ملجم الخارجي و يتسلم الحسن الخلافة فيبايعه أهل الكوفة و لكن دون اتفاق معه في الرأي أو موقف يوحد وجهة النظر.

أهل الكوفة.

تسلم الإمام الحسن زمام الخلافة و مجتمع الكوفة عدة اتجاهات بل فئات كل فئة تنشد هدفا و ترمي إلى مقصد يخالف الآخرين لكن وجدت بعض هذه الفئات في الحسن ما يحقق هدفها بل يحقق بعض هدفها و يمكن أن تصنف على هذا الشكل:

1 - الخوارج فإنهم وجدوا فيه واسطة العقد لحرب معاوية.

2 - الفئة الممالئة للحكم الأموي.

3 - الفئة المتأرجحة التي لا تستقر بل تكون مع من غلب.

4 - الفئة التي تحركها العصبيات القبلية.

5 - الفئة المؤمنة بالإمام الحسن كقائد شرعي و هي فئة قليلة.

كان جيش الإمام الحسن يتكون من هذا الخليط الغريب الذي لم ينسجم في هدفه و تطلعاته و لا في شيء من عقيدته و فكره و مثل هذا الجيش لا يستطيع أن يكون جبهة

ص: 413

تحارب معاوية... و لكن مع كل ذلك صمم الإمام الحسن على متابعة الحرب فجهز الجيوش و عبأها و بعث على مقدمته عبيد الله بن العباس في اثني عشر ألفا و عند ما وصل إلى (مسكن) و وقف في مقابل جيش معاوية سرت إشاعات و انتشرت أخبار كاذبة مفادها أن الحسن يريد أن يصالح معاوية و هنا تحركت نوازع الشر و الهزيمة في نفس القائد و خصوصا بعد أن وصلت إليه الأنباء تقول: إن جيش الكوفة بعد لم يتحرك في ذلك الاضطراب النفسي و الضياع الوجداني تأتي رسائل معاوية لتقول لابن عباس: إن الحسن قد راسلني في الصلح و هو مسلم الأمر إلي فإن دخلت في طاعتي كنت متبوعا و إلا دخلت و أنت تابع و جعل له فيها ألف ألف درهم و هنا انهزمت نفسيته و استجاب لداعي الخسة و انحاز مع ثمانية آلاف رجل إلى جهة معاوية و بذلك خسر من بقي قائدهم و عددهم أربعة آلاف.

و لم يكتف معاوية بذلك بل هو خبير جدا بالحيل و المكر و الدسائس فلذا أرسل شياطينه و رغبهم و مناهم إن هم قتلوا الحسن أغدق عليهم أموالا طائلة و جوائز ضخمة.

لم يبق مع الإمام الحسن إلا عشرون ألف مقاتل وصل بهم إلى مسكن يريد الحرب و لكنهم لاختلاف آرائهم و تباين وجهات النظر عندهم بمجرد أن سرت الشائعات التي كان قد سربها معاوية و مفادها أن الحسن يريد الصلح معه حتى نفروا و هجموا على مركز الإمام الحسن فنهبوا متاعه و تنازعوا بساطا تحته و طعنوه بالرمح في فخذه... و أمام هذه الأحداث المؤلمة أرسل معاوية إلى الإمام رسله يعرض عليه الصلح.

الصلح.

و هنا ما هو الموقف الصائب و الصحيح ؟!... ما هو الموقف الذي يفرضه العقل و المصلحة الإسلامية العليا؟.

- بقطع النظر عن كون الإمام الحسن إماما معصوما - ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه الحسن ؟ هل الظروف تحكم بالصلح أم بالحرب ؟.

بمنطق العقل و المصلحة الإسلامية لا بد من اختيار الصلح فإنه أهون الشرين و أقل الضررين بل سنقول: إن محاسن الأمور تظهر بعواقبها... و ذلك لأن الهزيمة محتمة و الفناء التام للمخلصين المؤمنين مبرم و كان لمعاوية حجة في قتلهم و القضاء عليهم و له القدرة الكاملة في تغطية جريمته و إسدال الستار عليها هذه نتيجة ممكنة و يمكن أن يقع الحسن أسيرا فيقتله أو يمن عليه و في الأول نتيجة السابق و في الثاني ذل الأبد و عار الدهر...

ص: 414

و هنا لا بد من ضرورة الصلح من أجل البقية الباقية من أهل البيت و أصحابهم و نحن يجب أن نلم ببنود الصلح التي وافق عليها الطرفان لندرسها و نرى كيف تحفظ الحقوق لأهلها و هي:

بنود الصلح.

1 - تسليم الأمر لمعاوية على أن يعمل بكتاب اللّٰه و سنة رسوله و سيرة الخلفاء الصالحين.

2 - أن يكون الأمر للحسن من بعده فإن حدث به حدث فللحسين و ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده.

3 - أن يترك سب أمير المؤمنين و أن لا يذكره إلا بخير.

4 - استثناء ما في بيت مال الكوفة و على معاوية أن يحمل إلى الحسين ألفي ألف درهم و أن يفضل بني هاشم في العطاء و الصلات.

5 - أن يكون الناس آمنين حيث كانوا من أرض اللّٰه في شامهم و عراقهم و حجازهم و يمنهم و أن يحمل معاوية ما يكون من هفواتهم و أن لا يتبع أحدا بما مضى و لا يأخذ أهل العراق باحنة و على أمان أصحاب علي حيث كانوا و أن أصحاب علي و شيعته آمنون على أنفسهم و أموالهم و نسائهم و أولادهم.... و على أن لا يبغي للحسن بن علي و لا لأخيه الحسين و لا لأحد من أهل بيت رسول اللّٰه غائلة سرا و لا جهرا و لا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق.

معاوية ينقض العهود.

نقض معاوية جميع بنود الصلح و أتى على كل شرط أعطاه للحسن و المسلمين فوضعه تحت قدميه فهو الذي خطب أهل الكوفة عند ما تم الصلح و قال: إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة لمطلول و كل شرط شرطه فتحت قدمي هاتين... و يكفي هذا نقضا للعهد و إسقاطا لكل التزاماته التي قطعها على نفسه و لكن يجدر بنا أن نقف على الشروط بشيء قليل لنرى كل واحد منها و ما كان موقف معاوية منه.

أما الشرط الأول: عمله بالكتاب و السنة و سيرة الخلفاء الصالحين فهذا لم يعرفه معاوية و لم تسمعه أذناه بل عمل خلاف ما جاء في الكتاب و السنة و خالف الخلفاء جميعا و من أراد الاطلاع و الوقوف على شيء من ذلك فليعد إلى كتاب الغدير للعلامة الأميني قدس سره ليرى عجائب معاوية و غرائبه.

ص: 415

و أما الشرط الثاني: فلم يف به حيث عمل كل ما يستطيع لتنحية الحسين عن طريق الخلافة و أخذ البيعة لابنه يزيد بالقوة و القهر و الحديد و النار... و التاريخ شاهد على مكره و حيلته و الأساليب التي اتبعها في أخذ البيعة ليزيد.

أما الشرط الثالث: و هو ترك سب أمير المؤمنين فقد أصر معاوية على سبه و شتمه و النيل منه حتى كان يوصي عماله بسبه فهذا المغيرة بن شعبة يستعمله معاوية على الكوفة و يقول له معاوية عند وداعه: و قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، أنا تاركها اعتمادا على بصرك و لست تاركا إيصاءك بخصلة واحدة لا تترك شتم علي و ذمه.

و أما الشرط الرابع: فبأمر من معاوية منع العطاء.

و أما الشرط الخامس: و هو أن يأمن الناس و خصوصا شيعة علي و لا يبغي للحسن و الحسين الغوائل فهذا ما خالفه معاوية فقد تتبع شيعة أهل البيت و طاردهم في البراري و القفار و طلبهم تحت كل حجر و مدر، قتل حجر بن عدي و أصحابه في مرج عذراء و قتل عمرو بن الحمق الخزاعي و حبس زوجته و لم يسلم من شره و شرره أي شريف له صلة بأهل البيت حتى أخذهم على الظنة و التهمة فنكل و قتل و شرد.

و أما الإمام الحسن فقد سمه و قضى عليه بواسطة زوجته الخبيثة كما سيأتي.

معاوية يتعرى.

وقف المسلمون جميعا أمام ما أخذه الإمام الحسن على معاوية من الشروط و رأوا بأعينهم و لمسوا بأيديهم كيف نقض معاوية كل بنود الصلح... كانوا أمام رجل لم يعرف اللّٰه و لا رسوله و لم يلتزم بشيء من عهوده التي أخذها على نفسه و بذلك تعرى معاوية و ظهر على حقيقته و انكشفت الأمور أمام كل الناس الذين ربما توهموا في معاوية صلاحا أو خيرا... و بهذا سقطت الأعذار و ارتفعت الحجب و بانت الشمس لذي عينين... إنها صورة العهر الأموي تتجسد في شخص معاوية فتعبأت النفوس و حقدت على الأسرة الأموية التي لا ترتبط باللّٰه إلا بمقدار ما يخدمها هذا الارتباط و يحقق مصالحها...

كربلاء ثمرة الصلح.

بهذا الصلح استطاع أن يكشف الإمام الحسن خبث معاوية و مكره و استطاع أن يهيء لثورة الحسين العظيمة حيث أسقط الأقنعة الأموية فبانت الوجوه العاهرة الفاجرة على حقيقتها... تهيأت الأرضية الواسعة لثورة دامية تنتصر على الخلافة الأموية و تكون رأس الحربة في القضاء على الحكم الأموي... فلو لا صلح الحسن لم تقم ثورة الحسين

ص: 416

و تنتصر و لو لم يتعر معاوية و يزيد بالصلح لكان الإسلام قد درست معالمه و انتهت أحكامه و شرائعه... و لكنها حكمة اللّٰه و نظر المعصوم الذي لا يفعل إلا الأصلح و الأحسن.

الشهادة.

منذ أن تم الصلح و تربع معاوية على عرش الخلافة الإسلامية لم يهدأ له بال و لم يقر له قرار، فهو باستمرار يفكر في كيفية الخلاص من الإمام الحسن لأنه يشكل حجر العثرة الذي يقف في وجه مخططاته و مؤامراته.

اهتدى معاوية إلى الحل أخيرا و الحل يأتي بنظره عن طريق زوجة الإمام الحسن... عن طريق جعدة بنت الأشعث زوجة الإمام فيتصل بها معاوية و يمنيها و يرغبها فيعطيها مائة ألف درهم و يعدها بالزواج من ابنه يزيد إن هي سممت الحسن.

و قامت المجرمة بالعملية الرهيبة فسممت الإمام و خسرت الدنيا و الآخرة لأن معاوية وفى لها بالمال و لم يف لها بالزواج من ابنه بل أرسل إليها من يقول لها نيابة عنه: أني أحب حياة يزيد.

قضى الحسن شهيدا بإرشاد معاوية و توجيهه و بتنفيذ المجرمة جعدة بنت الأشعث و عند ما وصل النبأ إلى معاوية غدى مستبشرا و أظهر السرور و الفرح و سجد و سجد من كان معه.

قضى الحسن شهيدا في السابع من شهر صفر سنة 50 للهجرة و دفن في البقيع و قد هدم الوهابيون قبره و قبور الأئمة في الثامن من شوال سنة 1344 هجرية و شاركوا بذلك معاوية في جرائمه.

فسلام عليه من شهيد محتسب و لعن اللّٰه قاتليه...

ص: 417

32 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية و أرديت (1) جيلا من النّاس (2) كثيرا، خدعتهم (3) بغيّك (4)، و ألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم (5) الظّلمات، و تتلاطم (6) بهم الشّبهات، فجازوا (7) عن وجهتهم (8)، و نكصوا (9) على أعقابهم (10)، و تولّوا (11) على أدبارهم (12)، و عوّلوا (13) على أحسابهم (14)، إلاّ من فاء (15) من أهل البصائر (16)، فإنّهم فارقوك (17) بعد معرفتك، و هربوا إلى اللّٰه من موازرتك (18)، إذ حملتهم على الصّعب (19)، و عدلت بهم (20) عن القصد (21). فاتّق اللّٰه يا معاوية في نفسك، و جاذب (22) الشّيطان قيادك (23)، فإنّ الدّنيا منقطعة عنك، و الآخرة قريبة منك، و السّلام.

اللغة

1 - أرديت: أهلكت.

2 - الجيل من الناس: الصنف و القبيل.

3 - خدعتهم: مكرت بهم و احتلت عليهم.

4 - الغي: الضلال، ضد الرشاد.

5 - تغشاهم: تغطيهم.

6 - تتلاطم الأمواج: يضرب بعضها بعضا.

7 - جازوا: بعدوا و جاروا عدلوا عن القصد.

8 - الوجهة: بكسر الواو القصد.

9 - نكصوا: رجعوا.

ص: 418

10 - الأعقاب: جمع عقب مؤخر القدم و رجع على عقبه أي على الطريق التي جاء منها سريعا.

11 - تولوا عنه: أعرضوا عنه و تركوه.

12 - الأدبار: مؤخر الشيء و الدبر خلف الشيء.

13 - عوّلوا: اعتمدوا.

14 - الأحساب: جمع حسب شرف الآباء و الأجداد.

15 - فاء: رجع و عاد.

16 - البصائر: جمع بصيرة العقل، و هي في القلب كالنظر في الرأس.

17 - فارقوك: انفصلوا عنك و باينوك.

18 - المؤازرة: المعاونة.

19 - الصعب: في الأصل البعير المستصعب يركبه الإنسان فيغرر بنفسه و استعمل لكل أمر شديد شاق.

20 - عدل به: مال به.

21 - القصد: العدل.

22 - جاذب: نازع الشيء من جذب الشيء إذا شده إليه يريده، ضد دفعه عنه.

23 - القياد: ما تقاد به الدابة.

الشرح

(و أرديت جيلا من الناس كثيرا خدعتهم بغيك و ألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظلمات و تتلاطم بهم الشبهات) هذا الكتاب جزء من كتاب كتبه الإمام إلى معاوية و فيه بيان حقيقة معاوية و ما فعله بأتباعه فقد أهلك صنفا من الناس كثيرين و هم أهل الشام و من حولهم من الأعراب الذين لا يميزون بين الناقة و الجمل و قد سلك معاوية معهم أسلوب التضليل و التمويه و انحرف بهم إلى ضلال يتحرك هو فيه و يحيك خيوطه بيده، لقد رماهم في أمواج بحر ضلاله فتارة يخلق لهم شبهة الطلب بدم عثمان و أخرى يحمّل عليا دم عثمان و هكذا يدفع إليهم بالشبهات المضللة و هم على غباء من أمرهم يتحركون فيما يرسمه لهم دون إدراك للحقيقة أو أحاطه بها... إنه يختلق الشبهات و يذرهم في أجوائها لا يهتدون إلى حق و لا يسمعون إلى كلمة عدل...

(فجازوا عن وجهتهم و نكصوا على أعقابهم) ابتعدوا عن شريعة اللّٰه و ما كان من حقهم أن يسيروا نحوه من الخير و ارتدوا القهقرى إلى الوراء... عادوا إلى الجاهلية فارتدوا نحو الشر و الضلال.

ص: 419

(و تولوا على أدبارهم و عولوا على أحسابهم) عادوا إلى ما كانوا عليه من أمر الجاهلية، تركوا الدين و طريق الهدى و رجعوا إلى الفوضى و الهوى و قد اعتمدوا على شرف آبائهم و أخذتهم نخوة الجاهلية فراحوا يدافعون عن بقايا ميراثها...

(إلا من فاء من أهل البصائر فإنهم فارقوك بعد معرفتك و هربوا إلى اللّٰه من مؤازرتك إذ حملتهم على الصعب و عدلت بهم عن القصد) استثنى عليه السلام ممن أغواهم معاوية فئة من الناس تفكر في القضايا و تدرس الأمور و تتجرد في طلب الحق فلربما غشّتها بعض الدعاوي و لربما لبّست عليها بعض الحالات و لكنها لا تستمر في انحرافها و لا تكمل شوط الباطل إلى نهايته بل تعود بفكرها إلى الحق و هكذا فهناك جماعة من أصحاب معاوية الذين عرفوه و وقفوا على ما عنده تركوه و ارتحلوا عنه بعد أن عرفوا أهدافه الدنيئة و بغيه و عدوانه على أمير المؤمنين و هربوا إلى اللّٰه خوفا من إعانته في كلمة أو موقف أو ضربة سيف أو طعنة رمح و علل سبب مفارقتهم لمعاوية من حيث أراد منهم أن يتركوا دينهم و ما يعرفون من الحق المتجسد بعلي، أراد معاوية أن يحملهم على قتال إمام الهدى و يجرهم إلى الظلم و مجانبة العدل.

(فاتق اللّٰه يا معاوية في نفسك و جاذب الشيطان قيادك فإن الدنيا منقطعة عنك و الآخرة قريبة منك و السلام) أراد عليه السلام أن يذكره باللّٰه ليحفظ نفسه من النار فأمره بتقوى اللّٰه في نفسه أي يحفظ نفسه بطاعة اللّٰه و لزوم أمره و اجتناب معصيته و لا يعلن حربا أو يشق عصا الوحدة أو يشتت أمر الأمة كما أمره بمغالبة الشيطان فلا يتركه هو الذي بوجهه و يقوده إلى حيث يريد بل يمتنع منه و يرفض قيادته له.

ثم ذكّره أن الدنيا زائلة لا تبقى له إن انتصر فيها و عمل لها بينما الآخرة قريبة منه يسعى إليها في كل يوم يطوى من عمره فيجب أن يسعى الإنسان لتحسين موقعه القادم إليه خصوصا آخرته التي هي أقرب ما يكون منه...

ص: 420

33 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى قثم بن العباس و هو عامله على مكة أمّا بعد، فإنّ عيني (1) - بالمغرب (2) - كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم (3) أناس من أهل الشّام العمي القلوب، الصّمّ (4) الأسماع، الكمه (5) الأبصار، الّذين يلبسون (6) الحقّ بالباطل، و يطيعون المخلوق في معصية الخالق، و يحتلبون (7) الدّنيا درّها (8) بالدّين، و يشترون عاجلها (9) بآجل الأبرار المتّقين، و لن يفوز بالخير إلاّ عامله، و لا يجزى جزاء الشّرّ إلاّ فاعله.

فأقم على ما في يديك قيام الحازم (10) الصّليب (11)، و النّاصح اللّبيب (12)، التّابع لسلطانه المطيع لإمامه. و إيّاك و ما يعتذر منه، و لا تكن عند النّعماء (13) بطرا (14)، و لا عند البأساء (15) فشلا (16)، و السّلام.

اللغة

1 - العين: الجاسوس الذي يتجسس الأخبار.

2 - بالمغرب: بالأقاليم الغربية و سمى الشام بذلك لأنها هكذا بالنسبة إلى العراق.

3 - الموسم: مجمع الحاج و أيامه التي يقام فيها.

4 - الصمم: فقدان حاسة السمع.

5 - الكمه: جمع أكمه و هو الأعمى خلقة.

6 - يلبسون: يخلطون.

7 - يحتلبون: من الحلب و هو جذب اللبن من ضرع الحيوان.

8 - الدر: بالفتح اللبن.

9 - العاجل: المسرع ضد الآجل.

ص: 421

10 - الحازم: الضابط لأمره الآخذ فيه بالثقة.

11 - الصليب: الشديد.

12 - اللبيب: العاقل.

13 - النعماء: الرخاء و السعة.

14 - البطر: شدة الفرح المؤدي إلى الطغيان.

15 - البأساء: الشدة.

16 - الفشل: الجبن و الضعف.

الشرح

اشارة

(أما بعد فإن عيني بالمغرب كتب إليّ يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل الشام العمي القلوب الصم الأسماع الكمه الأبصار) هذا الكتاب بعث به الإمام إلى عامله على مكة قثم بن العباس بن عبد المطلب و ذلك أنه عليه السلام و صلته الأخبار أن معاوية بعث إلى مكة في موسم الحج دعاة مهمتهم من جهة تهمة أمير المؤمنين بقتل عثمان أو الإعانة عليه و من جهة أخرى تخذيل الناس عنه و التشكيك في بيعته و كذلك الدعوة إلى معاوية و تزيين أمره و ترغيب الناس في خلافته، فأرسل الإمام هذا الكتاب إلى قثم ينبهه فيه إلى أخذ الحيطة و فعل ما يجب فعله في مواجهة هؤلاء الدعاة...

أخبره عليه السلام أن من وضعه من أنصاره في الشام من أجل أن يتعرف له على خطط معاوية و أساليب مكره و خداعه و ما ينويه و يرسمه قد كتب إليه يعلمه بأمر مهم و هو أن معاوية أرسل في أوقات الحج أناسا من أهل الشام و وصفهم بعمى القلوب لعدم الانتفاع بعقولهم و عدم استعمال أفكارهم و كذلك وصفهم بالصمم لأنهم لا يسمعون إلى كلمة الحق و يعملون بها و كذلك وصفهم بالكمه لأنه لا يرون الحق و لا يبصرونه لوجود الغشاوة على أعينهم.

و في هذه الرسالة بيان أن الإمام لم يكن غافلا عن معاوية و ما يخطط له كما أن فيها رؤية واضحة لجواز استعمال الاستخبارات على العدو لينقل إلى ولي الأمر ما يجري عندهم و ما يخططون و يرسمون...

(الذين يلبسون الحق بالباطل و يطيعون المخلوق في معصية الخالق و يحتلبون الدنيا درها بالدين و يشترون عاجلها بآجل الأبرار المتقين) بعد أن ذكر صفات هؤلاء الذين جندهم معاوية دعاة له و ضد الإمام أخذ في ذكر بعض أعمالهم و ما يوصفون به و هي أمور:

ص: 422

1 - يلبسون الحق بالباطل: يخلطون الحق بالباطل يفعلون الباطل بصورة الحق حتى يموهوا على الناس الحقيقة و يشوشوا الرؤية السليمة يرفعون مظلومية عثمان و يريدون من ورائها تحطيم حكم الإمام و قوته.

2 - يطيعون المخلوق في معصية الخالق: و هذا منتهى الشقاء و التعاسة يطيعون معاوية فيما يوجههم من الشر و الفساد و في ذلك معصية للّٰه و تمرد على إرادته.

3 - يحتلبون الدنيا درها بالدين: إنهم لا دين لهم على الحقيقة و إنما يظهرون شعائر الدين ليأخذوا بها متاع الدنيا وصفوها و منافعها، يقومون بالدعوة إلى الانتصار للخليفة المقتول و يريدون من وراء ذلك أخذ منافع الدنيا و ما يعطيهم معاوية من أعطيت مقابل ذلك...

4 - يشترون عاجل الدنيا بآجل الأبرار المتقين: هذا ذم لهم لأنهم يفعلون خلاف ما يفعله الأبرار الأتقياء أنهم يشترون الدنيا بدل الآخرة عكس الأبرار الذين يسعون إلى الآخر و يشترونها بالدنيا و ما فيها.

(و لن يفوز بالخير إلا عامله و لا يجزى جزاء الشر إلا فاعله) أراد ترغيب قثم بالخير و تنفيره من الشر فأعطى القواعد الكلية لكل منهما و أنه لن يفوز بالخير إلا من عمل به فمن أراد الجنة سعى لها سعيها و بحث عن الطريق إليها من أداء الواجبات و ترك المحرمات و إعانة الضعفاء و مساعدة الفقراء و هكذا و لا يجزى جزاء الشر إلا فاعله لن يدخل النار إلا من عمل لها و طريق النار معصية اللّٰه و البعد عن ساحته و إيذاء الناس و الإضرار بهم.

(فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب و الناصح اللبيب التابع لسلطانه المطيع لإمامه) أمره عليه السلام أن يستمر في عمله و ولايته لكن قيام القوي الشديد الذي أخذ أهبته لكل طارئ و استعد لكل حادث، قيام الناصح العاقل الذي يتحرى الحق المتدبر للأمور التابع لسلطانه الذي ولاه فلا ينحرف عنه أو يتولى عن طريقه المطيع لإمامه فيما أمر و نهى الذي إطاعته من إطاعة اللّٰه و رسوله لأنه المنفذ لإرادة السماء و حكمها.

(و إياك و ما يعتذر منه) نصيحة حكمية غالية في عبارة قصيرة و كلمات قليلة: لا تعمل أمرا غير صحيح تحتاج معه إلى الاعتذار عن فعله... إياك تحذير و نهي عن كل أمر تحتاج معه إلى الاعتذار و ما أجمل هذه القاعدة لو كان كل فرد منا يعمل بها...

(و لا تكن عند النعماء بطرا و لا عند البأساء فشلا و السلام) أوصاه بالاعتدال عند ما

ص: 423

تقبل عليه الدنيا و تكثر عليه نعم اللّٰه فلا يأخذه الغنى إلى البطر و هو الطغيان في النعمة و تبذيرها و الإسراف فيها و استعمالها فيما لا يجوز كما نهاه إذا أصابته شدة و وقع في مأزق أن يخور و يجبن و تتزلزل أقدامه و تضطرب أحواله بل يجب أن يكون رزينا قويا ثابتا يحاول أن يحل مشكلته و يخرج من شدته و هكذا يكون المؤمن و هذه هي طريقته...

ترجمة قثم بن عباس.

قثم بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم أخو عبد الله بن العباس.

أمه: أم الفضل.

و عن عبد الله بن جعفر قال: كنت أنا و عبيد الله و قثم ابنا العباس نلعب فمر بنا رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - راكبا فقال: ارفعوا إليّ هذا الفتى - يعني قثم - فرفع إليه فأردفه خلفه ثم جعلني بين يديه و دعا لنا فاستشهد قثم بسمرقند.

و كان قثم آخر الناس عهدا برسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كما في تاريخ ابن الأثير و غيره.

كان قثم يشبه رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و قد ولاه الإمام على مكة و بقي واليا حتى استشهد علي عليه السلام.

استشهد قثم في سمرقند في غزوة غزاها المسلمون لتلك البلاد...

ص: 424

34 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى محمد بن أبي بكر، لما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر، ثم توفي الأشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها أمّا بعد، فقد بلغني موجدتك (1) من تسريح (2) الأشتر إلى عملك، و إنّي لم أفعل ذلك استبطاء (3) لك في الجهد (4)، و لا ازديادا لك في الجدّ (5)، و لو نزعت (6) ما تحت يدك من سلطانك، لولّيتك ما هو أيسر عليك مئونة (7)، و أعجب إليك ولاية.

إنّ الرّجل الّذي كنت ولّيته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا، و على عدوّنا شديدا ناقما (8)، فرحمه اللّٰه! فلقد استكمل أيّامه، و لاقى حمامه (9)، و نحن عنه راضون، أولاه اللّٰه رضوانه، و ضاعف الثّواب له. فأصحر (10) لعدوّك، و امض على بصيرتك، و شمّر لحرب (11) من حاربك، و ادع إلى سبيل ربّك، و أكثر الاستعانة باللّٰه يكفك ما أهمّك، و يعنك على ما ينزل بك، إن شاء اللّٰه.

اللغة

1 - موجدتك: غضبك و غيظك.

2 - التسريح: الإرسال.

3 - الاستبطاء: التأخير.

4 - الجهد: الطاقة و المشقة و الوسع.

5 - الجد: بكسر الجيم الاجتهاد.

ص: 425

6 - نزع الشيء: قلعه و نزع الأمير العامل إذا عزله.

7 - المئونة: الشدة و الثقل.

8 - ناقما: كارها معيبا.

9 - الحمام: الموت.

10 - أصحر له: أبرز له من أصحر إذا برز إلى الصحراء.

11 - شمّر للحرب: أخذ لها أهبتها.

الشرح

(أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك و إني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهد و لا ازديادا لك في الجد و لو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر عليك مئونة و أعجب إليك ولاية) ولى الإمام محمد بن أبي بكر على مصر و لما لم يكن بمستوى ضبطها و حفظها كما يحب الإمام و يرغب وجه إليها الأشتر لشدته و بأسه و ضبطه للأمور فازعج ذلك محمدا و في الطريق إلى مصر دسّ معاوية السم إلى الأشتر فمات قبل أن يصل إليها فكتب الإمام إلى محمد هذا الكتاب يطيّب خاطره و يبين له أن عزله لم يكن لأمر معيب فيه كالخيانة بل لأجل أن يوليه أمرا يتناسب مع إمكاناته و قدرته و ابتدأ عليه السلام بذكر ما بلغه عنه و وصله منه من غضبه حيث أرسل الأشتر إلى مصر بدلا عنه ليتولى أمر تلك البلاد ثم بين له أسباب عزله و هو يشبه الاعتذار منه فقال لم يكن ذلك لأنك بطيء في مكافحة الأعداء و مواجهتهم أو غير مجد فيه أو غير مخلص و لو أنني كنت أعزلك عن هذه البلاد لوليتك ما هو أيسر عليك ضبطه و أقدر عليه في الإدارة فإن مصر أعطاها معاوية لعمرو طعمة و هذا يحاول بكل طاقاته أن يستولي عليها و أن عملاؤه فيها كثيرون يكيدون لك و يتربصون بك فيكون غيرها أضبط لك و أحسن و أيسر...

(إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا و على عدونا شديدا ناقما فرحمه اللّٰه فلقد استكمل أيامه و لاقى حمامه و نحن عنه راضون أولاه اللّٰه رضوانه و ضاعف الثواب له) في هذا الثناء على مالك تقوية لعزيمة محمد و دفعا له ليكون مثله، و الإمام يعطي كل ذي حق حقه و هذه الكلمات منه في حق مالك تؤكد أهمية هذه الشخصية و ما كان لها من الأثر في المجتمع و ما لها من دور كبير فمالك كان من أشد المخلصين للإمام الناصحين له و بمقدار إخلاصه للإمام و نصحه له كانت عداوته لمعاوية و نقمته عليه و شدته في مواجهته ثم دعا له بعد أن بين أنه كان راضيا عنه و كما يقول ابن

ص: 426

أبي الحديد: و لست أشك بأن الأشتر بهذه الدعوة يغفر اللّٰه له و يكفر ذنوبه و يدخله الجنة و لا فرق عندي بينها و بين دعوة رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و يا طوبى لمن حصل له من علي عليه السلام بعض هذا...

(فاصحر لعدوك و امض على بصيرتك و شمر لحرب من حاربك و ادع إلى سبيل ربك و أكثر من الاستعانة باللّٰه يكفك ما أهمك و يعنك على ما ينزل بك إن شاء اللّٰه) أمره عليه السلام بأوامر:

1 - أمره أن يخرج لعدوه و يبرز له و لا ينتظر أو يتأخر لئلا يستشعر منه الضعف و الهوان.

2 - أمره أن يمضي على يقين من حقه و أنه أولى الناس بهذا المقام لأنه المنصوب من قبل الحاكم الشرعي و الخليفة الذي بايعته الأمة...

3 - أمره أن يستعد للحرب و يأخذ لها أهبتها فيهيء لها أسبابها و عدتها و ما تحتاجه.

4 - أمره أن يدعو إلى سبيل ربه فلا يقصر في هداية فرد أو يتوانى في رد ضال أو يتهاون في الأخذ بيد شاك أو متردد إلى ما فيه نجاته...

5 - أمره أن يستعين باللّٰه فإنه الكافي لكل أمر شديد فإن الأحمال مهما كانت ثقيلة و العناء كبير و النوازل قوية إذا أخذ الإنسان بالأسباب المأمور بها و عاد إلى اللّٰه بالتوكل عليه انفتحت أمامه الأبواب و جعل اللّٰه له من أمره فرجا و مخرجا.

ص: 427

35 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عبد الله بن العباس، بعد مقتل محمد بن أبي بكر أمّا بعد، فإنّ مصر قد افتتحت، و محمّد بن أبي بكر - رحمه اللّٰه - قد استشهد، فعند اللّٰه نحتسبه (1) ولدا ناصحا، و عاملا كادحا (2)، و سيفا قاطعا، و ركنا (3) دافعا. و قد كنت حثثت (4) النّاس على لحاقه، و أمرتهم بغياثه (5) قبل الوقعة (6)، و دعوتهم سرّا و جهرا، و عودا (7) و بدءا (8)، فمنهم الآتي كارها، و منهم المعتلّ (9) كاذبا، و منهم القاعد خاذلا. أسأل اللّٰه تعالى أن يجعل لي منهم فرجا عاجلا، فو اللّٰه لولا طمعي عند لقائي عدوّي في الشّهادة، و توطيني (10) نفسي على المنيّة (11)، لأحببت ألاّ ألقى مع هؤلاء يوما واحدا، و لا ألتقي بهم أبدا.

اللغة

1 - احتسبت كذا عند اللّٰه: طلبت به الحسبة بكسر الحاء و هي الأجر.

2 - الكادح: المبالغ في سعيه.

3 - الركن: ما يقوى به، الجانب الأقوى، الشريف في قومه.

4 - حثثته على الأمر: حضضته عليه و نشطته على فعله.

5 - غياثه: من الغوث و هو الإعانة.

6 - الوقعة: الصدمة في الحرب.

7 - عودا: الرجوع إلى الحالة السابقة.

8 - بدءا: بفتح الباء أول الحال.

9 - المعتل: المعتذر.

ص: 428

10 - وطّن نفسه: هيأها و حملها على الشيء 11 - المنية: الموت.

الشرح

(أما بعد فإن مصر قد افتتحت و محمد بن أبي بكر - رحمه اللّٰه - قد استشهد فعند اللّٰه نحتسبه ولدا ناصحا و عاملا كادحا و سيفا قاطعا و ركنا دافعا) هذا الكتاب بعث به الإمام إلى عبد الله بن العباس عامله على البصرة يبصّره فيه ما كان من أمر مصر و سقوطها بيد معاوية و يخبره أيضا بمقتل محمد بن أبي بكر و اليه عليها ليدفعه من خلال ذلك إلى التنبه و اليقظة على ولايته و السهر عليها خوفا من أن يدخل معاوية بكيده و حيله إليها كما دخل مصر فأفسدها ثم شكى له قلة الناصر و المعين و عدم المطيع و السامع.

ابتدأ عليه السلام بإخباره بالحدث الأعظم الذي يريد إبلاغه به، إنه حدث فتح مصر لصالح معاوية الذي استولى عليها و خبر استشهاد العبد الصالح محمد بن أبي بكر و سمى محمدا ولدا لأنه تربى في حجره من حيث إن أمه أسماء بنت عميس تزوجت جعفر بن أبي طالب و هاجرت معه إلى الحبشة فولدت له محمدا و عونا و عبد الله بالحبشة و لما قتل جعفر تزوجها أبو بكر فأولدت له محمدا هذا فلما توفي عنها تزوجها الإمام علي فأولدت له يحيى بن علي و كان محمد مع والدته في كنف الإمام يربيه و يعتني به و قد وصفه متوجعا و متفجعا عليه بالعامل الكاد الجاد النشيط غير المتواني فيما أوكل إليه أو أنيط به و وصفه بالسيف القاطع لأن به يطال العدو و يقهره و وصفه بالركن الدافع لأنه يعتمد عليه في دفع الأعداء و هو من الشرفاء الكرام...

(و قد كنت حثثت الناس على لحاقه و أمرتهم بغياثه قبل الوقعة و دعوتهم سرا و جهرا و عودا و بدءا فمنهم الآتي كارها و منهم المعتل كاذبا و منهم القاعد خاذلا) كان الإمام يدفع الناس و يحرضهم للالتحاق بمحمد و مساندته و معاونته لأنه يعرف مصر و ما فيها و يعرف عدوه و ما يخطط لها فلذا كان يدفع بالناس للخروج مع محمد و قد وصف سعيه في سبيل ذلك فقال قبل أن يصاب محمد و تسقط مصر بيد الأعداء كنت أتكلم مع الناس سرا أن يخرجوا مع محمد فلم ينفع الإسرار و تكلمت معهم جهرا فلم ينفع الجهر و تكلمت معهم ابتداء و مرة أخرى أي قمت بتحريضهم على الخروج في جميع الحالات فلم ينفعهم القول و لم يحركهم الحديث.

ثم بين ألمه من مواجهتهم له و كيف كانوا يقابلون حديثه و أمره بالخروج.

ص: 429

فمنهم الآتي كارها: إنه يخرج بدون رغبة و لا عن إيمان و عقيدة و إنما يخرج و هو ساخط على خروجه و هل مثل هذا ينفع أو يفيد؟.

و منهم المعتل كاذبا: فهو لا يخرج بحجة واهية كاذبة يعتذر بها عن الخروج.

و منهم القاعد خاذلا: فهو لا يخرج متعمدا هزيمة لنا و تقاعسا عنا.

(اسأل اللّٰه تعالى أن يجعل لي منهم فرجا عاجلا، فو اللّٰه لو لا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة و توطيني نفسي على المنية لأحببت ألا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا و لا ألتقي بهم أبدا) لما رأى معاملتهم معه هذه المعاملة الظالمة دعى أن يجعل له اللّٰه فرجا عاجلا من هذه الحالة الصعبة التي يعيشها بين أصحابه من حيث يأمرهم فلا يأتمرون و يعظهم فلا يتعظون، يريدهم للّٰه و في سبيله فلا يستجيبون.

ثم أقسم أنه لولا طمعه بالشهادة عند لقاء عدوه لم يتمنى البقاء معهم أبدا و لو يوما واحدا و لا تمنى اللقاء بهم أبدا... إنها نفثة مصدور عاش مرارتها الإمام... إنها معاناة القائد العظيم الذي يريد شعبه قادة الدنيا و بأيديهم مقاليد الأمور فلا يستجيبون له بل يخلدون إلى الأرض و يتقاعسون عن استجابته فيجرح ذلك نفسه و يأسى على مقامه بينهم و يتمنى أنه لا يعرفهم و لا يقيم بينهم أبدا و لا يلتقي بهم لحظة...

ص: 430

36 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أخيه عقيل بن أبي طالب، في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء، و هو جواب كتاب كتبه إليه عقيل فسرّحت (1) إليه جيشا كثيفا (2) من المسلمين، فلمّا بلغه ذلك شمّر هاربا (3)، و نكص (4) نادما، فلحقوه ببعض الطّريق، و قد طفّلت (5) الشّمس للإياب (6)، فاقتتلوا شيئا كلا و لا (7)، فما كان إلاّ كموقف ساعة حتّى نجا جريضا (8) بعد ما أخذ منه بالمخنّق (9)، و لم يبق منه غير الرّمق (10)، فلأيا بلأي (11) ما نجا. فدع عنك قريشا و تركاضهم (12) في الضّلال، و تجوالهم (13) في الشّقاق (14)، و جماحهم (15) في التّيه (16)، فإنّهم قد أجمعوا (17) على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - قبلي، فجزت قريشا عنّي الجوازي (18)! فقد قطعوا رحمي، و سلبوني سلطان ابن أمّي.

و أمّا ما سألت عنه من رأيي في القتال، فإنّ رأيي قتال المحلّين (19) حتّى ألقى اللّٰه، لا يزيدني كثرة النّاس حولي عزّة، و لا تفرّقهم عنّي وحشة (20)، و لا تحسبنّ ابن أبيك - و لو أسلمه النّاس - متضرّعا (21) متخشّعا (22)، و لا مقرّا (23) للضّيم (24) واهنا (25)، و لا سلس (26) الزّمام (27) للقائد، و لا وطيء (28) الظّهر للرّاكب المتقعّد (29)، و لكنّه كما قال أخو بني سليم:

ص: 431

فإن تسأليني كيف أنت فإنّني *** صبور على ريب الزّمان صليب (30)

يعزّ عليّ (31) أن ترى بي كآبة (32) *** فيشمت (33) عاد (34) أو يساء حبيب

اللغة

1 - سرحت: أرسلت.

2 - الكثيف: الكثير الملتف.

3 - شمر هاربا: أسرع هاربا.

4 - نكص: رجع على عقبه.

5 - طفلت: بالتشديد إذا مالت للمغيب.

6 - الإياب: الرجوع.

7 - كلا و لا: كلمة تقال لما يستقصر وقته جدا.

8 - الجريض: الغص بالريق من شدة الجهد و الكرب.

9 - المخنّق: موضع الخنق في الحيوان من عنقه.

10 - الرمق: بقية الروح.

11 - اللأي: الشدة و العسر و قيل البطء.

12 - التركاض: مبالغة في الركض.

13 - التجوال: مبالغة في الجولان.

14 - الشقاق: الخلاف.

15 - جمح الفرس: استعصى على سائقه.

16 - التيه: الضلال و الغواية.

17 - أجمعوا: عزموا و صمّموا.

18 - الجوازي: جمع جازية و هي أنواع العقاب للنفوس السيئة.

19 - المحلين: الناقضين للبيعة.

20 - الوحشة: ضد الإنس.

21 - متضرعا: متخشعا.

22 - متخشعا: متذللا خاضعا.

23 - المقر: المعترف.

24 - الضيم: الظلم.

25 - الواهن: الضعيف.

26 - السلس: بفتح فكسر السهل.

ص: 432

27 - الزمام: العنان التي تقاد به الدابة.

28 - الوطيء: اللين.

29 - مقتعد البعير: راكبه.

30 - صليب: شديد.

31 - يعز عليّ : يشق عليّ .

32 - الكآبة: الحزن.

33 - شمت: أظهر السرور بمعصية الغير.

34 - عاد: عدو.

الشرح

(فسرّحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين فلما بلغه ذلك شمر هاربا و نكص نادما فلحقوه ببعض الطريق و قد طفّلت الشمس للإياب فاقتتلوا شيئا كلا و لا فما كان إلا كموقف ساعة حتى نجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق و لم يبق منه غير الرمق فلأيا بلأي ما نجا) هذا الكتاب جواب عن كتاب كان عقيل بن أبي طالب أخو الإمام قد كتب به إليه.

يقول الإمام: إنه عند ما علم أن بعض مرتزقة معاوية كان يشن على أطراف حكمه غارات أرسل الإمام إليه جيشا كبيرا كثيرا من المسلمين فهرب موليا لا يلوي على شيء و رجع من حيث أتى ذليلا من فعله فجدوا السير حتى لحقوه و أدركوه ببعض الطريق قبل أن يصل إلى الشام في وقت اقتربت فيه الشمس من المغيب فاقتتلوا مدة قصيرة من الوقت لا تذكر و لم يستطع المغير الفاسد أن يصمد إلا ساعة من الزمن كناية عن قلة الوقت حتى نجا بنفسه بعد أن ذاق الأمرين و لم ينج إلا بأعجوبة بعد عسر و شدة و قد عبّر عن ذلك «حتى نجا جريضا بعد ما أخذ منه بالمخنق» أي نجا بعد كرب و شدة من بعد ما كاد أن يختنق و يموت بحيث أخذ منه موضع الخنق من الرقبة و لم يبق منه إلا الروح إنه نجا بعد شدة و عسر...

(فدع عنك قريشا و تركاضهم في الضلال و تجوالهم في الشقاق و جماحهم في التيه) توجه الإمام إلى أخيه بنصيحة غالية أن يترك قريشا و لا يلتفت إلى ما تسعى إليه من الباطل و تتحرك فيه من الضلال و تجول ساعية فيه من الاختلاف عليه و الفرقة له و عصيانها و تمردها و استرسالها في الضلال و الغواية و كم تحمل الإمام من قريش و كم عانى منها منذ نعومة أظفاره و هو مع النبي صغيرا إلى أن تولى الخلافة... إنه تجرع منها الغصص و ذاق المرارة و عاش أذاها في كل مراحل حياته حاربها زمن رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه

ص: 433

و آله - و غضب عليها لأنها سلبته الخلافة ثم قامت أخيرا في وجهه عنادا و بغضا في حرب ظالمة قاسية فكان عليه أن يواجهها بأشد ما يكون...

(فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - قبلي فجزت قريشا عني الجوازي فقد قطعوا رحمي و سلبوني سلطان ابن أمي) كأن هذا تعليل و سبب لأمره عقيلا أن لا يلتفت إلى قريش لأن قريشا اتفقت كلمتها و صممت العزم على حرب الإمام كإجماعهم على حرب رسول اللّٰه في ابتداء الدعوة و من كانت هذه سيرته وجب هجره و عدم الالتفات إليه يقول ابن أبي الحديد: هذا الكلام حق فإن قريشا اجتمعت على حربه منذ يوم بويع بغضا له و حسدا و حقدا عليه فاصفقوا كلهم يدا واحدة على شقاقه و حربه كما كانت حالهم في ابتداء الإسلام مع رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - لم تخرم حاله أبدا إلا أن ذاك عصمه اللّٰه من القتل فمات موتا طبيعيا و هذا اغتاله إنسان فقتله.

ثم دعا على قريش بالعقاب بكل سيئة أساءتها معه سيئة مثلها، جزاء وفاقا لها و ذكر بعض تلك السيئات بأنهم قد قطعوا رحمه و قرابته فيها فبدلا من التعاون معه و الوقوف إلى جانبه قاموا بمحاربته و قتاله و ذاك أعظم صور قطيعة الرحم و أيضا فقد سلبوه ميراثه من النبي الذي عبّر عنه «بابن أمي» و سماه بذلك كما يقول ابن أبي الحديد:

لأنهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم أم عبد الله و أبي طالب و لم يقل ابن أبي لأن غير أبي طالب من الأعمام يشركه في النسب إلى عبد المطلب و قال بعضهم: إنه قال ذلك لأن أم علي فاطمة بنت أسد ممن قال النبي في شأنها: «فاطمة أمي بعد أمي».

(و أما ما سألت عنه من رأيي في القتال فإن رأيي قتال المحلين حتى ألقى اللّٰه لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة و لا تفرقهم عني وحشة) عند ما اتخذ الإمام قرار قتال البغاة فإنما اتخذه لقناعات شرعية أوجبت عليه ذلك و لذا سيبقى هذا القرار ساري المفعول لا تراجع عنه... إنه كما يقول في بعض خطبه: «و قد قلّبت هذا الأمر بطنه و ظهره حتى منعني النوم فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد - صلّى اللّٰه عليه و آله -» و لذا فهو مستمر على قتال من نقض بيعته و أعلن الحرب عليه حتى الموت الذي به يخرج من الحياة إلى ملاقاة اللّٰه...

ثم بين قضية يعيشها الإمام ليس فحسب في مجال الحرب بل في كل حالاته عليه السلام و هو العز باللّٰه دون النظر إلى كثرة من حوله من الناس و قلتهم و لذا يعلن أن كثرة

ص: 434

الناس حوله لا تزيده عزة و لا تفرقهم عنه وحشة...

إنه في خط اللّٰه و به العز و منه يستمد عزته و أما الناس فلن تزيده عزة و لا تفرقهم عنه وحشة... إنه العارف باللّٰه المتصل به الذي يرى أن منه يكون كل عز و به يكون كل أنس...

(و لا تحسبن ابن أبيك - و لو أسلمه الناس - متضرعا متخشعا و لا مقرا للضيم واهنا و لا سلس الزمام للقائد و لا وطيء الظهر للراكب المتقعد و لكنه كما قال أخو بني سليم:

فإن تسأليني كيف أنت فإنني *** صبور على ريب الزمان صليب

يعز عليّ أن ترى بي كآبة *** فيشمت عاد أو يساء حبيب)

هذا موقف علوي مبدئي علّم أباة الضيم دروس الشجاعة و الصمود... فلو أفرده الناس و تخلوا عنه كلهم سيبقى الصلب العنيد الذي لا يلين... لا يخضع و لا يذل و لا يقبل بالظلم أو ينتابه ضعف... إنه يرفض الليونة و لا يعطي زمامه لأحد يدفعه حيث أراد و لا يجعل نفسه مطية يركبها من يريد الراحة و الاستقرار بل هو يرفض ذلك و يأباه و هكذا تعلمت النفوس الحرة منه الإباء و النخوة و عدم إعطاء الدنية في دينها.

للّٰه أنت يا سيدي و أنا أقرأ هذه الكلمات استشعر العزة و المنعة و كأنك تخاطبنا نحن الذين نعيش في هذا العصر... كأنك تعطينا الدروس التي نواجه بها مشاكل الحياة و اضطهاد الطغاة... كأنك تدفعنا للصمود من أجل ما نؤمن به و نعتقده من حق و عدل...

ثم إنه أخيرا أطلقها صرخة و أعلن أنه القوي الصبور الذي يتحمل محن الدهر و نوائبه و يكتم ما يعيش فيه بدون شكوى إلى الناس لأنهم صنفان صنف عدو له يشمت و آخر حبيب يساء...

ص: 435

37 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية فسبحان اللّٰه! ما أشدّ لزومك للأهواء (1) المبتدعة (2)، و الحيرة (3) المتّبعة، مع تضييع الحقائق و اطّراح الوثائق، الّتي هي للّٰه طلبة (4)، و على عباده حجّة (5). فأمّا إكثارك الحجاج (6) على عثمان و قتلته، فإنّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النّصر لك، و خذلته حيث كان النّصر له، و السّلام.

اللغة

1 - الأهواء: مشتهيات النفس و رغباتها.

2 - المبتدعة: التي لا أصل لها في الإسلام.

3 - الحيرة: التردد.

4 - الطلبة: المطلوبة.

5 - حجة: دليل و برهان.

6 - الحجاج: بالكسر الجدال.

الشرح

(فسبحان اللّٰه ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة و الحيرة المتبعة مع تضييع الحقائق و إطراح الوثائق التي هي للّٰه طلبة و على عباده حجة) هذا جزء من كتاب كان الإمام قد أرسله إلى معاوية و فيه يشرح ضلاله و انحرافه و مدى بعده عن الحق.

ابتدأ عليه السلام بهذه الصيغة التعجبية من معاوية لشدة لزومه للأهواء المبتدعة التي يخترعها من نفسه و يبثها بين الناس و لقد كان هذا الرجل يختلق كل باطل و ينسج كل إفك و يبتدع كل ضلال ثم يرمي به الإمام كذبا و زورا فهو تارة يقول لأصحابه أن عليا هو

ص: 436

الذي قتل عثمان و أخرى خذله و ثالثة أوى قتلته و هكذا يوقع الناس في حيرة و تردد و يشوش عليهم الرؤية السليمة.

ثم إن معاوية يعلم الحقائق و أن عليا هو أولى الناس بالخلافة إذ ليس لأحد فيه مغمز أو مهمز و لكن مع ذلك يضيّق هذا الحق و يمنعه عن أهله و يشوش رؤية الناس فيه.

و أيضا يطرح معاوية كل المستمسكات و الوثائق التي دلت على إمامة علي و سلطانه سواء كانت واردة عن لسان النبي أو كانت بواسطة بيعته الصحيحة السليمة من المهاجرين و الأنصار و سائر المسلمين مع أن هذه الوثائق مطلوبة للّٰه على عباده و حجة له عليهم و بالخصوص معاوية التي شهدها أو سمع بها عن الثقاة الأخيار...

(فأما إكثارك الحجاج على عثمان و قتلته فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك و خذلته حيث كان النصر له و السلام) لقد أكثر معاوية في الحوار و الجدال حول قتلة عثمان أنه يريد أن يقتص منهم و نشر قميص عثمان و أخذ يطالب بدمه و كان كلما خمدت ثورة الناس رفع القميص فثار الناس و طالبوا بالاقتصاص من القتلة و هكذا... و الإمام يبين أن معاوية عليه كل الحق و هو يتحمل وزر التقصير في الدفاع عن عثمان و ذلك أن معاوية خذله عند ما كان يمكن أن ينصره لأنه كان يستصرخه و يستغيث به و يطلب نجدته فكان معاوية يقف قريبا من المدينة يمنع جيشه الذي وجهه لنصر الخليفة من دخولها و نصره و أما بعد أن قتل و أصبح كل عمل يقوم به معاوية لصالحه قام عندها بطلب الثأر و رفع قميص عثمان و في التاريخ: لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده بعث يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله القسري و قال له: إذا أتيت ذا خشب فأقم بها و لا تتجاوزها و لا تقل: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فإنني أنا الشاهد و أنت الغائب فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان فاستقدمه معاوية فعاد إلى الشام بالجيش و إنما صنع ذلك ليقتل عثمان فيدعو معاوية إلى نفسه... معاوية خذل عثمان عند ما كان الانتصار لعثمان و نصر عثمان عند ما كان النصر لمعاوية نفسه و في هذا استغلال و أنانية و وصولية ليس بعدها شيء، إنها انتهازية معاوية و وصوليته و لو كانت على دماء عثمان الأموي الذي يجتمع معه في الشجرة الأموية الواحدة...

ص: 437

38 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أهل مصر، لما ولى عليهم الأشتر من عبد اللّٰه عليّ أمير المؤمنين، إلى القوم الّذين غضبوا للّٰه حين عصي في أرضه، و ذهب بحقّه، فضرب الجور (1) سرادقه (2) على البرّ (3) و الفاجر، و المقيم و الظّاعن (4)، فلا معروف يستراح إليه، و لا منكر يتناهى عنه.

أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّٰه، لا ينام أيّام الخوف، و لا ينكل (5) عن الأعداء ساعات الرّوع (6)، أشدّ على الفجّار (7) من حريق النّار، و هو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحقّ ، فإنّه سيف من سيوف اللّٰه، لا كليل (8) الظّبّة (9)، و لا نابي (10) الضّريبة (11): فإن أمركم أن تنفروا (12) فانفروا، و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنّه لا يقدم و لا يحجم (13)، و لا يؤخّر و لا يقدّم إلاّ عن أمري، و قد آثرتكم (14) به على نفسي لنصيحته لكم، و شدّة شكيمته (15) على عدوّكم.

اللغة

1 - الجور: الظلم.

2 - السرادق: جمعه سرادقات الفسطاط الذي يمد فوق صحن البيت، الخيمة.

3 - البر: الصالح.

4 - الظاعن: الراحل.

5 - النكول: الرجوع.

6 - الروع: الخوف.

ص: 438

7 - الفجّار: أهل المعاصي، الزناة و أرباب الفواحش.

8 - الكليل: الذي لا يقطع.

9 - الظبة: بضم ففتح مخفف حد السيف و السنان و نحوها.

10 - نبا: ارتفع و من السيوف الذي لا يقطع.

11 - الضريبة: المضروب بالسيف.

12 - نفر إلى الشيء: أسرع إليه.

13 - أحجم عن الشيء: كف.

14 - الإيثار: تقديم الغير على النفس مع الحاجة إليه.

15 - الشكيمة: أصلها الحديدة المعترضة في فم الفرس و هنا بمعنى الشدة و البأس.

الشرح

(من عبد اللّٰه علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا للّٰه حين عصي في أرضه و ذهب بحقه فضرب الجور سرادقه على البر و الفاجر و المقيم و الظاعن فلا معروف يستراح إليه و لا منكر يتناهى عنه) هذا الكتاب بعث به الإمام إلى أهل مصر يمدحهم فيه و يثني عليهم و يخبرهم بقدوم الأشتر عليهم واليا من قبله و أنه اختاره لهم و آثرهم به على نفسه مع حاجته إليه.

فهو عبد الله في أرفع درجات العبودية إلى القوم الذين غضبوا للّٰه حين عصي في أرضه... إنهم لم يغضبوا لأنفسهم و إنما غضبوا للّٰه و من أجله... غضبوا له لأنه عصي في الأرض فقد مارس الحكم الأموي بقيادة عثمان أبشع استغلال للسلطة فتحول الإسلام بكل طاقاته لصالح هذه الأسرة الخبيثة و قد مهد لها الخليفة كل الوسائل و سهل لها كل الطرق فزرع أهله في كل قطر إسلامي و أخذوا خيرات البلاد لمصالحهم الخاصة و تحول ما جناه المسلمون بسيوفهم إلى أفواه الأمويين و أيديهم.

قال ابن أبي الحديد في مواجهة هذا الكلام: و هذا الفصل يشكل عليّ تأويله لأن أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان و إذا شهد أمير المؤمنين عليه السلام أنهم غضبوا للّٰه حين عصي في الأرض فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان و اتيان المنكر.

و بعد أن ذكر هذا أراد أن يتأوله و كما يقول: و إن كان متعسفا في تأويله... و لكنه لم ينجح في هذا التأويل الباطل.

إن أهل مصر غضبوا للّٰه حين عصي في أرضه و ذهب بحقه فإن حق اللّٰه أن يطاع

ص: 439

و يحفظ في واجباته و محرماته و لكن الأمويين عصوه فيه و تمردوا على حكمه...

ثم وصف ذلك الظلم و شموليته بحيث عمّ الناس جميعا - ما عدا الأمويين الحاكمين المتسلطين على رقاب الأمة - إنه ظلم شامل تناول البر التقي و الطالح الشقي تناول المقيم و المتنقل كالسرادق المنصوب فوق أهله - و هي الخيمة - الحاوي لهم فكأن الظلم مخيم عليهم و شامل لهم جميعا و كان من جراء ذلك أنه لا معروف موجود حتى يستراح إليه و يطمأن به و إنما انتشر المنكر و لا من يتناهى عنه...

(أما بعد فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّٰه لا ينام أيام الخوف و لا ينكل عن الأعداء ساعات الروع أشد على الفجار من حريق النار و هو مالك بن حارث أخو مذحج) أخبرهم عليه السلام أنه بعث إليهم واليا متصفا بهذه الصفات الكريمة التي لا أظن أن عليا وصف بها أحدا من أصحابه.

1 - إنه عبد من عباد اللّٰه و هذه مرتبة متقدمة يكشف عنها الإمام في هذه الشخصية.

2 - لا ينام أيام الخوف: فهو في حذر دائم و يقظة مستمرة و انتباه شديد بحيث يستمر في التخطيط أيام الحرب.

3 - لا ينكل عن الأعداء ساعات الروع: فهو شجاع شديد البأس قوي النفس إذا اشتدت الأمور و خارت الأبطال كان قويا متمالك القوى لا ينهار أو يضعف.

4 - أشد على الفجار من حريق النار: لعلهم يفرون من النار إذا وقعوا فيها أما إذا نزل مالك بساحة الفجار و المنافقين الأشرار فساء صباحهم و أخذوا من مكان قريب فلا فوت لهم و لا نجاة.

(فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحق) و هكذا تكون أوامر الخلفاء الأتقياء، همهم طاعة اللّٰه و إدراك الحق و الوصول إلى الصواب و مالك مهما أعطي من الثقة و الصدق و الأمانة و الإخلاص و الولاء يجب أن يبقى ضمن الحق و يجب على الناس إطاعته فيما وافق الحق و أما إذا خالف أمره الحق فلا طاعة له و لا يجب الالتزام بما يقول، همّ علي أن يطاع اللّٰه في خط أوامره و ما يريد و هذا هو منتهى نظره...

(فإنه سيف من سيوف اللّٰه لا كليل الظبة و لا نابي الضريبة) ما أجمل هذا الوصف و ما أشد لياقته بمالك... أمير المؤمنين يصفه بأنه سيف من سيوف اللّٰه يدفع الشر و يقتل الكفر و يقضي على الانحراف... سيف اللّٰه في خط اللّٰه... لا يتحرك إلا من أجل تحقيق إرادة اللّٰه و بسط سلطته في الأرض... سيف اللّٰه لا يضرب إلا أعداء اللّٰه و سيف اللّٰه

ص: 440

يمضي فيما يقع عليه لا يرتد عنه و لا يقف دونه بل يقطعه بقوة و شدة...

(فإن أمركم أن تنفروا فانفروا و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم و لا يحجم و لا يؤخر و لا يقدم إلا عن أمري) أعطاه الإمام الثقة في هذا المجال و أولاه هذا الأمر المهم... أمر أهل مصر أن يطيعوا مالك و يسمعوا له و إذا أمرهم أن يخرجوا لحرب عدوهم فليخرجوا معه و إذا أمرهم أن يقيموا في بلادهم فليقيموا فيها و اتبع ذلك كله بتفويض كامل في هذا المجال: فكل حركة يقوم بها هي صادرة عن مصدر القرار عن أمير المؤمنين نفسه و كل حركة يتحركها مالك هي بأمر من أمير المؤمنين و هكذا إحجامه و إقدامه و تأخره و تقدمه...

(و قد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم و شدة شكيمته على عدوكم) و هذا تأكيد على أهمية مالك و دوره الفذ العظيم و إن على أهل مصر أن يحتفظوا بهذا القائد و يطيعوا أمره و يلتزموا حكمه و لا يعصوه فيما أحب و أراد...

آثرتكم به على نفسي... فأنا بحاجة إليه و مع ذلك دفعته إليكم حبا بكم و حفظا للمصلحة العامة.

و قد ذكر نصيحته و شدة شكيمته فهو مخلص ناصح أمين... لا يغش بل يتحرى وجه الحق و يندفع نحوه.

و كذلك هو شديد الوطأة على العدو غليظ عليه و عبر عن ذلك بشدة الشكيمة...

ص: 441

39 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عمرو بن العاص فإنّك قد جعلت دينك تبعا (1) لدنيا امرىء ظاهر غيّه (2)، مهتوك ستره (3)، يشين (4) الكريم بمجلسه، و يسفّه (5) الحليم بخلطته (6)، فاتّبعت أثره، و طلبت فضله، اتّباع الكلب للضّرغام (7) يلوذ (8) بمخالبه، و ينتظر ما يلقى إليه من فضل (9) فريسته (10)، فأذهبت دنياك و آخرتك! و لو بالحقّ أخذت أدركت ما طلبت. فإن يمّكّنّي (11) اللّٰه منك و من ابن أبي سفيان أجزكما بما قدّمتما، و إن تعجزا و تبقيا فما أمامكما شرّ لكما، و السّلام.

اللغة

1 - تبعا: من تبع إذا مشى خلفه.

2 - الغي: الضلال.

3 - هتك الستر: خرقه و أزاله عن موضعه فكشف ما وراءه.

4 - يشين: يعيب و يقبّح.

5 - يسفه: يرميه بالسفه أي بالجهل و عدم الحلم.

6 - الخلط: الأحمق و الخلاطة فساد العقل، الحمق.

7 - الضرغام: الأسد.

8 - يلوذ: يلتجىء إليه.

9 - الفضل: جمع فضول البقية.

10 - الفريسة: ما يفترسه الأسد أي يقتله.

11 - مكنّه اللّٰه: جعل له سلطانا عليه و قدرة.

ص: 442

الشرح

(فإنك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرىء ظاهر غيّه مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه و يسفه الحليم بخلطته) تمت الصفقة بين معاوية و عمرو بن العاص على التعاون معا يدا واحدة في قتال الإمام علي على أن يكون لعمرو مقابل دينه و ضلاله و تعاونه مع معاوية يكون له مصر طعمة مؤجلة إلى أن ينتصر معاوية و مبلغا محترما من المال معجلا و لولديه ما يملأ أعينهم و قد علم الإمام بهذه الصفقة الضالة فكتب لعمرو هذا الكتاب التوبيخي.

ابتدأ عليه السلام بذكر هذه الصفقة الخاسرة التي تمت بروح تجارية دنيئة بعيدة عن الإيمان و أصحاب الشرف و الكرامة، عمرو يبيع دينه من أجل دنيا عند معاوية... إنها صفقة يذكرها أرباب التاريخ و تراجم الرجال و كل من كتب عن الرجلين و مدى علاقتهما ببعضهما... كل مؤرخ لتلك الفترة من الصراع بين علي و معاوية يذكر هذه الصفقة الكافرة...

ثم يذكر الإمام بعض أوصاف ذلك الطاغية المشتري دين الرجال بما عنده من الدنيا.

1 - إنه ظاهر غيّه: ضلال معاوية بيّن ظاهر كل عاقل يحكم ببغيه و ظلمه و خروجه عن دائرة الحق و العدل... إنه خرج على الخلافة الشرعية و حاربها و سفك الدماء و انتهب الأموال و تسلط على الأمة قهرا عنها و هل هناك من يجهل هذا الضلال.

2 - إنه مهتوك الستر: فلم يترك للّٰه حرمة و لم يرع قوانين الشرع و الدين ينقل ابن أبي الحديد عنه: إنه كان كثير الهزل و الخلاعة صاحب جلساء و سمار و معاوية لم يتوقر و لم يلزم قانون الرياسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين و احتاج إلى الناموس و السكينة و إلا فقد كان أيام عثمان شديد التهتك موسوما بكل قبيح و كان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه إلا أنه كان يلبس الحرير و الديباج و يشرب في آنية الذهب و الفضة إلى أن يقول: و نقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام... إلى آخر معايبه و أقول: ليس من عجب أن يفعل معاوية كل هذه القبائح بعد أن ارتكب أعظم القبائح و أفظعها و هي محاربته لإمام الحق و العدل و الهدى فكل كبير بعدها صغير و كل جليل حقير...

3 - و يشين الكريم بمجلسه: إذا جلس لديه كريم يخرج و قد تلطخ بعار بني أمية

ص: 443

و سوء مجالسهم لأنها كانت مجالس سوء ينالون من كرامة الناس و شرفهم.

4 - و يسفه الحليم بخلطته: فالحليم الرصين الرزين يصبح سفيها بحمق معاوية و ما يجري عنده من شتم الأشراف و إهانة الكرام كما كان يفعل مع بني هاشم من شتم أمير المؤمنين بحضرتهم دون خجل أو حياء.

(فابتعث أثره و طلبت فضله اتباع الكلب للضرغام يلوذ بمخالبه و ينتظر ما يلقي إليه من فضل فريسته) أظهر عليه السلام تحقيره لعمرو لعله ينفر من متابعته لمعاوية قائلا إنك سرت خلفه في ضلاله و انحرافه لم تخالفه في موقف و لم ترفض أمره في قضية و رحت تطلب ما زاد عنه من فضل مثل الكلب عند ما يتبع الأسد يتبعه بذلة و خوف و فزع ينتظر ما تنفرج عنه مخالبه و ما يفضل عنه من فريسته و ليس هذا دأب الشرفاء و أصحاب الكرامة و الدين...

(فأذهبت دنياك و آخرتك و لو بالحق أخذت أدركت ما طلبت) ذهاب دنياه لأن الدنيا الكريمة هي الدنيا التي تأتي عن الطريق المشروع الحلال على أنه قد كانت بين عمرو و معاوية مشاكسات كثيرة و لم يكن عمرو يصفي الود لمعاوية أو يرتاح إليه بل يشعر باستمرار أنه في معرض الخطر و يشعر أن معاوية قد ينتزع منه مصر في كل وقت و أما ذهاب آخرته فمعلوم أنه من أهل النار لأنه باع آخرته بدنيا معاوية على أن أهل الحق يطعنون في إيمانه بل يكفرونه و معاوية ثم أشار الإمام أنه لو كان يطلب بالحق ما أدركه الآن لأدركه بالحلال و بذلك يربح دنياه و آخرته...

(فإن يمكني اللّٰه منك و من ابن أبي سفيان أجزكما بما قدمتما و إن تعجزا و تبقيا فما أمامكما شر لكما و السلام) و هذا تهديد لهما و وعيد و أنه إذا كتب اللّٰه له النصر عليهما و استولى على رقابهما فسيعطيهما الجزاء التام لأعمالهما القبيحة التي صدرت منهما... سيكون الجزاء الصعب الذي يؤدبهما به.

و أما إذا عجز عنهما و لم يقدر على تأديبهما لظروف صعبة من ضمنها استشهاده كما حدث فإن أمامهما الآخرة و هي آخرة عذاب و نكال من اللّٰه العزيز الجبار و هو عقاب أشد و أقسى من عقاب و عذاب علي في دار الدنيا...

ص: 444

40 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى بعض عماله أمّا بعد، فقد بلغني (1) عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت (2) ربّك، و عصيت إمامك، و أخزيت (3) أمانتك.

بلغني أنّك جرّدت (4) الأرض فأخذت ما تحت قدميك، و أكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، و اعلم أنّ حساب اللّٰه أعظم من حساب النّاس، و السّلام.

اللغة

1 - بلغني: وصلني.

2 - أسخطت: أغضبت.

3 - الخزي: الإذلال و الإهانة.

4 - جردت الأرض: قشرتها.

الشرح

(أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك و عصيت إمامك و أخزيت أمانتك.

بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك و أكلت ما تحت يديك فارفع إليّ حسابك و اعلم أن حساب اللّٰه أعظم من حساب الناس و السلام) هذا الكتاب كتبه إلى بعض عماله و قد بلغه أنه خان الأمانة و فيه تعليم لكل الحكام كيف يتعاملون مع أركان الدولة و الموظفين عندهم، يجب على الحاكم أن يكون العين الساهرة على كل حركات

ص: 445

الولاة و الموظفين و إذا بلغه عنهم أمرا فلا يسكت أو لا يبالي... الحاكم مؤتمن على مصالح الشعب و على أمواله و مهمته إصلاحه و تنميته... مهمته أن ينشر العدل و يرفع الظلم و لا يجعل من نفسه قطب دائرة الظلم التي يتحلق حولها زبانيته و عصابته التي تتفق معه على سلب الشعب و غصب حقوقه بكل الوسائل و مختلف الأساليب...

و الإمام يبتدأ بإعلامه أنه قد وصلته الأنباء عن أمر مهم لا يكشفه ابتداء و إنما يذكره بصيغة الشرط إن كنت فعلته فقد لحقتك ثلاثة أمور عظيمة:

1 - إنك أسخطت ربك: أي أغضبته و من يحلل عليه غضب اللّٰه فقد هوى و ما أعظمها جريمة يقترفها الإنسان.

2 - عصيت إمامك: لأن أول أوامر الإمام أنه يأمر الولاة بالعدل و حفظ الأمانة و رعاية الحقوق.

3 - أخزيت أمانتك: أي لم تحفظ الأمانة بل خنتها و أذللتها.

ثم ذكر الإمام ما بلغه عنه، لقد بلغه جشعه و تكالبه حتى وصل به الأمر أن جرد الأرض فأكل خيرها و تركها جرداء قاحلة فكل ما تحت يده من بيت مال المسلمين و من أرزاق المسلمين قد استولى عليه و قضى على كل أثر له...

و أخيرا أمره أن يرفع حسابه إليه فيقدم له جميع المصروفات و ما دخل إليه حتى يدقق في الحساب ثم نبهه إلى أن حساب اللّٰه في الآخرة أعظم من حسابه و عقابه فلعل هذه الكلمة تحرك فيه الحس الداخلي فيرجع إلى اللّٰه و يعود إلى رحابه...

ص: 446

41 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى بعض عماله أمّا بعد، فإنّي كنت أشركتك في أمانتي (1)، و جعلتك شعاري (2) و بطانتي (3)، و لم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي (4) و موازرتي (5) و أداء الأمانة إليّ ، فلمّا رأيت الزّمان على ابن عمّك قد كلب (6)، و العدوّ قد حرب (7)، و أمانة النّاس قد خزيت (8)، و هذه الأمّة قد فنكت (9) و شغرت (10)، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ (11) ففارقته مع المفارقين، و خذلته (12) مع الخاذلين، و خنته مع الخائنين، فلا ابن عمّك آسيت (13)، و لا الأمانة أدّيت. و كأنّك لم تكن اللّٰه تريد بجهادك، و كأنّك لم تكن على بيّنة (14) من ربّك، و كأنّك إنّما كنت تكيد (15) هذه الأمّة عن دنياهم، و تنوي غرّتهم (16) عن فيئهم (17)، فلمّا أمكنتك (18) الشّدّة في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة (19)، و عاجلت الوثبة (20)، و اختطفت (21) ما قدرت عليه من أموالهم المصونة (22) لأراملهم (23) و أيتامهم (24) اختطاف الذّئب الأزلّ (25) دامية (26) المعزى (27) الكسيرة (28)، فحملته إلى الحجاز رحيب الصّدر (29) بحمله، غير متأثّم (30) من أخذه، كأنّك - لا أبا لغيرك - حدرت (31) إلى أهلك تراثك (32) من أبيك و أمّك، فسبحان اللّٰه! أما تؤمن بالمعاد (33)؟ أو ما تخاف نقاش (34) الحساب! أيّها المعدود - كان - عندنا من أولي الألباب، كيف تسيغ (35) شرابا و طعاما، و أنت تعلم أنّك تأكل حراما،

ص: 447

و تشرب حراما، و تبتاع (36) الإماء و تنكح النّساء من أموال اليتامى و المساكين و المؤمنين و المجاهدين، الّذين أفاء اللّٰه عليهم هذه الأموال، و أحرز (37) بهم هذه البلاد! فاتّق اللّٰه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني (38) اللّٰه منك لأعذرنّ إلى اللّٰه فيك (39)، و لأضربنّك بسيفي الّذي ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النّار! و و اللّٰه لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة (40)، و لا ظفرا (41) منّي بإرادة، حتّى آخذ الحقّ منهما، و أزيح (42) الباطل عن مظلمتهما (43)، و أقسم باللّٰه ربّ العالمين ما يسرّني أنّ ما أخذته من أموالهم حلال لي، أتركه ميراثا لمن بعدي، فضحّ رويدا (44)، فكأنّك قد بلغت المدى (45)، و دفنت تحت الثّرى (46)، و عرضت عليك أعمالك بالمحلّ الّذي ينادي الظّالم فيه بالحسرة، و يتمنّى المضيّع فيه الرّجعة، «ولات حين مناص (47)!».

اللغة

1 - أمانتي: أراد بها الخلافة و أصل الأمانة هي الوديعة.

2 - الشعار: ما يلي الجسد من الثياب.

3 - بطانة الرجل: خاصته.

4 - المواساة: أن يواسيه بنفسه.

5 - المؤازرة: المناصرة.

6 - كلب: كفرح اشتد.

7 - حرب: كفرح: اشتد غضبه و استأسد.

8 - خزيت: كرضيت ذلت و هانت.

9 - فنكت: كذبت و فنكت الجارية إذا صارت ما جنة.

10 - شغرت: خليت.

11 - المجن: الترس و قلب له ظهر المجن، كان معه فصار عليه.

12 - خذله: ترك نصرته و إعانته.

13 - آسيت: ساعدت.

ص: 448

14 - البيّنة: الحجة.

15 - كاده عن الأمر: خدعه حتى ناله منه.

16 - الغرة: الغفلة.

17 - الفيء: الخراج.

18 - أمكنتك: صرت صاحب مكنة أي قدرة و قوة.

19 - الكرة: الرجعة و العودة.

20 - الوثبة: الانقضاض على الشيء.

21 - اختطفت: أخذت بسرعة.

22 - المصونة: المحفوظة.

23 - الأرامل: من مات أزواجهن.

24 - الأيتام: جمع يتيم و هو من فقد أباه من الناس.

25 - الذئب الأزل: السريع العدو.

26 - الدامية: المجروحة.

27 - المعزى: خلاف الضأن من الغنم و هي ذوات الشعر و الأذناب القصار.

28 - الكسيرة: المكسورة.

29 - رحيب الصدر: طويل الأناة، المنشرح.

30 - غير متأثم: غير مبال بالذنب و التأثم التحرز من الإثم.

31 - حدرت: أسرعت.

32 - التراث: الميراث.

33 - المعاد: يوم الحساب.

34 - نقاش الحساب: مناقشته أي الاستقصاء فيه.

35 - تسيغ: تبتلع بسهولة.

36 - تبتاع: تشتري.

37 - احرز الشيء: صانه و ادخره و حرز المال صانه.

38 - أمكنني اللّٰه منك: أقدرني عليك.

39 - لأعذرن إلى اللّٰه فيك لأعاقبنك عقابا يكون اللّٰه عاذرا لي فيه.

40 - الهوادة: المصالحة و المصانعة و الرفق.

41 - ظفر به: فاز به و غلب.

42 - أزيح: كشف، تباعد و ذهب.

43 - المظلمة: الظلم و هو الجور.

44 - ضح رويدا: أمر بالأناة و السكون و أصلها الرجل يطعم أبله ضحى و يسيرها مسرعا ليسير فلا يشبعها.

ص: 449

45 - المدى: الغاية.

46 - الثرى: التراب.

47 - المناص: المهرب ولات حين مناص أي ليس الوقت وقت فرار.

الشرح

(أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي و جعلتك شعاري و بطانتي و لم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمؤاساتي و مؤزارتي و أداء الأمانة إليّ ) هذه الكتاب كتبه الإمام إلى أحد ولاته و يظهر أنه من أقربائه و أرحامه و يذكر بعضهم بل المشهور أنه كتبه لعبد الله بن العباس و اليه على البصرة و لكن ساحة ابن عباس و جهاده و إخلاصه للإمام لا تقبل مثل هذه الشهرة.

و على كل حال هو درس لنا نتعلم منه الإخلاص للقيادة الشرعية الحكيمة فلا تحدثنا أنفسنا بخيانتها أو الانحراف عنها مهما شذت الناس عنها و انحرفت أو تألبت عليها الأعداء و اشتد كلبها.

ابتدأ عليه السلام بذكر فضله عليه حيث اختاره من أهله و كان أوثقهم عند نفسه اختاره ليكون شريكا له في الحكم و الولاية و جعله من قبله على هذا القطر و هذا الاختيار لم يكن لمجرد القرابة و الحب و إنما كان لأنه يحمل صفات الخير يحمل الهموم التي يحملها الإمام و يحمل الآمال التي يحملها و لكي يعينه أيضا على كل أمر مهم ينزل به و يؤدي الأمانة صحيحة سليمة إليه...

(فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب و العدو قد حرب و أمانة الناس قد خزيت و هذه الأمة قد فنكت و شغرت قلبت لابن عمك ظهر المجنّ ففارقته مع المفارقين و خذلته مع الخاذلين و خنته مع الخائنين فلا ابن عمك آسيت و لا الأمانة أديت) كثيرون هم الذين يتغيرون بتغير الزمان فيلبسون لكل وقت لبوسه فإذا كانت الدولة لفلان فهم معه و في ركابه و على موائده، السنة مدح و ثناء و أما إذا وضعه الزمان و رماه بأحداثه تنكروا له و ابتعدوا عنه بل هجوه و حاربوه... صور متحركة ضمن شريط هذه الحياة نراها أمامنا... صور قديمة و حديثه و منها صورة هذا القريب الذي يشتكي منه الإمام فبعد أن اختاره و أكرمه و قرّبه لأنه كان يرى فيه الخير و الإعانة و أداء الأمانة و لكن الزمان غيّره...

الزمان الذي اشتد على الإمام و قسى عليه قسى عليه بظروفه الصعبة التي يمر فيها و يعيشها و كذلك يرى عدوه قد اشتدت شوكته و استأسد و راح في حرب ضروس ضده دون خوف

ص: 450

من اللّٰه أو حساب للآخرة... في وقت خانت الناس أمانتها التي أعطته إياها من الولاء له و الوفاء ببيعته فأخذت تتنكر و تتغير... راحت في مؤامرات خبيثة تكيد له و تبغي عليه و كذلك الأمة قد دب فيها التمزق و روح التمرد و لم يعد هناك من يجمعها و يوحد صفوفها في تلك الظروف الصعبة التي يعيشها ابن عمك و تحيط به كانت المواقف المنحرفة منك و أنت الوالي القريب... لقد أصبحت عليه بعد أن كنت معه... غيرت مواقفك و أبدلت موازينك لقد تحولت إلى جهات أعدائه و مارست معه ما مارسوه معه... خذلته مع الخاذلين فلم تنصره بل انحرفت عنه و خنته مع الخائنين، دخلت في قائمتهم و سلكت سبيلهم و بهذا خيبت ظنه فلم تواسي ابن عمك و تعيش معه في محنته و لا الأمانة التي ائتمنك عليها من حفظ مال المسلمين أديت...

(و كأنك لم تكن اللّٰه تريد بجهادك و كأنك لم تكن على بينة من ربك و كأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم و تنوي غرتهم عن فيئهم فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة و عاجلت الوثبة و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه كأنك - لا أبا لغيرك - حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك و أمك) أراد توبيخه بأعنف ما يكون فشكك في أخلاصه فيما كان يقوم به من جهاد لأن فعله هذا يكشف عن ذاك و كذلك شكك في إيمانه بوعد اللّٰه و وعيده لأن فعله يساوي فعل الجاهل و كذلك شكك في عمله و صحة توجهه و نزّله منزلة من يريد خداع المسلمين بعمله من أجل أن يصطاد دنياهم و يأخذ فيئهم و ما جنته سيوفهم و لذا عند ما سنحت له الفرصة و أصبح عنده القوة و القدرة أسرع إلى أخذ ما تحت يده و عجّل العدو و الخطى لتحصليها و سلب بسرعة مذهلة ما وقع تحت يده من أموالهم المحترمة التي لا يجوز سلبها أو أخذها لأنها مال الأرامل و الأيتام الذين لا معين لهم و لا كفيل و قد وصف هذا الاختطاف بأنه كاختطاف الذئب الوثاب الشديد العدو الذي ظفر بالمعزى المكسورة التي لا تقدر على الفرار...

ثم بيّن أنه حمله إلى الحجاز هاربا به مسرورا مبتهجا لا يخاف ذنبا و لا إثما على ما فعل فكأن هذا المال قد وصل إليه عن أبويه فهو يوصله إلى أبنائه و ورثته.

(فسبحان اللّٰه أما تؤمن بالمعاد أو تخاف نقاش الحساب أيها المعدود - كان - عندنا من أولي الألباب كيف تسيغ شرابا و طعاما و أنت تعلم أنك تأكل حراما و تشرب حراما و تبتاع الإماء و تنكح النساء من أموال اليتامى و المساكين و المؤمنين و المجاهدين الذين أفاء اللّٰه عليهم هذه الأموال و احرز بهم هذه البلاد) استفهم عليه السلام متعجبا منه و منكرا

ص: 451

عليه فعله أما تؤمن بالمعاد و من آمن بالمعاد حسب له حسابه و أعد له عدته و لم يخن أمانته و لم يسلب ما تحت يده.

و كذلك أما تخاف نقاش الحساب و من كان يخاف أن يحاسبه اللّٰه و يعدد عليه كل أفعاله بدون أن يفرط في شيء منها ارتدع عن ارتكاب الحرام و ترفّع عن سلب أموال الأرامل و الأيتام و غيرهم.

ثم أنبّه لعله إلى ضميره يعود و تعجب منه مستنكرا عليه، كيف يشرب هنيئا و يأكل مريئا و يشتري الإماء و ينكح النساء و يدفع مهورهن كيف يفعل كل ذلك بما سلبه من أموال اليتامي الذين يستحقون الشفقة و الرحمة و العطف و الحنان و كذلك من أموال المساكين الذين يتضورون جوعا و من أموال المؤمنين الذين لا يجوز أخذ أموالهم و كذلك تأخذ أموال المجاهدين الذين بذلوا أنفسهم حتى يحصلوا على هذا الفيء و كيف يتخلص من كان خصماؤه يوم القيامة كل هذه الأصناف و ما فيها من الأعداد الضخمة...

(فاتق اللّٰه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني اللّٰه منك لأعذرن إلى اللّٰه فيك و لأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار) أمره عليه السلام أن يتقي اللّٰه و يرجع عن المعصية و ذلك لا يكون إلا بأن يرد لأصحاب الحقوق حقوقهم فلذا أمره بردها.

ثم حذّره إن لم يردها فإنه إذا تمكن منه و وقع تحت يده لسوف يعاقبه بما يعذر فيه إلى اللّٰه و ما يعذر فيه هو عقوبته بما يستحق ليضربنه بسيفه الذي ما وقع على أحد إلا قتله و أدخله النار لأنه سيف لا يقع إلا على مستحق للقتل...

(و و اللّٰه لو أن الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة و لا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما و أزيح الباطل عن مظلمتهما) أقسم عليه السلام و هو الصادق في قسمه لو أن أقرب الناس إليه و هما الحسن و الحسين أكلا أموال اليتامى و المساكين و المجاهدين لم يلن لهما بل كان يأخذهما بالشدة و لن يرضى عنهما حتى يأخذ منهما ما أخذا و يدفع ظلمهما عن الناس.

(و أقسم باللّٰه رب العالمين ما يسرني أن ما أخذته من أموالهم حلال لي أتركه ميراثا لمن بعدي فضح رويدا فكأنك قد بلغت المدى و دفنت تحت الثرى و عرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادى الظالم فيه بالحسرة و يتمنى المضيّع فيه الرجعة و لات حين مناص) أقسم عليه السلام - و هو الصادق - أن هذا المال لو كان له و قد أخذه من حلال لم

ص: 452

يكن في فرح أو سرور أن يتركه لورثته و هؤلاء المساكين و اليتامى و المجاهدين على حالتهم السيئة التي يعيشونها من الحاجة و الفاقة...

ثم أمره بالإمهال على سبيل التهديد بقرب الوصول إلى الغاية التي هي الموت ثم بعدها إلى الدفن تحت التراب في قبر ضيق صغير ثم بعد ذلك يأتي يوم الحساب يوم تعرض فيه أعمال الخلق في ذلك اليوم الذي ينادي فيه الظالم بالحسرة و الأسى و الأسف على ما فعله من قبائح و سيئات فيقول: كما يحكي اللّٰه ذلك: «يٰا حَسْرَتىٰ عَلىٰ مٰا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللّٰهِ » و يتمنى فيه من ضيّع الأعمال الصالحة و لم يوفق إليها أن يعود إلى الدنيا كما حكى اللّٰه أيضا قوله: «قٰالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ » و يأتيه الجواب كلا...

و لكن لا خلاص و لا فكاك و لا نجاة لم تنفع الحسرة و لن يستجاب طلب الرجعة بل كل واحد يجزى بما فعل و ينال ما اكتسب...

ص: 453

42 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عمرو بن أبي سلمة المخزومي، و كان عامله على البحرين، فعزله، و استعمل نعمان بن عجلان الزّرقي مكانه أمّا بعد، فإنّي قد ولّيت نعمان بن عجلان الزّرقيّ على البحرين، و نزعت (1) يدك بلا ذمّ لك، و لا تثريب (2) عليك، فلقد أحسنت الولاية، و أدّيت الأمانة، فأقبل غير ظنين (3)، و لا ملوم (4)، و لا متّهم، و لا مأثوم (5)، فلقد أردت المسير إلى ظلمة (6) أهل الشّام، و أحببت أن تشهد معي، فإنّك ممّن أستظهر به (7) على جهاد العدوّ، و إقامة عمود الدّين، إن شاء اللّٰه.

اللغة

1 - نزع الشيء من مكانه: قلعه و نزع الأمير العامل عزله.

2 - الترثيب: اللوم.

3 - الظنين: المتهم.

4 - الملوم: لامه عذله كدّره بالكلام لإتيانه ما ليس جائزا.

5 - المأثوم: المذنب.

6 - الظلمة: بالتحريك جمع ظالم.

7 - استظهر به: أستعين.

الشرح

اشارة

(أما بعد فإني قد وليت نعمان بن عجلان الزرقي على البحرين و نزعت يدك بلا ذم لك و لا تثريب عليك فلقد أحسنت الولاية و أديت الأمانة فاقبل غير طنين و لا ملوم

ص: 454

و لا متهم و لا مأثوم فلقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام و أحببت أن تشهد معي فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو و إقامة عمود الدين إن شاء اللّٰه) هذا الكتاب أرسله الإمام إلى عامله عمر بن أبي سلمة يخبره فيها بتعيين نعمان بن عجلان محله على البحرين و يستدعيه فيها...

أخبره أنه قد عزله عن عمله و لئلا يتوهم أن عزله كان لجرم اقترفه بين له أن عزله كان بلا ذم له و لا لوم عليه و مدحه بحسن ما تولاه فقد أدى الأمانة فقام بسياسة البلد و إصلاحها و رعاية شئونها فهو غير متهم في أمر شائن و لا تلحقه ملومة عن أمر باطل و لا إثم عليه من معصية اقترفها أو قام بها...

ثم بين له سبب عزله و استدعائه و هو أنه قد عزم على قتال الظالمين من أهل الشام الذين جيشهم معاوية ضده و قادهم لحربه فأحب الإمام أن يكون عمر معه يشهد مواقفه و يخوض حربه ثم أثنى عليه بأنه ممن يعتمد عليهم الإمام و يستعين بهم في هذا الأمر المهم و هو حرب الظالمين و تقوية الإسلام و تعزيز وجوده و تجذير أصوله و حفظها من كل سوء...

ترجمة عمر بن أبي سلمة.

قال صاحب الإصابة:

عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد ربيب النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - أمه أم سلمة أم المؤمنين ولد بالحبشة في السنة الثانية و قيل: قبل ذلك و شهد مع الإمام معركة الجمل توفي بالمدينة سنة ثلاث و ثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان.

و قال ابن أبي الحديد نقلا عن كتاب الاستيعاب لابن عبد البر قال: أما عمر بن أبي سلمة فهو ربيب رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و أبوه أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة يكنى أبا حفص ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة و قيل: إنه كان يوم قبض رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ابن تسع سنين... و قد حفظ عن رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - الحديث.

ترجمة نعمان بن عجلان الزرقي.

قال صاحب الإصابة:

النعمان بن عجلان بن النعمان بن عامر بن زريق الأنصاري الزرقي... قال أبو

ص: 455

عمر: كان لسان الأنصار و شاعرهم و هو الذي خلف على خولة بنت قيس امرأة حمزة بن عبد المطلب بعد قتله و هو القائل يفخر بقومه من أبيات:

فقل لقريش نحن أصحاب مكة *** و يوم حنين و الفوارس في بدر

نصرنا و آوينا النبي و لم نخف *** صروف الليالي و العظيم من الأمر

و قلنا لقوم هاجروا مرحبا بكم *** و أهلا و سهلا قد أمنتم من الفقر

نقاسمكم أموالنا و ديارنا *** كقسمه أيسار الجزور على الشطر

و استعمله علي بن أبي طالب على البحرين فجعل يعطي كل من جاء من بني زريق فقال فيه الشاعر و هو أبو الأسود الدئلي:

أرى فتنة قد ألهت الناس عنكم *** فندلا زريق المال ندل الثعالب

فإن ابن عجلان الذي قد علمتم *** يبدد مال اللّٰه فعل المناهب

كان النعمان هذا لسان الأنصار و شاعرهم و يقال: إنه كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العين إلا أنه كان سيدا و هو القائل يوم السقيفة:

و قلتم حرام نصب سعد و نصبكم *** عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

و أهل أبو بكر لها خير قائم *** و إن عليا كان أخلق بالأمر

و أن هوانا في علي و أنه *** لاهل لها من حيث يدري و لا يدري

ص: 456

43 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني، و هو عامله على أردشير خرّة بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت (1) إلهك، و عصيت إمامك: أنّك تقسم فيء (2) المسلمين الّذي حازته (3) رماحهم و خيولهم، و أريقت (4) عليه دماؤهم، فيمن اعتامك (5) من أعراب قومك. فوالّذي فلق (6) الحبّة، و برأ النّسمة (8)، لئن كان ذلك حقّا لتجدنّ لك عليّ هوانا (9)، و لتخفّنّ (10) عندي ميزانا، فلا تستهن (11) بحقّ ربّك، و لا تصلح دنياك بمحق (12) دينك، فتكون من الأخسرين أعمالا.

ألاّ و إنّ حقّ من قبلك (13) و قبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء: يردون (14) عندي عليه، و يصدرون (15) عنه.

اللغة

1 - أسخطت: أغضبت.

2 - الفيء: الغنيمة و مال الخراج.

3 - حازته: جمعته.

4 - أراق الماء: صبه و الدم سفكه.

5 - أعتامك: اختارك من بين الناس و أصله من العيمة بالكسر و هي خيار المال.

6 - فلق: شق.

7 - برأ: خلق من العدم.

8 - النسمة: النفس، كل دابة فيها روح.

9 - الهوان: الذل.

ص: 457

10 - خفّ : ضد ثقل.

11 - استهان به: استخف به، استحقره و استهزأ به.

12 - محق الشيء: أبطله و محاه.

13 - قبل: بكسر ففتح ظرف بمعنى عند.

14 - يردون: يحضرون المورد و هو ضد الصدور.

15 - يصدرون: يرجعون.

الشرح

(بلغني عنك أمر إن كنت فعلته قد أسخطت إلهك و عصيت إمامك: أنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم و خيولهم و أريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أردشير خرة و كان ضعيفا تصرف فيما ولاه عليه الإمام بدون إذن منه فكانت هذه الرسالة التي هاجمه فيها و هدّده و بين له سوء فعله الشنيع من حيث إنه قسّم ما في بيت مال المسلمين على خاصته و من اصطفاهم من أهله...

أجمل الإمام ما بلغه عنه و لكنه أمر كبير أن كان فعله فقد أغضب ربه من حيث وضعه في غير موضعه و خالف أمره و كذلك عصى إمامه - أراد نفسه - و تمرد على ما أوصاه به.

ثم بين ذلك الأمر إنه تقسيم أموال المسلمين الذين ضحوا و بذلوا و جاهدوا و سفكت دماؤهم من أجل الحصول عليه و الوصول إليه... قد قسمه مصقلة بين حاشيته و من التف حوله من أعراب قومه و ما أجمل كلمة أعراب قومه لأنهم قوم جهّال أخذوا غير حقهم و لو كانوا يفقهون أحكام اللّٰه لرفضوا قبول ما يعطيهم لأنه مال حرام لا يجوز لهم تناوله كما لا يجوز للوالي إعطاؤه...

(فوالذي فلق الحبة و برأ النسمة لئن كان ذلك حقا لتجدن لك عليّ هوانا و لتخفن عندي ميزانا فلا تستهن بحق ربك و لا تصلح دنياك. بمحق دينك فتكون من الأخسرين أعمالا) أقسم عليه السلام باللّٰه الذي شق الحبة اليابسة فأخرج منها زرعا و شجرا و أقسم باللّٰه الذي خلق الأنفس من العدم لئن كان هذا النبأ صادقا سيجد نفسه عند علي ذليلا حقيرا و سيجد نفسه في عذاب و عقاب و هذا ما كنى عنه بخفة الميزان لأن من كان خفيف الميزان يكون صاحب سيئات و من كان كذلك ناله العقاب و العذاب.

ص: 458

ثم نهاه عن الاستخفاف بما فرضه اللّٰه عليه من حفظ الأمانة و أدائها إلى أصحابها و نهاه أن يصلح دنياه بفساد دينه فيرتفع في عطاء قومه و لكنه بسقط في ميزان اللّٰه فيكون من الأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا.

(ألا و إن حق من قبلك و قبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء: يردون عندي عليه و يصدرون عنه) بيّن عليه السلام تشريعا دقيقا مفاده أن في المسلمين في أي بلد خرج منه لا يخصّ ذلك البلد بل يشمل جميع المسلمين و يجب أن يوزع عليهم بالسوية و لا تظلم البلدة التي يكثر سكانها و يقل خراجها بينما تتنعم البلدة التي يقل سكانها و يكثر خراجها فيقع الظلم ثم إن الفيء يجب أن يراجع فيه الخليفة كي يدرس طريقة توزيعه بما يضمن العدالة بين أفراد المجتمع، فإليه يعود و منه يخرج مجددا فبيده الميزانية العامة التي يدرس على أساسها قضية التوزيع...

و أيضا لو أن كل عامل أراد أن يتصرف كيف يشاء فتتحول البلاد إلى ولايات مستقلة عن بعضها لا ترابط فيما بينها و لا وحدة تجمعها و هذا من أشد دواعي التفكك و الانهيار... و من هنا قال: إن من حق من هو عندنا و عندكم من الناس على حد سواء يتساوون في قسمة الفيء و لكل نصيبه الذي يتساوى فيه مع الآخرين و هذا يجب أن يكون عن يدي رأس الدولة و منه و هذا لا يكون إلا بأن يجبى الفيء إليه ثم يعود منه إلى الناس...

ص: 459

44 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى زياد بن أبيه، و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه و قد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ (1) لبّك (2)، و يستفلّ (3) غربك (4)، فاحذره، فإنّما هو الشّيطان: يأتي المرء من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله، ليقتحم (5) غفلته (6)، و يستلب (7) غرّته (8).

و قد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطّاب فلتة (9) من حديث النّفس، و نزغة (10) من نزغات الشّيطان: لا يثبت بها نسب، و لا يستحقّ بها إرث، و المتعلّق بها كالواغل المدفّع، و النّوط المذبذب.

فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها و ربّ الكعبة، و لم تزل في نفسه حتى ادّعاه معاوية.

قال الرضي: قوله عليه السلام: «الواغل» هو الذي يهجم على الشّرب ليشرب معهم، و ليس منهم، فلا يزال مدفّعا محاجزا. و «النّوط المذبذب» هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك، فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره و استعجل سيره.

اللغة

1 - يستزل: يطلب زلله أي خطأه.

2 - اللب: العقل.

3 - الاستفلال: طلب الفل و هو ثلم الحد.

4 - غرب السيف: حده.

5 - اقتحم: هجم و دخل.

6 - الغفلة: عدم التنبه.

7 - يستلب: يأخذ و ينتزع.

ص: 460

8 - الغرة: خلو العقل من ضروب الحيل.

9 - الفلتة: الأمر يقع من غير تثبت و لا روية.

10 - نزغة: كلمة فاسدة.

الشرح

اشارة

(و قد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك و يستفل غربك فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله ليقتحم غفلته و يستلب غرته) زياد بن أبيه و زياد بن سمية و زياد بن عبيد و زياد بن أمه... و ما أكثر الأسماء و ما أحقر الهر، و تعدد الانتماء دليل ضياع نسب المرء... و زياد هذا كان من شيعة الإمام و قد ولاه على بعض أعمال فارس فضبطها و أصلحها و جنى خراجها و أحسن السياسة فيها و بينما هو في عمله كتب إليه معاوية كتابا يتهدده فيه فيرد عليه زياد بأقسى منه و هكذا دارت بينهما الكتب إلى أن ارتأى المغيرة بن شعبة - الداهية الفاجر - على معاوية أن ينسبه إلى أبيه أبي سفيان و بذلك يرضيه و يكتسبه إلى جانبه فنفّذ معاوية ما أشير به عليه و وصل الخبر إلى الإمام فكتب له هذه الرسالة و فيها:

أولا: يخبره أنه قد عرف ما جرى بينه و بين معاوية و هذا يكشف أن الإمام كان يرصد أعمال الولاة و يضع عليهم من ينقل إليه أخبارهم و ما يجري بينهم و بين غيرهم و خصوصا في حالة الحرب إذا كانت قائمة.

ثانيا: يخبره أن في الرسالة المرسلة من معاوية ما يمكن أن يكسر حدة زياد على معاوية و موقفه الشديد منه، فإن موقف زياد و تصميمه و عزمه أن يكون في جبهة الحق مع الإمام فيريد معاوية من خلال رسالته أن يحرفه عن خطه و يصرفه عن رأيه.

ثالثا: حذّره معاوية و أنزله منزلة الشيطان الذي يأتي الإنسان من جميع جهاته ليصرفه عن اللّٰه في حالة الغفلة لكي يختلس عقله الصحيح و يوجهه بمقتضى الباطل الذي يريد و هذا مأخوذ من قوله تعالى حكاية عن إبليس: «قٰالَ فَبِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمٰانِهِمْ وَ عَنْ شَمٰائِلِهِمْ وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ » .(1)

(و قد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس و نزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها نسب و لا يستحق بها إرث و المتعلق بها كالواغل المدفع

ص: 461


1- سورة الأعراف، آية - 16-17.

و النوط المذبذب) هذا ما أراد الإمام ذكره لزياد و تنبيهه منه و هو أن ما دخل معاوية معك فيه و أراد أن يصرفك عما أنت عليه من الحق أمر غير شرعي و لا صحيح و ما صدر من أبي سفيان زمن عمر إنما كان بدون تفكّر و لا روية و إنما كان حديث نفس لا صحة له و حركة شيطانية تحرك بها أبو سفيان فإذ قبلتها تدافع بها و لا تصل إلى مرادك فأنت كالواغل المدفع أي كالذي يدخل من الحيوانات مع غيره ليشرب فلا يزال تدفعه هذه و تلك و هكذا أو هو كالنوط المذبذب أي القعب أو السطل المعلق برحل الراكب يتحرك باستمرار و لا يستقر على حال و كلما مشى ازداد حركة فكذلك نسب زياد لا يثبت بهذا الشكل أبدا.

ترجمة زياد بن أبيه.
اشارة

زياد بن أبيه (لمجهولية أبيه).

زياد بن عبيد: نسبة إلى عبيد و هو من العبيد أو من ثقيف على قول.

زياد بن سمية: نسبة إلى أمه و كانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي طبيب العرب و كانت تحت عبيد.

زياد بن أمه.

و أخيرا عند ما تربع معاوية على كرسي الحكم استهل حكمه بإلحاق زياد بأبي سفيان فصار يدعى زياد بن أبي سفيان و كما يقول ابن أبي الحديد: و لما استحلق قال له أكثر الناس: زياد بن أبي سفيان لأن الناس مع الملوك الذين هم مظنة الرهبة و الرغبة و ليس اتباع الدين بالنسبة إلى اتباع الملوك إلا كالقطرة في البحر المحيط فأما ما كان يدعى به قبل الاستلحاق فزياد بن عبيد و لا يشك في ذلك أحد...

و حديث أبي سفيان في زمن عمر كما يرويه ابن أبي الحديد عن كتاب الاستيعاب لابن عبد البر هو: إن عمر بعث زيادا في إصلاح فساد وقع باليمن فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها - و أبو سفيان حاضر و كذلك علي عليه السلام و عمرو بن العاص - فقال عمرو بن العاص: للّٰه أبو هذا الغلام لو كان قريشا لساق العرب بعصاه.

فقال أبو سفيان: إنه لقرشي و إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه.

فقال علي عليه السلام: و من هو؟.

قال: أنا.

فقال: مهلا يا أبا سفيان...

ص: 462

الاستلحاق السياسي.

لم يغفل معاوية عن باب من الأبواب التي تخدمه إلا و استعملها ضاربا بذلك الدين و الأخلاق و الكرامة عرض الحائط و لذا استهل حكمه باستلحاق زياد بأبي سفيان ليكون له أخا قريبا و خصوصا أنه كان من شيعة علي و أعرف الناس بأصحاب علي و خواصه و من هم على نهجه و لذا استعمله على العراق بعد الاستلحاق و كان لشيعة علي على يديه أعظم المآسي و أشدها فقد لاحقهم تحت كل حجر و مدر و هو عارف بهم خبير بنواياهم...

تم الاستلحاق سنة أربع و أربعين و قد رواه المؤرخون بهذه الصورة المشينة التي يخجل منها الغيور.

روى علي بن محمد المدائني كما في نهج البلاغة للمعتزلي قال: لما أراد معاوية استلحاق زياد و قد قدم عليه الشام جمع الناس و صعد المنبر و أصعد زيادا فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت مرقاته و حمد اللّٰه و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد فمن كان عنده شهادة فليقم بها فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان و أنهم سمعوا ما أقر به قبل موته فقام أبو مريم السلولي - و كان خمارا في الجاهلية - فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف فأتاني فاشتريت له لحما و خمرا و طعاما فلما أكل قال: يا أبا مريم أصب لي بغيا فخرجت فأتيت بسمية فقلت لها: إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده و قد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك ؟.

فقالت: نعم يجيء الآن عبيد بغنمه - و كان راعيا - فإذا تعشى و وضع رأسه أتيته فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته فلم تلبث أن جاءت تجر ذيلها فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت فقلت له لما انصرفت: كيف رأيت صاحبتك ؟.

قال: خير صاحبة لولا ذفر في إبطيها.

فقال زياد من فوق المنبر: يا أبا مريم لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك.

فلما انقضى كلام معاوية و مناشدته قام زياد و أنصت الناس فحمد اللّٰه و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن معاوية و الشهود قد قالوا ما سمعتم و لست أدري حق هذا من باطله هو و الشهود أعلم بما قالوا و إنما عبيد أب مبرور و وال مشكور ثم نزل...

بهذه الصورة المسرحية تمت عملية الاستلحاق التي لا يقرها شرع و لا دين و لا عقل و لكنها سياسة معاوية الماكرة التي لا تعترف بالإسلام و شرعه...

ص: 463

يقول التاريخ: إن أبا بكرة أخا زيد لأمه، أمهما جميعا سمية حلف أن لا يكلّم زيادا أبدا و قال: هذا زنّى أمه و انتفى من أبيه و لا و اللّٰه ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط ويله ما يصنع بأم حبيبة أ يريد أن يراها فإن حجبته فضحته و إن رآها فيا لها مصيبة يهتك من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - حرمة عظيمة...

و قد أنشد عبد الرحمن بن الحكم في هذا الاستلحاق:

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** لقد ضاقت بما يأتي اليدان

أتغضب أن يقال أبوك عف *** و ترضى أن يقال أبوك زان

فأشهد أن رحمك من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان

و أشهد أنها حملت زيادا *** و صخر من سمية غير دان

و أختم الحديث عن هذا الخبيث بقول الحسن البصري: ثلاثة كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها و استلحقاه زيادا مراغمة لقول رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - الولد للفراش و للعاهر الحجر و قتله حجر بن عدي فيا ويله من حجر و أصحاب حجر.

ص: 464

45 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - و كان عامله على البصرة و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها - قوله:

أمّا بعد، يابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلا من فتية (1) أهل البصرة دعاك إلى مأدبة (2) فأسرعت (3) إليها تستطاب (4) لك الألوان، و تنقل إليك الجفان (5). و ما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم (6) مجفوّ (7)، و غنيّهم مدعوّ. فانظر إلى ما تقضمه (8) من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه (9)، و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل (10) منه.

ألا و إنّ لكلّ مأموم إماما، يقتدي (11) به و يستضيء بنور علمه، ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (12)، و من طعمه (13) بقرصيه (14). ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك، ول كن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفّة و سداد (15). فو اللّٰه ما كنزت (16) من دنياكم تبرا (17)، و لا ادّخرت (18) من غنائمها (19) وفرا (20)، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت (21) من أرضها شبرا (22)، و لا أخذت منه إلاّ كقوت أتان (23) دبرة (24)، و لهي في عيني أوهى (25) و أهون (26) من عفصة (27) مقرة (28). بلى! كانت في أيدينا فدك (29) من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم اللّٰه. و ما أصنع بفدك. و غير فدك، و النّفس مظانّها (30) في غد جدث (31) تنقطع في ظلمته آثارها، و تغيب أخبارها،

ص: 465

و حفرة لو زيد في فسحتها (32)، و أوسعت يدا حافرها، لأضغطها (33) الحجر و المدر (34)، و سدّ فرجها (35) التّراب المتراكم (36)، و إنّما هي نفسي أروضها (37) بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، و تثبت (38) على جوانب المزلق (39). و لو شئت لاهتديت الطّريق، إلى مصفّى (40) هذا العسل، و لباب (41) هذا القمح (42)، و نسائج (43) هذا القزّ (44). و لكن هيهات أن يغلبني هواي (45)، و يقودني (46) جشعي (47) إلى تخيّر الأطعمة - و لعلّ بالحجاز (48) أو اليمامة (49) من لا طمع له في القرص (50)، و لا عهد له (51) بالشّبع (52) - أو أبيت مبطانا (53) و حولي بطون غرثى (54) و أكباد حرّى (55)، أو أكون كما قال القائل:

و حسبك داء (56) أن تبيت ببطنة (57) *** و حولك أكباد تحنّ (58) إلى القدّ (59)

أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة (60) العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة (61) المربوطة، همّها علفها (62)، أو المرسلة (63) شغلها تقمّمها (64)، تكترش (65) من أعلافها، و تلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى (66)، أو أهمل عابثا (67)، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف (68) طريق المتاهة (69)! و كأنّي بقائلكم يقول: «إذا كان هذا قوت (70) ابن أبي طالب، فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران (71)، و منازلة (72) الشّجعان». ألا و إنّ الشّجرة البرّيّة (73) أصلب عودا، و الرّواتع الخضرة (74) أرقّ جلودا، و النّابتات العذية (75) أقوى و قودا (76)، و أبطأ خمودا (77). و أنا من رسول اللّٰه كالضّوء من الضّوء (78)، و الذّراع (79) من العضد (80). و اللّٰه لو تظاهرت العرب (81) على قتالي لما ولّيت عنها (82)، و لو أمكنت الفرص (83) من

ص: 466

رقابها (84) لسارعت إليها. و سأجهد (85) في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس (86)، و الجسم المركوس (87)، حتّى تخرج المدرة (88) من بين حبّ الحصيد (89).

و من هذا الكتاب، و هو آخره:

إليك عنّي (90) يا دنيا، فحبلك على غاربك (91)، قد انسللت (92) من مخالبك (93)، و أفلتّ (94) من حبائلك (95)، و اجتنبت الذّهاب في مداحضك (96). أين القرون (97) الّذين غررتهم بمداعبك (98)! أين الأمم (99) الّذين فتنتهم (100) بزخارفك (101)! فها هم رهائن القبور، و مضامين اللّحود (102). و اللّٰه لو كنت شخصا مرئيّا (103)، و قالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود اللّٰه (104) في عباد غررتهم بالأماني، و أمم ألقيتهم في المهاوي (105)، و ملوك أسلمتهم إلى التّلف (106)، و أوردتهم (107) موارد البلاء (108)، إذ لا ورد و لا صدر! هيهات! من وطىء (109) دحضك (110) زلق (111)، و من ركب لججك (112) غرق، و من ازورّ (113) عن حبائلك وفّق، و السّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه (114)، و الدّنيا عنده كيوم حان (115) انسلاخه (116).

اعزبي (117) عنّي! فو اللّٰه لا أذلّ لك فتستذلّيني، و لا أسلس (118) لك فتقوديني. و ايم اللّٰه (119) - يمينا أستثني فيها بمشيئة اللّٰه - لأروضنّ (120) نفسي رياضة تهشّ (121) معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، و تقنع بالملح مأدوما (122)، و لأدعنّ (123) مقلتي (124) كعين ماء، نضب (125) معينها (126)، مستفرغة (127) دموعها. أ تمتلئ السّائمة (128) من رعيها (129) فتبرك (130)؟ و تشبع الرّبيضة (131) من عشبها فتربض ؟ و يأكل عليّ من زاده (132) فيهجع (133)! قرّت (134) إذا عينه إذا اقتدى بعد السّنين

ص: 467

المتطاولة (135) بالبهيمة (136) الهاملة (137)، و السّائمة المرعيّة!.

طوبى (138) لنفس أدّت إلى ربّها فرضها (139)، و عركت بجنبها بؤسها (140)، و هجرت في اللّيل غمضها (141)، حتّى إذا غلب الكرى (142) عليها افترشت أرضها (143)، و توسّدت كفّها (144)، في معشر (145) أسهر عيونهم خوف معادهم، و تجافت (146) عن مضاجعهم (147) جنوبهم (148) و همهمت (149) بذكر ربّهم شفاههم، و تقشّعت (150) بطول استغفارهم ذبوبهم، «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ » .

فاتّق اللّٰه يابن حنيف، و لتكفف أقراصك، ليكون من النّار خلاصك.

اللغة

1 - فتية: جمع فتى الشاب، و الجواد.

2 - المأدبة: بضم الدال الطعام يدعى إليه القوم.

3 - أسرع إلى الشيء: بادر مستعجلا.

4 - تستطاب لك: يطلب لك طيبها.

5 - الجفان: بكسر الجيم جمع جفنة و هي القصعة، القدر.

6 - عائلهم: فقير.

7 - مجفو: مبعد و مطرود.

8 - القضم: ما يؤكل ببعض الفم.

9 - ألفظه: أطرحه و أرميه.

10 - فنل: من نال المطلوب أصابه.

11 - الاقتداء: الإتباع.

12 - الطمر: بكسر الطاء الثوب الخلق البالي.

13 - طعمه: بضم الطاء ما يطعمه يأكله و يفطر عليه.

14 - القرص: الرغيف.

15 - السداد: التصرف الرشيد.

16 - كنز المال: ادخره لوقت الحاجة و الكنز هو المال المدخر تحت الأرض.

ص: 468

17 - التبر: فتات الذهب و الفضة قبل أن يصاغ.

18 - ادخرت: خبأت لوقت الحاجة.

19 - الغنائم: جمع غنيمة ما يؤخذ في الحرب من الأموال و المواشي و غيرها.

20 - الوفر: المال.

21 - حاز الشيء: ضمه و جمعه، حصل عليه.

22 - الشبر: جمعه أشبار ما بين طرف الإبهام و طرف الخنصر ممتدين.

23 - الأتان: أنثى الحمار.

24 - الدبرة: هي التي عقر ظهرها فقل أكلها.

25 - أوهى: أضعف.

26 - أهون: أحقر و أذل.

27 - العفصة: حبة كالبندقة تستعمل في دبغ الجلود و يتخذ منها الحبر و هي مرة تنفر النفس منها.

28 - المقرة: المرة.

29 - فدك: قرية حجازية كانت لرسول اللّٰه أعطاها لابنته الزهراء ثم سلبها منها أبو بكر.

30 - المظان: جمع مظنة و هو المكان الذي يظن فيه وجود الشيء.

31 - الجدث: القبر.

32 - الفسحة: السعة.

33 - أضغطها: ضيقها.

34 - المدر: التراب المتلبد أو قطع الطين.

35 - فرجها: جمع فرجة الفسحة بين الشيئين.

36 - المتراكم: المجتمع بعضه فوق بعض.

37 - أروضها: أذللها.

38 - تثبت: تستقر.

39 - المزلق: موضع الزلل الذي يخشى أن تزل القدم فيه.

40 - المصفى: من الصفاء النقاء، الخالص من الشيء.

41 - اللباب: المختار الخالص من كل شيء.

42 - القمح: الحنطة.

43 - النسائج: جمع نسيجة المنسوج و هو المحاك.

44 - القز: الحرير.

45 - غلبه هواه: قهره.

46 - يقودني: من قاد الدابة إذا مشى أمامها آخذا بقيادها.

ص: 469

47 - الجشع: شدة الحرص.

48 - الحجاز: بالكسر و هي مكة و المدينة و الطائف و فهم.

49 - اليمامة: بلد كبير في أطراف اليمن.

50 - القرص: الرغيف.

51 - لا عهد له بالأمر الفلاني: لا يعرفه.

52 - الشبع: امتلاء البطن.

53 - المبطان: عظيم البطن لكثرة الأكل.

54 - بطون غرثى: جائعة.

55 - أكباد حرى: عطشى.

56 - داء: مرضا.

57 - البطنة: بكسر الباء الكظة، البطر و الأشر.

58 - حنّ : اشتاق.

59 - القد: بالكسر سير من جلد غير مدبوغ.

60 - الجشوبة: الخشونة و الغلظة.

61 - البهيمة: جمعها بهائم كل ذات أربع قوائم من دواب البر و البحر ما عدا السباع و الطيور.

62 - العلف: ما تأكله الدابة من تبن و حشيش.

63 - المرسلة: المطلقة غير المقيدة، المهملة ترعى كما تشاء.

64 - التقمم: أكل الشاة ما بين يديها بفمها.

65 - تكترش: تملأ كرشها.

66 - سدى: مهمل.

67 - العبث: اللهو بدون فائدة.

68 - الاعتساف: السلوك في غير الطريق الواضح.

69 - المتاهة: الأرض يتاه فيها.

70 - القوت: ما يأكله الإنسان و يقتات به.

71 - الأقران: جمع قرن و هو الكفو في المبارزة و القتال.

72 - المنازلة: المقابلة في القتال و النزول إلى الأخصام.

73 - الشجرة البرية: الشجرة التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه.

74 - الرواتع الخضرة: الشجر و النبات النابت على الماء.

75 - العذية: و العذي، بسكون الذال الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر.

76 - الوقود: اشتعال النار.

ص: 470

77 - الخمود: من خمدت النار إذا سكن لهبها و لم يطفأ جمرها.

78 - الصنو: إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكل واحدة هي صنو الأخرى.

79 - الذراع: من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى.

80 - العضد: و هو من المرفق إلى الكتف.

81 - تظاهرت العرب: تعاونت و اجتمعت.

82 - تولى عنه: تركه و أعرض عنه، و تولى هرب وفر.

83 - أمكنت الفرص: تسهلت و قدر و مكنّه من الشيء جعل له سلطانا و قدرة.

84 - الرقاب: جمع الرقبة، العنق أو مؤخرة.

85 - سأجهد: سأبذل و سعي و طاقتي و قدرتي.

86 - المعكوس: المقلوب.

87 - المركوس: من ركس الشيء ركسا إذا قلب أوله على آخره.

88 - المدرة: قطعة التراب الجامدة.

89 - حب الحصيد: حب النبات المحصود.

90 - إليك عني: اذهبي عني و ابعدي.

91 - الغارب: الكاهل، أعلى الظهر مما يلي العنق و حبلك على غاربك كناية من كنايات الطلاق، أي اذهبي حيث شئت.

92 - انسل: تسلل انطلق في استخفاء، انتزع الشيء و أخرجه برفق.

93 - المخالب: جمع مخلب و هو للطيور كالظفر للإنسان.

94 - أفلت: تخلّصت.

95 - الحبائل: جمع حبالة و هي شبكة الصياد.

96 - المداحض: المساقط و المزالق.

97 - القرون: جمع قرن و هم الناس أهل زمان واحد.

98 - المداعب: جمع مدعبة من الدعابة و هي المزاح.

99 - الأمم: الجماعات، الجيل من الناس.

100 - فتنتهم: من الفتنة و هي الابتلاء، الاستمالة إلى الشيء، الانحراف عن الدين.

101 - الزخارف: جمع زخرف ما يتزين به.

102 - مضامين اللحود: الذين تضمنتهم القبور.

103 - مرئيا: منظورا.

104 - حدود اللّٰه: ما فرضه اللّٰه من العقوبات.

105 - المهاوي: المهالك.

106 - التلف: الهلاك.

ص: 471

107 - الورود: الذهاب إلى الشيء و القدوم عليه ضد الصدور.

108 - البلاء: المصائب.

109 - وطأ الشيء: داسه.

110 - الدحض: المكان الذي لا تثبت عليه القدم فتزلّ .

111 - الزلق: الزلل و السقوط.

112 - اللجج: جمع لجة و هي معظم البحر و أعمق أماكنه.

113 - أزور: تنحى و مال.

114 - المناخ: مبرك البعير.

115 - حان: اقترب.

116 - انسلاخه: انقضاؤه من سلخ الجلد إذا كشطه و نزعه.

117 - اغربي: أبعدي.

118 - أسلس: انقاد.

119 - أيم اللّٰه: صيغة من صيغ اليمين.

120 - لأروضن: من الرياضة التأديب و التعويد.

121 - تهش: تفرح.

122 - المأدوم: ما يؤكل مع الخبز.

123 - لأدعن: لأتركن.

124 - مقلتي: عيني.

125 - نضب: جف و غار.

126 - معينها: ماؤها الجاري.

127 - استفرغ الشيء: انتهى منه.

128 - السائمة: الأنعام السارحة.

129 - رعيها: بكسر الراء الكلأ.

130 - تبرك: تنام و تستقر.

131 - الربيضة: الجماعة الجالسة، الرابضة من الغنم، و الربوض للغنم كالبروك للإبل.

132 - الزاد: ما يتخذ من الطعام للسفر.

133 - يهجع: ينام.

134 - قرت العين: إذا بردت، دعاء له.

135 - المتطاولة: الممتدة الطويلة و تطاول عليه العمر طال.

136 - البهيمة: كل ذوات أربع من الحيوان ما عدا السباع و الطيور.

137 - الهاملة: المتروكة على رسلها.

ص: 472

138 - طوبى: سعادة و غبطة و طوبى لك أي لك الحظ و العيش الطيب.

139 - الفرض: الواجب.

140 - البؤس: الضر و عركت بجنبها بؤسها كناية عن الصبر على الأذى.

141 - الغمض: بالضم النوم.

142 - الكرى: النعاس.

143 - افترشت أرضها: جعلت الأرض فراشا لها.

144 - توسدت كفها: جعلت كفها وسادة.

145 - معشر: جماعة.

146 - تجافت: تباعدت.

147 - المضاجع: جمع مضجع موضع النوم.

148 - جنوبها: من الجنب شق الإنسان و غيره.

149 - الهمهمة: الصوت الخفي.

150 - تقشعت الذنوب: زالت و ذهبت كما يتقشع الغمام أي ينكشف.

الشرح

(أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان و تنقل إليك الجفان) وليمة دعي إليها و إلي البصرة عثمان بن حنيف فسمع علي بالنبأ فاهتز له و عاتب و اليه بهذا العتاب الحاد و وعظه بهذه الموعظة البليغة التي تكشف عن مدى زهد الإمام و مراقبته لعماله و كيف كان يعيش هموم الناس و قضاياهم... وليمة يقيمها أحد أشراف البصرة و شبابها يدعو لها الوالي و على العادة فإن الوجهاء تخطب ود الولاة و أصحاب السلطة ليحفظوا لهم اميتازاتهم و يدوم لهم مقامهم... و يقبل الوالي فيسمع الإمام فيوجه إليه هذا التأنيب... أسرعت إليها - إلى الوليمة - و قد طلب لك صاحبها ما طاب من الطعام و ما تنوع منه و تعدّد و راحت الجفان - القصاع - تنقل إليك احتفاء بك و أكراما لك... دعيت فأسرعت بدون وعي أو تفكر و بدون أن تحسب لمن ولاك حسابا... بدون أن تفكر في الجياع و من لا عهد لهم بالشبع... و بدون أن تنظر إلى من دعي إليها و ما وراءها و ما يطلب منها...

(و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو و غنيهم مدعو فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه) استبعد الإمام أن يستجيب ابن حنيف إلى هذه الوليمة... كان يرتكز في ذهن الإمام أن

ص: 473

كل من يوليه يجب أن يحفظ مقامه الذي يجلس فيه... و الوالي خادم الأمة و كفيلها و مسئول عن كل فرد فيها... يجب أن يراعي ما يصلحها و يقوم بما يؤدبها... يجب أن يكون دقيق الملاحظة يخترق بفكره ما هو حاضر إلى ما يأتي و يحيط بالأمور من جميع جوانبها و لذا يستبعد الإمام من ابن حنيف أن يستجيب إلى وليمة قوم الفقير منهم مطرود بعيد لم يدع إليها بينما الغني القادر هو المدعو... و من هنا كان استياء الإمام للاستجابة لهذه الوليمة... الدعوة إلى الطعام حق للفقراء و المعوزين لأن إشباعهم فيه أجر و ثواب و هو بالتالي فرض على الأمة أما أن يقصى هؤلاء و يكرم القادرون و المتمكنون فهذا مورد العجب و الاستبعاد...

ثم أمره أن يجتنب كل أمر فيه شبهة حرام فلا يقترب منه أو يتناوله... أمره أن يدفع عنه كل ما يشتبه به و يأخذ ما يتيقن بحليته.

(ألا و أن لكل مأموم إماما يقتدي به و يستضيء بنور علمه ألا و إن أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه و من طعمه بقرصيه ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك و لكن أعينوني بورع و اجتهاد و عفة و سداد) بيّن عليه السلام أن لكل مأموم إماما يقتدي به و يتأسى بأفعاله و يتبع منهجه و طريقة حياته... فالإمام بالنسبة إلى المأموم قدوة ينظر إليه على أنه مثل أعلى يقتفى أثره و يتبع في كل حركاته و تصرفاته.

ثم نبهه إلى أن إمامه في هذا الزمن فهو خليفة و ابن حنيف وال من ولاته و على الولاة أن ينظروا إلى مسيرة الخليفة و طريقة حياته و كيف يتحرك فيفعل الجميع كما يفعل...

ثم بين طريقة حياته و أسلوب مسيرته. إنه إمام الولاة و إمام الخلق جميعا و مع ذلك اكتفى من دنياه كلها التي يحويها و يحكمها و بيده خزائن الأموال مع ذلك اكتفى بطمريه بثوبيه الباليين.

و أما طعامه الذي كان يتناوله و يتغذى به فلا يتعدى قرصين من شعير غير منخول.

ثم عذرهم إذا لم يقدروا على فعل ما يفعل و لم يستطيعوا القيام بما يقوم به لأنهم يحتاجون إلى رياضة نفسية و إيمان بمستوى ما عنده و هم عاجزون عن ذلك و لكنه مع ذلك أمرهم أن يعينوه على أنفسهم بالورع الذي يعني ترك المحرمات و فعل الواجبات و الاجتهاد و هو أن يبذلوا قدرتهم في تحري الحقيقة و العمل بها و العفة و هو التنزه عن كل أمر يشين و السداد و هو الرشاد الذي يأخذ بأيديهم إلى صالح الأعمال.

(فو اللّٰه ما كنزت من دنياكم تبرا و لا ادخرت من غنائمها وفرا و لا أعددت لبالي ثوبي

ص: 474

طمرا و لا حزت من أرضها شبرا و لا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة و لهي في عيني أوهى و أهون من عفصة مقرة) نفى عليه السلام بالقسم باللّٰه أنه ما جمع شيئا من ذهب الدنيا و فضتها و لا وفر شيئا من غنائمها و منافعها و مالها و لا هيأ رقعة يرقع بها ثوبه البالي كما أنه لم يملك من أرض الدنيا شبرا حقيرا يستفيد منه و ينتفع به...

إنه علي الذي نفض يديه من مال الدنيا و تراثها يعلن ذلك و يقول: إنه لم يأخذ من قوت الدنيا إلا ما تأخذه الأتان التي عقر ظهرها فقل أكلها لانشغالها بألمها شبّهه بذلك لقلته و حقارته...

ثم بين احتقاره للدنيا و مدى صغرها في عينه فقال: إنها أحقر و أضعف من حبة عفص التي لا تقبلها النفس بل تتقزز منها و تنفر عنها و كذلك الدنيا في عين علي...

(بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين و نعم الحكم اللّٰه و ما أصنع بفدك و غير فدك و النفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها و تغيب أخبارها) استثنى عليه السلام من ملك الدنيا كلها «فدك» و هي منحة أو ميراث من رسول اللّٰه إلى الزهراء و لكن حتى هذه لم تسلم لها بل ادعى أبو بكر حديثا انفرد بنقله و لم ينقل عن لسان أحد من المسلمين يقول فيه عن النبي: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» و بهذا منع الزهراء ميراثها من أبيها النبي و قد احتجت عليها السلام بآيات الكتاب التي تعم المسلمين في الميراث و كذلك بآيات الميراث في الأنبياء و جاءت بالشهود و لكن كل محاولاتها صلوات اللّٰه عليها لم تنجح فقد قرر الخليفة أن يحرمها ميراثها لغرض يبتغيه و حاجة في نفسه... و لذا يقول الإمام فشحت عليها نفوس قوم أي بخلت بها و سلبتها من أصحابها و سخت عنها نفوس أهل البيت أشاحوا عنها و لم يجعلوها موردا للتنازع و الخصام كما يقع بين عوام الناس ثم رد الحكم إلى اللّٰه فهو الذي يحكم بها يوم القيامة و يقتص ممن عليه الحق و وقع منه الظلم ثم استفهم مستنكرا على نفسه ليعلمنا و غيرنا أيضا بأنه ما ذا يفعل بفدك و غير فدك من متاع الدنيا و ما ذا ينفعه كل ذلك و نهايته الأخيرة إلى قبر مظلم لا يبقى لهذا البدن أثرا و لا ينقل منه خبر و من تفكر في ذلك المصير و تلك النهاية سقطت من عينه كل أموال الدنيا و متاعها فضلا عن فدك و ما فيها...

(و حفرة لو زيد في فسحتها و أوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر و المدر و سد فرجها التراب المتراكم و إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر و تثبت على جوانب المزلق) و هذه هي النهاية حفرة صغيرة لو أراد حافرها زيادتها

ص: 475

و توسيعها و تكبيرها عما هي عليه لم تنفع صاحبها المقيم فيها شيئا بل الحجر و المدر سيضغط عليه و سيسد التراب كل ثغرة أو نافذة فيها... سينقطع عنها الهواء و تضيق على ساكنها مهما أو سعتها يدا حافرها... و إذا كانت هذه النهاية لا بد منها و هذا القبر لا بد منه فما ذا يعمل علي إنه يريد أن يبيّن لنا طريقته في إسعاد نفسه... إنه يريد بعزوفه عن الدنيا و تقشفه أن يروض نفسه بالتقوى أي يحملها عليها و يعودها منهاجها حتى تأتي يوم القيامة يوم الحساب و العقاب و الفزع آمنة مطمئنة و تستقر أقدامها في الأماكن التي تزل فيها أقدام العصاة و أهل التمرد و النفاق...

(و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القز و لكن هيهات أن يغلبني هواي و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة و لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص و لا عهد له بالشبع - أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرى أو أكون كما قال القائل:

و حسبك داء أن تبيت ببطنة *** و حولك أكباد تحن إلى القد)

بين عليه السلام أن زهده في الطيبات لم يكن عن حاجة و فقر أو عجز عن تحصيلها بل لو أراد ذلك لاهتدى إليه و لوقع كل ذلك تحت يديه... لو أراد لوصل إلى الطريق الموصل إلى العسل المصفى و لباب القمح و أحسن منسوجات الحرير و أنعمها لوصل و لكنه عليه السلام مع معرفته بكل الطرق الموصلة إلى ذلك و كل الأسباب المؤدية إلى هذه الأمور إنه لم و لن يترك لهواه أن يقوده و يدفعه إلى أن يختار شيئا من هذه الأطعمة... كيف يتخير الطعام الطيب ؟ و هو يفكر في أقاصي ما يحكمه من البلاد...

يفكر في الحجاز و اليمامة و غيرهما فلعل أحدا من سكانهما و سكان غيرهما لا ينال رغيف الخبز و لم يشبع منذ زمن طويل...

إنه نهج فريد في تاريخ الحكام... نهج علي الذي يعيش في الدنيا مع كل فرد من أفراد الأمة... إنه يفكر في أولئك الناس الذين ربما لم يشبعوا و لم يحصلوا على رغيف يسدوا به جوعتهم... فهل يتعلم الحكام منه دروس العفة و الحفاظ على شعوبها؟!...

إنه الطمع و الجشع - الذي ينفيه الإمام عن نفسه - هو الذي يقود الحكام إلى أن يعيشوا الترف و البذخ و الإسراف دون أن يفكروا في شعوبهم و من يحكمونهم... فليمت كل الشعب و ليبقى الحاكم على ملذاته و شهواته...

ثم ينفي عن نفسه أن يأكل فيمتلئ و في المقابل أن يكون هناك بطون جياع و أكباد عطشى تشتاق و ترغب بالقليل القليل.

ص: 476

ثم نفى أن يكون مصداقا لقول القائل و هو حاتم بن عبد الله الطائي و مفاد الشعر أن من المرض الشديد أن تأكل حتى تمتلئ و حولك شعب يتمنى أن يطال القد و هو الجلد الذي لا يؤكل و لا يستساغ فأنت تأكل حتى تمرض و تبذح و تسرف و شعبك يرمق الحياة فيتمنى أن تقع يده على كسرة ليسد جوعته و يرفع ألم المجاعة عنه...

(أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش) يرفض الإمام كل قناعته بإمرة المؤمنين و لا يكتفي بهذه الاسم إذا لم يشارك شعبه في المصائب و النكبات و يعيش معه في قساوة الدهر و صعوباته... إنه أمير المؤمنين فيجب أن يكون أسوة لهم و قدوة يعيش الحرمان قبلهم و يعيش الحاجة قبلهم و يعيش الجوع قبل أن تجوع الأمة و هذه هي سيرة العظماء على مدى التاريخ يتساوون مع أضعف رعيتهم بل يمارسون على أنفسهم رياضة الحرمان الاختيارية ليضربوا لشعبهم المثل الصالح فيصبر الفقير عند رؤيتهم و يتطلع إلى غد أفضل مما هو فيه.

(فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها و تلهو عما يراد بها أو أترك سدى أو أهمل عابثا أو أجر حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة) نبّه عليه السلام على سبب تركه للطيبات بأنه لم يخلق للشغل بها أو لقضاء الوقت في تناولها كما هو حال الدابة المربوطة على معلفها همها أن تأكل بنهم و رغبة لاهية عن كل أمر آخر أو يكون كالبهيمة المرسلة التي أهملها أصحابها فهي تشتغل بما يقع في طريقها فتلمه بشفتيها و هكذا تبقى حتى تمتلئ و تسمن و تكترش لاهية عما يراد بها و أن وراء سمنها ذبحها...

كما بين أنه لم يخلق من أجل أن يترك مهملا يعمل ما يشاء دون حسيب أو رقيب أو يترك ليعبث في الحياة دون غاية كريمة أو هدف شريف أو يكون ممن ينشر الضلال و الفساد في الأرض تائها لا يدري غايته أو نتيجة سيره، إنه لم يخلق من أجل ذلك كله بل خلق من أجل أن يتكامل و يصل إلى مرضاة اللّٰه...

(و كأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان... ألا و إن الشجرة البرية أصلب عودا و الرواتع الخضرة أرق جلودا و النابتات العذية أقوى وقودا و أبطأ خمودا و أنا من رسول اللّٰه كالضوء من الضوء و الذراع من العضد) دفع عليه السلام ما يمكن أن يخطر في الأذهان و هو أن من كان هذا هو طعامه فإنه يضعف بدنه و يرق عوده و هذا يؤدي إلى قعوده عن مقابلة الأبطال و قتال الشجعان ممن على شاكلته و من المعروف أن الأبطال يقصدون التغذية المفيدة التي

ص: 477

تنفع في تقوية البدن فكيف يكون الإمام في قوته عكس ذلك و هنا يجيب.

إن الشجرة البرية التي تعيش على الطبيعة بدون ري و لا عناية تكون أصلب عودا و أقوى على تحمل عوامل الزمن القاسية و أنا كذلك كهذه الشجرة بينما غيري حاله كحال النباتات التي تعيش ضمن عناية و يكون الماء مستمرا على عروقها فإنها لا تقوى على الصعاب و الشدائد فبمجرد أن تقسو الطبيعة شيئا ما تضعف و تذبل و قد تموت و كذلك شبه نفسه بالنباتات التي لا ترتوي إلا بماء المطر و هذه أسرع لاشتعال النار و أبطأ في الانطفاء عكس غيرها ممن يشرب الماء باستمرار.

و كذلك شبه نفسه من رسول اللّٰه كالضوء من الضوء فرسول اللّٰه هو الضوء الأول و علي هو من ذلك الضوء و النبي يحمل أقوى عقيدة في نفسه و أنا أحمل كما يحمل...

منه أخذت و عن يديه تلقيت فأنا مثله في تحمل الصعاب و ملاقاة الأبطال و الشجعان هذا على أن تكون العبارة كالضوء من الضوء...

أما لو كانت كالصنو من الصنو يعني أنا و رسول اللّٰه من أصل واحد أصلهما عبد المطلب...

ثم شبه شدة قربه و التحامه برسول اللّٰه بالذراع و العضد فإنهما أقرب الأعضاء لبعضهما و يتقوى أحدهما بالآخر و علي كان سند النبي و يده التي يبطش بها...

(و اللّٰه لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها و لو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها) أقسم عليه السلام على شجاعته و أن العرب كلها لو اجتمعت و تألبت على قتاله لم يفر منها هاربا كما أنه لو سمحت له الظروف و اكتملت العدة و ساعده القدر فقدر عليها لأسرع إلى تأديبها و الاقتصاص منها بدون تأخير لأنه يقاتل على الحق و هم يقاتلون على الباطل فوجب المبادرة إلى قتالهم و تأديبهم...

(و سأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس و الجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد) بين عليه السلام أنه سيكافح و يجاهد بكل طاقاته من أجل أن يقضي على معاوية و قد وصفه بأنه معكوس قد انقلب على وجهه و ارتد عن الإنسانية فغلبت عليه شهوته فأصبح كالبهيمة و أضحى وجوده بين المسلمين مضرا مفسدا كما هي الحال في المدرة - التراب المتجمد - التي تفسد الحب إن بقيت فيه فلذا يجهد الزراع على تنقية الحب من المدرة و الزؤان و غيرهما مما يشوه الحب و يجعل عدم الرغبة فيه و كذلك معاوية أضحى مفسدا يجب تطهير الصفوف المسلمة منه...

ص: 478

(إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك قد انسللت من مخالبك و أفلت من حبائلك و اجتنبت الذهاب في مداحضك) تنكر علي للدنيا و أبعدها عن ساحته فلا أثر لها في سلوكه و لا في مطعمه و لا في مسيرته... إنه يخاطبها و كأنها تسمع... نعم لعلّ أهلها و عشاقها يسمعون... أبعدي عني يا دنيا أنت و ما تشائين مع غيري أما أنا فقد هجرتك و خرجت من بين أظافرك التي نشبت في الناس فلم يعد لهم قدرة على الخلاص منها، لقد نجحت في التخلص من شراكك التي نصبتها لتصطادي بها فكل شهواتك و زينتك و متعك حبائل تصطادين بها الناس و أنا في منجاة من ذلك كما أني اجتنبت و ابتعدت عن مواضع الزلل و العطب فيك فكل شبهة ابتعدت عنها و كل لذة هجرتها و كل متعة طلقتها...

(أين القرون الذين غررتهم بمداعبك، أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك فها هم رهائن القبور و مضامين اللحود) الخطاب للدنيا و يراد به أهلها... سؤال يراد به تنبيه الناس و إيقاظهم على حقيقة مرة قاسية... إنها القراءة عن الناس الذين خدعتهم الدنيا بحلاوتها و لذتها فذاقوها فلما منعتهم عنها طلبوها من الحرام.

و كذلك سؤال عن الأمم و الشعوب الذين انحرفوا عن الحق بزخارف الدنيا الفانية و زينتها التي لا تدوم و لا تبقى إنهم جميعا أضحوا في القبور لا يستطيعون الخروج منها أو الفكاك من عذابها، لقد احتوتهم القبور فلا خروج لهم منها.

(و اللّٰه لو كنت شخصا مرئيا و قالبا حسيا لأقمت عليك حدود اللّٰه في عباد غررتهم بالأماني و أمم ألقيتهم في المهاوي و ملوك أسلمتهم إلى التلف و أوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد و لا صدر) أقسم عليه السلام أن الدنيا لو تتجسد في الخارج برجل يرى أو شيء محسوس يدرك لأقام عليها الحدود المفروضة و العقوبات المنصوصة و بيّن سبب ذلك بأنها قد غرت العباد و خدعتهم بالأمنيات فحببت إليهم الرياسة و الزعامة و المال فسعوا من أجل ذلك في طرق الحرام و كذلك ألقت أمما و شعوبا في المهالك و قضت عليهم فلم يبق منهم أحد.

و أيضا يقيم عليها الحدود لما لحق الملوك حيث أسلمتهم إلى التلف و أوصلتهم إلى موارد المصائب و الرزايا و هي موارد ليس من شأنها أن يكون إليها الورود و لا منها الصدور لأنها غير مرغوبة فلا يردها الإنسان و لا يصدر عنها لأن من دخلها لا يخرج منها... إنه الموت الذي لا يرغب فيه راغب و من حل به لا يصدر عنه...

(هيهات من وطىء دحضك زلق و من ركب لججك غرق و من أزور عن حبائلك

ص: 479

وفق و السالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه و الدنيا عنده كيوم حان انسلاخه) بعد ما تريدين مني فلن أكون من روادك و طلابك... ثم بين بعض الموارد المسببة للبعد عنها و النفرة منها:

1 - من وضع أقدامه و داس على مواضع الزلل فيها زلق و سقط و هو تشبيه للشهوات التي إذا ارتكبها الإنسان و قام بها استرسل فيها و استكثر حتى يسقط في المعاصي و يهبط في مهاوي العذاب.

2 - من طلب الدنيا و خاض غمار طلبها غرق فيها فجرّه ذلك إلى طلبها من غير حلها و قد يصعب عليه تحقيق آماله في الطرق المعتادة الكريمة فينحرف إلى الطرق الباطلة الفاسدة و لا يستطيع بعد ذلك أن يخرج فيهلك.

3 - بيّن الطريق الصحيح و السليم الذي ينجيه منها و هو أن يبتعد عن شراكها و فخاخها التي تنصبها على طريق الناس فتصطاد بها الضعفاء و مصائدها هي الشهوات و الميول الباطلة و الدنيا المحرمة و غيرها...

ثم بين عليه السلام طريقة من سلم منها، أنه إذا سلم منها و استطاع رفضها و البعد عنها ارتاح قلبه و لم يشتغل بها أو يفكر بما فيها، إن من أصبحت ساقطة من عينه لا يبالي في أي الأماكن استقر و على أي الأحوال كان يتساوى عنده الصحة و المرض، الفقر و الحاجة الأمان و الخوف لأنه ينظر إلى الدنيا كيوم اقترب أفوله و غروبه فهو ينتظر ما بعده و لا يلتفت إليه...

(اعزبي عني فو اللّٰه لا أذل لك فتستذليني و لا أسلس لك فتقوديني) أكد على رفض الدنيا مجددا و أبعدها عن نفسه و أقسم باللّٰه أنه لن يخضع لها و لما فيها من شهوات فتحاول عندها أن تستذله و تستعبده كما رفض التساهل معها لئلا تقوده إلى ما تريد من زينتها و مفاتنها و ما فيها من شهوات.

(و أيم اللّٰه - يمينا استثني فيها بمشيئة اللّٰه - لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما و تقنع بالملح مأدوما و لأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها) أقسم عليه السلام يمينا استثنى مشيئة اللّٰه فيها ليأخذن نفسه برياضة شديدة صعبة تصل فيها الحال أن نفسه تفرح إلى رغيف الخبز و تكتفي به مطعوما و بالملح مأدوما فيقهر بذلك قوة الشهوة إلى الأكل التي هي مبعث أكثر الشهوات الأخرى و بذلك يقطع مادتها و مصدرها...

و كذلك أخذ على نفسه أن يستفرغ دموع عينيه حتى تجفا و لا يبقى مصدر يرفدهما

ص: 480

و يغذيهما شوقا إلى اللّٰه و تطلعا إلى ما عنده و هذه حالة المحب مع من يحب... فإذا صدق الحب في القلب انعكس دمعة تترقرق و شوقا يتحرك و حرارة تندفع تطلب من يطفؤها و لا يطفؤها إلا اللقاء...

(أ تمتلئ السائمة من رعيها فتبرك و تشبع الربيضة من عشبها فتربض و يأكل علي من زاده فيهجع قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة و السائمة المرعية) استنكر في هذا الكلام على نفسه أن يكون ربيضة أو سائمة فإن السائمة و هي النعم إذا أكلت و شبعت تبرك في مباركها ناعمة البال لا تفكر بغيرها و لا بما يهيىء لها و كذلك عند ما تشبع الربيضة و هي الأغنام الرابضة في مرابضها التي شبعت مما توفر لها من الأعشاب فتربض مطمئنة مرتاحة لا يعكر صفو فكرها أمر.

و هكذا علي يأكل زاده و ما ادخره ثم يغادر إلى مضجعه و مقر نومه قرير العين لا يفكر برعيته و لا يعيش همومهم و آلامهم و ما ينتابهم و يمر عليهم...

فمن يكون هكذا يتساوى مع البهيمة و حاشا لعلي أن يمر في ذهنه هذا الأمر أو يعرض له مثله، معاذ اللّٰه أن يسقط ذلك الشموخ من علوه إلى مستوى السائمة.

ثم قال: «قرت إذا عينه» إنكارا و استهزاء بأن يكون حاله كذلك إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة و السائمة المرعية أي معاذ اللّٰه أن يكون كذلك بعد الجهاد و الكفاح و القتال في سبيل اللّٰه... و كيف يختصر تاريخ البطولات بطوله و عمقه ليتحول ذلك العملاق في حياته و عدم مبالاته إلى بهيمة مهملة متروكة تصيب ما تشاء أو يتحول إلى سائمة نعم ترعى من البراري و القفار و مواطن الخير ما تشاء... إنه ليس كذلك و لن يكون كذلك...

(طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها و عركت بجنبها بؤسها و هجرت في الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها و توسدت كفها) نبه عليه السلام أن النفس إذا استجمعت هذه الصفات كانت من أهل السعادة و الكرامة.

1 - أدت إلى ربها فرضها: فما أوجبه اللّٰه عليها قامت به و أدته بتمامه و كماله.

2 - عركت بجنبها بؤسها: صبرت على بؤسها و شقائها و ما يمر عليها من محن و مصائب فلم تخرج به عما يرضى اللّٰه إلى ما يغضبه...

3 - هجرت في الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها و توسدت كفها: لم تنم في الليل عند ما تنام العيون و لم يغمض لها جفن لأنها مشغولة بالتهجد

ص: 481

و العبادة و مناجاة اللّٰه و الانقطاع إليه فإذا غلبها النعاس و ثقل لم يكن لها فراش إلا الأرض التي تتهجد عليها فتفترشها بدلا من فراشها الناعم و تتوسد كفها بدلا من المخدة و الوسادة المعدة للنوم فهي نفس لا تتكلف فراشا و لا مخدة لأنها في شغل عنهما...

(في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم و همهمت بذكر ربهم شفاههم و تقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ » ) تمنى الإمام أن يكون معه جماعة طيبة أصحاب عشرة حسنة وصفهم بعدة صفات.

1 - أسهر عيونهم خوف معادهم: إنهم يتذكرون الحساب و ما فيه من الثواب و العقاب فتسهر عيونهم في سبيل اللّٰه تحرس العقيدة و تهدي الناس و تتهجد و تتعبّد و تبكي في جوف الليل خشية من اللّٰه و خوفا من عذابه.

2 - تجافت عن مضاجعهم جنوبهم: لا ينامون ليلا لانشغالهم بعبادة ربهم و مناجاته كما حكى ذلك عنهم في قوله تعالى: «تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ » .

3 - و همهمت بذكر ربهم شفاههم: فهم في ذكر دائم... تسبيح و تهليل و تحميد.

4 - تقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم: فلكثرة استغفارهم تتمزق ذنوبهم و تنمحي فلا يعود منها أثر و لا فيها خبر.

ثم أشار إلى أن هؤلاء الصفوة هم الذين يشكلون حزب اللّٰه و أتباعه و حزب اللّٰه هم الغالبون...

(فاتق اللّٰه يا ابن حنيف و لتكفف أقراصك ليكون من النار خلاصك) أمر ابن حنيف في آخر رسالته أن يتقي اللّٰه و أن تكفف الأقراص و هو نهى متوجه إلى أقراصه و إن أراد نفسه ليكون أوقع في الخطاب هذا على صيغة تكفف أما على صيغة تكفك فهو أمر بكفاية الأقراص المعدودة دون زيادة حتى يكتب له النجاة من النار...

ص: 482

46 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى بعض عماله أمّا بعد، فإنّك ممّن أستظهر (1) به على إقامة الدّين، و أقمع (2) به نخوة (3) الأثيم (4)، و أسدّ به لهاة (5) الثّغر (6) المخوف (7). فاستعن باللّٰه على ما أهمّك (8)، و اخلط (9) الشّدّة بضغث (10) من اللّين، و ارفق (11) ما كان الرّفق أرفق، و اعتزم (12) بالشّدّة (13) حين لا تغني عنك إلاّ الشّدّة، و اخفض (14) للرّعيّة جناحك، و ابسط لهم وجهك، و ألن لهم جانبك، و آس (15) بينهم في اللّحظة (16) و النّظرة (17)، و الإشارة و التّحيّة (18)، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك (19)، و لا ييأس الضّعفاء من عدلك، و السّلام.

اللغة

1 - أستظهر به: أستعين.

2 - أقمع: أقهر و أكسر.

3 - النخوة: الكبر.

4 - الأثيم: فاعل الإثم، المذنب.

5 - اللهاة: لحمة مدلاة في سقف الفم على باب الحلق.

6 - الثغر: ما يمكن أن يهجم منه العدو.

7 - المخوف: الذي يخاف جانبه.

8 - أهمه الشيء: أقلقه و أزعجه و أحزنه.

9 - أخلط: أمزج.

10 - الضغث: أصله القبضة من الحشيش و المختلط من رطبه و يابسه و يقصد به هنا الخلط.

ص: 483

11 - الرفق: اللطف و لين الجانب.

12 - اعتزم: خذ و الزم.

13 - الشدة: نقيض اللين.

14 - خفض جناحه: تواضع مأخوذ من خفض جناح الطائر لفراخه.

15 - آس: سوي بينهم و أعدل.

16 - اللحظة: جمع لحظات المرة من اللحظ و لحظ فلان نظر إليه بمؤخر العين.

17 - النظرة: المرة من النظر، اللمحة و ربما قيل: إن النظرة أعم من اللمحة.

18 - التحية: السلام عليه.

19 - الحيف: الجور.

الشرح

(أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين و أقمع به نخوة الأثيم و أسد به لهاة الثغر المخوف) هذه الرسالة كتبها الإمام إلى بعض عماله الصالحين و يظهر أنه شخص له موقعه في القيادة و ولاية هذا المصر بالذات و قد أثنى عليه بأمور:

1 - إنك ممن أستظهر به على إقامة الدين: فأنت أيها العامل من الرجال الذين أقوى بهم و أستعين على إقامة الدين و نشر أحكامه و تطبيق أوامره و تنفيذ ما يريد.

2 - أقمع به نخوة الأثيم: أكسر به شوكه العاصي و تكبره و ما يعيشه من التمرد و الانحراف.

3 - أسد به لهاة الثغر المخوف: أدفع به ما يمكن أن ينفذ منه العدو، فكل ناحية أتخوف من العدو أن يدخل منها فأنت قادر على منعه و رده عنها...

(فاستعن باللّٰه على ما أهمك و اخلط الشدة بضغث من اللين و ارفق ما كان الرفق أرفق و اعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة و اخفض للرعية جناحك و ابسط لهم وجهك و ألن لهم جانبك و آس بينهم في اللحظة و النظرة و الإشارة و التحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك و لا ييأس الضعفاء من عدلك و السلام) بعد أن أثنى عليه بما تقدم أمره بهذه الخصال التي هي من مكارم الأخلاق للوالي و من تولى أمور الناس و تنتظم ضمن أمور:

1 - استعن باللّٰه على ما أهمك: فإذا وقعت في شدة أو أصابتك مصيبة أو اشتغل فكرك في أمر مهم أوجب تشويشه فعد إلى اللّٰه و ارجع إليه و اطلب الإعانة منه فإن أبواب

ص: 484

الفرج تفتح بسرعة فالعبد يجب أن يستعين باللّٰه في كل أموره و خصوصا فيما يهمه...

2 - اخلط الشدة بضغث من اللين: على الوالي أن يستعمل الشدة و القوة من غير ظلم و أن يستعمل اللين من غير ضعف فيمزج بين الاثنين فتحصل الحالة الوسطى المعتدلة التي يجب أن تتوفر في الحاكم.

يجب عليه أن يستعمل الرفق و اللين في موضعه و موقعه إذا كان هو الدواء في هذه الحالة كما أن على الوالي أن يستعمل الشدة و العنف إذا لم ينفع إلا ذلك.

3 - اخفض للرعية جناحك: كن متواضعا لشعبك استقبله و اسمع إليه و انصفه من كل ظالم و لا تحتجب عنه تكبرا عن لقائه و الاستماع إليه.

4 - ابسط لهم وجهك: تلقاهم بالوجه المبتسم الذي يدل على حبك و مودتك لهم.

5 - ألن لهم جانبك: لا تأخذهم بالشدة و العنف و القسوة.

6 - أمره أن يواسي بينهم و يساويهم مع بعضهم في لحظات العيون و النظر إليهم و الإشارة و التحية فلا يشير إلى واحد دون الآخر و لا تلقي التحية - و هي السلام - على فرد بحيث تختلف عن الآخر.

و هذه المساواة في كل هذه الأمور الصغيرة ليحسم مادة الطمع عند الكبار و أصحاب الجاه فإنهم عند ما يرون العدل و المساواة في الصغير لا يجرءون على أن يطلبوا من الحاكم ظلم أحد في قضية من القضايا...

و كذلك عند ما يرى الضعفاء هذه المساواة لا يدخل إلى قلوبهم اليأس من عدل الحاكم و إنصافه بل يطالبون بحقهم بكل جرأة...

ص: 485

47 - و من وصية له عليه السلام

اشارة

للحسن و الحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله أوصيكما بتقوى اللّٰه، و ألاّ تبغيا (1) الدّنيا و إن بغتكما، و لا تأسفا (2) على شيء منها زوي (3) عنكما، و قولا بالحقّ ، و اعملا للأجر، و كونا للظّالم خصما (4)، و للمظلوم عونا.

أوصيكما، و جميع ولدي و أهلي و من بلغه كتابي (5)، بتقوى اللّٰه، و نظم أمركم (6)، و صلاح ذات بينكم (7)، فإنّي سمعت جدّكما - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - يقول: «صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة و الصّيام».

اللّٰه اللّٰه في الأيتام، فلا تغبّوا (8) أفواههم، و لا يضيعوا بحضرتكم.

و اللّٰه اللّٰه في جيرانكم، فإنّهم وصيّة نبيّكم. ما زال يوصي بهم، حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم (9).

و اللّٰه اللّٰه في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم.

و اللّٰه اللّٰه في الصّلاة، فإنّها عمود (10) دينكم.

و اللّٰه اللّٰه في بيت ربّكم، لا تخلّوه ما بقيتم، فإنّه إن ترك لم تناظروا (11).

و اللّٰه اللّٰه في الجهاد بأموالكم و أنفسكم و ألسنتكم في سبيل اللّٰه.

ص: 486

و عليكم بالتّواصل (12) و التّباذل (13)، و إيّاكم و التّدابر (14) و التّقاطع (15). لا تتركوا الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم.

ثم قال: يا بني عبد المطّلب، لا ألفينّكم (16) تخوضون (17) دماء المسلمين خوضا، تقولون: «قتل أمير المؤمنين». ألا لا تقتلنّ بي إلاّ قاتلي.

انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، و لا تمثّلوا بالرّجل، فإنّي سمعت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - يقول: «إيّاكم و المثلة (18) و لو بالكلب العقور».

اللغة

1 - تبغيا: من بغيت الشيء إذا طلبته و أردته.

2 - أسف: تحسر.

3 - زوي: قبض و منع.

4 - الخصم: جمع خصوم و خصام المخاصم و المنازع.

5 - بلغه الكتاب: وصل إليه، انتهى إليه.

6 - نظم أمركم: تنظيم أموركم.

7 - صلاح ذات البين: الصلح و ترك الخصومة.

8 - لا تغبوا: لا تجيعوا و أصلها أتاه يوما و تركه آخر و منه ذرغبا تزدد حبا.

9 - سيورثهم: يفرض لهم من ميراث جيرانهم.

10 - العمود: جمعه أعمدة و عمد ما يقوم عليه البيت و غيره.

11 - لم تناظروا: لم تؤخر عقوبتكم بل تعجّل، أو لم ينظر إليكم باحترام.

12 - التواصل: ضد التهاجر، و هو اللقاء بما يتعارف به.

13 - التباذل: مداولة البذل فيما بينكم و العطاء.

14 - التدابر: التقاطع و التعادي.

15 - التقاطع: ضد التواصل، أن لا يتصل أحدهما بالآخر بما هو متعارف.

16 - لا ألفينكم: لا أجدنكم من ألفاه إذا وجده.

ص: 487

17 - خاض في الماء: دخله و مشى فيه و الخوض في دماء المسلمين سفكها.

18 - المثلة: التنكيل و التشويه.

الشرح

اشارة

(أوصيكما بتقوى اللّٰه و ألا تبغيا الدنيا و إن بغتكما و لا تأسفا على شيء منها زوي عنكما و قولا بالحق و اعملا للأجر و كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا) وصية عظيمة من رجل العظمة في لحظاته الأخيرة... وصية إنسان عاش الحياة بعمقها و اختبرها على حقيقتها فجاءت كلماته عصارة هذه الحياة تحكي واقعها و تنطق بصدق ما فيها...

أوصى عليه السلام ولديه و أراد أن تسمع الأمة كلها هذه الوصية لأنها جاءت عامة شاملة تتناول كل فرد مسلم... و هي وصية بأمور.

1 - الوصية بتقوى اللّٰه: و هي أهم ما أوصى به الإمام في حياته و في جميع المناسبات و الأحوال و هي رأس كل خير...

2 - أن يرفضا الدنيا و لا يطلباها و إن هي طلبتهما و أرادتهما كما أن عليهما أن لا يتحسرا و يتأسفا على شيء منعا منها أو لم يحصلا عليه من متعها... و هذا تزهيد في الدنيا و تحقير لها...

3 - قولا بالحق: انطقا بالحق مهما كان مرا و صعبا فإن كلمة الحق ترضي اللّٰه و تريح الضمير...

4 - اعملا للأجر: فإن العقلاء يعملون من أجل ما يدوم و يبقى و الأجر في الآخرة يبقى و يدوم و هذا نهي عن العمل رياء أو سمعة أو لأجل أمر من أمور الدنيا.

5 - كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا: أن يقفا في وجه الظالم و يمنعاه عن ظلمه كما أمرهما أن يكونا إلى جانب المظلوم لتحصيل حقه و رفع الظلم عنه...

(أوصيكما و جميع ولدي و أهلي و من بلغه كتابي بتقوى اللّٰه و نظم أمركم و صلاح ذات بينكم فإني سمعت جدكما - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - يقول: «صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام») بعد أن أوصى ولديه وصية خاصة لهما - و إن كان ذلك يشمل الأمة أيضا - أراد أن يوصي ولديه و أهله و من يصله كتابه هذا من الأمة بوصايا عامة و أهمها:

ص: 488

1 - تقوى اللّٰه: و هي حالة الحذر من اللّٰه و الخوف منه و مراقبته و أن يعيش كل فرد في الأمة روحا و نفسا هذه الحالة...

2 - نظم الأمور: أن ينظموا أمورهم و يرتبوها فلا يعيشوا الفوضى و الاضطراب فتختل أمورهم... فالفرد يجعل لنفسه برنامجا يتحرك على أساسه و الأمة تجعل لكل فرد دورا يتحرك فيه بكفاءة و قدرة و نجاح و هكذا كل واحد يأخذ موقعه و دوره و ما يحقق له النجاح...

3 - إصلاح ذات البين: أن يكونوا فيما بينهم على وفاق و انسجام و إذا حصل أمر عكّر هذا الانسجام و فرّق بين الأحبة فما عليهم إلا أن يصلحوا فيما بينهم و يرفعوا حالة الشقاق و الخلاف و قد ذكر حديث رسول اللّٰه و أن السعي في الإصلاح بين المختلفين أفضل من عامة الصلاة و الصيام.

و وجه الأفضلية كما ذكره بعضهم: إن أهم المطالب للشارع جمع الخلق على سلوك سبيل اللّٰه و انتظامهم في سلك دينه و لن يتم ذلك مع التنازع و تنافر الطباع و ثوران الفتنة بين الناس فكان صلاح ذات البين مما لا يتم أهم مطالب الشارع إلا به. و هذا المعنى غير موجود في الصلاة و الصيام لإمكان المطلوب بدونهما فتحققت أفضليته من هذه الجهة...

4 - (اللّٰه اللّٰه في الأيتام فلا تغبوا أفواههم و لا يضيعوا بحضرتكم) أوصاهم بالأيتام الذين مات آباءهم و لم يبق لهم من يعيلهم أو يتكفل بهم فهم بحاجة إلى من يقضي حاجتهم... إياكم أن يجوعوا و كنى عن جوعهم بغبّ الأفواه الذي يعني عدم تتابع الأكلات بل يأكل وجبة و يحرم أخرى فلا يحصل الشبع باستمرار... أوصاهم أن لا يضيعوا بوجودهم بل يحفظ الأيتام بالسؤال عنهم و الاهتمام بهم و توفير ما يريدون...

5 - (و اللّٰه اللّٰه في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم) أوصاهم بالجيران أرحاما كانوا أو غير أرحام من المسلمين أو الكفار فإن حق الجار عظيم و من عظمته أن رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - أوصى بالجيران حتى كاد أن يورثهم من جيرانهم... و تحديد الجيران موكول إلى العرف فهو الذي يحدد ذلك و قد حددت بعض الأحاديث ما اتصل بدارك إلى أربعين دارا من جميع الجهات...

و قد حددت بعض الروايات أن للجار الكافر حق واحد هو حق الجوار و للجار المسلم حقان: حق الجوار و حق الإسلام و للجار الرحم المسلم ثلاثة حقوق: حق الجوار و حق الإسلام، و حق الرحم...

ص: 489

6 - (و اللّٰه اللّٰه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم) الوصية بكتاب اللّٰه الذي هو الحبل المدود من السماء إلى الأرض دعاهم إلى تنفيذ أحكامه و تشريعه و أن يكونوا المتقدمين في حمله و العمل به...

7 - (و اللّٰه اللّٰه في الصلاة فإنها عمود دينكم) أوصى بالصلاة أو يقيموها بشروطها و أجزائها و شبهها بالنسبة إلى الواجبات بعمود الخيمة التي تقوم عليه و هكذا الصلاة عمود الدين فإن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها كما في الحديث...

8 - (و اللّٰه اللّٰه في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا) الوصية بالبيت الحرام أن يحجوا إليه و يقصدوه و لا يتركوا زيارته و إقامة مناسكه مدة عمرهم و حذرهم أن يتركوه فلا ينظر اللّٰه لهم بالرحمة و لا يحفظهم بل يأخذهم بالعذاب و الهوان...

9 - (و اللّٰه اللّٰه في الجهاد بأموالكم و أنفسكم و ألسنتكم في سبيل اللّٰه) أوصاهم بالجهاد في سبيل اللّٰه و قد نص على الجهاد بالأموال بأن يبذلوها للمحتاج و لا يبخلوا بها على عباد اللّٰه و الجهاد بالنفس و هو بذلها في سبيل اللّٰه فيقتل في ساحات الجهاد و من أجل الحق و إعلاء كلمة اللّٰه.

و الجهاد باللسان المتقوم بكلمة الحق في وجه السلطان الظالم الذي يريد أن يأخذ شرعية لمواقفه و أعماله فتأتي كلمة الحق لتعرّيه و تسقطه و تقضي عليه.

10 - (و عليكم بالتواصل و التباذل) أي يصل كل منهم الآخر بكل وجه سواء كان ماديا أو معنويا زيارة أم هدية و كذلك أوصاهم بالتباذل أي يبذل كل واحد منهما للآخر ما يحتاجه من مال و جاه و معونة...

11 - (و إياكم و التدابر و التقاطع) حذّرهم من أن يتدابروا أي يعطي كل واحد منهما ظهره لأخيه فلا يسأل عنه و لا يهتم به كما نهاهم عن التقاطع في مقابل ما أمر به من التواصل...

12 - (لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم) لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أي قوموا بهما لأنهما فرضان أوجبهما اللّٰه على المسلم بحسب ظروفه و أحواله و فيما يناسب أحوال المكلف شروطا و أسلوبا و طريقة.

ثم خوفهم عاقبة التقصير في هذين الواجبين و أن نتيجة تركهما أن يتولى الأشرار

ص: 490

على رقاب العباد فيفسدوا حال الأمة و تعم الفوضى و تتعطل أحكام الدين و تبطل سنة سيد المرسلين و أيضا نتيجة لهذا الأمر لا يستجاب دعاء الأبرار و العلماء فضلا عن عامة الناس لاختلال شروط قبول الدعاء و منها و أهمها عدم القيام بهذين الواجبين.

(يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: «قتل أمير المؤمنين». ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي) خاطب بني عبد المطلب - لأنهم أولياء الدم - و نهاهم عن ارتكاب الحرام بسببه قائلا لهم: لا أريد أن أراكم تسفكون دماء المسلمين فتقتلون على الشبهة و الظنة و كل من تتهمون بالمشاركة في دمي بحجة أنه قتل أمير المؤمنين فتسفكون الدماء بدون مبرر... بل لا يقتل إلا قاتلي و هو ابن ملجم المرادي فحسب و هذا مقتضى العدل و أقول: حسب علي عظمة أنه في هذا الموقف يحفظ دماء المسلمين و يصون وحدتهم بدمه و نفسه...

(انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة و لا تمثلوا بالرجل فإني سمعت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - يقول: إياكم و المثلة و لو بالكلب العقور) يأمرهم بالبحث إن هو مات من هذه الضربة إن استند الموت إليها أن يضربوه ضربة تساوي ضربته تكون قاضية عليه دون زيادة ليكون ذلك مقتضى العدل...

ثم نهاهم أن يمثلوا به أي يشوهوا خلقته بقطع يده أو رجله أو ثلم عينيه و ما أشبه ذلك و علله بما ورد عن النبي من النهي: إياكم و المثلة و لو بالكلب العقور.

ترجمة الحسين بن علي شهيد كربلاء الإمام الحسين عليه السلام.
نسبه:

الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابن بنت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - فاطمة الزهراء بنت خديجة الكبرى أم المؤمنين ثاني ريحانتي النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله - و أحد سبطيه العظيمين و أخو الحسن الزكي...

بهذا النسب المختصر تجتمع النبوة و الإمامة، و تلتحم العظمة و المجد و تتعانق الأريحية مع البطولة. سلسة كل أفرادها عظماء من أتيت إليه وجدته سيد زمانه و عقل مجتمعه و حليم قومه و كريم أيامه، لم تند عنهم مكرمة و لم تفتهم منقبه... هم السباق دوما إلى كرائم الخصال و الوصول إلى منتهى الكمال امتازوا في الجاهلية كما امتازوا في الإسلام و تفوقوا في الحالتين فكانت لهم قبل الإسلام صفحة بيضاء و يد سخية و شمائل

ص: 491

كريمة و عفة نفس و شموخ و إباء سبقوا من سابقهم و تقدموا على من زاحمهم، لم يدركهم خصم في فضيلة و لم يلحقهم في منقبة فكانوا كما قال الجاحظ عنهم: ملح الأرض و زينة الدنيا و حلى العالم و السنام الأفخم و الكاهل الأعظم و لباب كل جوهر كريم و سر كل عنصر شريف و الطينة البيضاء و المغرس المبارك و النصاب الوثيق و معدن الفهم و ينبوع العلم...

حياة الحسين الشهيد:

لقد كان لبيت علي و فاطمة ميزة على أقرباء النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -، لقد أولاه النبي عناية زائدة لم يعهدها أحد من بيوت المسلمين لأن فيه أحب الناس إلى رسول اللّٰه و أعزهم عنده ففيه أعز بناته و أغلاهن بضعته فاطمة الزهراء فقد كان لهذا البيت نصيبه الكبير من بركة النبي و عطاياه...

في هذا البيت العظيم ولد الحسين بن علي في الخامس من شعبان سنة أربع من الهجرة و كان لولادته أثر عظيم في نفس النبي كما و عمت الفرحة جميع أفراد الأسرة بل فرح المسلمون قاطبة بهذا المولود الجديد.

ولد الحسين في بيت الطهر و القداسة و قد اختار النبي له الاسم و عق عنه بعد أن أذن في أذنه اليمنى و أقام باليسرى و قد ألقمه إبهامه فتغذى منها لفترة من الزمن و قد كان النبي يحبه حبا شديدا و يعتني به و بأخيه عناية كبيرة أشد من عناية الآباء بالأبناء.

أقوال النبي فيه:

بطبيعة الحال إن رسول اللّٰه ينطق عن اللّٰه و يتجنب الهوى فمن هنا يجب أن يؤخذ كلامه و يفسر بحقيقته كما هو و كما تحمل العبارة من معنى دون أن يكون للعاطفة أثر و لا للمجاملة دور و قد أثنى النبي على الحسنين و مدحهما و أوصى المسلمين بمتابعتهما و حبهما و المحافظة عليهما.

قال النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله -: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة.

و قال - صلّى اللّٰه عليه و آله -: من أحب الحسن و الحسين فقد أحبني و من أبغضهما فقد أبغضني...

و قال - صلّى اللّٰه عليه و آله -: حسين مني و أنا من حسين أحب اللّٰه من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط.

ص: 492

و أما الآيات التي نزلت بحق أهل البيت و كان أحدهم الحسين الشهيد فكثيرة نذكر منها:

1 - قوله تعالى: «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

فقد أجمع المفسرون على نزولها في علي و فاطمة و الحسن و الحسين.

2 - قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ » .

قال صاحب تفسير الكشاف و هو من السنة: لا دليل أقوى من هذا على فضل أهل أصحاب الكساء و هم علي و فاطمة و الحسنان لأنهما لما نزلت دعاهم - صلّى اللّٰه عليه و آله - فاحتضن الحسين و أخذ بيد الحسن و مشت فاطمة خلفه و علي خلفهما فعلم أنهم المراد من الآية و أن أولاد فاطمة و ذريتهم يسمون أبناءه و ينسبون إليه نسبة صحيحة نافعة في الدنيا و الآخرة.

3 - قوله تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ » فإنها لما نزلت قالوا: يا رسول اللّٰه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم قال: علي و فاطمة و أبناهما.

الحسين و الدين:

عاش الحسين الشهيد مع جده رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - أجمل أيامه و أحسنها و درج في مراقي الكمال من ذلك الحجر الطاهر الذي أفاض عليه حنانا و عطفا و رقة و أغدق عليه روحا و تساميا، عاش ما يقرب الثمان سنوات و هي السن التي تؤهل الطفل للالتقاط و التصوير و المحاكاة فاتقن الشهيد دور جده بنجاح ساحق و فوز كاسح... منطقا وعيا... تطلعا... حركة... جاء محمدي الخصال و الفعال و الحركات و السكنات حتى غدا الأمين محمد في ثوب الحسين الشهيد... و لما انتهت حياة النبي الكريم أقام في ظلال الوالد العظيم مدة تجاوزت ثلاثة عقود و نصف من الزمن اشترك في خلال حكم الإمام في حروبه ضد الناكثين و القاسطين و المارقين و قد أخذ عن أبيه بلاغته و شجاعته و كرمه و عزته.. ارتسمت أمام الحسين كل المعالم الإسلامية و تراءت أمامه كل حركات الحق التي ترجمها أمير المؤمنين علي في أقواله و أفعاله

ص: 493

و تصرفاته... عاش الصراع المرير بين الحق و الباطل بين الإسلام و الجاهلية إسلام علي و جاهلية معاوية و كيف كانت عاقبة الحق صريعا في سبيل اللّٰه على يد طاغوت من طواغيت الأرض و استمر يرقب الأحداث و ما تحمله من مآسي و آلام و دموع و دماء خصوصا حينما تنحى الحسن عن الخلافة و تربع على كرسيها معاوية عدو الإسلام و الدين.

عاش الحسين مع الإسلام في مصائبه و محنه و مع المسلمين الشرفاء في تشردهم و غربتهم و مطاردتهم، عاش فترة مملوءة بالمحن و الابتلاءات ابتدأت بموت جده حيث رأى الخلافة ينحرف بها قوم من الناس عن صاحبها المنصوص عليه بها لتأخذ في نهاية المطاف شكلا من الملك العضوض الذي لا يرحم الإسلام و لا يعطف على المسلمين بل يحارب الدين و يطارد المتدينين و لو بقوة السلاح و الحديد، إنه الانحراف الذي كان يتصور أنه صغير هو اليوم يبعد بعدا مفرطا بحيث انعدمت الرؤية بين طرفي الصواب و الانحراف و انطمست معالم الرسالة بشكل مرعب و مخيف فكان الحسين هو الرائد و الهادي و البطل الذي على يديه تنجلي الظلمات و تموت الانحرافات و يحي الحق و الدين.

واقعة كربلاء:

أخبر النبي بواقعة كربلاء قبل حدوثها و أخبر بكل ما يجري على أهله و أسرته و خصوصا ولده الحسين و قد روى المحدثون ذلك و تناولوه في مجاميعهم.

رأى الحسين معاوية الذي تولى الحكم سنة 41 ه بعد شهادة الخليفة الشرعي الإمام علي.. راه كيف يتستر بالإسلام ظاهرا و يحاربه واقعا... رأى إجرام معاوية و ظلمه و جوره و اضطهاده و رأى عملية تشويه الإسلام. بل مسخه و تحويله لصالحه و صالح الأمويين و لم يكتف بذلك حتى أخذ البيعة لابنه يزيد بالقهر و القوة و يزيد هذا يعرفه المسلمون بتهتكه و خلاعته و استهتاره بالدين و محاربته للمتدينين... إنه كما يصفه ابن حنظلة غسيل الملائكة قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر و يضرب بالطنابير و يعزف عنده القيان و يلعب بالكلاب و يسمر عنده الحراب (اللصوص)... رأى الحسين في يزيد أنه يهدد الإسلام في أصوله و إن بقي دون ردع ورد سوف تتزلزل أركان الدين و يقضى على تراث النبي و ما جاء به من عند اللّٰه... رأى أنه لا بد من نهضة دامية تحرك ضمير المجتمع الإسلامي و تهزه من الأعماق لعل الأمة تعود إلى رشدها و تنتبه من غفوتها فتحفظ هذا الدين و تندفع في الدفع عنه... فلذا أرسل

ص: 494

إلى الكوفة سفيره مسلم بن عقيل و كانوا قد كاتبوه و دعوه إليهم ليبايعوه خليفة عليهم و لكنهم بعد أن بايعوا مسلما بحيث أحصى ديوانه أكثر من ثمانية عشر ألفا فكتب إلى الحسين بخبرهم فقدم من المدينة إلى مكة و منها توجه إلى الكوفة و لكن الكوفيين كما يذكر المؤرخون أهل غدر و خيانة فلم يفوا ببيعتهم للحسين و انخذلوا عنه و أسلموه و لم ينهض معه أحد حتى وصل إلى كربلاء فوجه إليه يزيد بقيادة ابن زياد و عمر ابن سعد جيشا كثفا يبلغ السبعين ألفا بينما هو و أهله و أصحابه الذين ناصروه يبلغون السبعين بل ربما يتجاوزون المائة بقليل و قد كانت معركة غير متكافئة عدديا سقط على أثرها مع أهله و أصحابه شهداء في سبيل اللّٰه و بذلك سطروا أعظم ملحمة في تاريخ الإنسانية التي تناضل من أجل الحق و ترفض الظلم و تأبى الذل و تدافع عن الإيمان و العقيدة.

سقط في العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين على ثرى كربلاء و تحولت شهادته إلى رمز لكل الأحرار و الثوار و غدت من يومها كل أرض كربلاء و كل يوم عاشوراء...

شعار يرفعه المظلومون و المضطهدون في وجوه المستكبرين و الظالمين...

كلمات معصومة:

قال الإمام الشهيد في بيانه الأول للثورة: و إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فاللّٰه أولى بالحق و من رد علي هذا أصبر حتى يقضي اللّٰه بيني و بين القوم و هو خير الحاكمين...

طرح الحسين شعار هيهات منا الذلة حيث قال يوم العاشر: ألا و إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة و هيهات منا الذلة يأبى اللّٰه لنا ذلك و رسوله و المؤمنون.

قال الحسين للوليد بن عتبة الذي أراد أخذ البيعة منه: إنا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة بنا فتح اللّٰه و بنا يختم و يزيد رجل شارب الخمور و قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق و مثلي لا يبايع مثله...

كلمة أخيرة:

الحسين قدوة و أسوة و نشيد يردده العارفون و المحبون... قيثارة يوقع على أوتارها الأحرار لحن الحرية و الخلود و الكرامة... يجب أن ندرسه و نستوعبه و نفهمه و نأخذ من ثورته رمزا يفك كل مغاليق الحياة و مصائبها... فإلى الحسين و إلى ثورته يا أحرار العالم و ثوار الدنيا...

ص: 495

48 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية و إنّ البغي (1) و الزّور (2) يوتغان (3) المرء في دينه و دنياه، و يبديان (4) خلله (5) عند من يعيبه (6)، و قد علمت أنّك غير مدرك (7) ما قضي (8) فواته (9)، و قد رام (10) أقوام (11) أمرا بغير الحقّ فتألّوا (12) على اللّٰه فأكذبهم، فاحذر يوما يغتبط (13) فيه من أحمد عاقبة عمله، و يندم من أمكن (14) الشّيطان من قياده فلم يجاذبه (15).

و قد دعوتنا إلى حكم القرآن و لست من أهله، و لسنا إيّاك أجبنا، و لكنّا أجبنا القرآن في حكمه، و السّلام.

اللغة

1 - البغي: الظلم.

2 - الزور: خلاف الحق و يطلق كثيرا على الشهادة الكاذبة.

3 - يوتغان: يهلكان و الوتغ بالتحريك الهلاك.

4 - يبديان: يظهران.

5 - الخلل: الوهن و الفساد.

6 - يعيبه: ينتقصه.

7 - مدرك: من أدرك الشيء إذا لحقه.

8 - قضى: فات، مضى و انقضى، أحكم.

9 - الفوات: فات الأمر فواتا ذهب وقت فعله، عدم إدراك الشيء.

10 - رام: طلب.

11 - أقوام: جمع قوم الجماعة من الناس.

ص: 496

12 - تأولوا: من التأويل و هو حمل الكلام على خلاف الظاهر أو تآولوا: حلفوا.

13 - يغتبط: يسرّ و الغبطة حسن الحال و المسرة.

14 - أمكن الشيطان من قياده: سلّمه قياده و مكنه منه بدون منازعة.

15 - يجاذبه: ينازعه، ضد يدفعه عنه، يشده إليه.

الشرح

(و إن البغي و الزور يوتغان المرء في دينه و دنياه و يبديان خلله عند من يعيبه) هذه الرسالة كتبها الإمام إلى معاوية و هو يعلم منهجه و تحركه و كيف تكون العاقبة لهذا التحرك المنحرف... إنه خطاب لمعاوية بما يحمل من صفات قبيحة يذكر له منها البغي - و هو الظلم - و الكذب و إنهما صفتان قبيحتان تعيشان في نفسه و يعمل بهما و بيّن أنهما يهلكان الدين و الدنيا و يظهران عيوبه و قبائحه عند من يطلب نقيصته و عيبه أما أنهما يهلكان الدين فلأنهما معصيتان نهى اللّٰه عباده عنهما و أما أنهما يكشفانه في الدنيا فلأنهما قبيحتان لدى العقلاء يذم مرتكبهما كل عاقل و يسقط فاعلهما عن الاعتبار لخساسته وضعته.

(و قد علمت أنك غير مدرك ما قضي فواته) كان معاوية قد اتخذ من دم عثمان ذريعة لإعلان التمرد و العصيان على الخلافة و هنا الإمام يخبره أن دم عثمان قد فات و لم يمكنك إدراكه و ذهب بموته...

(و قد رام أقوام أمرا بغير الحق فتأولوا على اللّٰه فأكذبهم فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله و يندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه) ضرب لمعاوية مثلا بقوم طلبوا أمرا بغير الحق و قد فسروا ذلك بطلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة طلبوا الخلافة متسترين بقتل عثمان فأظهر اللّٰه كذبهم و نفاقهم من حيث قتل من قتل منهم و انهزم من انهزم و سقطت حجتهم و بطلت دعوتهم و عرف الناس كذبهم و خيانتهم...

ثم حذر معاوية من يوم القيامة منبها له إلى ما فيه من سرور إذا كان عاقبة عمله محمودا عند اللّٰه مقبولا لديه فيغبطه عليه الناس و يتمنون مثله و أن يكونوا في درجته، و أما إذا أمكن الشيطان من قياده و استسلم له في شهواته و ميوله فعندها يندم أشد الندم و يخسر أكبر الخسارة...

(و قد دعوتنا إلى حكم القرآن و لست من أهله و لسنا إياك أجبنا و لكنا أجبنا القرآن

ص: 497

في حكمه و السلام) كان معاوية أشد الناس انتهازية لا يترك أمرا يخدم هدفه الذي يسعى إليه إلا و يستخدمه لصالحه، يحمل قميص عثمان و ينادي بثأره و يطلب من وراء ذلك مبررا شرعيا لقتال الخليفة و تمزيق وحدة المسلمين و بالتالي يريد حصته من الولاية و الأمرة... و يرفع القرآن و هو لا يؤمن به و لا يعتقد بأحكامه و إنما يرفعه خدعة و مكرا و هكذا هنا يدعو الإمام إلى حكم القرآن في النزاع بينهما و ينفي الإمام أن يكون هذا الرجل من أهل القرآن لأن أهله هم العاملون به الملتزمون بأحكامه المحللون حلاله و المحرمون حرامه و معاوية ليس على شيء من ذلك و لا يعتقد بذلك...

ثم إنه عليه السلام يقول له: نحن أجبنا القرآن في حكمه... نحن ننفذ ما أمر القرآن به من قتالك و إحلال دمك لأنك باغ ظالم معتد أثيم و أطعنا القرآن في ولاية الأمر و منصب الخلافة الذي يجب أن يصان و يحفظ و لا يعتدى عليه بوجه من الوجوه...

ص: 498

49 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى معاوية أيضا أمّا بعد، فإنّ الدّنيا مشغلة (1) عن غيرها، و لم يصب (2) صاحبها منها شيئا إلاّ فتحت له حرصا (3) عليها، و لهجا (4) بها، و لن يستغني صاحبها بما نال فيها عمّا لم يبلغه منها، و من وراء ذلك فراق ما جمع، و نقض (5) ما أبرم (6)! و لو اعتبرت (7) بما مضى حفظت ما بقي، و السّلام.

اللغة

1 - المشغلة: الأمور التي تشغل.

2 - يصب: يدرك.

3 - الحرص: الجشع و البخل.

4 - اللهج: الحرص الشديد، الولع بالشيء.

5 - نقض: نقض البناء هدمه و الحبل حله.

6 - أبرم: أحكم و أمضى.

7 - اعتبر: اتعظ.

الشرح

(أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها و لم يصب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا عليها و لهجا بها و لن يستغني صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها و من وراء ذلك فراق ما جمع و نقض ما أبرم و لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي و السلام) هذا الكتاب بعث به الإمام إلى معاوية و قال بعضهم: إلى عمرو بن العاص و على كل حال فالعبرة بعموم الخطاب و مدلوله: و هو تذكير لمعاوية بأن الدنيا التي يطلبها و يقاتل من أجلها دنيا

ص: 499

تشغله عن غيرها أي عن الآخرة فمن اشتغل بالدنيا نسي الآخرة و نسي يوم الحساب و راح يبحث عن سبل تحصيل المال و الجاه و السلطة و غيرها.

ثم بين له إن هذا الإنسان إذا أدرك منها شيئا قليلا انفتحت أمامه أبوابها و أخذ يطرق تلك الأبواب بشوق و رغبة و أضحى حريصا عليها متمسكا بها يخاف فواتها و يرغب في الزيادة منها و لا يكفي في نظره ما يدركه و يحصل عليه عما لم يدركه و يقع تحت يديه بل يبقى يرى البعيد عنه بحاجة إليه و لذا يطلبه و لا يشبع مما يدركه... دائما و باستمرار يمتد نظره إلى ما لم يقع تحت يديه و يظن أنه بحاجة إليه و لا يستغني عنه.

و هذا الإنسان الضعيف الذي يجمع و يطمع و لا يقنع فإن كل ما يجمعه و يكسبه سيتخلى عنه و يتركه للوارث و الحوادث... سيتركه خلفه عند ما يلف في كفنه و يغادر الدنيا إلى الآخرة... و ستنهدم كل تطلعاته التي كان يعزم على تحقيقها و ينوي تنفيذها... كل مشاريعه التي كان يرسمها قد أفسدها الموت و أبطلها، و هكذا يأتي الموت فيوزّع ما جمع و يشتت ما لملم و ما إليه سعى...

ثم نبهه إلى أمر و هو أنه لو اعتبر بما مضى من عمره لحفظ ما بقي منه إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يحفظ ما مضى من عمره ثم يأخذ منه العبرة ليكمل شوط حياته الباقي في خط اللّٰه و طاعته... فمن ضل في ماضي عمره فليأخذ العبرة منه ليصلح في المستقبل ما بقي منه...

ص: 500

50 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أمرائه على الجيش من عبد اللّٰه عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أصحاب المسالح (1).

أمّا بعد، فإنّ حقّا على الوالي ألاّ يغيّره (2) على رعيّته (3) فضل (4) ناله (5)، و لا طول (6) خصّ به، و أن يزيده ما قسم اللّٰه له من نعمه دنوّا (7) من عباده، و عطفا على إخوانه.

ألا و إنّ لكم عندي ألاّ أحتجز (8) دونكم سرّا إلاّ في حرب، و لا أطوي (9) دونكم أمرا إلاّ في حكم، و لا أؤخّر لكم حقّا عن محلّه، و لا أقف به دون مقطعه (10)، و أن تكونوا عندي في الحقّ سواء (11)، فإذا فعلت ذلك وجبت (12) للّٰه عليكم النّعمة، ولي عليكم الطّاعة، و ألاّ تنكصوا (13) عن دعوة، و لا تفرّطوا (14) في صلاح، و أن تخوضوا (15) الغمرات (16) إلى الحقّ ، فإن أنتم لم تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون (17) عليّ ممّن اعوجّ (18) منكم، ثمّ أعظم له العقوبة، و لا يجد عندي فيها رخصة (19)، فخذوا هذا من أمرائكم، و أعطوهم من أنفسكم ما يصلح اللّٰه به أمركم.

و السّلام.

ص: 501

اللغة

1 - المسالح: جمع مسلحة، الثغور لأنها مواضع السلاح و أصل المسلحة قوم ذوو سلاح.

2 - يغيّره: يحوله و يبدّله.

3 - الرعية: جمعها رعايا عامة الناس الذين عليهم راع و رعية الملك الخاضعون لأوامره.

4 - الفضل: الزيادة، الإحسان.

5 - نال الشيء: أدركه.

6 - الطول: بفتح الطاء عظيم الفضل.

7 - دنوا: قربا.

8 - أحتجز: أمنع و أستر.

9 - أطوي: أخفي و طوى الثوب ضد نشره.

10 - مقطع الحق: ما يقطع به الحق.

11 - سواء: متساوون.

12 - وجبت: ثبتت.

13 - نكص: تأخر و رجع و لا تنكصوا لا تتأخروا.

14 - لا تفرطوا: لا تقصروا، فرّط في الشيء ضيّعه.

15 - خاض الماء: دخله و مشى فيه.

16 - الغمرات: الشدائد و أصل الغمرة هي اللجة من البحر يغرق من وضع فيها.

17 - أهون: من الهوان و هو الذل.

18 - أعوج: ملتوي، غير مستقيم.

19 - الرخصة: التسهيل و التخفيف.

الشرح

(من عبد اللّٰه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أصحاب المسالح.

أما بعد فإن حقا على الوالي ألاّ يغيّره على رعيته فضل ناله و لا طول خص به و أن يزيده ما قسم اللّٰه له من نعمه دنوا من عباده و عطفا على إخوانه) هذه الرسالة بعث بها الإمام إلى أمراء جيشه الذين يرابطون على الثغور الإسلامية يحفظون المسلمين من الأعداء و يدفعون الشر و الكيد عنهم، و هي رسالة فيها توجيه إلى ما يجب على الوالي

ص: 502

نحو رعيته عامة و نحو هؤلاء الحراس على الثغور بوجه خاص، ثم ما يجب عليهم من لزوم تنفيذ أوامره و القيام بمهامهم و ما كلفوا به...

رسالة من الوالي إلى جنده على الحدود يشرح لهم ما هو الحق على الوالي نحو رعيته فيقول: إن المناصب و السلطة و الحكم يجب أن لا تكون وسيلة للتعالي على الناس و التكبر عليهم و لا يجوز أن تحوّل - هذه الأمور - الإنسان عن مساره المستقيم المعتدل الطبيعي إلى غيره.

و الوالي هو الخليفة و الولاية و الخلافة منزلة اجتماعية كبرى يجب أن لا تحوله - و هي من فضل اللّٰه - إلى إنسان متكبر متعالي على إخوانه بل الإمام يرى أن هذه الولاية من نعم اللّٰه التي تستحق الشكر و شكرها يكون بالاقتراب من عباد اللّٰه و العطف عليهم و أن يعيش معهم كأحدهم...

و بعبارة مختصرة يجب على الوالي أن لا يتخذ الولاية ذريعة إلى التحكم بهم و القهر لهم بل يجب أن تكون سببا للقرب منهم و الحنو عليهم...

(ألا و إن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا إلا في حرب و لا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم و لا أؤخر لكم حقا عن محله و لا أقف به دون مقطعه و أن تكونوا عندي في الحق سواء) شرط عليه السلام لهم على نفسه شروطا ليؤدوا له في مقابلها حقوقا... فإذا و في لهم بهذه الشروط وجب له عليهم حقوقا يجب أن يقوموا بها و يؤدوها له... ما شرطه لهم على نفسه:

1 - أخذ على نفسه أن لا يطوي دونهم سرا إلا في حرب... فهو قد أخذ على نفسه أن يبيّن للأمة كل الأمور و يوضحها لها سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسة أو غير ذلك كي تعرف كل شئونها و مشاكلها فتسعى لتدارك الخطأ و تصحيح الفساد و تعالج القضايا بروح المسئولية و تتحمل ما يجري على أرضها و فيما بينها.

نعم استثنى من ذلك أمور الحرب فلن يطلعهم عليها لئلا تفشل خططها أو يعرف بها العدو فيستعد لها أو غير ذلك مما يضر بمصلحة الجهاد و الحرب و قد قيل: «الحرب خدعة» و إذا كانت كذلك فيجب أن تبقى أمورها سرا... متى تكون و على أي جبهة و ما هي الخطط و الوسائل ؟! فإن كل ذلك يجب أن يكون سرا إلا عن أصحاب القرار من القادة...

2 - لا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم: أعلن أنه معهم صريح لا يكتم عليهم أمرا

ص: 503

يريد فعله إلا أن يكون حكما من أحكام اللّٰه فهذا مختص به فيجب أن يقضي بمقتضاه كما أراد اللّٰه و أمر دون مشورة أحد لأن حق اللّٰه يقضى به في حينه.

3 - و لا أؤخر لكم حقا عن محله: إذا خرج عطاؤهم يدفعه إليهم مباشرة دون تأخير أو تسويف و هذا حق إذ ربما كان أربابه بحاجة إليه فلا يجوز تأخيره عن وقته كما أخذ على نفسه أن يفصل في الأمور بشكل قاطع و لا يتركها معلقة أو مرددة لم يعرف وجهها...

4 - و أن تكونوا عندي في الحق سواء: أخذ على نفسه أن يكونوا جميعا عنده متساوون فلا يفاوت في العطاء بأن يعطي هذا أكثر من ذاك بل كما يعطي هذا يعطي ذاك على حد سواء و هذا الأمر هو الذي أثار عصبية المنتفعين و المستكبرين و دفعهم إلى التمرد عليه و عصيانه بل إعلان الحرب عليه كما وقع لطلحة و الزبير...

(فإذا فعلت ذلك وجبت للّٰه عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة و ألا تنكصوا عن دعوة و لا تفرطوا في صلاح و أن تخوضوا الغمرات إلى الحق) لما استوفى لهم ما شرطه لهم على نفسه قال: فإذا فعلت ذلك الذي شرطته و قمت به على وجهه ثبت للّٰه عليكم نعمة كبرى هي نعمة الوالي العادل و هي نعمة تستحق الشكر فإن من أعظم النعم أن يسلك الخليفة مع رعيته بهذا الطريق و يعطيهم هذه الحقوق...

ثم ذكر ما له عليهم من الحقوق و هي:

1 - لي عليكم الطاعة: أن تطيعوا أمري في كل ما أريد فلا تعصوا و لا تتمردوا أو تردوا علي أمرا، أو ترفضوا طلبا.

2 - لا تنكصوا عن دعوة: أي لا تحجموا و تتأخروا عن دعوة دعوتكم إليها فلو دعوتكم إلى الجهاد بادرتم بدون تأخير أو رفض.

3 - لا تفرطوا في صلاح: أي لا تفرطوا فيما يكون فيه صلاح الأمة فإذا وجدتم العدو ضعيفا و كان من الصالح غزوه فلا تتأخروا و هكذا...

4 - أن تخوضوا الغمرات إلى الحق: أي تقطعوا الشدائد و تتحملوا المصاعب و المصائب في سبيل الوصول إلى الحق و قطع دابر الباطل...

(فإن أنتم لم تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون عليّ ممن أعوجّ منكم ثم أعظم له العقوبة و لا يجد عندي فيها رخصة) هذا وعيد منه لهم إذا لم يقوموا بما عليهم

ص: 504

من الحق و قد هددهم بأمرين:

1 - تحقير المنحرف و إهانته بما يوجب سقوط منزلته و ازدرائه و هذا إسقاط معنوي و ضربة قاسية تناله في شرفه و كرامته.

2 - تشديد العقوبة عليه و تغليظها تأديبا له و ردعا لغيره ممن تسول له نفسه مثل ذلك ثم إنه لا رخصة في ذلك و لا تهاون... لا عفو عن هذا الذنب و لا يقبل الاعتذار منه...

(فخذوا هذا من أمرائكم و اعطوهم من أنفسكم ما يصلح اللّٰه به أمركم و السلام) خذوا مني و ممن يأتي بعدي من الولاة هذه الأمور التي يجب أن يؤديها الوالي إليكم و يقوم بها نحوكم و اعطوني و إياهم في مقابلها ما شرطت عليكم و ما عليكم من الحقوق التي بها تصلح الأمة و تجتمع على الألفة و المحبة...

ص: 505

51 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى عماله على الخراج من عبد اللّٰه عليّ أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج:

أمّا بعد، فإنّ من لم يحذر (1) ما هو صائر إليه لم يقدّم لنفسه ما يحرزها (2). و اعلموا أنّ ما كلّفتم به يسير، و أنّ ثوابه كثير، و لو لم يكن فيما نهى اللّٰه عنه من البغي (3) و العدوان (4) عقاب يخاف لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه. فأنصفوا (5) النّاس من أنفسكم، و اصبروا لحوائجهم (6)، فإنّكم خزّان (7) الرّعيّة، و وكلاء الأمّة، و سفراء (8) الأئمّة.

و لا تحشموا (9) أحدا عن حاجته، و لا تحبسوه عن طلبته (10)، و لا تبيعنّ للنّاس في الخراج (11) كسوة (12) شتاء و لا صيف، و لا دابّة يعتملون عليها (13)، و لا عبدا، و لا تضربنّ أحدا سوطا (14) لمكان درهم، و لا تمسّنّ مال أحد من النّاس، مصلّ و لا معاهد (15)، إلاّ أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى (16) به على أهل الإسلام، فإنّه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام، فيكون شوكة (17) عليه. و لا تدّخروا (18) أنفسكم نصيحة، و لا الجند حسن سيرة، و لا الرّعيّة معونة، و لا دين اللّٰه قوّة، و أبلوا (19) في سبيل اللّٰه ما استوجب عليكم، فإنّ اللّٰه سبحانه قد اصطنع (20) عندنا و عندكم أن نشكره بجهدنا، و أن ننصره بما بلغت قوّتنا، و لا قوّة إلاّ باللّٰه العليّ العظيم.

ص: 506

اللغة

1 - يحذر: يخاف و يأخذ الحيطة.

2 - يحرزها: يحفظها.

3 - البغي: الظلم.

4 - العدوان: الظلم الصراح.

5 - أنصفوا الناس: اعدلوا بينهم.

6 - الحوائج: ما يفتقر إليه و يحتاجه المرء.

6 - الحوائج: ما يفتقر إليه و يحتاجه المرء.

7 - الخزان: جمع خازن الذي يتولى حفظ المال.

8 - السفراء: الرسل.

9 - لا تحشموا: لا تغضبوا.

10 - الطلبة: بكسر الطاء المطلوب.

11 - الخراج: الضرائب، ما يدفع عن الأرض من الضريبة.

12 - الكسوة: اللباس.

13 - يعتملون عليها: يحتاجونها لعملهم.

14 - السوط: ما يضرب به من جلد مضفور و نحوه.

15 - المعاهد: الذمي.

16 - يعدى به: يظلم به، يتجاوز به.

17 - الشوكة: القوة.

18 - أدخر الشيء: خبأه لوقت الحاجة.

19 - أبلوا: أدّوا يقال: أبليته عذرا أي أديته إليه.

20 - اصطنع شيئا: أمر أن يصنع له.

الشرح

(من عبد اللّٰه علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج:

أما بعد فإن من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها) هذا الكتاب كتبه الإمام إلى عماله على الخراج و هم جباة الضرائب و فيه موعظة لهم و ترغيب في عمل الخير و لطف المعاملة و فيه بعض الأوامر و النواهي.

ابتدأ عليه السلام بترغيبهم في حفظ النفس و صيانتها من العذاب و أن من لم يحذر

ص: 507

و يخاف و يعد العدة لما هو صائر إليه من الحساب و الثواب و العقاب لم يقدم لنفسه ما يصونها و يحفظها فيجب على الإنسان أن يعرف العاقبة و يحذر من سوءها و يحصّن نفسه و يحفظها من العذاب...

(و اعلموا أن ما كلفتم به يسير و أن ثوابه كثير) إنكم تتعبون قليلا في جباية المال و لكن الأجر كثير من حيث إنه يسد عوز الناس و يرفع عنهم الحاجة و يقوّي الدولة و ينعش اقتصادها و ينشط حركتها التجارية...

(و لو لم يكن فيما نهى اللّٰه عنه من البغي و العدوان عقاب يخاف لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه) يعني لو لم يكن في البغي و الظلم عقاب أوجبه اللّٰه عليه و يخاف الإنسان منه لكان فيما يتركه من الثواب و الأجر عليه ما يدفعه للقيام به و بعبارة أخرى: إذا لم يكن ما يدعوه للخوف من العقاب فيجب أن يدعوه الثواب الذي يفوته.

(فانصفوا الناس من أنفسكم و اصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية و وكلاء الأمة و سفراء الأئمة) أوصاهم بعدة وصايا:

1 - أنصفوا الناس من أنفسكم: فما للناس عليكم من الحقوق أدوها إليهم و لا تظلموا أحدا منهم فأنتم و هم في الحق سواء.

2 - فاصبروا لحوائجهم: لا تضجروا و تضيقوا بهم و بمطالبهم و حاجاتهم بل احملوا أنفسكم على الصبر و الزموها به و علل ذلك بثلاثة أمور:

أ - إنكم خزان الرعية: أنتم أمناء في حفظ الخزينة العامة و هي عائدة للأمة و للشعب.

ب - و أنتم وكلاء الأمة: فالأمة انتدبتكم - لثقتها فيكم - على هذا المرفق المهم و جعلتكم وكلاء عنها تتولون شئون ما وكلتم عليه فيجب أن ترعوا العدالة و تحفظوا المصالح العامة...

ج - و سفراء الأئمة: فالقادة و الحكام و أولياء الأمور هم الذين جعلوكم رسلا من قبلهم تتولون الأمور نيابة عنهم و تصرّفون القضايا بالوكالة عنهم فكونوا وجوها طيبة تتلقى الناس بالبشر و البسمة و حسن الأخلاق...

4 - (و لا تحشموا أحدا عن حاجته) لا تغضبوا طالب حاجة فيرتد عنها و يمتنع عن تناولها.

ص: 508

5 - (و لا تحبسوه عن طلبته) لا تمنعوا أحدا عن حاجته و ما يطلب منكم بأن تحتجبوا عنه و تمتنعوا عن مقابلته.

6 - (و لا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء و لا صيف و لا دابة يعتملون عليها و لا عبدا) إذا وجب الخراج على بعضهم و كان به فقر و حاجة فلا تباع ثيابه المحتاج إليها في الشتاء أو الصيف و لا الدابة - حمار أو فرس أو بقرة و غير ذلك - التي يحتاج إليها في عمله كزارع و فلاح و لا يباع عبده المحتاج إلى خدمته بل كما قال تعالى: ف «إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ » .

7 - (و لا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم) إذا أردت أن تحصل على أموال الخراج و جبايتها فلا تضرب أبشار الناس و وجوههم لتحصيلها و بعبارة أخرى لا تستعمل العنف و القسوة في تحصيل مال الخراج بل اللين و الرفق و الكلمة الطيبة و هذا أسلوب من أساليب التربية الايجابية.

8 - (و لا تمسّن مال أحد من الناس مصلّ و لا معاهد إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه) نهاهم أن تمتد أيديهم إلى أموال المسلمين - و عبر عن المسلم بالمصلّ - كما نهاهم أن تمتد أيديهم بأخذ مال أحد من أهل الذمة و عبر عنه - بالمعاهد - و ذلك لحرمة أخذ مال الصنفين بدون طيبة نفس فالمسلم لإسلامه و المعاهد لما بينه و بين المسلمين من الالتزام بحمايته مقابل دفع الجزية...

نعم استثنى من ذلك ما لو كان المعاهد قد أعدّ فرسا للقتال أو سيفا أو ما أشبه ذلك من آلات الحرب و أدواتها مما يمكن أن يستخدم ضد المسلمين فقد أباح له أخذه و الاستيلاء عليه لئلا يتحول فيما بعد إلى قوة للكفار يحاربون به المسلمين فيكون سلاحا لم تسمح الدولة باقتنائه و هذا موجود في قوانين الدول و أنظمتها...

9 - (و لا تدخروا أنفسكم نصيحة) فكل جابي ينصح الآخر و يعلّمه الطرق الصحيحة و الشرعية التي تنسجم مع روح الإسلام و تعاليمه.

(و لا الجند حسن سيرة) كونوا مع الجنود بأفضل سيرة و أحسن سلوك و أطيب أخلاق لأنهم حماة الأرض و الدين و قامعي الكفرة و المفسدين...

(و لا الرعية معونة و لا دين اللّٰه قوة) قدّموا للناس كل معونة تستطيعون بها تقويتهم حتى تصلح أحوالهم و تزدهر بلادهم، و كذلك بلغّوا الإسلام و انشروا أحكامه و ادعوا إليه

ص: 509

بسيرتكم الطيبة و ادعموه بكل وسيلة لتجعلوه قويا عزيزا.

(و ابلوا في سبيل اللّٰه ما استوجب عليكم فإن اللّٰه سبحانه قد اصطنع عندنا و عندكم أن نشكره بجهدنا و أن ننصره بما بلغت قوتنا و لا قوة إلا باللّٰه العلي العظيم) جدوا و اجتهدوا و قوموا بما أوجبه اللّٰه عليكم لما قدّمه لكم و لنا من النعم و الخيرات فإنه أخذ علينا أن نشكره بما نقدر عليه و نطيق و ننصره بنشر دينه و تقويته بما نستطيع و ما نملك من قوة و قدرة و لا قوة لنا إلا باللّٰه العلي العظيم...

ص: 510

52 - و من كتاب له عليه السلام

اشارة

إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة أمّا بعد، فصلّوا بالنّاس الظّهر حتّى تفيء (1) الشّمس من مربض العنز (2)، و صلّوا بهم العصر و الشّمس بيضاء حيّة في عضو من النّهار حين يسار فيها فرسخان (3)، و صلّوا بهم المغرب حين يفطر الصّائم، و يدفع (4) الحاجّ إلى منى (5)، و صلّوا بهم العشاء حين يتوارى (6) الشّفق (7) إلى ثلث اللّيل، و صلّوا بهم الغداة (8) و الرّجل يعرف وجه صاحبه، و صلّوا بهم صلاة أضعفهم، و لا تكونوا فتّانين (9).

اللغة

1 - تفيئ: ترجع.

2 - مربض العنز: مرقدها.

3 - الفرسخ: وحدة مسافة تقدر بخمسة و نصف من الكيلومترات.

4 - يدفع الحاج: يفيض من عرفات أي يخرج منها.

5 - منى: بكسر الميم منسك من مناسك الحج معروف.

6 - توارى: اختفى و استتر.

7 - الشفق: حمرة الأفق بعد غروب الشمس.

8 - الغداة: جمعها غدوات، البكور، أول النهار.

9 - فتانين: مثيرين للفتنة.

الشرح

(أما بعد فصلوا بالناس الظهر حتى تفيئ الشمس من مربض العنز) هذه الرسالة كتبها الإمام إلى أمراء البلاد ينبههم فيها إلى أوقات الصلاة و هذا هو مقام الإمامة

ص: 511

حفظ الدين و رعاية شئون المسلمين.

أمرهم أن يصلوا بالناس جماعة و حدّد لهم وقت فضيلة الظهر فجعل وقتها من أول ميل الشمس و ابتداؤها بالغروب إلى أن يصبح ظلها بمقدار مرقد العنز و يقدّر بمتر و نصف المتر تقريبا و قد ابتدأ بذكر صلاة الظهر بقوله تعالى: «أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً» (1).

و قد ذكر فقهاؤنا رضوان اللّٰه عليهم أن وقت صلاة الظهر يبتدأ من الزوال و يعرف بزيادة الظل بعد توقفه أو تجدده بعد انعدامه و يمتد وقتها إلى المغرب يستثنى منه مقدار العصر بمقدار أدائها و قد استفيد هذا المعنى من الروايات الواردة في السنة و عموم الآية المتقدمة يشهد بذلك قوله تعالى: «أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ » فمن الزوال إلى الليل وقتها.

(و صلوا بهم العصر و الشمس بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان) و هذا تحديد لوقت صلاة العصر و وقتها بعد صلاة الظهر و قد حدّد وقت فضيلتها بوقت لم ينكسر فيها ضوؤها - لقربها من المغيب - بل لا تزال ناشرة نورها في الكون و حدّده بشكل أوضح حيث يبقى جزء من النهار و حدّد ذلك الجزء بأن يبقى مسيرة فرسخين من السير المعتاد و الفرسخ يقدر ب 5500 خمسة آلاف و خمسمائة متر.

(و صلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم و يدفع الحاج إلى منى) وقتّ للمغرب وقتين يصلى عند تحقق أحدهما:

الأول: حين يفطر الصائم و معلوم أن الإفطار يكون بسقوط قرص الشمس و اختفائه و عندها يبتدأ وقت صلاة المغرب.

الثاني: يكون وقت فضيلة المغرب بأول وقت يفيض الناس فيه من عرفات إلى منى و يكون ذلك بعد دخول المغرب من يوم التاسع من ذي الحجة و كأن هذا الوقت يعرفه الحجاج و يعرفه تبعا لهم من هو بعيد فيعرف وقتها بإفاضة الحجيج في أول الوقت بعد الغروب.

(و صلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل) حدد لصلاة العشاء وقت فضيلة و يبتدأ من اختفاء الحمرة المغربية إلى ثلث الليل و الليل يبتدأ من غروب قرص7.

ص: 512


1- سورة الإسراء، آية/ 87.

الشمس و اختفائه إلى ظهور الشمس و طلوعها فما بينهما ليل و يقدر ثلثه الأول فيكون فيه استحباب صلاة العشاء.

(و صلوا بهم الغداة و الرجل يعرف وجه صاحبه) هذا تحديد لوقت صلاة الصبح و وقتها عند طلوع الفجر الثاني و هو بياض معترض في الأفق الشرقي و قد أوضحه الإمام بأن يميز الأشخاص عند رؤيتهم...

(و صلّوا بهم صلاة أضعفهم و لا تكونوا فتانين) ينظر إلى أضعف المأمومين فيصلي الإمام بصلاته فلا يطيل بصلاته فيشق الأمر على الكبير أو المريض.

و نهاهم أن يكونوا فتانين لأنهم إذا أطالوا الصلاة امتنع الكبير و المريض و العاجز عن الصلاة و هذا يشكّل بداية إثارة شغب على الحكم الحاضر و اختلاف عليه و طعن فيه و بالتالي على الحاكم و الوالي و في ذلك أقبح النتائج و أسوأ الآثار...

ص: 513

ص: 514

الفهرس

221 - و من كلام له عليه السلام قاله بعد تلاوته «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر» 5

222 - و من كلام له عليه السلام قاله عند تلاوته «يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال لا تليهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللّٰه 24

223 - و من كلام له عليه السلام قاله عند تلاوته «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم» 34

224 - و من كلام له عليه السلام يتبرأ من الظلم 46

ترجمة عقيل بن أبي طالب 54

225 - و من دعاء له عليه السلام يلتجىء إلى اللّٰه أن يغنيه 56

226 - و من خطبة له عليه السلام في التنفير من الدنيا 58

227 - و من دعاء له عليه السلام يلجأ فيه إلى اللّٰه ليهديه إلى الرشاد 65

228 - و من كلام له عليه السلام يريد به بعض أصحابه 69

229 - و من كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة 71

230 - و من خطبة له عليه السلام في فضل العمل و الجد 73

231 - و من خطبة له عليه السلام خطبها بذي قار و هو متوجه إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجمل 83

232 - و من كلام له عليه السلام كلّم به عبد اللّٰه بن زمعة و هو من شيعته و ذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا فقال عليه السلام 85

ترجمة عبد اللّٰه بن زمعة 86

233 - و من كلام له عليه السلام بعد أن أقدم أحدهم على الكلام فحصر و هو في فضل أهل البيت و وصف فساد الزمان 87

ترجمة جعدة بن هبيرة المخزومي 90

ص: 515

234 - و من كلام له عليه السلام روى ذعلب اليماني عن أحمد بن قتيبة عن عبد اللّٰه بن يزيد عن مالك بن دحية قال:

كنا عند أمير المؤمنين و قد ذكر عنده اختلاف الناس فقال 91

235 - و من كلام له عليه السلام قاله و هو يلي غسل رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و تجهيزه 95

236 - و من كلام له عليه السلام اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي صلى اللّٰه عليه و آله ثم لحاقه به 98

237 - و من خطبة له عليه السلام في المسارعة إلى العمل 99

238 - و من كلام له عليه السلام في شأن الحكمين و ذم أهل الشام 102

ترجمة أبي موسى الأشعري 106

239 - و من خطبة له عليه السلام يذكر فيها آل محمد صلى اللّٰه عليه و آله 107

240 - و من كلام له عليه السلام قاله لعبد اللّٰه بن عباس و قد جاءه برسالة من عثمان و هو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل فقال عليه السلام 111

241 - و من كلام له عليه السلام يحث أصحابه على الجهاد 113

1 - و من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة 119

2 - و من كتاب له عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة 124

3 - و من كتاب له عليه السلام لشريح بن الحارث قاضيه 125

ترجمة شريح بن الحارث الكندي (القاضي) 131

4 - و من كتاب له عليه السلام إلى بعض أمراء جيشه 133

5 - و من كتاب له عليه السلام إلى أشعث بن قيس عمل أذربيجان 135

6 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية 137

7 - و من كتاب له عليه السلام إليه أيضا 140

8 - و من كتاب له عليه السلام إلى جرير بن عبد اللّٰه البجلي لما أرسله إلى معاوية 143

9 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية 145

ترجمة جعفر بن أبي طالب 151

ص: 516

الهجرة إلى الحبشة 151

جعفر في مواجهة وفد قريش 152

الشهادة في موقعة مؤته 153

ترجمة حمزة بن عبد المطلب 153

إسلام حمزة بن عبد المطلب 153

شهادته 154

ترجمة عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب 155

شهادته 155

10 - و من كتاب له عليه السلام إليه أيضا 156

11 - و من وصية له عليه السلام وصى بها جيشا بعثه إلى العدو 162

12 - و من وصية له عليه السلام وصى بها معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له 165

13 - و من كتاب له عليه السلام إلى أميرين من أمراء جيشه 168

14 - و من وصية له عليه السلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين 170

15 - و من دعاء له عليه السلام كان عليه السلام يقول إذا لقي العدو محاربا 173

16 - و كان يقول عليه السلام لأصحابه عند الحرب 176

17 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا عن كتاب منه إليه 179

18 - و من كتاب له عليه السلام إلى عبد اللّٰه بن عباس و هو عامله على البصرة 185

ترجمة عبد اللّٰه بن عباس 188

19 - و من كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله 189

20 - و من كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه و هو خليفة عامله عبد اللّٰه بن عباس على البصرة و عبد اللّٰه عامل أمير المؤمنين يومئذ عليها و على كور الأهواز و فارس و كرمان و غيرها 191

21 - و من كتاب له عليه السلام إلى زياد أيضا 193

22 - و من كتاب له عليه السلام إلى عبد اللّٰه بن العباس رحمه اللّٰه و كان عبد اللّٰه يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّٰه - صلى اللّٰه عليه و آله - كانتفاعي بهذا الكلام 195

23 - و من كلام له عليه السلام قاله قبل موته على سبيل الوصية لما

ص: 517

ضربه ابن ملجم لعنه اللّٰه 197

24 - و من وصية له عليه السلام بما يعمل في أمواله كتبها بعد منصرفه من صفين 200

25 - و من وصية له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات 204

26 - و من عهد له عليه السلام إلى بعض عماله و قد بعثه على الصدقة 212

27 - و من عهد له عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر رضي اللّٰه عنه حين قلّده مصر 217

28 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا قال الشريف و هو من محاسن كتبه 226

29 - و من كتاب له عليه السلام إلى أهل البصرة 241

30 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية 244

31 - و من وصية له عليه السلام للحسن بن علي عليهما السلام كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين 247

الدعاء 326

الدعاء و القرآن 326

الدعاء و السنة 326

تساؤل 327

من لا تستجاب دعوته 329

الدعاء في أيام الرخاء 330

لمن ندعوا 330

مدرسة أهل البيت في الدعاء 331

التوبة 332

بين التوبة و الاعتراف 333

التوبة في القرآن 334

التوبة في السنة 334

التوبة الصحيحة 335

كل ذنب قابل للتوبة 336

الصداقة 378

الاخوة 381

ترجمة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام 409

ص: 518

32 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية 418

33 - و من كتاب له عليه السلام إلى قثم بن العباس و هو عامله على مكة 421

ترجمة قثم بن عباس 424

34 - و من كتاب له عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر لما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر ثم توفي الأشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها 425

35 - و من كتاب له عليه السلام إلى عبد اللّٰه بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر 428

36 - و من كتاب له عليه السلام إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء و هو جواب كتاب كتبه إليه عقيل 431

37 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية 436

38 - و من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر 438

39 - و من كتاب له عليه السلام إلى عمرو بن العاص 442

40 - و من كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله 445

41 - و من كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله 447

42 - و من كتاب له عليه السلام إلى عمرو بن أبي سلمة المخزومي و كان عامله على البحرين فعزله و استعمل نعمان بن عجلان الزرقي مكانه 454

ترجمة عمرو بن أبي سلمة 455

ترجمة نعمان بن عجلان الزرقي 455

43 - و من كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني و هو عامله على أردشيرة خرة 457

44 - و من كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه 460

ترجمة زياد بن أبيه 462

الاستلحاق السياسي 463

45 - و من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري و كان عامله على البصرة و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها 465

46 - و من كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله 473

47 - و من وصية له عليه السلام للحسن و الحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّٰه 491

ص: 519

ترجمة الحسين بن علي شهيد كربلاء 491

حياة الحسين الشهيد 492

أقوال النبي فيه 492

الحسين و الدين 493

واقعة كربلاء 494

كلمات معصومة 495

48 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية 496

49 - و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية أيضا 499

50 - و من كتاب له عليه السلام إلى أمرائه على الجيش 501

51 - و من كتاب له عليه السلام إلى عماله على الخراج 506

52 - و من كتاب له عليه السلام إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة 511

ص: 520

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.