شرح نهج البلاغة (موسوی) المجلد 3

هویة الکتاب

شرح نهج البلاغة (موسوی)

شارح: موسوی، عباس علی

جامع: شریف الرضی، محمد بن حسین

كاتب: علی بن ابی طالب (ع)، امام اول

لغة: العربية

الناشر: دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - بیروت لبنان

سنة النشر:1418 هجری قمری|1998 میلادی

قانون الكونجرس: / م 8 38/02 BP

مكان النشر: بیروت - لبنان

سال نشر: 1377 ش

موضوع: علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - خطب

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - حروف

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - الأمثال

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. نهج البلاغة - نقد و تفسیر

لغة: العربية

عدد المجلدات: 5

ص: 1

اشارة

شرح نهج البلاغة (موسوی)

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

شرح نهج البلاغة (موسوی)

دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - دارالمحجة البیضاء

ص: 4

تتمة باب المختار من الخطب

156 - و من كلام له عليه السلام

خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل (1) نفسه على اللّه، عزّ و جلّ ، فليفعل.

فإن أطعتموني فإنّي حاملكم إن شاء اللّه على سبيل (2) الجنّة، و إن كان ذا مشقّة (3) شديدة و مذاقة (4) مريرة.

و أمّا فلانة فأدركها (5) رأي النّساء، و ضغن (6) غلا في صدرها كمرجل (7) القين (8)، و لو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ ، لم تفعل. و لها بعد حرمتها (9) الأولى، و الحساب على اللّه تعالى.

وصف الإيمان

منه: سبيل أبلج (10) المنهاج (11)، أنور السّراج. فبالإيمان يستدلّ على الصّالحات، و بالصّالحات يستدلّ على الإيمان، و بالإيمان يعمر العلم، و بالعلم يرهب الموت، و بالموت تختم الدّنيا، و بالدّنيا تحرز (12) الآخرة، و بالقيامة تزلف (13) الجنّة، «و تبرّز (14) الجحيم (15) للغاوين (16)». و إنّ الخلق (17) لا مقصر (18) لهم عن القيامة، مرقلين (19) في مضمارها (20) إلى الغاية القصوى.

حال أهل القبور في القيامة

منه: قد شخصوا (21) من مستقرّ الأجداث (22)، و صاروا إلى مصائر (23) الغايات (24). لكلّ دار أهلها لا يستبدلون بها و لا ينقلون عنها.

ص: 5

و إنّ الأمر بالمعروف، و النّهي عن المنكر، لخلقان من خلق (25) اللّه سبحانه، و إنّهما لا يقرّبان من أجل (26)، و لا ينقصان من رزق. و عليكم بكتاب اللّه، «فإنّه الحبل المتين، و النّور المبين»، و الشّفاء النّافع، و الرّيّ النّاقع (27)، و العصمة (28) للمتمسّك، و النّجاة للمتعلّق. لا يعوجّ (29) فيقام، و لا يزيغ (30) فيستعتب (31)، «و لا تخلقه (32) كثرة الرّدّ (33)، و ولوج (34) السّمع. «من قال به صدق، و من عمل به سبق».

و قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة، و هل سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله - عنها؟ فقال عليه السلام ؟.

إنّه لمّا أنزل اللّٰه سبحانه، قوله: «الم أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ » (35) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بين أظهرنا (36). فقلت: يا رسول اللّٰه، ما هذه الفتنة الّتي أخبرك اللّٰه تعالى بها؟ فقال: «يا عليّ ، إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي»، فقلت: يا رسول اللّٰه، أو ليس قد قلت لي يوم أحد (37) حيث استشهد من استشهد من المسلمين، و حيزت (38) عنّي الشّهادة، فشقّ (39) ذلك عليّ ، فقلت لي: «أبشر، فإنّ الشّهادة من ورائك ؟» فقال لي: «إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن ؟» فقلت: يا رسول اللّٰه، ليس هذا من مواطن الصّبر، و لكن من مواطن البشرى و الشّكر. و قال: «يا عليّ ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، و يمنّون بدينهم على ربّهم، و يتمنّون رحمته، و يأمنون سطوته (40)، و يستحلّون حرامه (41) بالشّبهات الكاذبة، و الأهواء السّاهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ، و السّحت (42) بالهديّة، و الرّبا بالبيع» قلت: يا رسول اللّٰه، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أ بمنزلة ردّة (43)، أم بمنزلة فتنة ؟ فقال:

«بمنزلة فتنة».

ص: 6

اللغة

1 - يعتقل: نفسه يحبسها.

2 - سبيل: الجنة طريقها.

3 - المشقة: الصعوبة العسيرة.

4 - المذاقة: الطعم.

5 - أدركها: وصل إليها و بلغها.

6 - الضغن: الحقد.

7 - المرجل: بكسر الميم قدر كبير.

8 - القين: بالفتح الحدّاد.

9 - الحرمة: ما لا يحل انتهاكه.

10 - أبلج: واضح.

11 - المنهاج: الطريق.

12 - أحرز: الآخرة. أدركها.

13 - تزلف: تقرّب و تقدّم.

14 - تبرز: تخرج و تظهر.

15 - الجحيم: جهنم.

16 - الغاوين: الضالين.

17 - الخلق: الناس.

18 - المقصر: المقعد و المجلس.

19 - مرقلين: مسرعين.

20 - المضمار: مكان استباق الخيل.

21 - شخصوا: خرجوا.

22 - الأجداث: القبور.

23 - المصائر: جمع مصير ما يصير إليه الإنسان من جنة أو نار.

24 - الغايات: جمع غاية و هي ما ينتهى إليه.

25 - الخلق: السجية و الطبع.

26 - الأجل: وقت الموت، الغاية.

27 - الري الناقع: المزيل للعطش.

28 - العصمة: المنع، ملكة اجتناب المعاصي و الخطأ.

29 - يعوّج: ينحني ضد الاعتدال و الاستقامة.

ص: 7

30 - يزيغ: يميل.

31 - يستعتب: طلب منه العتبى أي استرضاه.

32 - تخلقه: تبليه.

33 - الرد: الترديد، التكرار مرة بعد أخرى.

34 - الولوج: الدخول.

35 - لا يفتنون: لا يبتلون أو يمتحنون.

36 - بين أظهرنا: موجود بيننا.

37 - أحد: موقع قرب المدينة المنورة و فيه جبل أحد و أيضا فيه كانت الموقعة المعروفة.

38 - حيزت: انقبضت عني و باعدت.

39 - شقّ : صعب.

40 - السطوة: الغلبة و القهر.

41 - استحل الحرام: اتخذه حلالا جائزا.

42 - السحت: الحرام.

43 - الردة: الرجوع عن الدين و الكفر به.

الشرح

(فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على اللّٰه عز و جل فليفعل. فإن أطعتموني فإني حاملكم إن شاء اللّٰه على سبيل الجنة و إن كان ذا مشقة شديدة و مذاقة مريرة) قالوا:

هذا الكلام منه يقتضي أن يكون قد تقدم ذكر ما يقع بين المسلمين من الفتنة و من هنا يوصي الحاضرين بأن من استطاع منهم في ذلك الوقت أن يعتزل الفتنة و لا يقع فيها بل يحبس نفسه على طاعة اللّٰه و يلتزم بها فليفعل ذلك.

ثم أراد أن يأخذ بأيديهم إلى الجنة و يضعهم في الطريق المؤدي إليها و هذا الطريق و إن كان شديدا صعبا لأنه يحمل التكليف و العمل و الكف عما تشتهيه النفس و ترغب فيه بينما طريق النار من أسهل ما يكون فإنه بدون تكليف و يكون الإنسان مع شهواته و ما يحب و يرغب، و لكن الإمام اشترط عليهم الطاعة له و الانقياد لأوامره حتى يوصلهم إلى الجنة و هذا من أهم ما يجب لدخول الجنة فإن الطاعة لأمر الطبيب و الالتزام بما يقول هو الموصل إلى الشفاء...

(و أما فلانة فأدركها رأي النساء و ضغن غلا في صدرها كمرجل القين و لو دعيت

ص: 8

لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل و لها بعد حرمتها الأولى و الحساب على اللّٰه تعالى) أشار بفلانة إلى عائشة أم المؤمنين و ما وقع منها نحو شخصه الكريم و قد بيّن سبب ذلك بضعف النساء الذي يأخذهن و يجرهن إلى ذلك و المرأة بطبعها ضعيفة عاطفية صاحبة هوى إذا أحبت أصيبت بالجنون و إذا أبغضت كفرت و كفّرت و أم المؤمنين لم تخرج عن هذه القاعدة...

و بيّن أيضا سببا آخر و هو أنها كانت تحمل حقدا على الإمام و لكنه حقد رهيب عظيم لا يدعها تستقر أو ترتاح و شبهه الإمام بقدر الحداد الذي يغلي و قد ذكروا لحقدها أسبابا كثيرة:

منها: ما أشار به الإمام على النبي عند ما استشاره في قصة الإفك فقال له: إن النساء كثير، أو قال: ما هي إلا شسع نعلك...

و منها: كون فاطمة الزهراء و أحب الناس إلى النبي هي حليلة الإمام فسرت العداوة من الزوج إلى الزوج.

و منها: إن عليا كان المنافس الوحيد الذي تخافه على من تحب له الإمارة و الخلافة...

و منها: إن النبي سد أبواب الصحابة كلها ما عدا باب الإمام.

و منها: إن النبي كان قد دفع لأبي بكر براءة ليبلغها ثم انتزعها منه و أعطاها للإمام.

و هناك وقائع كثيرة لم تقدر أن تتحمل وقعها على قلبها فحقدت و ازدادت حقدا.

و أقول: هذه هي مصيبة الكمال و الضريبة التي تقع عليه باستمرار و لا جريمة لعلي إلا أنه أخلص للّٰه و كان في خط اللّٰه و أخلص عباده إليه... و ما كان الإمام ليصاب بما أصيب به لو كان من عرض الناس... إنه الكمال يواجهه النقص بكل ما يملك من ضعف و عجز و مكر و احتيال.

ثم إن الإمام أراد أن يجرّد أم المؤمنين من أهدافها الإسلامية في حربه و ما كان منها إنما كان لدوافع شخصية خاصة تحملها في نفسها نحو الإمام و لذا قال: لو أنها دعيت إلى الخروج ضد غيري مثل عمر لم تخرج عليه كما خرجت عليّ و لم تحاربه كما حاربتني فعدم خروجها على غيري الذي لو حل محلي و خروجها عليّ دليل على أن خروجها لقتالي و حربي لم يكن للّٰه و لم يكن طلبا لمرضاته و إنما كان لحقد يعيش في قلبها...

ص: 9

ثم إنه عليه السلام بما يتمتع به من كمال عظيم يقصر عنه كل كمال قال: إن لها حرمتها الأولى من كونها من أمهات المؤمنين ففي الدنيا لها هذا الحق و أما في الآخرة فالحساب عند اللّٰه و الوقوف بين يديه و هي قد أقدمت على حرب ذهب ضحيتها الكثيرون و فتحت باب القتال بين المسلمين و جرأت معاوية للوقوف في وجه الحق و أدت حربها يوم الجمل إلى انحراف فظيع في الأمة و اللّٰه يحاسبها به و يسألها عنه...

كنت أقرأ هذه العبارة فيشدني الفكر قهرا عني إلى تصور لهذا الإنسان العظيم فلا أجد أكبر منه إلا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله... أتصور الأخلاقية الإسلامية التي يتمتع بها الإمام فأركع أمام هذا الإنسان الفريد في التاريخ و أصلي في محرابه مستلهما منه كل أخلاقيات المسلم و آدابه...

(سبيل أبلج المنهاج أنور السراج فبالإيمان يستدل على الصالحات و بالصالحات يستدل على الإيمان و بالإيمان يعمر العلم و بالعلم يرهب الموت و بالموت تختم الدنيا و بالدنيا تحرز الآخرة و بالقيامة تزلف الجنة و تبرز الجحيم للغاوين و أن الخلق لا مقصر لهم عن القيامة مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى) الحديث يتمحور حول الإيمان الذي هو عقيدة قلبية يقينية باللّٰه و رسوله و بما جاء به النبي و هذا الإيمان واضح الطريق إلى الجنة أو أنه واضح الأصول فطري في النفس و هو مضيء نير لكل قاصد و طالب...

و بالإيمان يستدل على الصالحات: من كان مؤمنا و صح إطلاق الاسم عليه استطعنا أن نعرف أنه يعمل الصالحات و هي كل الأفعال الطيبة المحبوبة المرغوبة للّٰه لأن من مقتضى الإيمان عمل الصالحات كما أن من وجدناه يواظب على الأعمال الطيبة الصالحة استكشفنا من ذلك أنه مؤمن طيب فمن المعلول نستكشف العلة و من العلة نستدل على المعلول...

ثم إنه عليه السلام يرتب على الإيمان ثمرة مهمة و هي أنه بالإيمان يعمر العلم فمن كان مؤمنا كان مندفعا نحو العلم الذي يخدم الإنسان و يرفع من شأنه و يهيء له سبل السعادة و ما فيه خير الإنسانية و سعادتها، و من كان مؤمنا يجب عليه أن يتعلم ما يحتاجه في الحياة سواء كان على مستوى العبادات أم المعاملات من أمور المعاش أو أمور المعاد... ثم رتب على العلم أثره و هو أن به يرهب الموت لأن من تعلم حقيقة عرف حقيقة الموت فخاف منه و أعد له عدته و استعد له.

و بعد مجيء الموت تنتهي حياة الإنسان من الدنيا و يقفل ملفه منها و يهيء للآخرة و ما فيها من حساب.

ص: 10

ثم قال عليه السلام: و بالدنيا تحرز الآخرة لأن الدنيا هي دار العمل و فيها يتم البيع و الشراء فمن أحسن و أجاد فإلى الجنة و من أساء و عصى فإلى النار...

ثم بعد أن يموت الإنسان و يأتي يوم الحساب تقّرب الجنة من المتقين و تبرز الجحيم إلى الغاوين الذين ضلوا السبيل و هذا مأخوذ من قوله تعالى: «وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغٰاوِينَ » (1).

ثم ذكر أنه لا بد من القيامة و لا بد للإنسان من ورودها و الوقوف للحساب فيها.

إنهم يسرعون نحوها في مدة حياتهم في الدنيا قاصدين إلى الآخرة التي هي أقصى غاية الإنسان و نهاية شوطه...

(قد شخصوا من مستقر الأجداث و صاروا إلى مصائر الغايات لكل دار أهلها لا يستبدلون بها و لا ينقلون عنها) الحديث عن أهل القبور فيصوّر حالهم يوم القيامة و أنهم قد خرجوا من قبورهم التي كانوا مستقرين بها و ارتحلوا إلى البيوت الأبدية التي صاروا إليها بأعمالهم و اختاروها بأيديهم فأهل الطاعة إلى الجنة و أهل المعصية إلى النار و لكل دار أهل لا يستبدلونها بغيرها أخف منها أو أحسن و لا ينقلون عنها إلى غيرها مما يرغبون و يطلبون بل هي لازمة لهم لا تنفك عنهم و لا تتخلى عن وجودهم...

(و إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لخلقان من خلق اللّٰه سبحانه و أنهما لا يقربان من أجل و لا ينقصان من رزق) و هذه جملة من وصاياه يوصي بها المسلمين و ابتدأ بفريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فأوصى بإقامتها و قد رغب فيها بجعلها من صفات اللّٰه بل من أخلاق اللّٰه باعتبار أنه سبحانه أمر بالمعروف عند ما شرّع العبادات و أعمال الخير و ما ينفع الإنسان و طلب من الناس أن يقوموا بها فإنه سبحانه ما أمر إلا بمعروف و كذلك ما نهى إلا عن منكر فقد نهى عن الزنا و السرقة و القتل و غيرها من المنكرات و رفع عن طريق الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر عقبتين يمكن أن تكونا أهم العقبات المانعة و ذلك أن هذا الواجب ربما ظن أن القيام به يؤدي إلى الموت أو إلى نقصان الرزق فيكفّ المسلم عن وعظ الظالمين و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر فردّ الإمام على فساد هذا الظن أو الوهم بأنه لن يقدم الموت المؤخر و لن ينقص الرزق الذي قدّر.

(و عليكم بكتاب اللّٰه «فإنه الحبل المتين و النور المبين» و الشفاء النافع و الري الناقع1.

ص: 11


1- سورة الشعراء، آية - 91.

و العصمة للمتمسك و النجاة للمتعلق لا يعوج فيقام و لا يزيغ فيستعتب و لا تخلقه كثرة الرد و ولوج السمع «من قال به صدق و من عمل به سبق») وصّى باتباع القرآن الكريم منبها لبعض أوصافه الموجبة للزومه و هي عدة:

1 - فإنه الحبل المتين: استعار له لفظ الحبل لأن من تمسك به نجا من عذاب اللّٰه و عقابه.

2 - إنه النور المبين: فهو في نفسه نور و في الوقت نفسه منور للقلوب من حيث يرفع عنها الغشاوة و الجهل قال تعالى: «قَدْ جٰاءَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ نُورٌ وَ كِتٰابٌ مُبِينٌ » .

3 - إنه الشفاء النافع: إنه الوصفة النافعة لكل مرض نفسي أو روحي أو اجتماعي و في كل مجالات الحياة.

4 - إنه الريّ الناقع: فمن كان متعطشا للعلم و المعرفة ففي القرآن ما يروي غليله و يحقق أمنيته.

5 - العصمة للمتمسك و النجاة للمتعلق فمن التجأ إليه و تعلق بما فيه بأن عمل بجميع أوامره و ترك نواهيه فلا شك أنه استمسك بالعصمة الوثقى و نجى من عذاب اللّٰه الجبار...

6 - لا يعوج فيقام: ليس فيه خطأ في فكرة أو نقص في حكم فيحتاج إلى من يعدّ له و يصححه لأنه من عند اللطيف الخبير قال تعالى: «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلىٰ عَبْدِهِ اَلْكِتٰابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» (1).

7 - و لا يزيغ فيستعتب: لا ينحرف فيما شرّع أو رأى حتى يرد إلى الصواب و يطلب منه الرجوع إلى الحق.

8 - لا تخلقه كثرة الرد و ولوج السمع: لا تمله كثرة ترديده و استماعه و تجعله قديما يسأمه الإنسان و هذه خاصية في القرآن تجد أن الآية تقرأها عدة مرات و تكرر قراءتها و قد تكون قد سمعتها عشرات المرات و مع ذلك تجد في كل مرة ما يشدك إليها و يربطك بها و كأنك لم تسمعها إلا في هذه المرة التي تسمعها فيها الآن.

9 - من قال به صدق: إذ أنه الصادق فما احتج به إنسان إلا صدق و ما استشهد به على رأي إلا أصاب.1.

ص: 12


1- سورة الكهف آية، - 1.

10 - و من عمل به سبق: من عمل بالقرآن و أحكامه و ما فيه من حلال و حرام سبق غيره إلى الجنة و فاز بقصبة السبق...

(إنه لما أنزل اللّٰه سبحانه قوله: «الم أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ » علمت أن الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّٰه - صلى اللّٰه عليه و آله - بين أظهرنا فقلت:

يا رسول اللّٰه ما هذه الفتنة التي أخبرك اللّٰه تعالى بها؟ فقال: «يا علي إن أمتي ستفتن من بعدي» فقلت: يا رسول اللّٰه، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت عني الشهادة فشق ذلك عليّ فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك ؟ فقال لي: «إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذن ؟» فقلت: يا رسول اللّٰه ليس هذا من مواطن الصبر و لكن من مواطن البشرى و الشكر) هذه المحاورة اللطيفة جرت بين محبين، بين استاذ و تلميذ بين أب و ابن بين خليل و خليل يسمع الإمام قول اللّٰه: «الم أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ » فيقف على معناها و يعرف أن الفتنة التي هي الاختبار الصعب و الامتحان العسير من هجر الأوطان و أنواع المصائب و العجائب لا بد منها للمسلم الذي يدعي الإيمان، لأن الامتحان يكشف حقيقة الإنسان و يظهر الأصيل من الدخيل و المستقر من المستعار. لا بد من الامتحان لتظهر حقائق الإيمان و لكن الإمام عرف أيضا أن هذه الفتنة لن تكون و رسول اللّٰه حي يعيش بين المسلمين لأن وجوده ضمان أكيد لعدم الوقوع في هذه الفتنة، إنه آخذ بأيدي المسلمين و مانعهم من الوقوع فيها و من هنا أراد الإمام أن يعرف ما هذه الفتنة التي ستقع بعده و ما أبعادها و ما خطرها و بأي شيء ستكون فلذا توجه إلى الرسول يسأله: يا رسول اللّٰه ما هذه الفتنة التي أخبرك اللّٰه تعالى بها؟.

فأجابه النبي: يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي ؟ و لما كانت هذه الفتنة عظيمة و لا يتمنى أن يكون الإمام حاضرا لها و خصوصا إذا استشرت و تسربت إلى الأمة جميعها فإنه أراد أن يستعلم من النبي هل يكون حاضرا يومها؟ و هل يرى هذه الفتنة بأم العين... إنه يتمنى الشهادة التي وعده بها النبي و لذا يسأله عن هذا الاستبطاء بها قائلا للنبي.

فقلت: يا رسول اللّٰه أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت عني الشهادة أي منعت و لم تأت فشق ذلك علي فقلت لي: أبشر فإن الجنة من ورائك أي أنها آتية لا محالة.

فقال لي: إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذن ؟ أي أن الشهادة واقعة قطعا كما أخبرتك فكيف صبرك عليها.

ص: 13

فأجابه الإمام بجواب العارف باللّٰه المطمئن لحكمه الذي يعيش معه و ينتظر فضله.

فأجابه الإمام ليس هذا من مواطن الصبر و لكن من مواطن البشرى و الشكر فإن الصبر إنما يكون على المكروه و على ما ليس بمحبوب أما الإمام العارف باللّٰه الملتزم باحكامه المنتظر لنعيمه و هذا يتحقق بالشهادة و الانتقال باللّٰه فهذا مواطن السرور و البشرى و هذا امر يستحق الشكر لأنه نعمة...

ثم بيّن الإمام الفتنة و مواردها في ضمن أمور فقال:

(و قال: يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم و يمنون بدينهم على ربهم و يتمنون رحمته و يأمنون سطوته و يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة و الأهواء الساهية فيستحلون الخمر بالنبيذ و السحت بالهدية و الربا بالبيع قلت: يا رسول اللّٰه فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أ بمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة ؟) أخبر الإمام عن النبي بموارد الفتنة و أهم ما تقع فيه الأمة من الانحراف.

1 - سيفتنون بأموالهم أي الأموال ستكون هي محط الفتنة و بها تختبر الرجال هل سيحصلون عليها من حلها و هل ستصرف في محلها؟ و هل سيؤدى منها الحق أو يمنع أهله و إلى غير ذلك من موارد الخطر فيها.

2 - يمنون بدينهم على ربهم: يرون في تدينهم منة و فضلا على اللّٰه فيريدون منه لإيمانهم كل شيء و كأن هذا الإيمان يعود بالفائدة على اللّٰه و ليس عليهم و هذا كأعراب الجاهلية الذين أسلموا و أرادوا أن يمنوا على النبي بإسلامهم فحكي اللّٰه قصتهم في قوله:

«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ » .

3 - يتمنون رحمته: و هذا من عيوب العاطلين الكسالى أنهم يعيشون الأماني و لا يتحركون فيما يطلبون و يتمنون. إن الفتنة تكون في طلب أمر و التمني له دون السعي لتحصيله و العمل للوصول إليه فهؤلاء القوم يتمنون رحمة اللّٰه بالعفو عنهم و الصفح و بالجنة و نعيمها و لكنهم لا يعملون من أجل ذلك أي عمل...

4 - يأمنون سطوته: إنهم يعيشون الأمان من غضب اللّٰه و عذابه و كأنهم أخذوا عهدا أنه لن يعذبهم فلذا يعملون السيئات و المعاصي و يقولون: إن اللّٰه غفور رحيم ضاربين عرض الجدار قوله تعالى: «أَنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ » .

5 - يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة و الأهواء الساهية: إنهم يحللون الحرام

ص: 14

و يستحلونه بأمور واهية لا أساس لها و لا صحة بل يحتالون على النص و يطوعونه بحيث يخدم مصالحهم و يحلل لهم ما يشتهون فما يرغبون فيه يخلق لهم وعاظ السلاطين و مشايخ السوء ما يخدم أغراضهم و يحللون لهم ما يريدون و قد وقع في زماننا هذا ما يشيب منه الوليد فقد صدرت فتوى من شيخ الأزهر يبيح فيها الصلح مع إسرائيل التي اغتصبت أرض المسلمين و شردت أهل فلسطين و قتلت ملايين المجاهدين و مع هذا قام هذا الشيخ ليقول للناس في مقام تبرير ما يذهب إليه الحاكم الظالم من الصلح بقوله تعالى: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا» نسي اغتصاب الأرض، و نسي تشريد أهلها؟ و نسي القبلة الأولى للمسلمين، و نسي أن فلسطين أرض إسلامية لا يمكن التنازل عنها لغاصب أو قاهر أو مستعمر...

و قد ذكر الإمام صغريات لتلك الكبرى فهم يستحلون الخمر بالنبيذ: فالخمر المحرم في كتاب اللّٰه و سنة نبيه يحللونه بشربهم للنبيذ لأن النبيذ يشترك مع الخمر في الإسكار فيشربونه بحجة أنه ليس بخمر فاختلاف الاسم جعلوه مبررا لشرب النبيذ المحرم الذي يشارك الخمر في الحرمة و في الإسكار...

كما أنهم يستحلون السحت بالهدية فالرشوة محرمة في دين اللّٰه و لا تحل و لكنهم يحتالون على حليتها بتغيير اسمها فيسمونها هدية، فهذا القاضي يدفع إليه أحد الخصمين مالا ليحكم له بحجة أنه هدية فكأن تغيير الاسم يغيّر الحقيقة و النية و القصد و كذلك يستحلون الربا بالبيع فهم يبيعون أحد المتجانسين بمثله و زيادة مما نص الشارع على دخول الربا فيه و لكنهم يتصورون أن هذا البيع يحلل الزيادة و يخرج المعاملة عن الربا فيستحلون الربا بمعاملة ظاهرها البيع أو بما يجيزون أخذه بالبيع و إن كان حراما...

و أراد الإمام في نهاية الحديث أن يعلم الأمة و علمائها بأن هذا النوع من الفتنة بأي منزلة ينزل مرتكبها هل بمنزلة الردة التي هي الخروج عن الإسلام و الالتحاق بالكفار أم بمنزلة الفسق الذي لا يخرج به الإنسان عن الإسلام و إن خرج من الإيمان، فأجابه النبي:

إنهم ينزلون منزلة الفتنة التي هي معصية يبقى الإنسان بها مسلما ظاهرا تجري عليه أحكام المسلمين و يعامل معه معاملتهم...

ص: 15

157 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يحث الناس على التقوى الحمد للّٰه الّذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، و سببا للمزيد من فضله، و دليلا على آلائه (1) و عظمته.

عباد اللّٰه، إنّ الدّهر (2) يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولّى (3) منه، و لا يبقى سرمدا (4) ما فيه. آخر فعاله كأوّله. متشابهة أموره، متظاهرة (5) أعلامه (6). فكأنّكم بالسّاعة (7) تحدوكم (8) حدو الزّاجر (9) بشوله (10): فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظّلمات، و ارتبك (11) في الهلكات (12)، و مدّت به شياطينه في طغيانه، و زيّنت (13) له سيّ ء أعماله.

فالجنّة غاية السّابقين، و النّار غاية المفرّطين (14).

اعلموا، عباد اللّٰه، أنّ التّقوى دار حصن عزيز، و الفجور (15) دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، و لا يحرز (16) من لجأ إليه. ألا و بالتّقوى تقطع حمة (17) الخطايا (18)، و باليقين تدرك الغاية القصوى.

عباد اللّٰه، اللّٰه اللّٰه في أعزّ الأنفس عليكم، و أحبّها إليكم: فإنّ اللّٰه قد أوضح لكم سبيل الحقّ و أنار طرقه. فشقوة (19) لازمة، أو سعادة دائمة! فتزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء. قد دللتم على الزّاد، و أمرتم بالظّعن (20)، و حثثتم (21) على المسير، فإنّما أنتم كركب وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالسّير. ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة! و ما يصنع بالمال من عمّا قليل

ص: 16

يسلبه، و تبقى عليه تبعته (22) و حسابه!.

عباد اللّٰه، إنّه ليس لما وعد اللّٰه من الخير مترك، و لا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب.

عباد اللّٰه، احذروا يوما تفحص (23) فيه الأعمال، و يكثر فيه الزّلزال، و تشيب فيه الأطفال.

اعلموا، عباد اللّٰه، أنّ عليكم رصدا (24) من أنفسكم، و عيونا من جوارحكم، و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، و عدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج (25)، و لا يكنّكم (26) منهم باب ذو رتاج (27)، و إنّ غدا من اليوم قريب.

يذهب اليوم بما فيه، و يجيء الغد لاحقا به، فكأنّ كلّ امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، و مخطّ (28) حفرته. فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، و مفرد غربة! و كأنّ الصّيحة (29) قد أتتكم، و السّاعة قد غشيتكم (30)، و برزتم لفصل القضاء، قد زاحت (31) عنكم الأباطيل، و اضمحلّت (32) عنكم العلل (33)، و استحقّت بكم الحقائق، و صدرت بكم الأمور مصادرها، فاتّعظوا بالعبر، و اعتبروا (34) بالغير (35)، و انتفعوا بالنّذر.

اللغة

1 - آلائه: نعمه.

2 - الدهر: الزمان.

3 - ولى: مضى و انقضى.

4 - السرمد: الدائم.

5 - متظاهرة: متعاونة.

ص: 17

6 - الأعلام: الرايات.

7 - الساعة: القيامة.

8 - الحدو: و الحداء الغناء للإبل كي تسرع في المشي.

9 - الزاجر: السائق الذي يزجر الإبل و يسوقها.

10 - الشول: جمع شائلة و هي الناقة التي جف لبنها.

11 - ارتبك: في الهلكات وقع فيها و الارتباك الاختلاط و ارتبك الرجل في الأمر إذا نشب فيه و لم يكد يتخلص منه.

12 - الهلكات: من الهلاك و هو الموت.

13 - التزيّن: التحسين.

14 - المفرط: المقصر.

15 - الفجور: الانحراف و الفحش في الفعل.

16 - لا يحرز: لا يحفظ.

17 - الحمة: للعقرب إبرتها التي تلسع بها.

18 - الخطايا: المعاصي.

19 - الشقوة: الشقاء و التعاسة.

20 - الظعن: المسير و الرحيل.

21 - حثثتم: من حثه على الفعل إذا حضه عليه و نشّطه على فعله.

22 - التبعة: الآثار.

23 - فحص عنه: بحث عنه و الفحص الامتحان.

24 - الرصد: الرقيب.

25 - الداج: المظلم.

26 - يكنكم: يستركم و يحفظكم.

27 - الرتاج: الغلق و رتج الباب إذا أغلقه.

28 - المخط: حدود القبر.

29 - الصيحة: نفخة الصور.

30 - غشيتكم: أتتكم و غشاه غطاه.

31 - زاحت: بعدت و انكشفت.

32 - اضمحلت: تلاشت و ذهبت.

33 - العلل: جمع علة ما يتوقف عليه الشيء، السبب.

34 - العبر: العظات.

35 - الغير: بكسر ففتح يقال غير الدهر أي أحداثه.

ص: 18

الشرح

(الحمد للّٰه الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره و سببا للمزيد من فضله و دليلا على آلائه و عظمته) ابتدأ عليه السلام بحمد اللّٰه الذي جعل الحمد ابتداء في كثير من سوره المباركة و جعله سببا للمزيد من فضله فقد قال تعالى: و «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » و أما كون الحمد دليلا على آلائه - و هي نعمه - و على عظمته و هي قدرته فلأنه إذا كان سببا للمزيد فقد دل ذلك على عظمة الصانع و آلائه أما دلالته على عظمته فلأن قدرته لا تتناهى أبدا بل كلما ازداد الشكر ازدادت النعمة و أما دلالته على آلائه فلأنه لا جود أعظم من جود من يعطي من يحمده لا حمدا متطوعا بل حمدا واجبا عليه.

(عباد اللّٰه إن الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين لا يعود ما قد ولى منه و لا يبقى سرمدا ما فيه آخر فعاله كأوله متشابهة أموره متظاهرة أعلامه) ابتدأ عليه السلام بالموعظة و توجيه النصيحة إلى الناس مذكرا لهم بأمور يراها الجميع فهذا الدهر حكمه بالحاضرين من الناس كما كان حكمه في الماضين، يحملهم على قاعدة واحدة و حكمه فيهم مشترك فكل يوم مرّ على الأجداد يمر مثله على الأبناء و الأحفاد و أعمارهم المحدودة هي نفسها أعمار الحاضرين المحدودة تحددها السنون و الأيام. لا يعود ما مضى من الأيام و كل يوم مضى لا يعوّض كما أن ما فيه لا يبقى مدى الدهر بل يفنى و ينصرم باستمرار و إذا كان الماضي لا يعود و الباقي لا يدوم فعلى العاقل أن يعمل لكل وقت وظيفته و واجبه و يلبس لكل وقت لبوسه...

ثم أشار إلى أن آخر فعاله كأوله فكما يفعل اليوم كان فعله من أول أمره، فالآن موت و فقر و ظلم و حياة و غنى و عدل و هكذا دواليك... و هكذا كان يفعل في عهد آدم و في العهود المتقاربة له و بعده و سيبقى في هذه الدائرة يتحرك و على هذا القطب يدور... متشابهة أفعاله لا تفترق إلا بتغير الأوقات و تبديل الأشخاص...

و أشار إلى أن أعلامه متظاهرة أي ما فيه من أحداث و أمور يعاضد بعضها بعضا و يقويها فهي على نسق واحد و طبيعة واحدة لا تختلف و لا تتخلف...

(فكأنكم بالساعة تحدوكم حد و الزاجر بشوله: فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات و ارتبك في الهلكات و مدت به شياطينه في طغيانه و زيّنت له سيء أعماله فالجنة غاية السابقين و النار غاية المفرطين) نبه عليه السلام بقرب يوم القيامة و شبه سوقها للناس بسائق الشول و هي الناقة التي لا فصيل لها و لا لبن فيها فيكون سوقها أسرع و هي مأمونة

ص: 19

العثار و كذلك القيامة فإنها تسرع بنا للوصول إليها بسرعة و إذا كانت تطلبنا بهذه السرعة و تدفع بنا إلى ساحتها أردف ذلك بأن على الإنسان أن يشتغل بنفسه فقال: إن من شغل نفسه بغير نفسه بأن نظر إلى عيوب الناس و ما عندهم من مشاكل ثم لم ينظر إلى نفسه و عيوبها فيصلحها فهذا قد تحير في الظلمات فلا يستطيع الخروج منها لأنها حجبته عن الطاعات فراح في ظلمات معاصي الناس و إحصاء عثراتهم يتخبط و يتحير...

ثم لتعاسته و عدم التفاته إلى نفسه أحاطت به شياطينه و أخذت تزوده بفنون الانحراف و الخطيئة و تزين له سوء أعماله كما قال عز و جل: «أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» .

ثم ذكر غاية وجود الإنسان و مصيره و أنه في النهاية بين أمرين إما إلى الجنة و إما إلى النار فالجنة نهاية و غاية السابقين إلى طاعة اللّٰه و تنفيذ أمره و أما النار فهي غاية المفرطين المضيعين لأمره و المرتكبين لمعاصيه و ما نهى عنه...

(اعلموا عباد اللّٰه أن التقوى دار حصن عزيز و الفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله و لا يحرز من لجأ إليه ألا و بالتقوى تقطع حمة الخطايا و باليقين تدرك الغاية القصوى) ذكر فضيلة التقوى و نبه على قبح الفجور و قد شبه التقوى بدار حصينة عزيزة أما في الدنيا فإن للأتقياء في نفوس الناس مهابة و احتراما جعلها اللّٰه لهم لهذه الصفة و هم في مأمن من التهم الزائفة و الرذائل و أما في الآخرة فهي تقيه ذل النار و عذابها و غضب اللّٰه الجبار.

و أما الفجور فشبهه بدار قديمة قد أكلها البلى فلا تمنع أهلها من أذى أو شر قصدهم به غيرهم أما في الدنيا فأصحاب الفجور ينظر إليهم نظر استخفاف و احتقار بل ليس هناك أخسّ من أصحاب الفجور و أما في الآخرة فإن هذا الفجور عاقبته النار لا يمتنع به عن العذاب و لا يدفع به غضب اللّٰه سبحانه و تعالى ثم بيّن أن بالتقوى تقطع أصول الرذائل و النقائص و كل عيوب هذا الإنسان كما تقطع سموم العقرب و أذيته بقطع إبرته التي يلسع بها.

و بيّن أيضا أن باليقين و هو القوة النظرية و الفكرة التي يحملها الإنسان و يكون معتقدا بها و واصلا إلى درجة اليقين منها فإنه يسعى وراء ما يعتقد و يتيقن و من هنا كان أصحاب الرسالات من أقوى الناس تحملا للمشاق و الأذية في سبيل دعوتهم...

(عباد اللّٰه، اللّٰه اللّٰه في أعز الأنفس عليكم و أحبها إليكم فإن اللّٰه قد أوضح لكم سبيل الحق و أنار طرقه فشقوة لازمة أو سعادة دائمة فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء قد دللتم على الزاد و أمرتم بالظعن و حثثتم على المسير فإنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير، ألا فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة و ما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه

ص: 20

و تبقى عليه تبعته و حسابه) هذا عود إلى تحذير الناس و تنبيههم إلى الغاية القصوى التي يجب أن يسعوا من أجلها فنادهم بلفظ العبودية التي هي أشرف لقب لهذا الإنسان قائلا:

اللّٰه اللّٰه راقبوه و اتقوه في أعز الأنفس عليكم و هي أنفسكم التي هي أغلى من كل نفس أخرى للناس و أحبها إليهم فإن الإنسان يحب نفسه أولا و يحب لها الخير و كل ما يسعدها و بعد ذلك ينتقل إلى الآخرين...

ثم أراد أن ينبههم إلى أن اللّٰه قد قطع حجة من يحتج عليه بعدم البيان بأنه سبحانه قد أوضح طرق الحق و كل ما يوصل إلى الحق و جعل طرقه واضحة عليها نور يهتدي إليه من أحب الهداية و أراد الخروج من الظلمات و بعد بيان طريق الحق و إيضاحه للناس فالناس عندها بين أمرين إما إلى شقاء لازم لهذا الإنسان لا يفارقه و لا ينفك عنه لأنه لم يمش على الصراط المستقيم و لم يهتد إلى نور الإيمان و إما إلى سعادة دائمة لا يتحول عنها و لا ينتقل منها و ذلك لاهتدائه إلى الحق و اقتفائه أثره و العمل بما أحب اللّٰه و أراد...

و بعد هذا أمرهم أن يتزودوا من دار الدنيا الفانية يتزودوا التقوى و العمل الصالح و القيام بالواجبات و اجتناب المحرمات إلى الدار الباقية التي هي الآخرة و التي يكون فيها الاستقرار و الدوام و البقاء...

ثم أراد أن يخفف عنهم قليلا فبين لهم أن زاد الآخرة قد بينه اللّٰه على ألسنة رسله و من بعثهم من أنبياء و مبشرين و منذرين و قال للناس: «سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ » و مع الدلالة على الزاد أمرنا بالرحيل عن الدنيا و دفعنا للخروج منها و السير عنها حتى لا نظن البقاء فيها أو الاستقرار في رحابها ثم شبه الناس و إقامتهم في الدنيا بقوم في سفر قد أناخوا بركبهم قليلا و لا يدري متى يؤمرون بالرحيل فعلى أبناء الدنيا الذين يعيشون فيها أن يكونوا على استعداد دائم و يتزودوا للرحيل فلا يدرون متى يؤمرون بالرحيل عن الدنيا و الخروج منها إلى الآخرة.

ثم نفّر عن الدنيا بالاستفهام الإنكاري على طلابها و الراغبين فيها بأنه ما ذا يصنع بالدنيا الفانية الزائلة من خلق للآخرة فعلى الإنسان أن يسعى لما خلق من أجله و قد خلقنا من أجل الآخرة فعلينا الزهد في الدنيا و الترك لها و النظر إلى الآخرة و السعي لها.

و بعد أن نفر من الدنيا بصورة عامة خصص المال و نفر منه لتعلق الناس به و طلبهم له و بيّن لهم أن المال مهما سعى الإنسان من أجله فإنه سيتخلى عنه و سيتركه خلفه في الدنيا و يتوجه إلى الآخرة بدونه و لكن آثاره و حسابه ستبقى عليه فإنه سيقف أمام اللّٰه ليسأله عنه من أين جناه هل من حل أم من حرام و أين كان يضعه هل في حلال أم حرام...

ص: 21

(عباد اللّٰه إنه ليس لما وعد اللّٰه من الخير مترك و لا فيما نهى عنه من الشر مرغب) رغّب في الخير و نفّر عن الشر بنسبة الخير إلى اللّٰه و أنه ليس للإنسان أن يترك ما وعده اللّٰه من الخير إلى غيره من الشر كما أنه لا بد له من الهروب من الشر و ليس له مجال أن يرتكبه...

(عباد اللّٰه احذروا يوما تفحص فيه الأعمال و يكثر فيه الزلزال و تشيب فيه الأطفال) حذّرهم يوم القيامة و ذكر بعض أوصافه المخوفة.

1 - إنه يوم تفحص فيه الأعمال «وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » و يومها تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا.

2 - إنه يوم يكثر فيه الزلزال فتضطرب الدنيا و تتزلزل أركانها كما قال تعالى: «إِذٰا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا» و قوله: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ » .

3 - إنه يوم تشيب فيه الأطفال: لهول ما يقع فيه و شدة ما يحدث من عظائم الأمور تشيب فيه الأطفال الذين ليس من عادتهم ذلك و لم يجر ذلك بحقهم بحسب طبيعتهم كما قال تعالى: «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ اَلْوِلْدٰانَ شِيباً» .

(اعلموا عباد اللّٰه أن عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم و حفاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم لا تستركم منهم ظلمة ليل داج و لا يكنكم منهم باب ذو رتاج و إن غدا من اليوم قريب) و هنا أيضا أراد تحذيرهم من المعاصي و أن على الإنسان رقيب من نفسه ينظر إلى كل عمل يقوم فيه فيسجله عليه كما أن عليه رقابة من جوارحه هي التي تشهد عليه بكل معصية و كل انحراف كما قال تعالى: «يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدٰاءُ اَللّٰهِ إِلَى اَلنّٰارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّٰى إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ » .

و عليه حفاظ صدق لا يكذبون فيما يشهدون و لا يقولون إلا الحق... إنهم يسجلون أعمال ابن آدم و يحصون عليه أنفاسه بحيث لا يغيب عنهم شيء قال تعالى: «إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» فهما يحفظان عليه أعماله و لا يغيب عنهما شيء منها فمهما كانت الرؤية سيئة و مهما كانت الظلمة كثيفة فإنهما يكشفان أسرار هذا الإنسان و يقفان على أعماله و مهما غلّق الأبواب فلن يحتجب عن عيونهم و لن يغيب عن أبصارهم...

ص: 22

و حذرهم من قرب الموت إنه في يوم غد و ما أقرب الغد من اليوم و إذا كان الغد قريب وجب على المرء أن يسعى له و يهيىء العدة التي بها ينجو من مخاوفه و عذابه و ما فيه من وحشة و وحدة...

(يذهب اليوم بما فيه و يجيء الغد لاحقا به فكأن كل امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته و مخظ حفرته فيا له من بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة) يذهب اليوم بما فيه من خير و شر و لن يرجع إلينا فيجب أن يستفيد الإنسان منه للغد و يتزود للأيام الصعبة و بعد اليوم يجيء الغد لاحقا باليوم فكذلك يجب أن نكون على أهبة الاستعداد له...

و في يوم غد و هو وقت الموت ينزل الإنسان عن عرشه إلى القبر... إنه منزل الوحدة فليس معه أحد... و إنه حفرة يختطها و يحفرها الحافر للقبور... ثم عظّم هذا البيت الذي ينفرد فيه الإنسان... يا له من بيت رهيب مخوف حيث يتخلى الأحباب فيه عن أحبتهم و يتركونهم و حدهم... إنه منزل وحشة و أي وحشة أعظم من إنسان يسكن تحت أطباق الثرى لا أنيس و لا جليس و لا حركة، إنه مفرد غربة ينفرد الإنسان فيه في غربة حقيقية...

(و كأن الصيحة قد أتتكم و الساعة قد غشيتكم و برزتم لفصل القضاء قد زاحت عنكم الأباطيل و اضمحلت عنكم العلل و استحقت بكم الحقائق و صدرت بكم الأمور مصادرها فاتعظوا بالعبر و اعتبروا بالغير و انتفعوا بالنذر) حذّر الناس من يوم القيامة و مقدماته من الصيحة و نفخ الصور فذكر الصيحة و قربها و كأنها قد أوشكت أن تقع و كذلك الساعة و هي يوم القيامة و قد حلّت بساحتكم و عندها يخرج الناس للحساب فتنتصب الموازين و تعقد المحكمة العادلة التي يفصل فيها الخصومات فيقتص من الظالم للمظلوم و عندها تدحض الحجج المزيفة و تبطل الأدلة الفاسدة و تتلاشى كل المعاذير التي على أساسها سلبتم أموال الناس و كرامتهم و عزتهم.

و في يوم القيامة ستقع الحقائق على أصولها... سترونها حقيقة حقيقة... كل قضية تأتي كفلق الصبح بشهودها و بيناتها لا تخفى و لا تستتر... كما أن الأمور ستأخذكم إلى مجاريها الطبيعية و ستأخذون ثمرة أعمالكم و نتيجة جهودكم و أتعابكم.

و في النهاية أمرهم أن يأخذوا العظة و ما فيه مزدجر لهم بما جرى على غيرهم و يعتبروا بتقلبات الزمان و متغيراته و ينتفعوا بما جاء على ألسنة الأنبياء فيتبعدوا عن المعصية و يقتربوا من الطاعة...

ص: 23

158 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

ينبه فيها على فضل الرسول الأعظم، و فضل القرآن، ثم حال دولة بني أمية

النبي و القرآن

أرسله على حين فترة (1) من الرّسل، و طول هجعة (2) من الأمم، و انتقاض (3) من المبرم (4)، فجاءهم بتصديق الّذي بين يديه، و النّور المقتدى به. ذلك القرآن فاستنطقوه، و لن ينطق، و لكن أخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتي، و الحديث عن الماضي، و دواء (5) دائكم، و نظم (6) ما بينكم.

دولة بين أمية

و منها: فعند ذلك لا يبقى بيت مدر (7) و لا وبر (8) إلاّ و أدخله الظّلمة ترحة (9)، و أولجوا (10) فيه نقمة (11). فيومئذ لا يبقى لهم في السّماء عاذر، و لا في الأرض ناصر. أصفيتم (12) بالأمر غير أهله، و أوردتموه (13) غير مورده، و سينتقم اللّٰه ممّن ظلم، مأكلا بمأكل، و مشربا بمشرب، من مطاعم العلقم (14)، و مشارب الصّبر (15) و المقر (16)، و لباس شعار (17) الخوف، و دثار (18) السّيف. و إنّما هم مطايا (19) الخطيئات (20) و زوامل (21) الآثام (22). فأقسم، ثمّ أقسم، لتنخمنّها (23) أميّة من بعدي كما تلفظ (24) النّخامة (25)، ثمّ لا تذوقها و لا تطعم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان (26)!.

ص: 24

اللغة

1 - الفترة: ما بين الرسولين.

2 - الهجعة: النومة الخفيفة و قد تستعمل في النوم المستغرق.

3 - النقض: الهدم أو حل الشيء.

4 - المبرم: المحكم، الحبل المفتول بإحكام.

5 - الداء: المرض.

6 - نظم: الأمر استقامته و اعتداله.

7 - المدر: الطين و يكنى به عن أهل الحضر.

8 - الوبر: للإبل كالصوف للغنم و يكنى به عن البدو.

9 - الترحة: الحزن.

10 - أولجوا: أدخلوا.

11 - النقمة: العقوبة.

12 - أصفيتم: الشيء آثرتموه به و اختصصتموه به و أصفيت فلانا بكذا خصصته به 13 - أورده: الماء صار به إليه و ورد الماء خلاف صدر عنه.

14 - العلقم: الحنظل، كل شيء مر.

15 - الصبر: ككتف عصارة شجر مر.

16 - المقر: المرّ و قيل السم.

17 - الشعار: ما يلي الجسد من الثياب.

18 - الدثار: من الثياب ما كان فوق الملابس كالعباءة.

19 - المطايا: جمع مطية الدابة.

20 - الخطيئات: جمع خطيئة الذنب و قيل المتعمد منه.

21 - الزوامل: جمع زاملة و هي ما يحمل عليها الطعام من الإبل و نحوها.

22 - الآثام: جمع إثم و هي الخطيئة، فعل ما لا يحل.

23 - نخم: أخرج النخامة.

24 - تلفظ: ترمى من لفظ الشيء من فمه إذا رمى به و طرحه.

25 - النخامة: بضم النون ما يدفعه الصدر أو الرأس من المواد المخاطية.

26 - الجديدان: الليل و النهار.

ص: 25

الشرح

(أرسله على حين فترة من الرسل و طول هجعة من الأمم و انتقاض من المبرم فجاءهم بتصديق الذي بين يديه و النور المقتدى به) أرسل اللّٰه نبيه محمدا بعد فترة من الزمن انقطع فيها الوحي فمن أيام عيسى إلى محمد مدة طويلة ليس فيها داعية إلى اللّٰه من قبل اللّٰه و لذا غفلت الأمم خلال هذه المدة عن تكاليفها و ضيعت الكثير من أساسيات الشريعة و أركانها و لم يبق منها إلا رموز و إشارات فقد تحللت أحكام الدين التي كانت في نفوس الناس قوية محكمة.

و أرسل اللّٰه محمدا إلى الناس فجاء مصدقا لما تقدم مما جاء به الأنبياء من توراة و إنجيل أو جاء بكتاب و هو القرآن مصدقا لما بين يديه من التوراة و الإنجيل كما قال تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ » .

كما أنه جاء بالقرآن الذي عبر عنه بالنور لأنه يضيء الدرب للسالكين و المهتدين و يكشف ظلمات الجهل و الجاهلية و هو المقتدى به الذي يطمئن الإنسان إلى صحة أقواله و ما جاء فيه و من اقتدى فيه أفلح و نجح و علا و ارتقى.

(ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق و لكن أخبركم عنه: ألا إن فيه علم ما يأتي و الحديث عن الماضي و دواء دائكم و نظم ما بينكم) بعد أن وصف القرآن بأنه نور به تكشف ظلمات الجهل أمرهم أن يستنطقوه أي يطلبوا منه أن ينطق و يتكلم ثم قال: لن ينطق فإنه لا لسان له و لكن ينطق عنه من خوطب به و وعاه و فهم أحكامه ثم أشار إلى مضمون القرآن و ما فيه بأخصر عبارة و أوضحها.

1 - ألا إن فيه علم ما يأتي من قيام الساعة و الحساب و العذاب و الجنة و النار و كل أحوال النشأة الأخرى و ما يجري فيها.

2 - و فيه الحديث عن الماضي بكل شئونه و شجونه الحديث عن الأمم السابقة كالفراعنة و القياصرة و الأمم البائدة فيه قصص الأنبياء مع الطغاة و أخبار العباد و حركة الحياة.

3 - فيه دواء دائكم ففي القرآن و صفات طبية لكل الأمراض النفسية لهذا الإنسان فهو دواء للجهل و الكفر و الفسق و التمرد على اللّٰه، هذا القرآن فيه يستشفى من كل داء عياء عجز عنه الأطباء.

4 - و فيه نظم ما بينكم أي أنه ينظّم العلاقة بين الناس فإن أحكام الشريعة و قوانينها

ص: 26

تضبط قضايا الإنسان و تحكمها و تجعل لكل فرد حقه بالعدل و الإنصاف فلا يظلم أحد أحدا و لا يعتدي أحد على أحد و بهذه الأحكام تحفظ حقوق الناس و يؤمن الاعتداء و الظلم...

(فعند ذلك لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلا و أدخله الظلمة ترحة و أولجوا فيه نقمة فيومئذ لا يبقى لهم في السماء عاذر و لا في الأرض ناصر) هذا إخبار منه عن دولة بني أمية و ما يكون فيها من الظلم و الجور بحيث تطال الناس كلهم أهل المدر و هم سكان المدن و أهل الوبر و هم سكان البادية الذين يتنقلون وراء رزقهم في الصحراء... إنها فتنة تطال الجميع المقيم و الظاعن و لا يبقى بيت إلا و أدخل عليه الأمويون الحزن و الأسى و نالوا أصحابه بالعذاب و العقاب و إذا وصلت الأمور إلى هذا المستوى فيومئذ يرفع اللّٰه رحمته عنهم و لا يبقى لهم في السماء عاذر و لا في الأرض ناصر و عندها تحل النقمة بهم و ينزل العذاب عليهم و تتهاوى دولتهم و تتساقط عروشهم...

(أصفيتم بالأمر غير أهله و أوردتموه غير مورده و سينتقم اللّٰه ممن ظلم مأكلا بمأكل و مشربا بمشرب من مطاعم العلقم و مشارب الصبر و المقر و لباس شعار الخوف و دثار السيف) توجه إلى المخاطبين قائلا لقد خصصتم بالخلافة من لم يكن من أهلها و أعطيتموها إلى غير مستحقيها فأهلها و هم أهل البيت قد أزحتموها عنهم و دفعتم بها نحو من لم يستحقها من يومها الأول و إلى الآن فيشمل من رضي بمن مضى و من يرضى بمن هو قائم الآن ينازع الحق أهله بل يشمل من تقاعس و قعد عن مساندة أهل الحق و اعتزل القتال...

و أشار عليه السلام إلى أن اللّٰه سينتقم ممن ظلم أهل البيت و أزاح الخلافة عنهم و يبدلهم المأكل الطيب و المشرب الهني بغيره مما لا تتقبله النفوس و لا تستسيغه فبدل المطعم الطيب مطاعم العلقم و بدل المشارب الطيبة المشارب المريرة التي لا يكاد يتجرعها الإنسان و يستبدل أمنهم بالخوف الملازم لهم الذي يطاردهم أينما كانوا كما أن السيف يلاحقهم حيث حلوا فالمطاردة نفسيا و عسكريا.

(و إنما هم مطايا الخطيئات و زوامل الآثام فأقسم ثم أقسم لتنخمنها أمية من بعدي كما تلفظ النخامة ثم لا تذوقها و لا تطعم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان) أشار إلى بني أمية و مدى انحرافهم و معاصيهم فشبههم بالدواب و النياق التي شغلها أن تحمل الخطايا و المعاصي لأن كل حركاتهم على خلاف الشرع و الحق.

ثم أقسم و أكد القسم بأن الخلافة ستخرج عن الأمويين قهرا عنهم و بالقوة كما تخرج النخامة من الإنسان ثم لا تعود إليهم أبدا و لا يتذوقون طعمها أبد الدهر.

ص: 27

159 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يبين فيها حسن معاملته لرعيته و لقد أحسنت جواركم (1)، و أحطت بجهدي (2) من ورائكم و أعتقتكم (3) من ربق (4) الذّلّ ، و حلق (5) الضّيم (6)، شكرا منّي للبرّ (7) القليل، و إطراقا (8) عمّا أدركه البصر، و شهده البدن، من المنكر الكثير.

اللغة

1 - الجوار: المجاورة.

2 - الجهد: بالضم الطاقة.

3 - أعتق: العبد إذا حرره.

4 - الربق: جمع ربقة حبل في عرى تربط به الدواب.

5 - الحلق: كل شيء استدار فهو حلقة.

6 - الضيم: الظلم.

7 - البر: الإحسان.

8 - الإطراق: السكوت و عدم الكلام و أطرق رأسه أي خفضه و أرخى عينيه ينظر إلى الأرض.

الشرح

(و لقد أحسنت جواركم و أحطت بجهدي من ورائكم و أعتقتكم من ربق الذل و حلق الضيم شكرا مني للبر القليل و إطراقا عما أدركه البصر و شهده البدن من المنكر الكثير) في هذه الخطبة تذكير لأهل الكوفة بأياديه الكريمة عليهم و إحسانه إليهم فذكر حسن جواره لهم و أنه أدى حق الجار كما أمر اللّٰه و أحب و أحاطهم بجهده فدافع عنهم و حفظهم

ص: 28

و حماهم من الأعداء فلم تصل إليهم يد معاوية المجرمة كما أنه حررهم من أسر أعدائهم و ما كان ينالهم منهم من العسف و الظلم فقد كانت الولاة تحكم الكوفة بأقسى و أمرّ ما يكون في زمن عثمان و قد مارسوا على شعبها الاضطهاد و التنكيل و التهجير فجاء حكم الإمام فذاق الناس حلاوة العدل و حسن المعاملة و طيب العشرة فرد إليهم اعتبارهم و كرامتهم و رفع عنهم الضيم و الظلم.

ثم بين لهم شكره لإحسانهم القليل بما أعطاهم من خير كثير فإنهم على كثرة منكراتهم التي ترى و تشاهد و تلمس فإنه غض النظر عنها و نظر إلى قليل إحسانهم فجازاهم به و هكذا الكرام ينظرون إلى الحسنات و يعطون على قليل الطاعات كثير الخيرات .

ص: 29

160 - و من خطبة له عليه السلام

عظمة الله

أمره قضاء (1) و حكمة (2)، و رضاه أمان و رحمة، يقضي بعلم، و يعفو بحلم.

حمد الله

اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطي، و على ما تعافي (3) و تبتلي (4)، حمدا يكون أرضى الحمد لك، و أحبّ الحمد إليك، و أفضل الحمد عندك.

حمدا يملأ ما خلقت، و يبلغ (5) ما أردت. حمدا لا يحجب عنك، و لا يقصر دونك.

حمدا لا ينقطع عدده، و لا يفنى مدده (6). فلسنا نعلم كنه (7) عظمتك، إلاّ أنّا نعلم أنّك «حيّ قيّوم (8)، لا تأخذك سنة (9) و لا نوم» لم ينته (10) إليك نظر، و لم يدركك بصر. أدركت الأبصار، و أحصيت (11) الأعمال، و أخذت «بالنّواصي (12) و الأقدام». و ما الّذي نرى من خلقك، و نعجب له من قدرتك، و نصفه من عظيم سلطانك، و ما تغيّب عنّا منه، و قصرت (13) أبصارنا عنه، و انتهت عقولنا دونه، و حالت (14) ستور (15) الغيوب بيننا و بينه أعظم. فمن فرّغ قلبه، و أعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، و كيف ذرأت (16) خلقك، و كيف علّقت في الهواء سماواتك، و كيف مددت على

ص: 30

مور (17) الماء أرضك، رجع طرفه حسيرا (18)، و عقله مبهورا (19)، و سمعه و الها (20)، و فكره حائرا.

كيف يكون الرجاء

منها: يدّعي بزعمه (21) أنّه يرجو اللّٰه، كذب و العظيم! ما باله (22) لا يتبيّن (23) رجاؤه في عمله ؟ فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله. و كلّ رجاء - إلاّ رجاء اللّٰه تعالى - فإنّه مدخول (24) و كلّ خوف محقّق (25)، إلاّ خوف اللّٰه فإنّه معلول (26). يرجو اللّٰه في الكبير، و يرجو العباد في الصّغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرّبّ ! فما بال اللّٰه جلّ ثناؤه يقصّر به عمّا يصنع به لعباده ؟ أ تخاف أن تكون في رجائك له كاذبا؟ أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا؟ و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده، أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربّه، فجعل خوفه من! العباد نقدا (27)، و خوفه من خالقه ضمارا (28) و وعدا. و كذلك من عظمت الدّنيا في عينه، و كبر موقعها من قلبه، آثرها (29) على اللّٰه تعالى، فانقطع (30) إليها، و صار عبدا لها.

رسول الله

و لقد كان في رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كاف لك في الأسوة (31)، و دليل لك على ذمّ الدّنيا و عيبها، و كثرة مخازيها (32) و مساويها (33)، إذ قبضت عنه أطرافها، و وطّئت (34) لغيره أكنافها (35)، و فطم (36) عن رضاعها، و زوي (37) عن زخارفها (38).

موسى

و إن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - حيث يقول:

«ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير». و اللّٰه، ما سأله إلاّ خبزا يأكله، لأنّه

ص: 31

كان يأكل بقلة (39) الأرض، و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف (40) صفاق (41) بطنه، لهزاله (42) و تشذّب (43) لحمه.

داود

و إن شئت ثلّثت بداوود - صلّى اللّٰه عليه و سلّم - صاحب المزامير، و قارئ أهل الجنّة، فلقد كان يعمل سفائف (44) الخوص بيده، و يقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها! و يأكل قرص الشّعير من ثمنها.

عيسى

و إن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السّلام، فلقد كان يتوسّد (45) الحجر، و يلبس الخشن، و يأكل الجشب (46)، و كان إدامه (47) الجوع، و سراجه باللّيل القمر، و ظلاله (48) في الشّتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، و لم تكن له زوجة تفتنه، و لا ولد يحزنه، و لا مال يلفته، و لا طمع يذلّه، دابّته رجلاه، و خادمه يداه!.

الرسول الأعظم

فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر - صلّى اللّٰه عليه و آله - فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى (49)، و عزاء (50) لمن تعزّى. و أحبّ العباد إلى اللّٰه المتأسّي بنبيّه، و المقتصّ لأثره (51). قضم (52) الدّنيا قضما، و لم يعرها (53) طرفا.

أهضم (54) أهل الدّنيا كشحا (55)، و أخصمهم (56) من الدّنيا بطنا، عرضت عليه الدّنيا فأبى (57) أن يقبلها، و علم أنّ اللّٰه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، و حقّر شيئا فحقّره، و صغّر شيئا فصغّره. و لو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّٰه و رسوله، و تعظيمنا ما صغّر اللّٰه و رسوله، لكفى به شقاقا (58) للّٰه، و محادّة (59) عن أمر اللّٰه. و لقد كان - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - يأكل على

ص: 32

الأرض، و يجلس جلسة العبد، و يخصف (60) بيده نعله، و يرقع (61) بيده ثوبه، و يركب الحمار العاري (62)، و يردف (63) خلفه، و يكون السّتر (64) على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول: «يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيّبيه (65) عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا و زخارفها». فأعرض عن الدّنيا بقلبه، و أمات ذكرها من نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا (66)، و لا يعتقدها قرارا، و لا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النّفس، و أشخصها (67) عن القلب، و غيّبها عن البصر. و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، و أن يذكر عنده.

و لقد كان في رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ما يدلّك على مساوىء الدّنيا و عيوبها: إذ جاع فيها مع خاصّته (68)، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته (69). فلينظر ناظر بعقله: أكرم اللّٰه محمّدا بذلك أم أهانه! فإن قال:

أهانه، فقد كذب - و اللّٰه العظيم - بالإفك (70) العظيم، و إن قال: أكرمه، فليعلم أنّ اللّٰه قد أهان غيره حيث بسط (71) الدّنيا له، و زواها عن أقرب النّاس منه. فتأسّى متأسّ بنبيّه، و اقتصّ أثره، و ولج (72) مولجه، و إلاّ فلا يأمن الهلكة (73)، فإنّ اللّٰه جعل محمّدا - صلّى اللّٰه عليه و آله - علما (74) للسّاعة، و مبشّرا بالجنّة، و منذرا بالعقوبة، خرج من الدّنيا خميصا (75)، و ورد الآخرة سليما. لم يضع حجرا على حجر، حتّى مضى لسبيله، و أجاب داعي ربّه.

فما أعظم منّة (76) اللّٰه عندنا حين أنعم علينا به سلفا (77) نتّبعه، و قائدا نطأ عقبه (78)! و اللّٰه لقد رقّعت مدرعتي (79)، هذه حتّى استحييت من راقعها.

و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها (80) عنك ؟ فقلت: اغرب عنّي (81)، فعند الصّباح يحمد القوم السّرى (82).

ص: 33

اللغة

1 - القضاء: الحكم، الإلزام، الإيجاب.

2 - الحكمة: وضع الشيء موضعه.

3 - تعافى: تعطي العافية و هي الصحة، و عدم المرض.

4 - تبتلي: تختبر و تمتحن، و البلوى المصيبة.

5 - يبلغ: يدرك، ينتهي، يصل.

6 - المدد: العون و الغوث.

7 - كنه: الشيء حقيقته.

8 - القيوم: القائم بذاته.

9 - السنة: أوائل النوم.

10 - انته: إلى الشيء بلغه و أدركه و انتهى إليه الخبر بلغه.

11 - أحصيت: الأعمال حسبتها و ضبطتها.

12 - النواصي: جمع الناصية مقدم الرأس أو شعر مقدم الرأس.

13 - قصرت: عن الشيء لم تبلغه و تدركه.

14 - حالت: حجزت و اعترضت.

15 - الستور: الأغطية.

16 - ذرأ: خلق.

17 - المور: بالفتح الموج.

18 - الحسير: الكليل المتعب.

19 - المبهور: المغلوب.

20 - الوله: ذهاب الشعور.

21 - الزعم: الظن، الاعتقاد الفاسد، القول الباطل.

22 - ما باله: ما شأنه.

23 - يتبين: يظهر.

24 - مدخول: مغشوش معيوب.

25 - المحقق: الثابت.

26 - معلول: غير سليم و لا خالص.

27 - نقدا: معجلا، يقال الثمن نقدا أي معجلا و ليس مؤجلا.

28 - الضمار: الذي لا يرجى من الوعود.

29 - آثرها: اختارها و اختص نفسه بها.

ص: 34

30 - انقطع: إلى فلان انفرد بصحبته خاصة.

31 - الأسوة: القدوة.

32 - المخازي: جمع مخزاة ما يستحى من ذكره لقبحه.

33 - المساوي: العيوب.

34 - وطئت: ذللت و سهّلت.

35 - الأكناف: الجوانب.

36 - فطم: الولد فصله عن الرضاع.

37 - زوي: قبض.

38 - الزخارف: جمع زخرف الذهب، الزينة.

39 - البقل: النبات الذي ينبت من بذور لا في جذور.

40 - شف الثوب: إذا رقّ فحكى ما تحته.

41 - الصفاق: الجلد الباطن الذي فوق الجلد الظاهر من البطن.

42 - هزل: ضعف و نحل.

43 - تشذب: اللحم تفرّقه.

44 - السفائف: جمع سفيفة من سف الخوص إذا نسجه.

45 - توسد: الحجر جعله و سادة و الوسادة هي المخدة.

46 - الجشب: الغليظ.

47 - الأدام: ما يؤكل مع الخبز.

48 - ظلاله: جمع ظل و هو المأوى و الملجأ.

49 - تأس: اقتد و الأسوة القدوة.

50 - العزاء: الصبر.

51 - اقتص أثره: اتبع أثره.

52 - القضم: الأكل بأطراف الأسنان.

53 - لم يعرها: من العارية ما تعطيه لغيرك شرط أن يعيده إليك.

54 - أهضم: من الهضم و هو خلو البطن و انطباقها من الجوع.

55 - الكشح: الخاصرة.

56 - أخمصهم: أكثرهم ضمورا.

57 - أبى: رفض.

58 - الشقاق: الخلاف.

59 - المحاداة: المعاداة.

60 - خصف النعل: خرزها، أصلحها.

ص: 35

61 - رقع: الثوب ألحم خرقه و أصلحه بالرقاع و الرقعة قطعة النسيج التي يرقع بها الثوب.

62 - الحمار العاري: ما ليس عليه بردعة و لا إكاف.

63 - أردف خلفه: أركبه معه على دابة واحدة خلفه.

64 - الستر: الغطاء.

65 - غيّبيه: أبعديه عني.

66 - الرياش: الزينة، اللباس الفاخر.

67 - أشخصها: أبعدها.

68 - خاصة: الرجل المقربون منه أهله و أولاده.

69 - الزلفة: القربة.

70 - الإفك: الكذب.

71 - البسط: التوسع، و بسط له في دنياه إذا أغدق عليه و وسع.

72 - ولج: دخل.

73 - الهلكة: جمعها هلكات و هو الهلاك الموت.

74 - العلم: بالتحريك العلامة.

75 - الخميص: خالي البطن.

76 - المنة: جمعها منن الإحسان.

77 - السلف: المتقدم، الآباء و الأجداد.

78 - العقب: بفتح فكسر مؤخر القدم و وطؤ العقب مبالغة في الاتباع و السلوك.

79 - المدرعة: ثوب من صوف.

80 - تنبذها: ترميها.

81 - اغرب عني: تباعد عني.

82 - السّرى: السير ليلا.

الشرح

(أمره قضاء و حكمة و رضاه أمان و رحمة يقضي بعلم و يعفو بحلم) أمر اللّٰه هو تكليفه العباد و هو حكم لازم منبعث عن حكمة لأنه سبحانه لا يأمر إلا لمصلحة و لا ينهى إلا عن مفسدة و الحكيم هو الذي يضع الأمور موضعها.

أو أن يراد بأمره هو إرادته التكوينية و هذه واقعة لا محالة و لا تكون إلا لمصلحة

ص: 36

و حكمة في الوقوع كما قال تعالى: «إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » .

و إذا رضي عن إنسان لطاعته له كان رضاه أمانا للعبد من العذاب و رحمة يدخله بها جنته.

كما أنه يقضي بعلم أي يحكم بما يعلم و هو العالم المحيط علمه بكل الأمور فليس على حد قضاء البشر الذين يقضون بالظنون و الإيمان و البينات و هذه كلها في معرض الخطأ...

و يعفو بحلم: يعني مع القدرة على الانتقام و الاقتصاص من المذنب الجاني يعفو و يصفح تكرما و علوا...

(اللهم لك الحمد على ما تأخذ و تعطي و على ما تعافي و تبتلي حمدا يكون أرضى الحمد لك و أحب الحمد إليك و أفضل الحمد عندك، حمدا يملأ ما خلقت و يبلغ ما أردت حمدا لا يحجب عنك و لا يقصر دونك حمدا لا ينقطع عدده و لا يفنى مدده) توجه إلى اللّٰه معترفا بنعمه حامدا له على كل نعمة على ما أخذ منا من مال أو ولد أو صحة و على ما أعطى لنا من مال أو ولد و صحة و على الابتلاء و على العافية في السراء و الضراء و حمد اللّٰه واجب على الخلق باعتبار أن كل ما يفعله اللّٰه في هذا الإنسان فإنه لمصلحة تعود إلى الإنسان نفسه و اللّٰه الغني المتعال...

ثم فخم الحمد و عدد كيفياته و درجاته و ما يجب أن يكون عليه و ما يليق بجلال اللّٰه.

1 - حمدا يكون أرضى الحمد لك: أي يكون رضاه به أوفى من كل أمر يرضى عنه.

2 - أحب الحمد إليك: يكون أحب حمد إليك يحمدك به عبادك.

3 - أفضل الحمد عندك: أفضل ما يحمدك به عبادك.

4 - حمدا يملأ ما خلقت: هذا باعتبار الكمية فإنه حمد يستوعب ملىء ما خلق اللّٰه من سماوات و أرضين و غيرهما.

5 - و يبلغ ما أردت: يصير مقداره ما تريد من الكثرة و الزيادة إلى ما شئت.

6 - حمدا لا يحجب عنك و لا يقصر دونك: حمدا يصل إليك فلا يحجب عنك لمعصية أو أمر لا تحبه و كذلك لا يحبس دونك لمانع من الموانع كالرياء و غيره...

ص: 37

7 - حمدا لا ينقطع عدده و لا يفنى مدده: بل يبقى يتجدد باستمرار و ينمو دائما بحيث لا ينقطع و لا تجف مادته عن العطاء و الاستمرار...

(فلسنا نعلم كنه عظمتك إلا أنا نعلم أنك حي قيوم لا تأخذك سنة و لا نوم لم ينته إليك نظر و لم يدركك بصر أدركت الأبصار و أحصيت الأعمال و أخذت بالنواصي و الأقدام) هذا إقرار بالعجز عن معرفة كنه عظمة اللّٰه و اعتراف بأن العقل لن يقدر إلى الوصول إلى ذلك فلسنا نعلم حقيقة عظمتك و جبروتك و إنما كل ما نعلمه أنك حي قيوم، حي لا تموت قائم على الخلق تدير شئونهم.

كما أنك سبحانك لا يجري عليك ما يجري على المخلوقين من كونهم محكومين لقانون النوم العام و لما يتقدمه من سنة بحيث يخفق الإنسان برأسه خفقة فهذه يتنزه اللّٰه عنها لأنه الغني بذاته و ليس بحاجة إليها...

ثم نفى أن يصل إليه الفكر لأن ما يصوغه الفكر إنما هو نتاج محدود و صورة لما يتحمله العقل من إدراك و تصور و اللّٰه منزه عن ذلك.

كما أنه منزه عن أن يدرك بالبصر لأن البصر يجب أن يكون إلى جهة معينة و يكون الشيء فيها و اللّٰه منزه عن الجسمية و عن الجهة.

و إذا كان العبد قاصرا فاللّٰه قادر على أن يدرك أبصار الخلق و كيف تتحرك و في أي اتجاه و هل في الحلال أم الحرام قال سبحانه و تعالى: «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ» كما أنه سبحانه هو الذي يحصي أعمال هذا الإنسان و يعدّها و لا يفوته شيء منها قال تعالى: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللّٰهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا أَحْصٰاهُ اَللّٰهُ وَ نَسُوهُ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» و هو سبحانه المالك لهذا الإنسان القادر عليه يتصرف فيه كيف يشاء و لا يمنعه من ذلك شيء فهو القادر على أخذه بناصيته و بالأقدام أي من رأسه إلى قدميه بدون استثناء.

(و ما الذي نرى من خلقك و نعجب له من قدرتك و نصفه من عظيم سلطانك و ما تغيب عنا منه و قصرت أبصارنا عنه و انتهت عقولنا دونه و حالت ستور الغيوب بيننا و بينه أعظم) استفهم على سبيل الاحتقار لهذه الأمور التي نراها و نعجب منها و نصفها لأن ما غاب عنا من خلقه أعظم من كل ذلك.

و ما الذي نرى من خلقك سماوات و أرضين و ما نعجب له من قدرتك التي تحمل السماوات أن تقع على الأرض و ما نصفه من عظيم سلطانك و قيمومتك على الأمور كل

ص: 38

هذه لا تعادل ما تغيّب عنا منه و لم تستطع أبصارنا رؤيته و لم تنته عقولنا إليه، فإن حجب الغيب حالت بيننا و بين معرفة ما حجب عنا فإن عقولنا محدودة و أبصارنا محدودة و طاقتنا محدودة و هذه المحدودية لا تطيق رؤية كل قدرة اللّٰه و سلطانه و صنعه...

(فمن فرّغ قلبه و أعمل فكره ليعلم كيف أقمت عرشك و كيف ذرأت خلقك و كيف علقت في الهواء سماواتك و كيف مددت على مور الماء أرضك رجع طرفه حسيرا و عقله مبهورا و سمعه و الها و فكره حائرا) إعلان العجز من هذا الإنسان و أنه مهما صفّى نفسه و دقق و حقق في بعض جزئيات خلق اللّٰه سوف يعجز و يرجع مبهورا و قد ذكر مفردات إذا أراد الإنسان أن يفكر كيف أقام اللّٰه عرشه و كيف خلق الخلق و كيف هذه السماوات نراها معلقة بما فيها من نجوم و كيف كانت الأرض على موج الماء لو فكر الإنسان بهذه القضايا المعدودة الجزئية رجع بصره كليلا عاجزا و عقله مغلوبا لم يجد حلا و سمعه متحيرا و فكره حائرا لم يهتد سبيلا... و هذه عظمة اللّٰه و هذا عجز الإنسان...

(يدعي بزعمه أنه يرجو اللّٰه كذب و العظيم ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله ؟ فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله، و كل رجاء إلا رجاء اللّٰه تعالى فإنه مدخول و كل خوف محقق إلا خوف اللّٰه فإنه معلول) هذا ذم لمن يدعي أنه يرجو اللّٰه في ثوابه و أجره و جنته ثم لا يعمل بمقتضى هذا الرجاء فإن الإمام يكذّب هذا المدعي و يقول لو كان في رجائه صادقا لظهر ذلك في سلوكه و عمله و حركة حياته فإن من يرجو عبدا من عبيد الدنيا تراه يواظب على خدمته و يسعى في كل ما يحبه ليظفر بمراده منه بينما هذا الإنسان يرجوع اللّٰه و هو يمارس المعاصي و يعمل الخطيئات قال تعالى: «فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» فالعمل هو الذي يثبت صحة الرجاء و بهذا يتوافق مع تفسير الإمام جعفر الصادق عليه السلام و قد سأله أحدهم عن قوم يعملون بالمعاصي و يقولون: نرجو فقال الصادق: كذبوا إن من رجا أمرا طلبه و من خاف من أمر هرب منه.

ثم استنكر على أصحاب الرجاء بأن كل من يرجو أمرا يأتي بما يحققه و يوفره إلا رجاء اللّٰه فإنه لا يأتي بما يحققه كاملا فهو مدخول معيب لم يكن تاما و محصلا للغرض كما أن كل ما يخاف من أحد يسد كل أبواب الخوف و يسعى إلى الأمن و الطمأنينة إلا الخائف من اللّٰه فإنه يبقى على معصية اللّٰه و التمرد عليه... أو تفسير العبارة بمعنى آخر و هو أن كل خوف لا يعد شيئا مذكورا و يجب أن لا يهتم به و الذي يجب أن يهتم به هو الخوف من اللّٰه لأنه الخوف الأسمى و الأكبر و الذي لا يقوى عليه الإنسان كما أن كل رجاء يجب أن لا يعتد به لأنه رجاء لأمر صغير حقير من أمور الدنيا و الرجاء الذي يجب

ص: 39

أن يعمل له الإنسان هو الرجاء باللّٰه لأنه المطلوب و الأعظم لأن فيه سعادة الإنسان الدائمة...

(يرجو اللّٰه في الكبير و يرجو العباد في الصغير فيعطي العبد ما لا يعطي الرب فما بال اللّٰه جل ثناؤه يقصّر به عما يصنع به لعباده ؟.

أ تخاف أن تكون في رجائك له كاذبا؟ أو تكون لا تراه للرجاء موضعا؟) هذا بيان لمدخولية الرجاء باللّٰه و هو أن هذا العبد بدل أن يرجو اللّٰه في الصغير و الكبير في أمور الدين و الدنيا و يعمل بحقيقتين رجائه باللّٰه و ثقته به فإنه بدل ذلك يذهب هذا العبد إلى توزيع رجائه ففي الأمور الكبيرة التي هي الجنة و النار يرجو اللّٰه بينما في الأمور الصغيرة كالمكاسب و الأرباح و الأموال يرجو العباد أمثاله و الإمام يذم هذا الذي يعطي العباد من الرجاء و العمل لأجل تحقيق ما يرجوه منهم فيعمل كل الوسائل و يسلك كل الطرق أما اللّٰه فإنه يرجوه في الكبير مع ذلك لا يعمل ما يجب أن يعمله لتحقيق رجائه من العبادات و الأعمال الصالحة و غير ذلك...

ثم قال له: إن عدم عملك بمقتضى رجائك ناشيء من أحد أمرين إما ترجوه و أنت كاذب في رجائك فلذا لا تعمل بمقتضاه و هذا يرجع إلى استصغار نفسه أمام رجاء اللّٰه و هذا خطأ جسيم فإن اللّٰه كما يقبل رجاء الكبير يقبل رجاء الصغير و إما أن يكون عدم عمله بمقتضى رجائه من جهة أنه لا يرى اللّٰه أهلا للرجاء و حاشا لمسلم أن يعتقد مثل ذلك لأنه كفر و خروج عن الدين...

(و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه فجعل خوفه من العباد نقدا و خوفه من خالقه ضمارا و وعدا) و هذا تشنيع و تحقير للذي يخاف من إنسان مثله أكثر مما يخاف من اللّٰه، يخاف من إنسان مثله و ترى أثر خوفه في سلوكه و تصرفه، يعمل لدفعه بكل ما يملك و يتحرك فعلا في هذا السبيل بينما يجعل خوفه من اللّٰه أمرا ثانويا يسوف في تنفيذه و يؤخر العمل بمقتضاه.

(و كذلك من عظمت الدنيا في عينه و كبر موقعها من قلبه آثرها على اللّٰه تعالى فانقطع إليها و صار عبدا لها) إشارة إلى علة إيثار الناس للدنيا على ما عند اللّٰه و ما وعد و ذلك أنهم رأوا الدنيا عظيمة و رأوا موقعها كبيرا، إنها احتلت قلوبهم و ملكت عليهم عيونهم فانقطعوا إليها و هجروا غيرها و تحولوا إلى عبيد لها يخدمونها و يسعون من أجلها.

(و لقد كان في رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كاف لك في الأسوة و دليل لك على

ص: 40

ذم الدنيا و عيبها و كثرة مخازيها و مساويها إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت لغيره أكنافها و فطم عن رضاعها و زوي عن زخارفها) هذا بيان لذم الدنيا و أن الرسول الأكرم قد تخلى عنها و هو القدرة الصالحة لكل عمل طيب و فعل خيّر و فيه دليل على ذمها و عيبها و كثرة مساويها تعليل ذلك إنها قد امتنعت عنه بينا تبذلت لغيره و صعبت عليه بينما سهلت على غيره و لم يأخذ منها شيئا أو يستفد منها بأمر كما أنه امتنع عن زينتها و مباهجها و ذلك لأنها لا خير في متاعها لزواله و انقضائه و عدم بقائه و العقلاء و على رأسهم عقل العقلاء سيدهم محمد يريدون أفضل ما عند اللّٰه و يطلبون أحسن ما عنده...

(و إن شئت ثنيت بموسى كليم اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و سلّم - حيث يقول: «رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» و اللّٰه ما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذب لحمه) و هذا موسى كليم اللّٰه الأسوة الثانية بعد رسول اللّٰه إنه لم يرزق من الدنيا شيئا و لم يأخذ منها حبة بل إن قوله عليه السلام في الآية: «رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» دليل على مدى نفض يديه منها و مدى بعده عنها و مدى هروبه منها... موسى النبي العظيم يسأل اللّٰه كسرة خبز على حد ما يسأله الفقراء و الضعفاء... كسرة تقيم أوده...

و الإمام يقسم أنه ما سأل اللّٰه إلا خبزا يأكله لأنه قد أكل نبات الأرض حتى بانت خضرة النبات من خلال جلده لهزاله و ضعفه...

(و إن شئت ثلثت بداوود - صلى اللّٰه عليه و سلم - صاحب المزامير و قارئ أهل الجنة فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده و يقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها و يأكل قرص الشعير من ثمنها) و هذا نبي ثالث من أنبياء اللّٰه الكرام الذين هم أسوة الناس و قدوتهم إنه داود النبي صاحب المزامير الذي كان إذا رتل ما يقرأ من الزبور اجتمعت عليه الوحوش و الطيور و جميع الحيوانات بل حتى الجبال و الحجارة كانت تسبح معه و تذكر اللّٰه.

و هو أيضا قارئ أهل الجنة لطيب نغمه ورقة صوته فلقد كان يعمل بيده و يأكل من كد يمينه و لم يعش عالة على الناس يتكفف وجوههم و يمد يده لأحد منهم، إنه مع كونه قد ملك الأرض و تحت يده خزائن المال لم يكن ليأخذ منها درهما يتقوت به بل كان يعمل بيده من نسائج خوص النخيل ما يحتاجه السوق ثم يقول لأحد جلسائه: أن يتولى عنه بيعها ثم يأكل قرص الشعير الذي يشتريه من ثمنها...، و هذا نبي من أنبياء اللّٰه و المثل الأعلى للإنسانية يضربه اللّٰه مثلا لنا لنقتدي به و نسير سيرته و نعمل بعمله...

ص: 41

(و إن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسد الحجر و يلبس الخشن و يأكل الجشب و كان إدامه الجوع و سراجه بالليل القمر و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، و لم تكن له زوجة تفتنه و لا ولد يحزنه و لا مال يلفته و لا طمع يذله، دابته رجلاه و خادمه يداه) و هذا عيسى بن مريم نبي اللّٰه و حاله مع الدنيا... إنها حالة الزاهدين فيها البعيدين عنها و هل هناك وصف يحيط بهذا النبي الكريم أو فى مما وصفه به الإمام... إنه كان يجعل الحجر وسادته يضعه تحت رأسه فلا ريش نعام و لا قطن ملكي و لا وصف بلدي و أما لباسه فكان يلبس الخشن من الثياب فلا حرير ناعم و أما أكله فكان الجشب من الطعام أي القاسي طعام الفقراء و المساكين و ليس طعام الطغاة و المترفين...

و كان إدامه الجوع إما أن يفسر بأنه لم يكن ليشبع إذا أكل فجعل الجوع مخلوطا بالخبز كالإدام و إما لأن الأكل مع الجوع يلتذ به فيكون كأنه إدام... و على كل حال فلا إدام من لحم أو سمن أو عسل...

و أما سراجه بالليل فلا كهرباء و لا شموع و لا إنارة حديثة بل و لا إنارة قديمة كما كان يومئذ يتعارفها الناس، إنه لم يشغل نفسه بالسراج بل كان سراجه الذي يضيء له و يرى من خلاله ما يريد هو القمر في الليل.

و أما في الشتاء فكان يستتر حيث تشرق الشمس و تغيب فلا مكان له.

و أما فاكهته فلا تفاح و لا عنب و لا تين و لا برتقال و ريحانه ليس الورد و لا النعناع و غيره بل كانت فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم.

ثم نفى أن يكون له زوجة تضله و تصرفه عن طاعة اللّٰه كما هي نساء هذا العصر كما أنه لا ولد له إن مات يحزنه و إن عاش يعقه كما أنه ليس عنده مال يصرفه عن طاعة اللّٰه فلا صفقات تجارية تلهيه عن ذكر اللّٰه، و لم يطمع بشيء من أموال الدنيا يذله و يخضع لمن هو في يديه رجاء التصدق عليه.

دابته التي يتحرك عليها رجلاه فلا سيارات فخمة و لا مرافقة بالعشرات و لا طائرات خاصة كما هي حال المسئولين اليوم يسلبون القرش من يد الفقير و اللقمة من فمه ليقدموها إلى زبانيتهم و من حولهم ممن يؤمن لهم الحماية أو الخدمة...

و أما خادمه الذي يتولى شئونه فهما يداه فليس هناك من يساعده على قضاء حاجته فلا طباخين و لا طهاة للطعام إنه يتولى شئونه بيديه...

ص: 42

(فتأس بنبيك الأطيب الأطهر - صلّى اللّٰه عليه و آله - فإن فيه أسوة لمن تأسى و عزاء لمن تعزى و أحب العباد إلى اللّٰه المتأسي بنبيه و المقتص لأثره) اجعل نبيك الأطيب الأطهر قدوة لك و أسوة فإنه القدوة لمن أراده القدوة الصالحة و هو المثل الأعلى لمن أراد أن ينظر إلى اكمل الناس.

ثم ذكر أن أحب العباد إلى اللّٰه المقتدي بنبيه لأن من اقتدى به و سار على أثره و خطى خطاه كان من عباد اللّٰه الصالحين الذين يسيرون نحو الكمال و نحو العزة و العلو...

و إن كل أمة لا بد لها من قدوة عظمى تنظر إليها على أنها مثلها الأعلى فتعمل و هي تنظر إليها لتصل إلى علاها، و إذا فقدت الأمة المثل الأعلى سارت بغير توازن و لا يمكنها أن ترتقي أو ترتفع لعدم وجود الهدف في مسيرتها...

(قضم الدنيا قضما و لم يعرها طرفا أهضم أهل الدنيا كشحا و أخمصهم من الدنيا بطنا عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها و علم أن اللّٰه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه و حقّر شيئا فحقره و صغر شيئا فصغره و لو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض اللّٰه و رسوله و تعظيمنا ما صغر اللّٰه و رسوله لكفى بنا شقاقا للّٰه و محادة عن أمر اللّٰه) هذا سلوك رسول اللّٰه مع الدنيا و على المتأسي به أن ينظر إلى فعله... إنه لم يتناول من الدنيا إلا شيئا قليلا و كنى بذلك عن القضم الذي هو الأكل بأطراف الأسنان و لم يعط الدنيا طرفا أي لم ينظر إليها فضلا عن أن يمكّن نظره منها و قد كان أشد الناس جوعا فيها بحيث إنه لم يشبع و أهل بيته من الطعام و تحت يده كل خيرات الجزيرة العربية و يستطيع أن يدرك ما يريد.

و من شدة زهده في الدنيا أنها عرضت نفسها عليه فرفضها و أبى أن يقبلها ففي سيرته الطاهرة أنه قال: «قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض و الخلد بها ثم الجنة و خيّرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي» و هكذا كانت سيرة رسول اللّٰه فكل أمر أبغضه اللّٰه و حقره و صغرّه كان النبي يبغضه في قلبه و يحقره و يصغره في لسانه و قلبه...

ثم إنه عليه السلام ذكر عيوبنا و أنه لو لم يكن فينا منها إلا حبنا ما أبغض اللّٰه و رسوله و تعظيمنا ما صغر اللّٰه و رسوله لكفى ذلك معصية و مخالفة و عنادا للّٰه و خروجا عن أمره فلو كان في كل أمورنا الأخرى مع اللّٰه و رسوله و لكن كنا في هذا الأمر مخالفين له لكان ذلك معصية كبرى لا تجبرها أعمالنا الصالحة و لا تنفع معها التزاماتنا الأخرى...

(و لقد كان - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - يأكل على الأرض و يجلس جلسة العبد و يخصف بيده نعله و يرقع بيده ثوبه و يركب الحمار العاري و يردف خلفه) هذا من تواضع

ص: 43

رسول اللّٰه و قد ذكر له بعض هذه الموارد.

منها: إنه كان يأكل على الأرض و هذا درس في التواضع لأصحاب العروش و من يقلدهم من عامة الناس فقد ابتدعت غرف خاصة تسمى غرف الطعام فيها طاولة و حواليها الكراسي فعل الجبابرة و الطغاة.

و منها: إنه كان يجلس جلسة العبد أي على الأرض بدون تكبر أو يجلس من غير تربع كما هو جلوس الملوك أو يجلس دون مجلسه تعليما لنا فالمجلس يكبر بأهله و لا يكبر أهله به.

و منها: إنه كان يخصف نعله بيده أي يصلحها بيده و هل هناك في العالم شخصية عظيمة مثل محمد؟ و هل هناك تواضعا لابن انثى مثل هذا التواضع ؟ إنه صنيعة اللّٰه...

و منها: إنه يرّقع بيده ثوبه: يصلح ثوبه المفتوق أو المشقوق بيده تواضعا منه مع أنه كان باستطاعته استبداله بخير منه أو كان بمقدوره أن يعطيه لأحدى نسائه أو لأحد المسلمين ليصلحه و كل واحد يتمنى أن يخدم رسول اللّٰه و يؤدي له أي مهمة يطلبها منه و لكنه صلوات اللّٰه عليه أراده درسا لنا...

و منها: يركب الحمار العاري و هذا آية التواضع يركب الحمار الذي لا يركبه إلا ضعاف الناس و مساكينهم و فضلا عن ذلك يكون الحمار عاريا زيادة في التواضع.

و منها: إنه كان يردف خلفه: أي يركب خلفه على نفس الحمار بعض الناس و هذا عمل لا يقوم به إلا النبي المسدد الذي يريد أن يعلّم الأمة كيف يكون التواضع و كيف يجب أن يعيش القائد الرسالي مع الناس، فهو واحد منهم، يحدب عليهم و يعطف على مساكينهم و لا يخرج عن التواضع في كل المواضع...

(و يكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول «يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيّبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها» فأعرض عن الدنيا بقلبه و أمات ذكرها من نفسه و أحب أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشا و لا يعتقدها قرارا، و لا يرجو فيها مقاما فأخرجها من النفس و أشخصها عن القلب و غيبها عن البصر و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه و أن يذكر عنده) و هذا أمر مبغوض للنبي لأنه من الدنيا و زينتها يريد أن يغيبه عن عينه فقد ذكر الإمام هذا الأمر حكاية عنه ليدلل على مدى بغضه للدنيا، فالستر يكون على باب البيت فتكون فيه التصاوير من أشجار و جماد فيقول لإحدى زوجاته يا فلانة - يا عائشة - غيبيّه عن عيني و ذلك من أجل أن يرتفع من أمامه كل

ص: 44

ما يمكن أن يذكر بالدنيا و زينتها فصلوات اللّٰه عليه أعرض عنها بقلبه و هذا هو الزهد الحقيقي و البعد عنها حقيقة و أمات ذكرها من نفسه فهي لا تخطر له على بال و لا يفكر فيها لحظة أو في مقام و تبعا لذلك أحب أن تغيب عن عينيه زينتها فلا يتخذ منها زينة أو فراشا و ثيابا فاخرة و لا يذهب إلى أنها دار قرار أو مكان إقامة دائمة و لذا أخرجها من النفس فليس لها محل و أبعدها عن قلبه الشريف و عن بصره و هذه حالة من أبغض شيئا أبغض النظر إليه كما أبغض ذكره عنده و هذه حالة نفسية أو عقيدية يعيشها المسلم تبعا لنبيه فإنه إذا كره شيئا كره النظر إليه أو الحديث عنه... و بعبارة موجزة أن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله لم يرد الدنيا و زينتها فكل ما يدعو إليها أراد البعد عنه و طلب تغيبه عن عينه و الامتناع عن الحديث فيه...

(و لقد كان في رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - ما يدلك على مساوىء الدنيا و عيوبها إذ جاع فيها مع خاصته و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته) لقد كان فيما جرى على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله مع الدنيا ما يدلك على مساويها و عيوبها فلقد جاع فيها مع أهل بيته و انقبضت عنه بزينتها و ما فيها من مباهج مع أنه أقرب الناس من اللّٰه و أحبهم إليه و إذا كان أقرب الخلق إلى اللّٰه تتعامل معه الدنيا بهذه الطريقة فيكفي بذلك عيوبا لها و مساوي فيها.

و هذه مقدمة أراد من خلالها أن يدخل إلى نتيجة ذكرها بقوله:

(فلينظر ناظر بعقله: أكرم اللّٰه محمدا بذلك أم أهانه فإن قال: أهانه فقد كذب - و اللّٰه العظيم - بالإفك العظيم و إن قال: أكرمه فليعلم أن اللّٰه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له و زواها عن أقرب الناس منه) أمر عليه السلام أن يفكر صاحب العقل بفكره و يحد النظر جيدا هل أن اللّٰه عند ما زوى الدنيا عن نبيه و خاصته هل زواها إهانة له أم إكراما منه له و لا يخلو الأمر من أحدهما فإن قال: إنما زواها إهانة له فقد كذب من ادعى ذلك و جاء بالكذب العظيم و الافتراء المبين لأن من كان من خواصّ اللّٰه و أقرب الناس إليه و أشدهم طاعة له و التزاما بأمره لم يكن ذلك ليقابل بالإهانة و الجفاء...

و إن قال: إنما زواها عنه إكراما له لأنها حقيرة و هو أجل منها و أعظم فلا تليق بشأنه و جلاله فليعلم أنه عند ما يبسطها لغيره و يعطيها لسواه إنما ذلك إهانة له و احتقارا منه له فيكون بسط الدنيا للناس إهانة و زويها عن نبيه إكراما...

(فتأسى متأس بنبيه و اقتص أثره و ولج مولجه و إلا فلا يأمن الهلكة) إخبار يراد به الأمر أن يتأسى الإنسان بنبيه الذي أكرمه اللّٰه حيث زوى الدنيا عنه و أن يقتص أثره أي

ص: 45

يمشي ممشاه و يدخل مداخله التي هي في طاعة اللّٰه و البعد عن الدنيا و إلا فإذا لم يتخذ النبي إسوة له و يمشي على خطه و يسلك دربه فإنه لا يأمن الهلكة و العذاب و النار.

(فإن اللّٰه جعل محمدا - صلّى اللّٰه عليه و آله - علما للساعة و مبشرا بالجنة و منذرا بالعقوبة) إن اللّٰه جعل محمدا صلّى اللّٰه عليه و آله دليلا على قرب يوم القيامة حيث إنه لا نبي بعده أو أن يراد أنه أرسله ليبلغ الناس بيوم القيامة و أنها لا بد من وقوعها و الوصول إليها و جعله مبشرا بالجنة لمن أطاع اللّٰه و منذرا بالنار لمن عصى اللّٰه...

(خرج من الدنيا خميصا و ورد الآخرة سليما لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله و أجاب داعي ربه، فما أعظم منة اللّٰه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه و قائدا نطأ عقبه) تنفير من الدنيا و تبغيض بها و أن لا يركن المسلم إليها بل يتأسى بنبيه الذي كانت حالته معها بهذا المستوى.

فقد خرج من الدنيا جائعا حقيقة أو كناية عن عدم التمتع بملذاتها و نعيمها و ورد الآخرة سليما من شر الدنيا و ما فيها من مبعدات عن اللّٰه.

و من زهده أنه لم يضع حجرا على حجر أي لم يبن بيتا يسكن فيه كما يبني الناس زهدا في الدنيا و معرفة منه بحقيقتها و أنه لن يبقى عليها و لن تدوم له و أن كل ما يبني سيتحول عنه إلى الوارث و سيعبث به الزمان فيذره أثرا بعد عين و طللا دارسا.

إنه صلوات اللّٰه عليه أجاب داعي ربه الذي دعاه إلى الآخرة و لقاء اللّٰه.

و بعد هذا أراد أن يعترف بعظيم نعم اللّٰه عليه و علينا حينما أنعم بنبيه علينا سلفا نتبع أثره و قائدا نمشي على خطاه، و هل هناك أعظم من إنسان رسول يتقدمنا و نحن نسير خلفه ؟ فإن المسيرة هادفة و صحيحة و الخطوات ثابتة و رزينة...

(و اللّٰه لقد رقّعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك ؟ فقلت: أغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السّرى) ذكر عليه السلام حاله و تأسيه بالنبي و أنه قد رقّع مدرعته حتى استحى من نفسه لكثرة رقعها فقال له هذا القائل:

ألا ترميها عنك و كأنه أراد منه أن يستبدل بها غيرها أحسن منها.

فأجاب الإمام بأن يبعد عنه و لا يتكلم بهذا ثم قال له: «عند الصباح يحمد القوم السّرى» و هو مثل يضرب لمن يحتمل المشقة عاجلا ليصل إلى الراحة آجلا فهو عليه السلام يتحمل المدرعة المرقعة التي لا تليق بشأنه ليصل إلى الآخرة سالما من عيوب الدنيا و ما فيها...

ص: 46

و قد روى أحمد بن حنبل بسنده: قيل لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين لم ترقّع قميصك ؟ قال: ليخشع القلب و يقتدي بي المؤمنون...

و أما المثل فأصله: إن المسافر إذا هجر النوم و سار أول الليل و تحمل مشقة السفر فإنه يبلغ منزله أول الصباح فيحمد على ذلك بخلاف من نام فإنه لن يدرك ما أدركه من سار أول الليل...

ص: 47

161 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في صفة النبي و أهل بيته و أتباع دينه، و فيها يعظ بالتقوى

الرسول و أهله و أتباع دينه

ابتعثه (1) بالنّور المضيء، و البرهان الجليّ (2)، و المنهاج البادي (3)، و الكتاب الهادي. أسرته خير أسرة (4)، و شجرته خير شجرة، أغصانها معتدلة، و ثمارها متهدّلة (5). مولده بمكّة، و هجرته بطيبة (6). علا (7) بها ذكره و امتدّ منها صوته. أرسله بحجّة كافية، و موعظة شافية، و دعوة متلافية (8). أظهر به الشّرائع المجهولة، و قمع (9) به البدع (10) المدخولة (11)، و بيّن (12) به الأحكام المفصولة (13). فمن يبتغ (14) غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته (15)، و تنفصم (16) عروته (17)، و تعظم كبوته (18)، و يكن مآبه (19) إلى الحزن الطّويل و العذاب الوبيل (20).

و أتوكّل على اللّٰه توكّل الإنابة (21) إليه. و أسترشده السّبيل (22) المؤدّية إلى جنّته، القاصدة (23) إلى محلّ رغبته.

النصح بالتقوى

أوصيكم، عباد اللّٰه، بتقوى اللّٰه و طاعته، فإنّها النّجاة (24) غدا، و المنجاة (25) أبدا. رهّب (26) فأبلغ (27)، و رغّب فأسبغ (28)، و وصف لكم الدّنيا و انقطاعها، و زوالها و انتقالها. فأعرضوا (29) عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها. أقرب دار من سخط اللّٰه، و أبعدها من رضوان اللّٰه

ص: 48

فغضّوا (30) عنكم - عباد اللّٰه - غمومها و أشغالها، لما قد أيقنتم به من فراقها و تصرّف (31) حالاتها. فاحذروها حذر الشّفيق (32) النّاصح (33)، و المجدّ الكادح (34). و اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم: قد تزايلت (35) أوصالهم (36)، و زالت أبصارهم و أسماعهم، و ذهب شرفهم و عزّهم، و انقطع سرورهم و نعيمهم، فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها (37)، و بصحبة الأزواج مفارقتها. لا يتفاخرون، و لا يتناسلون، و لا يتزاورون، و لا يتحاورون (38). فاحذروا، عباد اللّٰه، حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، النّاظر بعقله، فإنّ الأمر واضح و العلم (39) قائم، و الطّريق جدد (40) و السّبيل قصد (41).

اللغة

1 - ابتعثه: بعثه أرسله.

2 - الجلي: الواضح، الظاهر على حقيقته.

3 - البادي: الظاهر.

4 - أسرة: الرجل أهله الأدنون.

5 - متهدلة: متدلية مسترخية.

6 - طيبة: اسم للمدينة المنورة سماها بها رسول اللّٰه و كان اسمها يثرب.

7 - علا: الصوت ارتفع.

8 - متلافية: من تلافى الشيء إذا تداركه.

9 - القمع: القهر و الغلبة.

10 - البدع: جمع بدعة الأمر المستحدث من أمور الضلال.

11 - المدخول: المغشوش، المعيوب.

12 - بيّن: أوضح و أظهر.

13 - المفصولة: الواضحة التي فصلها اللّٰه أي قضى بها على عباده.

14 - ابتغى: طلب.

15 - الشقوة: الشقاء ضد السعادة التعاسة.

ص: 49

16 - تنفصم: تنقطع.

17 - العروة: من الإبريق مقبضه أي أذنه، ما يوثق به، ما يعوّل عليه.

18 - الكبوة: العثرة، السقطة.

19 - المآب: المرجع.

20 - العذاب الوبيل: ذو الوبال و هو الهلاك.

21 - الإنابة: الرجوع.

22 - السبيل: الطريق.

23 - القاصدة: المعتدلة المستقيمة غير الجائرة.

24 - النجاة: الفوز و أصلها الناقة ينجى عليها.

25 - المنجاة: مصدر نجا ينجو نجاة.

26 - الترهيب: التخويف.

27 - أبلغ: بلغ الغاية.

28 - أسبغ: أتم و أحاط.

29 - أعرض: عن الشيء صدّ عنه و أشاح.

30 - غض: بصره كفّه.

31 - تصرّف: الحالات تقلبها و تغيّرها.

32 - الشفيق: الخائف.

33 - الناصح: الخالص.

34 - الكادح: الساعي.

35 - تزايلت: تفرّقت.

36 - الأوصال: الأعضاء، المفاصل.

37 - فقد: الولد، غاب عنه و مات.

38 - المحاورة: المخاطبة و المناجاة.

39 - العلم: ما يستدل به في المفاوز على الطريق.

40 - الجدد: بالتحريك من الطريق المستوي المسلوك الواضح.

41 - القصد: المستقيم.

الشرح

(ابتعثه بالنور المضيء و البرهان الجلي و المنهاج البادي و الكتاب الهادي أسرته خير أسرة و شجرته خير شجرة أغصانها معتدلة و ثمارها متهدلة مولده بمكة و هجرته بطيبة علا بها ذكره و امتد منها صوته) تتضمن هذه الخطبة صفات النبي و مناقبه كما أنها تتضمن

ص: 50

الموعظة الحسنة في التنفير من الدنيا...

ابتدأ بذكر النبي فذكر أن اللّٰه بعثه بالنور المضيء و هو نور النبوة فإن نورها يمحي الخرافات و الجهل و يقضي على الظلم و الجور.

(و البرهان الجلي) و هي المعجزات التي جاء بها و تثبت نبوته بأجلى ما يكون و أهم تلك المعجزات كتاب اللّٰه الكريم الذي احتوى ما يعجز عن الاتيان به أحد من الخلق.

(و المنهاج البادي) هو الدين بما فيه من أحكام و تشريعات واضحة جلية.

(و الكتاب الهادي) هو القرآن الكريم قال تعالى: «ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » .

ثم تعرض لأسرة النبي فمدحهم بما يستحقون و بما هو فيهم.

(أسرته خير أسرة) و هم أهله و أولاده و من حوله فهم خير أسرة و أسرة النبي لها خصائص و مميزات أفردتهم عن غيرهم كالعلم و الكرم و القيادة و الحلم و الزهد و غيرها من الصفات.

(و شجرته خير شجرة) و شجرة النبي هي أصله و هي قريش و لا شك أن قريشا كانت المقدمة في كل المجالات على كل العرب و كان بنو هاشم نخبة قريش و سادتهم و كان بيت النبي صفوة هاشم و أفضل بيوتاتهم...

(أغصانها معتدلة و ثمارها متهدلة) و المراد بأغصان هذه الشجرة القرشية هم علي و أولاده و إن كانت العبارة تشمل غيرهم و لكن الوصف لا ينطبق إلا عليهم فإنهم المتقاربون في الشرف الذين يتفقون في الأمور الدينية و لم يقع بينهم خلاف فقولهم واحد من مصدر واحد بدون اختلاف...

و أراد بقوله: «و ثمارها متهدلة» أي ظاهرة كثيرة سهلة الانتفاع بها فإن علوم أهل البيت ظاهرة سهلة كثيرة الانتفاع من أرادها و طلبها أدركها بأيسر ما يكون...

ثم ذكر مكان مولد النبي و هجرته فقد ولد في مكة أعزها اللّٰه و زادها شرفا و هاجر إلى طيبة سماها النبي بذلك بينما سماها يزيد بن معاوية «خبيثة» قال ابن أبي الحديد:

و مما أكفر الناس به يزيد بن معاوية أنه سماها «خبيثة» مراغمة لرسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله.

ذكر المدينة المنورة - و كان أصلها يثرب و سماها النبي طيبة - ذكرها بأن منها

ص: 51

انطلق صوت الدعوة المحمدية و سار بأهلها لإعلاء كلمة اللّٰه و الجهاد في سبيله و منها انتشرت دعوته و بلغت أنحاء العالم...

(أرسله بحجة كافية و موعظة شافية و دعوة متلافية) أرسل اللّٰه النبي محمدا و معه الأدلة و البراهين الكافية على صحة ما يدعيه من النبوة فكانت المعجزات التي تولى إظهارها للناس في زمانه أقوى الحجج على صحة ما يقوله و كان القرآن لزمانه و لكل زمان حجة و برهانا على صحة و أحقية ما يذهب إليه و يدعيه.

و أرسله اللّٰه بالموعظة الشافية و هو القرآن الكريم الذي يشفي الإنسان من أمراض الجهل و التخلف و البعد عن اللّٰه و التمرد على حكم العقل.

كما أن دعوته و رسالته كانت من أجل أن تتلافى مفاسد الجاهلية و تتدارك ما وقع فيها من بعد عن اللّٰه و مظالم للعباد و البلاد، جاءت رسالة الإسلام لترفع الحيف و الظلم و الانحراف و تضع محلها العدل و الحق و الإيمان و الرجوع إلى اللّٰه الواحد الأحد...

(أظهر به الشرائع المجهولة و قمع به البدع المدخولة و بين به الأحكام المفصولة) أظهر اللّٰه بنبيه الشرائع المجهولة التي كانت في الأديان المتقدمة و لكن يد التحريف و التغيير أتت عليها فطمست معالمها و أماتت وجودها فجاء النبي فأظهر تلك الشرائع و قد يراد بالشرائع المجهولة التي لم يهتد إليها الناس بعقولهم فجاء النبي فأظهرها لهم و بينها لعيونهم.

و قمع بالنبي البدع المدخولة و هي ما كانت الجاهلية قد اخترعتها لنفسها من أصنام و أوثان أو ما كان عند الأديان الأخرى كالرهبانية التي ابتدعوها.

ثم بيّن اللّٰه بالنبي ما فصّل من الأحكام و التشريعات و ما بيّن الدين من قوانين الشريعة و تفصيلاتها...

(فمن يبتغ غير الإسلام دينا تتحقق شقوته و تنفصم عروته و تعظم كبوته و يكن مآبه إلى الحزن الطويل و العذاب الوبيل) فإذا كان النبي قد جاء بالإسلام الذي فيه الحجة الكافية و الموعظة الشافية و الدعوة المتلافية و كان به إظهار الشرائع المجهولة و قمع البدع المدخولة و بيان الأحكام المفصولة فهل إنسان يترك هذا الدين و يتنكر له و لا يؤمن به و يمكن أن يعيش سعيدا... كلا... بل لا بد لمن ترك الإسلام أن يكون شقيا تعيسا لا يعرف السعادة و لا يشم رائحتها و تتقطع به كل الأسباب التي يظن بها النجاة و الفلاح و يكثر عثاره و تزداد كبواته و مصائبه، و لن يصل إلى الآخرة سليما بل يكون مرجعه إلى

ص: 52

جهنم حيث الحزن الطويل على تفريطه و العذاب المهلك على انحرافه... و بعبارة أخرى من تديّن بغير الإسلام عاش في الدنيا في الشقاء و العذاب و لم يكن له في الآخرة شفيع أو نصير بل حزن طويل و عذاب أليم...

(و أتوكل على اللّٰه توكل الإنابة إليه و استرشده السبيل المؤدية إلى جنته القاصدة إلى محل رغبته) أتوكل على اللّٰه لا على سواه توكل من انقطع إليه و اعتمد عليه و أطلب منه أن يهديني و يرشدني إلى الطريق المعتدلة المستقيمة التي توصل إلى جنته و إلى ما يرغب فيه و يحبه من المحل المعد للمتوكلين عليه...

(أوصيكم عباد اللّٰه، بتقوى اللّٰه و طاعته، فإنها النجاة غدا و المنجاة أبدا رهب فأبلغ و رغّب فأسبغ و وصف لكم الدنيا و انقطاعها و زوالها و انتقالها فأعرضوا عما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها) ابتدأ بالوصية بتقوى اللّٰه و طاعته و هي الالتزام بأحكامه و بما جاء به نبيه فهذه التقوى بها تكون النجاة غدا من النار و من عذاب الملك الجبار و هي المنجاة أبدا أي محل النجاة... و قيل: إن النجاة هي الناقة التي ينجى عليها فاستعارها للطاعة لأنها كالمطية ينجو بها المطيع من العطب...

رهّب فأبلغ أي خوف المذنبين و المنحرفين فبلغ الغاية في التخويف.

و رغّب فأسبغ: رغب المطيعين بالدرجات العالية في الجنة و بالحور و القصور و غيرها فكان أتم ترغيب و أكمله ثم وصف الدنيا بما ينفر منها و أنها إلى انقطاع و زوال و انتقال فلا بقاء لها و لا دوام ثم أمر بالإعراض عنها و تركها و هجر ما فيها قلبا و عملا و علل ذلك بقلة ما يأخذه الإنسان منها فإنه لا يأخذ إلا الكفن فحسب و كفى بذلك قلة و حقارة فهو يتعب أيام عمره و يشقى و يكد و يجمع ثم يرحل عن الدنيا بخرقة يلف فيها ربما كان يترفع عن ارتدائها حال حياته و العاقل من فكّر في سفره و استعد له...

(أقرب دار من سخط اللّٰه و أبعدها من رضوان اللّٰه فغضّوا عنكم - عباد اللّٰه - غمومها و أشغالها لما قد أيقنتم به من فراقها و تصرف حالاتها فاحذروها حذر الشفيق الناصح و المجد الكادح) دار الدنيا أقرب دار إلى غضب اللّٰه لأن فيها الشهوات و لا يعصى اللّٰه إلا فيها و أبعد دار عن رضوان اللّٰه لأن رضا اللّٰه يتحقق بطاعته و التزام أمره و هذا ما لا يحصل إلا ببعض درجاته و مراتبه...

ثم أمرهم أن يكفوا عن أنفسهم الغم لأجلها و الاشتغال بها لزوالها و عدم دوامها و إنما يستحق الاهتمام ما كان يدوم و يبقى كالدار الآخرة.

ص: 53

ثم أمرهم بالحذر و أخذ الإهبة و الاستعداد لأنفسهم حذر الشفيق الحنون على شفيقه و حبيبه الناصح له و المجد الساعي بجد و نشاط خوف الفشل و السقوط...

(و اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم قد تزايلت أوصالهم و زالت أبصارهم و أسماعهم و ذهب شرفهم و عزهم و انقطع سرورهم و نعيمهم فبدلوا بقرب الأولاد فقدها و بصحبة الأزواج مفارقتها لا يتفاخرون و لا يتناسلون و لا يتزاورون و لا يتحاورون) أمرهم أن يأخذوا العبرة بمن مات قبلهم - و هذه عبرة لنا و لكل حي - أن ينظر في الأمم الماضية كيف عفى عليها الزمن و أتى على مساكنها و لم يبق منها إلا الأطلال الدارسة التي تحكي عنهم و تخبر عن وجودهم...

لقد تفرقت أعضاؤهم فلم يبق لهم يد و لا رجل و لا رأس على بدن.

و زالت أبصارهم و أسماعهم فقد فقدوها أكلتها حشرات الأرض و ديدانها.

و ذهب مقامهم الرفيع و مهابتهم التي كانوا يمارسون بها الظلم على الناس.

لقد كانوا أعزة تحرسهم الجيوش و أصحاب شرف عريض يدافعون عنه و يقاتلون من أجله فذهب كله إلى التراب و أما سرورهم و ما كانوا فيه من نعيم، أيام أفراحهم و سرورهم لقد ولت معهم و دفنت إلى جانبهم...

لقد تبدلت أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا.

ففي الدنيا كان الأولاد إلى جانبهم و معهم يأنسون بهم و يفرحون فهذا القرب قد تبدل إلى بعد فلا جامع يجمعهم و لا لقاء بينهم.

و في الدنيا كان هناك أزواج تصحب أزواجها و تأنس بها فقد فارقتها و ابتعدت عنها و هجرت اللقاء بها.

و في الدنيا كانوا يتفاخرون كل واحد من الأمم الماضية كان يفتخر على قرنه و يرى نفسه أنه أكمل منه و أعظم فقد انقطع هذا التفاخر و أضحى الجميع في المقابر، لقد درستهم الأيام و سوّت فيما بينهم...

و في الدنيا كانوا يتزوجون و يتناسلون فهناك أبناء و أحفاد لقد توقف الإنتاج و التناسل و تعطلت الأرحام التي كانت تدفع بالأولاد إلى الدنيا.

و في الدنيا كانوا يتزاورون، يزور بعضهم بعضا فقد انقطعت الزيارات بالموت و توقفت اللقاءات و الاجتماعات...

ص: 54

و في الدنيا كان يجري بين أهلها المحاورة و النقاش و الأخذ و الرد و بالموت انقطع ذلك و توقف فلا حديث و لا حوار...

(فاحذروا عباد اللّٰه حذر الغالب لنفسه المانع لشهوته الناظر بعقله فإن الأمر واضح و العلم قائم و الطريق جدد و السبيل قصد) عاد عليه السلام يحذرهم و يخوفهم من أنفسهم حذر القاهر لنفسه المنتصر عليها المسيطر على غرائزه المانع لشهوته أن تجره إلى الانحراف أو الرذيلة أو شيء من معصية اللّٰه...

حذر من نظر بعقله و فكّر و دقق و مثل هذا في أمان من السقوط و الانهيار، فإن أمر الدنيا و الآخرة واضح لا غبار عليه فالدنيا زائلة فانية و الآخرة باقية دائمة، و علم الشريعة و الدين قائم يراه كل من يطلبه و يهتدي به كل من قصده و الطريق إلى الجنة سهل و السبيل إليها مستقيم و على العاقل أن يسلك هذا الطريق و يصل إلى ما يحب و يرضى...

ص: 55

162 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لبعض أصحابه و قد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به ؟ فقال:

يا أخا بني أسد، إنّك لقلق (1) الوضين (2)، ترسل (3) في غير سدد (4)، و لك بعد ذمامة (5) الصّهر (6) و حقّ المسألة، و قد استعلمت فاعلم: أمّا الاستبداد (7) علينا بهذا المقام و نحن الأعلون نسبا، و الأشدّون برسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - نوطا (8)، فإنّها كانت أثرة (9) شحّت (10) عليها نفوس قوم، و سخت (11) عنها نفوس آخرين، و الحكم اللّٰه، و المعود (12) إليه القيامة.

و دع عنك نهبا (13) صيح (14) في حجراته (15) *** و لكن حديثا ما حديث الرّواحل (16)

و هلمّ (17) الخطب (18) في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدّهر بعد إبكائه، و لا غرو (19) و اللّٰه، فيا له خطبا يستفرغ (20) العجب، و يكثر الأود (21)! حاول القوم إطفاء نور اللّٰه من مصباحه، و سدّ فوّاره (22) من ينبوعه (23)، و جدحوا (24) بيني و بينهم شربا (25) و بيئا (26)، فإن ترتفع عنّا و عنهم محن (27) البلوى، أحملهم من الحقّ على محضه (28)، و إن تكن الأخرى، «فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ » .

ص: 56

اللغة

1 - قلق: ككتف من باب تعب اضطرب.

2 - الوضين: الحزام الذي يجعل تحت بطن الدابة يشد به ما على ظهر الدابة من السرج و نحوه.

3 - ترسل: من الإرسال و هو الإطلاق و الإهمال.

4 - السدد: بالتحريك الاستقامة، الصواب.

5 - الذمامة: الحماية و الكفاية، الحرمة.

6 - الصهر: القرابة.

7 - الاستبداد: بالأمر الاستقلال به و الانفراد دون غيره.

8 - النوط: بالفتح التعلق و الالتصاق.

9 - أثرة: الاختصاص بالشيء دون مستحقه، الاستئثار.

10 - شحّت: بخلت.

11 - سخت: جادت.

12 - المعود: اسم لمكان العود أو مصدر بمعناه.

13 - النهب: الغنيمة.

14 - صيح: من صاح أي صاحوا للغارة.

15 - حجراته: جمع حجرة بفتح الحاء الناحية.

16 - الرواحل: الإبل جمع راحلة.

17 - هلم: هات، تعال.

18 - الخطب: الأمر العظيم، الحادث الجليل.

19 - لا غرو: لا عجب.

20 - يستفرغ: العجب يستنفده و يفنيه.

21 - الأود: الاعوجاج.

22 - الفوار: و الفوارة من الينبوع الثقب الذي يفور منه الماء بشدة.

23 - الينبوع: عين الماء و جمعه ينابيع.

24 - جدحوا: خلطوا و مزجوا.

25 - الشرب: بكسر الشين النصيب من الماء.

26 - الوبىء: ذو الوباء و المرض.

27 - المحن: ما يمتحن به الإنسان من بلية.

28 - المحض: الخالص.

29 - الحسرات: التلهف و الحزن على أمر قد فات.

ص: 57

الشرح

(يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين ترسل في غير سدد و لك بعد ذمامة الصهر و حق المسألة و قد استعلمت فاعلم) هذا الكلام منه عليه السلام جواب لأحد أصحابه من بني أسد سأله و هو في صفين: كيف دفعكم قومكم عن الخلافة و أنتم أحق بها لقربكم من رسول اللّٰه و أنتم أصحاب العلم و الحلم و فيكم الوصية و لكم الوراثة.

فأجابه الإمام: يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين كناية عن عدم استقامته في سؤاله في هذا الوقت الصعب أو لأنه سؤال يحتاج إلى وقت أطول و تفصيل أكثر و الوقت لا يتسع لذلك كنى بذلك لأن حزام الدابة الذي يشد السرج إذا كان واسعا لم يستقر السرج و يسقط من كان عليه.

و قوله ترسل في غير سدد أي تلقي الكلام بدون رويّة و لا دراسة لمواقعه و أوقاته و متى يكون ؟ و هذا تأديب له و تنبيه على أن لكل شيء وقته الذي يلائمه و يناسبه و بعد أن أدب السائل أراد أن يجيبه و قد هدف في ذلك إلى تعليمنا و أنه لا بد من الإجابة لأمرين:

الأول: إن لك حق الصهر و حرمته و احترامه و ذلك لأن زينب بنت جحش زوج رسول اللّٰه كانت أسدية و إن كانت من جهة الأم ابنت عمة رسول اللّٰه.

الثاني: إن لكل سائل حق أن يجاب و أنت قد سألت فلك الحق في الجواب و قد طلبت العلم فاعلم الحقيقة و خذها من أهلها.

(أما الاستبداد علينا بهذا المقام و نحن الأعلون نسبا و الأشدون برسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - نوطا فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين و الحكم اللّٰه و المعود إليه القيامة.

و دع عنك نهبا صيح في حجراته *** و لكن حديثا ما حديث الرواحل

و هلم الخطب في ابن أبي سفيان فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه و لا غرو و اللّٰه، فيا له خطبا يستفرغ العجب و يكثر الأود) أما أخذ الخلافة و الاستقلال بها دوننا مع أننا في الذروة العليا في الحسب و النسب و الأقرب من جميع الناس برسول اللّٰه و أشدهم لحمة به فإنما كان ذلك لأن النفوس مجبولة على طلب ما تحب و هي تطلبه و تريده و تسعى في سبيله و الخلافة مما يحب و يستأثر به و لذا أحبتها نفوس قوم فطلبتها و عقدت سقيفة بني ساعدة من أجلها و بخلت بها أن تعطيها لأهلها و أما أهل البيت فقد سخت نفوسهم بها و أشاحوا عنها بنظرهم فلم يشنوا من أجلها حربا و لم يفرقوا جماعة، بل كان همهم

ص: 58

الوحدة و شغلهم الحفاظ عليها...

و بعبارة موجزة تليق بالمقام الخلافة شيء يطلب و قد طلبها أصحاب السقيفة و بخلوا بها على أهلها - و هم أهل البيت - و أهل البيت سكتوا عن ذلك حفظا للوحدة و صيانة لها...

ثم قال له: إن الحكم هو اللّٰه و هو الذي يفصل بين عباده و يحكم لأصحاب الحقوق بحقوقهم و يعذب الظالمين و المعتدين و المرجع إلى اللّٰه يوم القيامة فيجازى المحسن بإحسانه و المسيء بإسائته فإذا كان هناك يوم يحاسب فيه هذا الإنسان و يكون الحاكم و المحاسب هو اللّٰه العدل فتهون القضايا و يصل كل ذي حق إلى حقه.

ثم استشهد بهذا البيت من الشعر لامرىء القيس:

و دع عنك نهبا صيح في حجراته *** و لكن حديثا ما حديث الرواحل

يعني دع عنك أمر من مضى من الخلفاء الذين سلبوني حقي في الخلافة و استولوا عليها ظلما و لكن هات هذا الأمر الجليل الذي يدعيه ابن أبي سفيان حيث نازع الحق أهله و خرج على الخلافة الشرعية و قام في الحرب و القتال طالبا الخلافة...

لقد أضحكني الدهر بعد إبكائه كان للأوائل حججا واهية و دعاوى فارغة، ادعوا أنهم أصحاب رسول اللّٰه و أنهم شجرته و عشيرته و أنهم... و إنهم و بهذا موهوا على الناس البسطاء فشجاني ذلك و أبكاني حقيقة لطمس معالم الحق و كيف أنهم لبّسوا على الناس و أخفوا الحقائق.

ثم قال: لا غرو و اللّٰه فيما جرى و ما حدث فهذا هو الدهر و هذه هي تقلباته.

ثم استعظم الأمر و أشار إلى أنه أمر جليل و حدث عظيم يستفرغ العجب يفنيه حتى يعود و لا عجب في البين لأن أصبح يجل عن التعجب.

ثم وصف الخطب أيضا بأنه يكثر الاعوجاج و الالتواء لأن كل أمر إذا بعد عن الشريعة ازداد اعوجاجا و إن ابتدأ صغيرا...

(حاول القوم إطفاء نور اللّٰه من مصباحه و سد فواره من ينبوعه و جدحوا بيني و بينهم شربا و بيئا فإن ترتفع عنا و عنهم محن البلوى أحملهم من الحق على محضه و إن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن اللّٰه عليم بما يصنعون) أشار إلى معاوية و جماعته و ما يرمي إليه من وراء الخلاف و الشقاق و شق عصا الطاعة إنهم قوم أرادوا

ص: 59

إطفاء نور اللّٰه من مصباحه أرادوا القضاء على الإسلام و الدين بالقضاء على سدنة الشريعة و حراسها الذين عن أيديهم تؤخذ أحكام الدين إنهم أرادوا سد هذا النبع المتدفق بالقضاء على مصادره و هم أهل البيت... فإن الإسلام بعقائده و شرائعه و أحكامه و أخلاقه و آدابه كلها تؤخذ عن أهل بيت رسول اللّٰه فأراد معاوية و جماعته أن يمنعوا هذا الخير و يرفعوا هذا العطاء المتدفق فوقفوا في وجه صاحب الحق و أعلنوا الحرب عليه ليقضوا عليه و يتوقف كل خير...

ثم قال الإمام: و جدحوا بيني و بينهم شربا و بيئا أي خلطوا الماء الذي أشربه معهم بالوباء المعدي المؤذي و كنى بذلك عن الفتنة التي أوقعوها بينهم و بينه بسبب رفضهم بيعته و تمردهم على حكمه و أنها كالوباء من جهة أنها تسبب القتل و الدمار...

و أخيرا أشار إلى أنه إن ارتفعت هذه الفتنة و عادوا إلى الطاعة و لزموا الجماعة فإنه سيحملهم على الحق الخالص و يعطي لكل ذي حق حقه بدون ظلم و لا حيف و إن كانت الأخرى بأن قتل الإمام و انتصر الباطل فلا يتأسف عليهم أو يحزن لأنهم انتصروا لأن اللّٰه عليم بما يصنعون من الظلم و الجور، له الأمر و هو الحكم العدل يفصل بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون و سيحاسب معاوية و جماعته و من مهد له و أوصله إلى هذا المقام...

ص: 60

163 - و من خطبة له عليه السلام

الخالق جل و علا

الحمد للّٰه خالق العباد، و ساطح (1) المهاد (2)، و مسيل (3) الوهاد (4)، و مخصب (5) النّجاد (6). ليس لأوّليّته ابتداء، و لا لأزليّته انقضاء. هو الأوّل و لم يزل، و الباقي بلا أجل (7). خرّت (8) له الجباه، و وحّدته الشّفاه. حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة (9) له من شبهها. لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح (10) و الأدوات (11). لا يقال له: «متى ؟» و لا يضرب له أمد (12) «بحتّى». الظّاهر لا يقال: «ممّ؟» و الباطن لا يقال: «فيم ؟» لا شبح (13) فيتقصّى (14)، و لا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق، و لم يبعد عنها بافتراق، و لا يخفى عليه من عباده شخوص (15) لحظة، و لا كرور (16) لفظة، و لا ازدلاف (17) ربوة (18)، و لا انبساط خطوة، في ليل داج (19)، و لا غسق (20) ساج (21)، يتفيّأ (22) عليه القمر المنير، و تعقبه (23) الشّمس ذات النّور في الأفول (24) و الكرور (25)، و تقلّب الأزمنة و الدّهور، من إقبال ليل مقبل، و إدبار نهار مدبر. قبل كلّ غاية و مدّة، و كلّ إحصاء و عدّة، تعالى عمّا ينحله (26) المحدّدون من صفات الأقدار (27)، و نهايات الأقطار (28)، و تأثّل (29) المساكن، و تمكّن الأماكن (30). فالحدّ لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب.

ص: 61

ابتداع المخلوقين

لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة (31)، و لا من أوائل أبدية (32)، بل خلق ما خلق فأقام حدّه (33)، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته. ليس لشيء منه امتناع، و لا له بطاعة شيء انتفاع. علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، و علمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السّفلى.

منها: أيّها المخلوق السّويّ (34)، و المنشأ المرعيّ (36)، في ظلمات الأرحام (37)، و مضاعفات الأستار. بدئت «من سلالة (38) من طين»، و وضعت «في قرار مكين (39)، إلى قدر معلوم»، و أجل مقسوم، تمور (40) في بطن أمّك جنينا لا تحير (41) دعاء، و لا تسمع نداء، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها، و لم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لاجترار (43) الغذاء (44) من ثدي أمّك، و عرّفك عند الحاجة مواضع طلبك و إرادتك! هيهات، إنّ من يعجز عن صفات ذي الهيئة و الأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، و من تناوله بحدود المخلوقين أبعد!.

اللغة

1 - الساطح: الباسط.

2 - المهاد: في الأصل الفراش و يقصد بها هنا الأرض.

3 - المسيل: المجرى.

4 - الوهاد: جمع وهدة ما انخفض من الأرض.

5 - المخصب: جاعلها ذوات خصب، و الخصب كثرة الخير و العشب و الثمار و غيرها.

6 - النجاد: جمع نجد و هو ما ارتفع من الأرض.

7 - الأجل: الوقت.

8 - خرّ: على الأرض ساجدا إذا انكب عليها ساجدا.

ص: 62

9 - الإبانة: التمييز و الفصل.

10 - الجوارح: الأعضاء.

11 - الأدوات: جمع أداة و هي ما يعتمد به.

12 - الأمد: الغاية و منتهى الشيء المدة و الوقت.

13 - الشبح: الشخص.

14 - يتقصّى: يطلب أقصاه.

15 - شخوص: لحظة، امتداد بصر بلا حركة من جفن.

16 - كرور: لفظة كررها.

17 - الإزدلاف: الاقتراب.

18 - الربوة: المكان المرتفع، التل من الرمال و غيره.

19 - داج: مظلم.

20 - الغسق: ظلمة أول الليل.

21 - الساجي: الساكن.

22 - الفيء: الظل.

23 - تعقبه: تتعقبه أي تجيء بعده.

24 - الأفول: المغيب.

25 - الكرور: الرجوع بالشروق.

26 - ينحله: ينسبه.

27 - الأقدار: جمع قدر و هو حال الشيء من الطول و العرض و العمق و الصغر و الكبر.

28 - الأقطار: الجوانب.

29 - التأثل: التأصل و مجد مؤثل أي أصيل.

30 - تمكّن الأماكن: ثبوتها و استقرارها.

31 - الأزلي: القديم الذي لا نهاية له.

32 - الأبدي: الدائم الذي لا نهاية له.

33 - أقام حده: ما به يمتاز عن سائر الموجودات.

34 - السوي: المستوي الخلقة الذي لا نقص فيه.

35 - المنشأ: المبتدع.

36 - المرعي: المحفوظ، المعتنى بأمره.

37 - الأرحام: جمع رحم موضع تكون الجنين من المرأة.

38 - السلالة: من الشيء ما انسل منه.

39 - القرار المكين: محل الجنين من الرحم.

ص: 63

40 - تمور: تتحرك.

41 - لا تحير: من أحار يحير، لا يرجع جوابا.

42 - السبل: الطرق.

43 - الاجترار: امتصاص اللبن من الثدي.

44 - الغذاء: الطعام.

الشرح

(الحمد للّٰه خالق العباد و ساطح المهاد و مسيل الوهاد و مخصب النجاد) ابتدأ عليه السلام بحمد اللّٰه و أثنى عليه بعدة صفات فهو خالق العباد - من الإنس و الجن و الملائكة - و قد ذكر العباد تشريفا لهم.

و ساطح المهاد أي باسط الأرض و ممهدها لعباده.

و كذلك هو سبحانه بحكمته أجرى المياه في الوديان و المنخفضات و جعل الخصب من أعشاب و كلأ و خيرات في المرتفعات ليكمل بذلك معاش الإنسان و الحيوان...

(ليس لأوليته ابتداء و لا لأزليته انقضاء هو الأول و لم يزل و الباقي بلا أجل خرت له الجباه و وحدته الشفاه) هذه جملة من الصفات السلبية التي يجل عنها الباري.

الأول: ليس لأوليته ابتداء إذ لو كان له ابتداء لكان له حد و المحدود ممكن و اللّٰه واجب الوجود أو يكون محدثا و اللّٰه ينزه عن ذلك.

الثاني: و لا لأزليته انقضاء: أي لا غاية ينتهي عندها و يزول فلو كان كذلك لم يكن واجب الوجود.

ثم أكد ما تقدم بكونه الأول لم يزل بدون حدود و الآخر بدون انتهاء و بلا أجل و هذا تأكيد لا نفي بصيغة الإيجاب.

و لعظمة اللّٰه و كونه المستحق وحده للتعظيم وقعت الجباه ساجدة للّٰه خاضعة لجلاله و الشفاه نطقت بتوحيده و أنه اللّٰه الواحد الأحد الذي لا شريك له.

(حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود و الحركات و لا بالجوراح و الأدوات لا يقال له متى ؟ و لا يضرب له أمد «بحتى» الظاهر لا يقال «مم» و الباطن لا يقال «فيم» لا شبح فيتقصى و لا محجوب فيحوى).

ص: 64

الثالث: حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها فهو لا يشبهه شيء و لذا جعل لمخلوقاته حدودا تتصورها الأوهام بحدودها و حركاتها و تضع الجوارح يدها عليها و تدركها الأدوات البشرية و اللّٰه منزه عن ذلك.

الرابع: لا يقال له متى ؟ أي متى وجد و في أي زمان و لا يضرب له أمد بحتى فيقال له متى ينتهي و ينقضي لأنه فوق الزمان و هو مبدع الزمان و خالقه كان و لم يكن ثمّ زمان و لا مكان.

الخامس: إنه الظاهر و ظهوره ليس مما يسأل عنه مما يتركب و ما مادته و أصله.

السادس: الباطن لا يقال فيم: فهو من خفائه لا يقال فيم اختفى كما هو السؤال عن سائر الأجسام التي إذا اختفت قيل فيم اختفت.

السابع: لا شبح فيتقصى: أي ليس شخصا فيطلب أقصاه و حدوده و الشبح يحده النظر و لو ببعض الاعتبارات و يسأل عن حالاته و تستقصى أطواره و اللّٰه منزه عن ذلك.

الثامن: لا محجوب فيحويه الحجاب و يستره لأن ما يحجب هو الجسم و اللّٰه منزه عن ذلك.

(لم يقرب من الأشياء بالتصاق و لم يبعد عنها بافتراق و لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة و لا كرور لفظة و لا ازدلاف ربوة و لا انبساط خطوة، في ليل داج و لا غسق ساج يتفيأ عليه القمر المنير و تعقبه الشمس ذات النور في الأفول و الكرور و تقلب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل مقبل و إدبار نهار مدبر).

التاسع: كونه قريب من الأشياء لا بالالتصاق بل قريب منها بالتدبير و العلم بما تفعل و الالتصاق من صفة الأجسام و اللّٰه منزه عنها و كذلك بعيد عنها لكن لا بافتراق بل بعيد بالصفات فضلا عن الذات.

العاشر: إن علمه أحاط بكل المخلوقات و أشار إلى ذلك بأنه لا يخفى عليه من عباده مد بصرهم و هو مفتوح لا يتحرك و لا إعادة ألفاظهم و كلامهم و لا تقدم إنسان إلى تلة أو صعوده إليه كما أنه سبحانه يعلم سعة الخطوة التي يخطوها الإنسان و عددها و إلى أين... إنه سبحانه يعلم كل ذلك سواء كان في ليل مظلم شديد الظلمة أو كان في ليل ساكن هادىء.

و هذا الغسق الساكن يتقلب عليه القمر المنير في ذهابه و عودته و هو يتكامل نحو البدر أو يصغر إلى الهلال فالمحاق.

ص: 65

كما أن الشمس تعاقب القمر فتطلع عند أفوله و يطلع عند أفولها و تكون من دورتهما و تعاقبهما الأزمنة و الدهور فتمضي سنون و تأتي أخرى، يقبل ليل و يدبر نهار و يحسب الحاسبون أيامّا و سنوات.

(قبل كل غاية و مدة و كل إحصاء و عدة تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار و نهايات الأقطار و تأثل المساكن و تمكّن الأماكن فالحد لخلقه مضروب و إلى غيره منسوب) الحادي عشر:

و هذا تنزيه للّٰه عما لا يليق به فهو قبل كل غاية و مدة و الغاية حادثة و المدة محدودة ابتداء و زمان و مكانا و اللّٰه هو الخالق لكل ذلك و كان و لم يكن شيء من هذا كما أنه سبحانه كان قبل كل إحصاء و حساب للمخلوقات.

ثم أنه عليه السلام نزه اللّٰه عما نسبه إليه الضالون الذين حددوا له صفات الممكنات و الأشياء التي يرونها من كونه ذي طول و عرض و بداية و نهاية و عمق و ارتفاع و ثبوت و استقرار على مستوى الأشياء التي لها هذه المواصفات تعالى اللّٰه عن ذلك فهو الخالق لهذه و الموجد لها و شتان بين وجوب وجوده و استغنائه عن كل شيء بما فيها هذه الأوصاف و بين الممكنات المفتقرة في وجودها إلى هذه الأوصاف.

فالحد و الصفة المذكورة لكل مخلوق من مخلوقات اللّٰه دونه جل أن يتصف بشيء منها أو ينسب إليه شيء منها، فالحد لغيره لجسميته و الصفة تليق به و تنسب إليه دون اللّٰه جل و عز...

(لم يخلق الأشياء من أصول أزلية و لا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده و صوّر ما صوّر فأحسن صورته ليس لشيء منه امتناع و لا له بطاعة شيء انتفاع علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، و علمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى) قد يكون هذا رد على من ادعى أن هذه الموجودات ترجع إلى أمر أبدي أزلي هو المادة الأصلية المعبر عنها بالهيولى فنفى عليه السلام أن تكون هذه الموجودات مستندة إلى هذا الأصل بل إنه سبحانه خلقها و لم تكن و جعل لها حدود معينة من طول و عرض و صورها كما أراد فأحسن صورتها...

و لقدرته النافذة و أنه لا يعجزه شيء في السماوات و الأرض ليس لشيء من هذه الموجودات امتناع عما أراد بل بقوله كن فكان و إذا أراد منه شيئا حصل كما أنه الغني المطلق الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه و إنما تعود منفعة الطاعة لهذا المطيع كي يتكامل و يرتقي...

ص: 66

ثم أشار إلى عموم علمه و أنه لا يحجبه شيء فهو يعلم من مات من الماضين كما يعلم الأحياء من الباقين و يعلم بما في السموات العلى من ملائكة و أرواح كما يعلم بما في الأرضين السفلى من جن و أشياء فهو العالم بكل شيء لا يعذب عن علمه شيء في السماوات و الأرض و هذا عكس البشر الذين يعلمون شيئا و تغيب عنهم أشياء...

(أيها المخلوق السّوي و المنشأ المرعي في ظلمات الأرحام و مضاعفات الأستار بدئت من سلالة من طين و وضعت في قرار مكين إلى قدر معلوم و أجل مقسوم تمور في بطن أمك جنينا لا تحير دعاء و لا تسمع نداء) هذا خطاب للإنسان بما فيه من عظيم الصنع ليصل منه إلى عظمة الصانع جل اسمه فهذا الإنسان سوي الخلقة أي تام غير ناقص فهو مستقيم القوام جميل الصورة تام معنويا و ماديا.

و كان إنشاؤه و تكوينه برعاية إلهية دقيقة حفظته و صانته في ظلمات الأرحام كما قال تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمٰاتٍ ثَلاٰثٍ » (1)و فسرت الظلمات الثلاث بظلمة البطن و الرحم و المشيمة و هي مضاعفات الأستار فجعل حاجبا بعد حاجب و ستارا بعد ستار و جعلت النطفة في ضمن ذلك كله.

ثم أشار إلى بدء تكوين الإنسان - و هو آدم - عليه السلام - و أن اللّٰه خلقه من طين كما قال تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ » (2).

فبعد أن أستله اللّٰه من تراب الأرض فكان آدم ثم بعد ذلك ابتدأ النوع البشري بطريق التناسل فكانت النطفة من الرجل في رحم الأم - و هو القرار المكين - الثابت إلى وقت معلوم و هو وقت الولادة ثم تعيش إلى أجل مقسوم لك محدد بأوقات معينة يعلمها اللّٰه فقد يطول عمرك و قد يقصر و بيّن عليه السلام سر العظمة الإلهية في هذا التكوين فهو في بطن أمه يتحرك و يتموج و مع ذلك لا يسمع نداء و لا يرد جوابا و لا يقدر على حوار من يحاوره...

(ثم أخرجت من مقرك إلى دار لم تشهدها و لم تعرف سبل منافعها فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك و عرفك عند الحاجة مواضع طلبك و إرادتك هيهات إن من2.

ص: 67


1- سورة الزمر، آية - 6.
2- سورة المؤمنون، آية - 12.

يعجز عن صفات ذي الهيئة و الأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز و من تناوله بحدود المخلوقين أبعد) بعد أن انتهى عليه السلام من دنيا الرحم و كيف يتكون الجنين في بطن الأم انتقل إلى مرحلة جديدة من الحياة فأخرجه اللّٰه من الرحم إلى الدنيا و هي دار لم يشهدها و لم يعرفها من قبل و لم يعرف الطرق التي يهتدي بها إلى منافعها و ما يحفظ حياته فيها.

ثم استفهم متعجبا من قدرة اللّٰه العظيمة التي هدت هذا الطفل الخارج من الرحم و هو أعمى لا يرى و أبكم لا ينطق و جاهل لا يعرف هداه اللّٰه إلى امتصاص اللبن من ثدي أمه و هو سبحانه عرّفه على الأمور التي يطلبها و يحتاجها و يريدها بما ألهمه و أعطاه من قدرة عقلية تنمو باستمرار.

ثم قال عليه السلام: بعد أن يحيط علما بالخالق أو يدرك كنهه من عجز عن معرفة المخلوقين أمثاله الذين تحكمهم الهيئات من طول و عرض و من لهم أجزاء و أطراف...

فمن عجز على الوقوف على أسرار تكوينه شخصيا فهو أعجز عن وصف اللّٰه الخالق سبحانه و تعالى و أبعد من ذلك من شبّه اللّٰه بخلقه و أعطاه أوصاف عبيده و مخلوقاته...

ص: 68

164 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما اجتمع الناس إليه و شكوا ما نقموه على عثمان و سألوه مخاطبته لهم و استعتابه لهم، فدخل عليه فقال:

إنّ النّاس ورائي و قد استسفروني (1) بينك و بينهم، و و اللّٰه ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئا تجهله، و لا أدلّك على أمر لا تعرفه. إنّك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، و لا خلونا (2) بشيء فنبلّغكه (3). و قد رأيت كما رأينا، و سمعت كما سمعنا، و صحبت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كما صحبنا. و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطّاب بأولى بعمل الحقّ منك، و أنت أقرب إلى أبي رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و شيجة (4) رحم منهما، و قد نلت (5) من صهره ما لم ينالا. فاللّٰه اللّٰه في نفسك! فإنّك - و اللّٰه - ما تبصّر من عمى، و لا تعلّم من جهل، و إنّ الطّرق لواضحة، و إنّ أعلام الدّين لقائمة. فاعلم أنّ أفضل عباد اللّٰه عند اللّٰه إمام عادل، هدي و هدى، فأقام سنّة معلومة، و أمات بدعة مجهولة. و إنّ السّنن لنيّرة، لها أعلام، و إنّ البدع (6) لظاهرة، لها أعلام. و إنّ شرّ النّاس عند اللّٰه إمام جائر ضلّ و ضلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، و أحيا بدعة متروكة. و إنّي سمعت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر، فيلقى في نار جهنّم، فيدور فيها كما تدور الرّحى، ثمّ يرتبط (7) في قعرها (8)». و إنّي أنشدك (9) اللّٰه ألاّ تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان

ص: 69

يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة، و يلبس (10) أمورها عليها، و يبثّ (11) الفتن فيها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون (12) فيها موجا، و يمرجون (13) فيها مرجا. فلا تكوننّ لمروان سيّقة (14) يسوقك حيث شاء بعد جلال السّنّ و تقضّي العمر. فقال له عثمان رضي اللّٰه عنه: «كلّم النّاس في أن يؤجّلوني، حتّى أخرج إليهم من مظالمهم (15)» فقال عليه السلام: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، و ما غاب فأجله وصول أمرك إليه.

اللغة

1 - استسفروني: جعلوني سفيرا و وسيطا.

2 - خلونا: انفردنا.

3 - بلّغه: الأمر أوصله إليه.

4 - الوشيجة: عروق الشجرة و الواشجة الرحم المشتبكة.

5 - نلت: أصبت و أدركت.

6 - البدع: جمع بدعة ما أحدث على غير مثال، إدخال ما ليس في الدين على أنه منه.

7 - يرتبط: يشدّ.

8 - القعر: من كل شيء عمقه و نهاية أسفله.

9 - أنشدك: اللّٰه استحلفك به و أقسم عليك به.

10 - يلبس: عليه الأمر يخلطه و يجعله خافيا.

11 - يبث: ينشر.

12 - يموجون: يضطربون، اختلاف الأمور و اضطرابها.

13 - يمرجون: من المرج و هو الخلط و الاضطراب.

14 - السيقة: الدابة تساق.

15 - المظالم: جمع الظلامة و المظلمة ما احتملته من الظلم، ما أخذ منك ظلما.

ص: 70

الشرح

(إن الناس ورائي و قد استسفروني بينك و بينهم و و اللّٰه ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئا تجهله و لا أدلك على أمر لا تعرفه إنك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه و لا خلونا بشيء فنبلغكه و قد رأيت كما رأينا و سمعت كما سمعنا و صحبت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كما صحبنا و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطاب بأولى بعمل الحق منك و أنت أقرب إلى رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - و شيجة رحم منهما و قد نلت من صهره ما لم ينالا) اجتمع الناس كلمة واحدة و وقفوا أمام عثمان يطالبونه برفع الظلم عنهم و لم يجدوا غير الإمام يرفع مطالبهم إلى الخليفة فحملها الإمام و دخل على عثمان و كان منه هذا الكلام الشريف و هو يتضمن الاحتجاج عليه و تحذيره من مغبة الإهمال و عدم التنفيذ ابتدأ عليه السلام بقوله: إن الناس جعلوني سفيرا بينك و بينهم أنقل مرادهم إليك و احتجاجهم عليك و ابتدأ بالاستعتاب باللين فأقسم أنه لا يدري بأي لسان يتكلم معه ليكون مؤثرا فيه.

ثم قال له: إن هذه الأحداث التي وقعت في أيامك و ارتكبها عمالك لا تجهل شيئا منها بل وصلتك بأجمعها و علمت بها كلها و لم يبق في البين ما تجهله لأدلك عليه...

إنك لتعلم ما نعلم من هذه الأحداث و قد جرت بمرأى منك و مسمع دون إنكار أو رد ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه و نطلعك عليه و لا انفردنا بشيء علمناه دونك حتى نبلغك إياه و نعرفك مضمونه... و قد رأيت كما رأينا و سمعت كما سمعنا... و قد صحبت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كما صحبنا فإذا كانت الصحبة واحدة فيقتضي أن تكون مثلنا في الرأي و السلوك و العمل... ثم خرج إلى الشيخين ليذكّره أنهما ليسا أولى منه بالسير وفق الحق و العدل و أن من الحق أن يكون مثلهما إن لم يكن أفضل و قد ذكر لذلك قرابته من رسول اللّٰه النسبية و قرابته السببية و هما كافيان ليكون أعمل منهما بالحق...

أما قربه من رسول اللّٰه فإن الرسول هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

و أما عثمان فهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

أما قرابته السببية من رسول اللّٰه فهو صهره على ابنتيه رقية و أم كلثوم.

فعثمان أقرب إلى النبي نسبا و سببا من أبي بكر و عمر و هذه القرابة داعية ليكون أعمل بالحق منهما...

ص: 71

(فاللّٰه اللّٰه في نفسك فإنك - و اللّٰه - ما تبصّر من عمى و لا تعلّم من جهل و أن الطرق لواضحة و أن أعلام الدين لقائمة فاعلم أن أفضل عباد اللّٰه عند اللّٰه إمام عادل هدي و هدى فأقام سنة معلومة و أمات بدعة مجهولة و إن السنن لنيرة لها أعلام و أن البدع لظاهرة لها أعلام) حذره اللّٰه بأن يلتفت إلى نفسه و يحفظها ثم أقسم باللّٰه على أنه لا يحتاج إلى من يبيّن له الحقيقة و ينير له الدرب إذا لا يجري في حقه ذلك و الحال أن البينات ظاهرة و الدلائل واضحة لامعة و الأسس الشرعية و الحقائق الدينية قائمة ظاهرة تراها العيون و تدركها العقول...

ثم نبّهه على فضل الإمام العادل و أنه أفضل عباد اللّٰه عند اللّٰه إمام عادل في الرعية يقسم بالسوية يعمل بكتاب اللّٰه و سنة رسوله ففي نفسه مهدي صالح و في الوقت نفسه يكون مدرسة لغيره يهديهم و يرشدهم إلى اللّٰه و هذا الإمام يقيم سنة معلومة واضحة ثابتة عن رسول اللّٰه و يميت بدعة مجهولة لم تكن زمن رسول اللّٰه بل ابتدعتها الأهواء و اختلقتها المطامع و الشهوات...

ثم أشار إلى حقيقة إسلامية و هي أن الطرق الشرعية لها أدلة واضحة ظاهرة لا غبار عليها كما أن البدع و الأمور المستحدثة التي لا أصل لها في دين اللّٰه أيضا ظاهرة لها دلالات واضحة و أدلة تدل على ابتداعها و أنها مستحدثة لم يأذن اللّٰه بها...

و بعبارة أخرى الحق واضح و الباطل واضح و لكل واحد منهما أدلته و بيناته غير الخافية...

(و إن شر الناس عند اللّٰه إمام جائر ضل و ضل به فأمات سنة مأخوذة و أحيا بدعة متروكة و أني سمعت رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر فيلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها) بعد أن ذكر فضيلة الإمام العادل عند اللّٰه قابله بأشرية الإمام الجائر عند اللّٰه و أن أشر الناس إمام جائر ظالم ضل عن الطريق و اتبع غير سبيل المؤمنين و أضل غيره بفعله و سلوكه و تصرفه فأمات سنة نبوية إلهية أخذ بها الناس و اتبعوها فجاء ليعطلها و يلغي وجودها بينما عمد إلى بدعة متروكة مهملة فأحياها و عمل بها و أمر الناس أن يعملوا بها...

ثم أراد تخويفه لعله يرجع أو يتوب فذكر له ما سمعه من رسول اللّٰه في حق الإمام الظالم و كيف يؤتى به يوم القيامة و ليس له من ينصره أو يدفع عنه نار جهنم و عذابها و لا عاذر يعذره في ظلمه أو يبرر له ما فعل و عندها يلقى في نار جهنم فيدور فيها كما تدور

ص: 72

الرحى فتطاله بنارها كلها حتى يذوق جزاء عمله ثم يشد في قعرها و لا يخرج منها أجارنا اللّٰه من عذابها... و بدون شك هناك أئمة عدل و هناك أئمة ضلالة قال تعالى: «وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا» و قال تعالى: «وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ» .

(و إنى أنشدك اللّٰه ألاّ تكون إمام هذه الأمة المقتول فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة و يلبس أمورها عليها و يبث الفتن فيها فلا يبصرون الحق من الباطل يموجون فيها موجا و يمرجون فيها مرجا) ناشده اللّٰه و أقسم عليه به أن لا يكون إمام الأمة المقتول و كأن الإمام قد أدرك بحسب الظروف و القرائن و ما يتحرك به الناس و ما يصدر منهم من أقوال أدرك أن عثمان سيقتل إن بقي على موقفه يمارس الظلم على الأمة و يعمل في عباد اللّٰه بالإثم و العدوان و لذا حذره و ناشده أن لا يكون الإمام المقتول و نقل إليه ما كان يقال من أنه سيقتل في هذه الأمة إمام و سيكون قتله مفتاحا للقتل يكثر بعده كما يفتح القتال بين المسلمين إلى يوم القيامة...

ثم أشار إلى أن هذا الإمام يدلس على بعض الضعفاء فيظنون أنه مظلوم بينما هو ظالم و تنتشر الفتن حيث يأخذونه راية يقاتلون الحق من أجله و في سبيله و لجهلهم تعمى عليهم الأمور و لا يميزون بين الحق و الباطل ثم إنهم يتحركون في الفتنة فيفسدون و يضلون و يقتلون و ينشرون الرعب و الخوف.

(فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السن و تقضي العمر فقال له عثمان رضي اللّٰه عنه: كلم الناس في أن يؤجلوني حتى أخرج إليهم من مظالمهم فقال عليه السلام: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه و ما غاب فأجله وصول أمرك إليه) و لما كان مروان بن الحكم هو وزير عثمان و مستشاره بل كان الخليفة هو مروان و لكن في ثوب عثمان نهاه الإمام أن يكون سيقة أي كالدابة التي تساق كما يريد صاحبها يوجهها في أي اتجاه أراد و مروان كان يأخذ بيد عثمان كما أراد و يغريه بالمعارضة الإسلامية و يشتد عليهم بكلامه و لسانه و سلوكه فالإمام ينهاه أن يكون سيقة بيد مروان يوجهه كيف شاء و خصوصا بعد التقدم في السن و مضي هذا العمر الطويل و عند ما سمع عثمان كلام الإمام و أدرك صدق النصيحة طلب من الإمام أن يتكلم مع المعارضة في تأجيله مدة يستطيع فيها أن يخرج من مظالمه و انحرافاته و يرد لكل ذي حق حقه و يرفع الظلم عن المظلومين فأجابه الإمام بهذا الجواب الفيصل الفصيح الصريح و هو أن من كان بالمدينة فلا تأخير و لا تأجيل بل يمضي عثمان ما أراد و ينفذ مباشرة طلبهم.

و أما البعيد عن المدينة فأجله وصول الأمر إليه و عندها ينفذ ما طلب و لا يعود له ما يبرّر التأجيل...

ص: 73

165 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يذكر فيها عجيب خلقه الطاوس

خلقة الطيور

ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان و موات (1)، و ساكن و ذي حركات، و أقام من شواهد البيّنات على لطيف (2) صنعته، و عظيم قدرته، ما انقادت (3) له العقول معترفة به، و مسلّمة له، و نعقت (4) في أسماعنا دلائله على وحدانيّته، و ما ذرأ (5) من مختلف صور الأطيار الّتي أسكنها أخاديد (6) الأرض، و خروق (7) فجاجها (8) و رواسي (9) أعلامها (10)، من ذات أجنحة مختلفة، و هيئات متباينة، مصرّفة في زمام التّسخير، و مرفرفة (11) بأجنحتها في مخارق (12) الجوّ المنفسح، و الفضاء المنفرج. كوّنها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة، و ركّبها في حقاق (13) مفاصيل محتجبة، و منع بعضها بعبالة (14) خلقه أن يسمو (15) في الهواء خفوفا (16)، و جعله يدفّ دفيفا (17).

و نسقها (18) على اختلافها في الأصابيغ (19) بلطيف قدرته، و دقيق صنعته.

فمنها مغموس (20) في قالب (21) لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، و منها مغموس في لون صبغ قد طوّق (22) بخلاف ما صبغ به...

الطاوس

و من أعجبها خلقا الطّاووس (23) الّذي أقامه في أحكم (24) تعديل (25)، و نضّد (26) ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج (27) قصبه (28)، و ذنب أطال

ص: 74

مسحبه (29). إذا درج (30) إلى الأنثى نشره من طيّه (31)، و سما به (32) مطلاّ (33) على رأسه كأنّه قلع (34) داريّ (35) عنجه (36) نوتيّه (37). يختال (38) بألوانه، و يميس (39) بزيفانه (40). يفضي (41) كإفضاء الدّيكة (42)، و يؤرّ (43) بملاقحه (44) أرّ الفحول المغتلمة (45) للضّراب (46). أحيلك (47) من ذلك على معاينة (48)، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده (49). و لو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها (50) مدامعه (51)، فتقف في ضفّتي (52) جفونه، و أنّ أنثاه تطعم (53) ذلك، ثمّ تبيض لا من لقاح (54) فحل سوى الدّمع المنبجس (55)، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب! تخال قصبه (56) مداري (57) من فضّة، و ما أنبت عليها من عجيب داراته (58) و شموسه خالص (59) العقيان (60) و فلذ (61) الزّبرجد (62). فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى (63) جني من زهرة كلّ ربيع. و إن ضاهيته (64) بالملابس فهو كموشيّ (65) الحلل (66) أو كمونق (67) عصب (68) اليمن (69). و إن شاكلته (70) بالحليّ (71) فهو كفصوص (72) ذات ألوان، قد نطّقت (73) باللّجين (74) المكلّل (75). يمشي مشي المرح (76) المختال (77)، و يتصفّح (78) ذنبه و جناحيه، فيقهقه (79) ضاحكا لجمال سرباله (80)، و أصابيغ (81) و شاحه (82)، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا (83) معولا (84) بصوت يكاد يبين (85) عن استغاثته (86)، و يشهد بصادق توجّعه (87)، لأنّ قوائمه حمش (88) كقوائم الدّيكة الخلاسيّة (89). و قد تجمت (90) من ظنبوب (91) ساقه صيصية (92) خفيّة، و له في موضع العرف قنزعة (93) خضراء موشّاة (94). و مخرج عنقه كالإبريق، و مغرزها (95) إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة (96) اليمانيّة، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال (97)، و كأنّه متلفّع (98) بمعجر (99)

ص: 75

أسحم (100)، إلاّ أنّه يخيّل (101) لكثرة مائه، و شدّة بريقه (102)، أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به و مع فتق (103) سمعه خطّ كمستدقّ (104) القلم في لون الأقحوان (105)، أبيض يقق (106)، فهو ببياضه في سواد ما هنا لك يأتلق (107).

و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط (108)، و علاه (109) بكثرة صقاله و بريقه، و بصيص (110) ديباجه (111) و رونقه (112)، فهو كالأزاهير (113) المبثوثة (114)، لم تربّها (115) أمطار ربيع، و لا شموس قيظ (116). و قد ينحسر (117) من ريشه، و يعرى (118) من لباسه، فيسقط تترى (119)، و ينبت تباعا (110) فينحتّ (121) من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثمّ يتلاحق ناميا حتّى يعود كهيئته قبل سقوطه، لا يخالف سالف (122) ألوانه، و لا يقع لون في غير مكانه! و إذا تصفّحت (123) شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة و رديّة، و تارة خصرة زبرجديّة (124)، و أحيانا صفرة عسجديّة (125) فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق (126) الفطن (127)، أو تبلغه (128) قرائح (129) العقول، أو تستنظم (130) وصفه أقوال الواصفين!.

و أقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، و الألسنة أن تصفه! فسبحان الّذي بهر (131) العقول عن وصف خلق جلاّه (132) للعيون، فأدركته محدودا مكوّنا، و مؤلّفا ملوّنا، و أعجز الألسن عن تلخيص صفته، و قعد (133) بها عن تأدية (134) نعته!.

صفات المخلوقات

و سبحان من أدمج (135) قوائم الذّرّة (136) و الهمجة (137) إلى ما فوقهما من خلق الحيتان (137) و الفيلة (139)! و وأى (140) على نفسه ألاّ يضطرب شبح ممّا أولج (141) فيه الرّوح، إلاّ و جعل الحمام (142) موعده، و الفناء غايته.

ص: 76

منها في صفة الجنة

فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت (143) نفسك عن بدائع (144) ما أخرج إلى الدّنيا من شهواتها و لذّاتها، و زخارف (145) مناظرها، و لذهلت (146) بالفكر في اصطفاق (147) أشجار غيّبت عروقها في كثبان (148) المسك (149) على سواحل أنهارها، و في تعليق كبائس (150) اللّولؤ الرّطب في عساليجها (151) و أفنانها (152)، و طلوع تلك الثّمار مختلفة في غلف (153) أكمامها (154)، تجنى (155) من غير تكلّف (156) فتأتي على منية (157) مجتنيها، و يطاف على نزّالها في أفنية (158) قصورها بالأعسال (159) المصفّقة (160)، و الخمور المروّقة (161). قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم (162) حتّى حلّوا دار القرار، و أمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قلبك أيّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة (163)، لزهقت (164) نفسك شوقا إليها، و لتحمّلت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها. جعلنا اللّٰه و أيّاكم ممّن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته.

تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب.

قال السيد الشريف رضي اللّٰه عنه: قوله عليه السّلام: «يؤرّ بملاقحه»، الأرّ: كناية عن النّكاح، يقال: أرّ الرجل المرأة يؤرّها، إذا نكحها. و قوله عليه السّلام: «كأنّه قلع داريّ عنجه نويتّه» القلع: شراع السّفينة و داريّ : منسوب إلى دارين، و هي بلدة على البحر بجلب منها الطّيب. و عنجه: أي عطفه. يقال: عنجت النّاقة - كنصرت - أعنجها» عنجا إذا عطفتها.

و النّوتي: الملاّح. و قوله عليه السّلام: «ضفّتي جفونه أراد جانبي جفونه. و الضّفّتان: الجّانبان.

و قوله عليه السّلام: «و فلذ الزّبرجد» الفلذ: جمع فلذة، و هي القطعة. و قوله عليه السّلام:

«كبائس اللّؤلؤ الرّطب» الكباسة: العذق. و العساليج: الغصون، واحدها عسلوج.

ص: 77

اللغة

1 - الموات: ما لا حياة فيه و أرض موات أي قفر.

2 - لطيف: صنعته دقتها.

3 - انقاد: أطاع و أذعن.

4 - نعق: صاح.

5 - ذرأ: خلق.

6 - الاخاديد: جمع اخدود الشق الطويل في الأرض.

7 - الخروق: جمع خرق الأرض الواسعة تنخرق فيها الرياح.

8 - الفجاج: جمع فج و هو الطريق بين جبلين.

9 - الرواسي: الثوابت.

10 - الاعلام: الجبال.

11 - مرفوفة: من رفرف الطائر إذا بسط جناحيه عند السقوط على الشيء.

12 - المخارق: جمع مخرق الفلاة.

13 - الحقاق: ككتاب جمع حق بالضم مجتمع المفصلين.

14 - العبالة: امتلاء الجسد.

15 - يسمو: يرتفع.

16 - الخفوق: سرعة الحركة.

17 - الدفيف: للطائر طيرانه فويق الأرض.

18 - نسّقها: رتّبها و نظمها.

19 - الاصابيغ: جمع أصباغ جمع صبغ بالكسر و هو اللون أو ما يصبغ به.

20 - غمس: في الشيء دخل فيه و غمس الشيء في الماء غطّه.

21 - القالب: مثال تفرغ فيه الجواهر لتأتي على قدره.

22 - طوّقه: وضع الطوق في عنقه.

23 - الطاوس: فاعول كالكابوس طائر معروف بجماله.

24 - أحكم: أتقن.

25 - التعديل: جعله مستقيما موزونا.

26 - التنضيد: التنظيم و التنسيق.

27 - أشرج: جمع و لأم.

28 - القصب: عروق الجناح.

29 - سحبه: جرّه.

ص: 78

30 - درج إليه: مشى إليه.

31 - الطي: ضد النشر.

32 - سما به: ارتفع به أي رفعه.

33 - مطلا: مشرفا.

34 - القلع: بكسر القاف شراع السفينة.

35 - الداري: المنسوب إلى دارين و هي جزيرة من سواحل البحرين و الداري جالب العطر من دارين.

36 - عنجه: عطفه و جذبه إليه.

37 - نوتيه: من النوتي و هو الملاّح.

38 - يختال: من الخيلاء و هي العجب.

39 - يميس: يتبختر.

40 - الزيفان: التبختر.

41 - يفضي: يسفد.

42 - الديكة: جمع ديك و هو ذكر الدجاج.

43 - يؤر: يسفد، يجامع.

44 - الملاقح: آلات التناسل و القح الفحل الناقة أي أحبلها.

45 - الاغتلام: شدة الشبق و الشهوة.

46 - الضراب: لقاح الفحل لأنثاه، الجماع.

47 - أحاله: إلى غيره صرفه إليه.

48 - المعاينة: الرؤية بالعين.

49 - الإسناد: ما يعتمد عليه و في الحديث سلسلة الرواة.

50 - تسفحها: ترسلها و تصبها.

51 - المدامع: موضع الدمع و مجراه.

52 - ضفتي: جفونه جانبي جفونه.

53 - تطعم: تذوقه و ترتشفه.

54 - لقاح: الفحل ماء التناسل يلقح به الأنثى.

55 - المنبجس: المنفجر، النابع.

56 - قصبه: عظام أجنحته و قيل عمود الريش.

57 - المداري: جمع مدرى بكسر الميم و هي خشبة ذات أطراف كأصابع الكف محددة الرءوس ينقى بها الطعام.

58 - الدارات: هالات القمر، استدارتها و هي الدوائر المستديرة حول ريشه.

59 - الخالص: الصافي، النقي.

ص: 79

60 - العقيان: الذهب الخالص.

61 - الفلذ: جمع فلذة و هي القطعة.

62 - الزبرجد: حجر كريم.

63 - الجنى: المجتنى، الملتقط، المجموع و المقطوف.

64 - ضاهيته: شبهته و المضاهاة المشابهة و المشاكلة.

65 - الموشى: المنقشّ و الملون.

66 - الحلل: كصرد جمع حلة بالضم و هي إزار و رداء من برد و غيره فلا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة.

67 - المونق: من الإناقة و هي الحسن.

68 - العصب: برود يمانية منقوشة.

69 - اليمن: هي بلاد ما بين الحجاز و عدن و البحر الأحمر.

70 - شاكلته: من الشكل و هو الشبه، المثل، النظير.

71 - الحلي: جمع حلى ما تتزيّن به المرأة من الذهب و الفضة.

72 - الفصوص: جمع فص الحجر الكريم و فص الخاتم حصه.

73 - نطّقت: من النطاق و هو حزام يشد على الوسط.

74 - اللجين: الفضة.

75 - المكلل: المزين بالجواهر و كلل فلانا ألبسه الإكليل و هو التاج شبه عصابة زينت بالجواهر.

76 - المرح: ككتف المعجب.

77 - المختال: المعجب.

78 - يتصفح: يستعرض و ينظر.

79 - القهقهة: اشتداد الضحك.

80 - السربال: اللباس مطلقا.

81 - الأصابيغ: الألوان.

82 - الوشاح: ضرب من اللباس يوضع على العاتق.

83 - زقا: صاح.

84 - معولا: من أعول إذا رفع صوته بالبكاء.

85 - يبين: يظهر و يتضح.

86 - الإستغاثة: الاستعانة و الغوث هو المعونة.

87 - التوجع: المرض و التألم.

88 - حمش: جمع أحمش أي دقيق.

89 - الديك الخلاسي: بكسر الخاء هو المتولد من الدجاج الهندي و الفارسي.

ص: 80

90 - نجمت: ظهرت.

91 - الظنبوب: حرف الساق.

92 - صيصيه: شوكة في مؤخر رجل الديك.

93 - القنزعة: خصلة من الشعر تترك في وسط الرأس.

94 - موشاة: منقوشة.

95 - مغرزها: مكان غرزها و نباتها.

96 - الوسمة: نبت يسمى العظلم يصبغ فيه.

97 - الصقال: الجلاء و صقل السيف إذا شحذه و صقله.

98 - المعجر: ضرب من الثياب.

100 - الأسحم: الأسود.

101 - يخيّل: إليه يتوهم أنه كذا و تخيل له أنه كذا تشبه و توّهم.

102 - البريق: اللمعان.

103 - الفتق: الشق و فتق سمعه شق أذنه.

104 - المستدق: من الدقة و هي نحافة الشيء و رقته.

105 - الأقحوان: البابونج الأبيض و جمعه أقاح.

106 - أبيض يقق: شديد البياض.

107 - يأتلق: يلمع.

108 - القسط: النصيب.

109 - علاه: زاد عليه وفاقه.

110 - البصيص: البريق و بص الشيء إذا لمع.

111 - الديباج: الثوب الذي سداه و لحمته حرير (فارسي).

112 - الرونق: الحسن.

113 - الأزاهير: جمع أزهار جمع زهر الورد.

114 - المبثوثة: المنثورة.

115 - تربيها: تربها و تجمعها.

116 - القيظ: الحر.

117 - ينحسر: ينكشف.

118 - يعرى: من عري من ثيابه إذا نزعها و خلعها.

119 - تترى: شيئا بعد شيء بينهما فترة.

120 - تباعا: متتابعة، متوالية.

121 - ينحتّ : يتساقط و انحتات الورق تناثرها.

122 - السالف: المتقدم السابق.

ص: 81

123 - تصفحت: الشيء تأملته و نظرت فيه مليا.

124 - الزبرجد: حجر كريم أخضر.

125 - العسجد: الذهب.

126 - عمائق: جمع عميقة، و عمق البحر قعره و أسفله.

127 - الفطن: جمع فطنة بالكسر الحذق و العلم بوجوه الأمور.

128 - تبلغه: تدركه و تصل إليه.

129 - القرائح: جمع قريحة الخاطر و الذهن.

130 - تستنظم: من نظم اللؤلؤ إذا ألفه و جمعه في سلك واحد.

131 - بهر: العقول قهرها و ردها، غلب عليها.

132 - جلاّه: أظهره و كشفه.

133 - قعد: تأخر، و حبس.

134 - التأدية: الإيصال يقال: أدى إليه الأمر أوصله إليه و بلّغه إياه.

135 - أدمجه: أحكمه.

136 - الذرة: النملة الصغيرة.

137 - الهمجة: واحدة الهمج ذباب صغير كالبعوض.

138 - الحيتان: مفرده حوت السمك و لكن غلّب على الكبير منه.

139 - الفيلة: جمع فيل الحيوان المعروف بضخامة الجثة.

140 - وأى: وعد.

141 - أولج: فيه الروح أدخلها فيه.

142 - الحمام: الموت.

143 - عزفت: نفسك كرهت و زهدت.

144 - البدائع: الأمور التي لا مثيل لها.

145 - الزخارف: جمع زخرف و هو الذهب و كل مموّه.

146 - ذهلت: نسيت و غبت عن رشدك.

147 - اصطفاق: الأشجار اضطرابها و ضرب بعضها ببعض من الصفق و هو الضرب يسمع له صوت.

148 - الكثبان: جمع كثيب و هو التل.

149 - المسك: طيب يقال: إنه من دم الغزال.

150 - كبائس: جمع كباسة و هو العذق التام بشماريخه و رطبه.

151 - العساليج: جمع عسلوج الغصون.

152 - الأفنان: جمع فنن بالتحريك و هو الغصن.

153 - غلف: بضمتين جمع غلاف.

ص: 82

154 - الأكمام: جمع كم بكسر الكاف و هو وعاء الطلع و غطاء النّوار.

155 - تجنى: تقطف.

156 - التكلف: تجشم الشيء و تحمله على مشقة.

157 - المنية: البغية.

158 - الأفنية: جمع فناء ما اتسع أمام البيوت.

159 - الأعسال: جمع العسل لعاب النحل.

160 - المصفقة: المصفاة.

161 - المروقة: المصفاة.

162 - تمادى في الأمر: بلغ فيه المدى أي الغاية و تمادى بنا السفر إذا طال.

163 - المونقة: المعجبة.

164 - زهقت: نفسك، مت.

الشرح

اشارة

(ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان و موات و ساكن و ذي حركات و أقام من شواهد البينات على لطيف صنعته و عظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به و مسلمة له و نعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته) في هذه الخطبة يتعرض الإمام إلى وصف الطيور بشكل عام و إلى الطاوس بشكل خاص و الغرض من ذلك بيان قدرة اللّٰه و عظمته و تدليلا على ربوبيته و مدى علمه و حكمته و بديع صنعه، ثم يختم خطبته بوصف الجنة و ما فيها ترغيبا لنا و تشويقا...

خلق الخلق ابتداء على غير مثال أو من غير شيء خلقا عجيبا بديعا و جعلهم أصنافا شتى من حيوان متحرك كالإنسان و موات كالجماد و ساكن كالأرض و الجبال و ذي حركات كالكواكب السيارة في السماء و ما في الأرض من متحركات و هذا الاختلاف و التنوع دليل الحكمة و القدرة للصانع الحكيم، و جعل سبحانه من دقيق ما صنع و دقة ما خلق و عظيم قدرته التي أوجدت هذه المخلوقات بهذه المواصفات و بهذا التناهي من الدقة جعل سبحانه كل ذلك شواهد واضحة ظاهرة جعلت العقول تذعن معترفة به موقنة بوجوده مستسلمة له و وصلت إلى آذاننا و دخلت أسماعنا ما دل على وحدانيته و تفرده سبحانه و تعالى «و في كل شيء له آية تدل على أنه واحد».

و بعبارة موجزة: من دقة الصنع و بديع الخلق يعترف الإنسان باللّٰه و أنه الواحد الأحد فهذه المخلوقات شواهد ناطقة بلسان الحال على وحدانية اللّٰه...

ص: 83

(و ما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض و خروق فجاجها و رواسي أعلامها من ذات أجنحة مختلفة و هيئات متباينة مصرّفة في زمام التسخير و مرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح و الفضاء المنفرج) و هذا من شواهد البينات على وحدانيته أنه سبحانه خلق الطيور بصور مختلفة متباينة فهذا أبيض كالحمام و هذا أسود كالغراب و هذا كبير كالنعامة و هذا صغير كالعصفور و هكذا دواليك و قد أسكن بعضها شقوق الأرض كالقطا و في الوديان و بعضها في رءوس الجبال العالية كالنسور و العقبان ثم إنه سبحانه جعلها ذات أجنحة مختلفة بعضها بلون واحد و بعضها بعدة ألوان و بعضها كبير و الآخر صغير و جعل لكل طبعه بحيث جعل منها الأليف و جعل منها الوحشي النافر...

ثم إنه عليه السلام جعلها تحت سلطة اللّٰه و ردها إلى سلطانه و حكمه فهو الذي سخرها تكوينا لوجهتها التي أرادها لها و جعلها من صنف الطيور التي تملك جوانح تستطيع بها أن تخرق الهواء دون أن تتأذى به و سبحان اللّٰه الذي جعل هذا الطير على صغره يخترق الهواء و بسرعة كبيرة دون أن يصاب و لو فعل الإنسان مثل فعله لمات فهذا دليل العظمة الإلهية و الحكمة الربانية و أنه سبحانه الذي جعل لكل كائن دوره و وظيفته في الحياة و جعل تكوينه يتلائم مع بيئته و محيطه...

(كوّنها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة و ركبها في حقاق مفاصل محتجبة و منع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في الهواء خفوفا و جعله يدف دفيفا) لقد ابتدعها ابتداء و لم تكن بل بقوله: «كن فكانت» في صور عجيبة غريبة ظاهرة للعيان و ركّبها بشكل مرن قابل للثني و الطي في مفاصل تلوى و تطوى و حجبها باللحم...

ثم إنه سبحانه منع بعضها لثقل جثته أن يطير في الهواء كما في النعامة بل جعلها تضرب جوانبها بجوانحها و تتحرك بسرعة دون أن تطير...

(و نسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته و دقيق صنعته فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، و منها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به) و هذا دليل على حكمته فإنه نسّقها و رتبها بحسب الألوان و اختلافها بدقة القدرة الإلهية و دقيق الخلق فإنك عند ما تقف عند بعض الطيور يشدك ذلك إلى الاعتراف بحكمة اللّٰه و قدرته فمنها صاحب اللون الواحد الذي ينفرد به و لا يختلط معه لون آخر كالغراب فكأنه صبّ في قالب، و أخرج منه في صورة واحدة و لون واحد، و منها ما كان مطوقا بلون يغاير اللون الآخر الذي يلونه و انظر إلى الحجل فإنه أقرب ما يكون إلى هذا الوصف أو إلى الحمامة البيضاء المطوقة فإنك لا تملك إلا أن تعترف بعظمة الخالق و حكمته...

ص: 84

(و من أعجبها خلقا الطاوس الذي أقامه في أحكم تعديل و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد بجناح أشرج قصبه و ذنب أطال مسحبه إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه و سما به مطلا على رأسه كأنه قلع داري عنجه نوتيه يختال بألوانه و يميس بزيفانه) دخل عليه السلام في وصف الطاوس و قد رسمه بأروع ريشة بيانية تحكي حقيقته، إنها صورة زيتية لأبدع ما يمكن أن ينقله البيان و يحكيه، فسبحان من أعطى هذا الرجل الريادة و الرياسة في كل فن طرقه و في كل مجال سلكه... و من أعجب هذه الطيور خلقة و تكوينا الطاوس الذي خلقه في أحسن ما تكون خلقته من حيث الكمال و عدم النقص فيه و نظّم ألوانه و رتبها أحسن ترتيب فجناحه أشرج قصبه أي ركب عروق جناحه و أصولها بعضها في بعض و جعلها متداخلة بحيث يستطيع أن يتصرف فيها كيف يشاء.

ثم وصف ذنبه و أنه طويل يسحبه ورائه و إذا أراد أنثاه للفساد و الجماع تزيّن لها بأحسن ما عنده و لم يدخر عنها الظهور بأحسن مظاهره و أن أحسن ما عنده هو هذا الذنب الطويل فإنه ينشره بعد أن يكون مطويا ثم يرفعه حتى يعتلي رأسه و يطلّ عليه.

و شبه هذا الذنب بشراع السفينة الذي يكون بيد الملاّح يديره كيف شاء، و يوجهه كيف شاء، و بأي اتجاه شاء، و هذا هو المراد بقوله: «كأنه قلع داري عنجه نوتيه» فهو يحركه في كل اتجاه و عند ما يرى ذلك يتعجب بنفسه و يتبختر في مشيه و من رأى الطاوس في مثل هذه الحالة أدرك حقيقة هذا التشبيه و صحته فإن هذه الكلمات تحكي تلك الصورة بدقة و صدق، فإنه ينشر ذنبه و يرفعه إلى أن يشرف على رأسه ثم يأخذه التيه و العجب فيتنقل بهدوء و تكبر كأعظم ملوك الدنيا...

(يفضي كإفضاء الديكة و يؤر بملاقحه أر الفحول المغتلمة للضراب أحيلك من ذلك على معاينة لا كمن يحيل على ضعيف إسناده) إذا أراد أن يسفد الطاوسة فإنه يسفدها كما يسفد الديك الدجاجة و ينال منها بمذاكيره ما تنال الفحول صاحبة الشبق و الشهوة بحيث يأتي أنثاه بشوق و رغبة و شهوة شديدة ثم أراد أن يثبت ما يقوله و يؤكد على صحته بأن ما يخبر به إنما هو عن دراية و ليس عن رواية... عن رؤية عينية لا يتطرق إليها الشك و ليس رواية معنعنة ضعيفة الإسناد من حيث أن المخبرين قد يكونون ضعفاء أو كذبة فلا يصدق الخبر...

(و لو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفتي جفونه و أن أنثاه تطعم ذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب) و هذا رد على من زعم أن الملاقحة في الطاوس إنما هي

ص: 85

بدموع عينيه تخرج الدمعة منه إلى عيونه فتقف بين الجفون فتأتي الأنثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة ثم تبيض بدون فحل يمسها سوى هذا الدمع ثم قال: لو كان هذا الزعم صحيحا و فرضنا صحته فرضا و تقديرا لما كان بأعجب من زعم و توهم أن الغراب يلقح من مطاعمه حيث يزعمون أنه لا يسفد بل من مطاعمة الذكر و الأنثى و انتقال جزء من الماء الذي في قانصته إليها من منقاره فتأكله فتلقح فإذا كان هذا يجري في الغراب كما يدعون فلا يستغرب إذن تسافد الطاوس بالطريقة التي ذكروها...

(تخال قصبه مداري من فضة و ما أنبت عليها من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كل ربيع و أن ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل أو كمونق عصب اليمن و إن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل) هذا وصف لأجنحة الطاوس و أن عظامه لبياضها الصافي تتخيل أنها كأسنان المشط المصنوع من الفضة و لو نظرت إلى ما أنبت عليها من الريش و ما زينت هذه الريش من الألوان حيث الخطوط الصفر المستديرة على رؤوسها فكأنها الذهب في الصفرة الخالصة مع ما يعلوها من البريق و ما في وسط تلك الدارات من الدوائر الخضر فكأنها قطع الزبرجد الخضراء لو نظرت إلى كل ذلك لرأيت عظيم صنع اللّٰه و جلال قدرته...

ثم أراد أن يشبهها بما وقع عليها أنظار مجتمعه و يقرب ذلك إليهم بما يمرّ عليهم أو يعهدونه فقال: إذا أردت أن تشبهه فهو مشبه بأحد أمور ثلاثة و يصح تشبيهه بالجميع.

1 - إن أردت تشبيهه بما أنبتت الأرض فلا تستطيع إلا أن تقول: إنه ملتقط من كل زهرات الربيع و أنها قد جمعت كلها في ألوانه.

2 - و إن أردت تشبيهه بالملابس فهو كموشى الحلل أي كالثياب التي نقشت بكل النقوش و زينت بكل الألوان أو هو كبرود اليمن المصبوغ المعروف بحسنه و جماله و الرغبة فيه.

3 - و إذا أردت أن تشبهه بالحلي و الجواهر فهي كأحجار كريمة ذات ألوان متعددة أحيطت كالإكليل بالفضة فأكسبتها جمالا و رونقا...

(يمشي مشي المرح المختال و يتصفح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ و شاحه فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا بصوت يكاد يبين عن استغاثته و يشهد بصادق توجعه لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية و قد نجمت من ظنبوب ساقيه صيصية خفية) هذا وصف لمشيه و قهقهته و أنه يمشي بزهو و تبختر و ينظر إلى ذنبه

ص: 86

و ألوانه و كيف ينشره كالتاج فوق رأسه و كذلك إلى جناحيه و ما فيهما من جميل الألوان فإنه عند ما ينظر إلى ذلك يضحك لجمال ثوبه و ألوانه و ما يلفه منها و لكن فرحه لا يطول فإنه إذا نظر إلى ساقيه صاح صياحا حزينا بصوت يكاد يحكي عن ألمه و توجعه أو عن موته مستغيثا بمن يخرجه من هذا القبح و ذلك لدقة ساقيه و نتوء عرقوبيه فهو كالدجاج الهجين المتولد من الدجاج الهندي و الفارسي تخرج أرجله قبيحة المنظر فعويله و بكاؤه لهذه العاهة فيه و سبحانه المتفرد بالكمال و الجمال أبقى في هذا المخلوق ثغرة ليقف على جلال عظمة اللّٰه و قدرته و لا يأخذه التيه و العجب أكثر مما أخذه...

(و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، و مخرج عنقه كالإبريق و مغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال و كأنه متلفع بمعجر أسحم إلا أنه يخيّل لكثرة مائه و شدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به) وصف للقنزعة - و هي عدة ريشات تحتل أعلى رأس الطاوس - كالعرف للديك و هي خضراء اللون ملونة بألوان جميلة تلفت النظر و تجذب الناظر إليها كأنها شجرة صنوبر مرتفعة فوق رأسه تزيده جمالا و جلالا...

أما مخرج عنقه شكلا و هيئة كمخرج عنق الإبريق.

و مغرز هذا العنق من الصدر إلى البطن و بهذه المساحة شبهها عليه السلام بالثياب اليمانية المصبوغة بالسواد أو كحريرة تلمع كالمرآة المصقولة فكأنه ملتحف بملحفة سوداء إلا أنها لكثرة نضرتها و شدة بريقها يظن أنها خضراء مزجت بالسواد.

(و مع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيض يققق فهو ببياضه في سواد ما هنا لك يأتلق و قل صبغ إلا و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بريقه و بصيص ديباجه و رونقه فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع و لا شموس قيظ) هذا وصف للخط الأبيض المحيط بسمع الطاوس إنه خظ دقيق شبهه بخط القلم الدقيق و لونه كلون الأقحوان فإذا اجتمع مع سواد هناك إلى جانبه ازداد لمعانا و بريقا و اكتسب بالتالي جمالا و بهاء...

ثم أجمل في تعداد ألوانه و أنه ليس هناك لون إلا و للطاوس منه حظ و نصيب و زاد على ذلك بكثرة بريقه و لمعانه فهو كالأزهار المنتشرة الموزعة في أيام الربيع إلا أن الأزهار تربّيها الأمطار و الشموس و هذا ينمو و يكتمل و يأخذ زينته بيد اللّٰه العزيز الحكيم الذي صنعه بهذه الحلية و هذه الألوان الجميلة...

(و قد ينحسر من ريشه و يعرى من ثيابه فيسقط تترى و ينبت تباعا فينحت من قصبه

ص: 87

انحتات أوراق الأغصان ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه لا يخالف سالف ألوانه و لا يقع لون في غير مكانه و إذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية و تارة خضرة زبرجدية و أحيانا صفرة عسجدية) و هذه حالة أخرى من حالات الطاوس التي تستوجب التوقف أمام عظمة الصانع و حكمته...

إنه يتعرى من ريشه بسقوطه عنه فهي ثيابه التي ينزعها بقدرة اللّٰه فيسقط ذلك الريش و لكن ليس دفعة واحدة بل بالتدريج كما يسقط ورق الشجر في أيام الخريف فترى سقوطها كلما اصفر منها قسم ثم ينبت كله متتابعا، يتلاحق بالنمو حتى يعود كما كان قبل السقوط و من حكمته جلت قدرته أن الجديد من الريش لا يخالف القديم في ألوانه بل كل ريشة قديمة بلونها ينبت مكانها ريشة جديدة بنفس اللون لا تخالفها و لا تختلف عنها...

ثم أشار إلى أنك لو أخذت ريشة من ريش قصبه و نظرت إليها لدلتك على عظمة الخالق الإلهي فإنك تنظر إليها فتجدها ذات ألوان متعددة و هي واحدة لم تتعدد إنها تريك تارة حمرة كحمرة الورد و أخرى خضرة كخضرة الزبرجد و أحيانا صفرة كصفرة الذهب.

(فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن أو تبلغه قرائح العقول أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين و أقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه و الألسنة أن تصفه) إقرار بالعجز و أنه لا تصل إلى صفة هذا المخلوق الصغير الفطن التي من شأنها أن تدرك دقايق الأشياء أو العقول الصحيحة السليمة التي من شأنها الوصول إلى عمق هذه الأمور كما أن النطق يعجز عن استيعاب وصف هذا المخلوق البسيط بل أقل أجزائه و هي الريشة تعجز المخيلات عن أن تدرك حقيقتها و تعجز الألسنة عن استيعاب وصفها، و إذا كلت الألسنة و عجز الواصفون عن الإحاطة بوصف أقل أجزاء هذا الطائر فهو أعجز عن وصفه كله و استيعاب حقيقته لأن من يعجز عن وصف الجزء يكون أعجز عن وصف الكل...

(فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاّه للعيون فأدركته محدودا مكونا و مؤلفا ملونا و أعجز الألسن عن تلخيص صفته و قعد بها عن تأدية نعته) تنزيه للّٰه الذي أعجز العقول عن أن تصف مخلوقا أظهره للعيون بحيث رأته محدودا في طول و عرض و مساحة و مؤلفا من لحم و دم و عظم و ملونا بهذا التلوين المتعدد المختلف فهذا المخلوق المنظور عجزت ألسن عن إدراك صفته و الإلمام بها و لم يسمح لها أن تؤدي وصفه و تستوعبها فكيف تستوعب صفات اللّٰه و تحيط بها...

(و سبحان من أدمج قوائم الذرة و الهمجة إلى ما فوقهما من خلق الحيتان و الفيلة و وأى على نفسه ألا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا و جعل الحمام موعده و الفناء

ص: 88

غايته) و هذا تنزيه للّٰه باعتبار آخر و هو أنه سبحانه أتقن صنع كل شيء و أحكمه من قوائم النملة الصغيرة الحقيرة التي قد تدوسها برجلك دون أن تحس بها و كذلك الذبابة الصغيرة التي تحط و لا يشعر بسقوطها أحد، من هذه الأشياء الصغيرة إلى حيوانات البر و البحر...

إلى الحوت الكبير في عمق البحر أو الفيل الضخم الجثة في مجاهل الغابات فإنه أتقن صنعها جميعا.

و قطع على نفسه وعدا و ألزمها عهدا أنه ليس هناك شيء دخلته الروح و تحرك في الحياة إلا و كتب عليه الموت و قضى عليه بالفناء و عدم البقاء قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ » و قال تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ » .

(فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها و لذاتها و زخارف مناظرها) هذا ختام الخطبة و هو يتعلق بالجنة و صفتها و هي أمنية كل عامل مجاهد ترغيبا بها و تشويقا لها عسى أن تحرك راغبا فيها أو طالبا لها...

فلو فكرت و تأمّلت فيما يوصف لك من الجنة و ما فيها لكرهت نفسك و زهدت فيما في الدنيا من بدائع الشهوات و اللذات و زينة المناظر و الزخارف... فإن وصف ما في الجنة يوجب الإعراض عن الدنيا و ما فيها من شهوات و لذات لأن في الجنة نعيم يفوق الأحكام و يكبر على الأمنيات.

(و لذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها و في تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها و أفنانها و طلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها تجني من غير تكلف فتأتي على منية مجتنيها و يطاف على نزالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقة و الخمور المروقة) هذه بعض ما في الجنة فإنها تذهب بالفكر و تحيّره إذ الريح تضرب هذه الأشجار التي غابت عروقها في تلال المسك بدل تلال الرمل على شواطئ أنهار الجنة تتغذى منها و كذلك يأخذك تعليق عناقيدها التي هي كاللؤلؤ الرطب في أغصانها و كذلك خروج تلك الثمار التي تكون أول تكوينها و تخرج مختلفة لتنوع أصنافها من أكمامها...

إنها ثمرات تأتي طبقا لأمنية الإنسان فبمجرد أن يتمنى ثمرة تقترب منه و تسقط عليه بدون مشقة الإتيان إليها و مشقة الالتقاط لها.

إنها صورة جميلة رائعة الجمال تبهر العيون و العقول حيث يطاف على من ينزل ساحاتها و أفنية قصورها بالعسل المصفى و الخمور المصفاة التي لا تسلب العقل أو تفقده

ص: 89

و إن أوجبت لذة الخمر و نشوتها...

(قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلّوا دار القرار و أمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقا إليها و لتحملت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها.

جعلنا اللّٰه و إياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته) هذا وصف لأهل الجنة و أنهم قوم كتب لهم التوفيق فازدادوا في الكرامة الإلهية حيث نشرها عليهم و وسعها لهم و بقوا هكذا حتى نزلوا و استقروا في الجنة التي هي دار الاستقرار و الدوام و انقطعوا بذلك عن الرحيل و الهجرة و الأسفار و ارتاحوا من و عثاء السفر و مشقات الطريق...

ثم التفت إلى من يسمع كلامه بأنه لو يفكر في هذا النعيم و بالوصول إلى ما ينتظره من تلك المناظر الحسنة الجميلة و يمعن النظر في ذلك النعيم لخرجت نفسه من بدنه و حمل من مجلسه إلى مجاورة أهل القبور فأضحى واحدا منهم يتسابق إليها و يسرع نحوها طلبا لها و للحصول عليها...

ثم في الختام دعا لنفسه و للحاضرين أن يجعلهم اللّٰه ممن يسعون بقلوبهم و أرواحهم و تبعا لذلك تكون أعمالهم إلى منازل الأبرار الذين أخلصوا للّٰه إنه أرحم الراحمين و برحمته نصل إلى ذلك...

تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب.

قال السيد الشريف رضي اللّٰه عنه: قوله عليه السلام: «يؤر بملاقحه» الآر: كناية عن النكاح يقال: أرّ الرجل المرأة يؤرها إذا نكحها.

و قوله عليه السلام: «كأنه قلع داري عنجه نوتيه» القلع: شراع السفينة و داري:

منسوب إلى دارين و هي بلدة على البحر يجلب منها الطيب و عنجه: أي عطفه يقال:

عنجت الناقة - كنصرت - أعنجها عنجا إذا عطفتها و النوتي الملاّح.

و قوله عليه السلام: «ضفتي جفونه» أراد جانبي جفونه و الضفتان: الجانبان.

و قوله عليه السلام: «و فلذ الزبرجد» الفلذ جمع فلذة و هي القطعة.

و قوله عليه السلام: «كبائس اللؤلؤ الرطب» الكباسة: العذق و العساليج: الغصون واحدها عسلوج...

ص: 90

166 - و من خطبة له عليه السلام

الحث على التآلف

ليتأسّ (1) صغيركم بكبيركم، و ليرأف (2) كبيركم بصغيركم، و لا تكونوا كجفاة (3) الجاهليّة: لا في الدّين يتفقّهون (4)، و لا عن اللّٰه يعقلون (5)، كقيض (6) بيض في أداح (7) يكون كسرها وزرا (8)، و يخرج حضانها (9) شرّا.

بنو أمية

و منها: افترقوا بعد ألفتهم (10)، و تشتّتوا (11) عن أصلهم، فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه. على أنّ اللّٰه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم لبني أميّة، كما تجتمع قزع (12) الخريف (13)! يؤلّف (14) اللّٰه بينهم، ثمّ يجمعهم ركاما كركام (15) السّحاب، ثمّ يفتح لهم أبوابا. يسيلون (16) من مستثارهم (17) كسيل الجنّتين (18)، حيث لم تسلم عليه قارة (19)، و لم تثبت (20) عليه أكمة (21)، و لم يردّ سننه (22) رصّ (23) طود (24)، و لا حداب (25) أرض.

يذعذعهم (26) اللّٰه في بطون أوديته، ثمّ يسلكهم (27) ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، و يمكّن (28) لقوم في ديار قوم. و ايم اللّٰه، ليذوبنّ ما في أيديهم بعد العلوّ و التّمكين، كما تذوب الألية (29) على النّار.

الناس آخر الزمان

أيّها النّاس، لو لم تتخاذلوا (30) عن نصر الحقّ ، و لم تهنوا (31) عن توهين (32) الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، و لم يقو من قوي عليكم.

ص: 91

لكنّكم تهتم (33) متاه بني إسرائيل. و لعمري، ليضعّفنّ لكم التّيه من بعدي أضعافا بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم، و قطعتم الأدنى، و وصلتم الأبعد.

و اعلموا أنّكم إن اتّبعتم الدّاعي لكم، سلك بكم منهاج الرّسول، و كفيتم مئونة الاعتساف (34)، و نبذتم (35) الثّقل الفادح (36) عن الأعناق.

اللغة

1 - التأسي: الاقتداء.

2 - يرأف: يرحم.

3 - الجفاة: جمع الجافي، الغليظ، صعب الخلق، غليظ العشرة.

4 - تفقه: تعّلم، و فهم و تفقه في الدين تعلم أحكامه و وعاها.

5 - يعقل: يعي و يفهم.

6 - قيض: البيض كسره، و قشرها الأعلى و تقيضت البيضة تكسّرت.

7 - الأداحي: جمع أدحية المكان الذي تبيض فيه النعامة.

8 - الوزر: الذنب.

9 - حضانها: ما تحضنه تحت جناحها من بيض.

10 - ألفتهم: اجتماعهم.

11 - تشتتوا: توزعوا و افترقوا.

12 - القزع: جمع قزعة بالتحريك القطع المتفرقة من السحاب.

13 - الخريف: فصل من فصول السنة يقع بين الصيف و الشتاء.

14 - يؤلّف: يجمع.

15 - الركام: المجتمع بعضه فوق بعض.

16 - يسيلون: يجرون كالسيل و هو الماء المتدافع.

17 - المستثار: موضع الثوران و هيجانهم.

18 - سيل الجنتين: هو الذي سماه اللّٰه سيل العرم و عاقب اللّٰه به سبأ لما بطروا.

19 - القارة: الجبل الصغير، المستقر الثابت في الأرض.

20 - تثبت: تستقر.

21 - الأكمة: محركة التل، المرتفع القليل عن الأرض.

22 - السنن: الطرق.

23 - الرص: الانضمام و التلاصق.

ص: 92

24 - الطود: الجبل العظيم.

25 - الحداب: جمع حدب بالتحريك ما ارتفع من الأرض و غلظ، النجاد.

26 - يذعذعهم: يفرقهم.

27 - يسلكهم: يدخلهم.

28 - يمكّن: لكم يملككم و يجعل لكم سلطانا.

29 - الإلية: ما ركب العجز من شحم و أكثر ما تطلق على الغنم.

30 - التخاذل: ترك الإعانة و النصرة.

31 - تهنوا: من وهن أي ضعف.

32 - توهين: الباطل إضعافه.

33 - تهتم: حرتم و ضللتم الطريق.

34 - الاعتساف: سلوك غير الطريق.

35 - نبذتم: رميتم من نبذ الشيء إذا رماه.

36 - الفادح: الثقيل و فدحه الدين أي أثقله.

الشرح

(ليتأس صغيركم بكبيركم، و ليرأف كبيركم بصغيركم و لا تكونوا كجفاة الجاهلية: لا في الدين يتفهون و لا عن اللّٰه يعقلون كقيض بيض في أداح يكون كسرها وزرا و يخرج حضانها شرا). أمر للصغار و آخر للكبار أما الأمر للصغار فهو أن يقتدوا بالكبار علما و عملا و سلوكا و فعلا للخيرات لأن الكبار مظنة الخير.

و أمر للكبار أن يعطفوا على الصغار لضعفهم و قلة حيلتهم فلا يعاملونهم معاملة الكبار و لا يحاسبونهم كما يحاسبوا الكبار بل إذا عثر الصغير في أمر أو أخطأ امتدت إليه أيدي الكبار لتأخذ بيده و تنقذه من كبوته و الأحاديث كثيرة في هذا الموضوع.

قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: ليس منا من لم يوقر كبيرنا و يرحم صغيرنا.

ثم نهاهم أن يكونوا كأهل الجاهلية في الجفاء و الغلظة و القساوة و قد نهاهم أن يشبهوهم من جهتين.

1 - جهلهم بأحكام الدين و عدم معرفتها و الاطلاع عليها.

2 - إنهم لم يفهموا ما ورد عن اللّٰه في كلامه الذي يخاطب به عباده.

ص: 93

و قد شبههم و الحال هذه - إذا لم يتفقهوا في الدين و لم يعقلوا ما ورد عن رب العالمين - شبههم ببيض الأفاعي في الأعشاش يظن الظان أنه بيض القطا فلا يحل كسره لمن رآه بينما هو يخرج أفاعي فكذلك هؤلاء إذا أشبهوا جفاة الجاهلية لا يحل لأحد أذاهم و إهانتهم لحرمة ظاهر الإسلام عليهم و إن أهملوا و تركوا على ما هم عليه من الجهل و قلة الأدب خرجوا شياطين يؤذون الحق و أصحابه...

(افترقوا بعد ألفتهم و تشتتوا عن أصلهم فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه). هذا إشارة إلى أصحابه و ما يصيبهم من التشتت و التفرق عنه و عن أمثاله من الأئمة و كيف أن بعض الناس - و هم الشيعة - يتمسكون به و من بعده بذريته يتحركون بأمرهم و يعملون بقولهم و لا يخرجون عن إرادتهم و قد افترق أصحابه فمنهم الخوارج و منهم الشيعة بأصنافهم و تعدد عقائدهم...

(على أن اللّٰه تعالى سيجمعهم لشر يوم لبني أمية كما تجتمع قزع الخريف يؤلف اللّٰه بينهم ثم يجمعهم ركاما كركام السحاب ثم يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنتين حيث لم تسلم عليه قارة و لم تثبت عليه أكمة و لم يرد سننه رص طود و لا حداب أرض) بعد أن أخبر عليه السلام ما يصيب أصحابه و المسلمين من التشتت و الافتراق زفّ البشرى بأن هذا الشتات سيلتقي و يجتمع، ستجمعهم مظالم الأمويين و مآثمهم و ما ينالهم منهم من قهر و اعتداء إنه يوم من أشر الأيام على بني أمية يجتمع المسلمون فيه و يلتقون كما تجتمع الغيوم المتفرقة الموزعة في أيام الخريف، يؤلف اللّٰه بينهم و يجمعهم و يوحد صفوفهم و يوحد كلمتهم ثم يفتح لهم أبواب الثورة التي يندفعون منها في وجه الأمويين و قد شبه ثورة المسلمين ضد الأمويين «كسيل الجنتين» حيث قصّ اللّٰه خبر ذلك بقوله:(1)

«لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنٰاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوٰاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ » .

ثم وصف السيل بأنه لم يقف أمامه شيء: استولى على الجبال و المرتفعات و لم يوقفه مرتفع أو علو أو اتصال جبال و تلاصقها إشارة إلى أن سيل المسلمين و ثورتهم لن يقف في وجهها أي قوة أموية بل ستجتث الجذور و تأتي على كل أموي دون رأفة و رحمة و قد كان الأمر كذلك فلم تستطع جيوش الأمويين أن تقف في وجه العباسيين بل طاردوهم حتى قضوا على آخر خلفائهم محمد بن مروان الملقب بالحمار...6.

ص: 94


1- سورة سبأ، آية - 15-16.

(يذعذهم اللّٰه في بطون أوديته ثم يسلكهم ينابيع في الأرض يأخذ بهم من قوم حقوق قوم و يمكّن لقوم في ديار قوم. و ايم اللّٰه ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو و التمكين كما تذوب الإلية على النار). لا يزال يصف وضع القوم الذين يطاردون الأمويين و يسلبونهم الملك بأن هؤلاء موزعون في بطون الأودية من مخافتهم من الأمويين ثم إن اللّٰه يجمعهم من بين الناس فيخرجون كما تخرج الينابيع فبعد الاختفاء ظهور، يأخذ اللّٰه بهم من قوم ظالمين حقوق قوم مظلومين و يتولى الخلافة قوم و هم العباسيون - في ديار قوم و هم الأمويين...

ثم أقسم أن ما في أيدي بني أمية سيؤخذ منهم شيئا فشيئا فبعد الملك و الرياسة سيزول ذلك و تنقضي أيامهم كما تذوب الإلية إذا وضعت على النار من حيث الإتيان عليها و عدم بقائها...

(أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق و لم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم و لم يقو من قوي عليكم لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل و لعمري ليضعفّن لكم التيه من بعد أضعافا بما خلفتم الحق وراء ظهوركم و قطعتم الأدنى و وصلتم الأبعد) ذم لأصحابه و توبيخ لهم من حيث قعودهم عن تكليفهم المفروض عليهم من حيث نصرة الحق و توهين الباطل إنهم لم ينصروا عليا و لم يخذلوا معاوية فكانت النتيجة الطبيعية أن يطمع فيهم من ليس مثلهم كمعاوية و أتباعه الذين لا يملكون حقا قانونيا و لا رصيدا شرعيا لتمردهم و كذلك لم يقو من قوي عليهم و يستفحل أمره كما جرى ذلك لمعاوية حيث أخذ يغزو أطراف البلاد الإسلامية الخاضعة لحكم الإمام و يذيق أهلها القتل و النكال.

ثم بين لهم أنهم قد تاهوا كتيه بني إسرائيل بل أضعاف ذلك التيه من حيث لحوق الذل لهم و الإهانة و المسكنة و ما مارسه الأمويون عليهم من القهر و الظلم و قد تاه بنو إسرائيل أربعين سنة و بقى حكم الأمويين الظالم ثمانين سنة.

و هذا التيه الذي أصاب أصحاب الإمام و من كان معه نتيجة أنهم قطعوا صلتهم بالإمام الذي هو أقرب الناس برسول اللّٰه و اللّٰه أمرهم أن يوصلوا رحمه حيث قال تعالى:

«قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ » بينما وصلوا الأبعد و هو معاوية الذي أمر اللّٰه بقطع العلاقة معه و منابذته...

(و اعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول و كفيتم مئونة الاعتساف و نبذتم الثقل الفادح عن الأعناق). عاد يدعوهم لما فيه نجاتهم و سعادتهم

ص: 95

فأشار عليهم أنهم إن اتبعوه عليه السلام أخذ بأيديهم إلى طريق النبوة و لا شك أن من اقتدى بعلي فقد اهتدى و من مشى على خطاه أفلح و نجح لأنه الامتداد لرسول اللّٰه و وصيه و خليفته و حافظ سره و مستودع أمانته، من أخذ بقوله و عمل فقد سلك طريق رسول اللّٰه و سبيله و استغنى عن الطرق الملتوية و السبل العوجاء و بذلك يرمي عن كاهله الأوزار الثقيلة... فيأمن بهذه المتابعة من طرق الضلال و الانحراف و يأمن في الآخرة من الآثام و العذاب...

ص: 96

167 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في أوائل خلافته إنّ اللّٰه سبحانه أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير و الشّرّ، فخذوا نهج (1) الخير تهتدوا، و اصدفوا (2) عن سمت (3) الشّرّ تقصدوا (4).

الفرائض الفرائض! أدّوها إلى اللّٰه تؤدّكم إلى الجنّة. إنّ اللّٰه حرّم حراما غير مجهول، و أحلّ حلالا غير مدخول (5)، و فضّل حرمة (6) المسلم على الحرم كلّها، و شدّ (7) بالإخلاص و التّوحيد حقوق المسلمين في معاقدها (8)، «فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده» إلاّ بالحقّ ، و لا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب.

بادروا (9) أمر العامّة و خاصّة أحدكم و هو الموت، فإنّ النّاس أمامكم، و إنّ السّاعة تحدوكم (10) من خلفكم. تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم.

اتقوا اللّٰه في عباده و بلاده، فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع (11) و البهائم (12). أطيعوا اللّٰه و لا تعصوه، و إذا رأيتم الخير فخذوا به، و إذا رأيتم الشّرّ فأعرضوا عنه.

ص: 97

اللغة

1 - نهج: الخير طريق الخير.

2 - اصدفوا: اعرضوا.

3 - السمت: الجهة.

4 - تقصدوا: تعدلوا، و القصد هو العدل.

5 - مدخول: معيب، غير مدخول غير ناقص و لا معيب.

6 - الحرمة: ما لا يحل انتهاكه.

7 - شد: ربط و أوثق.

8 - المعاقد: جمع معقد و هو العقد المبرم.

9 - بادر: عجل و اسرع.

10 - تحدوكم: تسوقكم من الحداء للإبل و هو الغناء لها لتسرع في المشي.

11 - البقاع: جمع بقعة القطعة من الأرض.

12 - البهائم: جمع بهيمة كل دابة ذات أربع قوائم من دواب البر و الماء عدا السباع و الطيور.

الشرح

(إن اللّٰه سبحانه انزل كتابا هاديا بين فيه الخير و الشر فخذوا نهج الخير تهتدوا و أصدفوا عن سمت الشر تقصدوا) خطب الإمام بهذه الخطبة في مستهل خلافته و قد افتتحها بذكر كتاب اللّٰه كي يشدهم إليه و يدفعهم للعمل به فذكر أن اللّٰه أنزل القرآن كتابا هاديا إلى الخير داعيا إلى الهدى و قد بيّن فيه الخير و الشر ليكون سلوك أي منهما حجة على الإنسان أو حجة له ثم أمرهم أن يأخذوا نهج الخير فيهتدوا و أمرهم أن يعرضوا عن طريق الشر و جهته الذي هو فيها فيخرجوا عن الانحراف و يدخلوا في الاعتدال و الاستقامة...

(الفرائض الفرائض أدّوها إلى اللّٰه تؤدكم إلى الجنة إن اللّٰه حرم حراما غير مجهول و أحل حلالا غير مدخول و فضّل حرمة المسلم على الحرم كلها و شد بالاخلاص و التوحيد حقوق المسلمين في معاقدها فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده إلا بالحق و لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب) دعاهم إلى إقامة الفرائض و حضهم عليها لأنها أقوى طرق الخير و لذا رتب عليها أمرا و هو أنها تؤدي بهم إلى الجنة...

ص: 98

ثم ترغيبا في الواجبات و تنفيرا عن المحرمات بيّن أن اللّٰه حرّم الحرام بوضوح و جلاء و ليس فيه خفاء، فمحرمات الشريعة ظاهرة واضحة لا غبار عليها كما أن ما أحله من الطيبات و أباحه للناس لا عيب فيه و لا شبهة تعتريه...

و ذكر المسلم و حرمته و أن عليه حصانة لا يجوز لأحد انتهاكها أو التعدي عليها و جعلها من أفضل الحرم التي يجب رعايتها و المحافظة عليها فطالما أن هذا المسلم لم يهتك ستره و لم يخرج مستهترا بحرمات اللّٰه التي حرمها عليه لا يجوز لأحد ملاحقته أو التجسس عليه و كشف عوراته المستوره و من هنا حرّم التجسس و إفشاء الأسرار و ملاحقة الناس إلى داخل بيوتهم.

و جعل للمسلمين حقوقا مصدرها الإخلاص للّٰه و وحدانيته فإن كل من وحد اللّٰه و أخلص له جعل له على المسلمين حقوقا متكاتفة متآلفة مترابط بعضها ببعض.

و قال المعتزلي في شرحه: لأن الإخلاص و التوحيد داعيان إلى المحافظة على حقوق المسلمين صارفان عن انتهاك محارمهم..

ثم عرّف المسلم بأخص صفاته و أهمها و هي أن المسلم الصحيح السليم المستقيم من سلم المسلمون من لسانه و يده فلا يذكر عيوب الناس و لا يتتبع عوراتهم و لا يغتابهم و لا ينم عليهم و لا يوشي بينهم و كذلك يسلم المسلمون من يده فلا يعتدي عليهم بضرب أو قتل أو ما اشبه ذلك و استثنى من ذلك ما كان بالحق كأن يكون في معرض الشهادة فيجرح الشاهد أو يشهد عليه بارتكاب جريمة أو يكون له عليه حق القصاص فيعتدي عليه بمثل ما أعتدى عليه فيرد اللطمة بلطمة مثلها ثم ذكر مصداقا لعله لكثرة تداوله بين الناس و هو إنه لا يجوز أذية المسلم إلا بالحق، و الأذية قد تكون بالكلام و قد تكون بالإهانة و قد تكون باليد فهذه لا تجوز إلا إذا كانت بحق...

(بادروا أمر العامة و خاصة أحدكم و هو الموت فإن الناس أمامكم و إن الساعة تحدوكم من خلفكم تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم) أمرهم أن يسرعوا إلى العمل للموت الذي يشمل جميع المخلوقات و يعمهم فلا يسلم منه أحد و قد خص كل فرد منا به لما لهذا الإنسان من ميزة في الموت من حيث يأتي خلفه الحساب و العقاب و الجنة و النار و يحتاج ذلك إلى مسلك صحيح و عمل سليم ثم لفت نظرهم إلى أن الناس الذين ماتوا قد سبقوهم فهم أمامهم ينتظرون الحساب و تسوقكم الساعة و هي يوم القيامة إلى الحساب و الجزاء الذي ينتظركم.

و بعد هذا أمرهم أن يخففّوا من ذنوبهم ليلتحقوا بركب الأنبياء و الصالحين فإن

ص: 99

المخفف أسرع في المشي و أقوى على ادراك صحبه و من يحب و أما المثقل الذي حمل حملا ثقيلا يكون بطيء الحركة عاجزا عن ادراك ما يحب من الصحبة و الرفاق و إنما أخر المتقدم من الموتى فلم يبعثوا الآن و أمروا بالانتظار من أجل أن يلتحق بهم المتأخر و عند ما يجتمع الجميع و يكتمل العدد يبعث اللّٰه الجميع للحساب و عندها إما إلى جنة أو إلى نار...

(اتقو اللّٰه في عباده و بلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع و البهائم، اطيعوا اللّٰه و لا تعصوه و إذا رأيتم الخير فخذوا به و إذا رأيتم الشر فاعرضوا عنه) أمرهم بتقوى اللّٰه في عباده بأن لا يؤذوا أحدا أو يعتدوا على أحد و يؤدون لكل ذي حق حقه و كذلك في بلاده فلا يفسدون في الأرض و لا يعلون و بيّن سبب ذلك بأنهم مسئولون عن البقاع و هي البلاد و لما ذا اختاروا هذه الأرض دون غيرهم مع ما فيها من الظلم و ارتكاب المحرمات ؟ و لما ذا تركوا تلك مع فيها من عدل و إقامة للحق، بل حتى البهائم يسأل عنها الإنسان فإن لها من الحقوق ما هو مرسوم من حيث أنه لا يجوز أجاعتها و لا ضرب وجهها و إذا نزل عنها أبتدأ بعلفها و إن لا يحملها ما لا تطيق و هكذا...

و في النهاية أجمل القول بالأمر بإطاعة اللّٰه فيما أمر و ترك معصيته فيما نهى و هذا عنوان عام تندرج تحته كل الواجبات و كل المحرمات و العاقل هو الذي إذا رأى الخير بادر إليه و عمل به و إذا رأى الشر أعرض عنه و لم يلتفت إليه...

ص: 100

168 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

بعد ما بويع بالخلافة، و قد قال له قوم من الصحابة:

لو عاقبت قوما ممن أجلب على (1) عثمان ؟ فقال عليه السلام:

يا إخوتاه! إنّي لست أجهل ما تعلمون، و لكن كيف لي بقوّة و القوم المجلبون على حدّ شوكتهم (2)، يملكوننا و لا نملكهم! و ها هم هؤلاء قد ثارت (3) معهم عبدانكم (4)، و التقّت (5) إليهم أعرابكم (6)، و هم خلالكم (7) يسومونكم (8) ما شاءوا، و هل ترون موضعا لقدرة على شيء تريدونه! إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، و إنّ لهؤلاء القوم مادّة (9). إنّ النّاس من هذا الأمر - إذا حرّك - على أمور: فرقة ترى ما ترون، و فرقة ترى ما لا ترون، و فرقة لا ترى هذا و لا ذاك، فاصبروا حتّى يهدأ النّاس، و تقع القلوب مواقعها، و تؤخذ الحقوق مسمحة (10)، فاهدءوا عنّي، و انظروا ما ذا يأتيكم به أمري، و لا تفعلوا فعلة تضعضع (11) قوّة، و تسقط منّة (12)، و تورث و هنا (13) و ذلّة.

و سأمسك الأمر ما استمسك. و إذا لم أجد بداّ فآخر الدّواء الكيّ (14).

اللغة

1 - أجلب عليه: أعان عليه و أجلبه أعانه.

2 - شوكتهم: قوتهم و بأسهم.

3 - ثارت: تحركت.

4 - العبدان: جمع عبد و هو الرقيق.

5 - التفت: انضمت و اختلطت.

ص: 101

6 - اعرابكم: و الأعراب تطلق على سكان البادية، كما تطلق على من لم يتفقه في الدين من العرب.

7 - خلالكم: بينكم.

8 - يسومونكم: يكلفونكم.

9 - مادة: عونا و مددا.

10 - مسمحة: سهلة، ميسرة من أسمح أي ذل و انقاد.

11 - تضعضع: تضعف و تهدّ يقال ضعضعت البناء إذا هددته.

12 - المنّة: بالضم القدرة، القوة.

13 - الوهن: الضعف.

14 - الكي: حرق الجلد بحديد و نحوه.

الشرح

(يا اخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون و لكن كيف لي بقوة و القوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا و لا نملكهم و ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم و التقت إليهم اعرابكم و هم خلالكم يسومونكم ما شاءوا و هل ترون موضعا لقدرة على شيء تريدونه) طلب بعض المسلمين من الإمام أن يقتص من قتلة عثمان فأجابهم عليه السلام.

إنه يعلم كما يعلمون من أن القصاص في القتلى حق و تلك شرعة اسلامية لم يهملها الإسلام أو يتركها بل قال تعالى: «وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ » .

و لكن لكل شيء ظروفه و أوقاته الملائمة له و ظروف القصاص غير مناسبة لأننا لا نملك القوة التي تواجه الثائرين الذين اقدموا على قتل عثمان و هم لا يزالون على قوتهم و استعدادهم فهم الذين بيدهم الأمور و ليست بأيدينا و خصوصا أنه قد انضمت إليهم عبيدكم و التفت معهم اعرابكم الذين قدموا المدينة و هم موزعون بينكم و لكل واحد عشيرة و أنصار و أصحاب فلا قدرة للمواجهة في هذه الظروف و لسنا قادرين على الاقتصاص و بعبارة موجزة: لكي يتم القصاص يجب أن تكون يد الشرع مبسوطة و تكون عنده القوة التي تنفذ الحدود و تقيمها و أما إذا كانت يده مغلولة لوجود قوة أعظم منه فتسقط إقامة الحدود عندها إلى وقت آخر يتناسب مع امكان إقامتها...

(إن هذا الأمر أمر جاهلية و إن لهؤلاء القوم مادّة. إن الناس من هذا الأمر - إذا حرك - على أمور: فرقة ترى ما ترون و فرقة ترى ما لا ترون، و فرقة لا ترى هذا و لا ذاك

ص: 102

فاصبروا حتى يهدأ الناس و تقع القلوب مواقعها و تؤخذ الحقوق مسمحة) أشار عليه السلام إلى أن الذي حدث من خروج عثمان عن العدل و خروج هؤلاء عليه و قتله فعل من أفعال الجاهلية و ليس فيه من الإسلام شيء و مضافا إلى كل ذلك حتى يبيّن للناس عدم القدرة على الثائرين قال إن لهؤلاء القوم مدد و عون من الناس في أقطارهم و بلدانهم فهم إذا تحركوا حركّوا من ورائهم ممن يمثلونهم و من أهلهم و عشائرهم.

ثم بيّن لهم موقف الناس من القصاص الآن و قسّم الناس إلى ثلاثة فرق فرقة ترى ما ترون من وجوب القصاص و الاسراع في تنفيذه و فرقة ثانية ترى ما لا ترون بل يقولون إن عثمان يجب قتله و من ثم فإن قتلته لهم أجر و ثواب لأنهم رفعوا الظلم و الفساد عن الأمة و فرقة ثالثه لا ترى رأيكم و لا الرأي الآخر المناقض له تتريث في الأمر و تتوقف فيه حتى تتضح الأمور و تستبين الحقيقة و إذا كان الأمر كذلك فاصبروا أيها الأخوة حتى تهدأ الفتنة و تعود الناس إلى رشدها و صوابها فلا تحركها العصبيات أو الغضب و عندها تؤخذ الحقوق بسهولة و يسر دون ردأت فعل مضرة أو سلبيات مؤذية...

(فاهدءوا عني و أنظروا ما ذا يأتيكم به أمري و لا تفعلوا فعلة تضعضع قوة و تسقط منّة و تورث وهنا و ذلة و سأمسك الأمر ما استمسك و إذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي) أشار عليه السلام عليهم - بعد بيانه السابق - أن يلزموا الهدوء و السكينة و ينتظروا أمره الذي يصدر منه و خوفهم العجلة لأنها قد تضر بالدين و توجب ضعفه، فإنه عليه السلام كان يخاف إن اقتص من الثائرين مع ما هم عليه من القوة التي ذكرها، خاف أن تقع فتنة أكبر و داهية أشد فيزداد الفساد و يكثر الخراب و تقع الفوضى ثم إنه عليه السلام أشار إلى الناكثين طلحة و الزبير و أم المؤمنين الذين خرجوا عليه بحجة أنه لم يقتص من قتلة عثمان و قد البّوا الناس عليه أشار إليهم: بأنه سيمنع نفسه و يمسكها عن مقاتلة الناكثين الذين اتخذوا من هذه الحجة ذريعة للخروج على حكمه و إنه سيحاول جهده في ردهم إلى الطاعة و لزوم الجماعة فإذا لم يجد بدا من الحرب و القتال فإنه الحل الأخير لحسم الأمور و ردها إلى نصابها...

ص: 103

169 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة

الامور الجامعة للمسلمين

إنّ اللّٰه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق و أمر قائم (1)، لا يهلك عنه إلاّ هالك. و إنّ المبتدعات (2) المشبّهات (3) هنّ المهلكات إلاّ ما حفظ اللّٰه منها.

و إنّ في سلطان اللّٰه عصمة (4) لأمركم، فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة (5) و لا مستكره بها. و اللّٰه لتفعلنّ أو لينقلنّ اللّٰه عنكم سلطان الإسلام، ثمّ لا ينقله إليكم أبدا حتّى يأرز (6) الأمر إلى غيركم.

التنفير من خصومه

إنّ هؤلاء قد تمالئوا (7) على سخطة (8) إمارتي، و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم: فإنّهم إن تمّموا على فيالة (9) هذا الرّأي انقطع نظام المسلمين، و إنّما طلبوا هذه الدّنيا حسدا لمن أفاءها (10) اللّٰه عليه، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها. و لكم علينا العمل بكتاب اللّٰه تعالى و سيرة رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و القيام بحقّه، و النّعش (11) لسنّته.

اللغة

1 - أمر قائم: مستقيم غير ذي عوج.

2 - المبتدعات: ما أحدث بعد رسول اللّٰه و لم يكن داخلا تحت عموم أو اطلاق مأذون فيه.

ص: 104

3 - المشبهات: الأمور التي تشبه السنن المشروعة و هي ليست منها.

4 - عصمة: منعة، و قوة.

5 - ملّومة: من لوّمه مبالغة في لامه.

6 - يأرز: ينقبض و يجتمع، يرجع.

7 - تمالئوا: اجتمعوا و تعاونوا.

8 - السخطة: الكراهة و البغض.

9 - فيالة الرأي: ضعفه.

10 - أفاءها: عليه ردها و ارجعها.

11 - النعش: الرفع.

الشرح

(إن اللّٰه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق و أمر قائم، لا يهلك عنه إلا هالك و إن المبتدعات المشبهات هن المهلكات إلا ما حفظ اللّٰه منها) في هذه الخطبة حث على الوحدة و الألفة و تنفير من خصومه أصحاب الرأي الخطير و الجشع الكبير...

ابتدأ الخطبة بذكر رسول اللّٰه و إن اللّٰه بعثه إلى الخلق ليهديهم لما فيه منافعهم في آخرتهم و دنياهم، بعثه بكتاب ناطق و هو القرآن الكريم الذي يحكي مرادات اللّٰه و أوامره إلى الناس كما أنه سبحانه أنزل شريعة مستقيمة صحيحة معتدلة لا يهلك بعدها إلا هالك أي من كانت جبلته لا تقبل الهداية و الرشاد فهو في منتهى الشقاوة و غاية التعاسة.

ثم ذكر الأمور التي ابتدعها الظالمون و هي الأمور التي لم تكن على عهد رسول اللّٰه و لم تدخل تحت عموم أو اطلاق مشروع أو منصوص فإنها لشبهها بالحق و بالمشروع من الأحكام كانت هي المهلكات لأن أصحاب الإيمان الرقيق أخذوا بها فضلوا و انحرفوا و هلكوا...

و استثنى من الهلاك من لم يأخذها ممن للّٰه فيه عناية...

(و إن في سلطان اللّٰه عصمة لأمركم فاعطوه طاعتكم غير ملومة و لا مستكره بها) أشار إلى عزهم و جماع رأيهم و إن ذلك يتحقق في سلطان اللّٰه الذي يريد به نفسه الشريفة لأنه الخليفة الشرعي الذي ينفذ أمر اللّٰه أو يريد به الإسلام فإن في الالتزام بأمر الخليفة عز و منعة و قوة فأعطوا طاعتكم للإمام أو الإسلام طاعة لا تتضمن لوما و لا ذما بل تكون طاعة مخلصة لا نفاق فيها و لا رياء و ليس فيها اكراه بل فيها تسليم و رضا بما يجري و إن

ص: 105

الرعية إذا سلمت الأمر لأولي الأمر و أطاعتهم في أوامرهم نجحت و فازت و انتصرت و حققت لنفسها العز و الكرامة، لأنها تندفع عن قناعة بالقيادة و حكمة تصرفاتها و أما إذا كانت غير ذلك فإنها تتردد في مواقفها و تعيش القلق في حياتها و لم يكن لها من الاقدام و الجرأة ما لغيرها.

(و اللّٰه لتفعلن أو لينقلن اللّٰه عنكم سلطان الإسلام، ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إلى غيركم) أقسم عليه السلام أنهم إذا لم يفعلوا ما يقوله لهم من التسليم له و الطاعة سوف يحّول اللّٰه عنهم الحكم و ينقله إلى غيرهم ثم لا يعود إليهم أبدا بل يجتمع لغيرهم و يصبح لهم و لا يقدر أحد أن يعيده إليهم...

و قد استشكل بعضهم و قال: فإن قلت: لم قال: لا يرجع إليهم أبدا و قد عاد بالدولة العباسية ؟...

و أجيب عن ذلك بعدة أجوبة لا تشفي الغليل و الذي يرتضيه السياق و الاعتبار أن الإمام هو الذي يجسّد الإسلام و يقدمه كأطروحة ناجحة صحيحة و أما غيره ممن تسموا أئمة فلنقصهم و قصورهم لن يقدموا الإسلام كرسالة تحمل الحياة للناس فلذا بعد الإمام علي لم يتول الأمر أحد من أبنائه الأئمة و لذا لا يزال الإسلام يعيش الغربة و لا تزال الناس بعيدة عن بركاته و إن عاشت في أجواء اسلامية عامة و ما سمي بسلاطين الإسلام و حكامه فهم لم يرتبطوا بالإسلام الصحيح السليم و إنما ارتبطوا بإسلام المصالح التي تخدمهم و تخدم حكمهم...

(إن هؤلاء قد تمالئوا على سخطة إمارتي و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين) أشار إلى الناكثين: طلحة و الزبير و أم المؤمنين و من تابعهم بأنهم قد اجتمعوا و اتفقت كلمتهم على كراهة إمارته و خلافته و قال إنه سيصبر عليهم و لا يبدأهم بحرب أو يستعمل معهم السيف ما لم يخف على وحدة المسلمين و جماعتهم و أنهم إن أتموا الأمر على هذا الرأي الضعيف قطعوا نظام المسلمين و فرقوا جماعتهم... إنه عليه السلام سيتركهم و شأنهم ما لم يهددوا وحدة المسلمين و لكنه يقرأ في إعلانهم الحرب عليه و خروجهم لقتاله و بهذا الرأي الضعيف، يقرأ تفكيك الوحدة بل تفتيتها و عندها لا بد من المواجهة و قد كانت في الجمل...

(و إنما طلبوا هذه الدنيا حسدا لمن أفاءها اللّٰه عليه فأرادوا رد الأمور على ادبارها و لكم علينا العمل بكتاب اللّٰه تعالى و سيرة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و القيام بحقه و النعش لسنته) بيّن

ص: 106

عليه السلام سبب خروج الناكثين و إنهم لم يخرجوا عليه لأمر شرعي ديني، فلم يخالف اللّٰه و لا رسوله و لم يترك واجبا أو يرتكب محرما، و لم يظلم أحدا أو يأكل مال أحد، إنهم لم ينقموا منه أمرا يبيح لهم الخروج و إنما كان خروجهم عليه و حربهم له طلبا للدنيا و حسدا منهم له حيث أعاد اللّٰه عليه الخلافة بعد أن سلبها منه الظالمون فأرادوا الآن أن ترجع الأمور إليهم و يخرجوها عن أهلها و يعيدوها إلى غير مستحقيها.. فكما سلبوها أولا أرادوا سلبها الآن ورد الأمور كما كانت ظلما و جورا...

و أخيرا أخبر الناس بمالهم عليه من الحق، إن لهم عليه العمل بكتاب اللّٰه كما أمر فيحلل حلاله و يحرم حرامه و يقيم فرائضه و يجري أحكامه و ينفذ حدوده.

و كذلك لكم علينا العمل بسيرة رسول اللّٰه فكل فعل أو قول أو تقرير ننفذه و نؤديه كما أحب اللّٰه و رسوله و نقوم بحق رسول اللّٰه بأحياء سنته و السير على طريقته و معنى النعش لسنته أي نجعلها متداولة بين الناس يعرفها كل مسلم و يطبقها و يقتدي بها...

ص: 107

170 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في وجوب اتباع الحق عند قيام الحجة كلّم به بعض العرب و قد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق، ثم قال له: بايع، فقال: إني رسول قوم، و لا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم. فقال عليه السلام:

أ رأيت لو أنّ الّذين وراءك بعثوك رائدا (1) تبتغي (2) لهم مساقط (3) الغيث (4) فرجعت إليهم و أخبرتهم عن الكلإ (5) و الماء، فخالفوا إلى المعاطش (6) و المجادب (7)، ما كنت صانعا؟ قال: كنت تاركهم و مخالفهم إلى الكلإ و الماء. فقال - عليه السلام -: فامدد (8) إذا يدك. فقال الرّجل:

فو اللّٰه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليّ ، فبايعته عليه السّلام.

و الرّجل يعرف بكليب الجرميّ .

اللغة

1 - الرائد: رسول القوم ينظر لهم مكان الكلأ.

2 - تبتغي: تطلب.

3 - المساقط: مكان السقوط و الهبوط.

4 - الغيث: المطر.

5 - الكلأ: العشب و قيل هو النبت إذا طال و أمكن أن يرعى.

6 - المعاطش: مواضع العطش.

7 - المجادب: مواضع المحل القحط.

8 - امدد: ابسط.

ص: 108

الشرح

(«أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم و أخبرتهم عن الكلأ و الماء فخالفوا إلى المعاطش و المجادب ما كنت صانعا؟.

قال: كنت تاركهم و مخالفهم إلى الكلإ و الماء.

فقال عليه السلام: فامدد إذا يدك.

فقال الرجل: فو اللّٰه ما استطعت أن امتنع عند قيام الحجة عليّ فبايعته عليه السلام.

و الرجل يعرف بكليب الجرمي»).

هذا الكلام منه عليه السلام يتضمن بيانا بوجوب اتباع الحق متى ظهرت معالمه و لا يجوز التسويف فيه أو التأخير إلى وقت آخر أو الرجوع إلى آخرين و لذا يقول الشريف الرضى في أسباب هذا الكلام إنه عليه السلام كلّم به بعض العرب و قد ارسله قوم من أهل البصره لما قرب عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له من أمره معهم ما علم به أنه على الحق.

ثم قال له: بايع.

فقال: إني رسول قوم و لا أحدث حدثا حتى ارجع إليهم فقال عليه السلام: لو كنت سفيرا من قبل هؤلاء القوم الذين بعثوك لتبحث لهم عن مواطن العشب و الماء و بعد تجوالك و دورانك رجعت إليهم و أخبرتهم بوجود مطلبهم في أماكن معينة و لكنهم عصوك و خالفوك و لم يقبلوا منك بل ذهبوا إلى الأماكن الجرداء القاحلة التي لا عشب فيها و لا ماء ما ذا كنت تفعل معهم ؟ أ تتركهم و تذهب حيث رأيت الكلأ و الماء أو تذهب معهم مع علمك بخطئهم ؟...

فقال الرجل الذي يطلب الحق و يقول الصدق: نعم كنت أتركهم و أذهب إلى حيث الكلأ و الماء.

فقال عليه السلام: إذا لزمتك الحجة و قد رأيت الحق فامدد يدك إليّ و بايع.

فقال الرجل و هو يقسم باللّٰه: إنه لم يستطع أن يمتنع عن طلب الإمام فبايعه بعد قيام الحجة عليه...

و هذا درس لكل من رأى الحق و عرفه أن يستجيب له و يقبل به فهذا الرجل: كليب الجرمي حجة على كل إنسان في زمانه و في زماننا و فيما يأتي من الأزمنة، حجة على كل من فتح عينه فأبصر النور فارتد بغمضهما بغضا بالنور...

ص: 109

171 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما عزم على لقاء القوم بصفين

الدعاء

اللّهمّ ربّ السّقف (1) المرفوع، و الجوّ (2) المكفوف (3)، الّذي جعلته مغيضا (4) للّيل و النّهار، و مجرى للشّمس و القمر، و مختلفا (5) للنّجوم السّيّارة، و جعلت سكّانه سبطا (6) من ملائكتك، لا يسأمون (7) من عبادتك، و ربّ هذه الأرض الّتي جعلتها قرارا (8) للأنام، و مدرجا (9) للهوامّ (10) و الأنعام (11)، و ما لا يحصى ممّا يرى و ما لا يرى، و ربّ الجبال الرّواسي (12) الّتي جعلتها للأرض أوتادا (13)، و للخلق اعتمادا (14)، إن أظهرتنا (15) على عدوّنا، فحنّنا البغي (16) و سدّدنا (17) للحقّ ، و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة، و اعصمنا (18) من الفتنة (19).

الدعوة للقتال

أين المانع للذّمار (20)، و الغائر (21) عند نزول الحقائق (22) من أهل الحفاظ (23)! العار (24) وراءكم و الجنّة أمامكم!.

اللغة

1 - السقف المرفوع: السماء.

2 - الجو: الفضاء.

3 - المكفوف: من كفه إذا جمعه و ضم بعضه إلى بعض.

ص: 110

4 - مغيضا: من غاض الماء إذا نقص و الغيضة في الأصل الأجمة يجتمع فيها الماء.

5 - مختلفا: إلى المكان تردد أي جاء المرة بعد الأخرى.

6 - السبط: بالكسر القبيلة.

7 - لا يسأمون: لا يملّون.

8 - القرار: الاستقرار و السكون.

9 - مدرجا: موضع درجهم أي سيرهم و حركتهم.

10 - الهوام: الحشرات و الأفاعي.

11 - الانعام: الإبل و تطلق على البقر و الغنم.

12 - الرواسي: الجبال الثوابت الرواسخ.

13 - الأوتاد: جمع و تد مارزّ في الحائط أو الأرض من خشب و نحوه و أوتاد الأرض الجبال و أوتاد البلاد رؤساؤها.

14 - اعتمادا: معتمدا أو ملجأ يعتصم به.

15 - اظهرتنا عليهم: جعلتنا نغلبهم أظهره اللّٰه على عدوه جعله يغلبه.

16 - البغي: الظلم.

17 - سددنا: اجعلنا على صواب من السداد و هو الصواب و الاستقامة.

18 - اعصمنا: امنعنا واكفنا.

19 - الفتنة: الابتلاء و الاختبار و ما يذهب بالمال أو العقل و فتن في دينه ضل و كفر.

20 - الذمار: ما يحامي عنه من الأهل و المال و الولد.

21 - الغائر: من غار على نسائه إذا كان له نخوة عليهم بحيث يحفظهن مما لا يليق بالشرف.

22 - الحقائق: الأمور الشديدة الصعبة.

23 - الحفاظ: الوفاء و رعاية الذمم.

24 - العار: العيب، كل ما يعير به الإنسان من قول أو فعل و يكون في الأمور الدنيئة.

الشرح

(اللهم رب السقف المرفوع و الجو المكفوف الذي جعلته مغيضا لليل و النهار و مجرى للشمس و القمر و مختلفا للنجوم السيارة و جعلت سكانه سبطا من ملائكتك لا

ص: 111

يسأمون من عبادتك و رب هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام و مدرجا للهوام و الأنعام و ما لا يحصى مما يرى و مما لا يرى و رب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا و للخلق اعتمادا) هذا الكلام منه عليه السلام يتضمن الدعاء إلى اللّٰه و الانقطاع إليه و ما أروع تلك الكلمات العلوية التي ينساب منها الخضوع للّٰه و الرجوع إليه و التي تحتوي كل انقياد و عبودية له و هذا الدعاء عينه يتوجه به إلى اللّٰه... يتوجه إليه بما خلق فيدعوه بقدرته على تلك الأمور و هي قدرة لا يحدّها شيء.. يدعوه ليعلمنا أنه سبحانه هو الملجأ في الضراء كما هو ملجأ في السراء و في النعمة كما هو في البلاء...

ابتدأ بذكر السماء و قدرته العظمى التي خلقها بها اللهم يا رب السقف المرفوع و هي السماء و الجو المكفوف اعادة للمعنى الأول أو أنه الفضاء الذي يقع فيه العالم المنظور من أرض و قمر و كواكب و كونه مكفوفا أي مضموم الجوانب فلا تتساقط كواكبه و ما فيه لقدرة اللّٰه التي جعلها في نظامه العام من جاذبية تمسك ذلك و تمنعه من السقوط...

و قد جعلته يا رب مغيضا لليل و النهار أي منقصا لكل منهما عند تزايد في الآخر فحين يزيد النهار يقصر الليل و عند ما يزيد الليل يقصر النهار لأن حصول الليل و النهار إنما يكون بحركة الأرض فما قابل الشمس منها يكون نهارا و ما غاب عنها سمي ليلا.

و كذلك جعل اللّٰه هذا الفضاء الجو المكفوف محلا لجريان الشمس و القمر و محلا لتردد النجوم السيارة المتحركة من مكان إلى آخر...

ثم ذكر عظمة اللّٰه و قدرته و أنه سبحانه خلق في ذلك الفضاء جماعة من الملائكة الذين لا يملون من عبادته بشتى أصنافها و مختلف اشكالها و قد وصفهم الإمام في بعض خطبه بأوصاف عظيمة إن كان من جهة اشكالهم أم من جهة أعمالهم...

و كذلك توّجه إلى اللّٰه بربوبيته التي خلق بها الأرض و جعلها مستقرا و مقاما للناس و محلا يتحرك فيه الحشرات بأنواعها و الأنعام من بقر و غنم و ما لا يحصى من خلقك الصامت و الناطق و ما يرى بالعيون و يقع تحت النظر و ما لا تطاله العيون لصغره و لطافته... دعاه لكل هذه الأمور و أيضا دعاه لكونه رب الجبال الثابته المستقرة التي جعلها أوتادا للأرض يثبتها فلا تميد و لا تحيد و كذلك جعلها معتمدا للخلق من حيث المعادن فيها و المنافع من ماء و محل للسكن و غير ذلك...

(إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي و سددنا للحق و إن اظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة و اعصمنا من الفتنة) بعد أن توجه إلى اللّٰه بكل ما مضى و سأله بما خلق و بقدرته

ص: 112

على كل ذلك رتب على ذلك الأمر أمرا آخر و هو أنه إن نصره على عدوه معاوية و من معه أن يجنبه الظلم و العدوان و يجعله في طريق الحق و الصواب فلا ينتقم لشخصه كما يفعل المحاربون و أبناء الدنيا و هذا دعاء من نظر إلى اللّٰه في كل أموره و جعله هدفه الذي يتحرك نحوه...

كما أنه سأل اللّٰه إن نصر عدوه عليه أن يرزقه الشهادة و الموت في سبيل اللّٰه فإنها إحدى الحسنيين و أن يمنعه من الفتنة من الردة أو المعصية للّٰه باعتقاد ما ليس بحق كأن يسخط على فعل اللّٰه و يتعتب للهزيمة التي حلت به...

(أين المانع للذمار و الغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ، العار وراءكم و الجنة أمامكم) هذا حث لأصحابه و تحريض لهم على القتال، يريد أن يبعث فيهم النخوة فاستفهم ليدفعهم.. أين ذلك الرجل الذي يمنع ما عزّ عليه و ما يحق له أن يدافع عنه ؟..

أين صاحب الغيرة و المحافظة و الحمية الذي لا يرضى أن يضام و يصمد أمام الشدائد و الصعوبات...

ثم أشار إليهم أن العار في الفرار و أن الجنة في الجهاد هناك في ساحات القتال و أي مسلم يرتضي أن يكون سمة عار و مذلة لأبنائه و أحفاده و من يأتي بعده...

ص: 113

172 - و من خطبة له عليه السلام

حمد اللّٰه

الحمد للّٰه الّذي لا تواري (1) عنه سماء سماء، و لا أرض أرضا.

يوم الشورى

منها: و قد قال قائل: إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص (2)، فقلت: بل أنتم و اللّٰه لأحرص و أبعد، و أنا أخصّ و أقرب، و إنّما طلبت حقّا لي و أنتم تحولون (3) بيني و بينه، و تضربون وجهي دونه. فلمّا قرّعته (4) بالحجّة (5) في الملإ (6) الحاضرين هبّ (7) كأنّه بهت (8) لا يدري ما يجيبني به!.

الاستنصار على قريش

اللّهمّ إنّي أستعديك (9) على قريش و من أعانهم! فإنّهم قطعوا رحمي، و صغّروا عظيم منزلتي، و أجمعوا (10) على منازعتي (11) أمرا هو لي. ثمّ قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، و في الحقّ أن تتركه.

و منها في ذكر أصحاب الجمل

فخرجوا يجرّون (12) حرمة (13) رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كما تجرّ الأمة (14) عند شرائها، متوجّهين بها إلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، و أبرزا حبيس (15) رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - لهما و لغيرهما، في جيش ما منهم رجل إلاّ و قد أعطاني الطّاعة، و سمح لي بالبيعة، طائعا غير

ص: 114

مكره، فقدموا على عاملي بها و خزّان (16) بيت مال المسلمين و غيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبرا (17)، و طائفة غدرا. فو اللّٰه لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا معتمدين (18) لقتله، بلا جرم جرّه، لحلّ (19) لي قتل ذلك الجيش كلّه، إذ حضروه فلم ينكروا، و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة الّتي دخلوا بها عليهم!.

اللغة

1 - لا توارى: لا تحجب.

2 - الحريص: من حرص على الشيء إذا اشتد شرهه إليه و عظم تمسكه به.

3 - حال: بينه و بين الشيء، حجزه عنه و اعترضه.

4 - قرعته: بالحق رميته به.

5 - الحجة: البرهان.

6 - الملأ: اشراف الناس و وجوههم و أهل الرأي فيهم.

7 - هبّ : من النوم إذا استيقظ و تنبه منه وهبت الريح إذا ثارت و هاجت.

8 - بهت: دهش، سكت متحيرا.

9 - استعديك: استعين بك و استنصرك.

10 - اجمعوا: اتفقوا.

11 - المنازعة: الخصومة.

12 - يجرّون: يسحبون و جرّه جذبه.

13 - حرمة: الرجل زوجته.

14 - الأمة: العبدة.

15 - حبيس: رسول اللّٰه أي زوجته و سميت بذلك لأنها حبست عن الزواج بغير النبي.

16 - خزّان: جمع خازن.

17 - القتل صبرا: القتل بعد الأسر، و قيل أن تحبس الشخص ثم ترميه حتى يموت.

18 - معتمدين: لقتله، قاصدين لذلك.

19 - لحلّ : لجاز و الحلال ما يجوز فعله.

20 - العدّة: بالكسر العدد و الجماعة و بالضم الاستعداد.

ص: 115

الشرح

(الحمد للّٰه الذي لا تواري عنه سماء سماء و لا أرض أرضا) حمد اللّٰه باعتبار علمه بكل الأمور و إنه لا يخفى عليه شيء و لا يحجب عنه شيء فلا سماء قريبة منه تمنعه عن رؤية البعيدة و لا أرض قريبة تمنع البعيدة فإن البشر لقصورهم و حدود رؤيتهم ما كان قريبا منهم يمنع البعيد بينما اللّٰه يتساوى عنده البعيد و القريب و لا يحجب شيء عنه شيئا...

(و قد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص فقلت: بل أنتم و اللّٰه لأحرص و أبعد و أنا أخص و أقرب و إنما طلبت حقا لي و أنتم تحولون بيني و بينه و تضربون وجهي دونه فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبّ كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به) هذا حكاية عن بعض ما جرى معه يوم السقيفة فقد رأى أبو عبيدة بن الجراح تمسك الإمام بحقه في الخلافة و مطالبته بها فقال: إنك على أمر الخلافة و الطلب بها لحريص يا ابن أبي طالب فقد رماه بالحرص عليها و شدة طلبه بها و الإمام لم ينكر ذلك الطلب بها و الحرص عليها و لكن قال لهم: أنتم أحرص عليها مني مع بعدكم عن النبي و عن المواصفات اللازمة لهذا الأمر بينما أنا أخص برسول اللّٰه و أقرب منكم نسبا و صفاتا...

ثم أشار إلى وجه الحرص عليها و الطلب بها بأنها حق له و صاحب الحق لا يلام على طلب حقه و الحرص عليه و بذل ما في وسعه من أجل تحصيله و الوصول إليه...

و بين أن هذا الحق يقفون دونه و يمنعونه من الوصول إليه و هذه شكاية من سوء تصرف القوم و بيان لكيفية منع الحق عن أهله و قد بين الإمام هذه الحجة لأبي عبيدة بن الجراح أمام الناس فانتبه إلى خطئه و تحيّر في الجواب فلم يدر بماذا يجيب و هكذا صاحب الحق سلطان و حجته نافذة و رأيه صائب لا يصاب بهزيمة و لا يبتلى بنكسة...

(اللهم إني استعديك على قريش و من أعانهم فإنهم قطعوا رحمي و صغروا عظيم منزلتي و أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تتركه) عند الأزمات و في مواجهة الصدمات يتوجه الإنسان إلى اللّٰه يستنصره و يستنجد به و يطلب منه المدد. في الأوقات الصعبة التي لم يقدر الإنسان فيها على ادراك ما يريد و لا يقدر على شفاء قلبه ممن أخذ حقه... في تلك الظروف يتوجه الإنسان إلى اللّٰه..

و الإمام يقف أمام قريش و أنصارها فيشكو فعلها إلى اللّٰه... يرفع ظلامته إليه و يطلب منه أن ينصره عليها «اللهم إني استعديك على قريش و من أعانهم» شكاية مرة في أمر عظيم يطلب الإمام من اللّٰه أن ينصره على قريش و أعوانها.

ص: 116

ثم يبين سبب ذلك في ضمن أمور:

1 - فإنهم قطعوا رحمي: حيث قطعوا الصلة بيني و بين رسول اللّٰه و لم يحفظوا هذه القرابة أو يرعوها و تعاملوا معي كغريب عنه أو كواحد من عرض الناس البعيدين عنه.

2 - صغروا عظيم منزلتي: أنزلوني منزلة غيري ممن ليس له قدم سابقة في الإسلام و لا جهاد و لا نضال... و تركوا أقوال رسول اللّٰه التي ترفع منزلتي كما في قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» و قوله: «أنا مدينة العلم و علي بابها...» أو قوله: «اقضاكم علي..» أو قوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه..» إلى غيرها من الأحاديث التي تشيد به و بمنزلته فقد انزلوه عنها و سووا به غيره من عامة الناس...

3 - أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي: و هذا عيب من عيوب قريش إنها اجتمعت كلمتها و اتفق رأيها على انتزاع الخلافة من صاحبها و أخذها منه بالقهر و الغلبة و من يدرس السقيفة بشيء من الحياد و الموضوعية يدرك كيف تم رأي قريش و اتفقت على منازعة الإمام و سلبه هذا الحق دون مبرر مشروع أو حجة مقبولة.

4 - ثم قالوا: ألا أن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تتركه: و هذا أصعب على النفس من غيره فلو أخذوا حقي و سكتوا لهانت القضية و كان لها ما يعزيها و يسليها و لكن قالوا ليس لك الحق في الخلافة و يجب أن تترك المنازعة فيها و تسلمها لغيرك و هذه هي المصيبة و فيها يكمن الخطر.. فهم يبررون سلب الحق و يشرّعون لأنفسهم حق الأخذ و الترك...

(فخرجوا يجرون حرمة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - كما تجر الأمة عنه شرائها متوجهين بها إلى البصرة فحبسا نساءهما في بيوتهما و أبرزا حبيس رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم لهما و لغيرهما في جيش ما منهم رجل إلا و قد أعطاني الطاعة و سمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عاملي بها و خزان بيت مال المسلمين و غيرهم من أهلها فقتلوا طائفة صبرا و طائفة غدرا) و هذه حكاية طلحة و الزبير و كيفية خروجهما بزوجة رسول اللّٰه عائشة إلى البصرة... و من أمعن النظر فيما قاله الإمام هنا و دقق البحث رأى عجبا... زوجة رسول اللّٰه يخرجها الرجال و ينتقلون بها من بلد إلى بلد يستثيرون الناس و يدفعونهم للخروج معهم لقتال الخليفة الشرعي... من مكة إلى البصرة مسافة كبيرة.. فيها معصية للّٰه و رسوله و ليس فيها لأحد رضا.. قال اللّٰه تعالى: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ » فهتكت ستر رسول اللّٰه و خرجت تقطع البراري و القفار في جيش خليط هجين لا يعرف اللّٰه و لا يعرف حق رسوله

ص: 117

تريد أن تحارب عليا وصي رسول اللّٰه و صهره على ابنته و أحب الخلق إليه...

أخرجها طلحة و الزبير كي يندفع الناس وراءها حمية و غيرة و قد كان ما كان حتى قال لها بعضهم و اللّٰه إن قتل عثمان أهون علينا من خروجك من بيتك...

بيّن الإمام كيف أخرجها طلحة و الزبير و كيف يجرّانها كما تجر الأمة استخفافا بها و بحقها و تضييعا لحرمتها، و لو انصفاها لأخرج كل منهما زوجته معها تواسيها و تتحمل معها أعباء المسير و مشقة السفر و الجهاد و لكنهما صانا حلائلهما و أبرزا حليلة رسول اللّٰه و لعمري تلك قسمة ضيزى...

ثم بين أن كل من في جيش الناكثين قد أعطى عليا الولاء و بايعه بيعة شرعية طائعا غير مكره و بعد هذا خرجوا جميعهم حتى قدموا البصرة فقتلوا بعض المسلمين صبرا، حيث حبسوهم ثم ضربوا أعناقهم و قتلوا بعضا آخر غدرا و غيلة فلم يرعوا حرمة المسلم و لم يحفظوا دماء الأمة و لم يتورعوا عن سفك الدم الحرام و قد كانت أم المؤمنين تصدر الأوامر بالقتل قال ابن أبي الحديد:

«فلما استوثق لطلحة و الزبير أمرهما. - في البصرة - خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح و مطر و معهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع و ظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر و قد سبقهم عثمان بن حنيف إليه - و هو عامل علي على البصرة - و اقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة و الزبير و قدموا الزبير، فجاءت السبابجة و هم الشرط حرس بيت المال فأخرجوا الزبير(1) و قدموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير و أخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع و صاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون أصحاب محمد و قد طلعت الشمس! فغلب الزبير فصلّى بالناس فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلمين: أن خذوا عثمان بن حنيف فأخذوه بعد أن تضارب هو و مروان بن الحكم بسيفهما فلما اسر ضرب ضرب الموت و نتف حاجباه و أشفار عينيه و كل شعره في رأسه و وجهه و أخذوا السبابجة و هم سبعون رجلا فانطلقوا بهم و بعثمان بن حنيف إلى عائشة فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب عنقه فإن الأنصار قد قتلت أباك و أعانت على قتله فنادى عثمان: يا عائشة و يا طلحة و يا زبير: إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة و أقسم باللّٰه إن قتلتوني ليضعن السيف في بني أبيكم و أهليكم0.

ص: 118


1- ابن أبي الحديد ج 9 ص 320.

و رهطكم فلا يبقي أحدا منكم فكفوا عنه و خافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم و أهلهم في المدينة فتركوه.

و أرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك.

قال: فذبحهم و اللّٰه الزبير كما يذبح الغنم ولي ذلك منهم عبد اللّٰه ابنه و هم سبعون رجلا و بقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال: قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين، فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم و أخذ منهم خمسين اسيرا فقتلهم صبرا...

هكذا وردت الرواية و قد كان كل ذلك بعد أن قدم الناكثون البصرة و كتبوا بينهم و بين عثمان بن حنيف عامل الإمام أن لا يدخلوا في حرب حتى يأتي الإمام أو يأتي أمره منه و هكذا فعلوا غدرا و غيلة بابن حنيف و بالمسلمين و هذا ما أشار إليه الإمام في حديثه هنا من أنهم قتلوا طائفة من أنصاره صبرا و طائفة غدرا...

(فو اللّٰه لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جره لحل لي قتل ذلك الجيش كله إذ حضروه فلم ينكروا و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد. دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم) يقسم الإمام أن الناكثين لو لم يكن لهم جريمة إلا قتلهم أحد المسلمين متعمدين لقتله ظلما و عدوانا لحل له قتل ذلك الجيش بأجمعه و قد علل ذلك بأنهم قد رأوا المنكر و هو القتل أمامهم ثم لم يردعوا فاعله أو يردوه عن فعله مع قدرتهم على ذلك إما بألسنتهم أو بأيديهم فكيف و قد قتلوا عددا يوازي عدد الناكثين، قتلوهم ظلما و عدوانا...

و قد قالوا في بيان وجه الجواز لقتل الجيش كله بالقتيل الواحد.

1 - أنه يجوز قتلهم لاعتقادهم جواز ما حرمه اللّٰه فجرى ذلك مجرى اعتقادهم لإباحة الزنا و شرب الخمر أي انكروا ما علم من الدين ضرورة و هو كفر.

2 - و قالوا: لأنهم يدخلون تحت عنوان المحاربين للّٰه و رسوله و في عموم قوله تعالى: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا» .

3 - أنه يجوز ذلك لأن تارك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا علم من أمره أنه لا يفيده الوعظ و الارشاد و الضرب و غيره من الوسائل لحمله على أن يقوم بهذا الواجب يقتل عندها.

ص: 119

و لكن يبدو في النظر أن الخروج على الإمام الشرعي مع ارتكاب القتل يباح للإمام قتل ذلك الجيش الخارج كما هو الحال مع الناكثين، و يمكن أن يدخل ذلك في عموم قوله: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ » ... «أَنْ يُقَتَّلُوا» و إن كان الأول أرجح..

و يمكن أن يقال أن الإمام استعمل سلطته التأديبية التي تؤدب غيرهم و تكفهم عن الخروج على الخليفة و خصوصا إذا كان يرى معاوية يتربص الفرص و يتحينها للانقضاض على الخليفة و طعنه بالعصيان و التمرد و تقسيمه أوصال الدولة و توزيع اشلائها و زرع الفتن فيها و إن كان هذا لا ينسجم مع العلة التي ذكرها الإمام...

ص: 120

173 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في رسول اللّٰه، صلّى اللّٰه عليه و سلم، و من هو جدير بأن يكون للخلافة و في هوان الدنيا

رسول اللّٰه

أمين وحيه، و خاتم (1) رسله، و بشير رحمته، و نذير نقمته (2).

الجدير بالخلافة

أيّها النّاس، إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر أقواهم عليه، و أعلمهم بأمر اللّٰه فيه. فإن شغب (3) شاغب استعتب (4)، فإن أبى (5) قوتل. و لعمري، لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى يحضرها عامّة النّاس، فما إلى ذلك سبيل (6)، و لكن أهلها يحكمون (7) على من غاب عنها، ثمّ ليس للشّاهد (8) أن يرجع، و لا للغائب أن يختار. ألا و إنّي أقاتل رجلين: رجلا ادّعى ما ليس له، و آخر منع الّذي عليه.

أوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه فإنّها خير ما تواصى (9) العباد به، و خير عواقب (10) الأمور عند اللّٰه. و قد فتح باب الحرب بينكم و بين أهل القبلة (11)، و لا يحمل هذا العلم (12) إلاّ أهل البصر و الصّبر و العلم بمواضع الحقّ ، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه، و لا تعجلوا في أمر حتّى تتبيّنوا (13)، فإنّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه غيرا (14).

ص: 121

هوان الدنيا

ألا و إنّ هذه الدّنيا الّتي أصبحتم تتمنّونها و ترغبون فيها، و أصبحت تغضبكم و ترضيكم، ليست بداركم، و لا منزلكم الّذي خلقتم له و لا الّذي دعيتم إليه. ألا و إنّها ليست بباقية لكم و لا تبقون عليها، و هي و إن غرّتكم (15) منها فقد حذّرتكم شرّها. فدعوا غرورها لتحذيرها، و أطماعها لتخويفها، و سابقوا فيها إلى الدّار الّتي دعيتم إليها، و انصرفوا (16) بقلوبكم عنها، و لا يخنّنّ أحدكم خنين (17) الأمّة على ما زوي (18) عنه منها، و استتمّوا نعمة اللّٰه عليكم بالصّبر على طاعة اللّٰه و المحافظة على ما استحفظكم من كتابه... ألا و إنّه لا يضرّكم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم.

ألا و إنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم. أخذ اللّٰه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ ، و ألهمنا و إيّاكم الصّبر!.

اللغة

1 - خاتم: بكسر التاء اسم فاعل بمعنى الآخر و بالفتح الزينة مأخوذ من الخاتم الذي هو زينة.

2 - النقمة: العقوبة.

3 - الشغب: كثرة الجلبة و اللغط المؤدي إلى الشر.

4 - استعتب: طلب منه الرضى بالحق.

5 - أبى: رفض و امتنع.

6 - سبيل: طريق.

7 - يحكمون: يقضون و ينفذون.

8 - الشاهد: الحاضر.

9 - تواصى: العباد به أوصى بعضهم بعضا.

10 - العواقب: أواخر الشيء، الجزاء بالخير.

11 - القبلة: الجهة و قبلة المصلي للجهة التي يصلي نحوها و أهل القبلة هم المسلمون.

ص: 122

12 - العلم: الراية.

13 - تتبينوا: تتوضح لكم الأمور و تظهر.

14 - غيرا: بكسر ففتح اسم للتغيير أو التغيّر.

15 - غره: خدعه و أطمعه بالباطل.

16 - انصرفوا: تحولوا.

17 - الخنين: ضرب من البكاء مع خنة، أو البكاء من الأنف.

18 - زوي: قبض.

الشرح

(أمين وحيه و خاتم رسله و بشير رحمته و نذير نقمته) ابتدأ عليه السلام بذكر ممادح الرسول فذكر أنه أمين على ما أوحى اللّٰه فأدى هذه الأمانة كما هي و بلغها إلى الناس كما يجب و هو أيضا آخر رسل اللّٰه فلا نبي بعد محمد و من أدعى ذلك فهو كاذب و مرتد، و يجب قتله قال تعالى: «مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ » .

بشر بالرحمة و أنذر بالعقاب فلمن أطاع الجنة و لمن عصى النار و الإنسان له حرية الاختيار قال تعالى: «إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً» .

(أيها الناس: إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّٰه فيه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبى أبى قوتل) كلام الإمام جواب لسؤال مفاده من هو أحق بالخلافة من غيره ؟.

فأجابه الإمام: يشترط فيمن يتولى الخلافة و يكون أولى من جميع الناس أن يكون:

1 - أقوى الناس في تدبير شئونهم و ترتيب أمورهم و القيام بمصالحهم و دفع المفاسد عنهم و المحافظة على دينهم و دنياهم و بعبارة موجزة أن يكون رجل السياسة القادر على نظم الأمر و حملهم على ما ينفعهم.

2 - أعلم الأمة بأمر اللّٰه و هذا يستدعي أن يكون أعلمها في كل الأمور و أشدهم استيعابا ليكون قدوة يرشد الضال و يهدي التائه و يرد الحيران و يأخذ بيد المتردد و يرشد الناس نحو الوجه الصحيح...

أن يكون أعلم الأمة بالحلال و الحرام و في صلاح المجتمع و سعادة الناس و قد

ص: 123

اتفقت الأحاديث على أن الإمام هو أعلم الأمة فقد قال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «أنا مدينة العلم و علي بابها..» و قال صلوات اللّٰه عليه و آله: «علي اقضاكم..» و قال صلوت اللّٰه عليه «علي مع الحق و الحق مع علي اللهم أدر الحق معه حيث دار...».

ثم أشار عليه السلام إنه إذا انعقدت البيعة لمثل هذا الرجل الذي اجتمعت فيه هذه الصفات لا يجوز لأحد أن يخرج عليه و ينزع يده من الجماعة و يسىء إلى وحدة الصف... لا يجوز له أن يعكر صفو الأمن و يحدث الفوضى و الاضطراب فإن حدث من ذلك شيء يراجع بالحسنى لعله يفيء إلى الحق فإن رفض الرجوع إلى الجماعة و لم يقبل أن يعود إلى الصف قوتل بشتى السبل حتى يعود فإن الإمام من أهم أدواره أن يكون بالمرصاد لكل من أراد أن يقسم البلاد و العباد و يخلق التعددية في الأوطان و الجغرافيا و قد كانت بلاد الإسلام كلها بلدة واحدة يتنقل فيها المسلم بدون جوازات سفر و لا تأثيرات دخول و ليس هناك أرض يمنع على المسلم دخولها و لا بلاد يمنع السكن فيها و ما يحدث الآن و يجري في بلاد المسلمين من تقسيم جغرافي و حدود مصطنعة و منع من الدخول خلاف الرأي الإسلامي الذي يوحد الناس كما يوحد الأرض.. يوحد الناس عقيدة و فكرا و سلوكا و يوحدهم أرضا و وطنا...

(و لعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل و لكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع و لا للغائب أن يختار ألا و أني أقاتل رجلين: رجلا ادعى ما ليس له و آخر منع الذي عليه) هذا رد من الإمام على معاوية و جماعته من أهل الشام الذين قالوا: إن عليا قد بايعه الناس و لم نكن فليس له بيعة في أعناقنا فبين عليه السلام - حسب مدرستهم - أن الإجماع على شخص للخلافة لا يعتبر فيه دخول جميع الناس حتى العوام و من لا يفقهون من الأمور شيئا فإن ذلك متعذر و ليس له من سبيل لتوزع المسلمين في أطراف الأرض و إنما المعتبر اتفاق أهل الحل و العقد فإذا اتفقوا على شخص تعيّن و كان هو ولي أمر المسلمين و يكون اجماعهم هذا نافذ المفعول في حقهم و في حق جميع الناس حتى من غاب عن الحضور و الاجتماع و عندها ليس لمن حضر منهم أن يرجع عما اتفقوا عليه و يبطل الاجتماع بالفرقة كما أنه ليس للغائب البعيد في أطراف الأرض أن يختار غير هذا المجمع عليه و المتفق على امامته.

فاجماع أهل الحل و العقد يكون حاكما عليهم و على غيرهم و ليس لأحد أبطاله أو الاختيار لغيره بعد وقوعه.. و على هذا ليس لطلحة و الزبير و من تابعهما أن يرجعا عن بيعة الإمام بعد أن اعطياها له كما أنه ليس لمعاوية أن يردها لأنها انعقدت باتفاق و اجماع

ص: 124

من ينفذ حكمه عليه و على غيره ممن كان بعيدا في البلاد...

و هذا من الإمام مجازاة لسيرة الناس التي درجوا عليها عهد الخلفاء الذين تقدموه و إلا فإن النص وارد في حقه مثبت لإمامته و لم يحتج به خوفا من رده كما ردوه يوم السقيفة.

ثم بين عليه السلام أنه يقاتل رجلين رجل ادعى ما ليس له كما حدث مع معاوية حيث ادعى أنه ولي دم عثمان و كذلك يقاتل من منع الحق الواجب عليه كما وقع لأصحاب الجمل الذين رفضوا ما وجب عليهم بالبيعة له من الطاعة و الالتزام بالجماعة فكلا الفريقين يستحق القتال فحسب...

(اوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه فإنها خير ما تواصى العباد به و خير عواقب الأمور عند اللّٰه و قد فتح باب الحرب بينكم و بين أهل القبلة و لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر و الصبر و العلم بمواضع الحق فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه و لا تعجلوا في أمر حتى تتبينوا فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيرا) أوصاهم بتقوى اللّٰه فإنها خير ما وصّى بها أحد أحدا و فيه تعليم لنا أن يوصي كل منا الآخر بتقوى اللّٰه و أشار إلى أنها خير الوصايا لأنها تأتي على كل وصية لجمعها لجميع الوصايا فإنها تجمع الوصية بالصلاة و الصيام و كل الواجبات و كذلك الوصية بكل منهي على الاطلاق فإن كل ذلك يدخل تحت الوصية بالتقوى...

و أشار أيضا إلى أنها خير عواقب الأمور أي عاقبتها خير عاقبة...

ثم أشار إلى حرب البغاة و إن هذا الباب لم يكن مفتوحا زمن الخلفاء و لم تقع حرب بين فئتين من أهل الملة الواحدة و لكن الآن قد فتحه الناكثون طلحة و الزبير و أم المؤمنين و قد كانت معركة ضل فيها بعض البسطاء و غرّر بآخرين و استغلت فيها الصحبة و الزوجة فراح بعضهم يقاتل تحت هذا الاسم فحسب دون أن يعرف مع من يكون الحق و على من يكون و لذا قال الإمام لا يحمل هذا العلم بقتال الناكثين للبيعة و القاسطين من الدين و الخارجين عنه إلا أهل البصر بأمور الدين و العارفين بمواضع الحق و اليقين و أهل الصبر على الشدائد و العلم بمواضع الحق و مواطنه الذين سمعوا قول النبي لإمام عند ما قال له: «يا علي ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين..» و أشار عليهم أن يكونوا من أهل الطاعة له فإذا أمرهم بالقتال فليمضوا له و يقاتلوا بشجاعة و بسالة و إن نهوا عن أمر فليتوقفوا و لا يعجلوا في أمر يرونه أو رأي ارتأوه حتى يستفهموا من الإمام و يعرفوا وجه الحق فيه و في كل أمر ينكرونه و لا يرون صحته فله معهم موقف يقنعهم به و يردهم إلى الحق و الصواب...

ص: 125

(ألا و إنّ هذه الدنيا التي اصبحتم تتمنونها و ترغبون فيها و أصبحت تغضبكم و ترضيكم ليست بداركم و لا منزلكم الذي خلقتم له و لا الذي دعيتم إليه) كأنه عليه السلام يقرأ بما في ضمير الناس و يفتح قلوبهم ليحكي ما يتحرك فيها و محوره الدنيا فيقول: ألا و إن هذه الدنيا التي اصبحتم تتمنونها و ترغبون فيها فكل واحد يتمنى شيئا منها فهذا يتمنى الزعامة و يرغب فيها و يعمل لها.. و ذاك يتمنى المال و يرغب فيه و يسعى وراء كسبه و الثالث يتمنى النساء و يرغب فيها و يسعى في سبيلها و هكذا دواليك.

و كذلك أشار إلى أنها هي الدنيا تغضبكم و ترضيكم فإذا أعطوا منها و حصلوا عليها رضوا و فرحوا و إذا منعوا عنها و لم يقدروا عليها غضوا و حزنوا فلم يكن الرضا و الغضب للّٰه و من أجله..

يقول: إن هذه الدنيا التي تتأثرون بها هذا التأثر ليست بداركم الحقيقية التي تليق بكم و سوف تستقرون بها و لا منزلكم الذي خلقتم له و لا الذي دعيتم له إنكم خلقتم للآخرة و دعيتم إليها فاعملوا لها...

(ألا إنها ليست بباقية لكم و لا تبقون عليها و هي و إن غرتكم منها فقد حذرتكم شرها فدعوا غرورها لتحذيرها و أطماعها لتخويفها) هذه هي نهاية الدنيا التي نتقاتل من أجلها و يضرب بعضنا وجوه بعض من أجل الحصول عليها.. مهما جمعت و ملكت فلن يبقى لك و لن تبقى له، سترحل عنه و تتخلى للوارث و هو أيضا سيتركه لغيره من الحوادث و الوارث.. إنها لن تبقى لنا و لن نبقى لها كلمة لها معنى و مدلول.. ما أروعه لو فكر فيه الإنسان و عاش بضع لحظات في مدلوله.. تهون الدنيا و تصغر و تضمحل حتى تذوب...

و بيّن أنها إذا غرت هذا الإنسان بما فيها من متع و ملذات و مناظر جميلة و بعض حياة ناعمة فقد حذرتنا من شرها و بينت لنا عواقبها و منتهى الإنسان فيها... بيّنت أنها إلى زوال و فناء و إنها لا تبقى و لا تدوم،.. و العاقل من يترك ما يغره فيها إلى ما يحذره منها و يترك ما يطمع فيه منها إلى ما يخاف منها.. فإن دفع المضرة أولى من جلب المنفعة و خصوصا إذا كانت المنفعة سريعة الانقضاء و الزوال...

(و سابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها و انصرفوا بقلوبكم عنها و لا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوي عنه منها و استتموا نعمة اللّٰه عليكم بالصبر على طاعة اللّٰه و المحافظة على ما استحفظكم من كتابه) اسرعوا إلى اعمال الخير في هذه الدنيا و بادروا إليها و أنتم فيها إلى الدار الآخرة التي دعيتم إليها و يكون مستقركم فيها، و انصرفوا

ص: 126

بقلوبكم عنها أي لتزهد فيها قلوبكم و لا ترغب في شيء منها على وجه الحقيقة و بهذا الزهد القلبي تنقطع علاقة الإنسان بها و يتوجه عندها إلى الآخرة ثم نهاهم أن يبكوا على شيء منها بكاء الذلة و الضعة كما تبكي الأمة بصوت مختنق إذا نالها أذى أو ضر فإن هذه الدنيا إذا فات منها شيء يجب أن يبقى الإنسان على تجمله و ثقته باللّٰه و يتذكر أنها لن تبقى له و لا يبقى لها أما أن ينزوي على شيء فاته منها و يأخذه التوجع و التألم فهذا ما يتنافى و التوجه إلى اللّٰه و الثقة به ثم بعد أن نهاهم عن البكاء على الدنيا أمرهم بالصبر على طاعة اللّٰه المتمثلة بأوامره و نواهيه فيقوم بالأولى و يترك الثانية و بهذا يتم اللّٰه نعمته عليهم في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فالعز و السعادة و أما في الأخرى فالجنة و نعيمها.

و كذلك أمرهم بالمحافظة على ما ورد في الكتاب الكريم من الأمر بالمحافظة عليه فإن ذلك موجب لإتمام النعمة و اسباغها و كمالها على الإنسان.

(ألا و إنه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا و إنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم أخذ اللّٰه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحق و ألهمنا و إياكم الصبر) أمر بالمحافظة على الدين و إنه الأساس الذي يجب على الإنسان حفظه و الدفاع عنه و عدم التفريط فيه.. إنه محور الحركة و أساس الربح و الخسارة، فلو ربح الإنسان الدنيا لا تنفعه إذا خسر دينه كما إنه إذا ربح دينه فهو أعظم الناس و أكثرهم ربحا و إن خسر الدنيا، و هذا تحديد للربح الحقيقي و الخسارة الحقيقية و ميزان صادق توزن به الارباح و الخسائر و عليه يجب على كل منا أن يفكر فيه و أن يسعى في سبيل اعزاز الدين و تقويته و أن يكون هو الحاكم في الحياة و في كل مجالاتها و تعدد سبلها... يجب أن يفتش الإنسان في كل زاوية من زوايا المجتمع فيحكّم الدين فيها و لا يجوز بحال أن يعزل هذا الدين على الحكم و الإدارة و تدبير شئون الناس...

إنها وصية بهذا الدين الذي ضحى من أجله النبي و عترته و الأئمة الهداة من أهل بيته و بذلوا انفسهم في سبيله و تركوا الحياة الدنيا و ما فيها من أجله، هذا الدين يجب أن يكون هو المحور الذي يسعى الإنسان حوله و يعمل له و يبحث عما يعززه و يقويّه...

و ختم خطبته أخيرا بالدعاء أن يأخذ اللّٰه بقلوبنا جميعا إلى الحق فيهدينا إليه لنعمل به و أن يلهمنا جميعا الصبر فنصبر على طاعته كما نصبر عن معصيته...

ص: 127

174 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في معنى طلحة بن عبيد اللّٰه و قد قاله حين بلغه خروج طلحة و الزبير إلى البصرة لقتاله قد كنت و ما أهدّد (1) بالحرب، و لا أرهّب بالضّرب (2)، و أنا على ما قد وعدني ربّي من النّصر. و اللّٰه ما استعجل متجرّدا (3) للطّلب بدم عثمان إلاّ خوفا من أن يطالب بدمه، لأنّه مظنّته (4)، و لم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط (5) بما أجلب فيه (6) ليلتبس (7) الأمر و يقع الشّكّ . و و اللّٰه ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالما - كما كان يزعم - لقد كان ينبغي له أن يوازر (8) قاتليه، و أن ينابذ (9) ناصريه. و لئن كان مظلوما لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين (10) عنه، و المعذّرين (11) فيه. و لئن كان في شكّ من الخصلتين (12)، لقد كان ينبغي له أن يعتزله و يركد (13) جانبا، و يدع النّاس معه، فما فعل واحدة من الثّلاث، و جاء بأمر لم يعرف بابه، و لم تسلم معاذيره (14).

اللغة

1 - هدده: خوّفه و توعده بالعقوبة.

2 - الضرب: الطعن بالسيف أو الرمي بالرمح.

3 - متجردا: يقال تجرد للأمر أي تفرّغ له و جدّ فيه.

4 - المظنة: موضع الظن.

5 - يغالط: يوقع في الغلط أي يوقع في عدم معرفة الصواب.

ص: 128

6 - أجلب: الّب و اجلبوا عليه إذا تجمعوا و تألبّوا.

7 - يلتبس: يشتبه.

8 - يوازر: ينصر و يعين.

9 - المنابذة: المراماة و المدافعة.

10 - المنهنهين: من نهنهه عن الأمر كفه و زجره عنه.

11 - المعذرين: فيه المعتذرين عنه فيما نقم منه.

12 - الخصلة: الخلة.

13 - يركد: يسكن و لا يتحرك.

14 - المعاذير: جمع معذار الحجة التي يعتذر بها...

الشرح

(قد كنت و ما أهدد بالحرب و لا أرهب بالضرب و أنا على ما قد وعدني ربي من النصر) هدد طلحة بن عبيد اللّٰه الإمام بالحرب و أن يصمد لها و يبرز للطعان فرد عليه بهذا الجواب و أنه منذ وجد لم يهدده أحد بالحرب أو يخوفه بها أو بضرب السيوف و طعن الرماح فإنه ابنها البكر و فارس ساحتها و نظرة واحدة إلى معارك الإسلام تكشف صدق مقالة الإمام...

و أكد ما قاله و إنه مستريح له إنه على يقين مما وعده ربه على لسان رسوله من النصر.. و قد أخبره النبي أنه سيقاتل بعده الناكثين و القاسطين و المارقين.

(و اللّٰه ما استعجل متجردا للطلب بدم عثمان إلا خوفا من أن يطالب بدمه لأنه مظنته و لم يكن في القوم أحرص عليه منه فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلتبس الأمر و يقع الشك) أقسم عليه السلام - و هو الصادق الأمين - أن طلحة ما استعجل في الطلب بدم عثمان و ما تفرغ له وجد فيه إلا خوفا من أن يطالب به فدفعا لذلك و لكي يرفع عن نفسه التهمة سارع إلى ذلك و قد عرف الناس أنه أشد الناس عداوة لعثمان و أنه قد دفع بالثوار إلى تسّور البيوت المجاورة لبيت عثمان حتى قتلوه ثم منع جنازته من دفنها في مقبرة المسلمين حتى قبر في مقبرة اليهود.. أقول: كل ذلك يعرفه الناس فأراد أن يدفع عن نفسه اشتراكه في القتل فبادر إلى شن الحرب على الإمام و لبس على الناس الرؤية حتى يقع الشك في غيره و يدفعه عن نفسه.

(و اللّٰه ما صنع في أمر عثمان واحده من ثلاث: لئن كان ابن عفان ظالما - كما كان

ص: 129

يزعم - لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه و أن ينابذ ناصريه، و لئن كان مظلوما لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه و المعذرين فيه و لئن كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله و يركد جانبا و يدع الناس معه فما فعل واحده من الثلاث و جاء بأمر لم يعرف بابه و لم تسلم معاذيره) أقسم عليه السلام أن طلحة لم يفعل في أمر عثمان قضية واحدة من ثلاث يجب العمل بها، فهو قد عصى في تركه لجميعها و لو فعل واحدة منها لكان معذورا شرعا و عرفا و الثلاث هي لا يخلو عثمان إما أن يكون ظالما أو مظلوما أو أن طلحة في شك من واحدة منهما فلا يدري و أمام هذه الصور يجب أن يحدد الإنسان موقفه حتى يعذر من قبل اللّٰه و في نظر الناس أما إذا كان عثمان ظالما و هذا ما يزعمه طلحة و قد كانت أفعاله معه تحكي ذلك كان عليه أن يعاون قاتليه لأنه ظالم منحرف و في الوقت نفسه يعادي ناصرية و يحاربهم...

و أما أن يكون مظلوما و على طلحة أن يدفع عنه و يكف الناس عن داره و لا يتركهم يقتلونه ليعذر بأنه قد دافع عنه فلم يقدر فيكون قد قام بواجبه و المطلوب منه.

و أما أن يكون في شك من أمره - فلا يدري هل عثمان كان ظالما أم مظلوما - و هنا يجب عليه أن يتوقف و يعتزل الأحداث و الناس و يتخذ مكانا هادئا بعيدا عن الساحة حتى يتبين له الأمر و ما تنتهي إليه الأمور... و طلحة لم يفعل واحدة من الثلاث الواجبة عليه.

ثم أكثر من ذلك إنه أتى بأمر لم يعرف بابه و هو أنه نكث البيعة - بعد اعطائها طائعا مختارا - و دون مبرر لها أو حدث يوجب ذلك ثم جاء بمعاذير واهية لم يقبلها عاقل و لا يرضى بها منصف.

ص: 130

175 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في الموعظة و بيان قرباه من رسول اللّٰه أيّها النّاس غير المغفول (1) عنهم، و التّاركون المأخوذ منهم. ما لي أراكم عن اللّٰه ذاهبين، و إلى غيره راغبين! كأنّكم نعم (2) أراح (3) بها سائم (4) إلى مرعى و بيّ (5)، و مشرب دويّ (6)، و إنّما هي كالمعلوفة (7) للمدى (8) لا تعرف ما ذا يراد بها! إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها، و شبعها (9) أمرها.

و اللّٰه لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه و مولجه (10) و جميع شأنه لفعلت، و لكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله.

ألا و إنّي مفضيه (11) إلى الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه. و الّذي بعثه بالحقّ ، و اصطفاه على الخلق، ما أنطق إلاّ صادقا، و قد عهد إليّ بذلك كلّه، و بمهلك من يهلك، و منجى من ينجو، و مال (12) هذا الأمر. و ما أبقى شيئا يمرّ على رأسي إلاّ أفرغه في أذنّي و أفضى به إليّ .

أيها النّاس، إنّي، و اللّٰه، ما أحثّكم (13) على طاعة إلاّ و أسبقكم إليها، و لا أنهاكم عن معصية إلاّ و أتناهى قبلكم عنها.

اللغة

1 - الغافل: الساهي غير الملتفت.

2 - النعم: محركة الإبل و تطلق على البقر و الغنم و هو جمع لا واحد له.

3 - اراح لها: ذهب بها و رحل.

ص: 131

4 - السائم: الراعي.

5 - الوبي: محل الوباء و هو المرض.

6 - الدوي: محل الداء و أصله من الدوا بالقصر أي المرض.

7 - المعلوفة: من علف الدابة إذا اطعمها و العلف هو طعام الدواب.

8 - المدى: جمع مدية السكين.

9 - الشبع: ضد الجوع.

10 - المولج: المدخل.

11 - مفضيه: أصله من افضى إليه أي خلا به، و افضى به أخبر به و نشره.

12 - المآل: المصير.

13 - حثه: على الأمر حضّه عليه و نشّطه على فعله.

الشرح

(أيها الغافلون غير المغفول عنهم و التاركون المأخوذ منهم ما لي أراكم عن اللّٰه ذاهبين و إلى غيره راغبين) هذه الخطبة موعظة للناس و تنبيه للغافلين فخاطبهم بما هم عليه و ما هم فيه أيها الغافلون عما يراد بهم.. الغافلون عن ذكر اللّٰه. الغافلون عما تعملون من المعاصي و الآثام... الغافلون عن الحق... و لكن مقابل غفلتكم عن كل ذلك لم يغفل عنكم ربكم... بل أحصى عليكم أفعالكم و أعمالكم... احصى عليكم ما جرحتم بالليل و النهار... أحصى عليكم انفاسكم... أنه قد أحصى كل شيء عليكم وعده عدا...

أيها التاركون ما تجمعون من مال و عقار و من حطام الدنيا.. أيها التاركون لأمر اللّٰه... أيها التاركون لما يحيكم.. فإن اللّٰه آخذ منكم ما جمعتم و تعبتم من أجله في الدنيا من دور و قصور و أولاد و أموال...

ثم أشار إلى عيوبهم و إلى ما رأى منهم... مالي أراكم عن اللّٰه ذاهبين... عن دينه و عن رضاه... و عما يريد منكم و في المقابل إلى غيره راغبين... راغبين في الرؤساء و العشائر... في الزعماء و الأمراء... في كل أمر لا يحبه اللّٰه أنتم راغبون...

(كأنكم نعم اراح بها سائم إلى مرعى و بي و مشرب دوي و إنما هي كالمعلوفة للمدى لا تعرف ما ذا يراد بها إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها و شبعها أمرها) شبههم بالإبل أو الغنم الذي ذهب بها صاحبها و راعيها إلى مرعى كثير الوباء و مكان شرب كثير

ص: 132

المرض و هذه النفوس التي يملكونها فإنهم يحملونها على ارتكاب الحرام و المعاصي و هي امراض لهذه النفوس تفسدها و تحجب عنها رؤية الحق...

أو أنهم كالنعم التي يعتني بها اصحابها فتسمّن من أجل الذبح، فهم يتلذذون و يتنعمون و يبحثون عن الأمور التي تحقق ملذاتهم غافلين عما وراءها من الموت و الحساب و العقاب كالنعم التي تأكل لاهية عما يراد بها.

ثم أن النعم إذا أحسن إليها صاحبها يوما تحسب يومها دهرها و شبعها أمرها أي تظن أن ذلك العلف و الاطعام في يومها هذا سيجري في جميع الايام الآتية و إذا اشبعها فكأنه اشبعها حبا بذلك فحسب دون غاية أخرى يريدها من وراء الاشباع.

و كذلك هؤلاء يظنون أن اللّٰه حينما بسط لهم بعض الخيرات اليوم كأنه سيبسطها لهم دائما أو أنه سبحانه لم يوفرها لهم بدون غاية بل وفرها ليسألهم عنها و عن شكرها و أداء حقها.

(و اللّٰه لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه و مولجه و جميع شأنه لفعلت و لكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله سلم) أقسم أنه لو شاء لأخبر لكل واحد بمخرجه و مدخله و بجميع أموره الشخصية و الاجتماعية و ما يفعل و يترك و لكن امتنع عن ذلك مخافة أن يضلوا بكفرهم برسول اللّٰه لأنهم عند ما يرون هذه الأخبار منه بأحوالهم لا تطيق عقولهم ذلك فيكفروا برسول اللّٰه إما برفع علي إلى منزلة الألوهية أو بنسبة رسول اللّٰه إلى التقصير في حق الإمام و إنه لم بيّين لهم فضله و منزلته...

(ألا و إني مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه و الذي بعثه بالحق و اصطفاه على الخلق ما انطق إلا صادقا و قد عهد إليّ بذلك كله و يمهلك من يهلك و منجى من ينجو و مآل هذا الأمر و ما أبقى شيئا يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني و أفضى به إليّ ) بعد أن خاف إن أخبر كل واحد بما يعمل و ما يترك و بأموره كلها بعد أن خاف ذلك لئلا يكفروا برسول اللّٰه قال: إن بعض الاصحاب يتحملون هذه الأخبار فلا يشكون أو يكفرون و أنا سأدفع بذلك إليهم و سأنقل إليهم ما عندي لأنه يؤمن ضلالهم ثم أقسم باللّٰه الذي بعث محمدا بالدين الحق و اصطفاه من بين الخلق إنه لم ينطق إلا بالحق و قد عهد إليه رسول اللّٰه بكل ذلك و أخبره بمن يموت على ضلال و من ينجو من الهلاك و الضلال و أخبره بمصير الخلافة و كيف يتولاها من تولاها و بأسمائهم و أدوارهم و لم يبق شيء إلا أخبره به و أعطاه إياه إما على وجه العموم و إما على وجه الخصوص...

(أيها الناس إني و اللّٰه ما احثكم على طاعة إلا و اسبقكم إليها و لا أنهاكم عن معصية

ص: 133

إلا و اتناهى قبلكم عنها) و هكذا يكون شأن من يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر إنه قبل أن يدفع الناس نحو المعروف و يأمرهم به يقوم بنفسه بتطبيق ذلك و العمل به و كذلك قبل أن يرد غيره عن المنكر و يردعهم عنه يقوم بالكف عنه و الامتناع عن تناوله فيكون لكلامه موقعه و أثره و فعاليته و الإمام قد كان القدوة في هذا بل لو لم يكن كذلك لم يكن عليا الذي يعيش في وجدان الأمة و ضميرها إلى الآن و سيبقى إلى قيام الساعة كذلك...

ص: 134

176 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها يعظ و يبين فضل القرآن و ينهى عن البدعة

عظة الناس

انتفعوا ببيان اللّٰه، و اتّعظوا بمواعظ اللّٰه و اقبلوا نصيحة اللّٰه، فإنّ اللّٰه قد أعذر إليكم (1) بالجليّة (2)، و اتّخذ عليكم الحجّة، و بيّن لكم محابّة من الأعمال، و مكارهه منها، لتتّبعوا (3) هذه، و تجتنبوا هذه، فإنّ رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كان يقول: «إنّ الجنّة حفّت بالمكاره، و إنّ النّار حفّت بالشّهوات».

و اعلموا أنّه ما من طاعة اللّٰه شيء إلاّ يأتي في كره، و ما من معصية اللّٰه شيء إلاّ يأتي في شهوة. فرحم اللّٰه امرأ نزع (4) عن شهوته، و قمع (5) هوى نفسه، فإنّ هذه النّفس أبعد شيء منزعا (6)، و إنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى.

و اعلموا - عباد اللّٰه - أنّ المؤمن لا يصبح و لا يمسي إلاّ و نفسه ظنون (7) عنده، فلا يزال زاريا (8) عليها و مستزيدا لها. فكونوا كالسّابقين قبلكم، و الماضين أمامكم. قوّضوا (9) من الدّنيا تقويض (10) الرّاحل، و طووها طيّ المنازل.

فضل القرآن

و اعلموا أنّ هذا القرآن هو النّاصح الّذي لا يغشّ ، و الهادي الّذي لا

ص: 135

يضلّ ، و المحدّث الّذي لا يكذب. و ما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى. و اعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فافة (11)، و لا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه (12) من أدوائكم (13)، و استعينوا به على لأوائكم (14)، فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء (15): و هو الكفر و النّفاق، و الغيّ (16) و الضّلال، فاسألوا اللّٰه به، و توجّهوا إليه بحبّه، و لا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجّه العباد إلى اللّٰه تعالى بمثله. و اعلموا أنّه شافع مشفّع، و قائل مصدّق، و أنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه، و من محل (17) به القرآن يوم القيامة صدّق عليه، فإنّه ينادي مناد يومّ القيامة: «ألا إنّ كلّ حارث (18) مبتلى في حرثه و عاقبة عمله، غير حرثة القرآن». فكونوا من حرثته و أتباعه، و استدلّوه على ربّكم، و استنصحوه على أنفسكم، و اتّهموا عليه آراءكم، و استغشّوا (19) فيه أهواءكم.

الحث على العمل

العمل العمل، ثمّ النّهاية النّهاية، و الاستقامة الاستقامة، ثمّ الصّبر الصّبر، و الورع الورع! «إنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم»، و إنّ لكم علما فاهتدوا بعلمكم (20)، و إنّ للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته. و اخرجوا إلى اللّٰه بما افترض عليكم من حقّه، و بيّن لكم من وظائفه. أنا شاهد لكم، و حجيج (21) يوم القيامة عنكم.

نصائح للناس

ألا و إنّ القدر السّابق قد وقع، و القضاء الماضي قد تورّد (22) و إنّي متكلّم بعدة (23) اللّٰه و حجّته، قال اللّٰه تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ »

ص: 136

«اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » ، و قد قلتم: «ربّنا اللّٰه» فاستقيموا على كتابه، و على منهاج (24) أمره، و على الطّريقة الصّالحة من عبادته، ثمّ لا تمرقوا (25) منها، و لا تبتدعوا (26) فيها، و لا تخالفوا (27) عنها. فإنّ أهل المروق منقطع (28) بهم عند اللّٰه يوم القيامة. ثمّ إيّاكم و تهزيع (29) الأخلاق و تصريفها (30)، و اجعلوا اللّسان واحدا، و ليخزن (31) الرّجل لسانه، فإن هذا اللّسان جموح (32) بصاحبه. و اللّٰه ما أرى عبدا يتّقي تقوى تنفعه حتّى يحزن لسانه. و إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، و إنّ قلب المنافق من وراء لسانه: لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره (33) في نفسه، فإن كان خيرا أبداه (34)، و إن كان شرّا واراه (35). و إنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له، و ما ذا عليه. و لقد قال رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله -: «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه. و لا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه». فمن استطاع منكم أن يلقى اللّٰه تعالى و هو نقيّ الرّاحة (36) من دماء المسلمين و أموالهم، سليم اللّسان من أعراضهم (37)، فليفعل.

تحريم البدع

و اعلموا عباد اللّٰه أنّ المؤمن يستحلّ (38) العام ما استحلّ عاما أوّل، و يحرّم العام ما حرّم عاما أوّل، و أنّ ما أحدث (39) النّاس لا يحلّ لكم شيئا ممّا حرّم عليكم، و لكنّ الحلال ما أحلّ اللّٰه، و الحرام ما حرّم اللّٰه. فقد جرّبتم الأمور و ضرّستموها (40)، و وعظتم بمن كان قبلكم، و ضربت الأمثال لكم، و دعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصمّ عن ذلك إلاّ أصمّ (41)، و لا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى. و من لم ينفعه اللّٰه بالبلاء (42) و التّجارب (43) لم ينتفع

ص: 137

بشيء من العظة (44)، و أتاه التّقصير من أمامه، حتّى يعرف ما أنكر، و ينكر ما عرف. و إنّما النّاس رجلان: متّبع شرعة (45)، و مبتدع (46) بدعة، ليس معه من اللّٰه سبحانه برهان (47) سنّة، و لا ضياء حجّة.

القرآن

و إنّ اللّٰه سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن، فإنّه «حبل اللّٰه المتين (48)»، و سببه (49) الأمين، و فيه ربيع القلب، و ينابيع العلم، و ما للقلب جلاء (50) غيره، مع أنّه قد ذهب المتذكّرون، و بقي النّاسون أو المتناسون. فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه، و إذا رأيتم شرّا فاذهبوا عنه، فإنّ رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - كان يقول: «يا بن آدم، اعمل الخير ودع الشّرّ، فإذا أنت جواد (51) قاصد (52)».

أنواع الظلم

ألا و إنّ الظّلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، و ظلم لا يترك، و ظلم مغفور لا يطلب. فأمّا الظّلم الّذي لا يغفر فالشّرك باللّٰه، قال اللّٰه تعالى: «إنّ اللّٰه لا يغفر أن يشرك به». و أمّا الظّلم الّذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات (53).

و أمّا الظّلم الّذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا. القصاص (54) هناك شديد، ليس هو جرحا بالمدى (55) و لا ضربا بالسّياط (56)، و لكنّه ما يستصغر ذلك معه. فإيّاكم و التّلوّن (57) في دين اللّٰه، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ ، خير من فرقة (58) فيما تحبّون من الباطل. و إنّ اللّٰه سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا ممّن مضى، و لا ممّن بقي.

لزوم الطاعة

يا أيّها النّاس «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس»، و طوبى (59)

ص: 138

لمن لزم بيته، و أكل قوته، و اشتغل بطاعة ربّه، «و بكى على خطيئته» فكان من نفسه في شغل، و النّاس منه في راحة!.

اللغة

1 - أعذر إليكم: أوضح عذره لكم في عقابكم، أو لم يبق لكم من عذر.

2 - الجلية: الواضحة.

3 - لتبتغوا: لتطلبوا.

4 - نزع: أقلع و كفّ .

5 - قمع: قهر و ذلّل.

6 - منزعا: رجوعا.

7 - ظنون: وزان صبور أما مبالغة من الظنة بالكسر بمعنى التهمة أو بمعنى الضعيف و قليل الحيلة و تطلق على البئر لا يعلم فيها ماء أم لا.

8 - الزاري: العائب.

9 - قوض: الخيام نزع اطنابها و اعمدتها و طواها.

10 - الفاقة: الفقر و الحاجة.

11 - استشفوه: اطلبوا منه الشفاء و العافية.

12 - ادوائكم: الادواء جمع الداء المرض.

13 - اللأواء: الشدة.

14 - الداء: المرض.

15 - الغي: الضلال.

16 - محل به: إلى السلطان قال عنه ما يضره.

17 - الحارث: المكتسب.

18 - الحرث: الكسب.

19 - استغشوا: اهواءكم قولوا أن فيها الغش.

20 - العلم: بفتح اللام ما يهتدى به.

21 - الحجيج: المدافع.

22 - تورد: ورد شيئا بعد شيء.

23 - عدّة اللّٰه: وعده.

24 - المنهاج: الطريق الواضح.

25 - المروق: من مرق السهم إذا خرج من الرمية مروقا.

ص: 139

26 - لاتبتدعوا: لا تحدثوا ما لم يأذن به اللّٰه.

27 - لا تخالفوا عنها: يقال خالفت عن الطريق أي عدلت عنها.

28 - المنقطع به: الذي لم يجد بلاغا و وصولا إلى المقصد.

29 - التهزيع: التكسير.

30 - التصريف: التقليب.

31 - ليخزن: ليحبس، و يحفظ.

32 - الجموح: من جمح الفرس إذا غلب فارسه فيوشك أن يطرح به في مهلكة فيرديه.

33 - تدبر: الأمر فكر فيه و نظر في عواقبه.

34 - ابداه: أظهره و بيّنه.

35 - واراه: اخفاه و دفنه.

36 - الراحة: الكفّ .

37 - الاعراض: جمع عرض بكسر العين و هو ما يصونه الإنسان من نفسه و أهله.

38 - يستّحل: الشيء يراه حلالا.

39 - أحدث: الشيء أوجده حديثا أي جديدا.

40 - ضرستموها: بالتشديد أي أحكمتموها تجربة و ممارسة و ضرسته الحرب أي جربّته و احكمته.

41 - الأصم: الأطرش، داء يصيب الأذن يمنعها من السمع.

42 - البلاء: الامتحان، التجربة.

43 - التجارب: الاختبار و الامتحان.

44 - العظة: النصح، كلام يذكره باللّٰه يحمله على التوبة.

45 - الشرعة: المنهاج.

46 - مبتدع: مخترع من البدعة و هي أحداث أمر لم يكن.

47 - البرهان: الحجة.

48 - المتين: القوي و متن الشيء بالضم أي صلب و قوي.

49 - السبب: الحبل، ما يتوصل به إلى الشيء.

50 - الجلاء: بالكسر مصدر جلوت السيف إذا صقلته.

51 - الجواد: الفرس.

52 - القاصد: المعتدل، المستقيم.

53 - الهنات: بفتح الهاء - جمع هنة محركة الشيء اليسير و العمل الحقير و المراد به صغائر الذنوب.

54 - القصاص: بكسر القاف الجزاء على الذنب بالمثل.

ص: 140

55 - المدى: بالضم جمع مدية و هي السكين.

56 - السياط: جمع سوط.

57 - التلّون: عدم الثبات على خلق واحد.

58 - الفرقة: بضم الفاء التفرق و الشقاق.

59 - طوبى: من طاب و طوبى لك أي لك الحظ و العيش الطيب.

الشرح

(انتفعوا ببيان اللّٰه و اتعظوا بمواعظ اللّٰه و اقبلوا نصيحة اللّٰه فإن اللّٰه قد أعذر إليكم بالجلية و اتخذ عليكم الحجة و بين لكم محابه من الأعمال و مكارهه منها لتتبعوا هذه و تجتنبوا هذه فإن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم كان يقول: «إن الجنة حفّت بالمكاره و إن النار حفّت بالشهوات) هذه الخطبة الشريفة تتضمن موعظة بليغة و أمر بالتمسك بالقرآن كما تتناول تحريم البدع و الظلم بأقسامه.

ابتدأ عليه السلام بالأمر للناس أن ينتفعوا ببيان اللّٰه الذي جاء عن طريق الوحي و كلام الرسول و مراده بالانتفاع هو العمل وفق الأمر الإلهي فكل ما جاء من أمر أمتثله و كل ما جاء من نهي انزجر عنه...

و اتعظوا بمواعظ اللّٰه: أي اعتبروا بما أخبركم اللّٰه عنه من الأمور التي فيها عبرة و موعظة لكم و اللّٰه قد ضرب مثلا للذين آمنوا و آخر للذين كفروا و بيّن كيف أخذ الكافرين و كيف املى للمغترين ؟... الموعظة بالأمم السالفة التي عصت فأخذها اللّٰه أخذ عزيز مقتدر.. الموعظة من الاغنياء الذين بطروا كقارون فخسف اللّٰه به و بداره الأرض...

الموعظة من الذين ابتلوا فصبروا ففّرج اللّٰه عنهم كأيوب و يونس و يوسف... و ما أكثر المواعظ الإلهية التي من فكر فيها ارتدع عن كل ممنوع و أقام كل معروف...

و أقبلوا نصيحة اللّٰه فإنه سبحانه أمرنا بالقيام بالطاعات و نهانا عن ممارسة السيئات، و من قبل نصيحة اللّٰه فاز لأنها توصل الإنسان إلى الجنة...

ثم أشار إلى وجوب امتثال ما تقدم بأنه سبحانه قد أوضح الأمور بإرسال الرسل و إنزال البينات و قطع أعذار المعتذرين الذين يمكن أن يحتجوا بعدم البيان أو بعدم وصوله إليهم، فإنه قد أوصله عن طريق الرسل و قد بلغوه للناس كما يحب فلو عاقبهم بعد ذلك لتقصيرهم لكان له الحجة عليهم و ليس لهم عليه حجة أو سؤال... إنه سبحانه أوضح الأمور فكانت حجة واضحة علينا و كانت أقوال النبي ملزمة لنا نحاسب إن قصرنا في

ص: 141

تنفيذها كما أنه سبحانه أوضح لنا ما يحبه من الأعمال من صلاة و صيام و حج و زكاة و إعانة للفقير و سد عوزه و خلته كما أنه سبحانه بيّن لنا ما يكرهه من كذب و غيبة و نميمة و فساد و ضلال و دعانا إلى الأولى و أمرنا بها و نهانا عن الثانية و زجرنا عنها...

ثم بين أن في التكليف شدة على النفس فنقل الحديث عن رسول اللّٰه و إن الجنة حفت بالمكارة لأن الجنة تتطلب الأعمال و القيام بالتكاليف المفروضة و هي أمور ثقيلة على النفس مكروهة لها تمنعها عن كثير من مشتهياتها و محّابها بينما النار حفت بالشهوات لأن عدم التكليف خفيف على النفس، و لا يكون هناك التزام أو تكليف و عدم التكليف خفيف و خصوصا أن النفس ترغب في الأمور الباطلة فتندفع وراءها و هي تورد اصحابها النار...

(و اعلموا أنه ما من طاعة اللّٰه شيء إلا يأتي في كره و ما من معصية اللّٰه شيء إلا يأتي في شهوة فرحم اللّٰه امرأ نزع عن شهوته و قمع هوى نفسه فإن هذه النفس أبعد شيء منزعا و إنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى) بين عليه السلام أن الطاعات تأتي عن كره بينما المعاصي تأتي عن شهوة و ذلك لان الطاعة عمل و العمل فيه كلفة و مشقة فالنفس تجد ثقلا من القيام به كالصلاة و الصيام و الحج و الطاعات الأخرى بينما المعاصي توافق الشهوات و فيها عدم العمل و الفعل فالزنا يوافق شهوة الجنس و هي قوية ترغب في اللذة و ترك الصلاة ترك لها و هي سهلة المئونة لا تكلّف من العمل شيئا و علله بعضهم بقوله:

لأن الإنسان ما لم يكن متردد الدواعي لا يصح التكليف و إنما تتردد الدواعي إذا أمر بما فيه مشقة أو نهي عما فيه لذة و منفعة.

ثم دعى بالرحمة لمن كفّ عن شهوته و تخلى عنها و لمن قهر هوى نفسه و تغلب عليه.

و أشار إلى أن هذه النفس أبعد شيء مذهبا عن الحق و الهدى و قيل كفا و انتهاء عن شهوة و معصية.

و على الأول يكون قوله «فإنها لا تزال تنزع في معصية تعليل له فإن النفس تميل و ترغب إلى المعصية لانسجامها مع هوى النفس و رغبتها...

(و اعلموا - عباد اللّٰه - أن المؤمن لا يصبح و لا يمسي إلا و نفسه ظنون عنده فلا يزال زاريا عليها و مستزيدا لها فكونوا كالسابقين قبلكم و الماضين أمامكم قوضوا من الدنيا تقويض الراحل و طووها طي المنازل) و هكذا يجب أن يكون المؤمن مع نفسه في كل أوقاته أن يكون متهما لها بالتقصير و العجز عن القيام بالواجب و إنها لا تقدر على أمر إلا

ص: 142

بإعطاء اللّٰه لها القدرة فهو باستمرار معيبا لها و لأفعالها القبيحة طالبا لها الزيادة في الخير و أعمال البر و هذا كله ليدفعها نحو الفضيلة و العمل الصالح فإن من أتهم نفسه بالتقصير حاول أن يرفع ذلك بالعمل الصالح ثم دعاهم ليكونوا كالسابقين قبلهم من الصحابة الطاهرين و من الذين مضوا أمامهم إلى الجنة حيث قطعوا علائقهم بالدنيا و رحلوا منها قبل أن يرحلوا.. فإن السابقين نقضوا ما بنوه و أخذوا ما عملوا كما يقوض الراحل خيامه و يأخذها معه أو كما يطوي المسافر منازل السفر و محطاته يمر عليها دون استقرار و كذلك أنتم كونوا متزودين بالأعمال الصالحة عابرين إلى الآخرة و هي غايتكم و وجهة نظركم...

(و اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش و الهادي الذي لا يضل و المحدث الذي لا يكذب) ذكر عليه السلام بعض صفات القرآن و خصائصه كي يرّغب الناس فيه و يدفعهم إلى العمل بمضمونه.

فهو الناصح الذي لا يغش و الغش ضعف و القرآن كامل متكامل لا ضعف فيه لأنه كلام اللّٰه الصادق.

و الهادي إلى طريق الجنة الذي لا يضل من سار خلفه و اقتدى به.

و هو المحدث الذي يخبر عن الأمم و الشعوب و ما جرى لها و عليها فلا يكذب بزيادة أو نقيصة.

(و ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى أو نقصان من عمى) و مجالسة القرآن عبارة عن قراءته و العيش معه في تلاوته و بطبيعة الحال من كان عاقلا واعيا إذا استمع إلى آيات اللّٰه لا بد و أن يقوم بعد استماعها أما بزيادة في خير أو نقصان من شر، زيادة في هدى أو نقصان من عمى أما زيادة في أعمال البر بأن يزداد خيرا و تقى و عملا صالحا و أما ترتفع عنه بعض الغشاوات من الجهل و عدم المعرفة...

(و اعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة و لا لأحد قبل القرآن من غنى) من أخذ القرآن و عمل بمضمونه فإنه يسعد في النشأتين في الدنيا و الآخرة و لا يفتقر إلى شيء بعده أبدا لأن فيه السعادة كلها و لذا نجد الأمة عند ما عملت به اغتنت و عزت و فازت.

كما أنه لا غنى بدون القرآن مهما أوتي الإنسان من عقل و وعي و ذكاء لأن هذا الإنسان إذا انقطع عن كلام اللّٰه و خطابه فلن يصل إلى مراتب الكمال و السمو لقصوره و إمكانه و عجزه...

ص: 143

(فاستشفوه من ادوائكم و استعينوا به على لأوائكم فإن فيه شفاء من أكبر الداء و هو الكفر و النفاق و الغي و الضلال فاسألوا اللّٰه به و توجهوا إليه بحبه و لا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى اللّٰه تعالى بمثله) كل داء فيكم فاطلبوا شفاءه من القرآن... بكم كفر و نفاق فعودوا إلى رحاب القرآن و اقرءوا عن الكفار و مسيرتهم و ما كانت عاقبتهم و نتيجة أعمالهم و هذا وحده يكفي ليدفعهم نحو الإيمان... و كذلك إذا بكم نفاق فعودوا إلى آيات المنافقين و مسيرتهم و كيف كانت عاقبة السوء عليهم...

و إذا كان بكم بخل أو شح أو غش أو أي مرض آخر فعودوا إلى القرآن و التمسوا منه و صفة لدائكم تشفون منه و تعودون أصحاء سالمين...

و إذا اصابتكم شدة أو أزمة ففي آيات القرآن تجدون الفرج و الظفر و اقرؤا الآيات النازلة في يونس و أيوب و يوسف تعود المحنة منحة و الداء دواء...

في القرآن شفاء من أكبر الداء - أكبر أمراض الحياة - الكفر و النفاق فإنه ليس بعد الكفر ذنب و ليس هناك معصية أعظم منه و لا أخطر منه و من النفاق لأنهما يقطعان الصلة باللّٰه و يبتران العلاقة بينهما و بينه و هذا منتهى الشقاء و التعاسة...

و دعاهم إلى أن يسألوا اللّٰه به أي يكملوا أنفسهم و يهذبوها و يتوجهوا إليه بالعمل به و إطاعة أمره و نهاهم أن يجعلوه مصدرا لكسبهم و أداة لمعاشهم و ارتزاقهم.. و أخيرا نفى أن يتوجه أحد من العباد بمثل القرآن لأنه خطاب اللّٰه فتوجه به إلى اللّٰه و ليس هناك أشرف منه تتوجه به إلى اللّٰه...

(و اعلموا أنه شافع مشفع و قائل مصدق و أنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه و من محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه) القرآن شافع لمن عمل به مقبول الشفاعة و نزله منزلة الشفيع لأنه يمحو السيئات كما يشفع الشفيع بمحو سيئات المشفع فيه و يوم القيامة يشفع القرآن بالعاملين به بلسان الحال فيكونوا من أهل الجنة كما أن القرآن يشهد على من لم يعمل به و ينقل إلى اللّٰه تمرد الذين تمردوا عليه و عصوا أوامره و هو مصدق فيما قال و على من قال.. فيدخلون النار...

(فإنه ينادي مناد يوم القيامة «ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه و عاقبة عمله غير حرثة القرآن» فكونوا من حرثته و اتباعه و استدلوه على ربكم و استنصحوه على انفسكم و اتهموا عليه آراءكم و استغشوا فيه أهواءكم) هذا ترغيب للعمل بالقرآن و التفكر فيه بأن يوم القيامة يوم الحساب ينادي مناد كل عامل يسأل عن عمله و هل كان للّٰه أم للشيطان ؟.. و هل كان للدنيا أم للآخرة فيقف ليسأل عن عمله و اثره و ما تركه خلفه من

ص: 144

منافع أو مضار إلا من اشتغل بالقرآن تعلما و تعليما و تلاوة و ذكرا فإنهم قوم لا يسألون عن شيء لأن الاشتغال به يرضي اللّٰه و يكون من أحب الأعمال إليه لأنه طاعة مقربة منه و بعد هذا دعاهم ليكونوا من العاملين به المتفقهين فيه المتبعين له...

و أمرهم أن يستدلوا به على ربهم و يتخذوه دليلا للوصول إليه و إلى مرضاته و مراده...

كما أمرهم أن يطلبوا منه النصيحة فيما يصلح نفوسهم و يرشدهم نحو الخير.

و أمرهم أن يتهموا أراءهم إن عارضته في حكم أو أشكل عليها الأمر في موقف فإن الرأي مهما كان جيدا يبقى يحمل القصور البشري و الامكان الانساني بينما القرآن حديث اللّٰه خالق الفكر و الرأي الواجب الوجود الحكيم العليم...

ثم أمرهم أن يستغشوا فيه أهواءهم أي إذا كانت اهواءهم خلاف القرآن فتكون هي الغاشة لهم المدلسة عليهم و يكون القرآن هو الصادق معهم الصريح فيما يقول...

(العمل العمل ثم النهاية النهاية و الاستقامة الاستقامة ثم الصبر الصبر و الورع الورع «إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم» و إن لكم علما فاهتدوا بعلمكم و إن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته) حضّهم على هذه الأمور:

العمل العمل الزموه و قوموا به لأنه الترجمة الفعلية عما يعتقده الإنسان و يؤمن به.

النهاية النهاية أي انظروا إلى خاتمة حياتكم و نهايتها و اعملوا في سبيل أن تكون طيبة و على ما أحب اللّٰه و رسوله، و أن تكون سعيدة و من أهل الجنة.

الاستقامة الاستقامة أي كونوا دائما في استقامة على الطريق السليم الصحيح فلا تنحرفوا ذات اليمين أو ذات الشمال أو تميلوا مع الأهواء و الشهوات.

الصبر الصبر كونوا صابرين دائما صابرين على الطاعات و الواجبات و صابرين عن المعاصي و الآثام.

الورع الورع أمرهم بملازمة الورع و هو الكف عما يشتبه بحرمته فلا يقترفه و يكون باستمرار مراعيا للأقرب إلى رضى اللّٰه.

ثم أشار إلى أن لهم نهاية و هي الجنة و أمرهم بالسعي إليها بأن يعملوا بكل ما يوصلهم إلى تلك النهاية من أعمال مطلوبة و أخرى مندوبة و أفعال الخير من أعانة الفقراء و سد عوزهم و رفع الحاجة عنهم...

ص: 145

و هذه النهاية لها علم و راية يهتدي بها طالب هذه النهاية و من أراد الوصول إليها و المراد بالعلم هم النبي و الأوصياء من بعده و في زمان الإمام كان هو بنفسه الشريفة علما يهتدي به من أراد الوصول إلى الجنة...

و أشار إلى أن الإسلام له غاية و هي كمال هذا الإنسان عن طريق القيام بالواجبات فانتهوا إليها و اعملوا لها...

(و اخرجوا إلى اللّٰه بما افترض عليكم من حقه و بين لكم من وظائفه. أنا شاهد لكم و حجيج يوم القيامة عنكم) كشف عليه السلام عن الغاية التي أرادها الإسلام منا و هي أن نؤدي ما افترض علينا من حقه فكل واجب نقوم به و لا نقصر فيه.. نؤديه بإخلاص كاملا و بالتمام.

ثم رغبهم في طاعته بأنه يشهد لهم بالطاعة و إداء الحق و يدافع عنهم يوم القيامة حتى يدخلوا الجنة و هذا موافق لقوله تعالى:(1)«يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ » ...

(ألا و إن القدر السابق قد وقع و القضاء الماضي قد تورّد و إني متكلم بعدة اللّٰه و حجته قال اللّٰه تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » و قد قلتم: «ربنا اللّٰه» فاستقيموا على كتابه و على منهاج أمره و على الطريقه الصالحة من عبادته ثم لا تمرقوا منها و لا تتبدعوا فيها و لا تخالفوا عنها فإن أهل المروق منقطع بهم عند اللّٰه يوم القيامة) بين عليه السلام أن ما قدره اللّٰه في علمه السابق قد وقع و قضاه حتما قد نفذ و تحقق شيئا فشيئا إشارة منه عليه السلام إلى أن ما قدره اللّٰه سابقا من أنه سيتولى الخلافة قد حصل الان و ما قضاه اللّٰه و امضاه من الفتن لا بد و إنها ستظهر شيئا فشيئا و هذه طلائعها قد بدت و ظهرت للعيان و قد أشار شراح النهج إلى أن هذه الخطبة كانت في أوائل خلافته...

ثم أشار إلى أنه سيتكلم بما وعد اللّٰه و احتج به على عباده من الحجج و البينات فذكر قوله تعالى في الآية الكريمة: «اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » و بين لهم أنهم قد قالوا: «ربنا اللّٰه» إيمانا قلبيا و عقيدة راسخة قوية و لكن هذه العقيدة تستنبع الاستقامة بالعمل بالكتاب الكريم و ما جاء فيه فيحلل حلاله و يحرم حرامه و يكون الإنسان باستمرار على طريق اللّٰه الذي رسمه له و على الطريقة الصالحة التي شرعها اللّٰه في عبادته و هي1.

ص: 146


1- سورة الإسراء، آية - 71.

المتلقاة عن رسول اللّٰه بالوسائط الصادقة العادلة مع الإخلاص فيها و إتمام شرائطها و دفع موانعها...

و هذه الشرعة الصالحة لا يجوز للإنسان أن يخرج عنها و يتركها و لا يجوز أن يبتدع فيها بأن يزيد أو ينقص و خصوصا في الأمور التوقيفية كالصلاة و الصيام و الحج فإنه لا يجوز أن يشرع صلاة الصبح ثلاث ركعات أو ينقص منها شرطا أو جزءا كما لا يجوز أن يخالف هذه الشرعة الصالحة إلى غيرها من السنن المتبدعة أو الأمور الباطلة.

و أشار إلى عاقبة المروق منها بتركها أو الابتداع فيها أو مخالفتها إلى غيرها بأنهم قوم انقطعت به وسائل الوصول إلى اللّٰه، إنهم لا يقدرون على الوصول إليه لعدم عملهم الصالحات.. الوصول إليه لا يكون لا بالعمل بالواجبات و ترك المحرمات، إنها وحدها الموصلة إلى رحمته و دخول جنته...

(ثم إياكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها و اجعلوا اللسان واحدا و ليخزن الرجل لسانه فإن هذا اللسان جموح بصاحبه و اللّٰه ما أرى عبدا يتقي تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه و إن لسان المؤمن من وراء قلبه و إن قلب المنافق من وراء لسانه لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه فإن كان خيرا ابداه و إن كان شرا واراه و إن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له و ما ذا عليه و لقد قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه و لا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» فمن استطاع منكم أن يلقى اللّٰه تعالى و هو نقي الراحة من دماء المسلمين و أموالهم سليم اللسان من اعراضهم فليفعل) شرع عليه السلام في النهي عن النفاق و ذلك في ضمن أمور:

1 - إياكم و تهزيع الاخلاق و تصريفها: تحذير من هدم الاخلاق و تغيرها عما هي عليه من آداب الشرع و السنن الصحيحة و من يفعل ذلك فهو منافق لأنه يتقلب حسب الأجواء فهو تارة يكون وفيا و أخرى غادرا و تارة صادقا و أخرى كاذبا و هكذا دواليك يلبس عدة أقنعة لكل ظرف قناعه الملائم له تاركا وراءه الاخلاق الإسلامية و آداب الإسلام...

2 - و اجعلوا اللسان واحدا: أ جعلوه في الخير دائما واحدا و لا تجعلوه متعددا كما هي حال المنافق الذي يمدح أخاه في حضرته و يأكله غائبا.. يظهر النصح في المشهد و يغشه في المغيب...

ففي الحديث عن أبي جعفر قال: بئس العبد عبدا يكون ذا وجهين و ذا لسانين يطري أخاه شاهدا و يأكله غائبا.

3 - و ليخزن الرجل لسانه: أي يحفظه عن التعدي به على الغير و يحفظه عن الثرثرة

ص: 147

و البذاءه و كل ما يؤذي و علل هذا النهي بأن اللسان إذا ترك و شأنه و لم يروضه على الخير و لم يمنعه عن الطعن فإنه سيجر صاحبه إلى الهلاك و يقضي عليه و قد شبهه بالفارس الذي لم يملك زمام فرسه فإنها تهلكه و ترديده و كذلك اللسان...

4 - أقسم أنه لا ينتفع متقي بتقواه إلا بحفظ لسانه لأن التقوى التامة الكاملة هي التي يحفظ فيها المرء لسانه عن كل ما يشين أو يحط من شأنه.

5 - رغب في التروي في الكلام و التفكر فيه و قرن ذلك بالإيمان كما نفر عن التسرع في الكلام و عدم التفكر فيه و قرن ذلك بالنفاق و قد جعل لسان المؤمن وراء قلبه بينما المنافق قلبه وراء لسانه و علل ذلك بأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام فكر فيه أولا و نظر في عواقبه و آثاره و نتائجه فإن كان ذلك في الخير تكلم به و أظهره و نطق به و إن رأى أن كلامه يؤدي إلى شر أو إلى معصية أو إثم اخفاه و لم يظهره أو يتكلم به...

و هذا عكس المنافق فإنه يرمي الكلام دون أن يتدبره و لا يدري هل هو لصالحه أو لغير صالحه ؟ و هل هو له أو عليه ؟ فيه إثم أم فيه طاعة... فيه منفعة أم فيه ضرر.. فهو في غفلة عن كل ذلك...

و استشهد أخيرا بالحديث الوارد عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بأن استقامة الإيمان من استقامة القلب و لا يستقيم القلب حتى يستقيم اللسان فالنتيجة أن سلامة الإيمان مرهونة بسلامة اللسان و لا اشكال أن من لوازم الإيمان هو سلامة اللسان فإذا لم يكن سالما فلا إيمان كامل.

ثم حثهم على أن يلاقوا اللّٰه و هم طاهرون انقياء الجيوب فمن استطاع منكم أن يلقى اللّٰه تعالى و لم يلطخ يديه بدماء المسلمين فليفعل... و كذلك من قدر على أن لا يظلم الناس في اموالها فليفعل... و كذلك من قدر على أن يلقى اللّٰه سليم اللسان من أعراض المسلمين فلا يتكلم عليهم و لا يشتمهم و لا يسبهم و لا يسيء إليهم فليفعل...

(و اعلموا عباد اللّٰه أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاما أول و يحرّم العام ما حرم عاما أول و أن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرّم عليكم و لكن الحلال ما أحل اللّٰه و الحرام ما حرّم اللّٰه) بيّن عليه السلام بطلان ما أحدث من آراء و نظريات كالاستحسان و القياس و المصالح المرسلة و غيرها قائلا أن ما ثبت حليته في أول الأمر يثبت حليته الآن و تستمر هذه الحلية، و ما ثبتت حرمته في أول الأمر تثبت حرمته الآن و لا يزال حراما و ما أحدث من نظريات و قواعد قياسية لا يجوز التعويل عليها و لا تستطيع أن تلغي حراما أو

ص: 148

تحرّم حلالا لأنها ساقطة عن الاعتبار غير معتد بها و يبقى الحلال ما أحله اللّٰه و الحرام ما حرمه اللّٰه...

(فقد جربتم الأمور و ضرستموها و وعظتم بمن كان قبلكم و ضربت الأمثال لكم و دعيتم إلى الأمر الواضح فلا يصم عن ذلك إلا أصم و لا يعمى عن ذلك إلا أعمى) بعد أن بيّن أن الحلال ما أحله اللّٰه و الحرام ما حرمه اللّٰه قال لهم إنكم اختبرتم الأمور و احكمتم معرفتها جيدا و عرفتم موارد الحلال و الحرام و ما يجوز و ما لا يجوز و وعظتم بمن كان قبلكم من أهل الكتاب الذين بدلوا و غيروا و انحرفوا بالنص حسب مصالحهم و ما يخدم اغراضهم و كيف أن اللّٰه أخذ المبتدعين الضالين و قد ضرب اللّٰه لكم الأمثال من أخذه لهم و أنتم الان دعيتم إلى الأمر الواضح و هي الأحكام الشرعية المنصوصة التي لا غبار عليها بدون قياس و لا رأى و لا استحسان و بعد هذا كله فلا يعمى إلا أعمى على الحقيقة و لا يصم إلا الأصم على الحقيقة فالجاهل المطلق الذي يستحق هذا الاسم هو الذي لا ينظر إلى هذه الأمور و لا يستمع الحقائق...

(و من لم ينفعه اللّٰه بالبلاء و التجارب لم ينتفع بشيء من العظة و أتاه التقصير من أمامه حتى يعرف ما انكر و ينكر ما عرف و إنما الناس رجلان متبع شرعة و مبتدع بدعة ليس معه من اللّٰه سبحانه برهان سنة و لا ضياء حجة) من لم ينتفع بما يمر عليه من المصائب و الأحداث و ما يعيشه من القضايا و الأمور و يجربه من الأشياء لم ينتفع بالموعظة القولية التي تروى له و تنقل إليه لأن الأولى أشد تأثيرا من الثانية لكونها تمسه بالذات و تمر عليه مباشرة.

و مثل هذا الإنسان الذي لم يستفد من تجربته الشخصية يأتيه التقصير من بين يديه من الأمور التي يعرفها فكيف بالأمور التي لم يعرفها و لم يجربها و عندها تتبدل قضاياه و تختلط الأمور في نظره فيتخيل أن ما انكره قد عرفه و ما عرفه قد انكره و هذا إشاره إلى غاية النقصان فإنه يكون قد حكم على غير بصيرة فيتخيل أن ما أنكره و جهله أنه عارف بحقيقته و تارة ينكر ما كان يعرفه و يحكم بصحته...

ثم قسم الناس و حصرهم في رجلين.

1 - رجل متبع شرعة أي يسير خلف الشرع و الدين فما جاء عن اللّٰه و عن رسوله يأخذ به و يتبعه دون أن يزيد فيه أو ينقص منه.

2 - و رجل مبتدع بدعة: قد أحدث في الدين ما ليس فيه و أدخل فيه ما هو خارج منه بدون حجة و لا دليل بل اختلقه من عنده و استحسنه من ذاته كأصحاب القياس

ص: 149

و الاستحسان و الرأي فإنهم اعتمدوا في ذلك على آرائهم الشخصية دون آية صريحة تدل على ذلك و لا حجة يعتمدون عليها...

(و إن اللّٰه سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن فإنه حبل اللّٰه المتين و سببه الأمين و فيه ربيع القلوب و ينابيع العلم، و ما للقلب جلاء غيره، مع أنه قد ذهب المتذكرون و بقي الناسون أو المتناسون) عاد عليه السلام يرغب في القرآن بذكر بعض خصائصه و منافعه.

1 - إنّ اللّٰه سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن: فإنه أبلغ موعظة تقرب هذا الإنسان من ربه و تشده إلى رحابه و هذه هي الغاية من الموعظة و هي موجودة فيه على الوجه الأكمل ثم يأتي بعده غيره...

2 - إنه حبل اللّٰه المتين: فمن تمسك به نجا من الضلال و الانحراف و أمن الفتنة و العذاب و وصفه بالمتانة من حيث أنه قوي لا ينقطع بمن تمسك به...

3 - أنه سببه الأمين: أنه السبب الموصل لهذا الإنسان إلى الجنة فلا يخونه أو يغدر به فيتركه دون بلوغ الغاية...

4 - فيه ربيع القلوب: فإن القلوب تحيا به و تنتعش عند ما تقرأه و تتحرك في أجوائه كما تحيا الأنعام برعي الربيع...

5 - و فيه ينابيع العلم: فهو مصدر العلوم النافعة المفيدة ففيه القواعد العامة لكل ما ينفع هذا الإنسان و يشده إلى اللّٰه...

6 - ليس للقلب جلاء غيره: فهو الذي يجلي القلب على الوجه الأكمل و يطهر النفس من ادران الحياة و ما علق بها.. إنه يرفع عن صفحة القلب كل ريب و شك و نفاق... إنه يجلي القلب من كل ما يتأثر به...

ثم أخيرا ذمهم لنسيانهم هذه الخصائص القرآنية المتقدمة أو لتناسيهم لها و لفت نظرهم إلى المتذكرين و أنهم قد قضوا و ذهبت أيامهم على عهد رسول اللّٰه...

(فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه و إذا رأيتم شرا فاذهبوا عنه فإن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم كان يقول: «يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشر فإذا أنت جواد قاصد) دعاهم إلى إعانة فاعل الخير في الخير إذا رأوا ذلك و أما إذا رأوا شرا فليبعدوا عنه و يتركوه ثم استشهد بحديث النبي الآمر بعمل الخير الناهي عن فعل الشر و رتب على ذلك أن القائم بهذا يكون أسرع إلى اللّٰه لأن طريقه مستقيم لا اعوجاج فيه و لا انحراف...

(ألا و إن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر و ظلم لا يترك و ظلم مغفور لا يطلب فأما.

ص: 150

الظلم الذي لا يغفر فالشرك باللّٰه قال اللّٰه تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » و أما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات و أما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا) قسم الظلم إلى ثلاثة أصناف:

1 - فظلم لا يغفر هو الشرك باللّٰه و استدل عليه بقوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » و أما كون الشرك ظلم فقد قال تعالى حكاية عن لقمان و هو يعظ ابنه: «لاٰ تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » فمن تاب عن الشرك و آمن غفر اللّٰه له و من أصر على الشرك و بقي عليه كان في النار.

2 - و ظلم يغفر و هو ما يرتكبه العبد في حق نفسه من الصغائر كحلقه لحيته في بعض الأوقات أو تقتيره على نفسه مع يساره أو كلمة مؤذية و هكذا.. و مراده بالهنات الأمور القبيحة و لعل ترك الكبائر مع القيام بالواجبات يكون مكفرا للصغائر كما قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ » .

3 - و ظلم لا يترك ظلم العباد بعضهم بعضا فللغير حق و لم يصل حقه إليه و بهذا وردت الأخبار...

(القصاص هناك شديد ليس هو جرحا بالمدى و لا ضربا بالسياط و لكنه ما يستصغر ذلك معه فإياكم و التلون في دين اللّٰه فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل. و إن اللّٰه سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا ممن مضى و لا ممن بقي) فإذا كان هناك ظلم عليه عقوبة و يطالب به الإنسان فليس القصاص عليه جرحا بالسكاكين و لا ضربا بالعصي فإن هذه تستصغر عند عذاب الآخرة.. إنه عذاب النار الذي يستصغر عنده كل عذابات الدنيا...

ثم نهى عن التلون في دين اللّٰه أي النفاق فيه فقد روي أنه بلغه أن بعضهم توقف في بيعته و بعضهم يهم بنكثها فأمرهم أن يلزموا طريقة واحدة في الدين و لا يعيشون النفاق المؤدي إلى الفرقة و لذا قال أن الاجتماع على الحق المكروه إليكم كالحرب مثلا خير لكم من الافتراق في الباطل المحبوب عندكم كمتاع الدنيا.

ثم تمم النهي عن الفرقة بأن اللّٰه لم يعط أحدا من السلف و لا من الخلف خيرا إذا افترقوا و بعبارة أخرى إن اللّٰه لم يعط أحدا خيرا مع الفرقة...

(يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس و طوبى لمن لزم بيته و أكل قوته و اشتغل بطاعة ربه و بكى على خطيئته فكان من نفسه في شغل و الناس منه في راحة)

ص: 151

عاد عليه السلام إلى ذكر نصائحه الثمينة و قد ذكر.

1 - طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس: فالخير كله لمن ترك عيوب الناس و لم يخض فيها و اشتغل بعيوب نفسه بأن نظر إليها و أخذ في اصلاحها و علاجها...

2 - طوبى لمن لزم بيته و أكل قوته و اشتغل بطاعة ربه و الخير أيضا لمن لم يقدر على معاشرة الناس بالحسنى فاعتزلهم في بيته و كف شره عنهم و أكل قوته الحلال و ليس اعراض الناس و اشتغل بطاعة ربه في عزلته و لم يشتغل في غيبة الناس و أكل لحومهم و إذا كان مخطئا ندم على الخطأ و بكى خوفا من عقاب اللّٰه و عذابه على هذه المعصية.

و بهذه الأعمال كان الناس منه في راحة فلا قال و لا قيل و لا عتاب و لا حساب و كان له مع نفسه شغل حيث يصلحها و يعدل مزاجها الأخلاقي و التربوي...

ص: 152

177 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في معنى الحكمين فأجمع (1) رأي ملئكم (2) على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يجعجعا (3) عند القرآن، و لا يجاوزاه (4)، و تكون ألسنتهما معه و قلوبهما تبعه (5)، فتاها (6) عنه، و تركا الحقّ و هما يبصرانه، و كان الجور (7) هواهما، و الاعوجاج (8) رأيهما. و قد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل و العمل بالحقّ سوء رأيهما و جور حكمهما. و الثّقة في أيدينا لأنفسنا، حين خالفا سبيل الحقّ ، و أتيا بما لا يعرف من معكوس (9) الحكم.

اللغة

1 - أجمع: القوم اتفقوا.

2 - الملأ: اشراف الناس و رؤساؤهم، الجماعة.

3 - جعجع: البعير إذا برك و يجعجعا عند القرآن يقيمان عنده و يحسبان انفسهما عليه.

4 - جاوزه: تعداه و تخطاه.

5 - التبع: التابع، المنقاد للشيء، و التابع السائر في أثره، اللاحق له.

6 - تاها: عنه عدلا عنه، ضلا.

7 - الجور: الظلم.

8 - الاعوجاج: الالتواء و عدم الاستقامة.

9 - المعكوس: المقلوب و عكس الكلام قلبه و الشيء رد آخره على أوله.

الشرح

(فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن و لا يجاوزاه و تكون ألسنتهما معه و قلوبهما تبعه فتاها عنه و تركا الحق و هما يبصرانه و كان

ص: 153

الجور هواهما و الاعوجاج رأيهما. و قد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل و العمل بالحق سوء رأيهما و جور حكمهما و الثقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحق و أتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم) هذا الكلام منه عليه السلام موّجه إلى الناس مبينا فيه دور الحكمين و ما أخذ عليهما في التحكيم و قد كان المحكّمة قد اتفق رأيهم على أن يقبلوا بالتحكيم و قالوا للإمام إما أن تقبل أو نقتلك كما قتلنا عثمان فقام الإمام بتوضيح الأمر لهم و بيان غدر معاوية و خدعه فلم يتنبهوا له و لم يستجيبوا لصوته الداعي إلى إكمال المعركة حتى نهايتها و في النهاية اجبروه على التحكيم و ليتهم إذا خدعوا في أصل التحكيم أن يتركوا له حرية اختيار الحكم الذي يفاوض من جانبه فقد اختار ابن عباس فرفض جماعتهم ذلك و قالوا: لا نبالي كنت أنت أم ابن عباس ؟.. فأشار عليهم بالأشتر فرفضوا و قالوا: و هل سعّر علينا الأرض إلا الأشتر؟ فألزموه بأبي موسى الأشعري الذي خذل الناس عنه في الكوفة عند ما بعث الإمام إلى أهلها يدعوهم إلى ملاقاته لحرب أصحاب الجمل.. و قال الإمام كلمته: «لقد جاؤني بأبي موسى مبرنسا» فقد فرضوه و هو ليس عنده برضى.

و لما رأى الإمام أن القوم اجمعت كلمتهم على أن يختاروا الحكمين عمرو بن العاص و أبا موسى الأشعري أخذ عليهما أمرا و اشترط عليهما شرطا و هو أن يقفا عند القرآن و يحبسا انفسهما عليه و لا يتعدياه فتكون ألسنتهما معه و قلوبهما تابعة له.. يحلّلان ما أحلّ و يحرمان ما حرم و قد كانت مهزلة تاريخية تحولت إلى سبّة عليهما فقد اتفقا على خلع الإمام و معاوية و قد كان عمرو يخّبىء في نفسه أمرا حتى قدّم أبا موسى فخلعهما معا و قام عمرو فخلع عليا و أثبت معاوية و دارت الشتائم فرمى أبو موسى عمروا بأن مثله مثل الكلب و قام عمرو فرمى أبا موسى «بأن مثله مثل الحمار» و بين الكلب و الحمار ضاعت الأمة و تشتت أمرها و تفرق جمعها...

و الإمام بعد أن يشترط عليهما العمل بالكتاب و السنة و أن لا يتعديا عنهما و كان من أمرهما ما كان قال للناس: أنهما قد ضلا و تركا الحق و هما على علم به فإن من حقهما أن يدعوا معاوية إلى الطاعة و الالتزام بالجماعة و أن يبايع للخليفة الشرعي الذي انعقدت له الولاية باتفاق أهل الحل و العقد الذين بايعوا من تقدمه من الخلفاء... و لكنهما عدلا عن الحق و ظلما و على كل حال لقد سبق شرطنا الذي شرطناه حكمهما الذي حكما به فقد اشترط عليهما الحكم بالعدل و العمل بالحق و لكنهما لم يعملا فسقط حكمهما لأنه كان مشروطا بما اخذنا عليهما من الشرط... و من هنا بأيدينا و ثيقة واضحة تدعمنا و تقوّي موقفنا في رد ما حكما و خالفا فيه الحق و ما أتيا من حكم معكوس جائر لا يتفق و ما اشترطنا عليهما...

ص: 154

178 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في الشهادة و التقوى. و قيل: إنه خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته

اللّٰه و رسوله

لا يشغله شأن (1)، و لا يغيّره (2) زمان، و لا يحويه مكان، و لا يصفه لسان، و لا يعزب (3) عنه عدد قطر الماء و لا نجوم السّماء، و لا سوافي (4) الرّيح في الهواء، و لا دبيب (5) النّمل على الصّفا (6)، و لا مقيل (7) الذّرّ (8) في اللّيلة الظّلماء (9). يعلم مساقط (10) الأوراق، و خفيّ طرف (11) الأحداق (12). و أشهد أن لا إله إلاّ اللّٰه غير معدول به (13)، و لا مشكوك فيه، و لا مكفور (14) دينه، و لا مجحود (15) تكوينه (16)، شهادة من صدقت نيّته، وصفت (17) دخلته (18) و خلص (19) يقينه، و ثقلت (20) موازينه. و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله المجتبى (21) من خلائقه (22)، و المعتام (23) لشرح حقائقه، و المختصّ بعقائل (24) كراماته، و المصطفى لكرائم رسالاته، و الموضّحة (25) به أشراط (26) الهدى، و المجلوّ به غربيب (27) العمى.

أيّها النّاس، إنّ الدّنيا تغرّ المؤمّل لها و المخلد إليها (28)، و لا تنفس (29) بمن نافس فيها، و تغلب من غلب عليها. و ايم اللّٰه، ما كان قوم قطّ في غضّ (30) نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها (31)، لأنّ اللّٰه ليس «بظلاّم للعبيد». و لو أنّ النّاس حين تنزل بهم النّقم (32)، و تزول عنهم النّعم، فزعوا (33) إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم، و وله (34) من قلوبهم، لردّ

ص: 155

عليهم كلّ شارد (35)، و أصلح لهم كلّ فاسد. و إنّي لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة (36). و قد كانت أمور مضت ملتم (37) فيها ميلة، كنتم فيها عندي غير محمودين، و لئن ردّ عليكم أمركم إنّكم لسعداء و ما عليّ إلاّ الجهد (38)، و لو أشاء أن أقول لقلت: عفا اللّٰه عمّا سلف!

اللغة

1 - شأن: حال، أمر.

2 - غيّره: حوّله و بدله.

3 - لا يعزب: لا يخفى و لا يغيب.

4 - السوافي: التي تسفي التراب أي تذريه و سفت الريح التراب ذرته.

5 - دبيب: النمل حركته التي هي في غاية الخفاء، المشي البطيء.

6 - الصفا: الحجر الأملس.

7 - المقيل: الاستراحة.

8 - الذر: صغار النمل.

9 - ليلة ظلماء: شديدة الظلام.

10 - مساقط: محلات السقوط و الهبوط.

11 - الطرف: بسكون الراء الحركة و طرف العين تحريك جفنها.

12 - الاحداق: العيون.

13 - عدل باللّٰه: جعل له مثلا و عديلا و غير معدول به غير مسّوى بينه و بين أحد.

14 - المكفور: المستور.

15 - مجحود: من الجحد و هو الانكار، الكفر.

16 - تكوينه: خلقه.

17 - صفت: نقت و طهرت.

18 - الدخلة: بكسر الدال باطن الأمر و يجوز بالضم.

19 - خلص: يقينه صفى و لم يبق فيه شك.

20 - ثقلت: ضد خفّت.

21 - المجتبى: المصطفى.

22 - الخلائق: الناس، ما خلقه اللّٰه.

23 - المعتام: المختار.

ص: 156

24 - العقائل: الكرائم و نفايس الشيء.

25 - الموضحّة: المبينة.

26 - اشراط: الهدى علاماته و دلائله.

27 - الغربيب: الأسود الشديد السواد.

28 - المخلد: الراكن المائل.

29 - لا تنفس: لا تبخل و لا تضن.

30 - الغض: الناضر، الطري.

31 - اجترحها: اكتسبها و اجترح الذنب إذا ارتكبه و فعله.

32 - النقم: العقوبات.

33 - فزع إليه: لجأ إليه و استغاثه.

34 - الوله: كالتحيّر يحدث عند الخوف أو الوجد.

35 - الشارد: الذاهب.

36 - الفترة: كناية عن جهالة الغرور.

37 - ملتم: عن الطريق حدتم عنه و تركتموه و مال الحائط زال عن استوائه.

38 - الجهد: بالضم الطاقة.

الشرح

(لا يشغله شأن و لا يغيّره زمان و لا يحويه مكان و لا يصفه لسان و لا يعزب عنه عدد قطر الماء و لا نجوم السماء و لا سوافي الريح في الهواء، و لا دبيب النمل على الصفا و لا مقيل الذر في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق و خفي طرف الأحداق) ابتدأ عليه السلام بتنزيه اللّٰه و تعظيمه و ذكر بعض أوصافه و هي.

1 - لا يشغله شأن: لا يشغله أمر عن أمر و ذلك لأن الشغل عن الشيء وليد أحد امرين أما لقصور القدرة أو لقصور العلم و اللّٰه سبحانه كله علم و قدرة و علمه و قدرته محيطان بكل شيء(1)«رَبَّنٰا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً» .

2 - و لا يغيره زمان: و كيف يغيره الزمان أو يبدّله و هو خالق الزمان فإنه واجب الوجود و من صفاته عدم التغيير.

3 - و لا يحويه مكان: لأنه لو كان في مكان لكان جسما و اللّٰه منزه عن الجسمية

ص: 157


1- سورة غافر، آية - 7.

لأنها من صفات الممكن و خواصه.

4 - و لا يصفه لسان: لا يقدر لسان على وصف كنهه لأن اللسان يصف ما يتصور الإنسان و تصورات الإنسان مأخوذة من المشاهدات و اللّٰه منزه عن كل ذلك لأنه ليس كمثله شيء فكل صورة تخيلتها مغايرة للحقيقة...

5 - لا يعزب عنه عدد قطر الماء و لا نجوم السماء و لا سوافي الريح في الهواء و لا دبيب النمل على الصفا و لا مقيل الذر في الليلة الظلماء يعلم مساقط الأوراق و خفي طرف الأحداق: هذا اشارة إلى عموم علمه المحيط بكل هذه الجزئيات الدقيقة فهو يعلم:

أ - يعلم عدد قطر الماء النازل من السماء و الموجود في البحار و في كل مكان...

ب - يعلم نجوم السماء السيارة منها و المستقرة الظاهرة و الخافية..

ج - يعلم سوافي الريح في الهواء أي الرياح التي تسفي الهواء و تحركه..

د - يعلم تحركات النمل على الحجارة الملساء يعلم آثارها التي تتركها و لا ترى.

ه - يعلم مساكن و مستقر النمل الصغير في الليلة الحالكة السواد حيث لا يعلم بذلك إلا هو.

و - يعلم مكان سقوط الأوراق و محلها و زمانها و بأي سبب يكون قال تعالى:

«وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا وَ لاٰ حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ » .

ز - يعلم خفي طرف الأحداق: أي حركات العيون في انطباقها و هل هي في حلال أم حرام قال تعالى: «يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مٰا تُخْفِي اَلصُّدُورُ» ...

(و اشهد أن لا إله إلا اللّٰه غير معدول به و لا مشكوك فيه و لا مكفور دينه و لا مجحود تكوينه شهادة من صدقت نيته و صفت دخلته و خلص يقينه و ثقلت موازينه) هذه الشهادة بكلمة التوحيد و اتبعها بوحدانية اللّٰه في أمور.

1 - أشهد أن لا إله إلا اللّٰه غير معدول به: لا شبيه له و لا نظير و لا عديل أو مثيل.

2 - و لا مشكوك فيه فإن الشك كفر و هو ينافي التوحيد.

3 - و لا مجحود تكوينه: فإن من ينكر صنع اللّٰه ينسب النقص إليه و هو منزه عن ذلك فإنها كلها تنطق بصنعه و خلقه.

ص: 158

4 - شهادة من صدقت نيته أي معتقدا بما أشهد اعتقادا يقينا جزما و صفت دخيلته أي كانت شهادة صادقة لا رياء فيها و لا نفاق و كذلك تكون شهادة كاملة تامة تثقل بها الموازين يوم العرض و الحساب...

(و أشهد أن محمدا عبده و رسوله المجتبى من خلائقه و المعتام لشرح حقائقه و المختص بعقائل كراماته و المصطفى لكرائم رسالاته و الموضحة به اشراط الهدى و المجلوبه غربيب العمى) بعد أن ذكر شهادة التوحيد اتبعها بأختها الشهادة لمحمد بالرسالة و قد وصف النبي بأوصاف.

1 - عبده و رسوله المجتبى من خلائقه فهو عبد اللّٰه و العبودية للّٰه اسمى مرتبة و لذا قال سبحانه «سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ » و قال: «وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ» .. «وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا أَيُّوبَ » .

و أيضا فهو رسول من قبل اللّٰه لهذا الإنسان يحمل إليه خطاب اللّٰه و كلامه و هو الرسول الذي اصطفاه اللّٰه و اختاره من بين خلقه لحمل كلامه و إداء رسالته.

2 - إنه المعتام لشرح حقائقه: اختاره اللّٰه من أجل أن يشرح حقائق العقائد و أصول الشرائع و هذه صفة النبي.

3 - اختصه اللّٰه بعقائل كراماته: خصه اللّٰه بنفائس الأخلاق و الآداب حتى خاطبه ربه «وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ » .

4 - المصطفى لكرائم رسالاته: فاللّٰه قد اختاره و اصطفاه لحمل أعظم رسالات السماء لأنها الرسالة الخاتمة التي لا رسالة بعدها.

5 - الموضحة به اشراط الهدى: برسول اللّٰه ظهرت علامات الهدى، بقوله و فعله و تقريره تبينت المناهج المستقيمة للهدى.

6 - و المجلوبه غربيب العمى: تنكشف برسول اللّٰه ظلمات الجهل و الضلال و قد استعار لفظة الغربيب لشدة سواد الجهل، فأنوار النبوة كشفت تلك الظلمات...

(أيها الناس: إن الدنيا تغّر المؤمل لها و المخلد إليها و لا تنفس بمن نافس فيها و تغلب من غلب عليها) تنبيه للناس و تحذير لهم من الدنيا و قد ذكر لها بعض أوصافها المبعدة عنها فإنها تغر المؤمل لها و المخلد إليها فمن أمل أمرا سعى إليه و قد لا يدركه طول عمره و قد يفتح لإدراكه الأبواب المقفلة أو غير الجائزة فهي تغره بهذا الأمل و تدفعه لتحقيقه...

ص: 159

إنها الدنيا لا تضن أو تبخل بمن نافس فيها و قاتل عليها و نازع في تحصيلها بل ترميه بسهام غدرها و تقضي عليه دون أن تحفظه من نوائبها فهو يبخل بها و يقاتل من أجلها و هي ترميه بمصائبها.

و من غلب الرجال على الدنيا و قهرهم و استولى على دولهم فإنها ستقهره و تنتصر عليه و تذيقه الموت...

(و أيم اللّٰه ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها لأن اللّٰه ليس بظلام للعبيد) أقسم عليه السلام أنه لم يكن قوم قط فيما مضى و الآن و ما سيأتي في نعمة ناعمة و عيش رغيد فزال عنهم ذلك إلا بذنوب فعلوها و ارتكبوها فإن الذنوب تزيل النعم و اللّٰه ليس بظلام للعبيد فهو لا يزيل نعمة عن قوم استحقوها و كانوا أهلا لها لأن ذلك يعد ظلما منه و حاشاه من الظلم إذن فهم بأيديهم أوجبوا زوالها لارتكابهم الذنوب و هذا قانون طبيعي و سنن كونية جعلها اللّٰه في الكون.. و هذا يدل على وجوب شكر النعم بوضعها في موضعها و عدم ارتكاب الحرام حتى لا يعرضها للزوال.

(و لو أن الناس حين تنزل بهم النقم و تزول عنهم النعم فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم و وله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد و أصلح لهم كل فاسد) بعد أن بين أن النعم تزول بالذنوب علّمهم كيف تعود إليهم و عودها يكون بالعودة إلى اللّٰه فحين تنزل العقوبات و القصاص و تزول النعم يفروا إلى اللّٰه و ينقطعوا إليه بقلوب صافية طاهرة و نوايا كريمة نقية فإنه يرد عليهم ما ذهب من النعم و يصلح لهم ما فسد من أمورهم و ما وقعوا فيه من فوضى و اضطراب و سوء حال.. فإن عادوا إليه بصدق نية عاد عليهم بالعطاء و الكرم...

(و إني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة و قد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين و لئن رد عليكم أمركم إنكم لسعداء و ما علي إلا الجهد و لو أشاء أن أقول لقلت: عفا اللّٰه عما سلف) هذا تعريض بالمخاطبين لعلهم يلتفتوا إلى انفسهم فيصلحوها اخشى عليكم و أخاف إن تكونوا في زمن جاهلية و أيام ضلال بحسب ما تتعصبون إليه و ما تمشون خلفه من أهواء...

ثم نبههم إلى بعض أخطائهم و لفت انظارهم إلى أنه كانت هناك أمور مضت انحرفتم فيها انحرافة لم تكونوا محمودين عندي و قال ابن أبي الحديد أن الأمور التي مالوا فيها عليه اختيارهم عثمان و عدولهم عنه يوم الشورى.. أقول و لكن الكلام مطلق فيشمل يوم السقيفة بدون شك ثم اغمض النظر عن ذلك و لئن رد عليكم أمركم و رجعتم

ص: 160

كما كنتم على عهد رسول اللّٰه من الخير و الصلاح لفزتم و سعدتم...

ثم بيّن أنه لو أراد أن يشرح المظالم و المفاسد التي حصلت نتيجة هذا الانحراف السابق لفعل و ذلك يطول و يغري القلوب و لكن سيغضي عنها و حساب الظالمين على اللّٰه و ما اللّٰه بغافل عما يعمل الظالمون...

ص: 161

179 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى ؟ فقال: و كيف تراه ؟ فقال:

لا تدركه العيون بمشاهدة (1) العيان (2)، و لكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين (3)، متكلّم لا برويّة (4)، مريد لا بهمّة (5)، صانع لا بجارحة (6). لطيف (7) لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء (8)، بصير لا يوصف بالحاسّة، رحيم لا يوصف بالرّقّة. تعنو (9) الوجوه لعظمته، و تجب القلوب (10) من مخافته.

اللغة

1 - المشاهدة: الرؤية.

2 - العيان: المشاهدة بالعين.

3 - المباين: المفارق و المباعد.

4 - الرؤية: التفكر.

5 - الهمة: الاهتمام بالأمر بحيث لو لم يفعل لجر نقصا و أوجب هما.

6 - الجارحة: العضو.

7 - اللطيف: غير المحسوس.

8 - الجفاء: الغلظة و الخشونة.

9 - تعنو: تخضع، و تذل.

10 - تجب: تضطرب و ترجف.

الشرح

(لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من

ص: 162

الاشياء غير ملابس بعيد منها غير مباين متكلم لا بروية مريد لا بهمة صانع لا بجارحة لطيف لا يوصف بالخفاء كبير لا يوصف بالجفاء بصير لا يوصف بالحاسة رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته و تجب القلوب من مخافته) هذا الكلام يتضمن تنزيه اللّٰه عن الرؤية البصرية و هو جواب عن سؤال هذا الرجل الذي سأله: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى ؟.

فقال: و كيف تراه ؟.

فقال عليه السلام لا تدركه العيون بمشاهدة العيان إنه ينزّه عن أن تدركه العيون بالمشاهدة و الرؤية لأنها بما تحمل من قصور لا ترى إلا ما كان جسما تشاهده و يكون جرما يقع عليه النظر و اللّٰه سبحانه ليس بجسم و لا مادة و لا يقع تحت النظر...

و بعد أن نفى رؤيته البصرية أثبت له الرؤية عن طريق الإيمان به بالبراهين التي قامت على وجوده و دلت عليه فإن الآثار شاهدة بوجود مؤثر و خالق و هو اللّٰه و قد استدل البدوي ببساطته و عفويته على اللّٰه بما عنده عند ما قال: البعرة تدل على البعير و أثر الأقدام يدل على المسير أسماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج أفلا يدلان على اللطيف الخبير...

ثم وصفه بأوصاف عدة:

1 - فهو سبحانه قريب من الأشياء غير ملابس قريب من الأشياء قربا معنويا مسلطا عليها سلطة قهر و استعلاء و قدرة و قريب منها باعتباره يعلم بها و بما يجري عليها و هي تحت قدرته يصرفها كيف يشاء...

2 - بعيد منها غير مباين فهو غيرها في الذات و بعيد منها و في نفس الوقت ليس مغاير لها من جهة إنها تحت سلطانه و قدرته...

3 - متكلم لا بروّية: تنزيه له عما هو عند الخلق فإن من أراد أن يتكلم في أمر لا بد و أن يتدبر و يفكر فيه و يمعن النظر في آثاره و اللّٰه سبحانه لا يقع تحت هذه الاعتبارات لأنها وليدة الإمكان و العجز و اللّٰه غني واجب الوجود يخلق الكلام بدون هذه المقدمات...

4 - مريد لا بهمة: إذا أراد أمرا قال له كن فيكون و لا يحتاج إلى اهتمام و نظر في الأمور و تدبر عواقبها حتى يريد...

5 - صانع لا بجارحة: نفى عما عليه الناس فإن من أراد نقل متاع احتاج إلى جوارحه كي يرفعه و ينقله.. و من أراد صنع كوز احتاج إلى يديه و الوسائل التي تساعده

ص: 163

على ذلك و اللّٰه منزه عن ذلك بل بكلمة «كن» فيكون...

6 - لطيف لا يوصف بالخفاء: لا يقع تحت النظر و ذاته لا تقبل الرؤية و مع ذلك لا يصح أن يوصف بأنه خفي لأنه في كل شيء ظاهر و مع كل شيء بيّن و هو دليل على كل أمر...

7 - كبير لا يوصف بالجفاء، فهو كبير جلالا و عظمة و منزلة و لكن ليس على حد سلاطين الدنيا و عظمائها الذين يملكون طبيعة خشنة قاسية فظة غليظة...

8 - بصير لا يوصف بالحاسة: فهو يرى الأمور كما هي قبل أن توجد و بعد أن توجد و لكن ليس بحاسة بصرية كما هي عند الإنسان بل بصير بها باعتبار علمه بها و احاطته بشئونها...

9 - رحيم لا يوصف بالرقة: فهو رحيم يدل الإنسان على ما ينفعه و يرشده إلى ما يصلحه و يأخذ بيده إلى الصراط المستقيم و إلى الجنة النعيم و لكن ليس بما هو معهود من الرحمة عند الناس التي تعني رقة القلب و العاطفة و انكسارهما بل رحمته أن يفعل كل ما يقرب هذا الإنسان من اللّٰه...

10 - تعنو الوجوه لعظمته و تجب القلوب من مخافته: تخضع الوجوه بالسجود لعظمته و جلاله و كبريائه إذ هو اللّٰه واجب الوجود «وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ » و منه ترتجف القلوب و تضطرب فإنها عند ما تستحضر عظمته و قدرته تخاف منه و تفزع من غضبه و سلطانه...

ص: 164

180 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في ذم العاصين من أصحابه أحمد اللّٰه على ما قضى (1) من أمر، و قدّر من فعل، و على ابتلائي (2) بكم أيّتها الفرقة (3) الّتي إذا أمرت لم تطع، و إذا دعوت لم تجب. إن أمهلتم (4) خضتم (5)، و إن حوربتم خرتم (6). و إن اجتمع النّاس على إمام طعنتم (7)، و إن أجئتم (8) إلى مشاقّة (9) نكصتم (10). لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بنصركم و الجهاد على حقّكم ؟ الموت أو الذّلّ لكم ؟ فو اللّٰه لئن جاء يومي - و ليأتينّي - ليفرّقنّ بيني و بينكم و أنا لصحبتكم قال (11)، و بكم غير كثير. للّٰه أنتم! أما دين يجمعكم! و لا حميّة (12) تشحذكم (13)! أو ليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة (14) الطّغام (15) فيتّبعونه على غير معونة (16) و لا عطاء، و أنا أدعوكم - و أنتم تريكة (17) الإسلام، و بقيّة النّاس - إلى المعونة أو طائفة من العطاء (18)، فتفرّقون عنّي و تختلفون عليّ (19)؟ إنّه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه، و لا سخط (20) فتجتمعون عليه، و إنّ أحبّ ما أنا لاق إليّ الموت! قد دارستكم (21) الكتاب، و فاتحتكم (22) الحجاج (23)، و عرّفتكم ما أنكرتم، و سوّغتكم (24) ما مججتم (25)، لو كان الأعمى يلحظ، أو النّائم يستيقظ! و أقرب بقوم (26) من الجهل باللّٰه قائدهم معاوية! و مؤدّبهم ابن النّابغة (27)!.

ص: 165

اللغة

1 - قضى: قدر، و قضى الشيء صنعه بإحكام و قدره.

2 - ابتلائي: امتحاني و اختباري.

3 - الفرقة: الطائفة.

4 - امهلتم: أخرتم و اهملتم خليتم و تركتم.

5 - خضتم: دخلتم في الباطل.

6 - خرتم: ضعفتم و جبنتم.

7 - طعنتم: عبتم و قد حتم فيه و طعن في أعراض الناس إذا شتمهم.

8 - أجئتم: الجئتم.

9 - المشاقة: المقاطعة و المصارمة.

10 - نكصتم: احجمتم و رجعتم القهقرى.

11 - القالي: المبغض الكاره.

12 - الحمية: الانفة.

13 - شحذت النصل: أحددته و شحذ السكين حددها.

14 - الجفاة: جمع جاف أي غليظ.

15 - الطغام: بالفتح اراذل الناس.

16 - المعونة: يسير من المال يرسم لترميم الاسلحة و اصلاح الدواب و هو غير العطاء.

17 - التريكة: بيضة النعام تتركها بعد أن يخرج منها الفرخ.

18 - العطاء: هو الراتب الشهري و يكون مقدرا يصرف في مؤنة العيال و قضاء الدين و ثمن الأقوات.

19 - تختلفون علي: لا تتوافقون عليّ و لا تجتمعون.

20 - السخط: الغضب.

21 - دارستكم: قرأت عليكم.

22 - فاتحتكم: حاكمتكم و قاضيتكم.

23 - الحجاج: المجادلة.

24 - سوغتكم: جعلتكم تستسيغونه أي جعلته لكم سائغا مقبولا سهلا.

25 - مججتم: من مجّ الشيء من فمه إذا رمى به و القاه.

26 - أقرب بهم: ما أقربهم.

27 - ابن النابغة: عمرو بن العاص و أمه اسمها النابغة و كانت بغية من بغايا الجاهلية.

ص: 166

الشرح

(أحمد اللّٰه على ما قضى من أمر و قدر من فعل و على ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع و إذا دعوت لم تجب إن امهلتم خضتم و إن حوربتم خرتم و إن اجتمع الناس على إمام طعنتم و إن أجئتم إلى مشاقة نكصتم) هذه الخطبة يذم بها أصحابه لعدم طاعتهم له و يذكر بعض مواقفهم السيئة و ما هم فيه من العادات القبيحة...

ابتدأ بحمد اللّٰه على ما شرّع من أمر و على ما أمضى من فعل، فله الحمد على أوامره و على أفعاله، تشريعا و تكوينا.

و حمده أيضا على امتحانه بأصحابه لأن في هذا الامتحان علو منزلة له نتيجة صبره، و شرح ابتلاءه بهم فإنهم إذا أمرهم بفعل لم يطيعوا الأمر و إذا دعاهم إلى جهاد أو مكرمة لم يجيبوا أو يلبوا النداء...

و بيّن بعض صفاتهم و إنهم إن أمهلوا و تركوا و شأنهم خاضوا في الضلال و الباطل بدل أن يفكروا فيما امهلوا من أجله.

و إن حوربتم فشّن أعداؤكم عليكم الحرب ضعفتم و جبنتم عن مواجهتهم و قد كان معاوية يرسل الكتائب إلى أطراف البلاد التي تحت حكم الإمام فلم يكن يتحرك أحد منهم أو تأخذهم غيرة أو حمية للدفاع عن كرامتهم و وجودهم...

و كذلك من صفاتهم أن الناس إذا اجتمعوا على إمام و التفوا عليه ليجاهد بهم و يرفع الذل عنهم طعنوا في الإمام و في الاجتماع و أخذوا في تخذيل الناس عنه و تفريقهم عن الاجتماع حوله...

و كذلك إذا الجئتم و قهرتم على مقاطعة عدو لكم لم تفعلوا بل رجعتم إليه بالاتصال و بقيت العلاقة بينكم و بينه قائمة و المحبة دائمة...

(لا أبا لغيركم ما تنتظرون بنصركم و الجهاد على حقكم ؟ الموت أو الذل لكم ؟ فو اللّٰه لئن جاء يومي - و ليأتيني - ليفّرقن بيني و بينكم و أنا لصحبتكم قال و بكم غير كثير) لا أبا لغيركم تلطفا منه وجّه الدعاء عنهم إلى غيرهم و إن قصدهم بأنفسهم ثم استفهم على نحو التوبيخ و التقريع لهم بأنهم لما ذا يتأخرون عن الانتصار لانفسهم و الجهاد في سبيل حقهم المهدور إن انتظارهم لا بد و أن يؤدي بهم إلى أحد أمرين كل منهما قبيح إما الموت على الفراش أو الوقوع بيد الأعداء أذلاء و الثاني أشد و أصعب من الموت عند الكرام...

ص: 167

ثم أقسم باللّٰه قسما صادقا إن جاء يومه يوم وفاته الذي قدره اللّٰه على عباده و هو قادم لا محالة سوف يفرق الموت بيني و بينكم و لن نجتمع أبدا في الآخرة لأن أهدافنا متباينة و غاياتنا متفرقة فكيف يجتمع من أراد اللّٰه مع من أراد الشيطان و إذا جاء الموت جاء و أنا مبغض لصحبتكم كاره لها لأنها صحبة فيها ذل و عار و بكم غير كثير لأنهم ضعفاء أذلاء أصحاب أفعال قبيحة لا يقوون ضعيفا و لا يشدون أزر محتاج فهم بعددهم الكثير في حكم العدم و اللاشيء لعدم الأثر بوجودهم...

(للّٰه أنتم أما دين يجمعكم و لا حمية تشحذكم أو ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة و لا عطاء و أنا أدعوكم و أنتم تريكة الإسلام و بقية الناس إلى المعونة أو طائفة من العطاء فتتفرقون عني و تختلفون عليّ إنه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه و لا سخط فتجتمعون عليه) للّٰه أنتم كلمة تقال للتعجب و المدح و لكنها هنا للذم و الإهانة بقرينة ما بعدها و هو الاستفهام الانكاري التوبيخي...

(أما دين يجمعكم و لا حمية تشحذكم) و الإنسان يدفعه الدين للوقوف في وجه العدو أو الكرامة و العزة و هو عليه السلام يستنكر عليهم قعودهم و تكاسلهم قائلا لهم:

أما لكم دين يجمعكم و يوحّد صفوفكم و يدفعكم لقتال عدوكم و لا حمية و غيرة على كرامتكم تجعلكم أقوياء و تشدّ هممكم لقتال معاوية...

ثم استنكر التفاوت الذي يقع بينه و بين معاوية و بين جماعته و جماعة معاوية استنكر توبيخا لهم لما يقدمه لهم و ما يخدمهم به و هم لا يقابلون ذلك إلا بالابتعاد عنه و التمرد على أمره على عكس معاوية و مسيرته في اتباعه...

أو ليس عجبا بل اعجب العجب أن معاوية يدعو أعراب أهل الشام و سفلتهم للالتحاق به و قتال عدوه فيتبعونه استجابة لأمره و تحقيقا لطلبه دون معونة منه لهم أو عطاء و ذلك لأن معاوية لم يعط إلا الرؤساء و الوجهاء و الزعماء فكان هؤلاء يحركون من قبلهم و يأتمرون بأمرهم.

بينما أنا أدعوكم و قد ترككم الإسلام للحفاظ عليه و الدفاع عنه و الجهاد من أجله و أنتم بقية أولئك الصحابة النجباء الذين فدوا الدين بنفوسهم فيجب أن تندفعوا في الحفاظ عليه.. فأنا أدعوكم و أقدم لكم المعونة للسلاح و الدواب و أعطيكم طائفة من العطاء لكل واحد حقه حتى يتقوت به و يسد حاجته و مع ذلك تتفرقون عني و تختلفون عليّ بالمنكر و الايذاء و العصيان...

و أي عجب أعجب من جماعة معاوية يسيرون خلفه دون معونة أو عطاء إلا ما

ص: 168

يصل إلى الرؤساء بينما أنا أعطيكم جميعا و تتفرقون عني و لا تسمعون كلامي...

ثم أشار إلى أنهم لا يرضون منه بحال و لا يجمعهم أمر قط فإذا صدر منه أمر من حقه أن يجتمع عليه الناس لم يجتمعوا عليه كالعطاء فإن الزعماء و الوجهاء كانوا يتمردون و يتذمرون و يشعرون بالغبن لمساواته لهم مع بقية الناس.

و كذلك إذا صدر منه أمر يسخطون منه فإنهم أيضا لا يجتمعون كلهم على سخطهم له كما لو أمرهم بالحرب فلا يجمعهم رضا و لا يجمعهم سخط...

(و إن أحب ما أنا لاق إليّ الموت) هذه هي نهاية الأحرار يتمنون أن يتجرعوا كأس المنية و لا يرون هذه الحثالات البشرية تتمرد عليهم أو لا تستجيب لهم فيما يحيهم و يعزّهم و يكرمهم.. إنه الموت أطيب و أحلى من العيش بين قوم لا يعرفون مصالحهم و لا يسعون وراءها و لا يستجيبون للرواد منهم الذين ادركوا الأمور على حقائقها و على وجهها الصحيح...

(قد دارستكم الكتاب و فاتحتكم الحجاج و عرفتكم ما أنكرتم و سوغتكم ما مججتم لو كان الأعمى يلحظ أو النائم يستيقظ) هذا توبيخ لأصحابه و بيان أنه لم يقصر في حقهم فقد ابتدأ بكتاب اللّٰه فعلمهم إياه و أوضحه أمامهم و بينّ احكامه و مفاهيمه و ما فيه من نور و هدى و كنوز، و قد فتح امامهم باب الحوار و ألزمهم بالحجج التي لم يستطيعوا أن يردوا عليها أو يجيبوا على واحدة منها، و كل ما انكروه عليه قد أوضحه لهم و بين وجهه و صحته و صحة ما يذهب إليه، و كذلك كل الأمور التي كنتم لا تقبلون بها و ترفضونها و تردون عليها قد بينها لكم حتى ظهر وجه الحق فيها و وجه الصواب في السير خلفها و لو كنتم عقلاء اصحاء لقبلتم ما أقول لكم.. و لكن أنّى للأعمى أن يبصر النور و أنّى للنائم أن يعرف ما يدور حوله... إنكم لا تنتفعون بكل المواعظ و الارشادات و لن تفيدكم كل الوسائل و الطرق لأنكم تسيرون وراء أهوائكم و خلف شهواتكم...

(و أقرب بقوم من الجهل باللّٰه قائدهم معاوية و مؤدبهم ابن النابغة) هذا ذم لأهل الشام و قيادتهم الفاسدة الضالة و إن من كان معاوية قائدهم و مسّير أمورهم و موّجه سياستهم و من كان ابن النابغة مؤدبهم فليس هناك أشد منهم قربا من الجهل باللّٰه و البعد عن ساحته و التنكر لأحكام دينه و عدوله عليه السلام عن ذكر اسم عمرو بن العاص صريحا إلى ذكر أمه و تسميته «ابن النابغة» كما هو المشهور إنما كان تحقيرا له و تذكيرا بخسته و دناءته لأن أم عمرو بن العاص معروفة إنها من البغايا و نسبه مطعون فيه كما يذكر ذلك أصحاب التواريخ و علماء الأنساب...

ص: 169

181 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد أرسل رجلا من أصحابه، يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة، قد هموا باللحاق بالخوارج، و كانوا على خوف منه عليه السلام، فلما عاد إليه الرجل قال له: «أ أمنوا (1) فقطنوا (2)، أم جبنوا فظعنوا (3)؟ فقال الرجل: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين. فقال عليه السلام:

«بعدا (4) لهم كما بعدت ثمود (5)»! أما لو أشرعت (6) الأسنّة (7) إليهم، و صبّت (8) السّيوف على هاماتهم (9)، لقد ندموا على ما كان منهم. إنّ الشّيطان اليوم قد استفلّهم (10)، و هو غدا متبرّىء منهم، و متخلّ (11) عنهم.

فحسبهم بخروجهم من الهدى، و ارتكاسهم. (12) في الضّلال و العمى، و صدّهم (13) عن الحقّ ، و جماحهم (14) في التّيه (15).

اللغة

1 - أمنوا: اطمأنوا.

2 - قطنوا: أقاموا.

3 - ظعنوا: رحلوا.

4 - بعد: بكسر العين معناه الهلاك و بالضم ضد قرب.

5 - ثمود: قوم صالح عليه السلام سموا باسم أبيهم ثمود.

6 - اشرعت: الرمح إلى زيد إذا سددته و صوبته نحوه.

7 - الأسنة: جمع سنان نصل الرمح.

8 - صبت: من صبّ الماء إذا سكبه.

9 - الهامات: جمع هامة رأس كل شيء و هامات الرجال رءوسهم.

10 - استفلهم: دعاهم للتفل و هو الانهزام عن الجماعة و التفرق عنها.

11 - تخلى: عنهم تركهم.

12 - الارتكاس: رد الشيء مقلوبا و أركسته رددته على رأسه.

ص: 170

13 - صدهم: اعراضهم و الصد هو المنع.

14 - الجماح: الجموح و هو أن يغلب الفرس راكبه.

15 - التيه: الضلال.

الشرح

(بعدا لهم كما بعدت ثمود أما لو أشرعت الأسنة إليهم و صبّت السيوف على هاماتهم لقد ندموا على ما كان منهم: إن الشيطان اليوم قد استفلهم و هو غدا متبرئ منهم و متخل عنهم فحسبهم بخروجهم من الهدى و ارتكاسهم في الضلال و العمى و صدهم عن الحق و جماحهم في التيه).

علي يفتح الحوار فيوصده اعداؤه.

كان الخريت بن راشد من بني ناجية قد شهد مع الإمام في صفين و بعد انقضاء التحكيم جاءه في ثلاثين من أصحابه حتى وقف عنده و قال له: لا و اللّٰه لا أطيع أمرك و لا أصلي خلفك و إني غدا لمفارقك.

فقال له الإمام: ثكلتك أمك إذا تنقض عهدك و تعصي ربك و لا تضر إلا نفسك أخبرني لم تفعل ذلك ؟ قال: لأنك حكّمت في الكتاب و ضعفت عن الحق إذ جد الجد و ركبت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم فأنا عليك راد و عليهم ناقم و لكم جميعا مباين.

فقال له الإمام: هلم إليّ أدارسك و أناظرك في السنن و أمّا تحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت الآن له منكر و تنصر ما أنت الآن عنه غافل و به جاهل ؟.

فقال الخريت: فأنا غاد عليك غدا.

و خرج الخريت على أمل العودة في الغد و لكنه شد الرحال و عزم على مفارقة الإمام فخرج من الديار معلنا الحرب و المنابذة.

و لما كان الغد و لم يأت الخريت في الساعة المتفق عليها أرسل الإمام رجلا من أصحابه يعلم به علم أحوالهم فلما عاد إليه قال له الإمام.

«أمنوا فقطنوا» أي اطمأنوا أنهم في أمان و لا يؤخذوا بشيء فاستقروا في أوطانهم «أم جبنوا فظعنوا»؟ أي خافوا و فزعوا فرحلوا و فارقوا الأوطان.

ص: 171

فقال الرجل: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين أي خرجوا من الديار و رحلوا عنها...

فعندها دعا عليهم الإمام و قال لهم هذه الكلمات...

(بعدا لهم كما بعدت ثمود) و هذا دعاء بالهلاك كما هلكت ثمود و هي القبيلة التي قصّ اللّٰه قصتها في القرآن و كانوا من قوم صالح.

ثم أخبر عن مستقبل حالهم و إنه عند ما تسدّد النصال نحوهم لتأخذهم و تنزل السيوف على رءوسهم كما ينزل الماء إشارة لكثرتها و وقوعها عليهم حينئذ عندها يندمون على خروجهم و ما كان منهم من مفارقة الحق و العدول عنه إلى الباطل و قد وقعت السيوف بعد ذلك و اجتثت أصولهم و قتلت الخريت و من معه إلا من فرّ و هرب و انهزم...

ثم نبه على أن ما كان منهم من مفارقة الجماعة إنما كان من الشيطان الذي أخرجهم عن الجماعة و غدا يتبرأ منهم و من تصرفهم ثم يتنكر لفعلهم و عملهم فالشيطان أغراهم بالمنكر ثم تبرأ منهم و تخلى عنهم.

و بعد ذلك بين أنهم يكفيهم ضلالا و انحرافا و رذيلة خروجهم من الهدى الذي كانوا عليه معنا و عودتهم إلى الضلال و الانحراف و ارتمائهم في الباطل و الفساد فقد خرجوا من نور اليقين إلى ظلمات الشك و التردد...

كما يكفيهم ما صدوا به عن الحق حيث أنهم بخروجهم سيخرج المغفلون تبعا لهم فيكونون من الصّادين عن الحق.. مع استرسالهم في الضلال و اقتحامهم له دون حاجز من دين أو رادع من ضمير...

ص: 172

182 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

روي عن نوف البكالي قال: خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بالكوفة و هو قائم على حجارة، نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيفه ليف، و في رجليه نعلان من ليف، و كأنّ جبينه ثفنة بعير فقال عليه السلام:

حد اللّٰه و استعانته

الحمد للّٰه الّذي إليه مصائر (1) الخلق (2)، و عواقب (3) الأمر. نحمده.

على عظيم إحسانه، و نيّر (4) برهانه (5)، و نوامي (6) فضله و امتنانه (7)، حمدا يكون لحقّه قضاء، و لشكره أداء، و إلى ثوابه مقرّبا، و لحسن مزيده موجبا.

و نستعين به استعانة راج لفضله، مؤمّل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطّول (8)، مذعن (9) له بالعمل و القول. و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا، و أناب إليه (10) مؤمنا، و خنع (11) له مذعنا، و أخلص له موحّدا، و عظّمه ممجّدا، و لاذبه (12) راغبا مجتهدا..

اللّٰه الواحد

لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا، و لم يلد فيكون موروثا هالكا. و لم يتقدّمه وقت و لا زمان، و لم يتعاوره (13) زيادة و لا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن (14)، و القضاء المبرم (15).

فمن شواهد (16) خلقه خلق السّماوات موطّدات (17) بلا عمد (18)، قائمات بلا سند (19). دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات، غير متلكّئات (20) و لا

ص: 173

مبطئات، و لو لا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة و إذعانهنّ بالطّواعية (21)، لما جعلهنّ موضعا (22) لعرشه، و لا مسكنا لملائكته، و لا مصعدا (23) للكلم الطّيّب و العمل الصّالح من خلقه. جعل نجومها أعلاما (24) يستدلّ بها الحيران (25) في مختلف (26) فجاج (27) الأقطار (28). لم يمنع ضوء نورها ادلهمام (29) سجف (30) اللّيل المظلم، و لا استطاعت جلابيب (31) سواد الحنادس (32) أن تردّ ما شاع (33) في السّماوات من تلألو نور القمر. فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق (34) داج (35)، و لا ليل ساج (36)، في بقاع الأرضين المتطأطئات (37)، و لا في يفاع (38) السّفع (39) المتجاورات، و ما يتجلجل (40) به الرّعد في أفق السّماء، و ما تلاشت (41) عنه بروق الغمام (42)، و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف (43) الأنواء (44) و انهطال (45) السّماء! و يعلم مسقط القطرة و مقرّها، و مسحب (46) الذّرّة و مجرّها (47)، و ما يكفي البعوضة من قوتها، و ما تحمل الأنثى في بطنها.

عود إلى الحمد

و الحمد للّٰه الكائن قبل أن يكون كرسيّ أو عرش، أو سماء أو أرض، أو جان (48) أو إنس. لا يدرك بوهم (49)، و لا يقدّر بفهم، و لا يشغله سائل، و لا ينقضه نائل (50)، و لا ينظر بعين، و لا يحدّ بأين (51)، و لا يوصف بالازواج (52)، و لا يخلق بعلاج، و لا يدرك بالحواسّ ، و لا يقاس بالنّاس.

الّذي كلّم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح (53) و لا أدوات، و لا نطق و لا لهوات (54) بل إن كنت صادقا أيها المتكلّف (55) لوصف ربّك، فصف جبريل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين، في حجرات (56) القدس مرجحنّين (57)، متولّهة (58) عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين. فإنّما يدرك

ص: 174

بالصّفات ذوو الهيئات و الأدوات، و من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء. فلا إله إلاّ هو، أضاء بنوره كلّ ظلام، و أظلم بظلمته كلّ نور.

الوصية بالتقوى

أوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه الّذي ألبسكم الرّياش (59)، و أسبغ (60) عليكم المعاش (61)، فلو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما (62)، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام، الّذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس، مع النّبوّة و عظيم الزّلفة (63)، فلمّا استوفى طعمته (64)، و استكمل مدّته، رمته قسيّ (65) الفناء بنبال (66) الموت، و أصبحت الدّيار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون، و إنّ لكم في القرون السّالفة (67) لعبرة!.

أين العمالقة (68) و أبناء العمالقة! أين الفراعنة و أبناء الفراعنة! أين أصحاب مدائن الرّسّ (69) الّذين قتلوا النّبيّين، و أطفئوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين! أين الّذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا (70) المدائن!.

و منها: قد لبس للحكمة جنّتها (71)، و أخذها بجميع أدبها، من الإقبال عليها، و المعرفة بها، و التّفرّغ لها، فهي عند نفسه ضالّته (72) الّتي يطلبها، و حاجته الّتي يسأل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، و ضرب بعسيب (73) ذنبه، و ألصق الأرض بجرانه (74) بقيّة من بقايا حجّته، خليفة من خلائف أنبيائه.

ص: 175

ثم قال عليه السلام:

أيّها النّاس، إنّي قد بثثت (75) لكم المواعظ الّتي وعظ الأنبياء بها أممهم، و أدّيت إليكم ما أدّت (76) الأوصياء إلى من بعدهم، و أدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا، و حدوتكم (77) بالزّواجر فلم تستوسقوا (78). للّٰه أنتم! أتتوقّعون إماما غيري يطأ (79) بكم الطّريق، و يرشدكم السّبيل ؟.

ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع (80) التّرحال (81) عباد اللّٰه الأخيار، و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى. ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دماؤهم - و هم بصفّين - ألاّ يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون (82) الغصص (83) و يشربون الرّنق (84)! قد - و اللّٰه - لقوا اللّٰه فوفّاهم أجورهم، و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم.

أين إخواني الّذين ركبوا الطّريق، و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار (85)؟ و أين ابن التّيّهان (86)؟ و أين ذو الشّهادتين (87)؟ و أين نظراؤهم (88) من إخوانهم الّذين تعاقدوا (89) على المنيّة (90)، و أبرد برءوسهم (91) إلى الفجرة (92)!.

قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء، ثم قال عليه السلام:

أوّه (93) على إخواني الّذين تلوا (94) القرآن فأحكموه (95)، و تدبّروا (96) الفرض (97) فأقاموه، أحيوا السنّة (98) و أماتوا البدعة (99). دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتّبعوه.

ص: 176

ثم نادى بأعلى صوته:

الجهاد الجهاد عباد اللّٰه! إلا و إنّي معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرّواح إلى اللّٰه فليخرج!.

قال نوف: و عقد للحسين - عليه السلام - في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد - رحمه اللّٰه - في عشرة آلاف، و لأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، و لغيرهم على أعداد أخر، و هو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّٰه، فتراجعت العساكر، فكنا كأغنام فقدمت راعيها، تختطفها الذئاب من كل مكان!.

اللغة

1 - المصائر: جمع مصير و هو المرجع.

2 - الخلق: الناس.

3 - العواقب: جمع العاقبة و هي آخر الشيء.

4 - نيّر: منير، مضيء.

5 - البرهان: الحجة.

6 - النوامي: جمع نام بمعنى الزائد.

7 - الامتنان: الانعام.

8 - الطّول: الفضل.

9 - الاذعان: الانقياد و الطاعة.

10 - أناب إليه: أقبل و عاد و تاب.

11 - خنع: خضع و ذلّ .

12 - لاذبه: لجأ إليه.

13 - تعاوره: اختلف عليه و تداوله.

14 - المتقن: المحكم يقال: اتقن الأمر إذا أحكمه.

15 - المبرم: المحكم و أصله جعل الحبل على طاقين و فتله.

16 - الشواهد: جمع شاهد و هو الذي يخبر بما شهده و رآه.

17 - موطدات: ممهدات مثبتات.

18 - العمد: ما يقوم عليه البناء و غيره.

19 - السند: ما يستند إليه و يعتمد عليه.

ص: 177

20 - المتلكىء: المتوقف.

21 - الطواعية: الطاعة.

22 - الموضع: المكان.

23 - مصعدا: موضع الصعود.

24 - الاعلام: جمع علم ما يوضع من الاشارات ليستدل به على الهدف.

25 - الحيران: المتردد.

26 - المختلف: الاختلاف و التردد أو موضعه أو من المخالفة.

27 - الفجاج: جمع فج الطريق الواسع بين الجبلين.

28 - الاقطار: جمع قطر الجانب و الناحية.

29 - الادلهمام: الظلمة الشديدة.

30 - السجف: جمع سجف و هو الستر.

31 - الجلابيب: جمع جلباب ثوب واسع يلبس فوق الثياب.

32 - الحنادس: جمع حندس بكسر الحاء الليل المظلم.

33 - شاع: تفرق.

34 - الغسق: أول الظلمة.

35 - الداجي: المظلم.

36 - الساجي: الساكن.

37 - المتطأطئات: المنخفضات.

38 - اليفاع: التل أو المرتفع من الأرض.

39 - السفع: الجبال و اصله سواد مشرب بحمرة.

40 - الجلجلة: صوت الرعد.

41 - تلاشت: اضمحلت.

42 - الغمام: السحاب.

43 - العواصف: الرياح الشديدة.

44 - الأنواء: جمع نوء منازل القمر.

45 - الانهطال: الانصباب.

46 - المسحب: موضع السحب.

47 - و المجر: موضع جرها.

48 - الجان: جمع جنان اسم جمع للجن.

49 - الوهم: الفكرة و التوهم.

50 - النائل: العطاء.

51 - الاين: المكان.

ص: 178

52 - الأزواج: القرناء و الأمثال.

53 - الجوارح: الاعضاء.

54 - اللهوات: جمع لهاة اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم.

55 - المتكلف: المتعرض للأمور التي لا تعنيه.

56 - الحجرات: جمع حجرة بالضم الغرفة.

57 - المرجحن: كالمقشعر المائل لثقله و المتحرك يمينا و شمالا.

58 - متولهة: أي خائفة.

59 - الرياش: اللباس الفاخر.

60 - أسبغ: أوسع.

61 - المعاش: مكتسب الإنسان الذي يعيش به.

62 - السلم: ما يرتقى عليه شبه الدرج.

63 - الزلفة: القرب.

64 - الطعمة: بالضم المأكلة أي ما يؤكل و المراد الرزق المقسوم.

65 - القسي: جمع قوس آلة على شكل نصف دائرة ترمى بها النبال.

66 - النبال: السهام العربية.

67 - السالفة: المتقدمة.

68 - العمالقة: أولاد عاد و ثمود.

69 - مدائن الرس: الرس اسم بئر و قيل اسم مدينة باليمامة...

70 - مدّن: المداين مصرها و أنشاها.

71 - الجنة: بالضم الوقاية، ما يستتر به كالدرع.

72 - الضالة: جمعها ضوال الشيء المفقود الذي تسعى وراءه.

73 - العسيب: عظم الذنب.

74 - الجران: للبعير صدره أو مقدم عنقه.

75 - بثثت: فرقتّ و نشرت.

76 - أديت: أوصلت و أدى الخبر أوصله.

77 - حدوتكم: سقتكم.

78 - استوثقت: الإبل اجتمعت و أنضم بعضها إلى بعض.

79 - يطأ: يدوس.

80 - أزمع: صممّ و عزم.

81 - الترحال: الرحيل و هو الانتقال عن المكان.

82 - ساغ: الشراب إذا سهل و طاب.

83 - الغصص: جمع الغصة ما يعترض في الحلق.

ص: 179

84 - الرنق: بكسر النون و فتحها و سكونها الكدر.

85 - عمار: هو ابن ياسر من السابقين الأولين.

86 - ابن التيهان: هو مالك بن التيهان من أكابر الصحابة.

87 - ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الأنصاري.

88 - النظراء: الاشباه و الأمثال.

89 - تعاقدوا: تعاهدوا.

90 - المنية: الموت.

91 - أبرد برءوسهم: أي أرسلت الرءوس مع البريد.

92 - الفجرة: مفرده فاجر و هو المنقاد للمعاصي...

93 - أوّه: بفتح الهمزة و كسر الواو و تشديدها و كسر الهاء - كلمة توجع.

94 - تلوا: قرءوا و تلا الكتاب قرأه.

95 - أحكموه: اتقنوه.

96 - تدبروا: الأمر نظروا في أدباره أي عواقبه و تفكّروا فيه.

97 - الفرض: الواجب.

98 - السنة: جمع سنن المستحبات و المندوبات.

99 - البدعة: ما استحدث على غير مثال سابق، ادخال ما ليس في الدين فيه.

الشرح

اشارة

(الحمد للّٰه الذي إليه مصائر الخلق و عواقب الأمر. نحمده على عظيم إحسانه و نيّر برهانه و نوامي فضله و امتنانه، حمدا يكون لحقه قضاء و لشكره أداء و إلى ثوابه مقربا و لحسن مزيده موجبا) هذه خطبة خطبها الإمام في الكوفة يروي نوف البكالي صاحب أمير المؤمنين قال: خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي عليه السلام بالكوفة و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيفه ليف و في رجليه نعلان من ليف و كأن جبينه ثفنة بعير...

و قد حمد اللّٰه سبحانه باعتبارات متعددة حمده باعتبار أن مرجع العباد إليه فمهما طالت أيامهم في دار الدنيا و مهما تقلبوا فيها و جمعوا و بنوا فإنهم سيعودون إلى اللّٰه بالموت و سينقلون إليه قهرا عنهم و هو الذي يتولى حسابهم في نهاية المطاف و يعطي كل ذي حق حقه إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا قال تعالى: «إِنَّ إِلَيْنٰا إِيٰابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ » .

ص: 180

و حمده باعتبار عظيم إحسانه: و أعظم إحسانه سبحانه على عبده أن هداه للإيمان به و دلّه على الطريق إلى معرفته و قيل إن عظيم إحسانه هي أصول نعمه كالحياة و القدرة و الشهوة...

و حمده على نيّر برهانه: فإنه سبحانه يستحق الحمد لما نصبه من الأدلة الواضحة التي تدل على ذاته و صفاته و ما أكثرها و أجلاها في الأنفس و في الآفاق...

و حمده باعتبار نوامي فضله و امتنانه: باعتبار أن عطاء اللّٰه في زيادة مستمرة فيولد المولود و يزيد اللّٰه في عمره إلى ما شاء اللّٰه ثم أنه يعطيه من رزقه باستمرار و يزيده من فضله و هذا كله أمر يستحق عليه الحمد...

ثم أراد المبالغة في حمد اللّٰه فوصفه بهذه الأوصاف...

حمدا يكون لحقه قضاء و لشكره أداء: و هذا من باب المبالغة بالحمد و الشكر لأن العبد و إن بلغ بهما أقصى قدرته لن يصل إلى أن يكون قاضيا لحق اللّٰه تعالى أو مؤديا لشكره.

حمدا يكون إلى ثوابه مقربا: حمدا يكون موجبا للثواب و يكون أيضا موجبا لزيادته فإنه سبحانه أوجب على نفسه ثواب من يشكره بقوله: فاشكروني أشكركم!!! أي اثيبكم كما أوجب الزيادة لمن شكره بقوله: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » ...

(و نستعين به استعانة راج لفضله مؤمل لنفعه واثق بدفعه معترف له بالطول مذعن له بالعمل و القول) بعد أن انتهى من حمد اللّٰه بالاعتبارات السابقة شرع في الاستعانة به و قد ذكر هذه الاستعانة على أنحاء عدة:

فهي استعانة راج لفضله: يرجو فضله و يضع عنده ثقله.. يرجو فضله في الآخرة بجنة عرضها كعرض السماوات و الأرض...

و استعانة مؤمل لنفعه: فهو يأمل كل ما ينفع و يفيد في الدنيا و الآخرة.

و استعانة واثق بدفعه: فهو يستعين به و مطمئن إلى أنه القادر على دفع المضار عنه.

استعانة معترف له بالطول: استعانة من اعترف اللّٰه بالفضل و الإحسان استعانة من أيقن و انقاد للّٰه بالفعل و القول فهو مسرع إلى الاعتقاد به و بما جاء من جناب قدسه كما أنه عامل بكل ما أمر و طلب...

ص: 181

و إن من استعان باللّٰه هذه الاستعانة الخالصة المستجمعة لهذه الأوصاف كان اللّٰه في عونه لا محالة لا يخذله و لا يهمله...

(و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا و أناب إليه مؤمنا و خنع له مذعنا و أخلص له موحدا و عظمه ممجدا و لاذ به راغبا مجتهدا) هذا هو الإقرار بالإيمان الكامل و هو إيمان رفيع عظيم يحمل أوصافا كريمة...

إيمان من رجاه موقنا: فهو لأيمانه يرجوه فيما أراد و أحب و هو مطمئن بتحقيق ما رجاه له...

و إيمان من أناب إليه موقنا: إيمان من عاد إليه من ذنوبه مصدقا بأنه يغفرها و يمحوها بل يبدلها حسنات...

إيمان من خنع له مذعنا: أي إيمان من ذل له و خضع معترفا باستحقاقه لكل تعظيم و تبجيل...

إيمان من أخلص له موحدا: إيمان من لم يشرك به أحدا مخلصا له في عمله لم يعمله إلا لوجهه الكريم.

إيمان من عظمه ممجدا: أي عظّمه بصفات العز و الجلال حال تمجيده له بأوصاف القدرة و الكمال.

إيمان من لاذ راغبا مجتهدا: إيمان من استجار به و لجأ إليه راغبا فيما عنده مجتهدا بإداء حقه و ما هو مطلوب منه...

(لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركا، و لم يلد فيكون موروثا هالكا) نزّه اللّٰه عن صفات المخلوقين فنفى عنه التولد فهو لم يولد من أب فيكون مشاركا في العز لأنه غالب أبناء الملوك يتولدون من ملوك فيشاركون الآباء في العز.

كما نفى عنه الولد فليس له ولد و لو كان له ذلك فلا بد أن يموت و يرثه الولد لأن طبيعة الأمور الجارية أن يموت الآباء فيرثهم الابناء...

(و لم يتقدمه وقت و لا زمان) نفى أن يكون قد سبقه الزمان و كيف يسبقه و هو القديم و الزمان حادث و الحادث متأخر عن القديم، ثم أن الزمان هو نتيجة دورة الفلك و اللّٰه خالق الفلك و ما فيه و الخالق مقدم على المخلوق إن جازت المقارنة بين اللّٰه و بين الأشياء ...

ص: 182

(و لم يتعاوره زيادة و لا نقصان) و لو طرأ عليه نقصان أو زيادة لكان محلا للحوادث و اللّٰه منزه عن ذلك لأن ذلك من صفات الممكن و اللّٰه واجب الوجود الذي لا يطرأ عليه ما يطرأ على الممكنات...

(بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن و القضاء المبرم) لم تره العيون بل رأته القلوب.. رآه الفكر و أدرك وجوده... بهذا النظام الكوني البديع الذي وضع كل شيء موضعه ترى اللّٰه في إبداعه و خلقه.. و لينظر الإنسان إلى نفسه و إلى هذه الدقة المتناهية في أصغر أجزاء بدنه فإنه يرى النظام و التدبير و يرى الحكمة في أبدع صورها و أروع ما تكون...

(فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد قائمات بلا سند دعاهن فاجبن طائعات مذعنات غير متلئكات و لا مبطئات و لو لا اقرارهن له بالربوبية و اذعانهن بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه و لا مسكنا لملائكته و لا مصعدا للكلم الطيب و العمل الصالح من خلقه) بعد أن ذكر إجمالا ظهور اللّٰه في مخلوقاته أشار إلى واحدة منها تفصيلا فذكر السماوات كشاهد على وجوده و عظمته و هذه السماوات خلقها اللّٰه محكمات ممهدات مثبتات في محلها على وفق النظام العام قال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ » .

ثم ذكر خلق هذه السماوات و إنها رفعت بغير عمد ترونها و لا سند يسندها عن الوقوع و السقوط قال تعالى: «خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا» .

ثم ذكر أنه سبحانه بعد أن خلق السماوات دعاهن لطاعته و تلبية أمره فأجبن أمره بلسان الحال أي كن تحت أمره و تصرفه و وفق نظامه الذي أراده لم تخرج أحداهن عن مشيئته... استجابت له من غير تلكؤ و لا بطىء كما قال تعالى:(1)«ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ » .

ثم ذكر أنه لولا أنهن أقررن بربوبية اللّٰه و خضوعهن له بالطاعة لما جعلهن موضعا لهذه الأمور الكريمة...

لما جعلهن موضعا لعرشه بحيث منهن تنزل الأوامر الإلهية و ينزل قضاء اللّٰه و قدره.

و كذلك لم يجعلن - لو لا ذلك - محلا لسكنى ملائكته و لا جعلهن محلا لصعود1.

ص: 183


1- سورة الدخان، آية - 11.

الكلم الطيب الذي هو شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه أو كل كلام خير و كلام فيه نفع و أجر و كذلك لو لا ذلك لما جعلن موضعا للعمل الصالح من خلقه يرفعه اليهن...

فإنه سبحانه لولا قدرته عليهن و طاعتهن له و كونهن تحت إرادته لما جعل هذه الأمور كلها فيهن لأن من عجز عن امضاء أمره فيه عجز عن التصرف فيه بجعل هذه الأمور فيه...

(جعل نجومها أعلاما يستدل بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار) فالناس المتحيرون في أقطار الأرض الذين لا يعرفون وجهة مسيرهم عند ما ينظرون إلى النجوم يهتدون إلى الجهة التي إليها يتوجهون كما قال تعالى: «وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » (1).

(لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن ترد ما شاع في السماوات من تلألؤ نور القمر) و هذه من دلائل قدرته و حكمته أن سواد الليل و ظلمته بل شدة ظلمته لم تمنع الكواكب من الإضاءة و كذلك هذه الظلمة لم تمنع القمر من تلألؤ نوره و إنما خص القمر بالذكر و إن كان داخلا تحت السابق من الكواكب لشرفه لما يظهر منه من النور و ما يستدل به على الأيام و الشهور...

(فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج و لا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطاطئات و لا في يفاع السفع المتجاورات) سبح اللّٰه و نزهه عن النقص باعتبار علمه بما يخفى في هذه الأشياء التي لا يكشفها الناس و لا يراها البشر، سبحان من لا يخفى عليه سواد شديد و ليل هادي لا حركة فيه في أقطار الأرض و منخفضاتها و في أعالي الجبال المتجاورة و المتقاربة.

(و ما يتجلجل به الرعد في أفق السماء و ما تلاشت عنه بروق الغمام و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السماء و يعلم مسقط القطرة و مقرها و مسحب الذرة و مجرّها و ما يكفي البعوضة من قوتها و ما تحمل الأنثى في بطنها) و كذلك سبح اللّٰه باعتبار علمه بهذه المفردات التي تدخل تحت علمه العام بكل الأشياء و خصوصياتها فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات و الأرض و هذه المفردات التي ذكرها الإمام هي:

إنه لا يخفى عليه ما يتحرك به الرعد من صوت و حركة مفيدة أو ضارة.6.

ص: 184


1- سورة النحل، آية - 16.

و لا يخفى عليه سبحانه ما تلاشت عنه بروق الغمام أي ما اختلفت عنه أضواء البروق و لمعانها و هي أعجب من غيرها لخفائها و عدم رؤية ما يقع تحتها...

و لا يخفى عليه سبحانه ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء:

فالأنواء و هي تغيرات الطقس إذا أزالت ورقة عن محل سقوطها يعلمها اللّٰه و يعلم متى يكون ذلك زمانا و مكانا...

و لا يخفى عليه انهطال السماء: أي ما ينزل منها من مطر فإنه يعلم عدد القطر و مكان نزوله و مستقر كل قطرة.

و لا يخفى عليه أيضا مكان سحب النمل الصغير و جرها و ما يكفي البعوضة الصغيرة من قوت على قلته و حقارته كما أنه سبحانه يعلم ما تحمل كل انثى من ذكر أو انثى و هل يصبح سعيدا أم شقيا ناجحا أم فاشلا...

(و الحمد للّٰه الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش أو سماء أو أرض أو جان أو انس) و حمد اللّٰه الموجود قبل كل شيء فهو من الأزل كان و لم يكن معه كرسي أي علم أو عرش قوة أو سماء أو أرض أو جان و هو الجن أو أبو الجن أو إنس أي بشر فإن هذه و أمثالها و كل مخلوق إنما كان يفيض كرمه وجوده كانت بعد أن لم تكن فبقدرته أوجدها...

(لا يدرك بوهم و لا يقدّر بفهم و لا يشغله سائل و لا ينقصه نائل و لا ينظر بعين و لا يحدّ بأين و لا يوصف بالأزواج و لا يخلق بعلاج و لا يدرك بالحواس و لا يقاس بالناس) نزّه اللّٰه عن هذه الاعتبارات التي يمكن أن تقع تحت مقدور الإنسان و التي هي من خصوصيات المخلوقات و ذلك في ضمن أمور:

- لا يدرك بوهم: لأن قوة الوهم هي القوة التي يتخيلها الإنسان و هي منتزعة من أمور خارجية واقعة تحت الحس و اللّٰه منزه عن كل ما يتوهم الإنسان و يتصور و لذا قال الإمام الباقر عليه السلام: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم...

- لا يقدر بفهم: لا تستطيع العقول أن تحد اللّٰه و تعرفه أو تضع له المواصفات التي تقدره و تحده...

- لا يشغله سائل: فإننا بسؤال أحد قد نعجز عن آخر لمحدودية قدرتنا و عجزنا أمّا اللّٰه فإنه في نفس الوقت الذي يسمع من هذا يسمع من غيره حتى إنه يسمع مخلوقاته

ص: 185

كلها بدون أن يشغله أحد في سؤاله عن أحد...

- و لا ينقصه نائل: لا ينقص العطاء من ملكه ذرة بل هو فيض العطاء كلما أعطى كلما ازدادت خزائنه، ليس كأبناء الدنيا و أثريائها إذا أعطوا شيئا نقص رأس مالهم و خفت ثروتهم و قلّت...

- لا ينظر بعين: فإنه منزه عن الحواس التي هي عند البشر لأن الناس محتاجة إليها فقيرة إلى ذلك و أما اللّٰه فإنه يعلم بكل شيء و يرى كل شيء بدون حاسة نظر.

- و لا يحّد باين: فلا يقال: أين مكان اللّٰه لأنه سبحانه خالق المكان و صانعه، و لأنه لو أشير إليه بالمكان لكان جسما و الأجسام محتاجة و فقيرة و ممكنة غير واجبة الوجود و اللّٰه منزه عن ذلك...

- لا يوصف بالأزواج: أي ليس له ثاني فيوصف بأن معه زوج فلا يدخل في العدّ... و قيل لا يوصف بالأمثال و الأضداد أو بصفات الأزواج أو ليس فيه تركيب و ازدواج أمرين أو بأن له صاحبة...

- لا يخلق بعلاج: لا يحتاج في خلقه الخلق إلى آلات و معدات و وسائط حتى يتم فعله و إنما بقوله كن فيكون يتم الخلق و يتحقق الإيجاد...

- لا يدرك بالحواس: لأن الحواس للمخلوقات و ليس للخالق و للأجسام و ليس لفاعل الأجسام.

و لا يقاس بالناس: لا يشبههم بشي من تركيبهم و تكوينهم و حالاتهم و ما هم عليه و فيه...

(الذي كلّم موسى تكليما و أراه من آياته عظيما بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات) فاللّٰه الذي كلّم موسى على وجه الحقيقة و أراه من آياته الكبرى عظيما حيث أراه الشجرة الخضراء تشتعل فيها النار فلا تحترق و رأى كلام اللّٰه من جوانبه السّت فإن كلام اللّٰه كان يصدر بدون وسائط الكلام المتعارفة عند الناس فإن الناس لا تستطيع أن تنطق إلا بجارحة كاللسان و معاونيه من وجود اللهاة في منتهى الحلق و أن تكون أدوات البلعوم متكاملة تامة و اللّٰه سبحانه كلم موسى بدون هذه الوسيلة و أدواتها بل خلق النطق في الشجرة و هي التي أخذت تخاطب موسى و هذه الصفات الربانية يعجز عن ادراكها الناس...

(بل أن كنت صادقا أيها المتكلف لوصف ربك فصف جبريل و ميكائيل و جنود

ص: 186

الملائكة المقربين في حجرات القدس مرجحنين متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين..) و هذا رد يراد به تعجيز من أراد أن يصف ربه و أن هذا المتكلف و المتعسف وصف اللّٰه بدل ذلك فليصف مخلوقا من مخلوقات اللّٰه فإنه يعجز عن وصف مخلوق مثله فكيف يصف الخالق و إذا كان قادرا على وصف اللّٰه فليصف جبريل كبير الملائكة أو ميكائيل أو جنود الملائكة المقربين الذين يسكنون بيوت الطهارة و التقوى خاضعين لهيبة اللّٰه و جلاله متحيرة عقولهم متشتته أفكارهم لا تستطيع أن تدرك اللّٰه رب العالمين و أحسن الخالقين...

(فإنما يدرك بالصفات ذوو الهيئات و الأدوات و من ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء فلا إله إلا هو أضاء بنوره كل ظلام و أظلم بظلمته كل نور) الذي يدرك بالصفات و تستطيع أن تنعته بالطول و العرض و الأين و المتى و الزمان و المكان و غيرها إنما هو ذو الهيئات و الأدوات أي ذو الصفات و الآلات و كذلك يصح أن يقع تحت الوصف من له أمد ينتهي إليه و يفنى عنده فإنه إذا تحلل عندها تفحص اجزاءه و تعرف تركيبه فتقدر على وصفه.

ثم رتب على ذلك أنه و حدّ اللّٰه فلا إليه إلا هو و رتب على ذلك أن بشرائعه و أحكامه تضيء الدنيا و تختفي ظلماتها و إذا أراد اظلامها قطع عنها الرسل و رفع عنها النبوات فعادت إلى الجاهلية و العمى هذا إذا أراد بكلامه الأمور المعنوية و قد يريد الأمور المحسوسة و ذلك ظاهر بحيث إذا أراد الإنارة رفع بها كل ظلام كما يقع في النهار و قد يظلم بأمره كما في الخسوف و الكسوف كل نور...

(أوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه الذي ألبسكم الرياش و أسبغ عليكم المعاش) بعد أن انتهى من حمد اللّٰه و ذكر صفاته و دلائل عظمته أوصى بهذه الوصية التي لا يأنف منها أحد الوصية بتقوى اللّٰه و ذكرهم بنعمتين هما مدار الحياة الدنيا الرياش و المعاش الكسوة و المئونة و اللّٰه سبحانه قد ألبسنا الملابس الفاخرة الجميلة التي تقينا الحر و البرد و هي جمال لنا و ستر و أوسع علينا المعاش فأحلّ لنا الطيبات كلها و حرّم علينا الخبائث...

(فلو أن أحدا يجد إلى البقاء سلما أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام الذي سخر له ملك الجن و الإنس مع النبوة و عظيم الزلفة فلما استوفى طعمته و استكمل مدته رمته قسي الفناء بنبال الموت و أصبحت الديار منه خالية و المساكن معطلة و ورثها قوم آخرون و إن لكم في القرون السالفة لعبرة) لما كان حب الدنيا رأس كل خطيئة أراد أن يزهد فيها أهلها و يرغبهم بالآخرة فضرب لهم مثلا فقال لو أن أحدا من البشر يجد إلى الخلود في الدنيا و البقاء فيها طريقا أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود الذي سخر له الجن و الإنس فلم يملك قبله و لا بعده ملك ما ملكه هذا النبي مع ذلك

ص: 187

أعطاه اللّٰه النبوة و عظيم القرب منه فلا الدنيا دفعت عنه الموت بكل ما تحويه و لا قربه من اللّٰه بالنبوة دفع عنه الموت فإنه بعد أن أكل لقمته التي كتبت له و أمضى عمره المقدر له جاءه الموت بسهامه فرماه فخر صريعا ميتا و أصبحت الديار منه خاليه قد فقدته و المساكن معطلة فارغة فلا زوار و لا رواد، ماتت الحركة فيها بموته و انتقلت هذه الدار إلى ورثته و العاقل من يعتبر به و يأخذ العبرة من الأمم المتقدمة التي هلكت و لم يبق منها أحد...

(أين العمالقة و أبناء العمالقة، أين الفراعنه و أبناء الفراعنه أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين و أطفئوا سنن المرسلين و أحيوا سنن الجبارين، أين الذين ساروا بالجيوش و هزموا بالألوف و عسكروا العساكر و مدنوا المدائن) استفهم عليه السلام تقريرا و حثا لهم على التفكر و الحذر...

«أين العمالقة و أبناء العمالقة...» إنهم انقرضوا و ماتوا و لم يبق منهم أحد لقد طغوا و بغوا فقضى اللّٰه عليهم و أفناهم.. و كانت مواقعهم في اليمن و الحجاز و بهم يضرب المثل...

«أين الفراعنة و أبناء الفراعنة» و هم حكام القبط في مصر و هم الذين كانوا في زمن موسى و قد قصّ اللّٰه خبر فرعون موسى و ما كان منه و ما ادعاه لنفسه و كيف كانت سيرته حتى أخذه اللّٰه أخذ عزيز مقتدر... إنه لم يبق منهم أحد.. لم تبق إلا جثثهم عبرة للمعتبر...

«أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبين و أطفئوا سنن المرسلين و أحيوا سنن الجبارين».

و هؤلاء - أصحاب الرس - قد قصّ اللّٰه خبرهم فقال: «كذّبت قبلهم قوم نوح و أصحاب الرس» و قد قيل أن نبيهم اسمه حنظلة و قد كانوا يعبدون بئرا لهم فقتلوا نبيهم و رموه فيه فغارت البئر و أخذهم اللّٰه بصيحة واحدة اهلكتهم.

«أين الذين ساروا بالجيوش و هزموا بالألوف و عسكروا العساكر و مدنوا المدائن...».

و هؤلاء أيضا اختفوا من الوجود و لم يبق منهم نافخ نار أين كسرى فارس و قيصر الروم أين التبابعة.. لقد كان لهؤلاء عز و دولة كانت لهم جيوش جرارة هزموا بها آلاف الجيوش.. كانت لهم معسكرات يجتمعون بها و يتدربون فيها.. لقد بنوا المدن و مصروها ثم بعد ذلك قضى عليهم الزمن و أفناهم اللّٰه...

ص: 188

(قد لبس للحكمة جنتها و أخذها بجميع أدبها من الإقبال عليها و المعرفة بها و التفرغ لها فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها و حاجته التي يسأل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام و ضرب بعسيب ذنبه و ألصق الأرض بجرانه بقية من بقايا حجته خليفة من خلائف ابنائه) اختلف شراح النهج في المراد من قوله «قد لبس» و لمن يرجع الضمير في الفعل و ذلك إن الشريف قطع كلام الإمام و لم يذكر قبل هذا الكلام ما يرجع إليه هذا.

و قد قالوا: إنه ولي اللّٰه في الأرض و هو مذهب الصوفيين.

و قالوا: إنهم العلماء...

و قال الفلاسفة: يريد بكلامه عليه السلام «العارف باللّٰه» و قد قال الشيعة و وافقهم عليه في الجملة ابن أبي الحديد إنه يريد به الإمام المهدي المنتظر قال ما نصه: و ليس يبعد عندي أن يريد به القائم من آل محمد صلى اللّٰه عليه و آله و سلم في آخر الوقت... و قد وقع اتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن الدنيا و التكليف لا ينقضي إلا عليه... و مفاد كلامه عليه السلام: أن هذا الحكيم - الإمام - قد اتصف بمخافة اللّٰه سبحانه و تعالى التي هي بمنزلة الجنة للحكمة تحفظها و تدفع عنها ما يشينها و قد أخذ هذه الحكمة بجميع شئونها و شجونها من الاقبال عليها بالاهتمام بها و المعرفة بها و التفرغ لتحصيلها فهي بالنسبة له كالضالة التي عادت لصاحبها يأنس لها و يرتاح و يفرح و هي حاجته التي يسأل أين هي ليحصل عليها فهو يفتش عنها و يطلبها و يسعى من أجلها.

و من خصوصيات هذا الإمام إنه يختفي و يغيب إذا اختفت أحكام الإسلام و تعطل العمل بها فهو يحمل هموم الدين و يزعجه أن يرى أحكامه معطلة و حدوده لا يعمل بها و وصف الإسلام يومها بأنه كالجمل البارك يضرب الأرض بذنبه و يلصق مقدم عنقه بالأرض فيمتنع عن التصرف و النهوض و هذا أخبار بما يلحق الإسلام من الضغط و القهر و ما يمارسه الحكام الظلمة من تعطيل حدوده و رفع بنوده...

ثم عاد إلى صفة الإمام و وصفه بأنه «بقية من بقايا حجته خليفة من خلائف انبيائه» إنه حجة يحتج به اللّٰه على عباده و خليفة من خلفاء اللّٰه الذين يحملون رسالة اللّٰه و يؤدونها إلى عباده...

(أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم و أديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم و أدبتكم بسوطي فلم تستقيموا و حدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا للّٰه أنتم أ تتوقعون إماما غيري يطأ بكم الطريق و يرشدكم السبيل) أخذ عليه السلام في موعظتهم و تذكيرهم باللّٰه و وبخهم لعدم طاعتهم للّٰه من خلال عدم إطاعة أوامره...

ص: 189

إني قد وعظتكم بما وعظ الأنبياء به أممهم فكل ما يقربهم من اللّٰه قد بينه لهم و كل ما يبعدهم عنه قد نهاهم عنه و ضرب لهم الأمثال و قص عليهم قصص الأمم السالفة و بيّن لهم وجه الحق و أوصل إليهم كل أسرار الشريعة و أحكامها التي من عادة الأوصياء أن يوصلوها إلى من بعدهم من الناس و باعتباره وصي رسول اللّٰه و حامل سره و مستودع أمره لم يبخل على أصحابه و جميع المسلمين بل أوصل إليهم كلما أراد النبي و أحب إبلاغهم إياه...

ثم إنه مارس معهم القوة فنثر سوطه و أدبهم به فلم يستقيموا على نهج الحق و لم يتركوا الباطل و وجّه إليهم كل ما يزجر الإنسان و يكّفه عن الانحراف فلم يقبلوا منه و لم يجتمعوا على ما أمر و ما أحب...

ثم استفهم مستنكرا عليهم عدم قبول قوله قائلا لهم أ تريدون إماما غيري تتوقعونه ليأخذ بأيديكم إلى منهاج الحق و العدل و يحملكم على الطريق المستقيم للشريعة و الدين و هل هناك أهدى من الإمام و أعلم منه في إيصال الخلق إلى اللّٰه و لكنها القلوب التي طبع عليها فلم تسمع صوت الهداية و لم تر النور...

(ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا و أقبل منها ما كان مدبرا) نعى الهدى و الخير الذي كان مقبلا زمن رسول اللّٰه و أنذر بالشر و الويل ما كان مدبرا زمن رسول اللّٰه...

(و أزمع الترحال عباد اللّٰه الأخيار و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى) هذا بيان للقرار الذي يتخذه عباد اللّٰه الأخيار باستمرار، إنه قرار السفر إلى اللّٰه و الهجرة إليه، فإن قلوبهم تبقى تتطلع إليه شوفا و حبا فهم دائما على سفر قد باعوا قليلا من الدنيا و هو هذا العمر القصير و ما في الدنيا من متاع حقير بالآخرة الكثيرة في خيرها و التي لا تفنى أو تزول فهم عقلاء بل عقول العقلاء حيث نظروا إلى الأبقى و الأنفع و الأثمن فطلوبها و تركوا القليل الفاني الذي لا يبقى...

(ما ضر أخواننا الذين سفكت دماؤهم - و هم بصفين - ألا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص و يشربون الرنق قد - و اللّٰه - لقوا اللّٰه فوفاهم أجورهم و أحلهم دار الأمن بعد خوفهم) استشهد لهؤلاء الأخيار الذين ازمعوا الترحال بحال إخوانه الذين استشهدوا في صفين و إنه لم يضرهم الموت إنه لم يضرهم سفك دماؤهم فلو عاشوا إلى اليوم لرأوا المنكر و نظروا إلى تشتت الاراء و اختلافها و عدم طاعتهم لولي الأمر.. لو بقوا لتجرعوا الغصص التي اتجرعها و شربوا كأس الصبر و المحن التي اشربها و لكنهم قدموا على اللّٰه شهداء صدق فوفاهم اللّٰه أجرهم الجنة بأحسن ما كانوا يعملون و أحلهم دار الأمن و الدعة في الجنة بعد خوفهم منه في دار الدنيا و من خاف اللّٰه في الدنيا أمنه يوم القيامة...

ص: 190

(أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق ؟ أين عمار و أين ابن التيهان، و أين ذو الشهادتين و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية و أبرد برءوسهم إلى الفجرة) و هذا نداء علي يرتفع متسائلا عن إخوانه الذين ركبوا طريق الحق و العدل و مضوا على هدي الإسلام و تعاليمه... يسأل عنهم توبيخا للحاضرين و إنه لا يملك منهم إخوانا... أين عمار؟... عمار بن ياسر.. المعذب في سبيل اللّٰه.. المؤمن الطيب ابن الطيب... أين عمار شهيد صفين في جبهة الحق ضد الباطل.. و أين ابن التيهان أبو الهيثم نقيب الأنصار في ليلة العقبة عند ما بايعوا رسول اللّٰه على نصرته و حمايته و الذب عنه.

و أين ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري و أين نظراؤهم من المخلصين و الطيبين الذين اتفقوا على القتال حتى الموت و أرسلت رؤوسهم بالبريد إلى الفجرة من ملوك الشام...

يقول الراوي: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ثم قال:

(أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه و تدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة و أماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا و وثقوا بالقائد فاتبعوه) تحسر لفقدان إخوانه و توجع عليهم أين هم هؤلاء الإخوان الذين صفاتهم هي:

1 - تلوا القرآن فأحكموه، قرءوا القرآن فأقاموا أحكامه حللّوا حلاله و حرموا حرامه و التزموا حدوده...

2 - تدبروا الفرض فأقاموه: نظروا إلى الواجب عليهم فأقاموه كما هو بحدوده و شرائطه و أجزائه و لاحظوا أهدافه و خلفياته و ما وراءه فعملوا من أجل تحقيقها.

3 - احيوا السنة: فكل ما ورد عن النبي طبقوه و نفذوه و قاموا به فعاشت سنة رسول اللّٰه بينهم...

4 - أماتوا البدعة: حاربوا البدع المستحدثة التي لم يشرعها اللّٰه و لا رسوله و لم يأذن بشيء منها كما وقع ذلك من بعض الخلفاء مما هو مذكور في محله...

5 - دعوا للجهاد فأجابوا: و هذه من صفات إخوان الإمام فعمار قد جاوز التسعين من العمر يشد حاجبيه ليرفعهما عن عينيه ثم ينفر للقتال مع الإمام في صفين و يستشهد في سبيل اللّٰه ضد الباطل الأموي...

6 - و وثقوا بالقائد فاتبعوه، اطمأنوا إلى القيادة إخلاصا و حكمة و علما و عملا فاتبعوا أوامرها و نفذوا ما أرادت و طلبت و يريد بذلك نفسه الشريفة...

ص: 191

ثم نادى بأعلى صوته:

(الجهاد الجهاد عباد اللّٰه) هيا إلى الجهاد و انفروا إليه يا عباد اللّٰه.

(ألا و إني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى اللّٰه فليخرج) بين لهم أنه خارج لتعبئة العسكر فمن أراد الجهاد و الرواح إلى الجنة فليخرج إلى المعسكر لقتال الأعداء...

قال نوف: و عقد للحسين - عليه السلام - في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد - رحمه اللّٰه - في عشرة آلاف، و لأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف و لغيرهم على اعداد أخر و هو يريد الرجعة إلى صفين فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنة اللّٰه فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان...

ترجمة عمار

عمار بن ياسر و أمه اسمها سمية أسلمت هذه الأسرة قديما و قد لاقت من المشركين أشد العذاب حتى ماتت أمه و مات أبوه تحت التعذيب في قصة يرويها أصحاب السير فكانا أول شهيدين في الإسلام و قد بشرهم رسول اللّٰه بالجنة فكان عند ما يمر عليهم و هم يعذبون يقول لهم: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة اللهم اغفر لآل ياسر و قد فعلت».

نزل في عمار قوله تعالى: «إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ » و ذلك أنه أعطى المشركين بلسانه ما أرادوا مكرها فقال قوم يا رسول اللّٰه: إن عمارا كفر فقال رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) : «كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه» و جاء عمار إلى رسول اللّٰه يبكي فقال النبي: ما وراءك ؟ قال: شر يا رسول اللّٰه ما تركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول اللّٰه يمسح عينيه و يقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»، أثنى النبي عليه فقال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار، و استأذنّا يوما على رسول اللّٰه فسمع النبي صوته فقال: مرحبا بالطيب ابن الطيب ائذنوا له و قال رسول اللّٰه: «عمار جلدة بين عيني» و قال (صلی الله علیه و آله) : «لقد ملىء عمار إيمانا إلى مشاشه» و قال (صلی الله علیه و آله) : «إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي و عمار و سلمان».

شهد عمار جميع مشاهد رسول اللّٰه و قد أبلى بلاء حسنا و هاجر الهجرتين و صلّى إلى القبلتين و شهد بدرا و أحدا و بيعة الرضوان و وقف إلى جانب أمير المؤمنين يوم السقيفة و هكذا يوم الشورى العمرية و عند ما شهد بظلم و الي مصر عبد اللّٰه بن أبي سرح و هو أخو عثمان في الرضاعة قام غلمان عثمان إليه فضربوه حتى أغمي عليه و أحدثوا له فتقا.

ص: 192

ثم وقف إلى جانب الإمام عند ما تولى الخلافة و قاتل معه و قتل في صفين قتله أبو الغادية الفزاري و رجل آخر و اختصما يريد كل منهما الجائزة فسمع عمرو بن العاص فقال: و اللّٰه إن يختصمان إلا في النار فسمعها معاوية فقال لعمرو: ما رأيت مثلما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما إنكما تختصمان في النار فقال عمرو: هو و اللّٰه ذاك و إنك لتعلمه و لو ددت إني مت قبل هذا بعشرين سنة روى ابن جرير الطبري في تاريخه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: فلما كان الليل قلت: لأدخلن إليهم حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا فركبت فرسي - و قد هدأت الرجل - ثم دخلت و إذا أنا بأربعة يتسايرون معاوية و أبو الأعور السلمي و عمرو بن العاص و عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص و هو خير الأربعة فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول أحد الشقين فقال عبد اللّٰه لأبيه: يا أبت قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا و قد قال فيه رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) ما قال:

قال: و ما قال: قال: ألم تكن معنا و نحن نبني المسجد و الناس ينقلون حجرا حجرا و لبنة لبنة و عمار ينقل حجرين حجرين و لبنتين لبنتين فغشي عليه فأتاه رسول اللّٰه فجعل يمسح التراب عن وجهه و يقول: ويحك ابن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا و لبنة لبنة و أنت تنقل حجرين حجرين و لبنتين لبنتين رغبة منك في الأجر و أنت ويحك مع ذلك تقتلك الفئة الباغية فدفع عمرو صدر فرسه ثم جذب معاوية إليه.

فقال: يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد اللّٰه ؟.

قال: و ما يقول: فأخبره الخبر.

فقال معاوية: إنك شيخ أخرق و لا تزال تحدث بالحديث و أنت تدحض في بولك أو نحن قتلنا عمارا إنما قتل عمارا من جاء به فخرج الناس من فساطيطهم و أخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به فلا أدري من كان أعجب هو أو هم فلما بلغ أمير المؤمنين قولهم قال: يكون النبي (صلی الله علیه و آله) قاتل حمزة لأنه جاء به و لما قتل عمار قال أمير المؤمنين أن أمرء من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمار بن ياسر و يدخل عليه المصيبة لغير رشيد رحم اللّٰه عمارا يوم أسلم و رحم اللّٰه عمارا يوم قتل و رحم اللّٰه عمارا يوم يبعث حيا.

قتله معاوية في موقعة صفين و كان عمره أربعة و تسعين سنة.

ترجمة أبو الهيثم بن التيهان.

مالك بن مالك بن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر الأنصاري هكذا نسبه ابن أبي

ص: 193

الحديد أما صاحب الإصابة في تمييز الصحابة فقد قال:

«أبو الهيثم بن التيهان بفتح المثناة الفوقانية مع كسرها ابن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعور الأنصاري الأوسي، مشهور بكنيته و قال جزم غير واحد أن اسمه مالك...

كان أحد النقباء ليلة العقبة و قد كان أول من بايع الرسول و شهد بدرا...

آخى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بينه و بين عثمان بن مظعون و شهد المشاهد كلها.

بقي حيا إلى زمن الإمام و قاتل معه في صفين و قتل في موقعتها... و قد ذهب ابن سعد إلى أنه توفي في خلافة عمر سنة 20 للهجرة...

ترجمة ذي الشهادتين خزيمة بن ثابت.

خزيمة بن ثابت بن الفاكة بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من الأوس و يكنى أبا عمارة جعل النبي شهادته بشهادتين و ذلك لأن النبي اشترى من اعرابي فرسا ثم أنكر الأعرابي البيع فدارت مشاجرة بينهما و إذا بخزيمة يدخل و يشهد للنبي و عند ما سأله النبي هل شهد البيع قال له:

صدقتك بما جئت به و علمت إنك لا تقول إلا حقا و في رواية الكافي قال له النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم:

أشهدتنا؟.

قال له: لا يا رسول اللّٰه و لكني علمت إنك قد اشتريت أ فأصدقك بما جئت به من عند اللّٰه و لا أصدقك على هذا الأعرابي الخبيث.

فقال رسول اللّٰه عندئذ: يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين...

شهد خزيمة بدرا و قاتل مع علي في صفين حتى قتل و هو القائل:

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا: *** أبو حسن مما نخاف من الفتن.

و فيه الذي فيهم من الخير كله: *** و ما فيهم بعض الذي فيه من الحسن.

و في طبقات ابن سعد: و كانت راية بني خطمة مع خزيمة بن ثابت في غزوة الفتح و شهد خزيمة بن ثابت صفين مع علي بن أبي طالب عليه السلام و قتل يومئذ سنة سبع و ثلاثين و له عقب و كان يكنى أبا عمارة.

ص: 194

183 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في قدرة الله و في فضل القرآن و في الوصية بالتقوى

الله تعالى

الحمد للّٰه المعروف من غير رؤية، و الخالق من غير منصبة (1). خلق الخلائق بقدرته، و استعبد (2) الأرباب بعزّته، و ساد (3) العظماء بجوده (4)، و هو الّذي أسكن الدّنيا خلقه، و بعث إلى الجنّ و الإنس رسله، ليكشفوا لهم عن غطائها، و ليحذّروهم من ضرّائها (5)، و ليضربوا لهم أمثالها، و ليبصّروهم (6) عيوبها، و ليهجموا (7) عليهم بمعتبر (8) من تصرّف (9) مصاحّها (10) و أسقامها (11)، و حلالها و حرامها، و ما أعدّ (12) اللّٰه للمطيعين منهم و العصاة من جنّة و نار، و كرامة و هوان (13). أحمده إلى نفسه كما استحمد (14) إلى خلقه، و جعل لكلّ شيء قدرا، و لكلّ قدر أجلا، و لكلّ أجل كتابا.

فضل القرآن

منها: فالقرآن آمر زاجر (15)، و صامت ناطق. حجّة اللّٰه على خلقه.

أخذ عليه ميثاقهم (16)، و ارتهن عليهم (17) أنفسهم. أتمّ نوره، و أكمل به دينه، و قبض نبيّه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به. فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه، فإنّه لم يخف عنكم شيئا من دينه، و لم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلاّ و جعل له علما باديا (18)، و آية محكمة،

ص: 195

تزجر عنه، أو تدعو إليه، فرضاه فيما بقي واحد، و سخطه (19) فيما بقي واحد. و اعلموا أنّه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم، و لن يسخط عليكم بشيء رضيه ممّن كان قبلكم، و إنّما تسيرون في أثر بيّن، و تتكلّمون برجع (20) قول قد قاله الرّجال من قبلكم. قد كفاكم مئونة (21) دنياكم، و حثّكم (22) على الشّكر، و افترض (23) من ألسنتكم الذّكر.

الوصية بالتقوى

و أوصاكم بالتّقوى، و جعلها منتهى رضاه (24)، و حاجته من خلقه.

فاتّقوا اللّٰه الّذي أنتم بعينه (25)، و نواصيكم (26) بيده، و تقلّبكم (27) في قبضته.

إن أسررتم (28) علمه، و إن أعلنتم كتبه، قد وكّل بذلك حفظة كراما، لا يسقطون حقّا، و لا يثبتون (29) باطلا. و اعلموا «أَنَّهُ «مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» من الفتن، و نورا من الظّلم، و يخلّده فيما اشتهت نفسه، و ينزله منزل الكرامة عنده، في دار اصطنعها لنفسه، ظلّها عرشه، و نورها بهجته (30)، و زوّارها ملائكته، و رفقاؤها رسله، فبادروا (31) المعاد، و سابقوا الآجال (32)، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، و يرهقهم الأجل (33)، و يسدّ عنهم باب التّوبة. فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرّجعة (34) من كان قبلكم، و أنتم بنو سبيل (35)، على سفر من دار ليست بداركم، و قد أوذنتم (36) منها بالارتحال، و أمرتم فيها بالزّاد. و اعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار، فارحموا نفوسكم، فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدّنيا.

أ فرأيتم جزع (37) أحدكم من الشّوكة (38) تصيبه، و العثرة (39) تدميه (40)، و الرّمضاء (41) تحرقه ؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار،

ص: 196

ضجيع (42) حجر، و قرين (43) شيطان! أعلمتم أنّ مالكا (44) إذا غضب على النّار حطم (45) بعضها بعضا لغضبه، و إذا زجرها توثّبت (46) بين أبوابها جزعا من زجرته!.

أيّها اليفن (47) الكبير، الّذي قد لهزه (48) القتير (49)، كيف أنت إذا التحمت (50) أطواق (51) النّار بعظام الأعناق، و نشبت (52) الجوامع (53) حتّى أكلت لحوم السّواعد (54). فاللّٰه اللّٰه معشر العباد! و أنتم سالمون في الصّحّة قبل السّقم (55)، و في الفسحة (56) قبل الضّيق. فاسعوا في فكاك رقابكم (57) من قبل أن تغلق رهائنها (58). أسهروا عيونكم، و أضمروا بطونكم (59)، و استعملوا أقدامكم، و أنفقوا أموالكم، و خذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم، و لا تبخلوا بها عنها، فقد قال اللّٰه سبحانه: «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ » و قال تعالى: «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ » . فلم يستنصركم من ذلّ (60)، و لم يستقرضكم من قلّ (61)، استنصركم وَ «لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ » وَ «هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ » . و استقرضكم وَ «لِلّٰهِ خَزٰائِنُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ » ، وَ «لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ» . و إنّما أراد أن «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» . فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران اللّٰه في داره. رافق بهم رسله، و أزارهم (63) ملائكته، و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس (64) نار أبدا، و صان (65) أجسادهم أن تلقى لغوبا (66) و نصبا (67): «ذٰلِكَ فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ » .

أقول ما تسمعون، و اللّٰه المستعان على نفسي و أنفسكم، و هو حسبنا و نعم الوكيل!.

ص: 197

اللغة

1 - المنصبة: من النصب و هو الإعياء و التعب.

2 - استعبدت: فلانا اتخذته عبدا.

3 - ساد: شرف و مجد و ساد قومه صار سيدهم و متسلطا عليهم.

4 - الجود: الكرم.

5 - الضراء: الشدة.

6 - بصّره: الأمر عرّفه إياه.

7 - هجم: عليه دخل غفلة.

8 - المعتبر: مصدر ميمي و هو الاعتبار و الاتعاظ.

9 - التصرف: التبدل و التغير.

10 - المصاح: جمع مصحة بمعنى الصحة و العافية.

11 - الأسقام: العلل و الأمراض.

12 - أعدّ: هيّأ.

13 - الهوان: الذل.

14 - استحمد: أي طلب من خلقه أن يحمدوه.

15 - زاجر: من زجره إذا نهاه و منعه عن الشيء.

16 - الميثاق: العهد.

17 - العلم: ما يوضع من العلامات على الطريق ليهتدى بها.

18 - البادي: الظاهر.

19 - السخط: الغضب و عدم الرضا.

20 - الرجع: النفع.

21 - المئونة: القوت.

22 - حثكم: حضّكم و نشطكم على الفعل.

23 - افترض: الأحكام سنّها و أوجبها.

24 - منتهى رضاه: غاية رضاه.

25 - فلان بعين اللّٰه: تحت علم اللّٰه لا يخفى عليه منه شيء.

26 - النواصي: مقدم شعر الرأس.

27 - تقلبكم: تصرفكم و حركاتكم.

28 - أسررتم: من السر و هو ما يكتمه الإنسان في نفسه.

29 - يثبتون: يكتبون و ثبت الأمر تحقق و تأكد و ثبّت الحق أكده بالبينات.

30 - البهجة: حسن الخلقة.

ص: 198

31 - بادروا: أسرعوا.

32 - الآجال: أوقات الموت.

33 - يرهقهم الأجل: يغشاهم بالمنية و رهقه الأمر إذا فاجأه.

34 - الرجعة: الرجوع و العودة.

35 - بنو سبيل: أبناء الطريق المسافرون الذين لم يملكوا نفقة العودة.

36 - أوذنتم: أعلمتم.

37 - الجزع: عدم الصبر على الأمر المكروه فيظهر الحزن و الكدر.

38 - الشوكة: ما يخرج من النبات شبيها بالأبر.

39 - العثرة: السقطة و زلة القدم.

40 - تدميه: تخرج دمه.

41 - الرمضاء: الأرض الشديدة الحرارة و الرمض بالتحريك شدة وقع الشمس على الرمل و غيره.

42 - الضجيع: الملازم للشيء يقال: ضاجعه الهم أي لازمه.

43 - قرين: جمعه قرناء، الصاحب و العشير.

44 - مالك: الملك الموكل بالنار.

45 - حطم: بعضه بعضا كسره أو أكله و الحطمة من أسماء النار.

46 - توثبت: من وثب إذا نهض و قام، قفز و طفر.

47 - اليفن: الشيخ الكبير.

48 - لهزه: خالطه.

49 - القتير: الشيب.

50 - التحمت: التفت و التصقت.

51 - أطواق: جمع طوق حليّ للعنق يحيط به، كل ما استدار بشيء.

52 - نشبت: علقت.

53 - الجوامع: جمع جامعة و هي الغل لأنها تجمع اليدين إلى العنق.

54 - السواعد: جمع ساعد و هو الذراع.

55 - السقم: المرض.

56 - الفسحة: السعة.

57 - فكاك الرقاب: عتقها و تحريرها.

58 - غلق الرهن: عجز الراهن عن فكه في الوقت المضروب.

59 - أضمروا بطونكم: اجعلوها ضامرة، و الضمور هزل و دق و قل لحمه.

60 - الذل: الذلة.

61 - القلّ : القلة.

ص: 199

62 - يبلوكم: يختبركم.

63 - أزارهم: جعلهم يزورونهم يقصدونهم للالتقاء بهم.

64 - حسيس النار: صوت النار.

65 - صان: حفظ و وقى.

66 - اللغوب: أشد التعب.

67 - النصب: التعب.

الشرح

(الحمد للّٰه المعروف من غير رؤية و الخالق من غير منصبة) افتتح هذه الخطبة بحمد اللّٰه الذي اهتدت إليه العقول و أدركته بآثار الصنع و الخلق دون أن تراه العيون ليكون مشاهدا محسوسا فيكون ممكنا فقيرا محتاجا فتنتفي ربوبيته الواجبة الوجود...

و هو سبحانه الخالق بدون تعب و لا نصب بل بكلمة «كن» و إرادة ما يريد يتحقق المراد فهو ليس على حد البشر الذين إذا فعلوا أمرا أو قاموا بعمل تعبوا و أرهقوا...

(خلق الخلائق بقدرته و استعبد الأرباب بعزته و ساد العظماء بجوده) بقدرته التي لا تحد كان خلقه للخلائق و إخراجه لهم من زاوية العدم إلى الوجود.

و بقهره و غلبته جعل الأرباب عبيدا له فكل من ادعى الربوبية كان عبدا ذليلا أمام اللّٰه.

و هو الذي تقدم على كل العظماء بعطائه و كرمه لأنهم كلهم مفتقرون إلى فيض جوده و عطائه.

(و هو الذي أسكن الدنيا خلقه و بعث إلى الجن و الإنس رسله) قال تعالى. «إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً » فأسكن أبانا آدم هذه الأرض ثم توالت أبناؤه من بعده.

و قال تعالى: «يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي» فهو سبحانه دل على كمال لطفه بعباده ليقربهم من الطاعة و يبعدهم عن المعصية.

(ليكشفوا لهم عن غطائها و ليحذروهم من ضرائها و ليضربوا لهم أمثالها و ليبصروهم عيوبها و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها و أسقامها و حلالها و حرامها و ما أعد اللّٰه للمطيعين منهم و العصاة من جنة و نار و كرامة و هوان) و هذه بعض

ص: 200

علل بعث الرسل أن يعرفوا الناس الدنيا و ما فيها من عيوب و قد ذكر عليه السلام شيئا من ذلك.

1 - أرسلهم اللّٰه ليكشفوا لهم عن غطائها - غطاء الدنيا -: أي يرفعوا عن الدنيا غطائها لتظهر على حقيقتها بعوراتها و عيوبها و ما فيها من قبائح و مفاسد.

2 - و ليحذرهم من ضرائها: أي يخوفهم من مضرتها و غرورها المفضي إلى عذاب الأبد.

3 - و ليضربوا لهم أمثالها: يضربوا للدنيا أمثالها التي لا تبقى و لا تدوم فيزهدوهم فيها و يبعدوهم عنها كما قال تعالى: «إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ » .

4 - و ليبصروهم عيوبها: يوقفونهم على عيوب الدنيا و مخازيها و ما فعلته بالماضين و ما تنصبه من شر للحاضرين... و إنها لا تدوم لأحد تقيا كان أم شقيا فقيرا أم غنيا...

5 - و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرف مصاحها و أسقامها: فإن رسل اللّٰه دخلوا على الناس بحالات الدنيا المتقلبة المتغيرة من أجل موعظتهم و إرشادهم نحو الخير فإنهم ذكروهم بتغيّرات الدنيا و تقلّب أحوالها من حالات صحيحة سليمة إلى حالات مريضة عليلة ذكروهم بالحلال و الحرام و ما يجب فعله و ما يجب تركه كما جاءوهم بأخبار المطيعين و عظيم ثوابهم على طاعتهم و بأخبار العصاة و ما أعد اللّٰه لهم من العذاب فالجنة للمطيعين و النار للعاصين و الكرامة للملتزمين و الإهانة و الذل للمتمردين...

(أحمده إلى نفسه كما أستحمد إلى خلقه و جعل لكل شيء قدرا و لكل قدر أجلا و لكل أجل كتاب) أحمد اللّٰه حمدا يوافق ما طلبه من حمد خلقه له بأن يكون حمدا خالصا له جامعا لشرائط القبول و الرضى...

و اللّٰه جعل لكل شيء قدرا: كما قال تعالى: «قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً» أي مقدارا معينا من الكمية و الكيفية ينتهي إليها...

و لكل قدر أجلا: وقّت لكل واحد من هذا المقدر وقتا ينتهي عنده عند ما يستوفي حقه و يقوم بدوره.

و لكل أجل كتابا: لكل أجل وقتا معلوما مكتوبا ينتهي عنده العمر...

(فالقرآن آمر زاجر و صامت ناطق حجة اللّٰه على خلقه أخذ عليه ميثاقهم و ارتهن

ص: 201

عليهم أنفسهم. أتم نوره و أكمل به دينه و قبض نبيه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به) أخذ في وصف القرآن ليرغبهم بالعمل به و قد وصفه: الآمر الزاجر: لأنه يحكي عن اللّٰه أمره و نهيه فهو يأمر بالمعروف و يزجر عن المنكر...

و هو صامت ناطق: صامت من حيث أنه حروف و كلمات لا تتكلم على حد ما يتكلم به البشر و هو ناطق من حيث يفهمه العقلاء و أهل الفكر و الدراية و فيه الأخبار و النهي و الأمر و غيرها و هذا يقع تحت نظر أرباب الفكر و يعقلونه جيدا...

حجة اللّٰه على خلقه: به يحتج اللّٰه على خلقه و يلزمهم بما جاء به ففيه الحلال و الحرام و التشريع و الأحكام و فيه ما يقرّب من اللّٰه و يبعّد عن النار و به يحتج على العاصين و المتمردين و هو قبل ذلك معجزة النبوة و خلاصة ما جاء به الأنبياء فلا عذر لمن جحده أو أنكره أو لم يعمل بمضمونه...

أخذ عليه ميثاقهم: أي أخذ العهد على المكلفين أن يعملوا به و بأحكامه و هو يشهد عليهم بما فعلوا و قال بعضهم أراد بذلك قصة الذرية قبل خلق آدم عليه السلام...

ارتهن عليهم أنفسهم: أي جعل أنفسهم رهينة بالعمل بهذا القرآن فمن أراد أن يفكها من عقاله و يخرج من عذاب اللّٰه فعليه العمل بما فيه و إلا هلك هلاك الأبد...

أتم نوره: بواسطة القرآن توضحت الأمور و تبينت معالم الحلال و الحرام و الحق و الباطل و انتشر الإسلام و علت كلمة لا إله إلا اللّٰه في كل مكان فهو نور يهدي إلى اللّٰه و هو تام لأنه الأقوى في إيصال الخلق إلى الحق.

أكمل به دينه و قبض نبيه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به: بهذا القرآن أكمل الدين قال تعالى: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً» .

و قد قبض اللّٰه نبيه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بعد أن بيّن أحكام هذا الدين و حدوده و بيّن حلاله و حرامه و من جميع جوانبه العقيدية و الفكرية و التشريعية...

(فعظّموا منه سبحانه ما عظم من نفسه فإنه لم يخف عنكم شيئا من دينه و لم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلا و جعل له علما باديا و آية محكمة تزجر عنه أو تدعو إليه فرضاه فيما بقي واحد و سخطه فيما بقي واحد) هذا أمر بتعظيم اللّٰه سبحانه كما عظّم هو نفسه بأنه يصف اللّٰه بكل وصف جليل جميل كبير فهو سبحانه وصف نفسه بقوله: هو «اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ» ... «لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ» و هكذا كل وصف ينبي عن عظمته و جلالته و كبريائه.

ص: 202

ثم علل هذا التعظيم و الأمر به بأنه لم يخف عن العباد شيئا من دينه بل أوضح الدين و بينه و أوصله إليهم عن طريق الرسل.

و في هذا البيان للدين نعمة عظمى لما فيه من مصالح للعباد مقربة من اللّٰه و مبعدة من الشيطان و في هذا أعظم إحسان و للمحسن الحق في التعظيم و الشكر...

ثم إنه سبحانه لم يترك شيئا رضيه لكم من الحق و العدل و الفرائض و السنن أو أمرا يكرهه لكم كالظلم و الفساد و الاعتداء إلا و جعل له ما يدل عليه من الأدلة الظاهرة كأحكام العقل أو النقل أو آية محكمة لا شبهة فيها تدل على المطلوب ثم بعد ذلك زجر عما كرهه و دعى لما أراده و أحبه...

ثم بين أن رضاه فيما بقي و سخطه فيما بقي واحد أي رضاه بالأحكام فيما بقي من الزمان كرضاه فيما مضى و سخطه من الأحكام فيما بقي من الزمان كسخطه فيما مضى و بعبارة أخرى أن رضاه في حكم و سخطه في آخر يبقى كما هو لا يتبدل و لا يتغيّر باجتهاد المجتهدين و تبدل آرائهم و تغير نظرياتهم...

(و اعلموا أنه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم و لن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان قبلكم و إنما تسيرون في أثر بيّن و تتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم) بيّن عليه السلام أن حكم اللّٰه يجري على الحاضرين من الناس كما كان يجري على الماضين و أن ما كان يسخطه من الماضين أو يرضيه يسخطه من الحاضرين و يرضيه فكما سخط على الظالمين و غضب عليهم لظلمهم و تجاوزهم و هتكهم للنواميس و الأعراض و المقدسات كذلك يسخط عليكم لو فعلتم فعلهم و مشيتم على دربهم و هو سبحانه الذي رضي عن الماضين لإطاعتهم اللّٰه و عملهم بأمرهم يرضى عنكم إذا أطعتم أمره و عملتم بحكمه...

ثم بيّن أنهم يسيرون على سنة واضحة من رسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) و أهل بيته و هي سنة ظاهرة قد وردت عن الطرق الصحيحة السليمة التي لا كذب فيها و لا افتراء.

و أشار أيضا إلى أن الرجال قبلكم قد أوضحوا لكم المقولة الصحيحة السليمة و بينوا لكم الأدلة المستقيمة و نطقوا بصواب القول و سلامته و أنتم يجب عليكم أن ترددوا ما قالوا و تفعلوا ما فعلوا لأن الحكم واحد فيكم جميعا...

(قد كفاكم مئونة دنياكم و حثكم على الشكر و افترض من ألسنتكم الذكر) قد تكفّل اللّٰه برزق هذا الإنسان و لن تموت نفس حتى تستكمل قوتها قال تعالى: «وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ»

ص: 203

«عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا» فهو الذي رزق الجنين و هو في رحم الأم يرزق الكبير و هو يتحرك في الأرض...

كما أنه حثنا على الشكر حتى يزيد عطاؤه و أفضاله قال تعالى: و «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » و الشكر أن يضع المكلف النعمة في موضعها دون انحراف بها أو تجاوز لها عن مكانها...

و افترض من ألسنتكم الذكر فالألسنة تعبّر عن القلب و تحكي عما في داخله من التعظيم و الإجلال للّٰه...

(و أوصاكم بالتقوى و جعلها منتهى رضاه و حاجته من خلقه) أوصانا بالتقوى فقال تعالى: «وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّٰادِ اَلتَّقْوىٰ وَ اِتَّقُونِ يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ » و جعلها منتهى رضاه لأنها تمثل أعلى درجات الطاعة و الالتزام قال تعالى: «فَإِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ » و من أحبه اللّٰه كان ممن رضي عنهم و أرضاهم.

و جعلها حاجته من خلقه استعار لها لفظ الحاجة ليؤكد الطلب به و طلبه لها من أجل كمال الإنسان و سعادته دون أن يكون سبحانه بحاجة إلى الناس لأنه الغني المطلق عنهم و عن عبادتهم و تقواهم...

(فاتقوا اللّٰه الذي أنتم بعينه و نواصيكم بيده و تقلبكم في قبضته) اتقوا اللّٰه الذي يراكم و يعلم حركاتكم و تصرفاتكم و هو قادر عليكم قاهر لكم متمكن من التصرف فيكم كيف يشاء يقدر على منعكم و لو شاء لفعل فأنتم في قبضته يتصرف فيكم كيف أراد...

(إن أسررتم علمه و إن أعلنتم كتبه قد و كلّ بذلك حفظة كراما لا يسقطون حقا و لا يثبتون باطلا) فاللّٰه يعلم أسرار الناس و ما تخفى صدورهم قال تعالى: «يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ » و قال تعالى: إنه «يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ » .

و إذا أعلن الإنسان أمرا و أذاعه كتبه اللّٰه عليه أوله و من هنا يمكن أن يقال أنه لا يكتب ما يخفي الإنسان و لم يجهر به فمن نوى نية سيئة لا تكتب له سيئة نعم إذا أبداها بلسانه كتبتها الملائكة ثم أشار إلى الكتبة و صفاتهم أنهم أمناء يحفظون ما يكتبون كراما على ربهم ينقلون القضايا و الأحداث كما هي فلا يسقطون من الكتابة حقا وجب على الجاني و لا يثبتون عليه أمرا باطلا لم يقم به أو يرتكبه و حاشاهم فهم بأمره يعملون و بطاعته ملتزمون...

(و اعلموا أنه من يتق اللّٰه يجعل له مخرجا من الفتن و نورا من الظلم و يخلده فيما

ص: 204

اشتهت نفسه و ينزله منزل الكرامة عنده في دار اصطنعها لنفسه ظلها عرشه و نورها بهجته و زوارها ملائكته و رفقاؤها رسله) هذا ترغيب في التقوى و أن من اتقى اللّٰه يجعل له مخرجا من الفتن بحيث يرى الفتنة على حقيقتها فيجتنبها و لا يتورط فيها و ذلك تسديد إلهي لأهل التقوى لأنهم يحذرون الوقوع في الحرام و يتجنبون كل إثم فلذا يبحثون عن الحقيقة و يوفقهم اللّٰه إليها قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» .

و من اتقى يجعل اللّٰه له نورا يهتدي به من الظلم فترتفع غشاوة الجهل عن القلوب فيرى الحقيقة كما هي هذا في الدنيا و أما في الآخرة فإنه يعيش حياة أبدية فيما اشتهت نفسه و رغبت فيه كما في قوله تعالى: «وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خٰالِدُونَ لاٰ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ هٰذٰا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » .

و اللّٰه سبحانه ينزله منزل الكرامة و هي الجنة و أضافها لنفسه تشريفا لها و ترغيبا فيها.

و من يصنع لنفسه شيئا لا بد من أن يتقنه فيكون كأحسن ما يكون هذه الجنة تحت ظل العرش أي عزيزة كريمة لا يضام سكانها و لا تنزل بهم نقم أو ألم...

و في هذه الجنة جمال و حسن و مسرة لا يعدلها مسرات الدنيا و ما فيها لأن اللّٰه أعد هذه المسرات للمؤمن المتقي و كذلك من كرامة اللّٰه للمتقين أن جعل زوارهم الملائكة و رفقاؤهم الأنبياء قال تعالى: «وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ وَ اَلصّٰالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً» .

(فبادروا المعاد و سابقوا الآجال فإن الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل و يرهقهم الأجل و يسد عنهم باب التوبة) أسرعوا إلى العمل ليوم الحساب فإنه يوم رهيب يقدم الإنسان فيه ما كان يعمل في دار الدنيا و سابقوا الآجال أي انتصروا على آجالكم و اغلبوها بأعمالكم قبل حلولها فإن الإنسان يتسابق مع نهاية عمره و هو لا يعلم متى ينتهي فيموت فيجب أن يسرع لإتمام ما يريد و إنجاز ما يعمل من الخير و الاستكثار من الخيرات قبل حلوله...

ثم قال: إن الناس يقترب منهم انقطاع أملهم إذا كبروا و عجزوا و تقدمت بهم السن و يفجأهم الموت المحتم على الإنسان و تقفل أبواب التوبة في وجوههم لعدم إمكانها في حقهم كمن يموت فجأة أو لعدم تحصيل شرائطها المفيدة لغفران الذنوب...

(فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان قبلكم) أي يصبح حالكم حال

ص: 205

من تقدمكم من الأمم و الناس الذين طلبوا الرجعة إلى الدنيا كي يصلحوا أعمالهم و يبنوا من جديد فرد عليهم اللّٰه بكلمة «كلا» لا رجعة قال تعالى حكاية عن هؤلاء القوم الأوائل قال: «رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ » فيجيبهم اللّٰه: «كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ » .

(و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم و قد أوذنتم منها بالارتحال و أمرتم فيها بالزاد) أنتم في الدنيا مسافرون لا استقرار لكم حالكم حال الغرباء الذين مروا بمكان يجتازونه إلى غيره و حالكم في الدنيا هكذا تمرون عليها بدون استقرار و هي ليست بداركم التي تبنون و لها تعملون و قد أعلمكم اللّٰه عن طريق رسله و أنبيائه بأنكم سترحلون عنها و تتركونها و قد أمرتم و أنتم فيها أن تتزودوا لغيرها، للدار الآخرة و في الدنيا يعمل الإنسان ليكسب الآخرة...

(و اعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار فارحموا نفوسكم فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا) هذا الجلد الرقيق لا يقوى على جمرة صغيرة أو عود ثقاب فكيف يصبر و يتحمل ألم النار و عذابها و هي نار سجرها جبارها لغضبه... فارحموا نفوسكم بترك المعاصي و هجر السيئات و أدوا الفرائض و الواجبات فقد جربتم مصائب الدنيا فلم تصمدوا لها بل انهارت قواكم و جزعتم لها و لم تقدروا على تحملها...

(أ فرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه و العثرة تدميه و الرمضاء تحرقه فكيف إذا كان بين طابقين من نار ضجيع حجر و قرين شيطان) و هذه جزئيات صغيرة من مصائب الدنيا يذكرها الإمام و يذكّر الإنسان بها و أنها لا يقوى عليها و لا يستطيع التغلب على ألمها... إنه يجزع و يضج من الشوكة على صغرها و حقارتها تصيبه فإنه يسهر ليله و يشكو ألمه لمن رآه و قد يخرج صائحا مستنجدا بالأطباء و تعثر قدمه فيجرح و يخرج دمه فيضج و يتألم و إذا وقف في حر الشمس يصيح أنه قد احترق فإذا كانت هذه حالات الدنيا بمصائبها الصغيرة الحقيرة فكيف إذا وضع بين طابقين من نار طبق فوقه و آخر تحته و هو بينهما يشوى و يتقلب في النار صاحبه حجر و قرينه شيطان أغواه و أضله فعذاب بدني و آخر نفسي قال تعالى: «فَاتَّقُوا اَلنّٰارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ » و قال تعالى: «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطٰاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ » .

(أعلمتم أن مالكا إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه و إذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعا من زجرته) و هذا تعظيم للنار و تخويف منها حتى يبقى المؤمن في خط اللّٰه و اعلم أن مالكا خازن النار و الموكل بها إذا غضب على النار و لم تجد من تأكله أو تحطمه تحطم بعضها بعضا و تأكل بعضها بعضا و إذا زجرها وردها توثبت بين أبوابها

ص: 206

و ربضت هناك فزعا و خوفا من ردعه لها و زجره...

(أيها اليفن الكبير الذي قد لهزه القتير كيف أنت إذا التحمت أطواق النار بعظام الأعناق و نشبت الجوامع حتى أكلت لحوم السواعد فاللّٰه اللّٰه معشر العباد و أنتم سالمون في الصحة قبل السقم و في الفسحة قبل الضيق) توجّه عليه السلام إلى كبير السن من الناس باعتباره قد ذهبت لذاته و عاد إلى رشده و اقترب من الآخرة و صار أسمع للنصيحة و أشد قبولا لها من غيره مخاطبا له قائلا أيها الشيخ الكبير الطاعن في السن الذي قد لوّن المشيب شعره و غيّر سواده حتى خالطه المشيب ما حيلتك و أين قدرتك و كيف تستطيع خلاص حالك من النار و دركاتها إذا التفت حولك و التصقت بعظام عنقك كما قال تعالى:

«إِذِ اَلْأَغْلاٰلُ فِي أَعْنٰاقِهِمْ وَ اَلسَّلاٰسِلُ يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنّٰارِ يُسْجَرُونَ » .

و كيف بك إذا نشبت الجوامع و هي السلاسل الحديدية التي يقيّد بها المجرمون يقيدون بأيديهم إلى أعناقهم و يؤخذوا بالنواصي و الأقدام.

ثم ناشدهم اللّٰه و أكد ذلك و حذرهم الغفلة و دعاهم إلى الانتباه و العمل في حال الصحة قبل المرض و في حال السعة و امتداد العمر قبل ضيقه و قلته و نصيحة خبير مجرّب أدعو كل مؤمن و مسلم إلى أن يغتنم صحته فيقدم لنفسه ما ينجيها و يعمل في أول عمره كأنه يموت من ساعته فإنني و قد يشاركني هذا الشعور أغلب الناس إن لم يكن كلهم عند ما أمرض أو أفتقر أو يمر عليّ يوم أقول يا ليتني قد عملت الخيرات قبل مرضي و فقري و ليتني قدمت في اليوم الماضي ما أعجز عن القيام به اليوم...

(فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها اسهروا عيونكم و أضمروا بطونكم و استعملوا أقدامكم و أنفقوا أموالكم و خذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم و لا تبخلوا بها عنها فقد قال اللّٰه سبحانه: «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ » و قال تعالى: «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ » فلم يستنصركم من ذل و لم يستقرضكم من قل، استنصركم و له جنود السموات و الأرض و هو العزيز الحكيم و استقرضكم و له خزائن السماوات و الأرض و هو الغني الحميد و إنما أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا) دعوة إنسان ناصح شفيق لهذا الإنسان المغرور بالحياة و ما فيها... دعوة إلى تحرير الأنفس من النار و عتقها من ذلها و عذابها... اسعوا و اعملوا وجدوا و اجتهدوا في عتق رقابكم و تحريرها من النار قبل أن تعجزوا عن فكها فإنكم إذا متم فاتكم الأمر و عجزتم عن فك هذه الرقبة المرتهنة بأعمالها و التي لم تعملوا لها...

ص: 207

ثم ذكر بعض جزئيات ما فيه فكاك الرقاب من النار فقال:

أسهروا عيونكم: أي اسهروا في الليل في التجهد و العبادة و القيام لصلاة الليل و ذكر اللّٰه و الدعاء و طلب المغفرة...

أضمروا بطونكم: اجعلوها هزيلة نحيفة ضامرة بالصيام و الجوع...

و استعملوا أقدامكم: استعملوا أقدامكم في خدمة اللّٰه و طاعته و في سبيله و من أجل مرضاته...

و أنفقوا أموالكم: أموالكم التي جمعتموها من حلال أنفقوها في سبيل اللّٰه و على عباد اللّٰه و من أجل إعلاء كلمة اللّٰه و لا تنفقوها في معصية اللّٰه و ما يغضب اللّٰه فتكون عليكم و ليس لكم...

و خذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم: أي أتعبوا أجسادكم في الصلوات و العبادات و الجهاد و تكرموا بذلك على أنفسكم لتحيوها و تنقذوها من النار أو ترفعوا مقامها في الجنة و دار القرار و لا تبخلوا على أنفسكم بشيء و إن كان على حساب أجسادكم...

ثم استشهد بالآيتين: «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ » و قوله تعالى:

«مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ » فمن ينصر اللّٰه الذي هو نصر دينه و شريعته و الانتصار على النفس الأمارة بالسوء و قرض العبد للّٰه يتمثل بالإنفاق الواجب و المستحب على عباد اللّٰه... ثم قد يتخيل كما هو الأمر في عقيدة اليهود أن اللّٰه يستنصرنا و يطلب منا نصره لأنه مغلوب مقهور أو أنه يستقرضنا لحاجته و فاقته جلت قدرته و عظم نواله، لم يكن استنصاره و لا استقراضه لشيء مما ذكر و كيف يستنصرنا من له جنود السماوات و الأرض و له القوة المطلقة و القدرة التامة و كيف يستقرضنا من له خزائن السماوات و الأرض و هو الغني الحميد فالعالم و ما فيه مملوك للّٰه و تحت سلطانه.

نعم إنما أراد باستنصاره و استقراضه اختبارنا و امتحاننا أيّنا أحسن عملا من يطيع منا و من يعصي ؟ من يستجيب له و من يتمرد على أمره ؟ من يقوم بالواجب و من يرفض الواجب ؟ من يمتثل و من لا يمتثل...

(فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران اللّٰه في داره رافق بهم رسله و أزارهم ملائكته و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا و صان أجسادهم أن تلقى لغوبا و نصبا: «ذٰلِكَ »

ص: 208

«فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ » ) أمرهم أن يسرعوا بأعمالهم الطيبة الصالحة آجالهم التي تنتظرهم و قد تأتي إليهم فجأة و بتلك الأعمال الصالحة و المبادرة إليها يتحولون إلى منازل جيران اللّٰه في جنته تكريما لهم و تشريفا قد جعلهم من رفقاء المقربين من اللّٰه من الأنبياء و الشهداء و الصالحين و تفضلا منه و تكريما لهم يأمر ملائكته أن تزورهم و من كرمه و فضله نزه أسماعهم أن تسمع صوت جهنم أو أي نار غيرها و حفظ أجسادهم أن تتعب أو تشقى كما قال تعالى حكاية عنهم: «وَ قٰالُوا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنٰا لَغَفُورٌ شَكُورٌ اَلَّذِي أَحَلَّنٰا دٰارَ اَلْمُقٰامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاٰ يَمَسُّنٰا فِيهٰا نَصَبٌ وَ لاٰ يَمَسُّنٰا فِيهٰا لُغُوبٌ » و ذلك فضل اللّٰه يؤتيه من يشاء و اللّٰه ذو الفضل العظيم...

(أقول ما تسمعون، و اللّٰه المستعان على نفسي و أنفسكم و هو حسبنا و نعم الوكيل) أقول ما تسمعون من صميم القلب و بكل إخلاص لعله ينفع أو يفيد و اللّٰه المستعان على نفسي و أنفسكم أن تعملوا و نعمل بما نقول و هو حسبنا من كل شر و نعم الوكيل في كل أمر و فعل...

ص: 209

184 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله للبرج بن مسهر الطائي، و قد قال له بحيث يسمعه:

«لا حكم إلا للّٰه»، و كان من الخوارج اسكت قبحك اللّٰه (1) يا أثرم (2)، فو اللّٰه لقد ظهر الحقّ فكنت فيه ضئيلا (3) شخصك، خفيّا صوتك، حتّى إذا نعر (4) الباطل نجمت (5) نجوم قرن (6) الماعز.

اللغة

1 - قبحك اللّٰه: كسرك يقال قبحت الجوزة كسرتها و قيل معناه نحاك اللّٰه عن الخير.

2 - الأثرم: ساقط الثنية من الأسنان.

3 - الضئيل: الدقيق، النحيف، الصغير.

4 - نعر: صاح.

5 - نجم: طلع و ظهر...

6 - القرن: عظم ناتىء نابت في رأس الماعز و غيرها.

الشرح

اشارة

(اسكّت قبحك اللّٰه يا أثرم، فو اللّٰه لقد ظهر الحق فكنت فيه ضئيلا شخصك خفيا صوتك حتى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن الماعز).

و فقد الحوار.

كان ابتلاء الإمام بالخوارج أشد و أقسى من ابتلائه بمعاوية و جماعته لأنهم أولا في صفوفه و من بين جنده و اتباعه و من أشد الناس حماسة و عقيدة ثم أنهم أغبياء فقراء

ص: 210

العقول ينشدون الحقيقة فلا يعرفون أين هي قوم بسطاء تنطلي عليهم الشبهات و تسيرهم بيسر و سهولة و ليتهم إذ ساروا في هذا الاتجاه كانوا قد تورعوا عن قتل الناس و إزهاق نفوسهم و قد كان الإمام يسمع منهم باستمرار ما يؤذيه و كان أشد ما يؤذيه أن يسمع الشعار الذي هو يؤمن به و كلمة الحق التي يجاهد من أجلها يريد الخوارج منها الباطل و الفساد.. «شعار لا حكم إلا للّٰه» الذي يريده الإمام و يقاتل أهل الأرض من أجله يرفعه الخوارج و يريدون به إفساد الأمة و ضربها و تفتيت وحدتها...

و هذا الرجل «البرج بن مسهر الطائي» شاعر من شعراء الخوارج رفع شعارهم و نادى به و جهر في وجه أمير المؤمنين... قائلا له: «لا حكم إلا للّٰه» و يسمع الإمام الشعار فلا يحاوره لأنه لا يقبل الحوار و لا يسمع الكلام فعدل الإمام عن ذلك إلى إهانته و تبكيته لأن الحوار فقد مفعوله و تعطل دوره فكان لا بدّ من المواجهة القاسية التي ترد هذا الضال و تسقطه و تحط من شأنه فقال له الإمام داعيا عليه مستصغرا شأنه...

«اسكت» كلمة استصغار لأن كلامه يغضب الرحمن.. اسكت فالكلام عليك حرام و أنت تعصي اللّٰه في حديثك...

«قبحك اللّٰه يا أثرم» نحاك اللّٰه عن الخير دعاء عليه بالكسر و البعد عن الخير و وصفه بالأثرم لأنها عاهة فيه و أصحاب العاهات يعيّرون بما فيهم إذا صدر منهم القبيح ثم أقسم إنه قد ظهر الحق فكان له رجال و أبطال و قادة و لم يكن هذا الرجل إلا صغيرا حقيرا فيه لم يعدّه أحد من رجال الحق و رواده و لم يسمع أحد صوته يرتفع في نصرته و الدفاع عنه.

نعم عند ما ظهرت الفتنة و ارتفع صوت الباطل ظهرت إلى الوجود فجأة ظهور قرن الماعز شبّه ظهوره في الفتنة بقرن الماعز توهينا له و تحقيرا لحقارة قرن الماعز...

ترجمة البرج بن مسهر الطائي.

قال ابن أبي الحديد ما لفظه:

البرج بن مسهر - بضم الميم و كسر الهاء - بن الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريق بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طي بن داود بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

شاعر مشهور من شعراء الخوارج، نادى بشعارهم..

ص: 211

185 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يحمد اللّٰه فيها و يثني على رسوله و يصف خلقا من الحيوان

حمد اللّٰه تعالى

الحمد للّٰه الّذي لا تدركه الشّواهد (1)، و لا تحويه المشاهد (2)، و لا تراه النّواظر (3)، و لا تحجبه السّواتر (4)، الدّالّ (5) على قدمه (6) بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده، و باشتباههم على أن لا شبه له، الّذي صدق في ميعاده (7)، و ارتفع عن ظلم عباده، و قام بالقسط (8) في خلقه، و عدل عليهم في حكمه. مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، و بما و سمها (9) به من العجز على قدرته، و بما اضطّرها إليه من الفناء على دوامه. واحد لا بعدد، و دائم لا بأمد (10)، و قائم لا بعمد. تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة (11) و تشهد له المرائي (12) لا بمحاضرة. لم تحط به الأوهام، بل تجلّى (13) لها بها، و بها امتنع منها، و إليها حاكمها. ليس بذي كبر امتدّت به النّهايات فكبّرته تجسيما، و لا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا، بل كبر شأنا، و عظم سلطانا.

الرسول الأعظم

و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله الصّفيّ ، و أمينه الرّضيّ ، صلّى اللّٰه عليه و آله - أرسله بوجوب الحجج (14)، و ظهور الفلج (15)، و إيضاح المنهج (16)، فبلّغ الرّسالة صادعا (17) بها، و حمل على المحجّة (18) دالاّ

ص: 212

عليها، و أقام أعلام الاهتداء و منار الضّياء، و جعل أمراس (19) الإسلام متينة (20)، و عرا (21) الإيمان وثيقة (22).

منها في صفة خلق أصناف من الحيوان

و لو فكّروا في عظيم القدرة، و جسيم النّعمة، لرجعوا إلى الطّريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكن القلوب عليلة (23)، و البصائر (24) مدخولة (25) ! ألا ينظرون إلى صغير ما خلق، كيف أحكم (26) خلقه، و أتقن تركيبه، و فلق (27) له السّمع و البصر، و سوّى له (28) العظم و البشر (29)! انظروا إلى النّملة في صغر جثّتها (30)، و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، كيف دبّت (31) على أرضها، و صبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها (32)، و تعدّها (33) في مستقرّها. تجمع في حرّها لبردها، و في وردها (34) لصدرها (35)، مكفول (36) برزقها، مرزوقة بوفقها (37)، لا يغفلها المنّان (38)، و لا يحرمها الدّيّان (39)، و لو في الصّفا (40) اليابس، و الحجر الجامس (41)! و لو فكّرت في مجاري أكلها، في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف (42) بطنها، و ما في الرأس من عينها و أذنها، لقضيت (43) من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا! فتعالى الّذي أقامها على قوائمها (44)، و بناها على دعائمها! لم يشركه في فطرتها فاطر، و لم يعنه على خلقها قادر. و لو ضربت (45) في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلّتك الدّلالة (46) إلاّ على أنّ فاطر (47) النّملة هو فاطر النّخلة (48)، لدقيق تفصيل كلّ شيء، و غامض (49) اختلاف كلّ حيّ . و ما الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القويّ و الضّعيف، في خلقه إلاّ سواء.

ص: 213

خلقة السماء و الكون

و كذلك السّماء و الهواء، و الرّياح و الماء. فانظر إلى الشّمس و القمر، و النّبات و الشّجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا اللّيل و النّهار، و تفجّر (50) هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال (51) و تفرّق هذه اللّغات، و الألسن المختلفات. فالويل (52) لمن أنكر المقدّر، و جحد (53) المدبر (54)! زعموا أنّهم كالنّبات ما لهم زارع، و لا لاختلاف صورهم صانع، و لم يلجئوا (55) إلى حجّة فيما ادّعوا، و لا تحقيق لما أوعوا (56)، و هل يكون بناء من غير بان، أو جناية (57) من غير جان!.

خلقة الجرادة

و إنّ شئت قلت في الجرادة (58)، إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها حدقتين (59) قمراوين (60)، و جعل لها السّمع الخفيّ ، و فتح لها الفم السّويّ (61)، و جعل لها الحسّ القويّ ، و نابين (62) بهما تقرض (63)، و منجلين (64) بهما تقبض. يرهبها (65) الزّرّاع (66) في زرعهم، و لا يستطيعون ذبّها (67)، و لو أجلبوا (68) بجمعهم، حتّى ترد الحرث (69) في نزواتها (70)، و تقضي منه شهواتها. و خلقها (71) كلّه لا يكوّن إصبعا (72) مستدقّة (73).

فتبارك اللّٰه الّذي يَسْجُدُ لَهُ «مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً» ، و يعفّر (74) له خدّا و وجها، و يلقي إليه بالطّاعة سلما (75) و ضعفا (76)، و يعطي له القياد رهبة و خوفا! فالطّير مسخّرة لأمره، أحصى (77) عدد الرّيش منها و النّفس، و أرسى (78) قوائمها على النّدى (79) و اليبس (80)، و قدّر أقواتها، و أحصى أجناسها. فهذا غراب و هذا عقاب.

ص: 214

و هذا حمام و هذا نعام. دعا كلّ طائر باسمه، و كفل له برزقه. و أنشأ «اَلسَّحٰابَ اَلثِّقٰالَ » فأهطل (81) ديمها (82)، و عدّد قسمها. فبلّ الأرض بعد جفوفها (83)، و أخرج نبتها بعد جدوبها (84).

اللغة

1 - الشواهد: الحواس.

2 - المشاهد: المحاضر و المجالس.

3 - النواظر: العيون.

4 - السواتر: الأغطية و ستر الشيء إذا غطاه.

5 - الدال: المرشد و دله على الشي هداه إليه و أرشده.

6 - القدم: السابقة في الأمر.

7 - الميعاد: وقت الوعد أو مكانه.

8 - القسط: العدل.

9 - و سمها: من الوسم و هو العلامة.

10 - الأمد: الغاية.

11 - المشاعرة: شعور إحدى الحواس و إحساسها بما يعرض من الشيء عليها.

12 - المرائي: المرئيات و المنظورات.

13 - تجلى: ظهر و بان.

14 - الحجج: البراهين.

15 - الفلج: الظفر.

16 - المنهج: الطريق الواضح.

17 - صادعا: جاهرا مبلغا.

18 - المحجة: وسط الطريق.

19 - الأمراس: جمع مرس بالتحريك و هو جمع مرسة بالتحريك و هو الحبل.

20 - المتينة: الصلبة الشديدة القوية.

21 - العرى: جمع عروة مقبض الشي...

22 - الوثيقة: ما يعتمد به، الأحكام في الأمر.

23 - عليلة: مريضة.

24 - البصائر: جمع بصيرة العقل، الفطنة.

25 - مدخولة: معيوبة من الدخل.

ص: 215

26 - أحكم الشيء: أتقنه.

27 - فلق: شق.

28 - سوّى له: صنع له و عمل و سوّى الشيء جعله سويا أي مستقيما.

29 - البشر: ظاهر الجلد.

30 - جثتها: جسمها و بدنها.

31 - دبّت: تحركت.

32 - الجحر: بالضم بيوت النمل و الهوام.

33 - تعدها: تهيئوها.

34 - الورود: الإشراف على الماء.

35 - الصدور: الرجوع.

36 - مكفولة: مضمونة.

37 - بوفقها: بكسر الواو من يوافقها من الرزق و يلائم طبعها.

38 - المنان: من المن و هو العطاء.

39 - الديان: الحاكم و القاضي و قيل القهار و قيل السائس.

40 - الصفا: الحجر الأملس.

41 - الجامس: الجامد.

42 - الشراسيف: أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن.

43 - قضيت: حكمت.

44 - القوائم: للدابة أرجلها أو أيديها.

45 - ضربت: في الأرض سرت فيها و أسرعت.

46 - الدلالة: بالكسر و الفتح اسم من دله على الشيء و إليه أرشده و سدده.

47 - فاطر: خالق و مبدع.

48 - النخلة: شجرة تحمل التمر.

49 - الغامض: المبهم و غير الواضح.

50 - تفّجر: الماء جرى و خرج.

51 - القلال: جمع قلة بضم القاف الجبل أو أعلاه.

52 - الويل: الهلاك، قيل واد في جهنم.

53 - جحد: كفر، و جحده حقه أنكره مع علمه به.

54 - المدّبر: الخالق، و دبر الأمر تفكر فيه و نظر في عاقبته.

55 - يلجئوا: يستندوا و يعتمدوا.

56 - أوعوا: من أوعاه بمعنى حفظه.

57 - الجناية: الذنب، و جنى عليه إذا قتله أو ضربه.

ص: 216

58 - الجرادة: دويبة من مستقيمات الأجنحة أنواعها عديدة.

59 - الحدقة: سواد العين.

60 - قمراوين: جمع قمر أي مضيئتين كالقمر.

61 - السوي: الكامل الذي لا عيب فيه.

62 - النابين: مفرده ناب و هو من الأسنان خلف الرباعية.

63 - تقرض: من قرض. إذا قطع و قرض الفأر الثوب إذا أكله.

64 - منجلين: مفرده منجل حديدة ملتوية محددة يجتث بها الزرع.

65 - يرهبها: يخافها.

66 - الزراعّ : الفلاحون.

67 - الذب: الدفع.

68 - أجلبوا: أجمعوا.

69 - الحرث: الأرض التي تستنبت بالبذر و النوى و الغرس/المال.

70 - النزوات: مفردها نزا أي وثب.

71 - خلقها: ابدعها و كونها.

72 - الأصبع: عضو مستطيل يتشعب من طرف الكف و القدم.

73 - المستدقة: ما دق، و استرق ضد غلظ.

74 - يعفّر: يمرّغ من العفر بالتحريك و قد يسكن و هو وجه الأرض أو ترابها.

75 - السلم: بالكسر الصلح و المسالمة و بالتحريك الإستسلام و الانقياد.

76 - الضعف: ضد القوة.

77 - أحصى: الشيء عدّه و ضبطه.

78 - أرسى: أثبت و أرسى الشيء ثبت.

79 - الندى: بالتحريك مقابل اليبس.

80 - اليبس: ضد الرطوبة.

81 - الهطل: بالفتح تتابع المطر و الدمع.

82 - الديم: كالهمم جمع ديمة مطر يدوم في سكون بلا رعد و لا برق.

83 - الجفاف: اليباس و الجاف هو اليابس.

84 - الجدوب: المحل.

الشرح

(الحمد للّٰه الذي لا تدركه الشواهد و لا تحويه المشاهد و لا تراه النواظر و لا تحجبه السواتر) هذه الخطبة المباركة تتضمن حمد اللّٰه و الثناء على رسوله و فيها صفات بعض

ص: 217

المخلوقات من الحيوانات و الكون تدليلا على عظمة اللّٰه سبحانه و افتتحها بحمد اللّٰه بهذه الاعتبارات التي ذكرها...

الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد: و هي الحواس فإنه لو كان مدركا بها لكان محسوسا إذا لا تقع إلا على ذلك و اللّٰه ينزه عن ذلك فإنه ليس بجسم...

و لا تحويه المشاهد: فلا يقع في الأمكنة لأنها لو حوته لأخذ حجمها و عندها يتحول إلى جسم ليشار إليه و له طول و عرض و عمق و هو سبحانه يجل عن ذلك...

و لا تراه النواظر: لعجزها عن رؤيته فإنها لا ترى إلا الأجسام و هو جل سبحانه فوق ذلك...

و لا تحجبه السواتر: لأن المحجوب محدود أيضا فيكون أيضا جسما و اللّٰه منزه عن ذلك...

(الدال على قدمه بحدوث خلقه و بحدوث خلقه على وجوده) فإن الخلق الموجود من سماء و كواكب و أرض و ما عليها كلها أمور حادثة لم تكن ثم وجدت و هذه لا بد من محدث لها يفارقها و يفترق عنها، لا بد أن يكون غنيا بذاته واجبا لذاته ليس بحادث و إلا لكان مثلها محتاجا فقيرا فدلت بحاجتها و حدوثها على غنى محدثها و قدمه و أن لا مؤثر فيه و لا محدث له و هو القديم الذي لا يحد له قدم.

كما أن بحدوثها بعد العدم و بوجودها بعد أن لم تكن دلت على أنه لا بد من محدث لها و هو اللّٰه الذي أوجدها و كونها فدلت بهذا الحدوث على وجوده المحدث لها...

(و باشتباههم على أن لا شبه له) بحدوث هذه المخلوقات و وحدة شبهها في هذا الأمر نعرف أن مبدعها غيرها لأنه لو كان مثلها لاشترك في الحدوث و احتاج إلى علة محدثة له و هو سبحانه ليس كذلك.

(الذي صدق في ميعادة) فهو فيما وعد فيه صادق سواء كان على مستوى الدنيا أم على مستوى الآخرة لقبح الكذب و لأن المرء لا يكذب إلا لنقص فيه و اللّٰه سبحانه منزه عن ذلك قال تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ» .

(و ارتفع عن ظلم عباده و قام بالقسط في خلقه و عدل عليهم في حكمه) و اللّٰه سبحانه لا يظلم أحدا قال تعالى: «وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ» لأن الظلم قبيح بحكم العقل و الشرع بل سبحانه قام بالعدل بين خلقه حيث خلقهم وفق المصلحة لهم و أجرى عليهم التكاليف

ص: 218

و ألزمهم القيام بها و رتب على ذلك أن من أطاع اللّٰه دخل الجنة و من عصاه دخل النار.

(مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته) فوجود الأشياء بعد عدمها دلت على أزلية اللّٰه و إنه لا يحتاج إلى علة تحدثه و تخرجه إلى الوجود، ففقر الممكنات دلّلت على وجوب وجود اللّٰه و غناه عن كل علة فإن العقل يحكم بأن كل حادث يحتاج إلى موجد و إنه لا بد أن تنتهي سلسلة الاحتياج إلى من لا يحتاج إلى موجد فيحكم بأن علة العلل لا بد و أن يكون أزليا.

(و بما وسمها به من العجز على قدرته) من عجز الممكنات الذي يعنى أمكانها و حاجتها إلى مسبب يخلقها بل إلى ما يقيم حياتها و يديم استمرارها يدل ذلك على أن اللّٰه هو القادر المطلق الذي لا يشاركها في العجز و لا يشترك معها في الفقر فيكون هو القوي القدير...

(و بما اضطرها إليه من الفناء على دوامه) لأن المحدث يفنى و يزول و عرفنا أن المفني هو المحدث و لما كانت هذه الأشياء محدثة و اللّٰه لا يشترك معها في ذلك بل هو واجب الوجود المستغني عن كل موجود كان ذلك دليلا على دوامه و بقائه بعد فناء خلقه قال تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ » .

(واحد لا بعدد و دائم لا بأمد و قائم لا بعمد) فهو لا يدخل تحت العدد ليكون له ثاني و إنما هو واحد في ذاته و صفاته ليس كمثله شيء.

كما إنه دائم ليس له وقت ينتهى عنده أو يتوقف وجوده في حدوده فهو خالق الزمان و المكان و الوجود و كل موجود و هو أيضا قائم بدون سبب يقيمه أي ليس بحاجة إلى شيء يعتمد عليه في بقائه و استمراريته كما كان ليس بحاجة إلى الشيء أبدا فيما مضى لأنه واجب الوجود المستغني عن كل موجود...

(تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة و تشهد له المرائي لا بمحاضرة) فالأذهان و الأفكار تتقبل فكرة اللّٰه و تؤمن بها تؤمن بوجوده و بصفاته و لكن ليس عن طريق الإحساس المباشر الذي يجسد اللّٰه عندها و يحوله إلى جسم...

كما أن المرئيات كلها و هي ما يراه المرء من موجودات تشهد بوجود اللّٰه و لكن ليس شهادتها لأنه حاضر عندها حال فيها بل لأن من وجودها الحادث يستفيد العقل وجود اللّٰه الخالق لها و المبدع لوجودها...

(لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها و بها امتنع منها و إليها حاكمها) لأن كل ما

ص: 219

توهمته العقول فهو نتيجة لأمر حسي فيكون محدودا و اللّٰه منزه عن ذلك نعم ظهر لها بآثاره و من جملة آثاره هي نفسها فكانت هي نتيجة تجلياته كما أنه بحكم العقول امتنع أن تدركه العقول فالعقل يحكم على أنه لا يستطيع القدرة على إدراك كنه اللّٰه...

و إلى العقول السليمة حاكم العقول السقيمة فحكمت باستحالة إدراك ذات اللّٰه...

(ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما و لا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا بل كبر شأنا و عظم سلطانا) نفى أن يكون كبره بما نراه من عظيم الجسم طولا و عرضا و ارتفاعا حتى يصير كبيرا و إنما كبره باعتبار شأنه و جلاله و كذلك عظمته و إطلاق العظيم عليه ليس الكبير في الحجم بل العظيم في القدرة و السلطان و القوة.

(و أشهد أن محمدا عبده و رسوله الصفي و أمينه الرضي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أرسله بوجوب الحجج و ظهور الفلج و إيضاح المهج) بعد أن حمد اللّٰه بالاعتبارات المتقدمة أردف ذلك بالشهادة لرسول اللّٰه و وصفه بالعبودية لأنها تعنى أعلى درجات الطاعة للّٰه و الالتزام بأحكامه و بالتالي تعني كمال التحرر من كل سلطان غير سلطان اللّٰه.

كما وصفه بأنه الصفي المصطفى المصفى من كل عيب المنزه عن كل شائبة الأمين على وحيه و ما أنزل عليه الرضي المرتضى على تبليغ وحيه...

ثم بيّن وجوه ما أرسل به فقد أرسل بوجوب الحجج: أي الحجج الثابته و البراهين القاطعة من معجزات و أدلة تبين الحق و تلزم الناس باتباعه و العمل بما جاء به حتى تنقطع اعذار الناس و يرتفع قولهم «لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ » فالرسول جاء و معه الحجج و البينات.

و ظهور الفلح: أي ظهور النصر له و لدينه على جميع الأديان قال سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ » .

و إيضاح المنهج: أرسله اللّٰه ليبين للناس عن طريقه الطريق الواضح الموصل إلى رضى اللّٰه المؤدي إلى النجاة و الفوز بدرجات النعيم...

(فبّلغ الرسالة صادعا بها و حمل على المحجة دالا عليها و أقام أعلام الاهتداء و منار الضياء و جعل أمراس الإسلام متينة و عرا الإيمان وثيقة) و هذه بركات رسول اللّٰه و أفعاله الكريمة.

1 - بلغ الرسالة صادعا بها: أدى ما كلفّه اللّٰه به من الأحكام للناس مجاهرا بها مؤديا لها أمتثالا لأمر اللّٰه «فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ » بعد أن أمره بالتبليغ

ص: 220

بقوله: «يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » 2 - و حمل على المحجة دالا عليها: ألزم الناس بما يملك من أدلة على اقتفاء الشريعة و ما جاء به من الأحكام دالا لهم عليها مبينا لها...

3 - أقام أعلام الاهتداء و منار الضياء: أي نصب رايات الهدى و المنارات التي تهدي الضالين و تردهم إلى السبيل و إن الحجج و البينات و ما جاء به من بيان و حكمة كلها تهدي الناس و تكشف الظلمات...

4 - و جعل أمراس الإسلام متينة و عرا الإيمان وثيقة: أي و تدّ حبال الإسلام التي هي أصوله فبلغها للناس و فهمها لهم كما أن وثائق الإيمان و أسبابه التي هي أخص من الإسلام قد جعلها وثيقة محكمة من عمل بها دخل الجنة.. و بعبارة أخرى أصول الإسلام جعلها قوية لا تنقطع و أصول الإيمان محكمة لا تنفصم...

(و لو فكروا في عظيم القدرة و جسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق و خافوا عذاب الحريق و لكن القلوب عليلة و البصائر مدخولة) في هذا الفصل يذكر بعض مخلوقاته الدالة على قدرته و عظمته و يبتدأ بقوله: لو فكر الناس في عظيم قدرة اللّٰه حيث خلق السماوات و الأرض و ما فيهما و كذلك لو نظروا إلى نعم اللّٰه الجسيمة حيث سخر ما في السماوات و الأرض لصالح هذا الإنسان فإنهم لو فكروا في ذلك لعادوا إلى طريق الإسلام و الإيمان و التزموا بقواعد العدل و الحق و ما بلغه الرسل و جاء به الأنبياء و لخافوا عذاب الحريق و الذي لا يطيقه أحد ثم استدرك إنهم لم يفكروا في ذلك لأن قلوبهم مريضة سقيمة فيها الأهواء و تحكمها العصبيات و دين الآباء و الأجداد و البصائر التي تستطيع اكتشاف الحق معيبة لا تستطيع الوصول إلى الحقائق أو ادراك الصواب...

(ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه و اتقن تركيبه و فلق له السمع و البصر و سوى له العظم و البشر، انظروا إلى النملة في صغر جثتها و لطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر و لا بمستدرك الفكر كيف دبت على أرضها وصبت على رزقها تنقل الحبة إلى جحرها و تعدها في مستقرها تجمع في حرها لبردها و في وردها لصدرها مكفول برزقها مرزوقه بوفقها لا يغفلها المنان و لا يحرمها الديان و لو في الصفا اليابس و الحجر الجامس) بعد أن بين عظيم قدرته ذكر لطيف صنعه في صغير ما خلق و إن أصغر مخلوقاته جاءت في أحكم ما يكون و أشد إتقانا مما يكون، إنه تركيب متقن كل شيء في موضعه فقد فتح له السمع و البصر يرى مواقع حركاته و يسمع الأصوات و رتب له العظم و الجلد بحيث يتناسب و تركيبه...

ص: 221

ثم ذكر النملة على صغر جثتها و أمر أن ينظر الناس إليها بدقة و يفكروا في عظيم تكوينها و تركيبها ابتداء من صغر حجمها و لطافة هيئتها و كيف لا تنال بلحظ البصر بحيث يعجز الإنسان عن وصف دقائقها و إدراك حقائقها...

ثم ذكر من عجائبها كيف تتحرك على الأرض بدقة و كيف تستغرق في طلب رزقها لا تكل و لا تمل بل هي مستمرة جادة في طلبها أنّي وجد و لو في رءوس الجبال أو في قعر الوديان تنقل الحبة إلى جحرها و تعدها في مستقرها تنقلها إلى بيتها حيث محل إقامتها و استقرارها تسعى في أيام الصيف حيث الخيرات متوفرة إلى أيام الشتاء حيث البرد و تعذر الخروج من جحرها تجمع في أيام حركتها و نشاطها لأيام عجزها و فقدان قدرتها فهي تتحرك في الصيف لرفع الموانع أمامها و تنزوي في بيوتها في الشتاء للعوائق التي تمنعها من الحركة...

ثم ذكر أنها متكفلة برزقها تطلبه و تتعب في تحصيله كما يوافقها و يلائم طبيعتها فهي تختار ما تنتفع به و تستفيد منه فسبحان اللّٰه الكثير العطاء الذي لا ينسى النملة أو يغفل عنها فإنه خلقها و رزقها و سبحانه الذي لا يحرمها حقها في الرزق و العيش فإنه سبحانه المجازي كل نفس بما عملت و المعطي لها ما تستحق من الجزاء.

و كيف كان أراد بيان إنه يرزقها و لا يمنعها حقها لو كانت في الحجر الأملس الذي لا ينبت عليه عشب و لا يستقر عليه ماء فإنه سبحانه يرزقها و إن كانت فيه و كذلك لو كانت في الحجر الجامد فإنه يوصل رزقها إليها و يتكفل لها به.

(و لو فكّرت في مجاري أكلها في علوها و سفلها و ما في الجوف من شراسيف بطنها و ما في الرأس من عينها و أذنها لقضيت من خلقها عجبا و لقيت من وصفها تعبا، فتعالى الذي أقامها على قوائمها و بناها على دعائمها لم يشركه في فطرتها فاطر و لم يعنه على خلقها قادر) نبّه عليه السلام على مجال آخر للاعتبار و التفكر في النملة و إنه لو فكرت و نظرت إلى أمعائها التي يجري فيها الطعام كم هي دقيقة و رقيقة بحيث إذا كانت هي نفسها لا ترى فكيف بجزء منها و كذلك إذا نظرت إلى علوها الذي هو الرأس و ما فيه من عينين و أذنين، أين هما و كيف تبصر بهما أو تسمع و أنظر إلى سفلها و ما فيه من بطنها و أمعائها و الأضلاع و أطراف الأضلاع التي تبلغ في الدقة مبلغا متناهيا لا يقدر المرء على رؤيتها لو فكرت في كل ذلك لحكمت بعجيب خلقها و إنها من مخلوقات اللّٰه العجيبة و إذا أردت وصفها لقيت تعبا فتعالى اللّٰه الذي أقامها على قوائمها الرفيعة و جعلها تتحرك و تمشي طلبا لرزقها و بناءها على دعائمها أي على أعضائها التي يقوم عليها بدنها محل الأعصاب و العظام...

ص: 222

إنه سبحانه خلقها وحده و لم يشركه في خلقها أحد و لم يعنه على خلقها قادر لأنه القدير المطلق الذي خلقها و خلق غيرها.

(و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء و غامض اختلاف كل حي، و ما الجليل و اللطيف و الثقيل و الخفيف و القوي و الضعيف في خلقه إلاّ سواء) لو حركت فكرك و أشغلته فيما عندك من معلومات و ما تملكه من فلسفة و نظريات حتى تأتي إلى نهاية النهاية و غاية الغاية فيما عندك لن ترجع بعد كل ذلك و لن تدلك الدلالات إلا على شيء واحد و هو أن خالق النملة بجثتها الصغيرة هو خالق النخلة بطولها و ضخامتها ذلك لأن أجزاء كل شيء و دقتها في الصنع و التقدير و وضع كل عضو موضعه مع اختلاف الأشكال و الألوان و غموض الأسباب الموجبة لذلك كل هذا يدل على أنه لا بدّ لها من مدبر حكيم وضع كل شيء موضعه و يتساوى عنده خلق الكبير و الصغير و الثقيل و الخفيف و القوي و الضعيف لأنها كلها لا تحتاج إلا إلى إرادته و كلمة «كن» المعبرة عن المشيئة فتتحقق بأكملها كما يريد و بعبارة أخرى قدرته تعالى واحدة لا تختلف بإختلاف العناصر و الجزئيات من المجرة إلى الذرة هي هي...

(و كذلك السماء و الهواء و الرياح و الماء فانظر إلى الشمس و القمر و النبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا الليل و النهار و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرق هذه اللغات و الألسن المختلفات..) ضرب هذه الأشياء للناس كي يعرفوا إنها كلها في ميزان اللّٰه و هي كلها تستوي و تتساوى لديه و تحت قدرته، فقدرته عليها واحدة فالسماء و ما فيها و الهواء و ما يحمل و الرياح و فوائدها و الماء و رقته...

و كذلك الشمس و حرارتها و منافعها و القمر و نوره و ما فيه من فوائد و النبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا الليل و النهار فالأول أعمى و الثاني مبصر و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القمم المرتفعة و تعدد هذه اللغات و الألسن المختلفة كلها تدل على أنه واحد و إنه الموجد لها و المبدع و أنها كلها إليه تنتهي و هي عنده واحدة تستوي في الخلق و الإيجاد و بكلمة كن يتحقق كل ذلك...

(فالويل لمن أنكر المقدر و جحد المدبر زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع و لا لأختلاف صورهم صانع و لم يلجئوا إلى حجة فيما ادعوا و لا تحقيق لما أوعوا و هل يكون بناء من غير بان أو جناية من غير جان).

ص: 223

اللّٰه هو الخالق.

هذا دعاء بالهلاك على أولئك الذين أنكروا وجود اللّٰه الخالق و جحدوا مدّبر الكون و ما فيه فزعموا أنهم كالنبات الخارج في الصحراء أو في رءوس الجبال لم يزرعه زارع فهو يخرج بنفسه ثم يتلف و يموت فهم مثل ذلك يأتون الحياة ثم يغادرونها فلم يخلقهم خالق و لم يصنعهم صانع و قد قصّ اللّٰه خبر بعضهم - و هم الدهريون - قال تعالى حكاية عنهم(1): «وَ قٰالُوا مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ اَلدَّهْرُ» .

فزعموا أنهم بدون خالق و لا لإختلاف صورهم من أبيض إلى أسود إلى أسمر إلى أصفر فهذه كلها لم تكشف لهم عن وجود صانع خالق فلهم الويل مما زعموا و لهم الويل مما ادعوا ثم بيّنّ إنهم ينساقون وراء ما ورثوه عن الآباء و الأجداد و أخذوا عقائدهم دون فكر أو نظر لأنهم لم يقدموا على ما أدعوا دليلا أو برهانا يثبت ذلك و لم يبحثوا أو يدققوا فيما ذهبوا إليه و قالوا به فتكون مجرد دعوة باطلة...

ثم رد عليهم و بيّن لهم خطأ ما يزعمون و قدّم الدليل على أنهم عبيد مخلوقون للّٰه و ذلك بدليل العلة و المعلول و إن الأثر يكشف عن المؤثر فإذا وجدت خطا دل ذلك على وجود خطاط قام بذلك و إذا وجدت بناء و عمارة دل ذلك على وجود بناء و عمار و إذا وجدت القتيل لا بد و إن تكشف إن هناك قاتلا قد ارتكب الجريمة و هذا القانون، قانون العلة و المعلول فطري تدركه العقول و تؤمن به، فمن سمع صوتا علم أن هناك من يصّوت و من علم باثر دله ذلك على وجود مؤثر و قد استدل البدوي ببساطته على هذا القانون عند ما قال: «البعرة تدل على البعير و أثر الأقدام يدل على المسير أ فسماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج أفلا يدلان على اللطيف الخبير...» و قد استطاع هذا البدوي أن يتحدى بعقله الفطري الصافي أعظم الفلاسفة الذين انكروا مبدأ العلية أو شككوا فيه...

(و إن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراويين و أسرج لها حدقتين قمراوين و جعل لها السمع الخفي و فتح لها الفم السوي و جعل لها الحس القوي و نابين بهما تقرض و منجلين بهما تقبض) و هذا أمر آخر يذكره الإمام يدلل فيه على وجود الصانع الحكيم و هي الجرادة و يقول إن شئت أن تقول فيها ما قلت في النملة من عجيب الصنع و دقته و إنها تدل على موجدها و خالقها تستطيع ذلك ثم نبّه على بعض تركيبها و خصوصياتها: فقد خلق لها العينين الحمراوين مع كون حدقتهما قمراوين و جعل لها5.

ص: 224


1- سورة الجاثية، آية - 45.

السمع الخفي الذي لا تراه العيون أو الذي يسمع خفي الأصوات و فتح لها الفم السوي أي المستوي الذي يناسبها لمعاشها.

و جعل لها الحس القوي: فهي تملك حسا تدرك به موارد العطب و الخطر نظرا قويا و سمعا قويا أو إنها تملك حذقا قويا في تحصيل معاشها و قوتها... و إنه سبحانه جعل لها نابين بهما تقرض الزرع و الخضرة و منجلين بهما تقبص و هما الرجلان فإنهما كالمنجلين تقبضان على الشيء حتى تستمسك به جيدا...

(يرهبها الزرّاع في زرعهم و لا يستطيعون ذبّها و لو أجلبوا بجمعهم حتى ترد الحرث في نزواتها و تقضي منه شهواتها و خلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة) هذه الجرادة الصغيرة على صغرها يخاف منها المزارعون و يحسبون لها ألف حساب و لا يقدرون على دفعها عن زرعهم و غلاتهم لو اجتمعوا كلهم و اتفقت كلمتهم على القضاء عليها، إنها تحط قهرا عنهم في زرعهم و تبقى تقفز من هناك إلى هناك و من عرق أخضر إلى آخر تأكل و تفسد حتى تنهي الزرع إنها لا تبلغ مقدار أصبع صغيرة دقيقة و مع ذلك لها هذا الفعل الكبير...

(فتبارك اللّٰه الذي يسجد له من في السموات و الأرض طوعا و كرها و يعفر له خدا و وجها و يلقى إليه بالطاعة سلما و ضعفا و يعطي له القياد رهبة و خوفا) بعد أن ذكر الجرادة و أثرها و فعلها العظيم الذي منه يخاف الزراع و أشار إلى أنها تبلغ الأصبع في الحجم استحق ذلك تعظيم اللّٰه و تنزيهه أو التعجب من هذا المخلوق الصغير ثم وصف اللّٰه بأنه يسجد له من في السماوات و الأرض من مخلوقات و كائنات اختيارا من العارفين و اضطرارا من الجاهلين و بمعنى اخر يسجد له تكوينا لوقوع الجميع في ذل الحاجة و الإمكان قال تعالى: «وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً» .

و له تذّل الوجوه و النفوس و قد عبّر عنه بتعفير الخد و الوجه بالتراب أي تمريغها فيه كناية عن خضوعها و ذلها للّٰه و كذا من في السماء و الأرض يكون تحت قدرة اللّٰه مستسلما ضعيفا و يعطيه القياد و يسلمه زمام أمره خوفا منه و فزعا من سلطانه...

(فالطير مسخرة لأمره أحصى عدد الريش منها و النفس و أرسى قوائمها على الندى و اليبس و قدّر أقواتها و أحصى اجناسها فهذا غراب و هذا عقاب و هذا حمام و هذا نعام دعا كل طائر باسمه و كفل له برزقه و أنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها و عدّد قسمها فبل الأرض بعد جفوفها و أخرج نبتها بعد جدوبها) و باعتبار إنه في مقام ذكر مخلوقات اللّٰه فذكر الطير على اختلاف أصنافه و قال إنها مسخرة لأمره كما قال تعالى: «أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى»

ص: 225

«اَلطَّيْرِ مُسَخَّرٰاتٍ فِي جَوِّ اَلسَّمٰاءِ مٰا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللّٰهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » (1) .

نهى تحت قدرة اللّٰه موجّهة بوجهتها التي سخرها من أجلها.. ثم بين إحاطة علمه بدقائقها و جزئياتها و كل مفرداتها و تركيبها فهو يعلم عدد ريشها كل ريشة ريشة و يعلم مواصفاتها و مكان انباتها و طولها و لونها و جميع خصوصياتها و أنفاسها و كم تتنفس و متى فإنه مبدعها و فاطر وجودها...

و هو لحكمته و عظمته و علو قدرته جعل بعضها يقف على الماء كطير البحر و بعضها على الأرض كغيره من الطيور ثم أنه سبحانه جعل لكل منها قدرا من القوت يكفيها و أحصى أجناسها المختلفة و أشكالها المتنوعة.. ثم عدد بعض تلك الطيور فقال: هذا غراب و له مواصفات و ميزات و هذا عقاب جارح و هذا حمام أليف وادع و هذا نعام ذو منظر عجيب دعا كل طائر باسمه و ضمه إلى جنسه و كفل له برزقه الذي تكفل لكل نفس قوتها و رزقها...

ثم أشار إلى كمال قدرته في خلق السحاب فإنه سبحانه أنشأها مثقلة بالماء مملؤة به قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحٰابَ اَلثِّقٰالَ » ثم إنه سبحانه أنزل مطر هذا السحاب و وزعها على الأمكنة و الناس كل له جزء مقسوم احصاه و عدّه و بهذا الماء المنبعث من السحاب تبتل الأرض بعد جفافها و يباسها و تنتقل فتصبح ندية و بعد أن تكون الأرض جرداء قاحلة إذ بها تكتسي حلة خضراء فتخرج ثمارها و تعشوشب أرضها و تلبس ثوبا جديدا فتبارك اللّٰه أحسن الخالقين القائل و قوله الحق و الصدق «وَ جَعَلْنٰا مِنَ اَلْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ » ...6.

ص: 226


1- سورة النحل آية، 76.

186 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في التوحيد، و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى (1) من شبّهه، و لا صمده (2) من أشار إليه و توهّمه. كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم في سواه معلول. فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا بجول (3) فكرة، غنيّ لا باستفادة. لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده (4) الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله. بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر (5) له، و بمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين (6) له. ضادّ النّور بالظّلمة، و الوضوح (7) بالبهمة (8)، و الجمود (9) بالبلل (10)، و الحرور (11) بالصّرد (12). مؤلّف بين متعادياتها (13)، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها. لا يشمل (14) بحدّ، و لا يحسب بعدّ، و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الآلات إلى نظائرها (15). منعتها «منذ» القدمة، و حمتها «قد» الأزليّة، و جنّبتها «لولا» التّكملة! بها تجلّى (16) صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، و لا يجري عليه السّكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه، و يعود فيه ما هو أبداه، و يحدث فيه ما هو أحدثه! إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذ وجد له أمام، و لالتمس (17) التّمام إذ لزمه النّقصان. و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلا بعد أن كان

ص: 227

مدلولا عليه، و خرج بسلطان الامتناع (18) من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره.

الّذي لا يحول (19) و لا يزول، و لا يجوز عليه الأفول (20). لم يلد فيكون مولودا، و لم يولد فيصير محدودا. جلّ عن اتّخاذ الأبناء، و طهر عن ملامسة النّساء. لا تناله الأوهام فتقدّره، و لا تتوهّمه الفطن (21) فتصوّره، و لا تدركه الحواسّ فتحسّه، و لا تلمسه الأيدي فتمسّه. و لا يتغيّر بحال، و لا يتبدّل في الأحوال. و لا تبليه اللّيالي و الأيّام، و لا يغيّره الضّياء و الظّلام. و لا يوصف بشيء من الأجزاء، و لا بالجوارح و الأعضاء، و لا بعرض من الأعراض، و لا بالغيريّة و الأبعاض. و لا يقال: له حدّ و لا نهاية، و لا انقطاع و لا غاية، و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه (22) أو تهويه (23)، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله (24). ليس في الأشياء بوالج (25)، و لا عنها بخارج. يخبر لا بلسان و لهوات (26)، و يسمع لا بخروق (27) و أدوات. يقول و لا يلفظ، و يحفظ و لا يتحفّظ، و يريد و لا يضمر. يحبّ و يرضى من غير رقّة، و يبغض و يغضب من غير مشقّة. يقول لمن أراد كونه: «كن فيكون»، لا بصوت يقرع، و لا بنداء يسمع، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا.

لا يقال: كان بعد أن لم يكن، فتجري عليه الصّفات المحدثات، و لا يكون بينها و بينه فصل، و لا له عليها فضل، فيستوي الصّانع و المصنوع، و يتكافأ (28) المبتدع و البديع. خلق الخلائق على غير مثال خلا (29) من غيره، و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه. و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، و أرساها (30) على غير قرار، و أقامها بغير قوائم (31)، و رفعها بغير دعائم، و حصّنها من الأود (32) و الاعوجاج، و منعها من التّهافت (33)

ص: 228

و الانفراج (34). أرسى أوتادها (35) و ضرب أسدادها (36)، و استفاض عيونها، و خدّ (37) أوديتها، فلم يهن (38) ما بناه، و لا ضعف ما قوّاه. هو الظّاهر (39) عليها بسلطانه و عظمته، و هو الباطن لها بعلمه و معرفته، و العالي على كلّ شيء منها بجلاله و عزّته. لا يعجزه شيء منها طلبه، و لا يمتنع عليه فيغلبه، و لا يفوته السّريع منها فيسبقه، و لا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه. خضعت الأشياء له، و ذلّت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه و ضرّه، و لا كفء له فيكافئه (40)، و لا نظير له فيساويه. هو المفني لها بعد وجودها، حتّى يصير موجودها كمفقودها.

و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها. و كيف و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها، و ما كان من مراحها (41) و سائمها (42)، و أصناف أسناخها (43) و أجناسها، و متبلّدة (44) أممها و أكياسها (45)، على إحداث بعوضة، ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها، و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت، و عجزت قواها و تناهت، و رجعت خاسئة (46) حسيرة (47)، عارفة بأنّها مقهورة (48)، مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة (49) بالضّعف عن إفنائها! و إنّ اللّٰه، سبحانه، يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شيء معه. كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا مكان، و لا حين و لا زمان. عدمت عند ذلك الآجال (50) و الأوقات، و زالت السّنون و السّاعات.

فلا شيء إلاّ اللّٰه الواحد القهّار الّذي إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناؤها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها. لم يتكاءده (51) صنع شيء منها إذ صنعه، و لم يؤده (52) منها

ص: 229

خلق ما خلقه و برأه (53)، و لم يكوّنها لتشديد سلطان، و لا لخوف من زوال و نقصان، و لا للاستعانة بها على ندّ (54) مكاثر (55)، و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور (56)، و لا للازدياد بها في ملكه، و لا لمكاثرة شريك في شركه، و لا لوحشة (57) كانت منه، فأراد أن يستأنس إليها.

ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها، لا لسأم (58) دخل عليه في تصريفها و تدبيرها، و لا لراحة واصلة إليه، و لا لثقل شيء منها عليه. لا يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها، و لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه، و أمسكها بأمره، و أتقنها بقدرته، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، و لا استعانة بشيء منها عليها، و لا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس، و لا من حال جهل و عمى إلى حال علم و التماس، و لا من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة، و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة.

اللغة

1 - عنى: قصد و أراد.

2 - صمده: قصده.

3 - الجول: الحركة.

4 - ترفده: تعينه.

5 - المشعر: محل الشعور أي الإحساس.

6 - القرين: الصاحب.

7 - الوضوح: الانكشاف و الجلاء، البياض.

8 - البهمة: العتمة، الاشتباه و الالتباس في الأمر.

9 - الجمود: اليباس.

10 - البلل: الرطب و بلّ الثوب إذا ندّاه.

11 - الحرور: الريح الحارة.

12 - الصرد: محركا البرد أصلها فارسية.

ص: 230

13 - المتعاديات: المتضادات.

14 - يشمل: يعم و يحيط.

15 - النظائر: الاشباه و الأمثال.

16 - تجلى: ظهر و بان.

17 - التمس: طلب.

18 - الامتناع: من المنعة و هي العزة.

19 - يحول: يتغيّر و يتبدل.

20 - الأفول: من أفل إذا غاب.

21 - الفطن: جودة الفكر و دقته.

22 - تقله: تحمله.

23 - تهويه: تسقطه.

24 - يعدّله: يقوّمه.

25 - الولوج: الدخول.

26 - اللهوات: جمع لهاة اللحمة في أقصى سقف الحلق.

27 - الخروق: الشقوق و المقصود الآذان.

28 - يتكافأ: يتساوى.

29 - خلا: مضى و سبق.

30 - أرساها: أثبتها.

31 - القوائم: جمع قائمة رجل الحيوان أو يده.

32 - الأود: الاعوجاج.

33 - التهافت: التساقط.

34 - الانفراج: الانفتاح.

35 - الأوتاد: جمع وتد يراد هنا الجبال.

36 - الأسداد: جمع سد و هو المانع.

37 - خدّ: شق.

38 - وهن: ضعف.

39 - الظاهر: الغالب.

40 - الكفء: المثل و النظير.

41 - المراح: بضم الميم مأوى الحيوانات.

42 - سائمها: راعيها.

43 - اسناخها: أصنافها و طبائعها، أصولها.

44 - المتبلدة: الغبّية.

ص: 231

45 - أكياس: جمع كيّس بالتشديد العاقل الحاذق.

46 - الخاسئة: الذليلة.

47 - الحسير: الكال، المعيّي.

48 - مقهورة: مغلوبة.

49 - مذعنة: معترفة.

50 - الآجال: الأوقات و الأزمان.

51 - تكاءده: الأمر شق عليه.

52 - لا يؤده: لا يعجزه و لا يثقل عليه.

53 - برأه: خلقه.

54 - الند: المثل.

55 - المكاثرة: المغالبة بالكثرة.

56 - المثاور: المواثب المهاجم.

57 - الوحشة: ضد الأنس.

58 - السأم: الملل.

الشرح

(ما وحدّه من كيّفه و لا حقيقته أصاب من مثلّه و لا إياه عنى من شبهه و لا صمده من أشار إليه و توهمه) هذه الخطبة الشريفة تتضمن أرفع أدلة التوحيد و أعظمها و قد ابتدأ بنفي هذه الأمور عن اللّٰه لأنها تتنافى و توحيده.

1 - ما وحدّه من كيّفه: فمن قال: كيف هو؟ فمعنى ذلك أنه سأل عن متغيّر فيكون مركبا و معنى ذلك أنه متعدد لتركبه من الموصوف مع الصفة فيتعدد و اللّٰه سبحانه واحد أحد.

2 - و لا حقيقته أصاب من مثّله: من مثل اللّٰه بغيره لم يهتد إلى حقيقته و لم يعرف ربه على الوجه الصحيح لأنه لا مثيل له «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ » و «هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ» .

3 - و لا إياه عنى من شبهه: من شبّه اللّٰه بأحد من خلقه فلم يقصده و لم يهتد إليه لأن المشابهة من كل الجهات تعني الاتحاد و نفي الاثنينية و إلا لزم تعدد واجب الوجود و هو محال...

ص: 232

بالإشارة الحسية أو الوهمية لأن كل ذلك يشير إلى محسوس و المحسوس جسم و اللّٰه منزه عن كل ذلك...

(كل معروف بنفسه مصنوع و كل قائم في سواه معلول) لأن من عرفت حقيقته يكون مركبا من أجزاء و من كان له أجزاء كان لا بد له من صانع يصنع هذه الأجزاء و يركبها و كل من كان قائما في سواه احتاج إليه و المحتاج ممكن مفتقر و اللّٰه غني عن الإمكان و الحاجة لأنه واجب الوجود المستغني عن كل موجود...

(فاعل لا باضطراب آلة مقدّر لا بجول فكرة غني لا باستفادة) إنه سبحانه خالق الكون و ما فيه بدون حاجة إلى وسيلة يستعين بها على ذلك لأن من كان بحاجة إلى وسيلة كان فقيرا و اللّٰه غني مطلق و قادر مطلق إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون...

و هو سبحانه مقدّر للأشياء حاجتها كما و كيفا بحسب استعدادها بدون حركة عقلية كما هو ديدن البشر عند ما يقدرون أمرا أو يريدونه لا بد لهم من دراسته و النظر بما فيه و ما فيه و ملاحظة جميع جوانبه الداعية إلى إيجاده و تقديره و بعدها يصدر الحكم بالوجود...

و كذلك هو غني بذاته و ليس بما يستفيده من معلومات أو قضايا أو مخلوقات و كائنات لأنه واجب الوجود المستغنى عن كل موجود.

(لا تصحبه الأوقات و لا ترفده الأدوات سبق الأوقات كونه و العدم وجوده و الابتداء أزله) لا تصحبه الأوقات: لأنه كان و لم يكن زمان لأن الزمان وليد حركة الفلك و لم يكن ثم كان و لا يبقى إلى الأبد بل لا بد من فنائه و يبقى سبحانه حي بدون زمان...

و لا تعينه الآلات لأنه غني عنها و المحتاج إلى الآلات فقير و اللّٰه غني منزه عن الحاجة لأنه واجب الوجود المستغني عن كل موجود.

سبق الأوقات كونه، فكان و لم يكن وقت و لا زمان لأنها حادثة و هو قديم كما أن وجوده سبق العدم بل لم يمر عليه العدم أصلا و لن يطرأ عليه العدم أصلا كما أن أزليته تنفي أن يكون له أولية و ابتداء...

(بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له) أي بخلقه المشاعر و الحواس عرف أن لا إحساس له و لا مشاعر متعارفة عند البشر لأنه غير مخلوقاته و لا يحكمه ما يحكمهم و لأن المشاعر للناس إنما كانت لأجل حاجتهم لها و اللّٰه غني عنها بذاته لا يحتاج إلى شيء...

(و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له) معروف أن الأضداد تزاحم بعضها

ص: 233

البعض و تعارض بعضها بعضا فكل ضد يدفع ضده ليحل محله جاء النهار دفع الليل و حلّ محله و من هنا نعرف أن اللّٰه لا ضد له يزيله أو يحل محله لأنه الغني المطلق القادر المطلق.

(و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له) لأنه لو كان له قرين لما امتاز عن قرينه فيكون مثله ممكنا عاجزا عن التغلب عليه و حاشا للّٰه أن يوصف بعجز أو إمكان بل هو الواجب الوجود القوي المطلق...

(ضاد النور بالظلمة) فإننا بهذه المضادة نعرف قيمة كل منهما و دوره في حياة الإنسان و فوائده.

(و الوضوح بالبهمة) أي الظهور مضاد للخفاء و الظهور انكشاف و الخفاء استتار و بينهما بون واسع و قيل: إن الوضوح هو البياض و البهمة السواد...

(و الجمود بالبلل) اليبوسة بالرطوبة.

(و الحرور بالصرد) الحرارة بالبرودة أو حرارة الهواء بالبرودة.

(مؤلف بين متعادياتها مقارن بين متبايناتها مقرب بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها) فهو القادر على تأليف و تركيب المتعاديات لشدة قوته و سيطرته على الوجود كما أنه يقارن بين المتباينات التي لا تلتقي في أمر بطبعها و لا تجتمع في محل و هو سبحانه المقرّب بين المتباعدات بعدا زمانيا أو مكانيا أو ذاتيا فهو سبحانه الذي لا يعجزه أمر و لا يحول دون إرادته قهر يقرّب المتباعدات و يبعّد المتقاربات... يقرّب بين الروح و الجسد مع بعد كل منهما عن الآخر ثم يفرق بينهما بعد التآلف...

(لا يشمل بحد و لا يحسب بعد و إنما تحد الأدوات أنفسها و تشير الآلات إلى نظائرها) لا تستطيع أن ترسم اللّٰه بتعريف يبيّن تركيبه لأن من يحدّ هو المركب من جنس و فصل و اللّٰه منزه عن التركيب لأن كل مركب مفتقر إلى أجزائه و اللّٰه غني كبير، كما لا تستطيع أن تحده بمعنى تؤطره و ترسم له نهاية و حدود لأن ذلك يجسده و يجسمه و يشار عندها إليه و اللّٰه منزه عن كل ذلك...

كما أنه سبحانه لا يلحقه العد و الحساب ليدخل في جملة المعدودات من الأشياء لأن العد من لواحق الكم و الكم عرض و اللّٰه ينزه عن العرض و قال بعضهم: إنه لا تحسب أزليته بعدّ أي لا يقال له: منذكم وجد.

و أشار إلى أن الأدوات و هي الحواس و القوى المادية إنما تحد أنفسها و تشير إلى

ص: 234

أمثالها من الماديات و اللّٰه منزه عن ذلك.

(منعتها «منذ» القدمة و حمتها «قد» الأزلية و جنبتها «لو لا» التكملة) «منذ» و «قد» و «لولا» إنما تستعمل في الأدوات و الآلات و أصحابها لنقصها و حدوثها و إمكانها، فيقال قد وجدت بعد أن لم تكن و وجد منذ كذا و يقال لو لا فناؤه ما أحسنه فمنذ تمنع كون هذه الآلات قديمة لأنه يسأل بها عن الابتداء و في أي زمان وجدت «و قد» تمنع من أزليته لأنها تفيد تقريب الماضي من الحال فقولنا قد كان كذا في وقت كذا أي قريب منه و القريب من الحاضر ليس بأزلي.

و لفظة «لولا» تمنع كمالها فيقال: لولا موته لكان عظيما فامتنعت عظمته بالموت فلم يكمل فكان ناقصا.

و أشار بهذا إلى نقصان الآلات و حدوثها ليدلل على عدم كونها تحد اللّٰه أو تشير إليه لأنه الكامل المطلق لا يحده المحدود الناقص...

(بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع عن نظر العيون) فإن هذه الأدوات و الآلات دلت على وجود اللّٰه لأنها حادثة لا بد لها من محدث، و المحدث هو اللّٰه رب العالمين فمنها حكم العقل بوجود اللّٰه و ظهر جل اسمه للعيون...

كما أنها لرؤيتها بالعيون من حيث كونها ممكنة محسوسة دلت على أن النظر إليه ممتنع لأنه غيرها و لأن كل منظور مجسم و تصح الإشارة إليه و اللّٰه منزه عن ذلك لأنه ليس بجسم ممكن فقير محتاج...

(و لا يجري عليه السكون و الحركة) لأنهما من صفات الأجسام و اللّٰه منزه عن الجسمية و علل عدم جريان الحركة و السكون عليه بوجوه و هي:

1 - (و كيف يجري عليه ما هو أجراه و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه) استفهام استنكاري أن تجري عليه هذه الأمور إبطالا لها و أنها لا تجري عليه أو تلحق به.

فهو سبحانه خالق الحركة و السكون و هما متأخران عنه فلا يتصف بهما لأن اتصافه بهما دليل حاجته إليهما و اللّٰه غني عن ذلك.

و كذلك إذا عاد إليه ما أظهره و أبداه من الحركة و السكون فإنه لا يعود إليه إلا لحاجته إليه و هو غني عن ذلك و كذا لو حدث فيه ما أحدثه هو فإنه يكون محلا للحوادث و هو منزه عن ذلك....

ص: 235

2 - (إذا لتفاوتت ذاته) أي تغيرت ذاته لو كان تارة متحركا و أخرى ساكنا و اللّٰه لا يقع تحت التغيرات و التأثيرات.

3 - (و لتجزأ كنهه) لأن ما يحتاج إلى الحركة و السكون هو الجسم و الجسم يتجزأ و ينفصل و يتفكك تركيبه و اللّٰه منزه عن ذلك إذ ليس بجسم و ليس له أجزء...

4 - (و لامتنع من الأزل معناه) لأن الحركة و السكون إنما يعرضان على الجسم، و الجسم حادث و الحادث تمتنع أزليته...

5 - (و لكان له وراء إذ وجد له أمام) لو كانت تجري عليه الحركة لكان جسما فإذا تحرك إلى الأمام كان له خلف و وراء فيكون محدودا و يصح قسمته و تحديده و اللّٰه منزه عن أن يوصف بالوراء أو الأمام أو يحد بحدود...

6 - (و لا لتمس التمام إذ لزمه النقصان) لأنه عند ما يسكن ينقص لأن السكون عدم فيحتاج إلى الحركة ليرفع النقص و يكمل التمام فيكون محتاجا إلى الحركة و اللّٰه غني كامل...

7 - (و إذا لقامت آية المصنوع فيه) فلو كانت تجري عليه الحركة و السكون لقامت فيه علامة المصنوع لكون الحركة و السكون من خصوصيات المخلوق فيتحول الصانع عند ما يتصف بهما إلا مصنوع لاحتياجه إليهما و فقره إليهما و هو سبحانه الغني الكامل...

8 - (و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه) لأن الأجسام بما أنها تنتقل من الحركة إلى السكون عرفنا أن لها صانعا حركها فإذا اشترك معها في الحركة و السكون انتقل إلى كونه دليلا على أن له صانعا و عندها يشترك مع غيره في كون الجميع بحاجة إلى مؤثر و أصبح دليلا على أن له خالقا مبدعا تعالى اللّٰه عن ذلك علوا كبيرا...

(و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره) فهو ممتنع ذاتا عن الانفعال و التأثر و بهذا الامتناع كان واجبا للوجود و خرج عن أن يؤثر فيه الزمان و المكان و الحوادث و غيرها من العوامل التي تؤثر في غيره من الممكنات لأنه غيرها ذاتا و صفاتا بل هي مخلوقاته و هو خالقها... و قوله: و خرج معطوف على قوله امتنع أي بها امتنع عن نظر العيون و خرج عن أن يؤثر... و قال بعضهم أنه معطوف على قوله: تجلّى...

9 - (الذي لا يحول و لا يزول) أي لا يتحوّل من مكان إلى آخر لأنه في كل مكان و لا يخلو منه مكان كما أنه لا يزول عن مكانه أو يطرأ عليه الفناء لأن ذلك صفة الممكنات الفقيرة...

ص: 236

10 - (و لا يجوز عليه الأفول) أي لا يجوز أن يغيب عن ساحة الوجود بعد الحضور لأن الأفول دليل الحدوث و الحدوث إنما يكون في الممكنات و اللّٰه غني بذاته.

11 - (لم يلد فيكون مولودا و لم يولد فيصير محدودا جل عن اتخاذ الأبناء و طهر عن ملامسة النساء) لأن العادة جرت أن من ولد يكون مولودا أو لأن من ولد لا بد و أن يكون جسما مشابها لمن ولده لمشابهته في النطفة فيتحد الأصل و الفرع في مادة الوجود و اللّٰه سبحانه جل عن ذلك: «قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ» .

و كل مولود لا بد و أن يكون محدودا بحدود الزمان الذي ولد فيه و المكان الذي ولد فيه و اللّٰه سبحانه لا يحويه مكان و لا يحده زمان جل عن اتخاذ الأبناء لأنه الغني بالذات فليس بحاجة إليهم من وجه من الوجوه و كذلك جل عن ملامسة النساء لأن ملامستهن و قضاء الوطر منهن إنما هو لقضاء الشهوة و اللّٰه تعالى لا ينفعل أو يتأثر و ليس بحاجة إلى ذلك.. و قيل: إن طهره عن ملامسة النساء لما يستلزم ذلك من الجسمية و التركيب الذي تنزه عن ذلك...

(لا تناله الأوهام فتقدره) فالأوهام تقدر حسب ما تقع عليه الحواس مع زيادات و مبالغات و هذه الأوهام لا تنال الباري فبالتالي لا تقدره لأنها لو قدرت على ذلك و قدّرته لحددته بحدود و المحدود مركب و محتاج و اللّٰه ينزه عن ذلك فهو الغني الكبير...

(و لا تتوهمه الفطن فتصوره) مهما كانت العقول حاذقة نشيطة فإنها لا تقدر على أن ترسم للّٰه صورة معينة لأن قوة الوهم عندها خاضعة لقدرتها و طاقتها و هي محدودة بحدود معينة لا يمكنها أن تتخطاها و باعتبار أن العقول تدرك الصورة الوهمية أو التقريبية و لكنها مع ذلك لن تقدر على تصور اللّٰه لأنه فوق التصور و لو تصورته لكان ذلك صورة خيالية و اللّٰه منزه عن ذلك...

(و لا تدركه الحواس فتحسه) لأن الحواس إنما تدرك الأجسام و تحس بها و اللّٰه منزه عن ذلك لأن الجسم مركب و المركب مفتقر إلى أجزائه و اللّٰه غني بقول مطلق...

(و لا تلمسه الأيدي فتمسه) لأنه ليس بجسم فلا تلمسه الأيدي و لا تمسه و تحس به.

(و لا يتغيّر بحال و لا يتبدل في الأحوال) فهو لا يتغير من حال إلى حال تبعا للظروف أبدا لأن الذي يتغير هو الجسم و كذلك لا يتبدل في الأحوال كلها بل هو اللّٰه الواحد الأحد في الذات و الصفات...

ص: 237

(و لا تبليه الليالي و الأيام) فإن مرور الأيام و الليالي تشيب الصغير و تميت الكبير و اللّٰه سبحانه لا يفنى و لا يبلى لأن الليل و النهار نتيجة حركة الفلك و هو سبحانه الخالق له و لما ينتج عنه فلا يتأثر بهما و هذا منه عليه السلام نفي لما يمر على الناس و الأشياء و يحكمهم من الفناء...

(و لا يغيّره الضياء و الظلام) لا يتأثر بالضياء فيرى فيه بينما في الظلام لا يرى و ذلك لأن الأمور عنده تتساوى جميعها و لا يتغير بشيء أبدا.

(و لا يوصف بشيء من الأجزاء و لا بالجوارح و الأعضاء) لأن الجزء غير الكل و بدون أشكال أن الكل بحاجة إلى الجزء و المحتاج ممكن فقير و كذلك ليس له جوارح أو أعضاء لأنه يكون مركبا و المركب هو الجسم و اللّٰه منزه عن الجسمية لما فيها من الحاجة و الافتقار...

(و لا بعرض من الأعراض و لا بالغيرية و الأبعاض) الأعراض تسعة و ليس اللّٰه بمتصف بأحدها و لا يعرض عليه شيء منها فلا يقال: كيف هو؟ أو متى وجد؟ أو أين وجد أو من أوجده ؟ و هكذا و لا يقال: إنه ذو أجزاء كما لا يقال: إن جزءه هذا يغاير جزءه ذاك إذ لا أجزاء له حتى يقال إنها متغايرة...

(و لا يقال: له حد و لا نهاية و لا انقطاع و لا غاية) لا يقال له حد يبتدأ منه و لا نهاية ينتهي عندها لأن ذلك من صفات الأجسام و اللّٰه ليس بجسم لغناه و سلطانه كما أنه لا انقطاع لبقائه و لا غاية ينتهي إليها و يتوقف وجوده عندها بل هو أزلي أبدي.

(و لا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه) أي ليس محمولا في شيء ليتحرك بحركته علوا و نزولا صعودا و هبوطا.

(أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله) كذلك ليس هو محمول على شيء حتى يميل من جانب إلى آخر أو يعتدل و يستوي فلا يميل فهو ليس في شيء و لا على شيء.

(ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج) لا يدخل الأشياء لأن من يدخلها يكون جسما مهما دق و لطف و ليس بخارج عنها حتى يكون بعيدا و لا علاقة له بها بل هو بعيد بذاته و صفاته عنها قريب منها بعلمه و تدبيره و درايته لها...

(يخبر لا بلسان و لهوات) هذا نفي لما هو موجود عند الناس فإنهم إذا أرادوا نقل خبر احتاجوا إلى اللسان و إلى اللهوات التي تنظم الكلام و تخرجه من مخارجه و هي لحيمة صغيرة متدلية في أقصى الحلق فهو سبحانه إذا أراد الأخبار يحدث ذلك بدون حاجة إلى هذه الحاسة.

ص: 238

(و يسمع لا بخروق و أدوات) فلا يحتاج لكي يسمع شكوى المظلومين و دعاءهم أو كلام الداعين و المتهجدين أو ما يجري في العالمين لا يحتاج إلى ثقوب الآذان و أدواتها من السدان و المطرقة و غيرها من رفع الموانع بل هو يسمع السر و أخفى...

(يقول و لا يلفظ) فهو يخلق الصوت في الشجرة فتتكلم و لا يلفظ بلسان كما هو المتعارف عند الناس.

(و يحفظ و لا يتحفظ) يعلم الأشياء و لا يحتاج بقاء علمه لها إلى أن يتحفظ عليها و يبقى يستذكرها لأن ذلك يحتاج إلى آلة و هو منزه عن ذلك... و قيل: إن معناه يحفظ عباده من المهالك و لا يتحفظ منهم لأنه لا يتأثر بهم...

(و يريد و لا يضمر) إذا أراد شيئا تحقق مباشرة بدون حاجة إلى أن يضمر وجوده و يحفظه في نفسه و ينوي إيجاده لأن ذلك دليل عجز و هو فعل الممكن الذي يعجز أو يحتاج إلى تصور للشيء و عزم عليه...

(يحب و يرضى من غير رقة) نفي لما هو عند البشر من حيث إنه إذا أحب إنسان إنسانا و رضي عنه رقّ له و عطف عليه و مال إليه بل إن حبه و رضاه على إنسان إنما يكون بمعنى إثابته و إنعامه عليه.

(و يبغض و يغضب من غير مشقة) يبغض العبد لعصيانه و يغضب عليه لتمرده و لكن بغضه يعني عذابه و عدم ثوابه له و غضبه عليه يعني عقابه و ليس ما تعارف عند الناس و طبعوا عليه من أنهم إذا أبغضوا إنسانا ثارت قواهم الغضبية و أحبوا الانتقام منه...

(يقول لمن أراد كونه: «كن فيكون» لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله، لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا) هذا من قول اللّٰه تعالى: «إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » .

قالوا: و التقدير بأن يكوّنه فيكون فعبر عن هذا المعنى بكن لأنه أبلغ فيما يراد و ليس هنا قول و إنما هو إخبار بحدوث ما يريده فإنه سبحانه إذا أراد شيئا تحقق وجوده بدون أن يلاحظ منافعه و فوائده و ضرورة وجوده و غيرها من المقدمات التي تتحرك في ذهن البشر ليحصل المطلوب...

و لكون المراد يتحقق بنفس الإرادة نفي أن يكون قوله: «كُنْ » نتيجة صوت يقرع الآذان أو نداء يسمع المراد، فكنّ لا تعني لفظا و لا حرفا يلفظ أو يقال...

و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله فهو فعل من أفعاله التي خلقها في غيره أو

ص: 239

ألقاها إليه أو نقشها في صدره.

و كلامه سبحانه حادث لم يكن من قبل ثم حدث و هذا رد على بعض الأفكار التي كانت تتصور أن كلام اللّٰه قديم... ردّ عليه السلام عليهم بأنه لو كان كلامه قديما لكان إلها ثانيا بعد اللّٰه و اللّٰه سبحانه وحده لا شريك له فلا يكون كلامه قديما...

(لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات و لا يكون بينها و بينه فصل و لا له عليها فضل فيستوي الصانع و المصنوع و يتكافأ المبتدع و البديع) نفى عنه الحدوث حيث نفى عنه أن يقال له: كان بعد أن لم يكن، لأن معنى ذلك أنه حادث قد وجد بعد العدم، و إذا وجد بعد العدم و كان محدثا أخذ الصفات التي تتصف بها المحدثات و تتحد معه في الصفات و لا يكون بينه و بينها فصل يميزه عنها أو يفرده و لا له عليها فضل و بماذا يفضلها و هو مثلها في الصفات و إذا أخذ صفاتها و تقمص مميزاتها يتساوى عندها الصانع و المصنوع و الخالق و المخلوق و يكون المبتدع و البديع على حد سواء و في مستوى واحد و لكن باعتبار أنه أزلي و لا يصدق عليه الحدوث بعد العدم فلا تلحقه الصفات المحدثة و ينتفي كل ما يترتب عليها من عدم الفصل بينه و بينها أو فضل أو مساواة بينه و بينها أو غير ذلك...

(خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه) لم يخلق الخلق على شبه مضى من خلق غيره بل ابتدعه ابتداء و فطره دون اقتداء بأحد و دون استعانة بأحد من خلقه لأن الاستعانة تكون للضعيف الذي لا يقدر على القيام بالأمر بمفرده أما اللّٰه فهو سبحانه القوي القدير الذي لا يعجزه شيء في الأرض و السماء...

(و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال و أرساها على غير قرار و أقامها بغير قوائم و رفعها بغير دعائم و حصنها من الأود و الاعوجاج) ذكر الأرض و تكوينه لها و الدال على عظمته و قدرته و حكمته فقد أنشأ الأرض و خلقها و حفظها ضمن قوانين الكون العامة فجعل لها الجاذبية التي تحفظها و لم يشغله ذلك عن غيرها من الأمور الأخرى فأثبتها بدون شيء تعمدت عليه أو يوضع تحتها فيسندها ككل شيء يراد له أن يستقر بل جعلها معلقة بالفضاء كما نرى تسبح بقوانين ربانية أرادها لهذه الكائنات إنه سبحانه أقامها بدون ركائز تعتمد عليها أو عمد تعتمد عليها و جعلها حصينة منيعة فلا تميل أو تميد أو تضطرب أو تتزلزل...

(و منعها من التهافت و الانفراج) حفظها من التساقط كما أنه لم يجعل بين أجزائها شقوق تضر بوضعها و تكوينها.

ص: 240

(أرسى أوتادها و ضرب أسدادها و استفاض عيونها) ثبّت جبالها كما قال تعالى:

«أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهٰاداً وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً» و جعل بين بقاعها سدودا لها و فواصل بينها لحكمة يعلمها ثم ذكر أنه أفاض عيونها جعلها فائضة تخرج إلى الخارج.

(و خد أوديتها) حفر الأودية و شقها و أجرى فيها الماء و جعل فيها المنافع و الخيرات...

(فلم يهن ما بناه و لا ضعف ما قوّاه) هذا دليل على عظمة اللّٰه و قدرته و قوته بأنّ ما بناه لم يضعف أو يتأثر على طول الزمن و مر الأيام و الليالي...

(هو الظاهر عليها بسلطانه و عظمته و هو الباطن لها بعلمه و معرفته و العالي على كل شيء منها بجلاله و عزته) فهو المستولي عليها و على ما فيها بقوته و قدرته و هو سبحانه يعرفها و يعرف دخائلها و خصوصيات تركيبها و هو لكماله عزيز لا يضام قاهر لعباده و مسيطر عليهم.

(لا يعجزه شيء منها طلبه) فما يريده يتحقق و لا يعجزه شيء قال تعالى: «وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كٰانَ عَلِيماً قَدِيراً» .

(و لا يمتنع عليه فيغلبه) لا يقوى شيء على اللّٰه فيغلبه و يمتنع من الوقوع تحت يديه قال تعالى: «وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً» .

(و لا يفوته السريع منها فيسبقه) أي لا يهرب من قبضته أو يسبقه فلا يقدر عليه من كان سريعا في حركته قال تعالى: «وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ » .

(و لا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه) لا يحتاج إلى غني حتى يعطيه و يرزقه بل هو الغني الحميد المعطي الرزاق.

(خضعت الأشياء له و ذلت مستكينة لعظمته) كل مخلوقات اللّٰه خاضعة اللّٰه ذليلة بين يديه خضوعا تكوينيا لحاجتها و فقرها و إمكانها فهي في أصل وجودها مفتقرة إلى اللّٰه و في إكمال حياتها و استمراريتها تحتاج إلى كرم اللّٰه...

(لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه و ضره) كل الأشياء في قبضة اللّٰه و تحت قدرته لا تستطيع أن تهرب من حكمه و ما يريد منها من نفع أو ضر إلى غيره حيث لا شيء غيره تعتمد عليه في دفع الضر عنها أو جلب المنفعة لها...

(و لا كفء له فيكافئه و لا نظير له فيساويه) اللّٰه واجب الوجود و لا كفء له يعادله أو

ص: 241

يماثله و لا نظير له في الخلق أو في أصل الوجود حتى يساويه...

(هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها) فاللّٰه يعدم الدنيا و يزيلها بعد أن وجدت حتى يعود ما هو موجود الآن بحكم العدم بل يرجع معدوما لا عين منه و لا أثر.

(و ليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها) و كأن هناك من يستبعد قدرة اللّٰه على إفناء الدنيا و زوالها فأجابهم عليه السلام أن ابتداع الدنيا و خلقها من لا شيء أعجب و أشد غرابة من إعدامها بل إيجادها و إعدامها و كل ما يجري عليها أو فيها كل ذلك تحت قدرة اللّٰه في مستوى واحد لا يعجزه شيء.

(و كيف و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها و ما كان من مراحها و سائمها و أصناف أسناخها و أجناسها و متبلدة أممها و أكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها و لا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها) استفهم متعجبا و مقررا أن خلق الأشياء أعظم من إفنائها و إعدامها و دليل ذلك أنه لو اجتمع جميع مخلوقات اللّٰه من الحيوان و الطير و البهائم و ما كان مستقرا أو راحلا و البليد و الذكي و ما كان من جنسها و أصلها و عقلائها لو اجتمعوا جميعا على خلق بعوضة ما قدروا و لا استطاعوا فإن أصل الوجود من اللّٰه نعم تقدر على التلاعب بالنطفة و لكن لا تقدر على صنع أصل النطفة قال تعالى:

«إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ » .

(و لتحيرت عقولها في علم ذلك و تاهت و عجزت قواها و تناهت و رجعت خاسئة حسيرة عارفة بأنها مقهورة مقرة بالعجز عن إنشائها مذعنة بالضعف عن إفنائها) فإن العقول تتحير في صنع البعوضة على صغرها إذ تأخذ شكل الفيل بزيادة الجناحين و العقول عجزت عن إدراك سر ذلك و عظمته، فهذه العقول بعمقها و حصافتها و دقتها و رقتها لم تصل إلى عمق هذا المخلوق و أسرار تكوينه فعادت مقرة بالعجر معترفة بالفشل لا تقدر على الخلق كما لا تقدر على الإفناء فسبحان من بيده الأمور و هو على كل شيء قدير...

(و إن اللّٰه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات فلا شيء إلا اللّٰه الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الأمور) كان اللّٰه و لم يكن معه شيء متفرد واحد أحد و كذلك يكون بعد فناء الدنيا و زوالها كما كان قبل ابتدائها ترتفع الأوقات لأنها نتيجة دور الفلك و تفنى الأفلاك و لا يعود هناك زمان أو

ص: 242

وقت أو مكان... عدمت السنون و الساعات لانعدام منشئها و أصلها و هو الفلك، فلا شيء على الإطلاق إلا اللّٰه الواحد القهار إليه ترجع الأمور كلها قال تعالى: «أَلاٰ إِلَى اَللّٰهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ» فلا يملك ذلك غيره...

(بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها و بغير امتناع منها كان فناؤها و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها) فهي عاجزة عن خلق نفسها كما أنها عاجزة عن فنائها كان خلقها بإرادة اللّٰه بدون قدرة منها و لم تمتنع عن الفناء بل استجابت قهرا عنها لإرادة اللّٰه...

ثم بيّن أنها لو استطاعت التمرد و قدرت على قهر الموت و الفناء لدام بقاؤها و استمر و لكنها عاجزة عن ذلك مقهورة له لأن اللّٰه يفنيها فلا بقاء لها...

(لم يتكاءده صنع شيء منها إذ صنعه و لم يؤده منها خلق ما خلقه و برأه) فما خلقه من الدنيا و ما فيها لم يشق عليه ذلك و لم يتعبه بل بكلمة كن كانت و إنما يتعب أو يكلّ و يعجز من يستعمل الاته و أدواته كاليدين و الرجلين و غيرها لتحقيق مراده أما من خلق الشيء و يوجده بمجرد إرادته له فلا يطرأ عليه تعب أو مشقة أو إعياء...

(و لم يكوّنها لتشديد سلطان و لا لخوف من زوال و نقصان) لم يخلق الدنيا لتقوية حكمه و تعزيز قدرته كملوك الدنيا الذين كلما اتسعت رقعة حكمهم قوي سلطانهم و اشتدت قوتهم و كذلك لم يخلقها خوفا من الزوال و النقصان له فتحميه و تدفع عنه.

(و لا للاستعانة بها على ند مكاثر) لم يخلقها ليستعين بها على نظير له كثير الجند و العدة و العدد.

(و لا للاحتراز بها من ضد مثاور) لا يريد من خلقه لها أن يدفع بها عدوا له مهاجم.

(و لا للازدياد بها في ملكه) لم يخلقها ليزيد ملكه بل كل ما في الكون ملك يمينه و في قبضته لا يخرج عن حكمه و إرادته و هو المالك المطلق له و لكل ما فيه...

(و لا لمكاثرة شريك في شركه).

لم يخلق الدنيا حتى يغلب شريكه فيما يملك فيظهر عليه بذلك بل هو اللّٰه الواحد الأحد بلا شريك...

(و لا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها). لم يخلقها لأنه كان مستوحشا بوحدته فأراد أن يستأنس فخلقها.

(ثم هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه في تصريفها و تدبيرها و لا لراحة

ص: 243

واصلة إليه و لا لثقل شيء منها عليه و لا يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها) فكما أن خلقه للدنيا لم يكن لاستيحاش منه فأراد أن يستأنس بها فخلقها كما أنه لم يكن خلقه لها لذلك كذلك هو يفنيها بعد تكوينها و لم يكن إفناؤه لها لملل و ضجر دخل عليه و حل به من جراء تدبيرها و تنظيمها و القيام بشئونها و لا لأنه تعب منها فأراد الراحة فأفناها و لا لأن شيئا ثقيلا منها عليه فأحب أن يخفف عنه من حملها... و لم يصب بملل من طول بقائها فأراد إفنائها ليرفع الملل الذي أصابه...

(و لكنه سبحانه دبّرها بلطفه و أمسكها بأمره و أتقنها بقدرته) إنه سبحانه رتّب أمرها و نظّمها بحكمته و علمه و حفظها من السقوط و الهبوط أو الاضطراب و الفوضى بأمره و أحسن صنعها و نظمّها بأبدع ما يكون بقدرته التي لا تحد و لا تقدّر.

(ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها و لا استعانة بشيء منها عليها) إنه سبحانه يعيدها بعد الفناء لا لحاجة منه إليها لأنه الغني المطلق و لا ليستعين بشيء منها عليها لأنه كله قدرة و قدرته لا تحد و لا يحتاج معها إلى مساعد يساعده لإتمام بعض الأمور...

(و لا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس و لا من حال جهل و عمى إلى حال علم و التماس، و لا من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة و لا من ذل وضعة إلى عز و قدرة) لا يريد أن يتصرف و يعود من حال الوحشة إلى الأنس و لا من الجهل و عدم المعرفة إلى حال العلم و المعرفة و من فقر و حاجة إليها إلى غنى و كثرة بها و من ذل وضعة إلى عز و رفعة و قدرة و بعبارة أخرى إنه لا يريد من خلقه إياها فائدة تعود عليه لأنه الغني عن كل الأشياء و عوارضها بدون استثناء...

ص: 244

187 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي في ذكر الملاحم ألا بأبي و أمّي، هم من عدّة (1) أسماؤهم في السّماء معروفة و في الأرض مجهولة. ألا فتوقّعوا (2) ما يكون من إدبار (3) أموركم، و انقطاع وصلكم (4)، و استعمال صغاركم. ذاك حيث تكون ضربة السّيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حلّه (6). ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا (7) من المعطي. ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النّعمة و النّعيم، و تحلفون من غير اضطرار، و تكذبون من غير إحراج (8). ذاك إذا عضّكم البلاء (9) كما يعضّ القتب (10) غارب (11) البعير (12). ما أطول هذا العناء (13)، و أبعد هذا الرّجاء!.

أيّها النّاس، ألقوا هذه الأزمّة (14) الّتي تحمل ظهورها الأثقال (15) من أيديكم، و لا تصدّعوا (16) على سلطانكم (17) فتذمّوا غبّ (18) فعالكم. و لا تقتحموا (19) ما استقبلتم من فور نار (20) الفتنة، و أميطوا (21) عن سننها (22)، و خلّوا (23) قصد السّبيل (24) لها: فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن، و يسلم فيها غير المسلم.

إنّما مثلي بينكم كمثل السّراج في الظّلمة، يستضيء به من ولجها (25).

فاسمعوا أيّها النّاس وعوا (26)، و أحضروا آذان قلوبكم تفهموا.

ص: 245

اللغة

1 - العدة: بكسر العين الجماعة و بضمها الاستعداد.

2 - توقعوا: انتظروا و توقع الأمر إذا انتظره.

3 - أدبر: ولّى و انقضى.

4 - انقطع الوصل: انقطع الاتصال و اللقاء.

5 - أهون: أخف و أسهل.

6 - حله: الحلال.

7 - أجرا: ثوابا.

8 - الإحراج: التضييق و أحرجه أوقعه في الحرج.

9 - عضكم البلاء: اشتدت عليكم المحن.

10 - القتب: الرحل.

11 - الغارب: ما بين العنق و السنام.

12 - البعير: جمعه بعران و أبعرة و جمع الجمع أباعر و أباعير الجمل البازل للذكر و الأنثى.

13 - العناء: التعب.

14 - الأزمة: جمع زمام المقود.

15 - الأثقال: متاع المسافر، الحمل الثقيل.

16 - الصدع: الشق.

17 - السلطان: الحاكم.

18 - الغب: بكسر الغين العاقبة.

19 - الاقتحام: الدخول في الشيء من غير رويّة أو بشدة.

20 - فور النار: ارتفاع لهبها.

21 - أميطوا: تنحوا و آماط اللثام نحاه و كشفه.

22 - السنن: الطريق أو القصد منه.

23 - خلوا: اتركوا.

24 - قصد السبيل: الطريق المستقيمة.

25 - ولجها: دخلها.

26 - وعوا: الحديث احفظوه و تدبروه و الأمر للمفرد من وعوا «ع».

ص: 246

الشرح

(ألا بأبي و أمي هم من عدة أسماؤهم في السماء معروفة و في الأرض مجهولة) هذه الخطبة كما يذكر السيد الشريف واردة في الملاحم و فيها ذكر ما يجري بعده على المؤمنين من أصحابه و ما يحمله الزمن من الظلم و الجور.

«بأبي و أمي» كلمة لا تستعمل إلا في الأمر المهم العزيز لأن تفدية الأب و الأم كبيرة لا تصلح إلا لأمر عظيم فدّاهم بأبيه و أمه لجلال شأنهم و علو قدرهم و قد اختلف في المقصود بذلك فقال بعضهم: أراد الأولياء الأتقياء من أصحابه. و قال بعضهم: أراد بهم الأئمة من أولاده و اللفظ و إن كان يصدق على الفريقين و لكن انطباقه على الأئمة أظهر و أقوى لصدق العدة عليهم من جهة و لمعروفية أسماءهم في السماء أكثر من الأرض و الأئمة معروفون في السماء لطيب طينتهم و كرامتهم على اللّٰه و قربهم منه بينما في الأرض مجهولون لكثرة الضلال و غلبة الجهّال و ظهور الفساد.

(ألا فتوقعوا ما يكون من إدبار أموركم و انقطاع وصلكم و استعمال صغاركم) هذا الخطاب لأصحابه يخبرهم بما يؤول إليه أمرهم و ما ذا يجري عليهم انتظروا ما سيحدث و ما يحمل به الزمن.

أولا: إن ما أنتم فيه من نعيم و سلطان و دولة و سطوة سيزول عنكم و يتحول إلى غيركم.

ثانيا: إن ما أنتم فيه من اتفاق و اجتماع و وحدة و لقاء سيحل معه الفرقة و الشتات و انقطاع الوصل.

ثالثا: ستبتلون بحكم الصغار الذين يتولون أموركم بدون دراية أو حكمة أو معرفة بسياسة العباد و إدارة البلاد...

(ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حله ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي، ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة و النعيم، و تحلفون من غير اضطرار و تكذبون من غير احراج ذاك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء) أشار إلى أوقات وقوع ما يجري عليهم مما مرّ، إنها أحداث ستجري فصولها عند ما تحصل هذه المقدمات و تقع الأمة في هذه الأفعال القبيحة الشاذة و قد ذكر عدة علامات و هي:

ص: 247

1 - ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حله: و هذه إخبار منه عليه السلام عما يلاقيه المؤمن من أجل تحصيل معيشته حيث يرفضه الظالمون و لا يستعملونه فيما هو مباح بل يحاربونه في قوته فتضييق عليه أبواب الرزق و يكون ضربه بالسيف أهون عليه و أيسر من تحصيل قوته... أو يكون المراد أن تحصيل درهم الحلال أصعب من السيف لأن المكاسب قد اختلطت و غلب الحرام عليها فاكتساب درهم الحلال صعب جدا...

2 - ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي: لأن الآخذ للصدقة و متقبلها ألجأته الحاجة إلى بذل ماء وجهه و لكونه مستحقا لها فيأخذها و قلبه كسير جريح أما المعطي و الدافع فقد يكون قد أخذها من غير حلها أو دفعها مع المن و الأذى أو أراد بها المباهاة و المفاخرة و العلو في الأرض أو أراد بها غير وجه اللّٰه فيسقط أجره و يخسر نصيبه من الثواب فالآخذ يؤجر و يثاب و المعطي يأثم و يعاقب...

3 - ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة و النعيم: و هذه من العلامات التي تقتل روح المجتمع و تفقده التفكير ذاك عند ما تقذف الدنيا بخيراتها في أحضانكم و تدفع إليكم بنعمها و نعيمها فتنسون اللّٰه و تهملون الواجبات و تفقدون التفكير في الشكر للّٰه... إنهم باعتبار غفلتهم عن اللّٰه و اشتغالهم بملذاتهم فكأنهم سكارى...

4 - و تحلفون من غير اضطرار: بدون اضطرار إلى اليمين يحلفونها فإن اللّٰه على طرف لسانهم يحلفون به لتروج بضاعتهم.. و يحصلون على زيادة أرباحهم، يحولون اللّٰه إلى سلعة تضاف مع كل سلعة يريدون تسويقها أو تصريفها بدون حاجة و لا اضطرار...

5 - و تكذبون من غير احراج: ربما كان للكذب وجه إذا كان لإنجاء مؤمن أو لإصلاح بين متنازعين أما أن يتحول الكذب إلى عادة دائمة لا ينفك عنها الإنسان فهذه هي المصيبة التي تقتل المجتمع، أن يتحول الكذب كما يقولون: «الكذب ملح الرجال و عيب على الصادق» فهنا يكمن الخطر و يدب الفساد و يكون الزمن عاطلا قبيحا...

6 - ذاك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير: و هذا من العلامات أن يقع شيعة أهل البيت في أعظم بلاء و تقع عليهم الشدة العظيمة و قد شبّه شدة ألمهم و ما يصيبهم من الشدة بما يصيب غارب البعير من القتب فإذا كان الرحل - الجلّ - ضيقا أو غير منسجم مع الغارب فإنه يؤذي البعير و ربما يجرحه و في ذلك ألم شديد و عندها تقولون: ما أطول هذا العناء و التعب أما آن له أن ينتهي و أبعد هذا الرجاء الذي به نخلص من عرى الذل و ربقة الهوان و البلاء...

ص: 248

و قالوا: إن قوله: «ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء» هو من إخبار الإمام بطول التعب و مشقة انتظار الفرج و قالوا: إن هذا من باب التوبيخ لهم لإعراضهم عنه و إقبالهم على الدنيا و إتعابهم أنفسهم في طلبها و التنفير لهم عنها بذكر طول العناء في طلبها و بعد الرجاء لما يرجى منها و ترتب على ذلك أن يكون هذا كلاما منفصلا مستقلا عما سبق...

(أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم و لا تصدّعوا على سلطانكم فتذموا غبّ فعالكم) أمرهم أن يتخلوا عن الآراء الفاسدة التي تسبب الأوزار و الآثام و لا يخوضوا فيها لأن تبعاتها ذنوب و معاصي قادتهم إلى حمل أثقال الخطايا.

ثم أردف ذلك بالنهي لهم عن التفرّق عنه و عبّر عن نفسه بسلطانكم لأنه الحاكم باسمهم ترغيبا لهم.

و بعد هذا نفّرهم عن التفرق عنه بذكر ما يعقبه من الأمور المذمومة بأن نتيجة هذه الفرقة و الاختلاف يصيبهم الذل و الخوف بعد أن كانوا أعزاء أقوياء و ينتقل عنهم الحكم بعد أن كانوا حكاما و هكذا ينتقلون من كل حالة كريمة إلى حالة ذليلة و هذه نتيجة تفرقهم عن قيادتهم و عدم التزام أمرها و نهيها...

(و لا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة) إذا شبت الفتن و استعر نارها فلا تدخلوا فيها و لا تخوضوا غمارها فإنها تضل فيها عقول الرجال.

(و أميطوا عن سننها و خلوا قصد السبيل لها فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن و يسلم فيها غير المسلم) أمرهم أن يتنحوا عن طرق الفتنة التي تتحرك فيها و عن المراكز التي تعشعش في أرجائها و ليتركوها في طريقها التي تعيش فيها و تتحرك في زواياها و قطعا هذا إذا لم يقدروا على دفعها أو يستطيعوا وقف زحفها و إلا فعلى المسلم أن يقبر الفتنة و يقضي عليها إن استطاع...

ثم أقسم أنه إذا وقف المؤمن في طريقها أكلته و قضت عليه بينما غير المسلم يسلم من أذاها و شرها لأن المؤمن لا يرضى بها بل يحاربها و يحارب أهلها بينما الآخر يسألمها و يمشي في ركاب أهلها فيسلم الكافر و يهلك المؤمن و من هنا نهى الإمام المؤمن أن يقف في وجهها لشدتها و قوتها...

(إنما مثلي بينكم كمثل السراج في الظلمة يستضيء به من ولجها فاسمعوا أيها

ص: 249

الناس وعوا و احضروا آذان قلوبكم تفهموا) السراج يبدّد الظلام و يحوّل الليل إلى نهار و كذلك الإمام فإنه سراج الهدى و علم التقى و هو مع الحق و الحق معه من أراد الهداية فعن يديه تكون و من أراد الخير فعنده يوجد و من أراد أن يصل إلى اللّٰه فعن طريقه.

الإمام هو الذي يعلّم الأمة وسائل نجاحها و طرق فوزها و انتصارها، بعلمه يرفع الجهل عنها و يكشف الظلمات عن عينيها و من أمامها.

و بعد أن يبين أهمية الإمام و دوره يدعوهم إلى أن يسمعوا ما قال و يستوعبوا ما تكلم به و أن يحضروا آذانهم و قلوبهم و يفهموا كلامه و يعملوا به حتى ينتصروا و يفوزوا و تبقى شوكتهم قوية و رأيهم نافذ صائب.

ص: 250

188 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في الوصية بأمور

التقوى

أوصيكم، أيّها النّاس، بتقوى اللّٰه و كثرة حمده على آلائه (1) إليكم، و نعمائه عليكم، و بلائه (2) لديكم. فكم خصّكم (3) بنعمة، و تدارككم برحمة (4)! أعورتم (5) له فستركم، و تعرّضتم (6) لأخذه (7) فأمهلكم!.

الموت

و أوصيكم بذكر الموت و إقلال الغفلة عنه. و كيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم (8)، و طمعكم فيمن ليس يمهلكم! فكفى واعظا بموتى عاينتموهم (9)، حملوا إلى قبورهم غير راكبين، و أنزلوا فيها غير نازلين، فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا، و كأنّ الآخرة لم تزل لهم دارا. أوحشوا (10) ما كانوا يوطنون (11)، و أوطنوا ما كانوا يوحشون، و اشتغلوا بما فارقوا، و أضاعوا ما إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون انتقالا، و لا في حسن يستطيعون ازديادا. أنسوا بالدّنيا فغرّتهم، و وثقوا بها فصرعتهم (12).

سرعة النفاد

فسابقوا - رحمكم اللّٰه - إلى منازلكم الّتي أمرتم أن تعمروها، و الّتي رغبتم فيها، و دعيتم إليها. و استتمّوا نعم اللّٰه عليكم بالصّبر على طاعته،

ص: 251

و المجانبة لمعصيته، فإنّ غدا من اليوم قريب. ما أسرع السّاعات في اليوم، و أسرع الأيّام في الشّهر، و أسرع الشّهور في السّنة، و أسرع السّنين في العمر!.

اللغة

1 - الائه: نعمه.

2 - بلائه: إحسانه.

3 - خصّه بالشيء: فضله به و أفرده.

4 - تداركه اللّٰه برحمته: لحقه بها.

5 - أعورتم له: أظهرتم عوراتكم و عيوبكم له.

6 - تعرض للأمر: تصدى له و طلبه.

7 - أخذه: أي أخذه بالعقاب أي معاقبتكم.

8 - يغفلكم: ينساكم و يترككم.

9 - عاينتموهم: رأيتموهم.

10 - أوحشه: هجره.

11 - أوطن المكان: اتخذه وطنا.

12 - صرعتهم: أهلكتهم.

الشرح

(أوصيكم أيها الناس بتقوى اللّٰه و كثرة حمده على الائه إليكم و نعمائه عليكم و بلائه لديكم فكم خصكم بنعمة و تدارككم برحمة، أعورتم له فستركم و تعرضتم لأخذه فأمهلكم) تتضمن هذه الخطبة الموعظة بتقوى اللّٰه و ذكر الموت و الاستعداد له...

أوصيكم أيها الناس بتقوى اللّٰه فإنها أعز وصية و أغلاها لأن بها الفوز و النجاة.

و أوصى بكثرة حمد اللّٰه على نعمة و إحسانه فإن كثرة حمد اللّٰه على النعمة تديمها و تزيدها و ليس شكرها إلا وضعها موضعها المعدّ لها فالصحة نعمة تستحق الشكر و شكرها أن تؤدي فرائض اللّٰه و تجتنب معاصيه و المال نعمة و شكره أن تؤدي الحق المفروض فيه و لا تصرفه إلا في طاعة اللّٰه و ما ينفع عباده و هكذا دواليك كل نعمة يجب

ص: 252

أن تقابل بالشكر و كل إحسان يجب أن يقابل بالشكر و هذا مبدأ أخلاقي: إن المحسن يجب شكره و لا يعصى بما أنعم...

ثم ذكر أن نعمه الكثيرة قد خصهم بها و رحمته قد لحقتهم في كل حين و بعد ذلك ذكر بعض نعمه و رحمته فمنها أنهم أبدوا عوراتهم له فسترها عليهم أي ارتكبوا المعاصي و الآثام و عصوه و هو سبحانه يستر عليهم لعلهم إليه يعودون و إلى رحابه يرجعون...

و كذلك من نعمه أنهم ارتكبوا من المعاصي ما يوجب عذابهم و استئصال شأفتهم و لكنه سبحانه أمهلهم و أخرهم رحمة منه بهم لعلهم يتوبون و يرجعون...

(و أوصيكم بذكر الموت و إقلال الغفلة عنه و كيف غفلتكم عما ليس يغفلكم و طمعكم فيمن ليس يمهلكم) الوصية بذكر الموت... أن يعيش الإنسان هذه الحالة فإنه لا بد له و أن يعدّ العدة و يبقى على أهبة الاستعداد و من عاش هذا الحدث كف عن المحرمات و عمل الواجبات و سعى لما وراء الموت من خير أو شر ينتظره و كذلك يجب أن يكون المؤمن فلا يغفل عنه أو ينساه لأنه يبطر و يظلم و ينحرف...

ثم استفهم منهم متعجبا: كيف يغفل الإنسان عن أمر يطلبه و كيف يطمع الإنسان بمن لا يؤخره أو يؤجله، و الموت معنا لا يغفل عن طلبنا إن غفلنا و لا يتركنا إن طمعنا بالبقاء و الخلود في الدنيا بل قوانينه ستطالنا و جنده سيغزونا و لن يكون لنا من بين يديه فوت أو هروب...

(فكفى واعظا بموتى عاينتموهم حملوا إلى قبورهم غير راكبين و أنزلوا فيها غير نازلين فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا و كأن الآخرة لم تزل لهم دارا) هذه أعظم موعظة يراها الإنسان.. يرى الموتى أمامه ففي كل يوم يشيّع حبيبا أو صديقا أو قريبا... إننا نراهم قد حملوا على الأكتاف قهرا عنهم إلى قبورهم و لم يركبوا باختيارهم و حريتهم و أنزلوا فيها قهرا عنهم و لم ينزلوا طوعا منهم و باختيارهم... إنهم رحلوا عن الدنيا فكأنهم لم يبنوا فيها و لم يكونوا من عمارها و بناتها فقد أتى عليهم الموت فذهب بهم و قضى عليهم و كأنهم بانتقالهم إلى الآخرة و استقرارهم فيها كأنهم لم يزالوا فيها لم يفارقوها لأنهم من الآن فصاعدا لن يفارقوها لأنها منازلهم الأبدية...

(أوحشوا ما كانوا يوطنون و أوطنوا ما كانوا يوحشون) فإن مساكنهم التي كانوا بها يوطنون و يسكنون قد أصبحت موحشة بفقدهم و هذه القبور التي كانت موحشة و كانوا يستوحشون منها قد سكنوا فيها و اتخذوها وطنا لهم...

(و اشتغلوا بما فارقوا و أضاعوا ما إليه انتقلوا) عملوا في الدنيا بما لا يبقى لهم و لا

ص: 253

يدوم بل بما سيفارقونه و يتخلون عنه.. بنوا القصور و هي لا تبقى لهم... جمعوا المال و هو سيبقى للورثة و لن يبقى لهم و لن يأخذوا منه فلسا واحدا... اشتغلوا بشراء العقار و هم سيفارقونه و يتخلون عنه...

أما ما سينتقلون إليه من الجنة فلم يعملوا له لم يقدّموا لأنفسهم من عمل خير لم يتصدقوا... لم يعينوا الفقراء... لم يخدموا الضعفاء... لم يعملوا عملا يقدمون به على دخول الجنة... و بعبارة موجزة يضيّعون الآخرة و سوف ينتقلون إليها و يعملون للدنيا و سوف ينتقلون عنها...

(لا عن قبيح يستطيعون انتقالا و لا في حسن يستطيعون ازديادا أنسوا بالدنيا فغرتهم و وثقوا بها فصرعتهم) بعد الموت توقف العمل فما عملوه من قبيح لازمهم إثمه و عليهم عقابه و لا يمكنهم محوه أو الانتقال منه إلى غيره كما أنهم لا يستطيعون زيادة في عمل حسن عملوه بل أعمالهم القبيحة و الحسنة هي هي فلا زيادة و لا نقصان...

ثم ذكر أنهم أنسوا بالدنيا و استطيبوا ما فيها فغرتهم و دفعتهم إلى المعاصي و الانحراف و وثقوا بها و اطمأنوا إليها فراحوا في ملذاتهم يسرحون و لكنها أخذتهم و أهلكتهم و قضت عليهم...

(فسابقوا - رحمكم اللّٰه - إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها و التي رغبتم فيها و دعيتم إليها) فالسعيد من أسرع في العمل إلى الآخرة التي دعينا إليها و التي هي المنزل النهائي لهذا الإنسان و قد دعانا اللّٰه إليها و أمرنا أن نعمرها بما نقدمه في دار الدنيا من الطاعات و الالتزام بأمر اللّٰه و قد رغبنا فيها بما أعد للمطيعين من حور و قصور و ولدان و عسل مصفى و عين سلسبيل و غيرها مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر...

(و استتموا نعم اللّٰه عليكم بالصبر على طاعته و المجانبة لمعصيته) اجعلوا نعم اللّٰه عليكم تامة و تماميتها إنما يكون إذا حصل الإنسان على نعيم الآخرة و ما فيها و هذا لا يكون إلا إذا أقام الطاعات و اجتنب المعاصي و الآثام...

(فإن غدا من اليوم قريب، ما أسرع الساعات في اليوم و أسرع الأيام في الشهر و أسرع الشهور في السنة و أسرع السنين في العمر) بعد أن أمر بالاستباق إلى الآخرة علّل ذلك بقصر المدة في دار الدنيا و قال: إن غدا و هو يوم القيامة قريب من اليوم، من الدنيا و بيّن قربه بسرعة الساعة التي تطويها الأيام و سرعة الأيام التي تطويها الشهور و سرعة الشهور التي تطويها السنة و سرعة السنين التي يطويها العمر فإذا انتهى العمر وصل

ص: 254

الإنسان إلى الآخرة و انتهت مدته من الدنيا و إنني أكتب هذه الكلمات في بيروت في ليلة الرابع من شهر شعبان سنة 1412 هجرية و قد بلغت السابعة و الأربعين من العمر أتذكر كيف انطوت هذه الأيام الماضية و الشهور الخالية و السنون الماضية و أقرأ قول الإمام فأعيد لنفسي عهودا قد مضت و أتذكر أيام الطفولة ثم الشباب و سرعة انقضائهما ثم ما أنا فيه الآن من ضعف البدن و كثرة العلل يجعلني أختصر الحياة في كلمة الإمام و هي «الدنيا ساعة فاجعلها طاعة».

ص: 255

189 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في الإيمان و وجوب الهجرة

أقسام الإيمان

فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرّا في القلوب، و منه ما يكون عواري (1) بين القلوب و الصّدور، «إلى أجل (2) معلوم». فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه (4) حتّى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حدّ البراءة.

وجوب الهجرة

و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل. ما كان للّٰه في أهل الأرض حاجة من مستسر (5) الإمّة (6) و معلنها. لا يقع اسم الهجرة على أحد بمعرفة الحجّة في الأرض. فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر. و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه و وعاها قلبه.

صعوبة الإيمان

إنّ أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلاّ عبد مؤمن امتحن اللّٰه قلبه للإيمان، و لا يعي حديثنا إلاّ صدور أمينة، و أحلام (7) رزينة (8).

علم الوصي

أيّها النّاس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض، قبل أن تشغر (9) برجلها فتنة تطأ (10) في خطامها (11)، و تذهب بأحلام قومها.

ص: 256

اللغة

1 - عواري: بالتشديد جمع عارية و هي الإعارة أي ما تعطيه غيرك شرط أن يرده لك.

2 - الأجل: الوقت.

3 - البراءة: التبري.

4 - فقفوه: أوقفوا الحكم عليه.

5 - المستسر: من استسر الأمر إذا كتمه.

6 - الإمة: بكسر الهمزة الحالة.

7 - الأحلام: يقصد بها هنا العقول.

8 - الرزينة: الوقرة، و الرزين أصيل الرأي.

9 - شغر برجله: رفعها.

10 - تطأ: تدوس.

11 - الخطام: ما يوضع في أنف البعير ليقاد به.

الشرح

(فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب و منه ما يكون عواري بين القلوب و الصدور إلى أجل معلوم فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت فعند ذلك يقع حد البراءة) يتعرض الإمام في هذه الخطبة إلى الإيمان و أقسامه و الهجرة و حدّها و صعوبة أمر أهل البيت و أخيرا يبيّن سعة علمه عليه السلام...

ابتدأ بذكر الإيمان و قسمه إلى قسمين:

1 - ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب و هو الذي أخذه أصحابه عن الأدلة المقنعة التي يؤمن بها العقل و تتفاعل معها النفس و هذا لا يكون إلا في المؤمنين العقائديين الذين لا يتنازلون عن إيمانهم تحت أقسى الظروف و أشد الأحوال بل كلما تعرضوا للمحن من أجل عقيدتهم شدوا عليها بالنواجذ و ازدادوا تمسكا بها و إيمانا بمضمونها فهذا الإيمان ثابت مستقر لا يزول و لا يحول و لا يتغير و لا يتبدل.

2 - و منه ما يكون عواري بين القلوب و الصدور إلى أجل معلوم فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضر الموت فعند ذلك يقع حد البراءة.

ص: 257

و هذا هو القسم الثاني من الإيمان و هو ما يكون مستعارا... و عبّر عن عدم استقراره في القلب بتردده بين القلوب و الصدور.

و هذا الإيمان عبر عنه بالعارية لأنه ليس مستقرا في قلب صاحبه و لا مملوكا له و شأن العارية أن تخرج عن يد المستعير و كذلك الإيمان غير المستقر.

و هذا الإيمان يتمتع به بعض الناس و يعيشون في ظله إلى وقت معلوم ثم يزول و نحن نجد بعض هذه النماذج في مجتمعنا تتعايش مع الإيمان لفترة ثم عند ما تمتحن في بعض قضاياها تتنازل عنه و تتخلى عن مضمونه...

ثم إن الإمام أراد أن يصحّح سلوكا مفاده أن بعض الناس عند ما يجدون أمرا يخل بالإيمان من بعض سلوكيات أحد يتبرءون منه و يكفرونه و يخرجونه عن الإيمان و الإمام يقول لهم: لا تحكموا على الرجل بالكفر و لا تتبرءوا منه بمجرد ارتكابه بعض المحظورات إذ لعله يتوب و يرجع أو يكفّر عن خطاياه و قبائح سيئاته فتداركه رحمة اللّٰه و يدخل في عفوه و رضوانه و إذا أردتم البراءة الصحيحة منه فترقبوا وقت وفاته، إنها اللحظات الأخيرة التي يتخلى الإنسان فيها عن كل شيء و لم يعد له في الدنيا مطمع أو مرغّب عندها إذا أصر على الانحراف و الكفر لا بأس بالبراءة منه...

(و الهجرة قائمة على حدها الأول ما كان للّٰه في أهل الأرض حاجة من مستسر الإمة و معلنها) الهجرة كما كانت في زمن رسول اللّٰه هي مطلوبة اليوم، لم يسقطها الزمن لم ترفع حكمها الأيام فقد كانت واجبة من أجل إقامة الدين و تحقيق الشرع المبين، كانت لرفع الظلم و الاضطهاد و كانت لأجل أن يتعلم الإنسان أحكامه و يأتي بها على وجهها الصحيح و لم تكن أبدا لحاجة راجعة إلى اللّٰه يظهرها الناس أو يخفوها فاللّٰه هو الغني ليس بحاجة إلى هجرة أحد و قال بعضهم: إن الهجرة باقية ما دام التكليف باقيا...

(لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض فمن عرفها و أقر بها فهو مهاجر) هذا نفي لكون كل هجرة أن تكون هجرة فليس كل من ترك وطنه و هاجر عنه يصدق عليه أنه مهاجر لأن الهجرة إنما تقصد من خلال أهدافها و هدف الهجرة لا يتحقق إلا إذا عرف المهاجر الحجة و هو النبي صلى اللّٰه عليه و آله في حياته و الأئمة و الصالحين بعده فمن عرفهم و أقرّ بهم و التزم أوامرهم و هاجر إليهم صدق عليه أنه مهاجر...

(و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه و وعاها قلبه) لأن المستضعف هو الإنسان القاصر الذي لا يدرك الحقائق و لا يصل بفكره إلى أنوار الدين و الحقيقة و هذا يرتفع كله إذا وصلته أخبار الحجة بظهور النبي - صلّى اللّٰه عليه و آله أو

ص: 258

وجود الإمام لأنه يعرف عندها وجوب الهجرة إليهم و الاستفادة من علومهم و الجهاد بين أيديهم...

(إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن اللّٰه قلبه للإيمان و لا يعي حديثنا إلا صدور أمينة و أحلام رزينة) أمر أهل البيت بمكان من الصعوبة و هو مستصعب القبول إذ كيف خلقهم اللّٰه و حصرهم في عدد معين لا يتجاوزونه مع ما أعطاهم من علم و كشف أمامهم من أمور الغيب و ما تمتعوا به من قوة نافذة تكوينا و تشريعا و غير ذلك من الأمور التي تفوق طاقة البشر و قدرتهم فإن كل ذلك جعل أمرهم صعبا لا يتحمله إلا عبد مؤمن امتحن اللّٰه قلبه للإيمان أي صدق في إيمانه باللّٰه و رسوله و ما جاء بحق أهل البيت و ما أعطاهم اللّٰه من الفضل...

ثم بيّن أن حديثهم لا يفهمه إلا القلوب الأمينة على الحقائق و العقول الرصينة التي تعرف أنهم أئمة اختارهم اللّٰه و جعلهم خلفاء على خلقه و رضيهم ساسة لعباده و لبلاده و أنهم المعصومون المسددون الذين لا ينقلون إلا مرادات اللّٰه و ما أحب...

و قد قيل: إن أمر أهل البيت هو الإسلام و أن يقام هذا الدين بحذافيره و يطبق في جميع شئون الحياة و هذا أمر صعب لا يتحمّل إقامته و تطويع النفس من أجله إلا عبد صادق في إيمانه و لا يعي هذا الحديث إلا أصحاب الصدور السليمة العامرة بالإيمان و أصحاب العقول الواعية التي اعتقدت بالإسلام و آمنت بأنه الحاكم في جميع البلاد و على جميع العباد...

(أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها و تذهب بأحلام قومها) توجه إلى الناس أن يسألوه قبل أن يفقدوه أن يسألوه عن كل أمر يهمهم... عن الحاضر بما فيه و عن المستقبل بما يحمل و عن الماضي بما مرّ... أن يسألوه عن الكليات و عن الجزئيات... أن يسألوه عن الدنيا و عن الدين... أن يسألوه عن كل أمر يريدونه و يريدون معرفته... «سلوني» كلمة قالها علي عليه السلام و هو صادق فيها و لن يقولها أحد بعده إلا و هو ظالم كاذب...

قالها علي عليه السلام لأنه باب مدينة علم الرسول و لأن رسول اللّٰه علّمه ألف باب من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب... و من أنّى يكون لعلي نظير في الوجود...

قالها علي و لكن الناس في زمانه أغبياء جهلاء أغمضوا عيونهم و سدّوا آذانهم و راحوا يستهزءون بهذا الكلام... قالها علي عليه السلام و لم يجد الأذن السامعة و القلب

ص: 259

المتعلم الواعي فسقط الطلب في تلك الجلسة و بقي ذكرى يرددها عشاق العلم الذين يرون في علي استاذ البشرية قاطبة... خسرت هذه الأمة إذ لم تسأل الإمام عن شئونها و شئون الحياة التي تربح بها عزها في الدنيا و سعادتها في الآخرة...

علي يطرق الأسماع بقوله: «سلوني قبل أن تفقدوني» فيجدها موصدة منغلقة...

يقول للحاضرين: أنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض فاسألوا عن السماء و ما فيها و إذا كنت أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض فأنا أعلم أيضا بطرق الأرض و ما يجري فيها... سلوني قبل أن تفقدوني و قبل أن تستفحل الفتنة بعدي فتقوى شوكتها و تأخذ في طريقها الصالحين... إن الرؤى الصالحة تضيع فيها... إنها تدوس كل شيء و تقضي على كل القيم و عندها تتحير عقول العقلاء و آراء المصلحين و إرشاد المرشدين لأنها أقوى من كل ذلك لكثرة أهلها و ضلالهم...

ص: 260

190 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يحمد اللّٰه و يثني على نبيه و يعظ بالتقوى

حمد اللّٰه

أحمده شكرا لإنعامه، و أستعينه على وظائف (1) حقوقه، عزيز الجند، عظيم المجد.

الثناء على النبي

و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، دعا إلى طاعته، و قاهر (2) أعداءه جهادا عن دينه، لا يثنيه (3) عن ذلك اجتماع على تكذيبه، و التماس لإطفاء نوره.

العظة بالتقوى

فاعتصموا (4) بتقوى اللّٰه، فإنّ لها حبلا وثيقا (5) عروته (6)، و معقلا (7) منيعا (8) ذروته (9). و بادروا (10) الموت و غمراته (11)، و امهدوا (12) له قبل حلوله، و أعدّوا (13) له قبل نزوله: فإنّ الغاية القيامة، و كفى بذلك واعظا لمن عقل، و معتبرا لمن جهل! و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس (14)، و شدّة الإبلاس (15)، و هول (16) المطّلع (17)، و روعات (18) الفزع، و اختلاف الأضلاع (19)، و استكاك الأسماع (20)، و ظلمة اللّحد (21)، و خيفة الوعد، و غمّ (22) الضّريح، و ردم (23) الصّفيح (24).

فاللّٰه اللّٰه عباد اللّٰه! فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن (25)، و أنتم و السّاعة

ص: 261

في قرن (26). و كأنّها قد جاءت بأشراطها (27)، و أزفت (28) بأفراطها (29)، و وقفت بكم على صراطها (30). و كأنّها قد أشرفت بزلازلها، و أناخت (31) بكلاكلها (32)، و انصرمت (33) الدّنيا بأهلها، و أخرجتهم من حضنها (34)، فكانت كيوم مضى، أو شهر انقضى، و صار جديدها رثّا (35)، و سمينها (36) غثّا (37). في موقف ضنك (38) المقام، و أمور مشتبهة عظام (39)، و نار شديد كلبها (40)، عال لجبها (41)، ساطع (42) لهبها (43)، متغيّظ (44) زفيرها (45)، متأجّج (46) سعيرها (47)، بعيد خمودها (48)، ذاك (49) وقودها، مخوف وعيدها، عم قرارها (50)، مظلمة أقطارها (51)، حامية قدورها (52)، فظيعة أمورها (53). «وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً» (54). قد أمن العذاب، و انقطع العتاب، و زحزحوا (55) عن النّار، و اطمأنّت (56) بهم الدّار، و رضوا المثوى (57) و القرار. الّذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية، و أعينهم باكية، و كان ليلهم في دنياهم نهارا، تخشّعا و استغفارا، و كان نهارهم ليلا، توحّشا (57) و انقطاعا. فجعل اللّٰه لهم الجنّة مآبا (59)، و الجزاء ثوابا، «و كانوا أحقّ بها و أهلها» في ملك دائم، و نعيم قائم.

فارعوا (60) عباد اللّٰه ما برعايته يفوز فائزكم، و بإضاعته يخسر مبطلكم.

و بادروا (61) آجالكم بأعمالكم، فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم (62)، و مدينون (63) بما قدّمتم. و كأن قد نزل بكم المخوف، فلا رجعة تنالون، و لا عثرة (64) تقالون (65). استعملنا اللّٰه و إيّاكم بطاعته و طاعة رسوله، و عفا عنّا و عنكم بفضل رحمته.

الزموا الأرض، و اصبروا على البلاء. و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم، و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّٰه لكم. فإنّه من مات منكم

ص: 262

على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا، و وقع أجره على اللّٰه، و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، و قامت النّيّة مقام إصلاته (66) لسيفه، فإنّ لكلّ شيء مدّة و أجلا.

اللغة

1 - الوظائف: جمع وظيفة ما يقدّر للإنسان من عمل و رزق و طعام في كل يوم.

2 - قاهر: من قهره إذا غلبه.

3 - لا يثنيه: لا يصرفه و لا يرده.

4 - اعتصموا: امتنعوا و تحصنوا.

5 - الوثيق: الثابت القوي المحكم.

6 - العروة: من الابريق مقبضه أي أذنه.

7 - المعقل: الملجأ.

8 - المنيع: العزيز الشديد الذي لا يقدر عليه.

9 - الذروة: أعلى كل شيء.

10 - بادروا: اسرعوا.

11 - الغمرات: الشدائد.

12 - مهد: الأرض بسطها و هيأها و المهد للصبي هو السرير الذي هيىء له.

13 - أعدوا: هيئوا.

14 - الارماس: جمع رمس و هو القبر.

15 - الإبلاس: الحزن و السكوت عن غمّ .

16 - الهول: المخافة من الأمر.

17 - المطّلع: بضم فتشديد مع فتح في أصله موضع الإطلاع و الإشراف من ارتفاع إلى انحدار و المقصود هنا المنزلة التي منها يشرف الإنسان على أمور الآخرة.

18 - الروعات: الافزاع.

19 - اختلاف الأضلاع: تداخلها.

20 - استكاك الأسماع: صممها.

21 - اللحد: الضريح أو الشق في وسط القبر.

22 - الغم: الغطاء و منه قيل للحزن غم لأنه يغطي السرور.

ص: 263

23 - الردم: السد.

24 - الصفيح: الحجر العريض.

25 - السنن: الطريق.

26 - القرن: بالفتح الحبل الذي يشد به البعير.

27 - الأشراط: العلامات.

28 - ازفت: قربت.

29 - الإفراط: المتقدم من القوم لطلب الماء و هنا يقصد بالإفراط المقدمات.

30 - الصراط: الطريق المستقيم.

31 - أناخت: بركت يقال: أنخت البعير فبرك.

32 - الكلاكل: الصدور.

33 - انصرمت: تقطعت أو انقضت.

34 - الحضن: بكسر الحاء ما دون الأبط إلى الكشح أو الصدر و العضدان و ما بينهما.

35 - الرث: البالي.

36 - السمين: ضد الهزيل ما كثر شحمه و دسمه.

37 - الغث: المهزول.

38 - الضنك: الضيق.

39 - عظام: جمع عظيم صعب الأمر عليه و شق.

40 - الكلب: محركا الأكل بدون شبع.

41 - اللجب: الصياح.

42 - ساطع: مرتفع.

43 - لهبها: سعيرها.

44 - التغيظ: الهيجان.

45 - الزفير: صوت توقد النار.

46 - متأجج: ملتهب من أجج النار ألهبها.

47 - السعير: لهب النار.

48 - الخمود: للنار إذا سكن لهبها و لم يطفأ جمرها.

49 - ذاك: من ذكت النار إذا اشتد لهبها.

50 - عم قرارها: لا يرى عمقها.

51 - اقطارها: جوانبها.

52 - القدور: مفردها قدر إناء يطبخ فيه...

53 - فظيعة أمورها: شديدة متجاوزة للمقدار الطبيعي.

ص: 264

54 - الزمر: جمع زمرة الجماعة.

55 - زحزحوا: من زحزحه عن مكانه إذا حركه عنه و زحزحوا، أبعدوا.

56 - أطمأنت: سكنت.

57 - المثوى: المنزل.

58 - التوحش: عدم الاستيناس.

59 - المآب: المرجع.

60 - ارعوا: احفظوا.

61 - بادروا: اسرعوا.

62 - اسلفتم: قدمتم.

63 - مدينون: مجزيون.

64 - العثرة: زلة القدم.

65 - تقالون: تدركون.

66 - إصلات السيف: سله و تجريده من غمده للضرب.

الشرح

(أحمده شكرا لانعامه و أستعينه على وظائف حقوقه عزيز الجند عظيم المجد) هذه الخطبة فيها حث على تقوى اللّٰه و عظة بذكر الدار الآخرة و حال الأتقياء فيها كما أن فيها بيان الأجر و الثواب لمن التزم بأحكام اللّٰه و إنه يفوز بالشهادة و لو كان على فراشه إذا كان ذلك التزاما بأمر اللّٰه.

و ابتدأ بحمد اللّٰه الذي يستحق الشكر على نعمه التي أفاضها على بريته فإنها نعم يجب أن يشكر المنعم بها علينا كما طلب من اللّٰه الاستعانة أن يوفقه لأداء ما أوجبه عليه من الحقوق و الواجبات و المستحبات فإن هذه التكاليف تحتاج إلى إعانة اللّٰه و تسديده و توفيقه ليؤديها المكلف.

و قد كان شكره و الاستعانة به باعتباره عزيز الجند عظيم المجد أي قوي السلطان لا يقهر و لا يغلب.

(و أشهد أن محمدا عبده و رسوله دعا إلى طاعته و قاهر أعداءه جهادا عن دينه لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه و التماس لإطفاء نوره) بعد أن حمد اللّٰه أردف ذلك بالشهادة لرسول اللّٰه و إنه عبد اللّٰه الخالص و رسوله الذي أرسله للناس و قد رغبهم بما قام به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم بذكر بعض أفعاله الكريمة حيث دعا إلى طاعة اللّٰه و التزام أمره و قد أتعب نفسه

ص: 265

في سبيل تبليغ الرسالة و إيصالها إلى الناس و قد جاهد اعداءه في سبيل الدين فحارب الأقربين و الأبعدين من أجل إعزاز الدين و رفع رايته لم يؤثر عليه اجتماعهم على تكذيبه و قيامهم بإطفاء نور هدايته، فقد اجتمعت قريش و التقت كلها على كلمة واحدة أرادت من خلالها التخلص من رسول اللّٰه و القضاء على دينه و ما جاء به من أحكام و قضايا و لكن رسول اللّٰه بقي على إصراره و مسيرته يقول: «و اللّٰه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو تنفرد سالفتي» و لذا نجح النبي صلى اللّٰه عليه و آله و سلم بتصميمه و تسديد اللّٰه له و استطاع إن يقضي على الشرك و الوثنية في فترة وجيزة من عمر الزمن...

(فاعتصموا بتقوى اللّٰه فإن لها حبلا وثيقا عروته و معقلا منيعا ذروته) أمرهم أن يلتزموا تقوى اللّٰه و يتحصنوا بها فإنها تحفظهم من السقوط في مهاوي الرذيلة: و تقوى اللّٰه لها حبل قوي متين و ملجأ حريز لا يصل إلى أعلاه أحد و هذا يراد به الإسلام فإن من تمسك به نجا و فاز و لم يتعرض لعطب أو ردى...

(و بادروا الموت و غمراته و أمهدوا له قبل حلوله و أعدوا له قبل نزوله فإن الغاية القيامة و كفى بذلك واعظا لمن عقل و معتبرا لمن جهل) استعدوا للموت بتهيئة أجوائه و ما يريحكم اثناءه و ما بعده و إنما يكون ذلك بالأعمال الصالحة و القيام بالواجبات و ترك المحرمات فإن شدائد الموت لا يخففها أو يزيلها إلاّ صالح الأعمال من احترام الناس و كف الأذى عنهم و إعانتهم و صلة الرحم و العطف على الفقراء و المساكين و هكذا و لذا قال عليه السلام: «و أمهدوا له قبل حلوله سهلوا له الأمر و وطئوا الأكناف بعمل الصالحات و أعدوا له قبل نزوله و أنتم في دار الدنيا أقوياء أصحاء تملكون الحركة و القدرة ثم فرّع على ذلك بأن غاية الموت و نهايته هي القيامة و يوم الحساب فإن بعد الموت وقفة أمام اللّٰه للحساب و في ذلك كفاية لمن كان له عقل و اعتبار أن يهيىء الزاد ليوم المعاد و يستعد للرحيل فإنه لن يعود إلى الدنيا أبدا...

(و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس و شدة الإبلاس و هول المطلع و روعات الفزع و اختلاف الأضلاع و استكاك الأسماع و ظلمة اللحد و خيفة الوعد و غم الضريح و ردم الصفيح) ذكر أن قبل يوم القيامة أهوال و فجائع و أمور عظيمة... إنّ بعد الموت إلى قيام الساعة فترة صعبه يذكر بعض ما يتخللها و ما يمر على هذا الميت المسكين منها و هي:

1 - ضيق الأرماس أي ضيق القبور فإن هذا الإنسان الذي كانت لا تسعه الدنيا مع سعتها يتحول إلى قبر ضيق لا يتجاوز قامته إلا قليلا فأين القصور و أين الدور و أين الدنيا

ص: 266

بسعتها إنها كله لم تسعه و وسعه قبره الضيق.. إنه قبر يبقى فيه الإنسان إلى قيام الساعة...

2 - شدة الإبلاس: فإن الحزن هناك شديد لفراق الأهل و الوطن و المال و كل عزيز.

3 - و هول المطلع: و هو رؤية عالم الآخرة و ما أعده اللّٰه للعاصين من عذاب و عقاب فإنه يدخله من ذلك أمر عظيم.

4 - و روعات الفزع: الخوف الشديد الذي يتنوع بتنوع ما يرى من العذابات...

5 - و اختلاف الأضلاع: أي اشتباكها و تداخلها ببعضها من ضغطة القبر.

6 - و استكاك الأسماع: أي ذهابها و توقف عملها نتيجة الأصوات الهائلة.

7 - و ظلمة اللحد: و ما أشد الظلمة في كل شيء و ظلمة القبر ما أوحشها و أشد رعبها فإن أحدنا يحس بالضيق و الضجر إذا اطفئت الأنوار و يستوحش من ذلك فكيف إذا اجتمعت على الميت الغربة و الوحدة و ضيق القبر و ظلمته...

8 - و خيفة الوعد: الخوف مما وعد اللّٰه المذنبين من العذاب فإن الموت يقرّب هذا الوعد فيعيش الإنسان عذاب الانتظار لذلك العذاب...

9 - و غم الضريح و ردم الصفيح: إن للقبر شدة عظيمة و له همّ و غم لا يقارن بهموم الدنيا و غمومها و اعتبر بتلك الصخرات العريضة التي تسد القبر من فوق و يأتي الردم ليسد جميع المنافذ و كم هي ساعة صعبة عند ما توضع هذه الصخرات على فوهة القبر و تسد بأحكام حتى لا يبقى منها منفذ...

(فاللّٰه اللّٰه عباد اللّٰه فإن الدنيا ماضية بكم على سنن و أنتم و الساعة في قرن) ناشدهم اللّٰه أن يحسبوا له حسابه و يطيعوه و يعملوا بأوامره و يجتنبوا معاصيه فإن الدنيا سبيلها و سلوكها معكم كما سلكت مع الذين من قبلكم من الأمم و الشعوب و الأجداد و الآباء و الناس أجمعين، فإن الموت قد أتاهم و أناخ بركابهم فلم يبق منهم أحد و أنتم على نفس الطريق لا تحيدون عنه و أنتم و يوم القيامة مقترنان لأن يوم القيامة حق واقع لا ريب فيه فكأنه و الإنسان مقرونان...

(و كأنها قد جاءت بأشراطها و أزفت بأفراطها و وقفت بكم على صراطها) فكأنها قد جاءت مستكملة شروطها و علاماتها و في حديث سلمان ذكر النبي صلى اللّٰه عليه و آله و سلم كثيرا من تلك العلامات منها أن اللّٰه يرفع العلم و يظهر الجهل، يشرب الخمر - يفشو الزنا - تقل الرجال

ص: 267

- تكثر النساء - اضاعة الصلوات اتباع الشهوات. تعظيم أصحاب المال، بيع الدين بالدنيا، تكون الإمارة للنساء، يكتفي الرجال بالرجال و النساء بالنساء، تشبه النساء بالرجال و الرجال بالنساء، يركبن ذوات الفروج السروج... إلى آخر الأشراط المذكورة.

و كأنها قد اقتربت بمقدماتها و أوقفتكم على طريقها المؤدي بكم إلى الآخرة.

(و كأنها قد أشرفت بزلازلها و أناخت بكلاكلها و انصرمت الدنيا بأهلها و أخرجتهم من حصنها فكانت كيوم مضى أو شهر انقضى و صار جديدها رثا و سمينا غثا) و كأن يوم القيامة قد جاء بما يحمل من زلازل مرعبة مخوفة كما قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهٰا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّٰا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذٰاتِ حَمْلٍ حَمْلَهٰا وَ تَرَى اَلنّٰاسَ سُكٰارىٰ وَ مٰا هُمْ بِسُكٰارىٰ وَ لٰكِنَّ عَذٰابَ اَللّٰهِ شَدِيدٌ» .

و كأنها قد حطت عليكم بأهوالها و مصائبها و ما فيها من شدائد و أتعاب.

و أما الدنيا فقد انقضت و انتهت و لم يعد من أهلها أحد أخرجتهم من بحبوحة عيشها و رغد ما فيها إلى مصائب الآخرة و مشاكلها و كأن هذه الدنيا بطولها و كل عمر الإنسان فيها كأنها يوم مضى أو شهر انقضى و ما أقصر هذه المسافة الزمنية و قلتها لقد تحول ما كان جديدا منها و ما كنا نتباهى به و نفخر تحول باليا ممزقا و ما كان قويا سمينا أصبح ضعيفا هزيلا،... لقد انقلبت الأمور عما كانت عليه و تحولت الأيام الطويلة و العمر المديد إلى شيء تافه قصير...

(في موقف ضنك المقام و أمور مشتبهة عظام) إنه موقف مزدحم بالخلائق حيث يجمع اللّٰه الأولين و الآخرين للحساب قال تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلىٰ مِيقٰاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » و أمور و هي أهوال يوم القيامة العظيمة التي تدع الإنسان متحيرا مضطربا لا يعرف ما ذا يعمل و كيف يتحرك و بأي وسيلة تكون النجاة...

(و نار شديد كلبها) و ذكر النار التي يأوي إليها العصاة و المردة الذين خرجوا عن سلطان اللّٰه و لم يطيعوه في أمره و قد ذكر بعض صفاتها المرعبة المخيفة إنها:

1 - نار شديد كلبها: فشرّها و شدائدها و مصائبها كثيرة إنها تأكل و لا تشبع كما قال تعالى: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» .

2 - (عال لجبها ساطع لهبها متغيظ زفيرها) لشدتها يعلو صوتها و يرتفع صخبها كما قال تعالى: «إِذٰا أُلْقُوا فِيهٰا سَمِعُوا لَهٰا شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ تَكٰادُ تَمَيَّزُ مِنَ اَلْغَيْظِ» .

ص: 268

3 - (متأجج سعيرها) نارها ملتهبة إلى أقصى الحدود.

4 - (بعيد خمودها ذاك وقودها) فهي لا تنطفىء أو تتوقف عن الاشتعال بل باستمرار يلقى فيها من الناس العصاة ما يزيدها ضراما و التهابا...

5 - (مخوف وعيدها) من كان حظه فيها لسوء عمله أخافته و أرعبته و لو كان ذاك بعد لم يأت.

6 - (عم قرارها مظلمة اقطارها) عمقها مجهول لا يرى و هي مظلمة الجوانب و الحدود.

7 - (حامية قدورها فظيعة أمورها) فالأماكن التي يقع فيها الناس للعذاب شديدة الحرارة و أمورها غريبة فكل دركة من دركاتها فيها عذاب و لها رجال من العصاة...

(«وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً» ) بعد أن ذكر النار للعصاة و ذكر بعض أوصافها الرهيبة ذكر الجنة و إن اللّٰه قد أعدها للأتقياء فإنهم يساقون إليها جماعات جماعات و بعدها ذكر أحوالهم و ما يمر عليهم من النعيم و الخير.

(قد أمن العذاب و انقطع العتاب) اطمأنوا أن العذاب لا يطالهم أو ينالهم فقد أمنوه لإيمانهم و صدق أعمالهم كما أنهم لا يعاتبون على شيء أو يسألون عن شيء...

(و زحزحوا عن النار و أطمأنت بهم الدار و رضوا المثوى و القرار) أبعدوا عن النار «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّٰارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فٰازَ» و سكنت بهم الجنة و ارتاحت لدخولهم فيها و استقرارهم في نعيمها و رضوا هذا المقام و الاستقرار لأنفسهم.

(الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية و أعينهم باكية) و هذه من صفات المتقين إنهم كانت أعمالهم في الدنيا صالحة خالصة من الرياء و السمعة لم يعملوا إلا اللّٰه و رجاء ثوابه و قد كانت أعينهم باكية من خشيته خوفا من عقابه و شوقا إلى ثوابه...

(و كان ليلهم في دنياهم نهارا تخشعا و استغفارا و كان نهارهم ليلا توحشا و انقطاعا) لقد تحولوا إلى رهبان الليل بل حولوا ليلهم نهارا فسهروا في الخشوع للّٰه و الخضوع له و الدعاء و الذكر و التسبيح.. إنها ساعات الليل التي يحولها المؤمنون المتقون إلى ساحات مناجاة للّٰه و تضرع له و استغفار ساعات الليل البهيم حيث يهجع الناس في مضاجعهم يخرج المؤمنون عندها للقاء اللّٰه يبثونه شكواهم و آلامهم و يطلبون فكاك رقابهم من النار.

ص: 269

و أما نهارهم فيتحول إلى ليل لأنهم يستوحشون من الدنيا و أهلها و ينقطعون عما في أيدي الناس و عما يزاولون من أعمال لا ترضي اللّٰه...

(فجعل اللّٰه لهم الجنة مآبا و الجزاء ثوابا و كانوا أحق بها و أهلها في ملك دائم و نعيم قائم) بعد أن وصف حال المتقين و سلوكهم عقبه بذكر ما أعطاهم من الفضل جزاء لعملهم.

إنه جعل لهم الجنة مركزا يعودون إليه و يستقرون فيه و جعل لهم الجزاء الجميل ثوابا كما قال تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفٰازاً حَدٰائِقَ وَ أَعْنٰاباً وَ كَوٰاعِبَ أَتْرٰاباً وَ كَأْساً دِهٰاقاً لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ كِذّٰاباً جَزٰاءً مِنْ رَبِّكَ عَطٰاءً حِسٰاباً» .

و قد كانوا أهلها و أحق بها من غيرهم من الناس في ملك دائم لا يزول و نعيم قائم لا يتحول أو يتبدل.

(فارعوا عباد اللّٰه ما برعايته يفوز فائزكم و بإطاعته يخسر مبطلكم) احفظوا الأمور التي إذا أديتموها و حفظتموها يفوز الإنسان منكم و ينجح و هذه الأمور هي الواجبات و رعاية الحقوق و إدائها كما إن من إضاعها و لم يقم بها و يؤديها على وجهها يخسر المخسر منكم و أي خسارة هي أنها خسارة الدين التي تؤدي إلى الجحيم...

(و بادروا آجالكم بأعمالكم فإنكم مرتهنون بما أسلفتم و مدينون بما قدمتم) اسرعوا إلى عمل الخير و القيام بالواجبات قبل أن يأتيكم الموت فتنقطع هذه الأعمال ثم بين أن كل واحد مأخوذ بما قدم من خير أو شر و إن هذه النفوس مرهونة بما قدمت من عمل سيء فإنها لا تستطيع افتكاكها إلا بعمل صالح من توبة و إعادة حق لأصحابه و قيام الواجبات كما إنهم مدينون بما قدموا و لا يصح الوفاء إلا بالقيام بالواجبات فإن بها الوفاء...

(و كأن قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون و لا عثرة تقالون) كأن الموت قد حلّ بكم و نزل بساحتكم فلا يمكنكم الرجوع إلى الدنيا و لا يمكن أن تصلحوا خللا وقع منكم فإذا قرع الموت باب أحدنا فلا رجعة له و لا عمل بعده...

(استعملنا اللّٰه و إياكم بطاعته و طاعة رسوله و عفا عنا و عنكم بفضل رحمته) دعا لنفسه و لهم أن يكونوا في طاعة اللّٰه و طاعة رسوله بأن يكونوا من الملتزمين بكل أمر إلهي و نبوي كما سأله العفو عنه و عنهم فإنه ذو الفضل و الرحمة بفضله يعفو و يرحم...

(الزموا الأرض و اصبروا على البلاء و لا تحركوا بأيديكم و سيوفكم في هوى

ص: 270

ألسنتكم و لا تستعجلوا بما لم يعجله اللّٰه لكم) كفوا أيديكم عن القتال و محاربة من معكم ممن لم يوافقكم في عقائدكم فقد كان هناك في صفوف جند الإمام الخوارج و عملاء معاوية فحفاظا على وحدة الصف أمرهم أن لا يحاربوا هؤلاء حتى لا يتفكك العسكر و ينقطع نظمه و أمرهم بالصبر و التروي على الامتحان مهما كان صعبا و أن لا يشهروا السيوف فيما أحبوا و أرادوا و اشتهوا لأن ذلك قد يكون مضرا بالمصلحة العامة و نهاهم عن استعجال أمر لم يأت وقته و لم تتوفر ظروفه لأن المصلحة أن لا يقدم الإنسان على أمر إذا لم ينضج بعد...

(فإنه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حق ربه و حق رسوله و أهل بيته مات شهيدا و وقع أجره على اللّٰه و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله و قامت النية مقام إصلاته لسيفه فإن لكل شيء مدة و أجلا) بعد أن أمرهم بالصبر على البلاء و نهاهم عن قتال من معهم طيّب خواطرهم بأن أعطاهم أجر الجهاد و الشهادة إذا ماتوا و لو بدون قتال بل موتة طبيعية يؤجرون عليها و يرجون الشهادة شرط أن يكونوا على معرفة بحق اللّٰه و حق رسوله و حق أهل البيت من الأئمة و يقع أجرهم على اللّٰه، فإن النية تقوم مقام العمل فمن نوى الجهاد في سبيل اللّٰه و كان على معرفة تامة بحق اللّٰه و حق رسوله و الأئمة فإنه يكسب أجر ما نوى من الجهاد و هكذا يتفضل اللّٰه عليه بأن يكتب له أجر ما نوى و هذا مفاد الحديث: إنما الأعمال بالنيات و لكل أمرء ما نوى ثم بين أن لكل شيء مدة ينتهي عندها فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل تلك المدة أو يستبطئها...

ص: 271

191 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يحمد الله و يثني على نبيه و يوصي بالزهد و التقوى

حمد الله

الحمد للّٰه الفاشي (1) في الخلق حمده، و الغالب جنده، و المتعالي جدّه (2). أحمده على نعمه التّؤام (3)، و الائه (4) العظام. الّذي عظم حلمه فعفا، و عدل في كلّ ما قضى (5)، و علم ما يمضي و ما مضى، مبتدع (6) الخلائق بعلمه، و منشئهم بحكمه، بلا اقتداء و لا تعليم، و لا احتذاء (7) لمثال صانع حكيم، و لا إصابة خطأ، و لا حضرة ملأ.

الرسول الأعظم

و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، ابتعثه و النّاس يضربون (8) في غمرة (9)، و يموجون (10) في حيرة. قد قادتهم أزمّة (11) الحين (12)، و استغلقت (13) على أفئدتهم أقفال (14) الرّين (15).

الوصية بالزهد و التقوى

عباد اللّٰه! أوصيكم بتقوى اللّٰه فإنّها حقّ اللّٰه عليكم، و الموجبة على اللّٰه حقّكم، و أن تستعينوا عليها باللّٰه، و تستعينوا بها على اللّٰه: فإنّ التّقوى في اليوم الحرز (16) و الجنّة، و في غد الطّريق إلى الجنّة. مسلكها (18) واضح، و سالكها رابح، و مستودعها حافظ. لم تبرح (19) عارضة نفسها على الأمم الماضين منكم و الغابرين (20)، لحاجتهم إليها غدا، إذا أعاد اللّٰه ما أبدى، و أخذ ما أعطى، و سأل عمّا أسدى (21). فما أقلّ من قبلها، و حملها حقّ

ص: 272

حملها! أولئك الأقلّون عددا، و هم أهل صفة اللّٰه سبحانه إذ يقول: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ» . فأهطعوا (22) بأسماعكم إليها، و ألظّوا (23) بجدّكم (24) عليها، و اعتاضوها (25) من كلّ سلف (26) خلفا، و من كلّ مخالف موافقا.

أيقظوا بها نومكم، و اقطعوا بها يومكم، و أشعروها قلوبكم، و ارحضوا (27) بها ذنوبكم، و داووا (28) بها الأسقام (29)، و بادروا بها الحمام (30)، و اعتبروا بمن أضاعها، و لا يعتبرنّ بكم من أطاعها. ألا فصونوها و تصوّنوا (31) بها، و كونوا عن الدّنيا نزّاها (32)، و إلى الآخرة ولاّها (33). و لا تضعوا (34) من رفعته التّقوى، و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا. و لا تشيموا (35) بارقها (36)، و لا تسمعوا ناطقها، و لا تجيبوا ناعقها (37)، و لا تستضيئوا بإشراقها، و لا تفتنوا بأعلاقها (38)، فإنّ برقها خالب (39)، و نطقها كاذب، و أموالها محروبة (40)، و أعلاقها مسلوبة. ألا و هي المتصدّية (41) العنون (42)، و الجامحة (43) الحرون (44)، و المائنة (45) الخئون (46)، و الجحود (47) الكنود (48)، و العنود (49) الصّدود (50)، و الحيود (51) الميود (52). حالها انتقال، و وطأتها زلزال، و عزّها ذلّ ، و جدّها هزل، و علوها سفل. دار حرب (53) و سلب، و نهب و عطب (54). أهلها على ساق (55) و سياق (56)، و لحاق و فراق. قد تحيّرت مذاهبها (57)، و أعجزت مهاربها (58)، و خابت (59) مطالبها، فأسلمتهم المعاقل (60)، و لفظتهم (61) المنازل، و أعيتهم (62) المحاول (63):

فمن ناج معقور (64)، و لحم مجزور (65)، و شلو (66) مذبوح، و دم مسفوح (67)، و عاضّ على يديه، و صافق (68) بكفّيه، و مرتفق بخدّيه (69)، و زار (70) على رأيه، و راجع عن عزمه (71)، و قد أدبرت (72) الحيلة، و أقبلت الغيلة (73)، «ولات حين مناص (74)». هيهات هيهات! قد فات ما فات،

ص: 273

و ذهب ما ذهب، و مضت الدّنيا لحال بالها (75)، «فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين (76)».

اللغة

1 - الفاشي: المنتشر.

2 - الجد: بالفتح العظمة.

3 - التؤام: جمع توأم و هو المولود مع غيره في حمل واحد.

4 - الآلاء: النعم.

5 - قضى: فصل و حكم.

6 - المبتدع: الخالق على غير مثال سابق.

7 - الاحتذاء: الاقتداء يقال احتذى مثال فلان اقتدى و تشبه به.

8 - يضربون: من الضرب و هو السير.

9 - الغمرة: الماء الكثير، الشدة، ما يغمر العقل من الجهل.

10 - يموجون: من ماج البحر إذا ارتفع و هاج و اضطربت أمواجه و القوم يموجون إذا اختلفت أمورهم و اضطربت.

11 - الأزمة: جمع زمام ما تقاد به الدابة.

12 - الحين: بفتح الحاء الهلاك.

13 - استغلقت: استحكمت يقال: استغلق عليّ بيعته أي لم يجعل لي خيارا في رده.

14 - أقفال: جمع قفل بضم القاف حديد تغلق بها الأبواب.

15 - الرين: بفتح الراء التغطية و الحجاب.

16 - الحرز: ما تحفظ به الأشياء من صندوق و غيره، الموضع الحصين.

17 - الجنة: بضم الجيم ما يستتر به.

18 - مسلكها: طريقها.

19 - لم تبرح: من برح المكان أي زال عنه ما برح أي ما زال.

20 - الغابرين: من الأضداد يستعمل في الماضين و في الباقين.

21 - أسدى: أعطى و أنعم.

22 - أهطعوا: أسرعوا.

23 - ألظوا: ألحّوا و الإلظاظ الإلحاح في الأمر.

24 - جدكم: بكسر الجيم الاجتهاد في الشيء و المبالغة فيه.

25 - اعتاضوها: أخذوا عوضها.

ص: 274

26 - السلف: المتقدمون من الأجداد و الآباء و غيرهما.

27 - أرحضوا: اغسلوا من رحض الثوب إذا غسله.

28 - داووا: عالجوا بالدواء.

29 - الأسقام: الأمراض.

30 - الحمام: الموت.

31 - تصونوا: تحفظوا و امتنعوا.

32 - نزّاها: جمع نازه و هو المباعد عما يوجب الذم.

33 - ولاها: جمع واله و هو المتحيّر من شدة الوجد.

34 - لا تضعوا: لا تسقطوا و تذلوا.

35 - لا تشيموا: من الشيم و هو النظر للبرق انتظارا للمطر.

36 - البارق: السحاب.

37 - الناعق: الصائح.

38 - الأعلاق: النفائس جمع علق و هو الشيء النفيس.

39 - خالب: خادع و برّق خالب و خلّب لا مطر فيه.

40 - المحروبة: المسلوبة.

41 - المتصدية: المتعرضة و تصدت المرأة إذا تعرضت للرجال.

42 - العنون: من عنّ لي كذا إذا عرض.

43 - الجامحة: الدابة الصعبة على راكبها المستعصية عليه.

44 - الحرون: الممتنعة عن السير.

45 - المائنة: الكاذبة.

46 - الخئون: المبالغة في الخيانة.

47 - الجحود: إنكار الشيء مع علمه به.

48 - الكنود: الجحود، المنكر للنعمة.

49 - العنود: شديدة العناد.

50 - الصدود: كثيرة الصد و الهجر.

51 - الحيود: المائلة عن الاعتدال.

52 - الميود: المتمايلة من ماد إذا تحرك و اضطرب.

53 - الحرب: بفتح الحاء السلب، ما يسلب في الحرب من درع و غيرها.

54 - العطب: الهلاك.

55 - الساق: الشدة، و الساق ما بين الكعب و الركبة.

56 - السياق: الاحتضار و وقت نزع الروح.

57 - مذاهبها: طرقها، ارائها المختلفة.

ص: 275

58 - المهارب: جمع مهرب مكان الهروب.

59 - خابت: يقال: خاب سعيه أي لم ينجح و خاب لم يظفر بما طلب.

60 - المعاقل: الحصون و ما يلجأ إليه.

61 - لفظتهم: ألقتهم و دفعتهم.

62 - أعيتهم: أعجزتهم.

63 - المحاول: جمع محالة بمعنى الحذق و جودة النظر.

64 - المعقور: المجروح.

65 - المجزور: المقتول أو المسلوخ أخذ عنه جلده، المقطوع.

66 - شلو: بكسر الشين البدن و في الأصل العضو من اللحم بعد الذبح.

67 - مسفوح: مسفوك.

68 - صافق: ضرب يدا بيد أخرى.

69 - مرتفق بخديه: من ارتفق إذا اتكأ على مرفق يده أو على المخدة.

70 - زار: لائم.

71 - العزم: الثبات و الشدة فيما يعزم عليه الإنسان.

72 - أدبرت: ولّت و مضت.

73 - الغيلة: الشر، و الخديعة، الأخذ على غرة.

74 - المناص: الفرار و المراوغة، الهروب.

75 - بالها: من البال و يطلق على القلب و على الحال و الشأن و الأمر.

76 - منظرين: مؤخرين من أنظره إذا أخره و أمهله.

الشرح

(الحمد للّٰه الفاشي في الخلق حمده و الغالب جنده و المتعالي جده) تتضمن هذه الخطبة الترغيب بالتقوى و التزهيد في الدنيا و الحث على الآخرة.

ابتدأها كما هي العادة في كثير من خطبه الشريفة بذكر اللّٰه و حمده و الثناء على رسوله و قد حمد اللّٰه باعتبارات:

1 - الحمد للّٰه الفاشي في الخلق حمده: حمد اللّٰه باعتبار انتشار حمده بين مخلوقاته و جميع المخلوقات تسبح اللّٰه و تحمده بلسان حالها لإمكانها و قصورها أو بلسان مقالها كما هي حال الإنسان فإنه يجمع بين الحمد بلسان الحال و لسان المقال.

2 - و الغالب جنده: و جند اللّٰه هم كل من حمل دينه و دافع عنه و عمل من أجل

ص: 276

إرساء قواعده و هؤلاء هم الغالبون و نهاية الشوط لصالحهم و صالح دينهم مهما امتدّ وقت الظلم و الجور قال تعالى: «وَ إِنَّ جُنْدَنٰا لَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ » .

3 - و المتعالي جده: تعالى جلال اللّٰه و عظمته عن كل ما يلحق بالبشر لأنه سبحانه واجب الوجود المستغني عن كل موجود.

(أحمده على نعمه التؤام و آلائه العظام) هذا بيان لسبب الحمد إنه من أجل نعمه المتوالية المترادفة التي لم تنقطع في وقت و لا حين و أن أهم نعم اللّٰه و الائه هدايته لدينه و التوفيق لما دعا إليه من سبيله...

(الذي عظم حلمه فعفا و عدل في كل ما قضى و علم ما يمضي و ما مضى) حلم اللّٰه عدم أخذه للمجرمين و العصاة مباشرة بل إنه تطوّل عليهم فأمهلهم لعلهم يرجعون و إلى رحابه يعودون بل دعا العصاة إلى العودة و أمرهم بالتوبة و أخذ على نفسه أن يقبلهم في صفوف عباده المطيعين فهو سبحانه عظيم الحلم عفو عن المذنبين.

و في حكمه حكم عدل فلم يأخذ أحدا بجريرة أحد و لم يحاسب أحدا على حساب أحد، أو أن في كل أمر شرّعه كان عادلا فيه من أجل المصلحة العامة و إكمال النظام...

و أما علمه فإنه يعلم ما مضى و ما يأتي يعلم بكل حركة و سكون، يعلم بالكليات و يعلم بالجزئيات و علمه فيما مضى كعلمه فيما هو قائم الآن و ما يأتي، تتساوى بالنسبة إلى علمه الأشياء كلها...

(مبتدع الخلائق بعلمه و منشئهم بحكمه بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء لمثال صانع حكيم و لا إصابة خطأ و لا حضرة ملأ) لعلمه بالمصلحة العامة خلق الخلق بأبدع ما يكون و أتقن ما يكون و أنشأهم من زاوية العدم بأمره النافذ أو بحكمته التي تضع الأمور موضعها بدون أن يقتدي بغيره أو يتعلم منه لأنه كان و لم يكن معه أحد و هو اللّٰه الغني الحميد...

كما أن خلقه الخلق لم يكن اقتداء بأحد من الصّناع الحكماء فهم عملوا و هو تابعهم على ذلك فأخذ منهم و اقتدى بهم...

كما أنه لم يكن خلقه للخلائق بإدراكه الخطأ الذي وقع فيه بعد خلقه لهم فأصلحه كما أنه لم يكن أحد حاضرا عند خلقه الخلق كما قال تعالى: «مٰا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ » .

(و أشهد أن محمدا عبده و رسوله ابتعثه و الناس يضربون في غمرة و يموجون في حيرة) ذكر حال الناس يوم بعث اللّٰه نبيه أنهم كانوا يسيرون في شدة فأمور معاشهم صعبة

ص: 277

شديدة و كذلك أفكارهم في حيرة و اضطراب لم يهتدوا إلى الحق و لم يدركوا الطريق إلى اللّٰه فهم في معاشهم و معادهم في شك و اضطراب و صعوبة...

(قد قادتهم أزمة الحين و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرين) لقد كانت تجرّهم أزمّة الهلاك من المعاصي و الآثام إلى الموت أو ما كان يجري بينهم من المنازعات و الغارات فكانت هذه تدفعهم إلى الهلاك...

كما أن كثرة المعاصي و الانحرافات غطّت قلوبهم و استحكمت عليها بدقة فلم تجد للهداية من سبيل فكان العقلاء يحذرونهم و هم يتمادون في غيّهم و انحرافهم فكأن قلوبهم مقفلة على الباطل و التجاوز على الحق و الانحراف...

(عباد اللّٰه أوصيكم بتقوى اللّٰه فإنها حق اللّٰه عليكم و الموجبة على اللّٰه حقكم و أن تستعينوا عليها باللّٰه و تستعينوا بها على اللّٰه) هذه هي الوصية الغالية عند الإمام و لذا يوصي بها على الدوام أوصيكم بتقوى اللّٰه فإنها حق اللّٰه عليكم فإن حق اللّٰه أن يطاع فلا يعصى... أن يقوم العبد بكل تكاليفه دون نقص أو إهمال أو تسويف و يكون له على اللّٰه الأجر و الثواب بحكم ما قطعه سبحانه على نفسه من إثابة المطيع...

ثم أمرهم أن يستعينوا باللّٰه لتحصيل التقوى بأن يتوجهوا إليه و يطلبوا منه الإعانة أن يوفقهم لها و يقوّي دواعيها و دوافعها فيهم و يسهّل مواردها و ما يحققها بعد حصولها، اسألوه أن تكون المعينة لكم على القرب منه و الوصول إلى رضوانه و جنانه، فاستعينوه لتحقيقها كي تدفعوا بها غضبه و معاصيه...

(فإن التقوى في اليوم الحرز و الجنة و في غد الطريق إلى الجنة مسلكها واضح و سالكها رابح و مستودعها حافظ) التقوى هي الحرز الذي يحصّن الإنسان عن الموبقات و الآثام في الدنيا كما أن بها تكون الحماية عن الذل و الهوان و يجعل اللّٰه للمتقين فرجا و مخرجا من كل أمر صعب و لا يضرهم كيد الأعداء و حيلهم و أما في الآخرة فهي الطريق التي تأخذ بيد صاحبها إلى الجنة و نعيمها.

ثم بيّن أن طريقها واضح ظاهر بيّن و هو الالتزام بأوامر الشارع و تطبيقها و الانتهاء عن نواهيه و من سلك طريق التقوى و مشى فيه فإنه الرابح في الدنيا و الآخرة و اللّٰه سبحانه الذي عنده التقوى هو الذي يحفظ العامل بها و يحفظ كل ما يصدر عن المتقين قال تعالى: «إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» .

(لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين منكم و الغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد اللّٰه ما أبدى و أخذ ما أعطى و سأل عما أسدى فما أقل من قبلها و حملها حق حملها

ص: 278

أولئك الأقلون عددا و هم أهل صفة اللّٰه سبحانه إذ يقول: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ» ) و لكون التقوى حاجة عامة لكل الناس قال: إنها لم تزل تعرض نفسها على الأمم الماضين منكم فحتى أهل الجاهلية يرشدهم عقلهم إلى اللّٰه و إلى حفظ الدم و قبح الظلم و حسن العدل و إلى أوليات الإنسانية و الاتصال باللّٰه و هي حاجة ملحة للماضين و الحاضرين لأنهم بحاجة إليها غدا يوم الحساب إذا أعاد اللّٰه هذا الإنسان للوقوف بين يديه و محاسبته عن الانحرافات و الآثام فلو كان هناك تقوى لنفعتهم... إنهم بحاجة إليها يوم يعيد اللّٰه هذا الإنسان للحساب و يأخذ منه ما أعطاه من مال و أولاد و سأل الخلق عما أحسن إليهم من العطاء فإن التقوى هي التي تدفع العذاب و ترفع العقاب...

ثم تعجب من قلة من قبلها و أنهم قليلون... و ما أقلهم في زماننا... الإمام يقول: إنهم قليلون و حقا إنهم قليلون... إن من يقبل التقوى و يعمل بها قليلون جدا... و من يحملها حق حملها فهذا ممن وصفهم اللّٰه بقوله: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ» .

(فأهطعوا بأسماعكم إليها و ألظوا بجدكم عليها و اعتاضوها من كل سلف خلفا و من كل مخالف موافقا) بعد أن أمرهم بالتقوى كأصل يجب العمل به و الحفاظ عليه و القيام به أمرهم فيها لعدة وجوه فيها مصالحهم و منافعهم.

1 - أهطعوا بأسماعكم إليها: أسرعوا إلى سماع حقيقة التقوى و الاطلاع على ثمراتها و فوائدها حتى تكونوا من أهلها و تعملوا بمضمونها...

2 - ألظوا بجدكم عليها: تمسكوا بها و ألحّوا في الحصول عليها.

3 - و اعتاضوها من كل سلف خلفا: عوّضوا بها عن الذنوب التي تقدمت منكم و اجعلوا الطاعات اللاحقة عوضا و خلفا عن المعاصي المتقدمة التي سلفت...

4 - و من كل مخالف موافقا: و اجعل بدل كل مخالف لك في التقوى و غير العامل بها موافقا لك بها و عاملا بها، فاجعل الموافق للتقوى بدل المخالف.

5 - (أيقظوا بها نومكم) تهجدوا بهذه التقوى في الليل و استيقظوا من نومكم من أجل ما يؤدي إليها من صلاة و دعاء و مناجاة.

6 - (و اقطعوا بها يومكم) اجعلوا يومكم مملوءا بالتقوى أي بأسبابها و ما يؤدي إليها و ليس في المعاصي و المنكرات و بالقيل و القال.

7 - (و أشعروها قلوبكم) اجعلوها في قلوبكم ملاصقة لها قوية الصلة بها فإن من

ص: 279

استشعر تقوى اللّٰه لم يطب له إلا العيش مع اللّٰه في تكاليفه و ما أوجبه على خلقه...

8 - (و ارحضوا بها ذنوبكم) أي اغسلوا ذنوبكم و امحوها من سجلكم بتقوى اللّٰه فإن اللّٰه يحب المتقين و من أحبه اللّٰه أسقط عنه ذنوبه و أبدلها حسنات...

9 - (و داووا بها الأسقام) أي اجعلوها الدواء و الشفاء من الأمراض التي هي الذنوب و المعاصي فإن الأمراض شفاءها.

10 - (و بادروا بها الحمام) سارعوا بها قبل الموت فعندها لا يفيد عمل و لا قول.

11 - (و اعتبروا بمن أضاعها و لا يعتبرن بكم من أطاعها) خذوا العبرة بمن أضاعها حيث تمنى الرجوع إلى الدنيا فلم تتحقق أمنيته بل أجيب «بكلا» فإنه خسر بإضاعة التقوى و أي خسارة أعظم من خسران الآخرة و لا تكونوا أنتم محط التجربة فيعتبر بكم الآخرون فتكون الخسارة عليكم و الربح لغيركم.

12 - (ألا فصونوها و تصوّنوا بها) احفظوا التقوى و اجعلوها حصنكم المانع لكم من كل معصية أو رذيلة و إياكم أن تخترقها الذنوب فتفسدكم...

13 - (و كونوا عن الدنيا نزاها و إلى الآخرة ولاها) أمر أن يترفعوا عن الدنيا و حطامها و ما فيها لقلته و قلة ما يستصحب منه و قابله أن يكون هناك شوق إلى الآخرة و حب و حنين لما فيها فإن من آمن بالآخرة اشتد شوقه إليها و تنزه عن الدنيا و ما فيها.

14 - (و لا تضعوا من رفعته التقوى و لا ترفعوا من رفعته الدنيا) و هذا من باب التقوى أن لا يضع المؤمن من رفعته التقوى من أهل الإيمان فالتقوى إذا رفعت أنسانا يجب أن نرفعه كما حصل ذلك لأهل البيت عليهم السلام و للمراجع العظام الذين اتقوا اللّٰه فرفعهم اللّٰه و رفعهم المؤمنون.

كما أن من رفعته الدنيا يجب في المنظور الإسلامي أن لا يرفعه المؤمنون بل يجب أن يضعوه و ينزلوه عن مقامه و مما يؤسفنا أن نجد تعامل أهل العلم و بعض من مشى في ركاب الدول الظالمة منهم نجدهم يستخفون بأهل التقوى بينما يكبرون أهل الدنيا إذا جاءهم وزير في الدولة الظالمة هشوا له و بشوا و أثنوا عليه و مدحوه و دعّموا مركزه و قووه و على العكس من ذلك إذا جاءهم رجل من أهل التقوى يستخفون فيه و يقللّون من قيمته و يحطّون من شأنه.

15 - (و لا تشيموا بارقها) أي لا تنظروا إلى الدنيا و ما يظهر منها إنه سعادة أو فيه السرور و لا تنتظروا منها الفرح و السرور.

ص: 280

16 - (و لا تسمعوا ناطقها و لا تجيبوا ناعقها) لا تسمعوا إلى أبناء الدنيا الذين ينطقون بفضلها و يزينونها للناس و لا تستجيبوا إلى من يدعوكم إليها و إلى ما فيها.

17 - (و لا تستضيئوا بإشراقها و لا تفتنوا بأعلاقها) لا تنشرحوا و تفرحوا بزينة الدنيا و زخارفها و لا تفتنوا عن الآخرة و تبتعدوا عن اللّٰه بنفايسها التي تتراىء لكم و تعجبكم.

(فإن برقها خالب و نطقها كاذب و أموالها محروبة و أعلاقها مسلوبة) علّل نهيه عن شيم بارقها و ما بعده.

فإن الإنسان يظن أن زينتها تنفع و تفيد و لكن كل ما فيها سراب لا يبقى و لا يدوم و لا يستقر على حال.

و كذلك دعاة الدنيا و الداعين إليها فإنهم يكذبون في الدعوة إليها لأنهم يصورونها على خلاف حقيقتها و يرغبون فيها و هي باطلة تغرهم لتوقعهم في أشراكها...

و كذلك أموالها و ما كان يتقاتل عليه الناس كلها سوف تسلب من ملاّكها إما بالحوادث أو الموت...

و أما نفائسها و ما كان يبحث عنه أصحاب المال فإنه سيسلب لا محالة و يتحول ميراثا لغير مالكه...

(ألا و هي المتصدية العنون و الجامحة الحرون) و هذه من قبائح الدنيا و سيئات صفاتها إنها تتعرض للناس تدعوهم إلى نفسها كما تدعو المومس الزبائن تريد أن توقعهم في الخطيئة و المعصية.

كما أن من طلبها و أرادها لا تنقاد له و لا تطيعه و لا تسلس قيادها لراكبها و هي إذا أرادت أن تقف في قضية أو تتمنّع في أمر لا يستطيع أحد مغالبتها فهي كالدابة الحرون المستعصية...

(و المائنة الخئون و الجحود الكنود) لا يزال يذكر صفات الدنيا القبيحة لينفّر الناس عنها فهي كثيرة الكذب على الناس حيث تعطيهم من حلاوتها حتى إذا ذاقوا ذلك و اطمأنوا به خانتهم و قلبت لهم ظهر المجن كما أنها تجحد ما يعمله الإنسان فيها من بناء و عمارة و حضارة و تكافؤه بالمنع من مواصلة حياته و تعدل عنه إلى غيره...

(و العنود الصدود و الحيود الميود) شبهها بالناقة التي تنفرد عن مرعى الإبل إلى غيره فالدنيا تعدل عن طالبيها و تمنعهم عن مقاربتها و كذلك تصدهم عنها كما أنها تحيد عن درب العاشقين لها و تميل عنهم.

ص: 281

(حالها انتقال و وطأتها زلزال) لا تستقر الدنيا على حال و لا تعطي زمامها لأحد باستمرار بل هي تنتقل من واحد لآخر فبينما تكون اليوم مع فلان إذ بها تنتقل إلى آخر و هكذا... و دوامها متزلزل لا يستقر فكيف بالمتزلزل منها...

(و عزها ذل) لأن الدنيا هي المال و الجاه و السلطان و كلها تتحولّ إلى أداة يحاسب عليها الإنسان فإذا قصر بشيء منها تحول إلى إنسان ذليل في الآخرة و تحول الملك و السلطان إلى وسيلة خزي و عار...

(وجدها هزل) فإن ما يتراىء لنا من جدها حيث تغدق على بعضهم بعض ما عندها فيظن أنها جادة معه و لكن سرعان ما تسلبه اليوم ما أعطته بالأمس و يتبيّن لدى الحقيقة أنها تضحك عليه في العطاء...

(و علوها سفل) من ترفعه الدنيا من أبنائها يسقط في الآخرة ففي الدنيا قد يكون ملكا و من أعلى الدرجات و لكنه في الآخرة في أسفل سافلين و في الدركات العظمى من النار...

(دار حرب و سلب و نهب و عطب) إنها دار تجمع على الإنسان هذه المصائب كلها دار حرب أو سلب و دار سلب لأموال و الأولاد و الأهل و دار نهب للأموال و المقتنيات و دار هلاك و دمار.

(أهلها على ساق و سياق و لحاق و فراق) أهلها واقفون على ساقهم مستعدون للرحيل أوانهم في شدة و ضيق سائرون نحو الموت يلحق بعضهم بعضا و يفارق بعضهم البعض فلا يبقى الشمل مجتمع و لا اللقاء دائم.

(قد تحيّرت مذاهبها و أعجزت مهاربها) أي تحيّر أهلها في مسالكها و طرقها كي يدفعوا شرها و يجلبوا نفعها.

و كذلك غلبت الإنسان أن يهرب منها أو يخلص من شرها...

(و خابت مطالبها) فمن طلب منها أمرا خيبته و لم تمكّنه من إدراكه...

(فأسلمتهم المعاقل و لفظتهم المنازل و أعيتهم المحاول) فالحصون التي كانوا يحتمون بها و يتحصنون داخلها قد أسلمتهم و لم تقدر على حمايتهم و حفظهم و المنازل التي كانوا يسكنونها قد دفعتهم و لم تحمهم و كل المحاولات التي أرادوا من خلالها نجاحهم و فوزهم قد أعجزتهم و أعيتهم.

ص: 282

(فمن ناج معقور و لحم مجزور و شلو مذبوح) هذا بيان لما يلحق الناس من الدنيا و آذاها و كيف لم ينج منها أحد.

فالناجي مجروح لم يكتب له السلامة كلها بل وصل مع الشدائد و الأذى و آخر منهم صار ذبيحا مبضعا و منهم من صار أشلاء ممزقة.

(و دم مسفوح و عاض على يديه و صافق بكفيه و مرتفق بخدّيه و زار على رأيه و راجع عن عزمه) و بين ذي دم مصبوب مراق و بين من هو عاض على يديه ندما و حسرة و بين ضارب بيديه على بعضها حزنا و كمدا و بين واضع مرفقيه على خديه حزنا و بين معيب لرأيه قد أدرك سؤه و بين راجع عن عزمه الفاسد الذي كان قد عقد عزمه في دار الدنيا لتحصيلها و التمتع بها و كأنه خالد فيها... فهذه جملة حالات تمر على أصناف الناس...

(و قد أدبرت الحيلة و أقبلت الغيلة ولات حين مناص) قد ولّت الحيل و لم يعد لها دور أو محال و أقبل الموت و الهلاك و هو واقع لا محالة فلا مهرب منه و لا خروج عن إشراكه..

(هيهات هيهات قد فات ما فات و ذهب ما ذهب و مضت الدنيا لحال بالها فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظرين) هيهات هيهات لقد بعدت الأماني و خابت الآمال فلا رجوع و لا عودة فلا يعود الماضي و لا يرجع الغائب و مضت الدنيا و ولت بخيرها و شرها فلا عودة لها فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره.

ثم ذكر أنهم ماتوا و قضوا «فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظرين» أي لم يستحقوا أن يبكي عليهم أحد استصغارا و ازدراء لهم و احتفارا لتصرفاتهم...

ص: 283

192 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّٰه، على استكباره و تركه السجود لآدم عليه السلام، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الحمد للّٰه الّذي لبس العزّ و الكبرياء، و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى (1) و حرما (2) على غيره، و اصطفاهما (3) لجلاله.

رأس العصيان

و جعل اللّعنة على من نازعه (4) فيهما من عباده. ثمّ اختبر (5) بذلك ملائكته المقرّبين، ليميز (6) المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب، و محجوبات الغيوب: «إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ » اعترضته، (7) الحميّة (8) فافتخر على آدم بخلقه، و تعصّب عليه لأصله. فعدوّ اللّٰه إمام المتعصّبين، و سلف (9) المستكبرين، الّذي وضع أساس العصبيّة (10)، و نازع اللّٰه رداء (11) الجبريّة (12)، و ادّرع (13) لباس التّعزّز، و خلع قناع (14) التّذلّل.

ألا ترون كيف صغّره اللّٰه بتكبّره، و وضعه بترفّعه، فجعله في الدّنيا مدحورا (15)، و أعدّ له في الآخرة سعيرا (16)؟!.

ص: 284

ابتلاء الله لخلقه

و لو أراد اللّٰه أن يخلق آدم من نور يخطف (17) الأبصار ضياؤه، و يبهر (18) العقول رواؤه (19)، و طيب (20) يأخذ الأنفاس عرفه (21)، لفعل.

و لو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة، و لخفّت البلوى (22) فيه على الملائكة.

و لكنّ اللّٰه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزا بالاختبار لهم، و نفيا للاستكبار عنهم، و إبعادا للخيلاء (23) منهم.

طلب العبرة

اشارة

فاعتبروا بما كان من فعل اللّٰه بإبليس إذ أحبط (24) عمله الطّويل، و جهده (25) الجهيد، و كان قد عبد اللّٰه ستّة الاف سنة، لا يدرى أمن سني الدّنيا أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّٰه بمثل معصيته ؟ كلاّ، ما كان اللّٰه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا. إنّ حكمه في أهل السّماء و أهل الأرض لواحد. و ما بين اللّٰه و بين أحد من خلقه هوادة (26) في إباحة حمى حرّمه على العالمين.

اللغة

1 - حمى الشيء: منعه و الحمى ما حميته عن وصول الناس إليه و التصرف فيه.

2 - الحرم: بفتح الحاء و الراء ما يحميه الإنسان و يدافع عنه.

3 - اصطفاهما: اختارهما.

4 - نازعه: خاصمه.

5 - اختبر: امتحن.

6 - ليميز: من ماز الشيء فرزه عن غيره.

7 - اعترضته: منعته.

8 - الحمية: الأنفة.

9 - السلف: المتقدم.

ص: 285

10 - العصبية: الاعتزاز بالعصبة و هي قوم الرجل يدافعون عنه في الباطل.

11 - الرداء: ما يلبس فوق الثياب كالعباءة و الجبة.

12 - الجبرية: العلو و العظمة.

13 - أدرع: لبس الدرع.

14 - القناع: ما تغطي به المرأة رأسها.

15 - المدحور: المطرود، المبعد.

16 - السعير: لهب النار و سعّر النار أشعلها و تسعرت اتقدت.

17 - يخطف: من خطف الشيء استلبه بسرعة و خطف البصر ذهب به.

18 - يبهر: القمر الكواكب إذا غلب ضوؤه ضوؤها و بهره غلبه و فضله.

19 - الرواء: المنظر الحسن.

20 - الطيب: كل ذي رائحة عطرة، الأفضل من كل شيء.

21 - العرف: بفتح الراء الرائحة الطيبة.

22 - البلوى: المصيبة، الاختبار.

23 - الخيلاء: الكبر.

24 - الخيلاء: الكبر.

24 - أحبط: أبطل.

25 - الجهد: بفتح الجيم الاجتهاد.

26 - الهوادة: اللين و الرخصة، الصلح.

الشرح

(الحمد للّٰه الذي لبس العز و الكبرياء و اختارهما لنفسه دون خلقه و جعلهما حمى و حرما على غيره و اصطفاهما لجلاله) هذه الخطبة أطول خطبة في نهج البلاغة و قد قالوا في الأسباب الداعية إليها: إن أهل الكوفة في آخر خلافته عليه السلام قد فسدوا و كانوا قبايل متعددة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى فيصيبه أدنى مكروه فينادي باسم قبيلته قاصدا الشر فيجتمع عليه أهل القبيلة الأخرى فيضربونه فيخرج إلى قبيلته فتنتصر له و تدور الفتنة و تسل السيوف و لا يكون لذلك أصل إلا تعرض الفتيان بعضهم لبعض و كثر ذلك فخرج عليه السلام على ناقته فخطبهم بهذه الخطبة...

1 - الحمد للّٰه الذي لبس العز و الكبرياء: العزيز هو المنيع الذي لا يغلب أو الذي لا يعادله شيء أو الذي لا يقهر و الكبرياء العلو المطلق و من كل الجهات و هذان الوصفان للّٰه على نحو الحقيقة لأنه العزيز الذي لا يقهر و له الكبرياء في الأرض و في السماء و قد عبر عنهما بالنسبة إلى اللّٰه كاللباس له.

ص: 286

2 - اختارهما لنفسه دون خلقه: فهما من صفات الذات و لا يجوز لأحد من خلقه أن يكونا فيه لعدم العز المطلق و الكبرياء المطلق لغير اللّٰه...

3 - و جعلهما حمى و حرما على غيره و اصطفاهما لجلاله: لقد منع غيره أن يقترب منهما كما أنه حرمهما على أحد من الناس إنه سبحانه اصطفاهما و اختارهما لعظمته و علو مقامه.

(و جعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده) بعد أن جعل العز و الكبرياء للّٰه خاصة و سلبهما عن خلقه و حرمهما عليهم جعل لكل من أراد أن يتصف بهما اللعنة و الطرد من الرحمة الإلهية لأن من أرادهما فكأنما يشارك اللّٰه صفاته و اللّٰه لا يقبل الافتراء عليه و مشاركته في شيء من مختصات ذاته...

(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب: «إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ » اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله) امتحن اللّٰه الملائكة بالسجود لآدم و امتحانه لهم لم يكن لعدم علمه بما يصدر عنهم و لكن لتكون الحجة القاطعة على من عصى و تكون الحجة القاطعة لمن أطاع حتى يميز المطيع من العاصي و المتواضع من المتكبر... و حتى تنكشف الأوراق أمام الناس و الخلائق فمن ناله العذاب فبسوء اختياره و تمرده و من أدخل رحمة اللّٰه فبإطاعته و التزامه...

و من هنا امتحن اللّٰه الملائكة بالسجود لآدم و هو العالم بهم و بأفعالهم، امتحنهم فسجدوا كلهم إلا إبليس فإنه أخذته الأنفة و الكبرياء و تعصب لأصله فقال: أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين بهذا المنطق الشيطاني احتج لنفسه و برّر تمرده دون أن ينظر إلى أمر اللّٰه و أنه قد تكلف من قبله بالسجود لآدم...

(فعدو اللّٰه إمام المتعصبين و سلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية و نازع اللّٰه رداء الجبرية و أدرع لباس التعزز و خلع قناع التذلل) لقد سقط في الامتحان الإلهي و تمرد على أمر اللّٰه فهو عدو اللّٰه الذي رفض إطاعته... فعدو اللّٰه لتمرده إمام المتعصبين هو الذي شق الطريق و علم الناس كيف يتعصبون لأهلهم و عشائرهم و ذواتهم... إبليس هو إمام كل متعصب لأصله و المتقدم على كل مستكبر فهو السلف و من بعده من المستكبرين الخلف و بئس الخلف و السلف و هو معلّم العصبية و استاذها و واضع أسسها لأنه هو أول من تعصب و على أثره سار المتعصبون و أهل العصبيات.

ص: 287

لقد نازع اللّٰه رداء العظمة و العلو و أراد أن يكون عزيزا بدون أن يعزه اللّٰه و لم يتواضع لأمر اللّٰه و كما أراد و هذه جرائم تستحق الطرد و اللعنة... إن إبليس أراد أن يشارك اللّٰه العزة و يلبس ثوب العلو و الكبرياء و يترك التذلل و الخضوع للّٰه فأذله اللّٰه و صغّره...

(ألا ترون كيف صغّره اللّٰه بتكبره و وضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا و أعد له في الآخرة سعيرا) بيّن كيف أذله اللّٰه و صغره بتكبّره.. إنه أراد العزة لنفسه و الكبرياء عن غير طريق اللّٰه فأذله اللّٰه و وضعه فجعله في الدنيا مخذولا مهزوما حيث قال له اللّٰه:

«فَاخْرُجْ مِنْهٰا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ » و قوله: «قٰالَ اُخْرُجْ مِنْهٰا مَذْؤُماً» كما أعد له في الآخرة عذابا أليما إنه عذاب السعير كما قال تعالى: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » .

(و لو أراد اللّٰه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه و يبهر العقول رواؤه و طيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل و لو فعل لظلت له الأعناق خاضعة و لخفت البلوى فيه على الملائكة و لكن اللّٰه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون تمييزا بالاختبار لهم و نفيا للاستكبار عنهم و إبعادا للخيلاء منهم) باعتبار أن الخبيث احتج بأصله الناري و قال: «أنا خير منه - من آدم - خلقتني من نار و خلقته من طين» أراد الإمام أن يقول: لو أن اللّٰه أراد أن يجعل آدم من أطيب عنصر و أحسن شكل و أطيب ريح لفعل و هو القادر المطلق و لو فعل لأذعنت الكائنات له و خضعت الملائكة لصورته و تكوينه و خف الامتحان على الملائكة لأن النفوس إذا رغبت أمرا و أحبته سهل عليها ذلك فتقبلت ما يصدر منه و لأجله، و تكون الطاعة ملائمة للنفس لا تجد ثقلا في القيام بها...

و لكن اللّٰه أراد أن يحجب عن عباده بعض الأسرار و يمتحنهم بأوامر لا يعرفون خلفياتها و ما وراءها يمتحنهم ليراهم هل ينفذوا ما أراد و يمتثلوا ما أمر... هل يكون الأمر الإلهي هو الداعي إلى القيام بالواجب أم هوى النفس و رغباتها و ما تشتهي، و لا شك أن العلة إذا كانت محجوبة و كان الأمر بخلاف هوى النفس كان الامتثال خالصا لوجه اللّٰه و تجسدت العبودية من الإنسان للّٰه بكل أبعادها و أصولها و حقيقتها فإن من يعلم علة كل نهي و علة كل أمر يصبح عبد العلل و عبد نفسه و أما من يطيع اللّٰه للّٰه و يلتزم أمره فقط لأنه صاحب الأمر و النهي فهذا هو العبد الصادق في عبوديته.

(فاعتبروا بما كان من فعل اللّٰه بإبليس إذ أحبط عمله الطويل و جهده الجهيد و كان قد عبد اللّٰه ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة) إبليس نموذج للعصيان و التمرد يجب أن ينظر إليه أصحاب العقول و يأخذوا فعله

ص: 288

و ما جرى عليه من الطرد و الإبعاد درسا لهم و عبرة... إنه أسقط كل عمل عمله و أبطل كل عبادة قام بها، فهذا العمل الممتد في عمق الزمن.. إنه عمل و جهد شديد كان يقوم به حتى عبد اللّٰه ستة آلاف سنة لا يدرى هل هي من سني الدنيا أم من سني الآخرة فهذه العبادة الضخمة أبطلها بتمرده على اللّٰه في ساعة واحدة رفض خلالها امتثال أمره و العمل بمقتضى حكمه،... ستة آلاف سنة ضاعت عند ما تمرد على اللّٰه... بأمر الهي واحد رفضه إبليس كشف حقيقة عبادته الكاذبة... لقد تبيّن من خلال هذا التمرد أنه لم يكن يعبد اللّٰه و إنما كان يعبد نفسه و هواه و يرتاح للعمل الذي يقوم به... و إلا لو كان يعبد اللّٰه حقا لإطاعة فيما أمر و لم يرفض الأمر...

(فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّٰه بمثل معصيته ؟ كلا ما كان اللّٰه سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا) و هذا استفهام استنكاري على الذي يفعل فعل إبليس ثم تراوده نفسه بأن لا تلحقه اللعنة و لا يحبط عمله كما حبط عمل إبليس كلا و ألف كلا فإذا تساوت المعصية و الجرم تساوى العقاب و ما كان للّٰه سبحانه أبدا أن يدخل الجنة إنسانا يرتكب نفس المعصية التي أخرجت ملكا من الجنة و استحق بها الطرد...

إن اللّٰه لم يكن ليخرج إبليس لأنه تمرد على اللّٰه و يدخل شخصا آخر تمرد على اللّٰه بنفس التمرد الإبليسي...

(إن حكمه في أهل السماء و أهل الأرض لواحد) إذا تساوى الجرم تساوى العقاب سواء كان الجرم من أهل السماء أم من أهل الأرض لأن الكل مخلوق للّٰه و عبد له فيجب أن يكون حكمه في الجميع واحد.

(و ما بين اللّٰه و بين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه على العالمين) اللّٰه رب الجميع... كل من في السموات و الأرض عبيد اللّٰه و ليس بين أحد من الناس و بين اللّٰه قرابة كما أنه لم يأخذ أحد من اللّٰه عهدا أنه يتساهل معه و يلين له، بل كل من هتك ما حرمه اللّٰه و تعدّى على ما هو ممنوع و محرّم كان للّٰه أن يأخذه و استحقت عليه اللعنة و سوء العذاب...

ص: 289

التحذير من الشيطان

اشارة

فاحذروا عباد اللّٰه عدوّ اللّٰه أن يعديكم (1) بدائه (2)، و أن يستفزّكم (3) بندائه، و أن يجلب (4) عليكم بخيله و رجله (5). فلعمري لقد فوّق (6) لكم سهم الوعيد (7)، و أغرق (8) إليكم بالنّزع (9) الشّديد، و رماكم من مكان قريب، فقال: «رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » ، قذفا (10) بغيب بعيد، و رجما (11) بظنّ غير مصيب، صدّقه به أبناء الحميّة، و إخوان العصبيّة، و فرسان الكبر (12) و الجاهليّة. حتّى إذا انقادت له الجامحة (13) منكم، و استحكمت الطّماعيّة (14) منه فيكم، فنجمت (15) الحال من السّرّ الخفيّ إلى الأمر الجليّ (16)، استفحل سلطانه عليكم، و دلف (17) بجنوده نحوكم، فأقحموكم (18) و لجأت (19) الذّلّ ، و أحلّوكم (20) و رطات (21) القتل، و أوطؤوكم (22) إثخان (23) الجراحة، طعنا (24) في عيونكم، و حزّا (25) في حلوقكم، و دقّا (26) لمناخركم، و قصدا لمقاتلكم، و سوقا بخزائم (27) القهر إلى النّار المعدّة لكم. فأصبح أعظم في دينكم حرجا، و أورى (28) في دنياكم قدحا (29)، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين (30)، و عليهم متألّبين (31). فاجعلوا عليه حدّكم (32)، و له جدّكم (33)، فلعمر اللّٰه لقد فخر على أصلكم (34)، و وقع في حسبكم (35)، و دفع في نسبكم، و أجلب (36) بخيله عليكم، و قصد برجله سبيلكم، يقتنصونكم (37) بكلّ مكان، و يضربون منكم كلّ بنان (38). لا تمتنعون بحيلة، و لا تدفعون بعزيمة (39)، في حومة (40) ذلّ ، و حلقة ضيق، و عرصة موت (41)، و جولة بلاء (42). فأطفئوا ما كمن (43) في قلوبكم من نيران العصبيّة و أحقاد الجاهليّة، فإنّما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشّيطان و نخواته (44) و نزعاته (45) و نفثاته (46). و اعتمدوا وضع التّذلّل على

ص: 290

رؤوسكم، و إلقاء التّعزّز تحت أقدامكم، و خلع التّكبّر من أعناقكم، و اتّخذوا التّواضع مسلحة (47) بينكم و بين عدوّكم إبليس و جنوده، فإنّ له من كلّ أمّة جنودا و أعوانا، و رجلا و فرسانا، و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّٰه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشّيطان في أنفه من ريح الكبر الّذي أعقبه اللّٰه به النّدامة، و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة.

اللغة

1 - يعديكم: ينقل إليكم مرضه، و العدوى الفساد انتقال المرض من مريض إلى سليم.

2 - الداء: المرض.

3 - يستفزكم: يستحضكم و يستنهضكم لما يريد.

4 - يجلب: يجمع و أصل الجلب الأصوات في الحرب و الغارة.

5 - و رجله: الرجل بكسر الراء مفرده راجل، الماشي، ضد الراكب.

6 - فوّق: السهم جعل له فوقا، و الفوق موضع الوتر من السهم.

7 - الوعيد: الوعد بالشر و ضده الوعد.

8 - أغرق: إذا استوفى الشيء و أغرق في الأمر بالغ فيه.

9 - النزع: في القوس مدها و نزع بالسهم رمى به.

10 - القذف: الرمي.

11 - رجما: من الرجم و في الأصل الرمي بالحجارة و يقال: رجم بالغيب أي بما لا يعلم و الرجم أن يتكلم بالظن.

12 - الكبر: التكبر و هو الاستعلاء.

13 - الجامحة: المستعصية.

14 - الطماعية: الطمع، و هو الحرص.

15 - نجمت: ظهرت.

16 - الجلي: الواضح، الظاهر.

17 - دلف: مشى ودنا.

ص: 291

18 - أقحموكم: أدخلوكم قهرا أو بغتة.

19 - الولجات: جمع ولجة بالتحريك كهف يستتر فيه المارة من مطر و نحوه.

20 - أحلوكم: أنزلوكم.

21 - الورطات: جمع ورطة الهلاك أو الشدة و تطلق على الأرض المطمئنة التي لا طريق لها.

22 - أوطأه: أركبه.

23 - إثخان الجراحة: المبالغة فيها من جهة الكثرة.

24 - الطعن: بالرمح: ضربه و وخزه به.

25 - الحزّ: القطع.

26 - الدقّ : الكسر.

27 - الخزائم: جمع خزامة حلقة توضع في أنف البعير.

28 - أورى: أكثر إخراجا للنار.

29 - القدح: بالفتح إخراج النار من الزند، و قدح فيه أي طعن.

30 - مناصبين: مجاهرين لهم بالعداوة.

31 - متألبين: مجتمعين.

32 - حدكم: غضبكم وحدتكم، بأسكم.

33 - جدكم: بفتح الجيم. أي قطعكم يريد قطع الوصل بينكم.

34 - الأصل: أسفل الشيء، الأصل يقابل الفرع.

35 - الحسب: ما بعده الرجل من مفاخر آبائه.

36 - أجلب: صاح.

37 - يقتنصونكم: يصطادونكم.

38 - البنان: الأصابع.

39 - العزيمة: الإرادة المؤكدة و العزم الشدة فيما يعزم عليه الإنسان، الثبات.

40 - حومة الشيء: معظمه و أشد موضع فيه.

41 - عرصة الموت: أي معرض له و بصدده.

42 - البلاء: المصيبة.

43 - كمن: استتر.

44 - النخوة: الكبر و التعاظم.

45 - النزغ: الإفساد.

46 - النفث: النفخ و هو أقل من التفل.

47 - المسلحة: بفتح الميم قوم معهم خيل معدون للدفاع عن الثغور و قد يطلق على نفس المكان.

ص: 292

الشرح

(فاحذروا عباد اللّٰه عدو اللّٰه أن يعديكم بدائه و أن يستفزكم بندائه و أن يجلب عليكم بخيله و رجله) بعد أن ذكر إبليس و مرض التكبر الذي وقع فيه و كان بسببه طرده و لعنه حذّرنا و نبهنا بصيغة الأمر أن نجتنب هذا العدو الذي لم يطع أمر اللّٰه و لم ينفذ مراده، أن نتنبّه فلا يسري مرضه الذي هو الكبر إلينا فيغوينا و يضلنا و نكون و إياه في جملة من غضب اللّٰه عليهم.

و كذلك حذّرنا من الاستجابة لوسوسته و إغرائه و كثرة أعوانه الذين استنفرهم و صاح بهم و جمعهم ما بين راكب و ماش في سبيل إضلالنا و الانحراف بنا.

(فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد و أغرق إليكم بالنزع الشديد و رماكم من مكان قريب فقال: «رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » قذفا بغيب بعيد و رجما بظن غير مصيب) أقسم أنه قد هيأ نفسه و استعد لإغوائكم و جعل الوعيد الذي قال: رب بما أغويتني لأزينن لهم... كالسهم القاتل الذي إذا أصاب قتل و كذلك وسوسته و إغواؤه.

كما أنه أغرق إليكم بالنزع الشديد أي استوفى مد القوس و بالغ في ذلك ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد فهو قد استفرغ جهده و لم يترك حيلة مبرمجة و بأحسن إخراج إلا و قد أخرجها للناس...

و بعد كل هذا الاستعداد و الإعداد و التهيؤ كان الرمي لهذا الإنسان من مكان قريب حتى تتحقق الإصابة و لذا قال النبي: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق...».

ثم استشهد بما ينقله اللّٰه حكاية عن الشيطان أنه قال: «رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » فلأنه ضل أراد أن يكون الناس كلهم معه في الضلال و لذا يسعى بكل ما يملك من وسائل من أجل أن يصل إلى هذا الهدف...

إنه قال هذا القول دون مستند له أو تحقيق أو يكون على قواعد الكلام و شرعته بل من باب رمي الكلام المحبوب لصاحبه و لكنه رمي أصاب به الواقع فأضل كثيرا من الناس...

(صدّقه به أبناء الحمية و أخوان العصبية و فرسان الكبر و الجاهلية) الشيطان رمى الكلام الذي يتمناه و قال: «رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » و هذا الكلام منه نجح في بعض مصاديقه حيث تبادر أبناء الحمية و أخوان العصبية

ص: 293

و فرسان الكبر و الجاهلية اجتمع هؤلاء و صدقوه فتابعوه في الانحراف.

فالأنفة و الحمية التي لا تستمد جذورها و حقيقتها من دين اللّٰه فهي حمية جاهلية و أما التعصب و الميل مع الأهل و العشيرة فقد حاربها الإسلام و قال: «لا عصبية في الإسلام».

(حتى إذا انقادت له الجامحة منكم و استحكمت الطماعية منه فيكم فنجمت الحال من السر الخفي إلى الأمر الجلي) بقي الشيطان مسددا سهامه معرقا إليهم في النزع الشديد... إلى أن ذلت له و أطاعته الفئة التي كانت مستعصية عليه و عندها استقر الطمع و استحكم في نفسه لأنها تحققت أمنيته فظهر الحال من السر إلى العلن و من القوة إلى الفعل لقد انكشفت الأمور و ظهرت على حقيقتها فخالفتم أمر اللّٰه و اتبعتم الشيطان...

(استفحل سلطانه عليكم و دلف بجنوده نحوكم فأقحموكم و لجأت الذل و احلوكم ورطات القتل و أوطؤوكم إثخان الجراحة) بعد هذا الإغواء منه و الاستجابة منكم له قوي جدا و نفذت قوته فيكم و تحققت إرادته في كل أمر يريده و لذا استنفر جنوده و توجّه نحوكم و جنوده الشهوات و الأهواء و العصبيات فأدخلوكم بقوة مداخل الذل من معصية اللّٰه و الابتعاد عن دينه و أنزلوكم منازل القتل و جعلوكم محل الجراحات الكثيرة و مركزا لها...

(طعنا في عيونكم و حزا في حلوقكم و دقا لمناخركم و قصدا لمقاتلكم و سوقا بخزائم القهر إلى النار المعدة لكم) هذا التفصيل للجراحات التي أجملها قبل ذلك و قد جعل كل فعل يناسب موقعه جعل الطعن في العيون لقساوته و صعوبته و أن الشيطان حيث ألزم الفاسدين بالنظر إلى المحرمات فكأن ذلك طعنا في العيون.

و كذلك حيث وسوس لهم أكل الحرام فكأن الجرعة من الخمر و المسكر و النجس تقطع الحلق لحرمتها و معصية اللّٰه فيها و كذلك جعل الدق للمناخير حيث أذلهم في كل ما هو عزيز عندهم و نفيس و لقد قصد مقاتلهم بحيث لا ينجو من شره و مقتلته أحد و كذلك هو يجرهم بخزائمهم بالقوة و القهر و الصغار إلى النار المهيأة لإقامتهم فيها...

و قد يكون هذا من باب الحقيقة حيث جرهم إبليس إلى الفرقة و الوهن و الضعف فانتصر عليهم الأعداء معاوية و جماعته و كانت النتيجة ما ذكره عليه السلام من الطعن في العيون و حز الحلوق و دق المناخر و غيرها فإن معاوية عند ما تسلم الأمر فعل كل ذلك...

(فأصبح أعظم في دينكم حرجا و أورى في دنياكم قدحا من الذين أصبحتم لهم مناصبين و عليهم متألبين) أصبح الشيطان - بأفعاله المتقدمة - أضر عليكم في دنياكم

ص: 294

و دينكم بما يزيّنه لكم من الشهوات و الأهواء و الملذات المحرمة أصبح أضر عليكم من أخوانكم المعادين لكم و المجتمعين على قتالكم لأنهم يقاتلونكم لأجل الدنيا بينما هو يقاتلكم لأجل الدين...

(فاجعلوا عليه حدكم و له جدكم فلعمر اللّٰه لقد فخر على أصلكم و وقع في حسبكم و دفع في نسبكم و أجلب بخيله عليكم و قصد برجله سبيلكم يقتنصونكم بكل مكان و يضربون منكم كل بنان) بعد أن كان الشيطان عدوا للناس و هو يمارس معهم كل وسائل الأعداء و كانت أعماله ما تقدمت أمر الإمام أن يقابلوه بالمثل و بردة الفعل التي تناسب الفعل أمرهم أن يحولّوا بأسهم و سطوتهم نحوه و يحاولوا دفعه بكل ما أوتوا من قوة.

ثم أعاد الحديث إلى إغرائهم بعداوته بذكر أسباب العداوة المنفرة.

و أهمها أنه لعنه اللّٰه قد فخر على أصلكم أي افتخر على أبيكم آدم الذي هو أصلكم حينما قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » و إذا كان لكم حق الدفاع في موقف فلكم في هذا الموقف كل حق.

و أيضا وقع في حسبكم أي عابكم به و دفع في نسبكم حيث قال: «أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» فقد عاب على الطين تكوينه...

ثم ذكر مكره و غدره و أنه استنفر جنده من كانوا فرسانا على خيولهم حيث دعاهم إليه و صاح بهم و جمعهم و كذلك مشاته و من لم يكن لهم ظهر يركب عليه لقد قصدكم بما عنده من مشاة و ركبان، قصدوا طريقكم الذي تسلكون و أخذوا يصطادونكم بكل مكان يجدونكم فيه يصطادونكم بالشهوات و الميول و العصبيات و غيرها إنهم يتربصون بكم حتى إذا تمكنوا منكم اصطادوكم كما تصاد الطريدة و قتلوكم و استأصلوا وجودكم.

(لا تمتنعون بحيلة و لا تدفعون بعزيمة في حومة ذل و حلقة ضيق و عرصة موت و جولة بلاء) بيّن حقيقة أمرهم و أنهم بعد أن استولى عليهم الشيطان و تمكّن منهم لا يستطيعون التخلص منه بأي حيلة عندهم أو وسيلة و لا يدفعونه بما عندهم من ثبات و قوة و عزيمة و خصوصا أنهم في وسط الذل و الهوان و يعيشون في معترك الشهوات و المغريات التي تضيق بهم و كذلك أنتم في طريق الموت الذي قد يأتيكم فجأة و أنتم أيضا في جولة امتحان و اختبار و الأمر فيها صعب، و العظيم من تخطى ذلك كله و نجح.

و عبر «بالحومة و الحلقة و العرصة و الجولة» عن الدنيا لوقوع كل ذلك فيها و على أرضها...

ص: 295

(فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية و أحقاد الجاهلية فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان و نخواته و نزغاته و نفثاته) فإذا كان عدو اللّٰه إبليس قدم عليكم بنفسه و بكل ما يملك من جنود فيجب أن تصفّوا نفوسكم و تطهّروها مما اختفى فيها من نار العصبية التي تشدكم إلى الانتصار لقبائلكم و رجالكم و ليس لدينكم و كذلك تطهروا أنفسكم من أحقاد الجاهلية التي كانت مبنية على حب الأهل و العشيرة و إن لم يكونوا على حق و صواب...

ثم بيّن أن المسلم قد يتعرض لمثل هذه الأنفة فتأخذه إلى مفاسدها و لكن يجب أن يتنبه بسرعة إلى أن هذه الحمية وليدة الشيطان و وسوسته و إغرائه و على المسلم المحارب للشيطان أن يحاربها فيقتلعها من صدره و نفسه...

(و اعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم و إلقاء التعزز تحت أقدامكم و خلع التكبر من أعناقكم، و اتخذوا التواضع مسلحة بينكم و بين عدوكم إبليس و جنوده فإن له من كل أمة جنودا و أعوانا و رجلا و فرسانا) بعد أن أشار إلى إبليس و أن علته الأساسية هي استكباره و تكبره على اللّٰه و على آدم أراد الإمام أن ينزع من نفوسهم هذه العلة القاتلة و يأخذوا بضدها فأمرهم أن يقدّروا التواضع و يحترموه في نفوسهم و يوقروه كفكرة عملية يمارسونها على الأرض فإن اعتمادهم للتواضع و وضعهم له على رؤوسهم كناية عن العمل به و احترامه ثم أمرهم أن يضعوا التذلل و يرموه تحت أقدامهم كناية عن إهانته و التخلي عنه بل محاربته و أمرهم أن يتخلوا عن التكبر و يخلعوه من أعناقهم و هذا يدل على أنهم يعيشون التكبر و يعملون به...

ثم إنه بعد أمره لهم بترك التكبر و العمل بالتواضع أرشدهم إلى سد الثغور التي منها يدخل الشيطان إلى الوسوسة و إضلال الناس فقال لهم: اجعلوا التواضع الذي تمارسونه و تقومون به هو الجند و السلاح الذي تواجهون به الشيطان و تقطعون عليه الطريق إلى إضلالكم و تمنعونه من إغوائكم فإن التواضع يقرّب العبد من اللّٰه في كل المجالات و ينتصر بذلك على الشيطان و خططه...

و لما أمرهم باتخاذ هذا السلاح لردع إبليس و حجزه عن الدخول إليهم و غزوهم و إضلالهم علّله بأن له في كل أمة أعوان و أنصار و جنود منهم الركبان و الآخرون المشاة و كلهم موكلون في إضلال الناس و الانحراف بهم عن خط اللّٰه و على هذا يجب أن يكون المسلم مرابطا باستمرار يدفع كيد الشيطان و كيد جنده من الجن و الأنس...

(و لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله اللّٰه فيه سوى ما ألحقت

ص: 296

العظمة بنفسه من عداوة الحسد و قدحت الحمية في قلبه من نار الغضب و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّٰه به الندامة و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة) أشار بهذا الكلام إلى قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل و أن لا يكونوا متكبرين على بعضهم و هم أبناء آدم و حواء و أن أول جريمة قتل في الدنيا كانت من قابيل المجرم الذي دعاه الحسد حيث كان يرى أنه أحق من أخيه فيما تفضل اللّٰه به على أخيه فحسده على ذلك و ثارت الأنفة و الكبرياء في قلبه فتحركت نيران الغضب و زين له الشيطان الجريمة و وسوس إليه بما يملك من قدرة الوسوسة و الإغراء و بذلك نفّذ الجريمة و ندم بعد ذلك و لكن اللّٰه ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة دون أن ينقص من إثم القاتلين شيئا لأنه هو الذي سنّ سنة القتل و من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة...

التحذير من الكبر

ألا و قد أمعنتم (1) في البغي (2)، و أفسدتم في الأرض، مصارحة (3) للّٰه بالمناصبة (4)، و مبارزة (5) للمؤمنين بالمحاربة. فاللّٰه اللّٰه في كبر الحميّة و فخر الجاهليّة! فإنّه ملاقح (6) الشّنان (7)، و منافخ (8) الشّيطان، الّتي خدع بها الأمم الماضية، و القرون الخالية. حتّى أعنقوا (8) في حنادس (10) جهالته، و مهاوي (11) ضلالته، ذللا (12) عن سياقه (13)، سلسا (14) في قياده. أمرا تشابهت القلوب فيه، و تتابعت القرون عليه، و كبرا تضايقت الصّدور به.

التحذير من طاعة الكبرياء

ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم! الّذين تكبّروا عن حسبهم، و ترفّعوا فوق نسبهم، و ألقوا الهجينة (15) على ربّهم، و جاحدوا (16) اللّٰه على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، و مغالبة لآلائه (17). فإنّهم قواعد أساس العصبية، و دعائم (18) أركان الفتنة، و سيوف اعتزاء الجاهليّة (19).

ص: 297

فاتّقوا اللّٰه و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا، و لا لفضله عندكم حسّادا. و لا تطيعوا الأدعياء (20) الّذين شربتم بصفوكم (21) كدرهم، و خلطتم بصحّتكم مرضهم، و أدخلتم في حقّكم باطلهم، و هم أساس (23) الفسوق، و أحلاس (24) العقوق (25). اتّخذهم إبليس مطايا (26) ضلال، و جندا بهم يصول على النّاس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقا (27) لعقولكم و دخولا في عيونكم، و نفثا (28) في أسماعكم. فجعلكم مرمى نبله (30)، و موطىء قدمه، و مأخذ يده.

العبرة بالماضين

اشارة

فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّٰه و صولاته (31)، و وقائعه و مثلاته (32)، و اتّعظوا بمثاوي (33)، خدودهم و مصارع (34) جنوبهم (35)، و استعيذوا (36)، باللّٰه من لواقح الكبر (37)، كما تستعيذونه من طوارق الدّهر (38). فلو رخّص (39) اللّٰه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و أوليائه، و لكنّه سبحانه كرّه إليهم التّكابر (40)، و رضي لهم التّواضع، فألصقوا (41) بالأرض خدودهم، و عفّروا (42) في التّراب وجوههم. و خفضوا (43) أجنحتهم للمؤمنين، و كانوا قوما مستضعفين. قد اختبرهم اللّٰه بالمخمصة (44)، و ابتلاهم بالمجهدة (45)، و امتحنهم بالمخاوف (46)، و مخضهم (47)، بالمكاره. فلا تعتبروا الرّضى و السّخط (48) بالمال و الولد جهلا بمواقع الفتنة، و الاختيار في موضع الغنى و الاقتدار، فقد قال سبحانه و تعالى: «أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ » فإنّ اللّٰه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم.

ص: 298

اللغة

1 - أمعنتم: بالغتم من أمعن إذا بالغ وجد في الأمر.

2 - البغي: الظلم.

3 - المصارحة: المكاشفة و الإبداء.

4 - المناصبة: العداوة.

5 - المبارزة: الخروج للمقاتلة.

6 - الملاقح: الفحول التي تلقح الإناث و تستولد الأولاد.

7 - الشنآن: البغض.

8 - المنافخ: جمع منفخ نفث الشيطان و وسوسته، الفخر و الكبر، المتطاول على ما ليس له.

9 - أعنقوا: غابوا و اختفوا.

10 - الحنادس: جمع حندس بكسر الحاء و الدال الظلام الشديد.

11 - المهاوي: جمع مهواة و هي الوهدة المنخفضة من الأرض يتردى الصيد فيها.

12 - الذلل: جمع ذلول المنقاد.

13 - السياق: السوق.

14 - السلس: بضمتين السهل اللين.

15 - الهجينة: الخصلة القبيحة.

16 - جاحدوا: كذّبوا، أنكروا مع علمهم بالشيء.

17 - الآلاء: النعم.

18 - الدعائم: جمع الدعامة عماد البيت و دعم الشيء أسنده لئلا يميل.

19 - الاعتزاء: الإدعاء، الشعار في الحرب.

20 - الأدعياء: جمع دعي من انتسب إلى غير أبيه أو عشيرته.

21 - الصفو: و الصافي النقي ضد الكدر.

22 - الكدر: نقيض الصافي.

23 - آساس: بالمد جمع أساس دعامة الشيء.

24 - الأحلاس: جمع حلس بالكسر كساء رقيق يكون ملازما لظهر البعير.

25 - العقوق: العصيان.

26 - المطايا: جمع المطية الدابة التي تركب.

27 - يصول: يسطو و يقهر.

28 - الاستراق: يقال: استرق السمع إذا استمعه مختفيا و استرق الشيء و تسرقه سرقه شيئا فشيئا.

ص: 299

29 - النفث: النفخ و هو دون التفل.

30 - النبل: السهام.

31 - الصولات: جمع صولة صال عليه وثب سطا عليه و قهره.

32 - المثلات: العقوبات.

33 - المثاوي: جمع مثوى، المنزل.

34 - مصارع: جمع مصرع مكان أو زمان الصرع و هو الطرح على الأرض.

35 - جنوبهم: جمع جنب شق الإنسان و غيره.

36 - استعيذوا: من عاذ إذا لجأ و اعتصم.

37 - الكبر: التكبر.

38 - طوارق الدهر: دواهيه و نكباته.

39 - رخّص: له في كذا أذن له فيه و الرخصة التخفيف و التسهيل.

40 - التكابر: التعاظم.

41 - لصق: لزق و ألصق الشيء بالشيء ألزقه به.

42 - عفّر: وجهه ألصقه بالعفر و هو التراب.

43 - خفض: صوته غضّه و أخفاه و خفض جناحه للمؤمنين أي تواضع لهم و ذل.

44 - المخمصة: الجوع.

45 - المجهدة: المشقة.

46 - المخاوف: الأمور المفزعة و طريق مخوف أي فيه مخاوف.

47 - مخضهم: حرّكهم و زلزلهم.

48 - السخط: الغضب، ضد الرضى.

الشرح

(ألا و قد أمعنتم في البغي و أفسدتم في الأرض مصارحة للّٰه بالمناصبة و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة) لقد دخلتم مدخلا عميقا في الظلم و الفساد و الخروج عن حدود اللّٰه و سعيتم في الأرض الفساد بما ارتكبتم مما حرم اللّٰه عليكم و من ذلك أنكم انكشفتم في العداء للّٰه و خرجتم إليه ظاهرين مجاهرين في عداوتكم و منها خروجكم لقتال المؤمنين و أردتم حربهم و هذا دليل على أنكم بالغتم في الظلم و الفساد...

(فاللّٰه اللّٰه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية فإنه ملاقح الشنآن و منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية) ناشدهم اللّٰه و حذّرهم التكبر الناشىء عن الأنفة و الاستكبار بدون حق و كذلك حذّرهم فخر الجاهلية حيث كانوا يفخرون بعظام آبائهم

ص: 300

و أجدادهم الذين ظلموا و كانوا يفخرون بظلمهم و إجرامهم و انحرافهم فإن الكبر يتولد منه البغض لأن المتكبر لا يحب إلا نفسه و لا يرى غيرها تستحق الاحترام و التبجيل و كذلك هذا الكبر هو من نفخات الشيطان حيث يرغبهم في العلو و الاستكبار و بذلك خدع الأمم الماضية و القرون الخالية فقد جاءتهم الرسل فرفضوا الاستماع لهم و قبول قولهم لأنهم تكبروا عليهم و تجبروا و قال فرعون: أليس لي ملك مصر... و هكذا غيره من الطغاة.

(حتى أعنقوا في حنادس جهالته و مهاوي ضلالته ذللا عن سياقه سلسا في قياده، أمرا تشابهت القلوب فيه و تتابعت القرون عليه و كبرا تضايقت الصدور به) زين الشيطان لهم الكبر فأسرعوا إلى ظلمات جهالته التي لا يخرجون منها و مهاوي ضلالته التي لا ينهضون منها لقد دخلوا في نفق الظلمات فلا هداية لهم و سقطوا في عمق الضلالة فلا يخرجون منها إنهم أذلاء عند ما يسوقهم منقادين و يقودهم بدون معاندة فيستجيبون له و يتحركون معه.

ثم أشار إلى أن هذا التكبر كان هو الجامع المشترك بين جميع القلوب لقد تشابهت قلوبهم في هذه الصفة الذميمة و مشت القرون الماضية عليها و استسلمت لها و تتابعت على اعتمادها و العمل بها.

و لكثرة هذا التكبر و زيادته ضاقت الصدور عن تحمله و لم تستطع كتمه أو ستره...

(ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم و ترفعوا فوق نسبهم و ألقوا الهجينة على ربهم و جاحدوا اللّٰه على ما صنع بهم مكابرة لقضائه و مغالبة لآلائه فإنهم قواعد آساس العصبية و دعائم أركان الفتنة و سيوف اعتزاء الجاهلية) لما وجد أن أساس البلاء هم سادتهم و كبرائهم و أنهم هم المحرضون لهم على الانحراف و المضرمون لنار الفتنة حذرهم منهم و بيّن دورهم المجرم في إضلالهم ألا فالحذر الحذر من ساداتكم و كبرائكم لئلا تأخذكم الندامة يوم القيامة و تقولون: «رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ رَبَّنٰا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذٰابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» ثم بيّن مفاسد هؤلاء السادات و الكبراء بأنهم قد جهلوا أنفسهم و لم يعرفوها و نسوا خلقهم من ماء مهين.

و من قبائح أفعالهم أن كل خصلة قبيحة ينسبونها إلى اللّٰه فيقولون: إن اللّٰه خلق هذا عربي و ذاك أعجمي أو أنه خلقهم طبقة ممتازة لها الصدارة و الزعامة بينما جعل غيرهم من الرعية و الاتباع...

ص: 301

و من قبائح أفعالهم أنهم أنكروا فضل اللّٰه و نعمه عليهم و ما صنعه بهم من حسن التقويم و انزال الرزق و الخيرات فبدلا من شكر هذه النعم إذ بهم يبدلون الشكر بالكفران و الإقرار بالنكران تكبرا و استعلاء و ضلالا و انحرافا.

ثم علل ما ذكر من الأوصاف التي وصف الكبراء و السادات بقوله: فإنهم آساس العصبية يعني هم الذين أسسوا العصبيات التي ينادى بها من أجل المحافظة على امتيازاتهم و علوهم و استبدادهم و من أجل مناصبهم و خصائصهم التي ينسجونها لأنفسهم...

كما أنهم دعائم أركان الفتنة فهم الذين يثيرون الفتن و يشعلون نارها ثم يذكونها بما عندهم من نفاق و غدر و لو أرادوا و أد الفتنة و القضاء عليها لاستطاعوا ذلك لأنهم يملكون وسائل إخمادها و القضاء عليها و قد مرّ علينا في الحرب اللبنانية التي دارت رحاها سنة 1975 و استمرت ستة عشر سنة كيف أن الزعماء - زعماء الأحزاب - و الساسة يديرون لعبة الموت بدقة و لباقة و كيف يشعلونها متى شاءوا و كيف يوقفونها متى شاءوا، و لما ذا يكون الهدوء لا يعرف و لم يكون القصف لا يدرى... لما ذا يفتح هذا المعبر أو يغلق ذاك لا يدرى... لما ذا يجتمع الأقطاب ؟ لا يدرى... و لما ذا لا يجتمعون لا يدرى... إنهم السادة الكبراء الذين يديرون الحرب و يكون وقودها هذا الشعب الأعزل الذي يمشي خلف هذا الزعيم و خلف ذاك الزعيم...

كما أنهم هم الذين يشكلون «سيوف اعتزاء الجاهلية» فهم كانوا يرفعون شعارات الجاهلية و ينادون يا للثأر و يا للشرف الجريح و الكرامة المهدورة، يا للعشيرة و الحرم...

يرفعون ذلك من أجل إثارة الفتنة و القضاء على الوحدة و قد شاهدنا الشعارات التي رفعتها الأحزاب و المنظمات كيف قضى تحتها و من أجلها آلاف الناس البسطاء و بقي الزعيم على كرسيه في صموده و خلوده...

(فاتقوا اللّٰه و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا و لا لفضله عندكم حسادا) عاد إلى الأمر بتقوى اللّٰه بالقيام بالواجبات و اجتناب المحرمات و لا يكونون لنعم اللّٰه عليهم أضدادا فبدلا من أن يعملوا بما تقتضيه النعمة من وضعها موضعها و شكر المنعم بها فيحولونها إلى خلاف ذلك يحولونها إلى معصية اللّٰه، فبدلا من أن يصرف المال في طرق الحلال من إعانة الفقراء و سد عوزهم إذ به يصرف في محاربة أولياء اللّٰه و نشر الفساد و الضلال.

و كذلك نهاهم أن يحوّلوا فضله عليهم فيكونون حسادا أي يحولوا فضل اللّٰه

ص: 302

و عطاياه إلى أن يحسدوا عباده على ما أعطاهم...

(و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم و خلطتم بصحتكم مرضهم و أدخلتم في حقكم باطلهم) نهاهم عن طاعة أدعياء الإيمان المبطنين للكفر و هم المنافقون الذين يحوّلون صفاء الناس و طهرهم و إيمانهم إلى الكدر و هو النفاق و الريب و الشك و التردد فلا يستبدل المسلمون هذا الصفاء بذلك الكدر.

و عبّر بقوله: «و خلطتم بصحتكم مرضهم» و أراد أن قلوبكم كانت طاهرة لا يشوبها شائبة شك أو نفاق فهي صحيحة سليمة بينما كانت نفوس أولئك الأدعياء مريضة بمرض النفاق و حب التعالي و الكبر فأنتم تخلطون صحتكم بمرضهم بمتابعتكم لهم...

و عبر بقوله: «و أدخلتم في حقكم باطلهم» فإنكم أصحاب إيمان و عمل و هم - الأدعياء - أصحاب هوى و مناصب فحسب فأدخلتم ما عندكم من حق بباطلهم.

أو أنكم أصحاب حق في الخلافة و الإمارة و أولئك ليس لهم حق فادخل الحق بغير الحق عند ما تمشون خلفهم أو تسمعون لهم.

(و هم أساس الفسوق و أحلاس العقوق) و هؤلاء الأدعياء المنافقون هم أساس الانحراف و أصله و هم الذين يزرعون الشك في قلوب المؤمنين و يخرجون عن إرادة اللّٰه و رسوله و أوليائه و لولاهم لم يجرأ أحد على الطعن و الغمز و اللمز في حكم إسلامي أو موقف وقفه النبي و خلفاؤه الصالحون.

و هم باستمرار ملازمون للعصيان متمردون على إرادة اللّٰه و رسوله يريدون الأمور لصالحهم و ليس لصالح الإسلام.

(اتخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم فجعلكم مرمى نبله و موطىء قدمه و مأخذ يده) فهؤلاء الأدعياء - المنافقون - قد جعلهم الشيطان مطايا يركبها و هم أذلاء تحت أمره و نهيه لا يعصونه فيما يريد كما جعلهم من جنده بهم يصرف الناس عن التوجه للّٰه و الاخلاص له و قد تحول هؤلاء الأدعياء بألسنتهم إلى آلة لإبليس تفرغ هي ما يريده الشيطان و ما يأمر به و بعبارة أخرى تحولوا إلى أذلاء يركب عليهم و إلى جند يدفعون عنه و يدافعون كما جعلهم ألسنة له يدعون بشعاره و إلى ما يريد...

ثم علل ذلك بأنه قد سلب عقولهم فأبطل تفكيرها في غير طاعته و التزام أمره و إذا تعطل العقل و تحول إلى مصلحة الشيطان كانت المأساة تتبع المأساة و الانحراف يتبع الانحراف.

ص: 303

كما أنه دخل في عيونهم فأصبحوا لا يبصرون إلا ما يزينه لهم و ما يرغبهم فيه من الحرام.

و كذلك وسوس لهم في أسماعهم عن الدنيا و زينتها و رغبهم فيها فانصرفوا إليها معرضين عن الآخرة.

و قد كانت نتيجتهم أن تحولوا إلى هدف يرميه بشتى الانحرافات و الميول و الأهواء يزرع فيهم سهام الحقد و الحسد و الغل.

كما جعلهم موطىء قدمه فأذلّهم أشد الإذلال و أهانهم أعظم الإهانة و هل هناك أشد إذلالا ممن تدوسه الأقدام.

كما جعلهم أسراء تحت يده يتصرف بهم لصالحه كيف يشاء يحولهم إلى أداة شيطانية مسخرة لمصالحه الخبيثة...

(فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّٰه وصولاته و وقائعه و مثلاته و اتعظوا بمثاوي خدودهم و مصارع جنوبهم) خذوا العظة و العبرة بما أصاب الأمم السابقة المستكبرة و العاقل من اعتبر بغيره و أخذ الدرس ممن ابتلى و أنتم خذوا العبرة ممن كانوا قبلكم من فرعون و قومه و نمرود و قوم عاد و ثمود فإنهم استكبروا على اللّٰه و تمردوا على إرادته و رفضوا أوامره فأخذهم أخذ عزيز مقتدر أخذهم بالعذاب الشديد و أنزل بهم العقوبات فمنهم من أرسل عليه السيل و منهم من أخذته الصيحة و منهم خسف به الأرض و هكذا دواليك ثم أمرهم أن ينظروا إلى مصيرهم من الأرض و يأخذوا العظة من ذلك الموقع الرهيب... ينظروا كيف أضحت تلك الخدود الناعمة التي كانت لا تنام إلا على الحرير كيف أضحت تنام على التراب ممرغة بالرغام و انظروا إلى أماكن تواجد هذه الجثث كيف يفزع الحي من تصور نفسه فيها فليستعد المسلم لمثل ما أصابهم إن هو عصى اللّٰه و تمرد على حكمه...

(و استعيذوا باللّٰه من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر) أمرهم أن يستعينوا باللّٰه و يلتجئوا إليه أن ينجيهم من آثار التكبر و مخلفاته و ما يتركه في النفوس و يولده في القلوب و هو لشدة خطره يجب أن يستعيذوا منه كما يستعيذوا من حوادث الدهر و فجائعه و مصائبه.

(فلو رخّص اللّٰه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصة أنبيائه و أوليائه و لكنه سبحانه كرّه إليهم التكابر و رضي لهم التواضع) فالتكبر باعتباره صفة ذميمة و عادة قبيحة لم يرخص فيها اللّٰه لأحد من عباده بل منعهم عن ارتكابها و لو كان يسمح لأحد من خلقه

ص: 304

بها لسمح لأنبيائه و المقرّبين من عباده و لكنه سبحانه جعلها مكروهة لهم بل أمرهم بالتواضع و قال لنبيه: «وَ اِخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ » .

(فألصقوا بالأرض خدودهم و عفروا في التراب وجوههم و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين و كانوا قوما مستضعفين قد اختبرهم اللّٰه بالمخمصة و ابتلاهم بالمجهدة و امتحنهم بالمخاوف و مخضهم بالمكاره) لقد سار الأنبياء كما أمر اللّٰه و كانوا أكثر الناس تواضعا و قد عبر الإمام بأنهم ألصقوا بالأرض خدودهم و عفروا في التراب وجوههم كناية عن تواضعهم و عدم تكبرهم.

و كذلك خفضوا أجنحتهم امتثالا لقول اللّٰه مخاطبا نبيه: «وَ اِخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ » ثم وصفهم بما هم فيه:

لقد كانوا قوما مستضعفين لم يتمتعوا بالدنيا و زينتها و لم يستعلوا على الناس لقد كانوا من الطبقة التي تعاني ظلم الراعي و جوره و لكنها فكرت في طريق الخلاص فكانت العناية الإلهية التي سددتهم في طريق الرسالة فأنقذوا بأمر اللّٰه شعوبهم و أممهم.

و اختبرهم اللّٰه بالجوع فموسى يدعو ربه بقوله: «رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» و النبي محمد قد شد حجر المجاعة على بطنه و هكذا نرى من سار على طريقهم يعيش باستمرار في حاجة و قد ورد عن أئمة أهل البيت قولهم: «من أحبنا أهل البيت فليلبس للفقر جلبابا...».

و ابتلاهم أيضا بالمجهدة أي بالإتعاب و العذاب حيث يؤدون رسالتهم فكان الجفاة الغلاظ أصحاب الامتيازات و أهل السلطة و الزعامة يواجهونهم بشتى أساليب التعذيب و فنونه و نظرة واحدة إلى سيرة رسول اللّٰه و ما لاقاه من العنت من كفار قريش يكفي لصدق ذلك.

و امتحنهم بالمخاوف فلذا هجروا الأوطان و تركوا الديار فموسى ترك مصر هاربا و النبي هاجر إلى المدينة و الحسين ترك مكة و هكذا تكون تغيير المواقع من أجل المصلحة...

و هكذا وقعوا في شدائد كثيرة زلزلتهم و هجرتهم و طهرتهم.

(فلا تعتبروا الرضى و السخط بالمال و الولد جهلا بمواقع الفتنة و الاختبار في موضع الغنى و الاقتدار فقد قال سبحانه و تعالى: «أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ » فإن اللّٰه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم

ص: 305

بأوليائه المستضعفين في أعينهم) هذا رفض لما عليه الأغبياء من الناس حيث يذهبون إلى أن الميزان في رضي اللّٰه عن شخص و غضبه على آخر هو كثرة الأموال و الأولاد للأول و حرمانهما بالنسبة إلى الآخر جهلا منهم بما امتحن اللّٰه به عباده فإن الثروة و المال للاختبار و الامتحان حتى تظهر معادن الرجال و تنكشف الأمور من الذي يعصي اللّٰه في المال ممن يطيعه ؟ و من ينساق وراء أولاده فيقدمهم على اللّٰه و الدين و من الذي يقدم الدين عليهم ؟ من الذي يربي أولاده تربية صالحة و من الذي يهمل ذلك ففي كل ذلك حساب و عقاب أو أجر و ثواب و تصديق ذلك من كتاب اللّٰه حيث يقول: «أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ » فليس الأمر كذلك بل هم في امتحان لهم و ابتلاء «وَ لٰكِنْ لاٰ يَشْعُرُونَ » بذلك استدراج حتى يطغوا و يبغوا فيظنوا أنهم لقربهم من اللّٰه أعطاهم ذلك...

ثم أشار إلى أن اللّٰه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم فإن المستكبرين في الأرض لعلوهم و تجبرهم يحاولون بسط نفوذهم و سيطرتهم على الناس فيروحون يغيّرون السنن و الشرائع و الأحكام لما يخدم مصالحهم و يكرسون أنفسهم أربابا من دون اللّٰه فيرسل اللّٰه لهم الأنبياء و هم ضعفاء لا يملكون السلطة و لا المال فيبتليهم بهم لعلهم يرجعون إلى أنفسهم و يعودون إلى حجمهم الطبيعي فتأخذهم العزة بالإثم و تبتدأ المعركة بين الحق و الباطل...

تواضع الأنبياء

اشارة

و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون - عليهما السّلام - على فرعون، و عليهما مدارع (1) الصّوف، و بأيديهما العصيّ (2)، فشرطا له - إن أسلم - بقاء ملكه، و دوام عزّه، فقال: «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ، و بقاء الملك، و هما بما ترون من حال الفقر و الذّلّ ، فهلاّ ألقي عليهما أساورة (3) من ذهب ؟» إعظاما للذّهب و جمعه، و احتقارا للصّوف و لبسه! و لو أراد اللّٰه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز (4)

ص: 306

الذّهبان (5)، و معادن العقيان (6)، و مغارس (7) الجنان، و أن يحشر معهم طيور السّماء و وحوش (8) الأرضين لفعل، و لو فعل لسقط البلاء (9)، و بطل الجزاء، و اضمحلّت (10) الأنباء (11)، و لما وجب للقابلين أجور المبتلين، و لا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء معانيها. و لكنّ اللّٰه سبحانه جعل رسله أولي قوّة (12) في عزائمهم (13)، و ضعفة (14) فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب و العيون غنى، و خصاصة (15) تملأ الأبصار و الأسماع أذى.

و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام (16)، و عزّة لا تضام (17)، و ملك تمدّ نحوه أعناق الرّجال، و تشدّ إليه عقد الرّحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، و أبعد لهم في الاستكبار، و لآمنوا (18) عن رهبة (19) قاهرة لهم، أو رغبة مائلة (20) بهم، فكانت النّيّات مشتركة، و الحسنات مقتسمة. و لكنّ اللّٰه سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله، و التّصديق بكتبه، و الخشوع لوجهه، و الاستكانة لأمره، و الاستسلام لطاعته، أمورا له خاصّة، لا تشوبها (21) من غيرها شائبة. و كلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل (22).

اللغة

1 - المدارع: جمع مدرعة بكسر الميم و هي ثوب واسع كالكساء.

2 - العصي: جمع العصا.

3 - الأساورة: جمع الجمع لسوار و هو حلية كالطوق تلبسه المرأة في زندها أو معصمها.

4 - الكنوز: مفرده الكنز كل مجموع مدخرّ يتنافس فيه، المال المدفون في الأرض.

ص: 307

5 - الذهبان: بكسر الذال جمع ذهب و هو المادة الغالية في المعادن.

6 - العقيان: نوع من الذهب ينمو في معدنه و هو أجوده.

7 - المغارس: موضع الغرس و الغرس ما يغرس في الأرض من شجر و نحوه.

8 - الوحوش: جمع الوحش حيوان البر.

9 - البلاء: الامتحان و الاختبار.

10 - اضمحلت: فنيت و تلاشت.

11 - الأنباء: الأخبار.

12 - أولي قوة: أصحاب قوة.

13 - عزائمهم: جمع عزيمة الإرادة المؤكدة.

14 - الضعفة: جمع الضعيف.

15 - الخصاصة: الفقر.

16 - لا ترام: من رام الشيء إذا طلبه و أراده.

17 - لا تضام: من الضيم و هو الظلم.

18 - أمنوا: اطمأنوا.

19 - الرهبة: الخوف.

20 - مائلة: من مال إلى الشيء إذا رغب فيه و أحبه.

21 - الشوب: الخلط.

22 - أجزل: العطاء لفلان أوسعه و أكثره و الجزيل الكثير من الشيء.

الشرح

(و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون و عليهما مدارع الصوف و بأيديهما العصي فشرطا له - إن أسلم - بقاء ملكه و دوام عزه فقال: «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز و بقاء الملك و هما بما ترون من حال الفقر و الذل فهلاّ ألقي عليهما أساورة من ذهب ؟» إعظاما للذهب و جمعه و احتقارا للصوف و لبسه) بعد أن ذكر أن المستكبرين ابتلاهم اللّٰه بعباده المستضعفين ذكر قصة موسى بن عمران مع فرعون و هي قصة الطواغيت و الظالمين في أشخاصهم و أدوارهم و في منطقهم و نظرتهم إلى الأمور.

لقد دخل موسى و أخوه هارون على فرعون في مهمة تبليغ الرسالة و إرشاده إلى اللّٰه و رده إلى الحق جل ذكره و لكن دخولهما عليه لم يكن بثياب الملوك و الطبقات المخملية

ص: 308

في المجتمع التي تتزين بالحرير و الذهب بل دخلا عليه في ثياب الناس العاديين... في ثياب الصوف و بأيديهما العصي - إنها صورة الأنبياء الرساليين الذين يعيشون التواضع و الصدق و عند ما دخلا عليه و تكلما معه شرطا عليه إن أسلم أن يبقى ملكه و يدوم في عزه و من هنا لم تأت الأديان للقضاء على الزعماء و أصحاب الوجاهة إذا انضموا إلى قافلة الإيمان و أعلنوا الإسلام... و لكن فرعون الذي قال: «أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىٰ » و يعيش حالة نفسية مريضة و لا ينظر إلاّ إلى الذهب و الفضة و مشتقاتهما لم يعجبه هذا الحديث بل أخذ في عملية استهزاء و سخرية و هو يقول لحاشيته و من يعيش معه و يدور في فلكه ألا تعجبون من موسى و هارون يشرطان لي بقاء ملكي و دوام عزي و هما على ما هما عليه من الفقر و الذل فهلاّ ألقي عليهما أساورة من ذهب...

بهذا المنطق المادي كان الجواب... و بهذا الأسلوب المزري يقابل الطغاة الدعاة إلى اللّٰه. إنه لم ينظر إلى دعوة موسى و ما وراءها و هل تحمل الصدق و الحق ؟... لم يتعامل مع الآخرين بمنطق العقلاء و أهل الفكر بل يبادر ألا تعجبون... إنه الذهب الذي أعمى بصر فرعون فلا يفكر إلا فيه و يتصور أن ميزان العز و الحق هو هذا الصنم المادي من الذهب و في المقابل احتقر الصوف و من يلبسه.

(و لو أراد اللّٰه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان و معادن العقيان و مغارس الجنان و أن يحشر معهم طيور السماء و وحوش الأرضين لفعل و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء و اضمحلت الأنباء و لما وجب للقابلين أجور المبتلين و لا استحق المؤمنون ثواب المحسنين و لا لزمت الأسماء معانيها... و لكن اللّٰه سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب و العيون غنى و خصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذى) هذا رد من الإمام على فرعون و من يتبنى رأيه و يقول بمقالته يعلل فيه بعث الرسل في حالتهم الشعبية من الفقر و المسكنة و الفاقة دون الغنى و الزهو و العلو يقول: لو أن اللّٰه أراد لأنبيائه عند ما بعثهم أن يعطيهم كل خيرات الدنيا فيفتح لهم خزائن الذهب و معادنه الجيدة و كل بساتين الدنيا و يسخّر معهم طيور السماء و وحوش الأرض تأتمر بأمرهم و تلتزم قولهم لو أراد ذلك و هي ممكنة و هو قادر عليها لفعل ذلك و لكن ذلك يؤدي إلى أمور لا تصح و لا يمكن القبول بها و هي:

1 - إنه لو أعطاهم كل ذلك لسقط البلاء، أي لسقط امتحان المستكبرين بالمستضعفين و سقط امتحان المستضعفين و امتحانهم في صبرهم و جهادهم لأنهم لو أعطوا هذه الأشياء لتبعهم الناس لها رغبة فيها أو رهبة منها و لم يعد ثمة من امتحان.

ص: 309

2 - إنه يسقط الجزاء على الطاعات لأنها تكون وليدة الرغبة أو الرهبة لما في يد الأنبياء و لم تتمحض في الطاعة للّٰه و امتثال أمره.

3 - إنها تعطل أخبار الأنبياء لو أعطاهم ذلك لأن مهمة الأنبياء أن يزهدوا الناس في الدنيا و يرغبوهم في الآخرة فإذا جاءوا بالدنيا بما فيها لم تنفع عندئذ كل مواعظهم و توجيهاتهم.

4 - و كذلك لو أعطاهم اللّٰه ذلك لم يكن لأهل البلاء و الامتحان ميزة على من آمن بدون ذلك لسقوط التكليف حيث لا اختبار و لا امتحان.

5 - و كذلك لم يستحق المؤمنون عن هذا الطريق ثواب المحسنين المجاهدين بأنفسهم لأن إيمان الفئة الأولى لرغبة بينما الفريق الآخر كان عن صبر و جهاد للنفس.

6 - إن الأسماء لا تستحق معانيها لأن لكل كلمة معنى و معنى المؤمن هو الذي يصبر على البلاء و الامتحان و يتخطى العقبات و يصر على الإيمان و ليس الإيمان هو مجرد الاسم الذي يكسبه الإنسان من خلال رغباته و تحقيق متطلباته في الدنيا فإن من آمن بالأنبياء مع ما في أيديهم من الكنوز و الذهب و الطيور و الوحوش و غيرها لم يكن اسم الإيمان لينطبق عليهم على الحقيقة لأن الإيمان يجب أن يتجرد عن المغانم و المنافع بل الإيمان لحسن العقيدة و صحتها فحسب...

ثم بعد أن ذكر أن اللّٰه لو أراد أن يفعل ذلك لفعله و لكنه لم يفعله لم يترتب عليه من المفاسد قال: إن اللّٰه لم يعطهم ذلك لمفاسده و لكنه أعطاهم العزيمة القوية فهم أقوياء في نفوسهم... أقوياء في طموحاتهم... أقوياء في صمودهم... إنهم أعطوا عزيمة تنال السماء و تسقط الزعماء فهم أسود في نفوسهم و إن كانوا ضعفاء في ملابسهم ضعفاء فيما تقع عليه العيون من حالاتهم في ملبسهم... و مأكلهم... و تواضعهم... إنهم فقراء و لكن لقناعتهم و تعففهم فهم من أغنى الناس... هم أغنياء بما عندهم من علم لدني و زهد و تقوى. و توجه نحو اللّٰه بحيث تمتلئ القلوب إكبارا و إجلالا لمقامهم و كذلك هم جياع إلى مستوى أذية الآذان و الأبصار و جوعهم كما قيل: من أجل أن تصفو نفوسهم و ترق أرواحهم و تشف عن حالة الطهارة و النزاهة لتتلقى بها الوحي و تستمع لصوت الحق...

(و لو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام و عزة لا تضام و ملك تمد نحوه أعناق الرجال و تشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار و أبعد لهم في الاستكبار

ص: 310

و لآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم فكانت النيات مشتركة و الحسنات مقتسمة) و كذلك نبّه إلى أنه سبحانه لو أعطى أنبياءه ما أعطى من القوة القوية التي لا يبلغها أحد و عزة لا ذل فيها و لا ظلم و ملك واسع تسعى إليه الرجال و تطلبه الزعماء لو أعطاهم ذلك لترتب عليه أن كل الناس أسرعت مستجيبة لهم لأن أمنياتهم تتحقق في ظل الأنبياء و عندهم و لم يستكبر عن الاستجابة لهم أحد و لآمنوا أيضا بما جاء به الأنبياء إما رغبة بما عندهم من الدنيا أو رهبة و خوفا من سطوتهم و قوتهم و عندئذ تفسد النيات و تشوبها الشائبات، تصبح النيات مشتركة نية من آمن عن رغبة أو رهبة و نية من آمن بحق و عن صدق لأن الحق مع الأنبياء.

و كذلك أصبحت الحسنات مقتسمة أي الإيمان مقتسم بين اللّٰه و بين المنافع و الفوائد...

(و لكنّ اللّٰه سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله و التصديق بكتبه و الخشوع لوجهه و الاستكانة لأمره و الاستسلام لطاعته أمورا له خاصة، لا تشوبها من غيرها شائبة و كلما كانت البلوى و الاختبار أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل) و إن اللّٰه لم يعط الأنبياء القوة و السلطان و العزة و الملك إلا لأجل أهداف سامية يريدها من هذا الإنسان إنه لم يعطها إلا ليكون الاتباع لرسله و الإيمان بهم من حيث إنهم سفراء من عند اللّٰه، و التصديق بكتبه المنزلة عليهم لأنها كتب الوحي و الهداية و الإرشاد و أن يكون الخشوع لوجهه وحده دون غيره و الاستكانة لأمره أي الاطمئنان و الثقة بأمر اللّٰه وحده، و أن يكون الاستسلام لطاعته دون قيود أو شروط أو منافع و فوائد و أموال و ثمرات، أرادها سبحانه كلها أمورا خالصة له خاصة به لا يشركه أحد من خلقه بها و لا تختلط بها شائبة رهبة أو رغبة ثم بيّن أنه كلما كان الاختبار أعظم و أكبر كانت المثوبة و الأجر أعظم و أكثر لأن من امتحنه أكثر كان إيمانه أقوى و صاحب الإيمان الأقوى له الأجر الأكثر...

الكعبة المقدسة

اشارة

ألا ترون أنّ اللّٰه، سبحانه، اختبر (1) الأوّلين من لدن (2) آدم صلوات اللّٰه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ و لا تنفع، و لا تبصر و لا

ص: 311

تسمع، فجعلها بيته الحرام «الّذي جعله للنّاس قياما». ثمّ وضعه بأوعر (3) بقاع (4) الأرض حجرا، و أقلّ نتائق (5) الدّنيا مدرا (6)، و أضيق بطون الأودية قطرا (7). بين جبال خشنة، و رمال دمثة (8)، و عيون (9) و شلة (10)، و قرى منقطعة، لا يزكو (11) بها خفّ (12)، و لا حافر (13) و لا ظلف (14). ثمّ أمر آدم عليه السّلام و ولده أن يثنوا أعطافهم (15) نحوه، فصار مثابة (16) لمنتجع (17) أسفارهم، و غاية لملقى (18) رحالهم (19). تهوي (20) إليه ثمار الأفئدة من مفاوز (21) قفار (22) سحيقة (23) و مهاوي (24) فجاج (25) عميقة، و جزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم (26) ذللا يهلّلون (27) للّٰه حوله، و يرملون (28) على أقدامهم شعثا (29) غبرا (30) له. قد نبذوا (31) السّرابيل (32) وراء ظهورهم، و شوّهوا (33) بإعفاء الشّعور (34) محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، و امتحانا شديدا، و اختبارا مبينا، و تمحيصا (35) بليغا، جعله اللّٰه سببا لرحمته، و وصلة إلى جنّته. و لو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، و مشاعره (36) العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل و قرار (37)، جمّ (38) الأشجار داني (39) الثّمار، ملتفّ البنى (40). متّصل القرى، بين برّة (41) سمراء، و روضة (42) خضراء، و أرياف (43) محدقة (44)، و عراص (45) مغدقة (46)، و رياض ناضرة (47)، و طرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء. و لو كان الإساس (48) المحمول عليها، و الأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة (49) خضراء، و ياقوته (50) حمراء، و نور و ضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشّكّ في الصّدور، و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، و لنفى معتلج (51) الرّيب (52) من النّاس، و لكنّ اللّٰه يختبر عباده بأنواع الشّدائد، و يتعبّدهم بأنواع المجاهد، و يبتليهم بضروب المكاره،

ص: 312

إخراجا للتّكبّر من قلوبهم، و إسكانا للتّذلّل في نفوسهم، و ليجعل ذلك أبوابا فتحا (53) إلى فضله، و أسبابا ذللا (54) لعفوه.

اللغة

1 - اختبر: امتحن.

2 - لدن: ظرف زماني أو مكان بمعنى عند إلا أنه أقرب مكانا و أخصّ .

3 - الوعر: من الأرض ضد السهل.

4 - البقاع: جمع بقعة و هي القطعة من الأرض.

5 - النتائق: جمع نتيقة البقاع المرتفعة.

6 - المدر: قطع الطين اليابسة.

7 - القطر: الجانب.

8 - الدمثة: السهلة اللينة.

9 - العيون: جمع عين ينبوع الماء.

10 - الوشلة: قليلة الماء.

11 - يزكو: ينمو.

12 - الخف: قائمة الإبل.

13 - الحافر: قوائم الخيل و الحمير.

14 - الظلف: قوائم الشاة.

15 - ثنى عطفه إليه: مال و توجه إليه.

16 - المثابة: المرجع.

17 - المنتجع: موضع الماء و الكلأ أو المكان يقصده الناس للمنفعة.

18 - ملقى: مصدر ميمي ألقى.

19 - الرحال: ما يجعل على ظهر البعير كالسرج.

20 - تهوي: تسرع إليه واصل الهوي السقوط.

21 - المفاوز: جمع مفازة الصحراء.

22 - القفار: جمع قفر و هي الصحراء التي لا نبت فيها و لا ماء.

23 - السحيقة: البعيدة.

24 - المهاوي: المنخفضات من الأرض.

25 - الفجاج: الطرق الواسعة بين الجبال.

26 - مناكبهم: رءوس اكتافهم.

ص: 313

27 - يهللون: من التهليل يرفعون أصواتهم بالتلبيه و الإهلال رفع الصوت.

28 - الرمل: الهرولة و يرملون يهرولون.

29 - الأشعث: المنتشر الشعر مع تلبد فيه.

30 - الأغبر: من علا بدنه الغبار.

31 - نبذوا: القوا.

32 - السرابيل: الثياب.

33 - شوّهوا: يقال شوه وجهه إذا قبحه و المشوه قبيح الشكل.

34 - اعفاء الشعور: ترك الشعور - مفردها الشعر - بلا حلق و لا قص.

35 - التمحيص: التطهير.

36 - المشاعر: المناسك.

37 - القرار: المطمئن من الأرض أي المستقر.

38 - الجمّ : الكثير.

39 - داني: قريب.

40 - البنى: جمع بنية بضم الباء و كسرها ما ابتنيته و قمت بعمارته و ملتف البنى مشتبك العمارة.

41 - البرة: بالضم الحنطة و السمراء أجودها.

42 - الروضة: أرض مخضرة بأنواع النبات.

43 - الأرياف: جمع ريف بالكسر الأراضي الخصبة.

44 - المحدقة: المحيطة.

45 - العراص: جمع عرصة و هي البقعة الواسعة التي ليس بها بناء.

46 - المغدقة: الأرض ذات الماء الكثير و الخصب.

47 - ناضرة: حسنة جميلة.

48 - الأساس: بكسر الهمزة جمع أس و أساس أصل البناء.

49 - الزمردة: حجر كريم شفاف شديد الخضرة و اشده خضرة أجوده و أصفاه جوهرا (و هي فارسيه).

50 - ياقوتة: حجر كريم صلب تختلف ألوانه (يونانية).

51 - معتلج: مصدر ميمي من الاعتلاج الالتطام و الاختلاط.

52 - الريب: الشك.

53 - الفتح: بضمتين الواسع المفتوح.

54 - الذلل: بضمتين جمع ذلول بالفتح ضد الصعوبة...

ص: 314

الشرح

(ألا ترون أن اللّٰه سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات اللّٰه عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما) لما كان التكليف كله من أجل تكامل هذا الإنسان و سموه كان لا بد فيه من علل و حكم مستوره على الإنسان يجهلها و لا يعرفها حتى تكون الطاعة خالصة لوجه اللّٰه و قد ننظر في بعض التكاليف فنجهل وجه الحكمة فيها و أعني بوجه الحكمة فيها أي ما تدل عليه بشخصها من حكمة و إن كانت القاعدة العامة تنطبق عليها و هي: أن كل تكليف وارءه حكمة يعملها اللّٰه ترجع بالفائدة على هذا الإنسان و الحج بجملته مهما تفلسف المتفلسفون و أبرزوا من علل و حكم فإنها تقصر عن إعطاء شيء يريح القلب و الضمير نعم انطلاقا من القاعدة العامة و إن اللّٰه هو الذي يعلم الحكمة في التشريع و لا يشرّع إلا لمصلحة هذا الإنسان نعرف أن الحج تكليف إلهي تعود منفعته لهذا الإنسان و الإمام يؤشر إلى ذلك بقوله:

«ألا ترون أن اللّٰه سبحانه و تعالى امتحن هذا الإنسان من آدم و إلى آخر يوم في الدنيا بأحجار لا تضر و لا تنفع لأنه النافع و الضار هو اللّٰه و لا تبصر و لا تسمع حتى إذا قصدها الإنسان رأته و سمعت دعاءه هذه الأحجار الجماد جعلها اللّٰه بيته الحرام الذي جعله للناس قياما أي يقيمهم و يقويهم و يدعمهم في جميع أحوالهم المادية و المعنوية، الدنيوية و الأخروية، فقيامهم الصحيح و نهضتهم الكبرى و ارتفاع نجمهم و علو شأنهم إنما يكون بهذا البيت المكون من هذه الأحجار...

(ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا و أقل نتائق الدنيا مدرا و أضيق بطون الأودية قطرا. بين جبال خشنة و رمال دمثة و عيون و شلة و قرى منقطعة لا يزكو بها خف و لا حافر و لا ظلف) و هذا وصف لمكان البيت و محله و إن اللّٰه وضع بيته الحرام المقدس المطهر بأوعر بقاع الأرض حجرا أي أصعب الحجارة و أغلظها في الأرض و أقل بلدان العالم ترابا و مدرا و أضيق الأودية حيث أن بيت اللّٰه في وادي مكة الضيق جدا...

بين جبال غليظة و رمال طرية لا تصلح لزرع و تتعب السائرين عليها و أما الماء فهو قليل جدا و قرى تلك البلاد بعيدة لا تتصل ببعضها لبعدها و مشقة السفر إليها ثم أشار إلى أنه لا يسمن فيها بعير و لا فرس و لا شاة لأنه لا زرع فيها قال تعالى عن إبراهيم: «رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ » فهي قاحلة لا ينمو فيها شيء و لا يسمن فيها حيوان...

ص: 315

فهذا البيت الحرام المبني من الأحجار في هذا المكان القفر الصعب جعله اللّٰه قبلة للأنام و فرض على الناس الحج إليه...

(ثم أمر آدم عليه السلام و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه فصار مثابة لمنتجع أسفارهم و غاية لملقى رحالهم تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة و مهاوي فجاج عميقة و جزائر بحار منقطعة) بعد أن بني اللّٰه البيت الحرام في تلك البقعة من الأرض بالأوصاف المتقدمة أمر آدم و من بعده أولاده أن يتوجهوا نحوه و يقصدوه فصار بعد ذلك الأمر الإلهي محلا طيبا يجدون في ربوعه ما يتمنونه و يطلبونه في عودتهم من سفرهم كما أنه ملتقى يجتمعون فيه و يلتقون كما قال تعالى: «وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً» .

كما أنه سبحانه جعل القلوب تحّن إليه و تتشوق للنزول به كما قال تعالى في دعاء إبراهيم عليه السلام: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ » .

فإن القلوب تحن إلى بيت اللّٰه الحرام من أقصى بلاد اللّٰه من الصحراء البعيدة القاحلة من صحراء الربع الخالي و من صحراء العالم ترى الشوق إلى البيت الحرام.

كما ترى الشوق من كل فج عميق و من الجزر البعيدة المنقطعة عن العالم ترى كل أولئك الناس يحملون للكعبة شوقا و محبة و رغبة في التبرك بتلك الأحجار المقدسة التي باركها اللّٰه...

(حتى يهزوا مناكبهم ذللا يهللون للّٰه حوله و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم و شوهوا بأعفاء الشعور محاسن خلقهم ابتلاء عظيما و امتحانا شديدا و اختبارا مبينا و تمحصيا بليغا جعله اللّٰه سببا لرحمته و وصلة إلى جنته) فإن من يهوى بيت اللّٰه الحرام و يحبه و يتشوق لأخذ البركة منه يجب أن يتحرك من مكانه و ينطلق متوجها نحوه و هذا يستدعي تحريك المناكب أو يقصد به الطواف بالبيت الحرام متواضعين منقادين لما أمر.

و ذكر أنهم في طوافهم حوله يهللون اللّٰه و يلبون و يهرولون على أقدامهم مسرعين إلى مغفرة اللّٰه في حالة البؤساء حيث الشعور متفرقة قد تلبدت و اغبرت من التراب، إنهم قد خلعوا الثياب الجميلة التي كانوا يرتدونها و تركوا شعورهم مسترسلة قد غطت وجوههم و شوهت مناظرهم...

إنه امتحان لهذا الإنسان عظيم حيث يعرف المطيع من العاصي... إنه اختبار لهذا الإنسان واضح كبير و تمحيص بليغ و هذا كله ليجعله سببا لرحمته و طريقا إلى جنته فهو

ص: 316

السبب لنزول الرحمة و الوصول إلى الجنة فإن من قصد تلك الديار و حلّ في تلك الآثار نال المغفرة و دخل الجنة...

(و لو أراد اللّٰه سبحانه أن يضع بيته الحرام و مشاعره العظام بين جنات و أنهار و سهل و قرار جم الأشجار داني الثمار ملتف البنى متصل القرى بين برة سمراء و روضة خضراء و أرياف محدقة و عراص مغدقة و رياض ناضرة و طرق عامره لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء) هذه صورة زيتية لأبدع رسام عبقري تسقط عندها ريشة كل الفنانين في العالم... ريشة الإمام علي الذي يرسم بيت اللّٰه الحرام في هذه الأجواء العظيمة لو أراد اللّٰه أن يجعله كذلك.

يرسمه مع تلك المناسك التي يؤدي الحاج فيها واجباته يرسمه بين بساتين تحوي كل ثمار الدنيا و أنهار تجري من تحتها و حولها...

في سهل واسع ممتد مدّ البصر كثير الأشجار قريب الثمار و من حوله العمارات و البنايات تتصل به القرى من كل جانب و حوله القمح الجيد اللذيذ و البساتين الخضراء و أيضا تحيط به الأرياف و الأراضي المتدفقة بالماء و البساتين الجميلة و الطرق إليه عامرة مشقوقة و مطروقة.

لو كان اللّٰه قد فعل ذلك لقل الأجر و الثواب لخفّ البلاء و الامتحان فإن من يرى بيت اللّٰه بهذه المواصفاة يتشوق لرؤيته و التمتع بالنزهة في ربوعه و لم يعد في البين مشقة أو تعب بل قد تنتفي نية القربة.

(و لو كان الأساس المحمول عليها و الأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء و ياقوتة حمراء و نور و ضياء لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب و لنفى معتلج الريب من الناس) كان الوصف في السابق لموقع البيت و ما حوله و هنا يصف نفس البيت الحرام و أن اللّٰه لو أراد أن يبني بيته فيجعل أساسه من أغلى الأحجار و أفضلها من الزمرد الأخضر و الياقوت الأحمر و يجعله منيرا مضيئا لو أراد ذلك لفعل و لو فعل ذلك لخفف عن الناس الشك في الأنبياء و في نفس البيت فإن الإنسان إذا وجد بيت اللّٰه قد بني بالزمرد و الياقوت و غيره لأسرع لتصديق ذلك و قال أن ذلك يناسب اللّٰه و أما إذا وجده كما هو بني بالأحجار الطبيعية فإن الشك يدخل إلى قلبه هذا أولا.

و أيضا فإن إبليس ترتفع و ساوسه و شكوكه التي يدخل من خلالها إلى نفس الإنسان فيما لو بني بما ذكر لأن النفوس تتقبل ذلك و ترضاه بعكس ما لو كان بالأحجار فإنه يقول

ص: 317

تطوفون بأحجار طبيعية كما هي في بيوتكم فتسري وساوس الشيطان إلى النفوس...

(و لكن اللّٰه يختبر عباده بأنواع الشدائد و يتعبدهم بأنواع المجاهد و يبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتكبر من قلوبهم و أسكانا للتذلل في نفوسهم و ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله و أسبابا ذللا لعفوه) هذا بيان لعدم جعل اللّٰه بيته الحرام من أحجار كريمة زمرد و ياقوت و نور و ضياء بأن اللّٰه يريد أن يمتحن عباده بأنواع الامتحانات الصعبة و المكاره القوية التي تنفر منها النفوس أو لاتقبلها بحسب تركيبها كما هو الحال في بيت اللّٰه حيث جعل من الأحجار الطبيعية فإن هذا يخرج التكبر من القلوب من حيث يخضع الإنسان لأمر اللّٰه و يستجيب له و إن لم يكن المأمور به مرغوب للنفس مطلوب لها ليكون الإنسان مطيعا مستجيبا لأمر اللّٰه و هذا القبول و الرضا بما يرضى اللّٰه و يشرعه يفتح أوسع أبواب الرحمة و يكون سببا سهلا لعفو اللّٰه...

فإن اللّٰه يريد من خلال الأمر بما لا يتوافق و مشتهيات النفس أن يروض الإنسان نفسه على قبول الأمر الإلهي و تقبله لترتفع درجاته و ينال فضل اللّٰه و رحمته و عفوه...

عود إلى التحذير

فاللّٰه اللّٰه في عاجل البغي (1)، و آجل و خامة (2) الظّلم، و سوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة (3) إبليس العظمى، و مكيدته (4) الكبرى، الّتي تساور (5) قلوب الرّجال مساورة السّموم (6) القاتلة، فما تكدي (7) أبدا، و لا تشوي (8) أحدا، لا عالما لعلمه، و لا مقلاّ (9) في طمره (10). و عن ذلك ما حرس اللّٰه عباده المؤمنين بالصّلوات و الزّكوات، و مجاهدة الصّيام في الأيّام المفروضات، تسكينا لأطرافهم (11)، و تخشيعا (12) لأبصارهم، و تذليلا لنفوسهم، و تخفيضا لقلوبهم، و إذهابا للخيلاء (13) عنهم، و لما في ذلك من تعفير (14) عتاق (15) الوجوه بالتّراب تواضعا، و التصاق كرائم (16) الجوارح بالأرض تصاغرا (17)، و لحوق البطون بالمتون (18) من الصّيام تذلّلا، مع ما في الزّكاة من صرف ثمرات الأرض و غير ذلك إلى أهل المسكنة (19). و الفقر.

ص: 318

فضائل الفرائض

اشارة

انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع (20) نواجم (21) الفخر، و قدع (22) طوالع الكبر! و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه (23) الجهلاء، أو حجّة تليط (24) بعقول السّفهاء غيركم، فإنّكم تتعصّبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علّة. أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريّ و أنت طينيّ .

اللغة

1 - البغي: الظلم، العدول عن الحق.

2 - الوخيم: الردي.

3 - المصيدة: آلة الصيد من الشبكة و نحوها.

4 - المكيدة: الخديعة، الخبث و المكر.

5 - تساور القلوب: تواثبها و تقاتلها.

6 - السموم: مواد قاتلة مميتة.

7 - أكدى الحافر: إذا عجز عن التأثير في الأرض.

8 - أشوت الضربة: أخطأت المقتل.

9 - المقل: الفقير.

10 - الطمر: بالكسر الثوب الخلق أو الكساء البالي من غير الصوف.

11 - الأطراف: الأيدي و الأرجل.

12 - الخشوع: الذل و الخضوع.

13 - الخيلاء: الكبرياء.

14 - التعفير: التمريغ بالتراب.

15 - العتاق: من الخيل النجائب و كرايم الوجوه و حسانها.

16 - كرائم: جمع كريمة، النفيس الغالي.

17 - التصاغر: التحاقر و الصغار الذل و المهانة.

18 - المتون: الظهور.

ص: 319

19 - المسكنة: الفقر و الذل و الضعف.

20 - القمع: الرد، القهر.

21 - النواجم: جمع ناجمة ما برز و ظهر و طلع.

22 - القدع: المنع و الكفّ .

23 - التمويه: التدليس.

24 - تليط: تلتصق و تختلط.

الشرح

(فاللّٰه اللّٰه في عاجل البغي و آجل و خامة الظلم و سوء عاقبة الكبر) حذرهم الإمام من الثالوث القاتل البغي و الظلم و الكبر هذا إذا قلنا أن البغي و الظلم مختلفان بأن فسرنا البغي الفساد و تجاوز الحد و أما إذا قلنا أن المعنى فيهما واحد فيكون ثنائي مجرم الظلم و الكبر و حذرهم من عاجل الظلم حيث يدمر صاحبه و يقضي عليه في الدنيا و أما في الآخرة فهو ظلمات و كذلك الكبر عاقبته و نهايته أسوأ ما يكون عذاب و عقاب...

(فإنها مصيدة إبليس العظمى و مكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة فما تكدي أبدا و لا تشوي أحدا، لا عالما لعلمه و لا مقلا في طمره) و على كل حال فإن هذه الأمور هي شراك إبليس التي يصطاد بها الرجال و وسائل خداعه العظمى التي لا تقاربها مكيدة لأن الكبر يدخل إلى العلماء و الجهلاء و الأغنياء و الفقراء يأتي إلى كل من جهته و ناحيته المبتلى بها فيحرفه عن الاستقامة و عن الصراط المستقيم ثم شبهة بالسموم فإن السم يسري في بدن الإنسان فلا يدري صاحبه إلا و هو فريسة الموت و الكبر يدخل إلى الروح فيفسدها و يخربها من الداخل و كما لا يمنع السم مانع من سريانه و لا يخطىء المقاتل كذلك الكبر إذا استحكم من الإنسان فإنه يسري إلى المقاتل و لا يمكن دفعه و كما قلنا لا يخطىء العالم و لا يرحم الفقير يشمل الجميع و يعم الكل...

(و عن ذلك ما حرس اللّٰه عباده المؤمنين بالصلوات و الزكوات و مجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكينا لأطرافهم و تخشيعا لأبصراهم و تذليلا لنفوسهم و تخفيضا لقلوبهم و إذهابا للخيلاء عنهم و لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا و التصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا و لحوق البطون بالمتون من الصيام تذللا مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض و غير ذلك إلى أهل المسكنة و الفقر) ذكر عليه السلام

ص: 320

ثلاثة أمور بها حرس اللّٰه هذا الإنسان من الكبر و الاستعلاء ذكر الصلاة و الصيام و الزكاة و بين أن بها يحصّن الإنسان نفسه من الكبر و يحفظها من هذه الآفه السيئة.

و قد ذكر جملة فوائدها و ثمراتها.

فقال: إن هذه الواجبات فرضها تسكينا لأطراف المؤمنين و إذا سكنت أطراف المؤمنين سكنت قلوبهم و ذلّت و ابتعدت عن الكبر سواء كان ذلك في الصلاة و لعله أكثر انطباقا عليها من غيرها كما في الحديث المروي عن النبي حيث قال عند ما رأى رجلا يصلي و هو يعبث بلحيته فقال صلى اللّٰه عليه و آله و سلم: «أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»...

«و تخشيعا لأبصارهم» و الأبصار إذا خشعت غضت عن الحرام و لم تعد تنظر إليه.

«و تذليلا لنفوسهم» فإن هذه الواجبات تذلل النفوس و تروضها على الخير و ينفي بها الكبر.

«و تخفيضا لقلوبهم» فإن من صلى أو صام أو أدى زكاة ماله شعر بعظمة اللّٰه و صغر نفسه.

«و إذهابا للخيلاء عنهم» فإن من سجد للّٰه انتفى الكبر عنه و من صام و جاع للّٰه كان كذلك و هكذا من أدى قسما من ماله زكاة لوجه اللّٰه...

ثم ذكر ثمرات كل من الثلاثة في نفي الكبر...

أما بالنسبة إلى الصلاة فإنها بما تحوي من خضوع و خشوع و ما فيها من سجود و تعفير للوجوه الكريمة بالتراب تواضعا للّٰه فإن هذه الجبهة التي هي أشرف محل في وجه الإنسان يضعها الإنسان على الأرض في سجوده تذللا للّٰه و خضوعا له و تلك الجوارح و هي المساجد السبعة يلصقها بالأرض تذللا و خشوعا و هذا من أهم ما يدل على التواضع بل هو التواضع في أعلى درجاته و مراتبه...

و أما الصوم فهل هناك أشد من أن يجوع الإنسان للّٰه و يصوم حتى يشعر بحاجة الفقير.. يجوع لتزول شهواته المادية فيخضع للّٰه و يذل له...

و أما الزكاة فإن إخراج المقدار المعين منها قربة إلى اللّٰه و إعطائه إلى الفقراء يدل على تواضعه للّٰه و للمستحقين لهذه الزكاة و في ذلك من التواضع ما لا يخفى حيث يشعر الفقير أن معه يدا تمتد إليه لتعينه على ضراء الحياة و بأسائها...

(انظروا إلى ما في الأفعال من قمع نواجم الفخر و قدع طوالع الكبر) نبههم و لفت

ص: 321

انظارهم إلى أن ينظروا إلى هذه الأفعال الصلاة و الصيام و الزكاة فإنها تقضي على ما ربما يظهر من الفخر و الاعتزاز و تكف ما يطلع و يظهر في بعض الأحيان من الكبر...، فالإنسان المصلي الصائم المزكي بمجرد أن تتحرك في نفسه بوادر الكبر تأتي هذه الأفعال فتقضي عليها و تخنقها في مهدها فلا تظهر إلى الوجود بل تعدمها من قرارة النفوس...

(و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة) أراد عليه السلام في هذا المقطع أن يبين أن كل متعصب لا بد له من ذريعة يبرر بها تعصبه و هو أحد أمرين إما أن يكون هناك تلبيس و تدليس في أمر من الأمور لغرض من الأغراض الشخصية و إما لشبهة حصلت عند بعض العقول كما في شبهة الخوارج فتلتصق هذه الشبهة في أذهان العوام من الناس و يروحون وراءها يندفعون و من أجلها يتقاتلون و لا يخلو التعصب من أحد هذين الأمرين إلا أهل العراق فإنهم يتعصبون دون مبرر مقبول و بدون علة و لا سبب معروف يمكن أن يبرر تعصبكم...

(أما إبليس فتعصب على آدم لأصله و طعن عليه في خلقته فقال: «أنا ناري و أنت طيني) بيّن عليه السلام أحد أفراد المتعصبين و سبب تعصبهم ليرتدع الناس عن العصبية ذكر إبليس الذي تعصّب لنفسه و افتخر بأصله و قال لربه يعلل تعصبه و تكبره على آدم:

«خلقتني من نار و خلقته من طين» فافتخر بالنار و ذم الطين و تكبر عليه و هكذا أغلب الناس يتعصب لعشيرته و لقومه لأنه يراهم أفضل من غيرهم من الناس...

عصبية المال

اشارة

و أما الأغنياء من مترفة (1) الأمم، فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم، فقالوا:

«نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين». فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال (2)، و محامد الأفعال، و محاسن الأمور، الّتي تفاضلت فيها المجداء (3) و النّجداء (4) من بيوتات (5) العرب و يعاسيب (6) القبائل، بالأخلاق الرّغيبة (7)، و الأحلام (8) العظيمة، و الأخطار الجليلة (9)،

ص: 322

و الآثار المحمودة. فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار (10)، و الوفاء بالذّمام (11)، و الطّاعة للبرّ (12)، و المعصية للكبر، و الأخذ بالفضل (13)، و الكفّ عن البغيّ ، و الإعظام للقتل، و الإنصاف (14) للخلق، و الكظم للغيظ (15)، و اجتناب الفساد في الأرض. و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (16) بسوء الأفعال، و ذميم (17) الأعمال. فتذكّروا في الخير و الشّرّ أحوالهم، و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

فإذا تفكّرتم في تفاوت (18) حاليهم، فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم، و زاحت (19) الأعداء له عنهم، و مدّت (20) العافية به عليهم، و انقادت (21) النّعمة له معهم، و وصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة، و اللّزوم للألفة (22)، و التّحاض (23) عليها، و التّواصي بها، و اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم (24)، و أوهن (25) منّتهم (26)، من تضاغن (27) القلوب، و تشاحن (28) الصّدور، و تدابر (29) النّفوس، و تخاذل (30) الأيدي. و تدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال التّمحيص (31) و البلاء. ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء (32)، و أجهد (33) العباد بلاء، و أضيق أهل الدّنيا حالا. اتّخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم (34) سوء العذاب، و جرّعوهم (35) المرار (36)، فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلكة و قهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، و لا سبيلا إلى دفاع. حتّى إذا رأى اللّٰه سبحانه جدّ (37) الصّبر منهم على الأذى (38) في محبّته، و الاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضايق (39) البلاء فرجا، فأبدلهم العزّ مكان الذّلّ ، و الأمن مكان الخوف، فصاروا ملكوا حكّاما، و أئمّة أعلاما، و قد بلغت الكرامة من اللّٰه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم.

ص: 323

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء (40) مجتمعة، و الأهواء مؤتلفة (41)، و القلوب معتدلة، و الأيدي مترادفة (42)، و السّيوف متناصرة، و البصائر (43) نافذة (44)، و العزائم واحدة. ألم يكونوا أربابا (45) في أقطار الأرضين، و ملوكا على رقاب العالمين! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، و تشتّتت الألفة، و اختلفت الكلمة و الأفئدة، و تشعّبوا (46) مختلفين، و تفرّقوا متحاربين، قد خلع اللّٰه عنهم لباس كرامته، و سلبهم غضارة نعمته (47)، و بقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين.

اللغة

1 - المترف: المتنعّم، الموسع له في النعم يتمتع بما يشاء من الملذات و أترفه المال أفسده.

2 - الخصال: جمع خصلة الخلة فضيلة كانت أم رذيلة.

3 - المجداء: جمع مجيد هو الرفيع العالي و الكريم الشريف الفعال.

4 - النجداء: جمع نجيد الشجاع الماضي فيما يعجز غيره.

5 - البيوتات: جمع الجمع لبيوت و هو جمع بيت، المسكن.

6 - يعاسيب: جمع يعسوب و هو في الأصل ذكر النحل و أميرها و هنا يراد بهم الرؤساء.

7 - الرغيبة: المرغوبة المرضية.

8 - الأحلام: العقول.

9 - الأخطار: جمع خطر بالتحريك المنزلة و القدر.

10 - الجوار: بكسر الجيم المجاورة أن تعطي الرجل ذمة فيكون بها جارك فتجيره فلا يظلم.

11 - الذمام: العهد.

12 - البر: العطية، و الصدق، الصلاح.

13 - الفضل: الإحسان أو الابتداء به بلا علة له.

14 - الإنصاف: العدل.

15 - كظم الغيظ: حبس الغضب و رده.

ص: 324

16 - المثلات: العقوبات.

17 - الذميم: ضد الممدوح.

18 - تفاوت: اختلاف.

19 - زاحت: بعدت.

20 - مدت: انبسطت.

21 - انقادت: أطاعت.

22 - الإلفة: الصداقة و المؤانسة.

23 - حضّه: حثه و التحاض التحاث، الحث من الطرفين.

24 - الفقرة: بكسر الفاء الواحدة من خرزات الظهر.

25 - أوهن: أضعف.

26 - المنة: بالضم القوة.

27 - الضغن: الحقد و التضاغن التحاقد.

28 - التشاحن: التعادي.

29 - التدابر: التقاطع.

30 - التخاذل: عدم التناصر.

31 - التمحيص: الابتلاء و الاختبار.

32 - الأعباء: الأثقال.

33 - أجهد: أشق.

34 - ساموهم: كلّفوهم.

35 - جرعوهم: من جرع الماء إذا ابتلعه مرّة تجرع الماء شربه شيئا فشيئا.

36 - المرار: بالضم شجر مرّ إذا أكلت منه الإبل قلصت مشافرها.

37 - الجد: بالكسر، الاجتهاد، ضد الهزل.

38 - الأذى: الضرر و قيل اليسير منه.

39 - المضايق: جمع مضيق ما ضاق من الأماكن و الأمور أي لم يتسع.

40 - الإملاء: جمع ملأ الجماعة و القوم.

41 - مؤتلفة: متفقة.

42 - مترادفة: متعاونة.

43 - البصائر: جمع بصيرة العقل، الفطنة.

44 - نافذة: ماضية و قاضية.

45 - أربابا: سادات.

46 - تشعبوا: تفرّقوا.

47 - غضارة النعمة: سعتها و طيبها.

ص: 325

الشرح

(و أما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين») المترفون قوم أعطاهم اللّٰه من فضله فبدل أن يشكروا النعمة كفروها و أفسدوها و خرجوا عن حدود اللّٰه، و لم نجد مترفا يلتفت إلى اللّٰه إلا بمقدار ما يخدمه و يوفر له من منافع، فهؤلاء نظروا إلى المال و الأولاد و هي مواقع النعم فتركت هذه في نفوسهم آثارا سيئة قبيحة و هي البطر و الغنى و الخروج عن المرسوم فراحوا يتعالون على الناس و يقولون: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين» نحن أكثر أموالا و أولادا لكرامتنا عند اللّٰه و قربنا منه و هو لن يعذبنا أبدا... لقد راحوا يرسمون لأنفسهم بأنفسهم طرق النجاة و يذهبون إلى أن مجرد وجود الأموال بأيديهم أو الأولاد عندهم هو كرامة لهم و لم ينظروا إلى أن الكرامة هي أن تقع الأموال موقعها... و الأولاد أن تربيهم و تؤدبهم و تهذبهم و تحملهم على طاعة اللّٰه... إنهم أغبياء في دعواهم...

و أغبياء فيما يكون خلفها و ما تتركه عليهم من آثار سيئة...

(فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النجداء من بيوتات العرب و يعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة و الأخطار الجليلة و الآثار المحمودة) بعد أن نهاهم عن العصبية البغيضة المحرمة التي لا مبرر لها كاللون و الجنس أراد أن يفتح لهم بابا يتعصبون له و هو محمود مقبول بل مطلوب فأشار عليهم أنهم إذا أرادوا أن يتعصبوا فليتعصبوا لمكارم الأخلاق كالوفاء بالعهد و حسن الجوار و لمحامد الأفعال كالكرم و الإحسان و البر و محاسن الأمور كالعدل و رفع الضيم و الإيمان فإن هذه الأمور هي التي كان يتنافس فيها أهل المجد و الشرف و أهل الفروسية و الشجاعة من البيوت العريقة و الرؤساء الذين تولوا أمور الرعية و قادوها إلى الخير.

إنهم كانوا يتسابقون في الأخلاق الطيبة المرغوبة كالإباء و الشمم و العفو و الصفح و الكرم و العقول الراجحة التي كانوا يسيّرون بها رعيتهم فكان الرئيس هو العقل المدبر المصالح قبيلته، كما كانت لهم أقدار جليلة يحفظونها أي مقامات عالية و كذلك كانت لهم آثار محمودة خلدتهم كالوفاء للسمؤول و الكرم لحاتم و البيان لسحبان و هكذا دواليك فإذا كان لا بد من تعصب لشيء فليتعصب الإنسان لهذه الخصال الكريمة...

(فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام و الطاعة للبر و المعصية للكبر و الأخذ بالفضل و الكف عن البغي و الإعظام للقتل و الإنصاف للخلق و الكظم للغيظ

ص: 326

و اجتناب الفساد في الأرض) بعد أن أعطاهم القاعدة الكلية للعصبية المطلوبة و المرغوبة أخذ في سرد بعض تلك المفردات المحببة و أن من أراد التعصب فليتعصب لهذه المصاديق و هي:

1 - حفظ الجوار: بأن يكون الجار حافظا لجاره يأبى و يرفض أذيته أو إلحاق الضرر به، و من أراد به سوءا دفعه عنه و قاتل معه...

2 - الوفاء بالذمام: إذا أعطى عهدا قام به و وفى بمضمونه مهما كانت الصعوبات بل من أجله يبذل كل عزيز و قد كان السمؤول مضرب المثل في هذا المضمار.

3 - الطاعة للبر: أن يكون متعصبا لأعمال الخير و الصلاح و يخدم كل من يفعل شيئا منه و يدافع عنه...

4 - المعصية للكبر: أن يتعصب ضد التكبر فيحارب المتكبرين كما يحارب الكبر في قلبه.

5 - الأخذ بالفضل: أن يتعصب الإنسان للخير ابتداء بأن يكون كريما عن سجية.

6 - الكف عن البغي: أن يكون محافظا على رفع الظلم و إقامة العدل و من تعصب لذلك كان محمودا.

7 - الإعظام للقتل: أن يرى القتل أمرا عظيما لا يجيزه و لا يسمح به بل يحارب القتلة و المجرمين و من تعصب لذلك كان تعصبه محمودا و عليه مشكورا.

8 - الإنصاف للخلق: أن يعدل معهم و ينصف بينهم و بين نفسه و فيما بين بعضهم البعض كما قال النبي (صلی الله علیه و آله) : «سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك و مواساة الأخ في اللّٰه و ذكر اللّٰه على كل حال».

9 - الكظم للغيظ: بأن يتعصب لهذه الخلة الكريمة التي ترادف الحلم و الصبر على الأذى.

فقد قال أبو عبد الله عليه السلام: ما من عبد كظم الغيظ إلا زاده اللّٰه عز و جل عزا في الدنيا و الآخرة.

10 - اجتناب الفساد في الأرض: أن يبتعد عما يضر بالمجتمع على كل المستويات فالفساد في الأرض كالتجسس و إشاعة الفوضى و سلب الأموال و الاعتداء على الأعراض و هكذا فإن من اجتنب ذلك كان من أهل الجنة كما قال تعالى: «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ »

ص: 327

«نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » .

(و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال و ذميم الأعمال فتذكروا في الخير و الشر أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم) لما أمرهم بالأخذ بمكارم الخصال حذّرهم قبائح الأفعال و الخلال و نفرّهم عنها بذكر من عمل بها من الأمم السابقة فأنزل اللّٰه بهم العقوبات لقبائح هذه الأفعال و معايب هذه الأعمال...

ثم أمرهم أن ينظروا كلتا حالتيهم في الخير و الشر و يتذكروهما معا ليعتبروا و يتعظوا و حذرهم أن يكونوا مثلهم من حيث أخذوا حالة الشر فأخذهم اللّٰه بذنوبهم فأبادهم و قضى عليهم...

(فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم و زاحت الأعداء له عنهم و مدت العافية به عليهم و انقادت النعمة له معهم و وصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة و اللزوم للألفة و التحاض عليها و التواصي بها) إذا نظرتم و بحثتم في حالتي من تقدمكم: في حالة الخير و حالة الشر و كيف أنهم في حالة الخير استطاعوا تحقيق عزتهم و كرامتهم و كيف أنهم في حالة الشر سقطوا و فقدوا وجودهم، إذا رأيتم الحالتين و وجدتم التفاوت و الاختلاف بينهما فانظروا إلى كل أمر أوجب عزتهم و منعتهم و قوتهم فالزموه و اقبلوا به و اعملوا بمضمونه و عضوا عليه بالنواجذ... انظروا إلى كل أمر انهزمت أعداؤهم منهم به فأقبلوا عليه...

و انظروا إلى كل أمر دفعوا به الأعداء و كفوا الأذى عنهم فاعملوا به و كذلك كل أمر ينزل عليهم نعم اللّٰه فاقبلوه و اعملوا به...

انظروا إلى كل أمر جعل اللّٰه لهم فيه كرامتهم و اجتماع شملهم و وحدة كلمتهم فاعملوا به...

ثم بعد ذكر هذه الأمور ذكر الأمور التي بها عزهم و سؤددهم و رفاهيتهم و سلطتهم.

إنه الاجتناب للفرقة: أن يتركوا الفرقة فيما بينهم و يهجروها فإنها أقوى الأسلحة و أمضاها و أعظمها و أشدها فما اجتمعت أمة إلا و حققت لنفسها النصر و العزة قال تعالى:

«وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً وَ لاٰ تَفَرَّقُوا» دعوة إلهية للوحدة و نبذ الفرقة.

كما أمرهم أن يحضّ بعضهم بعضا على الألفة و يدفع بعضهم بعضا للتواصي بها بأن يوصي بعضهم بعضا بالألفة و الاجتماع و عدم الفرقة...

(و اجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم و أوهن منتهم من تضاغن القلوب و تشاحن الصدور

ص: 328

و تدابر النفوس و تخاذل الأيدي) بعد أن أمرهم بالألفة أراد أن ينهاهم عن الفرقة و عواملها و ما يسببها فقال لهم: اجتنبوا و ابتعدوا عن كل أمر يهزمكم و يكسر وجودكم و يقضي عليكم... كل أمر يوهنكم و يحطمكم فاجتنبوا عنه و ذكر بعض المفردات الموجبة لذلك و أهمها الأحقاد التي تعيش في الصدور و القلوب فإنها تشتت الجمع و توزع الأهل فمن عاش الحقد عاش الشر و سار في طريق الفرقة.

و كذلك من يقف من أخيه موقف العداء فإن هذه النفوس إذا تعادت افترقت و تمزقت.

و كذلك عدم تكاتف الأيدي بل إذا تخاذلت الأيدي عن نصرة بعضها البعض سقطت و ماتت و سهل القضاء عليها و أي مجتمع يعيش التفكك و الانحلال لا يكتب له النجاح و لا النصر...

(و تدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص و البلاء. ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء و أجهد العباد بلاء و أضيق أهل الدنيا حالا) انظروا في أحوال من مضى من المؤمنين قبلكم و كيف كانت أحوالهم مع طغاة عصرهم و فراعنة مصرهم، لقد كانوا في أصعب حالات الابتلاء و الاختبار و أشدها عسرا و صعوبة.

ألم يكونوا يحملون أثقل الأحمال و هو حمل مناصرة الحق و الدفاع عنه و عن الأنبياء و هو حمل ثقيل يواجهون به الطواغيت و الحكام الظلمة و كانوا مع ذلك ضعفاء لا يملكون قوة و لا سلطانا و كانوا في شدة شديدة و بلاء...

(اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب و جرعوهم المرار فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة و قهر الغلبة لا يجدون حيلة في امتناع و لا سبيلا إلى دفاع) و هذه واحدة من شدة الابتلاء و سوء الحال حيث اتخذتهم الفراعنة و هم الحكام و الطغاة عبيدا لهم يمارسون عليهم سوء العذاب و يسقونهم المرارات و هي أنواع البلاء و أصنافه و فنونه كما قال تعالى في مقام المنة عليهم: «وَ إِذْ نَجَّيْنٰاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسٰاءَكُمْ وَ فِي ذٰلِكُمْ بَلاٰءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ » .

و هكذا استمرت حالهم في ذل و قهر و غلبة يحاولون في كل مرة أن يتخلصوا و لكنهم يعجزون و كلما أرادوا الدفاع عن أنفسهم و الخروج من الضيق و العذاب الذي يعيشونه فلا يستطيعون و لا يقدرون و لكنهم كانوا يحاولون التخلص و يعملون له و بقوا على ذلك إلى أن جاءهم نصر من اللّٰه...

(حتى إذا رأى اللّٰه سبحانه جد الصبر منهم على الأذى في محبته و الاحتمال للمكروه

ص: 329

من خوفه جعل لهم من مضايق البلاء فرجا فأبدلهم العز مكان الذل و الأمن مكان الخوف فصاروا ملوكا حكاما و أئمة أعلاما و قد بلغت الكرامة من اللّٰه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم) بقي المستضعفون تحت حكم الجبابرة و الطواغيت و لكنهم كانوا يتمردون على حكمهم و يثورون في وجوههم و بقوا كذلك حتى علم اللّٰه صدق إيمانهم و صبرهم على الأذى في جنبه و من أجله و في محبته و وقف سبحانه على أنهم يتحملون مكروه الدنيا خوفا من مكروه الآخرة فجعل لهم من هذه الأزمات و المضايق فرجا فتدخل سبحانه لإنقاذهم و إخراجهم من أيدي الظالمين فتبدلت أحوالهم و تغير شأنهم فأبدلهم اللّٰه العز مكان الذل القديم و الأمن و الاطمئنان مكان الخوف القديم فصاروا ملوكا حكاما بعد كونهم عبيدا مملوكين و جعلهم اللّٰه أيضا أئمة يقتدي بهم الناس لعظمتهم بعد أن كانوا تابعين، فآمالهم التي كانوا يأملونها لم تبلغ بهم الحقيقة التي وصلوا إليها الآن، بل الحقيقة أكبر مما كانوا يأملون و كذلك قال تعالى: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ » .

(فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة و الأهواء مؤتلفة و القلوب معتدلة و الأيدي مترادفة و السيوف متناصرة و البصائر نافذة و العزائم واحدة) لفت أنظار المخاطبين و حثهم أن ينظروا كيف حقق الضعفاء أعلى المنازل و أسمى المراتب ؟ كيف حطموا القيود و فتحوا السدود... كيف صاروا حكاما و قادة ؟ لقد حققوا كل ذلك عند ما كان الزعماء و الوجهاء و أهل الحل و العقد على اتفاق كلمة و وحدة هدف... عند ما كانت أهواء الجميع متفقة مؤتلفة كلها تريد اللّٰه و ترغب فيما عنده و تريد تحطيم الطاغوت و رفع مظالمه...

عند ما كانت القلوب معتدلة في طريق الخير تتوجه إلى اللّٰه بدون ظلم و الأيدي كلها متعاونة يسند بعضها البعض و يعين بعضها البعض.

عند ما كانت السيوف متناصرة تشهر كلها نحو رفع الظلم و الاضطاد.

عند ما كانت العقول و الفطن واعية تعرف كيف تتحرك و من أجل أي هدف تتحرك.

عند ما كانت أحوالهم بهذا الشكل المتقدم كان النصر لهم و تولوا إسقاط الطواغيت و جلسوا على كراسي الحكم و بلغوا درجة الإمامة و مرتبة القيادة...

(ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين و ملوكا على رقاب العالمين) إنهم بذلك الجهاد و باجتماعهم و وحدة كلمتهم تربعوا على كراسي الحكم و حكموا العباد و البلاد.

(فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة و تشتتت الألفة

ص: 330

و اختلفت الكلمة و الأفئدة و تشعبوا مختلفين و تفرقوا متحاربين قد خلع اللّٰه عنهم لباس كرامته و سلبهم غضارة نعمته و بقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين) أراد أن ينبههم عليه السلام إلى خطر الفرقة و تشتت الكلمة فضرب لهم مثلا أولئك الذين تقدموا كيف انتصروا بوحدة كلمتهم و اجتماعهم و تعاونهم حتى بلغوا مرتبة القيادة و أصبحوا حكاما و كيف أنهم بعد تلك المرتبة العالية تهاووا و سقطوا و زال الملك عنهم و عادوا سوقة بل مضطهدين مشتتين موزعين...

إنهم في آخر أمورهم بلغوا الحضيض و تجرعوا الذل... إنهم افترقوا و تمزقوا و اختلفت كلمتهم و قلوبهم و راح كل فريق يتناحر مع الفريق الآخر بل سلت السيوف فيما بينهم و وقعت الحرب على رؤوسهم و عندها نزع اللّٰه عنهم ما كان ألبسهم إياه من الحكم و القيادة و العزة و المنعة و سلبهم تلك النعمة العظيمة الكريمة و أبدلهم بها خشونة العيش و قساوته و لم يبق منهم إلا قصصهم تروى لكم للعبرة و العظة حتى تجتنبوا موارد الفرقة و عوامل الفساد التي حلت بهم... إنهم عبرة و درس يستفيد منها العاقل اللبيب...

الاعتبار بالأمم

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السّلام. فما أشدّ اعتدال (1) الأحوال، و أقرب اشتباه (2) الأمثال!.

تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم، ليالي كانت الأكاسرة (3) و القياصرة (4) أربابا لهم، يحتازونهم (5) عن ريف (6) الآفاق (7)، و بحر العراق (8)، و خضرة الدّنيا، إلى منابت الشّيح (9)، و مهافي (10) الرّيح، و نكد (11) المعاش، فتركوهم عالة (12) مساكين إخوان دبر (13) و وبر (14)، أذلّ الأمم دارا، و أجدبهم (15) قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، و لا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها. فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة،

ص: 331

و الكثرة متفرّقة، في بلاء أزل (16)، و أطباق (17) جهل! من بنات موؤودة (18)، و أصنام (19) معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة (20).

النعمة برسول اللّٰه

اشارة

فانظروا إلى مواقع نعم اللّٰه عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته (21) طاعتهم، و جمع على دعوته ألفتهم: كيف نشرت (22) النّعمة عليهم جناح كرامتها، و أسالت لهم جداول (23) نعيمها، و التفّت الملّة بهم في عوائد (24) بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين (25)، و في خضرة عيشها فكهين (26). قد تربّعت (27) الأمور بهم، في ظلّ سلطان قاهر، و آوتهم (28) الحال إلى كنف (29) عزّ غالب، و تعطّفت (30) الأمور عليهم في ذرى (31) ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين، و ملوك في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام (32) فيمن كان يمضيها فيهم! لا تغمز (33) لهم قناة (34)، و لا تقرع لهم صفاة (35)!.

اللغة

1 - الاعتدال: التناسب.

2 - الاشتباه: التشابه.

3 - الأكاسرة: جمع كسرى لقب ملك الفرس.

4 - القياصرة: جمع قيصر لقب ملك الروم.

5 - يحتازونهم: يقبضونهم.

6 - الريف: بكسر الراء أرض فيها زرع و خصب و ماء.

7 - الآفاق: جمع أفق الناحية.

8 - بحر العراق: دجلة و الفرات.

9 - الشيح: بالكسر نوع من النبات معروف.

10 - مهافي: الريح المواضع التي تهب فيها.

ص: 332

11 - نكد المعاش: ضيقه و قلته.

12 - عالة: جمع عائل و هو ذو العيلة أي الفقر.

13 - الدبر: بفتح الباء الجرح في ظهر البعير.

14 - الوبر: شعر الجمال.

15 - أجدبهم: من الجدب و هو القحط.

16 - الأزل: الشدة و الضيق.

17 - أطباق: مفرده طبق، الغطاء و الدهر أطباق أي أحوال تختلف...

18 - الموءودة: البنت تدفن في التراب و هي حيّة.

19 - أصنام: جمع صنم ما يعبده الوثنيون من صوره أو تمثال/كل ما عبد من دون اللّٰه.

20 - شن الغارات: فرقها و وجهها من كل جانب.

21 - الملة: الشريعة، الدين، الطريقة.

22 - نشرت: بسطت و نشر الخبر أذاعه و الشيء فرّقه.

23 - جداول: مفردها جدول. نهر صغير.

24 - العوائد: ما يعود على الناس بالخيرات و النعم.

25 - غرق: في الماء غار فيه و رسب.

26 - فكهين: راضين.

27 - تربّعت: أقامت.

28 - آوتهم: من آوى إلى البيت إذا نزل فيه.

29 - الكنف: الجانب و كنف الإنسان حضنه.

30 - تعطّفت: عليه إذا أشفق عليه و التفت إليه بإحسانه.

31 - الذرى: جمع ذروة و هو أعلى كل شيء.

32 - أمضى الحكم: أنفذه، أجازه.

33 - الغمز: العصر و الكبس باليد.

34 - القناة: الرمح.

35 - الصفاة: الحجر الأملس الصلد و قرعها هو صدمها لتكسر.

الشرح

(فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السلام فما أشد اعتدال الأحوال و أقرب اشتباه الأمثال) خذوا العظة و العبرة و الدروس المفيدة النافعة من

ص: 333

ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل أولاد الخليل إبراهيم فإن أحوالكم تعادل أحوالهم و أنتم أقرب إليهم شبها و مثلا فإنهم كانوا مجتمعين متفقين في أول أمرهم ثم أصابهم التشتت و التفرق و أشار إلى وجه العبرة بقوله عليه السلام:

(تأملوا أمرهم في حال تشتتهم و تفرقهم ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق و بحر العراق و خضرة الدنيا إلى منابت الشيح و مهافي الريح و نكد المعاش) انظروا في أمرهم و ما صاروا إليه عند ما توزعوا و تفرقوا و لم تجتمع كلمتهم أو تتوحد صفوفهم، لقد صارت أكاسرة الفرس و قياصرة الروم هي المالكة لأمورهم و المتصرفة في شئونهم يمارسون عليهم الحرمان و يمنعونهم حقوقهم إنهم يدفعونهم عن منافعهم و ما يوفر لهم طيب العيش و رغد الحياة.. و يمنعونهم عن خصب الأرض و خضرتها و عن الاستفادة من ماء العراق الذي يحوياه دجلة و الفرات و عن لذة الدنيا و طيباتها... إنهم أضحوا يدفعونهم إلى الصحراء القاحلة التي ليس فيها إلا الشيح الذي لا تأكله إلا الحيوانات و حيث الريح التي تهب فتلفح الوجوه بقساوتها... إنها الصحراء بضيقها و بخلها و قلة عطائها قد قذفوهم إليها...

(فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر أذل الأمم دارا و أجدبهم قرارا لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها و لا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها) تركوهم دارويش مساكين لا يملكون شيئا من الدنيا... إنهم في ضيق عيش شديد ليس لهم إلا جمال مقروحة مهزولة يتعيشون بها و بوبرها و هي حالة البائسين الذين لا يملكون النعم السمينة...

و وصف دارهم بأنها أذل دار الأمم حيث كانت تتناوشهم الأمم المجاورة لهم و تقصد غزوهم و تشن عليهم الحروب.

كما أن هذه الدار جرداء قاحلة جدباء ليس فيها إلا بعض الأعشاب التي تجود بها هذه الصحراء إن جاءت عليها السماء بقطرها و مطرها.

ثم بيّن أنهم ليس لهم دعوة إذا دعوا بها اعتزوا و انتصروا و قدروا بها على الامتناع من الشر و الإثم كما أنهم لا يملكون الوحدة الجامعة التي يعتمدون عليها في مواجهة الغزاة و المحتلين و من يقصدهم بشر، ليس لهم هذه الوحدة التي يعتزون بها و يستريحون إلى ظلها.

(فالأحوال مضطربة و الأيدي مختلفة و الكثرة متفرقة في بلاء أزل و أطباق جهل من بنات موؤودة و أصنام معبودة و أرحام مقطوعة و غارات مشنونة) هذا بيان لحالهم يومذاك و كونهم على غير نظام فشئونهم مضطربة لا استقرار فيها و لا ثبات لم يجتمعوا على رأي

ص: 334

واحد و لم يتفقوا على قضية و هم بعد ذلك على كثرتهم متفرقون متشتتون في بلاء شديد و ضيق مع جهل متراكم مركب عميق أو جهل عام في كل الجهات و على كل المستويات...

ثم فصّل بعض ذلك فأشار إلى عادات قبيحة سيئة أولها: بنات موؤدة: حيث كان العرب - أو بعضهم على الأقل - يدفنون بناتهم و هن أحياء خوف العار قال تعالى ذاما لهم: «وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ » فهي تقتل بدون ذنب و كانوا يفتخرون و يقولون «نعم الصهر القبر»...

و ثانيها: و أصنام معبودة: فقد كان العرب عموما يعبدون الأصنام و من أصنامهم اللات و العزة و مناة و غيرها...

و ثالثها: و أرحام مقطوعة: فلا صلة بين القرابة.. انقطعت صلة الأخ باخيه و الأب بابنه و هكذا...

و رابعها: و غارات مشنونة: أي غارات مصبوبة موزعة من كل الجهات و قد كانت الغارات تشن للسلب و النهب و القتل، و قد كان العرب يشنونها ليثبتوا قوتهم و يجعلوا في قلوب الآخرين هيبة لهم و خوفا منهم.

(فانظروا إلى مواقع نعم اللّٰه عليهم حين بعث إليهم رسولا فعقد بملته طاعتهم و جمع على دعوته الفتهم: كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها و أسالت لهم جداول نعيمها و التفّت الملة بهم في عوائد بركتها فاصبحوا في نعمتها غرقين و في خضرة عيشها فكهين) بعد أن ذكر سابقا سوء أحوالهم و ما كانوا فيه من ضيق و بلاء و جهل و عناء ذكر هنا نعمة الإسلام و كيف تغيرت الأحوال ببركة النبي و بعثته...

فانظروا بقلوبكم و فكروا بعقولكم إلى ما كنتم عليه من حيث كل أمرء منكم كان يعبد هواه و يتبع مشتهاه في فرفة و اختلاف لا يجمعه مع أخيه الإنسان جامع و لا يوحده موحّد فأنعم اللّٰه عليكم ببعثة رسول اللّٰه فجعلكم في طاعة الدين و الشريعة يدا واحدة و ألفّ بينكم بدعوته المباركة فاصبحتم بنعمته إخوانا لقد و حدّ الإسلام ما كان متفرقا و جمع ما كان متشتتا و هذه أعظم النعم التي أنعم اللّٰه بها على هذا الإنسان...

ثم أشار إلى تفصيل تلك النعم في ذكر بعض مصاديقها فأولها: أن النعمة نشرت عليهم جناح كرامتها و أسالت لكم جداول نعيمها...

الإسلام أعظم نعمة أنعم اللّٰه بها على المسلمين و قد نشر الإسلام ظله على رءوس

ص: 335

المسلمين و انتشر في قلوبهم فجعلهم أعزة أقوياء «وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ » ببركة الإسلام فتحت الدنيا على المسلم و قد تحول هذا الإنسان إلى مسلم له كرامته و عزته و انفتحت له بلاد اللّٰه الواسعة بلاد فارس و بلاد الروم و جاءت الدنيا تحمل إليه كل خيراتها و عطائها و ما فيها.. إنها بركة الإسلام و الإيمان...

ثانيها: التفت الملة بهم في عوائد بركتها فاصبحوا في نعمتها غرقين و في خضرة عيشها فكهين.

فهذا الدين ببركاته و خيراته و منافعه قد جمعهم و وحدهم و التفت بكل ذلك حولهم و شملهم من جميع جوانبهم فأصبحوا بعد الحرمان و الشدة و ضيق الحال في بحبوحة من العيش و رغد و كرامة قد أحاطت بهم النعمة و شملتهم في سائر أمورهم المادية و المعنوية في نشوة من ذلك النعيم مسرورين فرحين...

(قد تربعت الأمور بهم في ظل سلطان قاهر) استقرت أمورهم فلا فوضى و لا اضطراب و لا خلل في أمر من أمور معاشهم أو معادهم في ظل السلطة الإسلامية القوية التي تردع العدو و ترد الضال و تهدي التائه.. فالأمور كلها مستقيمة معتدلة بهم في ظل الإسلام و حكمه.

(و آوتهم الحال إلى كنف عز غالب) أدخلتهم استقامة حالهم و انضباطهم و التزامهم الصحيح إلى حجر العز الذي لا يضام بل الغالب الذي لا يقهر و لا يرام...

(و تعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت فهم حكام على العالمين و ملوك في أطراف الأرضين يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم و يمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة) أقبلت الدنيا عليهم من كل جانب و جاءت إليهم حتى ألقت بزمامها بين أيديهم فجعلتهم ملوكا و حكاما ملكهم ثابت مستقر لا يضطرب و لا يتزلزل..

فهم حكام على جميع الناس و ملوك في كل الأرض، فهم حكام البلاد و العباد قد حطموا عروش الفرس و الروم و دخلوا أرض الدولتين و نفذوا الأحكام الإسلامية على أهلهما بعد أن كان كل منهما ينفذ حكمه عليهم...

إنهم بعد أن كانوا سوقة تجري عليهم أحكام غيرهم و أعرافهم أصبحوا ملوكا يجرون أحكام الإسلام على غيرهم...

ثم أشار إلى عزتهم و قوتهم.. فهم أعزاء لا يقترب من ساحتهم أحد و لا يطمع في

ص: 336

جانبهم قوي و قالوا: أن قوله عليه السلام: لا تغمز لهم قناة كناية عن العزيز الذي لا يضام و قوله: لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته و قوته...

لوم العصاة

اشارة

ألا و إنّكم قد نفضتم (1) أيديكم من حبل الطّاعة، و ثلمتم (2) حصن (3) اللّٰه المضروب عليكم، بأحكام الجاهليّة. فإنّ اللّٰه سبحانه قد امتن (4) على جماعة هذه الأمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة الّتي ينتقلون في ظلّها، و يأوون (5) إلى كنفها (6)، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنّها أرجح (7) من كلّ ثمن، و أجلّ (8) من كلّ خطر (9).

و اعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا (10)، و بعد الموالاة (11) أحزابا. ما تتعلّقون (12) من الإسلام إلاّ باسمه، و لا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه.

تقولون: النّار و لا العار! كأنّكم تريدون أن تكفئوا (13) الإسلام على وجهه انتهاكا (14) لحريمه، و نقضا (15) لميثاقه الّذي وضعه اللّٰه لكم حرما في أرضه، و أمنا بين خلقه. و إنّكم إن لجأتم (16) إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثمّ لا جبرائيل و لا ميكائيل و لا مهاجرون و لا أنصار ينصرونكم إلاّ المقارعة (17) بالسّيف حتّى يحكم اللّٰه بينكم.

و إنّ عندكم الأمثال من بأس اللّٰه و قوارعه، و أيّامه و وقائعه (18)، فلا تستبطئوا (19) وعيده (20) جهلا بأخذه، و تهاونا (21) ببطشه (22)، و يأسا (23) من

ص: 337

بأسه. فإنّ اللّٰه سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر. فلعن اللّٰه السّفهاء لركوب المعاصي و الحلماء لترك التّناهي!.

ألا و قد قطعتم قيد الإسلام، و عطّلتم حدوده، و أمتّم أحكامه. ألا و قد أمرني اللّٰه بقتال أهل البغي (24) و النّكث (25) و الفساد في الأرض، فأمّا النّاكثون فقد قاتلت، و أمّا القاسطون (26) فقد جاهدت، و أمّا المارقة (27) فقد دوّخت (28)، و أمّا شيطان الرّدهة (29) فقد كفيته بصعقة (30) سمعت لها وجبة (31) قلبه و رجّة (32) صدره، و بقيت بقيّة من أهل البغي. و لئن أذن اللّٰه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم إلاّ ما يشتذّر (33) في أطراف البلاد تشذّرا!.

اللغة

1 - نفض يده من الأمر: تركه و هجره.

2 - ثلمتم: خرقتم.

3 - الحصن: المكان المحمي المنيع.

4 - امتن عليه بكذا: أنعم عليه به.

5 - يأوون: يلجئون.

6 - الكنف: الجانب و الناحية.

7 - أرجح: من رجح الميزان إذا مال و الرأي غلب على غيره.

8 - أجل: أعظم.

9 - الخطر: المنزلة و القدر، الشيء الذي يتراهن عليه.

10 - الأعراب: سكان البادية الذين لم يتفقهوا و لم يتعلموا.

11 - الموالاة: المحبة.

12 - تعلّق بالشيء: تمسك به.

13 - أكفأت الإناء و كفأته قلبته لوجهه، كببته.

14 - انتهاك الحرمة: أخذها بما لا يحلّ .

15 - نقض: البناء هدمه و الحبل حله و العهد أو الأمر أفسده بعد إحكامه.

ص: 338

16 - لجأ: إلى الحصن لاذ إليه و اعتصم به.

17 - المقارعة: المضاربة.

18 - الوقائع: النوازل و وقائع العرب أيام حروبهم.

19 - تستبطئوا: تستأخروا.

20 - الوعيد: الوعد بالشر.

21 - التهاون: الاستخفاف، الاستهزاء و الاستحقار.

22 - البطش: الأخذ بالعنف و القوة.

23 - البأس: الشدة.

24 - البغي: الظلم.

25 - النكث: نقض العهد و الناكثون هم الذين بايعوا الإمام ثم نقضوا البيعة.

26 - القاسطون: الجائرون عن الحق.

27 - المارقة: الذين مرقوا من الدين أي خرجوا منه.

28 - دوّخهم: ذلّلهم و أضعفهم.

29 - الردهة: بالفتح الحفرة في الجبل يجتمع فيها الماء.

30 - صعق صعقا: غشي عليه.

31 - الوجبة: و زان تمرة اضطراب القلب.

32 - الرجة: الحركة و الزلزلة.

33 - تشذّر: تبدّد و تفرّق.

الشرح

(ألا و إنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة و ثلمتم حصن اللّٰه المضروب عليكم بأحكام الجاهلية فإن اللّٰه سبحانه قد امتن على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الإلفة التي ينتقلون في ظلها و يأوون إلى كنفها بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة لأنها أرجح من كل ثمن و أجل من كل خطر) هذا توبيخ لهم لقلة طاعتهم و أنهم قد طرحوا حبل الطاعة الذي كان يوصلهم باللّٰه فإن العبد يتصل باللّٰه عن طريق التزامه بخطه و طاعته لأمره فإذا لم يفعل ذلك و عصاه فقد قطع هذا الحبل و بتر هذا الوصل و قد عبّر بالنفض دون الترك لما في النفض من معنى الشدة في الطرح و الإعراض و كذلك خرقوا السور المضروب عليهم و الحافظ لوجودهم و هو الإسلام فإنّهم قد خرقوا أحكامه و أبطلوها و لم يعملوا بها و استبدلوها بأحكام الجاهلية و عاداتها...

ثم بعد أن وبّخهم على الفرقة و التمرد و العصيان رغّبهم في الألفة و ذكّرهم بهذه

ص: 339

النعمة فإنه سبحانه قد امتن على هذه الأمة الإسلامية بهذه الألفة التي هي رابطة الوصل و حبل الجمع و قد جمع الإسلام المسلمين و وحد كلمتهم على طاعته فهم في بحره يسبحون و تحت لوائه يجتمعون إنه سبحانه و تعالى قد امتن عليهم بقوله تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مٰا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ » و قوله تعالى:

«وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوٰاناً» فإن هذه الألفة أرجح من كل شيء يبذل في مقابلها و أجلّ من كل شيء رفيع و شريف لأن بهذه الألفة يتحقق كل عز و شرف و مقام رفيع...

(و اعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا و بعد الموالاة أحزابا ما تتعلقون من الإسلام إلا باسمه و لا تعرفون من الإيمان إلا رسمه) و هذا توبيخ لهم و لما صاروا إليه...

إنه ذم و إهانة أن يعودوا بعد الهجرة إلى رسول اللّٰه و التفقه على يديه و أخذ معالم الدين عنه أن يعودوا بعد هذه الهجرة أعرابا من أجلاف البادية و قساتها لا يتمسكون بدين و لا يتفقهون بأحكام سيد المرسلين و قد ذم اللّٰه الأعراب بقوله: «اَلْأَعْرٰابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفٰاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّٰ يَعْلَمُوا حُدُودَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ » .

و كذلك يعودون بعد الاتفاق فيما بينهم و التناصر و المحبة و الألفة يعودون فرقا و أشتاتا ما بين ناكث و قاسط و مارق و منافق... إنهم أحزاب و تجمعات «كُلُّ حِزْبٍ بِمٰا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » لا يعرفون من الإسلام إلا الاسم فهو عندهم شعار يرفعونه و أنشودة يرددونها دون أن يعرفوا المضمون... إنهم يكتفون من الإيمان بهذه اللفظة و ينسبونها لأنفسهم دون أن يكون لهم من مضمونها و حقيقتها أقل شيء...

(تقولون: النار و لا العار كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه و نقضا لميثاقه الذي وضعه اللّٰه لكم حرما في أرضه و أمنا بين خلقه) و هذه من جملة ما وبخهم به شعارهم «النار و لا العار» شعار جاهلي يقوله أهل الحمية و الأنفة الذين يريدون إثارة شعور قبائلهم و استنهاضهم على القتال و قد شبههم في حالهم و قولهم ذلك بمن يقصد أن يقلب الإسلام على وجهه و يبطل أحكامه فهم في فعلهم يتحدّون مع الكفار الذين يريدون أن يبطلوا أحكام الإسلام و يفسدوه و يصبح كالإناء الذي إذا انقلب فسد ما فيه و بطل الانتفاع فيه. إنه تجاوز للمرسوم و تعد على ما لا يجوز التعدي عليه... إنه خروج عن العهود التي أعطيتموها للّٰه و لرسوله في حفظ الإسلام الذي وضعه اللّٰه لكم يحفظ وجودكم و لا يتعدى أحد على أحد من الناس فهو الأمان و به الأمان من كل ظلم و عدوان...

(و إنكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ثم لا جبرائيل و لا ميكائيل و لا

ص: 340

مهاجرون و لا أنصار ينصرونكم إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم اللّٰه بينكم) و هذا تحذير و تخويف لهم أنهم إن تركوا الإسلام و عادوا إلى غيره من عادات الجاهلية و تقاليدها كالحمية الجاهلية و العصبية العشائرية عندها يحاربكم أهل البغي و الانحراف و يطمعون فيكم لانحرافكم و ليس عندكم أحد يعينكم كما كان يعين الأولين من آبائكم حيث كان يعينهم جبرئيل و ميكائيل و كان ينصرهم المهاجرون و الأنصار أصحاب النخوة و الدين و ليس لكم أي مدد أو معين إلا أن تتجالدوا معهم و تتضاربوا بالسيوف و اللّٰه يحكم بينهم و بينكم و النصر يدور عندها بينكما و لا يعرف لمن و ذلك لتساويهما في البعد عن اللّٰه فإذا تساويا بالنسبة إلى اللّٰه كان النصر مع الفئة المستكملة لعوامل النصر و عناصره و إن لم تكن مؤمنة...

(و إن عندكم الأمثال من بأس اللّٰه و قوارعه و أيامه و وقائعه فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه و تهاونا ببطشه و يأسا من بأسه) هذا تذكير لهم بما أصاب الأمم السابقة و كيف أخذهم اللّٰه عند ما تمردوا على إرادته و عصوه في أوامره...

إنّ لكم فيما مضى من الأمم التي عصت عبرة و عظة فهؤلاء قوم عاد و ثمود و قوم فرعون و غيرهم انظروا كيف نزل بهم عذاب اللّٰه قال تعالى: «إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ اَلنّٰاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» .

و وقايع اللّٰه نوازله الشديدة و عقوباته الكبيرة...

ثم نهاهم أن يكون استبطاء أخذه لهم و تأخير عقوبتهم أن يكون ذلك موجبا لجهلهم بأخذه و أنه لا يأخذهم أو موجبا لتهاونهم بقوته و إهلاكه لهم أو يأسا من بأسه و شدته فالتأخير منه تبارك اسمه ليزدادوا إثما و هو اللّٰه الذي يمهل و لا يهمل...

(فإن اللّٰه سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فلعن اللّٰه السفهاء لركوب المعاصي و الحلماء لترك التناهي) لم يطرد اللّٰه من رحمته من مضى و تقدم إلا لأنهم تركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قال تعالى: «لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ كٰانُوا لاٰ يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ » ...

و بعد أن ذكر لعن اللّٰه للذين تقدموا في القرون الماضية توجه هو بالدعاء على السفهاء الذين لم يرعوا حق اللّٰه و اعتدوا على المحرمات و ارتكبوا المعاصي كما أنه لعن الحلماء الذين لم يرتكبوا المعصية و إنما تركوا النهي عنها و لم يقوموا بواجب زجر المعتدين الذين يقومون بفعل المحرمات و من هنا نعرف أن الجريمة ليست مختصة بمن

ص: 341

يرتكبها بل تشمل من يسمع بها ثم لا يأخذ على يد فاعلها و يمنعه عن ممارستها...

(ألا و قد قطعتم قيد الإسلام و عطلتم حدوده و أمتم أحكامه، ألا و قد أمرني اللّٰه بقتال أهل البغي و النكث و الفساد في الأرض) هذا بيان لارتكابهم المعصية و تجاوزهم الحق إلى الضلال، إنهم قد قطعوا قيد الألفة و المحبة التي تربط الجميع و توحد فيما بينهم كما أنهم عطّلوا حدود الإسلام و لم ينفّذوها و أماتوا أحكامه عند ما لم يعملوا بها و يقوموا بتطبيقها و تنفيذ ما أمر و ليس موت حكم إلا عدم العمل به و تنفيذه.

ثم بين حقيقة ما أخبره النبي و هو أنه قد أمره اللّٰه على لسان نبيه أنه سيقاتل أهل البغي الذين يخرجون على جماعة المسلمين و يريدون قتالهم و كذلك قتال أهل النكث الذين بايعوا ثم نقضوا بيعتهم له و خرجوا لمحاربته و ثالثا أهل الفساد في الأرض...

إنهم الذين ورد الخبر بقتالهم عند ما قال له النبي صلى اللّٰه عليه و آله: «يا علي ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين».

(فأما الناكثون فقد قاتلت، و أما القاسطون فقد جاهدت و أما المارقة فقد دوخت و أما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجة صدره و بقيت بقية من أهل البغي و لئن أذن اللّٰه في الكرة عليهم لأديلن منهم إلا ما يتشذر في أطراف البلاد تشذّرا) هذا تفصيل لما أجمله سابقا و أنه قد قاتل الناكثين الذين هم أصحاب الجمل و على رأسهم طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة فقد بايعوه ثم نقضوا بيعته و نكثوا بها و خرجوا لمحاربته فخرج إليهم في موقعة الجمل على أرض البصرة و قد انتصر عليهم و فرق شملهم و شتت جمعهم...

و أما القاسطون و هم العادلون عن الحق الرافضون لأمر اللّٰه و حكمه و هم معاوية و أصحابه فقد جاهدهم الإمام في موقعة صفين و كاد أن ينتصر عليهم لو لا أن ابن النابغة بحيلته قد أوقف الحرب و منع هزيمة معاوية و قد مر في طيات الشرح ذكر وقعة صفين و ما جرى فيها...

و أما المارقة فهم الخوارج الذين كانوا في صفوف جيشه ثم دخلت عليهم شبهة فخرجوا عليه و كفّروه و حاربوه فقتلهم و أذلهم...

و أما شيطان الردهة فقد قالوا: إن المراد به «ذو الثدية» رئيس الخوارج و إنما سمي بذلك لأنه ضال مضل و إضافته إلى الردهة لأن الإمام عند ما انجلت المعركة بينه و بين الخوارج في النهروان أمر أتباعه بطلبه بين القتلى فوجدوه في حفرة صغيرة قد سقط فيها ميتا و أما الصعقة التي كفت الإمام شر هذا الخبيث فقد قيل: إن الإمام لما قابل الخوارج

ص: 342

صاح بهم فكان ذو الثدية ممن هرب من صيحته حتى وجد قتيلا في الحفرة و قيل: إن اللّٰه رماه بصاعقة من السماء فهلك و قيل: إن الإمام لما ضربه بالسيف غشي عليه فمات و بيّن عليه السلام أثر تلك الصعقة كيف أنها سمعت منها خفقة قلب هذا الشيطان و حركة صدره من الخوف و الفزع... ثم بيّن أنه بقيت حثالة قليلة و هم أهل الشام و كان الإمام يعدّ العدة لهم و يحث الناس للتهيّؤ لقتالهم فقال: لئن أذن اللّٰه بقتالهم و سمحت الظروف بذلك بأن طال العمر و تحققت الأسباب لتكوننّ الدولة لي عليهم و النصر لي على جحافلهم فأقضي عليهم و أنتهي منهم إلا ما يتفرق منهم في البلاد و يهرب في أطراف الأرض و لا يستقر في مكان بحيث تتعطل حركتهم و يبطل شرهم...

و قتال الخوارج و أهل الجمل و صفين قد ورد الحديث عنهم على لسان رسول اللّٰه و أن الإمام سيقاتلهم.

ففي الحديث كما في مستدرك الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري قال: أمر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله علي بن أبي طالب عليه السلام بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين.

فضل الوحي

اشارة

أنا وضعت في الصّغر بكلاكل (1) العرب، و كسرت نواجم (2) قرون ربيعة (3) و مضر. و قد علمتم موضعي من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة (4). وضعني في حجره (5) و أنا ولد يضمّني إلى صدره، و يكنفني (6) في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه (7). و كان يمضغ (8) الشّيء ثمّ يلقمنيه (9)، و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة (10) في فعل. و لقد قرن اللّٰه به - صلّى اللّٰه عليه و آله - من لدن أن كان فطيما (11) أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره. و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل (12) أثر (13) أمّه،

ص: 343

يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به. و لقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء (14) فأراه، و لا يراه غيري. و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و خديجة و أنا ثالثهما. أرى نور الوحي و الرّسالة، و أشمّ ريح النّبوّة.

و لقد سمعت رنّة (15) الشّيطان حين نزل الوحي عليه - صلّى اللّٰه عليه و آله - فقلت: يا رسول اللّٰه ما هذه الرّنّة فقال: «هذا الشّيطان قد أيس (16) من عبادته. إنّك تسمع ما أسمع، و ترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ ، و لكنّك لوزير و إنّك لعلى خير». و لقد كنت معه - صلّى اللّٰه عليه و آله - لمّا أتاه الملأ (17) من قريش، فقالوا له: يا محمّد، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك و لا أحد من بيتك، و نحن نسألك أمرا إن أنت أجبتنا إليه و أريتناه، علمنا أنّك نبيّ و رسول، و إن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: «و ما تسألون ؟» قالوا: تدعو لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعرقها و تقف بين يديك، فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: «إنّ اللّٰه على كلّ شيء قدير، فإن فعل اللّٰه لكم ذلك، أ تؤمنون و تشهدون بالحقّ؟» قالوا: نعم، قال: «فإنّي سأريكم ما تطلبون، و إنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون (18) إلى خير، و إنّ فيكم من يطرح في القليب (19)، و من يحزّب الأحزاب». ثمّ قال صلّى اللّٰه عليه و آله: «يا أيّتها الشّجرة إن كنت تؤمنين باللّٰه و اليوم الآخر، و تعلمين أنّي رسول اللّٰه، فانقلعي (20) بعروقك (21) حتّى تقفي بين يديّ بإذن اللّٰه». فو الّذي بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها، و جاءت و لها دويّ (22) شديد، و قصف (23) كقصف أجنحة الطّير، حتّى وقفت بين يدي رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله مرفرفة (24)، و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه

ص: 344

و آله، و ببعض أغصانها على منكبي (25)، و كنت عن يمينه صلّى اللّٰه عليه و آله، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا - علوّا و استكبارا -: فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويّا، فكادت تلتفّ برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، فقالوا - كفرا و عتوّا -:

فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره صلّى اللّٰه عليه و آله فرجع، فقلت أنا: لا إله إلاّ اللّٰه، إنّي أوّل مؤمن بك يا رسول اللّٰه، و أوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّٰه تعالى تصديقا بنبوّتك، و إجلالا لكلمتك. فقال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب، عجيب السّحر خفيف فيه، و هل يصدّقك في أمرك إلاّ مثل هذا! (يعنونني) و إنّي لمن قوم لا تأخذهم في اللّٰه لومة لائم، سيماهم (26) سيما الصّدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار اللّيل و منار (27) النّهار. متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّٰه و سنن رسوله، لا يستكبرون و لا يعلون، و لا يغلّون (28) و لا يفسدون. قلوبهم في الجنان، و أجسادهم في العمل!.

اللغة

1 - الكلاكل: جمع كلكل و هو الصدر.

2 - النواجم: جمع ناجمة من نجم الشيء إذا ظهر و طلع.

3 - ربيعة و مضر: قبيلتان عربيتان معروفتان.

4 - الخصيصة: الخلة ينفرد بها الإنسان و يفضّل بها على غيره.

5 - الحجر: الحضن يقال: نشأ فلان في حجر فلان أي في كنفه و منعته.

6 - يكنفني في فراشه: يجعلني فيه و يحفظني.

7 - العرف: الرائحة الطيبة.

8 - مضغ الطعام: إذا لاكه بلسانه بعد طحنه.

9 - ألقمه: الطعام أطعمه إياه سريعا و التقم الطعام ابتلعه سريعا.

ص: 345

10 - الخطلة: واحدة الخطل و هو الخطأ ينشأ من عدم الروية.

11 - الفطيم: المفطوم و الفطام فصل الولد عن الرضاع.

12 - الفصيل: ولد الناقة.

13 - الأثر: ما بقي من رسم الشيء و يقال: خرج في أثر الشيء و على أثره أي بعده.

14 - حراء: بكسر الحاء جبل على القرب من مكة.

15 - الرنّة: الصوت و رن رنينا صاح.

16 - أيس: قنط.

17 - الملأ: أشراف القوم و المتقدمون منهم.

18 - لا تفيئون: لا ترجعون.

19 - القليب: البئر يذكّر و يؤنث و قيل: هي خصوص القديمة منها.

20 - قلع الشيء: انتزعه من أصوله.

21 - العروق: أصول كل شيء.

22 - الدويّ : الصوت و قد خصّ به بعضهم صوت الرعد.

23 - القصف: الصوت الشديد.

24 - رفرف الطائر: بسط جناحيه و حركهما.

25 - المنكب: جمعه مناكب مجتمع رأس الكتف و العضد و هما منكبان لأنهما في الجانبين.

26 - سيماهم: علاماتهم من السيما بالقصر و المد و هي العلامة.

27 - المنار: الأعلام.

28 - غل: خان و يغلّون يخونون.

الشرح

(أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب و كسرت نواجم قرون ربيعة و مضر و قد علمتم موضعي من رسول اللّٰه - صلى اللّٰه عليه و آله - بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصة) ذكر عليه السلام شجاعته و ما قدمه في سبيل الدعوة تقوية لقلوب أصحابه و شدا لعزائهم...

فهو الذي أذلّ العرب و حطم كبريائها و أنزلها من عليائها و مرّغ أنوف قادتها و قتل شجعانها و فرسانها. هو الذي قضى على فرسان ربيعة و مضر و على زهوهما و قوتهما عند ما أرادتا أن تواجها الدعوة و تقفا في وجه الحق و العدل...

ص: 346

ثم ذكر موضعه من رسول اللّٰه و مكانته منه فقد كان وزيرا له و أمينا و كان ابن عمه نسبا و صاحب سره و المنزلة الخاصة لديه...

و نظرة سريعة إلى تاريخ الإسلام و ما كان فيه من وقائع و أحداث يكشف بوضوح مدى الجهاد العلوي و كيف لم تخل غزوة إلا و كان علي عليه السلام هو حامل راية رسول اللّٰه و فاتح الحصون و القاضي على الخصوم... أعد نظرا في بدر و أحد و الأحزاب و خيبر و غيرها تجد عليا هو القائد المظفر و الذي على يديه يكون النصر و بسيفه يكون الحسم...

(وضعني في حجره و أنا ولد يضمني إلى صدره و يكنفني في فراشه و يمسني جسده و يشمني عرفه و كان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه و ما وجد لي كذبة في قول و لا خطلة في فعل) بيّن عليه السلام عناية النبي به و مدى تفرغه له بحيث إنه أخذه من أبي طالب و رباه على يديه فكان فراشهما واحد ينامان معا يشم ريحة رسول اللّٰه الطيبة و يمسه جسده الطاهر و يحتضنه بعطف و حنان و كان من شدة عطفه عليه أنه كان يمضغ الطعام القاسي ثم يدفعه إليه و قصة الإمام مع النبي من القصص العجيبة و التوفيقات الغريبة فإن أهل السير يذكرون أن قريشا أصابتها أزمة شديدة و ضيق فقال رسول اللّٰه لعمه العباس و كان أيسر بني هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه لنخفّف عنه من عياله فآخذ واحدا من بنيه و تأخذ واحدا فنكفيهم عنه فانطلقا إليه و قالا له: فقال: إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله عليا و أخذ العباس جعفرا و من هنا ابتدأت العلاقة بين الإمام و رسول اللّٰه فتتلمذ الإمام على يدي رسول اللّٰه و تربى كما أراد فجاء نسخة عن النبي طبق الأصل في الأخلاق و الآداب و السلوك و في جميع الشئون...

و لذا لم يجد النبي من الإمام كذبة في قول أو خطأ في فعل و كيف يقع في الخطأ من هو مسدد من قبل السماء معصوم بنص الذكر الحكيم...

(و لقد قرن اللّٰه به - صلى اللّٰه عليه و آله - من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره) و هذه عناية إلهية برسول اللّٰه إنه منذ صغره و عند ما فطم عن الرضاع قرن اللّٰه به ملكا من ملائكته يسدّده و يعلمه و يأخذ بيده إلى طريق المكارم و محاسن الأخلاق لا يفارقه في ليل و لا نهار، كان ملازما له يرشده إلى طريق الخير و يهديه سبيل الإحسان و فضلا عن هذا النص فهناك نصوص و أحاديث عن الأئمة تحكي عن هذا المعنى و تشير إليه ففي قوله تعالى: «أُولٰئِكَ »

ص: 347

«كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمٰانَ » هم الأئمة «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » قال: ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل و كان مع رسول اللّٰه و هو مع الأئمة.

(و لقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّٰه - صلى اللّٰه عليه و آله - و خديجة و أنا ثالثهما أرى نور الوحي و الرسالة و أشم ريح النبوة) و هذه من خصوصيات الإمام و من جملة اختصاصه بالنبي أنه كان ملازما له لا يفارقه كالفصيل الذي لا يفارق أمه بل يلحقها حيث توجهت و كان صلوات اللّٰه عليه يرفع له النبي في كل يوم عنوانا من عناوين الأخلاق العامة و يأمره بالاقتداء به فكان معلم الصدق و الأمانة و الإخلاص و كل الفضائل و كان يأمر الإمام بها و يحثه على الاقتداء به في هذه الفضائل و الأخلاق.

ثم ذكر خصوصية أخرى و هي أن النبي كان يجاور في غار حراء و يعتزل الناس و يتفكّر في مخلوقات الكون و لم يكن يراه غير الإمام فهو الوحيد الذي يقصده و يراه...

و كذلك عند ما نزل الوحي على الرسول و بعثه اللّٰه نبيا فلم يكن هناك بيت في الدنيا يجمع من المسلمين ما يجمعه بيت رسول اللّٰه فقد كان الإمام ثالث ثلاثة كان هو و خديجة و رسول اللّٰه يجمعهم بيت واحد.

ثم بين مدى ما وصل إليه من القرب المعنوي و الفكري و السمو الروحي إنه كان يرى نور الوحي و الرسالة و يشم ريح النبوة و هذا منتهى الوصول إلى هذه الدرجات التي يمكن أن يصل إليها غير الأنبياء فقد أدرك أسرار الوحي و الرسالة و خصائص الدين و الإيمان.

(و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه - صلى اللّٰه عليه و آله - فقلت: يا رسول اللّٰه ما هذه الرنة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلا أنك لست بنبي و لكنك لوزير و إنك لعلى خير) و هذا إخبار من الإمام عما وقع له و سمعه من صوت الشيطان لما بعث اللّٰه نبينا صلوات اللّٰه عليه فإن الشيطان صاح بجنوده يستعلم ما الخبر فقالوا له: إن اللّٰه بعث محمدا فيئس من أن يعبد ثم أشار إلى أن الإمام يسمع كما يسمع النبي و يرى مثلما يرى و لما كان يخشى أن يظن أحد بتساويهما نفى عنه النبوة و أثبت له الوزارة و أنه لعلى خير...

و هناك من الأخبار ما يشير و يصرح بوزارة الإمام للنبي ففي الحديث عن أبي نعيم الحافظ عن ابن عباس قال: أخذ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله بيد علي بن أبي طالب

ص: 348

و بيدي و نحن بمكة و صلى أربع ركعات ثم مد يديه إلى السماء و قال: إن نبيك موسى بن عمران سألك فقال: «رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي» الآية و أنا محمد نبيك أسألك: رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي أشدد به أزري و أشركه في أمري...

قال ابن عباس: فسمعت مناديا ينادي: قد أوتيت ما سألت...

(و لقد كنت معه - صلى اللّٰه عليه و آله - لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك و لا أحد من بيتك و نحن نسألك أمرا إن أنت أجبتنا إليه و أريتناه علمنا أنك نبي و رسول و إن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب فقال صلى اللّٰه عليه و آله: و ما تسألون ؟.

قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها و تقف بين يديك فقال صلى اللّٰه عليه و آله: «إن اللّٰه على كل شيء قدير فإن فعل اللّٰه لكم ذلك أ تؤمنون و تشهدون بالحق ؟ قالوا: نعم قال: فإني سأريكم ما تطلبون و إني لأعلم إنكم لا تفيئون إلى خير و إن فيكم من يطرح في القليب و من يحزب الأحزاب» ثم قال صلى اللّٰه عليه و آله: «يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّٰه و اليوم الآخر و تعلمين أني رسول اللّٰه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن اللّٰه» فو الذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دوي شديد و قصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله مرفوفة و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و ببعض أغصانها على منكبي و كنت عن يمينه صلى اللّٰه عليه و آله فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا - علوا و استكبارا -: فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشده دويا فكادت تلتف برسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله فقالوا - كفرا و عتوا -: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره صلى اللّٰه عليه و آله فرجع فقلت أنا: لا إله إلا اللّٰه إني أول مؤمن بك يا رسول اللّٰه و أول من أقرّ بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّٰه تعالى تصديقا بنبوتك و إجلالا لكلمتك فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب، عجيب السحر خفيف فيه، و هل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا (يعنونني) و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّٰه لومة لائم سيماهم سيما الصديقين و كلامهم كلام الأبرار عمار الليل و منار النهار متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّٰه و سنن رسوله لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلون و لا يفسدون قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل) و هذه حادثة وقعت مع النبي و جرت فصولها عند ما أعلن رسول اللّٰه أنه نبي من عند اللّٰه فقد جاء أشراف قريش و ساداتها و المتقدمون فيها يريدون تعجيز رسول اللّٰه ورد دعوته فاقترحوا عليه أن يدعوا الشجرة إليه فأخذ عليهم

ص: 349

إن فعل أن يستجيبوا و يؤمنوا له و هو يعرف أنهم لن يؤمنوا فدعاها فانقلعت بجذورها ثم ما كان منهم إلا أن اقترحوا عليه أن يفصل نصفها و يدعوه إليه فكان لهم ما أرادوا فارتفع عندها صوت الإمام بالتوحيد و الإيمان برسول اللّٰه بحيث يسمعه الملأ من قريش و لم يؤمن أحد منهم بل رموه بالكذب و السحر على عادتهم عند ما يعجزون عن مواجهة الحقيقة...

ثم بين الإمام في نهاية الخطبة أنه من قوم - و هم أهل البيت - الذين يقولون كلمتهم العادلة دون أن ينظروا إلى أقوال الناس فيها و رضاهم أو غضبهم عليها.

و بين أنه من قوم علاماتهم علامات الصديقين في وجوههم و حديثهم و منطقهم مهللون مكبرون يعمرون الليل بالتهجد و العبادة و يقضون نهارهم في الوعظ و الإرشاد و هداية الخلق... قوم متمسكون بالقرآن يحيون ما أراد اللّٰه من أحكام و سنن لا يستكبرون في الأرض على أحد و لا يظلمون و لا يفسدون قلوبهم في الجنان من شدة شوقهم إليها و أجسادهم في الدنيا عاملة مشتغلة ناصبة من أجل تلك الغاية...

ص: 350

193 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يصف فيها المتقين روي أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام كان رجلا عابدا، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم. فتثاقل (1) عليه السلام عن جوابه ثم قال:

يا همام، إتق اللّٰه و أحسن: ف «إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » . فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه (2)، فحمد اللّٰه و أثنى عليه، و صلى على النبي - صلى اللّٰه عليه و آله - ثم قال عليه السلام:

أمّا بعد، فإنّ اللّٰه - سبحانه و تعالى - خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، و لا تنفعه طاعة من أطاعه. فقسم بينهم معايشهم (3)، و وضعهم من الدّنيا مواضعهم.

فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصّواب (4)، و ملبسهم الاقتصاد (5)، و مشيهم التّواضع. غضّوا أبصارهم (6) عمّا حرّم اللّٰه عليهم، و وقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم. نزلت أنفسهم منهم في البلاء (7) كالّتي نزّلت في الرّخاء (8). و لولا الأجل الّذي كتب اللّٰه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثّواب، و خوفا من العقاب.

عظم الخالق في أنفسهم فصغر (10) ما دونه في أعينهم، فهم و الجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منّعّمون، و هم و النّار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون.

قلوبهم محزونة (11)، و شرورهم (12) مأمونة، و أجسادهم نحيفة (13)، و حاجاتهم خفيفة، و أنفسهم عفيفة. صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة (14) يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها، و أسرتهم ففدوا (15) أنفسهم منها. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء

ص: 351

القرآن يرتّلونها ترتيلا (16). يخزّنون به أنفسهم و يستثيرون (17) به دواء دائهم.

فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا (18) إليها طمعا، و تطلّعت (19) نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم (20). و إذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا (21) إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير (22) جهنّم و شهيقها (23) في أصول آذانهم، فهم حانون (24) على أوساطهم، مفترشون لجباههم (25) و أكفّهم و ركبهم (26)، و أطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّٰه تعالى في فكاك رقابهم (27).

و أمّا النّهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء. قد براهم الخوف بري (28) القداح (29) ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى، و ما بالقوم من مرض، و يقول: لقد خولطوا (30)!.

و لقد خالطهم أمر عظيم! لا يرضون من أعمالهم القليل، و لا يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم متّهمون (31)، و من أعمالهم مشفقون (32) إذا زكّي (33) أحد منهم خاف ممّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، و ربّي أعلم بي منّي بنفسي! اللّهمّ لا تؤاخذني (34) بما يقولون، و اجعلني أفضل ممّا يظنّون، و اغفر لي ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين، و حزما (35) في لين، و إيمانا في يقين، و حرصا (36) في علم، و علما في حلم، و قصدا في غنى، و خشوعا في عبادة، و تجمّلا (37) في فاقة (38)، و صبرا في شدّة، و طلبا في حلال، و نشاطا في هدى، و تحرّجا (39) عن طمع. يعمل الأعمال الصّالحة و هو على وجل (40). يمسي و همّه الشّكر، و يصبح و همّه الذّكر. يبيت (41) حذرا (42) و يصبح فرحا، حذرا لمّا حذّر من الغفلة، و فرحا بما أصاب من الفضل و الرّحمة. إن استصعبت (43) عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها (44)

ص: 352

فيما تحبّ . قرّة عينه (45) فيما لا يزول، و زهادته فيما لا يبقى، يمزج (46) الحلم بالعلم، و القول بالعمل. تراه قريبا أمله، قليلا زلله (47)، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا (48) أكله، سهلا أمره، حريزا (49) دينه، ميّتة شهوته، مكظوما (50) غيظه. الخير منه مأمول، و الشّرّ منه مأمون. إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين، و إن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمّن ظلمه، و يعطي من حرمه، و يصل من قطعه، بعيدا فحشه (51)، ليّنا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره، مدبرا شرّه. في الزّلازل (52) و قور، و في المكاره صبور، و في الرّخاء (54) شكور. لا يحيف (55) على من يبغض، و لا يأثم فيمن يحبّ . يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه. لا يضيع ما استحفظ، و لا ينسى ما ذكّر، و لا ينابز (56) بالألقاب، و لا يضارّ بالجار، و لا يشمت بالمصائب، و لا يدخل في الباطل، و لا يخرج من الحقّ . إن صمت لم يغمّه (57) صمته، و إن ضحك لم يعل صوته، و إن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّٰه هو الّذي ينتقم له (58). نفسه منه في عناء (59)، و النّاس منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته، و أراح النّاس من نفسه. بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة. ليس تباعده بكبر و عظمة، و لا دنوّه بمكر و خديعة.

قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما و اللّٰه لقد كنت أخافها عليه. ثمّ قال:

أ هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟.

فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين ؟.

فقال عليه السلام: ويحك، إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه (60)، و سببا لا يتجاوزه. فمهلا، لا تعد لمثلها، فإنّما نفث (61) الشّيطان على لسانك!.

ص: 353

اللغة

1 - تثاقل: أبطأ و تراخى.

2 - عزم عليه: عزم على الرجل أقسم عليه، أصّر عليه.

3 - المعايش: مفرده المعاش ما تعيش به من المطعم و المشرب، ما تكون به الحياة.

4 - الصواب: ضد الخطأ، الحق.

5 - الاقتصاد: الاعتدال و الوسط فلا الغالي و لا المبتذل.

6 - غضوا أبصارهم: خفضوها و غمضوها.

7 - البلاء: الاختبار، الغم.

8 - الرخاء: سعة العيش و هناءته.

9 - الأجل: وقت الموت، غاية الوقت.

10 - صغر: حقر و انحط قدره.

11 - محزونة: كئيبة.

12 - الشرور: جمع شر و هو نقيض الخير، اسم جامع للرذائل و الخطايا.

13 - النحيف: الهزيل، كان قليل اللحم.

14 - مربحة: مفيدة ربحا.

15 - الفدية: ما يعطي عوض المفدي.

16 - الترتيل: التبيين و الايضاح.

17 - يستثيرون: يحركون و يوجدون الإثارة.

18 - ركنوا: اطمأنوا.

19 - تطلّعت: استشرفت.

20 - نصب اعينهم: أمامهم.

21 - أصغوا: من أصغى إلى الكلام مال إليه بسمعه.

22 - الزفير: للنار صوتها.

23 - الشهيق: أن يأخذ الهواء إلى الداخل و هو مع الزفير من حالات التنفس.

24 - حانون: من حنيت العود إذا عطفته ولويته.

25 - افترشوا جباههم: بسطوها على الأرض، أي جعلوها من كثرة سجودهم كأنها فراش.

26 - الركب: جمع الركبة بضم الراء الموصل ما بين الفخدين و الساق.

27 - فكاك الرقاب: خلاصها و تحريرها.

28 - برى: السهم و العود و القلم إذا نحتها.

29 - القداح: جمع القدح بالكسر فيهما و هو السهم قبل أن يراش و ينصل.

ص: 354

30 - خولطوا: في عقولهم أي فسدت عقولهم و اختلت.

31 - اتهمه: بكذا أدخل عليه التهمة و ظنه به، شك في صدقه.

32 - مشفقون: خائفون.

33 - زكي أحدهم: مدح.

34 - لا تؤاخذني: من آخذه مؤاخذة لامه و عابه و على ذنبه و بذنبه عاقبه عليه.

35 - الحزم: ضبط الأمر و الأخذ بالحكمة فيه و الثقة.

36 - الحرص: على الشيء اشتداد الشره إليه و التمسك به.

37 - تجمّل: تزين و تكلف الجميل.

38 - الفاقة: الحاجة.

39 - التحرج: عدّ الشيء حرجا أي إثما.

40 - الوجل: الخوف و الفزع.

41 - يبيت: من بات في المكان إذا أقام فيه ليلا.

42 - الحذر: التحرز منه و حذره خوفه.

43 - استصعبت: صارت صعبة غير منقادة.

44 - السؤل: ما يسأل.

45 - قرة عينه: ما تقربه عينه و تسر.

46 - يمزج: يخلط.

47 - الزلل: الانحراف و الخطأ، زلق و سقط.

48 - منزورا: قليلا من النزر و هو القلة.

49 - حريزا: حصينا.

50 - المكظوم: المكروب، و كظم غيظه إذا حبسه و أمسك على ما في نفسه منه.

51 - الفحش: القبيح من القول.

52 - الزلازل: الشدائد و الأهوال، الاضطراب.

53 - الوقور: الذي لا يضطرب.

54 - الرخاء: سعة العيش.

55 - لا يحيف: لا يظلم.

56 - لا ينابز بالالقاب: لا يتبادل الألفاظ البذيئة.

57 - يغّمه: يحزنه.

58 - ينتقم: يعاقب.

59 - العناء: التعب.

60 - لا يعدوه: لا يتجاوزه.

61 - نفث: نفخ.

ص: 355

الشرح

اشارة

هذه الخطبة المباركة من أروع خطب النهج و أرقها تتضمن صفة المتقين بأبدع بيان و أقوى لسان صوّر الإمام حالهم حتى عادوا و كأنهم أمامنا و سببها كما رواه الرضي:

(روي أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام كان رجلا عابدا فقال له: يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم فتثاقل عليه السلام عن جوابه ثم قال: يا همام إتق اللّٰه و أحسن ف «إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه فحمد اللّٰه و أثنى عليه و صلى على النبي صلى اللّٰه عليه و سلم ثم قال عليه السلام:

(أما بعد فإن اللّٰه - سبحانه و تعالى - خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم لأنه لا تضره معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه) هذا الرجل - همام - سأل الإمام أن يصف له المتقين حتى كأنه ينظر إليهم فيتأثر بهم و يسلك سلوكهم و يقتدي بهم فتثاقل الإمام و لم يبادر بل تأخر قليلا تشويقا للرجل و ترغيبا له في المعرفة ثم قال له: إتق اللّٰه و أحسن «إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » فأجابه بهذا الجواب العام المجمل و لم يدخل في التفاصيل فلم يقتنع همام بهذا الجواب و لم يشف غليله الإجمال فأصّر على الإمام و أقسم عليه أن يوضح له الأمر أكثر من ذلك فحمد اللّٰه و أثنى عليه و صلى على النبي و آله ثم ابتدأ عليه السلام:

أما بعد حمد اللّٰه فإن اللّٰه سبحانه و تعالى خلق الخلق من إنس و جان حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم ثم علل ذلك لأنه لا تضره معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه لأن الذي يتأثر و يخضع للنفع و الضرر يكون محتاجا و المحتاج فقير و اللّٰه هو الغني المطلق فمن أطاع اللّٰه نفع نفسه لأنه سبحانه لا يأمر إلا بمصلحة تعود على هذا الإنسان بالنفع كما أن من تمرد على اللّٰه و على أمره لا يضره و إنما يضر نفسه لأنه لا ينهى إلا عن مفسدة مضرة بهذا الإنسان فمن ارتكب الحرام أضرّ بنفسه و سبّب لها الانحطاط و التأخر و أما اللّٰه فلا يتأثر بشيء من ذلك...

(فقسم بينهم معايشهم و وضعهم من الدنيا مواضعهم) فهو سبحانه الذي أعطى كل فرد حق الحياة أعطاه أيضا ما يعيش به و يكمل شوط الحياة بحيث لا يموت من الجوع و قول الإمام هذا مأخوذ من قول اللّٰه:(1)«نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا» .

ص: 356


1- سورة الزخرف، آية - 32.

و كذلك فإنه سبحانه و تعالى رتب أمر الناس بحسب ما يراه من المصلحة فهذا غني و الآخر فقير، و هذا رفيع و ذاك وضيع و هذا حاكم و ذاك محكوم و هكذا و هذا أيضا من قوله تعالى:(1)«وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» .

(فالمتقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب و ملبسهم الاقتصاد و مشيهم التواضع) بعد ذكره أن اللّٰه قد رتب أمور الناس كل واحد في موضعه أخذ في ذكر المتقين و أنهم قوم اختصهم اللّٰه بمزية مكارم الأخلاق و الفضائل فكانوا مجمعا لها و ملتقى الصفات الحميدة...

المتقون في الدنيا هم أهل الفضائل في التصور و المفاهيم و النظرات و العمل و السلوك...

ثم فصّل تلك الفضائل و ذكرها ضمن أمور.

1 - منطقهم الصواب: فلا يكذبون و لا يسبون و لا يشتمون و لا ينّمون و لا يغتابون بل قولهم الحق و العدل و ما فيه نفع و خير...

2 - ملبسهم الاقتصاد: أي ملابسهم معتدلة كأواسط الناس فليست مبتذلة بالية و لا هي من أجود القماش و أفضله.

3 - و مشيهم التواضع: يمشون بتواضع بدون تكبر و لا استعلاء لا تظهر عليهم الخيلاء و لا الزهو لأن ذلك مكروه للّٰه مبغوض له...

4 - (غضوا أبصارهم عما حرم اللّٰه عليهم) فبينهم و بين ما حرّم اللّٰه النظر إليه حاجز من تقوى اللّٰه فلا تمتد أعينهم إلى ما حرم عليهم بل تراهم يغضون أبصارهم عنه و يكسرونها حتى لا يرون حراما.

5 - (و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم) فهم يلتقطون ما ينفع في المعاش و المعاد دون ما سواه مما يضر و يؤذي فلا يستمعون إلى غيبة و لا نميمة و لا فحش و لا غناء و ما أجمل تعبير «وقفوا» التي تتجمد عندها الأسماع لتصغى لما ينفع فحسب...

6 - (نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء) تساوت عندهم المنحة و المحنة، السراء و الضراء النعمة و البلاء فأنفسهم راضية في المصائب و البلايا كرضاها في أيام السعة و الرخاء.. لأنها تعلم أنها كلها من عند اللّٰه و إن البلاء عليه أجر و ثواب و لا بد2.

ص: 357


1- سورة الزخرف، آية/ 32.

من زواله و انقضائه فتهون عليهم المصائب و تسهل الويلات...

7 - (و لو لا الأجل الذي كتب اللّٰه عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب) فلولا أن اللّٰه ضرب لهم وقتا معينا يموتون عنده لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى ثواب اللّٰه و خوفا من عقابه، فهم لشوقهم إلى الجنة و خوفهم من النار تكاد تخرج أرواحهم لولا أجلهم الذي وقته اللّٰه لهم...

8 - (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم) هذه هي المعادلة الصحيحة و النظرة السليمة فكلما تعمق الإيمان و تجذر في النفوس خفت في مقابله الدنيا و ما فيها و كلما كبر اللّٰه و تجسدت عظمته في القلوب كلما صغر ما دونه من طواغيت و جبابرة و فراعنة و هكذا تتضاءل الأمور حتى تصبح في مقابل اللّٰه لا شيء، هباء منثورا...

كل طواغيت الأرض و ما يسمى عظماء فيها يتحولون جميعهم إلى أقزام صغار لا يحسب لهم في نفس المؤمن حساب...

9 - (فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون و هم و النار كما قد رآها فهم فيها معذبون) من شدة تصديقهم لوعد اللّٰه و وعيده فكأنهم يعيشون تلك الحالات حية قائمة ماثلة أمامهم.. إنهم ينظرون إلى الجنة كما وصفت لهم و يتصورون نعيمها فيعيشون لذة روحية و كأنهم في الجنة و يتصورون النار و ما وصفها اللّٰه بها فيتحولون إلى أناس كأنهم يعيشون ألمها و عذابها...

10 - (قلوبهم محزونة) قلوبهم في حزن خوفا من التقصير و التفريط.

11 - (و شرورهم مأمونة) فلا شرور فيهم لأن التقوى طهرت تلك القلوب فعادت كما ولدت طاهرة مطهرة لا تؤذي.

12 - (و أجسادهم نحيفة) لكثرة صيامهم و كثرة تهجدهم بالليل و كذلك لقلة شبعهم إذ هم زاهدون في الطيبات لا يفكرون فيها و لا يتناولون منها إلا ما يسد رمقهم و يحفظ عليهم حياتهم.

13 - (و حاجاتهم خفيفة) لأنهم يقتصرون على ضروريات الحياة دون توسعة إنها قليلة: ثوب و قرص شعير و على الدنيا السلام...

14 - (و أنفسهم عفيفة) لا يدنسون أنفسهم بشيء من الرذائل و المعاصي بل اكتفوا بما أحله اللّٰه لهم فأنفسهم تأبى كل ما يشين أو يهين...

ص: 358

15 - (صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة تجارة مربحة يسرها لهم ربهم) الأيام القصيرة هي مدة بقائهم في الدنيا و ما أقصرها من أيام فقد صبر هؤلاء الأتقياء على بلائها و ظلمها و حرمانها و صبروا على ما نالهم من أذى أهلها و لكن بعد صبرهم هذه الأيام القليلة كانت الراحة الطويلة في الدار الآخرة حيث كانت عاقبتهم الجنة و ما فيها من نعيم...

ثم استعار لفظ التجارة لأعمالهم الصالحة و تطبيق أوامر اللّٰه و وصفها بأنها تجارة رابحة مفيدة لأنها قليلة في ذاتها و في مدتها بينما عوضها الجنة و هي الكثير و هي أيضا دائمة لا تفنى...

إنها تجارة مربحة يسرها لهم ربهم وفقهم اللّٰه و سدّدهم و حببّ إليهم سلوك هذا الطريق الموصل إلى هذه التجارة المربحة و هذه من العنايات الإلهية التي تدفع بهذا الإنسان ليسلك مسلك الخير و الهدى...

16 - (أرادتهم الدنيا فلم يريدوها) إرادتها لهم من حيث إنها كانت تتزين لهم و تبسط كل وسائل الأغراء من مال و مناصب و جاه أمامهم فكانوا يرفضونها بكل زينتها و ما فيها... يرفضون الاقتراب منها و الخوض في غمارها.

17 - (و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها) فإنهم كانوا مشتغلين فيها منهمكين بملذاتها فاستفاقوا من غفوتهم و استيقظوا من نومتهم فتركوا ما كانوا فيه و هجروا كل متع الدنيا و ملذاتها و هذا هو فداء لهم من النار و نجاة لهم من عذابها.. أو إنها أشرفت على أسرهم بمتعها فهجروا المتع وفدوا أنفسهم بتركها...

18 - (أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا يحزنون به أنفسهم و يستثيرون به دواء دائهم) هذه صورتهم أثناء العبادة.. إنهم رهبان الليل يصفون أقدامهم في الصلاة.. في صلاة الليل عند ما تنام العيون و يسدل الليل ظلامه عندها يقف الأتقياء و عباد الرحمن في خشوع و خضوع ينفردون مع اللّٰه في مناجاة تخرج من القلب و تحكي عما في الضمير فيها لذة و متعة تفوق لذات الحياة جميعها...

إنهم يصفون أقدامهم للتهجد و العبادة في جنح الليل يتلون أجزاء القرآن بخشوع و خضوع و بروّية و هدوء يدخلون على أنفسهم الحزن بقراءته عند ما يتلون آيات العقاب و ما ينال العصاة و أهل المحرمات.

إنهم بقراءة القرآن يدركون الدواء لدائهم لأنهم عند ما يقرؤن القرآن يفكرون في الأعمال الصالحة التي تنجيهم من العذاب و يفكرون في الذنوب و عواقبها و ما يلحق

ص: 359

المجرمين فيجتنب القارئ كل معصية و كل ذنب.

(فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا و تطلعت نفوسهم إليها شوقا و ظنوا أنها نصب أعينهم) إذا مروا بآية كقوله تعالى:(1)«مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ فِيهٰا أَنْهٰارٌ مِنْ مٰاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّٰارِبِينَ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيهٰا مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ » .

فإنهم إذا مروا بمثل هذه الآية التي فيها تشويق إلى الجنة سكنوا و هدأوا و طمعوا أن يكونوا من أهلها و من مصاديقها و استشرفت نفوسهم إليها حبا و فرحا و انتظارا لها و ظنوا أي تيقنوا إنها قريبة منهم و في متناول أيديهم فيخفوا للعمل من أجلها...

(و إذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم و ظنوا أن زفير جهنم و شهيقها في أصول آذانهم) فإذا كانوا في آية الرحمة و الجنة يتشوقون و يندفعون بسرور و فرح و إذا مروا بآية فيها تخويف كقوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهٰا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّٰا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذٰاتِ حَمْلٍ حَمْلَهٰا وَ تَرَى اَلنّٰاسَ سُكٰارىٰ وَ مٰا هُمْ بِسُكٰارىٰ وَ لٰكِنَّ عَذٰابَ اَللّٰهِ شَدِيدٌ» إذا قرءوا هذه الآية انشدت اسماعهم إليها و أخذوا يرددونها مرة أثر أخرى فترتجف قلوبهم و تضطرب أعصابهم و راحوا في حالة نفسية عظيمة ذهبوا معها إلى مستوى كأنهم يسمعون زفير جهنم و شهيقها، صوتها و اضطرامها و لهبها في أسماعهم.. فكأنهم يسمعون صوت جهنم فيأخذهم الخوف و الفزع و يبادرون إلى ما يجنبهم دخولها و ما يبعدهم عنها...

(فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم و أكفهم و ركبهم و أطراف أقدامهم يطلبون إلى اللّٰه تعالى في فكاك رقابهم) بيّن وضعهم في حال صلاتهم إنهم راكعون في حال صلاتهم يحنون وسطهم و قد جعلوا مساجدهم السبعة - الجبهة و الكفين و الركبتين و طرفي الإبهامين من الرجلين - فهذه أصبحت لهم فراشا بدل فراشهم الذي يأوون إليه و يستريحون فيه... إنهم يطلبون من اللّٰه تعالى أن يعتق رقابهم من النار و يحررها من حرّ جهنم و عذابها فلا تمسهم بلهبها هكذا يكون ليل الأتقياء تسبيح فريد، و صورة يتيمة لم تشفع بمثيل...

(و أما النهار فحلماء علماء، ابرار أتقياء قد براهم الخوف برى القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى و ما بالقوم من مرض و يقول لقد خولطوا و لقد خالطهم أمر عظيم)5.

ص: 360


1- سورة محمد، آية - 15.

و أما مسيرة هؤلاء الأتقياء في النهار فإنها أيضا فريدة تختلف عن مسيرة الناس و حركاتهم و ما يجري لهم... إنهم حلماء لا يجهلون على أحد و لا يغضبون من أحد أو لأحد إلا إذا كان للّٰه و في سبيل اللّٰه.

إنهم علماء في تعليم الناس و هدايتهم و إرشاهم، في رزانتهم و رصانتهم و غيرتهم على الدين...

إنهم أبرار أتقياء، مخلصون أوفياء أمناء أولياء إنهم من خوفهم من النار و عذابها و سوء مصير المذنبين و عاقبة المتمردين و العصاة قد براهم الخوف بري القداح أي نحت السهام في نحافتها و دقتها فإن المهموم الخائف الذي استولى الهم على قلبه و عقله و ملك عليه شئونه و كل توجهه فإنه يعزف عن الغذاء و الطعام و عن الملذات و المسرات و لا يعود يشغل باله شيء فيضعف و يرق و يخف...

ينظر إليهم من لا يعرفهم و هم بهذه الصورة فيذهب به الظن لعدم معرفته بهم على وجه الحقيقة إلى أنهم مرضى قد أضناهم المرض و استولى عليهم الداء و لكن في الحقيقة و الواقع لا مرض و لا داء و إنما همّ الآخرة أضمرهم و أنحل أجسادهم.

و كذلك من سمع حديثهم الإلهي و تعلقهم باللّٰه و ما هم فيه من ذكر و تسبيح و ما يذهبون إليه من شوق إلى الجنة و خوف من النار يقول أنهم مجانين أصيبوا بعقولهم و لكن الحقيقة لم يصابوا بالجنون و إنما اصيبوا بصحة التوجه نحو الآخرة فهي التي شغلت عقولهم و أخذت عليهم كل توجهاتهم و إننا قد رأينا بعض هؤلاء و سمعنا من بعض الناس في حقهم مثل هذه المقالة، و الناس هم الناس قديما و حديثا، فيهم الأتقياء و فيهم الأشقياء...

(لا يرضون من أعمالهم القليل و لا يستكثرون الكثير) إذا قلّت أعمالهم الصالحة لا يرتضون بها و يرون أنفسهم مقصّرين و إذا أكثروا من الأعمال الصالحة لا يرونها كثيرة فيزهدوا عندها و يتوقفوا عن العمل بل تبقى حركتهم في زيادة و نمو كلما ازدادت الحسنات ازداد الجد و العمل و المثابرة و هذا دأب الأتقياء لمعرفتهم بأجر الأعمال الصالحة و الثواب عليها...

(فهم لأنفسهم متهمون و من أعمالهم مشفقون) مهما عملوا من الأعمال الصالحة و مهما أكثروا منها و من الخيرات و الأفعال الطيبة فإنهم ينسبون إلى أنفسهم التقصير.

و كذلك مهما عملوا فإنهم يخافون أن لا تقبل أعمالهم فتراهم في خوف من هذه الجهة...

ص: 361

(إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له. فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري و ربي أعلم بي مني بنفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون و اجعلني أفضل مما يظنون و أغفر لي ما لا يعلمون) هذه عادة الأتقياء لا ينتفخون أمام المدح و الاطراء و لا يزهون أو يتكبرون إذا سمعوا بحقهم وصفا طيبا.. إذا زكي أحد منهم بأن قيل فيه: إنه تقي ورع عابد زاهد لا ينتفخ و يكبر بل يخاف من هذا القول يخاف على نفسه أن يغلبها الاطراء فتكبر و تتعاظم و تعلو و لذا يبادر إلى القول فورا أنا أعلم بنفسي من غيري أعلم ممن أطراني و مدحني فإنه لم ير إلا الظاهر و أنا أعلم بداخل نفسي، إنني مقصر مذنب مسوف مهمل أنا أعلم بهفوات نفسي و قبائحها من هذا المادح.

و يقول أيضا و ربي أعلم بي مني بنفسي فهو سبحانه يعلم النوايا السيئة و الأعمال الشائنة و التصرفات القبيحة... هو سبحانه يعلم ما كان مني خالصا لوجهه و ما كان مشوبا بالرياء... إنه أعلم بنفسي مني.

ربي لا تؤاخذني بما يقولون لا تحاسبني على إطرائهم الموجب للكبر و العجب في نفسي و اجعلني أفضل مما يظنون فيّ من الورع و التقى و الزهد و العمل و اغفر لي من الذنوب ما لا يعلمون و لا يدرون.. دعاء عملي من أجل إصلاح النفس في وقت الاطراء لها حتى تبقى تحث السير في الاتجاه السليم...

(فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين) هذا شروع في علامات المتقين الصادقين و هي أخص من الأولى و أظهر و أصدق، و بها جملة يعرف الأتقياء و هي.

1 - (إنك ترى له قوة في دين) صاحب دين قوي لا يتنازل عنه تحت أقسى الظروف و أشد الحالات و لا يعطي بالا للمشككين و أصحاب الأهواء.

2 - (و حزما في لين) فهو في حال حزمه يملك اللين ليس بالغليظ القاسي و لا الجلف الجافي، فهو على موقفه الثابت و مع ذلك لين طري...

3 - (و إيمانا في يقين) فإيمانه عميق إلى حد اليقين الموجب للاطمئنان و استقرار النفس لما آمن به.

4 - (و حرصا في علم) يبحث عن أبواب العلم فيطرقها ليزداد من علم الفقه و الدين و الأخلاق و الآداب.

5 - (و علما في حلم) يمزج العلم بالحلم ففي نفس الوقت الذي هو فيه عالم هو حليم فلا يغضب لسؤال و لا يغضب لمسألة مهما كانت قليلة الفائدة و إذا جهل عليه يصبر و يحتمل.

ص: 362

6 - (و قصدا في غنى) فهو مع غناه و سعة ذات يده و كثرة أمواله يقتصد في مصاريفه لا يعطي نفسه ما تشتهيه و لا يتركها تسترسل في أخذ ما تحب...

7 - (و خشوعا في عبادة) و هذا روح العبادة و قلبها فإنه في عبادته يخشع للّٰه ينكسر قلبه منه رهبة و خوفا...

8 - (و تجملا في فاقة) فمع فقره و حاجته يظهر أمام الناس بمظهر الأغنياء كما قال القرآن حاكيا ذلك بقوله: «يَحْسَبُهُمُ اَلْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ » فإنه يترك الشكوى إلى الناس و الطلب منهم و يظهر الغنى...

9 - (و صبرا في شدة) فهو في الشدائد صبور لا يتزلزل و لا يضطرب بل يصبر و يحتسب.

10 - (و طلبا في حلال) فهو يطلب الرزق من أبوابه المشروعة المحللة و يكتسب قوته بعرق جبينه و كد يمينه لا تمتد يده إلى الحرام و لا ينال من الحرام مكسبا أو مغنما.

11 - (و نشاطا في هدى) التقي نشيط مجتهد فيما فيه هدى و خير كتعليم الناس و هدايتهم لا يفتر و لا يتوانى أو يتكاسل.

12 - (و تحرجا عن طمع) يبتعد و يتجنب كل موارد الطمع لأن الطمع ذل مؤبد و في الحديث عن علي بن الحسين يقول: رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع مما في أيدي الناس.

13 - (يعمل الأعمال الصالحة و هو على وجل) يقوم بالأعمال الصالحة من حج و صيام و صلاة و غيرها و لكنه يخاف و يخشى أن تكون غير مقبوله لعدم استكمالها لشرائط القبول أو لبعض الموانع من قبولها...

14 - (يمسي و همه الشكر و يصبح و همه الذكر) المتقي يفتح عينيه على ذكر اللّٰه و يغمضهما على ذكر اللّٰه... يبتدأ بذكر اللّٰه و يختم بذكر اللّٰه و ما بينهما يشتغل بذكر اللّٰه، فذكر اللّٰه يستوعب عليه يومه...

15 - (يبيت حذرا و يصبح فرحا حذرا لما حذّر من الغفلة و فرحا بما أصاب من الفضل و الرحمة) يحذر و يخاف أن يغفل عن تأديب نفسه و عن عبادة ربه و ما يرضيه و يفرح إذا توفق للعمل الصالح و قام بما وجب عليه من تنفيذ أمر اللّٰه و ما يحب...

16 - (إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب) فهو يأخذ نفسه بالرياضة الصعبة و يعاندها فيما تحب إذ عاندته فيما يكره فإذا كرهت النوافل و لم

ص: 363

تطاوعه للإتيان بها لم يستجب لها فيما إذا أحبت أمرا كالنزهة أو تناول طعام تشتهيه و بعبارة أخرى هذا قهر لنفسه الأمارة بالسوء عند استصعابها عليه و عدم مطاوعتها له...

17 - (قرة عينه فيما لا يزول و زهادته فيما لا يبقى) سروره و فرحه في الباقيات الصالحات التي لا تزول بالموت بل يدوم أجرها و ثوابها و زهده فيما لا يبقى من الأعمال التي تموت بموت صاحبها كأكل الطيبات و الملذات التي تفنى و لا تبقى...

18 - (يمزج الحلم بالعلم و القول بالعمل) فحلمه نتيجة علمه و معرفته بما للحلماء من الأجر و الفضل و يقرن القول بالعمل فإذا قال تصدقوا على الفقراء بادر إلى ذلك و إذا قال صلاة الليل مستحبة ينبغي للمؤمن أن يفعلها قام هو بأدائها و هكذا... فلا يفصل بين القول و العمل بل إذا قال عمل بما قال...

19 - (تراه قريبا أمله) و هذا تعبير آخر عن قصر أمله و إنه لا أمل له في الأمور البعيدة التي تشغله عن ذكر اللّٰه...

20 - (قليلا زلله) فأخطئوه قليلة لعدم توجهه نحو الدنيا و لما يملكه من ملكة قوية تمنعه عن الوقوع في الخطأ...

21 - (خاشعا قلبه) قلبه خاضع ذليل خاشع لمعرفته باللّٰه و عظمته.

22 - (قانعة نفسه) نفسه راضية بما قسمه اللّٰه له لعلمه بحكمته و قسمته...

23 - (منزورا أكله) أكله قليل لعلمه بمضار الأكل الكثير من حيث أنّه يفقد الفطنة و يحرم الإنسان لذة المناجاة.

24 - (سهلا أمره) خفيف الحاجات فلا يكلف أحدا أمرا و لا يتكلف لأحد...

25 - (حريزا دينه) دينه محصّن باليقين و العقيدة الراسخة الثابته لا يستطيع أحد أن يطعن فيه أو يوسوس إليه في أمر يشككه من خلاله به أو يما يحمل من العقيدة...

26 - (ميتة شهوته) شهوته خامدة عن كل حرام بل عن الحلال لأنه في شغل آخر من عبادة ربه و التوجه إليه...

27 - (مكظوما غيظه) أي يحبس نفسه عن الغضب رجاء لثواب اللّٰه و ما أعده للكاظمين الغيظ...

28 - (الخير منه مأمول و الشر منه مأمون) يقصده الناس لأملهم بأنه يقضي حاجاتهم

ص: 364

و لا شر عنده أو رذيلة فهو مأمون الجانب من هذه الجهة لمعرفتهم بعدم اقترافه للشر أو ارتكابه للباطل...

29 - (إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين و إن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين) فهو و إن خالط الغافلين بجسده لكنه مع الذاكرين بقلبه، فهو معهم إذن حكما و فعلا، و إن كان مع الذاكرين فهو واحد منهم يقول بقولهم و يعمل عملهم و يتوجه إلى اللّٰه بتوجههم...

30 - (يعفو عمن ظلمه) من مارس الظلم عليه و اعتدى على حقه ثم قدر عليه و تمكن من ظلمه فإنه يعفو عنه و لا يقاصه أو يجازيه على ظلمه بظلم مثله بل يعفو عنه و يصفح و هذه مرتبة جليلة تحتاج إلى مجاهدة للنفس قوية...

31 - (و يعطى من حرمه) من حرمه و لم يعطه يبادر هو إلى اعطائه و لا يبخل عليه بما في يده و هذه مرتبة عليا سامقة أن تتحول إلى من حرمك في أيام غناه لتعطيه أنت في أيام غناك...

32 - (و يصل من قطعه) من يقطعه فلا يصله بالحضور عنده بالزيارة أو يقطعه فلا يصله بمال يسد حاجته أو غير ذلك يبادر هو ليصله و يتصل به و خصوصا إذا كان رحما قاطعا فإن الأخبار تؤكد صلته...

33 - (بعيدا فحشه) لا يفحش أبدا لأن التقوى تمنعه من كل قول قبيح سخيف و في الحديث عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: من علامات شرك الشيطان الذي لا يشك فيه أن يكون فحاشا لا يبالي بما قال و لا بما قيل له...

34 - (لينا قوله) يتكلم برفق و لطف ورقة و حنان دون غلظة و لا خشونة و لا جفاء.

35 - (غائبا منكره) لا منكر و لا رذيلة لأنه لا يرتكب حراما و لا باطلا.

36 - (حاضرا معروفه) متى قصدته في أمر معروف من إصلاح و عمل خير وجدته حاضرا مستعدا يلبي دعوة الداعي إلى كل خير و معروف...

37 - (مقبلا خيره مدبرا شره) خيره مستمر لمن يعرفه و لمن لا يعرفه و لمن يستحقه و لمن لا يستحقه و شره مدبر أي لا شر فيه بل ذهب الشر عند ما جاءت التقوى و استقر الإيمان...

38 - (في الزلازل و قور) في مواطن الشدة و الاضطراب حينما تتزلزل عقول الرجال

ص: 365

و تنهار أعصابهم عندها ترى المتقي متماسك الخطى رزين التفكير سليم التوجه و التصرف يملك أعصابه و يبقى على رزانته و رصانته...

39 - (و في المكاره صبور) إذا وقع في شدة أو ضيق أو تكاثرت عليه المصائب لا يضجر و لا يسأم و لا يقع فريسة هذه الشدائد بل يفكر بصبر و أناة في الوسائل الكفيلة بخروجه من هذه المآزق الصعبة...

40 - (و في الرخاء شكور) إذا أعطاه اللّٰه و أمده بما عنده و وسع عليه من عطائه فإنه يزداد شكرا على هذه النعمة...

41 - (لا يحيف على من يبغض و لا يأثم فيمن يحب) إذا أبغض إنسانا لا يظلمه بل يعطيه حقه و ما يستحقه التزاما بقوله تعالى: «وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ » .

و من يحبه فلا يدخله حبه في معصية، فإذا أحب إنسانا لا يعطيه ما لا يستحقه فيرتكب الحرام كما هو المعروف من الولاة حيث أنهم إذا أحبوا إنسانا أعطوه من مال الأمة ما لا يستحق و ارتكبوا بذلك الإثم و الحرام...

42 - (يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه) إذا كان عليه الحق اعترف به لصاحبه و لم يتوقف حتى يشهد عليه الشهود و يثبتوا عليه هذا الحق لأن ذلك يحط من شأنه و يرميه بالكذب و هو شريف تقي لا يرضى ذل نفسه و إهانتها...

43 - (لا يضيع ما استحفظ) فكل شيء عهد إليه في حفظه يحفظ عنده و لا يضيع سواء كان صلاة أم صوما أم أمانة ماليه أو معنوية من سر و جوار أو غير ذلك...

44 - (و لا ينسى ما ذكر) ما ذكره اللّٰه به من جنة و نار و حساب و عقاب و وعد و وعيد لا ينساه لأنه يداوم عليه و يحفظه و يعمل به...

45 - (و لا ينابز بالالقاب) لا يرمي غيره بالالقاب القبيحة السيئة امتثالا لقوله تعالى: «وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ » (1) لأنها تورث الحقد و البغضاء...

46 - (و لا يضار بالجار) فلا يضر جاره و لا يؤذيه و قد قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم: «لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه» و قال في حديث آخر: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت إنه سيورثه»...1.

ص: 366


1- سورة الحجرات آية، - 11.

47 - (و لا يشمت بالمصائب) أي لا يفرح بما يصيب الغير من المصائب و النكبات لأن ذلك ينم عن سوء السريرة و الطوية و الإنسان المسلم يفرح لفرح المسلم و يحزن لحزنه و ينشد له الخير و لكل الناس...

48 - (و لا يدخل في الباطل و لا يخرج من الحق) إنه دائما في خط اللّٰه لا يخرج عنه و لا يدخل في باطل و الباطل هو كل أمر لا يأخذ شرعيته من اللّٰه أو لم يأذن به أو لم يدخل تحت عموم أباحه اللّٰه...

49 - (إن صمت لم يغمّه صمته و إن ضحك لم يعل صوته) إن سكت و لم يتكلم لم يحزن لذلك لأنه يضع الأمور موضعها فلم يسكت لعجز و إنما سكت لأنه يرى حسن السكوت و هو بعد ذلك كله يذكر اللّٰه أوقات صمته..

و أما إذا ضحك فلا يرتفع صوته أو يقهقه بل يتبسم و هذا هو المعهود من ضحك رسول اللّٰه...

50 - (و إن بغي عليه صبر حتى يكون اللّٰه هو الذي ينتقم له) إن اعتدي عليه بضرب أو إهانة أو سلب مال أو متاع صبر و احتسب - هذا إذا لم يقدر على رد الاعتداء بأن يكون المعتدي جبارا شقيا - أما إذا أمكن تأديب المعتدي ورد ما جاء به فهناك إذا تاب و أناب حسن العفو و الصفح و أما إذا بقي على تمرده و عصيانه فالاقتصاص منه و تأديبه من الأمور المطلوبة المرغوبة...

51 - (نفسه منه في عناء و الناس منه في راحة) نفسه منه في تعب حيث يحملها على القيام بالواجبات و المستحبات و يمنعها عن الشهوات و الملذات و أما الناس فإنهم منه في راحة لأنه لا يؤذي أحدا و لا يعتدي على أحد و لا يضر أحدا أو يغضبه...

52 - (أتعب نفسه لآخرته و أراح الناس من نفسه) أتعب نفسه في دار الدنيا حيث حملها على القيام بالواجبات و على ترك الشهوات من أجل الآخرة و سعادتها و الوصول إلى درجات النعيم و كأن هذا تعليل لكون نفسه منه في عناء و كأن قوله أراح الناس من نفسه إيضاح و بيان لراحة الناس منه...

53 - (بعده عمن تباعد عنه زهد و نزاهة و دنوه ممن دنا منه لين و رحمة ليس تباعده بكبر و عظمة و لا دنوه بمكر و خديعة) عند ما يبتعد عن أهل الدنيا يبتعد عنهم خوفا من شرورهم و زهدا فيما بين أيديهم و إذا دنا من أحد يدنو منه بعطف و حب و لين ثم أراد أن ينفي محذورا يتعامل به غير المؤمنين في القرب من الناس و البعد عنهم فإنه لا يتباعد إذا تباعد عن علو و عظمة و تكبر و لا يدنو منهم من أجل قضاء حاجة أو تمرير أمر أو من أجل

ص: 367

أن يخدعهم في أمر يريد الحصول عليه أو الوصول إليه.

و لم يكد الإمام يصل إلى هذا المقام من الكلام حتى صعق همام صعقة كانت نفسه فيها أي وقع على الأرض مغشيا عليه قد فقد الحياة و فارقها.

ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام عند ما رأى سقوط الرجل ميتا.

(أما و اللّٰه لقد كنت أخافها عليه ثم قال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها) حلف الإمام إنه كان يخشى على همام مثل هذه الصعقة التي تخرج معها نفسه حيث قرأ في وجهه الزهد و التقوى و العشق للّٰه و رأى أن نفسه شفافة لا تطيق مثل هذا الوصف الدقيق الذي يخرج من قلب الإمام و نفسه...

ثم إنه عليه السلام قال: هكذا تصنع و تؤثر المواعظ البالغة حد النهاية بأهلها الذين يملكون طهارة النفوس و نزاهتها و شفافية الأرواح و عفتها...

و لم يكد ينتهي الإمام من هذا حتى قال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين ؟.

أي إذا كنت قلت: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها كما فعلت بهمام فلما ذا لم تصب منها أنت كما أصيب همام...

فأجابه الإمام عليه السلام.

(ويحك إن لكل أجل وقتا لا يعدوه و سببا لا يتجاوزه. فمهلا. لا تعد لمثلها فإنما نفث الشيطان على لسانك) هذا تعجب من الإمام أو ذم لهذا الشخص ثم قال له انسيت أن لكل أجل مدة معينة عند ما تنتهي يموت و لكل إنسان وقت معين في دار الدنيا فعند ما ينتهي هذا الأجل تأتي الأسباب المختلفة لاختراقه فيموت الإنسان، فمنهم من يموت حريقا و منهم غريقا و منهم بالهدم و الآخر بالردم و هكذا و من الأسباب التي مات بها همام هذه الموعظة البليغة المؤثرة التي دخلت إلى عمق نفسه فانفعل بها و تأثر بمضمونها فصعق منها و قضت عليه...

و أشار الإمام إلى أن هذا الإشكال من هذا الشخص إنما كانت وسوسة شيطانية ألقاها الشيطان على لسانه ليضل بها بعض البسطاء ثم نهاه أن يعود لمثلها...

و قد يقال: إن الإمام باعتبار ما يحمله من نفس ملكوتية رفيعة عظيمة لم تتأثر بها نفسه و إن أمكن أن تتأثر بأبلغ من هذه بينما نفس همام لضعفها و تأثيرها الشديد تأثرت بهذه الموعظة...

ص: 368

ترجمة همام بن شريح.

وردت ترجمة همام مختصرة جدا.

ففي شرح النهج لابن أبي الحديد ترجمه بقوله: هو همام بن شريح بن يزيد بن مرة بن عمرو بن جابر بن يحيي بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل بن مرّان بن صيفي بن سعد العشيرة.

و كان همام هذا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام و أوليائه و كان ناسكا عابدا قال له: يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى أصير بوصفك إياهم كالناظر إليهم و ساق خبر الخطبة...

و في كنز الكراجكي مسندا عن يحيى ابن أم الطويل قال: عرضت لي حاجة إلى أمير المؤمنين فاستتبعت إليه جندب بن زهير و الربيع بن خيثم و ابن أخيه همام بن عبادة ابن خيثم و كان من أصحاب البرانس قال: فأقبلنا معتمدين لقاء أمير المؤمنين فألفيناه حين خرج يؤم الناس فأفضى و نحن معه إلى نفر إلى أن قال نوف: فأقبل جندب و الربيع فقالا: ما سمة شيعتكم يا أمير المؤمنين ؟ فتثاقل عن جوابهما فقام همام بن عبادة فقال:

(و ذكر الخبر المعروف بطوله) و في آخر فصاح همام بن عبادة صيحة عظيمة و وقع مغشيا عليه فحركوه فإذا هو قد فارق الحياة رحمة اللّٰه عليه فاستعبر الربيع(1) باكيا و قال: ما أسرع ما أودت موعظتك يا أمير المؤمنين بابن أخي و لوددت لو أني بمكانه... إلى أن قال: فصلى عليه أمير المؤمنين عليه السلام عشية ذلك اليوم و شهد جنازته و نحن معه...

ص: 369


1- أعيان الشيعة ج 51 ص 77.

194 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

يصف فيها المنافقين نحمده على ما وفّق له من الطّاعة، و ذاد (1) عنه من المعصية، و نسأله لمنّته (2) تماما، و بحبله اعتصاما. و نشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، خاض (3) إلى رضوان اللّٰه كلّ غمرة (4)، و تجرّع (5) فيه كلّ غصّة (6). و قد تلوّن (7) له الأدنون (8)، و تألّب (9) عليه الأقصون (10)، و خلعت (11) إليه العرب أعنّتها (12)، و ضربت إلى محاربته بطون رواحلها (13)، حتّى أنزلت بساحته عداوتها، من أبعد الدّار، و أسحق (14) المزار (15).

أوصيكم، عباد اللّٰه، بتقوى اللّٰه، و أحذّركم أهل النّفاق، فإنّهم الضّالّون المضلّون، و الزّالّون (16) المزلّون، يتلوّنون ألوانا، و يفتنّون (17) افتنانا، و يعمدونكم (18) بكلّ عماد (19) و يرصدونكم (20) بكلّ مرصاد.

قلوبهم دويّة (21)، و صفاحهم (22) نقيّة. يمشون الخفاء (23)، و يدبّون (24) الضّراء (25). وصفهم دواء، و قولهم شفاء، و فعلهم الدّاء العياء (26).

حسدة (27) الرّخاء (28)، و مؤكّدو البلاء (29)، و مقنطو (30) الرّجاء. لهم بكلّ طريق صريع (31)، و إلى كلّ قلب شفيع، و لكلّ شجو (32) دموع. يتقارضون الثّناء (33)، و يتراقبون الجزاء (34): إن سألوا ألحفوا (35)، و إن عذلوا (36) كشفوا، و إن حكموا أسرفوا. قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا، و لكلّ قائم مائلا، و لكلّ حيّ قاتلا، و لكلّ باب مفتاحا، و لكلّ ليل مصباحا. يتوصّلون إلى

ص: 370

الطّمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، و ينفقوا (37) به أعلاقهم (38). يقولون فيشبّهون، و يصفون فيموّهون (39). قد هوّنوا الطّريق، و أضلعوا (40) المضيق (41)، فهم لمة (42) الشّيطان، و حمة (43) النّيران «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ » .

اللغة

1 - ذاد عنه: حمى عنه و طرد و الذود الطرد و الدفع.

2 - المنة: النعمة.

3 - خاض: دخل و أصل الخوض دخول القدم فيما كان مايعا كالماء و الطين.

4 - الغمرة: ما ازدحم و كثر من الماء، الشدة و غمرات الموت شدائده.

5 - تجرع: الماء شربه شيئا فشيئا.

6 - الغصّة: الشجا و الجمع الغصص.

7 - تلوّن: تنكر، تغير عليه و تقلب و لم يثبت معه.

8 - الأدنون: الأقربون.

9 - تألبوا عليه: تجمعوا عليه.

10 - الأقصون: الأبعدون.

11 - خلعت: نزعت.

12 - الأعنة: جمع عنان و هو حبل اللجام.

13 - الرواحل: الإبل القوية الصالحة للأحمال و الأسفار.

14 - أسحق: أبعد و السحيق البعيد.

15 - المزار: المكان الذي يزار منه أو فيه.

16 - الزالون: من زل أي أخطأ.

17 - يفتنون: يتشعبون فنونا أي ضروبا متعددة.

18 - يعمدونكم: يفدحونكم و عمده المرض أي هدّه.

19 - العماد: ما يقام عليه البناء، الأمر الفادح.

20 - يرصدونكم: يقعدون لكم في كل طريق.

21 - دويّة: مريضة من الدوى بالقصر و هو المرض.

22 - الصفاح: جمع صفحة الوجه و هو ظاهره.

23 - الخفاء: من خفى الشيء إذا استتر.

ص: 371

24 - يدبون: من دبّ النحل إذا مشى مشيا بطيئا.

25 - الضراء: ضد السراء.

26 - الداء العياء: الذي يعيي الأطباء.

27 - حسدة: جمع حاسد.

28 - الرخاء: سعة العيش.

29 - البلاء: المصائب.

30 - مقنطو: من قنط إذا يئس.

31 - الصريع: المطروح على الأرض.

32 - الشجو: الحزن.

33 - يتقارضون الثناء: مأخوذ من القرض لأن كل واحد يثني على الآخر حتى الآخر يثني عليه.

34 - يتراقبون الجزاء: يرتقب كل واحد منهم على ثنائه و مدحه لصاحبه جزاء منه.

35 - ألحفوا: بالغوا في السؤال و ألحوا.

36 - عذلوا: لاموا.

37 - ينفقون: من نفق البيع راج و نفقت السلعة ضد كسدت.

38 - الأعلاق: جمع علق السلعة الثمنية.

39 - يموهون: يزينون و موه الشيء طلاه بغير جنسه كطلاء الفضة بالذهب.

40 - أضلعوا: من أضلع الشيء أماله و جعله معوجا.

41 - المضيق: المسلك الضيّق.

42 - اللّمة: بضم ففتح الجماعة.

43 - الحمة: بالتخفيف الإبرة تلسع بها العقرب و نحوها.

الشرح

(نحمده على ما وفق له من الطاعة و ذاد عنه من المعصية و نسأله لمنته تماما و بحبله اعتصاما) هذه الخطبة الشريفة يذكر فيها الإمام المنافقين و أوصافهم و ما عملوه من أعمال قبيحة مشينة ذكرها الرضي بعد ذكر المتقين لبيان الفارق الكبير بينهما...

ابتدأ عليه السلام بحمد اللّٰه باعتبارين.

الأول: حمد اللّٰه على توفيقه على الطاعة فإن من أطاع اللّٰه فقد توفق و هذا يحتاج إلى حمد اللّٰه لأن ذلك بما جعله اللّٰه له من أسباب التوفيق...

ص: 372

الثاني: إن من امتنع عن المعصية و دفع عنها يحتاج إلى حمد من وفقه لذلك و هو اللّٰه و المعنى فيهما يكون بمستوى قولنا: الحمد للّٰه على توفيق الطاعة و البعد عن المعصية، نحمده للأمور التي وفق إليها في الطاعة كما نحمده على الأمور القبيحة التي دفعنا عنها و منعنا عن ارتكابها.

ثم سأل اللّٰه أن تكون نعمه التي منّ بها علينا أن يتمها و يكملها في الدين و الدنيا أو يجعلها متصلة في الدنيا و الآخرة كما سأله أن يجعله بدينه و شريعته و قرآنه متمسكا حتى لا يضل أو ينحرف.

(و نشهد أن محمدا عبده و رسوله خاض إلى رضوان اللّٰه كل غمرة و تجرع فيه كل غصة) بعد حمد اللّٰه شهد للنبي بالعبودية للّٰه كما شهد له بالرسالة له عند البعثة فإنه تعرض لأعظم الأخطار و أفدحها في سبيل رضا اللّٰه، و تحمّل كل مكروه و لم تصف له الحياة لحظة في هذا الطريق.

(و قد تلوّن له الأدنون و تألب عليه الأقصون و خلعت إليه العرب أعنتها و ضربت إلى محاربته بطون رواحلها حتى أنزلت بساحته عداوتها من أبعد الدار و أسحق المزار) هذه هي حالة أصحاب الرسالات على امتداد التاريخ، إنهم يواجهون العالم برسالتهم و أفكارهم و مفاهيمهم و عقائدهم و بكل ما جاءوا به و هنا يتوقف الزمن و تعاد دورة الحياة من جديد... هنا في وقت البعثة يتخلى عنه أقرب الناس إليه، إنهم لا يجتمعون معه على رأي واحد... لا يتوحدون تحت فكر النبي القائد بل هذا تشده العصبية لآلهته القديمة... و هذا تشده عادات قومه و تقاليدهم... و هذا يخاف المحاربة و الجوع و لذا تشعبت آراء قريش و تعددت في نبوة رسول اللّٰه و أما البعيدون عنه الغرباء فإنهم اجتمعوا و اتفقوا على محاربته و القضاء على دعوته.

ثم ذكر كيف أعلنت العرب الحرب على رسول اللّٰه لقد أسرعوا بكل ما أوتوا من قوة لقتاله و قد عبّر عن هذا المعنى بأنهم قد نزعوا كل الضوابط التي كانت تحكمهم في إعلان الحرب.

لقد ضربوا بطون دوابهم لقتاله، لقد جاءوا ركبانا و فرسانا حتى خاضوا معه غمار الحرب من أبعد الأماكن و أعمق المحلات... جاءوا إليه من كل فج عميق يريدون القضاء عليه و على رسالته و نظرة واحدة إلى زمن بعثة رسول اللّٰه و إلى سيرته في مكة و هجرته إلى المدينة ثم إلى حروبه يكشف كل ذلك بوضوح كيف اجتمع العرب و التقوا من كل أطراف الجزيرة لقتال النبي و استئصال شأفته...

ص: 373

(أوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه و أحذركم أهل النفاق فإنهم الضالون المضلون و الزالون المزلون يتلونون ألوانا و يفتنون افتنانا و يعمدونكم بكل عماد و يرصدونكم بكل مرصاد) ابتدأ عليه السلام بأعظم الوصايا التي بقي يوصي بها باستمرار و هي الوصية بالتقوى التي تعنى الالتزام بخط اللّٰه و عدم الانحراف عنه.

ثم حذرهم من أهل النفاق... أن يفتنوهم عن دينهم و يضلوهم السبيل و ذكر أوصاف أهل النفاق.

- فإنهم ضالون في أنفسهم منحرفون في سلوكهم و أيضا مضلّون لغيرهم، يسعون في سبيل إضلال الناس و الانحراف بهم ليكونوا معهم في الدرك الأسفل من النار...

- إنهم المخطئون في فكرهم و عملهم الذين يسعون في زلل الناس و سقوطهم في مستنقعات الشك و التردد.

- إنهم يتلونون ألوانا لا يثبتون على رأي واحد و لا يقابلون الناس بوجه واحد بل يلبسون الأقنعة المتعددة بحسب الظروف و الأوقات و الأمكنة و الأشخاص و إننا نرى بعض هذه النماذج تتحرك في وسطنا الاجتماعي و الحياتي و يكاد النص ينطبق عليها بدقة...

- إنهم يفتّنون افتنانا: يتشعّبون في أقوالهم و أفعالهم و يتفنون في مكرهم و خداعهم...

- إنهم يعمدونكم بكل عماد و يرصدونكم بكل مرصاد: إنهم ينزلون بكم كل أمر عظيم و خطب فظيع و رزية كبرى و مصيبة عظمى إنهم يقصدونكم بأعظم الفوادح و أثقل المصيبات إنهم يراقبونكم بدقة و يقطعون عليكم كل الطرق بالمراقبة لكم و متابعتكم في كل حركاتكم كي ينحرفوا بكم عن سواء السبيل. و بعبارة أخرى إن المنافقين يعيشون في حالة رقابة عليكم ليجدوا نقاط الضعف التي منها يستطيعون إضلالكم و الانحراف بكم...

(قلوبهم دوية و صفاحهم نقية) إنهم يحملون قلوبا مريضة فاسدة قد خرجت عن حد الاعتدال إلى النفاق و الشك و التردد و عدم الإيمان و أما لو نظرت إلى وجوههم و سمعت كلامهم لغرك ذلك منهم و أعجبك ما تسمع و ما ترى و رحت تحسن الظن بهم غافلا عما يحمله القلب من البغض و الشحناء...

(يمشون الخفاء و يدبون الضراء) فهم يمشون في الخفاء يكيدون للناس و يسعون

ص: 374

في إيذائهم و الإضرار بهم لا يستطيعون مواجهتهم بالحقيقة و لا إظهار ما في أنفسهم من الالتواء و الاعوجاج.

و قوله: «يدبون الضراء» مثل يضرب لمن يختل صاحبه.

(وصفهم دواء و قولهم شفاء و فعلهم الداء العياء) إذا قالوا نطقوا بما ينطق به المؤمنون و إذا استشارهم أحد في حالة وصفوا له الدواء الناجع فهم خبراء في رص الكلام و تنميقه و حسن إخراجه، إنهم عند ما يتحدثون أمامك تراهم خبراء في و صفات الشفاء للنفوس و لكن إذا جئت لفعلهم فهو الداء الذي لا يمكن معالجته و شفاؤه إنه يعجز أحذق الأطباء و أشدهم خبرة... و قد رأينا بعض المنافقين علماء في الدين و في المجتمع إذا حدث في الصلاة أو الصوم أو غيرهما تراه يحلق و يبدع و يرغب و يرهب و لكنه لا يصلى و لا يصوم و لا يتعبد للّٰه بشيء يقربه منه لأنه يعيش النفاق في أبشع صوره...

(حسدة الرخاء و مؤكدو البلاء و مقنطو الرجاء) إن وجدوا فردا في حالة من السعة و الرخاء و العيش الرغيد حسدوه و أخذوا يعملون الحيل من أجل إزالة هذه النعم عنه و تحويلها عن داره.

و إذا وقع أحد في مصيبة أو بلية و فرّوا له وسائل بقائها و ساعدوا على دوامها و ازديادها و أكدوا له أن لا نجاة له منها.

و إذا لاح للإنسان أمل في أمر يحبه و كان له رجاء في شفاء من علة فإنهم يدخلون إلى قلبه اليأس من ذلك الأمر و أنه لا شفاء له و لا دواء، إنهم وجوه مشؤومة لا تنذر إلا بالخراب و الدمار و سؤ الحال...

(لهم بكل طريق صريع و إلى كل قلب شفيع و لكل شجو دموع).

لا يخلو طريق من شرورهم و أذاهم فإنهم يعيشون الكيد و المكر و الخديعة في كل الأماكن و أينما وجدوا وجد أذاهم للناس و احتيالهم عليهم و مكرهم بهم.

و مع هذا فإنهم يملكون ألسنة طيبة سلسلة رطبة استطاعوا بها أن يدخلوا إلى قلوب الناس و يكوّنوا لهم رصيدا من الحب على أساسه توادهم الناس و تقبل منهم... إنهم يعدون في كل مأتم حزن دموعا غزيرة يذرفونها توصلا إلى مشاركتهم في الظاهر من أجل أغراضهم الدنيئة.

إنها دموع التماسيح يذرفونها في الظاهر و يريدون منها اقتناص فريستهم و قد ورد

ص: 375

حديث يقول: إذا تم نفاق المرء ملك دموعه (أو عينيه).

(يتقارضون الثناء و يتراقبون الجزاء) و هذه طريقة أهل النفاق إنهم يثنون على بعضهم فهذا يثني على ذاك و ذاك يثني على هذا و هكذا مأخوذ من القرض لأن هذا يثني رجاء أن يثني عليه الآخر و هكذا.

و كل منهم ينتظر الجزاء، جزاء مديحه و ثنائه إما بمديح مثله أو بأمر مادي مالي...

(إن سألوا ألحفوا) و هذه عادة أهل النفاق إن أرادوا أمرا ألحوا و شدّدوا الطلب خوفا من فوت ما يسألون و هذا أمر مذموم قال تعالى: «لاٰ يَسْئَلُونَ اَلنّٰاسَ إِلْحٰافاً» (1).

(و إن عذلوا كشفوا) إذا لاموا أحدا ببعض الأمور المعيبة كشفوا ذلك أمام الناس و فضحوه بما يعلمون من عيوبه و أخطائه...

(و إن حكموا أسرفوا) إن تولوا سلطة أو ولاية أو كان لهم يد على الناس قوية تجاوزوا المرسوم و دخلوا في الحرام و الفساد و الضلال و أكلوا أكثر من حقهم و مالهم...

(قد أعدوا لكل حق باطلا و لكل قائم مائلا) طريقة أهل النفاق أنهم لا ينامون على ما يجري في ساحتهم بل يعدّون لكل أمر لا يريدونه أمرا يبطله و يفسده.

فقد أعدّوا و هيئوا لكل حق باطلا يطفئونه، أثاروا الشبهات ليطمسوا الحق و يموهوه على الناس.

و كذلك كل أمر مستقيم صحيح سليم و فروا في مقابله أمرا معوجا ينحرف بهذه الاستقامة...

(و لكل حي قاتلا) أي لكل حي من الأحياء أو لكل حق من الحقوق أو حكم من الأحكام ما يبطله و يفسده و يقضي عليه فلا يعود للعمل به كما هي حالة المنافقين الذين قتلوا أحكام الشريعة و عطلوا العمل بها و استبدلوا ذلك بالأحكام الوضعية المستوردة من بلاد الكفر و الضلال...

(و لكل باب مفتاحا) فكل باب موصد في وجوههم لا يفتح لهم جعلوا له مفتاحا3.

ص: 376


1- سورة البقرة، آية - 273.

من ريائهم و مكرهم و تملقهم...

(و لكل ليل صباحا) في كل شدة مدلهمة أوجدوا حيلة بها يستطيعون الخروج من ذلك النفق المظلم القاتم...

(يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم و ينفقوا به أعلاقهم) إنهم يظهرون اليأس بما في أيدي الناس ليستجلبوا قلوبهم إليهم و يميلوا بها نحوهم توصلا إلى تحقيق أطماعهم و ما يرغبون فيه من ازدهار أسواقهم و تصريف نفائس ما عندهم - في نظرهم - و هو النفاق و الرياء و الخداع و الضلال...

(يقولون فيشبهون و يصفون فيموهون) إذا قالوا جاءوا بالألفاظ التي تحتمل عدة وجوه فيشتبه الأمر على الناس و ينحرفون بهم عن الاستقامة، أو يقولون قولا يشبه الحق فيضلون الناس و كذلك يصفون الباطل بصفات الحق فيغرّون به البسطاء ليقبلوه...

(قد هونوا الطريق و أضلعوا المضيق) قد سهلوا طريق الباطل على الناس و رغبوهم فيه بما عندهم من مكر و حيل و لم يجعلوه واضحا بل له تعاريج و انحرافات حتى يمر على الناس و يتقبلوه بدون أن يكتشفوا حقيقته.

(فهم لمة الشيطان و حمة النيران «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ » ) إنهم جماعة الشيطان الذين يسيرون معه و يمشون في ركابه و قد وصفهم بحمة النيران أي توفّد النار و شدة لهبها شبههم بذلك لكثرة شرورهم و آذاهم. ثم ختم الخطبة بأن هؤلاء المنافقين بأوصافهم المتقدمة هم حزب الشيطان - أتباعه و أنصاره و السائرون على خطاه - ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون - و هل هناك أكبر خسارة من حزب الشيطان حيث النار مأواهم و بئس المصير...

ص: 377

195 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يحمد اللّٰه و يثني على نبيه و يعظ

حمد اللّٰه

الحمد للّٰه الّذي أظهر من آثار سلطانه، و جلال كبريائه، ما حيّر مقل (1) العقول من عجائب قدرته، و ردع (2) خطرات (3) هماهم (4) النّفوس عن عرفان (5) كنه (6) صفته.

الشهادتان

و أشهد أن لا إله إلاّ اللّٰه، شهادة إيمان و إيقان (7)، و إخلاص و إذعان (8). و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، أرسله و أعلام (9) الهدى دارسة، و مناهج (10) الدّين طامسة (11)، فصدع (12) بالحقّ ، و نصح للخلق، و هدى إلى الرّشد، و أمر بالقصد (13)، صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم.

العظة

و اعلموا، عباد اللّٰه، أنّه لم يحلقكم عبثا (14)، و لم يرسلكم هملا (15)، علم مبلغ نعمه عليكم، و أحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه (16)، و استنجحوه (17)، و اطلبوا إليه و استمنحوه (18)، فما قطعكم عنه حجاب.

و لا أغلق عنكم دونه باب، و إنه لبكلّ مكان، و في كلّ حين و أوان، و مع كلّ إنس و جانّ ، لا يثلمه (19) العطاء، و لا ينقصه الحباء (20)، و لا يستنفذه (21)

ص: 378

سائل، و لا يستقصيه (22) نائل (23)، و لا يلويه (24) شخص عن شخص، و لا يلهيه (25) صوت عن صوت، و لا تحجزه هبة عن سلب، و لا يشغله غضب عن رحمة، و لا تولهه (26) رحمة عن عقاب، و لا يجنّه (27) البطون عن الظّهور، و لا يقطعه (28) الظّهور عن البطون. قرب فنأى (29)، و علا فدنا (30)، و ظهر فبطن، و بطن فعلن، و دان (31) و لم يدن. لم يذرإ (32) الخلق باحتيال، و لا استعان بهم لكلال (33).

أوصيكم، عباد اللّٰه، بتقوى اللّٰه، فإنّها الزّمام (34) و القوام (35)، فتمسّكوا بوثائقها (36)، و اعتصموا بحقائقها (37)، تؤل (38) بكم إلى أكنان (39) الدّعة (40) و أوطان السّعة (41)، و معاقل (42) الحرز (43) و منازل العزّ، في «يوم تشخص فيه الأبصار (44)»، و تظلم له الأقطار (45). و تعطّل فيه صروم (46) العشار (47)، و ينفخ في الصّور (48)، فتزهق (49) كلّ مهجة (50)، و تبكم كلّ لهجة (52)، و تذلّ الشّمّ (53) الشّوامخ (54)، و الصّمّ (55) الرّواسخ (56)، فيصير صلدها (57) سرابا (58) رقرقا (59)، و معهدها (60) قاعا (61) سملقا (62)، فلا شفيع يشفع، و لا حميم ينفع، و لا معذرة تدفع.

اللغة

1 - المقل: جمع مقلة كغرفة و غرف و هي شحمة العين التي تجمع السواد و البياض.

2 - ردع: زجر و دفع.

3 - خطرات: من خطر الشيء في ذهنه إذا لاح في فكره و مرّ.

4 - هماهم: من الهمهمة و هو حديث النفس مع صوت خفي لا يفهم.

5 - العرفان: المعرفة.

6 - كنه الشيء: حقيقته و نهايته و أقصاه.

7 - الإيقان: العلم القطعي.

ص: 379

8 - الإذعان: الانقياد.

9 - الاعلام: المنار و الجبال يستدل بها في الطرقات.

10 - المناهج: السبل الواضحة.

11 - الطامسة: الدارسة و طمس الشيء محاه و درسه.

12 - صدع: أصله الشق يظهر ما تحته و هو هنا بمعنى كشف و بين.

13 - القصد: العدل.

14 - العبث: ما لا غرض فيه.

15 - الهمل: الإبل بدون راع.

16 - استفتحوه: أسألوه الفتح.

17 - استنجحوه: اطلبوا منه النجاح.

18 - استمنحوه: اطلبوا منه المنحة و هي العطية.

19 - الثلمة: الخلل و النقص و ثلم السيف كسر جانبه.

20 - الحباء: النوال و العطية بدون مكافأه.

21 - لا يستنفده: لا يفنيه و النفاد الفناء.

22 - الاستقصاء: تتبع الأمر و إحصاؤه إلى آخره.

23 - النائل و النوال: العطاء.

24 - لا يلويه: لا يميله و لوى الرجل وجهه إذا أعرض و انحرف.

25 - الهاه كذا: شغله.

26 - تولهه: تذهله من الوله و هو التحير و التردد.

27 - لا يجنه: لا يستره.

28 - لا يقطعه: لا يفصله.

29 - نأى: بعد.

30 - دنا: قرب.

31 - دان: غلب و قهر، أو جازى و حاسب.

32 - ذرأ: خلق.

33 - الكلال: العجز و الاعياء.

34 - الزمام: المقود.

35 - القوام: بالفتح - أي عيش يحيا به الأبرار.

36 - الوثائق: جمع وثيقة و هي ما يوثق به.

37 - الحقائق: جمع الحقيقة و هي الراية.

38 - تؤل: ترجع.

39 - الاكنان: جمع كن ما يستر.

ص: 380

40 - الدعة: الراحة.

41 - السعة: الجدة.

42 - المعاقل: جمع معقل و هو الملجأ.

43 - الحرز: الحفظ.

44 - شخوص الابصار: بقاؤها مفتوحة دون أن تطرف.

45 - الاقطار: الجوانب.

46 - الصروم: صرم و صرمة بالكسر القطعة من الإبل نحو الثلاثين.

47 - العشار: النوق التي مضى على طرق الفحل لها عشرة أشهر فلها هذه المدة حامل.

48 - الصور: القرن ينفخ فيه، البوق.

49 - تزهق: تهلك.

50 - المهجة: الروح.

51 - تبكم: تخرس و الأبكم هو الأخرس.

52 - اللهجة: اللسان و لغة الإنسان الذي طبع عليها.

53 - الشم: جمع أشم و هو العالي المرتفع.

54 - الشوامخ: المرتفعات و الأعالي.

55 - الصّم: جمع أصم و هو الصلب.

56 - الرواسخ: جمع الراسخ و هو الثابت.

57 - الصلد: الصلب الشديد الصلابة.

58 - السراب: ما يتراءى في النهار فيظن أنه ماء و هو لا شيء.

59 - الرقراق: المضطرب.

60 - معهدها: المحل الذي كان يعهد وجودها فيه.

61 - القاع: الأرض الخالية السهلة التي انفرجت عنها الجبال.

62 - السملق: المستوى و المتساوي الذي لا ارتفاع في أحد جوانبه...

الشرح

(الحمد للّه الذي أظهر من آثار سلطانه و جلال كبريائه ما حير مقل العقول من عجائب قدرته و ردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته) هذه الخطبة ابتدأت بحمد اللّٰه و الثناء عليه و الصلاة على النبي و آله و تضمنت موعظة للمؤمنين أن يعتبروا و يتقوا اللّٰه.

ص: 381

ابتدأ بحمد اللّٰه الذي أظهر و أبان من بدائع الصنع و التكوين في السماوات و الأرض و الأنفس و الآفاق ما جعل البصائر حائرة لا تصل إلى أسرار ذلك و لا تدرك غوره و منع و دفع ما تتحدث به النفوس من احتمال وصولها إلى معرفة حقيقة صفته بأي طريقة كانت و كيف تمت...

و مختصر المراد: أن العقول و الأفكار تعجز عن ادراك عظمة اللّٰه و الوصول إلى حقيقة صفته و قدرته لأنها محدودة و اللّٰه لا حدود له و لا يقع تحت قدرة الفكر و سلطته...

(و أشهد أن لا إله إلا اللّٰه شهادة إيمان و إيقان و إخلاص و إذعان) بعد حمد اللّٰه ثنى بالشهادة للّٰه بالواحدانية و وصفها بأنها شهادة إيمان يطابق القلب اللسان صادرة عن علم و يقين بأن يكون الاعتقاد بها عن نظر و فكر و تصديق بدون شك فيه و لا ارتياب مع الإخلاص فيها بدون رياء و مع الانقياد لمتطلباتها و ما وراءها من الآثار و الالتزامات...

(و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله و أعلام الهدى دارسة و مناهج الدين طامسة) هذه هي الشهادة الثانية التي هي من متممات الشهادة الأولى و المتفرعة عنها، الشهادة للنبي بالعبودية للّٰه و إنه رسول اللّٰه.

ثم وصف ما كان عليه العالم حينما بعث اللّٰه محمدا رسولا فقد أرسله و آثار الأنبياء، و تعاليمهم قد محيت و عفيت آثارها فقد جاءت الجاهلية فمحت كل تراث الأنبياء و لم يعد لهم من وجود يذكر كما أن شرائع الدين و تعاليم الأنبياء قد انطمست و اندرست.

(فصدع بالحق و نصح للخلق و هدى إلى الرشد و أمر بالقصد صلى اللّٰه عليه و آله و سلم) جاء النبي صلى اللّٰه عليه و سلم فظهر بالحق الذي عنده امتثالا لقوله تعالى: «فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ» فقد أبان ما عنده من عقائد و أحكام و تشريع.

و نصح للناس حينما بين لهم طريق الخير و أمرهم بالتزامه و بين لهم طريق الشر و نهاهم عنه و عن سلوكه.

و هدى إلى الرشد و دل الناس و قادهم إلى الصواب و السداد و ما فيه خير.

و أمر بالقصد و هو الاعتدال في الأمور و الاستقامة فيها بأن لا يأخذ جانب الإفراط في الأمور و لا التفريط و يسلك مستقيم السبيل لأنه الموصل إلى مرضاة اللّٰه.

(و أعلموا عباد اللّٰه أنه لم يخلقكم عبثا و لم يرسلكم هملا علم مبلغ نعمه عليكم

ص: 382

و أحصى إحسانه إليكم) و هذه صيحة علوية بالناس أن يتنبهوا و يستيقظوا فإنه سبحانه لم يخلقنا عبثا بدون غاية أو قصد و بعد خلقنا لم يتركنا و شأننا كالسوائم تسرح على وجهها بدون سؤال بل خلقنا لحكمة و بعدها هناك حساب يسألنا عن كل صغيرة و كبيرة...

ثم بين أن اللّٰه عالم بمفردات إحسانه إلينا فهو يحصيها و يعدها و يعرف مبلغها و تفصيلات تلك النعم و قد أراد من خلال ذلك أن يدفعنا للشكر عليها من جهة و أنه يحاسبنا عليها من جهة أخرى إذا أهملنا شكرها...

(فاستفتحوه و استنجحوه و اطلبوا إليه و استمنحوه) اطلبوا منه أن يفتح أبواب رحمته كي تؤدوا شكرها و اطلبوا منه النجاح و التوفيق في إداء ما عليكم و اطلبوا منه ما تريدون و اطلبوا منه منحه و عطاياه و ما ترغبون به و تحبونه...

(فما قطعكم عنه حجاب و لا أغلق عنكم دونه باب و إنه لبكل مكان و في كل حين و أوان و مع كل إنسان و جان) ليس بينكم و بينه حجاب يفصلكم عنه أو يمنعكم من الاتصال به و لم يرتج أبوابه دونكم و يمنعكم من الدخول عليه بل أبوابه مفتحات للسائلين و ليس في مكان دون مكان بل في أي أرض دعوتموه فيها كان حاضرا و في كل وقت و زمان هو حاضر موجود فاللّٰه قريب منكم على اتصال بكم لا يحجبه عنكم حجاب الزمان و لا المكان و لا المادة العمياء و هو أقرب إلينا من حبل الوريد و معنا أينما كنا و حيثما وجدنا إنه مع كل بشر و جان...

(لا يثلمه العطاء و لا ينقصه الحباء و لا يستنفده سائل و لا يستقصيه نائل) فمهما أعطى لا يؤثر فيما عنده العطاء، و كذلك لا ينقص عطاؤه شيئا من خزائنه و مهما سأل السائلون و أعطوا ما سألوا لا تنتهي عطاياه و لا يأتي على آخرها كل الطالبين لأن هذه الحالات إنما تطرأ على الممكن المحتاج فتؤثر فيه و في ملكه أما الواجب الوجود فهو الغني المطلق الذي لا يتأثر بكل ذلك و هو الغني عن الإمكان و الحاجة...

(و لا يلوية شخص عن شخص و لا يلهيه صوت عن صوت) و هذه من صفات اللّٰه و من قدرته العظيمة التي ترتفع به عن الحالات البشرية فإذا كان الواحد منا مشغول بأحد الناس أعرض عن الآخر و إذا التفت نحو صوت اشتغل به عن غيره للقدرة المحدودة عند الإنسان و العجز المستحكم فيه أما اللّٰه فإنه يستوعب الجميع و لا يشغله إنسان عن إنسان و لا صوت عن صوت بل يسمع جميع الأصوات و لا يشغله شأن عن شأن...

(و لا تحجزه هبة عن سلب و لا يشغله غضب عن رحمة) فهو في نفس الوقت الذي يعطي بعض الناس يسلب آخرين ما أعطاهم و إذا غضب على قوم فعاقبهم لا يمنعه ذلك

ص: 383

عن رحمة آخرين و إكرامهم و هذا عكس الإنسان الذي لا يقدر على استيعاب هذه المعاني المختلفة...

(و لا تولهة رحمة عن عقاب و لا يجنه البطون عن الظهور و لا يقطعه الظهور عن البطون) لا تتركه الرحمة مترددا مضطربا عن العقاب لأن الواحد منا إذا كثرت رحمته صعب عليه العقاب و تردد في ذلك نتيجة الحالة النفسية التي أعتادها من الرحمة أما اللّٰه فإنه يرحم و يعاقب في وقت واحد و هو قادر على جمع الأمرين معا.

و كذلك لا يستره الخفاء الذي هو فيه عن الظهور للعيان ببصائر القلوب فهو في نفس الوقت الذي فيه باطن هو ظاهر، باطن بالذات ظاهر لدى العقل و الإيمان...

(قرب فنأى و علا فدنا) قرب إلينا حتى كان أقرب إلينا من حبل الوريد و بعد حتى كان أبعد ما يكون بحيث لا تراه العيون.. و قيل قرب فعلا و نأى ذاتا و هو عين المعنى الأول.

و علا بحوله و طوله و قوته و دنا بإحسانه و فضله و مننه...

(و ظهر فبطن و بطن فعلن) و هذا تأكيد للسابق فإنه ظهر بأفعاله و خفي بذاته و اختفى بذاته فظهر بأفعاله أوان من ظهوره و شدته خفي و من شدة خفائه ظهر...

(و دان و لم يدن) قهر عباده بالموت و الفناء و في كل أمر و لم يقهره عباده بشيء أبدا... أو لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.. أو تسلط على كل أحد و لم يتسلط عليه أحد...

(لم يذرأ الخلق باحتيال و لا استعان بهم لكلال) لم يستعن على خلقه الخلق بواسطة أحد أو معونته بل خلقهم بحكمته و علمه دون واسطة كما أنه لم يستعن بهم من أجل نصرته لأنه عاجز عن قهر الأعداء بل خلقهم من أجل أن يتكاملوا و من أجل سعادتهم... و قيل أنه لم يخلقهم بمهارة و دقة كما هي الحال عند الناس فإنهم يفكرون و يجيلون النظر ثم يعملون و اللّٰه سبحانه يقول للشيء كن فيكون و لا يحتاج إلى أكثر من ذلك.

كما أنه لم يخلق الخلق من أجل اعانته إذا أصابه أعياء أو تعب بل خلقهم و هو غني عنهم، خلقهم ليتكاملوا و يعلوا...

(أوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه فإنها الزمام و القوام) عاد عليه السلام يوصي بتقوى اللّٰه و قد بين أنها المقود الذي يمنع الإنسان من التردي في الضلال و الوقوع في

ص: 384

الهلاك و إنها القوام التي بها تقوم الطاعات و يصبح لها عند اللّٰه أجرا و ثوابا...

(فتمسكوا بوثائقها و اعتصموا بحقائقها تؤل بكم إلى أكنان الدعة و أوطان السعة و معاقل الحرز و منازل العز) تمسكوا بالأمور الشرعية الثابتة الموثوق بها مصدرا و تشريعا و ما يوثق به من الطاعات و القربات و سائر الأعمال المحببة للّٰه و تمسكوا بالأمور الثابتة منها دون ما كان يدور حوله شك أو تردد أو فيه ارتياب و شبهة أو احتمال عدم المشروعية، فإنكم إن تمسكتم بها تعود بكم إلى الجنة التي هي في هذه المواصفات الرفيعة العظيمة...

- تعود بكم إلى أكنان الدعة: و هي مواطن الراحة التي لا نصب فيها و لا تعب.

- و أوطان السعة: و هي الأوطان الغنية بالخيرات و هي غرفات الجنة و منازلها و هي واسعة لا تحد و لا تعد.

- و هي أيضا معامل الحرز: أي الملاجىء التي من دخلها يأمن من النار و يحفظ من ألمها و عذابها.

- و هي أيضا منازل العز التي لا ذل فيها و لا هوان لأنها منازل الأنبياء و المقربين من رب العالمين، منازل القرب من اللّٰه و جار اللّٰه عزيز...

(في «يوم تشخص فيه الأبصار» و تظلم له الأقطار و تعطل فيه صروم العشار) ذكر التقوى و أمر بالاعتصام بها لأنها تعود بهذه الثمرات الطيبة - من أكنان الدعة و أوطان السعة و معاقل الحرز و منازل العز - تعود بهذه في يوم صعب إنه يوم القيامة ثم أخذ في وصفه بعدة أوصاف مرعبة ورد أكثرها في كتاب اللّٰه.

1 - يوم تشخص فيه الأبصار قال تعالى: «وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَللّٰهَ غٰافِلاً عَمّٰا يَعْمَلُ اَلظّٰالِمُونَ إِنَّمٰا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصٰارُ» .

فهي لا تغمض لهول ما ترى في ذلك اليوم و لا تطرف...

2 - و تظلم له الأقطار: يتحول ذلك اليوم إلى يوم مظلم في كل جوانبه و نواحيه بحيث لا يرى الإنسان فيه نفسه قال تعالى: «إِذَا اَلشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَ إِذَا اَلنُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ » فتكوير الشمس ذهاب نورها.

3 - تعطل فيه صروم العشار: تهمل فيه قوافل النوق فلا يلتفت إليها أصحابها لشغلهم بأنفسهم و قد كانوا في دار الدنيا يحفظونها و يرعون شئونها و يقومون بخدمتها بل كانت أعز ما لديهم...، لقد شغلتهم أنفسهم عن الاشتغال بغيرهم... قال تعالى: «وَ إِذَا»

ص: 385

«اَلْعِشٰارُ عُطِّلَتْ » أي تركت هملا بدون راع.

4 - (و ينفخ في الصور) قال تعالى: «وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ » أي وقع صريعا ميتا و تندك عندها الجبال.

و في ذلك اليوم بعد النفخ في الصور.

أ - (فتزهق كل مهجة) كل روح تموت.

ب - (و تبكم كل لهجة) تخرس الألسن.

ج - (و تذل الشم الشوامخ و الصم الرواسخ) تندك الجبال العالية الشامخة.

قال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ فَقُلْ يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً» .

و كذلك الجبال الثابته الصلدة الصلبة القوية فإنها تندك و تنسف من جذورها...

(فيصير صلدها سرابا رقرقا و معهدها قاعا سملقا) فهذه الجبال القوية الصلبة تتفتت حتى تصير كالسراب لا وجود لها و ما كان عامرا بأهله يضحى قفرا خاليا و أرضا مستوية لا عمارة فيها و لا بناء عليها و لا سكن و لا سكان على ترابها.

(فلا شفيع يشفع و لا حميم ينفع و لا معذرة تدفع) انقطعت العلاقات التي كانت قائمة في الدنيا بين الأصدقاء و الأصحاب و تعطلت الشفاعات و الوساطات فلا شفيع له يد و لا زعيم يشفع في مذنب و يأخذ بيده ليدفع عنه شر ذلك اليوم و لا صديق إن وجد ينفع لأنه مشغول بنفسه و ليس هناك اعتذار يعتذر به عن تقصير حصل أو جرم وقع...

قال تعالى حكاية عن الغاوين: «فَمٰا لَنٰا مِنْ شٰافِعِينَ وَ لاٰ صَدِيقٍ حَمِيمٍ » .

ص: 386

196 - و من خطبة له عليه السلام

بعثة النبي

بعثه حين لا علم (1) قائم، و لا منار (2) ساطع (3)، و لا منهج (4) واضح.

العظة بالزهد

أوصيكم، عباد اللّٰه، بتقوى اللّٰه، و أحذّركم الدّنيا، فإنّها دار شخوص (5)، و محلّة (6) تنغيص (7)، ساكنها ظاعن (8)، و قاطنها (9) بائن (10)، تميد (11) بأهلها ميدان السّفينة تقصفها (12) العواصف في لجج (13) البحار، فمنهم الغرق الوبق (14)، و منهم النّاجي على بطون الأمواج، تحفزه (15) الرّياح بأذيالها (16)، و تحمله على أهوالها (17)، فما غرق منها فليس بمستدرك، و ما نجا منها فإلى مهلك!.

عباد اللّٰه، الآن فاعلموا، و الألسن مطلقة، و الأبدان صحيحة، و الأعضاء (18) لدنة (19)، و المنقلب (20) فسيح (21)، و المجال (22) عريض، قبل إرهاق (23) الفوت (24)، و حلول الموت. فحقّقوا عليكم نزوله، و لا تنتظروا قدومه.

اللغة

1 - العلم: محركة ما ينصب في الطريق ليهتدى به.

2 - المنار: موضع النور، العلم يجعل في الطريق ليهتدى به.

3 - الساطع: المرتفع.

ص: 387

4 - المنهج: الطريق الواضح.

5 - الشخوص: الذهاب و الانتقال إلى بعيد و شخص عن البلد إذا رحل عنه.

6 - المحلة: منزل الحلول.

7 - نغّص عيشه: كدّره.

8 - الظاعن: المسافر، الراحل.

9 - القاطن: المقيم.

10 - البائن: البعيد.

11 - تميد: تضطرب.

12 - تقصفها: تكسرها.

13 - اللجج: جمع لجة و هي معظم البحر.

14 - الوبق: بكسر الباء الهالك.

15 - تحفزه: تدفعه.

16 - الأذيال: آخر الشيء.

17 - الأهوال: المخاوف، الأمور المفزعة.

18 - الأعضاء: الأجزاء و تطلق على اليدين و الرجلين.

19 - اللدن: بالفتح اللّين.

20 - المنقلب: بفتح اللام مكان الانقلاب و المرجع.

21 - الفسيح: الواسع.

22 - المجال: محل الجولان و الجولان هو الدواران و الطواف.

23 - أرهقه الشيء: أعجله فلم يتمكن من فعله، و الإرهاق أن يحمل الإنسان على ما لا يطيقه.

24 - الفوت: ذهاب الفرصة.

الشرح

(بعثه حين لا علم قائم و لا منار ساطع و لا منهج واضح) هذه الخطبة تتضمن الوصية بالتقوى و التنفير من الدنيا بذكر معايبها كما فيها دعوة إلى الاستعداد للموت ابتدأها بذكر بعثة رسول اللّٰه لأنها أعظم النعم و بها سعادة الإنسان في الدنيا و الآخرة...

بعث اللّٰه نبيه في وقت قد اندرست فيه تعاليم الأنبياء و تعطلت فيه أحكام الشريعة و الدين فقد بعثه بعد فترة من الرسل حيث لا أنبياء و لا رسل ينقلون مرادات اللّٰه و يحملون إلى الناس تعاليمه فقد غابت الأنبياء و الرسل و لا وحي من اللّٰه على أحدكما أن المناهج

ص: 388

و الشرائع المتقدمة لم تبق على طهرها بل تلوثت و تحرّفت و دخلت فيها الخرافات و الأساطير.

(أوصيكم عباد اللّٰه بتقوى اللّٰه و أحذركم الدنيا فإنها دار شخوص و محلة تنغيص ساكنها ظاعن و قاطنها بائن) هذه هي الوصية الغالية لدى الإمام و لذا يكررها باستمرار... الوصية بتقوى اللّٰه لأنها الحصن الحصين عن كل رذيلة و الحرز عن المهالك و بها يطيع الإنسان ربه و يدخل جنته.

ثم حذرهم من الدنيا و ذكر بعض عيوبها فقال: إنها دار لا استقرار فيها بل هي دار ارتحال سوف يرحل عنها الإنسان و يتركها إلى غيره و هكذا غيره سيتركها أيضا حتى تنتهي الدنيا.

و كذلك هي دار تعب و نصب لا تصفو لأحد، طبعت على كدر و لا ينال الإنسان لذة - إن كان هناك لذة - إلى بفوات أخرى بل كل ما فيها دفع للآفات و لا منافع فيها أصلا.

ثم وصف الساكن فيها بأنه ليس بساكن فيها على وجه الحقيقة لأنه مرتحل عنها لا محالة و كذلك المقيم فيها فإنه مفارق لها و إن ظن أنه مقيم بل في عالم الحقيقة كلما مرّت عليه لحظة فإنه يفارق الدنيا فيها فإنه مقيم شكلا لكنه مفارق لها واقعا...

(تميد بأهلها ميدان السفينة تقصفها العواصف في لجج البحار فمنهم الغرق الوبق و منهم الناجي على بطون الأمواج تحفزه الرياح بأذيالها و تحمله على أهوالها فما غرق منها فليس بمستدرك و ما نجا منها فإلى مهلك) شبّه حوادث الدنيا و طوارقها و ما يمر على هذا الإنسان من فجائع و مصائب بسفينة لعبت فيها الرياح فقصفتها العواصف الهوجاء في عمق البحار و أوساطها فخربتها و كسرتها و مزقتها و وقع ركابها في تلك المصيبة العظيمة فمنهم من غرق و هلك و انتهت حياته من أول لحظات سقوطه في البحر لأنه لا يعرف السباحة و لم يتوفق بمنقذ يخلّصه.

و منهم من ساعدته قدرته فعرف السباحة و تعلّم فنّها أو تمسك بخشبة من خشباتها المكسورة فأخذت تدفعه الأمواج و تقذف به في كل ناحية حيث هبت الريح يندفع و يميل يرى المصائب و المخاوف و هكذا بقي حتى وصل إلى البر و تخلص من البحر...

و على كل حال فمن غرق منها و مات لا يمكن تداركه و إعادة الحياة إليه و من نجا منها و تخلّص من الموت فإلى الموت سينتهي أمره لا محالة و لا بد له من شرب هذه الكأس مهما امتد به الأجل و طالت به الأيام...

ص: 389

(عباد اللّٰه الآن فاعملوا و الألسن مطلقة و الأبدان صحيحة و الأعضاء لدنة و المنقلب فسيح و المجال عريض) دعاهم للعمل في وقت يمكن العمل فيه قبل أن يعجز الإنسان فاعملوا الآن... اعملوا بما يرضي اللّٰه... اعملوا الطاعات و قوموا بالخيرات و الألسن مطلقة تملك حرية الحركة و الكلام تستطيع أن تؤدي حقها من الذكر و التسبيح و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

اعملوا و الأبدان صحيحة تقوم بخدمة اللّٰه و تنفيذ أوامره و خدمة عباده و عمارة بلاده... اعملوا في صحة الأبدان حيث تتحركون في كل اتجاه بدون مرض يؤلمكم و لا هرم يقعدكم.

اعملوا و الأعضاء لدنة فجوارح الشباب لينة طرية ليست كجوارح الكبار في السن حيث تدقّ و تنحل و لا تكاد تخضع لإرادة صاحبها أو تلبي حاجاته لعجزها و هرمها...

اعملوا و المنقلب فسيح أي أيام الشباب طويلة يستطيع الإنسان أن يعمل خلالها و يصل إلى مرضاة اللّٰه و ما يحقق له دخول الجنة.

اعملوا و المجال عريض مجال العمل واسع فمحله الدنيا بسعتها لست مقيدا بشبر من الأرض و لا بمكان بل الأرض كلها للّٰه قد فتحها لك ففي أي مكان تستطيع أن تقيم شعائرك تستطيع أن تسكن و في أي مكان تحرم من حريتك و تصادر عباداتك فارفضه و اتركه مهاجرا إلى غيره، فالشباب وقت العمل و كل أرض محله...

(قبل إرهاق الفوت و حلول الموت فحققوا عليكم نزوله و لا تنتظروا قدومه).

اعملوا قبل أن تفوتكم هذه الفرصة الثمينة و هذه الأوقات الكريمة و هذه الحالات السعيدة.

اعملوا قبل نزول الموت بكم فإنه إذا نزل لا يمكن التخلص منه أو الهروب من حكمه...

ثم أمرهم أن يعملوا عمل من يشاهد الموت حقيقة لا عمل من ينتظره فإن الانتظار داعية للتسويف و التقصير...

ص: 390

197 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

ينبه فيه على فضيلته لقبول قوله و أمره و نهيه و لقد علم المستحفظون (1) من أصحاب محمّد - صلّى اللّٰه عليه و آله - أنّي لم أردّ (1) على اللّٰه و لا على رسوله ساعة قطّ. و لقد واسيته (3) بنفسي في المواطن (4) الّتي تنكص (5) فيها الأبطال، و تتأخّر فيها الأقدام، نجدة (6) أكرمني اللّٰه بها.

و لقد قبض رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و إنّ رأسه لعلى صدري.

و لقد سالت (7) نفسه في كفّي، فأمررتها على وجهي. و لقد ولّيت (8) غسله - صلّى اللّٰه عليه و آله - و الملائكة أعواني (9)، فضجّت (10) الدّار و الأفنية (11): ملأ يهبط (13)، و ملأ يعرج (14)، و ما فارقت سمعي هينمة (15) منهم، يصلّون عليه حتّى و اريناه في ضريحه (16). فمن ذا أحقّ به منّي حيّا و ميّتا؟ فانفذوا على بصائركم (17)، و لتصدق نيّاتكم في جهاد عدوّكم.

فو الّذي لا إله إلاّ هو إنّي لعلى جادّة (18) الحقّ ، و إنّهم لعلى مزلّة (19) الباطل.

أقول ما تسمعون، و أستغفر اللّٰه لي و لكم!.

اللغة

1 - المستحفظون: بفتح الفاء اسم مفعول أي الذين أودعهم النبي أمانة سره و طالبهم بحفظها.

2 - رد عليه: لم يقبل قوله، خطّأه.

ص: 391

3 - واسيته: من المواساة و هي الإشراك في الشيء.

4 - المواطن: الأماكن من الوطن و هو محل إقامة الإنسان أو مكان ولادته.

5 - تنكص: تتراجع.

6 - النجدة: بالفتح الشجاعة.

7 - سالت: جرت.

8 - ولّيت: قمت به و تقلدته.

9 - أعواني: مساعدي و العون المساعدة و استعان طلب العون و المساعدة.

10 - ضجت: من الضجيج الصياح عند المكروه و الجزع.

11 - الأفنية: مفردها الفناء و هو للدار ما اتسع أمامها أو امتد من جوانبها.

12 - الملأ: الجماعة.

13 - يهبط: ينزل.

14 - يعرج: يصعد.

15 - الهينمة: الصوت الخفي.

16 - الضريح: القبر أو الشق وسطه.

17 - البصائر: جمع البصيرة و هي للقلب كالبصر، ضياء القلب.

18 - الجادة: معظم الطريق و وسطه.

19 - المزلة: مكان الزلل الموجب للسقوط في الهلكة.

الشرح

(و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد - صلّى اللّٰه عليه و آله - أني لم أرد على اللّٰه و لا على رسوله ساعة قط و لقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال و تتأخر فيها الأقدام نجدة أكرمني اللّٰه بها) في هذه الخطبة ذكر لبعض مناقبه الشريفة تأكيدا لها أمام الناس و جذبا لهم لقبول قوله و امتثال أمره.

بيّن عليه السلام طاعته للّٰه و لرسول اللّٰه و قد أحال ذلك إلى العلماء الأمناء من أصحاب رسول اللّٰه الذين استحفظهم النبي على أمانات الإسلام و هي حقائقه الموصلة إلى الجنة، لقد علم هؤلاء المستودعون أسرار الشريعة و الدين و وقفوا بأنفسهم على مدى طاعتي للّٰه و رسوله و التزامي بأوامرهما و أني لم أواجههما برفض أو تشكيك في وقت من الأوقات بل كان التنفيذ أمضى من حد السيف دون لف و لا دوران و لا أخذ و لا رد و هكذا كان الإمام أمضى من الحديدة المحماة، و قد قال بعضهم هذا من الإمام تعريض بعمر

ص: 392

الذي كانت له المواقف المخزية كما في صلح الحديبية و قصته يومها مشهورة مشهودة معروفة يذكرها كل من تعرض لذلك و ملخصها أن رسول اللّٰه كان قد وعد المسلمين بأنهم سيدخلون المسجد الحرام و عند ما قصد النبي دخول مكة و منعته قريش و وقّعت معه صلحا أن يرجع عامه ذاك أنكر عمر ما كان و قال: يا رسول اللّٰه، ألسنا بالمسلمين، قال:

بلى قال: أو ليسوا الكافرين ؟ قال: بلى، قال: فكيف نعطي الدنية في ديننا فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : أنا عبد اللّٰه و رسوله لن أخالف أمره و لن يضيعني فكان عمر - كما في تاريخ الطبري - يقول: ما زلت أصوم و أتصدق و أصلي و أعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا.

ثم ذكر مواساته لرسول اللّٰه في كل المواقع و المعارك و في كل المواطن التي تجبن فيها الرجال و تفر منها الفرسان شجاعة اختصه اللّٰه بأعلى درجاتها و إن نظرة واحدة إلى حروب الإسلام يكشف بصدق مدى جهاد الإمام و مدى شجاعته حتى غلبت عليه هذه الصفة و أضحى يضرب المثل بشجاعته و إن كان في كل صفة قائدها و سيدها فهو العظيم في الزهد و هو العظيم في العبادة و هكذا...

أما شجاعته فانظر إلى واقعة بدر فسيفه حصد نصف قتلى المشركين و انظر إلى واقعة الأحزاب واحد و إلى واقعة خيبر فقد كان على يديه الفتح و بسيفه النصر...

(و لقد قبض رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - و إن رأسه لعلى صدري و لقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي و لقد و ليت غسله - صلّى اللّٰه عليه و آله - و الملائكة أعواني) قال الشّراح: أراد بقوله سالت نفسه في كفي أن رسول اللّٰه قاء وقت موته دما يسيرا و أن عليا تلقاه بيده و مسح به وجهه.

و يمكن أن يكون ذلك إشارة رمزية إلى مدى قربه من رسول اللّٰه و حبه له حيث جرت العادة أن المجتمعين عند المحتضر إنما يكونون أهله و أقرب الناس إليه...

ثم أشار إلى أنه قد تولى غسله و تكفينه و دفنه و هذا المعنى قد وردت به الأخبار بل هو الثابت من جميع الطرق يعينه الفضل بن العباس في صب الماء عليه و هو معصوب العينين و قد أعانته الملائكة في تقليب رسول اللّٰه فقد ورد عن الإمام قوله: ما قلبت منه عضوا إلا و انقلب لا أجد له ثقلا كأن معي من يساعدني و ما ذلك إلا الملائكة...

(فضجّت الدار و الأفنية ملأ يهبط و ملأ يعرج و ما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه حتى و اريناه في ضريحه) صرخت الملائكة في الديار و في الساحات حزينة باكية لفقد رسول اللّٰه جماعة تنزل إلى الأرض لتودع الحبيب و تصلى عليه و تقوم بواجب

ص: 393

التعزية و جماعة تصعد إلى السماء قد أدت واجبها نحو النبي الكريم.

ثم بيّن أنه يسمع حديث الملائكة و أنه لم تغب أصواتهم عنه و لا صلواتهم على الرسول حتى دفنوا الجسد الشريف في القبر...

و قد وردت الأحاديث في صلاة الملائكة على رسول اللّٰه بل يقول اللّٰه: «إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ » و في الحديث كما في الكافي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما قبض النبي (صلی الله علیه و آله) صلت عليه الملائكة و المهاجرون و الأنصار فوجا فوجا...

(فمن ذا أحق به مني حيا و ميتا) استفهام على سبيل الإنكار يريد به أنه لا يوجد انسان أحق برسول اللّٰه (صلی الله علیه و آله) حال حياته و حال وفاته منه ففي حياته بالأخوة و الوزارة و بعد موته بالوصية و الخلافة.

و من هذا البيان أراد أن يرتب أمرا مضمونه أن المخالفين له هم أتباع الشيطان و جنوده و أنه على طريق رسول اللّٰه و منهاجه.

و كذلك فيه إبطال لمن يدعي أنه أولى بمقام رسول اللّٰه منه كما وقع للخلفاء الذين تقدموا عليه...

(فانفذوا على بصائركم و لتصدق نياتكم في جهاد عدوكم) تحركوا مسرعين بما تملكون من دوافع عقائدية سليمة أنتم عليها و لا تتركوا للشك مجالا في قلوبكم و لا للتردد أي حركة.

و لتكن نياتكم صادقة في قتال عدوكم فلا تتزلزل هذه العقيدة بدعوى أن أعدائكم مثلكم في الإسلام فإنهم ببغيهم قد خرجوا و وجب قتالهم بنص الذكر الحكيم الذي يقول: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى اَلْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اَللّٰهِ » .

فإذا كان الإنسان يملك الحق و يدافع عنه بنية صادقة لا بد و أن ينصره اللّٰه على أعدائه إذا وفّر العدّة المطلوبة له...

(فو الذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق و إنهم لعلى مزلة الباطل أقول ما تسمعون و استغفر اللّٰه لي و لكم) أكّد ما تقدم من أنه على الحق بالقسم الصريح بلا إله إلا اللّٰه أنه على طريق الحق الواضح الجلي و أنهم على منزلق الباطل الذي يهوي بهم في دركات الجحيم...

أقول ما تسمعون من الحق و استغفر اللّٰه لي و لكم...

ص: 394

198 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

ينبه على إحاطة علم الله بالجزئيات، ثم يحث على التقوى، و يبين فضل الإسلام و القرآن يعلم عجيج (1) الوحوش (2) في الفلوات (3)، و معاصي العباد في الخلوات (4)، و اختلاف النّينان (5) في البحار الغامرات (6)، و تلاطم الماء بالرّياح العاصفات. و أشهد أنّ محمّدا نجيب (7) اللّٰه، و سفير وحيه، و رسول رحمته.

الوصية بالتقوى

أمّا بعد، فإنّي أوصيكم بتقوى اللّٰه الّذي ابتدأ خلقكم، و إليه يكون معادكم، و به نجاح طلبتكم (8)، و إليه منتهى رغبتكم، و نحوه قصد سبيلكم، و إليه مرامي مفزعكم (9). فإنّ تقوى اللّٰه دواء داء قلوبكم، و بصر عمى أفئدتكم، و شفاء مرض أجسادكم، و صلاح فساد صدوركم، و طهور دنس (10) أنفسكم، و جلاء عشا (11) أبصاركم، و أمن فزع جأشكم (12)، و ضياء سواد ظلمتكم. فاجعلوا طاعة اللّٰه شعارا (13) دون دثاركم (14)، و دخيلا (15) دون شعاركم، و لطيفا بين أضلاعكم، و أميرا فوق أموركم، و منهلا (16) لحين ورودكم (17)، و شفيعا لدرك (18) طلبتكم (19)، و جنّة (20) ليوم فزعكم، و مصابيح لبطون قبوركم، و سكنا لطول وحشتكم (21)، و نفسا (22) لكرب مواطنكم. فإنّ طاعة اللّٰه حرز من متالف مكتنفة (23) (24)،

ص: 395

و مخاوف متوقّعة، و أوار (25) نيران موقدة (26). فمن أخذ بالتّقوى عزبت (27) عنه الشّدائد بعد دنوّها، و احلولت (28) له الأمور بعد مرارتها، و انفرجت (29) عنه الأمواج بعد تراكمها، و أسهلت له الصّعاب بعد إنصابها (30)، و هطلت (31) عليه الكرامة بعد قحوطها (32)، و تحدّبت (33) عليه الرّحمة بعد نفورها (34)، و تفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها (35)، و وبلت (36) عليه البركة بعد إرذاذها (37).

فاتّقوا اللّٰه الّذي نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، و امتن (38) عليكم بنعمته. فعبّدوا (19) أنفسكم لعبادته، و أخرجوا إليه من حقّ طاعته.

فضل الإسلام

ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّٰه الّذي اصطفاه لنفسه، و اصطنعه على عينه، و أصفاه (40) خيرة (41) خلقه، و أقام دعائمه (42) على محبّته. أذلّ الأديان بعزّته، و وضع الملل (43) برفعه، و أهان أعداءه بكرامته، و خذل (44) محادّيه (45) بنصره، و هدم أركان الضّلالة بركنه (46). و سقى من عطش من حياضه (47)، و أتاق (48) الحياض بمواتحه (49). ثمّ جعله لا انفصام (50) لعروته (51)، و لا فكّ (52) لحلقته، و لا انهدام (53) لأساسه، و لا زوال لدعائمه، و لا انقلاع (54) لشجرته، و لا انقطاع لمدّته، و لا عفاء (55) لشرائعه، و لا جذّ (56) لفروعه، و لا ضنك (57) لطرقه، و لا وعوثة (58) لسهولته، و لا سواد لوضحه (59)، و لا عوج (60) لانتصابه، و لا عصل (61) في عوده، و لا وعث (62) لفجّه (63)، و لا انطفاء لمصابيحه، و لا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ (64) في الحقّ أسناخها (65)، و ثبّت لها آساسها، و ينابيع غزرت (66) عيونها (67)، و مصابيح شبّت نيرانها (68)، و منار (69) اقتدى بها سفّارها (70)،

ص: 396

و أعلام (71) قصد بها فجاجها، و مناهل روي (72) بها ورّادها (73). جعل اللّٰه فيه منتهى رضوانه، و ذروة (74) دعائمه، و سنام (75) طاعته، فهو عند اللّٰه وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضيء النّيران، عزيز السّلطان، مشرف المنار (76)، معوذ (77) المثار (78). فشرّفوه و اتّبعوه، و أدّوا إليه حقّه، وضعوه مواضعه.

الرسول الأعظم

ثمّ إنّ اللّٰه سبحانه بعث محمّدا - صلّى اللّٰه عليه و آله - بالحقّ حين دنا من الدّنيا الانقطاع، و أقبل من الآخرة الاطّلاع (79)، و أظلمت بهجتها (80) بعد إشراق، و قامت بأهلها على ساق (81)، و خشن منها مهاد (82)، و أزف (83) منها قياد (84)، في انقطاع من مدّتها، و اقتراب من أشراطها (85)، و تصرّم (86) من أهلها، و انفصام (87) من حلقتها، و انتشار (88) من سببها، و عفاء (89) من أعلامها، و تكشّف من عوراتها (90)، و قصر من طولها.

جعله اللّٰه بلاغا لرسالته، و كرامة لأمّته، و ربيعا لأهل زمانه، و رفعة لأعوانه، و شرفا لأنصاره.

القرآن الكريم

ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ (91) مصابيحه، و سراجا لا يخبو (92) توقّده (93)، و بحرا لا يدرك قعره (94)، و منهاجا (95) لا يضلّ نهجه (96)، و شعاعا لا يظلم ضوؤه، و فرقانا (97) لا يخمد (98) برهانه، و تبيانا (99) لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه (100)، و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه (101). فهو معدن الإيمان و بحبوحته (102)، و ينابيع العلم و بحوره، و رياض (103) العدل و غدرانه (104)، و أثافيّ (105) الإسلام و بنيانه، و أودية

ص: 397

الحقّ و غيطانه (106). و بحر لا ينزفه (107) المستنزفون، و عيون لا ينضبها (108) الماتحون (109)، و مناهل (110) لا يغيضها (111) الواردون، و منازل لا يضلّ نهجها المسافرون، و أعلام لا يعمى عنها السّائرون، و آكام (112) لا يجوز عنها (113) القاصدون. جعله اللّٰه ريّا (114) لعطش العلماء، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ (115) لطرق الصّلحاء، و دواء ليس بعده داء، و نورا ليس معه ظلمة، و حبلا وثيقا عروته، و معقلا (116) منيعا (117) ذروته، و عزّا لمن تولاّه، و سلما لمن دخله، و هدى لمن ائتمّ به، و عذرا لمن انتحله (118)، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم (119) به، و فلجا (120) لمن حاجّ به، و حاملا لمن حمله، و مطيّة (121) لمن أعمله، و آية لمن توسّم (122)، و جنّة (123) لمن استلأم (124)، و علما لمن وعى (125)، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى (126).

اللغة

1 - العجيج: رفع الصوت.

2 - الوحوش: جمع وحش و هو حيوان البر.

3 - الفلوات: جمع فلاة الصحراء الواسعة.

4 - الخلوات: جمع خلوة مكان الاختلاء الذي ليس فيه أحد.

5 - النينان: جمع نون و هو الحوت.

6 - الغامرات: جمع غامر أي كثير الماء يغمر من يدخله أي يغطيه و يستره.

7 - النجيب: المختار.

8 - الطلبة: ما طلبته.

9 - المفزع: الملجأ.

10 - الدنس: الوسخ و معنويا المعاصي و الآثام.

11 - العشى: سوء البصر.

12 - الجأش: القلب و رابط الجأش شجاع و جأش قلبه إذا اضطرب من فرح أو حزن.

ص: 398

13 - الشعار: الثوب الملاصق للبدن مباشرة.

14 - الدثار: الثوب الذي فوق الشعار.

15 - الدخيل: ما خالط باطن الجسد.

16 - المنهل: الماء يرده الشاربون.

17 - الورود: ضد الصدور من ورد الماء صار إليه داناه و بلغه.

18 - الدرك: بالتحريك اللحاق.

19 - الطلبة: بفتح الطاء و كسر اللام المطلوب.

20 - الجنة: بالضم الوقاية.

21 - الوحشة: ضد الأنس.

22 - النفس: محركة من نفس تنفيسا أي فرّج تفريجا و هي السعة و الروح.

23 - المتالف: مكان التلف و هو الهلاك.

24 - المكتنفة: المحيطة.

25 - الأوار: حر النار.

26 - موقدة: مشتعلة.

27 - عزبت: بعدت.

28 - احلولت: صارت حلوة.

29 - انفرجت: انفتحت و ما بين الشيئين اتسع، انكشفت.

30 - الأنصاب: الأتعاب.

31 - هطلت: سالت.

32 - القحوط: من القحط و هو الجدب.

33 - تحدبت: عليه عطفت و حنّت.

34 - النفور: من نفر إذا شرد و تباعد.

35 - النضوب: الانقطاع و نضب الماء إذا جف و ذهب.

36 - و بلت السماء: أمطرت مطرا شديدا.

37 - الرذاذ: خفيف المطر الحبات الصغيرة المتفرقة منه.

38 - أمتن عليه بما صنع: ذكر و عدد له ما فعله معه من الخير.

39 - عبّدوا: ذلّلوا.

40 - أصفاه: خيرة خلقه آثر به خير خلقه.

41 - الخيرة: بفتح الياء إذا فضّلته على غيره.

42 - الدعائم: جمع الدعامة بكسر الدال عماد البيت الذي يحمل السقف.

43 - الملل: الأديان و الشرائع.

44 - خذل زيدا: أي ترك نصرته.

ص: 399

45 - المحاد: المشاق و محاديه مخالفيه.

46 - الركن: العز و المنعة.

47 - الحياض: جمع حوض مجتمع الماء.

48 - أتأق الحياض: ملأها.

49 - المواتح: جمع الماتح و هو الذي يستقي بالدلو من المتح و هو الاستقاء.

50 - الانفصام: الانكسار.

51 - العروة: للكوز مقبضه.

52 - فك الشيء: أبان بعضه عن بعض و العقدة حلّها.

53 - انهدم: انتقض و هدم البناء نقضه و أسقطه.

54 - انقلع: من قلع الشيء إذا انتزعه من أصله.

55 - العفاء: الدروس.

56 - الجذّ: القطع.

57 - الضنك: الضيق.

58 - الوعوثة: في الطريق المشقة.

59 - الوضح: البياض.

60 - العوج: بفتح العين فيما ينتصب كالنخلة و الرمح و العوج بالكسر فيما لا ينتصب كالرأي و الدين و الأرض.

61 - العصل: الاعوجاج الذي يصعب تقويمه.

62 - الوعث: رمل دقيق تغيب فيه الأقدام فهو شاق ثم استعير لكل أمر شاق.

63 - الفج: الطريق الواسع بين جبلين.

64 - أساخ: من ساخ إذا غاص و ساخت أقدامه أي غابت.

65 - الأسناخ: جمع سنخ و هو الأصل.

66 - غزرت: كثرت.

67 - العيون: جمع عين ينبوع الماء.

68 - شبت النيران: أوقدها.

69 - المنار: ما يهتدى به من نار أو علم.

70 - السفار: المسافرون.

71 - أعلام: ما يوضع في الطريق ليهتدى به.

72 - روي: شرب و شبع.

73 - الورّاد: جمع وارد و هو ضد الصادر و أما الرواد جمع رائد و هو الذي يسبق القوم فيرتاد لهم الكلأ و الماء.

74 - الذروة: رأس كل شيء و أعلاه.

ص: 400

75 - السنام: أعلى الشيء و منه سنام البعير.

76 - مشرف المنار: مرتفعه.

77 - المعوذ: من أعوذ بمعنى ألجأ.

78 - المثار: من ثار الغبار إذا هاج.

79 - الاطلاع: الإتيان، الإشراف من موضع عال.

80 - البهجة: الحسن و النضارة، الفرح.

81 - الساق: الشدة.

82 - المهاد: الفراش.

83 - أزف: قرب.

84 - القياد: من قاد الدابة نقيض ساقها و هو أن يأخذ مقود الدابة و يمشي أمامها.

85 - أشراط الساعة: علاماتها.

86 - التصرم: التقطع.

87 - الانفصام: الانقطاع.

88 - انتشار الأسباب: تبددها حتى لا تضبط.

89 - العفاء: الاندراس، ذهاب الأثر و اندراس الشيء.

90 - العورات: جمع عورة السؤة، كل شيء يستحى منه.

91 - أطفأ المصباح: خمد ضوؤه.

92 - لا يخبو: لا ينطفىء.

93 - التوقد: التلألؤ و الاشتعال.

94 - القعر: نهاية الشيء و عمقه.

95 - المنهاج: الطريق الواسع.

96 - النهج: السلوك.

97 - الفرقان: ما يفرق به بين الحق و الباطل.

98 - لا يخمد: لا ينطفىء.

99 - تبيانا: بيانا و إيضاحا.

100 - الأسقام: الأمراض.

101 - الأعوان: المساعدون.

102 - بحبوحة الدار: وسطها.

103 - الرياض: أرض مخضرة بأنواع النبات.

104 - الغدران: جمع غدير قطعة من الماء يتركها السيل.

105 - الأثافي: جمع أثفية و هي الأحجار يوضع عليها القدر بشكل مثلث.

106 - الغيطان: جمع غائط و هو المطمئن من الأرض.

ص: 401

107 - لا ينزفه: لا ينضبه و لا يفنيه.

108 - نضب الماء: فني و جف و ذهب من الأرض.

109 - الماتحون: النازحون للماء.

110 - المناهل: جمع منهل موضع الشرب.

111 - لا يغيضها: من غاض الماء إذا نضب و قلّ .

112 - الآكام: جمع أكمة التل، المرتفع من الأرض.

113 - لا يجوز عنها: لا يتخطاها أو يقطعها.

114 - الري: الشبع من الماء.

115 - المحاج: جمع محجة و هي جادة الطريق.

116 - المعقل: الملجأ.

117 - المنيع: العزيز الشديد الذي لا يقدر عليه و حصن منيع يتعذر الوصول إليه.

118 - انتحله: دان به جعله نحلته.

119 - خاصم به: حاج به.

120 - الفلج: الظفر و الفوز.

121 - المطية: الدابة التي تركب.

122 - التوسم: التفرس و هو الذي يعرف الباطن من النظر في الظاهر.

123 - الجنة: بالضم، الستر و الوقاية، ما يحتمى خلفه.

124 - استلأم: لبس لامة الحرب و هي الدرع.

125 - وعى الحديث: حفظه و جمعه و تدبره.

126 - قضى: حكم و فصل.

الشرح

(يعلم عجيج الوحوش في الفلوات و معاصي العباد في الخلوات و اختلاف النينان في البحار الغامرات و تلاطم الماء بالرياح العاصفات، و أشهد أن محمدا نجيب اللّٰه و سفير وحيه و رسول رحمته) أهم ما في هذه الخطبة الشريفة الوصية بالتقوى و بيان فضل رسول اللّٰه و فيها فضائل القرآن...

ابتدأ عليه السلام بذكر علم اللّٰه و مداه وسعته ليحذر المسلم من رؤية اللّٰه له فيجتنب المعاصي و السيئات.

و من عقائدنا أن اللّٰه كما يعلم الكليات يعلم الجزئيات... يعلم كل حركة صغيرة أو كبيرة و كل أمر يحدث في الوجود «لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي»

ص: 402

«اَلْأَرْضِ » (1) و ما ذكره الإمام جزئيات من ذلك الأمر الكلي...

يعلم عجيج الوحوش في الفلوات: يعلم أصوات الحيوانات في الصحاري و القفار الشاسعة، يعلمها اللّٰه و يحصيها يعلم تلك الاستغاثات و ما فيها من الشدائد و يستجيب لها.

يعلم معاصي العباد في الخلوات: عند ما يقفل الإنسان الأبواب و يسد النوافذ و تغمض عيون الناس و لم يعد عليه من رقيب أو حسيب فاللّٰه يعلم كل معصية يرتكبها الإنسان في خلوته و على انفراده... ليس هناك إله يراك أمام الناس و لا يراك وحدك و في خلواتك بل اللّٰه ينظر إليك و هو رقيب عليك في كل مكان و زمان...

يعلم اختلاف النينان في البحار الغامرات: إنه يعلم تردد الحيتان في البحار و ذهابها و مجيئها فيها، يعلم حركتها و في أي اتجاه و ما يصيبها و يحل فيها...

يعلم تلاطم الماء بالرياح العاصفات: يعلم الرياح التي تضطرب و تثور فتصطدم بالمياه فتحدث الأمواج الهائلة.

ثم بعد ذكره لعلم اللّٰه بهذه العينات الجزئية عقّبه بذكر الشهادة للنبي بالرسالة.

و أشهد أن محمدا نجيب اللّٰه الذي استخلصه اللّٰه من خلقه و أكرمه بأشرف حسب و نسب و أفضل الصفات.

ثم وصفه بأنه سفير اللّٰه أرسله اللّٰه إلى خلقه ينقل إليهم مراداته و أحكامه و يبلغهم شرائعه و دينه و وصفه برسول الحرمة كما قال تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ » ينقذ الخلق من الضلال الفكري و العقيدي و من ضلال العادات و التقاليد إلى نور الإسلام و الحق و العدل...

(أما بعد فإني أوصيكم بتقوى اللّٰه الذي ابتدأ خلقكم و إليه يكون معادكم و به نجاح طلبتكم و إليه منتهى رغبتكم و نحوه قصد سبيلكم و إليه مرامي مفزعكم) أوصى بتقوى اللّٰه و قرنها بصفات توجب تعظيم اللّٰه فهو سبحانه الذي خلق الإنسان ابتدأ بقوله: كن فيكون و تلك نعمة تستحق تقوى اللّٰه و عدم معصيته.

كما أنه سبحانه إليه تعود الناس و ترجع يوم القيامة للحساب و إذا كان إليه المرجع و المآب وجب على الإنسان أن يتقي اللّٰه.3.

ص: 403


1- سورة سبأ، آية - 3.

و كذلك باللّٰه و كرمه وجوده و عطاياه يظفر الإنسان بحاجاته و ما يريد فلولا توفيق اللّٰه و تسديده لم يهتد أحد إلى معاشه و إلى لقمة طعامه.

و هو سبحانه المقصود في كل رغبة يحبها الإنسان و يرغب فيها لأنه وحده سبحانه الذي يوفي الجزاء و يكمله.

و إليه سبحانه يتجه العاملون و يقصده السالكون «يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ » .

كما أن الإنسان إذا أصابه فزع أو خوف فإلى اللّٰه يقصد و نحو قدسه يتوجه فهو الذي يجيب دعوة المضطرين و يكشف السوء عنهم.

(فإن تقوى اللّٰه دواء داء قلوبكم و بصر عمى أفئدتكم و شفاء مرض أجسادكم و صلاح فساد صدوركم و طهور دنس أنفسكم و جلاء عشا أبصاركم و أمن فزع جأشكم و ضياء سواد ظلمتكم) هذا حث على التقوى بذكر بعض آثارها و منافعها فذكر:

- تقوى اللّٰه دواء داء قلوبكم: فتقوى اللّٰه دواء يرفع الأمراض من حسد و بغض و نميمة و غيبة و بهتان و هكذا لأن من شرب تقوى اللّٰه لم يمرض بمثل هذه الأمراض...

- و بصر عمى أفئدتكم: فإن الأفئدة و هي القلوب تعمى فلا تعود تدرك الحقائق بل يطمس عليها فتنغلق عن المعرفة و إدراك الصواب فتأتي التقوى لترفع هذا العمى و تكشف من أمام القلب الرؤية السليمة فيهتدي بنور التقوى إلى الرشد و الصواب كما أن الأعمى إذا ردت إليه عيناه يرى المحسوسات و يكشف الأمور المادية على واقعها...

- و شفاء مرض أجسادكم: و هذا غالبا ما يكون لأن من صحّت نفسه صح بدنه لتأثير الرذائل النفسية على الصحة البدنية فالحسود المريض القلب ينعكس هذا على جسده و فكره...

- و صلاح فساد صدوركم: فتقوى اللّٰه و طاعته تصلح الصدور فلا تحمل غلا و لا حسدا.

- و طهور دنس أنفسكم: فإن الرذائل و المعاصي تدنس النفس و تحطها عن مقامها و تسقطها من محلها فإذا جاءت التقوى تطهرت القلوب من ذلك الدنس المشين.

- و جلاء عشا أبصاركم: فإن الرؤيا الصحيحة للأمور تتم عند ما يمتلك الإنسان الميزان الصحيح و السليم و أشرف ميزان و أعد له ذلك الذي يضعه اللّٰه أمامك و التقوى هي عنوان ذلك الميزان و حقيقته و بها يجلى البصر و يشفى...

ص: 404

- و أمن فزع جأشكم: فالمؤمن المتقي ساكن القلب مطمئن الفؤاد قد سلم بقضاء اللّٰه و قدره فلا يفزع و لا يخاف من أمور الدنيا و مشاكلها و لا من الآخرة و أهوالها لأنه قد صفى حسابه مع اللّٰه و اتقاه و لم يخالفه في أمر قال تعالى: «فَمَنِ اِتَّقىٰ وَ أَصْلَحَ فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ » .

- و ضياء سواد ظلمتكم: فإن الذنوب و المعاصي تجعل القلوب سوداء مظلمة و لا يجليها إلا تقوى اللّٰه التي تعني هجر تلك الرذائل و التوبة منها...

(فاجعلوا طاعة اللّٰه شعارا دون دثاركم و دخيلا دون شعاركم) بعد أن ذكر التقوى و ثمراتها أراد أن يذكر ما يحصّلها و يوصل إليها فذكر الطاعات و أنها الطريق المؤدي إلى التقوى فلذا أوصى بها و حضّ عليها و وضعها في موضعها.

اجعلوا طاعة اللّٰه المتمثلة بأوامره و نواهيه ملازمة لكم متصلة بكم كما هو حال الشعار بالنسبة لأبدانكم فإنه ملاصق لها ملازم لها دون الدثار الذي هو فوقه...

بل اجعلوا طاعة اللّٰه تحت الشعار الملاصق للبدن أي اجعلوا طاعة اللّٰه في القلوب خشوعا و خضوعا و لا تكتفوا بحركات البدن من قيام و ركوع و سجود...

(و لطيفا بين أضلاعكم) اجعلوا الطاعة في عمق القلوب بحيث تدخل لتمتزج في النفس و الروح و هذا معناه أشد مماسة بالإنسان من الدخيل...

(و أميرا فوق أموركم) اجعلوا الطاعة للّٰه هي الآمرة لكم و الموجهة لكل أموركم فأين تكون طاعة اللّٰه تكون أموركم و تكون هي الحاكمة و الآمرة كما يحكم الأمير في رعيته...

(و منهلا لحين ورودكم) اجعلوا طاعة اللّٰه هي المشرب العذب يوم ورودكم على ربكم يوم القيامة.

(و شفيعا لدرك طلبتكم) إنكم تطلبون الجنة و تنشدون نعيمها فاجعلوا طاعة اللّٰه شفيعا و واسطة لنيلها و إدراكها و الحصول عليها...

(و جنة ليوم فزعكم) فإن يوم القيامة هو يوم الفزع الأكبر و طاعة اللّٰه هي التي تحصّن الإنسان من هذا الفزع و ترفع الخوف من القلوب...

(و مصابيح لبطون قبوركم) فإن القبور مظلمة و الطاعات مصابيح تنيرها.

(و سكنا لطول وحشتكم) فإن للقبر وحشة طويلة تمتد من الموت إلى يوم القيامة

ص: 405

و هذه الوحشة لا يرفعها إلا الطاعة للّٰه و العمل الصالح فإن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران و الطاعات للّٰه هي التي تحوله إلى روضة من رياض الجنة كما أن السيئات هي التي تحوله إلى حفرة من حفر النيران.

(و نفسا لكرب مواطنكم) فإن طاعة اللّٰه ترفع أهوال يوم القيامة و صعوبات ما يجري في تلك المواطن الشديدة.

(فإن طاعة اللّٰه حرز من متالف مكتنفة و مخاوف متوقعة و أوار نيران موقدة) طاعة اللّٰه حرز منيع و حصن حصين يدفع ما أحاط بالإنسان من المهالك التي هي نتيجة الذنوب و من مخاوف متوقعة يوم القيامة و نيران مشتعلة شديدة الحرارة في جهنم.

تقوى اللّٰه هي التي تدفع كل ذلك و تمنعه عن الإنسان.

(فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها) عاد عليه السلام ليؤكد أهمية التقوى و فوائدها ليجذب إليها الناس فمن اتقى اللّٰه بعدت عنه الشدائد و الصعوبات بعد أن كانت قريبة منه متصلة به لأن من اتقى اللّٰه و انفتح على رحابه جعل اللّٰه له مخرجا من كل عسر و شدة قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» (1).

(و احلولت له الأمور بعد مرارتها) بعد المرارات تصبح الأمور له حلوة بل إن التقوى تحول العذاب إلى لذة و سرور و ما أجمل العذاب في سبيل اللّٰه و ما أطيب وقعه على قلب المؤمن حيث يجد لذة عظيمة تفوق لذاذات الدنيا لأن ذلك العذاب بعين اللّٰه و من أجله...

(و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها) إذا تراكمت الهموم على إنسان و تزاحمت عليه فإن التقوى تكشفها و تزيلها و ترفعها عنه لأن الأتقياء يرون الدنيا كلها سراب و ضباب لا يتأثرون بها و لا يغتمون لها...

(و أسهلت له الصعاب بعد إنصابها) فكل الأمور الصعبة التي لم يجد لها حلا و التي يعيش الإنسان أتعابها و مشاكلها كلها تتذلل و تهون و تسهل و ذلك لأن المتقي يدرك ثمرة الصبر و عاقبته فتسهل عليه الأمور...

(و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها) نزلت الكرامة على الأتقياء كما ينزل المطر بعد الجدب فإن اللّٰه جعل للأتقياء كرامة عند أهل الدنيا يوقرونهم و يحترمونهم و جعل لهم 2

ص: 406


1- سورة الطلاق، آية - 2

في الآخرة دار الكرامة التي هي الجنة.

(و تحدبت عليه الرحمة بعد نفورها) فإن رحمة اللّٰه تنعطف و تميل نحو الأتقياء بعد أن كانت شاردة عنهم و نافرة منهم و رحمته قد تفسر بألطافه الإلهية التي ينكشف من خلالها لهم ملكوت السماوات و الأرض و حقائق الأمور و دقائقها.

(و تفجرت عليه النعم بعد نضوبها) فإن نفس التقي لصفائها و استعدادها يمدّها اللّٰه بأنواع النعم و أهمها العلم و المعرفة و إدراك سر الأشياء قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ » .

(و وبلت عليه البركة بعد ارذاذها) بعد أن كانت البركة قليلة كقطرات المطر القليلة الصغيرة أضحت بالتقوى كالمطر الشديد الغزير.

(فاتقوا اللّٰه الذي نفعكم بموعظته و وعظكم برسالته و أمتن عليكم بنعمته) أمر بالتقوى من جديد، فاتقوا اللّٰه الذي أفادكم فيما وعظكم به في كتابه و على ألسنة رسله عند ما ذكر الأمم السابقة و ما فعلوا و كيف أخذهم ؟ و كيف ذكر الرموز الضالة فأهملها؟ و كيف أنعم على الأنبياء و الأتقياء فاصطفاهم و صفاهم و هكذا.

و كذلك وعظنا اللّٰه برسالته الإسلامية الإلهية التي أنقذنا بها من الظلمات إلى النور و كذلك أمتن علينا بنعمته حيث قال تعالى: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا» .

(فعبّدوا أنفسكم لعبادته و أخرجوا إليه من حق طاعته) ذللوا أنفسكم لطاعة اللّٰه و طلب رضاه و العمل بما أمر أي قوموا بها برغبة و شوق دون تكبر و أدوا إليه حقوقه الواجبة عليكم بكمالها و تمامها و لا تتركوا له حجة عليكم في تقصيركم و إهمالكم نحوه...

(ثم إن هذا الإسلام دين اللّٰه الذي اصطفاه لنفسه و اصطنعه على عينه و أصفاه خيرة خلقه و أقام دعائمه على محبته) بعد أن ذكر التقوى و الطاعة و رغب فيهما كما مرّ ذكر الإسلام و هو أيضا من الطاعات بل الاسم الجامع لها لأنه القواعد الفكرية و العملية و العقيدية للإنسان المسلم و قد وصفه بجملة أوصاف.

1 - (الإسلام دين اللّٰه الذي اصطفاه لنفسه) فهو الدين الوحيد الذي استخلصه اللّٰه و شرعه ليكون طريقا إلى معرفته و سبيلا إلى طاعته قال تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ » .

2 - (و اصطنعه على عينه) فهو الذي تولى إخراجه بنفسه لشدة اهتمامه به و لكمال

ص: 407

صنعه و اتقانه و كلمة اصطنعه على عينه كلمة تقال لما يشتد الاهتمام به.

3 - (و أصفاه خير خلقه) آثر به خير خلقه محمد فكان أعظم دين يبعث به خير الرسل.

4 - (و أقام دعائمه على محبته) و أقام دعائم الإسلام على حب اللّٰه و طاعته فمن أحب اللّٰه أقامها و نفذّها.

5 - (أذل الأديان بعزته) فإن اللّٰه قد أعز الإسلام بكثرة أتباعه و أنصاره و قد انتشروا في أقطار الأرض رغم محاربته كدين و رغم محاربة أتباعه كمسلمين، و قد تكون عزته على الأديان باعتبار قوة حججه و براهينه و ضعفها عند غيره من الأديان فإن حجة التوحيد واضحة جلية قوية بينما التثليث مسألة يصعب الإيمان بها و الاعتقاد بمضمونها بل لا يقبلها عقل متحرر...

6 - (و وضع الملل برفعه) فإن علو الإسلام و ارتفاعه يقابله وضع الأديان الأخرى و انحسارها و انكسارها و هذا من باب قوله تعالى: «هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ » .

7 - (و أهان أعداءه بكرامته) و أعداء الإسلام هم المشركون و اليهود و النصارى و غيرهم من أهل الأديان الباطلة و قد أهانهم الإسلام عند ما أكرمه اللّٰه و فرض تطبيقه في المجتمع فإنه أوجب على الوثنيين الإسلام أو السيف و أوجب على أهل الكتاب إما الإسلام أو الالتزام بأحكام الذمة و دفع الجزية و فيها ما فيها من الذل عليهم...

8 - (و خذل محاديه بنصره) فعند ما نصر اللّٰه الإسلام و أهله انهزم أعداؤه و محاربيه الذين سعوا في إطفاء نوره...

9 - (و هدم أركان الضلالة بركنه) بعقائد الإسلام و أصوله هدم اللّٰه عقائد الضلالة و أصولهم أو قضى على رؤساء الضلال...

10 - (و سقى من عطش من حياضه) من أراد أن يرتوي بالعلم و المعرفة و الثقافة و الأخلاق فإن الإسلام يسقيه من علوم العلماء الذين هم الأئمة أوعية العلم و خزنته.

11 - (و أتأق الحياض بمواتحه) ملأ قلوب العلماء و طلاب المعرفة بعلوم الدين و معارفه عن أيدي الرسل و الأنبياء و الأئمة و قال بعضهم: إنه عليه السلام استعار لفظ المواتح إما للأئمة الآخذين للإسلام من الرسول الذي هو الينبوع أو لأفكار العلماء و سؤالاتهم و بحثهم عن الدين و أحكامه و استفادتهم بها.

ص: 408

12 - (ثم جعله لا انفصام لعروته) من تمسك بالإسلام نجا من العذاب و الهوان و لا يتعرض لذل أو خزي لأن من تمسك بالإسلام تمسك بعروة وثيقة لا تنفصم أو تنقطع...

13 - (و لا فك لحلقته) فتشريعه محكم لا تستطيع أن تستشكل في صغيرة من أحكامه لتدخل إليه بالنقد و قيل: إن معناه كناية عن عدم انقهار أهله و جماعته.

14 - (و لا انهدام لأساسه) و أساس الإسلام إما يراد بها أصول الدين و هي قوية لا تسقطها حجة و لا يقوم على بطلانها برهان و إما يراد بالأساس الذي لا ينهدم هما الكتاب و السنة فإن الزمن لا يسقطهما و لا تضمحل أحكامهما...

15 - (و لا زوال لدعائمه) دعائم الإسلام هي ما يقوم عليها سواء كان الكتاب و السنة أم العلماء و الفقهاء أم الأئمة فإن كل هذه الأمور مما لا تزول أو تفنى بل تبقى ببقاء الدنيا.

16 - (و لا انقلاع لشجرته) و الإسلام لا يمكن زواله أو القضاء عليه لأنه شجرة أصلها ثابت في الأرض و فرعها في السماء.

17 - (و لا انقطاع لمدته) ليس الإسلام وصفة مؤقتة ثم ترتفع أو يتعطّل مفعولها بل هو الوصفة الختامية التي ستستقر إلى آخر الدنيا و فناء من عليها...

18 - (و لا عفاء لشرائعه) فأحكامه لا تندرس أو تزول أو يأتي عليها الزمن بالإهمال و النسيان لأنها الأحكام التي شرعها اللّٰه لمصلحة هذا الإنسان و منافعه و قد تبين أن الإسلام أصلح نظام يمكن أن يوفر للإنسان السعادة و الخير...

19 - (و لا جذّ لفروعه) لا يجوز تعطيل فروع الإسلام و إلغائها أو يراد أن كل مسألة مستحدثة لها حكم في الإسلام يستطيع المجتهدون أن يجدوا لها أصلا و مدركا و يردوها إلى مصادرها و يدخلوها تحت العمومات المناسبة لها.

20 - (و لا ضنك لطرقه) فكل فروع الإسلام سهلة لا حرج فيها و لا عسر، لا تتعب العامل بها أو تضنيه فإن الإسلام شريعة سمحة فيها الرحمة...

21 - (و لا وعوثة لسهولته) فليس سهولة الإسلام إلى درجة يزهد فيها الإنسان أو أن سهولته لا توجب إسقاط التكليف أو إثارة الإهمال و الفوضى و كأن لا تكليف في المقام بل هو تكليف ملتزم بحدود طاقة الإنسان و قدرته ضمن ضوابط معينة...

ص: 409

22 - (و لا سواد لوضحه) تشريعه و أحكامه واضحة صافية لا خلل فيها و لا باطل يعتريها...

23 - (و لا عوج لانتصابه) فهو باستمرار شامخ الهام قوي الحجة و البرهان لا ينحني و لا ينهار أمام الشبهات و البدع الضالة.

24 - (و لا عصل في عوده) لا ضلال في أحكامه و لا انحراف في تشريعه بل أصوله ثابتة قوية تستطيع أن تتحدى كل فكر و كل زمان...

25 - (و لا وعث لفجه) فطرقه التي هي أحكامه لا صعوبة فيها و لا يضل العامل بها.

26 - (و لا انطفاء لمصابيحه) فإننا نرى مع تقدم العلوم و كثرة الاكتشافات و الاختراعات نرى كيف أن كل ذلك لم يبطل حكما من أحكام الإسلام أو يلغيه أو نجد فيه خلاف ما أتي به، إنا لم نر حكما من أحكامه قد بطل مفعوله و ألغي دوره...

27 - (و لا مرارة لحلاوته) فهو لذة كاملة خالية من الشقاء و حلاوته تامة كاملة لا مرارة فيها فإن أحكامه العبادية و المعاملاتية مع أنها تكاليف على المكلف فإنه لا يجد ثقلا فيها أو تعبا منها.

(فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها و ثبّت لها أساسها) عرّف الإسلام بالدعائم و هي الأركان التي يقوم عليها البناء فهو بأركانه من صلاة و صيام و حج و ولاية و قد وصف تلك الدعائم بأنها داخلة في أصول الحق و جذوره لا يعرف أسرارها إلا بعض الخواصّ من الناس.

و هذه الدعائم ركز و ثبّت أساسها بحيث لا تتزلزل أو تضطرب و لا تتعطل أو ترتفع.

(و ينابيع غزرت عيونها) الإسلام ينابيع متدفقة تندفع منها الخيرات و هذا إشارة إلى أن مصدر التشريع لا يجف و لا يخف بل يبقى في العطاء باستمرار و نحن نجد كيف تطور الفقه و كيف مشى مع الزمن و وجد علماء الإسلام لكل حدث مستجد حكما من أحكام اللّٰه استنبطوه من كتاب اللّٰه و سنة المعصومين...

(و مصابيح شبت نيرانها) فهذه التكاليف الشرعية آثارها كآثار المصابيح التي تضيء الدرب أمام السالكين و هذه العبادات تضيء آفاق النفس و ترفع ظلماتها.

(و منار اقتدى بها سفارها و أعلام قصد بها فجاجها و مناهل روي بها ورادها) من

ص: 410

يقصد الحق يهتدي إلى ضوء الإسلام و نوره لأنه ظاهر الحق واضح الدليل بيّن البرهان، إنه راية واضحة يهتدي إليها و بها كل سائر في طريق الحياة و كذلك من ورده و أتى إليه فإنه يرتوي من أحكامه و تشريعه و يفاض عليه من خيراته...

(جعل اللّٰه فيه منتهى رضوانه و ذروة دعائمه و سنام طاعته) غاية رضا اللّٰه تتجسد في الإسلام و القيام بأحكامه باعتباره الأطروحة الإلهية الأخيرة التي ارتضاها لتكون الشافية لهذا الإنسان قال تعالى: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً» و في الإسلام و امتثال أحكامه تتحقق أعلى طاعات اللّٰه و القرب منه...

(فهو عند اللّٰه وثيق الأركان) أصول الإسلام عند اللّٰه قوية متينة لا تتزلزل أو تضطرب و لا تؤثر فيها الشكوك أو الشبهات.

(رفيع البنيان منير البرهان) الإسلام يعلو على كل الأديان و يسمو عليها كما أن كل عاقل مفكر لبيب يؤمن به إذا أصغى بعقله إلى أدلته و براهينه...

(مضيء النيران عزيز السلطان) أحكامه متوقدة فيها الراحة و الاطمئنان و سلامة الرؤية ففيها الدفء و فيها النور ترتاح إليها النفس و تنكشف أمامها الظلمات...

و كذلك دولته قوية عزيزة لا تضام أو يعتدى عليها فتنام.

(مشرف المنار معوذ المثار) أضواؤه مشرقة مرتفعة، قيل: كنى بها عن علو قدر علمائه و أئمته و انتشار فضلهم و الهداية بهم...

و أما أسراره و ما فيه من كنوز و عمق فيعجز الإنسان عن الوصول إليها أو إدراكها مهما حاول ذلك و دقق و بحث.

(فشرفوه و اتبعوه و أدوا إليه حقه وضعوه مواضعه) اعتقدوا شرفه و أن من اتبعه يكون شريفا كريما و اتبعوه حقيقة و في العمق قولا و عملا و سلوكا و أدوا إليه حقه بامتثال أوامره و ترك نواهيه وضعوه مواضعه فلا تعملوا في تحريفه أو تزييفه أو تحليل حرامه أو تحريم حلاله.

(ثم إن اللّٰه سبحانه بعث محمدا - صلّى اللّٰه عليه و آله - بالحق حين دنا من الدنيا الانقطاع و أقبل من الآخرة الاطلاع) بعد أن ذكر الإسلام و فضله و خصائصه ثنّى بذكر من أرسل به و هو النبي الكريم و زمن بعثته و ما كان قبل ذلك من شقاء و تعاسة فأرسل اللّٰه محمدا صلى اللّٰه عليه و آله إلى الخلق بدين الحق كما قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ » ثم لما كانت بعثة رسول اللّٰه هي آخر البعثات الإلهية إلى

ص: 411

هذا الإنسان بيّن أن بعثته كانت في أواخر الدنيا و نهايتها و قرب الآخرة و حلولها لأن ما مضى منها هو الكثير و ما بقي منها هو القليل و في الحديث ما يدل على هذا. و يمكن أن يريد قرب انقطاع دنيا كل أمة منهم و حضور آخرتهم بموتهم و انقراضهم...

(و أظلمت بهجتها بعد إشراق و قامت بأهلها على ساق) فبعد أن أشرقت أنوار النبوة و نعم الناس بخيرها و عطائها و أبواب هدايتها و لطفها فقد أظلمت هذه الأنوار و حل الظلم و الخراب و البعد عن اللّٰه و تحولت حياتهم إلى حياة شديدة صعبة حيث الغارات و الاعتداء و غزو بعضهم لبعض.

(و خشن منها مهاد و أزف منها قياد) صعب فيها الاستقرار و هدوء البال و فقد فيها طيب العيش كما اقترب زوالها و فناؤها.

(في انقطاع من مدتها و اقتراب من أشراطها و تصرم من أهلها) هكذا كانت الدنيا فقد انتهى وقتها المضروب لها و التي تنتهي عنده و توفرت علامات زوالها التي هي علامات القيامة كما أن من علاماتها تنافر أهلها و تقاطعهم و عدم الوصل و اللقاء فيها بينهم...

(و انفصام من حلقتها و انتشار من سببها و عفاء من أعلامها) لا يزال الحديث عن أحوال الناس يوم بعثة الرسول فذكر أن الناس لم تجمعهم الشريعة و قوانينها حيث تفرقوا وراء الأهواء و الميول و الرغبات و قد تفرقوا كل وراء ما يريد من مذاهب و مشارب كما أن العلماء و الصلحاء يموتون و قد عبر عنهم بالأعلام لأن بهم يهتدي الضال و عن أيديهم يكون الخير و العطاء...

(و تكشف من عوراتها و قصر من طولها) تظهر مفاسد الدنيا و عيوبها و لم يعد هناك من قبيح مستور أو مكروه مقبور كما أن طولها قد تقصّر و تقلص الزمن الطويل من عمرها...

(جعله اللّٰه بلاغا لرسالته و كرامة لأمته و ربيعا لأهل زمانه و رفعة لأعوانه و شرفا لأنصاره) بعد أن ذكر الفترة المتقدمة على بعثة رسول اللّٰه و ما جرى فيها من قبائح و مفاسد عاد إلى ذكر رسول اللّٰه ليدلل على مدى عظمته و كرامته و كيف يجب على الناس أن يقدروا جهوده و يحتفلوا بقدومه و يهتموا بدينه...

فقد جعل اللّٰه رسوله مبلغا لرسالة اللّٰه مؤديا لها إلى الناس كما جعله اللّٰه كرامة لأمته الإسلامية حيث جعله منها و إليها و جعلها أفضل أمة.

ص: 412

كما أن ببركة الرسول نزلت الخيرات و ارتفعت الويلات و أخصبت البلاد فأعطى الناس الهدى و الأخلاق و الآداب و قدّم بنفسه كل ذلك ليكون قدوة لهم و أسوة حسنة لكل أتباعه.

كما أن بوجوده ارتفع أصحابه و اعتزوا كما كان شرفا لأنصاره الذين عاونوه و نصروه و أي شرف أعظم من أي يصبح الإنسان صحابيا عاش مع النبي...

(ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه و سراجا لا يخبو توقده) بعد أن ذكر النبي ذكر أعظم معجزاته و هو القرآن و قد وصفه بما فيه من الصفات و ما فيه من الآثار.

وصفه:

«نورا لا تطفأ مصابيحه» فهو نور تنكشف به ظلمات الجهل و الضلال لا تطفأ مصابيحه أي لا تتعطل أحكامه و أدلته و ما فيه من أحكام و تشريع و قد يكون المراد بالمصابيح العلماء و حملة الشريعة الدعاة إلى اللّٰه و الأدلاء على مرضاته...

و وصفه بالسراج لأنه ينير الدرب و يكشف الظلمة و هذا السراج لا يخبو توقده أي دائما يمد الناس بالهداية و يرشدهم إلى الحق و العدل...

(و بحرا لا يدرك قعره) علوم القرآن دقيقة و كثيرة و غزيرة و كلما تقدم العلم كلما اكتشف أسرار القرآن و أدرك عمقه و آمن بمن أنزله و إننا نجد العلماء في كل وقت منذ نزوله يدركون بعض معانيه و لا تزال خافية عليهم الكثير منها...

(و منهاجا لا يضل نهجه) إنه طريق واضح مستقيم لا يتيه أو ينحرف أو يضل السائر عليه و المتحرك في خطه.

(و شعاعا لا يظلم ضوؤه) إنه نور متألق يهدي إليه الحائرين لا ينطفىء أو يختفي، إنه حق واضح لا ينطفىء أو يختفي...

(و فرقانا لا يخمد برهانه) إنه الفاصل بين الحق و الباطل و براهينه لا يمكن إبطالها أو تعطيلها لأنها براهين يوافق عليها العقل...

(و تبيانا لا تهدم أركانه) إنه يبيّن الحق من الباطل كما لا يأتي على أركانه التي هي قواعده الأساسية هدم أو خراب أو دليل يبطلها و يبيّن عدم صحتها...

(و شفاء لا تخشى أسقامه) فمن شفي فيه من الشك و الجهل و الضلال لا يعود إلى هذا المرض أبدا و من آمن لا يرتد، و كذلك يدلّ هذا الكلام على أنه يستشفى بالقرآن من بعض الأمراض البدنية...

ص: 413

(و عزا لا تهزم أنصاره و حقا لا تخذل أعوانه) ففيه العز و ما التجأ أحد إلى الإسلام و طبّق تعاليمه بدقة إلا و كان النصر له و يوم كان المسلمون يتبعون الإسلام و يطبقونه كان النصر حليفهم و قد استطاعوا في أقل من ربع قرن أن يحطموا أعظم دولتين و ينتصروا عليهما و لكن عند ما تخلى المسلمون عن إسلامهم و لم يعملوا به عقيدة و شريعة عبادة و معاملة جهادا و حدودا أذلتهم أذل الأمم و أحقرها و استعمرتهم الدول و استبدت بهم تسومهم الهوان و الذل...

و كذلك الإسلام حق من تمسك به و عمل بمضمونه لا يخذل مساعديه بل النصر لهم و معهم كيف يتوجهون و مساعدوه لا يخذلون في رأي أو موقف...

(فهو معدن الإيمان و بحبوحته) فهو مصدر الإيمان الذي يعتمد عليه حيث يدفع بالأدلة و البراهين التي تثبّت العقيدة و ترسّخها و أما كونه و بحبوحته لأنه المركز الذي يتحرك في دائرته الإيمان فإن القرآن قلب الإيمان و نقطة الإنطلاق في إثارة الفكر و توجيهه الوجهة السليمة...

(و ينابيع العلم و بحوره) القرآن مصدر العلوم على اختلافها و تنوعها و هو لعمقه و شموله كالبحر لا يدرك قعره و لا يمكن حصره.

(و رياض العدل و غدرانه) فالعدل الصحيح من القرآن يؤخذ و فيه تشريع متكامل عن العدل و العدالة سواء كانت اجتماعية أم سياسية أم تشريعية أم غير ذلك...

(و أثافي الإسلام و بنيانه) فقد كان القرآن و ما زال و سيبقى هو الركيزة الأساسية للإسلام و السند المعتمد في كل المجالات فإنه الوثيقة الصادقة التي لا يطرأ عليها شك أو يلفها ضباب... عليه يقوم الإسلام بناء و تشريعا عقيدة و سلوكا.

(و أودية الحق و غيطانه) قالوا: اللفظان مستعاران باعتبار كونه معدنا للحق و مظنة له كما أن الأودية و الغيطان مظان الكلأ و الماء.

(و بحر لا ينزفه المستنزفون و عيون لا ينضبها الماتحون) القرآن كالبحر مهما أخذ منه العلماء و الأدباء و أهل الاختصاصات حظوظهم يبقى لأهل كل زمان حظهم و دورهم و نصيبهم منه و لا يستطيع جيل أن يستوعب ما جاء فيه و يدرك كل أسراره و أعجازه.

كما أن القرآن عيون متفجرة بالمعرفة لا يجففها الآخذون منها أو يعكرون صفوها...

(و مناهل لا يغيضها الواردون) القرآن مشارب عذبة لا ينقص ماءها كثرة الواردين

ص: 414

عليها فكلما أخذ الإنسان من القرآن أمرا بدت لغيره أمور و هكذا يبقى العطاء و يستمر...

(و منازل لا يضل نهجها المسافرون) من قصد القرآن و تطلع نحوه و تتبع علومه وصل إلى مراده بدون أن ينحرف أو يضل.

(و أعلام لا يعمى عنها السائرون) القرآن منارات لا تخفى على المسافر القاصد إلى اللّٰه المتوجه إليه لأنها منيرة مشعة...

(و آكام لا يجوز عنها القاصدون) إلى القرآن تنتهي الأمور و عنده يتوقف القاصدون ما ينفعهم، لا يستطيعون الخروج عنه أو تخطيه إلى غيره من الآراء و النظريات لأنه الحق و غيره الباطل...

(جعله اللّٰه ريّا لعطش العلماء) كل عالم ظامىء إلى العلوم و المعارف يرتوي من علوم القرآن و يبّرد غليله منه و يرفع جهله به.

(و ربيعا لقلوب الفقهاء) فإن القرآن حقل خصب تزدهر علوم الفقهاء منه و تجود قرائحهم بأجود الاستنباطات و التشريعات...

(و محاجّ لطرق الصلحاء) فهو الطريق الواضح الظاهر المستقيم للصالحين إن أرادوا سلوكه و من هنا يجب أن يكون كل صالح يعتمد في سلوكه إلى اللّٰه على هذا القرآن فيستفتيه و يعمل به...

(و دواء ليس بعده داء) إنه الدواء الشافي من كل داء و من شفي به لا يقع فريسة مرض على الإطلاق من آمن عن طريق القرآن و اهتدى به لا يضل أو يرتد أبدا...

(و نورا ليس معه ظلمة) فالقرآن نور يكشف الظلمات و لا يبقى لها وجود.

(و حبلا وثيقا عروته) القرآن حبل متين العروة قويها لا تنفصم و لا يضل من تمسك به أو اعتمد عليه...

(و معقلا منيعا ذروته) القرآن حصن منيع لا يقدر أحد على اقتحام أهله و المتحصنين به و إن من عاد إلى القرآن فإن الشكوك لا تأتيه كما أن من اعتمد عليه في احتجاجاته لا يقهر أو يغلب.

(و عزا لمن تولاه) من تولى القرآن و التزم أمره و عمل بمضمونه فقد نال العزة في الدارين و قد برهنت الأمة عند ما تتوجه إلى اللّٰه و تعمل بكتابه تنال العز و الرفعة و العلو و على العكس من ذلك عند ما تتخلى عن اللّٰه و لا تعمل بكتابه...

ص: 415

(و سلما لمن دخله) من دخل عملا و سلوكا في القرآن و تدبر مقاصده و أحكامه فإنه يسلم من الشكوك و الشبهات كما يسلم من العاهات و الآفات...

(و هدى لمن ائتم به) فمن اقتدى بالقرآن و عمل بمضمونه قاده ذلك إلى الهدى قال تعالى: «ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » .

(و عذرا لمن انتحله) من اعتمد على القرآن في عمله و منطقه و سلوكه كان ذلك عذرا له عند اللّٰه و عند العقلاء...

(و برهانا لمن تكلم به) من جعل القرآن حجته فيما يذهب إليه أو يقوله فقد جعل لدعواه حجة قوية نافذة لا تغلب أو تهزم.

(و شاهدا لمن خاصم به) فالقرآن شاهد صدق يثبت به الحق لمن استشهد فيه.

(و فلجا لمن حاج به) من خاصم به فإن الظفر حليفه و النصر معه.

(و حاملا لمن حمله) من حمل القرآن في الدنيا و عمل به يحمله هذا القرآن إلى الجنة و يكون سببا في نجاته و فوزه...

(و مطية لمن أعمله) من نفّذ أحكام القرآن و عمل بها و قام بمضمونها فإنها توصله إلى غايته التي هي الجنة و استعار له لفظ المطية باعتبار أن به النجاة...

(و آية لمن توسّم) و القرآن آية و علامة يستدل من خلالها على حقائق الأمور الخفية التي لم يظهر منها إلا بعض العلامات و قد كان أهل المعرفة و في زماننا هذا قد رأينا بعضهم و أذكر أنني استخرت مرة فقرأ الآية القرآنية و حكى لي ما سوف يجري و ما نويت و انطوى عليه قلبي...

و حكي لي أن أحدهم استخار عند بعض هؤلاء الأبدال في موضوع الزواج من بعضهن و لم يعلمه بشيء أبدا و إنما طلب منه استخارة فخرج قوله تعالى: «جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ» فقال له: إن الفتاة جميلة جدا و مناسبة لكنها تبول تحتها في فراشها فما كان من الرجل إلا أن استخبر بدقة عن وضعها فكانت كما قال هذا العارف...

(و جنة لمن استلأم) من أدرع بالقرآن و احتمى به فإنه لا يصاب بأذى في الآخرة لأن العامل به من أهل الجنة و أما في الدنيا فلأن العامل به قد حقق شرط النجاح و الفوز...

(و علما لمن وعى) من تعلم القرآن و حفظه فقد أدرك علما صحيحا نافعا و هذا ينفي

ص: 416

عمن يقرأه بلسانه فحسب إنه قد تعلمه بل العلم مع المعرفة و الفهم و العمل...

(و حديثا لمن روى) سماه اللّٰه حديثا بقوله تعالى... «اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتٰاباً مُتَشٰابِهاً مَثٰانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ » و سماه حديثا باعتبار ما فيه من قصص و أخبار و فيه الكفاية لمن أراد أن يحدث و فيه الغنى عن غيره إذا تكلم فيه.

(و حكما لمن قضى) من أراد أن يقضي بالحق و العدل فإن القرآن حاكم بالحق عادل في القضايا لا يحيف و لا يظلم و عنده و فيه كل ما يحتاجه القضاء...

ص: 417

199 - و من كلام له عليه السلام

كان يوصي به أصحابه

تعاهدوا (1) أمر الصّلاة، و حافظوا عليها، و استكثروا منها، و تقرّبوا بها، فإنّها «كٰانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» . ألا تسمعون إلى جواب أهل النّار حين سئلوا: «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ » . و إنّها لتحتّ الذّنوب حتّ (6) الورق، و تطلقها إطلاق الرّبق (7)، و شبّهها رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - بالحمّة (8) تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم و اللّيلة خمس مرّات، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن (9)؟ و قد عرف حقّها رجال من المؤمنين الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاع (10)، و لا قرّة عين (11) من ولد و لا مال. يقول اللّٰه سبحانه: «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ » . و كان رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - نصبا (13) بالصّلاة بعد التّبشير له بالجنّة، لقول اللّٰه سبحانه: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا» ، فكان يأمر بها أهله و يصبر (15) عليها نفسه (16).

الزكاة

ثمّ إنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا (17) لأهل الإسلام، فمن أعطاها طيّب النّفس بها، فإنّها تجعل له كفّارة، و من النّار حجازا و وقاية. فلا يتبعنّها (18) أحد نفسه، و لا يكثرنّ عليها لهفه (19)، فإنّ من أعطاها غير طيّب

ص: 418

النّفس بها، يرجو بها ما هو أفضل منها، فهو جاهل بالسّنّة، مغبون (20) الأجر، ضالّ العمل، طويل النّدم.

الأمانة

ثمّ أداء (21) الأمانة، فقد خاب (22) من ليس من أهلها. إنّها عرضت على السّماوات المبنيّة، و الأرضين المدحوّة (23)، و الجبال ذات الطّول المنصوبة، فلا أطول و لا أعرض، و لا أعلى و لا أعظم منها. و لو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لأمتنعنّ ، و لكن أشفقن (24) من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ ، و هو الإنسان، «إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً» .

علم اللّٰه تعالى

إنّ اللّٰه سبحانه و تعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون (25) في ليلهم و نهارهم. لطف (26) به خبرا (27)، و أحاط به علما. أعضاؤكم شهوده، و جوارحكم جنوده، و ضمائركم عيونه، و خلواتكم عيانه (28).

اللغة

1 - تعهدوا و تعاهدوا: اصله تجديد العهد بالشيء و المراد المحافظة عليه و التردد عليه و تفقده.

2 - كتابا: فرضا واجبا.

3 - الموقوت: المقدر المحدود.

4 - سلكه: دخله ما سلككم ما أدخلكم.

5 - سقر: علم لجهنم و قيل اسم واد فيها...

6 - الحت: نثر الورق من الغصن و انحات تناثر.

7 - الربق: بكسر الراء جمع ربقة على وزن عنب و هي العروة - الحلقة - في الحبل.

8 - الحمة: بفتح الحاء كل عين ينبع منها الماء الحار و يستشفى بها من العلل.

ص: 419

9 - الدرن: محركة الوسخ.

10 - المتاع: جمعه امتعة كل ما ينتفع به من عروض الدنيا سوى الفضة و الذهب.

11 - قرة العين: ما تقربه العين و تسر.

12 - تلهيهم: تشغلهم لا تلهيهم لا تشغلهم.

13 - نصبا: تعبا من النصب و هو التعب.

14 - اصطبر: صبر.

15 - يصبّر نفسه: أي يأمرها به و يحملها عليه.

16 - و يصبر نفسه: بالتخفيف أي يحبس نفسه عليها.

17 - القربان: ما يتقرب به إلى اللّٰه من أعمال البر.

18 - فلا يتبعنها: بنون التوكيد المثقلة من اتبعت فلانا إذا لحقته.

19 - اللهف: الحسرة.

20 - مغبون الأجر: منقوصه.

21 - الإداء: إيصال الشيء إلى المرسل إليه.

22 - خاب: لم يظفر و خاب سعيه لم ينجح.

23 - المدحوة: المبسوطة.

24 - اشفقن: من اشفق إذا خاف.

25 - مقترفون: مكتسبون.

26 - لطف: دق و صغر.

27 - الخبر: العلم.

28 - العيان: بالكسر المعاينة و المشاهدة.

الشرح

(تعاهدوا أمر الصلاة و حافظوا عليها و استكثروا منها و تقربوا بها فإنها «كٰانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» ) يتعرض الإمام في هذه الخطبة إلى أمور ثلاثة، الصلاة و الزكاة و إداء الأمانة و ابتدأ بالصلاة فأمر بها في أوامر.

1 - تعاهدوا أمر الصلاة و حافظوا عليها: لتكن الصلاة في عهدتكم و على ذمتكم تتعلمونها و تعلّمونها و تحفظون أصولها و أركانها و حافظوا عليها فأدوها في أوقاتها مع شرائطها و أجزائها و أركانها قال تعالى: «حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ وَ قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ » .

ص: 420

2 - و استكثروا منها: اكثروا الصلاة فإنها كما في الحديث: خير موضوع فمن شاء أقل و من شاء أكثر.

3 - و تقربوا بها: اجعلوها خالصة لوجه اللّٰه خالصة من الرياء و العجب و ما يفسد العبادات، و التقرب بها إلى اللّٰه أن تقع خالصة لوجهه مع شرائطها و جميع أجزائها...

ثم أشار إلى فضلها و وجه وجوبها بقوله: فإنها «كٰانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» : أي كانت في تشريعها واجبا محددا في وقت معين.

(ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» قالوا: «لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ » ).

استفهام توبيخي يراد منه التنبيه إلى أن ترك الصلاة يوجب دخول النار.

ألا تسمعون و مفهومه اسمعوا إلى جواب أهل النار كيف أجابوا عن قول من سألهم: «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» ما هي الأسباب التي أدخلتكم النار فأجابوا: «لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ » ، لم يؤدوا الصلاة و لم يقيموها فكانت عاقبتهم أن يصلوا إلى النار و يدخلوا هذا المكان المعدّ لعذاب الأشرار...

(و إنها لتحت الذنوب حتّ الورق و تطلقها إطلاق الربق و شبهها رسول اللّٰه - صلى اللّٰه عليه و آله و سلم - بالحمة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم و الليلة خمس مرات فما عسى أن يبقى عليه من الدرن) هذه إحدى أهم ثمرات الصلاة إنها تسقط الذنوب عن الإنسان كما تسقط الأوراق عن أغصان الشجر و كذلك تحلها من الأعناق كما تحل عقد الحبال المربوطة بها أعناق الأغنام.

إن الصلاة تسقط الذنوب و في بعض الأخبار بمجرد أن يقوم الإنسان إلى الوضوء و يبتدأ به تتناثر عنه الذنوب و تتساقط ثم أيد كلامه عليه السلام بما ورد عن النبي صلى اللّٰه عليه و سلم حيث شبّه الصلاة بعين ماء حارة على باب دار الرجل فيغتسل منها خمس مرات في اليوم و الليلة فكما أن هذا المغتسل بهذا الماء لا يبقى على بدنه وسخ بل يتنظف و يتطهر كذلك حال من صلى في اليوم و الليلة خمس مرات فإنه لا يبقى عليه من الذنوب أثر...

و السر في ذلك أن المصلي يلتفت إلى نفسه و إلى ربه فيبادر مع كل صلاة إلى إصلاح نفسه و إلى البعد عن الفحشاء و المنكر و الرذائل و بذلك الباب - الصلاة - يدخل لتطهير نفسه و تنقيتها و تصفيتها من كل فساد...

(و قد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع و لا قرة عين

ص: 421

من ولد و لا مال يقول اللّٰه سبحانه: «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ » ) هذا ترغيب في الصلاة بضرب المثل بهؤلاء الرجال الذين عرفوا الصلاة و حقيقتها و وقفوا على ثمراتها و فوائدها...

لقد عرفها رجال من المؤمنين.. عرفوا عظمة الوقوف بين يدي اللّٰه... عرفوا لذة مناجاته و طيب خطابه... عرفوا أن الانحناء له يمنع الانحناء لأي طاغوت في الأرض... و عرفوا السجود له يمنع السجود لكل من ادعى الألوهية و قال بربوبية نفسه أو ربوبية غير اللّٰه.

لقد عرفها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع من متاع الدنيا و لا قرة عين من ولد و لا مال، لقد نظروا إلى أنها رأس القائمة في الباقيات الصالحات فبادروا إليها دون أن يشغلهم غيرها من أمور الدنيا مهما كانت عزيزة أو غالية...

ثم استشهد بالآية الكريمة: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ» .

فهؤلاء الرجال النموذج و العينات الطاهرة هم أهل البيت الذين ما ذكر يا أيها الذين آمنوا... إلا كانوا قادتهم و سادتهم و روادهم باستمرار...

(و كان رسول اللّٰه - صلى اللّٰه عليه و آله - نصبا بالصلاة بعد التبشير له بالجنة لقول اللّٰه سبحانه: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا» فكان يأمر بها أهله و يصبر عليها نفسه) و هذا أيضا من باب الترغيب بضرب المثل بسيد المرسلين الذي أتعب نفسه كثيرا في الوقوف بين يدي اللّٰه في الصلاة عند ما بشره اللّٰه بالجنة و أمره أن يأمر أهله بالصلاة و يصبر عليها فكان يقف بين يدي اللّٰه وقفة العز و الشموخ، كان يقف حتى تتورم قدماه فينزل اللّٰه قرآنا بحقه يقول له: «طه مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ » أي لتتعب فكان يقول: أفلا أكون عبدا شكورا...

فإذا كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم يقف في الصلاة حتى يتعب مع إنه قد بشّره اللّٰه بالجنة فكيف بحالنا نحن ؟! و هل نقف في صلاتنا بعض ما وقف رسول اللّٰه ؟! و هل نحفظها كما حفظها و نؤديها كما أداها...؟ عفى اللّٰه عنا و رحمنا من سوء عملنا و قلة توجهنا إلى اللّٰه...

(ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قربانا لأهل الإسلام فمن أعطاها طيب النفس بها فإنها تجعل له كفارة و من النار حجازا و وقاية فلا يتبعنها أحد نفسه و لا يكثرن عليها لهفه)

ص: 422

و الزكاة أخت الصلاة و قرينتها قال تعالى: «أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ » فهي شعيرة إسلامية يتقرب بها إلى اللّٰه كما يقول الفقهاء، هي من الأمور العبادية على مستوى الصلاة يشترط فيها نية القربى بمعنى أن تقع لوجه اللّٰه خالصة له لا يشركه فيها أحد.

و من هنا قال لإمام فمن أعطاها طيب النفس بها أي برضا منه و حب لامتثال أمر اللّٰه خالصة لوجهه الكريم فإن آثارها تترتب عليها عندئذ و تكون كفارة له من الذنوب تسترها و تمحوها و تكون له من النار وقاية و سترا لا يمسه عذابها و لا يناله لهبها...

ثم استدرك ببيان التحذير من أن يتبع الإنسان زكاته بحيث يدفعها و قلبه معها أي لم تخرج من القلب خالصة لوجه اللّٰه بل كانت لبعض الدواعي الحقيرة من توقع ربح أو مدح أو غير ذلك مما ينشده أبناء الدنيا و محبوها...

كما نهاه أن يكثر تلهّفه عليها أي يتحسر و يتأسف على إخراجها لأن ذلك يحكي عن سوء نيته و إنها لم تخرج من قلبه كما هو حقها...

(فإن من أعطاها غير طيب النفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسنة مغبون الأجر ضال العمل طويل الندم) ذكر بعض آثار عدم الإخلاص في دفع الزكاة فإن من أعطاها غير طيب النفس بها بدون إخلاص للّٰه بل دفعها يرجو بها ما هو أفضل منها بنظره كالمدح أو الربح فهو رجل جاهل بالسنة لأن من السنة أن يعطيها بنفس طيبة راغبة بما عند اللّٰه من الثواب راهبة بما عنده من العذاب.

و كذلك هو مغبون الأجر أي لا أجر له أو ناقص الأجر لأن كل أجر دون رضى اللّٰه فهو لا شيء أو حقير...

و أيضا فهو ضال العمل، عمله باطل لأنه لم يأت به على وجهه المطلوب منه كما أنه في يوم القيامة سيندم طويلا على سوء فعله و إقاعه للزكاة على غير وجهها و لكن لن ينفعه الندم...

(ثم إداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها.. إنها عرضت على السماوات المبنية و الأرضين المدحوة و الجبال ذات الطول و العرض المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها و لو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن و لكن اشفقن من العقوبة و عقلن ما جهل من هو أضعف منهن و هو الإنسان لأنه «كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً» ) هذه ثالثة ما يذكر الإمام في هذه الخطبة و هي إداء الأمانة فمن ائتمنك بمال أو على شيء وجب عليك أن ترده عليه و توصله إليه...

ص: 423

و الأمانة ثقيلة و قد خسر من ليس من أهلها و ضل عن الطريق و شقى بهذا الانحراف.

و ما ذكره الإمام من تعظيم لها مأخوذ من قوله تعالى: «إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً» .

فإن هذه السماوات المبنية بهذه الدقة و هذه الأرض المبسوطة كما ترى و هذه الجبال ذات الطول و العرض التي ليس هناك أعظم منها كلها قد امتنعت عن حمل الأمانة و خافت من التقصير في حملها لأن عقوبتها عظيمة... إنها عرفت مدى الخطورة في حملها و لكن هذا الإنسان لجهله و غبائه حملها و وقع فيما اشفقت منه السماوات و الأرض و الجبال إنه كثير الظلم جهول بما يحمل لا يعرف خطره و لا أثره...

و قد وردت الأحاديث الكثيرة في إداء الأمانة و وجوب الوفاء بها و يكفي ما ورد عن النبي صلّى اللّٰه عليه و سلم من قوله: «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم و صومهم و كثرة الحج و المعروف و طنطنتهم بالليل و لكن انظروا إلى صدق الحديث و إداء الأمانة».

و في الحديث عن الصادق يقول: اتقوا اللّٰه و عليكم بإداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو إن قاتل أمير المؤمنين ائتمنني على أمانة لأديتها إليه...

و قد دار الحديث طويلا في هذه الأمانة التي عرضت على السماوات و الأرض و الجبال كما دار الجدل في إبائها عن تحملها و اشفاقها من ذلك.

و الظاهر أن الأمانة هي أمانة التكليف و المسئولية و إباء السماوات و الأرض و الجبال هو عجزها التكويني و الإباء كان بلسان الحال...

و غرض الإمام هو أن يذكر هذا الإنسان بأهمية الأمانة و إن هذه المخلوقات على عظمتها و ضخامتها و قوتها و متانتها أبت تحمل الأمانة خوفا من التقصير و العجز المؤدي إلى عقاب اللّٰه فكيف يحملها هذا الجرم الصغير - و هو الإنسان - و طالما أنه تحملها فعليه أن يؤديها كما تحملها...

(إن اللّٰه سبحانه و تعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم و نهارهم لطف به خبرا و أحاط به علما أعضاؤكم شهوده و جوارحكم جنوده و ضمائركم عيونه و خلواتكم عيانه) أشار إلى عموم علم اللّٰه و إنه لا يخفى عليه ما يعمله هذا الإنسان في ليل أو نهار من خير أو شر و هو الخبير فيما دقّ من الأمور و خفي و علمه محيط بكل صغائر الأمور

ص: 424

و كبيرها من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة...

ثم بين دقة الحكمة الإلهية و شدة الرقابة على هذا الإنسان بحيث تحولت شهوده عليه من ذاته فلا يحتاج إلى غيرها و هي بينات فيها الكفاية على إدانته أو براءته.

أعضاؤكم شهوده: فالأعضاء تشهد على هذا الإنسان بما اقترف و اكتسب، الرجل تشهد إلى أين تحركت في طريق الخير أم في طريق الشر... و اليد تشهد إنها بطشت في سبيل اللّٰه أو اعتداء على عباد اللّٰه.. و العين تشهد إنها نظرت إلى أمر محرم أو إلى ما ينفع و هكذا تتحول كل جارحة في هذا الإنسان إلى شاهد عليه أو شاهد له قال تعالى: «اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ » .

و جوارحكم جنوده: فإن الجوارح باعتبار إنهم يشهدون على أصحابهم فهم كالجنود يعاونون الملك في نصرته و قهر اعدائه و هؤلاء عند ما يشهدون على اصحابهم ينتصرون للّٰه و يهزمون أصحابهم...

و ضمائركم عيونه: أي إن ما تخفي الضمائر سوف تبرزه أمام اللّٰه و تكشفه له دون ستر أو حجاب فتصبح الضمائر أضواء كاشفة نافذة قال تعالى: «قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ » .

و خلواتكم عيانة: ما تفعلونه في الخلوت و على انفراد لم يطلع عليه أحد فهو بعين اللّٰه يراه كما هو على حقيقته فالخلوة عنده جلوة و السر علن و الخفاء ظهور...

و أراد من وراء ذلك أن اللّٰه يعلم كل شيء و لا يخفى عليه شيء فيجب أن يكون الإنسان باستمرار على طاعته و في خطه لا يرتكب معصية و لا يقترف إثما...

ص: 425

200 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في معاوية و اللّٰه ما معاوية بأدهى (1) منّي، و لكنّه يغدر (2) و يفجر (3)، و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس، و لكن كلّ غدرة فجرة، و كلّ فجرة كفرة «و لكلّ غادر لواء (4) يعرف به يوم القيامة».

و اللّٰه ما أستغفل بالمكيدة (5)، و لا أستغمز (6) بالشّديدة.

اللغة

1 - الدهاء: جودة الرأي و الحذق و الدهاء المكر و الاحتيال، استكمال شتى السبل للوصول إلى الهدف.

2 - الغدر: نقض العهد، عدم الوفاء.

3 - يفجر: من الفجور و هو مقابل العفة.

4 - اللواء: العلم دون الراية.

5 - المكيدة: الحيلة.

6 - استغمز: من الغمز و هو العصر باليد و الغمز بالتحريك الرجل الضعيف.

الشرح

اشارة

(و اللّٰه ما معاوية بأدهى مني و لكنه يغدر و يفجر و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس) في هذا الكلام يدفع الإمام عن نفسه ادعاء من قال: إن معاوية أدهى منه و أشد خبرة بما ينفع في الحرب فأقسم عليه السلام أن معاوية لم يكن بأدهى منه أي بأشد إدراكا لموارد النجاح و الوصول إلى الغاية التي يريدها فإن الإمام كان على علم بكل الطرق

ص: 426

الموصلة إلى السلطة و الاستبداد بها و الاستيلاء عليها كان يعلم كل الحيل و الخداع و المكر الذي يقدر من خلاله على ضبط أمور الحكم و السلطة و لكنه لا يستعمل إلا الوسيلة الشريفة النظيفة التي لا تعكر طهر الهدف و نقاؤه يجب أن تبقى الوسيلة مشروعة مباحة قد أذن اللّٰه بها...

و لكن معاوية يغدر فلا وفاء له مع اللّٰه فيما أخذه عليه أن يكون في خطه و في دينه و تحت أمره.. إنه يغدر بعهده مع اللّٰه و من يغدر يفجر أي ينحرف و يضل و يفسق ثم بين السبب في عدم استعماله للدهاء «و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهي الناس» لو لا حرمة الغدر و إن اللّٰه حرمه على الناس فضلا عن المؤمنين لكنت من أدهى الناس و ليس أدهى من معاوية فحسب فإنه عليه السلام يعرف مفاتيح النصر و يستطيع أن يستعمل ذلك شرط أن يتخلى عن شخصيته العلوية الإيمانية و هذا لن يكون على الإطلاق... لأنه يخرج عن كونه عليا و هو يأبى إلا أن يكون هو...

ثم بين نتيجة الغدر فقال:

(و لكن كل غدرة فجرة و كل فجرة كفرة «و لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة») و هذا هو التسلسل الطبيعي للغادر فهو فاجر و كل فاجر فهو كافر أما كفر نعمة لأنه بمعصيته يستر نعم اللّٰه و يكفرها و أما كفر جحود باعتبار أن معاوية يعلم حرمة الغدر ثم يرتكبه فيعود إلى جحود تشريعه المؤدي إلى تكذيب الرسل و انكار ما جاء به و هو الكفر بعينه...

ثم نفّر من ذلك بمشهد رهيب يخاف منه المؤمنون و يتبعه معاوية و من يمشي على طريقته و سيرته ففي يوم القيامة لكل غادر لواء ظاهر ينكشف أمام أهل المحشر يعرف به يقال لأهله إنهم أهد الغدر و ما اسوأه من لواء ينضوي تحته الغدارون المكارون الفجرة... لواء أسود يقطر خزيا و عارا و عذابا و نارا...

(و اللّٰه ما استغفل بالمكيدة و لا استغمز بالشديدة) ثم أقسم إنه على علم بمكائد معاوية ليس بغافل عنها و من كان عالما بها و بطرقها استطاع أن يجد لك مكيدة مخرجا ثم بين شدة عزيمته و قوته و إنه لا يضعف أو ينسحب إذا حلّت نكبة شديدة أو نزلت نازلة عظمى...

علي و معاوية.

علي و معاوية قطبان متنافران لا يلتقيان أبدا فهذا يسير نحو المشرق و ذاك نحو

ص: 427

المغرب... هذا يسير نحو اللّٰه و الآخر يسير نحو الشيطان، هذا يسير نحو الدين و ذاك يسير نحو الدنيا هذا يسير نحو المباديء و القيم و ذاك يسير نحو المنافع و الفوائد... علي رجل اللّٰه و معاوية رجل الشيطان... علي رجل الإسلام و معاوية رجل الجاهلية...

علي مع الحق و معاوية مع الباطل.. علي يؤثر الصدق حيث يضر و معاوية يختار الكذب حيث ينفع.. علي مجموعة قيم الإسلام و تعاليمه و معاوية مجموعة سقطات الجاهلية و رذائلها...

علي أحب الإسلام و آمن به و اتبعه و ضحى من أجله و لن يتنازل عن حكم من أحكامه و إن كان فيه منفعة له و ثمره تعود إليه و معاوية لم يؤمن بالإسلام و لم يتبعه إلا لمصلحته فلذا يستخدمه في سبيل تحقيق أغراضه و لا يقف حكم محرم أمامه و لا يعجز عن إلغائه إن أخره عن هدفه فكيف إذا منعه عنه...

و من هنا كانت الأبواب مفتوحة أمام معاوية... كل الأبواب بدون استثناء فليس في قائمته شيء محرم أو غير جائر أو ممنوع بينما الإمام في قائمته بل على رأسها حكم اللّٰه و تحريمه و ما يجوز و ما لا يجوز...

بين علي و معاوية تنافر... علي يرى بالزام الشرع له و أن يكون دائما عند قواعد الحلال و الحرام و معاوية اسقط كل المحرمات من قاموسه و سياسته و حركته... و لكن سياسة معاوية تبين عقمها اليوم لقد فشلت سياسته على كل المستويات فلا الحكم و لا الرشاوي و لا المناصب و لا المال و لا غيرها استطاع أن يضعه في صف الإمام و في مرتبته...، لقد حكم العقلاء بحياة علي في سياسته و أصحاب كل المباديء و القيم يترسمون عليا فيها بينما مات معاوية في مكره و غدره و أضحى عنوانا لكل الانتهازيين الساقطين..، عليّ في ضمير الأحرار و على ألسنة الثوار و معاوية و صمة ذل و عار...

ص: 428

201 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يعظ بسلوك الطريق الواضح أيّها النّاس لا تستوحشوا (1) في طريق الهدى لقلّة أهله، فإنّ النّاس قد اجتمعوا على مائدة (2) شبعها (3) قصير، و جوعها طويل.

أيّها النّاس، إنّما يجمع النّاس الرّضى و السّخط (4). و إنّما عقر (5) ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم (6) اللّٰه بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضى، فقال سبحانه:

«فَعَقَرُوهٰا فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ » ، فما كان إلاّ أن خارت (7) أرضهم بالخسفة (8) خوار (9) السّكّة (10) المحماة (11) في الأرض الخوّارة (12).

أيّها النّاس، من سلك (13) الطّريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع في التّيه (14).

اللغة

1 - الاستيحاش: من الوحشة التي هي ضد الأنس.

2 - المائدة: الطعام.

3 - الشبع: ما يشبع.

4 - السخط: الغضب.

5 - العقر: قطع عرقوب الناقة ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره.

6 - عمهم: شملهم.

7 - خارت: غارت.

8 - الخسفة: من خسف المكان إذا غار في الأرض.

ص: 429

9 - الخوار: صوت البقر و الغنم.

10 - السكة: حديدة المحراث التي تشق الأرض.

11 - المحماة: من حميت الحديدة فهي حامية إذا اشتد حرها بالنار.

12 - الخوارة: الضعيفة اللينة.

13 - سلك: الطريق سار فيه و المكان دخله.

14 - التيه: بكسر التاء المفازة - الصحراء - التي لا علامة فيها يهتدى بها.

الشرح

(أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل) أراد عليه السلام أن يرغّب أصحابه في الثبات على ما هم عليه من طريق الحق و الهدى و لا يستوحشوا لقلتهم فيظنون أن هذه القلة دليل على أن الحق في خلافها فإن هذا الميزان لا يتفق و الحقيقة من حيث إن الحق و الهدى يخضع لميزان العدل الإلهي و لا يخضع لكثرة أو قلة...

ثم بيّن علة القلة في أهل الهدى و هو أن الناس التقوا و اجتمعوا على الدنيا و شبهها بالمائدة و فيها ما طاب بحسب رغبة الإنسان و لكن نفّر عنها بأنها مائدة مدة شبعها قصير بعدد أعوامها و لكن ما بعده سيأتي جوع طويل و هو ما بعد الموت و الحساب حيث يتمنى الإنسان عملا صالحا ينفعه لحياته الآخرة...

(أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى و السخط) ما هو الذي يجمع الناس في الحكم ؟! و كيف نحكم على مجموعة بحكم و على أخرى بحكم آخر؟ و كيف نخرّج بعض المصاديق الموجودة جسدا مع هذه الجماعة عن حكم يلحقها و كيف ندخل مصداقا آخر يكون بعيدا جدا في هذه الجماعة.

الإمام يعطي الميزان و أن الحكم بالعذاب يلحق كل من رضي بالمعصية و إن لم يمارسها بنفسه و أن الرحمة تلحق كل من يرضى بعمل الخير و إن لم يمارسه بنفسه، فالحكم يتبع الرضى و يتبع السخط و هذا المعنى موجود في أحاديث أهل البيت.

ففي الحديث عن محمد بن الأرقط عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: تنزل الكوفة ؟.

قلت: نعم.

ص: 430

قال: ترون قتلة الحسين بين أظهركم.

قلت: ما بقي منهم أحد.

قال: فأنت إذا لا ترى القاتل إلا من قتل أو من ولي القتل ألم تسمع إلى قول اللّٰه:

«قُلْ قَدْ جٰاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنٰاتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ » فأي رسول قتل الذين كان محمد صلى اللّٰه عليه و آله بين أظهرهم و لم يكن بينه و بين عيسى رسول و إنما رضوا قتل أولئك فسمّوا قاتلين...

و الإمام استشهد بقصة ثمود فقال:

(و إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّٰه بالعذاب لما عموه بالرضى فقال سبحانه: «فَعَقَرُوهٰا فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ » فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة) فإن ثمود رضوا بفعل واحد منهم معصيته حيث أقدم على نحر الناقة فلما جمعهم الرضى بهذا الفعل جمعهم اللّٰه بالعقوبة و شملهم جميعا بالعذاب فقال تعالى: «فَعَقَرُوهٰا» مع أن العاقر واحد و لكن نسب إليهم الفعل باعتبار رضاهم بفعله «فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ » عند ما أخذتهم الرجفة فقد انخسفت أرضهم و غارت كما تجري سكة المحراث في الأرض الرخوة بيان لسرعة الخسف و نزول الأرض بهم...

(أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء و من خالف وقع في التيه) عاد إلى التنبيه على لزوم الطريق المستقيم و وجوب السير عليه و أن لا يتركه الإنسان لأنه يضل و ينحرف و من يمشي مستقيما إلى الماء فإنه يصل بدون شك أما إذا تحول إلى اليمين أو الشمال فإنه يقع في التيه فيضل و قد يموت من العطش... و أنتم على الحق أكملوا المسير حتى تصلوا إلى الجنة و لا تنحرفوا فتضلوا و تخسروا...

ص: 431

202 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

روي عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام، كالمناجي به رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم عند قبره السّلام عليك يا رسول اللّٰه عنّي، و عن ابنتك النّازلة في جوارك، و السّريعة اللّحاق بك (1)! قلّ ، يا رسول اللّٰه، عن صفيّتك صبري، و رقّ (2) عنها تجلّدي (3)، إلاّ أنّ في التّأسّي (4) لي بعظيم فرقتك (5)، و فادح (6) مصيبتك، موضع تعزّ (7)، فلقد و سّدتك (8) في ملحودة (9) قبرك، و فاضت (10) بين نحري (11) و صدري نفسك، «فإنّا للّٰه و إنّا إليه راجعون».

فلقد استرجعت الوديعة، و أخذت الرّهينة! أمّا حزني فسرمد (12)، و أمّا ليلي فمسهّد (13)، إلى أن يختار اللّٰه لي دارك الّتي أنت بها مقيم. و ستنبّئك (14) ابنتك بتضافر (15) أمّتك على هضمها (16)، فأحفها (17) السّؤال، و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد، و لم يخل منك الذّكر، و السّلام عليكما سلام مودّع، لا قال (18) و لا سئم (19)، فإن أنصرف فلا عن ملالة (20)، و إن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد اللّٰه الصّابرين.

اللغة

1 - لحق به: أدركه.

2 - رقّ : ضعف.

3 - التجلد: التصبر.

4 - التأسي: التعزية.

ص: 432

5 - الفرقة: الافتراق.

6 - الفادح: الصعب المثقل يقال: ركبه دين فادح أي مثقل و الفادحة المصيبة الشديدة.

7 - التعزي: التصبر.

8 - و سدتك: من الوساد بتثليث الواو المخدة.

9 - ملحودة القبر: الجهة المشقوقة منه و اللحد الشق في جانب القبر.

10 - فاضت: جرت.

11 - النحر: أعلى الصدر.

12 - السرمد: الدائم الذي لا أول له و لا آخر.

13 - المسهد: المؤرق.

14 - ستنبئك: ستخبرك.

15 - التضافر: التعاون و تضافروا على الأمر تعاونوا عليه.

16 - الهضم: الظلم و عدم إعطاء الحق.

17 - الإحفاء: في السؤال الاستقصاء فيه.

18 - القالي: المبغض.

19 - السئم: الضجر.

20 - الملالة: من الشيء سئمه و ضجر منه.

الشرح

اشارة

(السلام عليك يا رسول اللّٰه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك و السريعة اللحاق بك) قال الشريف: إن هذا الكلام صدر من الإمام عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام كالمناجي به رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم عند قبره...

عند ما دفن الإمام عزيزة رسول اللّٰه عزّ عليه المصاب و جل الخطب توجه إلى القبر الشريف... إلى حبيبه و خليله يبثه الشكوى الحزينة و يشرح له الألم الممض... لحن حزين يبثه الإمام من قلبه يشرح لرسول اللّٰه مصابه بعزيزته الزهراء... وقف على القبر الشريف وقفة المفجوع الحزين المصاب بأغلى ما عنده... السلام عليك يا رسول اللّٰه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك... السلام عليك عني بالأصالة و عن ابنتك بالنيابة... إنها نزلت في جوارك في مقام القدس... في الدار الآخرة و لقد كانت مسرعة في اللحاق بك مما زاد مصائبي و جعلها متواترة عليّ ...

ص: 433

(قل يا رسول اللّٰه عن صفيتك صبري ورق عنها تجلدي) بيان لشدة مصيبته و عظيم وقعها على قلبه و أن عليا ذلك الجبل الأشم الذي لا تحركه العواصف و النوائب يعترف بأن الصبر على حبيبة رسول اللّٰه قد قلّ و أن التصبر قد ضعف... فقد كانت الزهراء بقية رسول اللّٰه يرتاح الإمام إليها و يشعر أن يد النبوة لا تزال ترعاه... يشعر بوجود الزهراء أن جزءا من رسول اللّٰه يعيش في الحياة معه يؤاسيه يمشي معه يحمل همومه و يتحرك من أجل قضاياه فعند ما فقدها شعر بوحدته و غربته فكانت الصدمة قوية بحيث لم يقدر أن يحبس ما في نفسه فأبداه بهذه العبارات «قل ورق» الصبر و التجلد...

(إلا أن في التأسي لي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعز) بعد أن ذكر مصيبته بالزهراء و شرح وقعها الأليم على قلبه استدرك بأن مصيبته برسول اللّٰه كانت هي الأعظم و أنه كما صبر في تلك المصيبة سيصبر على هذه فتكون تلك هي التي تخلق الصبر عن هذه...

(فلقد و سدتك في ملحودة قبرك و فاضت بين نحري و صدري نفسك «فإنا اللّٰه و إنا إليه راجعون») هذا شرح لتفاصيل مصيبته برسول اللّٰه و ما مرّ عليه من أمور صعبة و أنه هو الذي وضعه في قبره و تولى بيده دفنه و كيف خرجت نفس رسول اللّٰه و رأسه بين صدر الإمام و نحره فهو أقرب الناس إليه عند وفاته و كان إلى جنبه في آخر لحظات حياته ثم استرجع متسليا راجعا إلى اللّٰه في طلب الأجر و الصبر قائلا: «إنا للّٰه و إنا إليه راجعون» فنحن ملك للّٰه و نحن إليه راجعون...

(فلقد استرجعت الوديعة و أخذت الرهينة) كلام حزين... قد عادت روح الزهراء إلى باريها... و الإنسان في الدنيا وديعة لا بد و أن ترد إلى اللّٰه لتحاسب و وجه كون النفس وديعة أن النفس في هذا البدن كالوديعة فإذا أخذت فقد استرجعت.

و باعتبار أن الإنسان مرهون بأعماله فبهذا الاعتبار أضحى رهينة.

و فسر قوله: «استرجعت الوديعة و أخذت الرهينة» بالنساء باعتبار أن المرأة وديعة عند الرجل و كأنها رهينة عنده يجب المحافظة عليها وردها إلى المودع و المرتهن...

(أما حزني فسرمد و أما ليلي فمسهد إلى أن يختار اللّٰه لي دارك التي أنت بها مقيم) بيان لحزنه و شدته و أنه سيبقى دائم الحزن و الكآبة و مؤرق الليل لا ينام قد أسره المصاب فسلب النوم من أجفانه و سيبقى هكذا إلى أن يستشهد و يذهب إلى جوار المصطفى حيث هو مقيم في أعلى عليين في جنة النعيم...

(و ستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال و استخبرها الحال هذا

ص: 434

و لم يطل العهد و لم يخل منك الذكر) بوفاة الصديقة استرجع الإمام شريط الأحداث الماضية... ما جرى عليه و عليها... و كيف مارست هذه الأمة بحق عزيزة المصطفى أبشع صور التعامل و أقبحه... استرجع و أظن أن هذه الحالة البشرية تعتري كل واحد منا عند ما يموت له عزيز يسترجع الذكريات الحلوة و المرة ما مرّ عليه و ما جرى له إنه يستحضر في ذهنه الماضي كله و يختصره في عبارات تؤدي المطلوب، و الإمام في هذا الموقف الرهيب يستذكر ما جرى على الزهراء و كيف اجتمعت الأمة على ظلمها فسلبتها حقها وردت حجتها و ما ادعته لنفسها ثم ظلمتها في قهرها و ضربها و أهانتها ثم بعد ذلك في ممارسة الأمة من الظلم على زوجها و حرمانه من حقه في الخلافة...

إنها ذكريات مرّة لم يستطع الإمام أن يبثها إلا إلى حبيبه و هذا هو وقتها و قد دفن الزهراء و وقف على قبر رسول اللّٰه... إنها فرصة يستطيع الإمام أن يخفف فيها مما يعيشه من الأسرار و الأحزان... يا رسول اللّٰه ستخبرك ابنتك الزهراء... بضعتك الطاهرة الحوراء ستخبرك بأول اجتماع بك و أول لقاء معك باجتماع الأمة على ظلمها و أخذ حقها و مصادرة ميراثها و أملاكها فأنت يا رسول اللّٰه شدّد الطلب و استقصي الخبر فستجد عظم المصاب و جلل الخطب و فداحته... استخبرها الحال الذي جرى عليها و عليّ و ما يجري الآن... إنها أحداث رهيبة تنكّر القوم فيها لرسول اللّٰه و حاربوه في أهله و ذريته و أقرب الناس إليه و أنني أعتقد لو كان في الأمة حب لرسول اللّٰه و ولاء له لحفظوه في وحيدته الزهراء التي خلّفها بعده و لم يترك من أثره غيرها، و أعتقد أن الزهراء لو كانت في غير هذه الأمة لقد سوها لذاتها و لرسول اللّٰه و لكنها الأمة التي اجتمعت على نصب العداوة لمحمد و لم تقدر أن تقابله في حياته فواجهته في أهله فنحّت عليا عن الخلافة و ظلمت الزهراء أبشع صور الظلم من الضرب و الإهانة و سلب ميراثها و سمّت الحسن المجتبى و قتلت الحسين الشهيد و سيّرت أهل بيت رسول اللّٰه سبايا تجوب بهم البلاد... و هكذا... هذا و بعد لم يطل العهد بفراقك إذ لا زلت شاخصا أمام أبصارهم تتراىء لهم في كل مكان و لم يخل منك الذكر إذ يعيشون ذكرك و يعيشون مقامك بينهم و حديثك لهم...

فمع قرب عهدك بهم و ذكرهم لك فعلوا ما فعلوا من الظلم و الاعتداء و هضم الحق لأهلك و بالخصوص لابنتك و عزيزتك و بضعتك الزهراء...

(و السلام عليكما سلام مودع لا قال و لا سئم فإن انصرف فلا عن ملالة و إن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد اللّٰه الصابرين) أراد أن يودعهما فختم بالسلام عليهما كما بدأ به...

السلام عليكما سلام مودع و للوداع لوعة في القلب يعرفها المحبون عند الوداع... لوعة

ص: 435

الفراق... سلام مودع لا مبغض و لا ملول بل وداع حبيب لأحبته ثم اعتذر فإن انصرف عن قبريكما فلا عن ضجر و سأم من القيام عليهما و إن أقم فلا عن سوء ظن حيث تذهب المصيبة ببعض الناس إلى الجزع و الهلع و اليأس فيسيئون الظن باللّٰه الذي وعد الصابرين بأن يوفيهم أجرهم بغير حساب فليس الانصراف عن ملالة و لا القيام عن سوء ظن بما وعد اللّٰه الصابرين من الأجر....

ترجمة سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد.

اشارة

- فاطمة بنت محمد خاتم النبيين و إلى رسول اللّٰه ينتهي كل كمال و به يفتخر كل إنسان.

- أمها خديجة بنت خويلد أول الناس إسلاما و أكثرهم تضحية في سبيل اللّٰه و الدعوة إلى الإسلام.

- أسماؤها: البتول، الحوراء، الصديقة الكبرى، الطاهرة، الزكية، أم أبيها، و أشهر من كل ذلك سميت الزهراء.

ولدت الزهراء في العشرين من جمادي الثانية بعد النبوة بخمس سنين و بعد الإسراء بثلاث سنين.

أقوال النبي فيها.

رسول اللّٰه لا ينطق عن الهوى و من هنا يجب أن تكون كلماته في أعلى درجات الاعتبار فهو المعصوم المسدد و كلماته في الزهراء إنما كانت بيانا للحقيقة و كشفا عن واقع تتمتع به بنت محمد.

قال صلّى اللّٰه عليه و آله: فاطمة بضعة مني يؤذيني ما أذاها و يريبني ما رابها.

قال صلّى اللّٰه عليه و آله و قد أخذ بيد الحسنين: من أحبني و هذين و أباهما و أمهما كان معي في درجتي يوم القيامة.

و قال لها النبي صلّى اللّٰه عليه و آله: يا بنية من صلى عليك غفر اللّٰه له و ألحقه بي حيث كنت من الجنة.

زواجها المبارك.

رغب بعض الصحابة من الزواج بالزهراء و لكن النبي كان يردهم بأن أمر زواجها

ص: 436

بيد السماء حتى جاء الإمام علي فزوجها منه فأنجبت سيديّ شباب أهل الجنة و زينب بطلة كربلاء.

فدك.

بعد وفاة رسول اللّٰه كان من الطبيعي أن تعود أملاكه إلى ورثته و قد انحصر الوارث بالزهراء و هذا الأمر دعاها إلى المطالبة بفدك التي كانت ملكا لرسول اللّٰه و لكن الخليفة منعها حقها بحديث انفرد فيه «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة...» فكانت هذه صدمة عنيفة أثرت على الزهراء فخطبت خطبتها المشهورة و مع ذلك استعانت بالأنصار و المسلمين و لكنهم رفضوا إعانتها... و بذلك سلب حقها كما سلب حق زوجها في الخلافة من قبل...

وفاتها.

و اختلف في تاريخ وفاتها على أقوال و ما عليه العمل أنها توفيت في الثالث من جمادى الثانية بعد أبيها بحوالي ثلاثة أشهر و دفنها الإمام ليلا و عفّى قبرها بعد أن أوصته بذلك و بأن لا يحضر تشييعها أحد ممن ظلمها و سلبها حقها...

ص: 437

203 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في التزهيد من الدنيا و الترغيب في الآخرة أيّها النّاس، إنّما الدّنيا دار مجاز (1)، و الآخرة دار قرار (2)، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم، و لا تهتكوا أستاركم (3) عند من يعلم أسراركم، و أخرجوا من الدّنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختبرتم، و لغيرها خلقتم. إنّ المرء إذا هلك (4) قال النّاس: ما ترك ؟ و قالت الملائكة: ما قدّم ؟ للّٰه آباؤكم! فقدّموا بعضا يكن لكم قرضا (5)، و لا تخلفوا (6) كلاّ فيكون فرضا (7) عليكم.

اللغة

1 - مجاز: ممر و جاز المكان إذا سار فيه و عبره.

2 - القرار: من قرّ إذا ثبت و استقر بالمكان.

3 - هتك الستر: أزاله من مكانه بحيث بدا ما وراءه.

4 - هلك: مات.

5 - القرض: ما تعطيه لغيرك من المال شرط أن يرده أو مثله.

6 - تخلفوا: مضارع خلّف الرجل الشيء بالتشديد تركه بعده.

7 - فرضا: واجبا.

الشرح

(أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز و الآخرة دار قرار فخذوا من ممركم لمقركم و لا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم) موعظة بالغة تتحرك لها النفس و تعيش أجواء

ص: 438

الآخرة و تسعى لها تاركة الدنيا و ما فيها و طالما سمعتها كثيرا من الخطباء و الوعاظ و أهل الدين و أهل الخير.

إنما الدنيا دار مجاز... دار لا استقرار فيها و لا دوام... دار يعبرها الإنسان إلى الآخرة... طريق يمر عليه و لا يستقر و أما الآخرة فهي دار القرار... الدار التي يحط الإنسان فيها رحله و يستقر فلا ظعن عنها و لا هجرة منها و إذا كان الأمر كذلك فالعاقل من يأخذ من ممره إلى مقره من دنياه إلى آخرته و كيف يأخذ و ما يأخذ؟.

إنه يعمل الصالحات يقوم بالواجبات و يترك المحرمات فإذا به يأخذ أجرها و ثوابها إلى الآخرة...

«فخذوا من ممركم لمقركم» خذوا الأجر و الثواب المترتب على أعمالك في دار الدنيا إلى الآخرة التي هي مكان الاستقرار و الدوام.

«و لا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم» لا تخلعوا الأستار التي تحجب معاصيكم و سيئاتكم عند اللّٰه الذي يعلم أسراركم و إذا كان يعلم الأسرار فهو يعلم الظواهر بطريق أولى فلا يخفى عليه خافية و هذا نهي عن ارتكاب المعصية بأي وجه من الوجوه.

(و أخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها اختبرتم و لغيرها خلقتم) دعوة إلى الزهد في الدنيا و الإعراض عنها بأن يعرض بقلبه عن زينتها و ما فيها و هو في دار الدنيا قبل أن يخرج عنها بالموت.

و بيّن سبب ذلك بأننا خلقنا للاختبار و الامتحان فيها فهي مدرسة يمتحن فيها الإنسان ثم يتركها إلى الدار الآخرة التي خلق لها و من أجلها و العاقل من ينظر إلى الهدف فلا يشغله الطريق إليه عن الوصول إليه...

(إن المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك ؟ و قالت الملائكة ما قدم ؟ للّٰه آباؤكم فقدموا بعضا يكن لكم قرضا و لا تخلفوا كلا فيكون فرضا عليكم) منطق الناس أن الإنسان إذا مات قالوا ما ترك خلفه من أولاد من أموال... من ميراث بينما الملائكة تقول: ما قدم من صلاة و صوم و حج و زكاة و صدقات و أعمال بر و خير... منطقان مختلفان...

منطق الناس منطق المادة و الحسابات الدنيوية بينما منطق الملائكة منطق القيم و المثل و الأجر و الثواب و منطق الآخرة... منطق الناس الذين نسمعهم بآذاننا و نراهم بأشخاصهم أمامنا يقولون ما ترك... ما ترك كلمة أهل الدنيا و حديثهم عند ما يموت أحد الناس... بينما ما قدّم ؟ كلمة الملائكة التي تشعر بعظيم ما يقدم عليه من الآخرة و أنه لا

ص: 439

تنفعه كل أمواله إذا خلفها لغيره و لم يقدّم منها لآخرته شيئا... تعرف الملائكة أن الذي ينفعه هو ما يقدمه لحياته الآخرة...

ثم إن الإمام يقول لهم: ما أجدركم أن تقبلوا وصيتي و تعملوا بموعظتي و أنتم من أنتم من أعمال الخير فقال لهم: «للّٰه آباؤكم» تعظيما لهم بنسبة آبائهم إلى اللّٰه من حيث إنهم أطاعوه و التزموا أمره...

«للّٰه آباؤكم» و أنتم أبناؤهم قدموا بعضا مما تملكون و تعملون و اصنعوا فيه ما ينفعكم في آخرتكم من أعمال البر و الصدقات و إعانة المحتاج و إطعام الطعام و إغاثة الملهوف و تفريج كرب الناس فإن قدمتم ذلك تقدمونه كقرض تقدمونه في الدنيا و تأخذونه في الآخرة ليس مثلا بمثل بل أضعافا مضاعفة لا يعلم إلا اللّٰه كميتها و كيفيتها.

ص: 440

204 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

كان كثيرا ما ينادي به أصحابه تجهّزوا (1) رحمكم اللّٰه! فقد نودي فيكم بالرّحيل، و أقلّوا العرجة (2) على الدّنيا، و انقلبوا (3) بصالح ما بحضرتكم من الزّاد، فإنّ أمامكم عقبة (4) كؤودا (5)، و منازل (6) مخوفة مهولة (7)، لا بدّ من الورود عليها، و الوقوف عندها. و اعلموا أنّ ملاحظ (8) المنيّة (9) نحوكم دانية (10)، و كأنّكم بمخالبها (11) و قد نشبت (12) فيكم، و قد دهمتكم (13) فيها مفظعات (14) الأمور، و معضلات (15) المحذور. فقطّعوا علائق (16) الدّنيا و استظهروا (18) بزاد التّقوى.

و قد مضى شيء من هذا الكلام فيما تقدم، بخلاف هذه الرواية.

اللغة

1 - جهاز المسافر: ما يحتاج إليه في قطع المسافة و جهاز العروس ما تحتاج إليه و تجهزوا لكذا تهيئوا له.

2 - العرجة: بالضم الإقامة.

3 - انقلبوا: انصرفوا.

4 - العقبة: جمعها عقاب و عقبات المرقى الصعب من الجبال، و الطريق في أعلى الجبل.

5 - كؤود: شاقة، الصعبة.

6 - منازل: أماكن ينزل فيها.

7 - المهولة: المفزعة.

8 - الملاحظ: جمع الملحظ و هو النظر بمؤخر العين.

ص: 441

9 - المنية: الوفاة.

10 - دانية: قريبة.

11 - المخالب للسباع: بمنزلة الظفر للإنسان.

12 - نشبت: علقت.

13 - دهمتكم: غشيتكم.

14 - مفظعات الأمور: عظائمها و شدائدها المتجاوزة للمعتاد.

15 - المعضلات: الشدائد.

16 - العلائق: جمع علاقة، التعلق و الارتباط.

18 - استظهروا: استعينوا.

الشرح

(تجهزوا رحمكم اللّٰه فقد نودي فيكم بالرحيل و أقلوا العرجة على الدنيا و انقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فإن أمامكم عقبة كؤودا و منازل مخوفة مهولة لا بد من الورود عليها و الوقوف عندها) هذه الخطبة صيحة مدويّة في آذان الناس و صرخة مرتفعة يسمعها من له أذن واعية، إنها أمر بأن يأخذ الإنسان من دنياه ما ينفعه في آخرته...

«تجهزوا» استعدوا و هيئوا ما تحتاج إليه سفرتكم من الدنيا إلى الآخرة... تجهزوا بكل ما تحتاجونه من أعمال البر و الخير و العمل الصالح و تقوى اللّٰه و إعانة عباد اللّٰه...

«تجهزوا رحمكم اللّٰه فقد نودي فيكم بالرحيل» فهذه صيحات الأنبياء و بيناتهم تناديكم أن تستعدوا لهذا السفر الرهيب.

و هذه المنايا رسل متتالية إليكم تنذركم بهذا الرحيل.

«و أقلوا العرجة على الدنيا» لا تجعلوا الدنيا موطن إقامتكم و تعملوا لها و من أجلها و تنسوا الآخرة....

و انصرفوا عن هذه الدنيا بما تعملون من الصالحات قدر استطاعتكم و ما وسعت ذات يدكم... إن الأعمال الصالحة في متناول أيديكم و أنتم أصحاء قادرون على العمل فاغتنموا الفرصة و قوموا بالواجبات و اعملوا السنن و المستحبات و انقلبوا عن هذه الدار بهذه الصالحات إلى الدار الآخرة...

ثم أشار إلى أن أمام الإنسان بعد هذه الحياة عقبة صعبة شاقة يتعب مجتازها ألا

ص: 442

و هي الموت و هناك بعد الموت أماكن مفزعة مرعبة هناك سكرات الموت و شدائده و عذاب القبر و حسابه و ضيق اللحد و وحشته و لا بد من الوصول إلى ذلك و إدراكه و على العاقل أن يستعد و يهيىء من الزاد و المتاع ما يرفع هذه المشقة أو يدفعها...

(و اعلموا أن ملاحظ المنية نحوكم دانية و كأنكم بمخالبها و قد نشبت فيكم و قد دهمتكم فيها مفظعات الأمور و معضلات المحذور فقطعوا علائق الدنيا و استظهروا بزاد التقوى) و اعلموا يرحمكم اللّٰه أن الموت ينظر إليكم بأطراف عينيه تارة بالألم البسيط و أخرى بالبلاء الشديد و ثالثة بالأشد حتى يصل بكم إلى المميت فكلما كبرتم و تقدمتم بالسن كلما تقدمت المنية نحوكم و ما هي إلا أعوام فإذا أنتم بين مخالب المنية قد استحكمت أسبابها فيكم من هرم و كبر و مرض، فالموت محيط بكم أينما كنتم و سوف يدرككم و أن رسله إليكم في كل ما ينغصّ عليكم حياتكم و يقلقكم في وجودكم و استقراركم.

ثم بين كيف يهجم الموت بعظائم الأمور و شدائدها حيث تسكن الأطراف و تخمد الأنفاس و ينقطع الشخص عن الناس و يقف أمام عمله و ما قدمه لآخرته، إن هناك الموت الذي لا يستطيع دفعه الإنسان أو رده أو تخفيف أهواله و ما فيه من صعوبات... إن في تلك الحالة رهبة و خوف و فزع تصطك لها الركب و تتزلزل الأقدام...

ثم أمر بما يهون الموت و سكراته و ذلك بأن يقطع الإنسان علاقته بالدنيا و يهجر ما فيها و لا يتعلق قلبه بشيء منها... لا تجعلوا أنفسكم عبيدا للدنيا بل تحرروا منها و ما فيها و قدموها لآخرتكم و أهم ما في الدنيا مما تستطيعون أن تقدموه لتلك الدار هو التقوى فإنها أفضل الزاد من الدنيا إلى الآخرة...

ص: 443

205 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

كلم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا عليه من ترك مشورتهما، و الاستعانة في الأمور بهما.

لقد نقمتما (1) يسيرا، و أرجأتما (2) كثيرا. ألا تخبراني، أيّ شيء كان لكما فيه حقّ دفعتكما عنه (3)؟ أم أيّ قسم (4) استأثرت (5) عليكما به ؟ أم أيّ حقّ رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفت عنه، أم جهلته، أم أخطأت بابه!.

و اللّٰه ما كانت لي في الخلافة رغبة، و لا في الولاية إربة (6)، و لكنّكم دعوتموني إليها، و حملتموني (7) عليها، فلمّا أفضت (8) إليّ نظرت إلى كتاب اللّٰه و ما وضع لنا، و أمرنا بالحكم به فاتّبعته، و ما استنّ النّبيّ - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - فاقتديته، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما، و لا رأي غيركما، و لا وقع حكم جهلته، فأستشيركما و إخواني من المسلمين، و لو كان ذلك لم أرغب (9) عنكما، و لا عن غيركما. و أمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة (10)، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، و لا وليته (11) هوى منّي، بل وجدت أنا و أنتما ما جاء به رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ اللّٰه من قسمه، و أمضى فيه حكمه، فليس لكما، و اللّٰه، عندي و لا لغيركما في هذا عتبى (12). أخذ اللّٰه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ ، و ألهمنا و الهمنا و إيّاكم الصّبر.

ثم قال عليه السلام: رحم اللّٰه رجلا رأى حقّا فأعان عليه، أو رأى جورا (13) فردّه، و كان عونا (14) بالحقّ على صاحبه.

ص: 444

اللغة

1 - نقمتما: غضبتما و نقم بغض و كره.

2 - أرجأتما: أخرتما.

3 - دفعه عنه: أبعده و نحاه عنه.

4 - القسم: الحصة و النصيب.

5 - استأثر بالشيء: استبد به، انفرد به من غير مشارك له فيه.

6 - الإربة: الحاجة.

7 - حمله على الشيء: رغّبه به و أغراه حتى أتاه.

8 - أفضت: صارت أو وصلت.

9 - رغب عنه: أعرض عنه و تركه.

10 - الأسوة: القدوة.

11 - وليته: قمت به.

12 - العتبى: الرجوع عن الإساءة، الرضا.

13 - الجور: الظلم.

14 - العون: المساعد.

الشرح

(لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا) هذا الكلام موجه إلى طلحة و الزبير و قد كانا أول من بايع الإمام و كانا أول من نكث بيعته و جهر بالعداء له و إعلان الحرب عليه...

إنهما رفضا مصلحة الأمة من أجل مصالحهما و حطما عنفوانها و جر البلاء و الشقاء على المسلمين من أجل زعامتهما.

يقول الإمام: «لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا» نقمتما عدم استشارتي لكما و عدم إشراكي لكما في الحكم و هو أمر يسير صغير مقابل حقي و طاعتي و وجوب الالتزام بالبيعة التي بايعتماني...

و قيل: نقمتما من أحوالي اليسير و تركتما الكثير الذي ليس لكما و لا لغيركما فيه طعن فلم تذكراه...

و قيل: أبديتما اليسير مما في نفسيكما و انطويتما على الكثير الذي لم تظهراه و تبدياه...

ص: 445

(ألا تخبراني أي شيء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه ؟ أم أي قسم استأثرت عليكما به ؟ أم أي حق رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه) استفهم مستنكرا عليهما أن يكون ما نقما به صحيحا فذكر ما يمكن أن تكون النقمة من أجله ثم بيّن أن لا شيء فيه يعاب عليه.

1 - أن يكون لهما في شيء حقا و يمنعهما الإمام عنه و هذا لم يكن فإنه عليه السلام يحفظ حقوق جميع الناس بدون استثناء حتى من لم يبايعه و لو كان الإمام قد أخذ شيئا مما لهما لكان لهما الحجة و لكانت الأمة كلها وقفت في وجهه إذا فلما يدعيا هذا الأمر و لم ينقما عليه لهذا...

2 - لم يميّز الإمام نفسه عنهما في العطاء فيأخذ أكثر مما يعطيهما و هذا معروف لم يغمز فيه أحد و قد كان يسوّي بينه و بين أضعف الناس فلم تكن النقمة عليه لهذا الأمر.

3 - هل لأنه عليه السلام رفع إليه أمر فلم يقدر على أخذه من آخذه ورده إلى صاحبه أو رفع إليه أمر و لم يعرف حله و وجه الصحة فيه أم أنه حله و لم يدرك وجه الصواب فيه... إن كل ذلك لم يكن و لم تكن نقمتهما عليه من هذه الجهات نعم إنما نقما عليه من أجل أنه حرمهما الامتيازات الخاصة التي يريدانها و يطمحان إليها... إنهما نقما منه عدله بينهما و بين المسلمين و مساواتهما بجميع المسلمين... نقما منه إنه لم يوليهما الولايات و يعطيهما الأعطيات...

(و اللّٰه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة و لكنكم دعوتموني إليها و حملتموني عليها فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب اللّٰه و ما وضع لنا و أمرنا بالحكم به فاتبعته و ما استن النبي صلى اللّٰه عليه و آله و سلم فاقتديته فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما و لا رأي غيركما و لا وقع حكم جهلته فأستشيركما و إخواني من المسلمين و لو كان ذلك لم أرغب عنكما و لا عن غيركما) قد يكون هذا الكلام منه هنا لنفي ما يتوهم أنه عليه السلام كان يرغب في الملك و السلطة و يحب الاستبداد بذلك بدونهما فأقسم أنه لم يكن له في الخلافة رغبة و لا في الولاية حب كما هي عادة أبناء الدنيا و من يرغب في السيطرة على الناس و التحكم برقابهم و إن كان عليه السلام يريد الحكم لإحقاق الحق و إزهاق الباطل... و قد قبض يده بعد قتل عثمان و صاح في وجوه الناس دعوني و شأني و التمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تثبت عليه العقول و لا تقوم له القلوب فكانوا يقولون للإمام: ننشدك اللّٰه ألا ترى الفتنة ألا تخاف اللّٰه في الإسلام و هكذا لا حقوه حتى بايعوه و حملوه على الخلافة...

ص: 446

و هنا عند ما وصلت الخلافة إليه نظر في أدلة الشرع المبين في كتاب اللّٰه و سنة نبيه فعمل بكتاب اللّٰه في كل أوامره و انتهى عن كل ما نهى و عمد إلى سنة نبيه فاقتدى به و سار على نهجه و هذان الأمران هما مصدرا التشريع و بهما يكون الاحتجاج و إليهما ينتهي كل دليل و برهان و أراد بهذا أن ينفي أن يكون بحاجة لرأييهما مهما كانا من أصحاب الرأي و كذلك رأي غيرهما أيضا من المسلمين، إذا الحكم عنده واضح من كتاب اللّٰه و سنة رسوله فلا حاجة لرأي أحد من الناس...

كما أنه لم يقع أمر لم يعرف حكمه حتى يرجع إليهما و يتعلم منهما و لو وقع شيء من ذلك أو كان لما ابتعد عن استشارتهما و استشارة عامة المسلمين للوصول إلى وجه الحق و الصواب...

(و أما ما ذكرتما من أمر الأسوة فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي و لا وليته هوى مني بل وجدت أنما ما جاء به رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - قد فرغ منه فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ اللّٰه من قسمه و أمضى فيه حكمه فليس لكما و اللّٰه عندي و لا لغيركما في هذا عتبى أخذ اللّٰه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحق و ألهمنا و إياكم الصبر) هذا جواب عن سؤال و استفهام و إشكال إنه كيف سويت يا علي بين طلحة و الزبير و غيرهما من الطبقة الممتازة و بين سائر المسلمين، لقد جعلت المجتمع بطبقاته الاجتماعية كلها في مستوى واحد دون تمايز أو اختلاف... كيف تجعل العطاء بالتساوي بين الجميع بدون تفاضل أو امتيازات ؟.

و أجاب الإمام أن القضية ليست هي قضيتي و ليس المساواة في العطاء رغبة مني في ذلك أو هوى يدفعني في هذا الاتجاه بل نحن جميعا أنا و أنتما قد وجدنا رسول اللّٰه قد شرّع التساوي في العطاء و مارسه عمليا في سلوكه و أمضى حكمه على المسلمين الموجودين و من يأتي إلى يوم الدين و إذا كان رسول اللّٰه قد أمضاه و مارسه و اللّٰه سبحانه قد فرغ من هذه القسمة العادلة فليس لي إليكما حاجة في رأي أو تشريع يخالفه كما أنه ليس لكما ما يرضيكما لأنني لم أغضبكم حتى أحاول استرضائكما فلن أحاول استرضاء من يغضب بدون حق.

ثم دعا له و لهما أن يوجه اللّٰه قلوبهم جميعا إلى الحق الذي عليه الرسول صلى اللّٰه عليه و آله عملا و تشريعا و قذف في قلوبنا جميعا الصبر على ما نحب و على ما نكره حتى نحقق إرادة اللّٰه و إن كانت خلاف رغباتنا و خلاف هوانا...

ص: 447

(ثم قال عليه السلام: رحم اللّٰه رجلا رأى حقا فأعان عليه أو رأى جورا فرده و كان عونا بالحق على صاحبه) ثم دعا بالرحمة لمن رأى حقا فأعان عليه قاصدا دفع الناس إلى ذلك أو رأى جورا و ظلما فرده و منعه و رفع يد صاحبه و كان عونا بالحق على صاحبه أي كان مساعدا لصاحب الحق على صاحب الجور.

ص: 448

206 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين (1)، و لكنّكم لو وصفتم أعمالهم، و ذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، و أبلغ في العذر، و قلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن (2) دماءنا و دماءهم، و أصلح ذات بيننا (3) و بينهم، و اهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله، و يرعوي (4) عن الغيّ (5) و العدوان من لهج (6) به.

اللغة

1 - السب: الشتم و سميت الأصبع التي تلي الإبهام سبابة لأنها يشار بها عند السب.

2 - حقن الدم: منع من سفكه.

3 - ذات البين: من الأضداد يطلق على الوصل و على الفرقة.

4 - يرعوي: ينصرف و يرجع و يرتدع.

5 - الغي: الضلال.

6 - لهج بالشيء: أولع به.

الشرح

(إني أكره لكم أن تكونوا سبابين و لكنكم لو وصفتم أعمالهم و ذكرتم حالهم كان أصوب في القول و أبلغ في العذر و قلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا و دماءهم و أصلح ذات بيننا و بينهم و اهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله و يرعوي عن

ص: 449

الغي و العدوان من لهج به) الإمام معلم الأجيال و مربيها في أصعب الظروف و أشدها لا يغفل أن يوجه أصحابه إلى أفضل ما عند اللّٰه و الأقرب إليه و هذه كلماته بعطرها و شذاها تفوح عند ما يسمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين و الحرب قائمة و الدماء سائلة في تلك الأوقات الصعبة يسمع الإمام من يسبّ أهل الشام فيقوم بتوجيه أصحابه لأفضل من ذلك قائلا: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين» لأن السب لا ينفع الإنسان و لكنه يخلق العداوة من جهة و يطمس الحق من جهة أخرى...

ثم لما نهاهم عن السب فتح لهم بابا أفضل و أحسن و أنفع و أجدى فقال: و لكن لو وصفتم أعمالهم العدوانية و ظلمهم و خروجهم على صاحب الحق... لو بينتم للناس تجاوزهم و اعتدائهم و بغيهم و مقدار جنايتهم على الإسلام و على المسلمين من حيث فرقوا الكلمة و مزقوا الجماعة و زلزلوا وحدة المجتمع و الأمة و ذكرتم حالهم التي خرجوا عليها و ما جنوا في طريقهم و مدى اعتدائهم على الناس كان أصوب في القول لأنه يشرح حالهم و يضعهم أمام الناس عراة على حقيقتهم التي هم عليها و لا يكون في ذلك ظلم أو جور لأنكم تشرحون ما وقع و تبيّنون ما صدر، و كان أبلغ في العذر لأنكم تبلّغون من في صفوفهم وجه الحرب و أسبابها و دواعيها التي من أجلها ثارت و دارت و تعتذرون بذلك لبعض من يجهل وجه الحرب من الناس الآخرين و قد قال بعضهم: إن هذا من الأسلوب الدعائي ضد العدو و هو من أحدث الأسلحة و أشدها فتكا لأنه يشكل حربا إعلامية تكون لصالح من يقوم بها.

ثم بعد أن أمرهم بوصف حالهم و ذكر أفعالهم أرشدهم بقلبه الأبوي الكبير الذي وسع العالم كله بما فيهم أعداءه و محاربوه قائلا لأصحابه: «و قلتم مكان سبكم إياهم:

اللهم احقن دماءنا و دماءهم و أصلح ذات بيننا و بينهم» أي قلب رحيم هذا القلب الذي يشف بهذه الكلمات ذوات المعنى الرحيم... أي قلب في العالم يحمل الرحمة التي يحملها قلب الإمام... اللهم احقن دماءنا و دماءهم فليس الإمام سفاك دماء يريد أن يهدرها ليحقق مصالحه و من أجل رغباته و شهواته... دعاء لحقن الدماء... لحفظها و صيانتها و عدم هدرها... حتى دماء أعدائه يبخل بها الإمام و يحافظ عليها و ينشد بكل السبل منع إراقتها... «اللهم احقن دماءنا و دماءهم» نشيد ردده الإمام و علمه أصحابه و عمل من أجله بكل السبل...

إنني أقرأ عليا من أوسع أبواب الرحمة بل لا أجد بابا للرحمة أوسع من باب الإمام و محرابه، لقد عشقته حتى الصميم و دخل حبه في قلبي عند ما كانت أمي ترغّبني في كل أمر طيب بأن عليا كان يحبه و يعمله و ازداد هذا الحب و تعمق و تركز و قام على أسس

ص: 450

صحيحة و سليمة كلما قرأت عليا في كلماته و في مواقفه و في سلوكه... عشت مع الإمام بقلبي و روحي فكان لي المثل الأعلى بعد رسول اللّٰه إليه أتجه و منه آخذ و في رحابه أعيش و أردد كما في الدعاء اللهم أحيني على ما أحييت عليه علي بن أبي طالب و أمتني على ما مات عليه علي بن أبي طالب عليه السلام...

ثم أقرأ عليا في قوله: «و أصلح ذات بيننا و بينهم» أجمعنا يا رب جميعا تحت راية الحق... أخرج من بيننا العداوة و الافتراق... اجعلنا في وفاق و ائتلاف حتى نلتقي على طاعتك و محبتك و في رحابك...

«و اهدهم من ضلالتهم» يتوجه الإمام بالدعاء حتى لعدوه الذي شحذ سيفه و أراد طعنه به... يدعو له بالهداية و الرجوع إلى اللّٰه...

ثم يبيّن الإمام سبب هذا الموقف منه و هذا النهج «حتى يعرف الحق من جهله و يرعوي عن الغي من لهج به».

حتى يقف على الحق من لم يعرفه و لم يضع يده عليه فإنه متى عرف الحق فاء إليه و عاد إلى رحابه و يرجع عن الظلم و الضلال من تكلم به و أولع بأذياله...

ص: 451

207 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في بعض أيام صفين و قد رأى الحسن ابنه عليه السلام: يتسرع إلى الحرب.

املكوا (1) عنّي هذا الغلام لا يهدّني (2)، فإنّني أنفس (3) بهذين - يعني الحسن و الحسين عليهما السّلام - على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل (4) رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم -.

قال السيد الشريف: و قوله عليه السلام: «أملكوا عني هذا الغلام» من أعلى الكلام و أفصحه.

اللغة

1 - أملكوا عني: خذوه بالشدة و أمسكوا به، شدوه و اضبطوه.

2 - يهدني: يهدمني و يكسرني.

3 - أنفس: أبخل و أضن.

4 - النسل: الذرية.

الشرح

(أملكوا عني هذا الغلام لا يهدني فإنني أنفس بهذين - يعني الحسن و الحسين عليهما السلام - على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم) أمر عليه السلام أصحابه أن يلزموا الإمام الحسن عليه السلام و يمنعوه من خوض المعركة و استعمل كلمة أملكوا عني أي امنعوه بكل الوسائل الممكنة التي لو كنت أنا متفرغا له لمنعته بها و بيّن سبب ذلك بأمرين.

1 - لا يهدني أي يكسر قوتي و يخمد همتي لأن الولد العظيم الذي يجمع الخصال الكريمة و يكون الامتداد الطبيعي لشجرة الإمامة يجب أن يحفظ.

ص: 452

2 - بين السبب في حفظه و حفظ الإمام الحسين بأنهما ابنا رسول اللّٰه كما في آية المباهلة التي تقول: «فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ » و بالاتفاق أنه صلوات اللّٰه عليه و آله لم يدع إلا الحسن و الحسين و هما طفلان.

و أيضا الأحاديث المتواترة التي كان يطلق النبي عليهما فيها «ابناي» ففي بعضها:

إن ابني هذين ريحانتي من الدنيا و في بعضها الآخر: الولد ريحانة و ريحانتاي الحسن و الحسين و فيهما يستمر نسل رسول اللّٰه و ذريته فالمحافظة عليهما محافظة على بركة رسول اللّٰه التي تعيش في ذريته و بهما تدوم شجرة رسول اللّٰه المباركة و هذا مطلب عظيم يجب على المسلمين قاطبة المحافظة عليه...

ص: 453

208 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة أيّها النّاس، إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ . حتّى نهكتكم (1) الحرب، و قد، و اللّٰه، أخذت منكم و تركت، و هي لعدوّكم أنهك.

لقد كنت أمس أميرا، فأصبحت اليوم مأمورا، و كنت أمس ناهيا، فأصبحت اليوم منهيّا، و قد أجبتم البقاء، و ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون!.

اللغة

1 - نهكتكم: بكسر الهاء اضنتكم و اذابتكم.

الشرح

(أيها الناس إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب و قد و اللّٰه أخذت منكم و تركت و هي لعدوكم أنهك لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا، و كنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا و قد أحببتم البقاء و ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون).

علي كان أميرا فأصبح مأمورا. هذه الخطبة في شرح حاله مع أصحابه و كيف انتهت به الأمور معهم، حيث تبدلت الموازين و انعكست القضايا فأصبح و هو الخليفة و رأس الدولة الذي بيده أزمة الأمور و مقاليدها و منه تصدر الأوامر و عنه تؤخذ كيف أصبح مأمورا لمن حقه أن يأتمر بأمره و على العكس من ذلك أصبحت الرعية التي حقها الطاعة و امتثال الأمر هي صاحبة الحق في إصدار الأمر و النهي...

ص: 454

يقول عليه السلام: إننا كنا على وفاق و اتفاق معا في الحرب فأنا و أنتم كنا على رأي واحد حسب ما أرغب و أحب من إكمال الحرب حتى نهايتها و تطهير الأرض من رجس الطغاة و الظالمين و هكذا بقينا في ساحة المعركة حتى أخذت الحرب منكم مأخذها و نالت منكم نصيبها و سهمها و لكن و اللّٰه إن أخذت منكم شهداء و أخذت أموالا و أخذت الراحة و لكنها تركت لكم بعض ما ذكرت و تركت لكم كرامة و مجدا و لكن لأن أخذت منكم و تركت فقد أخذت من عدوكم أكثر و يقول أهل التاريخ إن القتلى في أهل الشام كانوا أكثر من قتلى العراق فلذا ليس لكم أن تتعللوا بالقتلى منكم و لا أن تحتجوا بهم للقعود عن الحرب و تركها...

ثم راح يتشكى منهم و يعاتبهم و يشرح ألم الواقع الذي يعيشه و كيف يتجرع غصصه...

لقد كنت أمس قبل إجباري على التحكيم و إلزامي به أميرا أصدر الأمر فتلبون و تستجيبون.. كنت أميرا أتحرى مواقع النفع و الفائدة و ما فيه عزكم و نصركم و أما اليوم و بعد التحكيم أصبحت مأمورا أنفذ ما تريدون دون رضى مني أو قبول... أصبحت مأمورا ليس لي خيار الرفض و الرد... و كنت أمس ناهيا عن الاستسلام و الخضوع و التردد فأصبحت اليوم منهيا عن متابعة الحرب و إكمالها حتى النهاية عكس المطلوب من القائد و الأمير...

و في النهاية عرض بهم حيث قال «و قد أحببتم البقاء و ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون» فأنتم أحببتم البقاء كيفما يكون و لو تحت الذل و في الهوان... أحببتم البقاء و إن كان في تضييع الجهاد و معصية اللّٰه و ليس لي القدرة أن احملكم على ما تكرهون حيث لم يبق معارضا إلا هو و أسرته و بعض الأصفياء من خواصه و هم قلة لا تقدر على مواجهة الجند المحدق به الذي اجتمع ضد رأيه و خلاف ما يذهب إليه من إكمال الحرب حتى النهاية...

ص: 455

209 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

بالبصرة، و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي - و هو من أصحابه - يعوده، فلما رأى سعة داره قال:

ما كنت تصنع بسعة (1) هذه الدّار في الدّنيا، و أنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟ و بلى إن شئت بلغت (2) بها الآخرة: تقري (3) فيها الضّيف (4)، و تصل فيها الرّحم (5)، و تطلع (6) منها الحقوق (7) مطالعها (8)، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: و ما له ؟ قال:

لبس العباءة و تخلى عن الدنيا. قال: عليّ به. فلما جاء قال:

يا عديّ (9) نفسه! لقد استهام (10) بك الخبيث! أمّا رحمت أهلك و ولدك! أ ترى اللّٰه أحلّ لك الطّيّبات، و هو يكره أن تأخذها! أنت أهون (11) على اللّٰه من ذلك!.

قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة (12) ملبسك و جشوبة (13) مأكلك!.

قال: ويحك (14)، إنّي لست كأنت، إنّ اللّٰه تعالى فرض (15) على أئمّة العدل أن يقدّروا (16) أنفسهم بضعفة النّاس (17)، كيلا يتبيّغ (18) بالفقير فقره!.

ص: 456

اللغة

1 - السعة: الاتساع و هو ضد الضيق.

2 - بلغت بها: ادركت بها.

3 - تقري: من القرى ما يقدّم للضيف.

4 - الضيف: النزيل للمفرد و الجمع.

5 - الرحم: في الأصل مكان تكون الجنين استعمل في الأقارب.

6 - تطلع الحقوق: يخرجها و يظهرها.

7 - الحقوق: الأمور الواجبة في الشيء.

8 - مطالعها: مواضعها.

9 - يا عدي: تصغير عدو.

10 - استهام بك: جعلك هائما ضالا.

11 - أهون: أحقر و أذل.

12 - الخشونة: خلاف الليونة و النعومة.

13 - جشوبه مأكلك: غلظته و قيل أنه الذي لا أدام فيه.

14 - ويحك: كلمة ترحم و توجع و قد تأتي بمعنى المدح و التعجب.

15 - فرض: أوجب.

16 - يقدروا انفسهم: يشبهوا و يمثلوا.

17 - ضعفة الناس: جمع ضعيف و هو خلاف القوي.

18 - يتبيّغ: يهيج به الألم فيهلكه، و البيغ ثوران الدم.

الشرح

(ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا و أنت إليها في الآخرة كنت أحوج، و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها الضيف و تصل فيها الرحم و تطلع منها الحقوق مطالعها فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة...) في هذا الكلام العلوي حث على الآخرة و دفع قوي لكي يجعل المسلم دنياه من أجل آخرته و يحولها كلها و بكل ما فيها من أجل ذلك.

و الإمام يدخل بالبصرة على أحد أصحابه و اسمه العلاء بن زياد الحارثي يعوده فلما رأى سعة داره قال هذه الكلمات التي نحن بصددها... كلمات تحدّد الهدف من البناء الواسع الممتد الكبير... لما ذا يبني الإنسان في الدنيا و هل ما عنده يستطيع أن ينفعه في آخرته ؟...

التفت الإمام فوجد سعة دار الرجل... و سعة الدار شيء جميل مرغوب حتى

ص: 457

على المستوى الإسلامي و في بعض الأحاديث من سعادة المرء سعة داره و لكن الإمام يريد أن يوجه الإنسان نحو الأفضل و الأنفع و ما يدوم له خيره و ينتفع به أكثر...

قال الإمام لصاحبه: أنت إلى دار تبنيها في الآخرة أوسع من هذه أحوج منك إلى هذه الدار و ذلك لأن هذه الدار في الدنيا لن تبقى لك بل ستفارقها و تتخلى عنها و أما دار الآخرة فهي الدار التي ستلازمك و سيخلد مقامك فيها.. دار الدنيا مهما اتسعت فلن تغني عن دار الآخرة فلو بنيت في الدار الآخرة و وسعت فيها ما شئت لكان ذلك أفضل لك و أنفع...

و بعد أن بين الإمام إنه لو كان يوسع هذا الشخص دار الآخرة لكان له أفضل و هو أحوج لذلك من توسيعه دار الدنيا أرشده إلى طريق يستطيع أن يشقه ليستفيد من داره هنا في توسعة دار الآخرة...

استدرك الإمام بكلمة: بلى: إن شئت بلغت بهذه الدار دار الآخرة... تستطيع أن تبلغ بدار الدنيا دار الآخرة ثم أرشده إلى ذلك.

تقري فيها الضيف: تستقبل الضيوف فيها و تكرمهم و تقوم بخدمتهم...

تصل فيها الرحم: فإذا كان أحد أرحامك بحاجة إلى مسكن لم تبخل عليه بما يقضي حاجته من خلالها.

تطلع منها الحقوق مطالعها: فما وجب فيها من حق شرعي أو أخلاقي أو أدبي توفره و تعطيه لأهله سواء كان حقا شرعيا، أو إيواء لغريب أو استقبالا لمناسبة دينية أو اجتماعية.

هذه عيّنات يحددها الأمام يستطيع بها الإنسان أن يدرك من خلال داره الواسعة في الدنيا دار الآخرة.. وجه عظيم من وجوه الإسلام، و بعد مبارك من الإبعاد الإسلامية التي يجب التنبه إليها من قبل المسلمين و ليعرفوا أن القصور يجب أن تفتح لكل طارق و أن يستفيد منها كل محتاج و بهذا تكون دارا للآخرة كما تكون دارا للدنيا أما و إنها لا تفتح أبدا أو تفتح في بعض المناسبات السنوية فحسب فهذا خلاف منطق الإسلام الصادر عن الإمام عليه السلام...

فقال له العلاء - عند ما سمع ذلك من أمير المؤمنين - يا أمير المؤمنين اشكو إليك أخي عاصم بن زياد قال: و ماله ؟.

قال: لبس العباءة و تخلى عن الدنيا.

ص: 458

قال: علي به، فلما جاء قال:

(يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك و ولدك! أ ترى اللّٰه أحلّ لك الطيبات و هو يكره أن تأخذها أنت أهون على اللّٰه من ذلك) ما أجمله من حوار تنكشف به الحقائق عن لسان أمير المؤمنين ما أجمله و أروعه من خطاب يصحح به الإمام أخطاء هذا الإنسان و يرده إلى الحق و العدل و الاستقامة...

شكوى من أخ لأخيه - و ليس عليه - شكوى إلى حلاّل المشكلات و كاشف المبهمات... شكوى من إنسان عن عمل انحرف فيه بعض الأحبة...

اشكو إليك أخي عاصم الذي تخلى عن الدنيا و أتجه إلى العبادة تاركا أهله و أولاده وراءه دون التفات إليهم أو اهتمام بهم....

و يستحضره الإمام فيحضر فيواجهه بقساوه مع بيان وجه الصواب.

«يا عدي نفسه» كلمة توبيخ له لانحرافه عن سنن الشريعة و قواعد الحق و ما جاء به الإسلام... يا عدو نفسه الذي لا يدرك صوابها من خطئها و ما ينفعها مما يضرها....

و هل هناك أشد عداء لشخص من نفسه إذا لم تعرف ما ينفع مما يضر...

ثم بين له أن عمله هذا من استيلاء الشيطان عليه و توجيهه نحو البعد عن الحقيقة لقد استهام بك الخبيث - الشيطان - فالشيطان هو الذي وسوس لك و رغبك في هذا الطريق و تركك هائما على وجهك تاركا أهلك و ولدك و مهملا واجباتك نحوهم...

الشيطان هو الذي يريد أن يبعدك عن الحياة و يعزلك عنها منسحبا منها بهذه الصورة المزرية...

الشيطان هو الذي يقول أن الصلاح في اعتزال الحياة و أهلها و كل ما فيها و الخروج منها إلى الانزواء في زاوية بعيدة يتعبد الإنسان فيها لربه.

الشيطان - و المستعمر من جنوده - يقول إن الدين هو عبادة اللّٰه منفردا منزويا بعيدا عن السياسة و الحكم و إدارة البلاد و رفع الظلم و مقارعة الظالمين.

الشيطان هو الذي يقود الحملة ضد المتدينين و يوجههم لاعتزال الحياة كما فعل بعاصم بن زياد...

و لذا الإمام يكمل الحديث: أما رحمت أهلك و ولدك فهؤلاء لهم حقوق عليك... أنت مدين لهؤلاء... فأهلك و أولادك يجب أن تعولهم و تهتم بأمورهم

ص: 459

و تربيهم و تعتني بهم... يجب عليك إعالتهم ماديا و تربيتهم معنويا فإذا انزويت في زاوية و اتخذتها مركزا للعبادة فأين تصبح حقوق هؤلاء...

ثم إنك تترك الطيبات و تنهج هذا النهج في البعد عنها أ ترى أن اللّٰه أحلها لك و هو يكره أن تأخذها و تتناولها؟ و كيف يبيح اللّٰه أمرا و يحله ثم يكره كراهة تحريم من تناوله ؟...

فهذا مفهوم خاطئ... فاللّٰه أباح الطيبات لكي يتناولها الناس... و أنت أهون على اللّٰه من ذلك فإنه سبحانه لا يستحي منك في التحليل و التحريم حتى يبيحها لك في الظاهر ثم يكرهها لك في الواقع...

بهذا البيان يكشف الإمام الحقيقة و يوضحها بجلاء أمام الانعزاليين و البعيدين عن الحياة الذين حصروا الدين في المساجد أو في الأمور الخاصة...

و أمام هذا البيان تتحرك في نفس عاصم مسألة الإمام و سلوكه و كيف إنه يشرح هذا المفهوم و يوضحه و يبين رأي اللّٰه في هذه المسألة ثم هو نفسه ينتهج خلافه و طريقة مغايره له...

تتحرك نفس عاصم بالاستفهام المشوب بكثير من التساؤل قائلا:

يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك...

هذا أنت يا أمير المؤمنين الزاهدا العابد العازف عن الدنيا و ملذاتها... أنت في خشونة ملبسك ؟!... و أنت في جشوبة مأكلك ؟! و أنت في سيرتك... كيف تأمرنا بشيء و أنت لا تمارسه و تعمل به و أنت قدوتنا و قائد مسيرتنا...

و هنا أمام هذا الاشتباه و خلط الأوراق... أمام الرؤية التائهة القاصرة التي لا تستطيع مع اختلاف الموضوع أن يختلف حكمها، أمام ذلك.

قال الإمام: (ويحك إني لست كأنت إن اللّٰه تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره) ويحك... كلمة توجع عليه و رحمة و شفقة لما أصابه من سوء فهم.

إني لست كأنت... بل كل منا له تكليفه الخاص باعتبار موقعه الذي هو فيه...

فأنا باعتبار موقعي القيادي يتطلع نحوي جميع الناس و فيهم الغني القوي و الفقير المدقع... فيهم الثري و فيهم المسكين... المجتمع بجميع طبقاته ينظر نحوي و يدقق في كل تصرفاتي و يعرضها أمامه بدقة و من هنا فرض اللّٰه على أئمة العدل الذين يسوسون

ص: 460

العباد و يرعون البلاد أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس أي ينزلوا أنفسهم منزلة الفقراء و الضعفاء من الناس... يجب على الأمراء أن ينظروا إلى الفقراء الذين لا يملكون الثروة و الغني و لا يستطيعون إدراك ما يشتهون يجب على الأمراء أن ينظروا إلى هؤلاء فيتشبهون بهم و ينزلون إلى مستواهم و يعيشون معيشتهم كيلا يتبيّغ بالفقير فقره أي لا يتحرك فقر الفقراء فينتقموا من الحكم و البلاد و كذلك لتهون عليهم صعوبة الحياة و مشقاتها....

لأنهم عند ما يرون أعظم شخصية في الحكم و رأس الدولة و قيادتها و الرجل الأول فيها، عند ما يرون أن الحاكم و القيادة لا يميز نفسه عنهم و لا يتميز بشيء عما هم عليه تهون عليهم الدنيا فيصبروا و يرجعوا إلى اللّٰه.

أما إذا كان في المجتمع من هو غني مترف فلا يشكل بالنسبة إلى غيره من أفراد الناس مشكلة لأنه لا يعنيهم كثيرا و لا يدخل في قائمتهم إلا من وجه بسيط أما الحاكم فهو من أساس قائمتهم و يدخل في كل معادلاتهم فهذا الحاكم يجب أن يكون كأضعف رعيته حتى تدوم دولته و لا تفسد نفوس رعيته...

ص: 461

210 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد سأله سائل عن أحاديث البدع، و عما في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال عليه السلام:

إنّ في أيدي النّاس حقّا و باطلا، و صدقا و كذبا، و ناسخا (1) و منسوخا، و عامّا (2) و خاصّا (3)، و محكما (4) و متشابها (5)، و حفظا و وهما (6)، و لقد كذب على رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - على عهده، حتّى قام خطيبا، فقال: «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ (7) مقعده من النّار».

و إنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:

المنافقون

رجل منافق مظهر للإيمان، متصنّع (8) بالإسلام، لا يتأثّم (9) و لا يتحرّج (10)، يكذب على رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - متعمّدا، فلو علم النّاس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه، و لم يصدّقوا قوله، و لكنّهم قالوا:

صاحب رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - رآه و سمع منه، و لقف (11) عنه، فيأخذون بقوله، و قد أخبرك اللّٰه عن المنافقين بما أخبرك، و وصفهم بما وصفهم به لك، ثمّ بقوا بعده، فتقرّبوا إلى أئمّة الضّلالة، و الدّعاة إلى النّار بالزّور (12) و البهتان (13)، فولّوهم الأعمال، و جعلوهم حكّاما على رقاب النّاس، فأكلوا بهم الدّنيا، و إنّما النّاس مع الملوك و الدّنيا، إلاّ من عصم اللّٰه، فهذا أحد الأربعة

ص: 462

الخاطئون

و رجل سمع من رسول اللّٰه شيئا لم يحفظه على وجهه، فوهم (14) فيه، و لم يتعمّد كذبا، فهو في يديه، و يرويه و يعمل به، و يقول: أنا سمعته من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - فلو علم المسلمون أنّه و هم فيه لم يقبلوه منه، و لو علم هو أنّه كذلك لرفضه!.

أهل الشبهة

و رجل ثالث، سمع من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - شيئا يأمر به، ثمّ إنّه نهى عنه، و هو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثمّ أمر به و هو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، و لم يحفظ النّاسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

الصادقون الحافظون

و آخر رابع، لم يكذب على اللّٰه، و لا على رسوله، مبغض للكذب خوفا من اللّٰه، و تعظيما لرسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - و لم يهم (15)، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه و لم ينقص منه، فهو حفظ النّاسخ فعمل به، و حفظ المنسوخ فجنّب عنه (16)، و عرف الخاصّ و العامّ ، و المحكم و المتشابه، فوضع كلّ شيء موضعه.

و قد كان يكون من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - الكلام له وجهان: فكلام خاصّ ، و كلام عامّ ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّٰه، سبحانه، به، و لا ما عنى رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - فيحمله السّامع، و يوجّهه على غير معرفة بمعناه، و ما قصد به، و ما خرج من أجله،

ص: 463

و ليس كلّ أصحاب رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم - من كان يسأله و يستفهمه، حتّى إن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابيّ و الطّارىء (17)، فيسأله عليه السّلام حتّى يسمعوا، و كان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلاّ سألته عنه و حفظته. فهذه وجوه ما عليه النّاس في اختلافهم، و عللهم (18) في رواياتهم.

اللغة

1 - الناسخ: من النسخ و هو الإزالة و النقل و عند الأصوليين رفع حكم بحكم آخر لمصلحة يعلمها اللّٰه.

2 - العام: ما يشمل جميع الأفراد أما بالصيغة أو بألفاظ معينة ككل و جميع هذا في إصطلاح الأصوليين.

3 - الخاص: خلاف العام.

4 - المحكم: الواضح و في اصطلاح الأصوليين ما لا يحتمل إلا معنى واحد.

5 - المتشابه: المشكل.

6 - الوهم: في المنطق مقابل الظن و الوهم هو السهو و الغلط.

7 - تبوأ: المنزل نزله.

8 - التصنع: تكلف حسن السمت و التزيّن.

9 - التأثم: الكف عن موجب الإثم.

10 - يتحرج: يخشى الوقوع في الحرج و هو الجرم.

11 - لقف: أخذ و تناول بسرعة.

12 - الزور: الكذب، الباطل.

13 - البهتان: الكذب و الافتراء.

14 - وهم: غلط و أخطأ.

15 - لم يهم: لم يخطىء و لم يظن خلاف الواقع.

16 - جنب عنه: تجنبه، تركه جانبا و أخذ الجانب الآخر.

17 - الطارىء: بالهمز الطالع عليهم، طرأ طلع.

18 - عللهم: أسبابهم.

ص: 464

الشرح

اشارة

(إن في أيدي الناس حقا و باطلا و صدقا و كذبا و ناسخا و منسوخا و عاما و خاصا و محكما و متشابها و حفظا و وهما) هذا الكلام الشريف من الإمام جواب عن سؤال سأله سليم بن قيس الهلالي و كان من أصحابه سأله عن الأحاديث الموجودة و ما شابها من الأكاذيب و ما اشتملت عليه من الاختلاف و عن تضاربها فأجابه الإمام و ابتدأ بهذه المقدمة التي تدخل في صلب الإجابة...

ابتدأ بذكر ما في أيدي الناس فأعطاه كبرى كلية قائلا: إن في أيدي الناس من الأخبار و الآراء و المعتقدات و الأحكام حقا و باطلا فمنها الصحيح المستقيم الذي أراده اللّٰه و منها الباطل الساقط الذي لم يقبله اللّٰه... فيها الصدق الموافق للحق و الكذب المخالف له... فيها الناسخ الذي يرفع المنسوخ و يلغيه و ذلك باعتبار أن بعض الأحكام قد تكون مؤقتة إلى مدة معينة لمصلحة يعملها اللّٰه فيظهر الحكم فيها و كأنه على الدوام بينما هي في علم اللّٰه إلى وقت محدود فعند ما تنتهي مدتها ينزل فيها ما يرفع حكمها فالأول هو المنسوخ و الثاني هو الناسخ و هذا الباب قد دخل فيه العلماء و حققوه بفروعه و كل شئونه في علم أصول الفقه...

كما أن في أيدي الناس أحكاما عامة و أحكاما خاصة كما أن هناك أحكاما محكمة لا تقبل إلا وجها واحدا كقوله تعالى: «قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ» و في مقابله متشابها يقبل أكثر من تفسير و يحمل أكثر من تفسير كقوله تعالى: «اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» فإن اليد لها عدة معان فهي مشتركة بينها حيث تطلق إلى الأصابع كما تطلق إلى الزندين و إلى المرفقين...

كما أن في أيدي الناس حفظا و وهما فهناك أحاديث محفوظة مضبوطة قد جاءت كما هي عن النبي و بعضها مغلوطة و ليس محفوظة دخلها ما ليس فيها من الزيادة أو أسقط منها ما فيها.

(و لقد كذب على رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله - على عهده حتى قام خطيبا فقال: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» و إنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس) هذا بيان لجرأة المنافقين في عهد رسول اللّٰه و إنهم قد كذبوا عليه في حال حياته يريدون الطعن في الدين و تشويه ما جاء به النبي فأغضبه ذلك و أزعجه فوقف

ص: 465

خطيبا فيهم بيّن جزاء من يكذب عليه متعمدا فأنزله منزله من النار و هذا أمر لا يقدم عليه إلا مجرم محترف.

ثم بيّن أن آفة الأخبار رواتها و أن علة الأحاديث و أمراضها يكمن في أربعة رجال لا خامس لهم و قد فصّل ذلك و بينه بقوله:

(رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثم و لا يتحرج يكذب على رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - متعمدا فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه و لم يصدقوا قوله و لكنهم قالوا: صاحب رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - رآه و سمع منه و لقف عنه فيأخذون بقوله) هذا هو الرجل الأول إنه منافق يظهر الإسلام و يبطن الكفر يتكلف مظاهر الإسلام من صلاة و غيرها و لكنه لا يرتدع عن معصية و لا يخاف إثما و ليس عنده شيء ممنوع أو مرفوع فهذا قد استحل الكذب على رسول اللّٰه و جعل ذلك من معتقده يكذب متعمدا عالما عارفا يضع الحديث من نفسه و ينسبه إلى الرسول زورا و بهتانا و لو علم الناس بنفاقه و كذبه لم يقبلوا قوله و لم يصدقوه فيما يروي بل كانوا يحاربونه و يدفعونه و يردون أحاديثه و لكنهم دفعهم حسن ظنهم به و أنه صاحب رسول اللّٰه الذي رآه و كحّل ناظريه برؤيته و تشرف بالسماع منه و الأخذ عنه فلحسن ظنهم به أخذوا بقوله، فهو مجرم محترف استغل اسم الصحبة فأخذ ينسج الأحاديث من عنده و يخترعها بقصد التشويش و التشويه و إضلال الناس و الانحراف بهم...

(و قد أخبرك اللّٰه عن المنافقين بما أخبرك و وصفهم بما وصفهم به لك ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة و الدعاة إلى النار بالزور و البهتان فولوهم الأعمال و جعلوهم حكاما على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا و إنما الناس مع الملوك و الدنيا إلا من عصم اللّٰه فهذا أحد الأربعة) هذا يمكن أن يكون قراءة واضحة لزمن الإمام و تنبيه منه إلى خطر المنافقين و أنهم لا يزالون يعيشون بين أظهر المسلمين كما يصح أن يكون تنبيها للأمة التي جاءت من بعده فطوت بساط الصحابة و منعت من نقدهم بأي شكل من أشكال النقد و رمت من يبحث عن عدالة صحابي إنه زنديق يريد أن يهدم الدين و يشوه سنة سيد المرسلين يمكن أن يقرأ الإمام هذه المعتقدات التي تعيش بيننا اليوم و تجري على ألسنتهم مثل هذه الأقوال...

فالإمام ينبه الناس و يلفت أنظارهم أن لا يأخذوا من كل صحابي كيف كان بل ليدرسوا حياته و سلوكه و سيرته و يتعرفوا عليه عن قرب و على وجه الحقيقة و قد لفت نظر الناس و نبههم إلى أن اللّٰه أخبر عن المنافقين بل أنزل فيهم سورة كاملة سميت باسمهم

ص: 466

و لاحقتهم في أسرارهم و معتقداتهم و كل ما يتحرك في شعورهم... بيّنت أوصافهم و حكت حركاتهم و شرحت أحوالهم حتى فضحتهم و كشفت عوراتهم و قد وصفهم اللّٰه في كتابه بمواصفاتهم و أنزلهم في الدرك الأسفل من النار...

و بيّن عليه السلام أنهم لم يموتوا بموت رسول اللّٰه بل بقوا بعده و عاشوا مع أئمة الضلال و تقربوا إليهم و إلى الدعاة إلى النار بالكذب و الدجل الذي يختلقونه و يبثونه بين الناس... إنهم تستروا وراء صحبتهم لرسول اللّٰه فدعموا أئمة الجور و الظلم و نفذت كلمتهم عند أئمة الضلال و صار لهم حظوة عندهم و ولوهم الولايات و جعلوهم من عمالهم على العباد و البلاد كما وقع لأبي هريرة و لسمرة بن جندب و أضرابهما مع معاوية فقد دعموه بالأحاديث الكاذبة و نسبوا إلى رسول اللّٰه بحقه و بحق الفجرة من الحكام الكثير منها مما يدعم ملكهم و يقويه... و إن في سيرة بعض الصحابة ما يترفع عنه أجلاف الجاهلية و رعاع الكفار و قد أتينا ببحث شامل عن الصحابة في كتابنا «شبهات حول الشيعة» نظن أنه يكشف الحقيقة في هذا المجال...

ثم إنه عليه السلام أعطى قاعدة عامة مفادها أن الناس بشكل عام مع الملوك و مع الدنيا إلا من عصم اللّٰه من هذا الانحراف و ذلك لأن الناس يبحثون عن مصالحهم الدنيوية فأينما تكون يكونون... يتحركون مع الدنيا و مع الملوك لأنها معهم... و أصحاب المباديء و الرسالات قلة و هم الذين يرفضون الدنيا و لا يتأثرون بها و بمن هي معهم...

و كما قال الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء: الناس عبيد الدنيا و الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون... فهذا أحد الأربعة...

(و رجل سمع من رسول اللّٰه شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه و لم يتعمد كذبا فهو في يديه و يرويه و يعمل به و يقول: أنا سمعته من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - فلو علم المسلمون أنه و هم فيه لم يقبلوه منه و لو علم هو أنه كذلك لرفضه) و هذا الثاني من الرجال الذين يحملون الحديث و يروونه... إنه رجل سمع من رسول اللّٰه شيئا من الأحاديث و لكنه قاصر لم يحفظ ما سمع كما هو و كما نطق به النبي بل توهم أمورا فزاد فيه أو نقص منه و لم يضبط ذلك بدقة و كما هو فهو لم يتعمد الكذب على رسول اللّٰه و لم يقصد ذلك فهو نزيه المقصد شريف النية طيب القلب أخذ الحديث و تمسك به و يرويه إلى غيره و يعمل به لنفسه و يدين اللّٰه فيه لأنه يقول: أنا سمعته من رسول اللّٰه و هذا حق لقد سمعه و لكنه لم يضبطه على حقيقته و مثل هذا الرجل لو علم المسلمون بحاله و أنه غير ضابط للحديث أو أنه قد سهى فيه فزاد أو نقص لم يقبلوه منه و لم يرتضوه راويا له بل لكانوا هجروه و تركوه لأنهم يريدون العمل برواية رسول اللّٰه

ص: 467

و ليس بما يرويه هذا الرجل الواهم غير الضابط.

ثم إنه هو نفسه لو علم بحاله لم يستحل ما يرويه و لم يقبله بل لرفضه و امتنع عن روايته... و مثل هذا يصح أن يطلق عليه أنه مغفل في روايته و لأجله و لأجل غيره اشترط علماء الدراية في الراوي أن يكون ضابطا لما يرويه أي حافظا له فلا يغلط مأمونا من التصحيف و التحريف...

(و رجل ثالث سمع من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - شيئا يأمر به ثم إنه نهى عنه و هو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به و هو لا يعلم فحفظ المنسوخ و لم يحفظ الناسخ فلو علم أنه منسوخ لرفضه و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه) و هذا ثالث الأربعة ممن حمل الحديث و لم يستوعبه بجميع خصوصياته و شرائطه و مقدماته فهذا قد سمع شطرا مهما و نسي الأهم... إنه سمع من رسول اللّٰه شيئا يأمر به و لم يتابع النبي في حديثه و إذا بالنبي ينهى عما أمر به و لم يصل النهي إليه فيبقى على علمه السابق و روايته لها دون اللاحق.

أو بالعكس وصله النهي و لم يصله الأمر فهو على كل حال وصله المنسوخ و لم يصله الناسخ و العمل إنما يكون على الناسخ دون المنسوخ إنه جهله بالناسخ بقي عليه و إلا لو علم به لعدل إليه و لم يبق على العمل بالمنسوخ فهو سليم النية صحيحها يريد الحق و لكنه لم يهتد إليه و كذلك حال المسلمين الذين سمعوا المنسوخ منه لو أنهم علموا بنسخه لتركوه و رفضوه و لكنهم لجهلهم قبلوه و استمروا على العمل به...

(و آخر رابع لم يكذب على اللّٰه و لا على رسوله مبغض للكذب خوفا من اللّٰه و تعظيما لرسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - و لم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه و لم ينقص منه فهو حفظ الناسخ فعمل به و حفظ المنسوخ فجنّب عنه و عرف الخاص و العام و المحكم و المتشابه فوضع كل شيء موضعه) هذا رابع الأربعة من حملة الحديث إنه العارف الخبير المدرك الواعي البصير... إنه يروي عن النبي و لم يكذب على اللّٰه و لا على رسوله يكره الكذب خوفا من اللّٰه و تعظيما لرسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - إنه المؤمن الذي ليس فيه صفات السابقين من الرواة... فهو لا يكذب على اللّٰه و لا على رسوله ضابط للحديث حافظ له يأتي به على وجهه دون زيادة أو نقيصة.

و أيضا هو على علم بالناسخ و المنسوخ فلا يقع بما وقع فيه ثالث الرواة بل حفظ الناسخ و عرف المنسوخ و عليه رفع المنسوخ عن العمل كما أنه عرف الخاص الذي لا

ص: 468

يتناول جميع الأفراد و عرف العام الذي يتناولها... عرف المحكم فعمل به و عرف المتشابه فرده إلى أهله و استفهم منهم تفسيره و مدلوله... إنه بعبارة مختصرة وضع كل أمر في موضعه الذي يجب أن يكون فيه فكان حكيما خبيرا مدركا لبيبا...

(و قد كان يكون من رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - الكلام له وجهان:

فكلام خاص و كلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّٰه سبحانه به و لا ما عنى رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - فيحمله السامع و يوجهه على غير معرفة بمعناه و ما قصد به و ما خرج من أجله) هذا تأكيد لوجود بعض أصحاب النبي الذين لم يعرفوا القضايا من جميع جهاتها فربما حفظوا الخاص و نسوا العام و ربما عكسوا الأمر و على هذا قد يضعون بعض الخطابات و الأحاديث في غير موضعها و ينقلونها عما هي فيه أو يحمّلونها من ليس له و ما لم يقصده اللّٰه و لا رسول اللّٰه...

إنهم لقصورهم و عدم اطلاعهم كانت منهم هذه المعادلة الخاطئة...

(و ليس كل أصحاب رسول اللّٰه - صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم - من كان يسأله و يستفهمه حتى إن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي و الطارىء فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا و كان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه و حفظته فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم و عللهم في رواياتهم) هذا بيان يعلل فيه سبب وقوع بعض أصحاب رسول اللّٰه في الغلط من حيث وصل إليهم العام دون الخاص أو المنسوخ دون الناسخ و هو أنهم كانوا يجلّون رسول اللّٰه عن أن يسألوه و يستفهموا منه أو أنهم يخجلون من ذلك أو أنهم ليسوا أصحاب فكر بهذا المستوى المتفتح المتطلع.

نعم كانوا يحبّون أن يجيء الأعرابي أو الرجل المار بالمدينة ليسأل رسول اللّٰه حتى يسمعوا ما يلقيه النبي إليه فيأخذوه... فهم لا يستثيرون المسألة و لا يحركون الفكر أو القضايا و إنما ينتظرون ما يكون و هذا أمر يحمل نقصا كبيرا إذ لا يفي بالأمور من جميع جوانبها...

ثم بيّن عليه السلام أنه غير جميع الصحابة فهو الذي كان يسأل رسول اللّٰه و يستفهم منه و لم يترك شاردة أو واردة إلا و عرف وجهها... عرف العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ و كل الأسباب المتعلقة بهذا الأمر ثم حفظه على وجهه و كما هو دون زيادة أو نقيصة... هذه هي أسباب اختلاف الناس في الرواية و تضاربهم فيها...

ترجمة سليم بن قيس الهلالي العامري

المتوفى حوالي سنة 90.

سليم (بضم السين المهملة بصيغة التصغير) بن قيس الهلالي أبي صادق العامري

ص: 469

الكوفي التابعي أدرك أمير المؤمنين عليا و الحسن و الحسين و علي بن الحسين و الباقر عليهم السلام توفي في حياة علي بن الحسين مستترا عن الحجاج أيام إمارته.

لسليم أصل من الأصول الأربعمائة التي يعتمد عليها الشيعة.

قال أبو عبد اللّٰه محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني في كتاب الغيبة: ليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم و رواه عن الأئمة عليهم السلام خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأصول التي رواها أهل العلم و حملة حديث أهل البيت عليهم السلام و أقدمها لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل إنما هو عن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام و المقداد و سلمان الفارسي و أبي ذر و من جرى مجراهم ممن شهد رسول اللّٰه و أمير المؤمنين و سمع منهما و هو من الأصول التي ترجع إليها الشيعة و تعول عليها... انتهى.

أقول: و مع ذلك فهناك شك كبير عند بعض العلماء لوجود ما هو غير صحيح فيه و قد ذكر الخنساري في روضات الجنات عن ابن عقدة قوله: «و الكتاب موضوع لا مرية فيه و على ذلك علامات تدل على ما ذكرناه منها ما ذكر أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت و منها أن الأئمة ثلاثة عشر و غير ذلك و أسانيد هذا الكتاب تختلف إلى أن يقول: و الوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه - سليم - و التوقف في الفاسد من كتابه.

ص: 470

211 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في عجيب صنعة الكون و كان من اقتدار (1) جبروته (2)، و بديع لطائف صنعته، أن جعل من ماء البحر الزّاخر (3) المتراكم (4) المتقاصف (5)، يبسا (6) جامدا، ثمّ فطر (7) منه أطباقا (8)، ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها (9)، فاستمسكت بأمره، و قامت على حدّه و أرسى أرضا يحملها الأخضر (10) المثعنجر (11)، و القمقام (12) المسخّر (13)، قد ذلّ لأمره، و أذعن (14) لهيبته (15)، و وقف الجاري (16) منه لخشيته (17). و جبل (18) جلاميدها (19)، و نشوز (20) متونها (21) لخشيته (17). و جبل (18) جلاميدها (19)، و نشوز (20) متونها (21) و أطوادها (22)، فأرساها (23) في مراسيها، و ألزمها قراراتها (24)، فمضت رؤوسها في الهواء، و رست أصولها في الماء، فأنهد جبالها (25) عن سهولها (26)، و أساخ (27) قواعدها (28) في متون أقطارها (29) و مواضع أنصابها (30)، فأشهق (31) قلالها (32)، و أطال أنشازها (33)، و جعلها للأرض عمادا (34)، و أرّزها (35) فيها أوتادا (36)، فسكنت على حركتها من أن تميد (37) بأهلها، أو تسيخ (38) بحملها، أو تزول عن مواضعها (39). فسبحان من أمسكها بعد موجان (40) مياهها، و أجمدها (41) بعد رطوبة أكنافها (42)، فجعلها لخلقه مهادا (43)، و بسطها لهم فراشا! فوق بحر لجّيّ (44) راكد لا يجري، و قائم لا يسري، تكركره (45) الرّياح العواصف، و تمخضه (46) الغمام (47) الذّوارف (48)، «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ » .

ص: 471

اللغة

1 - الاقتدار: القدرة على الشيء.

2 - الجبروت: من الجبر و هو القهر و الغلبة.

3 - الزاخر: الملآن، الممتد جدا المرتفع.

4 - المتراكم: المجتمع بعضه فوق بعض.

5 - المتقاصف: الشديد الصوت و قصف الرعد إذا اشتد صوته.

6 - اليبس: اليابس و بالتحريك ما يكون رطبا ثم ييبس.

7 - فطر: خلق.

8 - الأطباق: جمع طبق و هو الغطاء.

9 - الرتق: ضد الفتق.

10 - الأخضر: البحر.

11 - المثعنجر: بكسر الجيم أكثر أماكن البحر ماء، السائل.

12 - القمقام: بفتح القاف و تضم هو البحر.

13 - المسخّر: المقهور الذليل.

14 - أذعن: انقاد و خضع.

15 - الهيبة: المخافة.

16 - الجاري: السايل، المتحرك.

17 - الخشية: المخافة.

18 - جبل: خلق.

19 - الجلاميد: الصخور.

20 - النشوز: جمع نشز المكان المرتفع.

21 - المتون: جمع متن ما صلب من الأرض و ارتفع.

22 - الأطواد: جمع طود بالفتح الجبل أو العظيم منه.

23 - رست: ثبتت و استقرت.

24 - قراراتها: ما استقرت فيه.

25 - أنهد جبالها: جعلها عالية و نهد ثدي الفتاة إذا كعب و ارتفع.

26 - السهول: جمع سهل ضد الجبال.

27 - أساخ: غيبها و أدخلها و ساخت قوائم الفرس بالأرض إذا دخلت فيها و غابت.

28 - القواعد: الأساس.

ص: 472

29 - الأقطار: الجوانب.

30 - الأنصاب: جمع النصب و هو العلم المنصوب.

31 - أشهق: جعلها شاهقة أي عالية.

32 - القلال: جمع القلة بالضم و هي رأس الجبل.

33 - الأنشاز: جمع نشز المكان المرتفع.

34 - العماد: ما يسند به.

35 - أرّزها: أثبتها.

36 - الأوتاد: جمع وتد مارز في الحائط أو الأرض من خشب و نحوه.

37 - تميد: تتحرك و تضطرب.

38 - تسيخ: تنزل و تهوي.

39 - المواضع: الأماكن.

40 - الموجان: الاضطراب من الموج.

41 - أجمدها: جعلها جامدة.

42 - الأكناف: الجوانب.

43 - المهاد: الفراش.

44 - اللجة: معظم البحر.

45 - تكركره: تحركه و تردده و الكركرة الدفع و الرد.

46 - مخض اللبن: حركه ليستخرج زبده.

47 - الغمام: جمع الغمامة السحابة الممطرة.

48 - الذوارف: جمع ذارفة من ذرف الدمع إذا سال دمعها و جرى.

الشرح

(و كان من اقتدار جبروته و بديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا) في هذه الخطبة الشريفة تذكير لهذا الإنسان بعظمة اللّٰه و قدرته من خلال عظمة خلقه و بديع صنعه و هذه الخطبة وقفة مع الكون و البحار و السماوات و الجبال و ما فيها من دلالة على جبروت اللّٰه و قدرته...

و قد كان من قدرته القاهرة الغالبة و دقة صنعه التي ينفرد بها أنه سبحانه جعل من ماء البحر الممتلئ المتدافع المتضارب الذي يموج و يضطرب و يدفع بعضه بعضا جعل من ذلك أرضا يابسة جامدة تمتاز عنه و تختلف.

ص: 473

(ثم فطر منه أطباقا ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها فاستمسكت بأمره و قامت على حده) بيان أنه سبحانه و تعالى خلق من ماء البحر طبقا فوق طبق متصلة فيما بينها ملتحمة ببعضها ثم فصّلها عن بعضها و جعلها سبع سماوات منفصلة بعد الاتصال فاستمسكت فيما بينها بحسب القوانين الكونية من الجاذبية و غيرها فلم يصبها خلل بأمر اللّٰه و بقيت ثابتة كما أراد سبحانه لها لم تخرج عما رسمه لها و عما وضعها فيه.

و قيل: إن كلامه هذا فيه تلميح إلى قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا وَ جَعَلْنٰا مِنَ اَلْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ » .

(و أرسى أرضا يحملها الأخضر المثعنجر و القمقام المسخر قد ذل لأمره و أذعن لهيبته و وقف الجاري منه لخشيته) خلق اللّٰه الأرض على البحر - و وصفه بالخضرة كما هو في ظاهر البصر أو كما هي عادة العرب في تسمية البحر بالأخضر لأنه يعكس لون السماء - هذا البحر المملوء بالماء قد سخره اللّٰه لإرادته و قد ذلك هو لأمر اللّٰه و أطاعه بلسان الحال من حيث الإمكان و أقرّ بعظمة اللّٰه و جلاله فكان واقفا كما يرى خوفا من اللّٰه و خشية منه...

(و جبل جلاميدها و نشوز متونها و أطوادها فأرساها في مراسيها و ألزمها قراراتها فمضت رؤوسها في الهواء و رست أصولها في الماء فأنهد جبالها عن سهولها) خلق سبحانه صخور الأرض العظيمة و مرتفعات قممها و جبالها و ثبّتها في أماكنها و جعلها مستقرة في محلها المعدّ لها و ألزمها أماكنها مستقرة فيها فلا تضطرب أو تتزلزل و جعل أصولها في الماء و رؤوسها شامخة في الهواء و ارتفع بذلك ما كان منها من الجبال و بقي ما كان سهلا أي امتازت الجبال عن السهول من حيث ارتفعت الجبال و تسطحت السهول مميزة عنها مفترقة صورة و شكلا و حقيقة...

(و أساخ قواعدها في متون أقطارها و مواضع أنصابها فأشهق قلالها و أطال انشازها و جعلها للأرض عمادا و أرزها فيها أوتادا فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها) و هذه الجبال نزلت أصولها في داخل الأرض و جوانبها في المواضع الظاهرة منها فجعل رءوس جبالها عالية شامخة و مرتفعاتها ممتدة طولا و جعلها للأرض عمادا تستند إليها و تثبت بها و أوتادا تمنعها عن الميدان و الفوضى في الحركة فسكنت و استقرت من أن تتزلزل بأهلها أو تغور في الماء بما تحمل و ما تحمل أو تختلّ حركتها أو يتغير موقعها و في ذلك خطر كبير... و بعبارة مختصرة جعل اللّٰه سبحانه هذه الجبال لمصلحة هذه الأرض و منافعها تمنعها من الاضطراب و هي أوتاد تثبتها فلا تتزلزل...

ص: 474

(فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها و أجمدها بعد رطوبة أكنافها فجعلها لخلقه مهادا و بسطها لهم فراشا فوق بحر لجي راكد لا يجري و قائم لا يسري تكركره الرياح العواصف و تمخضه الغمام الذوارف «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ » ) هذه رجعة إلى اللّٰه و عودة إلى رحابه و تسبيحة من القلب لهذه القدرة العظيمة الذي أمسك الأرض بقدرته فقد كانت على المياه و مع ذلك منعها اللّٰه بقدرته من الاضطراب و التموج و الزلزلة و جعلها يابسة بعد أن كانت المياه تبل جوانبها و قد تكون كناية عن تكونها من الماء فجعلها لما خلق من خلقه مقرا طريا ناعما ممهدا كما قال تعالى: «اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيهٰا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » .

و جعلها أيضا لخلقه فراشا صالحا للراحة كما قال تعالى: «اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ اَلسَّمٰاءَ بِنٰاءً » .

ثم وصف البحر الذي يحمل الأرض بأنه عظيم راكد لا يتحرك من مكان إلى آخر مستقر في مقامه تحركه العواصف فتخرج أمواجه صارخة دالة على هيجانه و إذا تبخّر منه شيء عادت إليه الأمطار الشديدة من الغيوم فيتأثر البحر و يضطرب فسبحان اللّٰه الذي خلق كل شيء إن في ذلك لعبرة وعظة لمن يخاف اللّٰه و يحسب حسابه...

ص: 475

212 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام في زمانه اللّهمّ أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا (1) العادلة (2) غير الجائرة و المصلحة (3) غير المفسدة، في الدّين و الدّنيا، فأبى (4) بعد سمعه لها إلاّ النّكوص (5) عن نصرتك، و الإبطاء عن إعزاز دينك، فإنّا نستشهدك عليه يا أكبر الشّاهدين شهادة، و نستشهد عليه جميع ما أسكنته أرضك و سماواتك، ثمّ أنت بعد المغني عن نصره، و الآخذ (6) له بذنبه.

اللغة

1 - المقالة: القول.

2 - العادلة: المستقيمة أو من العدل الذي هو ضد الظلم.

3 - المصلحة: ضد المفسدة و هي التي فيها الصلاح و النفع.

4 - أبى: رفض.

5 - النكوص: الرجوع و التأخر.

6 - الآخذ له: المعاقب له.

الشرح

(اللهم أيما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة و المصلحة غير المفسدة في الدين و الدنيا فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك و الإبطاء عن إعزاز دينك، فإنا نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة و نستشهد عليه جميع ما أسكنته أرضك و سماواتك ثم أنت بعد المغني عن نصره و الآخذ له بذنبه) في هذه الخطبة شكوى إلى اللّٰه

ص: 476

من إبطاء أصحابه عن نصرته و قعودهم عن الجهاد معه و فيها إثارة لهم كي يتحركوا من مواقعهم و ينهضوا معه لقتال عدوهم...

توجه الإمام إلى أصحابه يحثهم على القتال و رفع راية الإسلام و جعلها شعاره و أخذ يحارب من أجلها فقاتل البغاة الخارجين من صفوف المسلمين المفرقين لجماعتهم الممزقين لوحدتهم... أعلنها حربا مقدسة لا ظلم فيها و لا جور و أسمعها كل المسلمين و صاح بهم أن معاوية من البغاة الخارجين على جماعة المسلمين و لذا يتوجه الإمام بقوله: اللهم أي عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة التي هي حرب معاوية ورد البغاة إلى الطريق المستقيم و أكّدها بأنها غير جائزة فلا ظلم فيها من حيث إنها تهدف إلى رد البغاة و جمع الكلمة و أنها المصلحة للجمع من حيث الوحدة و لم الشمل و جمع الصف و هي أعظم المصالح في الدين و الدنيا من حيث إطاعة اللّٰه الذي يقول:

«وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً وَ لاٰ تَفَرَّقُوا» و لما فيه من القوة في الدنيا التي ترهب عدو اللّٰه و عدو المسلمين...

اللهم أي عبد سمع ذلك فرفض هذه المقالة و أبى إلا البعد عن نصرتك و نصرة دينك و ما دعوت إليه و تأخر عن تقوية دينك و شد أزره بمحاربة أعدائك فإنا نجعلك شاهدا على تمرده و رفضه لدعوتنا و أنت أكبر الشاهدين السامع لما نقول و المجازي على ذلك كما نطلب من جميع عبادك و سكان سماواتك و أرضك أن يشهدوا عليه عصيانه و عدم استجابته و تمرده...

و قد أراد بهذا أن يشعر المترددين و القاعدين بعظيم الجرم إذا تأخروا عن المبادرة إلى نصرته و قتال عدوه.

ثم التفت نحو اللّٰه و بكل اعتزاز و افتخار قال: ثم أنت يا رب بعد مقالتنا هذه و صيحتنا إذا تمردوا و عصوا فأنت الناصر و المغني لنا عن نصر هؤلاء... فنصرك هو الكافي عن نصرهم إذا تمردوا...

و هدّدهم إذا عصوا «و الآخذ له بذنبه» أنت الذي تعاقب من يسمع مقالتنا العادلة ثم لا يعمل بها... فإن عذابك تصيب به من يسمعها و لا يعمل بها...

ص: 477

213 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في تمجيد الله و تعظيمه الحمد للّٰه العليّ عن شبه (1) المخلوقين، الغالب لمقال (2) الواصفين، الظّاهر (3) بعجائب تدبيره (4) للنّاظرين، و الباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين، العالم بلا اكتساب و لا ازدياد، و لا علم مستفاد، المقدّر لجميع الأمور بلا رويّة (5) و لا ضمير، الّذي لا تغشاه (6) الظّلم (7)، و لا يستضيء بالأنوار، و لا يرهقه (8) ليل، و لا يجري عليه نهار، ليس إدراكه بالإبصار، و لا علمه بالإخبار.

و منها في ذكر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم.

أرسله بالضّياء، و قدّمه في الاصطفاء (9)، فرتق (10) به المفاتق (11)، و ساور (12) به المغالب، و ذلّل (13) به الصّعوبة (14)، و سهّل به الحزونة (15)، حتّى سرّح (16) الضّلال، عن يمين و شمال.

اللغة

1 - الشبه: بالتحريك المثل و المشابه.

2 - المقال: القول، الكلام.

3 - الظاهر: البارز.

4 - التدبير: النظر في الأمور و التفكر في عواقبه.

5 - الرويّة: التفكر و النظر في الأمر.

6 - لا تغشاه: لا تغطيه.

ص: 478

7 - الظلم: ذهاب النور.

8 - لا يرهقه: لا يغشاه.

9 - الاصطفاء: الاختيار.

10 - الرتق: ضد الفتق.

11 - المفاتق: جمع مفتق موضع الفتق أي الشق و هو هنا المفاسد.

12 - ساور به المغالب: ساور زيدا أي واثبه و المغالب من أراد أن يقهر الحق و يغلبه.

13 - ذلل: سهّل.

14 - الصعوبة: ضد السهولة.

15 - الحزونة: ضد السهولة و الحزن ما غلظ من الأرض.

16 - سرّح: طرد و أبعد.

الشرح

(الحمد للّٰه العلي عن شبه المخلوقين الغالب لمقال الواصفين، الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين و الباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين العالم بلا اكتساب و لا ازدياد و لا علم مستفاد المقدّر لجميع الأمور بلا روية و لا ضمير الذي لا تغشاه الظلم و لا يستضيء بالأنوار و لا يرهقه ليل و لا يجري عليه نهار ليس إدراكه بالإبصار و لا علمه بالإخبار) هذه الخطبة تتضمن حمد اللّٰه بعدة اعتبارات.

الأول: الحمد للّٰه العلي عن شبه المخلوقين: لا يشبهه من مخلوقاته أحد لأنه واجب الوجود بالذات و هي ممكنة و صفاته عين ذاته و صفاتها اكتسابية ضعيفة ممكنة و هو الخالق و هي المخلوقة فهو العالي عنها الذي لا يشبهها ذاتا و لا صفاتا...

الثاني: الغالب لمقال الواصفين: لا يمكن للوصف أن يحيط به لأن الوصف يخضع للتصور و تصور الإنسان قاصر عاجز عن إدراك حقيقة اللّٰه فيعجز بالتالي الوصف عن إدراك الحقيقة الإلهية...

الثالث: الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين: عرفته البصائر دون الأبصار... فهو ظاهر للقلوب و العقول و لكن ليس بذاته بل بما أبدعه من مخلوقاته من سماوات مرفوعة و أرض موضوعة و ما فيهما من دقة الصنع و ما فيهما من حكمة و نظام بحيث يدل ذلك كله و يشير إلى وجود الصانع الحكيم...

الرابع: الباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين: لا يدرك لعظمته بفكر و لو توهما

ص: 479

و ذلك أن الوهم يخضع لصورة محسوسة منها يأخذ عناصره و اللّٰه لا يخضع لشيء من ذلك و لا يقع تحت أمر مشتق منه و لأنه فوق التصور فجلاله يعجز الإنسان عن إدراكه...

الخامس: العالم بلا اكتساب و لا ازدياد و لا علم مستفاد: هو العالم لكل شيء الخبير بكل شيء لأنه صانع كل شيء و علمه بدون تعليم من أحد كما هي حال البشر بل علمه عين ذاته و لا يزداد هذا العلم عنده كما هو شأن الناس من حيث إنه كلما حصل على علم بالتدريج يزداد علمه أما اللّٰه فإن الأشياء عنده موجودة لديه بأعيانها و ذواتها فلا يزداد علمه بها كما أن علمه لا يكون بما يستفيده من غيره شأن المخلوقين الذين يستفيدون من بعضهم و تزداد معلوماتهم من بعضهم...

السادس: المقدر لجميع الأمور بلا رويّة و لا ضمير: فهو الخالق لجميع الأشياء الأرض و السماء و ما فيهما، خلقهم جميعا بدون حاجة إلى إعمال فكر و تدبر للأمر و إعمال نظر و تصميم و تصور لأن كل ذلك من شأن المخلوق الممكن أما اللّٰه الواجب الوجود فبقوله: كن تكون الأشياء بدون نظر في فوائد الشيء و مضاره و ثمراته و منافعه...

السابع: الذي لا تغشاه الظلم و لا يستضيء بالأنوار: لا يغطيه ظلام دامس و لا يحتاج إلى نور باهر فلا يحتاج إلى نور حتى يرى الأمور التي يقضيها كما هي عادة البشر بل هو مبدع النور و الغني عن كل نور «اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ » .

الثامن: و لا يرهقه ليل و لا يجري عليه نهار: لا يخضع اللّٰه لليل أو إلى نهار و لا يمر عليه شيء من الأوقات لأن هذه ناتجة عن دورة الفلك و اللّٰه منزه عن أن يخضع لشيء من عوامل الكون و ما يجري فيه من حوادث و قضايا...

التاسع: ليس إدراكه بالإبصار و لا علمه بالإخبار: فهو يرى الأمور بدون حاسة البصر كما هو شأن الناس لتنزهه عن صفات الأجسام الخاضعة للإمكان.

كما أنه سبحانه يعلم الأمور جملة و تفصيلا و لكن ليس بما ينقل إليه من أخبار و ما يأتيه من أنباء...

و منها في ذكر النبي:

(أرسله بالضياء و قدمه في الاصطفاء فرتق به المفاتق و ساور به المغالب و ذلل به الصعوبة و سهل به الحزونة حتى سرّح الضلال عن يمين و شمال) وصف النبي بعدة أوصاف.

ص: 480

1 - أرسهل بالضياء و هو الإسلام الذي يكشف أمام الناس الحقيقة و يهديهم إلى سبل السلام.

2 - قدّمه في الاصطفاء: فمن بين الأنبياء الذين اصطفاهم اللّٰه و اختارهم اصطفى منهم النبي فكان صفوة الصفوة من الخلق...

3 - رتق به المفاتق: فما كان من انحراف و فساد و شرور قد قضى عليها ببركة وجوده و استطاع أن يجمع الأمة و يوحد الناس فبعد التناحر حل الحب و الألفة...

4 - و ساور به المغالب: به غلب اللّٰه كل مشاغب فسلطه اللّٰه على المشركين الذين كانوا غالبين فأصبحوا مغلوبين.

5 - ذلل به الصعوبة و سهل به الحزونة حتى سرّح الضلال عن يمين و شمال: ببركة الرسول و حكمته و حسن دعوته ذلل ما كان صعبا عند الناس و سهل ما كان صعبا مستعصيا حتى فرّق الباطل و الضلال و مزقهما فلا اجتماع لهما ببركة الرسول و الرسالة... و اليمين و الشمال كناية عن تفريق الباطل و تمزيقه و أنه لا يجتمع ببركة الرسول و رسالته أبدا...

ص: 481

214 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يصف جوهر الرسول، و يصف العلماء، و يعظ بالتقوى

جوهر الرسول

و أشهد أنّه عدل عدل، و حكم (1) فصل (2)، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و سيّد عباده، كلّما نسخ (3) اللّٰه الخلق فرقتين جعله في خيرهما، لم يسهم (4) فيه عاهر (5)، و لا ضرب (6) فيه فاجر.

ألا و إنّ اللّٰه سبحانه قد جعل للخير أهلا، و للحقّ دعائم (7)، و للطّاعة عصما (8). و إنّ لكم عند كلّ طاعة عونا من اللّٰه سبحانه يقول على الألسنة، و يثبّت (9) الأفئدة (10). فيه كفاء (11) لمكتف، و شفاء لمشتف.

صفة العلماء

و اعلموا أنّ عباد اللّٰه المستحفظين (12) علمه، يصونون (13) مصونه، و يفجّرون عيونه. يتواصلون بالولاية (14)، و يتلاقون بالمحبّة، و يتساقون بكأس (15) رويّة (16)، و يصدرون (17) بريّة (18)، لا تشوبهم (19) الرّيبة (20)، و لا تسرع فيهم الغيبة. على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم، فعليه يتحابّون، و به يتواصلون، فكانوا كتفاضل البذر (21) ينتقى (22)، فيؤخذ منه و يلقى، قد ميّزه التّخليص (23)، و هذّبه (24) التّمحيص (25).

العظة بالتقوى

فليقبل امرؤ كرامة بقبولها، و ليحذر قارعة (26) قبل حلولها، و لينظر امرؤ في قصير أيّامه، و قليل مقامه، في منزل حتّى يستبدل به منزلا، فليصنع

ص: 482

لمتحوّله (27)، و معارف منتقله (28). فطوبى (29) لذي قلب سليم، أطاع من يهديه، و تجنّب من يرديه (30)، و أصاب سبيل السّلامة ببصر من بصّره (31)، و طاعة هاد أمره، و بادر (32) الهدى قبل أن تغلق أبوابه، و تقطع أسبابه، و استفتح التّوبة، و أماط (33) الحوبة (34)، فقد أقيم على الطّريق، و هدي نهج السّبيل.

اللغة

1 - الحكم: الحاكم، القاضي.

2 - فصل الشيء: قطعه و أبانه و أفرزه و منه فصل الخصومات و هو الحكم بقطعها.

3 - النسخ: الإزالة، و النقل.

4 - لم يسهم فيه عاهر: لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب.

5 - العاهر: الزاني، الفاجر.

6 - ضرب في الشيء: صار له نصيب منه.

7 - الدعائم: جمع دعامة بكسر الدال ما يسند به الحائط أو البيت لئلا يقع.

8 - العصم: بكسر ففتح جمع عصمة و هي ما يعتصم به، الحصانة و الوقاية.

9 - يثبّت: يجعله ثابتا و على الأمر دوامه و واظبه.

10 - الأفئدة: جمع فؤاد القلب.

11 - الكفاء: الكفاية.

12 - المستحفظين: الذين أودعوا الشيء ليحفظوه.

13 - يصون: يحفظ.

14 - الولاية: بفتح الواو المحبة و النصرة.

15 - الكأس: القدح المملوء و هي مؤنثة سماعية.

16 - الرويّة: فعيلة بمعنى فاعلة أي يشرب شاربها فيرتوي.

17 - يصدرون: يعودون.

18 - الرية: بكسر الراء الارتواء و هو زوال العطش.

19 - لا تشوبهم: من شاب الشيء إذا خلطه.

20 - الريبة: الشك، الغل.

21 - البذر: الحب.

ص: 483

22 - ينتقي: يختار.

23 - التخليص: التمييز، التصفية.

24 - هذبه: نقاه.

25 - التمحيص: الاختبار.

26 - القارعة: الداهية، يوم القيامة.

27 - المتحول: بفتح الواو مشددة ما يتحول إليه.

28 - المنتقل: موضع الانتقال.

29 - طوبى: من الطيب، الخير.

30 - يرديه: يوقعه في الردى و هو الهلاك.

31 - بصّره: دلّه على الخير و هداه.

32 - بادر: أسرع.

33 - أماط: أزال.

34 - الحوبه: الإثم و المعصية.

الشرح

(و أشهد أنه عدل عدل و حكم فصل و أشهد أن محمدا عبده و رسوله و سيد عباده) تتضمن هذه الخطبة مدح الرسول الأعظم و بيان دور العلماء و فيها الوصية بالتقوى...

افتتحها بالشهادة بعدل اللّٰه، أشهد أنه سبحانه عدل عادل في كل ما خلق و شرّع و أنزل و بيّن لأن الظلم وليد الضعف أو الجهل و اللّٰه سبحانه منزه عن ذلك و هو الحاكم الفاصل فيما بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون يفصل بين الحق و الباطل قال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » أي يقضي فيميز الحق من الباطل...

ثم ثنى بالشهادة لمحمد صلى اللّٰه عليه و آله و سلم و وصفه بالعبودية له كما قال تعالى: «سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى» .

كما جعله سيد عباده و هذا من عقائدنا و مبادئنا قال الشيخ الصدوق رضوان اللّٰه عليه: و يجب أن يعتقد أن اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أفضل من محمد صلى اللّٰه عليه و آله و من بعده الأئمة صلوات اللّٰه عليهم و أنهم أحب الخلق إلى اللّٰه عز و جل و أكرمهم عليه...

و قال ابن أبي الحديد في قول الإمام: «و سيد عباده» هذا كالمجمع عليه بين المسلمين و ذكر حجة الجمهور بقوله صلى اللّٰه عليه و آله: «أنا سيد ولد آدم و لا فخر».

ص: 484

(كلما نسخ اللّٰه الخلق فرقتين جعله في خيرهما لم يسهم فيه ماهر و لا ضرب فيه فاجر) كلما قسم اللّٰه الخلق فرقتين و جعلهم قسمين كان رسول اللّٰه في خير الفرقتين و سمي ذلك نسخا لزوال البطن الأول و حلول الفرقتين محله قال ابن أبي الحديد: و هذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحو قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم و ولده إلا كنت في خيرهما».

و في آخر: «أنا خيركم بيتا و خيركم نفسا».

و قوله: «لم يسهم فيه عاهر و لا ضرب فيه فاجر» كناية عن طهارته و طهارة آبائه و أمهاته من لوثات الجاهلية و عهرها و قد ورد عنه صلوات اللّٰه عليه قوله: لم يزل ينقلني اللّٰه تعالى من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات.

فهو نقي طاهر الحسب و النسب ليس للفجور فيه نصيب أو له شركة...

(ألا و إن اللّٰه سبحانه قد جعل للخير أهلا و للحق دعائم و للطاعة عصما و إن لكم عند كل طاعة عونا من اللّٰه سبحانه يقول على الألسنة و يثبت الأفئدة فيه كفاء لمكتف و شفاء لمشتف) هذا ترغيب لأصحابه ليكونوا من أهل الخير و الحق فقد ذكر أن اللّٰه جعل للخير أهلا تعرفونهم و تحترمون مقامهم... تعرفونهم بأعمالهم الطيبة الشريفة و بنواياهم الكريمة الخيرية و على رأسهم الأئمة الطاهرين...

كما أن للحق دعائم فهذا الحق له ما يستند إليه و يعتمد عليه لئلا يسقط أو ينهار و هم الأئمة و العلماء و كل حملة الرسالات كما أن للطاعة عصما و هي الاجتناب عن المحرمات و ترك المعصية و المحافظة على التقوى و القيام بالطاعات لأن بهذا يكون الإنسان معتصما ممنوعا عن النار و يكون من أهل الجنة فهي تعصمه عن الوقوع في النار.

ثم ذكر عليه السلام أن في كل طاعة صغيرة أم كبيرة عونا من اللّٰه فهو الذي يعين على القيام بها بما وعد اللّٰه المطيعين من الأجر و الثواب و دخول الجنة و رفع العقاب فتكون هذه عونا إلهيا ورد على ألسنة الرسل كما أنه سبحانه يثبت الأفئدة أي يجعلها تطمئن إلى حكم اللّٰه و إرادته و ما وعد به عباده فيثابر عليها و يصرّ على إكمالها و يؤكد على العمل بها فلا تزل أو تنحرف.

و في ذلك العون الإلهي الكفاية و الشفاء لمن طلبهما فمن استكفى باللّٰه كفي و من طلب منه الشفاء شفي و من طلبهما من غيره لم يحصل على شيء منهما لأنه سبحانه مالك كل شيء و بيده كل شيء...

ص: 485

(و اعلموا أن عباد اللّٰه المستحفظين علمه يصونون مصونه و يفجرون عيونه) هذا ترغيب لأصحابه أن ينضموا إلى عباد اللّٰه الصالحين الذين هم الأئمة و العلماء من بعدهم الحافظون لشرع اللّٰه، القائمون في تبليغ رسالة اللّٰه يحفظون من العلوم ما لا ينبغي إظهاره و يظهرون و ينشرون ما يجب بيانه و نشره...

أو يريد يحفظون الدين من التحريف و التزييف و ينشرونه بين الناس ببيان أحكامه و تشريعه و ما فيه من آداب و أخلاق و سنن...

(يتواصلون بالولاية) فالمحبة تربطهم و تجمع قلوبهم... يلتقون بها و عليها لم يتواصلوا من أجل الدنيا و ما فيها و إنما من أجل المحبة نفسها التي تربط القلوب ببعضها...

(و يتلاقون بالمحبة) فالحب في اللّٰه هو الذي جمعهم و وحدهم... و بهذه المحبة تلاقوا و اجتمعوا و هي رابطة قوية لا تقطعها علائق الدنيا و منافعها لأنها مبنية على الأساس الإلهي الجامع الموحد...

(و يتساقون بكأس روية و يصدرون بريّة) يسقي بعضهم بعضا بكأس العلم و المعرفة التي يرتون منها و لا يحتاجون معها إلى غيرهم... فالمعرفة عندهم و فيها الكفاية لا يرجعون عنها إلا بالعلم و المعرفة لأنهم أوعية العلم و حفظته...

(لا تشوبهم الريبة) لا يشكّون ببعضهم و لا يظنون السوء فهم في طهر و صفاء نية.

(و لا تسرع فيهم الغيبة) أي لا مجال لها عندهم و في مجالسهم فهم لطهارتهم لا ينساقون وراء رغبة النفس و تسرعها في الغيبة...

(على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم) على هذه الشيمة الكريمة عقد اللّٰه تكوينهم الخلقي و الأخلاقي فطابت طينتهم التي عليها جبلوا و أخلاقهم التي عليها تربوا...

(فعليه يتحابون و به يتواصلون) أي بهذا العقد الإلهي الذي خلقهم اللّٰه عليه خلقا و خلقا يحب بعضهم البعض و يصل بعضهم البعض و هذا أمر لا ينفصم أو ينكسر أو يزول بل كتب له البقاء و الدوام.

(فكانوا كتفاضل البذر ينتقى فيؤخذ منه و يلقى قد ميزه التخليص و هذبه التمحيص) هذا بيان لشأنهم و فضلهم و ما هم فيه من الكرامة بحيث امتازوا عن الناس و فضلوهم كما يمتاز الحب المأخوذ للبذر و الزرع عن غيره من حيث ينتقى فيحفظ و يرمى بغيره جانبا

ص: 486

بدون اهتمام، ثم أشار إلى أن يد الخبير الماهر هي التي ميزت الجيد من الردىء و السليم من السقيم و تعاليم هذا الدين هي التي ميزت الصالحين عن الطالحين و المطيعين عن العاصين، و بهذا الاختبار تتبيّن جواهر الرجال فإن التكاليف امتحانات إلهية تتبين بها معادن الناس و تتميز القلوب الطيبة من الخبيثة...

(فليقبل امرؤ كرامة بقبولها و ليحذر قارعة قبل حلولها) من أراد كرامة اللّٰه و نعيمه و رضوانه و جنته و أجره و ثوابه فليقبل تلك الصفات و يتلبس بها و يعمل بمضمونها و ليدفع مصيبة يمكن أن تحل به، يدفعها بقبول هذه الكرامة التي هي هذه الصفات...

(و لينظر امرؤ في قصير أيامه و قليل مقامه في منزل حتى يستبدل به منزلا فليصنع لمتحوله و معارف منتقله) دعوة إلى التفكر و النظر في أيام هذه الدنيا القليلة القصيرة...

أيام الدنيا قصيرة ما أسرعها في عمر الزمن فلا يكاد الإنسان يحط أقدامه فيها حتى يرحل عنها حاملا الهموم و المصائب و المشاكل و مخلفا وراءه مشروع أموات يتناول كل أبنائه و من تركهم خلفه... إنه في منزل الدنيا سيتحول منه إلى منزل الآخرة و هذا هو مصيره النهائي و خاتمة هذه الرحلة التي يعرفها كما يعرف نهايتها.

(فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه و تجنب من يرديه) الخير و النعيم لصاحب القلب السليم الذي لا يحوي غشا و لا يحمل حسدا و لا يعيش ضلالا و انحرافا الذي أطاع من يهديه إلى طريق الخير و الرشاد الذي يتجنب و يبتعد عمن يضله و يهلكه و يأخذ بيده إلى الجحيم...

(و أصاب سبيل السلامة ببصر من بصره و طاعة هاد أمره) أدرك الصراط المستقيم الموصل إلى الحق و اليقين بواسطة من يعلّمه و يكشف أمامه الطريق فإن من اقتدى بإمام هدى هداه إلى طريق السلامة و أمن العثار و الردى و وصل إلى جنة المأوى و من أطاع أمر الهادي اهتدى و أفلح و ظفر...

(و بادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه و تقطع أسبابه) أسرع إلى الاستفادة من أرباب العلم و الأدب و ما ينفع أو يفيد قبل موتهم أو قبل موته لأنه بالموت تغلق الأبواب و تتقطع الأسباب لأن الموت يقفل باب الاستفادة و يرفع التكليف و يعطل أسباب الاستفادة...

(و استفتح التوبة و أماط الحوبة) جعل التوبة مفتاح عمله و باب هدايته فإنه إذا تاب و أناب و عاد إلى ربه كان ذلك أول خطوة على الطريق السليم في طاعة اللّٰه و خطه المستقيم.

ص: 487

ثم أزال الإثم و المعصية و ابتدأ حياته من جديد.

(فقد أقيم على الطريق و هدي نهج السبيل) إن من يفعل ما تقدم فقد وضع نفسه على الطريق المستقيم الموصل إلى رضوان اللّٰه و هدي الطريق الواضح التي لا عوج فيها و لا انحراف.

ص: 488

215 - و من دعاء له عليه السلام

اشارة

كان يدعو به كثيرا الحمد للّٰه الّذي لم يصبح بي ميّتا و لا سقيما (1)، و لا مضروبا على عروقي (2) بسوء (3)، و لا مأخوذا بأسوإ عملي، و لا مقطوعا دابري (4)، و لا مرتدّا (5) عن ديني، و لا منكرا لربّي، و لا مستوحشا من إيماني، و لا ملتبسا (6) عقلي، و لا معذّبا بعذاب الأمم من قبلي. أصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسي، لك الحجّة (7) عليّ و لا حجّة لي. و لا أستطيع أن آخذ إلاّ ما أعطيتني، و لا أتّقي إلاّ ما وقيتني.

اللّهمّ إنّي أعوذ (8) بك أن أفتقر في غناك، أو أضلّ في هداك، أو أضام (9) في سلطانك، أو أضطهد (10) و الأمر لك!.

اللّهمّ اجعل نفسي أوّل كريمة (11) تنتزعها من كرائمي، و أوّل وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي!.

اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، أو أن نفتتن عن دينك، أو تتابع (12) بنا أهواؤنا دون الهدى الّذي جاء من عندك!.

اللغة

1 - السقيم: المريض.

2 - عروقي: أعضائي.

3 - السوء: قالوا: إن العرب تكني عن البرص بالسوء.

ص: 489

4 - الدابر: النسل و الأولاد.

5 - الارتداد: الرجوع عن الإسلام و الدابر في الأصل معناه التابع.

6 - الالتباس: الاختلاط.

7 - الحجة: البرهان، ما يحتج به.

8 - أعوذ: ألتجىء و أعتصم.

9 - أضام: أظلم و الضيم: الذل.

10 - الاضطهاد: الظلم و القهر.

11 - الكريمة: كل جارحة شريفة كاليد و الأذن و نحوها.

12 - التتابع: التهافت في الشر و إلقاء النفس فيه.

الشرح

(الحمد للّٰه الذي لم يصبح بي ميتا و لا سقيما و لا مضروبا على عروقي بسوء و لا مأخوذا بأسوأ عملي و لا مقطوعا دابري و لا مرتدا عن ديني و لا منكرا لربي و لا مستوحشا من إيماني و لا ملتبسا عقلي و لا معذبا بعذاب الأمم من قبلي) الدعاء مخ العبادة و لقبوله شروط أهمها ترك الذنوب و العمل بالمأثور و الإمام هنا بطهارة مواقفه و نزاهة مقاصده و عصمته و عظيم جهاده يتوجه إلى اللّٰه خاشعا راهبا راغبا خائفا... يتوجه إليه بالشكر على نعمه و كرمه و قد حمده بعدة ضروب من النعم.

الحمد للّٰه الذي لم يصبح بي ميتا: باعتبار أن الموت يعطل حركة الحياة و يمنع الإنسان عن الجهاد و زيادة الأجر و الثواب فكان لا بد من حمد اللّٰه على عدمه...

و لا سقيما: و لا مريضا لأن المرض حالة يفقد الإنسان فيها توازنه و يقعده عن كثير من النشاطات و الأعمال.

و لا مضروبا على عروقي بسوء: أي لم أصب بمرض يشوّه خلقي و يجعل الناس ينفرون مني و يشمئزون و بذلك يحدث في نفسي أذية أو حقد عليهم...

و لا مقطوعا دابري: الحمد للّٰه الذي لم أصب بكارثة تقطع نسلي و تقضي على أولادي و من هم امتداد لي بعد وفاتي...

و لا مرتدا عن ديني و لا منكرا لربي: الحمد للّٰه الذي أصبحت و أنا على عقيدتي باللّٰه فلم أنكر وجوده كما هي حالة الكفار من عبدة الأصنام و الأوثان و كذلك له الحمد الذي أصبحت على الإسلام أعتقد به دينا إلهيا و رسالة سماوية و لم أخرج عنه إلى غيره.

ص: 490

و لا مستوحشا من إيماني: الحمد للّٰه الذي جعل نفسي مطمئنة بما أعتقد من عقيدة و لم أكن في شك أو تردد منها فأعيش الوحشة و تأخذني الشكوك في صحتها و بذلك يكون القلق و عدم الاستقرار.

و لا ملتبسا عقلي: الحمد للّٰه الذي لم أصب بعقلي أي لم يعرض على عقلي أمر يوجب فساده فأفقد أعز ما أملك و أغلى ما عندي و العقل جوهرة بدونها يتحول الإنسان إلى لعبة يسخر منها الناس...

و لا معذبا بعذاب الأمم من قبلي: أي لم يغضب عليّ اللّٰه فيرميني بالخسف و الهدم و الطوفان و الصواعق كما كان يأخذ الأمم العاصية المتمردة على حكمه و إرادته...

(أصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسي لك الحجة عليّ و لا حجة لي و لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني و لا أتقي إلا ما وقيتني) بعد شكر اللّٰه على ما ذكر من النعم ما أجمل هذه الوقفة بين يدي اللّٰه... ما أروع هذا الاعتراف و الإقرار و التصاغر الذي كلما كان أكثر كلما كبر هذا الإنسان أكبر... الخضوع للّٰه العبودية له... الذل بين يديه...

الحاجة إليه... و هكذا فكل واحدة أمام اللّٰه تزيد هذا العبد عزا و علوا.

أصبحت عبدا مملوكا للّٰه لا يقدر على شيء و ليس له حق التصرف في شيء...

فاللّٰه هو المالك المطلق مالك الحياة... مالك أمر البقاء... مالك الوجود و كل موجود...

ظالما لنفسي: بالتقصير في خدمة اللّٰه و إعانة عباده و مد يد العون إلى أصحاب الحاجة...

لك الحجة علي و لا حجة لي: فاللّٰه قد أرسل الرسل و الأنبياء و بعث معهم الكتاب و الميزان و زود الإنسان بالعقل فالحجة للّٰه قائمة على كل فرد و ليس لأحد حجة على اللّٰه و بماذا يحتج هذا الإنسان و قد وصلته الأنباء و بلغته الحجج و انقطعت معذرته و تعطّلت حجته...

و كذلك لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني و لا أتقي إلا ما وقيتني بمقدار عطائك تمتد يدي و تنال و لا تقدر على الأخذ أكثر من ذلك... تقدّر الأعمار بأوقات معينة فلا أقدر على التخطي عنها و لا ثانية واحدة.. تقدّر الأرزاق فلا أستطيع أن أزيد فيها ذرة واحدة... تقدّر الأولاد فلا أقدر أن أزيد روحا واحدة... كما أنني لا أقدر على دفع ما قدرته لي من البلاء و المحن فإن نازلتك لا يدفعها إلا أنت وحدك...

(اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك أو أضل في هداك أو أضام في سلطانك أو

ص: 491

أضطهد و الأمر لك) بعد أن تقدم منه ذلك الاعتراف و الإقرار استجار باللّٰه و التجأ إليه أن يصاب بواحدة من هذه و هو اللّٰه الذي بيده الأمور.

أعوذ بك أن أصاب بفقر أو حاجة و أنا أعيش في غناك الواسع... أنا أعيش في ظلال غناك فلا تجعلني بحاجة إلى أحد سواك.

و كذلك أستجير بك و أعوذ إليك أن لا أضل عن ديني أو أنحرف عنه و أنت بيدك الهداية و كل أبوابها و سبلها تقدر على هدايتي و منعي من الضلال.

و أستجير بك أن يصيبني ذل أو يعرض عليّ هو ان فأخنع أو أخضع لأحد غيرك و أنت العزيز الجبار.

و أستجير بك أن أظلم و أقهر و أنت بيدك الأمر و إليك المصير و لا يقف أمام إرادتك أحد...

(اللهم اجعل نفسي أو كريمة تنتزعها من كرائمي و أول وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي) الإنسان كله وديعة في الدنيا و لا بد و أن يرتجع و يعود... و على ذلك فكل عضو من أعضائه أمانة أيضا و الإمام يسأل اللّٰه أن يجعل أول ما يريد استرداده من ودائعه و أول ما يسترجعه من أعضائه فليكن الروح التي هي قوام الحياة و بها الحركة... هذه الروح فلتسترجع أول واحدة ليموت الإنسان دون أي يصاب بعيب في أحد أعضائه فيوجب ذلك إهانته و ثقله على الآخرين و الحاجة إليهم... فمن أقعد احتاج إلى غيره و بتلك الحاجة يمكن أن يثقل عليهم... و يمكن أن يتعرض لإهانتهم... و يمكن أن يذلّ لهم... و هكذا... و هذا تعبير آخر أن لا يصاب بشيء من أعضائه قبل موته بل يأتيه الموت و لم يصب بشيء منها...

(اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك) استجار باللّٰه أن يترك قول اللّٰه الصادق و يذهب إلى غيره من أقوال البشر و قول اللّٰه هو كلامه و أصدقه و أثبته القرآن الكريم فنعوذ باللّٰه أن نترك كلام اللّٰه في قرآنه و نذهب إلى غيره من آراء الناس و نظرياتهم... و هذه دعوة إلى الالتزام بقول اللّٰه و العمل بما أمر...

(أو أن نفتن عن دينك) استجار أيضا باللّٰه أن لا يضل عن الدين أو ينحرف عنه و المسلم بحاجة دائمة إلى التوجه للّٰه كي يثبّته على دينه و يمده بالوسائل التي تكفل له البقاء فيه و عليه...

(أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك) نسألك أن لا تجرنا أهواؤنا و ميولنا عن محكم آياتك و عن الهدى الذي جاء من عندك فنعدل عنها إلى غيرها فنضل و نخسر...

ص: 492

216 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

خطبها بصفين أمّا بعد، فقد جعل اللّٰه سبحانه لي عليكم حقّا بولاية أمركم، و لكم عليّ من الحقّ مثل الّذي لي عليكم، فالحقّ أوسع الأشياء في التّواصف (1)، و أضيقها في التّناصف (2)، لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، و لا يجري عليه إلاّ جرى له. و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجري عليه، لكان ذلك خالصا للّٰه سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، و لعدله في كلّ ما جرت عليه صروف (3) قضائه، و لكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثّواب تفضّلا منه، و توسّعا بما هو من المزيد أهله.

حق الوالي و حق الرعية

ثمّ جعل - سبحانه - من حقوقه حقوقا افترضها لبعض النّاس على بعض، فجعلها تتكافأ (4) في وجوهها، و يوجب بعضها بعضا، و لا يستوجب بعضها إلاّ ببعض. و أعظم ما افترض (5) - سبحانه - من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرّعيّة، و حقّ الرّعيّة على الوالي، فريضة فرضها اللّٰه - سبحانه - لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم (6)، و عزّا لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة، و لا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرّعيّة، فإذا أدّت (7) الرّعيّة إلى الوالي حقّه، و أدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقّ بينهم و قامت مناهج (8) الدّين، و اعتدلت (9) معالم (10) العدل، و جرت على أذلالها (11) السّنن (12)، فصلح بذلك الزّمان، و طمع في بقاء الدّولة، و يئست مطامع الأعداء. و إذا

ص: 493

غلبت الرّعيّة و اليها، أو أجحف (13) الوالي برعيّته، اختلفت هنا لك الكلمة، و ظهرت معالم الجور (14)، و كثر الإدغال (15) في الدّين، و تركت محاجّ (16) السّنن، فعمل بالهوى (17)، و عطّلت الأحكام (18)، و كثرت علل النّفوس (19)، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، و لا لعظيم باطل فعل فهنا لك تذلّ الأبرار، و تعزّ الأشرار، و تعظم تبعات (20) اللّٰه سبحانه عند العباد.

فعليكم بالتّناصح في ذلك، و حسن التّعاون عليه، فليس أحد - و إن اشتدّ على رضى اللّٰه حرصه، و طال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما للّٰه سبحانه أهله من الطّاعة له. و لكن من واجب حقوق اللّٰه على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم (21)، و التّعاون على إقامة الحقّ بينهم. و ليس امرؤ - و إن عظمت في الحقّ منزلته، و تقدّمت في الدّين فضيلته - بفوق أن يعان على ما حمّله اللّٰه من حقّه. و لا امرؤ - و إن صغّرته النّفوس، و اقتحمته (22) العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه.

فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل، يكثر فيه الثناء عليه، و يذكر سمعه و طاعته له، فقال له عليه السلام:

إنّ حقّ من عظمّ جلال اللّٰه سبحانه في نفسه، و جلّ موضعه من قلبه. أن يصغر عنده - لعظم ذلك - كلّ ما سواه، و إنّ أحقّ من كان كذلك لمن عظمت نعمة اللّٰه عليه، و لطف إحسانه إليه، فإنّه لم تعظم نعمة اللّٰه على أحد إلاّ ازداد حقّ اللّٰه عليه عظما. و إنّ من أسخف (23) حالات الولاة عند صالح النّاس، أن يظنّ بهم حبّ الفخر، و يوضع أمرهم على الكبر (24)، و قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أنّي أحبّ الإطراء (25)، و استماع الثّناء، و لست - بحمد اللّٰه - كذلك، و لو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّٰه سبحانه عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة و الكبرياء، و ربّما استحلى النّاس الثّناء بعد البلاء (26)،

ص: 494

فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء، لإخراجي نفسي إلى اللّٰه سبحانه و إليكم من التّقيّة في حقوق لم أفرغ (27) من أدائها، و فرائض لا بدّ من إمضائها (28)، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة (29)، و لا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ (30) به عند أهل البادرة (31)، و لا تخالطوني بالمصانعة (32)، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي، و لا التماس (33) إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطيء، و لا آمن ذلك من فعلي، إلاّ أن يكفي اللّٰه من نفسي ما هو أملك به منّي، فإنّما أنا و أنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا، و أخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضّلالة بالهدى، و أعطانا البصيرة بعد العمى.

اللغة

1 - التواصف: تفاعل يكون بين اثنين فما فوق يصف كل منهم للآخر ما يريد.

2 - التناصف: أن ينصف بعضهم بعضا.

3 - صروف الدهر: تقلباته و تغيراته.

4 - تتكافأ: تتساوى.

5 - أفترض: أوجب.

6 - الألفة: الصدقة و المؤانسة، الوحدة و الاتفاق.

7 - أدت: أوصلت، و بلغت.

8 - المناهج: جمع منهج الطريق الواضح.

9 - اعتدلت: استقامت.

10 - المعالم: جمع معلم ما يستدل به على الطريق.

11 - أذلال الطريق: جمع ذلك بكسر الذال وسطها.

12 - السنن: جمع سنة ما ورد عن النبي صلى اللّٰه عليه و سلم و الأئمة.

13 - أجحف بالرعية: ظلمها.

ص: 495

14 - الجور: الظلم.

15 - الادغال: الافساد.

16 - المحاج: جمع محجة و هي الجادة.

17 - الهوى: ما ترغب فيه النفس و تشتهيه.

18 - عطلت الأحكام: أوقف العمل بها.

19 - علل النفوس: أي تعللها بالباطل.

20 - التبعات: ما يلحق الشيء من الآثار، خلفياته الناتجة عنه.

21 - الجهد: الطاقة و القدرة.

22 - اقتحمته العيون: احتقرته و أزدرته.

23 - السخف: ضعف العقل.

24 - الكبر: التكبر.

25 - الاطراء: المدح أو ما تجاوز الحد منه.

26 - البلاء: العمل الجيد الحسن، الاختبار.

27 - فرغ من الشيء: انتهى منه.

28 - امضى الشيء: أنفذه.

29 - الجبابرة: جمع جبار المتكبر العاتي المتمرد المسلط القاهر ذم للعبد و مدح للرب.

30 - تحفظ منه و عنه: احترز و تصّون.

31 - البادرة: الحدّة و الغضب.

32 - المصانعة: المداراة.

33 - الالتماس: الطلب.

الشرح

(أما بعد فقد جعل اللّٰه سبحانه لي عليكم حقا بولاية أمركم و لكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم) في هذه الخطبة بيان لحقه على الرعية و حق الرعية عليه و فيها حث لهم على التزام أمره و نهيه لما في متابعته من أعزاز للدين و للمؤمنين و ابتدأ عليه السلام بذكر القاعدة الكلية من أن الحقوق متكافئة بين الراعي و الرعية فله على الرعية حق الطاعة و التزام أمره و عدم عصيانه و لهم عليه العدل بينهم في قسمة فيئهم و توفير الأمن لهم و توفير الفرص لسعادتهم ماديا و معنويا و غير ذلك...

(فالحق أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف لا يجري لأحد إلا جرى

ص: 496

عليه و لا يجري عليه إلا جرى له) كأن هذا تعريض بهم و أنهم لا يعطون الحق من أنفسهم له فقال: إذا أراد الناس أن يوصفوا الحق لبعضهم أجادوا و أبدعوا و أتوا بما لا مزيد عليه و لكنهم إذا أرادوا ممارسته و العمل به عجزوا عن ذلك و توقفوا و لم ينفذوا منه شيئا فالوصف سهل يسير و العمل صعب عسير...

ثم عاد ليؤكد أن هذا الحق لا يكون لأحد إلا يكون عليه و لا يجري عليه إلا جرى له فكل واحد يجري عليه الحق و يجب أن يتقبله و يقبل به لأن المصلحة العامة تقتضي ذلك...

(و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجري عليه لكان ذلك خالصا للّٰه سبحانه دون خلقه لقدرته علي عباده و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه و لكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه و توسعا بما هو من المزيد أهله) بيان أن الحق يجري على كل أحد دون استثناء و ذكر أنه لو كان الحق يجري لأحد و لا يجري عليه لكان ذلك يجب أن يكون للّٰه و ذكر لذلك سببين.

الأول: أنه القادر المطلق فلا يعجزه شيء يستطيع أن يقهر عباده على حقوقه و يحملهم عليها و لا يعطيهم شيئا و أما غيره من الناس فلا يملك ذلك.

الثاني: إنه لو لم يجزهم بأعمالهم و مع ذلك كلفهم بها لكان عادلا لأن له من النعم على العباد ما لو عبدوه مدى الدهر لم يوفوه حق نعمة واحدة منها فيكون إعطاؤه لهم الحقوق عليه تفضلا منه و رحمة...

ثم بيّن أن اللّٰه الذي يجري في حقه أن يكون له الحق و لا يجري عليه الحق... اللّٰه الذي يستحق ذلك لم يعط لنفسه ذلك بل أجرى الحق له و أجراه عليه حيث جعل حقه على العباد أن يطيعوه فيما أمر و نهى و لا يخالفوه في حكمه و تشريعه و جعل لهم عليه الحق أن يضاعف لهم الثواب تفضلا منه كما قال تعالى: «فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ » . فإن اللّٰه أهل التفضل و العطاء.

(ثم جعل - سبحانه - من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها و يوجب بعضها بعضا و لا يستوجب بعضها إلا ببعض) الحقوق بين الناس و على بعضهم البعض متفرعة عن حق اللّٰه باعتبار تشريعه لها و أمره بها فهي منه و بهذا الاعتبار ترجع إليه مثلا طاعة الوالدين كانت واجبة باعتبار أمر اللّٰه بها فتكون إطاعتهما طاعة للّٰه و يكون ذلك بالتالي متفرعا على حق اللّٰه العام...

و اللّٰه سبحانه جعل لبعض الناس حقوقا على البعض الآخر و جعلها تتساوى فيما

ص: 497

بينها فمن له حق كان عليه في مقابله حق فإذا وجب على الزوج النفقة وجب على الزوجة الطاعة و عليها أن لا تعصيه كما أن بعضها يستوجب البعض الآخر فإذا لم يتوفر سقط ذلك الواجب فلا يكون الحق واجبا من طرف دون أن يجب من الطرف الآخر فلا يجب على الرعية الطاعة للوالي إلا إذا قام الوالي بالعدل و القسط من طرفه...

(و أعظم ما افترض - سبحانه - من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي فريضة فرضها اللّٰه - سبحانه - لكل على كل فجعلها نظاما لألفتهم و عزا لدينهم) بين أعظم الحقوق و أشدها فائدة باعتبار أن فيها الوحدة و الألفة و فيها قوة الحق و النظام و عز الدين و الجماعة... أعظم الحق ما افترضه اللّٰه بين الخلق هو حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي فريضة أوجبها اللّٰه و حكم بها لكل واحد منهما نحو الآخر و جعلها مجمعا لوحدتهم و تماسكهم و تعاضدهم و عزا لدينهم لأن اجتماع القيادة مع القاعدة في وحدة الطريق و الهدف يجعل الدولة في أعظم مراتب القوة و المنعة فتهابها الدول و تخشاها الأمم و لا يجرأ عليها عدو أو يطمع فيها طامع...

(فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة و لا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه و أدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم و قامت مناهج الدين و اعتدلت معالم العدل و جرت على اذلالها السنن فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة و يئست مطامع الأعداء..) لتحقيق الصلاح العام يجب أن يكون هناك تعاون بين الراعي و الرعية، يجب أن يكون هناك وفاق و اتفاق يحكم الجميع و يمضون كلهم نحوه و لا يمكن أن تصلح الرعية إلا بصلاح الراعي لأن الناس كما قيل على دين ملوكهم فإذا فسدوا انتقل الفساد إلى الرعية بحكم أن الإمام قدوه و أسوه تسير الرعية خلفه فيما يقول و يعمل، و كذلك تنعكس القضية و تصدق و إنه لا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية لأن الرعية في بعض الأحيان - بل في أكثرها - تقهر الوالي على الالتزام بعاداتها و تقاليدها و ما هي عليه و ما تتبناه من رأي فاسد كما وقع ذلك لأمير المؤمنين في قضية التحكيم حيث أجبره جيشه و من معه على قبوله... إذا فالخلل في موقف أحد الفريقين يزلزل النجاح بل يزيله.

و أما إذا أدت الرعية إلى الوالي حقه المتمثل بطاعته و لزوم أمره و تنفيذ حكمه و أدى الوالي إلى الرعية حقها المتمثل بإقامة الحق فيهم و بسط العدل و الانتصاف للمظلومين من الظالمين و توزيع الثروة بينهم بالقسط عندها يتم ما يريد اللّٰه و يحب من عز الحق حيث يأخذ كل منهم يفتش عن الحق و ينفذه بكل شوق و رغبة و عندها تقام مناهج الدين المتمثلة بتطبيق أحكام الشريعة و تنفيذ أوامرها و جريانها عمليا بين الناس و يتم تطبيقها

ص: 498

كما هي بدون انحراف فيها أو محاباة لأحد بل تنفذ على الجميع و تطبق عليهم بدون تفاوت.

فإذا جرى كل ذلك صلح الزمان كناية عن صلاح أهله و إنهم يعيشون برخاء و عدل فلا جور و لا ظلم و لا حيف على الشريعة و لا يأكل القوي الضعيف بل كل واحد يأخذ حقه و يعطي ما عليه من الحق.

و عندها يكتب للدولة أن تبقى و لا تتعرض للزوال و الفناء فإن أهم أسباب بقاء الدول أن تقوم على العدل و الحق و تنفي من ساحتها القهر و الظلم...

و إذا تم ما تقدم فعزت الدولة و أصبحت قوية لاتفاق الحاكم و المحكوم و اجتماع الجميع نحو تحقيق عزتهم و كرامتهم يئست الأعداء من الطمع فيها و النيل منها و لم يبق لها فيها رغبة لعدم قدرتها عليها و بذلك تنحو نحو السعادة و الرفاهية و تبسط ظلها في ربوع الأمان الداخلي و الأمان الخارجي و أي دولة تأم من هذين الجانبين تعيش أحلى حضارتها و أشدها أزدهارا و عزة...

(و إذا غلبت الرعية و اليها أو اجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور و كثر الادغال في الدين و تركت محاج السنن فعمل بالهوى و عطلت الأحكام و كثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل و لا لعظيم باطل فعل فهنالك تذل الأبرار و تعز الأشرار و تعظم تبعات اللّٰه سبحانه عند العباد).

الخلاف بين الراعي و الرعية: هذه الصورة مرعبة مخوفة يعيشها أكثر دول العالم بما فيه عالمنا العربي المعاصر بل و عالمنا الإسلامي الحاضر صورة الخلاف بين الراعي و الرعية بين الحاكم و المحكوم.. صورة الخلاف بين رأس الدولة و بين الشعب و الإمام يقول: إذا غلبت الرعية و اليها أي قهرته على ما تريد و لم تعطه أزمة الأمور و مقاليدها أو أجحف الوالي برعيته أي ظلمها و جار عليها و قهرها و أذلها و مارس عليها القهر و الحرمان و العذاب هناك تختلف الكلمة بين الحاكم و المحكوم... نتيجة طبيعية يصل إليها هذا الخلاف بين الحاكم و الشعب و إذا وصل إلى ذلك فلا بد من الفتنة و يأخذ الضعف يدب في جسد الدولة و يطمع فيها من لا عهد له بالطمع فيها...

إذا كان الأمر كذلك من اختلاف الكلمة و تشتت الوحدة ظهرت معالم الجور بدل معالم الحق... ظهر الظلم من الحاكم و من المحكوم لأن كل واحد يريد تحقيق أغراضه و الوصول إلى أهدافه، و باختلاف النفوس و الآراء تختلف الأعمال و الوسائل فيسود الظلم و الجور.

ص: 499

و كثر الادغال في الدين فأفسدوه بادخال ما ليس فيه على أنه فيه و فشت البدع و كثرت الحيل و أخذ الناس ما ينفعهم و تركوا منه ما لا ينفعهم فعطلت محاج السنن كل الأحكام الواضحة التي شرعها اللّٰه تعطل إذا تعارضت مع مصالح أحد الفريقين و ارتفعت الأحكام الشرعية عن العمل بها...

و كثرت علل النفوس أي امراضها من الحقد و الحسد و البغض.

و إذا وصلت الأمور إلى هذا المستوى تعطلت في المسلم عقيدته و تغيرت نظرته و لم يعد يستوحش إذ تعطلت أحكام الشريعة و لم تقم لأن النفوس مردة على المعصية و ألفتها و عاشت الرذيلة فهانت كبائر المعاصي في النظر فضلا عن صغائرها.

و لم يعد المسلم يهمه ما يفعل من كبائر المنكرات و المعاصي و ما أصدق كلام الإمام في يومنا روحا و حقيقة فقد هان القتل و سهل الزنا و الانحراف بل أباحت الدول فتح دور المومسات علنا بدون حياء و روّجت للمخدرات و المسكرات و كل ما يحرف المسلم عن دينه و عقيدته و نحن نمر عليها جميعها بأعيننا و بعضنا يغضّ الطرف عنها و بعضنا ينكرها بلسانه فحسب و يتعلّل بأن ذلك أضعف الإيمان و لم نجد من يخرج عليها شاهرا سيفه يريد اقتلاعها... إن ما وصلنا إليه من تأخر و تقهقر نتيجة هذا الخلاف المستحكم بين الحاكم و المحكوم فالحاكم الذي استولى على رقاب الناس بانقلاب عسكري دبرته له يد المخابرات الاستعمارية لن يرحم شعبه و لن يتفق معهم في وسيلة أو هدف...

إن الحاكم الذي تولى أمور الناس و لم يأت بارادتهم و اختيارهم بل فرض عليهم بالقوة، كيف يكون الانسجام و الوفاق بينه و بين رعيته ؟!...

إن أكبر اسباب تخلفنا حكامنا الذين تولوا إدارة البلاد بدون رضى من شعوبهم و لذا نرى التأخر و التقهقر و الذل و الخضوع و كيف طمع فينا أذل خلق اللّٰه، شذاذ الآفاق اليهود الذين اغتصبوا فلسطين و شردوا أهلها من ديارهم و يحاولون الآن بسط سلطانهم على أراضي المسلمين في لبنان و سورية و الاردن...

و تصدق كلمة الإمام و تأتي كفلق الصبح تحكي واقعنا هنالك تذل الأبرار و تعز الاشرار و تعظم تبعات اللّٰه سبحانه عند العباد... تجد مطاردة الاحرار و الشرفاء من الحكام الخونة... نجد السجون و المعتقلات مملؤة بالأبرار و النجباء و على العكس من ذلك نجد المقامات العالية في الدولة لاراذل الناس و السفهاء... نجد الاشرار وزراء نوابا و رؤساء و قضاة... نجد الاشرار يعيشون في القصور و حولهم الخدم و الحشم

ص: 500

و الحراسة و المرافقة... إنها دولة الاشرار ليس للأخيار منها نصيب و اللّٰه سبحانه يأخذ هؤلاء الناس بأشد العذاب و أكبر العقاب... إنهم يعيشون الهزيمة في داخلهم...

و عروشهم مهزورة مهددة في كل لحظة...

(فعليكم بالتناصح في ذلك و حسن التعاون عليه فليس أحد - و إن اشتد على رضى اللّٰه حرصه و طال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما اللّٰه سبحانه أهله من الطاعة له و لكن من واجب حقوق اللّٰه على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم و التعاون على إقامة الحق بينهم) أوصاهم بأن ينصح كل واحد منهم الآخر في سلوك نهج الحق و العدل و الطاعة للإمام و إن يحسن التعاون مع الآخرين في هذا المضمار...

ثم بيّن عجز المخلوق عن إداء حق اللّٰه مهما أطاعه و إنه و إن اشتد حرصه على ذلك و طال في العمل اجتهاده فلن يبلغ ما اللّٰه أهل له و ما يستحقه و لكن مع ذلك على العباد أن ينصح بعضهم البعض قدر طاقتهم و قوتهم و أن يتعاونوا مع بعضهم لإقامة الحق بينهم بقدر إمكانهم.

(و ليس امرؤ - و إن عظمت في الحق منزلته و تقدمت في الدين فضيلته - بفوق أن يعان على ما حملّه اللّٰه من حقه و لا امرؤ - و إن صغرته النفوس و اقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه) ليس في المجتمع أحد يستغني عن الآخرين بل كل واحد بحاجة إلى الناس فالحاكم بحاجة إلى من يعينه في إدارة البلاد و تنظيم الحياة فهناك جهاز لكل مؤسسة و هذا الجهاز مكون من الآخرين و الحاكم بأشد الحاجة إليهم و هكذا دواليك...

لا بد لرجل الدين من رجال يحملون فكره و ينفذون إرادته و يحملون الناس على الحق و يردعونهم عن الباطل...

لا بد له من معاونين له يحملون معه الأمانة و يبلغونها للناس و الكبير صاحب المهمات الضخمة أحوج الناس إلى المعاونين...

ثم دفع توهما مفاده: و ما حاجة المجتمع أو الرجل الكبير أو الحاكم إلى الفرد الصغير المحتقر الضعيف و ما ذا ينفع هذا و ما دوره يقول الإمام: حتى هذا الإنسان المحتقر في أعين الناس يسّد ثغرة قد لا يسدها غيره من الناس فهذا الرجل الصغير إذا تولى تنظيف الشوارع و إزالة الأوساخ و غيرها من الأمور يكون قد سد فراغا كبيرا و خدم المجتمع أعظم خدمة و يكون الناس بحاجة إليه بل بأشد الحاجة إليه...

فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه و يذكر سمعه

ص: 501

و طاعته له فقال عليه السلام:

(إن من حق من عظم جلال اللّٰه سبحانه في نفسه و جل موضعه من قلبه أن يصغر عنده - لعظم ذلك - كل ما سواه و إن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة اللّٰه عليه و لطف إحسانه إليه فإنه لم تعظم نعمة اللّٰه على أحد إلا إزداد حق اللّٰه عليه عظما) هذا الكلام من الإمام مشابه لقوله في خطبة المتقين - التي تقدمت - عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فإن جلال اللّٰه و عظمته تمنع أن يكون لأحد من الناس في قلب المؤمن محل أو مكان... تصغر الأشياء، و تحتقر إلى درجة الاهمال و اللامبالاة أمام القلوب الطاهرة التي عاش اللّٰه فيها... كل ما سوى اللّٰه يصغر حتى يضمحل و يفنى في القلب الذي عاش اللّٰه فيه...

ذكر هذه المقدمة ليدخل منها إلى أحق الناس الذي يجب أن يعيش هذه الحالة من إجلال اللّٰه و تعظيمه و تصغير ما دونه إنه من ترادفت نعم اللّٰه عليه من مال و شرف و صحة و أمان و إيمان و عز و كرامة و سلطان و كذلك من لطف إحسانه إليه أي دق بحيث أعطاه الفكر و العقل على التحليل و الأمور الدقيقة اللطيفة التي يعجز الإنسان عن تصورها...

و كلما ازدادت نعم اللّٰه على العبد ازداد عليه تعظيم حق اللّٰه و هكذا يزداد الشكر و التعظيم بزيادتها...

(و إن من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر و يوضع أمرهم على الكبر و قد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الاطراء و استماع الثناء و لست بحمد اللّٰه كذلك و لو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّٰه سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة و الكبرياء) من أسخف و أخف ما يعيشه الولاة في نظر الناس الصالحين الذين أدركوا الحقيقة أن يعيش هؤلاء الولاة حب الفخر و المباهاة و يعيشون التكبر و الاستعلاء لأن ذلك ضعف في شخصيتهم ينعكس على الدولة و توجهاتها فالحاكم الذي ينتفخ للمدح و الثناء عليه و لانجازاته الكبيرة يعيش في حدود هذا المدح و لا يخرج عنه و يعيش الزهو في نفسه فيعطله ذلك عن العمل الجاد هذا من جهة و من جهة أخرى إن تلك الحالة النفسية يجب أن يتنزه عنها المؤمنون لأنهم بها يدخلون في الذم الوارد للمتكبرين...

ثم أراد أن ينفي عن نفسه مثل تلك الصفات التي انكرها في حق الولاة فقال: إني أخاف أن تحدثكم نفوسكم و تقودكم ظنونكم إلى أنني أعيش هذه الحالات من حب المدح و الاطراء و الثناء فإنني لست كذلك و لا أحبه و لو فرضنا فرضا أنني أحب أن يقال

ص: 502

في ذلك لتركته تواضعا للّٰه الذي هو أحق بذلك و أولى من كل أحد لعظمته و كبريائه و علو مقامه.

(و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى اللّٰه سبحانه و إليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من إدائها و فرائض لا بد من امضائها) أراد أن يمهد و يعتذر لمن مدحه و أثنى عليه بأن الإنسان إذا قدم شيئا من التضحيات و أنجز بعض المهمات استحسن الثناء و أحب المدح و الاطراء جزاء عما قدم إنه يحب كلمة شكر على عمله و ما قام به...

ثم نهاهم أن يثنوا عليه و يمدحوه و يجلوه و علل ذلك بأنه قد أخرج نفسه للّٰه و أراد أن يؤدي حقه و يقوم بواجبه و واجب أمره و نهيه لأنه عند ما يقوم بذلك يقوم بواجب النعمة و من يقوم بذلك لا يطلب مدحا و لا يريد اطراء و كذلك يريد أن يخرج نفسه من خدمتهم الواجبة عليه و ما هو مطلوب منه من الحقوق نحوهم فهو في كلا الأمرين يقوم بما هو واجب عليه و لا شكر على واجب كما يقال...

(فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة و لا تخالطوني بالمصانعة و لا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي و لا التماس اعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه) بعد أن قدّم أنه إنما يعمل للّٰه و لهم و يقوم بواجبه نحو اللّٰه و نحوهم نهاهم عن أمور لا يريد أن يتعاملوا بها معه.

نهاهم أن يكلموه بما تكلم به الجبابرة: فإن الطغاة و الظالمين و الفراعنة قد عبدوا الناس لهم و جعلوا لأنفسهم ألقابا و أسماء فيها التعظيم و الرهبة... مالك رقاب الناس... سلطان السلاطين... خليفة اللّٰه... ملك الملوك... ظل اللّٰه في الأرض... مولاي السلطان... الحضرة الملوكية... إلى آخر الألقاب التي وضعها الجبابرة لأنفسهم...

و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة: أي لا تهابوني و تحترزوا مني فتمتنعوا من الحديث معي و البوح لي بما تريدون كما هي حالة الملوك الذين تعرفون من حيث يغضبون لأنفسهم بمجرد أن لا يعجبهم منطق إنسان أو لا يوافق مزاجهم فيبادرون مستعجلين إلى الانتقام منه لأنفسهم و غضبا لذاتهم...

و لا تخالطوني بالمصانعة: إذا أردتم أن تكونوا معي في الحياة و تكون بيننا معاشرة و مخالطة و مصاحبة و لقاء فلا تتعاملوا معي بالمداراة و النفاق و الخوف بل كونوا صريحين

ص: 503

واضحين تبدون آراءكم و تقولون كلمتكم و تناقشون فيما ترون...

ثم نفى عن نفسه كل مشقة أو ثقل أو كلفة إذا قالوا له الحق و نطقوا بالصواب كما نفى عن نفسه أن يرفض قولهم و لا يستمع لهم لأنه يطلب العظمة لنفسه و إنه فوق أن يقال له الحق و قد بين أن من يستثقل سماع الحق له أو العدل يعرض عليه يكون العمل بهما أثقل عليه لأنه إذا كان مجرد عرض الحق و الحديث فيه و مجرد ذكر العدل و بيانه إذا كان مجرد ذلك ثقيل و صعب فالعمل به أشد و أصعب بل من يستثقل سماع الحق و بيان العدل يمتنع عليه القيام بهما و أداء حقهما...

(فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق أن أخطىء و لا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي اللّٰه من نفسي ما هو أملك به مني فإنما أنا و أنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من أنفسنا و أخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى و أعطانا البصيرة بعد العمى) دعاهم إلى قول الحق و ابداء المشورة التي فيها عدل...

ثم تواضع لهم كي يسترسلوا معه و لا يتحفظوا أو يصانعوا فأشار إلى أنه ليس فوق أن يخطىء و لا يطمئن إلى أنه لا يقع فيه إلا بعون اللّٰه و تسديده الذي يملك من نفسه ما لا يملكه هو من نفسه.

ثم قال إنه و إياهم سواء بسواء عبيد للّٰه مملوكون له لا رب غيره و لا معبود سواه يملك منا ما لا نملك من أنفسنا يملك حق حياتنا و مماتنا و مرضنا و شفائنا و غنانا و فقرنا و لا نملك من ذلك شيئا فهو أملك منا بأنفسنا و هو الذي أخرجنا مما كنا فيه من ظلمات الجاهلية و عاداتها و البعد عن اللّٰه إلى ما نحن فيه من الصلاح في الدين و العقيدة و الهدى فأبدلنا بعد الهلاك النجاة و بعد الضلال الهدى...

ص: 504

217 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في التظلم و التشكي من قريش اللّهمّ إنّي أستعديك (1) على قريش و من أعانهم، فإنّهم قد قطعوا (2) رحمي و أكفئوا (3) إنائي، و أجمعوا (4) على منازعتي (5) حقّا كنت أولى به من غيري، و قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، و في الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموما (6)، أو مت متأسّفا (7). فنظرت فإذا ليس لي رافد (8) و لا ذابّ (9) و لا مساعد، إلاّ أهل بيتي، فضننت (10) بهم عن المنيّة (11). فأغضيت (12) على القذى (13)، و جرعت (14) ريقي (15) على الشّجا (16)، و صبرت من كظم (17) الغيظ على أمرّ من العلقم (18)، و آلم للقلب من و خز (19) الشّفار (20).

قال الشريف رضي اللّٰه عنه. و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة، إلا أني ذكرته ها هنا لاختلاف الروايتين.

اللغة

1 - استعديك: استعينك كي تنتقم لي.

2 - قطعوا رحمي: قطعوا قرابتي.

3 - أكفئوا إنائي: قلبوه و كبوه.

4 - أجمعوا: اتفقوا.

5 - المنازعة: الخصومة.

6 - المغموم: المحزون.

7 - المتأسف: المتلهف، الحزين.

8 - الرافد: المعين.

ص: 505

9 - الذاب: المدافع و الناصر.

10 - ضننت بهم: بخلت بهم.

11 - المنية: الموت.

12 - اغضيت على كذا: صبرت و سكت.

13 - القذى: ما يسقط في العين فيؤذيها.

14 - جرعت: ابتلعت.

15 - الريق: لعاب الفم.

16 - الشجا: ما اعترض في الحلق.

17 - كظم غيظه: حبس غضبه.

18 - العلقم: شجر شديد المرارة.

19 - الوخز: الطعن الخفيف.

20 - الشفار: جمع شفرة و هي حد السيف أو السكين.

الشرح

(اللهم إني استعديك على قريش و من اعانهم فإنهم قد قطعوا رحمي و أكفئوا إنائي و أجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري) هذا الكلام منه عليه السلام شكوى من قريش و ما لاقاه منها... إنها صرخة المظلوم المهضوم إذا سلب الأقوياء حقه و اجتمعت عصابة البغي على ظلمه...

اللهم إني أتوجه إليك أن تنتصر لي و تنتقم من قريش و من اعانهم من الأحلاف و القبائل فإنهم قد قطعوا رحمي من رسول اللّٰه و فصلوني عنه كأني غريب بعيد لا يصلني به صلة دم أو قربى أو صلة كفاح و جهاد و إنهم قد اكفئوا إنائي أي ضيعوا أتعابي و جهادي و ما استقحه من الرياسة و الخلافة... إنهم قد ضيّعوا حقه و أبطلوا دوره و اتفقوا جميعا على مخاصمته في حق هو أولى به من كل الناس... أولى به ممن تسلمه و أستولى عليه... أولى به من جميع الناس بالنص و الكفاءة و القدرة على قيادة الأمة و تسلم زمام أمرها و هذا المعنى قد أشار إليه الإمام في الخطبة الشقشقية...

(و قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه فأصبر مغموما أو مت متأسفا) هذه حكاية لقولهم بلسان الحال - ظلما و عدوانا - إنك إن وليت الخلافة فهذا حق و إن تولاها غيرك فهو أيضا حق فإن أعجبك ما نقول فهو و إلا إذا منعناك من الخلافة فاصبر محزونا أو مت متأسفا متحسرا و لن ينفعك ذلك و هكذا فعلت قريش و حلفاؤها

ص: 506

عند ما نحتّ عليا عن الخلافة و جاءت بغيره ممن هو دونه...

(فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن المنية) بعد أن بيّن موقف قريش منه و اجتماعها على منعه حقه و كيف تنظر إليه و تعامله قال: إني نظرت في أحوال هذه القضية و ما جرى عليّ من الظلم و كنت لو استجمعت القوة و الأنصار كنت أريد الوقوف في وجهها و محاربتها و ضرب وجوهها و لكن للأسف لم تكمل شروط النهضة و المواجهة إذ ليس لي معين يعينني و لا ناصر ينصرني و لا دافع يدفع عني أو يساعدني لتحقيق أهدافي و ما أصبو إليه لأن الناس قد خافوا سطوة السلطان و سوطه و خصوصا ما كان يطلقه عمر من التهديد و الوعيد و الانذار و التخويف فنظرت فلم أجد أحدا يقوم معي غير أهل بيتي و خاصتي فبخلت بهم على الموت الذي هو نصيبهم لو قمت بهم في وجه قريش لقلتهم و كثرتها و في هذا البيان كفاية لمن كان له قلب أو القى السمع و هو شهيد من أن الإمام ما أقعده عن القيام في وجه الغاصبين لحقه إلا قلة الناصر و المعين و لو وجد أعوانا يقفون لم يتوان في مواجهة القوم و ضرب وجوههم...

(فأغضيت على القذى و جرعت ريقي على الشجا و صبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم و آلم للقلب من و خز الشفار) هذا شرح لمدى المعاناة التي يعيشها و الألم الذي يكتوي به أغمضت عيني على كل ما يؤذي و ابتلعت ريقي مع ما بي من الوجع و الألم و صبرت حابسا غصبي على أمّر من طعم العلقم الذي هو في المرارة بمنتهاها فضرب به المثل و آلم للقلب من طعن السيوف و المدى.

كلمات تخرج من قلب الإمام فتجرح القلوب تحكي عن مدى الألم الذي يعيشه... يرى حقه يسلب و تراث الإسلام بيد عصبة لا تستحق أن تتولى إدارة بيت صغير فكيف تتولى إدارة الحكم في دولة الإسلام الناشئة...

كلمات مفعمة بالألم و الحسرة لما يصيب الإسلام من جراء هذا الاعتداء على حقه... و حق لعلي أن يعيش هذا الألم فإنه كان ينظر إلى المستقبل فيرى معاوية و الأسره الأموية تضع يدها على الإسلام و تتولى شئونه و ما ذلك إلا نتيجة للانحراف الذي كان في الخطوات الأولى من عمر الخلافة يوم السقيفة و ما بعده...

ص: 507

218 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام فقدموا على عمّالي و خزّان بيت المسلمين الّذي في يديّ ، و على أهل مصر (1)، كلّهم في طاعتي و على بيعتي، فشتّتوا (2) كلمتهم، و أفسدوا عليّ جماعتهم. و وثبوا (3) على شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدرا (4)، و طائفة عضّوا على أسيافهم (5)، فضاربوا بها حتّى لقوا اللّٰه صادقين.

اللغة

1 - المصر: القطر.

2 - شتتوا كلمتهم: فرقوها أي فرقوا جمعهم و وحدتهم.

3 - وثبوا: نهضوا و قاموا، انقضوا.

4 - الغدر: الخيانة و نقض العهد.

5 - عضوا على اسيافهم: لزموها و هو كناية عن الصبر و عدم الاستسلام.

الشرح

(فقدموا على عمالي و خزان بيت مال المسلمين الذي في يدي و على أهل مصر كلهم في طاعتي و على بيعتي فشتتوا كلمتهم و أفسدوا علي جماعتهم و وثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم غدرا و طائفة عضوا على اسيافهم فضاربوا بها حتى لقوا اللّٰه صادقين) جريمة أصحاب الجمل مزدوجة لقيامهم في وجه السلطة الشرعية من جهة و لأنهم جرؤا معاوية على التمرد من جهة أخرى فقد سنّوا سنة سيئة تلاحقهم إلى الآخرة...

و على كل حال فإنهم بعد خروجهم من المدينة و قد فارقوا الإمام معلنين عليه

ص: 508

الحرب توجهوا إلى البصرة ثغر الإسلام الهادي الآمن... طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة ثالوث عصوا اللّٰه في خروجهم و تمردهم وليتهم اقتصروا في المعارضة على مجرد الخلاف السياسي بل قدموا البصرة الآمنة و عليها عمال أمير المؤمنين أميرها و خازن بيت مال المسلمين و من يدور في فلكهما.. إنه قطر دخل في طاعة أمير المؤمنين يعيش الهدوء و الاطمئنان دخل عليه الناكثون ففرقوا الكلمة و مزقوا الجماعة و شتتوا الوحدة... كانت البصرة وحدة مجتمعة و بدخول الناكثين تحولت إلى الفتنة الدامية حيث عمدوا إلى شيعة علي فقتلوا طائفة منهم غدرا بعد أن أعطوهم الأمان و السلام و أبت طائفة أخرى عهدهم و ميثاقهم و بقوا شاهرين سيوفهم في وجه الناكثين يضربونها حتى قضوا شهداء و لقوا اللّٰه صادقين في ولائهم للحق و الإيمان و لمن بايعوه و أعطوه الولاء...

ص: 509

219 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما مر بطلحة بن عبد اللّٰه و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد و هما قتيلان يوم الجمل:

لقد أصبح أبو محمّد بهذا المكان غريبا! أما و اللّٰه لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب! أدركت و تري (1) من بني عبد مناف، و أفلتتني (2) أعيان بني جمح، لقد أتلعوا (3) أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا (4) دونه.

اللغة

1 - الوتر: الثأر.

2 - أفلت الطائر: اطلقته و خلصته.

3 - اتلعوا أعناقهم: رفعوها و رجل أتلع أي طويل العنق.

4 - و قصت أعناقهم: كسرت.

الشرح

اشارة

(لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريبا، أما و اللّٰه لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب أدركت و تري من بني عبد مناف و افلتتني أعيان بني جمح، لقد اتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه) دارت معركة الجمل على الناكثين و ذهب ضحيتها طلحة و الزبير و غيرهما من الأعيان و الاتباع و عند ما انتهت المعركة وقف أمير المؤمنين على القتلى يتصفحهم و يستعرض الجثث فوقف على طلحة بن عبد اللّٰه فعز عليه أن تكون نهايته بهذه الصورة التعيسة التي أنزلته عن مقامه في الدنيا و في الآخرة...

عز على الإمام أن تتهاوى الصروح الكبيرة أمام الأطماع الصغيرة... طلحة يتصاغر

ص: 510

و يتقزم و يخرج لحرب الخليفة الذي بايعه بيده الشلاء بالأمس فنكث بيعته اليوم...

قال الإمام هذه الكلمات المعبرة لقد أصبح أو محمد بهذا المكان غريبا ليس هذا وطنه و لا دياره و لا القوم أهله فما أخرجه ؟!.. أخرجته المطامع و حب الدنيا و التسلط و الزعامة...

أما و اللّٰه قسما بارا لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب و في الفلوت إنه يكره لقريش أن تموت في هذه الساحة الضالة مهمة قريش و دورها أن تموت في ساحة الجهاد ضد الكفر و النفاق فكيف أضحت تقاتل الإسلام و المسلمين إنه يكره لها هذا الدور الخسيس الذي يجب أن تترفع عنه.. ثم بين أنه قد أدرك ثأره لأصحابه الذين قتلهم طلحة بالأمس في البصرة عند ما دخلها و قد أعطى بعضهم الأمان ثم قتلهم و قتل بعضهم الآخرين بعد معركة دامية لقد أدرك ثأره من بني عبد مناف الذين منهم طلحة و إنما كان منهم كما قيل من جهة أن أمه من بني عبد مناف و لكن فرّ أعيان بني جمح، قد هربوا من سيفه فلم يدركهم...

ثم أشار إلى أن قريش مدت أعناقها و تطاولت لتطال الخلافة و حاولت جهدها في سبيل ذلك و لكنها نالت نصيبها من القتل و لم تدرك ما أملّت... لقد راحت ضحية المطامع التي لم يتحقق لها منها أقلها و أدناها.

ترجمة طلحة بن عبد اللّٰه.

طلحة بن عثمان بن عمرو بن كعب بن(1) سعد بن تيم بن مرة يكني أبا محمد.

أمه: الصعبة بنت عبد اللّٰه بن عمار الحضرمي أسلم قديما و يقال أن سبب إسلامه إنه كان في مدينة بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم ؟.

قال طلحة: نعم أنا فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قال: قلت: و من أحمد؟ قال ابن عبد اللّٰه بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه و هو آخر الأنبياء و مخرجه من الحرم و مهاجره إلى نخل و حرة و سباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث ؟ قالوا: نعم محمد بن عبد اللّٰه الأمين تنبأ... فلما سمع راح إلى النبي و أسلم.

ص: 511


1- الطبقات الكبرى ج 3 ص 214.

هاجر طلحة إلى المدينة مع المهاجرين و حضر المشاهد كلها و شلت أصبعه يوم أحد من إصابة أصابته بها كان أحد الستة أصحاب الشورى العمرية التي انتخبت عثمان خليفة ثم كان من أشد الناس عليه حتى قتل و عند ما بويع الإمام كانت يد طلحة الشلاء أول يد تبايعه ثم نكث البيعة و خرج مع الزبير و أم المؤمنين عائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان و كانت موقعة الجمل فقتل فيها طلحة بسهم رماه به مروان بن الحكم كما ورد في الصحاح و كان طلحة من أثرياء الصحابة الذين جمعوا المال و اكتنزوه نقل صاحب الطبقات الكبرى قتل طلحة بن عبد اللّٰه يرحمه اللّٰه و في يد خازنه ألفا ألف درهم و مائتا ألف درهم و قومت أصوله و عقاره ثلاثين ألف ألف درهم قتل سنة 36 في جمادي الأولى في معركة الجمل.

ترجمة عبد الرحمن بن عتاب بن اسيد.

عن ابن أبي الحديد ج 11 ص 123.

عبد الرحمن بن عتاب بن اسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ليس بصحابي.

و أبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميه بن عبد شمس من مسلمة الفتح و لما خرج رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و سلم من مكة إلى حنين استعمله عليها فلم يزل أميرها حتى قبض رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم و بقى على حاله في خلافة أبي بكر الصديق و مات هو و أبو بكر في يوم واحد و لم يعلم أحدهما بموت الآخر.

و عبد الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه و قد مرّ به قتيلا يوم الجمل:

لهفي عليك يعسوب قريش! هذا فتى الفتيان هذا اللباب المحض من بني عبد مناف شفيت نفسي و قتلت معشري إلى اللّٰه أشكو عجري و بجري.

فقال له قائل: لشدّ ما اطريت الفتى يا أمير المؤمنين منذ اليوم قال: إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك.

و عبد الرحمن هذا هو الذي احتملت العقاب كفه يوم الجمل و فيها خاتمه فالقتها باليمامة فعرفت بخاتمه و علم أهل اليمامة بالوقعة..

ص: 512

220 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في وصف السالك الطريق إلى اللّٰه سبحانه قد أحيا عقله، و أمات نفسه، حتّى دقّ (1) جليله (2) و لطف (3) غليظه (4)، و برق (5) له لا مع كثير البرق، فأبان (6) له الطّريق، و سلك به السّبيل، و تدافعته الأبواب إلى باب السّلامة، و دار الإقامة، و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن و الرّاحة، بما استعمل قلبه، و أرضى ربّه.

اللغة

1 - دق الشيء: لطف و صغر.

2 - الجليل: العظيم.

3 - لطف: صغر و دق.

4 - الغليظ: خلاف الدقيق و الرقيق و اللين.

5 - برق: ظهر و لمع و البرق نور يلمع في السماء على أثر انفجار كهربائي في السحاب.

6 - أبان له الطريق: كشفه و أظهره.

الشرح

(قد أحيا عقله و أمات نفسه حتى دقّ جليله و لطف غليظه و برق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق و سلك به السبيل و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة و دار الإقامة و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن و الراحة بما استعمل قلبه و أرضى ربه) في هذا الكلام صورة مثلى للإنسان المسلم... ما يجب أن يكون عليه مواظبا و له طالبا و عنه باحثا...

صورة رمزية استند إليها أهل العرفان في طريقتهم و قالوا إنه عليه السلام يشير إليهم...

ص: 513

و قال المسلم المتفتح المتطلع إلى اللّٰه المتوجه إليه إنه عليه السلام أراده و رسم له صورته و ما يجب أن يكون عليه...

و على كل حال هي صورة فريدة من نوعها يدفعنا الإمام إلى الوقوف أمامها قليلا لعل أحدنا يستفيد منها في اكتساب موقف أو صفاء نفس أو يعيد النظر في سلوكه فيصحح مساره في اتجاهها...

صورة الإنسان الذي أحيا عقله و حياة العقل بالعلم و المعرفة، فكر في أمور الدنيا و الآخرة و لم يقدم على عمل أو يحجم عنه إلا بعد أن يفكر في عواقبه و يعرف حله من حرامه و نفعه من ضرره فيستعمل عقله في كل حركاته و في مقابل أحياء عقله أمات نفسه و هي النفس الأمارة بالسوء التي تطالبه باستمرار بالتمرد على الحق و الخروج عن العدل... هذه النفس قضى عليها بحيث أضحت ميته لا تؤثر على قراره العادل و منطقه الصادق...

و هكذا بقي مستمرا حتى دق جليله و لطف غليظه فترى بدنه قد خف و نحف كما قال أمير المؤمنين في خطبة المتقين في وصفهم «أجسامهم نحيفة و حاجاتهم خفيفة» يعيشون في الدنيا من أجل أهدافهم لا من أجل أجسامهم...

و عند ما أحيا عقله و أمات نفسه انكشفت له الأمور و وصل بهذه المجاهدة إلى الهدى و إلى اليقين و أدرك حقائق الأشياء و أسرارها كما قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ » .

فإن هذا العلم مع العمل به ينكشف أمام الإنسان من خلالهما طريق السعادة و طريق رضى اللّٰه و انفتحت له الأبواب متتابعة إلى أن يصل إلى باب الجنة من حيث إنه أحرز رضا اللّٰه و دخل دار الإقامة و السلامة التي هي الجنة و عندها استقر في دار الأمن و الراحة التي لا فزع و لا تعب فيها و ذلك كله لأنه كان يستعمل عقله و يرضي ربه فحوّل عقله إلى عقل رحماني يطلب به و من خلاله مرضاة اللّٰه...

ص: 514

ص: 515

الفهرس

156 - و من كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم... 5

157 - و من خطبة له عليه السلام يحث الناس على التقوى... 16

158 - و من خطبة له عليه السلام ينبه فيها على فضل الرسول الأعظم

و فضل القرآن ثم حال دولة بني أمية... 24

159 - و من خطبة له عليه السلام يبيّن فيها حسن معاملته لرعيته... 28

160 - و من خطبة له عليه السلام في بيان عظمة اللّٰه و ذكر الأنبياء... 30

161 - و من خطبة له عليه السلام في صفة النبي و أهل بيته و اتباع دينه و فيها يعظ بالتقوى... 48

162 - و من كلام له عليه السلام لبعض أصحابه و قد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به ؟ فقال:... 56

163 - و من خطبة له عليه السلام في عظمة الخالق جل و علا... 61

164 - و من كلام له عليه السلام لما اجتمع الناس إليه و شكوا ما نقموه على عثمان و سألوه مخاطبته لهم و استعتابه لهم فدخل عليه فقال: 69

165 - و من خطبة له عليه السلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس... 74

166 - و من خطبة له عليه السلام يذكر بني أمية و يصف آخر الزمان... 91

167 - و من خطبة له عليه السلام في أوائل خلافته... 97

168 - و من كلام له عليه السلام بعد ما بويع بالخلافة و قد قال له قوم من الصحابة: لو عاقبت قوما ممن أجلب على

عثمان ؟ فقال عليه السلام... 101

169 - و من خطبة له عليه السالم عند مسير أصحاب الجميل إلى البصرة 104

170 - و من كلام له عليه السلام في وجوب اتباع الحق عند قيام الحجة... 108

171 - و من كلام له عليه السلام لما عزم على لقاء القوم بصفين... 110

172 - و من خطبة له عليه السلام يذكر يوم الشورى و أصحاب الجمل... 114

ص: 516

173 - و من خطبة له عليه السلام في رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه

و آله و سلم و من هو جدير بأن يكون للخلافة و في هوان الدنيا... 121

174 - و من كلام له عليه السلام في معنى طلحة بن عبيد اللّٰه و قد قاله حين بلغه خروج طلحة و الزبير إلى البصرة لقتاله... 128

175 - و من خطبة له عليه السلام في الموعظة و في بيان قرباه من رسول اللّٰه... 131

176 - و من خطبة له عليه السلام و فيها يعظ و يبين فضل القرآن و ينهى عن البدعة... 135

177 - و من كلام له عليه السلام في معنى الحكمين... 153

178 - و من خطبة له عليه السلام في الشهادة و التقوى و قيل إنه خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته... 155

179 - و من كلام له عليه السلام و قد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى ؟ فقال: و كيف تراه ؟ فقال... 162

180 - و من خطبة له عليه السلام في ذم العاصين من أصحابه... 165

181 - و من كلام له عليه السلام و قد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد همّوا باللحاق بالخوارج و كانوا على خوف منه عليه السلام... فقال... 170

علي يفتح الحوار فيوصده أعداؤه... 171

182 - و من خطبة له عليه السلام عن نوف البكالي قال: خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي عليه السلام بالكوفة و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي... 173

ترجمة عمار بن ياسر... 191

ترجمة أبو الهيثم بن التيهان... 193

ترجمة ذي الشهادتين خزيمة بن ثابت... 193

183 - و من خطبة له عليه السلام في قدرة اللّٰه و في فضل القرآن و في الوصية بالتقوى... 195

184 - و من كلام له عليه السلام قاله للبرج بن مسهر الطائي و قد قال له بحيث يسمعه: «لا حكم إلا للّٰه» و كان من الخوارج... 210

و فقد الحوار... 210

ترجمة البرج بن مسهر الطائي... 211

ص: 517

185 - و من خطبة له عليه السلام يحمد اللّٰه فيها و يثني على رسوله و يصف خلقا من الحيوان... 212

اللّٰه هو الخالق... 224

186 - و من خطبة له عليه السلام في التوحيد و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة... 227

187 - و من خطبة له عليه السلام و هي في ذكر الملاحم... 245

188 - و من خطبة له عليه السلام في الوصية بالتقوى... 251

189 - و من كلام له عليه السلام في الإيمان و وجوب الهجرة... 256

190 - و من خطبة له عليه السلام يحمد اللّٰه و يثني على نبيه و يعظ بالتقوى... 261

191 - و من خطبة له عليه السلام يحمد اللّٰه و يثني على نبيه و يوصي بالزهد و التقوى... 272

192 - و من خطبة له عليه السلام تسمى القاصعة... 284

193 - و من خطبة له عليه السلام يصف فيها المتقين... 351

ترجمة همام بن شريح... 369

194 - و من خطبة له عليه السلام يصف فيها المتقين... 370

195 - و من خطبة له عليه السلام يحمد اللّٰه و يثني على نبيه و يعظ... 378

196 - و من خطبة له عليه السلام في بعثة النبي و فيها عظة بالزهد... 387

197 - و من كلام له عليه السلام ينبه فيه على فضيلته لقبول قوله و أمره و نهيه... 391

198 - و من خطبة له عليه السلام ينبه على إحاطة علم اللّٰه بالجزئيات ثم يحث على التقوى و يبين فضل الإسلام و القرآن... 395

199 - و من كلام له يوصي به أصحابه... 418

200 - و من كلام له عليه السلام في معاوية... 426

علي و معاوية 427

201 - و من كلام له عليه السلام يعظ بسلوك الطريق الواضح... 429

202 - و من كلام له عليه السلام روي عنه أنه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام كالمناجي به رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم عند قبره... 432

ترجمة سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد... 436

ص: 518

أقوال النبي فيها... 436

زواجها المبارك... 436

فدك... 437

وفاتها... 437

203 - و من كلام له عليه السلام في التزهيد في الدنيا و الترغيب في الآخرة... 438

204 - و من كلام له عليه السلام كان كثيرا ما ينادي به أصحابه... 441

205 - و من كلام له عليه السلام كلّم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا عليه من ترك مشورتهما و الاستعانة في الأمور بهما... 444

206 - و من كلام له عليه السلام و قد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين... 449

207 - و من كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين و قد رأى الحسن ابنه عليه السلام يتسرع إلى الحرب... 452

208 - و من كلام له عليه السلام قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة... 454

209 - و من كلام له عليه السلام بالبصرة و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي - و هو من أصحابه - يعوده فلما رأى سعة داره قال... 456

210 - و من كلام له عليه السلام و قد سأله سائل عن أحاديث البدع و عما في أيدي الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام:... 462

ترجمة سليم بن قيس الهلالي... 469

211 - و من خطبة له عليه السلام في عجيب صنعة الكون... 471

212 - و من خطبة له عليه السلام كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام في زمانه... 476

213 - و من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّٰه و تعظيمه... 478

214 - و من كلام له عليه السلام يصف جوهر الرسول و يصف العلماء و يعظ بالتقوى... 482

215 - و من دعاء له عليه السلام كان يدعو به كثيرا... 489

216 - و من خطبة له عليه السلام خطبها بصفين 493

217 - و من كلام له عليه السلام في التظلم و التشكي من قريش... 505

ص: 519

218 - و من كلام له عليه السلام في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام... 508

219 - و من كلام له عليه السلام لما مر بطلحة بن عبد اللّٰه و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد و هما قتيلان يوم الجمل... 510

ترجمة طلحة بن عبد اللّٰه... 511

ترجمة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد... 512

220 - و من كلام له عليه السلام في وصف السالك الطريق إلى اللّٰه سبحانه... 513

ص: 520

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.