شرح نهج البلاغة (موسوی) المجلد 2

هویة الکتاب

شرح نهج البلاغة (موسوی)

شارح: موسوی، عباس علی

جامع: شریف الرضی، محمد بن حسین

كاتب: علی بن ابی طالب (ع)، امام اول

لغة: العربية

الناشر: دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - بیروت لبنان

سنة النشر:1418 هجری قمری|1998 میلادی

قانون الكونجرس: / م 8 38/02 BP

مكان النشر: بیروت - لبنان

سال نشر: 1377 ش

موضوع: علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - خطب

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - حروف

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. - الأمثال

علی بن ابی طالب(ع)، امام اول، 23 قبل الهجرة - 40ق. نهج البلاغة - نقد و تفسیر

لغة: العربية

عدد المجلدات: 5

ص: 1

اشارة

شرح نهج البلاغة (موسوی)

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

شرح نهج البلاغة (موسوی)

دار الرسول الاکرم صلی الله عليه و آله و سلم - دارالمحجة البیضاء

ص: 4

تتمة باب المختار من الخطب

85 - و من خطبة له عليه السلام و فيها صفات ثمان من صفات الجلال

اشارة

و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له: الأوّل لا شيء قبله، و الآخر لا غاية (1) له، لا تقع الأوهام (2) له على صفة، و لا تعقد (3) القلوب منه على كيفيّة، و لا تناله (4) التّجزئة (5) و التّبعيض، و لا تحيط (6) به الأبصار و القلوب.

و منها: فاتّعظوا عباد اللّه بالعبر (7) النّوافع (8)، و اعتبروا بالآي (9) السّواطع (10)، و ازدجروا (11) بالنّذر (12) البوالغ (13)، و انتفعوا بالذّكر و المواعظ، فكأن قد علقتكم (14) مخالب (15) المنيّة (16)، و انقطعت منكم علائق الأمنيّة، و دهمتكم (17) مفظعات الأمور (18)، و السّياقة إلى الورد (19) المورود، ف «كلّ نفس معها سائق و شهيد»: سائق يسوقها إلى محشرها، و شاهد يشهد عليها بعملها.

و منها في صفة الجنة درجات (20) متفاضلات، و منازل متفاوتات، لا ينقطع نعيمها، و لا يظعن مقيمها (21)، و لا يهرم (22) خالدها، و لا يبأس (23) ساكنها.

اللغة

1 - الغاية: النهاية.

2 - الأوهام: جمع وهم و هي القوة المتخيلة.

ص: 5

3 - تعقد: من عقد القلب إذا اعتقده و دان به.

4 - ناله: أصابه.

5 - التجزئة: التقسيم.

6 - تحيط: تحدق به من جوانبه.

7 - العبر: جمع عبرة ما يعتبر به أي يتعظ.

8 - النوافع: جمع نافع و هو المفيد.

9 - الآي: جمع آية و هي العلامة.

10 - السواطع: المشرقة المنيرة.

11 - ازدجروا: امتنعوا و انتهوا.

12 - النذر: جمع نذير المخوّف.

13 - البوالغ: جمع البالغة الواصلة إلى نهاية الشيء و غايته.

14 - علقت: نشبت.

15 - مخالب: جمع مخلب و هو للحيوان بمثابة الظفر للإنسان.

16 - المنية: الموت.

17 - دهمتكم: غشيتكم.

18 - مفظعات الأمور: شدائدها الشنيعة.

19 - الورد: في الأصل مكان الشرب و المراد به هنا الموت أو المحشر.

20 - درجات: جمع درجة و هي الطبقات و المراتب.

21 - لا يظعن مقيمها: لا يرحل مقيمها.

22 - الهرم: من بلغ أقصى الكبر.

23 - يبأس: مضارع بئس يصيبه البؤس و هو الشقاء.

الشرح

(و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له) يذكر عليه السلام بعض مسائل التوحيد و ذكر أولا توحيد اللّه و أنه لا شريك له في الخلق بل كما قال سبحانه: «قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» فهو واحد في ذاته واحد في صفاته لا شريك له في الخلق...

(الأول لا شيء قبله و الآخر لا غاية له) فهو خالق الأشياء و موجودها و هي مفتقرة إليه في وجودها و في بقائها.، و هو الآخر الذي لا نهاية له و لا حد لوجوده يقف عنده...

ص: 6

(لا تقع الأوهام له على صفة) لأن القوة الواهمة لا تستطيع أن تتوهم شيئا إلا مما وقع لها من الأمور المادية و اللّه سبحانه منزله عن ذلك ثم إن كل متوهم لا بد و أن يخضع لتصور معين يشخّصه و يفرده و هذا بنفسه يحدده و يحجمه و اللّه سبحانه ليس له حد أو حجم، فكل صفة له هي نتاج فكر الإنسان القاصر و اللّه منزه عنها...

(و لا تعقد القلوب منه على كيفية) لأنه متى تكيف بكيف تصوّر و تشخّص و هذا ينافي التوحيد الصحيح...

(و لا تناله التجزئة و التبعيض) لأن من تجزأ و تبعض و أمكن ذلك في حقه فهو المركب المحتاج إلى أجزائه و اللّه غني عن ذلك...

(و لا تحيط به الأبصار و القلوب) لأن كل من أمكن الإحاطة به و إدراكه فهو محدود محصور و اللّه منزه عن ذلك...

(فاتعظوا عباد اللّه بالعبر النوافع) أنظروا في آثار الماضين و ما حل بهم من النقمات و ما لحقهم من العقوبات و اعتبروا بذلك لئلا يلحقكم ما لحقهم إن خالفتم و عصيتم و امتثلوا أمر اللّه و لا تخالفوه أبدا...

(و اعتبروا بالآي السواطع) خذوا العبرة و العظة من الآيات القرآنية التي تفصح و تظهر الأمور بجلاء و وضوح و هي تحث الإنسان على الالتزام و تحذره المعصية و تدعوه إلى إقامة الحق و العدل، و قد يراد بالآي عجائب مخلوقات اللّه و دلائل قدرته و آثار حكمته التي نحس بها في كل حركة و نراها في كل موقع نظر و حركة فكر...

(و ازدجروا بالنذر البوالغ) فهناك مخوفات في غاية الشدة يجب أن ينظر فيها الإنسان و يرتدع.. ينظر إلى الأمم السابقة كيف جاءتهم النذر فعصوا و تمردوا فأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر...

(و انتفعوا بالذكر و المواعظ) استفيدوا بما ورد في كتاب اللّه من أوامر و زواجر و قصص و أمثال و بما ورد عن النبي و الأئمة من المواعظ و الحكم التي ترقق قلب الإنسان و تحمله على الطاعة...

(فكأن قد علقتكم مخالب المنية) فما هي إلا أوقات قليلة و قد نزلت بكم أسباب الموت من مرض و هرم و عجز و إقعاد.. إنه الموت الذي يزرع أسبابه في بدن هذا الإنسان و يصيبه بآفاته...

(و انقطعت منكم علائق الأمنية) فتلك الآمال و الأماني التي كانت تعيش في تصور

ص: 7

هذا الإنسان من كونه سيسعى ليصبح شخصية عظمى أو غنيا كبيرا أو مفكرا جليلا هذه الأماني قد أيقظتها تلك النذر التي وفدت على هذا الإنسان و وردت عليه فالموت يقطع الآمال و يوقف الأماني و يحطم العزائم...

(و دهمتكم مفظعات الأمور) حلّت بكم شدائد الأمور عند الموت حيث الاحتضار و سكراته و عذابه و آلامه ثم ما بعده من عذاب القبر و أهوال يوم القيامة...

(و السياقة إلى الورد المورود فكل نفس معها سائق و شهيد سائق يسوقها إلى محشرها و شاهد يشهد عليها بعملها) فبعد الموت يساق الإنسان سوقا إلى مكان وروده و محط ركابه ألا و هو المحشر حيث يجمع اللّه الخلق للحساب و تأتي كل نفس معها سائق من الملائكة أو هو نفس العمل و معها أيضا شهيد من الأنبياء الذين بلغوا الرسالة و أوصلوا الأمانة أو شهيد من أعمالها يشهد عليها إنها من أهل الجنة أو من أهل النار و هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: «وَ جٰاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ» .

فأما إن كانت من أهل الإيمان فالسياق إلى الجنة كما قال تعالى: «وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُهٰا وَ فُتِحَتْ أَبْوٰابُهٰا وَ قٰالَ لَهُمْ خَزَنَتُهٰا سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهٰا خٰالِدِينَ » .

و أما إن كانت من أهل التمرد و العصيان فإنها تساق إلى النار كما قال تعالى:

«وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُهٰا فُتِحَتْ أَبْوٰابُهٰا وَ قٰالَ لَهُمْ خَزَنَتُهٰا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ » ...

(درجات متفاضلات و منازل متفاوتات لا ينقطع نعيمها و لا يظعن مقيمها) ثم إن الجنة درجات حسب اجتهاد الإنسان و نشاطه و مراتب مختلفة حسب عطاء الإنسان في الدنيا و جهاده، هناك منازل الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء و هكذا تتنازل المراتب إلى أقلها و أصغرها و على كل حال فالنعيم لا ينقطع أو يزول كما هو حال نعيم الدنيا المعرّض للزوال و الفناء، و المقيم في الجنة لا يتحول عنها أو يرحل بل إقامة دائمة...

(و لا يهرم خالدها و لا يبأس ساكنها) و هذه من خصوصيات الجنة و إن ساكنها و الخالد فيها لا يهرم و لا يكبر بل يحتفظ بشبابه لا تصيبه شيخوخة أو ضعف.

كما إن ساكنها لا يصيبه الشقاء و الحزن و الألم عكس دار الدنيا حيث تختلط لذاتها بالألم و حلاوتها بالمرارة و نعيمها بالبؤس..

ص: 8

86 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها بيان صفات الحق جل جلاله، ثم عظة الناس بالتقوى و المشورة قد علم السّرائر (1)، و خبر (2) الضّمائر، له الإحاطة (3) بكلّ شيء، و الغلبة (4) لكلّ شيء، و القوّة على كلّ شيء.

عظة الناس

فليعمل العامل منكم في أيّام مهله (5)، قبل إرهاق (6) أجله (7)، و في فراغه قبل أوان (8) شغله، و في متنفّسه (9) قبل أن يؤخذ بكظمه (10)، و ليمهّد (11) لنفسه و قدمه، و ليتزوّد من دار ظعنه (12) لدار إقامته. فاللّه اللّه أيّها النّاس، فيما استحفظكم من كتابه، و استودعكم من حقوقه، فإنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا (13)، و لم يترككم سدى (14)، و لم يدعكم في جهالة و لا عمى، قد سمّى (15) آثاركم (16)، و علم أعمالكم، و كتب آجالكم (17)، و أنزل عليكم «الكتاب تبيانا لكلّ شيء»، و عمّر فيكم نبيّه أزمانا، حتّى أكمل له و لكم - فيما أنزل من كتابه - دينه الّذي رضي لنفسه، و أنهى (18) إليكم - على لسانه - محابّه (19) من الأعمال و مكارهه (20)، و نواهيه و أوامره، و ألقى إليكم المعذرة، و اتّخذ عليكم الحجّة، و قدّم إليكم بالوعيد (21)، و أنذركم بين يدي عذاب شديد. فاستدركوا (22) بقيّة أيّامكم، و اصبروا لها أنفسكم، فإنّها قليل في كثير الأيّام الّتي تكون منكم فيها الغفلة، و التّشاغل عن الموعظة، و لا ترخّصوا (23) لأنفسكم، فتذهب بكم الرّخص مذاهب

ص: 9

الظّلمة (24)، و لا تداهنوا (25) فيهجم بكم الإدهان على المعصية. عباد اللّه، إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه، و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه، و المغبون (26) من غبن نفسه، و المغبوط (27) من سلم له دينه، «و السّعيد من وعظ بغيره»، و الشّقيّ من انخدع لهواه و غروره. و اعلموا أنّ «يسير الرّياء شرك»، و مجالسة أهل الهوى منساة (28) للإيمان، و محضرة للشّيطان (29).

جانبوا (30) الكذب فإنّه مجانب للإيمان. الصّادق على شفا (31) منجاة و كرامة، و الكاذب على شرف (32) مهواة (33) و مهانة (34). و لا تحاسدوا، فإنّ الحسد (35) يأكل الإيمان «كما تأكل النّار الحطب»، «و لا تباغضوا فإنّها الحالقة (36)»، و اعلموا أنّ الأمل يسهي (37) العقل، و ينسي الذّكر. فأكذبوا الأمل فإنّه غرور، و صاحبه مغرور.

اللغة

1 - السرائر: جمع سريرة و هو ما يكتم من السر.

2 - خبر: بفتح الباء بمعنى امتحنها و ابتلاها و بالكسر علم.

3 - الإحاطة: الإحداق بالشيء من جميع جوانبه.

4 - الغلبة: القهر.

5 - المهل: المهلة و التؤدة.

6 - الإرهاق: الإعجال.

7 - أجله: موته، الوقت المضروب له.

8 - أوان: وقت.

9 - متنفسه: سعة وقته.

10 - الكظم: مخرج النفس.

11 - مهد: بسط و وطأ و مهد الأمر ذللّه.

12 - الظعن: الرحيل.

13 - العبث: هو العمل الذي لا فائدة فيه.

14 - السدى: المهمل.

ص: 10

15 - سمّى: بيّن.

16 - آثاركم: أعمالكم.

17 - آجالكم: أوقات موتكم أو مدة حياتكم.

18 - أنهى: أعلم و عرّف.

19 - محابه: جمع محبّة، ما يحبه و يرغب فيه من الأعمال.

20 - مكارهه: جمع مكرهة و هو ما يكره.

21 - الوعيد: هو الوعد و لكن خص استعماله بالشر.

22 - استدركوا: الشيء بالشيء حاول إدراكه به و أدرك الشيء لحقه.

23 - ترخصوا: من الرخصة و معناه التسهيل و التخفيف.

24 - الظلمة: جمع ظالم و هو الجائر.

25 - تداهنوا: المداهنة المصانعة و النفاق.

26 - المغبون: المخدوع.

27 - المغبوط: من الغبطة و هي أن تتمنى إدراك مثل ما عند الغير دون زواله عنه.

28 - منساة: أي داعية للنسيان.

29 - محضرة للشيطان: محل حضوره.

30 - جانبوا: باعدوا، تركوه جانبا.

31 - شفا: الشيء: حرفه و جانبه.

32 - الشرف: المكان العالي.

33 - المهواة: موضع السقوط.

34 - المهانة: المذلة و الحقارة.

35 - الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير.

36 - الحالقة: الماحية.

37 - يسهى: يغفل.

الشرح

(قد علم السرائر و خبر الضمائر) هذه بعض أوصاف الحق ابتدأ بها ليدخل منها إلى مقصوده من الموعظة.

و اللّه سبحانه هو الذي يعلم أسرار عباده و ما ينوي كل واحد في نفسه و هذا من مختصاته... إنه يعلم كليات الأمور و جزئياتها قال تعالى: «وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ » ...

ص: 11

(له الإحاطة بكل شيء) و إحاطته بالأشياء علمه بها قبل وجودها و بعد وجودها من المجرة إلى الذرة و في التنزيل قوله: «أَلاٰ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ» ....

(و الغلبة لكل شيء) فهو المسيطر على الأشياء كلها و هي طوع إرادته، و بإرادته التكوينية تكون و بعد وجودها هو المسيطر عليها و الموجه لها و الذي يضعها مواضعها لا تخرج عن إرادته و لا تتمرد على مشيئته....

(و القوة على كل شيء) له القوة على كل شيء يستطيع إفناؤه كما يستطيع إبقاؤه و قدرته بالنسبة إلى الأمرين على حد سواء فلا يعجزه شيء في السماء و لا في الأرض...

(فليعمل العامل منكم في أيام مهله قبل إرهاق أجله) هذا هو بيت القصيد و إليه سيقت المقدمة و قد أمر بالعمل للقادر منا في أيام الحياة و مدة البقاء فإن الإنسان في سعة قد أخر اللّه له الأجل و تركه في أيام عمره الطويلة ليؤدي ما عليه أما إذا حل الأجل و سقط الموت عليه انقطع عندها العمل و لم يعد للسعي محل... فالعمل في دار الدنيا فإذا حضر الموت ارتفع التكليف و بطل العمل...

(و في فراغه قبل أوان شغله) و يمكن للإنسان أن يعمل و يجد و يجتهد في حال الحياة التي هي حالة الفراغ فلا يشغله احتضار و لا تمنعه آلامه و مصائبه أما و إنه إذا حلّ الموت فإنه يمنع الإنسان عن العمل و يشغله بما يصيبه من ألم و عذاب...

(و في متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه) قبل أن يأتيه الموت بضيقه المانع من تنفسه فليأخذ في وقت راحته و فرصته قبل تلك الساعة الصعبة الحرجة الضيقة...

(و ليمهد لنفسه و قدمه) يعمل عملا ترتاح إليه نفسه فيما بعد كما قال تعالى:

«وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ لِغَدٍ» بأن يعمل الصالحات و يجتنب المحرمات و يستعد للقاء اللّه و حكمه...

(و ليتزود من دار ظعنه لدار إقامته) يعمل كل واحد و هو في هذه الدار الراحل عنها و هي الدنيا إلى الدار الخالد فيها و هي الآخرة...

(فاللّه اللّه أيها الناس فيما استحفظكم من كتابه و استودعكم من حقوقه) أغراهم بتقوى اللّه الذي وكلهم في حفظ كتابه و حفظه إنما يكون بالعمل به و تنفيذ حكمه كما أوصاهم بالقيام بما ائتمنهم عليه من أحكامه و هي واجباته و محرماته...

(فإن اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا و لم يترككم سدى) لم يخلق اللّه هذا الإنسان

ص: 12

بدون غاية بل خلقه من أجل أن يتكامل و يتسامى و يترقى حتى يبلغ القمة في الكمال كما و إنه لم يتركنا بدون تنظيم و ترتيب و إنما نظمنا و رتب أمورنا، إنه وضع برنامجا حياتيا لهذا الإنسان منذ تكوينه و إلى أن تنقضي حياته...

(و لم يدعكم في جهالة و لا عمى) لم يتركنا في ضلال و حيرة دون رؤية نافذة و نظرة ثاقبة و حجة ظاهرة و إنما زودنا بالعقل كما أرسل لنا الأنبياء هداة مبشرين و منذرين قد أوضحوا لنا الطريق و بينوا لنا سبل العدل و الحق...

(قد سمى آثاركم و علم أعمالكم و كتب آجالكم) قد بين لكم أعمالكم خيرها و شرها فرغبكم في الأولى و نهاكم عن الثانية و علم ما تعملون من خير و شر و كتب أعماركم و مدتها من جهة طولها و قصرها و ما فيها من سعادة أو شقاء...

(و أنزل عليكم الكتاب تبيانا لكل شيء) فاللّه أنزل القرآن فيه عناوين الأشياء و قواعدها العامة التي عنها تتفرع الأحكام و منها تؤخذ، في القرآن أوضحت الأمور و لم يبق شيء مغلق أو غير ظاهر...

(و عمر فيكم نبيه أزمانا حتى أكمل له و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه) يذكّر هذا الإنسان بمنة اللّه عليه إنه سبحانه كتب لنبيه المصطفى عمرا عاش فيه بين أظهر المسلمين حتى اكتمل نزول القرآن عليه و بذلك اكتمل الدين و تمت النعمة كما قال تعالى: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً» ...

(و أنهى إليكم - على لسانه - محابه من الأعمال و مكارهه و نواهيه و أوامره) و هذه مهمة النبي و دوره من حيث أنه المبين لمراد اللّه و الشارح لكتابه فإنه صلوات اللّه عليه جعل اللّه كلامه حجة فقال: (ما أتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا...) و بهذا جعل قول الرسول و فعله و تقريره على مستوى القرآن في الحجية و القبول، لا يرفضه مسلم و لا يرد عليه مؤمن و من صدر منه شيء من ذلك فليراجع قواعده و يصحح إيمانه و الرسول قد أوضح ما يحب اللّه و ما يكره فأمر بالخيرات و نهى عن السيئات كما أوضح نواهي اللّه و أوامره فقد نهى عن الزنا و السرقة و التمرد و أمر بالعفة و الأمانة و الطاعة...

(و ألقى إليكم المعذرة و اتخذ عليكم الحجة) أبلغكم معذرته فيما إذا عاقبكم لأنه لا يكون منه عقاب إلا بعد البيان و إيصاله إلى المكلفين كما إنه سبحانه جعل لنفسه الحجة عليهم فيما أتاهم و بلغهم من حيث حكمته و إرساله لهم الأنبياء و الرسل...

ص: 13

(و قدم إليكم بالوعيد و أنذركم بين يدي عذاب شديد) قبل العقاب و الأخذ بالعذاب هدّد المكلفين و خوفهم عصيانه ثم أنذرهم بأن أمامهم عذاب شديد إن تمردوا و عصوا و خالفوا أمره...

(فاستدركوا بقية أيامكم و اصبروا لها أنفسكم فإنها قليل في كثير الأيام التي تكون منكم فيها الغفلة و التشاغل عن الموعظة) انظروا إلى ما بقي من أعماركم و تداركوا ما فاتكم من الخيرات في أيامكم الماضية فإذا كان الإنسان قد قصّر فيما مضى من عمره فيجب أن يتدارك ذلك و يجبره فيما بقي منه و ليأخذ الصبر مطيته على ما سيقوم به و يعمله فإن أيام اليقظة و العمل قليلة بالنسبة إلى أيام الغفلة و نسيان الأعمال و ارتكاب المعاصي إما لأن أيام الغفلة و المعصية أكبر على وجه الحقيقة و إما لأنها مفسدة للنفس و لفسادها كانت أكبر...

(و لا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة) لا تجعلوا لأنفسكم رخصة في ارتكاب بعض الأمور المكروهة أو الصغائر فإنها تجركم إلى الانحراف و تدخلون مع الظالمين في انحرافهم و معصيتهم فإن النفس و ما تعودت و إذا اعتادت اجترأت و انحرفت...

(و لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية) لا تنافقوا على أنفسكم و تظهروا خلاف ما تضمرون فإن ذلك يصبح عادة و يجر على المعصية لأنه يصبح قاعدة عامة عندها ينحرف بها عن الاستقامة و النزاهة...

(عباد اللّه إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه و إن أغشهم لنفسه أعصاهم لربه) و هذه نصائح و مواعظ بها يتحرك الإنسان نحو منافعه و مصالحه و يجتنب عن مضاره و مفاسده و قد بيّن أن أنصح الناس لنفسه هو ذلك الذي يلتزم أوامر اللّه و طاعته لأن هذه الطاعة تدخله الجنة و هي أقصى ما ينشده الإنسان من السعادة..

و في مقابلها يكون أغش الناس لنفسه من أدخلها النار بمعصيته للّه و تمرده على حكمه...

(و المغبون من غبن نفسه) لما كان اللّه قد اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة فمن باع نفسه بغير ذلك فهو الخاسر و يكون هو المخدوع و المغبون و هل هناك أخسر صفقة من إنسان يبيع نفسه ببعض ملذات الدنيا الفانية و لا يبيعها بملذات الآخرة الباقية...

(و المغبوط من سلم له دينه) الذي ترغبه الناس و تحبه و تريد أن تكون مثله هو الذي

ص: 14

سلم له دينه فلم يرتكب معصية و لم يسلك سبيلا منحرفا...

(و السعيد من وعظ بغيره) من اعتبر بحال غيره من الأشقياء و التعساء و الذين أصيبوا بالنكبات هو السعيد لأنه اجتنب ما حل بغيره و اعتبر بهم، اللهم اجعلني اعتبر بغيري و لا تجعلني عبرة لغيري...

(و الشقي من انخدع لهواه و غروره) فإن من أطاع هواه فإلى جهنم أرداه و من استسلم لغروره فإلى النار حضوره و هل هناك أشقى من إنسان مصيره إلى النار و من هنا يجب أن يجتنب كل واحد هواه و غروره...

(و اعلموا أن يسير الرياء شرك) الرياء هو العمل لغير اللّه فهو يصلي ليراه الناس و يحسن عباداته ليمدحه الناس و هكذا دواليك و هذا مهما كان حقيرا أو صغيرا فهو إشراك باللّه لكن ليس شركا في الذات و إنما إشراك في العبادة و هو حرام و مبطل للعمل...

(و مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان و محضرة للشيطان) و أهل الهوى هم الذين استسلموا لشهواتهم و رغباتهم فراحوا يلهون و يلعبون بل أصحاب الباطل و الفساد هؤلاء يعيشون الانحراف في مجالسهم من غيبة و نميمة و فجور و فسوق و من جالسهم نسي إيمانه و متطلباته كما إنه يطيع الشيطان في هذه المجالس حيث يتأثر بهم و يتخلق بأخلاقهم و قد توجه النهي إلينا عن معاشرتهم و مجالستهم في كثير من الأحاديث لئلا نتأثر بهم و تنتقل إلينا عدوى الانحراف منهم...

(جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان، الصادق على شفا منجاة و كرامة و الكاذب على شرف مهواة و مهانة) ابتعدوا عن الكذب و لا تقتربوا منه أو تمارسوه لأنه مخالف للإيمان و مناقض له فلا يجتمع الإيمان و الكذب في قلب إنسان...

ثم بيّن آثار الكذب و آثار الصدق فقال إن الصادق على جانب النجاة و الكرامة أما في الدنيا فهو الثقة المأمون و ألسنة الناس تحمده و تشكره و تثني عليه و أما في الآخرة فإنه من أصحاب الجنة و أهلها لأن من صدق في أقواله صدق في أفعاله و من اعتقد في جوانحه مارس الصدق في جوارحه و من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أخذ تشريعه عن اللّه بواسطة رسول اللّه و صدّق القول بالعمل بمضمون هذه الشهادة...

و أما الكاذب فهو على عكس ذلك فهو مشرف على الهلاك مقارب له تلحقه ذلة و مهانة أما في الدنيا فيكفي أن تلحقه صفة كاذب لتحمل معها كل توابعها من عدم الثقة به أو الأمانة له و عدم الاطمئنان لكل عمل يقوم به و أما في الآخرة فإنه لحرمة هذا الفعل

ص: 15

شرعا يكون مصيره إلى النار حيث العذاب و الهوان...

(و لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب) نهى عليه السلام أن يحسد بعضهم بعضا و الحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير دون أن تعود إلى الحاسد نفسه و الحسد مرض في القلب يؤذيه أن يرى الناس بخير و عافية فيتمنى زوالها عنهم و هذا أفظع الأمراض و أشدها فتكا و قد نهى اللّه عنه و نهى رسوله و قد ذكر الإمام هذا القول الكريم بأن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب فإن الحسد يضاد إرادة اللّه و نوع احتجاج عليه بعطائه للخلق و هو مناف للتسليم بحكمته و ما يصدر عنه...

(و لا تباغضوا فإنها الحالقة) نهى عليه السلام عن التباغض لأنه يؤدي إلى المهاترة و عدم التعاون و متى بغض الإنسان أخاه قطعه و إذا قطعه و انفصل عنه أدى ذلك إلى ضعفه و انحلاله و هكذا يقضي على عامل القوة و الرقي و بذلك يأتي على نفسه و على أخيه فيكون الانحلال و يكون موت الأمم و الشعب...

(و اعلموا أن الأمل يسهي العقل و ينسي الذكر فأكذبوا الأمل فإنه غرور و صاحبه مغرور) و هذا نهي عن الأمل الذي يجر إلى سهو العقل عما يفيد و ينفع في الدنيا و في الآخرة فإن من يعيش الآمال يسهى عن التفكر فيما ينفع و ينسى صاحبه ذكر اللّه.

ثم أمر أن نكذب الأمل و ذلك بعدم الانجرار و رءاه فإنه خداع و مكر و صاحبه مخدوع و مغرور...

ص: 16

87 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي في بيان صفات المتقين و صفات الفساق و التنبيه إلى مكان العترة الطيبة و الظن الخاطئ لبعض الناس

صفات المتقين

عباد اللّه، إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه، فاستشعر الحزن (1)، و تجلبب الخوف (2)، فزهر مصباح الهدى (3) في قلبه، و أعدّ (4) القرى (5) ليومه النّازل به، فقرّب على نفسه البعيد، و هوّن الشّديد (6). نظر فأبصر، و ذكر فاستكثر، و ارتوى (7) من عذب فرات سهّلت (8) له موارده (9)، فشرب نهلا (10)، و سلك سبيلا جددا (11). قد خلع (12) سرابيل (13) الشّهوات، و تخلّى (14) من الهموم (15)، إلاّ همّا واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى، و مشاركة أهل الهوى (16)، و صار من مفاتيح أبواب الهدى، و مغاليق (17) أبواب الرّدى. قد أبصر طريقه، و سلك سبيله (18)، و عرف مناره (19)، و قطع غماره (20)، و استمسك من العرى (21) بأوثقها، و من الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه (22) للّه - سبحانه - في أرفع الأمور، من إصدار (23) كلّ وارد (24) عليه، و تصيير كلّ فرع إلى أصله. مصباح ظلمات، كشّاف عشوات (25)، مفتاح مبهمات (26)، دفّاع معضلات (27)، دليل (28) فلوات (29)، يقول فيفهم، و يسكت فيسلم. قد أخلص (30) للّه فاستخلصه (31)، فهو من معادن دينه، و أوتاد (32) أرضه. قد ألزم نفسه العدل، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن

ص: 17

نفسه، يصف الحقّ و يعمل به. لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها (33)، و لا مظنّة (34) إلاّ قصدها، قد أمكن (35) الكتاب من زمامه (36)، فهو قائده و إمامه، يحلّ حيث حلّ ثقله (37)، و ينزل حيث كان منزله.

صفات الفساق

و آخر قد تسمّى عالما و ليس به، فاقتبس (38) جهائل (39) من جهّال، و أضاليل (40) من ضلاّل، و نصب للنّاس أشراكا (41) من حبائل غرور، و قول، زور (42)، قد حمل الكتاب على آرائه، و عطف (43) الحقّ على أهوائه، يؤمن النّاس من العظائم (44)، و يهوّن (45) كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشّبهات، و فيها وقع، و يقول: أعتزل (46) البدع (47)، و بينها اضطجع (48)، فالصّورة صورة إنسان، و القلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه، و لا باب العمى فيصدّ عنه (49). و ذلك ميّت الأحياء!.

عترة النبي

«فأين تذهبون»؟ و أنّى تؤفكون (50)»! و الأعلام قائمة، و الآيات واضحة، و المنار منصوبة، فأين يتاه بكم (51)! و كيف تعمهون (52) و بينكم عترة (53) نبيّكم! و هم أزمّة (54) الحقّ ، و أعلام الدّين، و ألسنة الصّدق! فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود اليهم (56) العطاش.

أيّها النّاس، خذوها عن خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت، و يبلى (57) من بلي منّا و ليس ببال» فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون، و اعذروا من لا حجّة لكم عليه - و هو أنا -، ألم أعمل فيكم بالثّقل الاّكبر (58)! و أترك فيكم الثّقل

ص: 18

الأصغر! قد ركزت (59) فيكم راية (60) الإيمان، و وقفتكم على حدود الحلال و الحرام، و ألبستكم العافية من عدلي، و فرشتكم (61) المعروف من قولي و فعلي، و أريتكم كرائم الأخلاق من نفسي، فلا تستعملوا الرّأي فيما لا يدرك قعره (62) البصر، و لا تتغلغل (63) إليه الفكر.

ظن خاطئ

و منها: حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولة (64) على بني أميّة، تمنحهم (65) درّها (66)، و توردهم صفوها، و لا يرفع عن هذه الأمّة سوطها و لا سيفها، و كذب الظّانّ لذلك. بل هي مجّة (67) من لذيذ العيش يتطعّمونها (68) برهة (69)، ثمّ يلفظونها (70) جملة!.

اللغة

1 - استشعر الحزن: أي جعله كالشعار و هو ما يلي البدن من الثياب.

2 - تجلبب الخوف: أي جعله جلباب أي ثوبا.

3 - زهر مصباح الهدى: أضاء.

4 - أعد: هيأ.

5 - القرى: الضيافة ما يعد الرجل لأضيافه.

6 - هوّن الشديد: سهلّه و خفّفه.

7 - ارتوى: شرب و شبع.

8 - سهّلت: يسرّت.

9 - الموارد: جمع مورد موضع الورود، الطريق إلى الماء.

10 - النهل: أول الشرب.

11 - الجدد: بالتحريك الأرض الصلبة المستوية.

12 - خلع: نزع.

13 - السرابيل: القمصان.

14 - تخلى: تبرأ، و ترك.

ص: 19

15 - الهموم: الحزن، القلق الذي يصيب المرء من جراء أمر يفكر فيه.

16 - الهوى: ما نستلذه النفس و ترغب فيه.

17 - المغاليق: جمع مغلاق ما يغلق به الباب.

18 - السبيل: الطريق.

19 - المنار: الاعلام.

20 - الغمار: جمع غمرة و هي الزحمة من كثرة الناس و الماء و نحوه.

21 - العرى: جمع عروة.

22 - نصب نفسه: أقامها.

23 - الصادر: الخارج.

24 - الوارد: ورد الماء صار إليه، الداخل.

25 - العشوات: جمع عشوة الأمر الملتبس.

26 - المبهمات: الأمور المغلقة غير الواضحة.

27 - المعضلات: جمع معضلة و هي الشدائد و الأمور التي لا يهتدى لوجهها.

28 - الدليل: المرشد.

29 - الفلوات: جمع فلاة و هي الصحراء الواسعة.

30 - أخلص: في الطاعة ترك الرياء فيها و الخالص الصافي.

31 - استخلص: الشيء اختاره.

32 - الأوتاد: جمع الوتد مارز في الحائط أو الأرض من خشب و نحوه.

33 - أمّها: قصدها.

34 - المظنة: للشيء حيث يظن وجوده.

35 - أمكن: أقدر.

36 - الزمام: المقود.

37 - الثقل: متاع المسافر و حشمه.

38 - اقتبس: من قبس من النار إذا أخذ منها شعلة و اقتبس منه العلم إذا أخذه منه.

39 - الجهائل: جمع جهالة.

40 - الأضاليل: الضلال جمع لا واحد له من لفظه.

41 - الأشراك: جمع الشرك محركة ما يصطاد به.

42 - قول الزور: قول الكذب.

43 - عطف: أمال و عطف الحق على رغباته حمله عليها.

44 - العظائم: جمع العظيمة، النازلة الشديدة، ما عظمه اللّه من الأعمال.

45 - هون الشيء: سهّله و خفّفه.

46 - اعتزل: الشيء تنحى عنه جانبا و الأعزل المنفرد.

ص: 20

47 - البدع: جمع بدعة و هو الشيء المستحدث و شرعا إدخال ما ليس من الدين على أنه منه.

48 - اضطجع: التقى على الأرض على جانبه.

49 - صد عنه: منع عنه.

50 - تؤفكون: تصرفون.

51 - التيه: الضلال و الحيرة.

52 - تعمهون: تتحيرون.

53 - العترة: للرجل أهله الأدنون و نسله.

54 - الأزمة: جمع زمام ما يقاد به البعير و شبهه من حبل و شبهه.

55 - الأعلام: جمع علم الراية و المنارة تنصب في الفلاة ليهتدى بها.

56 - الهيم: الإبل.

57 - يبلى: من بلى الثوب إذا رث.

58 - الثقل الأكبر: كتاب اللّه و إن كان الثقل في الأصل متاع المسافر و حشمه.

59 - ركزت: الرمح إذا أثبته.

60 - الراية: علم الجيش، العلامة المنصوبة لكي يراها الناس و هي أكبر من اللواء.

61 - فرشتكم: بسطت لكم.

62 - القعر: العمق من كل شيء، نهاية أسفله.

63 - تغلغل: دخل و تخلل بينها.

64 - معقولة: محبوسة.

65 - تمنحهم: تعطيهم.

66 - الدرّ: في الأصل اللبن و استعمل لكل خير و نفع.

67 - المجة: من مج الشراب إذا قذفه من فيه.

68 - يتطعمونها: يذوقونها.

69 - برهة: مدة من الزمان طويلة.

70 - يلفظونها: يرمونها.

الشرح

اشارة

(عباد اللّه إن من أحب عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه فاستشعر الحزن و تجلبب الخوف) في هذه الخطبة يشرح حال المتيقن و يذكر لهم أربعين وصفا كما قال

ص: 21

بعضهم و هي لم تتحقق إلا في الأئمة من أهل البيت عليهم السلام كما قال بعض آخر و على كل حال فعلينا جميعا أن نحاول قدر الإمكان في الاتصاف بهذه الصفات و الأقرب إلى اللّه هو ذلك الذي يجمع منها في نفسه أكثر من غيره...

و إن أحب عباد اللّه إلى اللّه هو ذلك الإنسان الذي يمده اللّه بالمعرفة و يقويه بالملكات النفسية الصالحة فينتصر على نفسه و لا يدعها ترتكب محرما أو تقترف إثما أو تخالف أمرا فإن النفس أمارة بالسوء تجر الإنسان إلى ارتكاب الحرام فمن أمده اللّه بمعونته و سدده في طريق الحق انتصر عليها و لم يسمح لها بالتعدي على حدود اللّه أو الخروج عن إرادته...

و من انتصر على نفسه و ردعها عن ارتكاب الحرام اتخذ الحزن شعارا له أي ملازما له لا يفارقه حزنا على ما فرط في جنب اللّه من حيث أنه اكتسب جرما أو امتنع عن قرب...

و كذلك تجلبب الخوف أي لبسه كالثوب و يعني بالخوف هو الخوف من اللّه و من عذابه و ناره و من خاف النار هرب منها و لا يكون ذلك إلا بالبعد عن المعصية و القيام بالطاعة و كما في الحديث يأبى اللّه أن يجمع للمؤمن خوفين في قلبه، خوف الدنيا و خوف الآخرة فمن خاف في الدنيا أمن في الآخرة...

(فزهر مصباح الهدى في قلبه) من أعانه اللّه على نفسه فاستشعر الحزن و تجلبب الخوف كانت النتيجة لهذا أن انفتح قلبه على اللّه فأخذ يعيش الحقائق الإلهية و يتذوق طعم التشريع و يؤمن بحكمة الخالق المشرع فيقبل على امتثال الأوامر و يبتعد عما نهى اللّه عنه...

(و أعد القرى ليومه النازل به) لا بد و أن يزورنا الموت فهو ضيف سيحل بساحتنا و ينيخ بركابه بيننا و لا بد لكل ضيف من قرى - ضيافة تعد له و تهيأ - و كل منا يبذل قدرته و ما يطيق من أجل أن يخرج ضيفه من عنده و هو في فرح و سرور و كله لسان مدح له و ثناء...

و الموت ضيفنا النازل بنا و ضيافته الأعمال الصالحة منا و الاستعداد له بالطاعات و القيام بالواجبات، فإذا التزمنا بذلك نكون قد قريناه أجل قرى و أعظمه و أشرق وجهنا فرحا و سرورا...

(فقرّب على نفسه البعيد و هوّن الشديد) قالوا إن المقصود بالبعيد عنا الموت و قالوا إنه رحمة اللّه و قالوا إنه الأمل الذي يأمله الإنسان و أقول ربما كان المقصود به لقاء اللّه

ص: 22

و من قرب لقاءه مع اللّه استعد لهذا اللقاء و لا يكون ذلك إلا بالتقوى و إصلاح النفس و الطاعة للّه. و أما تهوين الشديد فهو تسهيل الأوامر التي لا تتوافق مع أهواء النفس و ميولها فييسرها الإنسان و يخفّفها على نفسه فيقوم بها و يمتثلها...

(نظر فأبصر) نظر بعين البصيرة و العقل إلى الكون و ما فيه فأدرك حكمة اللّه و غايته و ما هو المطلوب منه كإنسان اختاره اللّه على جميع مخلوقاته قال تعالى:(1)«إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ» ...

(و ذكر فاستكثر) ذكر اللّه فأكثر من ذكره حتى أصبح الذكر ملكة له يمارسه في كل لحظات حياته و ليس الذكر هو سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه بل هو الأعم و الأشمل من ذلك هو التوقف عن معصية اللّه و العمل بطاعته...

(و ارتوى من عذب فرات سهلت له موارده) أخذ من العلوم الإلهية الصحيحة عن الطرق السليمة الموصلة إلى الحقيقة،... أخذ من أحكام اللّه و تعاليمه ما جاءت به الرسل و ذلك عن طرق الأئمة الهداة الذين اختارهم اللّه لأداء هذا الدور و قد قام أئمة أهل البيت بنقل ما جاء عن جدهم الرسول الأعظم و لا نجد طريقا إليه أشرف و أنظف و أطهر و أصدق من هذا الطريق...

(فشرب نهلا و سلك سبيلا جددا) أخذ العلوم كاملة و دفعة واحدة فعرف العقائد و الأحكام و الحلال و الحرام و سار في طريق اللّه الواضح البيّن الذي لا ينحرف عنه يمينا أو شمالا إنها الطريق الوسطى التي لا إفراط فيها و لا تفريط...

(قد خلع سرابيل الشهوات) أي تخلى عما يصده عن الحق و يحول بينه و بين لقاء اللّه فكل ما ترغب فيه النفس من مجالس الهوى و حب الغيبة و النميمة و غيرها قد هجره و فارقه و لم يلتفت إليه...

(و تخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به) لم تشغل باله هموم الدنيا و ما فيها لأنه يراها لا تستحق الهم لحاقرة ما فيها و صغره، نعم هناك هم واحد استولى على قلبه و انفرد به إنه رضا اللّه من أجله أصيب بالهم و من أجله لم يستقر، إنه يبحث عن مواقع رضا اللّه باستمرار و أين ما كان و في أي زمان كان...1.

ص: 23


1- سورة آل عمران، الآية: 191.

(فخرج من صفة العمى و مشاركة أهل الهوى) انكشفت الأمور أمامه و اتضحت معالمها عنده فرأى الحقيقة واضحة جلية و خرج من بين أهل الهوى و لم يبق معهم في ضلالهم و سوء رأيهم و انحرافهم...

(و صار من مفاتيح أبواب الهدى و مغاليق أبواب الردى) صار داعية إلى اللّه يهدي الناس إلى الخير و يرشدهم إلى الحق و يأخذ بأيديهم إلى ما فيه صلاح دينهم و دنياهم.

و كذلك أضحى يرد الشبهات عن الناس و يحل المعضلات و يزيل من طريقهم كل ما يشككهم بدينهم أو يزلزل عقيدتهم و يحرفهم عن العدل و الاستقامة...

(قد أبصر طريقه و سلك سبيله) رأى السبيل الذي يجب أن يكون عليه، رآه واضحا ظاهرا إنه منه كضوء الشمس عرفه صحيحا سليما لم يتردد فيه أو يشك في صحته و أيضا لم يكتف برؤية الطريق بل سلك السبيل الذي يجب عليه أن يسلكه و الذي يتعين عليه أن يطرقه فقرن النظرية بالتطبيق و الإيمان بالعمل...

(و عرف مناره و قطع غماره) فهناك هدف أعلى متوجه إليه يهديه إلى الحق إنه النبي و الأئمة الذين يشكلون منارات على الهدف فيهدون التائهين و يردون الضالين كما إنه قد تجاوز ما يلهي أبناء الدنيا و يشغلهم عن اللّه و يغمرهم من ملاذها و مشتهياتها...

(و استمسك من العرى بأوثقها) فمن تمسك بالعروة القوية المتينة نجا كذلك من استمسك بالإيمان باللّه و العمل بما أمر فقد استمسك بأشد العرى و أمتنها و أقواها و أعظمها قال تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّٰاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىٰ لاَ اِنْفِصٰامَ لَهٰا» ...

(و من الحبال بأمتنها) و من كان له حبل قوي متين اعتمد عليه في نزوله إلى مكان منخفض أو صعوده إلى مكان عال كان في مأمن من الخطر لا يصيبه خوف و لا فزع و كذلك من التزم بالإسلام و اعتمد على القرآن و نفذ أوامر اللّه فهو في راحة و اطمئنان...

(فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس) فكما يرى الشمس واضحة ظاهرة فاليقين في نفسه كذلك فهو ثابت مستقر آمن باللّه بدون شك و عمل بما أمر بدون تردد...

(قد نصب نفسه للّه - سبحانه - في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه و تصيير كل فرع إلى أصله) بعد أن كملت نفسه و استطاع أن يحملها على الحق جلس في أرفع المجالس و أعظمها و هي الفتوى التي يردّ بها على أسئلة الناس و حاجاتهم و كان لمعرفته بالأحكام و طرق الاجتهاد يرجع الفروع إلى الأصول على طريقة أهل الاجتهاد.

ص: 24

و هذا المجلس هو للأنبياء و لأوصيائهم من بعدهم ثم بعد غياب الإمام صاحب الزمان الذي له الحكم و إدارة أمور الناس يرجع الأمر إلى الفقهاء العدول الذين بلغوا درجة الاجتهاد و قد تولى سدة هذا الأمر في زماننا آية اللّه العظمى السيد أبو القاسم الخوئي الذي يتعرض للاضطهاد من قبل حكام العراق البعثيين و لا نملك حولا و لا قوة لرفع ذلك عنه نعم لا نملك إلا الدعاء أكتب هذه الكلمات صبيحة يوم الأحد بتاريخ الحادي و العشرين من شهر شوال سنة إحدى عشر بعد الأربعمائة و الألف للهجرة في بيروت عاصمة لبنان و قد انقطعت الأخبار عن المرجع الأعلى و عن الحوزة العلمية في النجف الأشرف...

(مصباح ظلمات) إنه بعلمه يكشف ظلمات الجهل و عدم المعرفة كما يكشف المصباح ظلمات الليل و سواده...

(كشاف عشوات) يكشف بعلمه و بيانه ما التبس على الناس من الأحكام و الآراء و الأمور و القضايا...

(مفتاح مبهمات) على يديه تحلّ مستعصيات المسائل و معضلاتها، فما توقف الناس في فهمه و استيعابه استطاع أن يحله و يفتح وعيهم على حقيقته...

(دفاع معضلات) فما استغلق من القضايا الصعبة و لم يعرف وجه الحل فيها كان هو الذي يحلها و يفك رموزها و يفصل وجه الحق فيها...

(دليل فلوات) ففي حين لا يخرج من قلب الصحراء إلا من كان عارفا بها و بعلامات النجاة فيها كذلك لا ينجو من التشويش و الاضطراب في الدين إلا من كان له قائد و مرجع خبير بالفقه و الدين و هذا العبد الصالح الذي أعانه اللّه على نفسه و استجمع باقي الصفات فهو دليل على الحق يرشد الضال و يهدي التائه و يرد من انحرف أو مال...

(يقول فيفهم) إذا قال فهو يمتلك ناصية الكلام لوضوح المعنى و جلاءه عنده فيفهم غيره ببيانه و بحقه الذي عنده...

(و يسكت فيسلم) يسكت عند ما يقتضي الأمر السكوت كأن يكون أمام ظالم متجبر تفقد الكلمة أثرها أمامه و لا يعود لها دور فيسلم من أذاه، أو يسكت أمام من لا يقبل قوله من الجهال فيسلم من جهلهم و غبائهم...

(قد أخلص للّه فاستخلصه) لم ير مع اللّه أحدا في عمله، بل كل عمل قام به فهو

ص: 25

خالص لوجه اللّه لم يشرك معه أحد من خلقه فعندها اصطفاه اللّه و اختاره فأفاض عليه من الكمالات ما جعله في طليعة البشر من الأنبياء و الأوصياء و الأئمة و العباد الصالحين...

(فهو من معادن دينه) فكما أن الذهب و الفضة يخرجان من المعدن فإن الدين يخرج من هذا الإنسان الصالح الخالص للّه في العبودية الذي استجمع ما تبقى من الصفات...

(و أوتاد أرضه) بهذا الرجل و بأمثاله تثبت الأرض و تستقر كما وردت الأخبار بأن الأرض لساخت بأهلها لو لا الإمام المعصوم هذا إذا كان الأمر على وجه الحقيقة أما إذا أريد به المجاز فربما كان المقصود أن هذا الرجل الموصوف بهذه الأوصاف و الذي ينطبق على الأئمة من أهل البيت تستقر الأرض أي لا يكون هناك فوضى و اضطراب في الأحكام لأن الإمام هو الذي يتولى بيانها و توضيحها و يرفع الاختلاف من بين الناس...

(قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه) و هذه صفة من صفات هذا العبد الصالح إنه جعل العدل لازما له لا ينفك عنه أو يتخلى عن العمل به، ألزم نفسه العدل فهو عادل مع نفسه و عادل مع الآخرين و أول عدله و بدايته كان في نفي الهوى عن نفسه حيث لم يطع شهوات بدنه و لم يأخذه هواه إلى ما يريد بل وقف من هوى النفس موقوف الرافض له و المتنكر لحكمه... و ما يريد.. و عند ما ينتفي الهوى عند الإنسان و يقطع علاقته به يحصل على أرفع درجات العدالة لأنه يكون قد قضى على جذور الانحراف في نفسه...

(يصف الحق و يعمل به) يقرن القول بالعمل فعند ما يقول إن العدل مرغوب فيه يكون عادلا بفعله و قوله و موقفه و عند ما يقول الخير محبوب و مطلوب يبادر إلى عمل الخير فيحسن إلى الناس و يعينهم و يقضي حاجاتهم و يسد عوزهم و هكذا دواليك...

(لا يدع للخير غاية إلا أمها و لا مظنة إلا قصدها) فهو يبحث عن الخير إلى نهاية الخير، فلا يكتفي منه بما يقع تحت نظره و يده بل يبحث عن جذور الخير و أعلى مراتبه.

كما أنه يبحث عنه فيما يظن أنه يكون فيه فلو ظن أنه في مجالس الزهاد و العباد أو العلماء و أهل العرفان لقصدها و توجه إليها و كان عندها...

(قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده و إمامه يحل حيث حل ثقله و ينزل حيث كان منزله) سلّم أمره إلى كتاب اللّه و استسلم لحكمه فهو قائده إلى حيث أراد و إمامه حيث كان فحيثما حلل أمرا أو حرم أمرا كان هو عند تحليله و تحريمه لا يخرج عن ذلك أو

ص: 26

ينحرف عنه، إنه يحتكم إلى القرآن في كل قضاياه و يقبل بحكمه في كل شيء و هكذا تكون أوصاف العالم باللّه العارف به...

(و آخر قد تسمى عالما و ليس به) بعد أن ذكر أوصاف العارف باللّه الذي كان من أحب عباده إليه ذكر هنا بعض أوصاف من انحرف عن اللّه و خصّ بالذكر من تسمى بالعالم لخطره و قبح أثره.

فهذا رجل تسمى بالعالم، أطلقوا عليه هذه الصفة و هو عار عن حقيقتها، ليس له منها إلا الثوب،.. تسمى بالعالم أما من سماه ؟ و من أطلق عليه الاسم ؟ و هل يستحق ذلك فكل ذلك مجهول لم يعرف له في دنيا العلماء أثر لا في المنطق و لا في السلوك و لا في العلم...

و قد كثرت عندنا المسميات في هذه الأيام و انتشرت هذه الألقاب و قد كثر من تسمى بالعلماء و لكن بمقدار كثرتهم قلّت قيمتهم و سقط احترامهم فلقد هاجرنا إلى طلب العلم سنة 1964 ميلادية و لم يكن من منطقة البقاع كلها إلا نفر لا يتجاوزون العشرة و قد كان سفرنا خالصا لوجه اللّه حيث لا زعامة للعمامة و لا وجاهة للعلماء، بل سفرنا كان للّه خالصا من أجل أن نطلب العلم و نهدي الناس و نوجههم.

و الآن و نحن في سنة 1991 بعد أن أصبحت العمامة ذات احترام و تقدير و عن طريقها تكون الزعامة و الإثراء و الوجاهة، أقول بعد أن أصبحت العمامة هي أقصر طريق إلى المجد أضحى عندنا ما يقارب المائة عمامة و بعضهم قد عرفنا توجهه هذا من يومه الأول الذي اعتمر فيه العمامة...

(اقتبس جهائل من جهال و أضاليل من ضلال) أخذ من أصحاب الجهل بعض جهله كما أخذ من الضلال ضلاله و انحرافه و جمع بين الجهل و الضلال لأن من علّمه جاهل و ضال فكيف يكون حاله و إلى أين مآله...

(و نصب للناس أشراكا من حبائل غرور و قول زور) فهو صاحب خدع فجعل ما يخدع الناس به كالشرك يصطاد به قلوبهم و يستميلها إليه، فهو يملك المظهر الذي يغري به النسا و يجذبهم إليه كما يملك كلمات العلماء ظاهرا، يظهر التنسك و الوقار و في قلبه حقد و نار...

(قد حمل الكتاب على آرائه) ففي حين كان العالم العرفاني يخضع لحكم الكتاب و يتخذه إماما و بيده الزمام فهذا الفاسق يعكس الأمر إنه يطوع الآيات لصالحه، إذا أراد أمرا التمس له من الكتاب عذرا و لو لم يكن ظاهرا فيه أو يدل عليه بل يحاول و بأي طريق

ص: 27

كان أن يحمل الكتاب على مقصوده و إنه يدل عليه و هذا ما نجده في كثير من المذاهب حيث احتالوا على النصوص و أخرجوها عن مداليلها من أجل أن توافق مذاهبهم و تنسجم مع فتاوى رؤسائهم...

(و عطف الحق على أهوائه) جعل الحق تابعا لهواه فكل ما يشتهيه أو يراه حسنا فهو حق عنده و حسن...

(يؤمن الناس من العظائم و يهون كبير الجرائم) يقول للناس المذنبين المسيئين الذين يرتكبون المعاصي الكبيرة إن اللّه رحمن رحيم لا يعذبهم و لا يؤاخذهم بذنوبهم بعد إيمانهم، إنه يؤمنهم عقابه لرحمته و إنه أجل من أن يؤاخذ هذا الإنسان الضعيف.

و كذلك يهوّن كبائر الذنوب و يصغرها يقول إنها تمحى و لا تبقى، سوف يأتي عليها عفو اللّه و تشمل أصحابها شفاعة الرسول و الأئمة...

(يقول: أقف عند الشبهات و فيها وقع) و هذه غريبة من غرائب أطواره و واحدة من جهالاته إنه يقول للناس إنه الورع التقي و لورعه و تقاه لا يرتكب ما يشتبه به و لكن لجهله بمواقع الشبهات يرتكبها بدون أن يدري...

(و يقول اعتزل البدع و بينها اضطجع) و هذه دعوة من جملة دعاويه التي يقولها و يخالفها إنه يقول أنه يعتزل البدع فما كان بدعة يدعي اجتنابه و لكن هي الحقيقة يمارسه بعمله و يقوم به في سلوكه كمن يقول ذلك من علماء العامة حيث يتبرأ من البدع و يستنكر على فاعلها و لكنه في نفس الوقت يمارس ما ابتدعه عمر و أدخله في الدين و الدين بريء منه كصلاة التراويح التي ابتدعها عمر و أقر بذلك هو نفسه و اعترف ببدعته كل من اتبعه و لكنه لم يستنكرها و لم يقدر على التخلي عنها...

(فالصورة صورة إنسان و القلب قلب حيوان) فهو يمتلك هيكلا بشريا ضخما كاملا يملك الصورة البشرية، من الرأس و العين و الأذن و الفم و اليدين و الرجلين و لكن هل بهذه الصورة فحسب امتاز الإنسان عن الحيوان كلا ثم كلا بل يمتاز الإنسان بعقله و فكره و تحليله للأمور..، يمتاز بعمله بالحق و بعده عن الباطل و انتصاره للعدل و ثورته على الظلم،.. يمتاز بإيمانه و استقامته و عدالته..، و لذا يتحول الإنسان الفاقد لهذه المعاني إلى حيوان في صورة إنسان كما قال تعالى: «إِنْ هُمْ إِلاّٰ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (1)..4.

ص: 28


1- سورة الفرقان، الآية: 44.

(لا يعرف باب الهدى فيتبعه و لا باب العمى فيصد عنه و ذلك ميت الأحياء) إنه لجهله و عماه لم يعرف باب الهدى فيطرقه و يدخل منه إلا الهدى.. لم يهتد الطريق السليم الذي شرّعه اللّه و سنه فهو يخبط و يضل كما إنه لا يعرف باب الضلال و الردى ليجتنبه و يبتعد عنه فهو لجهله أعمى عن طريق الحق حتى يسلكه كما هو أعمى عن طريق الباطل ليجتنبه.. فهو قد انحرف عن باب الهدى لأنه لم يضع يده على مفتاح الهدى و هم آل محمد ثقل النبي و عترته كما إنه يعيش الباطل و لا يدري بذلك لأنه لا يعرف أن أئمته أئمة السوء هم الذين أضلوه و انحرفوا به إلى غير الحق.. فهو و الحالة هذه ميت بين الأحياء لأنه لا يميز الحق من الباطل و لا يعرف باب كل منها ليدخل منه إلى الحق و يخرج من الباطل...

(فأين تذهبون ؟ و أنى تؤفكون) لما بيّن طريق العارفين و طريق الفاسقين و مواصفات كل منهما أراد أن يبيّن أعلام الحق و الهدى فاستفهم على سبيل الإنكار لما هم عليه و لما ذهبوا إليه بأنهم أي طريق باطل تذهبون فيه و متى تصرفون عن باطلكم الذي أنتم فيه إلى العدل و الحق...

(و الأعلام قائمة) راية الحق المنصوبة بين الخلق الذين هم الأئمة الهداة الذين اختارهم اللّه خلفاء بعد نبيه...

(و الآيات واضحة) العلامات الدالة على الحق ظاهرة بينة أمام أعين الناس فإن النبي قد بيّنها و أظهرها و أوضحها...

(و المنار منصوبة) ما يهتدى به قائم مرفوع واضح لكل عين بصيرة...

(فأين يتاه بكم و كيف تعمهون) تأكيد لما تقدم و استنكار أن يجرهم الهوى إلى غير الحق و أن يعموا عن المنهج السديد و الطريق الرشيد و هذا تمهيد لما سيبينه و يوضحه من الطريق المستقيم...

(و بينكم عترة نبيكم و هم أزمة الحق و أعلام الدين و ألسنة الصدق) بعد أن استنكر على الناس ذهابهم في غير طريق الحق و انصرافهم عن الهوى و قال إن هناك الأعلام قائمة و المنارات منصوبة بيّن تلك الأعلام و المنارات.. إنهم عترة النبي و آله الذين هم أزمة الحق فكيف داروا يدور معهم الحق و كيف اتجهوا أتجه فهم الزمام للدين و الحق و العدل كما إنهم أعلام الدين و راياته التي تدل عليه و تهدي إليه لا يتيه من أمهم و قصد جنابهم كما إنهم المتكلمون بالصدق عنه المفصحون عن مضمونه و كنهه المؤدون له إلى الناس على حقيقته...

ص: 29

عترة النبي:

عترة النبي هم أهله الأدنون و نسله و هم ينحصرون في فاطمة الزهراء و بعلها و ابنيها و هذا ما دلت عليه الروايات و سنّة الرسول العملية فقد أفصح صلوات اللّه عليه ببيان ذلك بحيث منع نساءه أن تشملهم لفظة الآل كما روى ذلك أحمد بن حنبل في مسنده ج 6 ص 323 فقد روى بسنده عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن رسول اللّه قال لفاطمة عليها السلام: ائتني(1) بزوجك و ابنيك فجاءت بهم فألقى عليهم كساء فدكيا (قال)، ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك و بركاتك على محمد و على آل محمد إنك حميد مجيد.

قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي و قال: إنك على خير.

و في مستدرك الصحيحين بإسناد(2) صحيح روى بسنده عن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب قال: لما نظر رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إلى الرحمة هابطة قال: ادعوا لي، ادعوا لي فقالت صفية: من يا رسول اللّه: قال: أهل بيتي عليا و فاطمة و الحسن و الحسين فجيء بهم فألقى عليهم النبي (صلی الله علیه و آله) كساء ثم رفع يديه ثم قال: اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد و على آل محمد و أنزل اللّه عز و جل، إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا قال صاحب مستدرك الصحيحين: هذا حديث صحيح الإسناد.

و أيضا بهذا الوضوح و الجلاء حديث الثقلين عن النبي قال: تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

الحب لا يكفي:

و حب آل محمد لا يكفي دون عمل بل لا بد لمن أراد النجاة و الفوز في الآخرة من متابعتهم فيما يقولون و فيما يذهبون إليه و قد أوضحت مدرستهم الإمامية نهجهم في العقائد كما أوضحته في الشرائع و كل من ادعى حبهم و لم يعمل بعملهم فهو ممن يخادع أو إنه في ضلال و انحراف دون أن يعرف...

و قد سمعت من المخالفين و من علمائهم هذه الدعوة و إنهم ممن يحبون أهل البيت

ص: 30


1- رواه المتقي الهندي في كنز العمال ج 7 ص 103. و ذكره السيوطي في ذيل تفسير آية التطهير.
2- مستدرك الصحيحين ج 3 ص 108.

و يذهبون إلى أن حبهم من صلب الإيمان و يكتفون بذلك دون أن يدخلوا فيما دخل فيه أهل البيت و يعملوا كما عملوا و هذا الحب العاري عن متابعتهم لا ينفعهم في الآخرة إذا لم يذهبوا إلى متابعتهم و اقتفاء أثرهم بالإيمان بإمامتهم و قيادتهم و وجوب التلقي عنهم لأحكام الدين و شريعة سيد المرسلين دون غيرهم من الأئمة الآخرين...

(فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش) قال ابن أبي الحديد في شرح قول الإمام «فأنزلوهم منازل القرآن» تحته سر عظيم و ذلك إنه أمر المكلفين بأن يجروا العترة في إجلالها و إعظامها و الانقياد لها و الطاعة لأوامرها مجرى القرآن.

ثم قال: فإن قلت: فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة.

قلت: نص أبو محمد بن متويه رحمه اللّه تعالى في كتاب «الكفاية» على أن عليا عليه السلام معصوم و إن لم يكن واجب العصمة و لا العصمة شرط في الإمامة لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته و القطع على باطنه و مغيبه و إن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة و الفرق ظاهر بين قولنا «زيد معصوم» و بين قولنا «زيد واجب العصمة» لأنه إمام و من شرط الإمام أن يكون معصوما فالاعتبار الأول مذهبنا و الاعتبار الثاني مذهب الإمامية.. انتهى كلامه...

أقول: مما لا شك فيه أن النتيجة التي توصل إليها ابن أبي الحديد من عصمة الإمام علي عليه السلام هي ما قاله الإمامية و الفرق أن الإمامية على مسلكهم من وجوب نصب الإمام و إنه للدين و الدنيا أوجبوا كونه معصوما ليؤمن خطؤه و زلله و هو القدوة و الأسوة و يجب على الناس متابعته فإن أمكن انحرافه و لنفرض ذلك في حقه فأما أن يتابع في خطئه و هذا يتنافى و الحكم الشرعي و فيه تضييع للحق و أما أن ينكر عليه و بذلك يسقط اعتباره و تنزل مرتبته و تضيع فائدة نصبه و لهذا و غيره وجب أن يكون الإمام معصوما، و ليست هذه بأولى هفوات هذا الرجل مع علو فكره و عمق تحليله و لكنه محكوم لمذهبه يخضع النصوص لها و إن كانت بعيدة الانطباق عليها و ليست من مصاديقها و لكن مخالفة العقيدة و ما عليه الأسلاف من أشق الأمور و أصعبها على النفس.

ثم إنه عليه السلام أمر الناس بالإسراع إلى أهل البيت ليأخذوا من تعاليمهم و ينهلوا من عذبهم و يرتوا من علومهم و يحرصوا على ذلك حرص الإبل إذا وردت الماء و هي في حالة العطش الشديد فإنها تسرع إليه و لا تتركه حتى ترتوي و هكذا الخلق مع آل رسول اللّه يجب أن يسرعوا إليهم و يأخذوا من علومهم و يقتدوا بهم...

(أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين صلى اللّه عليه و آله و سلم «إنه يموت من مات

ص: 31

منا و ليس بميت و يبلى من بلي منا و ليس ببال) ثم ذكر عليه السلام هذه الخصوصية التي ينفرد بها النبي و الأئمة دون الخلق و هي:

«إنه يموت من مات منهم و ليس بميت» و قد قيل في تفسيرها وجوه.

الأول: إنه يريد مفاد الآية الكريمة «وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » .

الثاني: إن أهل البيت أحياء بآثارهم و بما تدين به الملايين من البشر بما جاء عنهم...

الثالث: إنهم أحياء بأجسادهم المثالية و إليه ذهب جمع و اختاره بعض المحققين من المتأخرين كالمجلسي.

الرابع: إنهم أحياء بأجسادهم الدنيوية التي كانوا عليها و هناك روايات تدل على ذلك اعتمدها و اختار مفادها بعض شراح النهج (الخوئي في منهاج البراعة..)...

و أما قوله: و يبلى من بلي منا و ليس ببال فهنا المعركة التي لا حد لها و لا استقرار.

فذهب بعضهم إلى أن الأرض لا تأكل أبدان الأنبياء و الأئمة و اعتمد في ذلك على بعض الأخبار كما في الرواية الواردة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: ما من نبي و لا وصي نبي يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام حتى ترفع روحه و عظمه إلى السماء و إنما يؤتى مواضع آثارهم و يبلغونهم من بعيد السلام و يسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب. و حمل قوله عليه السلام و يبلى منا على أن البلى المذكور إنما هو مجاراة لما يرى الخلق في أمثالهم من طرو البلى عليهم و إلا فلا يشمل ذلك النبي و الأئمة و بعضهم حمل البلى على بلى الأكفان.

و بعضهم حمل البلى على الأبدان و عدم البلى على الأرواح.

و قال بعضهم: إن هذا نص على أن أجساد الأولياء لا تبلى.

(فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون) ثم بعد أن ذكر هذه القضية التي لا يراها الحاضرون يومها كما لم نرها نحن اليوم أراد إيقافهم أمام حقيقة علمية و هي أنه نهاهم عن القول فيما لا يعرفون فإذا لم تعرف أمرا فلا تبادر إلى إنكاره و إبطاله و رده إذ ربما وجد له وجه لم تهتد إليه و لم يصل فكرك إلى عمقه قال تعالى: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» فالقول بغير علم و معرفة جريمة أخلاقية و جناية علمية...

ص: 32

ثم علل ذلك بقوله فإن أكثر الحق فيما تنكرون إنكم تنكرون الكثير و لكن أكثر الحق فيما تنكرون.. تنكرون الحقائق من وجوب إمامته و عصمته و ما كان يخبرهم به من أمور الغيب المدونة في محالها...

(و اعذروا من لا حجة لكم عليه - و هو أنا) لا حجة لأحد من الناس على الإمام فإنه قد أنذر و حذر و بين لهم ما يقربهم من اللّه و أمرهم به و بيّن لهم ما يبعدهم عن اللّه و حذرهم منه و قد قطع حججهم و أسقطها و لم يبق لهم عليه حجة بل له الحجة و عنده العذر ثم بين بعض تلك الصغريات من الحجج...

(أ لم أعمل فيكم بالثقل الأكبر و أترك فيكم الثقل الأصغر) استفهم على وجه التقرير قائلا لهم لقد عملت فيكم بالثقلين كما أمر رسول اللّه و كما أحب و هما كتاب اللّه و عترة رسول اللّه كما جاء ذلك في الحديث المتواتر عن النبي قائلا للأمة: تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...

و قد عمل الإمام بالثقل الأكبر و هو القرآن الكريم فبين لهم حلاله و حرامه و حذرهم و بشرهم و شرح لهم مجملاته و فصّل لهم أحواله و لم يترك منه أمرا يحتاجونه إلا بينّه لهم...

و سمى القرآن الكريم بالثقل الأكبر لأنه حجة على الناس قاطبة و به كانت معجزة النبي و إثبات نبوته.

و أما الثقل الأصغر فهم ذرية رسول اللّه الحسن و الحسين فقد حفظهما الإمام و تركهما بعده في الأمة يديران شئونها و يدبران أمرها...

(قد ركزت فيكم راية الإيمان) جعلت الإيمان ظاهرا و ثابتا من حيث علمتكم بأقوالي و أفعالي كيف يكون الإنسان الرسالي الذي لا يتنازل عن عقيدته و لو اجتمعت الدنيا عليه و تحولت كلها ضده...

(و وقفتكم على حدود الحلال و الحرام) بيّنت لكم الأمور المحللة كما بيّنت الأمور المحرمة و قد أوضحتها لكم و علمتكم إياها فلا حجة لكم في ارتكاب حرام و لا عذر في ترك واجب...

(و ألبستكم العافية من عدلي) جعلت عدلي كاللباس لكم بحيث تتم به العافية من الظلم و ترتفع به أعلام الجور...

ص: 33

(و فرشتكم المعروف من قولي و فعلي) أحسنت إليكم بجميع وجوه الإحسان و شتى أصنافه حتى أضحى لكم كالفراش تستريحون إليه و تأنسون به...

(و أريتكم كرائم الأخلاق من نفسي) جعلتكم ترون كريم أخلاقي من حيث عفوت عن مسيئكم و تجاوزت عن قبائحكم و أحسنت إلى محسنكم و قد تجاوز عليه السلام بأخلاقه كل مدى و بلغ الذرى و من يبلغ في الصفح ما بلغه و قد عفى عمن حاربوه بعد انتصاره عليهم بل أكرم أم المؤمنين عائشة و جهزها و أرسل معها من أوصلها إلى المدينة كما إنه صفح عن عمرو بن العاص تكرما منه لما أبدى عورته و ترك مروان بن الحكم عدوه و هكذا دواليك...

(فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر، و لا تتغلغل إليه الفكر)...

الرأي في الدين:

نهى عليه السلام أن يقولوا بغير علم فمن حصل له العلم بأمر جاز له فيه القول و الافتاء و أما إذا لم يحصل له ذلك فيجب ان يتوقف و لا يستعمل الرأي، و التعبير بالرأي له معنى دقيق و هو أنه رأي شخصي استنبطه من نفسه و استحسنه أو قاسه على أمر آخر يرى قربه منه كما كان شائعا عند بعض المذاهب حيث استعملوا القياس و استنبطوا العلل و أجروا الحكم على الفرع الفاقد العلة على الأصل المنصوص العلة..

و قد نهى أهل البيت عن استعمال الرأي و إجراء القياس و حرموه و سفهوا من استعمله و حملوا عليه أشد حملة لأنه ينسب إلى اللّه ما لم يقله و يحمله ما لم يرده فإن اللّه سبحانه قد نص على حرمة بعض الأشياء بأعيانها فلا يجوز أن تحكم بحرمة شيء إلحاقا لها بهذه الأمور ظنا منك أنك قد أدركت العلة في تحريم الأولى فتسري العلة إلى الثانية...

و قد شاع هذا الأمر - العمل بالقياس - عن أبي حنيفة بل كان من أئمة هذا الفن و فاتق علمه و لذا نهى الأئمة عنه و حملوا على أبي حنيفة و بينوا خطأه و انحراف منهجه...

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

إن المؤمن لم يأخذ دينه(1) عن رأيه و لكن أتاه عن ربه فأخذ به..

ص: 34


1- هذه الأحاديث من وسائل الشيعة أبواب صفات القاضي باب 6.

و قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«لا رأي في الدين».

و سئل الصادق عليه السلام عن الحكومة فقال:

من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر و من فسر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر.

و عن ابن شبرمة قال: دخلت أنا و أبو حنيفة على جعفر بن محمد عليه السلام فقال لأبي حنيفة: «اتق اللّه و لا تقس في الدين برأيك فإن أول من قاس إبليس - إلى أن قال - ويحك أيهما أعظم ؟ -.

قتل النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس.

قال: فإن اللّه عز و جل قد قبل في قتل النفس شاهدين و لم يقبل في الزنا إلا أربعة.

ثم أيهما أعظم: الصلاة أم الصوم ؟.

قال: الصلاة.

قال: فما بال الحائض تقضي الصيام و لا تقضي الصلاة ؟ فكيف يقوم بذلك القياس فاتق اللّه و لا تقس.

و في حديث آخر يقول الصادق لأبي حنيفة:

يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس ؟.

قال: نعم، أنا أقيس.

قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار و خلقته من طين و هناك أحاديث كثيرة تنهى عن استعمال الرأي و القياس و هذا أمر تسالمت الطائفة على حرمته...

(حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية تمنحهم درها و توردهم صفوها) و هذه الفقرة الأخيرة من الخطبة محذوف قبلها كثير من الكلام كما أشار إليه الرضي و لذا نراها بدون رابط مع ما تقدم و على كل حال فإنه عليه السلام يقرأ ما يدور في رءوس بعض الناس و ما يفكرون فيه.. إنهم يظنون أن الدنيا بكل ما فيها من فوائد و خيرات و منافع محصورة ببني أمية تمنحهم خيراتها و عطاياها و لهم دوام العيش و صفاؤه و ليس من يعكر عليهم هدوءهم و حكمهم و سلطانهم...

ص: 35

(و لا يرفع عن هذه الأمة سوطها و لا سيفها) و هذا أيضا بعض ما يدور في أذهان الناس أنهم لما رأوا جور الأمويين و ظلمهم و كيف يطاردون الأحرار و الشرفاء و كيف يستعملون البطش و القوة ظن كثير من الناس أن ظلم الأمويين لا ينتهي و لا يتوقف و إن نظرة سريعة إلى جرائم الأمويين و تاريخهم الأسود يكشف بوضوح عن مبررات ما يذهب إليه بعض الناس يومها من أن الأمويين لن تزول دولتهم و لن يرفع ظلمهم عن الأمة.

و لكن الإمام بنظره الثاقب و حكمته و علمه الذي يخترق حدود الإمكان البشري كان يرى ما لم يره الناس و يبصر ما لم يبصروا فيقول:

(و كذب الظان لذلك بل هي مجة من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة) كذّب الإمام ظن من ذهب إلى أن الدنيا قد أعطت بني أمية خيرها و منحتهم صفاءها و إنهم لن يرفعوا سوطهم و سيفهم عن هذه الأمة كذّب ذلك الظن بأن مدة إمارتهم سوف تكون قليلة تصفى لهم و تروق و قد تطول قليلا ثم تخرج عن أيديهم بالكلية فلا يقام لهم دولة بل يطاردون و يشردون و يصبحون لعنة على ألسنة اللاعنين...

و قد كانت فترة خلافتهم قليلة بالنسبة إلى غيرها من حكم الدول و قد علم النبي بحكمهم و عرف مدته و أجله...

ص: 36

88 - و من خطبه له عليه السلام

اشارة

و فيها بيان للأسباب التي تهلك الناس أمّا بعد، فإنّ اللّه لم يقصم (1) جبّاري (2) دهر (3) قطّ إلاّ بعد تمهيل (4) و رخاء (5)، و لم يجبر (6) عظم أحد من الأمم إلاّ بعد أزل (7) و بلاء (8)، و في دون ما استقبلتم من عتب (9) و ما استدبرتم من خطب (10) معتبر! و ما كلّ ذي قلب بلبيب (11)، و لا كلّ ذي سمع بسميع، و لا كلّ ناظر ببصير. فيا عجبا! و ما لي لا أعجب من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها (12) في دينها! لا يقتصّون (13) أثر نبيّ ، و لا يقتدون (14) بعمل وصيّ ، و لا يؤمنون بغيب، و لا يعفّون (15) عن عيب، يعملون في الشّبهات، و يسيرون في الشّهوات.

المعروف فيهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم (16) في المعضلات (17) إلى أنفسهم، و تعويلهم (18) في المهمّات (19) على آرائهم، كأنّ كلّ امرىء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى (20) ثقات، و أسباب محكمات (21).

اللغة

1 - يقصم: يكسر.

2 - جباري: جمع جبار و هو العاتي.

3 - الدهر: الزمان.

4 - التمهيل التأخير:.

ص: 37

5 - الرخاء: سعة العيش.

6 - يجبر: من جبرت العظم إذا أصلحته.

7 - الأزل: الضيق.

8 - البلاء: الاختبار، الغمّ .

9 - العتب: بالسكون الموجدة و بالفتح معناه الشدة.

10 - الخطب: الأمر العظيم.

11 - اللبيب: جمعه الباء، و هو العاقل.

12 - الحجج: جمع الحجة، البراهين و الأدلة.

13 - اقتصى أثره: اقتفى.

14 - اقتدى به: إئتم به و فعل فعله، تأسى به.

15 - يعفون: أما من العفو بمعنى الصفح أو من العفة.

16 - مفزعهم: ملجؤهم.

17 - المعضلات: الشدائد.

18 - عول عليه: اعتمد عليه، استند إليه.

19 - المهمات: الأمور المهمة ذات الشأن، و أما المبهم فهو الذي لم يتضح معناه.

20 - العرى: جمع عروة و هو ما يستمسك به الشيء و منه عروة الكوز.

21 - المحكمات: جمع محكم و هو المتقن.

الشرح

(أما بعد فإن اللّه لم يقصم جباري دهر قط إلا بعد تمهيل و رخاء و لم يجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزل و بلاء). ذم عليه السلام أهل الأهواء و البدع و من اكتفى برأيه عن مراجعة أهل الحق من الأنبياء و الأئمة و ما رسموه من طرق شرعية، و صدّرها بهذه المقدمة تخويفا لهم و تحذيرا من التمرد و العصيان...

إن اللّه سبحانه لم يهلك الجبابرة العتاة الذين تكبروا على اللّه و رفضوا أوامره و تمردوا على حكمه لم يهلكهم بمجرد تمردهم بل أعطاهم السلطة و الملك و أغدق عليهم من زينة الحياة الدنيا الأموال و الأولاد و الأمجاد و الشهرة و أخرهم إلى أجل مسمّى فلما تمادوا أخذهم أخذ عزيز مقتدر فقضى عليهم و أنزلهم عن عروشهم أذلة صاغرين يطلبون مكانا يلجئون إليه فلا يجدون، حتى أسيادهم و من ولاّهم و جاء بهم إلى السلطة

ص: 38

تنكر لهم و رفض استقبالهم و هذا إذلال لهم في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أشد و أكبر و قد مرّ في التاريخ نماذج كثيرة من هذا النوع و هؤلاء هم أصحاب التيجان و الأمراء و الحكام الذين تمردوا على اللّه نسمع بأخبارهم و نقرأ عنهم هذا فرعون و النمرود و قارون و غيرهم...

و في مقابل هذا الكسر لم يجبر عظم أحد من الأمم و يجعلها أمة عزيزة بعد ذل و قوية بعد ضعف و في مقدمة البشرية بعد أن كانت في الذيل لم يجعلها أمة تتسلم مقاليد الأمور و مصيرها و مصير غيرها إلا بعد شدة و ضيق مرت بها فحاربت أعداءها و تألمت و مستها البأساء و الضراء حتى انتصرت و من أقوى الشواهد على هذا حال المسلمين زمن رسول اللّه كيف كانوا مستضعفين يخافون أن يتخطفوا من أرضهم و لكن ببركة رسول اللّه و اجتماع المسلمين تحت قيادته و إطاعة أمره استطاعوا أن يكونوا أقوى الأمم و أعزها.

(و في دون ما استقبلتم من عتب و ما استدبرتم من خطب معتبر). ذكرهم بما لا قوه من المتخلفين عنه من أهل الجمل و أصحابهم الذين نقموا منه العدل و الإنصاف و بما مر عليهم قديما زمن رسول اللّه و ما لاقوه من الشدائد و المحن من الأعداء ذكرهم بما مرّ عليهم و ما استقبلهم و أمرهم أن يتعظوا به و يعتبروا... يفكروا في الوحدة و فوائدها و في الفرقة و مضارها.. ينظروا إلى آثار الالتزام فيبادروا إليه و ينظروا إلى سيئات التمرد فيقلعوا عنه...

(و ما كل ذي قلب بلبيب و لا كل ذي سمع بسميع و لا كل ناظر ببصير). أراد أن يحثهم على التفكير و على الاعتبار و الاتعاظ و أن لا يكونوا ممن يملكون القلب شكلا و يعطلون حركته و فاعليته و يمنعونه من ممارسة دوره واقعا و مضمونا فإن أصحاب القلوب ليسوا كلهم يفكرون و يحللون الأمور و يصلون إلى الحقيقة كما أن من يملك السمع و البصر ليس كل واحد منهم يملك الاعتبار و العظة من خلال ما يرى و يسمع.

(فيا عجبا و ما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها).

تعجب و استغرب ثم أجاب عما منه تعجب، إنه أجاب عن تعجبه بشكل إجمالي عام، و هو أن هذه الفرق على تعددها و اختلافها تشترك في الخطأ، فإنها كلها تدعي أنها تمتلك أدلة و حججا على ما تذهب إليه كما أن كل واحدة تدّعي لنفسها الحق فيما تذهب إليه بل تحصره فيها و تخطىء غيرها و تنعي عليه حاله و مآله و ترميه بالخطأ و الشطط ثم أراد أن يفصل الجواب و كيف أن جميع الفرق مخطئة منحرفة.

(لا يقتصون أثر نبي). فهذا أول انحراف من هذه الفرق و أول خطأ منها إنها لم

ص: 39

تقتف أثر الأنبياء و لم تمش خلفهم و لم تتبع طريقتهم، فالأنبياء بمسيرتهم قدوة يسعد من يمشي خلفهم و يقتدي بهم و هؤلاء لم يقوموا بذلك...

فإن قلت: كيف لم يتبعوهم و هذه آثارهم بين أيديهم فإنا نجد هذه الفرقة تقول:

قال رسول اللّه، و فعل رسول اللّه، و قرّر رسول اللّه نقول: إن وسائط النقل عن النبي و من عليهم الاعتماد من هؤلاء جاء الخطر و على أيديهم كان الانحراف... و عودة سريعة إلى رواة الأحاديث تجد الشواهد الصادقة على ما أقول.. إن من يعتمد على نقل أبي هريرة لأحاديث النبي و سنته لم يقتف أثر النبي أو يتبعه و كيف يتبعه و هذا الراوي من أكذب الرواة و أشدهم اختلاقا للحديث و تزويرا له و انحرافا به...

من يعتمد على سلسلة فاسقة فاجرة كسمرة بن جندب و كعب الأحبار و عمران بن حطان و غيرهم كيف يهتدي إلى اقتفاء آثار الأنبياء و متابعتهم...

(و لا يقتدون بعمل وصي). الوصي تصرفاته نافذة و تستمد شرعيتها من الموصي و هو النبي... و سلوكه و تصرفاته لا تتعرض لخطأ و هؤلاء الناس عند ما ابتعدوا عن وصي رسول اللّه و هو الإمام علي و لم يقتدوا به بعمله كان هذا الانحراف و هذا التفرق حيث اتخذوا أشخاصا غيره أضلوهم السبيل و ابتعدوا بهم عن الهدف الصحيح...

(و لا يؤمنون بغيب). و الإيمان بالغيب من ضروريات الدين و أسس بنائه و عليه تقوم دعائمه و هو من صفات المؤمنين.

(و لا يعفون عن عيب). إذا كان يعفون من العفة فمعناه أنهم لا يستحون من العيب الذي هم فيه و لا يكفون أنفسهم عنه إذ من كان عفيفا صائنا لنفسه عن العيب بحث عن الحق و سعى نحوه و بذل وسعه في سبيل الوصول إلى رفع العيب عنه، و أما إذا كان يعفون من العفو فهذا طعن فيهم بأنهم لم يلتزموا أخلاق الشرع و آدابه الذي يدعو إلى العفو و الصفح...

(يعملون في الشبهات و يسيرون في الشهوات). لضعف دينهم و خفة يقينهم لا يتورعون عما يشتبهون بحليته و حرمته فيرتكبونه و يعملون به عكس الأتقياء الذين همّهم الاجتناب عن المحرم و كذلك إنهم يمارسون الشهوات التي يرغبون فيها و لو كانت محرمة أو غير مشروعة انحرافا منهم عن جادة الإيمان و سيرا وراء الحرام...

(المعروف فيهم ما عرفوا و المنكر عندهم ما أنكروا). للمعروف ميزان شرعي و عرفي يعرف به و للمنكر كذلك ميزان شرعي و عرفي يعرف به فما أمر به الشرع سواء كان

ص: 40

على نحو الإلزام أو الاستحباب كان معروفا شرعيا و ما نهى عنه الشرع على نحو الحرمة أو الكراهة فهو منكر شرعا و على هذا الميزان تعرض الأمور و الأعمال و يدخل تحت كل صنف ما يناسبه و لكن هؤلاء القوم خالفوا الميزان فأضحى المعروف عندهم ما رأوه بنظرهم و ما ذهبوا إليه بحسب مصالحهم و منافعهم و ليس ما عليه الشرع و الدين و كذلك المنكر ما رأوه منكرا بحسب قياسهم أو استحسانهم حكموا عليه بالمنكر و إن خالف الشرع و العرف و هذا النموذج من الناس نجد له كثرة كثيرة في مجتمعنا اليوم فالسفور في نظر الشرع منكر نرى النساء يحكمن بحسن ذلك و نرى الرجال يذهبون أيضا إلى هذا و يدعون النساء إلى السفور و المجتمع يقوم على الربا فترى المعاملات الربوية منتشرة في كل مكان و مع أن هذا منكر شرعا يذهب كثير من أصحاب الألقاب الفخمة إلى استحسان ذلك و تبريره اقتصاديا و هكذا دواليك...

(مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم). فكل أمر شديد صعب يعسر حله يعودون في حله و فك سره إلى أنفسهم و كأنهم من الأنبياء الذين يتنزل عليهم الوحي و تأتيهم أخبار السماء بالحقيقة الصافية و هذا طريق الضلال و الانحراف و الغرور و الكبرياء حيث يظنون بأنفسهم القدرة على حل كل مشكلة مع أن العقلاء يرجعون في الشدائد إلى أربابها و أهلها ممن أعطاهم اللّه القدرة و الحكمة و هم الأنبياء و الأئمة الهداة...

(و تعويلهم في المهمات على آرائهم كأن كل امرىء منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و أسباب محكمات). و كذلك من سفههم و شطط الفكر عندهم أنهم يعتمدون على آرائهم و ما عندهم من قليل الرأي و ضئيل الفكر ثم علل ما ذهبوا إليه و اعتمدوا عليه استهزاء بهم و احتقارا لهم و بيانا لفشل ما استندوا عليه... إن كل رجل منهم كأنه إمام نفسه ليس له إمام يرجع إليه أو يقتدي به و يسمع قوله و قد أخذ من نفسه بأوثق الأسباب الناجية و بالطرق الصحيحة الصائبة التي لا تحتمل الخطأ أو الغلط.

و بعبارة أخرى إنهم لجهلهم غرتهم أنفسهم فظنوا أنها كاملة صافية تقودهم فيما يرتئون إلى النجاة و الفوز، و هذا منهم خطأ و غرور...

ص: 41

89 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في الرسول الأعظم صلى اللّه عليه و آله و بلاغ الإمام عنه أرسله على حين فترة (1) من الرّسل، و طول هجعة (2) من الأمم (3)، و اعتزام (4) من الفتن (5). و انتشار من الأمور، و تلظّ (6) من الحروب، و الدّنيا كاسفة (7) النّور، ظاهرة الغرور (8)، على حين اصفرار من ورقها، و إياس (9) من ثمرها، و اغورار (10) من مائها، قد درست (11) منار الهدى، و ظهرت أعلام الرّدى (12)، فهي متجهّمة (13) لأهلها، عابسة في وجه طالبها. ثمرها الفتنة، و طعامها الجيفة (14)، و شعارها (15) الخوف، و دثارها (16) السّيف.

فاعتبروا عباد اللّه، و اذكروا تيك التي آباؤكم و إخوانكم بها مرتهنون (17)، و عليها محاسبون. و لعمري ما تقادمت (18) بكم و لا بهم العهود، و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب (19) و القرون (20)، و ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم (21) ببعيد. و اللّه ما أسمعكم الرّسول شيئا إلاّ وها أنا ذا مسمعكموه، و ما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم بالأمس، و لا شقّت لهم الأبصار، و لا جعلت لهم الأفئدة (22) في ذلك الزّمان، إلاّ و قد أعطيتم مثلها في هذا الزّمان. و و اللّه ما بصّرتم بعدهم شيئا جهلوه، و لا أصفيتم (23) به و حرموه، و لقد نزلت بكم البليّة (24) جائلا (25) خطامها (26)، رخوا بطانها (27)، فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنّما هو ظلّ ممدود، إلى أجل معدود.

ص: 42

اللغة

1 - الفترة: ما بين الرسولين.

2 - الهجعة: النومة ليلا.

3 - الأمم: جمع أمة و هي الجماعة، الجيل من الناس، و تطلق على القوم الذين تحكمهم اللغة و العادات.

4 - اعتزام: أراد من العزم و هي الإرادة.

5 - الفتن: جمع الفتنة، المحنة، الإبتلاء.

6 - التلظي: التلهب.

7 - كاسفة: من كسفت الشمس إذا ذهب نورها.

8 - الغرور: الأباطيل.

9 - الإياس: القنوط و هو اليأس.

10 - الاغورار: للماء ذهابه.

11 - درست: انطمست و انمحت.

12 - الردى: الهلاك.

13 - متجهمة: من تجهمه إذا استقبله بوجه كريه.

14 - الجيفة: الميتة.

15 - الشعار: ما يلي البدن من الثياب أي الثياب الملاصقة للبدن.

16 - الدثار: فوق الشعار.

17 - مرتهنون: محبوسون.

18 - تقادمت: بمعنى قدمت أي مضى على وجودها زمن طويل.

19 - الأحقاب: جمع حقب بضم و بضمتين قيل ثمانون سنة و قيل أكثر و قيل الدهر.

20 - القرون: جمع قرن و هو مئة سنة و يطلق على المدد الطويلة.

21 - الأصلاب: جمع صلب و هو فقرات الظهر.

22 - الأفئدة: جمع فؤاد القلب.

23 - أصفيتم: خصصتم.

24 - البلية: المصيبة.

25 - جائلا: متحركا.

26 - الخطام: ما جعل في أنف البعير ليقاد به.

27 - بطان البعير: الحزام الذي يجعل تحت بطنه.

ص: 43

الشرح

(أرسله على حين فترة من الرسل و طول هجعة من الأمم). في هذه الخطبة المباركة تذكير بمنافع البعثة المحمدية و كيف كانت سبب سعادة الإنسانية في الدنيا و نجاتها من النار في الآخرة و قدّم مقدمة في بيان ما كانوا عليه من الشقاء و التعاسة و كيف إذا حصلت منهم المخالفة الآن كانت الانتكاسة و الارتداد إلى ما كانوا عليه...

ابتدأ عليه السلام بذكر رسول اللّه و إن اللّه سبحانه أرسله بعد انقطاع الرسل و توقف بعثتهم إذ ليس بعد عيسى من نبي يحمل لواء الحق و يرفع أعلام الدين حتى منّ اللّه على البشرية ببعثة رسول اللّه رحمة للعالمين أرسله اللّه بعد انقطاع الرسل و بعد نوم الأمم عن مصالحها و منافعها و ما يقربها من اللّه و كيف تهتدي إلى منافعها و ليس من مرشد يهديها أو نبي يقودها إلى الخير و يبيّن لها منافعها و ما يصلحها...

(و اعتزام من الفتن و انتشار من الأمور و تلظ من الحروب). إذا كانت اعترام أي مع كثرة الفتن و شدتها إذ فشت الفتن بين الناس و أخذ القوي يقضم الضعيف و الكبير يأكل الصغير.

و إذا كانت اعتزام فيكون المعنى أن الفتن لشدتها كأنها هي المريدة لما يقع بين الناس و هي الموجهة لهم نحو الشر و الرذيلة...

و أما انتشار الأمور فهي الفوضى و عدم الضوابط بين الناس، انعدمت القوانين و سادت شريعة الغاب و قانون الناب.

و أما اشتداد الحروب و استعارها فقد كانت تندلع لأتفه الأسباب و أحقرها و تأتي على الحرث و النسل و ما يذكره التاريخ نماذج لهذه الحروب التافهة كحرب البسوس التي اندلعت من أجل ناقة أو حرب داحس و الغبراء و قد امتدت كل واحدة منهما عمرا طويلا من حياة العرب و هكذا عند غيرهم من الأمم و الشعوب...

(و الدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور). و الدنيا مظلمة فلا هادي يأخذ بيدها إلى الهدى و ينقذها من الردى، إنها تعيش الجهل و الانحراف و الضلال، فلا رسل و لا أنبياء و لا هداة و لا مبشرين و لا كتب و لا صحف.. و مع هذه الحالة السيئة فإنها تخدع أبناءها و تمنيهم و يعيشون على وعودها و آمالها فنرى الناس تنصرف إلى غير مرضاة اللّه...

(على حين اصفرار من ورقها و إياس من ثمرها و اغورار من مائها). و هذا بيان

ص: 44

لحال الدنيا التافهة التي اغتر بها الإنسان و كيف كانت عند بعثة رسول اللّه فقد شبهها بشجرة اصفر ورقها و امتنعت من حمل الثمار حتى يئس الناس منها و جفّت مياه الحياة فيها حتى كادت أن تيبس فهي شجرة انقطع منها الأمل فلا منظر يبهج النظر و لا فائدة تنفع البشر، فالدنيا كانت على العرب صعبة شديدة ليس لهم منها الضروريات فضلا عن الكماليات فلا استقرار و لا عدل فكيف يأتي غير ذلك من الرفاهية و الرقي و التقدم...

(قد درست منار الهدى و ظهرت أعلام الردى). و هذه بعض مآسي تلك الفترة التي سبقت بعثة رسول اللّه لقد فقدت الأنبياء و الرسل و المبشرون الذين كانوا يحملون الشرائع و يكشفون عن عيون الناس الغشاوة و ينبهونهم إلى ما فيه خيرهم، و على العكس من ذلك فقد ارتفعت أصوات المبطلين و المضللين من عرافّين و منجمين استولوا على عقول الناس و افئدتهم و راحوا يوجهونهم بالظنون و بكل أمر باطل لا ينفع و لا يفيد.

(فهي متجهمة لأهلها عابسة في وجه طالبها). لا تصفو لطالبها و لا يأنس بها عاشقها من حيث أن صفوها مشوب بالكدر و حلاوتها ممزوجة بالمرارة فلا تريح أهلها و لا تأنسهم بل تزعجهم و تقلقهم...

(ثمرها الفتنة و طعامها الجيفة و شعارها الخوف و دثارها السيف). هكذا كانت الدنيا قبل بعثة رسول اللّه، صورة مأساوية تشمئز منها النفس فلا تثمر إلا الضلال و الانحراف عن خط الأنبياء ففي حين يدعو الرسل إلى الإيمان باللّه و توحيده و إقامة حكمه فإن الجاهلية تقضي على ذلك و تنحرف عنه بالكفر به أو الإشراك به أو التنكر لأحكامه و ما يريده و يحبه...

و أما طعام أبنائها فالخبائث مما كانت تجنيه سيوفهم من خلال الغزو و النهب و الاعتداء على الآمنين...

و أما شعارها الملتصق بها الذي تعيشه في كل لحظة من لحظات حياتها و لا يكاد يفارقها فهو الخوف إنه حليفها في حلها و ترحالها في ليلها و نهارها لأن كل فرد مهدد في وجوده ممن حوله من الأعراب الأقوياء الذين يتسلطون على الضعفاء فينتزعون منهم كرامتهم و متاعهم و ما عندهم من مواشي و حيوانات...

و دثارها السيف أي بعد الخوف الذي يعيش في قلوب الأعراب يأتي السيف من ورائها لتدفع عن أنفسها الغزو و تستعمل قوتها في وجه من يريد القضاء عليها و لذا قد تستمر الحروب و تدوم لفترة طويلة كما وقع بين بعض العرب مع بعضهم...

(فاعتبروا عباد اللّه). انظروا إلى هذه الحياة السابقة و الفترة الماضية قبل بعثة

ص: 45

رسول اللّه، انظروا نظرة المنتفعين في الرؤية المتعظين بها.

(و اذكروا تيك التي آباؤكم و أخوانكم بها مرتهنون و عليها محاسبون). اذكروا تلك الحالة القبيحة السيئة التي عاشها آباؤكم و أخوانكم الذين تحبونهم و تتعصبون لهم فإنهم محبوسون بها يعيشون ضيقها و ألمها و هم محاسبون عليها مجازون بها و مصيرهم من خلالها إلى العذاب و العقاب...

(و لعمري ما تقادمت بكم و لا بهم العهود). حلف لهم أن ما جرى على حال أهلهم لم يكن غائرا في عمق الزمن القديم بحيث ينسى و كذلك بالنسبة إليكم فأنتم على قرب مع ما جرى لهم و ما كانت أحوالهم فأنتم لستم بعيدين عنهم و عما حدث لهم.

(و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب و القرون). لم يفصلكم عنهم أزمنة كثيرة أو قرون متطاولة مديدة بل العهد بهم متصل و المكان قريب و من خاطبهم الإمام قد يكونون أبناء من وصفهم سابقا و قد يكون بعضهم عاش مخضرما بين الماضي الجاهلي و الحاضر الإسلامي...

(و ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد). فبالأمس كنتم في أصلاب آبائكم يتوجه النداء إليهم بالأصالة و اليوم و قد أصبحتم رجالا يوجّه إليكم النداء و لا يفصلكم في الحالين إلا مدة قليلة لا تذكر في عمر الزمن...

(و اللّه ما أسمعهم الرسول شيئا إلا و ها أنا ذا مسمعكموه). لقد بلّغ الرسول إلى الآباء أصول الدين و أحكامه أسسه و تشريعاته و حذرهم و أنذرهم و خوفهم و بشرهم و لم يترك سبيلا يقربهم من اللّه إلا و هداهم إليه و لم يترك أمرا يبعدهم عنه إلا و قد نهاهم عنه.

و قد قام الإمام بعد النبي بجميع مهامه في حق الأبناء لم ينقصهم شيئا فقد تعلم هو من الرسول و كان تلميذه المتفوق فقام مقامه و أدى رسالته و بلّغ مهمته، فالرسول بلّغ الآباء و الإمام يبلغ الأبناء بدون تفاوت أو نقصان...

(و ما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس). إنكم تملكون من الأسماع كما ملك آباؤكم أسماعا لم تنقص أسماعكم شيئا حتى تعتذروا بعدم مجاراتهم أو عدم إدراكهم و اللحاق بهم فما سمعتموه فحللوه و ادرسوه و فكروا فيه جيدا...

(و لا شقت لهم الأبصار و لا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الزمان إلا و قد أعطيتم مثلها في هذا الزمان). فاللّه الذي فتح أبصارهم لينظروا و يعتبروا و جعل لهم قلوبا يفكرون بها و يحللون الأشياء و يدركون أسرارها هو سبحانه الذي جعل لكم في زمانكم

ص: 46

ما جعل لهم و وضع فيكم ما وضع فيهم و الأبناء هم أنفسهم الآباء لا يفصلهم إلا الزمن...

(و و اللّه ما بصرتم بعدهم شيئا جهلوه و لا اصفيتم به و حرموه). فكل أمر ألقي إليكم قد ألقي إليهم فلم تعلموا أمرا و هم لم يعرفوه و لم تخصصوا بأمر و هم قد حرموا منه بل ما نالكم نالهم و معرفتكم كمعرفتهم فيجب أن تكونوا مثلهم، هم قد استجابوا للنبي و اهتدوا بهداه فيجب أن تستجيبوا لي و تهتدوا إلى اللّه لأن القضية تحكمكم كما حكمتهم و يجب أن تشملكم كما شملتهم...

(و لقد نزلت بكم البلية جائلا خطامها رخوا بطانها). لقد حلت بكم هذه المصيبة العظمى التي هي فتنة معاوية و خلافه و تمرده و عناده و لعله إشارة منه إلى ملك الأمويين و ما ستلاقي الأمة من ملوكهم و أمرائهم، و إنها مصيبة شديدة قاسية صعبة خطرة شبّه من يركن إليها و يعتمد عليها بالناقة التي لم يستحكم زمامها منها و من كان بيده لا يقدر على ضبطها و السيطرة عليها و هو راكب عليها و حزامها رخو أيضا مضطرب في معرض السقوط و الوقوع عن ظهرها فيهلك...

(فلا يغرنكم ما أصبح فيه أهل الغرور فإنما هو ظل ممدود إلى أجل معدود). و في نهاية الخطبة حذرهم الدنيا و زينتها و نهاهم أن يخدعوا فيها كما خدع من غرتهم بزينتها فسلبتهم الإيمان و قد شبهها بالظل من حيث أنها لا تبقى و لا تدوم بل هي في معرض الزوال و الأفول على الدوام و الاستمرار و من أول يوم يسقط الإنسان فيه على الأرض يبتدأ بالرحلة نحو الآخرة و يدبر عن الدنيا...

ص: 47

90 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و تشتمل على قدم الخالق و عظم مخلوقاته، و يختمها بالوعظ الحمد للّه المعروف من غير رؤية، و الخالق من غير رويّة (1)، الّذي لم يزل قائما دائما، إذ لا سماء ذات أبراج (2)، و لا حجب ذات إرتاج (3)، و لا ليل داج (4)، و لا بحر ساج (5)، و لا جبل ذو فجاج (6)، و لا فجّ ذو اعوجاج (7)، و لا أرض ذات مهاد (8)، و لا خلق ذو اعتماد (9): ذلك مبتدع (10) الخلق و وارثه، و إله الخلق و رازقه، و الشّمس و القمر دائبان (11) في مرضاته: يبليان (12) كلّ جديد، و يقرّبان كلّ بعيد.

قسم أرزاقهم، و أحصى (13) آثارهم و أعمالهم، و عدد أنفسهم، و خائنة أعينهم (14)، و ما تخفي صدورهم من الضّمير، و مستقرّهم و مستودعهم من الأرحام (15) و الظّهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات.

هو الّذي اشتدّت نقمته (16) على أعدائه في سعة رحمته، و اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته، قاهر من عازّه (17)، و مدمّر (18) من شاقّه (19)، و مذلّ من ناواه (20)، و غالب من عاداه. من توكّل عليه كفاه، و من سأله أعطاه، و من أقرضه قضاه، و من شكره جزاه.

عباد اللّه، زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا، و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا، و تنفّسوا قبل ضيق الخناق، و انقادوا قبل عنف (21) السّياق،

ص: 48

و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ و زاجر، لم يكن له من غيرها لا زاجر و لا واعظ.

اللغة

1 - الرّوية: الفكر.

2 - الأبراج: الأركان.

3 - الإرتاج: الإغلاق من ارتج الباب إذا أغلقه.

4 - الداجي: المظلم.

5 - الساجي: الساكن.

6 - الفجاج: جمع فج الطريق الواسع بين جبلين.

7 - الاعوجاج: عدم الاستقامة.

8 - المهاد: الفراش.

9 - ذو اعتماد: ذو بطش و تصرف - أو ما يعتمد عليه من رجلين و ما يقوم مقامهما.

10 - المبتدع: المنشىء للشيء من العدم.

11 - دائبان: تثنية دائب و هو المجد المجتهد.

12 - يبليان: يفنيان.

13 - الإحصاء: أحصى الشيء حسبه و عدّه.

14 - خائنة الأعين: ما تسترقه الأعين مما لا يجوز لها.

15 - الأرحام: مكان نمو الجنين.

16 - النقمة: الغضب.

17 - عازه: غالبه.

18 - مدّمر: مهلك.

19 - شاقّه: عاداه و نازعه.

20 - ناواه: عاداه.

21 - العنف: ضد الرفق و اللين.

الشرح

(الحمد للّه المعروف من غير رؤية). ابتدأ عليه السلام بحمد للّه و ذكر بعض أوصافه الجلالية و الجمالية و أولها أنه معروف من غير رؤية بالأدلة و البراهين و بما زود اللّه

ص: 49

عباده به فطرة و عرفانا، فإن النظام العام يحكم بوجود منظم و إن لم نكن نراه كمن يدخل إلى قرية منظمة كأبدع ما يكون و مجهزة بأدق ما تحتاج و لكنه لم يجد المهندس فهو ببساطة متناهية يحكم بوجوده و إن لم يره و هذا المعنى الفطري البسيط أقرب إلى فهم البشر من جميع الأدلة و البراهين و هذا ما عبّرت عنه أحاديث أهل البيت.

جاء رجل إلى الإمام أمير المؤمنين فقال له: خبّرني عن اللّه أرأيته حين عبدته ؟.

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لم أك(1) بالذي أعبد من لم أره.

فقال له: كيف رأيته يا أمير المؤمنين ؟.

فقال له: يا ويلك لم تره العيون بمشاهدة العيان و لكن رأته القلوب بحقايق الإيمان، معروف بالدلالات، منعوت بالعلامات، لا يقاس بالناس و لا يدرك بالحواس.

فانصرف الرجل و هو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

و هذا رجل يأتي(2) إلى الإمام الصادق فيقول له: أرأيت اللّه حين عبدته ؟.

قال الصادق: ما كنت أعبد شيئا لم أره.

قال: كيف ؟.

قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان و لكن رأته القلوب بحقايق الإيمان لا يدرك بالحواس و لا يقاس بالناس معروف بغير تشبيه.

(و الخالق من غير رويّة). البشر الذين يحكمهم القصور و الإمكان و يحتاجون في صنع شيء بسيط إلى وقت و إلى تصميم و إجالة فكرهم بما عندهم من معلومات للحصول على هذا الشيء فهو سبحانه منزه عن ذلك كل شيء حاضر عنده إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون...

(الذي لم يزل قائما دائما). فهو ثابت الوجود دائم البقاء لا يطرأ عليه تغيير أو تبديل أو تحوير أو تحويل لأنه واجب الوجود الأبدي الأزلي السرمدي.

(إذ لا سماء ذات أبراج و لا حجب ذات ارتاج). كان اللّه و لم يكن سماء ذات أبراج و هي منازل الشمس و حركتها و كذلك كان موجودا و لا حجاب بينه و بين غيره إذ لا شيء غيره فهو المتفرد...ي.

ص: 50


1- احتجاج الطبرسي ج 1 ص 209.
2- احتجاج الطبرسي ج 2 ص 336 طبعة مؤسسة الأعلمي.

(و لا ليل داج و لا بحر ساج). و كذلك كان و لم يكن ليل مظلم داكن و لا بحر ساكن هادىء فإن هذه كلها حدثت من فيض جوده و كرمه و بقوله كن فكانت...

(و لا جبل ذو فجاج و لا فج ذو اعوجاج). و كان سبحانه و لم يكن جبل ذو طرق واسعة تشقه و لا طرق معوجّة ملتوية بمعنى أنه كان سبحانه و لم يكن طرق تشق الجبل و لا طرق ملتوية.

(و لا أرض ذات مهاد و لا خلق ذو اعتماد). و لم يكن هناك أرض مبسوطة قابلة للحياة و الراحة و لم يكن بشر ذو بطش و قوة و بعبارة أخرى يريد عليه السلام أن اللّه كان موجودا قبل حدوث هذه الأشياء التي وجدت بعدم العدم بقدرته تعالى و كرمه و فيض وجوده تدليلا على عظمة اللّه و صغر هذه المخلوقات في جانبه...

(ذلك مبتدع الخلق و وارثه). من وصفناه بهذه الأوصاف هو اللّه خالق الخلق من العدم و من اللاشيء و بقوله كن فكانت.

ثم إنه الباقي بعد فناء الأشياء و لا يبقى غيره، كل شيء هالك إلا وجهه...

(و إله الخلق و رازقه). فهو الخالق للخلق و رازقهم تنبيه لهم إلى وجوب الإيمان به و الاعتماد عليه في الرزق و العطاء.

(و الشمس و القمر دائبان في مرضاته يبليان كل جديد و يقربان كل بعيد). نبّه عليه السلام على هاتين الآيتين حيث تمران على الناس في كل يوم و لكثرة تكرارهما فقد الإنسان الإحساس بهما و مالهما من أدوار و ما يتركا من آثار.

فهما آيتان من آيات اللّه الدالتان على قدرته.. إنهما يسيران كما هو مرسوم لهما بإرادة اللّه التكوينية لا يختلفان و لا يتخلفان...

و هما يفنيان كل جديد لأن حركتهما تأتي على عمر هذا الموجود الذي لم يكتب له الدوام و البقاء طيلة الحياة و كذلك يقربان كل بعيد في نظر هذا الإنسان فربما كان يشير بذلك إلى يوم القيامة حيث يراه بعض الناس بعيدا فإن حركة الشمس و القمر تقربانه من هذا الإنسان و هذا كله تحريك لهذا الإنسان لكي يفكر في الحياة و ما فيها و إنه لا شيء فيها يدوم و إنه لا بد من يوم يجزى فيه المرء بعمله...

(قسم أرزاقهم). فهو الذي وزّع الأرزاق حسب المصالح و لحكمة يعلمها قال تعالى: «نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا» و إذا كان اللّه هو الذي قسم أرزاق العباد فلا يجب على العبد إلا أن يطرق الأبواب كما أراد اللّه و يجب عليه أن يسعى كما

ص: 51

أمر و بذلك يحقق أرادة اللّه...

(و أحصى آثارهم و أعمالهم و عدد أنفسهم). فهو العالم بما يجري في العالم قال تعالى:(1)«لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ » و قال تعالى: «وَ نَكْتُبُ مٰا قَدَّمُوا وَ آثٰارَهُمْ » فهو سبحانه الذي عنده كل ما تركوا و ما عملوا و عددهم فردا فردا...

(و خائنة أعينهم و ما تخفي صدورهم من الضمير). قال تعالى: «يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مٰا تُخْفِي اَلصُّدُورُ» و خائنة الأعين هي مسارقة النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه...

و في هذا تنبيه لهذا الإنسان أن يصحّح سلوكه و يصلح داخله...

(و مستقرهم و مستودعهم من الأرحام و الظهور إلى أن تتناهى بهم الغايات). و هو سبحانه يعلم استقرارهم في أصلاب الآباء و تنقلهم من ظهر إلى ظهر كما يعلم استقرارهم في الأرحام و هم نطف لا تعقل يعلم وجود هذا الإنسان و هو نطفة متنقلة إلى أن تستقر في الأرحام ثم بعدها يعلم تنقلاته و أطواره و ما يمر عليه إلى أن ينتهي إلى الغاية القصوى من الخير أو الشر من الجنة أو النار...

(هو الذي اشتدت نقمته على أعدائه في سعة رحمته). فمع كونه أرحم الراحمين فإن عذابه شديد على الكافرين المعاندين و المخالفين و قيل إنه لا يشغله عذابه عن رحمته فهو في نفس الوقت الذي يرحم المطيعين يعذب العاصين...

(و اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته). فهو مع كونه شديد العقاب فإن رحمته وسعت كل شيء...

و قيل إنه مع كونه يرحم المطيعين يعذب العاصين...

(قاهر من عازه). من أراد مشاركة اللّه في عزته و يدعيها لنفسه كما هي للّه فإن اللّه لن يمهله بل يأخذه كما أخذ الطغاة و الجبابرة و العزة للّه جميعا...

(و مدمّر من شاقه). أي مهلك من خالف أمره و نهيه و اتخذ طريقا يخالفه.

(و مذل من ناواه). و من خالف اللّه أذله لأنه خرج عن الحدود الطبيعية التي يجب أن يأخذ منها العزة فكان أن عومل بضدها...4.

ص: 52


1- سورة سبأ آية - 34.

(و غالب من عاداه). من عادى اللّه و حاربه فاللّه هو المنتصر عليه الغالب له و ما قيمة محاربة العبد الصغير للرب الجليل...

(من توكل عليه كفاه). و التوكل على اللّه هو الاعتماد عليه في انجاح المطلوب و من أراد التوكل على اللّه فعليه أن يأتمر بأمره و هو سبحانه قد أمر بالأخذ بالأسباب التي وضعها للأمور فمن أخذ بها و انقطع إلى اللّه في انجاحها فإنه أخذ على نفسه إنجاحها و لا بد من ذلك و إلا لكان خلق الأسباب للمسببات عبثيا تعالى اللّه عن ذلك.

(و من سأله أعطاه). و إذا كان كرام البشر يستحون من رد السائل و لا يليق بشأنهم ذلك فكيف بأكرم الأكرمين الذي منح الكرم للكرام، إنه سبحانه ليس في ساحته بخل أو شح يعطي تكرما بدون مسألة فكيف لا يعطي من سأله.

(و من أقرضه قضاه). من أقرض اللّه وفاه أضعافا مضاعفة كما قال تعالى:(1)

«مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً وَ اَللّٰهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » . قال الطبرسي في مجمع البيان: سمى تعالى الإنفاق قرضا تلطفا للدعاء إلى فعله و تأكيدا للجزاء عليه فإن القرض يوجب الجزاء...

(و من شكره جزاه). من شكر اللّه على نعمه و قام له بحقها كان حقا على اللّه أن يجازيه و يثيبه عليه بل يزيده كما قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » .

(عباد اللّه زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا). و هذه الحكمة العلوية يستعذبها اللسان و تستأنس بها الآذان، نشيد يردده الخطباء و الوعاظ و أصحاب المنابر و الدعاة إلى اللّه... كلمة ندية تسري إلى الروح فتحرك ما تحجر منها و قسى و تفجر فيها منابع العودة إلى اللّه و الرجوع إليه...

عباد اللّه... أنتم أيها البشر، المربوبون الصغار الذين تكبرون بنسبتكم إلى اللّه... عباد اللّه كلمة عز إذا خاطبت بها الناس... عباد اللّه زنوا أنفسكم انظروا إلى أعمالكم و سلوككم هل على طبق ما أمر اللّه فإذا كانت مستقيمة عادلة فأكملوا الطريق و إلا فاعدلوا عنه إلى المستقيم منه فإن في المستقبل - يوم القيامة - يوزنها اللّه و لا تستطيعون تعديلها أو تصحيح ما مال منها.

و حاسبوها في الدنيا و اضبطوا تصرفاتها و أوقفوها على حسناتها كي تستزيد منها5.

ص: 53


1- سورة البقرة آية - 245.

و على سيئاتها كي تجتنب عنها... حاسبوها أنتم و لا تهملوها إلى يوم القيامة فإنها إذا وزنت هناك خسرت و إذا خسرت فلا تستطيع بعد ذلك ربحا أو تعويضا...

(و تنفسوا قبل ضيق الخناق و انقادوا قبل عنف السياق). انتهزوا الفرصة و اعملوا و استغلوا أوقاتكم و اجمعوا الحسنات قبل أن يأتيكم الموت و شدائده و ما فيه من غم فيقطع ذلك كله، و انقادوا لما أمر اللّه و أطيعوه قبل أن تأتي ملائكة الموت فيجذبون الأرواح و يسوقونكم قهرا عنكم بقوة و قسوة...

(و اعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ و زاجر لم يكن له من غيرها لا زاجر و لا واعظ). إذا لم يعن هذا الإنسان على نفسه الشريرة من داخل نفسه سقطت عندها كل الزواجر و المواعظ الخارجية... و المواعظ الداخلية هي الرشد العقلي و التفكر و الانتباه و حكم العقل بزوال هذه الدنيا و فنائها و بقاء الآخرة و دوامها... هي حكم العقل بحسن الطاعة للّه و قبح المعصية و حمل هذه النفس على الأولى و زجرها عن الثانية و كم من فرد هداه اللّه بلفتة صغيرة إلى نفسه أنقذته من الجحيم و أدخلته جنات النعيم...

ص: 54

91 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

تعرف بخطبة الأشباح، و هي من جلائل خطبه عليه السلام روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الخطبة على منبر الكوفة، و ذلك أن رجلا أتاه فقال له: يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثلما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة، فغضب و نادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله، فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون، فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على النبي صلى اللّه عليه و آله، ثم قال:

وصف الله تعالى

اشارة

الحمد للّه الّذي لا يفره (1) المنع (2) و الجمود (3)، و لا يكديه (4) الإعطاء و الجود، إذ كلّ معط منتقص سواه، و كلّ مانع مذموم ما خلاه، و هو المنّان (5) بفوائد النّعم، و عوائد (6) المزيد و القسم، عياله (7) الخلائق، ضمن أرزاقهم (8)، و قدّر أقواتهم (9)، و نهج (10) سبيل الرّاغبين إليه، و الطّالبين ما لديه، و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل. الأوّل الّذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، و الآخر الّذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، و الرّداع أناسيّ (11) الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال. و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال، و ضحكت عنه أصداف (12) البحار، من فلزّ (13) اللّجين (14) و العقيان (15)، و نثارة الدّرّ (16) و حصيد المرجان (17)، ما أثّر ذلك في جوده، و لا أنفد (18) سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخائر (19) الأنعام ما لا تنفده

ص: 55

مطالب الأنام، لأنّه الجواد الّذي لا يغيضه (20) سؤال السّائلين، و لا يبخله إلحاح (21) الملحّين.

اللغة

1 - يفره: من وفر وفورا إذا تم و كمل و يفره يزيد ماله و فورا و يتممه.

2 - المنع: منعه الشيء و منه و عنه حرمه إياه و المانع الضنين الممسك.

3 - الجمود: البخل.

4 - يكديه: يفقره و ينفد خزائنه.

5 - المنان: من المنّ و هو إظهار الاصطناع و اعتداد الضايع كأن تقول: ألم أعطك ألم أعنك ألم...

6 - العوائد: جمع العائدة و هو المعروف و الصلة.

7 - العيال: للرجل هم أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه.

8 - ضمن أرزاقهم: تكفّل و التزم بأرزاقهم.

9 - الأقوات: جمع قوت ما يأكله الإنسان و يقتات به.

10 - نهج: الأمر أبانه و أوضحه.

11 - أناسي: جمع انسان و انسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتازا عنها في لونها.

12 - الأصداف: غشاء الدّر.

13 - الفلز: بكسر الفاء و اللام و تشديد الزاء الجوهر النفيس.

14 - اللجين: الفضة الخالصة.

15 - العقيان: الذهب الخالص.

16 - نثارة الدر: ما تناثر منه، و الدر هو اللؤلؤ.

17 - المرجان: جمع مرجانة صغار اللؤلؤ.

18 - أنفد: من نفد الشيء إذا فني.

19 - الذخائر: جمع ذخيرة ما يخبؤه الإنسان لوقت الحاجة.

20 - يغيضه: ينقصه.

21 - الإلحاح: مصدر ألحّ على الأمر أي أقام عليه دائما فهو يطلبه مستمرا.

ص: 56

الشرح

(الحمد للّه الذي لا يفره المنع و الجمود و لا يكديه الإعطاء و الجود إذ كل معط منتقص سواه و كل مانع مذموم ما خلاه). ابتدأ عليه السلام بحمد اللّه و وصفه بأوصاف الجلال و الكمال تنزيها له عما لا يليق به و عما ذهب إليه هذا السائل أو توهمه.

الحمد للّه الذي لا يزيد في ملكه منعه عن العطاء كما أنه لا ينقص من ملكه شيء إذا منح و أعطى فملكه ثابت لا يتعرض للزيادة بالمنع كما لا يتعرض للنقصان بالعطاء.

و قد بيّن ميزة اللّه عن البشر و إن كل معط من الناس ينقص رصيده إذا أعطى و كل من يمنع عن العطاء و هو قادر عليه يذم و يعاب و أما اللّه فهو سبحانه الذي لا ينقص من ملكه شيء إذا أعطى و لا يذم إذا منع لأن ما يملكه الإنسان محدود معدود و بالعطاء يقل أو ينقص أما هو سبحانه فإنه يملك الكون و ما فيه و عطاؤه يبقى تحت يده و سلطانه دون نقصان.

و من لم يعط من الناس يوصف بالبخل و الشح و يذم على بخله و منعه و أما اللّه فإنه سبحانه يمنع من العطاء لحكمة راجعة لصالح هذا الإنسان فالمنع منه صفة كريمة كالعطاء سواء بسواء.

ثم إن المنع إنما يكون مذموما إذا كان فاعله مانعا لذي حق حقه و سبحانه ليس كذلك إذ ليس لأحد على اللّه حق حتى يكون منعه مذموما.

و سئل الرضا عليه السلام عن الجواد؟.

فقال: إن لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض اللّه عليه و إن كنت تسأل عن الخالق فهو الجواد إذا أعطى و هو الجواد إذا منع لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك و إن منعك منعك ما ليس لك.

و أخيرا الذي يطرأ عليه النقص و يوصف بالبخل هو الممكن و ليس واجب الوجود المستغني عن كل موجود...

(و هو المنان بفوائد النعم). و هذه صفة كريمة للّه يمتدح نفسه بها و هو إنه الذي يستحق أن يمنّ على عباده بما أعطاهم و منحهم من النعم تذكيرا لهم بوجوب القيام بشكرها و إداء ما عليهم من حقها...

(و عوائد المزيد و القسم). و كذلك له المنة بعطاياه الكثيرة و ما قسمه لعباده سواء

ص: 57

كان القسم أمرا ماديا أم معنويا...

(عياله الخلائق ضمن أرزاقهم و قدر أقواتهم). عيال الرجل من يعولهم و يتكفل بهم و عليه مؤنتهم و باعتبار أن اللّه هو القائم بشئون الخلق و الرازق لهم و المعطي فهم عياله و قد تكفل لهم بصلاح دنياهم و آخرتهم أما في الدنيا فقد أخذ على نفسه أن يرزقهم ما يكملون به شوط الحياة من الأرزاق و أعطى لكل نفس نصيبها مما تحتاج من القوت فهو سبحانه الذي رزق النطفة في رحم الأم و رباها هو سبحانه الذي حول ذلك الرزق إلى ثديها فأعطته لبنا سائغا ثم رزقه بعد الفطام و كذلك بعد أن أصبح رجلا إلى أن تنتهي حياته من هذه الأرض...

(و نهج سبيل الراغبين إليه و الطالبين ما لديه). و هو سبحانه قد سنّ للراغبين إليه و إلى المتقربين منه و للطالبين ما عنده من نعيم و خير سن لهم الشريعة التي تؤهلهم لبلوغ مرامهم و الوصول بهم إلى مرادهم فإن من عمل بأحكام اللّه و اتبع ما أنزل استطاع الوصول إلى اللّه و إدراك ما عنده من النعيم...

(و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل). هذا تنزيه للّه عن صفات المخلوقين من البشر الذين يتأثرون بالسؤال فيعطون إذا سئلوا و قد يمنعون بدونه و اللّه منزه عن ذلك يعطي على كل حال حسب قابلية الموضوع و أهليته و قد أعطى بدون سؤال لكل نفس ما تعيش فيه و تحفظ وجودها منذ كونها نطفة و إلى آخر العمر...

(الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله و الآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده). هو الأول بحسب كونه علة للوجود و لكل موجود لأنه خالقها و صانعها و لكن أوليته ليس لها حد لأنها متى تحددت بزمان كان هناك شيء قبله و لا أقل من الزمان و اللّه سبحانه كان و لم يكن زمان و لا مكان و كذلك آخريته باعتبار أنه الباقي بعد فناء الأشياء و ليس معناه أن له نهاية يتوقف عندها و إلا لم يكن واجب الوجود لأنه متى حدد له أمد كان هناك بعده شيء و لا أقل من الزمان نفسه و اللّه سبحانه منزه عن ذلك...

(و الرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه). و هذا من مواقع عظمة اللّه جل جلاله أنه يمنع حدقات العيون أن تطاله أو تدركه لأنها لا تدرك إلا المحدود المنظور و اللّه منزه عن الجهة التي تحده و عن الجسمية و عوارضها التي تقع تحت النظر قال تعالى: «لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ» .

(ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال). اللّه هو الذي خلق الزمان فلا يأتي عليه الزمان أو يقع تحت دورته حتى يؤثر فيه و يعرّضه لما تتعرض إليه الأشياء من نقص أو

ص: 58

تلف أو غيرها من الأمور التي يأتي عليها الزمن فيغيرها...

(و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال). اللّه سبحانه فوق الزمان و المكان، كان سبحانه و لم يكونا و يبقى و يفنى كل شيء، فلم يكن مكان حتى يقال: إنه كان في هذا المكان و تحول منه الى غيره من الأمكنة.

(و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداف البحار من فلز اللجين و العقيان و نثارة الدر و حصيد المرجان ما أثر ذلك في جوده و لا أنفد سعة ما عنده). و هذا بعض من الكرم الإلهي و الرصيد الرباني ذكره لرغبة الناس فيه و تنافسهم في اقتنائه و إن عطاءه لا ينفد و لا يتوقف و لا يؤثر عليه شيء، فلو وهب كل غال و نفيس بما في البر و البحر ما نقص ملكه و لا شح عطاؤه، لو وهب ما أخرجت الجبال من الفضة و الذهب و البحار من الدر و المرجان ما نفد ما عنده و لا تأثر به لأن العطاء يؤثر في البشر من حيث نقصان رصيدهم مهما كان كبيرا و تصغيره مهما كان عظيما أما من يملك الموجود و يبتدع كل ما يريد بكلمة كن فلن يتأثر بذلك بوجه من الوجوه...

(و لكان عنده من ذخائر الأنعام ما لا تنفد مطالب الأنام لأنه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السائلين و لا يبخله إلحاح الملحين). فاللّه سبحانه لا تنفد خزائنه مهما كانت مطالب البشر و حاجاتهم كثيرة لأنه الجواد المطلق الذي لا ينقصه سؤال السائلين مهما كانت كثيرة لأنها أقل من أن تؤثر عليه لأنه الغني بالذات موجد الأشياء من العدم، كما أنه لا يقع عليه ما يقع على البشر من البخل إذا أكد الإنسان عليهما لطلب و داوم و كرر ذلك، لأن ما عندهم ينفد و يقل فيصدر عنهم البخل و الشح حفظا لما لهم و إبقاء له، و أما اللّه فهو مصدر العطاء و ليس في ساحته بخل أو شح...

صفاته تعالى في القرآن

اشارة

فانظر أيّها السّائل: فما دلّك (1) القرآن عليه من صفته فائتمّ به (2) و استضىء بنور هدايته، و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه (3)، و لا في سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أئمّة الهدى أثره، فكل (4)

ص: 59

علمه إلى اللّه سبحانه، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك. و اعلم أنّ الرّاسخين (5) في العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام (6) السّدد (7) المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح اللّه - تعالى - اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التّعمّق (8) فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين. هو القادر الّذي إذا ارتمت (9) الأوهام (10) لتدرك منقطع (11) قدرته، و حاول الفكر المبرّأ (12) من خطرات (13) الوساوس (14) أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، و تولّهت (15) القلوب إليه، لتجري في كيفيّة صفاته، و غمضت (16) مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصّفات لتناول علم ذاته، ردعها (17) و هي تجوب (18) مهاوي (19) سدف (20) الغيوب، متخلّصة إليه - سبحانه - فرجعت إذ جبهت (21) معترفة بأنّه لا ينال بجور (22) الاعتساف (23) كنه (24) معرفته، و لا تخطر ببال أولي الرّويّات (25) خاطرة من تقدير جلال عزّته. الّذي ابتدع (26) الخلق على غير مثال (27) امتثله (28)، و لا مقدار احتذى عليه (29)، من خالق معبود كان قبله، و أرانا من ملكوت قدرته، و عجائب ما نطقت به آثار حكمته، و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك (30) قوّته، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، فظهرت البدائع الّتي أحدثتها آثار صنعته، و أعلام حكمته، فصار كلّ ما خلق حجّة له و دليلا عليه، و إن كان خلقا صامتا (31)، فحجّته بالتّدبير ناطقة، و دلالته على المبدع قائمة (32).

فأشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك، و تلاحم (33) حقاق (34) مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد (35) غيب ضميره على معرفتك، و لم

ص: 60

يباشر (36) قلبه اليقين بأنّه لا ندّ (37) لك، و كأنّه لم يسمع تبرّؤ (38) التّابعين من المتبوعين إذ يقولون: «تاللّه إن كنّا لفي ضلال مبين. إذ نسوّيكم بربّ العالمين»! كذب العادلون بك (39)، إذ شبّهوك بأصنامهم، و نحلوك (40) حلية (41) المخلوقين بأوهامهم، و جزّأوك تجزئة المجسّمات (42) بخواطرهم، و قدّروك (43) على الخلقة (44) المختلفة القوى، بقرائح (45) عقولهم. و أشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات (46) آياتك، و نطقت عنه شواهد (47) حجج بيّناتك، و إنّك أنت اللّه الّذي لم تتناه (48) في العقول، فتكون في مهبّ فكرها مكيّفا (49)، و لا في رويّات (50) خواطرها فتكون محدودا مصرّفا (51).

اللغة

1 - دلك: أرشدك، و هداك.

2 - أئتم به: جعله إماما و اقتدى به.

3 - الفرض: الواجب.

4 - فكلّ علمه: فوض علمه.

5 - رسخ: ثبت.

6 - الاقتحام: الدخول في الأمر بشدة دفعة.

7 - السّدد: جمع سدة الباب، أو الرتاج.

8 - التعمق: في الأمر المبالغة لطلب أقصى غايته.

9 - ارتمت: ترامت، تقاذفت و تضاربت.

10 - الأوهام: جمع الوهم ما يقع في القلب من الخاطر.

11 - منقطع: الشيء ما إليه ينتهي.

12 - المبرّأ: المجرد، المنزه.

13 - خطر: الشيء إذا عرض له.

14 - الوساوس: ما يخطر في القلب من شر أو ما لا خير فيه.

ص: 61

15 - تولهت: من الوله و هو شدة العشق، و التحير.

16 - غمضت: من غمض الحق إذا خفي مأخذه.

17 - ردعها: منعها، و كفّها.

18 - تجوب: من جاب البلاد إذا قطعها.

19 - المهاوي: المهالك.

20 - السدف: جمع السدفة و هي الظلمة.

21 - جبهه: رده.

22 - الجور: الظلم.

23 - الاعتساف: هو المشي على غير جادة معلومة.

24 - كنه: الشيء، أصله و حقيقته.

25 - الرويّات: جمع رويّة و هي الفكر.

26 - الابتداع: هو إيجاد الشيء من العدم المحض على غير مثال سابق.

27 - المثال: المقدار و الصفة.

28 - امتثله: حاذاه و حاكاه.

29 - احتذى عليه: سلك مسلكه.

30 - المساك: بكسر الميم ما يمسك الشيء.

31 - الصامت: كل ما ليس بناطق فيشمل كل ما عدا الإنسان.

32 - قائمة: شاهدة.

33 - التلاحم: تلاصق الشيء و تلاؤمه.

34 - الحقاق: جمع حق و هو رأس العظم عند المفصل.

35 - يعقد: من عقد الحبل نقيض حلّه و عقد البيع أحكمه.

36 - يباشر: من باشر الأمر إذا تولاه بنفسه.

37 - الند: المثل و النظير.

38 - تبرأ: من هذا الفعل.

39 - العادلون بك: الذين جعلوا لك عديلا و نظيرا.

40 - نحلوك: أعطوك.

41 - الحلية: الصفة.

42 - المجسمات: جمع مجسّم و هو كل جسم له طول و عرض و عمق.

43 - قدروك: قاسوك.

44 - الخلقة: بكسر الخاء الفطرة.

45 - القرائح: جمع قريحة و هي قوة الفكر.

ص: 62

46 - المحكمات: جمع محكم و هو المتقن، الذي ليس له إلا معنى واحد واضح.

47 - الشواهد: جمع شاهد و هو الذي يخبر بما شهده و رآه.

48 - تناه الشيء: بلغ الغاية.

49 - المكيف: ذو الكيفية المخصوصة.

50 - رويات: جمع روية و هي الفكر.

51 - مصرفا: من تصريف الرياح و هو تحويلها من وجه إلى وجه و من حال إلى حال.

الشرح

(فانظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به و استضيء بنور هدايته).

و هذا إرشاد و بيان و إن كان يخاطب به السائل و لكن يراد به العموم - يبين فيه الإمام كيف يكون الثناء على اللّه و أوصافه التي هي له...

أرشده إلى القرآن الذي هو خطاب اللّه لهذا الإنسان و به كل الحقائق الصادقة فما وصف اللّه به نفسه فكن أنت - و جميع الخلق مقتدون به سائرون على نهجه، وصف نفسه بالرحمان الرحيم العليم الخبير السميع البصير إلى غيرها من الصفات فالمؤمن يصف اللّه بكل ما جاء له من صفة و يأخذ الحقيقة صافية نقية طاهرة من هذا الكتاب الكريم...

(و ما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه و لا في سنة النبي صلى اللّه عليه و آله و أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى اللّه سبحانه فإن ذلك منتهى حق اللّه عليك). لما أمره باتباع ما ورد في القرآن من صفات اللّه نهاه أن يتبع ما يكلفه الشيطان علمه مما ليس موجودا في الكتاب الكريم و سنة النبي و الأئمة و ذلك أن الشيطان بوساوسه يأخذ في تفكير الإنسان و يشده إلى البحث وراء ما ورد في الكتاب و السنة و يحثه إلى التعمق في الأمور حتى يشط به التفكر و ينحرف فيأخذ في وصف اللّه بما لا يليق به و لا يناسب ذاته الشريفة.

أما إذا وقف عند الصفات المذكورة في الكتاب و السنة و ترك الأمر في غير ذلك إلى اللّه بأن يؤمن على وجه الإجمال بكل صفة هي للّه كمال كفاه ذلك و لا يحتاج إلى الزيادة و يكون قد بلغ النهاية في أداء حق اللّه المتوجب عليه...

(و اعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون

ص: 63

الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب). و هذا ترغيب لهذا الشخص و لنا بذكر الراسخين في العلم أصحاب العلم الثابت الذين يعرفون حقائق العلم و بحور المعرفة فهؤلاء من خلال موقفهم يمكن أن يكونوا قدوة لنا و أسوة، هؤلاء استغنوا عن طرق هذه الأبواب المسدودة و الأسوار المضروبة دون هذا الغيب المجهول بالاعتراف على وجه الإجمال بكل ما جهلوا تفسيره و معرفته من هذا الغيب المحجوب.

فما كان مستورا لم يعرفوا معناه أوكلوا معرفته إلى اللّه و اكتفوا بذلك...

(فمدح اللّه تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما و سمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا). قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ » . فهؤلاء الراسخون في العلم المتعمقون فيه إذا وصلوا إلى الأبواب الموصدة و لم يقدروا على فتحها بمعرفتهم لم يذهبوا بعيدا بل عادوا بها إلى اللّه و آمنوا بها على إجمالها و أوكلوا معرفتها للّه فمدحهم اللّه بأنهم الراسخون في العلم.

(فاقتصر على ذلك و لا تقدر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين). أمره أن يقتصر على ما ورد في الكتاب و السنة عن النبي و أئمة الهدى لأن في ذلك كفاية لبيان المطلوب و ما زاد عن ذلك فيكل علمه إلى اللّه و نهاه بعد ذلك عن أن يقدر عظمة اللّه و سلطانه و ما له بحسب عقله القاصر فيهلك لأن العقل البشري لقصوره عن إدراك عظمة اللّه يصوّر العظمة بحسب ما يتوهمه من الأمور التي رآها فيقع في تكوين صورة العظمة الإلهية على غير حقيقتها و يعتقد صحتها و بذلك يخرج عن الحقيقة و يهلك نفسه لانحرافه و نسبته إلى اللّه من الأمور ما لا يليق بشأنه.

(هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته و حاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته). ذكر أن اللّه هو القادر بقول مطلق الذي لا يعجزه شيء...

و ذكر عليه السلام بعض المحاولات التي يمكن أن يقوم بها الإنسان ثم رد الإمام باستحالة الوصول إلى الغاية و بفشل جميع المحاولات...

و أولها فشل الأوهام التي إذا جالت و صالت و استرسلت بكل قدرتها مجدة في الوصول إلى غاية و منتهى قدرة اللّه عجزت و كلت...

ص: 64

و ثانيها ما يمكن أن يحاوله الفكر الصافي الطاهر الموضوعي النزيه الذي لا تشوبه شائبة الوسوسة و الانحراف أو شيء من الاضطراب ليصل إلى مغيبات علمه كذلك عجز و كلّ و رجع خاسئا...

(و تولّهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته و غمضت مدخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ردعها). و هذه ثالثة المحاولات الفاشلة التي لم يكتب لها الفوز و النجاح إن القلوب مهما اشتد عشقها إليه فإنها تعجز عن ادراك صفاته و معرفتها على حقيقتها لأن الصفات عين الذات و هذا الإنسان اعجز من أن يصل إلى ذلك.

و رابع المحاولات الفاشلة أن العقول إذا استطاعت أن تنفذ إلى دقائق العلوم النظرية و عمقها بحيث بلغت حد العجز في وصفها لدقتها طالبة أن تعلم حقيقة ذاته عجزت عن ذلك وردها و منعها عن ادراك ما أملت و هذا المنع و العجز لقصور في هذه الوسائل و الآلات و لعظمة اللّه و جلاله الذي لا يحدّ و لا يعدّ و لا يقع تحت شيء من وسائل البشر.

(و هي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه - سبحانه فرجعت إذا جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته و لا تخطر ببال اولي الرويّات خاطرة من تقدير جلال عزته). إن تلك المحاولات ردها اللّه و منعها و هي تقطع ظلمات الغيوب لادراك ذات اللّه أو صفاته أنه سبحانه منعها عن ذلك فاعترفت بعد هذا التجوال الطويل أنه سبحانه لا يدرك و لا يعرف بهذا الاسلوب و لا يمكن الوصول إليه بهذا الطريق غير السليم لأن بينه و بين خلقه منازل غير متناهية لا يمكن ادراكها أو الوقوف عليها و اجتيازها.

و كذلك اعترفت العقول الحصيفة بأنها لا تقدر على أن تتصور جلال اللّه و قوته و عزته على حقيقتها و كما هي في الواقع...

(الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله و لا مقدار احتذى عليه من خالق معبود كان قبله). و هذه إحدى صفات اللّه الكريمة و بها ينزه عن مشاركة البشر، إنه سبحانه خلق الخلق من العدم و أنشأه من اللاوجود بدون أن يتصوره أولا ثم يخلقه كما يتصوره كما أنه لم يكن ايجاده له على نحو قد تقدم عليه و وجود سابق من إله معبود غيره ثم هو قلده في ذلك و اتبعه في خلق هذا العالم، حاشا للّه أن يكون كذلك و هو الأول الذي تنتهي إليه الموجودات و هو الآخر الذي لا آخر له...

(و أرانا من ملكوت قدرته و عجائب ما نطقت به آثار حكمته و اعتراف الحاجة من

ص: 65

الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوته). هذا بيان لا مكان معرفته بآثاره و ما خلقه من هذا العالم فإنه سبحانه أرانا من ملكه العظيم الذي خلقه بقدرته ما يدل على معرفته.

كما أن عجائب افعاله و أعماله و ما افصحت عنه من الاتقان و الحكمة و السداد و الصواب يدل على أن هناك خالقا مبدعا لها و قائما عليها.

و كذلك المخلوقات كلها تحكي فقرها و حاجتها إليه ليبقى وجودها و يحفظها من التفتت و الانهار..

(ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته). أرانا جميع ما تقدم - من ملكوت القدرة و عجائب آثاره و اعتراف الحاجة من الخلق - أرانا كل هذا ليدلنا من خلالها بالبداهة و الفطرة و بالنظرة البسيطة إلى وجود الأدلة و البراهين على وجوده فإن من تفكر في هذه الأمور اكتشف من خلالها بكل بساطة وجود اللّه و أهم صفاته كالقدرة و العلم و غيرها...

(فظهرت البدائع التي احدثتها آثار صنعته و أعلام حكمته فصار كل ما خلق حجة له و دليلا عليه و إن كان خلقا صامتا فحجته بالتدبير ناطقة و دلالته على المبدع قائمة). ما ابدعه اللّه من خلقه في حسن صورة و تناسق و دقة و حكمة سواء كان في العالم الكبير الذي هو الكون أو العالم الصغير الذي هو الإنسان كل ذلك حجة له على خلقه بأنه اللّه الواحد الأحد و دليلا يدل عليه فصار كل ما خلق يحكي عن وجوده و حجة له على خلقه و دليلا عليه حتى الصامت كالجمادات تحكي وجود اللّه و تدل عليه بلسان الحال الذي يحكمها و هو الامكان و الفقر و احتياجها إلى موجد يوجدها و يخرجها من زاوية العدم فإن كل ذلك يحكي عنه و يبرهن على وجوده...

(فاشهد أن من شبهك بتباين اعضاء خلقك و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبه لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك و لم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ندلك).

أراد عليه السلام أن ينزه اللّه عن مشابهته لمخلوقاته فشهد أن من شبه اللّه بخلقه الذين خلقهم و خلق لهم اعضاء متباينة و جعلها متلاحمة مكسوة باللحم لتحفظ من الفساد من شبّه اللّه بمثل هذا المخلوق ذو التركيب لم يعرف اللّه و لم يهتد إليه و لم يحصل له اليقين بأنه لا نظير له و لا شبيه.

(و كأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون «تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ » ). هذا شاهد له و دليل على ما قال من أن من شبه اللّه بخلقه لم يعرفه فقد حكت الآية الكريمة قول المشبهة فقال تعالى: «فَكُبْكِبُوا فِيهٰا هُمْ »

ص: 66

«وَ اَلْغٰاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ » و قالوا و هم فيها يختصمون «تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ » . فقد انتبهوا لضلالهم و كفرهم حينما سووا اللّه بخلقه و شبهوه بهم فقد حكى اللّه عنهم منكرا تصرفهم و ما ذهبوا إليه من تسويتهم للّه بهم...

(كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم).

أراد زيادة التأكيد على ضلال المشبهة فقال إن من ساواك بغيرك فقد كذب و لم يصدق و لم يعرف الحقيقة، أرادوا تشبيهك بأصنامهم الجامدة فقالوا: إنك مثلها صورة و هيئة و لذا وضعوها في أماكن عبادتهم ليضلوا العباد.

و كذلك كذب الذين اعطوك صفة المخلوقين من خلقك بشرا أم ملائكة فإن أوهامهم القاصرة صورت لهم أنهم قد وصلوا إلى الحقيقة و أدركوا الواقع و لكنهم لم يحصلوا إلا على الانحراف و الضلال.

(و جزأوك تجزئة المجسمات بخواطرهم و قدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم). و كذب الذين جعلوك مركبا و جزأوك كما تتجزأ المجسمات التي لها طول و عرض و ارتفاع و كذلك كذب الذين قدروك على صورة بشر تحكمك هذه العناصر المختلفة التي يتكون منها الجسد فإن هذا منتهى ما وصلت إليه عقولهم و هي قاصرة عن ادراك الحقيقة و الوصول إليها...

(و أشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك و العادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك و نطقت عنه شواهد حجج بيناتك). و هذه شهادة ثانية على كفر من شبه اللّه بخلقه لأن من شبه اللّه بخلقه فقد ساواه بغيره و من ساواه بغيره جعل له شريكا و هو كفر صريح و إلحاد فصيح بحكم الآيات الواضحة في الكتاب العزيز حيث يقول:

«وَ جَعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّٰارِ» و كذلك العقول السليمة تصل إلى ما نطقت به الآية و شهد به الإمام.

(و إنك أنت اللّه الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيفا و لا في رويات خواطرها فتكون محدودا مصرفا). و هذه شهادة ثالثة تنزهه عن كل نقص، إنك أنت اللّه الذي لم تستطع العقول أن تحدد منتهاك و تدرك حقيقة صفاتك فإنها لو استطاعت ذلك بفكرها نجعلك على كيفية معينة من هيئة أو لون أو تركيب أو غيرها مما يحددك و يحصرك.

كما أن الخواطر البشرية و الأفكار التي يمكن أن تمر في ذهن الإنسان لا تستطيع أن تهتدي إلى حقيقة صفاته و الوصول إلى نهايتها بعد تقليب صفاته و تحويلها منه و عنه و إليه

ص: 67

فإن ذلك يجعله متغيرا من حال إلى حال و متقلب من هيئة إلى هيئة و متغير يخضع إلى تقلبات الفكر و تحولاته و لما كان هذا غير سليم لم يمكن ذلك في حق العقول..

و منها

اشارة

و منها: قدّر (1) ما خلق فأحكم تقديره (2)، و دبّره فألطف تدبيره (3)، و وجّهه (4) لوجهته فلم يتعدّ (5) حدود منزلته، و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته، و لم يستصعب (6) إذ أمر بالمضيّ على إرادته، فكيف و إنّما صدرت الأمور عن مشيئته ؟ المنشيء أصناف الأشياء بلا رويّة (7) فكر آل (8) إليها، و لا قريحة (9) غريزة (10) أضمر عليها، و لا تجربة أفادها (11) من حوادث الدّهور، و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور، فتمّ خلقه بأمره، و أذعن (12) لطاعته، و أجاب إلى دعوته، لم يعترض دونه ريث (13) المبطئ (14)، و لا أناة (15) المتلكّىء (16)، فأقام من الأشياء أودها (17)، و نهج (18) حدودها، و لاءم (19) بقدرته بين متضادّها، و وصل أسباب قرائنها (20)، و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الأقدار، و الغرائز (21) و الهيئات، بدايا (22) خلائق أحكم صنعها، و فطرها على ما أراد و ابتدعها!.

اللغة

1 - قدّر: الشيء بالشيء قاسه به و جعله على مقداره.

2 - أحكم التقدير: أتقنه.

3 - التدبير: للأمور النظر إلى ما يؤل إليه عاقبتها.

4 - وجهه: الشيء جهته التي يتوجه إليها.

5 - تعدى: تجاوز.

ص: 68

6 - يستصعب: من استصعب المركوب إذا لم ينقد في السير لراكبه.

7 - الرويّة: الفكر.

8 - آل: رجع.

9 - قريحة: القريحة أول ما يستنبط من ماء البئر و فلان جيد القريحة إذا كان يستنبط العلم بجودة الطبع.

10 - الغريزة: الطبيعة.

11 - أفادها: استفادها و انتفع بها.

12 - أذعن: خضع و ذل.

13 - الريث: البطؤ.

14 - المبطئ: ضد المسرع، المتأخر.

15 - الإناة: البطؤ، الحلم، الوقار، التثبت.

16 - المتلكىء: التباطؤ عن الأمر و التوقف فيه.

17 - الأود: الاعوجاج.

18 - نهج: سنّ و شرع.

19 - لاءم: بين كذا و كذا إذا جمع بينهما.

20 - قرائنها: جمع القرينة و هي الأنفس.

21 - الغرائز: جمع الغريزة و هي الطبيعة.

22 - بدايا: جمع بدية الخلقة العجيبة.

الشرح

(قدّر ما خلق فأحكم تقديره). ما خلقه من مخلوقاته مقدر بدقة متناهية بحيث لو زاد أو نقص أو تقدم أو تأخر أو تغيّر عما هو عليه لم يأت كاملا تاما فالشمس لو كانت في غير موقعها لتجمدت الأشياء إن بعدت و لاحترقت إن قربت و هكذا كل شيء تأخذه تجده في موضعه بدون خلل و لو تغيّر موقعه لوقع الخلل...

(و دبره فألطف تدبيره). جعل كل شيء وفق المصلحة و الحكمة و ضمن النظام العام.

(و وجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته و لم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته). فلكل مخلوق وظيفة في الحياة يجب أن يقوم بها

ص: 69

و لكل واحد دور يجب أن يؤديه فالنحلة مخلوقة لإنتاج العسل و العين للرؤية و هكذا كل واحدة لا تتجاوز عما رسم لها و حدد فلم تخرج النحلة عن وظيفتها لغيرها من الأمور فلا تقدر على أن تحل محل النور أو السيف كما أنها لا تقدر على الكف عما من أجله كانت و وجدت فلا تقدر على عدم انتاج العسل...

كما أن كل مخلوق إذا أمر بمقتضى الأمر التكويني لا يقدر على التمرد و العصيان و عدم تنفيذ الأمر.

(فكيف و إنما صدرت الأمور عن مشيئته ؟). علل نفي الاستصعاب بأن الأمور كلها كانت بإرادته و مشيئته و إذا كانت بأصل وجودها بيده فكيف يمتنع عليه منها ما يتفرع عنها و يخرج منها و يتوقف عليها فإذا كان الأصل محكوما بإرادة اللّه فتوابعه تتبعه...

(المنشىء أصناف الأشياء بلا روية فكر آل إليها). أراد عليه السلام أن ينزه اللّه عن صفات المخلوقين فهو سبحانه خلق أصناف الأشياء بدون إجالة فكر و عودة إلى ما عنده من معلومات على حدّ ما تعارف عليه البشر.

(و لا قريحة غريزة أضمر عليها). و كذلك لا يحتاج إلى استعمال قوة الفكر و جودته يجيلها ليستخرج منها الخلق.

(و لا تجربة أفادها من حوادث الدهور). و اللّه منزه عن أن يستفيد مما مرّ في الحياة من الحوادث ليأخذ منها الدروس و العبر و يخلق الخلق كما مر فيما مضى على مستوى ما يعيشه البشر فيصنع هذا جهازا لالتقاط الأصوات مثل ما صنع غيره من قبل.

(و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور). فهذه الأمور العجيبة و المخلوقات الغريبة من سماء و أرض و إنسان و حيوان و صامت و ناطق و جامد و متحرك كلها بيده لم يعاونه شريك و لم يحتج إلى معين...

(فتم خلقه بأمره و أذعن لطاعته و أجاب إلى دعوته). كملت مخلوقاته كما أراد بأمره و إرادته و انقاد لطاعته كل ما خلق و لم يقدر بلسان الحال على التمرد و أجاب دعوته التي أطلقها في خلقه فكان بكلمة كن التكوينية كل شيء موجود في محله و في وقته و كما أراد...

(لم يعترض دونه ريث المبطئ و لا أناة المتلكىء). نزه اللّه أن يعترض سبيل أمره و تنفيذ مراده ما يعترض البشر إذا أرادوا أمرا فإنه يعترض مرادهم بطؤ أو تأخر أو تريث و انتظار و اللّه منزه عن ذلك لأنه بهبة الوجود توجد الأشياء و لا يحتاج إلى كلمة كن إلا

ص: 70

ليعبر بها عن سرعة إرادته و طاعة الأشياء له...

و قد يكون مراده أن الأشياء نفسها لا تتأخر عن أمره أو تبطىء عن إجابته أو تتلكأ عن ذلك.

(فأقام من الأشياء أودها و نهج حدودها). رفع اعوجاج الأشياء بأن أكمل صنعها و أتمه و سيّرها لما خلقت له كما أنه بيّن لكل شيء هدفه و طريقه الذي يسعى فيه.

(و لاءم بقدرته بين متضادها و وصل أسباب قرائنها). و هذه قدرة اللّه العظيمة أنه جمع في هذا المخلوق ما هو متضاد و ما لا يمكن جمعه حيث جمع فيه العناصر الأربعة الهواء و الماء و النار و التراب أو أنه جمع فيه ما لا يمكن جمعه كالحب و البغض و الرضا و السخط و هكذا دواليك.

و وصل هذه النفوس و هي من عالم النور بهذه الأجسام و هي من عالم الظلمة.

أو المراد أنه ألهمه إلى ما هو أولى بها في معاشها و معادها و ما ينفعها و يضرها.

(و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات بدايا خلائق أحكم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها). وزّعها و قسمها إلى أقسام مختلفة فكل واحدة لها حدودها التي تتميز بها و تختلف عن غيرها فهذا طويل و ذلك قصير هذا أسود و ذاك أبيض هذا جميل و ذاك قبيح و جعل لكل واحد غريزة توجهه و تتحكم بمسار حياته فهذا شجاع و ذاك جبان و هذا كريم و ذاك بخيل و هذا شريف و ذاك وضيع و كذلك جعل لكل واحد هيئة معينة فبعضهم حسن و الآخر قبيح فلكل واحد حدود يتميز بها و قدر و غريزة و هيئة...

خلقها سبحانه بهذه الصورة العجيبة الفريدة التي لم تكن على مثال تقدم عليها فكانت هي على مثاله بل صنعها صنعا محكما كما أراد و خلقها كما أحب و ابتدعها من اللاشيء بقدرته و حكمته.

ص: 71

و منها في صفة السماء

اشارة

و نظم بلا تعليق رهوات (1) فرجها (2)، و لاحم (3) صدوع (4) انفراجها، و وشّج (5) بينها و بين أزواجها (6)، و ذلّل (7) للهابطين (8) بأمره، و الصّاعدين بأعمال خلقه، حزونة (9) معراجها (10)، و ناداها بعد إذ هي دخان، فالتحمت (11) عرى (12) أشراجها (13)، و فتق (14) بعد الارتتاق (15) صوامت (16) أبوابها، و أقام رصدا (17) من الشّهب (18) الثّواقب (19) على نقابها (20)، و أمسكها من أن تمور (21) في خرق (22) الهواء بأيده (23)، و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره، و جعل شمسها آية (24) مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة (25) من ليلها، و أجراهما (26) في مناقل (27) مجراهما، و قدّر (28) سيرهما في مدارج (29) درجهما، ليميّز (30) بين اللّيل و النّهار بهما، و ليعلم عدد السّنين و الحساب بمقاديرهما، ثمّ علّق (31) في جوّها (32) فلكها (33)، و ناط (34) بها زينتها، من خفيّات دراريّها (35) و مصابيح (36) كواكبها، و رمى مسترقي السّمع (37) بثواقب شهبها، و أجراها على أذلال (38) تسخيرها (39) من ثبات (40) ثابتها، و مسير سائرها، و هبوطها و صعودها، و نحوسها (41) و سعودها.

اللغة

1 - الرهوات: جمع رهوة المكان المرتفع و يقال للمنخفض فهو من الأضداد.

2 - الفرج: جمع فرجة بضم فسكون و هي المكان الخالي.

3 - لاحم: ألصق.

4 - الصدوع: جمع صدع و هو الشق.

5 - و وشج: بالتشديد شبّك.

ص: 72

6 - أزواجها: أقرانها و أشباهها.

7 - الذلول: ضد الصعب، اللّين.

8 - هبط: نزل.

9 - الحزونة: الصعوبة، ضد السهولة.

10 - المعراج: السلم و المصعد.

11 - التحمت: التصقت.

12 - العرى: جمع عروة و هي من الدلو و الكوز المقبض.

13 - الأشراج: جمع شرج بالتحريك و هي العروة.

14 - الفتق: الشق.

15 - الرتق: ضد الفتق.

16 - صوامت: لا فراغ فيها، و أصل الصامت هو الذي لا ينطق.

17 - الرصد: جمع راصد و هو المراقب.

18 - الشهب: جمع شهاب و هو نور يمتد من السماء كالنار.

19 - الثواقب: من النجوم هي المضيئة.

20 - النقاب: جمع نقب و هو الخرق، و الثقب.

21 - تمور: تموج و تضطرب.

22 - الخرق: الثقب، و الشق، التقطيع و التمزق.

23 - الأيد: القوة.

24 - آية: علامة و دلالة.

25 - ممحوة: من المحو و هو إذهاب الأثر.

26 - أجراه: حرّكه و سيره.

27 - مناقل مجراها: الأوضاع التي ينقلان فيها من مداريها.

28 - قدّر الشيء بالشيء: قاسه به و جعله على مقداره، قدر اللّه كذا: قضى و حكم به عليه.

29 - مدارج: جمع مدرج و هو المسلك.

30 - ليميّز: ليفصل و ميز الشيء فرزه عن غيره و فصله عنه.

31 - علق الشيء: ربطه و شده و علق الشوك بالثوب إذا نشب فيه و استمسك.

32 - الجو: الهواء.

33 - الفلك: مدار النجوم.

34 - ناط بها: علق بها و أحاط.

35 - الدراري: الكواكب المضيئة و الدري بتثليث الدال نسبت إلى الدر لبياضها.

36 - المصابيح: جمع المصباح السراج و مصابيح النجوم أعلام الكواكب.

ص: 73

37 - استرق السمع: استمع مستخفيا.

38 - إذلال: على وزن إقفال جمع ذل بالكسر و هو محجة الطريق.

39 - التسخير: الإذلال و القهر.

40 - ثبات: استقرار.

41 - النحوس: الشؤوم.

الشرح

(و نظم بلا تعليق رهوات فرجها و لاحم صدوع انفراجها و وشج بينها و بين أزواجها). في هذا الفصل بيان لعظمة اللّه و قدرته من خلال خلق السماوات التي كانت أول ما خلقت غير منتظمة الأجزاء بل بعضها أعلى من بعض و بعضها أخفض من بعض فجعلها وحدة كاملة لا يظهر عليها أثر الوصل و التنظيم بخلاف ما عليه البشر عند ما يقومون بوصل الأشياء و ربطها و خياطتها تظهر أماكن وصلها و مواضع ربطها، و ألصق تلك الفروج و الشقوق فجعلها جسما متصلا و سطحا أملس لا نتؤات فيه و لا فرج و لا صدوع بل شبّك بينها و جعل كل جزء ملتصقا بمثله.

(و ذلل للهابطين بأمره و الصاعدين بأعمال خلقه حزونه معراجها). إشارة إلى الملائكة الموكلة بالعباد التي تنزل إلى الأرض حاملة معها أمر اللّه و ما يريده منهم و ما يكلفهم به و كذلك للملائكة التي تنقل إليه أعمال الخلق و ما يفعلون لقد ذلل لهؤلاء الملائكة صعوبة النزول فيها و الصعود منها...

(و ناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها). لم يكن هناك نداء على وجه الحقيقة و إنما هو لبيان سرعة الفعل من اللّه و عدم الكلفة و هي على حد قوله تعالى: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ » . فقد كانت السماء دخانا منتشرا موزعا فبأمره كان اتصالها و تشابكها و التحامها.

(و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها). فقد كانت السماء سطحا واحدا لا فرجة فيها و لا فتحة ففتقها اللّه و فتح فيها أبوابا لنزول الملائكة و صعودها...

(و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها). جعل اللّه بعض الكواكب على هذه الأبواب المفتوحة رقيبا ينظر من يقترب منها ليدخلها بدون إذن أو ليدخلها و هو ممنوع

ص: 74

منها فيتبعه شهاب منها فيحرقه و هذا مصداق قوله تعالى: «وَ أَنّٰا لَمَسْنَا اَلسَّمٰاءَ فَوَجَدْنٰاهٰا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً وَ أَنّٰا كُنّٰا نَقْعُدُ مِنْهٰا مَقٰاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهٰاباً رَصَداً» .

(و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره).

بقدرته منعها من الاضطراب و الحركه و امسكها في مكانها و بقدرته جعلها تقف مذعنة لحكمه كما أراد فهي طوع إرادته.

(و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها و قمرها آية ممحوة من ليلها و أجراهما في مناقل مجراهما و قد سيرهما في مدارج درجهما ليميز بين الليل و النهار بهما و ليعلم عدد السنين و الحساب بمقاديرهما). و الشمس و القمر من مخلوقات اللّه العظيمة و بهما تظهر قدرة اللّه و حكمته و كيف يكون النظام و دقته و قد ذكر الإمام خواصهما تبعا للقرآن الكريم.

قال تعالى: «وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنٰا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنٰا آيَةَ اَلنَّهٰارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْنٰاهُ تَفْصِيلاً» .

أ - فهما آيتان تدلان على اللّه و تحكيان عن وجوده و حكمته.

ب - جعل الشمس آية مبصرة للنهار.

و في معنى الإبصار قالوا: إن أبصار آية النهار هو بقاء الشمس بحالها و تمام ضيائها في كل حال.

و قالوا: إن إبصارها كونها مضيئة نيرة.

و قالوا: لأبصار أهلها وقت خروجها سموها مبصرة.

و أما محو آية الليل قالوا: إن محوه هو ما يظهر من الزيادة و النقصان في نور القمر.

و قالوا: إن نوره كان كنور الشمس فطمس...

ثم ذكر المناقل و المدارج لهما أي منازلهما.

قال تعالى: «وَ اَلسَّمٰاءِ ذٰاتِ اَلْبُرُوجِ » و البروج قسمها أهل الخبرة من الفلكيين إلى اثني عشر برجا هي:.

الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب،

ص: 75

القوس، الجدي، الدلو، الحوت. و الشمس تسير كل برج في شهر فتقطعها جميعا في سنة واحدة.

و للقمر منازل و هي ثمانية و عشرون و أسماؤها هي: الشرطين، البطين، الثريا، الديران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرفة، الجبهة، الدبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانا، الإكليل، القلب، الشولة، النعايم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشا و هو بطن الحوت.

و إلى هذه المنازل أشار تعالى: «وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ » و هذه المنازل يقطعها القمر في ثمانية و عشرون يوما.

و ميز اللّه بين النهار و الليل بهاتين الآيتين و لولاهما لانطمست الحياة و لم يعرف الليل من النهار.

أجرى اللّه الشمس و القمر في منازلهما ليحصل العلم بعدد السنين و الحساب و ما يحتاجه الناس في أمور دينهم و دنياهم من حضور موسم الحج أو الصلاة و الصوم أو حلول أجل الدين أو انقضاء عدة المطلقة و هكذا.

(ثم علّق في جوها فلكها). قالوا: إن اللّه سبحانه وضع كل كوكب في مكانه اللائق به و بحركاته ليؤدي الغرض المسخر له.

(و ناط بها زينتها من خفيات دراريها و مصابيح كواكبها و رمى مسترقي السمع بثواقب شهبها). علق في السماء ما يزينها من الكواكب الخفية المضيئة و الكواكب التي هي كالمصابيح و القناديل تضيء و تؤنس قال تعالى: «إِنّٰا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ » كما أنه سبحانه رمى من أراد أن يسترق السمع من السماء بما فيها من الشهب النارية التي تحرقه أو تبعده و هو من قوله تعالى: «إِلاّٰ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ مُبِينٌ » و قوله تعالى: «إِلاّٰ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ ثٰاقِبٌ » .

(و أجراها على أذلال تسخيرها من ثبات ثابتها و مسير سائرها و هبوطها و صعودها و نحوسها و سعودها). أجراها اللّه كما أراد و جعلها مسخرة لأمره كما قال تعالى:

«وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ » .

سخرها كما أراد بحيث جعل بعضها ثابت في مكانه لا يتحرك و سخر بعضها بالجريان و الحركة كالكواكب السيارة السبعة و هي القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشتري، زحل.

ص: 76

كما أنه من تسخيرها أن جعل بعضها قريبا و بعضها بعيدا.

أو أن يكون المقصود هو أن بعضها شريفا و الآخر غير ذلك.

أو يكون بعضها متوجها في الهبوط و النزول نحو الأرض و بعضها عكس ذلك.

و أما النحوس و السعود فيها فلأن دورة الفلك تؤثر تأثيرا تكوينيا في الأرزاق و الأعمار و غيرها من حيث أنها تبعث الغيث أو القحط أو الجماعة أو الفيضانات أو غيرها مع الأخذ بعين الإعتبار أن ذلك لا يحدث باختيارها و إرادتها لأنها مسلوبة الاختيار و إنما بحسب قدرة اللّه الذي رتبها في مقامها و وضعها ضمن النظام العام فاثرت بقدرته هذا الأثر.

و منها في صفة الملائكة

اشارة

ثمّ خلق سبحانه لإسكان سماواته، و عمارة (1) الصّفيح (2) الأعلى من ملكوته (3)، خلقا بديعا (4) من ملائكته، و ملأ بهم فروج فجاجها (5)، و حشابهم (6) فتوق (7) أجوائها (8)، و بين فجوات (9) تلك الفروج زجل (10) المسبّحين منهم في حظائر (11) القدس (12)، و سترات (13) الحجب، و سرادقات (14) المجد (15)، و وراء ذلك الرّجيج (16) الّذي تستكّ (17) منه الأسماع سبحات (18) نور تردع (19) الأبصار عن بلوغها (20)، فتقف خاسئة (21) على حدودها. و أنشأهم على صور مختلفات، و أقدار (22) متفاوتات، «أولي أجنحة» تسبّح جلال عزّته، لا ينتحلون (23) ما ظهر في الخلق من صنعه، و لا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا معه ممّا انفرد به، «بل عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» جعلهم اللّه فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه، و حمّلهم إلى المرسلين و دائع أمره و نهيه، و عصمهم من

ص: 77

ريب (24) الشّبهات (25)، فما منهم زائغ (26) عن سبيل مرضاته. و أمدّهم (27) بفوائد (28) المعونة (29)، و أشعر (30) قلوبهم تواضع إخبات (31) السّكينة (32)، و فتح لهم أبوابا ذللا (33) إلى تماجيده (34)، و نصب لهم منارا (35) واضحة على أعلام (36) توحيده، لم تثقلهم موصرات (37) الآثام (38)، و لم ترتحلهم (39) عقب (40) اللّيالي و الأيّام، و لم ترم الشّكوك بنوازعها (41) عزيمة إيمانهم، و لم تعترك (42) الظّنون على معاقد (43) يقينهم، و لا قدحت (44) قادحة الإحن (45) فيما بينهم، و لا سلبتهم الحيرة ما لاق (46) من معرفته بضمائرهم، و ما سكن من عظمته و هيبة جلالته في أثناء صدورهم، و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع (47) برينها (48) على فكرهم. و منهم من هو في خلق الغمام (49) الدّلّح (50)، و في عظم الجبال الشّمّخ (51)، و في قترة (52) الظّلام الأيهم (53)، و منهم من قد خرقت (54) أقدامهم تخوم (55) الأرض السّفلى، فهي كرايات (56) بيض قد نفذت في مخارق (57) الهواء، و تحتها ريح هفّافة (58) تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية، قد استفرغتهم (59) أشغال عبادته، و وصلت حقائق الإيمان بينهم و بين معرفته، و قطعهم الإيقان به إلى الوله (60) إليه، و لم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره. قد ذاقوا حلاوة معرفته، و شربوا بالكأس الرّويّة (61) من محبّته، و تمكّنت من سويداء (62) قلوبهم و شيجة (63) خيفته، فحنوا (64) بطول الطّاعة اعتدال ظهورهم، و لم ينفد (65) طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم، و لا أطلق عنهم عظيم الزّلفة (66) ربق (67) خشوعهم، و لم يتولّهم (68) الإعجاب فيستكثروا ما سلف (69) منهم، و لا تركت لهم استكانة (70) الأجلال نصيبا (71) في تعظيم حسناتهم، و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم (72)، و لم

ص: 78

تغض (73) رغباتهم (74) فيخالفوا عن رجاء ربّهم، و لم تجفّ (75) لطول المناجاة أسلات (76) ألسنتهم، و لا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس (77) الجؤار (78) إليه أصواتهم، و لم تختلف في مقاوم (79) الطّاعة مناكبهم (80)، و لم يثنوا (81) إلى راحة التّقصير في أمره رقابهم، و لا تعدو (82) على عزيمة جدّهم (83) بلادة (84) الغفلات (85)، و لا تنتضل (86) في همههم (87) خدائع (88) الشّهوات. قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة (89) ليوم فاقتهم (90)، و يمّموه (91) عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم، لا يقطعون أمد غاية عبادته، و لا يرجع بهم الاستهتار (92) بلزوم طاعته، إلاّ إلى موادّ (93) من قلوبهم غير منقطعة من رجائه و مخافته، لم تنقطع أسباب الشّفقة (94) منهم، فينوا (95) في جدّهم، و لم تأسرهم (96) الأطماع (97) فيؤثروا (98) و شيك السّعي (99) على اجتهادهم. لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم، و لو استعظموا ذلك لنسخ (100) الرّجاء منهم شفقات (101) وجلهم (102)، و لم يختلفوا في ربّهم باستحواذ (103) الشّيطان عليهم. و لم يفرّقهم سوء التّقاطع (104)، و لا تولاّهم (105) غلّ (106) التّحاسد، و لا تشعّبتهم (107) مصارف الرّيب (108)، و لا اقتسمتهم أخياف (109) الهمم، فهم أسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ (110) و لا عدول و لا ونى (111) و لا فتور (112)، و ليس في أطباق (113) السّماء موضع إهاب (114) إلاّ و عليه ملك ساجد، أو ساع حافد (115)، يزدادون على طول الطّاعة بربّهم علما، و تزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظما (116).

ص: 79

اللغة

1 - عمارة: البلاد أو المنزل نشيدها.

2 - الصفيح: كل شيء عريض يقال له: صفيح و الصفيح هنا هو السماء.

3 - الملكوت: الملك العظيم.

4 - البديع: الذي لا مثيل له.

5 - الفجاج: بكسر الفاء جمع فج بفتحها الطريق الواسع بين جبلين.

6 - حشا: ملأ.

7 - الفتوق: الشقوق، انفتق انشق.

8 - الأجواء: جمع جو و هو المكان المتسع.

9 - الفجوات: جمع فجوة و هي الفرجة و الموضع المتسع بين جبلين.

10 - الزجل: محركة رفع الصوت.

11 - الحظائر: جمع حظيرة و هي الموضع يحاط عليه لتأوي إليه الإبل و الغنم توقيا من البرد و الريح.

12 - القدس: الطهر.

13 - السترات: جمع سترة و هي ما يستتر به.

14 - السرادقات: جمع سرادق و هو ما يمد على صحن البيت فيغطيه.

15 - المجد: الشرف و العظمة.

16 - الرجيج: الزلزلة و الاضطراب.

17 - استكت: المسامع صمت و لم تعد تسمع.

18 - السبحات: بضمتين النور و البهاء و العظمة و سبحات الوجه محاسنه.

19 - تردع: تمنع و تكف.

20 - البلوغ: الوصول.

21 - خاسئة: مدفوعة، مطرودة عن الترامي إليها.

22 - أقدار: جمع قدر، الطاقة و القوة، كون الشيء مساويا لغيره.

23 - لا ينتحلون: لا يدعون و انتحل الشيء إذا ادعاه لنفسه و هو لغيره.

24 - الريب: الشك.

25 - الشبهات: جمع شبهة الالتباس ما يلتبس فيه الحق بالباطل.

26 - الزائغ: العادل عن الطريق.

27 - أمدهم: أعانهم و أغاثهم.

28 - الفوائد: جمع الفائدة الزيادة، ما يستفيده الإنسان.

ص: 80

29 - المعونة: المساعدة و العون.

30 - أشعر: قلوبهم أعلمها أو من الشعار و هو الثوب الملاصق للبدن.

31 - الإخبات: التذلل و الاستكانة.

32 - السكينة: الوقار، و الطمأنينة و المهابة.

33 - الذلل: جمع الذلول خلاف الصعب و هو السهل.

34 - تماجيده: مجده تمجيدا عظّمه و أثنى عليه.

35 - منارا: جمع منارة و هي المسرجة التي يوضع فيها المصباح.

36 - الأعلام: جمع علم بالتحريك و هو ما يقام للاهتداء على أفواه الطرق و المرتفعات.

37 - الموصرات: المثقلات و الأصر هو الثقل.

38 - الآثام: الذنوب و الخطايا.

39 - ارتحلت: البعير ركبته.

40 - عقب: جمع عقبة و هي النوبة و المدة من التعاقب.

41 - النوازع: جمع نازعة، القوس، النجم، الشهوات المفسدة.

42 - تعترك: تزدحم.

43 - معاقد: جمع معقد محل العقد بمعنى الاعتقاد.

44 - قدح: رام الإيراء به و هو استخراج النار.

45 - الأحن: جمع أحنة و هي الحقد و الضغينة.

46 - لاق: لصق.

47 - تقترع: من الاقتراع بمعنى ضرب القرعة.

48 - الرين: الدنس.

49 - الغمام: جمع غمامة و هي السحابة.

50 - الدلج: جمع دالج و هو الثقيل بالماء من السحاب.

51 - الشمخ: جمع الشامخ و هو المرتفع العالي.

52 - القترة: الخفاء و البطون و منها قالوا: أخذه على قترة أي من حيث لا يدري.

53 - الأيهم: الذي لا يهتدى فيه.

54 - خرقت: ثقبت و نفذت.

55 - تخوم: الأرض حدودها و منتهاها.

56 - الرايات: جمع راية علم الجيش، العلامة المنصوبة لكي يراها الناس.

57 - مخارق: جمع مخرق أي موضع الخرق.

58 - ريح هفافة: طيبة ساكنة.

ص: 81

59 - استفرغتهم: جعلتهم فارغين من الاشتغال بغيرها.

60 - الوله: شدة الشوق.

61 - الروية: التي تروي و تطفئ الظمأ.

62 - سويداء القلب: حبته.

63 - الوشيجة: في الأصل عرق الشجر.

64 - الانحناء: الاعوجاج حنيت ضلعي عوّجته.

65 - لم ينفد: لم يغن.

66 - الزلفة: القربة و المنزلة.

67 - الربق: جمع ربقة بالكسر و الفتح و هي العروة و الحلقة من الحبل.

68 - تولاهم: استولى عليهم، و سيطر.

69 - ما سلف: ما تقدم و مضى.

70 - الاستكانة: الخشوع و أصل الميل للسكون من شدة الخوف.

71 - النصيب: الحصة من الشيء، الحظ.

72 - الدؤوب: الجد و الاجتهاد و المداومة على الشيء.

73 - غاض: الماء قلّ و نقص.

74 - الرغبات: ما تحبه النفس و ترغبه.

75 - جفّ : يبس و نشف.

76 - الأسلات: جمع أسلة طرف اللسان و مستدقه.

77 - الهمس: الصوت الخفي.

78 - الجؤار: رفع الصوت بالتضرع و الدعاء.

79 - المقاوم: جمع مقام.

80 - المناكب: جمع منكب و هو مجتمع رأس الكتف و العضد.

81 - ثنا: الشيء رد بعضه على بعض و ثنيته صرفته إلى مراده.

82 - لا تعدو: لا تسطو و لا تثب.

83 - الجد: بكسر الجيم الاجتهاد.

84 - البلادة: قلة الذكاء و عدم الفطنة.

85 - الغفلات: جمع غفلة عدم الانتباه.

86 - الانتضال: الرمي بالسهم.

87 - الهمم: جمع الهمة العزم الشديد.

88 - الخدائع: جمع خديعة، ما يخدع به، المكر و الحيلة.

89 - الذخيرة: ما يجمع و يدخر لوقت الحاجة.

90 - الفاقة: الحاجة.

ص: 82

91 - يمموه: قصدوه.

92 - الاستهتار: الولوع بالشيء و ملازمته.

93 - مواد: جمع مادة أصلها من مدّ البحر إذا زاده و كل ما أعنت به غيرك فهو مادة.

94 - الشفقة: الخوف.

95 - ينوا: يضعفوا من ونى يني.

96 - تأسرهم: تحبسهم و تستبد بهم.

97 - الأطماع: من طمع به إذا حرص عليه.

98 - فيؤثروا: من الأثرة و هي الاختيار، اختصاص المرء نفسه بأحسن الشيء دون غيره.

99 - وشيك السعي: مقاربه و هينه.

100 - النسخ: الإزالة.

101 - الشفقات: تارات الخوف و أطواره.

102 - الوجل: الخوف.

103 - الاستحواذ: على الشيء الإحاطة و الغلبة عليه.

104 - التقاطع: التعادى و ترك البر و الإحسان.

105 - توليت الأمر: قمت به.

106 - الغل: الحقد.

107 - تشعبتهم: تقسمتهم و فرّقتهم.

108 - الريب: جمع ريبة الشك.

109 - أخياف الهمم: الهمم المختلفة و أصله من الخيف بالتحريك و هو كحل إحدى العينين دون الأخرى فيختلفان و يقال: الناس أخياف أي مختلفون و منه قيل لأخوة الأم: أخياف لاختلافهم في الأب.

110 - الزيغ: الميل عن الحق.

111 - الوني: مصدر ونى أي تأنى.

112 - الفتور: الضعف.

113 - الإطباق: جمع طبق الغطاء.

114 - الإهاب: الجلد.

115 - حافد: خفيف سريع.

116 - العظم: وزن عنب خلاف الصغر.

ص: 83

الشرح

(ثم خلق سبحانه لإسكان سماواته و عمارة الصفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته). كلمة ابن أبي الحديد:.

هناك كلمة لابن أبي الحديد في شرحه عند استعراضه لحديث الإمام عن الملائكة في هذا الفصل يقول بلفظه:.

هذا موضع المثل «إذا جاء نهر اللّه بطل نهر معقل» إذا جاء هذا الكلام الرباني و اللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب و كانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص، و لو فرضنا أن العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ من أين لهم المادة التي عبّرت هذه الألفاظ عنها؟ و من أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيأ لها التعبير عنها! أما الجاهلية فإنهم إنما كانت فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات و نحو ذلك، و أما الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنما كان منتهى فصاحة أحدهما كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة أما في موعظة تتضمن ذكر الموت أو ذم الدنيا أو ما يتعلق بحرب و قتال من ترغيب أو ترهيب أما الكلام في الملائكة و صفاتها و صورها و عباداتها و تسبيحها و معرفتها بخالقها و حبها له و ولهها إليه و ما جرى مجرى ذلك مما تضمنه هذا الفصل على طوله فإنه لم يكن معروفا عندهم على هذا التفصيل، نعم ربما علموه جملة غير مقسمة هذا التقسيم و لا مرتبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم، و أما من عنده علم من هذه المادة كعبد اللّه بن سلام و أمية بن أبي الصلت و غيرهم فلم تكن لهم هذه العبارة و لا قدروا على هذه الفصاحة فثبت أن هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلا لعلي وحده. و أقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب اقشعر جلده و رجف قلبه و استشعر عظمة اللّه العظيم في روعه و خلده و هام نحوه و غلب الوجد عليه و كاد أن يخرج من مسكه شوقا و أن يفارق هيكله صبابة و وجدا.

أقول: هذه شهادة أحد أهل الخبرة ممن تذوق الكلام العلوي و وقف على سر ما تحته من المعاني و لا غرابة في ذلك فعلي في التاريخ واحد يجب أن يكون كلامه واحد متميز...

و في هذا الفصل يتناول الإمام في كلامه الملائكة و صفاتهم و عباداتهم و خشوعهم

ص: 84

و خضوعهم و ذكرهم من أجل أن نقتدي بهم و نقتفي أثرهم.

فبعد أن خلق اللّه السماوات خلق الملائكة لإقامتهم فيها أراد أن يعمر تلك السماوات العلى من ملكه فخلق هذا الخلق البديع الذي لم يكن له مثيل من قبل.

(و ملأ بهم فروج فجاجها و حشا بهم فتوق أجوائها). ملأ بالملائكة تلك سعة فيها و عبأها في تلك الشقوق الخالية في الأجواء المتسعة...

(و بين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم في حظائر القدس و سترات الحجب و سرادقات المجد). و هذا بيان لعبادتهم و توجههم للّه أنهم من تلك الشقوق ترتفع أصواتهم الملائكية بذكر اللّه و التوجه إليه في أماكنهم المطهرة التي لا يشوبها دنس و هي حظائر القدس و كذلك أماكنهم التي يحتجبون فيها و يستترون و السرادقات العظيمة التي يقيمون فيها... فقد ذكر عليه السلام هذه الأماكن الثلاثة التي فيها يتوطنون و بها يعبدون اللّه و في بعض الأخبار إشارات إلى ذلك...

(و وراء ذلك الرجيح الذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها فتقف خاسئة على حدودها). خلف ذلك الاضطراب الذي يصم الآذان و يفقدها السمع متسعات من النور أي أنوار قوية شديدة تمنع العيون أن تصل إليها فترتدع مدفوعة و ترجع كليلة لا تقوى على مواجهتها أو النظر إليها...

(و أنشأهم على صور مختلفات و أقدار متفاوتات أولي أجنحة تسبح جلال عزته لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه و لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به «بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » ). و هذا بيان لأشكالهم و صورهم و بيان لمقاماتهم و أدوارهم إذ ليس كلهم على شكل واحد و صورة واحدة كما أنهم ليسوا جميعا في منزلة واحدة و مرتبة واحدة.

إنهم أولي أجنحة كما ذكر ذلك في القرآن العظيم قال تعالى: «جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ » تسبّح اللّه و تذكره و تقف أمام جلاله و عزته وقفة فيها الخشوع و الخضوع...

و ما وجد من صنع اللّه و تحقق ظهوره بأمره لا يدعونه لأنفسهم أو ينسبونه لهم بحيث يتحولون به إلى أرباب كما لا يدعون أنهم شركاء له في الخلق فالنفي متوجه إلى استقلاليتهم في الخلق كما هو متوجه إلى مشاركتهم للّه فيه.

ثم أثبت لهم الطاعة للّه و الالتزام بما أمر اقتباسا من الآية الكريمة: «وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ»

ص: 85

«اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » . فقد رد اللّه على الذين قالوا: إن الملائكة بنات اللّه بهذه الآية التي ترفع من شأن الملائكة فتجعلهم مشمولين لكرامة اللّه و لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به فكل أقوالهم طاعة و هم بأمره يعملون لا يخالفونه و لا يعصونه.

و بعبارة أخرى: إنهم يتبعون قوله و لا يقولون شيئا حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله و عملهم فرع عن أمره...

(جعلهم اللّه فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه و حملهم إلى المرسلين و دائع أمره و نهيه). نعم جعلهم اللّه مستحقين لحمل الأمانة التي هي وحيه بحيث لا يجري في حقهم خيانة أو سهو و قد جعلهم اللّه و سائط ينقلون إلى المرسلين من الأنبياء ما أراد اللّه إيداعه عندهم من أمر أو نهي، فهم الوسطاء في حمل الوحي إلى الأنبياء و تبليغهم مراد اللّه سواء كان أمرا أم نهيا و هذه المرتبة كانت لهم لخصوصية فيهم جعلها اللّه و هي أنهم ينقلون الأمانة بصدق و أمانة كما هي بدون زيادة أو نقصان...

(و عصمهم من ريب الشبهات فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته). فكل الملائكة معصومون من الشك و الشبهة و الانحراف عن سبيل اللّه و ذلك لأن هذه الأمور إنما تحصل من النفس الأمارة بالسوء التي تقود صاحبها إلى ذلك و الملائكة ليس فيها إلا العقل و دواعي الخير فهي بطبيعتها لا تقبل الانحراف عن سبيل اللّه و طاعته.

(و أمدهم بفوائد المعونة و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة). و هذه من عنايات اللّه بالملائكة أنه سبحانه أمدهم بما فيه الإعانة على الطاعة و التزام أمر اللّه من حيث خلق لهم طبائع لا تقبل غير التقرب منه.

كما أنه جعل قلوبهم ملازمة للخشوع و التواضع التي هي نتيجة الخوف منه أو يكون المراد أنه أعلمهم ذلك...

(و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده). و الأبواب السهلة التي فتحها اللّه للملائكة كي يمجدونه بأنواع التعظيم و الثناء هي ما خلق فيهم من دواعي الطاعة بحيث أن أنفسهم مجبولة على مرضات اللّه و لا تقبل غير ذلك...

(و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده). وضع لهم أدلة و براهين جلية واضحة على أنه اللّه الواحد الأحد، و ذلك بما أودعه فيهم من العقل الكامل الذي يهتدي به الإنسان إلى اللّه و توحيده فضلا عن الملائكة التي لم يعكر صفو أفكارها ميل أو هوى...

ص: 86

(لم تثقلهم موصرات الآثام و لم ترتحلهم عقب الليالي و الأيام). لم تقعد بهم الذنوب و المعاصي عن بلوغ الكمال لأنهم منزهون عنها طاهرون منها و هي التي تقف دون بلوغ كرامة اللّه.

كما أن الليالي و الأيام لا تؤثر عليهم و لا تشل حركتهم أو ترهقهم كما هو حال البشر معها...

(و لم ترم الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم و لم تعترك الظنون على معاقد يقينهم).

للملائكة إيمان قوي ثابت لا تخامره الشكوك التي تمر على الإنسان فإن الإنسان لقصور ذاته قد تدفعه بعض وساوس الشيطان إلى الانحراف في التفكير فلا يستطيع أن يتصور عظمة اللّه و قدرته و سلطانه فيدفعه هذا إلى الشك في بعض صوره و قد يهتز إيمان المرء أمام بعض الظنون التي يثيرها أعداء اللّه المتخصصون في زعزعة إيمان الناس من خلال ما قدمه الإنسان و ما وصل إليه من العلم و المعرفة و هذا الأمر لا يمكن أن يجري في حق الملائكة التي لا تملك وسائل الوسوسة و ليس في ساحتها شياطين تضلها و تزرع الشك في نفوسها بل تبقى عقيدتها باللّه ثابتة كما هي لا يهزها شك و لا يحركها ظن فاسد...

(و لا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم). لم تتحرك فيما بينهم الأحقاد و الأضغان كما هو الحال عند الناس الذين يثيرون دفائن الحقد عندهم فيتنازعون على حطام الدنيا الزائل و ما فيها من تراث تافه فإن الملائكة عناصر مطهرة صافية من الأحقاد منزهة من الشرور...

(و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم و ما سكن من عظمته و هيبة جلالته في أثناء صدورهم و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم). معرفة الملائكة باللّه قوية، إنها معرفة دخلت في قلوبهم و عاشت فيها فلا يقعون في حيرة و قلق و شك منها كي تتعرض تلك المعرفة للاهتزاز و الشكوك...

كما أن عظمة اللّه و كبرياؤه في قلوبهم لا تتعرض للنقصان أو الارتجاج لعدم الشك و الحيرة عندهم.

و أما فكرهم فهو طاهر صادف شفاف لا تعكره الوساوس الشيطانية و الوسائل الانحرافية...

و بعبارة أخرى هناك يقين صادق في قلوبهم باللّه و له عظمة عظيمة في نفوسهم كما أنهم يملكون الفكر الصافي المنزه عن الشوائب نحو اللّه بحيث لا يخامرهم شك أو ريب فهم في عقيدتهم و أفكارهم في أعلى مراتب اليقين و النزاهة الفكرية...

ص: 87

(و منهم من هو في خلق الغمام الدلح، و في عظم الجبال الشمخ، و في قترة الظلام الأيهم). بعد أن ذكر بعض أوصاف الملائكة الذين يسكنون السماء أخذ في ذكر أصناف الملائكة فذكر جملة:.

فمنهم: هذا صنف من الملائكة يمتلك صورة الغيوم المثقلة بالماء و الغيوم الممطرة لها شكل معروف كغيوم الشتاء عكس سحابة الصيف الناشفة التي ليس فيها ماء.

و منهم: من يملك صورة الجبال العظيمة الشامخة التي ترتفع في عنان السماء فيهول منظرها لعلوها و ضخامتها.

و منهم: صنف ثالث أسود شديد الظلام يرعب الناظر إليه.

(و منهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء و تحتها ريح هفافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية).

و هذا صنف من الملائكة يصورهم الإمام في هذه الضخامة العجيبة بحيث و هم في السماء تخرق أقدامهم الأرض السفلى فتصبح كالرايات البيضاء لا يصدها إلا ريح ساكنة تقف أمامها و تمنعها من التمدد و الانبساط.

(قد استفرغتهم أشغال عبادته). أخذت عبادة اللّه منهم كل وقتهم فليس عندهم وقت لغيرها...

(و وصلت حقائق الإيمان بينهم و بين معرفته). فإن الإيمان بوجود اللّه استدعى منهم الوصول إلى معرفته الكاملة الصحيحة بصفاته و أفعاله...

(و قطعهم الإيقان به إلى الوله إليه). علمهم بوجوده و يقينهم به جعلهم منصرفين إليه عاشقين له متيمين بحبه لا ينظرون إلى غيره بل نظرهم إليه و عشقهم له...

(و لم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره). فرغبة الملائكة انحصرت بما عند اللّه من الثواب و الأجر و لم ينظروا أبدا إلى ما عند غيره من البشر بل ممن هم أقرب منهم إليه من الملائكة.

(قد ذاقوا حلاوة معرفته و شربوا بالكأس الروية من محتبه و تمكنت من سويداء قلوبهم و شيجة خيفته). معرفة اللّه قد وقف عليها الملائكة فلم يجدوا أطيب منها و أحسن. لقد فاقت لذتها جميع اللذاذات الأخرى و هذه المعرفة استدعت منهم أن يعيشوا حبه و هواه فيعشقوا كل ما يرغب فيه و يحبه فأخذوا يعشيون حبه...

كما أن هذه المعرفة التي استدعت الحب له و لما أراد استدعت أيضا الخوف منه

ص: 88

بحيث عاش الخوف منه في حبات قلوبهم و في صميمها و على قدر المعرفة يكون الحب و الخوف و الملائكة قد عرفت اللّه فأحبته و هابته...

(فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم). لطول طاعتهم للّه و خضوعهم له حنوا له ظهورهم إجلالا و احتراما أو أنهم لهذه المدة و طولها قد عرض لهم الانحناء...

(و لم ينفد طول الرغبة إليه مادة تضرعهم). فهم يرغبون اللّه و يحبونه و يرغبون ما عنده من الأجر و الثواب و لرغبتهم هذه لم ينقطع تضرعهم إليه و دعاؤهم له لأن ما يرغبون فيه عظيم و المرغوب إليه ليس في ساحته بخل أو شح و هم قوم يمتلكون القدرة على متابعة التضرع و الخضوع و إكمال الشوط في الدعاء إلى وقت الاستجابة... و هذا تعليم لنا و تنبيه أن لا يدب اليأس إلى قلوبنا فنتوقف عن التضرع و الدعاء مهما تأخرت أوقات الاستجابة...

(و لا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق خشوعهم). إنهم في خشوع للّه عظيم و إجلال له كبير و هذا الإجلال و التعظيم لا يخف أو يضعف بقربهم منه و دنوهم من رحمته كما هو حال ملوك الدنيا حيث تسقط هيبتهم عند المقربين منهم لمعرفتهم بهم و انكشافهم لهم و أما اللّه فإنه كلما قرب العبد منهم و وصل إلى مرتبة من العلم به أيقن بقصوره و عجزه و عظمة اللّه و جلاله و أخذ في البحث عن المراتب الأخرى...

(و لم يتولهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم). لم يستول عليهم الإعجاب الذي يعني الاكتفاء بما عمل العامل و إنه أدى المطلوب منه فهو يستحق عليه الجزاء و هذا يؤدي إلى أن ينظر إلى عمله و أنه شيء كبير و كثير و أنه الرجل الذي قام بهذا الأمر الجليل فهو على جانب قريب من اللّه و الملائكة تنزه عن ذلك فإنها ترى عملها صغيرا و كلما عملت ازدادت عملا و تقربا منه تعالى...

(و لا تركت لهم استكانة الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم). استولى عليهم تعظيم اللّه و الخضوع له عن الالتفات إلى تعظيم حسناتهم و استكثارها فإن من هاب اللّه في نفسه شغله ذلك عن ذكر حسناته و تعداد أعماله...

(و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم). استمرارهم على الجد في العبادة و المداومة عليها لم يعرضهم للملل و الضجر و الفتور و هذا ما أشار إليه القرآن حيث قال:

«يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ » .

(و لم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربهم). رغبات الملائكة و تطلعاتهم نحو

ص: 89

ثواب اللّه و عطائه لا تنقص أو تقل فلذا لا يعدلون عن رجاء ثوابه و أجره إلى اليأس و القنوط...

(و لم تجف لطول المناجاة أسلات ألسنتهم). من تحدّث طويلا أو اشتغل في مناجاة كثيرا يجف حلقه و لسانه و يتوقف عن الحديث لتعبه و كلله و عدم إمكان استمراريته في الحديث هذا ما يحدث بيننا أما الملائكة فإنهم لا يجري عليهم ذلك و لا يتعرضون لمثله بل لا يكلّون و لا يملّون و لا يتعبون...

(و لا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم). ليس لهم أشغال غير العبادة تشغلهم عن ارتفاع أصواتهم العالية المرتفعة بالدعاء و الذكر، فأصواتهم المرتفعة بالدعاء لا يخففها شغل يشغلهم عنه.

(و لم تختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم). هم في طاعة اللّه في صفوف منتظمة لا يتقدم بعضهم على بعض و لا يعلو بعضهم على بعض.

(و لم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم). لم تتعبهم العبادات و الطاعات حتى يستريحوا بتركها أو الإقلال منها فيقصروا في أمر اللّه، و من تعب من أمر لوى رقبته تعبا و قصر في المطلوب منه لعروض التعب عليه و الملائكة لا يجري في حقهم ذلك و لا ينالهم شيء منه...

(و لا تعدوا على عزيمة جدهم بلادة الغفلات). قوتهم في طاعة اللّه و اجتهادهم في طلب رضاه لا يأتي عليها غفلة من غفلات البشر فتنسيهم شيئا منها أو يعترضهم كسل عن القيام بها بل هم دائما في اجتهاد و قوة و نشاط...

(و لا تنتضل في هممهم خدائع الشهوات). لا شهوات لهم تتجاذبهم و تقتل هممهم العالية في الطاعة و العبادة و بلوغ رضا اللّه و هذا نفي لما عليه البشر حيث إن هذا الإنسان إذا توجه إلى الطاعة و انصرفت همته إلى ذلك و رغبته إليه تجاذبته الشهوات و الغرائز فتارة شهوة المال و أخرى شهوة الشهرة و ثالثة شهوة الراحة و رابعة شهوة البطن و الفرج و هكذا كل شهوة ترمي بسهمها فتصرف هذا الإنسان عما كان عازما عليه من الطاعة و العبادة و الهمة العالية التي يرتفع بها إلى مقام الطاعة للّه و الإخلاص له...

(قد اتخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم و يمموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم). عدتهم التي يرجعون إليها يوم حاجتهم و فقرهم هو اللّه في ذلك اليوم الذي يبحث فيه عن كريم حليم يسد العوز و يرفع المسكنة فهم ليس لهم إلا اللّه ذخرا و مرجعا...

ص: 90

كما و أنهم إليه وحده كان قصدهم و إن كان من عادة المخلوق أنه يرجع إلى مخلوق مثله ممكن الوجود محتاج فقير فهم إلى اللّه توجهوا في طلب حوائجهم و إن عاد الخلق بعضهم لبعض عن جهل و تقصير...

(لا يقطعون أمد غاية عبادته). لا يصلون إلى الغاية القصوى في عبادة اللّه مهما عبدوا و أطاعوا لعجز كل مخلوق عن إدراك العبادة في أعلى درجاتها لأن ذلك يتوقف على القدرة للمخلوق و هي محدودة مؤطرة بإطار الإمكان و كيف يقدر الممكن أن يدرك واجب الوجود على حقيقته.

(و لا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته إلا إلى مواد من قلوبهم غير منقطعة من رجائه و مخافته). إنهم ملازمون لطاعة اللّه و امتثال أمره و هذا الأمر منهم ما هو إلا لطبيعتهم التي جبلوا عليها و تكونت طينتهم منها بحيث لا تجف و لا تنقطع إنها ناشئة من رجائهم باللّه و خوفهم منه الداعيان باستمرار إلى لزوم الطاعة و عدم التمرد و الانحراف.

فهذه الملازمة لطاعة اللّه نابعة من صميم تكوينهم على الرجاء و الخوف. رجاء ثواب اللّه و أجره و خوف عذابه و عقابه و هذا أمر لا ينقطع من نفوسهم و لا تجف منابعه من قلوبهم...

(لم تنقطع أسباب الشفقة منهم فينوا في جدهم). إن أسباب الخوف عند الملائكة موجود متحقق و هو عذاب اللّه و حرمانه و هو لا ينقطع من نفوسهم و لا يتوقف لديهم فهم لذا لا يكسلون في نشاطهم و لا يتوانون في طاعتهم، و بعبارة أخرى: طالما أن أسباب الخوف في نفوسهم دائمة فاجتهادهم في العبادة دائم قائم...

(و لم تأسرهم الأطماع فيؤثروا و شيك السعي على اجتهادهم). نفى عليه السلام أن يكون الملائكة كالبشر الذين إذا كانوا في عبادة طالبين الآخرة فيها فمرّت أمامهم بعض ملذات الدنيا و كمالاتها فتشدهم و تأسرهم أطماعهم إلى هذه المعاني القريبة مهملين الآخرة و ما كانوا يسعون إليه فيها...

و بعبارة أوجز: لا يتركون ما يجتهدون إليه في الآخرة من الثواب من أجل بعض مكاسب الدنيا و طيباتها...

(لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم و لو استعظموا ذلك لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم). فما مضى من أعمالهم التي قاموا بها لم يروها عظيمة و كبيرة و علل عدم استعظامهم لها بأنهم لو استعظموها لرجوا منها أجرا كبيرا و ثوابا جزيلا و هذا يستدعي

ص: 91

بدوره أن يسقط من نفوسهم الخوف من اللّه و الفزع من عقابه و هذا بخلاف ما يجب أن يكون عليه العامل للّه من الخوف و الإشفاق...

و قد شبهوا ذلك بالإنسان الذي إذا عمل لبعض الملوك عملا يستعظمه فإنه يرى في نفسه استحقاق أجزل جزاء له و يجد التطاول به فيهون ذلك ما يجده من خوفه و كلما ازداد استعظامه لخدمته ازداد اعتقاده في قربه من الملك قوة و بمقدار ذلك ينقص خوفه و تقل هيبته في نظره فنفى عليه السلام أن يكون الملائكة كذلك بل هم دائما خائفون من اللّه و وجلون من عذابه...

(و لم يختلفوا في ربهم باستحواذ الشيطان عليهم). لم يغلبهم الشيطان بوسوسته لهم فيختلفوا في اللّه أو في صفاته كما هي حال البشر حيث استولى عليهم الشيطان فبعضهم أنكر وجوده و بعضهم أشرك معه غيره و بعضهم نفى عنه بعض صفاته و هكذا...

(و لم يفرقهم سوء التقاطع). التقاطع الذي يعني أن كل واحد يقطع الآخر و لا يوصله و لا يتعارف معه المؤدي إلى الفرقة و أن يعيش كل واحد منفردا عن الآخر و بعيدا عنه لم يجتمعوا نحو غاية و لم يمشوا نحو هدف هذا الأمر لم يعشه الملائكة و لم يعرفوه لأن هدفهم اللّه و هم في طاعته وحدة متكاملة...

(و لا تولاهم غل التحاسد). لم يستول عليهم حقد المتحاسدين الذين ينظرون إلى بعضهم بمنظار العداوة و الحقد و يتمنى كل واحد منهم أن تزول النعمة عن غيره حقدا و حنقا عليه...

(و لا تشعبتهم مصارف الريب). لم تفرقهم أو تقسمهم الشكوك ببعضهم، فلم يجر في حق أحدهم شك في شبيهه أو نظيره لأنه لا مصالح أو منافع تحكمهم و تجعلهم أسراء الظنون و الشكوك...

(و لا اقتسمتهم أخياف الهمم). لم تجعلهم الهمم المختلفة عندهم أصنافا منقسمة و أجزاء موزعة بل هم جبهة واحدة موحدة متوجهة نحو اللّه تعالى.

(فهم أسراء إيمان لم يفكهم من ربقته زيغ و لا عدول و لا ونى و لا فتور). إنهم يعيشون في ظل الإيمان باللّه قد استحكمت العقيدة من نفوسهم بحيث لا يمكن أن يطرأ عليهم شيء من العوارض التي تمر على البشر فيخرجهم عن إيمانهم، فلا يحرفهم جور و لا عدول عن الحق و لا ضعف و لا ملل كما هي حالة البشر و طبيعتهم حيث تخرجهم هذه عن حظيرة الإيمان إلى التمرد و العصيان...

ص: 92

(و ليس في أطباق السماء موضع إهاب إلا و عليه ملك ساجد أو ساع حافد يزدادون على طول الطاعة بربهم علما و تزداد عزة ربهم في قلوبهم عظما). يذكر عليه السلام كثرة الملائكة و أنهم لكثرتهم في السماوات ليس هناك مساحة جلد حيوان و هو صغير بالنسبة إلى السماوات ليس هناك مقدار هذه المساحة إلا و عليه ملك ساجد للّه أو ملك متحرك بسرعة نحو طاعة اللّه و من خصوصياتهم أنهم كلما ازدادوا عبادة للّه ازدادوا علما به فالعبادة تكشف لهم عن بعض جوانب صفات الباري و هذا بدوره يزيد عزته و عظمته في قلوبهم...

و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء

اشارة

كبس (1) الأرض على مور (2) أمواج (3) مستفحلة (4)، و لجج (5) بحار زاخرة (6)، تلتطم (7) أواذيّ (8) أمواجها، و تصطفق (9) متقاذفات (10) أثباجها (11)، و ترغو (12) زبدا (13) كالفحول (14) عند هياجها (15)، فخضع (16) جماح (17) الماء المتلاطم لثقل حملها، و سكن هيج (18) ارتمائه (19) إذ وطئته (20) بكلكلها (21)، و ذلّ مستخذيا (22)، إذ تمعّكت (23) عليه بكواهلها (24)، فأصبح بعد اصطخاب (25) أمواجه، ساجيا (26) مقهورا (27)، و في حكمة (28) الذّلّ منقادا أسيرا، و سكنت الأرض مدحوّة (29) في لجّة تيّاره (30)، و ردّت (31) من نخوة (32) بأوه (33) و اعتلائه (34)، و شموخ (35) أنفه و سموّ غلوائه (36)، و كعمته (37) على كظّة (38) جريته، فهمد (39) بعد نزقاته (40)، و لبد (41) بعد زيفان (42) و ثباته (43). فلمّا سكن هيج الماء من تحت أكنافها (44)، و حمل شواهق الجبال (45) الشّمّخ البذّخ (46) على أكتافها، فجّر ينابيع (47) العيون من عرانين (48) أنوفها، و فرّقها في سهوب (49)

ص: 93

بيدها (50) و أخاديدها (51)، و عدّل حركاتها بالرّاسيات (52) من جلاميدها (53)، و ذوات الشّناخيب (54) الشّمّ (55) من صياخيدها (56)، فسكنت من الميدان (57) لرسوب الجبال في قطع أديمها (58)، و تغلغلها (59) متسرّبة (60) في جوبات (61) خياشيمها (62)، و ركوبها أعناق سهول الأرضين و جراثيمها (63)، و فسح (64) بين الجوّ و بينها، و أعدّ الهواء متنسّما (65) لساكنها، و أخرج إليها أهلها على تمام مرافقها (66)، ثمّ لم يدع جرز (67) الأرض الّتي تقصر مياه العيون عن روابيها (68)، و لا تجد جداول (69) الأنهار ذريعة (70) إلى بلوغها، حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب (71) تحيي مواتها (72)، و تستخرج نباتها. ألّف غمامها بعد افتراق لمعه (73)، و تباين (74) قزعه (75)، حتّى إذا تمخّضت (76) لجّة المزن فيه (77)، و التمع برقه في كففه (78)، و لم ينم و ميضه (79) في كنهور (80) ربابه (81)، و متراكم (82) سحابه، أرسله سحّا (83) متداركا (84)، قد أسفّ (85) هيدبه (86)، تمريه (87) الجنوب درر (88) أهاضيبه (89) و دفع (90) شآبيبه (91). فلمّا ألقت السّحاب برك (92) بوانيها (93)، و بعاع (94) ما استقلّت (95) به من العبء (96) المحمول عليها، أخرج به من هوامد (97) الأرض النّبات، و من زعر (98) الجبال الأعشاب، فهي تبهج (99) بزينة رياضها (100)، و تزدهي (101) بما ألبسته من ريط (102) أزاهيرها (103)، و حلية (104) ما سمطت (105) به من ناضر (106) أنوارها (107)، و جعل ذلك بلاغا (108) للأنام، و رزقا للأنعام، و خرق (109) الفجاج (110) في آفاقها، و أقام المنار (111) للسّالكين على جوادّ (112) طرقها. فلمّا مهد أرضه (113)، و أنفذ أمره، اختار آدم، عليه السّلام، خيرة (114) من خلقه، و جعله أوّل جبلّته (115)، و أسكنه جنّته، و أرغد (116) فيها أكله (117)، و أوعز (118) إليه

ص: 94

فيما نهاه عنه، و أعلمه أنّ في الإقدام عليه (119) التّعرّض لمعصيته (120)، و المخاطرة (121) بمنزلته، فأقدم على ما نهاه عنه - موافاة (122) لسابقه علمه - فأهبطه بعد التّوبة ليعمر أرضه بنسله (123)، و ليقيم الحجّة به على عباده، و لم يخلهم بعد أن قبضه، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته، و يصل بينهم و بين معرفته، بل تعاهدهم (124) بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، و متحمّلي ودائع (125) رسالاته، قرنا (126) فقرنا، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم - حجّته، و بلغ المقطع (127) عذره (128) و نذره (129). و قدّر الأرزاق فكثّرها و قلّلها، و قسّمها على الضّيق و السّعة فعدل (130) فيها ليبتلي (131) من أراد بميسورها (132) و معسورها، و ليختبر بذلك الشّكر و الصّبر من غنيّها و فقيرها. ثمّ قرن بسعتها عقابيل (133) فاقتها (134)، و بسلامتها طوارق (135) آفاتها (136)، و بفرج (137) أفراحها غصص (138) أتراحها (139). و خلق الآجال (140) فأطالها و قصّرها، و قدّمها و أخّرها، و وصل بالموت أسبابها، و جعله خالجا (141) لأشطانها (142)، و قاطعا لمرائر (143) أقرانها (144). عالم السّرّ من ضمائر المضمرين، و نجوى (145) المتخافتين (146)، و خواطر (147) رجم الظّنون (148)، و عقد (149) عزيمات (150) اليقين، و مسارق (151) إيماض (152) الجفون و ما ضمنته (153) أكنان (154) القلوب و غيابات الغيوب (155)، و ما أصغت (156) لاستراقه (157) مصائخ (158) الأسماع، و مصائف (159) الذّرّ (160)، و مشاتي (161) الهوامّ (162)، و رجع الحنين (163) من المولهات (164)، و همس (165) الأقدام، و منفسح (166) الثّمرة من ولائج (167) غلف (168) الأكمام (169)، و منقمع (170) الوحوش من غيران (171) الجبال و أوديتها، و مختبإ (172) البعوض (173) بين سوق (174) الأشجار

ص: 95

و ألحيتها (175)، و مغرز الأوراق (176) من الأفنان (177)، و محطّ الأمشاج (178) من مسارب الأصلاب (179)، و ناشئة الغيوم (180) و متلاحمها (181)، و درور (182) قطر السّحاب في متراكمها (183)، و ما تسفي (184) الأعاصير (185) بذيولها، و تعفو (186) الأمطار بسيولها، و عوم (187) بنات الأرض في كثبان (188) الرّمال، و مستقرّ ذوات الأجنحة بذرا (190) شناخيب (191) الجبال، و تغريد (192) ذوات المنطق في دياجير (193) الأوكار (194)، و ما أوعبته (195) الأصداف (196)، و حضنت (197) عليه أمواج البحار، و ما غشيته سدفة ليل (198)، أو ذرّ (199) عليه شارق (200) نهار، و ما اعتقبت (201) عليه أطباق (202) الدّياجير، و سبحات النّور (203)، و أثر كلّ خطوة (204)، و حسّ كلّ حركة، و رجع (205) كلّ كلمة، و تحريك كلّ شفة، و مستقرّ كلّ نسمة (206)، و مثقال (207) كلّ ذرّة، و هماهم (208) كلّ نفس هامّة (209)، و ما عليها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرارة (210) نطفة (211)، أو نقاعة (212) دم و مضغة (213)، أو ناشئة خلق و سلالة (214)، لم يلحقه في ذلك كلفة (215)، و لا اعترضته في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة (216)، و لا اعتورته (217) في تنفيذ الأمور و تدابير المخلوقين ملالة و لا فترة (218)، بل نفذهم علمه، و أحصاهم عدده، و وسعهم عدله، و غمرهم فضله، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله.

اللغة

1 - كبس: الأرض أي أدخلها في الماء.

2 - المور: مصدر مار أي ذهب و جاء.

ص: 96

3 - الأمواج: جمع الموج و الواحدة موجة جمع موجات ما ارتفع من الماء على سطحه.

4 - المستفحلة: الهائجة هيجان الفحول فيصعب التغلب عليها.

5 - اللجج: جمع اللجة و هي معظم الماء و أعمقه.

6 - زاخرة: ممتلئة.

7 - لطمه: ضربه بكفه و تلاطم الأمواج ضرب بعضها بعضا.

8 - الأواذي: جمع آذي و هو أعلى الموج أو الموج العالي.

9 - تصطفق: يضرب بعضها بعضا من الصفق و هو الضرب يسمع له صوت.

10 - متقاذفات: من قذف الشيء إذا رمى به أو رماه.

11 - الأثباج: جمع ثبج و هو في الأصل ما بين الكاهل و الظهر استعاره هنا لأعالي الأمواج.

12 - ترغو: أما من الرغاء و هو صوت ذات الخف أو من الرغوة و هي الزبد الذي يعلو الشيء عند غليانه.

13 - الزبد: ما يظهر فوق السيل.

14 - الفحول: جمع فحل و هو الذكر من كل حيوان.

15 - الهيجان: من هاج هيجا و هيجانا أي ثار.

16 - خضع: ذل.

17 - جمح: الفرس إذا غلب فارسه و لم يملكه.

18 - هيج الماء: ثورانه و فورته.

19 - الارتماء: التقذاف و الترامي.

20 - الوطي: الدوس بالقدم.

21 - الكلكل: الصدر.

22 - المستخذي: الخاضع.

23 - تمعكت: الدابة إذا تمرغّت بالتراب.

24 - الكواهل: جمع كاهل، و هو ما بين الكتفين.

25 - الاصطخاب: من الصخب و هو ارتفاع الصوت و الصياح و الجلبة.

26 - الساجي: الساكن.

27 - المقهور: المغلوب.

28 - الحكمة: محركة ما أحاط من اللجام بحنك الدابة.

29 - مدحوة: مبسوطة.

30 - التيار: أعظم الموج.

31 - ردت: منعت و كفت.

ص: 97

32 - النخوة: الفخر، المروءة، و الحماسة.

33 - البأو: الكبر و الفخر.

34 - الإعتلاء: التيه و التكبر.

35 - الشموخ: العلو و شمخ بأنفه أي تكبّر.

36 - الغلواء: بضم الغين و فتح اللام النشاط و تجاوز الحد.

37 - كعمت: البعير شددت فاه بالكعام شيء يجعل في فيه إذا هاج لئلا يعضّ أو يأكل.

38 - الكظة: بالكسر الجهد و الثقل الذي يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام.

39 - همد: سكن و خمد.

40 - النزق: الخفة و الطيش.

41 - لبد: الشيء بالأرض إذا لصق بها ساكنا.

42 - الزيفان: التبختر.

43 - الوثبة: الطفرة.

44 - الأكناف: الجوانب و النواحي.

45 - شواهق الجبال: عواليها.

46 - البذخ: جمع الباذخ و هو العالي.

47 - الينابيع: جمع ينبوع و هو ما انفجر من الأرض عن الماء.

48 - عرانين: جمع عرنين بالكسر أعلى الأنف عند ملتقى الحاجبين.

49 - السهوب: جمع سهب و هو الفلاة.

50 - البيد: جمع بيداء و هي أيضا الفلاة.

51 - الأخاديد: جمع أخدود، و هو الشق في الأرض.

52 - الراسيات: الثقال.

53 - الجلاميد: جمع جلمود و هو الحجر الصلد.

54 - الشناخيب: رءوس الجبال.

55 - الشم: العالية، المرتفعة.

56 - الصياخيد: جمع صيخود: الصخرة الصلبة.

57 - الميدان: بالتحريك الاضطراب.

58 - أديم الأرض: سطحها.

59 - التغلغل: المبالغة في الدخول.

60 - متسربة: داخلة.

61 - الجوبات: جمع جوبة الفرجة في جبل أو غيره.

62 - الخياشيم: جمع خيشوم و هو أقصى الأنف.

ص: 98

63 - الجراثيم: جمع جرثومة أصل الشيء.

64 - فسح: أوسع.

65 - متنسما: موضع النسيم و هو الهواء.

66 - مرافق البيت: ما يستعان به فيه و ما يحتاج إليه في التعيش.

67 - الجرز: بضمتين الأرض التي لا نبات بها و لا ماء.

68 - الروابي: المرتفعات.

69 - الجداول: جمع جدول النهر الصغير.

70 - ذريعة: وسيلة.

71 - ناشية السحاب: أول ما ينشأ منه أي يبتدأ ظهوره.

72 - الموات: بفتح الميم القفر من الأرض الذي لا يزرع.

73 - اللمع: جمع لمعة قطعة من النبت إذا أخذت في اليبس كأنها تلمع و تضيء.

74 - التباين: الافتراق.

75 - القزع: جمع قزعة محركة و هي القطعة من الغيم.

76 - تمخضت: تحركت بقوة من المخض و هو تحريك السقاء الذي فيه اللبن لاستخراج زبده.

77 - المزن: بضم الميم جمع مزنة و هي السحابة.

78 - الكفف: جمع كفة الحاشية و الطرق لكل شيء.

79 - الوميض: الضياء و اللمعان.

80 - الكهنور: العظيم من السحاب.

81 - الرباب: السحاب الأبيض.

82 - المتراكم: المجتمع بعضه فوق بعض.

83 - السح: الصب و السيلان من علو.

84 - تدارك: القوم إذا لحق آخرهم أولهم.

85 - أسف: دنا من الأرض.

86 - هيدبه: ما تهدب منه أي تدلى.

87 - تمريه: من مري الناقة يمريها إذا مسح ضرعها فأمرت أي در لبنها.

88 - الدرر: كجمع درة بالكسر و هي اللبن.

89 - الأهاضيب: جمع أهضاب و هو جمع هضبة، المطرة.

90 - دفع: جمع دفعة بضم الدال و هي المرة.

91 - الشآبيب: جمع شؤبوب و هو ما ينزل من المطر بشدة و قوة.

92 - البرك: الصدر.

93 - بوانيها: تثنية بوان و هو عمود الخيمة و الجمع بون بالضم.

ص: 99

94 - بعاع السحاب: ما كان مثقل بالمطر.

95 - استقلت: ارتفعت و نهضت.

96 - العبء: الثقل.

97 - الهوامد: من الأرض ما لا نبات بها.

98 - زعر: بالضم جمع أزعر من الجبال قلة العشب.

99 - بهج: سر و فرح.

100 - الرياض: جمع روضة الأرض المخضرة بأنواع النبات.

101 - تزدهي: تعجب.

102 - ريط: جمع ريطة و هي كل ثوب رقيق ليّن.

103 - أزاهير: جمع أزهار جمع زهرة النبات أو نورها.

104 - الحلية: الزينة.

105 - السمط: الخيط تنظم فيه القلادة.

106 - النضارة: الحسن و الطراوة.

107 - الأنوار: جمع نور بفتح النون الزهر.

108 - البلاغ: ما يتبلّغ به من القوت.

109 - خرق: من الخرق و هو الثقب و الفرجة.

110 - الفجاج: جمع فج الطريق الواسع بين جبلين.

111 - المنار: الأعلام.

112 - الجواد: جمع جادة وسط الطريق.

113 - مهد الأرض: سواها و أصلها من المهاد و هو الفراش.

114 - الخيرة: المختار.

115 - الجبلة: بكسر الجيم و الباء و تشديد اللام الخلقة و الطبيعة.

116 - الرغد: من العيش ما طاب و اتسع.

117 - الأكل: بضمتين الرزق و الحظ.

118 - أوعزت: إليه بكذا تقدمت إليه به و أمرت.

119 - أقدم عليه: تناوله.

120 - تعرّض للمعصية: أبدى جانبه إليها و أرادها.

121 - خاطر: بنفسه و ماله أشفاهما على خطر و ألقاهما في المهلكة.

122 - الموافاة: أدراك الشيء.

123 - النسل: الذرية.

124 - تعاهدهم: جدد العهد بهم، و التعهّد التحفظ بالشيء.

125 - الودائع: جمع وديعة و هو الشيء يوضع عند إنسان ليحفظه لصاحبه.

ص: 100

126 - القرن: أهل كل زمان و يعادل مئة سنة.

127 - المقطع: النهاية و مقطع الشيء نهايته.

128 - العذر: ما به يعتذر.

129 - النذر: ما خوف به.

130 - عدّل: بالتشديد هو التقويم و عدل بالتخفيف هو نقيض الظلم.

131 - الإبتلاء: الاختبار و الفتنة.

132 - الميسور: أ ليس و المعسور، العسر.

133 - العقابيل: الشدائد و في الأصل قروح صغار تخرج بالشفة من بقايا المرض.

134 - الفاقة: الفقر.

135 - الطوارق: جمع طارق ما يأتي ليلا.

136 - الآفات: المصائب.

137 - الفرج: جمع فرجة و هي التفصي من الهم و الخلاص من الشدة.

138 - الغصص: جمع غصة ما اعترض في الحلق.

139 - الأتراح: الأحزان.

140 - الآجال: جمع الأجل محركة مدة الشيء، زمان حلول الموت.

141 - خالجا: جاذبا.

142 - الأشطان: جمع الشطن بالتحريك الحبل أو الطويل منه.

143 - المرائر: جمع مريرة و هو ما لطف و طال منها و اشتد فتله.

144 - الأقران: جمع قرن بالتحريك و هو حبل يجمع به البعيران.

145 - النجوى: المسارة.

146 - التخافت: الإخفات ضد الجهر.

147 - الخاطر: ما يخطر في القلب من تدبير أمر و نحوه.

148 - رجم الظنون: القول بالظن.

149 - العقد: جمع عقدة و هو ما يرتبط القلب بتصديقه لا يصدق نقيضه و لا يتوهمه.

150 - العزيمات: جمع عزيمة التي يعقد القلب عليها و تطمئن النفس إليها.

151 - المسارق: جمع مسرق مكان مسارقة النظر أو زمانه و فلان يسارق فلانا النظر أي ينتظر منه غفلة فينظر إليه.

152 - الإيماض: اللمعان.

153 - ضمنته: ضمته.

154 - الأكنان: جمع كن بالكسر الستر.

155 - غيابات الغيوب: أعماقها.

156 - أصغت تسمّعت:.

ص: 101

157 - استراق الكلام: استماعه خفية.

158 - مصائخ الأسماع: خروقها التي يتسمع بها.

159 - المصائف: محل الإقامة في الصيف.

160 - الذر: جمع ذرة و هي أصغر النمل.

161 - المشاتي: محل الإقامة في الشتاء.

162 - الهوّام: جمع هامة و لا يقع هذا الاسم إلا على المخوف من الأحناش.

163 - رجع الحنين: ترجيعه و ترديده.

164 - المولهات: الحزينات، النوق و النساء اللواتي حيل بينهن و بين أولادهن.

165 - همس الأقدام: صوت وطئها حينما يكون خفيا جدا.

166 - منفسح الثمرة: مكان نمائها.

167 - الولائج: جمع وليجة البطانة الداخلية.

168 - الغلف: جمع غلاف.

169 - الأكمام: جمع كم بالكسر و هو غطاء النوار و وعاء الطلع.

170 - منقمع: الوحوش موضع انقماعها أي اختفائها و استتارها.

171 - الغيران: جمع غار و هو كالكهف في الجبل.

172 - مختبأ البعوض: موضع اختبائها و استتارها.

173 - البعوض: البرغش، حشرات مضرة من ذوات الجناحين.

174 - سوق: جمع ساق أسفل الشجرة التي تقوم عليه فروعها.

175 - الألحية: جمع لحاء و هو قشر الشجرة.

176 - مغرز الأوراق: موضع غرزها فيها.

177 - الأفنان: جمع فنن و هو الغصن.

178 - الأمشاج: النطف سميت أمشاجا لاختلاطها بمني المرأة و دمها.

179 - مسارب الأصلاب: جمع مسرب و هو ما يتسرب المني فيها عند نزوله أو تكوّنه.

180 - ناشئة الغيوم: أول ما ينشأ منها.

181 - متلاحمها: المتلاصق منها بعضه ببعض.

182 - درور: من درّ يدرّ أي سال و ناقة درور أي كثيرة اللبن.

183 - المتراكم: المجتمع المتكاثف منها.

184 - سفت الريح التراب: ذرته و حملته.

185 - الأعاصير: جمع إعصار الريح التي تهب فتثير غبارا فيرتفع في السماء.

186 - تعفو: تمحو و عفت الريح المنزل درسته.

ص: 102

187 - العوم: السباحة، الطفو على السطح.

188 - الكثبان: جمع كثيب التل من الرمال المجتمعة.

189 - نبات الأرض: الهوام و الحشرات التي تكون في الرمال.

190 - الذار: جمع ذرورة و عي أعلى الشيء.

191 - الشناخيب: رءوس الجبال.

192 - غرّد الطائر: رفع صوته و طرب به.

193 - الدياجير: جمع ديجور و هو الظلمة.

194 - الأوكار: جمع و كر و هو عش الطائر.

195 - أوعبته: جمعته.

196 - الأصداف: غلاف اللؤلؤ.

197 - حضنت عليه: ربته فتولد في حضنها.

198 - سدفة: الليل ظلمته.

199 - ذرّ: طلع.

200 - شرقت الشمس: طلعت.

201 - اعتقبت: تعاقبت و توالت.

202 - الأطباق: الأغطية.

203 - سبحات النور: درجاته و أطواره.

204 - الخطوة: بضم الخاء ما بين القدمين.

205 - رجع: كل كلمة جوابها. أو ما ترجع به من الكلام إلى نفسك و تردده.

206 - النسمة: الإنسان.

207 - مثقال: وزن.

208 - الهماهم: جمع همهمة ترديد الصوت في الصدر.

209 - الهامة: ذات الهمة التي تعزم على الأمر.

210 - قرارتها: مقرها.

211 - النطفة: الماء الصافي، المني.

212 - النقاعة: نقرة يجتمع فيها الدم.

213 - المضغة: قطعة اللحم.

214 - السلالة: في الأصل ما استل من الشيء و سميت النطفة سلالة لأنها استلت منه و كذلك الولد.

215 - الكلفة: المشقة.

216 - العارضة: ما يعترض العامل فيمنعه من العمل.

ص: 103

217 - اعتورته: تداولته و تناولته.

218 - الفترة: الضعف.

الشرح

(كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة و لجج بحار زاخرة). في هذا الفصل المبارك من كلامه عليه السلام بيان عظمة اللّه و قدرته في خلق الأرض و بعض ما عليها و ما فيها و بيان بعض الفوايد و المنافع...

ابتدأ في هذا الفصل بذكر كيفية خلق الأرض فذكر أن الكون مملوء بالماء المضطرب المتموج المستفحل الذي يرعد و يزبد فهو مملوء بالبحار الممتلئة بالماء فخلق اللّه الأرض و دفعها على تلك المياه بحالتها الموصوفة و أدخلها فيها بقوة و شدة.

(تلتطم أواذي أمواجها و تصطفق متقاذفات أثباجها و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها). لا يزال الحديث عن حال المياه و أوصافها عند ما كبس اللّه الأرض فيها... إنها صورة مرعبة لمن يشاهدها إنها صورة الأمواج التي يضرب بعضها بعضا لشدتها و أمواجها العالية العظيمة ترد فيتكسر بعضها على بعض و يرتفع منها أصوات مخفية و لشدتها يتولد منها رغوة تطفو على وجه الماء حاكية عن شدتها مفصحة عن قوتها ناطقة بعظيم قدرتها فهي عاصية متمردة لا تقبل التطويع و لا يقدر أحد على ضبطها و السيطرة عليها و قد شبهها بالفحول عند هيجانها...

(فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها و سكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكها و ذل مستخذيا إذ تمعكت عليه بكواهلها). بعد أن القى اللّه الأرض في الماء المستفحل المتلاطم الذي يزبد و يرغي لقوته و عنفه ذل اضطراب الماء و سكن ضرب بعضها ببعض لوزنها الضخم الكبير فشكلت ميزان الهدوء و مانعا من الحركة و هذأ تدافعه عند ما وضعت منها و استمكنت عليه، شبّه الأرض في الماء كالناقة التي وضعت صدرها على أحد و استحكمت منه و منعته من الحركة فأصبح ذليلا أو هي مثل الناقة التي عركت بكاهلها من تحتها فإنه ينكسر و يذل...

(فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجيا مقهورا و في حكمة الذل منقادا أسيرا). فبعد تلك الحركة و الاضطراب في الأمواج أصبح كل ذلك ساكنا مغلوبا لا يتحرك و في ذمام الذل و الخزي منقادا محبوسا كما أراد اللّه و أحب و قد شبّه اضطراب الأمواج و حركتها

ص: 104

لقوتها و شدتها بحيوان صايل كالفرس و أنه استطاع قائده أن يحكمه بحديدة اللجام و يوجهه بها كيف يشاء.

و نتيجة كلامه عليه السلام سكون الماء و هدؤه بعد وضع الأرض فيه...

(و سكنت الأرض مدحوة في لجة تياره و ردّت من نخوة بأوه و اعتلائه و شموخ أنفه و سمو غلوائه). استقرت الأرض مبسوطة في أعمق نقاط الماء و أشدها غورا فهدأ الماء و استقر و قد شبّه الماء برجل متجبر متكبر عال تياه فيأتيه من يذله و يخزيه و يرده عن غيه و كبريائه...

(و كعمته على كظه جريته فهمد بعد نزقانه و لبد بعد زيفان و ثباته). قد سدت عليه ما كان من جريانه و تحركه الثقيل البطيء الذي ينم عن قوة و جبروت أو أوقفت شدة جريانه و طول ملازمته له فسكن و همد و أقام بعد تلك الحركات و الطفرات...

(فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها و حمل شواهق الجبال الشمّخ البذّخ على أكتافها). و عند ما هدأ ثوران الماء من تحت جوانبها و استقر حمل الجبال العالية العظيمة الضخمة عليها و في أصلب مواضعها فجر اللّه الماء من أعالي جبالها...

(فجّر ينابيع العيون من عرانين أنوفها و فرقها في سهوب بيدها و أخاديدها). أخرج الماء من أعالي الجبال تنبيها على كمال قدرته و قوته و حكمته و وزّعها حسب المصلحة فأخذت الصحاري و الفلوات منها نصيبها كما شكّلت أنهارا تجري لينتفع بها الناس.

و قد شبه الأرض برجل و شبه الجبال بأنفه و قد خرجت العيون من أعلاها...

(و عدّل حركاتها بالراسيات من جلاميدها و ذوات الشناخيب الشم من صياخيدها).

فهذه الجبال الثابتة في الأرض الغائرة في أعماقها و الأخرى الصلبة الشامخة برءوسها في أعلى الفضاء قد جعلت حركات الأرض متزنة ضمن نظام معتدل بحيث يكون التوازن و الاعتدال و عدم الخلل و الاضطراب...

(فسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع أديمها و تغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها و ركوبها أعناق سهول الأرضين و جراثيمها). هدأت الأرض و استقرت و لم تعد تضطرب في فوضى و عدم اتزان بسبب وضع هذه الجبال التي تثبتها و تمنعها عن الاضطراب فإن هذه الجبال لم تكن عشوائية الوقوع في أمكانها و إنما كانت لحكمة رفع اضطراب الأرض و هذا يستدعي أن تكون غائرة في عمق الأرض داخلة في رفق و لين إلى الأماكن المفتوحة منها معتلية فوق سهول الأرض و أصولها التي هي أعماقها.

ص: 105

(و فسح بين الجو و بينها و أعد الهواء متنسما لساكنها و أخرج إليها أهلها على تمام مرافقها). و جعل بين السماء و بين هذه الجبال التي بها هدأت الأرض جعل فسحة واسعة نراها بأعيننا.

و وفّر الهواء يتنفسه ساكن هذه الأرض حتى يستطيع الحياة عليها و إكمال الشوط.

و بعد أن كملت كل أسباب الراحة و لاستقرار لهذا الإنسان على ظهرها أخرجه اللّه إليها و أسكنه فيه ليعمرها و يبني الحياة على ظهرها...

(ثم لم يدع جزر الأرض التي تقصر مياه العيون عن روابيها و لا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها). بعد أن خلق اللّه الأرض و فجر فيها العيون و أجرى الجداول لم يترك من هذه الأرض ما لا يمكن أن تصل إليه مياه العيون أو الجداول كالروابي العالية لم يتركها قفراء نفراء بل إن منعت من ماء الأرض فإن ماء السماء قد أعدته يد العليم الخبير و لذا أرسل لها الغمام ليسقيها و يحييها...

(حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تحي مواتها و تستخرج نباتها). فاللّه سبحانه أراد أن يحي من الأرض ما كان معطلا غير صالح للزرع و يستخرج منها النبات فلذا خلق لها الغيوم المملؤة بالماء التي ترويها و تسقيها و تعيد إليها الحياة ثم بين كيف يتكون الغمام و كيف يجتمع.

(ألّف غمامها بعد افتراق لمعه و تباين قزعه حتى إذا تمخضت لجة المزن فيه و التمع برقه في كففه و لم ينم و ميضه في كنهور ربابه و متراكم سحابه أرسله سحا متداركا). جمع هذه الغيوم فجعلها كتلة واحدة بعد أن كانت متفرقة الأجزاء موزعة فهذه غيمة مجزأة تراها تلمع كالعشب اليابس و أخرى متباعدة الأجزاء فجمعها اللّه بقدرته و صيّرها كتلة واحدة و عند ما تحرك الماء العظيم في داخلها و استعد للنزول أضاء البرق و التمع في جوانب هذا الغيم و لم ينقطع في الغيم الأبيض المجتمع الذي تراكم فوق بعضه، عند ما تمت كل هذه العملية الإلهية أنزله اللّه و أرسله يصب الماء صبا متلاحقا متواصلا...

(قد أسفّ هيدبه تمريه الجنوب درر أهاضيبه و دفع شآبيبه). وصف لحال الغيوم المثقلة بالمطر و كيف أن أطراف الغيوم عند ما تنخفض نحو الأرض تأتيها رياح الجنوب و هي أدر ريح للمطر تحركها بلين فتستخرج منها مياهها المتدافعة و دفعات تلك المياه النازلة بشدة و قوة...

(فلما ألقت السحاب برك بوانيها و بعاع ما استقلت به من العبء المحمول عليها

ص: 106

أخرج به من هوامد الأرض النبات و من زعر الجبال الأعشاب). فلما ألقت الغيوم بصدرها شبهها بالجمل المثقل المتعب فقد ألقت بصدرها و رمت بحملها المحمول عليها الذي أتعبها و أثقلها أخرج عندها بما ألقت ما كان هامدا ساكنا من نبات الأرض و كسى عرى الجبال بالأعشاب كما قال تعالى: «وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » .

(فهي تبهج بزينة رياضها و تزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها و حلية ما سمطت به من ناضر أنوارها). فهي فرحة تضحك بما تزينت به حدائقها و تتكبر بما ألبسته و ما انتظم فيها من أزهارها و ما اشتملت عليه نضرة ورودها و أزهارها... و بعبارة موجزة لبست الأرض حلية جديدة تحكي عزها و تفخر بما أنعم اللّه به عليها.

(و جعل ذلك بلاغا للأنام و رزقا للأنعام). و هذه غاية الكون حيث جعله اللّه مستمرا لمصلحة هذا الإنسان و لبلوغ ما يريد به فهي وسيلة يبلغ المرء بها مراده و رزقا للحيوان يعيش بما تنبت الأرض و تخرجه...

قال تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا نَسُوقُ اَلْمٰاءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعٰامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلاٰ يُبْصِرُونَ » .

(و خرق الفجاج في آفاقها و أقام المنار للسالكين على جواد طرقها). و هذه منة من منن اللّه و فضل منه أنه شق الطرق الواسعة في هذه الجبال كي يتيسر لهذا الإنسان اجتيازها بدون صعوبة كما أنه سبحانه أقام دلائل و علامات لهذه الطرق كي يمشي فيها الإنسان بدون أن يضل و العلامات إما النجوم أو الجبال فهو سبحانه مهّد الطريق و دل عليه بالعلامات الواضحة قال تعالى: «وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا فِجٰاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ » .

(فلما مهد أرضه و أنفذ أمره اختار آدم عليه السلام خيرة من خلقه و جعله أول جبلته و أسكنه جنته و أرغد فيها أكله و أوعز إليه فيما نهاه عنه و أعلمه أن في الإقدام عليه التعرض لمعصيته). ذكر عليه السلام أن اللّه عند ما سوى الأرض و جعلها صالحة لإقامة الحياة فيها و الراحة عليها تحقق ما أراد و وجد مراده فاختار آدم عليه السلام من بين خلقه و جعله أول مخلوق بشري و منه تبتدأ سلسلة هذا الإنسان و أسكنه جنته كما قال تعالى: «اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ » . و جعل عيشه واسعا طيبا كما قال تعالى: «وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا» . ثم كانت فترة الامتحان لآدم فتقدم إليه بالنهي عن الأكل من بعض أشجار الجنة و أعلمه أن في مخالفة هذا النهي معصية للّه على حد «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

قال تعالى: «وَ قُلْنٰا يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا»

ص: 107

«وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ » .

(و المخاطرة بمنزلته فأقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله و ليقيم الحجة به على عباده). نهاه أن يقع في مهلكة المعصية فتنزل مكانته و تسقط رتبته و لكن الشيطان وسوس إليه فأقدم عليها و تناولها طبقا لما كان يعلمه اللّه منه و أنه سيوافيها و يتناولها فلما أكل منها و عصى ربه أدرك خطأه فتاب و عاد إلى اللّه فعاد اللّه عليه و قبل توبته ثم أنزله إلى الأرض كما قال تعالى: «وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ ثُمَّ اِجْتَبٰاهُ رَبُّهُ فَتٰابَ عَلَيْهِ وَ هَدىٰ » و قال «اِهْبِطٰا مِنْهٰا جَمِيعاً» . و أنزاله إلى الأرض ليجعلها عامرة بأولاده و ذريته و ليكون حجة على عباده و أنه النبي الذي اختاره اللّه و تاب عليه و اجتباه.

و قال بعضهم أن المراد بإقامة الحجة به أنه إذا كان أبوهم أخرج من الجنة بخطيئة واحدة فأخلق بها أن لا يدخلها ذو خطايا جمة...

و الأظهر الأول لما سيرد بعد هذا الكلام من عدم خلو الأرض من حجة بعد آدم...

(و لم يخلهم بعد أن قبضه مما يؤكد عليهم حجة ربوبيته و يصل بينهم و بين معرفته بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه و متحملي ودائع رسالاته قرنا فقرنا).

بعد أن قبض اللّه آدم إليه لم تخل الناس من الحجج و البراهين الدالة على ربوبيته فإن الإنسان بما زوده اللّه به من العقل يكفي ليستدل به على إثبات وجوده و على صلته به فإن معرفة اللّه فطرية في نفس هذا الإنسان يهتدي إلى اللّه. بمجرد أن يتوجه إليه و يلتفت إلى نفسه و إلى خلق العالم و من هنا كانت الرسل و الأنبياء، من أجل تأكيد هذه الربوبية من جهة و لبيان الشريعة من جهة أخرى.

و مع ما زودهم اللّه به من الفطرة التي تهدي هذا الإنسان إلى اللّه أرسل لهم خيرته من الأنبياء و حاملي ما أودعهم اللّه عندهم من الرسالات و هكذا لم يخل زمان بدون رسول بحتج به على الخلق بما يحمل إليهم من الحجج و البينات و بما زودهم به من التعاليم و الأحكام...

(حتى تمت بنبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم حجته و بلغ المقطع عذره و نذره).

و هكذا بقيت الرسل قائمة تترى إلى أن كملت و تمت حجته ببعثة نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله فعندها بلغ النهاية في إعذاره و إنذاره و سقطت حجة الناس و كان للّه الحجة و العذر في عقاب المخالف و من أنذرهم و خوفهم فلم يرتدعوا...

(و قدّر الأرزاق فكثرها و قللها و قسمها على الضيق و السعة فعدل فيها ليبتلي من أراد

ص: 108

بميسورها و معسورها و ليختبر بذلك الشكر و الصبر من غنيها و فقيرها). جعل لكل نفس قدرا معينا من الرزق فوسّع على بعضها و ضيّق على أخرى و أغنى بعض الأفراد و أفقر آخرين و قد جعل ذلك حكما عدلا و على مقتضى الحكمة يبتلي بذلك أصحاب الغنى و أصحاب الفقر و يختبرهم ليجد صبر الفقراء و شكر الأغنياء و قد أثبتت التجارب أن فتنة المال من أعظم الفتن و قد قال تعالى: «إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىٰ » فمع الغنى يأتي الطغيان و الظلم و تجاوز الحدود المشروعة و إن شئت الحقيقة فأضرب بطرفك نحو طبقة الأغنياء لتجد الانحراف و الظلم و تسخير المال من أجل إضلال الناس و الإنحلال...

(ثم قرن بسعتها عقابيل فاقتها و بسلامتها طوارق آفاتها و بفرج أفراحها غصص أتراحها). و هذه من حكمة اللّه و تقديره ينبه الإنسان من خلالها و يرده إلى حجمه لئلا يكفر أو يظلم إنه قرن الأمور بأضدادها و جمعها مع ما يخالفها...

قرن بين السعة في المال و بين الحاجة و الفقر فبينما ترى الإنسان موسعا عليه في بحبوحة من العيش إذ به يقع في ضيق و يتحول إلى أفقر الفقراء و يحكي لنا التاريخ عن ملوك أصبحوا من الفقر يستجدون القليل...

و كذلك اقترنت سلامتها بطوارق آفاتها فبينما الإنسان سليما صحيحا معافي في بدنه إذ تهجم عليه المصائب و العلل على حين غرة و قد قيل:

يا راقد الليل مسرورا بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

و تقترن أيضا مسراتها بأحزانها في وقت الأفراح قد تأتي الأحزان...

(و خلق الآجال فأطالها و قصرها و قدمها و أخرها و وصل بالموت أسبابها و جعله خالجا لاشطانها و قاطعا لمرائر أقرانها). فهو الذي خلق الأعمار و قدرها فجعل بعضها طويلا بحيث يعّمر الإنسان عمرا طويلا و بعضها يجعله قصيرا فيموت صاحبه في عمر الشباب.

كما قدم أعمار بعض الناس كمن تقدم علينا من الأفراد و الشعوب و أخّر أخرى كما هو واقعنا نسبة إلى من تقدمنا.

ثم بين أن هذه الأعمار موصولة بأسباب الموت من القتل و الوفاة و المرض و غيرها.

و شبه الأعمار بالجبال الطويلة و جعل الموت جاذبا لها نحوه و مقربها منه إنه يقطع

ص: 109

هذه الأعمار الفتية القوية الشابة التي تمتلئ نضارة و بهجة و قد شبه ذلك بالحبال القوية المفتولة على أكثر من طاق بحيث يظن الإنسان عدم إمكان قطعها و لكن الموت يقطع أعمار الشباب و الفتيان مهما كانوا أقوياء...

(عالم السر من ضمائر المضمرين). أشار عليه السلام إلى علم اللّه بالجزئيات و قد أحسن ابن أبي الحديد عند ذكر هذا الفصل فأثنى عليه بقوله:

لو سمع النضر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريح لإسماعيل بن بلبل:

قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم *** كلا و لكن لعمري منه شيبان

و كم أب قد علا بابن ذرا شرف *** كما علا برسول اللّه عدنان

إذا كان يفخر به على عدنان و قحطان بل كان يقربه عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن و يقول له: إنه لم يعف ما شيّدت من معالم التوحيد بل أخرج اللّه تعالى لك من ظهري ولدا ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهلية النبط، بل لو سمع هذا الكلام أرسطو طاليس القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات لخشع قلبه و وقف شعره و اضطرب فكره ألا ترى ما عليه من الرواء و المهابة و العظمة و الفخامة و المتانة و الجزالة مع ما قد أشرب من الحلاوة و الطلاوة و اللطف و السلاسة لا أرى كلاما يشبه هذا إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه فإن هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة و جدول من ذلك البحر و جذوة من تلك النار و كأنه شرح قوله تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا وَ لاٰ حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ » انتهى كلامه...

(و نجوى المتخافتين). و إذا كان سبحانه يعلم السر و أخفى فهو يعلم بطريق أولى ما يدور بين إنسان و آخر قال تعالى: «مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ وَ لاٰ خَمْسَةٍ إِلاّٰ هُوَ سٰادِسُهُمْ وَ لاٰ أَدْنىٰ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْثَرَ إِلاّٰ هُوَ مَعَهُمْ » فاللّه مع كل اثنين يتخافتان في حديثهما و يتساران به...

(و خواطر رجم الظنون). يعلم سبحانه ما يسبق إلى خواطر هذا الإنسان من الظنون التي لا دليل عليها.

(و عقد عزيمات اليقين). و يعلم سبحانه ما تعقد عليه ضميرك و لا تتردد فيه.

(و مسارق إيماض الجفون). يعلم ما يسرقه البصر خفية و حين تكون الناس في

ص: 110

غفلة قال تعالى: «يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مٰا تُخْفِي اَلصُّدُورُ» .

(و ما ضمنته أكنان القلوب). يعلم ما سترته القلوب و خبأته في طياتها بحيث لا تبيح به لأحد مهما قرب منها.

(و غيابات الغيوب). و يعلم ما في أعماق الغيب مما يأتي و لم يطلع عليه أحد.

(و ما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع). يعلم ما مالت إليه الآذان طالبة استماعه خفية مسترقة سره...

(و مصائف الذر و مشاتي الهوام). و يعلم سبحانه بيوت الصيف التي تقيم به صغار النمل و أماكن الشتاء التي تقيم فيه الحشرات.

(و رجع الحنين من المولهات). إنه يعلم ترديد صوت الثكلى في بكائها و حنينها إلى من فقدته و حيل بينها و بينه.

(و همس الأقدام). يعلم ما خفي من صوت الأقدام التي لا يستطيع السمع أن يلتقطها...

(و منفسح الثمرة من ولائج غلف الأكمام). فهو تعالى يعلم بالثمرة قبل أن تخرج من أكمامها و تظهر إلى الوجود...

(و منقمع الوحوش من غيران الجبال و أوديتها). يعلم أماكن اختباء الوحوش من سباع و نمور في مغاراتها في قلب الجبال أو في بطون الأودية...

(و مختبأ البعوض بين سوق الأشجار و ألحيتها). يعلم سبحانه البعوض و هو البرغش في مكان اختبائه بين جذوع الشجر و قشرها بحيث لا تخفى عليه أماكن سترها مع صغرها و دقيق مكانها...

(و مغرز الأوراق من الأفنان). يعلم محل خروج الأوراق من الغصون.

(و محط الأمشاج من مسارب الأصلاب). يعلم سبحانه مكان النطف و مستقرها و يعلم تحركها و طرق تحركها في أصلاب أهلها.

(و ناشئة الغيوم و متلاحمها). و يعلم أول ما يتكون من الغيوم و ينشأ كما يعلم ما يتصل بعضه منها ببعض و يلتحم و يجتمع...

(و درر قطر السحاب في متراكمها). يعلم سبحانه قطر المطر في السحاب المتراكم بعضه فوق بعض، فهو يعلم قطر السحاب على كثرته...

ص: 111

(و ما تسفي الأعاصير بذيولها و تعفو الأمطار بسيولها). فكل ذرة تحركها الرياح و تثيرها بهبوبها يعلمه اللّه كما يعلم ما تمحوه المياه بفيضاناتها و سيولها و تأتي عليه فلا تدع له أثرا...

(و عوم بنات الأرض في كثبان الرمال و مستقر ذوات الأجنحة بذرا شناخيب الجبال). يعلم الحشرات التي تتحرك في تلال الرمال و بين ذراتها و يعلم الطيور في أعالي الجبال الشاهقة و رءوس القمم العالية...

(و تغريد ذوات المنطق في دياجير الأوكار). يعلم أصوات العصافير و الطيور التي تطرب و هي في ظلمات أعشاشها و مختباتها...

(و ما أوعبته الأصداف). ما ضمته الأصداف و حفظته من اللؤلؤ يعلمه اللّه بحجمه و جودته و لونه...

(و حضنت عليه أمواج البحار). ما نمى و عاش في البحار كالعنبر و الأسماك و قد عبر بالأمواج أنها تحتضنه لأنه يعيش في كنفها...

(و ما غشيته سدفة ليل أو ذر عليه شارق نهار). يعلم كل ما يحويه ظلام الليل و ما يظهر عليه ضوء النهار فما يمر عليه ليل أو نهار من حيوان و أشجار و أشياء يعلمه اللّه...

(و ما اعتقبت عليه أطباق الدياجير و سبحات النور). و علمه سبحانه يشمل ما تعاقبت عليه ظلمات الظلام و أطوار النور المختلفة فعلمه يشمل ما تعاقب عليه الظلام و الضياء...

(و أثر كل خطوة و حس كل حركة و رجع كل كلمة). يعلم سبحانه ما تتركه كل خطوة من أثر و علامة إذا مشت و يعلم كل صوت خفي من أي حركة تصدر في الوجود كما أنه يعلم ما يردده الإنسان بينه و بين نفسه و يفكر فيه من الحديث.

(و تحريك كل شفة و مستقر كل نسمة و مثقال كل ذرة). يعلم سبحانه ما تتحرك به الشفاه و تنطق و في كل لغة و من أي إنسان كما يعلم مستقر كل نفس سواء كانت في الأصلاب و الأرحام أم في زوايا الوجود في الدنيا و الآخرة...

كما أنه سبحانه بعلمه يعلم وزن كل ذرة صغيرة مهما تناهت في الصغر و في أي موضع كانت و في أي محل استقرت...

(و هماهم كل نفس هامة و ما عليها من ثمر شجرة أو ساقط ورقة). يعلم سبحانه ما

ص: 112

يختلج في كل نفس عازمة على أمر و يعلم ما على الأرض مما تحمل الأشجار من ثمر على اختلاف أصنافه و أنواعه و ألوانه و يعلم بكل ورقة تسقط و متى تسقط و كيف تسقط و أين تسقط...

(أو قرارة نطفة أو نقاعة دم و مضغة أو ناشئة خلق و سلالة). يعلم أين تستقر النطف و هي مني الرجال الذي يتكون منه الولد يعلم في أي رحم كما يعلم بكل نقطة من حيض يجتمع في مكانه و يعلم بكل قطعة لحم بقدر ما يمضغ و لعله إشارة إلى تكوّن الإنسان و إنه في أحد مراحل حياته و هو جنين يمر عليه أن يكون مضغة و ذلك بقرينة السياق.

كما أنه يعلم ما يتكون منه صورة بشرية و تتوقف عنده و يعلم ما يكون من الأولاد و الذرية...

(لم يلحقه في ذلك كلفة و لا اعترضته في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة). نزه اللّه أن يلحقه ما يلحق المخلوقين من المشقة و التعب إذا أرادوا أن يعلموا أمرا أو يصفوه كما أنه سبحانه لا يقف في طريق حفظ مخلوقاته و صيانتهم أي عقبة أو مانع بل يعلم كل شيء و يحفظ كل ما خلق...

(و لا اعتورته في تنفيذ الأمور و تدابير المخلوقين ملالة و لا فترة). و هذا أيضا من جملة تنزيه اللّه عن شبه المخلوقين و هو أنه لا يعتريه في اتمام ما أراد من الأشياء و تنفيذه أو إصلاح المخلوقين و تدبير شئونهم ضجر أو سآمة و لا ملل أو انكسار.

(بل نفذهم علمه و أحصاهم عدده و وسعهم عدله و غمرهم فضله مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله). علم اللّه أحاط بمخلوقاته و عرف سبحانه كل فرد بخصوصياته و ما يعمل كما أنه عرف عددهم بدقة و أحصاهم كما قال تعالى:(1)«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي اَلرَّحْمٰنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصٰاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا» . و عدله قد شمل الجميع بحيث لا يظلم أحدا بل كل و ما يستحق و أما فضله فقد عم الجميع و شملهم فهو سبحانه أخرجهم من زاوية العدم إلى الوجود و أفاض عليهم كل موجود من أصغر الأمور و أحقرها إلى أجلها و أعظمها...

مع أنهم لا يدركون حقيقة ما يستحق من الشكر و ما ينبغي لجلال وجهه و كريم فعله... فهو يعطي و يتفضل و إن كنا في جهلنا نعيش و نتنكر...4.

ص: 113


1- سورة مريم آية - 94.

دعاء

اشارة

اللّهمّ أنت أهل (1) الوصف الجميل، و التّعداد (2) الكثير، إن تؤمّل فخير مأمول، و إن ترج فخير مرجوّ. اللّهمّ و قد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، و لا أثني به على أحد سواك، و لا أوجّهه إلى معادن الخيبة (3) و مواضع الرّيبة (4)، و عدلت (5) بلساني عن مدائح الآدميّين، و الثّناء (6) على المربوبين المخلوقين. اللّهمّ و لكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة (7) من جزاء، أو عارفة (8) من عطاء، و قد رجوتك دليلا على ذخائر (9) الرّحمة و كنوز (10) المغفرة. اللّهمّ و هذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذي هو لك، و لم ير مستحقّا لهذه المحامد و الممادح غيرك، و بي فاقة (11) إليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك، و لا ينعش (12) من خلّتها (13) إلاّ منّك (14) وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، و أغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك، «إنّك على كلّ شيء قدير!».

اللغة

1 - أهل: لكذا مستحق له.

2 - التعداد: الاحصاء و الحساب.

3 - الخيبة: انقطع الأمل في المطلوب، و عدم الظفر به.

4 - الريبة: الشك و التهمة.

5 - عدلت: عن كذا ملت عنه و رجعت عنه.

6 - الثناء: المدح.

7 - المثوبة: الثواب و الجزاء.

8 - العارفة: المعروف.

9 - الذخائر: جمع ذخيرة ما ذخر أي خبىء لوقت الحاجة.

10 - الكنوز: جمع كنز كل مجموع مذخّر يتنافس فيه، المال المدفون في الأرض.

ص: 114

11 - الفاقة: الفقر و الحاجة.

12 - انعشه: من نعش إذا رفع و منه سمي النعش لارتفاعه.

13 - الخلة: الفقر.

14 - منّك: من المنّ و هو الاحسان، و العطاء.

الشرح

(اللهم أنت أهل الوصف الجميل و التعداد الكثير إن تؤمل فخير مأمول و إن ترج فخير مرجو). أراد أن يتوجه في آخر الخطبة بالدعاء إلى اللّه و قد وصفه بالاستحقاق لكل وصف جميل فله الأسماء الحسنى و مستحق لذكر نعمه الكثيرة و على كل المستويات.

إن وضع أحد أمله فيك لم يرجع خائبا و لم يعد آيسا و إن رجاك لأمر أهمه كنت عند رجائه و مناه...

(اللهم و قد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك و لا أثني به على أحد سواك و لا اوجهه إلى معادن الخيبة و مواضع الريبة). اللهم أنت أعطيتني حسن البيان و ساعدتني على ذلك فلا أمدح به غيرك و لا أثني به على أحد سواك لأنك وحدك المستحق لأعظم المدح و الثناء و لا أوجهه إلى الناس الذين لا يستجيبون لمن توجه لهم و من قصدهم كان في شك من استجابتهم له.

(و عدلت بلساني عن مدائح الآدمين و الثناء على المربوبين المخلوقين). فلساني الذي ينطق و يتحرك ترك مدح الناس و الثناء على المخلوقين و عدلت إليك للثناء عليك و مدحك.

(اللهم و لك مثن على من أثنى عليه مثوبة من جزاء أو عارفة من عطاء). كل من مدح إنسانا و أثنى عليه كان حقا له أن ينال جزاء مدحه و معروفا من عطائه صلة يوصله بها...

(و قد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة و كنوز المغفرة). أنت يا رب الرجاء و الأمل أن تكون دليلا لي و موصلا إلى أبواب الرحمة و أماكن تواجدها و أسباب المغفرة و محلاتها...

(اللهم و هذا مقام من افردك بالتوحيد الذي هو لك و لم ير مستحقا لهذه المحامد

ص: 115

و الممادح غيرك). أنت ترى مكان هذا العبد الذي وحدّك و شهد إنك واحد لا شريك لك و هذا حق لك و أنت تستحقه و أهله إنه لم ير أحدا سواك مهما علت منزلته و ارتفعت رتبته يستحق هذه الممادح الكريمة التي ذكرها و هذه المحامد الجليلة غيرك بل أنت وحدك الذي تستحق ذلك...

(و بي فاقة اليك لا يجبر مسكنتها إلا فضلك و لا ينعش من خلتها إلا منكّ وجودك).

إنني محتاج إلى جودك و عطائك و لا يرفع هذا الفقر و المسكنة إلا عطاؤك وجودك و لا يرفع هذا الفقر و الحاجة إلا كرمك...

(فهب لنا في هذا المقام رضاك و أغننا عن مد الأيدي إلى سواك إنك على كل شيء قدير). عطاياك يا رب أنزلها علينا و نحن في مقامنا هذا الذي نتوجه إليك فيه و نخلص في دعائنا لك و أغننا من فضلك و أفض علينا من فضلك حتى نكف أيدينا عن الحاجة إلى غيرك فإنك القادر على كل شيء تقدر على عطائنا و تكفينا إنك على كل شيء قدير...

ص: 116

92 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي اللّه عنه دعوني و التمسوا (1) غيري، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان، لا تقوم (2) له القلوب، و لا تثبت عليه العقول. و إنّ الآفاق (3) قد أغامت (4)، و المحجّة (5) قد تنكّرت (6). و اعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، و لم أصغ (7) إلى قول القائل و عتب العاتب (8)، و إن تركتموني فأنا كأحدكم، و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، و أنا لكم وزيرا، خير لكم منّي أميرا!.

اللغة

1 - التمسوا: غيري اطلبوا غيري.

2 - لا تقوم: له القلوب أي لا تصبر.

3 - الآفاق: النواحي، ما ظهر من نواحي الفلك ماسا الأرض.

4 - أغامت: غطيت بالغيم و هي السحب.

5 - المحجه: الطريق.

6 - تنكرت: تغيّرت.

7 - أصغ: استمع.

8 - العتب: هو الإنكار على شيء من الفعل، اللوم...

الشرح

(دعوني و التمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول). هذا الكلام من الإمام كان على أثر مقتل عثمان و قدوم الناس عليه

ص: 117

يطلبون منه قبول البيعة و تولي الإمامة فأجابهم عليه السلام بقوله هذا يطلب منهم أن يتركوه و يعدلوا عنه إلى غيره من المسلمين.

و هذا القول منه ليس تهربا من الواقع أو رفضا لحقه المشروع و إنما ليلقي الحجة عليهم من جهة ما يقوم به في مستقبل أمره في شأنهم فيسقط احتجاجهم عليه...

و قد يكون لعلمه بما ستجري عليه الأمور من قيام الناكثين و القاسطين و المارقين بحربه فإذا التمسوا غيره و لم يجد الناصر له سقط التكليف عنه بتولي الخلافة و يكون هذا من قبيل انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه في حقه...

التمسوا غيري.. اطلبوا غيري فإنّ أمامنا أمر نستقبله له وجوه و ألوان إنها فتنة نستقبلها سيخرج الثالوث طلحة و الزبير و أم المؤمنين و سيخرج الخوارج و سيخرج معاوية و هي فتن صعبة و محن مريرة لا تصبر عليها القلوب و تتردد فيها العقول.. سيرى الناس أصحاب رسول اللّه و أم المؤمنين يحملون راية المعارضة و يخرجون لحرب الخليفة.. سيرى الناس هذا المشهد فتضطرب عقولهم و تشوش أفكارهم و يترددون طويلا في تعيين المحق من المبطل.. و كيف يصبر من لا علم له بالحق و لا خيرة له به..

هناك أمة ستقرأ الحق في الرجال و لا تقرأ الرجال في الحق.. سيرون في عمل بعض الصحابة حجة و ينسبون الحق إليهم و لا يقيسون أعمالهم على الحق...

(و إن الآفاق قد أغامت و المحجة قد تنكرت). إن المستقبل مظلم معتم فيه فتن و اضطرابات بل تمرد و خلاف.. فيه حروب و دماء و الطريق الصحيحة السليمة قد تشوشت معالمها و طمست آثارها و ضل السائرون في متاهاتها و ما عليه الإمام هي المحجة و الطريق و لكن للأهواء قوة في الانحراف عنها لا يقوى على مقاومتها أحد...

(و اعلموا إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب). و هذا إنذار لهم و بيان لدوره إن أجابهم إلى البيعة و أضحى خليفة عليهم إنه سيحملهم على علمه بالشريعة و ما تلقاه من النبي، فقد عاش مع الرسول فترة طويلة بل هي أطول فترة زمنية عاشها أحد من الصحابة مع النبي و قد تلقى عنه ألف باب من العلم و كل باب يفتح له منه ألف باب فهو بعد هذا على علم بالشريعة المحمدية سيحمل الناس عليها إن تولى الأمر و تقلد الخلافة و عندها لا يستمع إلى أقوال الناس و لا إلى آرائهم المخالفة لرأيه و لن يلتفت إلى العاتبين عليه الذين يريدون أكثر من حقهم و يطلبون أزيد من نصيبهم فيلومونه على عدم إعطائهم ذلك...

(و إن تركتموني فأنا كأحدكم و لعليّ أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و أنا

ص: 118

لكم وزيرا خير لكم مني أميرا). إن تركتموني و لم تحملوني على تحمل أعباء الخلافة فأنا كأحدكم لن أشق عصا الطاعة أو أفرق الجماعة بل سأكون أطوعكم له إن لم يخالف الحكم الشرعي و كان عاملا لمصلحة الإسلام و إقامة حكم اللّه و إعزاز عباده ثم أشار إلى ما فيه راحة لهم و إنه و هو وزير لهم خير منه أمير و ذلك لأن الوزير له حق إبداء الرأي و الإشارة فحسب دون إن يلزم الآخرين برأيه و لكن الأمير بيده التنفيذ فربما خالفهم في الرأي فكان عليه أن يحملهم عليه كرها عنهم و بالقوة و الإمام عليه السلام قد سلك هذا الطريق فعند ما تولى الأمر حملهم على ما يكرهون فقد قسم بالسوية و ساوى في العطاء و هذا أمر لم يرتضوه أو يقبلوا به و مع ذلك نفذه قهرا عنهم، و هكذا حملهم على رأيه في كل أمر خالفوه في آرائهم...

ص: 119

93 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها ينبّه أمير المؤمنين على فضله و علمه و يبين فتنة بني أمية أمّا بعد حمد اللّه، و الثّناء عليه، أيّها النّاس، فإنّي فقأت (1) عين الفتنة (2)، و لم يكن ليجترئ (3) عليها أحد غيري بعد أن ماج (4) غيهبها (5)، و اشتدّ كلبها (6). فاسألوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم و بين السّاعة، و لا عن فئة (7) تهدي مئة و تضلّ مئة إلاّ أنبأتكم بناعقها (8) و قائدها و سائقها، و مناخ (9) ركابها، و محطّ رحالها (10)، و من يقتل من أهلها قتلا، و من يموت منهم موتا، و لو قد فقدتموني و نزلت بكم كرائه (11) الأمور، و حوازب (12) الخطوب (13)، لأطرق (14) كثير من السّائلين، و فشل كثير من المسئولين، و ذلك إذا قلّصت (15) حربكم، و شمّرت (16) عن ساق، و ضاقت الدّنيا عليكم ضيقا، تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم، حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم.

إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت (17)، و إذا أدبرت نبّهت (18)، ينكرن مقبلات، و يعرفن مدبرات، يحمن (19) حوم الرّياح، يصبن بلدا و يخطئن بلدا. ألا و إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة، فإنّها فتنة عمياء مظلمة: عمّت خطّتها (20)، و خصّت بليّتها، و أصاب البلاء من أبصر فيها، و أخطأ البلاء (21) من عمي عنها. و ايم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالنّاب (22) الضّروس (23): تعذم (24) بفيها، و تخبط (25) بيدها،

ص: 120

و تزبن (26) برجلها، و تمنع درّها (27)، لا يزالون لكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم، أو غير ضائر (28) بهم. و لا يزال بلاؤهم عنكم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه، و الصّاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء (29) مخشيّة (30)، و قطعا (31) جاهليّة، ليس فيها منار هدى، و لا علم (32) يرى.

نحن أهل البيت منها بمنجاة (33)، و لسنا فيها بدعاة، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم (34): بمن يسومهم (35) خسفا (36)، و يسوقهم عنفا (37)، و يسقيهم بكأس مصبّرة (38) لا يعطيهم إلاّ السّيف، و لا يحلسهم (39) إلاّ الخوف، فعند ذلك تودّ (40) قريش - بالدّنيا و ما فيها - لو يرونني مقاما واحدا، و لو قدر جزر (41) جزور (42)، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونيه!.

اللغة

1 - فقأت: العين قلعتها.

2 - الفتنة: المحنة، اختلاف الناس في الآراء و ما يقع بينهم من قتال.

3 - اجترأ: اقدم على الشيء و هجم عليه.

4 - ماج: اضطرب.

5 - الغيهب: الظلمة.

6 - الكلب: محركة داء معروف يصيب الكلاب، و المقصود هنا شرها.

7 - الفئة: الطائفة.

8 - ناعقها: الداعي إليها.

9 - المناخ: محل البروك.

10 - الرحال: جمع الرحل.

11 - الكرائه: جمع كريهة و هي الشدة في الحرب.

ص: 121

12 - الحوازب: جمع حازب و هو الأمر الشديد و حزبه الأمر أي دهمه.

13 - الخطوب: جمع الخطب و هو الأمر العظيم.

14 - اطرق: إذا سكت و أقبل ببصره إلى صدره.

15 - قلّصت: اجتمعت و انضمت.

16 - شمرت: عن ساقها اشتدت من شمر إذا مر مسرعا أو من شمر ثوبه إذا رفعه.

17 - شبّلهت: اشتبه فيها الحق بالباطل.

18 - نبّهت: ايقظت.

19 - يحمن: من حام إذا دار.

20 - الخطة: بالضم الأمر، و الحال.

21 - البلاء: الغم، المصيبة، الشر.

22 - الناب: الناقة المسّنه.

23 - الضروس: السيئة الخلق التي تعضّ صاحبها.

24 - تعذم: تعضّ أو تأكل بجفاء.

25 - خبط: البعير الأرض إذا ضربها بيده.

26 - تزيّن: تضرب.

27 - الدر: اللبن.

28 - غير ضائر: غير ضار و لا مؤذي.

29 - شوهاء: قبيحه.

30 - مخشية: مخوفة.

31 - القطع: جمع قطعة الطائفة من الشيء.

32 - علم: دليل يهتدى به.

33 - المنجاة: من نجا إذا خلص، ما ارتفع من الأرض، الباعث على النجاة.

34 - الأديم: الجلد.

35 - السوم: المعاملة بجفاء.

36 - الخسف: الذل.

37 - العنف: مثلث ضد اللين.

38 - مصبرة: أما بمعنى الجوانب، و أما الممزوجة بالصبر و هو عصارة شجر مرّ.

39 - يحلسهم: يلبسهم الحلس و هو الكساء تحت بردعة البعير.

40 - تود: تتمنى، تحب.

41 - الجزر: القطع.

42 - الجزور: الناقة المجزورة.

ص: 122

الشرح

(أما بعد حمد اللّه و الثناء عليه أيها الناس فإني فقأت عين الفتنة و لم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها و اشتد كلبها). هذه الخطبة كانت بعد وقوع الفتنة و واقعة الجمل و النهروان و صفين و فيها يبين فضله و علمه و يبين فتنة بني أمية.

يذكر فيها أنه هو الذي قضى على هذه الفتن و أعلن ردها و الحرب عليها و قد شبهها بالعين التي تنظر إلى ما لا يحل لها فبادر إلى قلعها ليمنع شرها و يمنعها عن الحرام...

و بيّن مهابة المسلمين لردها و كيف توقفوا أمامها لم يجرأ أحد على خوضها و لم يعرفوا حكمها. كيف يجرأ أحد و المتقاتلون صحابة عاشوا مع النبي و فيهم أم المؤمنين عائشة زوجه ؟ كيف يقدمون على شهر السلاح في وجوه من حملوا الإسلام وضحوا و بذلوا؟...

و لذا توقف جماعة و لم يدروا ما ذا يصنعون و احجم آخرون و لم يجرءوا...

و لكن الإمام كشف القناع عن الحقيقة عند ما شهر السلاح في وجه الناكثين و القاسطين و المارقين و أعلنها عليهم حربا حتى يعودوا إلى الطاعة و ينبذوا الخلاف و العصيان...

إنه سنّ فيهم سنة مباركة لولاه لم يعرف أهل الإسلام كيف يتعاملون مع من يقاتلهم من أهل القبلة...

و لذا قال الشافعي: لو لا علي لما عرف شيء(1) من أحكام أهل البغي...

لقد كانت فتنة متنقلة من البصرة إلى صفين إلى النهروان شملت جمعا غفيرا من أقرب الصحابة و أشدهم جهادا...

و قد ملك الإمام جرأة الاقدام على و أد هذه الفتنة و قتال اربابها دون أن يمس بتهمة تسقط اعتباره، إذ بقى أطهر إنسان حتى في حربه إذ عرف الجميع أن قتاله ليس من أجل الملك و السلطة و ليس حقدا و عداوة و ليس من أجل الدنيا و إنما كان من أجل اللّه و من أجل الإسلام و وحدة المسلمين و قد تعامل مع خصومه و أعداؤه معاملة العظيم الذي عفى عند ما قدر و صفح عند ما ظفر...

ص: 123


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 10 ص 127.

(فاسألوني قبل أن تفقدوني). و هذه مقولة اختص بها الإمام و أضحت عنوانا ترمز إليه و تدل عليه طلب أن يسألوه عن كل شيء قبل استشهاده و خروجه من بين أظهرهم و لكن أولئك القوم على ما يبدو كانوا اغبياء سخفاء لم يسألوا عن شيء ينفعهم و يفيدهم و جلّ مسائلهم كانت امتحانا أو تعنتا، و هذا العلم من علم رسول اللّه الذي علمه إياه و من فضل اللّه عليه و ما اختصه اللّه به حيث أفاض عليه من علمه...

(فو الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم و بين الساعة و لا عن فئة تهدي مئة و تضل مئة إلا انبأتكم بناعقها و قائدها و سائقها و مناخ ركابها و محط رحالها و من يقتل من أهلها قتلا و من يموت منهم موتا). أقسم باللّه الذي يملك نفسه و هو سبحانه يملك نفوس الناس جميعا إنهم لا يسألونه عن شيء مدة حياتهم و إلى البعث و النشور و لا عن طائفة قليلة تهدي أمة أو تضلها إلا كان عنده علمها بتفاصيلها و حدودها من صغير الأمور فيها إلى كبيرها من مطلق صوتها و معلن نفيرها إلى قائدها الذي يحمل راية ضلالها و يأتي بها.. إلى سائقها الذي يدفعها إلى الضلال و الانحراف، يعلم علية السلام أين تضع اثقالها و تنزل بخيلها و رجلها كما يعلم من يموت فيها قتلا و من يبقى حتى يموت موتا بدون قتل، إنه عليه السلام يعلم بخصوصيات الأمور و جزئياتها...

قال ابن أبي الحديد في شرحه «و كم له(1) من الأخبار بالغيوب الجارية هذا المجرى مما لو أردنا استقصاؤه لكسرنا له كراريس كثيرة و كتب السير تشتمل عليها مشروحة».

أقول: و من اخباره بالأمور الغيبية و ما يجري من الفتن و ما يمر على بعض الناس و يحدث لهم مما لا تتحمله العقول و لا تقوم له القلوب من ذلك كان الغلو فيه و رفع منزلته إلى ما لا يجوز...

(و لو قد فقدتموني و نزلت بكم كرائه الأمور و حوازب الخطوب لأطرق كثير من السائلين و فشل كثير من المسئولين). و لو خلي مكاني من بينكم و رحلت عنكم إلى الآخرة و نزلت بكم الأمور التي تكرهها انفسكم و لا تصبر عليها و الشدائد الصعبة من المصائب و البلايا عندها يبهت السائل و يسقط ما في يديه و يطرق إلى الأرض مفكرا يمتنع عليه السؤال أما المسئول فإنه يفشل أمام السؤال و لا يستطيع أن يرد الجواب لعدم معرفته بالأحداث و كيف تجري و ما هو حلها...

(و ذلك إذا قلّصت حربكم و شمّرت عن ساق و ضاقت الدنيا عليكم ضيقا تستطيلون0.

ص: 124


1- ابن أبي الحديد ج 7 ص 50.

معه أيام البلاء عليكم حتى يفتح اللّه لبقية الأبرار منكم). ثم فسر كرائه الأمور بأنها إذا تمادت الحروب بينكم و بين أعدائكم و كانت على أشدها و أعظمها و ضاقت عليكم الدنيا مع سعتها ضيقا عظيما تطول معه الأيام لقساوتها و شدتها فالمبتلى يرى الزمن بطيئا لا يتحرك و يبقى الأمر كذلك حتى يأذن اللّه بالفرج فيفتح لمن بقي من الأبرار منكم بالنصر و تنجلي الفتنة و يرتفع غبارها و أثرها...

و بعبارة أخرى مكاره الحياة عند ما تشتد الأمور و تضيق حلقات البلاء فمن شدتها يخرج احرارها و ثوارها و على أيديهم يكون الفتح و النصر و استرداد الكرامة...

(إن الفتن إذا أقبلت شبهّت و إذا ادبرت نبهّت ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات يحمن حوم الرياح يصبن بلدا و يخطئن بلدا). عند ما يدخل الناس في الفتنة تضيع موازينهم و تختل مقايسهم و تشتبه الأمور عليهم و يعسر تميز الحق من الباطل لاختلاطها و تصوير كل قائد أن الحق إلى جانبه و لكن إذا انجلت و ارتفع ثقلها عن الناس عاد الإنسان بفكره الصافي إلى تحليل الأمور و التدقيق فيها فيكتشف الحق و يميزه عن الباطل ثم فسر أيضا بأن الفتن إذا اقبلت قد ينكر الإنسان كونها فتن إما لأنه يحسن الظن بدعاتها و أهلها و إما لقصور فيه و لكن إذا ادبرت و ذهبت أيامها عرف إنها فتن ظالمة كما وقع لبعض الناس في معركة الجمل حيث نظروا إلى طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة فظنوا صحة دعواهم فلما انتهت المعركة عرفوا ظلمهم و جورهم ثم شبه الفتن بالريح التي تعصف فقد تصيب بلدا فتأتي عليه و تذره هشيما و قد ينجو منها بلد آخر حسب قوة فكر أهل البلد و وعيهم و ثقافتهم و علمهم بالأمور...

(ألا و إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية فإنها فتنة عمياء مظلمة، عمت خطتها و خصت بليتها و أصاب البلاء من أبصر فيها و أخطأ البلاء من عمي عنها). نبههم إلى أعظم الفتن و أخطرها و هي فتنة بني أمية و كونها أعظم الفتن و أخطرها لأنها أرادت أن تأتي على الإسلام فتجتث جذوره و تقضي على معالمه و أسسه، فبني أمية قوم يحملون الروح الجاهلية بكل ما فيها من تعصب و حقد مجون فعند ما يستولون على الحكم يحاولون القضاء على خصومهم القدامى و هم الهاشميين و قد تمثلوا برسول اللّه و علي و أبناء علي...

ثم وصفها بأنها فتنة عمياء مظلمة لأنها تسير على غير هدى و ليس لها موازين أو قواعد بليتها عمت جميع المسلمين و شملتهم كلهم لأن مقاليد الحكم بيد أرباب الفتنة و الرياسة العامة و إذا كانت تشمل ببلائها الجميع فإنها تخص بعضهم بمزيد من البلاء

ص: 125

و المصائب و هؤلاء المخصصّون بهذا البلاء هم أهل البيت و شيعتهم و الشرفاء من أبناء الأمة و نظرة سريعة إلى قائمة الشهداء في العهد الأموي تجد ما يعجز الحساب عن ضبطه و عده و هل يقدر المرء أن يحسب ما طاله سيف ابن زياد و عمر بن سعد و الحجاج و مسرف بن عقبة و غيرهم من عملاء بني أمية و أمرائهم...

و أشار إلى أن البلاء و المصيبة حلت بمن أبصر فيها أي رأى الحق لأنه لا يستطيع كتمه بل لا بد له من الجهر به و الاعلان عنه و هذا يعرضه إلى بلاء الأمويين و انتقامهم...

أما من لم يكن يعرف الحق و لم يقف على المنكر فإنه يسالم الأمور و يسلم و لا يصيبه بلاء أو مصيبة...

(و أيم اللّه لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس تعذم بفيها و تخبط بيدها و تزين برجلها و تمنع درها). أقسم باللّه و أخبر أن بني أمية يجعلون أنفسهم كالارباب في أمرهم و نهيهم بحيث يجب اطاعتهم و امتثال أمرهم و شبههم بالناقة المسنة السيئة الاخلاق التي تعض بفمها و تضرب بيدها و تدفع برجلها و تمنع حالبها من حلبها فهم مثلها من جهة ايذاؤهم للناس و اعتداؤهم عليهم و قتلهم لهم و منعهم العطاء و الفيء و قد مارس بنو أمية أبشع أنواع الظلم و التعدي و منعوا الناس حقوقهم إلا من رضوا عنه و كان على دينهم و في خطهم و ضمن سياستهم.

(لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم أو غير ضائر بهم). لا يزالون في ظلمهم عليكم و لا يتحولون عن قهركم و إذلالكم بل سيبقون كذلك حتى لا يتركوا منكم إلا عميلا يخدمهم و يستفيدون منه أو من لا يضرهم و لا يؤثر على حكمهم و سلطانهم...

(و لا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه و الصاحب من مستصحبه). لا يرتفع بلاء الأمويين و عذابهم عن الأمة و لا يمكن للأمة أن تنتصر لنفسها إلا كانتصار العبد من سيده و التابع من متبوعه أي ليس لهم انتصار أو تغيير أبدا أو ليس لهم انتصار إلا الغيبة لهم و الكلام عليهم فحسب دون أن يغيروا بفعل أو سلوك كما ذكر ذلك في موضع آخر و يكون نصرة أحدكم كنصرة العبد من سيده إذا شهد أطاعه و إذا غاب اغتابه...

(ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية و قطعا جاهلية ليس فيها منار هدى و لا علم يرى). إنها فتنة منكرة عقلا و شرعا و قبيحة أشد القبح منفره للطباع مبعدة للقلوب، إنها أمواج من أمواج الجاهلية التي أحيتها العصبة الأموية لا تجد فيها معلما يدل على الخير

ص: 126

و يهدي إلى الاستقامة فإن الأمويين قد كموا الأفواه و اغمضوا العيون و قتلوا الأحرار و غيّروا مناهج الحق و العدل فلا مرشد و لا هادي يرشد إلى الحق أو يرد إلى الصواب.

(نحن أهل البيت منها بمنجاة و لسنا فيها بدعاة). ذكر أهل البيت و إنهم لا يصيبهم من آثامها و جرائرها السيئة إثم أو سيئة و ليس المراد أنها لا تصيبهم ببلائها و مصائبها لأن أهل البيت أصابهم أشد ما أصاب الأمة حيث أصيب الحسين و أهله و نفى عليه السلام أن يدعو أهل البيت إلى هذه الفتنة أو مثلها...

(ثم يفرجها اللّه عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفا و يسوقهم عنفا و يسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلا السيف و لا يحلسهم إلا الخوف). بعد أن أخبر الناس بما يجري عليهم من البلاء جراء فتنة بني أمية و ما يصيبهم من شرها و ضررها زف إليهم البشرى بزوال دولتهم و إنها لن تكون لمدة طويلة بل ستزول و تنكشف عنكم كما ينكشف الجلد عما تحته و عندها تعود الكرة عليهم و يبتليهم اللّه بأيدي قوم يولوهم الذل و الهوان و لا يدعوهم في راحة و اطمئنان بل الإزعاج يلاحقهم حتى يسقون بكأس مملؤة صبرا كناية عن شدتها و ألمها و ما سيصيبهم من العذاب و الآلام لا يسقيهم إلا السيف ينال منهم و يشفي قلوب المظلومين و يجعلهم حلفاء الخوف أينما توجهوا و كيف ساروا لا يفارقهم بحال...

(فعند ذلك تود قريش - بالدنيا و ما فيها - لو يرونني مقاما واحدا و لو قدر جزر جزور لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونيه). بعد أن أخبر بما يلحق بني أمية من الهوان و الذل و ما يصيبهم من العذاب و الهوان قال: يومها يتمنى بنو أمية بالدنيا و ما فيها لو يرونني خليفة و لو في مقام واحد و لحظة واحدة و لو بمقدار ما ينحر الأبل كناية عن قصر المدة، يتمنون ذلك ليعطوا في ما أطلب منهم اليوم جزءا منه فيمتنعوا عن اعطائه و قد كان الإمام يطلب من الأمويين أن يكفوا عنه و يسكنوا و لا يحركوا الفتن و يزرعوا الاضطرابات و هو جزء من حقه و طاعته فلم يقبلوا منه و لم يسمعوا له أما عند ما يحاصرون و يطاردون فيستمنون وجوده و لو لحظة قصيرة ليعطوه كل ما أراد و لكن تبت أيديهم و خسرت صفقتهم فقد طاردهم بنو العباس و أذاقوهم العذاب المرير حتى قال مروان بن محمد آخر ملوكهم يوم الاحزاب لما شاهد عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بإزائه في صف خرسان: «لوددت أن علي بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى» لما يرى من عدل الإمام و عفوه و صفحه و كرمه..

ص: 127

94 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها يصف اللّه تعالى ثم يبين فضل الرسول الكريم و أهل بيته ثم يعظ الناس

الله تعالى

فتبارك (1) اللّه الّذي لا يبلغه (2) بعد الهمم (3)، و لا يناله (4) حدس (5) الفطن (6)، الأوّل الّذي لا غاية له فينتهي، و لا آخر له فينقضي.

و منها في وصف الأنبياء

فاستودعهم (7) في أفضل مستودع، و أقرّهم (8) في خير مستقرّ، تناسختهم (9) كرائم الأصلاب (10) إلى مطهّرات الأرحام (11)، كلّما مضى منهم سلف (12)، قام منهم بدين اللّه خلف (13).

رسول الله و آل بيته

حتّى أفضت (14) كرامة اللّه سبحانه و تعالى إلى محمّد، صلّى اللّه عليه و آله، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا (15)، و أعزّ الأرومات (16) مغرسا (17)، من الشّجرة الّتي صدع (18) منها أنبياءه، و انتجب (19) منها أمناءه. عترته خير العتر (20)، و أسرته خير الأسر (21)، و شجرته خير الشّجر، نبتت في حرم (22)، و بسقت (23) في كرم، لها فروع طوال، و ثمر لا ينال، فهو إمام من اتّقى، و بصيرة (24) من اهتدى، سراج لمع (25) ضوؤه، و شهاب سطع نوره، و زند برق لمعه، سيرته القصد، و سنّته الرّشد (30)، و كلامه الفصل (31)،

ص: 128

و حكمه العدل، أرسله على حين فترة (32) من الرّسل، و هفوة (33) عن العمل، و غباوة (34) من الأمم.

عظة الناس

اعملوا، رحمكم اللّه، على أعلام (35) بيّنة، فالطّريق نهج (36) يدعو إلى دار السّلام (37)، و أنتم في دار مستعتب (38) على مهل (39) و فراغ، و الصّحف منشورة و الأقلام جارية، و الأبدان صحيحة، و الألسن مطلقة، و التّوبة مسموعة، و الأعمال مقبولة.

اللغة

1 - تبارك: من البركة كثرة الخير و زيادته.

2 - يبلغه: يدركه و يصل إليه.

3 - الهمم: جمع الهمة العزم الشديد.

4 - ناله: أصابه لا يناله لا يدركه أو يصيبه.

5 - الحدس: قوة الفكر التي تطوي فيها المقدمات بسرعة عالية.

6 - الفطن: جمع فطنة جودة الذهن.

7 - استودعهم: دفعه إليهم ليكون عندهم وديعة.

8 - أقرهم: ثبتهم و أسكنهم.

9 - تناسختهم: تناقلتهم من النسخ و هو الإزالة و النقل.

10 - الأصلاب: عظم في الظهر يمتد من الكاهل إلى العجب أو أسفل الظهر.

11 - الأرحام: ما يتكون فيه الجنين.

12 - السلف: المتقدمون من الآباء.

13 - الخلف: الباقون و هم الأولاد.

14 - أفضت: انتهت.

15 - منبت: كمجلس موضع النبات ينبت فيه.

16 - الأرومات: جمع أرومة الأصل.

ص: 129

17 - المغرس: موضع الغرس.

18 - صدع: إليه مال إليه ؟ و عنه كف، و منه شق و أخرج.

19 - انتجب: اختار و اصطفى.

20 - العترة: أهل الرجل و أقرب الناس إليه.

21 - الأسرة: جمعها أسر أهل بيت الرجل و أقرب الناس إليه.

22 - الحرم: ما يحميه الرجل و يدافع عنه، ما لا يحل انتهاكه، و الحرمان مكة و المدينة.

23 - بسقت: ارتفعت.

24 - البصيرة: في الداخل كالبصر في الخارج.

25 - لمع: البرق إذا أضاء.

26 - الشهاب: كل شيء مضيء.

27 - سطع: ارتفع.

28 - الزند: العود الذي يقدح به لإخراج النار.

29 - القصد: الاستقامة.

30 - الرشد: ضد الغي، الاستقامة على طريق الحق.

31 - الفصل: الفاصل و الفارق بين الحق و الباطل.

32 - الفترة: الزمان بين الرسولين.

33 - الهفوة: الزلة.

34 - الغباوة: الجهل و قلة الفطنة.

35 - أعلام: جمع علم و هو الراية، ما ينصب ليهتدى به.

36 - نهج: واضح قويم.

37 - دار السلام: الجنة.

38 - مستعتب: بفتح التائين طلب العتبى أي طلب الرضى.

39 - المهل: عدم العجلة، الرفق، التوءدة.

الشرح

(فتبارك اللّه الذي لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله حدس الفطن). تعالى اللّه و تعاظم عن صفات المخلوقين الذي لا تدركه العزائم الكبيرة و الأفكار العالية و تعجز عن إدراك كنهه و لا تصل إلى شيء من خصائصه الواقعية، و الأذهان مهما كانت في جودتها عالية و في

ص: 130

إدراكها مصيبة فلن تنال من صفاته إلا ما يقع بنظرها القاصر و عجزها القائم...

(الأول الذي لا غاية له فينتهي و لا آخر له فينقضي). فهو سبحانه السرمدي الذي لا بداية له فينتهي إليها و لا آخر له فيحّد عنده إنه واجب الوجود...

(فاستودعهم في أفضل مستودع و أقرهم في خير مستقر تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام كلما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف). شرع عليه السلام في ذكر الأنبياء و ابتدأ بذكرهم قبل ولادتهم فقد كانت عنايته بهم كبيرة و هم أهل لذلك حيث جعلهم في أفضل مستودع و خير مستقر تنقلوا في الأصلاب الطاهرة و الأرحام المطهرة لم تدنسهم الجاهلية بأنجاسها فليس هناك من آباء الأنبياء و أمهاتهم أحد يتدنس برذيلة الفجور أو الزنا بل الوعاء الذي يحوي النبي يجب أن يكون طاهرا و الصلب الذي يجري فيه يجب أن يكون أيضا طاهرا، و قد قال الإمامية و من عقائدهم أن آباء الأنبياء و أمهاتهم طاهرون من الزنا و الفجور.

و قال النبي صلى اللّه عليه و آله: «ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني اللّه تعالى في عالمكم هذا».

و الأنبياء حلقات متصلة بعضها ببعض كلما مضى منهم واحد جاء خلفه آخر يحمل الأمانة و يؤدي الرسالة و يكمل الشوط فإن اللّه لم يترك الناس بدون حجة تقام عليهم و بدون بيان يصل إليهم فكان الأنبياء هم الحجج و هم أهل بيان اللّه...

و الأنبياء يحملون أصول العقيدة لا يختلفون في ذلك أبدا نعم تأتي مشخصات كل رسالة بحسب حاجة الناس و ظروفهم و ما ينفعهم و يفيدهم و لذا مع وحدة الرسالات الإلهية هناك فوارق و اختلافات...

(حتى أفضت كرامة اللّه سبحانه و تعالى إلى محمد صلى اللّه عليه و آله فأخرجه من أفضل المعادن منبتا و أعز الأرومات مغرسا من الشجرة التي صدع منها أنبياءه و انتجب منها أمناءه). فلما مضى من الأنبياء من تقدم منهم و انتهى دورهم في الحياة وصلت كرامة اللّه إلى الرسول الأمين سيد الأولين و الآخرين محمد فأخرجه اللّه من أفضل الناس و أشرف الأصول من إبراهيم الخليل و ابنه إسماعيل الذبيح أو من مكة لأنه منها خرج...

نعم من نفس الشجرة التي خرج منها أنبياء اللّه و أصفياؤه الذين اختارهم لحمل أماناته و هذا يؤيد كون المراد بأفضل المعادن هو إبراهيم و إسماعيل...

(عترته خير العتر و أسرته خير الأسر و شجرته خير الشجر). عترة النبي هم أولاده

ص: 131

و قد فسّر النبي ذلك في حديث الثقلين المتواتر عند المسلمين حيث قال: «إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي و إنهما لن يفترقا حتى يراد عليّ الحوض».

و أسرته و هم الهاشميون خير الأسر و من الثابت أن بني هاشم تمتعوا بأفضل الصفات و أجلها.

و أما شجرته خير الشجر فيريد أنه من أفضل الأصول و أكرمها و هو إبراهيم و إسماعيل و هل هناك أفضل من خليل اللّه إبراهيم شيخ الأنبياء...

(نبتت في حرم و بسقت في كرم). فقد كان مولد النبي في مكة و هي حرم اللّه و تربت و تمت في عز و علو و شموخ.

(لها فروع طوال و ثمر لا ينال). ففروعها الأئمة الهداة أصحاب الشرف و منتهى الكمال و أن علومهم و مكارم أخلاقهم لا يمكن إدراكها أو الوصول إليها لدقتها و عظمتها و عمقها و رقتها...

(فهو إمام من أتقى و بصيرة من اهتدى). فكل تقي يتخذ الرسول قدوة له و أسوة على طريقته يمشي و من تقاه يتزود.

كما أن من اهتدى إلى الحق و أدركه و وصل إليه فهو عن طريق النبي و بإرشاده و توجيهه و هدايته...

(سراج لمع ضوؤه و شهاب سطع نوره و زند برق لمعه). فالسراج إذا لمع ضوؤه اهتدى إليه الناس و أنسوا بوجوده و الشهاب كذلك و الزند و هو ما يخرج منه النار فإن هذه تتلفت إليها الأنظار عند حدوثها و ترتاح إليها و تستأنس و ترى فيها الخير فكذلك رسول اللّه عند ما جاء جاءت الهداية و الخير و البركة...

(سيرته القصد). فهو بسلوكه على محور الاعتدال لا إفراط و لا تفريط.

(و سنته الرشد). الحكمة و الصواب و ما هو جدير به و حقيق.

(و كلامه الفصل). كلامه يفصل بين الحق و الباطل إذا وقع خلاف أو نزاع فهو الحاكم العادل الذي عن يديه تسترد الحقوق و تسترجع المظالم.

(و حكمه العدل). فإذا حكم بحكم كان حكمه عدلا لا جور فيه و هو الذي قال لمن قال له: اعدل يا محمد قال له: ويلك و من يعدل إن لم أعدل أنا...

(أرسله على حين فترة من الرسل و هفوة عن العمل و غباوة من الأمم). أرسله بعد

ص: 132

انقطاع الرسل إذ ليس بعد عيسى من نبي و هي فترة طويلة تعادل ستمائة سنة حتى بعث اللّه محمدا نبيا.

و أما الأعمال فقد كانت جاهلية سلب و نهب و اعتداء... انحراف و سقوط في الرذيلة و اسفاف في الفكر و خروج على قواعد العدل...

و أما الأمم فقد كانت غبية بليدة لم تعرف ربها و لم تهتد إلى ما ينفعها فلذا كانت المظالم متفشية بينها و كانت شريعة الغاب و الناب هي الحاكمة و بيدها أزمة الأمور و مقاليدها...

(اعملوا رحمكم اللّه على أعلام بينة فالطريق نهج يدعو إلى دار السلام). ختم خطبته المباركة بهذه الموعظة الكريمة فدعاهم إلى العمل و حثهم عليه و دعا لهم بالرحمة. اعملوا على مقتضى الأمور الظاهرة البينة التي رسمها لكم النبي و بينها للأمة، فالكتاب و السنة و الأئمة يشكلون الأعلام الواضحة على الحق الدالة عليه و الطريق واضح ظاهر، إنه ما عليه النبي و الأئمة و هو يوصلكم إلى الجنة و هي مورد السعي و السعيد من أدركها و وصل إليها...

(و أنتم في دار مستعتب على مهل و فراغ). أنتم الآن في دار الدنيا تملكون الحرية الكاملة تستطيعون أن ترضوا اللّه بأعمالكم فتبادروا إليها و تقوموا بها و لديكم وقت متسع يمكنكم به العودة إلى اللّه و العمل بما يريد...

(و الصحف منشورة و الأقلام جارية). فصحف الأعمال منشورة مبسوطة يستطيع الإنسان أن يملأها بالحسنات و الأعمال الطيبة...

و الأقلام تتحرك تكتب ما يملى عليها فاكتب أنت الحسنات و لا تجعل القلم يشمئز منك و من سيئاتك.

أما إذا طويت الأوراق و انكسرت الأقلام و ذلك يكون بالموت فلا أعمال صالحة تكتب و لا أوراق و لا أقلام...

(و الأبدان صحيحة و الألسن مطلقة). أنت تستطيع أن ترضي اللّه عند ما تكون صحيحا سليما تقوم بالواجبات و تمتنع عن المحرمات و تحارب المنكر و الجهل و التخلف تحارب ذلك بيدك و بلسانك... إنها فرصة ثمينة أن يغتنم الإنسان صحة بدنه فيعمل لتحقيق رضى اللّه و يغتنم الأوقات التي يستطيع بها أن يتكلم فيهدي إنسانا إلى الحق أو يرد آخر عن الباطل و هكذا...

ص: 133

أما إذا مرضت الأبدان و خرست الألسن فكيف يقدر المرء على إدراك حظه من النجاح أو على تحقيق رضى اللّه...

(و التوبة مسموعة و الأعمال مقبولة). و هذه من مرغبات العمل و الرجوع إلى اللّه إننا و نحن في دار الدنيا إذا عدنا إلى اللّه و رجعنا عن ذنوبنا و تحققت التوبة الصادقة منا كانت مقبولة «هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ » بل هو الذي قال: «تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» و الأعمال التي نصلح بها الخلل مقبولة يرضاها اللّه و يقبلها يكفر بها عنا السيئات و يدخلنا بها الجنات...

ص: 134

95 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يقرر فضيلة الرسول الكريم بعثه و النّاس ضلاّل (1) في حيرة (2)، و حاطبون (3) في فتنة (4)، قد استهوتهم الأهواء (5)، و استزلّتهم (6) الكبرياء (7)، و استخفّتهم (8) الجاهليّة الجهلاء (9)، حيارى (10) في زلزال من الأمر، و بلاء من الجهل، فبالغ صلّى اللّه عليه و آله في النّصيحة، و مضى على الطّريقة، و دعا إلى الحكمة، و الموعظة الحسنة.

اللغة

1 - ضلاّل: من ضلّ إذا لم يكن مهتديا و الضلال ضد الهدى، الباطل.

2 - الحيرة: عدم الاهتداء إلى السبيل.

3 - حاطبون: جمع حاطب و هو الذي يجمع الحطب.

4 - الفتنة: الضلال، الكفر.

5 - الأهواء: جمع الهوى و هو ميل النفس إلى ما تستلذ و تحب.

6 - استزلتهم: أدت إلى الزلل و السقوط في المضار.

7 - الكبرياء: العظمة و التجبر.

8 - استخفتهم: إذا أزالتهم عن الحق و الصواب.

9 - الجهلاء: وصف مبالغة للجهل كقولهم ليلة ليلاء.

10 - حيارى: جمع حائر التائه الذي لا يهتدي السبيل.

الشرح

(بعثه و الناس ضلال في حيرة و حاطبون في فتنة). أراد في هذه الخطبة بيان بعض فضائل النبي و جهاده و ما أتعب نفسه الشريفة من أجله...

ص: 135

فعند ما بعث اللّه نبيه محمدا إلى الناس كانوا في انحراف و تيه لا يهتدون السبيل و لا يدركون ما ينفع مما يضر يجمعون البدع و يلمون الرذائل و لا يتورعون عن معصية أو إثم، كانوا يجمعون ما يصل إليهم من أقوال و أفعال دون أن يعرفوا النافع من الضار و الصحيح من السقيم و الحق من الباطل.

(قد استهوتهم الأهواء و استزلتهم الكبرياء و استخفتهم الجاهلية الجهلاء). هذه بعض أعمالهم و نبذة من تصرفاتهم لقد جذبتهم الأهواء إليها فكل يمشي على مقتضى هواه و ما يرغب فيه و إن كان فيه فساد الأوضاع و اضطراب الأحوال، جذبتهم أهواؤهم إلى الرذيلة و شدتهم إلى المعصية.

و أما كبرياؤهم فقد قادتهم إلى الانحراف و الخطأ فكان أحدهم من أجل ناقة يضرمها حربا شعواء تأكل الأخضر و اليابس تمشيا منه مع كبريائه و استعظامه لنفسه.

و أما الجاهلية المظلمة القاتمة فقد أخذتهم إلى حيث لا يجوز من الغارات و الفساد و الظلم و الاعتداء، لقد أخذت عقولهم و أضعفتها عن إدراك منافعهم و ما يفيدهم...

(حيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل). و هذه أيضا بعض خصالهم و ما كانوا عليه، إنهم كانوا في حيرة و اضطراب من شئونهم لا يملكون رؤية واضحة يهتدون بها إلى الحق و إلى ما يصلحهم و يفيدهم.

و أما الجهل فهو سبب بلائهم و مصائبهم لأن الأمة الواعية المتعلمة المثقفة تستطيع بما عندها من رصيد علمي أن تتلافى أخطاءها و تقف على مصالحها و ما ينفعها و العرب كانوا في جهل و عمى...

(فبالغ صلى اللّه عليه و آله في النصيحة و مضى على الطريقة و دعا إلى الحكمة و الموعظة الحسنة). جهد بكل طاقاته ليوفر للأمة ما يرشدها و يصلحها و ينفعها و بذل ما في وسعه حتى لم يعذّب نبي كما عذّب من أجلهم و من أجل هدايتهم و قد ذهب إلى ربه على ما شرّع و بيّن و على ما سنّ للناس فكل حق أمر به كان ينفذه على نفسه و كل باطل نهى عنه كان أول من يبعد عنه، لم يخالف عمله ما شرّعه و سنه و نطق به و قاله...

و دعا إلى ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة كما أمره اللّه حيث خاطبه قائلا: «اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » ... «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » و قد كان النبي بحكمته و حسن موعظته دافعا للناس إلى دخولهم في دين اللّه و الالتزام بشرع اللّه.

ص: 136

96 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في اللّه و في الرسول الأكرم

الله تعالى

الحمد للّه الأوّل فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، و الظّاهر فلا شيء فوقه، و الباطن فلا شيء دونه.

و منها في ذكر الرسول صلى اللّه عليه و آله

مستقرّه خير مستقرّ (1)، و منبته أشرف منبت، في معادن الكرامة، و مماهد (2) السّلامة، قد صرفت (3) نحوه أفئدة (4) الأبرار، و ثنيت (5) إليه أزمّة (6) الأبصار، دفن اللّه به الضّغائن (7)، و أطفأ به الثّوائر (8) ألّف (9) به إخوانا، و فرّق به أقرانا، أعزّ به الذّلّة، و أذلّ به العزّة. كلامه بيان، و صمته لسان.

اللغة

1 - المستقر: هو القرار في المكان أي الثبوت فيه.

2 - المماهد: جمع ممهد كمقعد ما يمهّد أي يبسط فيه الفراش و نحوه.

3 - صرفت: إليه القلوب تحولت إليه و عادت نحوه.

4 - الأفئدة: جمع فؤاد القلب.

5 - ثنيت: إليه صرفت.

6 - الأزمة: جمع زمام ما يقاد به.

ص: 137

7 - الضغائن: الأحقاد.

8 - الثوائر: جمع ثائرة العداوة و المخاصمة.

9 - ألف: جمع الشيء و وصل بعضه ببعض، و حدّ.

10 - الأقران: النظراء، و الأكفاء.

الشرح

(الحمد للّه الأول فلا شيء قبله و الآخر فلا شيء بعده و الظاهر فلا شيء فوقه و الباطن فلا شيء دونه). صدّر هذه الخطبة في الثناء على اللّه و قد أثنى عليه بأمور الأول فلا شيء قبله كان و لم يكن معه أحد و الآخر فلا شيء بعده يبقى و يفنى كل شيء و الظاهر و هو الغالب فلا غالب يغلبه أو يراد بالظاهر أنه في وجوده لا يحتاج إلى براهين و أدلة.

و الباطن العالم بخفايا الأمور و دقائقها و لا يعزب عن علمه شيء أو إن حقيقته لا تدرك كما هي و كما يجب...

(مستقره خير مستقر و منبته أشرف منبت في معادن الكرامة و مماهد السلامة). في هذا الفصل يذكر النبي الأكرم و بعض مناقبه و مآثره و ما كان له من يد كريمة على هذه الأمة... مستقره خير مستقر يراد به مكة لأنها أشرف بقاع الأرض و أطهرها و مراده بمنبته محل ولادته و هي مكة أيضا و يمكن أن يكون مراده بالمنتب نسبه الشريف و أنه طهر طاهر من أطهار...

في معادن الكرامة و مماهد السلامة يراد أنه خرج من أصول كريمة لم تدنس بعهر أو فجور و فيها السلام من كل العيوب التي تحط من قدر الإنسان و منزلته.

(قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار و ثنيت إليه أزمة الأبصار). قد توجهت إليه القلوب الطيبة الوفية الصادقة التي تتأثر بكل طيب و خير و عطفت إليه الأبصار فراحت تنظر إلى فضله و كرمه و ما يتمتع به تنجذب نحوه قهرا عنها و يشدها إليه ما هو فيه من صفات الكمال و العظمة...

(دفن اللّه به الضغائن و أطفأ به الثوائر). ما كان من أحقاد بين الناس فقد قضى عليها النبي و دفنها إلى الأبد و نموذجا لذلك ما كان يقع بين الأوس و الخزرج و ما جرى بينهما من حروب و ثأر فلما جاء النبي و آمنوا به ماتت تلك الأحقاد و طويت تلك الصفحة

ص: 138

السوداء و ما كان بين الناس من عداوة و حروب أتت على استقرارهم و اشتعلت في حياتهم قد أطفأها اللّه ببركة النبي و جهاده و من ضرب بنظره إلى ما كان عليه الناس يوم بعثة رسول اللّه أدرك حقيقة هذا الكلام و وقف على وجه الحق و عرف فضل النبي و بركاته...

(ألّف به إخوانا و فرق به أقرانا). ببركة رسول اللّه اجتمع الناس و أصبحوا بنعمة اللّه إخوانا فقد التقى المسلمون على الإيمان بالنبي و رسالته و ما جاء به و أضحوا بهذا الإيمان وحدة متكاملة متراصة، تآخوا في اللّه و على الإيمان برسول اللّه و اجتمع سلمان الفارسي و صهيب الرومي و بلال الحبشي مع علي و حمزة و مصعب كما أن من كان قرينا للآخرين في أيام الجاهلية و كانت تربطه بهم عادتها و لوثاتها و أسفافها و انحرافها هذا قد تفرق عن أقرانه عند ما آمن باللّه و صدّق رسول اللّه و تابع طريقته لأنه خالفهم في فكره و في تصوره للأمور و في عقيدته و في طريقة حياته فكان الانفصال بينهما و الفراق حيث لا جوامع تجمع و لا روابط تؤلف و توحد...

(أعز به الذلة و أذل به العزة). فمن أصابته الذلة أيام الجاهلية أعزه اللّه برسول اللّه حينما آمن به و صدقه كعمار و بلال و سلمان.

و من كان عزيزا أيام الجاهلية أصابته الذلة لمخالفته لرسول اللّه و عدم إيمانه برسالته كأبي جهل و ابن أبي سلول و غيرهما من الطغاة...

(كلامه بيان و صمته لسان). فإذا تكلم النبي أبان أحكام اللّه و شرح مدلول الكتاب و أوضح للناس مالهم و ما عليهم و أوقفهم على ما ينفعهم و يضرهم فهو اللسان الناطق عن اللّه الشارح لمراده...

و أما كون صمته لسان فلأن سكوته صلوات اللّه عليه عن حكم إما لأننا لم نكلف به فهو مسكوت عنه و على الناس السكوت عنه.

و أما أن يسكت عن فعل يمارس أمامه و تحت نظره و هو لا يردع عنه أو يزجر فاعله فنستفيد منه إباحته و جواز ارتكابه و هو المعبر عنه بلسان المتشرعة «التقرير» و هو حجة على مستوى قول النبي و فعله، و بهذا يكون سكوته بمستوى البيان و اللسان...

ص: 139

97 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في أصحابه و أصحاب رسول الله

أصحاب علي

و لئن أمهل (1) الظّالم فلن يفوت (2) أخذه، و هو له بالمرصاد (3) على مجاز (4) طريقه، و بموضع الشّجا (5) من مساغ (6) ريقه (7). أما و الّذي نفسي بيده، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى (8) بالحقّ منكم، و لكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، و إبطائكم (9) عن حقّي. و لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها (10)، و أصبحت أخاف ظلم رعيّتي. استنفرتكم (11) للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سرّا و جهرا فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا، أشهود (12) كغيّاب (13)، و عبيد كأرباب! أتلو عليكم الحكم فتنفرون (14) منها، و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، و أحثّكم (15) على جهاد أهل البغي (16) فما آتي على آخر قولي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا (17). ترجعون إلى مجالسكم، و تتخادعون (18) عن مواعظكم، أقوّمكم (19) غدوة (20)، و ترجعون إليّ عشيّة (21)، كظهر الحنيّة (22)، عجز المقوّم، و أعضل (23) المقوّم.

أيّها القوم الشّاهدة أبدانهم (24)، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم. صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه، و صاحب أهل الشّام يعصي اللّه و هم يطيعونه. لوددت (25) و اللّه أنّ معاوية

ص: 140

صارفني بكم صرف (26) الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّي عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم!.

يا أهل الكوفة، منيت (27) منكم بثلاث و اثنتين: صمّ (28) ذوو أسماع، و بكم (29) ذوو كلام، و عمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللّقاء، و لا إخوان ثقة عند البلاء! تربت (30) أيديكم! يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها! كلّما جمعت من جانب تفرّقت من آخر، و اللّه لكأنّي بكم فيما إخالكم (31):

أن لو حمس (32) الوغى (33)، و حمي الضّراب، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها (34). و إنّي لعلى بيّنة (35) من ربّي، و منهاج (36) من نبيّي، و إنّي لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا (37).

أصحاب رسول الله

انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم (38)، و اتّبعوا أثرهم (39)، فلن يخرجوكم من هدى، و لن يعيدوكم في ردى (40)، فإن لبدوا فالبدوا (41)، و إن نهضوا فانهضوا. و لا تسبقوهم فتضلّوا (42)، و لا تتأخّروا عنهم فتهلكوا (43). لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فما أرى أحدا يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثا (44) غبرا (45)، و قد باتوا سجّدا و قياما، يراوحون (46) بين جباههم و خدودهم، و يقفون على مثل الجمر (47) من ذكر معادهم (48)! كأنّ بين أعينهم ركب (49) المعزى (50) من طول سجودهم! إذا ذكر اللّه هملت (51) أعينهم حتّى تبلّ (52) جيوبهم (53)، و مادوا (54) كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفا من العقاب، و رجاء للثّواب !.

ص: 141

اللغة

1 - أمهل: أخّر.

2 - فات الأمر: مضى، ذهب وقت فعله و فاته الأمر إذا صار لا يستطيع أن يدركه.

3 - المرصاد: الطريق و الراصد معناه الرقيب.

4 - المجاز: المسلك.

5 - الشجا: ما يعترض في الحلق من عظم و غيره.

6 - مساغ: ريقه مكانه من ساغ الشراب سهل ممره.

7 - الريق: لعاب الفم.

8 - أولى: أحق.

9 - الإبطاء: ضد الإسراع، التأخير.

10 - الرعاة: كالرعاء جمع الراعي و هو كل من ولي أمر قوم و القوم رعيته.

11 - استنفرتكم: دعوتكم إلى أن تنفروا أي تسرعوا إلى الجهاد.

12 - شهود: جمع شاهد الحاضر.

13 - غيّاب: جمع غائب من لم يكن حاضرا.

14 - تنفرون: تشردون، تفرون.

15 - أحثكم: أحضّكم و أنشطكم.

16 - البغي: الظلم و العدول عن الحق.

17 - أيادي سبا: مثل يضرب للمتفرقين.

18 - تتخادعون: من تخادع إذا أري أنه مخدوع و ليس به.

19 - أقومكم: أعدلكم من قومه إذا عدله و أصلح اعوجاجه.

20 - الغدوة: جمعها غدى و غدّو أول النهار أو ما بين الطلوعين.

21 - العشية: آخر النهار، أول الظلام من المغرب إلى العتمة.

22 - الحنية: القوس.

23 - أعضل: استصعب و استعصى.

24 - الأبدان: الأجساد.

25 - وددت: تمنيت.

26 - صرف الدينار: أبدله بدراهم أو دينار سواه.

27 - منيت: ابتليت.

28 - الصمم: علة في الأذن تمنع من السمع.

29 - بكم: جمع أبكم الأخرس.

ص: 142

30 - تربت: أيديكم افتقرت و الأصل أصابها التراب.

31 - أخالكم: أظنكم.

32 - حمس: اشتد.

33 - الوغى: الحرب.

34 - القبل: ضد الدبر.

35 - بينة: حجة و دليلا.

36 - المنهاج: الطريق الواضح.

37 - اللقط: أخذ الشيء من الأرض.

38 - السمت: الطريق.

39 - الأثر: ما بقي من رسم الشيء، السّنة.

40 - الردى: الهلاك.

41 - لبدوا: بالأرض التصقوا بها، أقاموا.

42 - تضلوا: من ضل ضلالة ضد اهتدى.

43 - تهلكوا: من هلك هلاكا مات و لا يكون إلا في ميتة السوء.

44 - الأشعث: المغبّر الرأس.

45 - الأغبر: ما لونه الغبرة و الغبرة هي لطخ الغبار.

46 - يراوحون: المراوحة هي أن يقوم بهذه تارة و بالآخر أخرى و المراوحة بين الجباه و الخدود أي يسجد على هذه تارة و على تلك أخرى.

47 - الجمر: النار المتقدة.

48 - المعاد: يوم الحساب.

49 - الركب: جمع ركبة الموصل ما بين الفخذين و الساق.

50 - المعزى: خلاف الضأن من الغنم و هي ذوات الشعر و الأذناب الصغار.

51 - هملت: فاضت و سالت.

52 - تبل: من البلل و هو النداوة.

53 - الجيوب: جمع جيب القميص.

54 - مادوا: اضطربوا و ارتعدوا.

الشرح

(و لئن أمهل الظالم فلن يفوت أخذه و هو له بالمرصاد على مجاز طريقه و بموضع الشجا من مساغ ريقه). هدّد الظالمين باللّه - سواء كانوا ممن هم معه فتباطؤوا أم العصاة

ص: 143

مع معاوية - هددهم بأن اللّه يؤخر الظالم فلا يأخذه فورا عند عمل المعصية بل يتركه حتى يتمادى و يطغى و لكن ذلك لن يفوت اللّه أخذه بل يأخذه مهما امتد عمره و عمّر في المعصية و هو على حد «إن اللّه يمهل و لا يهمل»...

ثم بيّن عليه السلام قرب اللّه من هذا الإنسان و أنه تحت رقابة اللّه يعلم بكل حركة و كل كلمة فهو له بالمرصاد كما قال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصٰادِ» أي لا يفوته شيء من أعمال هذا الإنسان لأنه يرى و يسمع جميع أقواله و أفعاله و من كان يراقبك و يرصد حركاتك يعرف عنك أمورك بدقة و يستطيع أخذك...

و أيضا هو سبحانه يأخذ عليه الطريق التي يسلكها و قادر عليه.

كما أنه سبحانه من جهة قربه منه بموضع ما ينبت في الحلق كما قال تعالى: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ» أو إنه يستطيع أن يخلق له ما يؤذيه و يمنعه من الإساغة في حلقه مع سعته...

(أما و الذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم). أقسم عليه السلام باللّه الذي روحه عليه السلام و روح كل الناس بيده أن معاوية و أتباعه سينتصرون على أهل العراق و هذا من أخباره بالغيب و بما كان عنده من آثار النبوة و أخبار الحق أو بما يظهر من الآثار المرئية عنده و من المقدمات التي بين يديه التي هي بمستوى اليقين حيث علل هذا الظهور بما يأتي بعد ذلك من اجتماع أهل الشام على باطلهم و تفرق أتباعه عن حقهم...

(ليس لأنهم أولى بالحق منكم و لكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم و إبطائكم عن حقي). دفع توهما يمكن أن يحصل و مفاده أن انتصارهم لأنهم أهل الحق دفعه بأن انتصارهم ليس لأنهم أهل الحق بل لإطاعتهم إلى صاحبهم و باطله و تفرقكم عن صاحبكم و حقه فإن سنن الحرب جارية على أن من اجتمعت كلمتهم و توحدت صفوفهم و اعدوا و استعدوا كان النصر حليفهم و إن كانوا كفارا و إن الهزيمة و الخسران نتيجة من اختلفت كلمتهم و تشتت رأيهم و لم يستعدوا و إن كانوا مؤمنين...

و هذا قانون طبيعي يجب أن يعيه أصحاب الحق و يعملوا به و لا يتكلوا على إيمانهم العاري عن الاستعداد.

فإن ذلك يناقض حكم اللّه و يعارض الإيمان فإن من كان مؤمنا عمل بقوله:

«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ اَلْخَيْلِ » .

(و لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها و أصبحت أخاف ظلم رعيتي). عادة

ص: 144

الأمم أنها تقع تحت ظلم رعاتها و ولاة أمورها فترى الحاكم ظالم مستبد يستعبد شعبه و يذله و يذيقه المرارات فالحاكم هو الظالم و الشعب هو المظلوم و هذه القضية انعكست في حق الإمام فأضحى هو المظلوم و الرعية هي الظالمة، هي الظالمة له لمخالفتها و عنادها له و رفضها لأمره و عدم الالتزام بقوله و لا يستطيع أن يتجاوز المشروع بأن يأخذها بالقوة و الظلم و الإرهاب و التخويف.

(استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا). هذه بعض أياديه الكريمة التي قابلها قومه و اتباعه بالتنكر لها و عدم الاستجابة له... يذكر جملة منها.

الأولى: إنه كان يدعوهم و يحثهم للخروج إلى جهاد معاوية و قتاله... اخرجوا إلى قتال عدوكم و لكنهم تباطئوا و تأخروا بل امتنعوا و لم يستجيبوا.

الثانية: (و أسمعتكم فلم تسمعوا). أسمعتكم كل حق و قلت لكم اعملوا به و أسمعتكم كل ما هو باطل و حذرتكم منه و لكنكم لم تسمعوا قولي فنزّل سماعهم بحكم عدمه لأن من حق من يسمع أن يعمل و أما من يسمع و لا يعمل فهو كأنه لم يسمع و ينزّل منزلة من لم يسمع و يخاطب خطابه...

الثالثة: (و دعوتكم سرا و جهرا فلم تستجيبوا). دعوتكم إلى اللّه و إلى السير في ركابه، دعوتكم سرا بيني و بينكم و دعوتكم أمام الجميع و على رءوس الأشهاد...

دعوتكم بكل ما يصلحكم و ينفعكم فلم تستجيبوا لي و تلبوا ما طلبت منكم و هذه شكوى تتساوى مع شكوى نوح من قومه حيث قال: «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهٰاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرٰاراً» .

الرابعة: (و نصحت لكم فلم تقبلوا). أرشدتكم لما فيه مصلحتكم و دللتكم على ما فيه منفعتكم فلم تقبلوا نصحي و لم تستجيبوا لي...

(أشهود كغياب و عبيد كأرباب). نزلهم منزلة الغائبين مع أنهم شهود معه لأن حق من شهد أمرا أن يسمعه و يفهمه و يعمل به و هم مع حضورهم لم ينتفعوا بمواعظه.

و نزلهم منزلة الأرباب القادة و الأمراء مع أنهم رعية و سوقة لأن من حق الرعية الاستماع و هم لم يستمعوا منه بل تاهوا كبرا و علوا و انتفخوا بدون معنى كالأمراء و الحكام...

(أتلوا عليكم الحكم فتنفرون منها). يقرأ عليكم الحكم التي فيها صلاحهم و إرشادهم و ما ينفعهم فيفرون منها و يرفضون قبولها على عكس سيرة العقلاء الذين

ص: 145

يلتقطون الحكم و يبحثون عن أصحابها...

(و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها). أعظكم بكل موعظة ترقق القلب و تخشع لها النفس و تؤثر أثرها في النفس القابلة للانتفاع فتتفرقون عنها و كأنكم لم تسمعوها و كأنها لم تطرق أسماعكم...

(و أحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم و تتخادعون عن مواعظكم). كان عليه السلام يدفع أصحابه و يحضهم على قتال أهل الشام الفئة الباغية التي جاءت تسميتها على لسان النبي الأكرم.

كان يحضهم و بمختلف الأساليب الشرعية و العرفية و الوعظية فلم يتم كلامه و يخرجوا من عنده حتى يتفرقوا إلى غير اجتماع و لا لقاء فكل واحد يعود إلى بيته و أسرته و محل عمله و يخدعون أنفسهم كأنهم لم يسمعوا الكلام و لم يصغوا إلى المقال...

(أقومكم غدوة و ترجعون إليّ عشية كظهر الحنية عجز المقوم و أعضل المقوّم).

أصلحكم في أول النهار بمواعظي و كلامي و ما ألقيه عليكم و لكن لم يأت عليكم المساء حتى تعودا إلى اعوجاجكم و عصيانكم و تمردكم شبههم بظهر القوس في الاعوجاج من حيث عدم امكان تقويمه و تعديله لقد عجزت عن إصلاحكم إقرار منه بالعجز عن إصلاحهم لعدم قابليتهم للهداية لا لقصور في البيان و عجز في اللسان لقد أضحى مرضهم مزمنا لا شفاء له و نفاقهم قديم لا يصلحه موعظة أو حكمة...

(أيها القوم الشاهدة أبدانهم الغائبة عنهم عقولهم المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم). هكذا كانوا و بهذه الصفات عاشوا فأبدانهم حاضرة أمام عليّ و في هذه الدنيا... هياكل بشرية تأخذ حجما من المساحة و قد تملأ العين منظرا و هيئة و لكنها بدون عقل... لقد عطلت قواها العقلية و إدراكاتها الذهنية، و هذا على حد قوله تعالى:(1)

«وَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسٰامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ » . و أما أهواؤهم فمختلفة فهذا يريد الحرب و ذاك يريد السلم هذا يريد الدنيا و ذاك يريد الآخرة و هذا يريد أمرا و الآخر يريد خلافه لم يجتمعوا إلا على اختلاف الآراء و الأهواء...

ثم بيّن ابتلاؤه بهم و ما أشده و أقساه من ابتلاء ابتلي بهم حيث لم يطيعوه و لم يسمعوا قوله فكانت له فتنة صعبة هل يأخذهم بالقهر و القوة و بما يأخذ الظالمون به رعيتهم و حاشاه أن يكون جبارا يطلب الدنيا و يروّع الناس أم يعاملهم باللين و اللطف4.

ص: 146


1- سورة المنافقون آية - 4.

و الموعظة الحسنة و هذا ما فعله و لكنهم أصروا على خلافه فكان هذا الابتلاء و الامتحان له...

(صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه و صاحب أهل الشام يعصي اللّه و هم يطيعونه).

ذكر التضاد بينه و بين معاوية و بين أصحابه و أصحاب معاوية...

فهو يطيع اللّه و يعمل بأمره و يحقق إرادته، يريد أن يردّ البغاة عن ظلمهم بينما معاوية يعصي اللّه و يتمرد على حكمه و يعمل بخلاف ما أمر و يخرج على الخليفة الشرعي و يمزق وحدة المسلمين و مع هذا فأصحاب الإمام لا يطيعونه مع طاعته للّه و على العكس من ذلك أصحاب معاوية فإنه مع عصيانه للّه يطيعونه و كان حق القضية أن أصحاب الإمام يطيعونه لطاعته للّه بينما أصحاب معاوية حقهم أن يعصوه لمعصيته للّه و هذا ذم لهم لتمردهم عليه و ذم لمعاوية لأنه أمام ضلالة و ذم لأهل الشام لغبائهم و جهلهم و ضلالهم...

(لوددت و اللّه أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم). و هذا الكلام يبيّن مدى لوعة الإمام و حسرته و ما يعيشه من ألم الوحدة بحيث يتمنى أن يعطيه معاوية واحدا مطيعا للإمام عاملا بقوله سائرا على نهجه و يأخذ منهم عشرة تحقيرا لهم بهذا الصرف.

(يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث و اثنتين صم ذوو أسماع و بكم ذوو كلام و عمي ذوو أبصار لا أحرار صدق عند اللقاء و لا أخوان ثقة عند البلاء). ثم صرخ بأهل الكوفة و ناداهم أنه ابتلي منهم بثلاث و اثنتين و لم يقل بخمس لأن الثلاث إيجابية و الاثنتين سلبية فأحب أن يفصل بينهما هكذا قيل.

1 - أما الثلاث:.

أ - فهم يملكون آلات السمع من الآذان و لكنهم لا يستعملون سمعهم فيما ينفع و يفيد فيتحولون إلى قوم أصابهم المرض المانع من السمع لأن من حق السامع أن يعمل بما سمع.

ب - و هم أيضا يتكلمون و يملكون ألسنة ناطقة و لكنها لا تنطق بالحق فتتحول إلى العدم بنظر أهل العقل و الدين.

ج - و كذلك هم يملكون عيونا تبصر و لكنهم لا يبصرون الحق و لا يستعملون نظرهم فيما ينفع و يفيد فتتحول إلى عدم و كأنها لم تكن.

ص: 147

2 - و أما الاثنتان:

أ - فالأولى نفى عنهم صفة الأحرار من حيث إنهم لا يصدقون اللقاء في وجه الأعداء لأن من كان حرا أنف الفرار و الهزيمة بل أصر على إحدى الحسنين النصر أو الشهادة أما الفرار و الهزيمة فهذا فعل الجبناء المتخاذلين، فعل العبيد السفهاء...

ب - الثانية نفى عنهم أن يكونوا أخوان ثقة لأن الأخ الصادق في اخوته لا يخذلك عند البلاء و وقوع المصيبة عليك بل يبادر إلى إعانتك و تسديدك و نصرك و بذلك تصدق اخوته و ما أكثر اخوان المكاشرة في هذه الأيام العصبية و أقل اخوان الصدق و الثقة لقد جربنا الأشخاص و امتحنا قلوبهم فوجدنا أكثرهم بدون وفاء...

(ترتب أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها كلما جمعت من جانب تفرقت من آخر). عاد للدعاء عليهم فقال لا أصبتم خيرا و من لم يصب خيرا خسر و ضل ثم شبههم بالإبل التي غاب عنها رعاتها فإنها تتوزع و تتفرق و لا يعود لها من جامع يجمعها و بذلك تضل في البيداء و كلما جمعتها الصدف من جهة و التقى بعض أفرادها في ناحية تفرقوا من ناحية أخرى فليس هناك من راع يجمعها و قد شبههم بهذا الشبه لعصيانهم أمره و عدم إطاعتهم له بحيث تفرقوا في الآراء و المواقف و الأهداف...

(و اللّه لكأني بكم فيما إخالكم أن لو حمس الوغى و حمي الضراب قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها). أقسم لقرائن يقرأها فيهم و ظنا و ظن الألمعي يقين أنه لو اشتعلت الحرب و اشتد الضرب بالسيوف و الحراب لتركوه وحده فريدا في ساحة المعركة و تخلوا عنه لا يدفعون ضيما و لا يردون عدوا، عندها تظهر عوراتهم و تهتك أسرارهم و قد شبه انفراجهم و تخليهم عنه بالمرأة التي تكشف عورتها عند ولادتها فتستسلم لمن تتولى أمرها دون حياء أو تكشف عورتها عند الطعان تدرأ بها القتل و تستدفع الموت فإن العرب لا يجهزون على امرأة و يربأ سيف الأبطال أن يطال النساء بل من فعل ذلك يعيّر بفعله.

(و إني لعلى بينة من ربي و منهاج من نبيي و إني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا).

بين عليه السلام ما هو عليه من الحق ليرغبوا في متابعته فقال: إني على هذين النورين أسير، على كتاب اللّه و سنة رسوله على مقتضى البينات و الأدلة و البراهين الواضحة و على مقتضى الشريعة المحمدية.. إني على طريق الدين الواضح الظاهر أجمعه من بين طرق الضلال و المذاهب المبتدعة و الأهواء المختلفة...

(انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم و اتبعوا أثرهم). أمر الناس أن يتطلعوا نحو

ص: 148

أهل البيت و يلزموا طريقهم و يقتفوا أثرهم فيعملوا بما جاء عنهم و ما صدر عن جنابهم و هذا تأكيد لما جاء عن النبي في حق أهل البيت حيث جعلهم النبي في أحاديثه تارة كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق و هوى و تارة أخرى كالنجوم أمان لأهل الأرض و ثالثة عدل القرآن و أحد الثقلين و رابعة كباب حطة من دخله كان من الآمنين و هكذا مما يدل على وجوب الالتزام بنهجهم و السير خلفهم و الاقتداء بهم...

(فلن يخرجوكم من هدى و لن يعيدوكم في ردى). هذا ترغيب في اقتفاء أثر أهل البيت و إن من كان على الهدى فأهل البيت لن يخرجوه منه إلى الضلال و كما أنهم لن يعيدوا إنسانا إلى الهلاك الأبدي بما كان عليه أيام الجاهلية و هذا تعريض بغيرهم...

(فإن لبدوا فالبدوا و إن نهضوا فانهضوا). فإن سكنوا و سكتوا فاسكتوا و اسكنوا و إن نهضوا في وجه الطغاة و أعلنوها عليهم حربا فانهضوا معهم و أعلنوا الحرب و ذلك لأن أهل البيت أدرى بمواقع التحرك و مواقع السكون فهم يعرفون المصلحة الإسلامية التي تحكمهم بالثورة أو تحكمهم بالسكوت...

(و لا تسبقوهم فتضلوا و لا تتأخروا عنهم فتهلكوا). نهاهم عن التقدم على أهل البيت أو التأخر عنهم لأنهم الأدلاء على الحق أرباب البيان و لسان الرحمن فمن سبقهم ضل و انحرف عن الصراط لأن العمل بدون اعتماد على الحجة مظنة الخطأ و الوقوع في الانحراف و من تأخر عنهم و لم يعمل بقولهم هلك لأنه رأى الحجة أمامه فتمرد عليها و خالفها فعاقبته الهلاك...

(لقد رأيت أصحاب محمد صلى اللّه عليه و آله فما أرى أحدا يشبههم منكم). عاش الإمام مع النبي من نعومة أظفاره و حتى انتقل النبي إلى ربه لم يفارقه لحظة و لم يتخلف عنه في موقف و قد عاش مع الصحابة منذ أسلم أول صحابي و حتى مضى النبي و هو أعرف بأولئك الصحابة الذين عاشوا مع النبي لأنه عاش معهم و درسهم و وقف على تفاصيل حياتهم...

لقد قرأ حياة أهل العراق و من معه من الناس فأنكر أن يكون فيهم أحدا يشبههم...

ثم ذكر بعض مواصفات الصحابة...

(لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا و قد باتوا سجدا و قياما يراوحون بين جباههم و خدودهم). فقد ذكر ثلاثة أوصاف للصحابة افتقدها أهل العراق:.

ص: 149

الأولى: إنهم يصبحون شعثا غبرا معناه لا يعيرون الدنيا أهمية و لا يعطونها وقتا بل استغرقوا في طاعة اللّه فشغلهم ذلك عن الاهتمام بزينتهم و جمالهم.

الثانية: إنهم باتوا في صلاة طيلة ليلهم سجدا للّه و قياما في طاعته كما قال تعالى:

«وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيٰاماً» . الثالثة: إنهم يراوحون بين جباههم و خدودهم فتارة يتذللون بالخضوع للّه بالسجود على جباههم و تارة أخرى يتذللون له بوضع خدودهم على الأرض يرغمون أنفسهم على طاعة اللّه...

(و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم). هذه رابعة الصفات و أنهم أمام ذكر يوم الحساب و الوقوف بين يدي اللّه و العودة إليه كالواقفين على الجمر لا استقرار لهم و لا هدوء بل هم في همّ و غم و خوف و عذاب كما قال عليه السلام في خطبة المتقين: «فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون و هم و النار فيها كمن قد رآها فهم فيها معذبون...».

(كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم). و هذه خامسة الصفات إنها صفة ظاهرة تحكي عن داخل مطيع للّه إن بين أعينهم كركب المعزى من حيث اسودادها و كثرة السجود عليها و قد نقلت لنا كتب السير أن الإمام زين العابدين كانت جبهته الشريفة كثفنة البعير لطول سجوده و قد وصف اللّه أصحاب النبي بقوله تعالى:(1)«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ» .

(إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم). و هذه سادسة الصفات إنها صفة الرقة في القلب أمام اللّه. و إن هذا القلب إذا التفت إلى اللّه و ذكّر به انعكس ذلك ترجمة عملية لم يتمالك هذا الإنسان من ضبط دموعه و منعها عن السقوط بل تتساقط لتبل جيوبهم أي ثيابهم...

(و مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب و رجاء للثواب).

اضطربت قلوبهم بشدة خوفا من عقاب اللّه كما أنها تضطرب من شدة الفرح و السرور و هكذا المؤمن يعيش بين الرجاء و الخوف يهزه كل منهما خوفا و شوقا.9.

ص: 150


1- سورة الفتح آية - 29.

98 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يشير فيه إلى ظلم بني أمية و اللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا (1) للّه محرما (2) إلاّ استحلّوه (3)، و لا عقدا (4) إلاّ حلّوه (5)، و حتّى لا يبقى بيت مدر (6) و لا وبر (7) إلاّ دخله ظلمهم و نبا به (8) سوء رعيهم (9)، و حتّى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، و باك يبكي لدنياه، و حتّى تكون نصرة (10) أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده، إذا شهد (11) أطاعه، و إذا غاب اغتابه (12)، و حتّى يكون أعظمكم فيها عناء (13) أحسنكم باللّه ظنّا، فإن أتاكم اللّه بعافية فاقبلوا، و إن ابتليتم (14) فاصبروا، فإنّ «العاقبة للمتّقين».

اللغة

1 - يدعوا: يتركوا.

2 - محرما: ما حرمه اللّه و ما لا يحل انتهاكه.

3 - استحلوه: استباحوه.

4 - العقد: يقال عقد البيع إذا أحكمه إذا تممه و أوقعه.

5 - حلوه: فكوه و نقضوه.

6 - المدر: الطين و بيوت المدر المبنية من طوب و حجر.

7 - الوبر: جمع أوبار و هو للإبل كالصوف للغنم و بيوت الوبر هي الخيام.

8 - نبا به المنزل: إذا لم يوافقه.

9 - رعيهم: ولايتهم و إمارتهم من رعا يرعى.

10 - نصرة: النصر و حسن المعونة.

ص: 151

11 - شهد: حضر.

12 - اغتابه: عابه و ذكره بما فيه من السوء.

13 - العناء: التعب.

14 - ابتليتم: اختبرتم و أصبتم بسوء.

الشرح

(و اللّه لا يزالون حتى لا يدعوا للّه محرما إلا استحلوه و لا عقدا إلا حلوه). هذا الكلام الشريف يقصد به بني أمية و يبيّن فيه مظالمهم و جورهم بحق المسلمين و قد أقسم باللّه أن هذه الأمور ستجري و تتحقق على أيديهم...

أولها: إنهم لن يتركوا للّه أمرا حرمه إلا و يستحلونه فهم سيقصدون كل محرم فيبنون على حليته و يرتكبونه مستحلين له مخالفة للّه و لرسول اللّه و ما صدر من معاوية و طغاة الأمويين يحكي صدق هذا النبأ فقد استحلوا قتل الشرفاء و الأتقياء و الأئمة الأطهار سمّوا الحسن و قتلوا الحسين و قضوا على حجر بن عدي و كميل بن زياد و مسلم بن عقيل و هاني بن عروة و دخلوا مدينة النبي دخول الفاتحين و كأنهم من غير الملل فاستباحوها قتلا و هتكا حتى افتضت ألف بكر حراما... و ضربوا الكعبة بالمنجنيق و أحرقوها و هكذا دواليك إلى آخر القائمة السوداء التي يأبى الحر الشريف عن ذكرها و الكلام فيها...

ثانيها: إنهم لا يلتزمون بعقودهم بل ينكثون العهود و يخالفون الوعود سواء كانت بينهم و بين اللّه أم بينهم و بين الناس فقد نقضوا عرى هذا الدين و أحكامه كما نقضوا ما أعطوه للشرفاء و في سيرة معاوية مع الإمام الحسن أصدق شاهد و أقوى برهان.

(و حتى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلا دخله ظلمهم و نبا به سوء رعيهم). ثالثها:

تعميم ظلمهم حتى يشمل كل الناس المقيم منهم و الظاعن أهل المدن و القرى أم العرب الرحل، أصحاب الطين المستقرين أم أصحاب الخيام المتنقلين حتى يبلغ الظلم بصاحب البيت أن يهجر بيته و يستخفي منهم لما يسومونه من الظلم و سوء الولاية و قد كان الشرفاء يختفون عن أعين السلطة و يهجرون منازلهم خوفا من الظلم...

(و حتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه و باك يبكي لدنياه). و سيبقى ظلم الأمويين قائما و مستمرا حتى يعود الشرفاء من الأمة أحد رجلين، رجل يبكي لدينه لأنه يرى تعطيل الأحكام و تغييرها و استحلال حرامها أو لأنه لا يقدر على الجهر بما فرض اللّه

ص: 152

عليه من الدين الصحيح و بيان أحكامه و شرائعه...

و رجل يبكي لدنياه حيث يصيبه الحرمان فيمنع من حقه زكاة أو فيئا أو مغانم فيرى دنياه مسلوبة منه قهرا عنه.

(و حتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده إذا شهد أطاعه و إذا غاب اغتابه). ثم نفى أن يقدر أحد من الناس على الانتصار على أحدهم أو الانتقام منه و ذلك بتشبيههم بالعبد مع سيده فإنه إذا حضر أطاعه في كل ما أمر و لم يستطع أن يعصي له أمرا و إذا غاب عنه اغتابه و ذكر معايبه و هذا أقصى ما يقدر عليه و هكذا أنتم فإن أحدكم ضعيف عن الانتقام منهم عاجز عن الانتصار عليهم...

(و حتى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنا). أشد الناس تعبا في دولة بني أمية من كان محسنا باللّه الظن لأنه سيبتعد عنهم و يتنكر لهم و هذا يستدعي منهم محاربته و مطاردته و عداوته فيلقى عنتا و تعبا...

(فإن أتاكم اللّه بعافية فاقبلوا و إن ابتليتم فاصبروا فإن العاقبة للمتقين). توجيه للناس بأن يقبلوا العافية إذا جاءتهم و هي عدم تعرضهم للبلاء و النجاة من ظلم الأمويين و اضطهادهم و عدم وقوعهم تحت أيديهم يمارسون عليهم الظلم كما أمرهم بالصبر إذا ابتلوا بالأمويين و نالتهم أيديهم و سيوفهم و مظالمهم و بشرّهم بالعاقبة الطيبة إن هم صبروا و تحملوا و استمروا على الحق متحملين من أجله هذا البلاء.

ص: 153

99 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في التزهيد من الدنيا نحمده على ما كان، و نستعينه من أمرنا على ما يكون، و نسأله المعافاة (1) في الأيمان، كما نسأله المعافاة في الأبدان.

عباد اللّه، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم و إن لم تحبّوا تركها، و المبلية (2) لأجسامكم و إن كنتم تحبّون تجديدها، فإنّما مثلكم و مثلها كسفر (3) سلكوا سبيلا (4) فكأنّهم قد قطعوه (5)، و أمّوا (6) علما (7) فكأنّهم قد بلغوه (8). و كم عسى المجري (9) إلى الغاية (10) أن يجري إليها حتّى يبلغها! و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه (11)، و طالب حثيث (12) من الموت يحدوه (13) و مزعج (14) في الدّنيا حتّى يفارقها رغما (15) ! فلا تنافسوا (16) في عزّ الدّنيا و فخرها، و لا تعجبوا بزينتها (17) و نعيمها، و لا تجزعوا (18) من ضرّائها (19) و بؤسها، فإنّ عزّها و فخرها إلى انقطاع، و إنّ زينتها و نعيمها إلى زوال، و ضرّاءها و بؤسها (20) إلى نفاد (21)، و كلّ مدّة فيها إلى انتهاء، و كلّ حيّ فيها إلى فناء. أو ليس لكم في آثار الأوّلين مزدجر (22)، و في آبائكم الماضين تبصرة و معتبر، إن كنتم تعقلون! أ و لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، و إلى الخلف (23) الباقين لا يبقون! أولستم ترون أهل الدّنيا يصبحون و يمسون على أحوال شتّى (24): فميّت يبكى، و آخر يعزّى (25)، و صريع (26) مبتلى، و عائد (27) يعود، و آخر بنفسه يجود (28)،

ص: 154

و طالب للدّنيا و الموت يطلبه، و غافل و ليس بمغفول عنه، و على أثر الماضي ما يمضي الباقي!.

ألا فاذكروا هاذم اللّذّات (29)، و منغّص (30) الشّهوات، و قاطع الأمنيات (31)، عند المساورة (32) للأعمال القبيحة: و استعينوا اللّه على أداء واجب حقّه، و ما لا يحصى من أعداد نعمه و إحسانه.

اللغة

1 - المعافاة: طلب العافية و هي صحة البدن من الأسقام.

2 - المبلية: من بلى و بلاء الثوب رث.

3 - سفر: بسكون العين جمع سافر أي مسافر.

4 - السبيل: الطريق.

5 - قطعوه: اجتازوه.

6 - أموا: قصدوا.

7 - العلم: الجبل، أو المنار في الطريق يهتدى به.

8 - بلغوه: أدركوه.

9 - أجرى: الفرس أرسله و حمله على السير.

10 - الغاية: المدى، الفائدة المقصودة.

11 - لا يعدوه: لا يتعداه و يتجاوزه.

12 - الحثيث: السريع و حثه على الشيء إذا حرّضه عليه.

13 - يحدوه: يسوقه.

14 - مزعج: مقلق و أزعجه من مكانه إذا طرده منه.

15 - رغما: قهرا و قسرا.

16 - المنافسة: المحاسدة و نفست عليه بكذا أي ضننت.

17 - الزينة: الزخرفة و زخرفه حسنه.

18 - الجزع: عدم الصبر مع الحزن و الكمد.

19 - الضراء: الشدة نقيض السراء.

20 - البؤس: الشدة.

ص: 155

21 - النفاد: الفناء.

22 - المزدجر: مصدر ميمي من أزدجر و معناه الارتداع و الانزجار.

23 - الخلف: الذرية و من جاء من بعد، الأولاد.

24 - أحوال شتى: أحوال متفرقة.

25 - يعزّى: يصبّر على نائبة، يعزي المصاب يسليه.

26 - الصريع: الطريح.

27 - عائد: جمع عوّاد و عاد المريض إذا زاره.

28 - يجود: بنفسه سمح لها أن تموت.

29 - هاذم اللذات: قاطع اللذات.

30 - نغّص عيشه: كدره.

31 - الأمنيات: ما يتمناه الإنسان و يرغب فيه و يريده.

32 - المساورة: المواثبة و سار اليه يسور سورا وثب.

الشرح

(نحمده على ما كان و نستعينه من أمرنا على ما يكون و نسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان). ابتدأ عليه السلام بحمد اللّه على ما كان لأنه قد وقع فاستحق عليه الحمد كما أن ما لم يقع طلب من اللّه معونته عليه لأنه يحتاج إلى ظهر قوي لئلا يتداعى أو يسقط...

و سأل اللّه أن يعافيه في دينه أي يحفظ له دينه و عقيدته فلا يتعرض لخلل في العقيدة من شك أو تردد أو إهمال للعمل و تسويف فيه فإن سلامة الدين تحتاج إلى دعاء قال تعالى: «رَبَّنٰا لاٰ تُزِغْ قُلُوبَنٰا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنٰا» . كما أنه سأل اللّه أن يعافيه في بدنه لأن الصحة إحدى النعمتين المجهولتين و من كان صحيحا معافى استطاع القيام بالواجبات و أداء الحقوق و العمل لخير نفسه و خير الإنسانية و عرف طعم الحياة و ذاق لذاتها.

(عباد اللّه أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم و إن لم تحبوا تركها و المبلية لأجسامكم و إن كنتم تحبون تجديدها). توجه عليه السلام بالنصيحة للناس كي يتركوا الدنيا و يرفضوا الخنوع لها و الاستسلام لحكمها من جهة تنفيرهم عنها و ذلك بذكر بعض معايبها. فذكر أن من معايبها:.

ص: 156

1 - إنها تخرجكم عنها قهرا فلما ذا لا تكونون أنتم أصحاب المبادرة في رفضها و تركها.

2 - إنها الدنيا التي تفرّق بينكم و بين ما تحبون فإنكم تحبون تجديد شبابكم و هي تحول دون ذلك فالشيخ الكبير يحب أن تعود إليه أيام الشباب و يتأسف على انقضائها و لكنّ الدنيا لا تعطي أذنا لطالب بل تستمر في هدم العمر و تلف البدن و من كانت هذه الدنيا تتعامل معه بهذا الأسلوب حقّ له أن يناصبها العداء و يرفضها و يسعى للتي هي أبقى...

(فإنما مثلكم و مثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه و أموا علما فكأنهم قد بلغوه). جعلنا و الدنيا كقوم مسافرين في طريق فهم لسيرهم فيه لا بد و أن يقطعوه فلقرب اجتيازهم فكأنهم قطعوه أو كقوم قصدوا هدفا لهم فهم سائرون إليه فباعتبار أن هدفهم متحقق فكأنهم قد بلغوه و وصلوا إليه و هكذا فإن الإنسان طالما أنه سائر في الدنيا فلا بد و أن يقطعها و طالما أن نهايته الموت فلا بد و أن يصل إليه...

(و كم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها). و هذا استفهام تحقيري لقصر مدة الدنيا و أن السائر نحو الغاية مهما تصور أنه بعيد عنها فهو قريب سيصل إليها و من ركب جواد الأيام أدرك يوم وفاته بأسرع ما يكون...

(و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه). أحقّر هذا البقاء في الدنيا لقصره لأنه مهما طال فهو ليس بشۀء طالما أن الموت آتيه و مدركه...

(و طالب حثيث من الموت يحدوه). و كيف يركن الإنسان إلى الدنيا و كيف يطمئن إليها و هناك طالب مسرع نحوه إنه الموت يسوق الإنسان في الدنيا حتى يتخلى عنها، و من كانت أيامه بهذا المستوى التافه و الحقير لا يجوز أن تكون أكبر همه فضال أن يعطيها كل همه...

(و مزعج في الدنيا حتى يفارقها رغما). فإن الموت يقلع الإنسان من الدنيا و يخرجه عنها قهرا عنه و من كانت هذه آخرته من الدنيا وجب عليه أن لا يعصي اللّه فيها و لا يهتم فيها إلا بمقدار طاعة اللّه...

(فلا تنافسوا في عز الدنيا و فخرها). أي لا يبخل بعضكم على بعض أو لا يحسد بعضكم بعضا في أمور الدنيا من الأموال و الممتلكات و المدخرات نهي عن بعض ما يتصور أنه خير الدنيا.

(و لا تعجبوا بزينتها و نعيمها). لا يأخذكم العجب و تندهشوا بحسن الدنيا و ما فيها

ص: 157

من نعيم و طيبات و رزق واسع.

(و لا تجزعوا من ضرائها و بؤسها). لا يأخذكم الجزع و اليأس و عدم الصبر فتحزنوا و تتألموا مما يمر عليكم من الدنيا و شدتها و ضيقها و تقتيرها عليكم.

نهى عليه السلام عن خير الدنيا و عن شرها و أن لا ينظر الإنسان إلى ذلك على أنه كل شيء بل هو لا شيء في ميزان أهل الكشف و المعرفة و أهل الإيمان و الدين و قد علل عليه السلام ذلك بقوله:

(فإن عزها و فخرها إلى انقطاع). فإن ما يملكه الإنسان و يحسد غيره عليه و يتنافس فيه لا بد له من نهاية يتوقف عندها.. إن الموت سيخرجك عما تتقاتل عليه و تعتز به و تفتخر ستخرج عن الأموال و الأولاد و السلطان.

(و إن زينتها و نعيمها إلى زوال). فما كان يتزين به الإنسان من قصور و سيارات و أموال و أولاد و ما كان يتنعم به في الدنيا سيزول عنه و يتحول إلى غيره إن بقي له عين أو أثر.

(و ضرائها و بؤسها إلى نفاد). أيام الشدة و البلاء أيام العسر و الحرج كل ذلك سينتهي... و سيتوقف... سيقطع الموت بقاءه و يقضي عليه...

و إذا كان هذا هو حال هذه الأمور فيجب أن يعتبر الإنسان بها و يؤمن أنها عارية سترد و ستخرج عنه و لا تبقى له و لا يدوم لها...

(و كل مدة فيها إلى انتهاء و كل حي فيها إلى فناء). هذه من جملة القواعد العامة التي يعيشها الإنسان في هذه الحياة إنها قاعدة كل شيء إلى انتهاء... له مدة ينتهي عندها، فالشباب له مدة ينتهي عندها و الغنى له حد يتوقف عنده و السلطان له حد يتوقف عنده و هكذا دواليك...

و كل حي فيها إلى الموت كما قال تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ » .

(أ و ليس لكم في آثار الأولين مزدجر و في آبائكم الماضين تبصرة و معتبر إن كنتم تعقلون). استفهام أنكاري ليتعظوا و يستفيدوا يعني استفيدوا من آثار الأولين و ارتدعوا عما لا يجوز لكم، مرّوا في ديار السابقين قوم عاد و ثمود و فرعون و خذوا العظة و العبرة منهم كما أنكم لو نظرتم إلى آبائكم الذين تقدموا عليكم و أنهم لم يبقوا و لم يكتب لهم الخلود، لو فكرتم في كل ذلك لنظرتم لأنفسكم و لما يفيدكم و ينفعكم...

ص: 158

(أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون و إلى الخلف الباقين لا يبقون). انظروا و اعتبروا بحال من مات من الأولين كيف أنهم لا يرجعون إلى الدنيا حتى يصلحوا أعمالهم و يتداركوا ما فات منهم كما أن من تخلفوا بعدهم ممن هم يعيشون معنا - و نحن معهم - كيف إننا جميعا خلفاؤهم و لا نبقى على هذه الأرض و في هذه الدنيا بل سيطوينا الموت و نغيب عن هذا الوجود...

(أولستم ترون أهل الدنيا يصبحون و يمسون على أحوال شتى). نبه عليه السلام بأحوال الدنيا المختلفة إلى عدم بقائها و دوامها و إن على الإنسان أن يعتبر بها و لا يغتر بنعيمها فإن الناس لا يمر عليهم ليل أو نهار إلا و هم في أحوال مختلفة و ذكر بعض هذه الحالات...

(فميت يبكى و آخر يعزّى). هذا هو حال الدنيا فهنا جنازة قد قامت النوادب عليها تحكي صفاتها و تبكي شبابها و إنني و أنا أكتب هذه الكلمات أسمع قراءة القرآن على فقيد حبيب فقده أهله و غاب شخصه عن أعينهم و في المقابل يقف أهل الفقيد يتقبلون العزاء، يسليهم الناس بكلمات العزاء و يصبّرونهم على عادة أهل الدنيا و كما أمر الشرع بذلك...

(و صريع مبتلى و عائد يعود). و هذه من جملة أحوال الدنيا فهناك طريح على الفراش مصاب بمرض أقعده عن الحركة و منعه من الضرب في الأرض قد امتحنه اللّه بهذا البلاء و في مقابله يوجد زواره و قصّاده الذين ينظرون إلى ثواب اللّه و ما أعده من زيارة للمريض كما أنهم يدخلون عليه السرور بزيارتهم و يسلونه عما به من هموم و أسقام...

(و آخر بنفسه يجود). و هذا أيضا من حالات الدنيا التي تمر على بعض الناس...

إنه يصارع الموت و يريد أن يفارق الحياة... إنه رجل يعالج سكرات الموت و ينتظر خروج روحه ليرحل من الدنيا إلى اللّه.

(و طالب للدنيا و الموت يطلبه). فهذا يسعى في طلب الدنيا و يجدّ و يتعب من أجلها و بينما هو طالب إذ بالموت يطلبه حيث تجري الأيام و يمضي العمر و يتقدم الموت نحوه في كل لحظة... فهو طالب للدنيا و الموت يطلبه و لن يدرك الدنيا و سيدركه الموت فيقطع أمنيته و ما كان يطلب من الدنيا.

(و غافل و ليس بمغفول عنه). فهذا الإنسان غافل عما خلقه اللّه من أجله و طلبه منه بينما هو ليس مغفول عنه من حيث إن اللّه ناظر إليه و إلى أعماله...

(و على أثر الماضي ما يمضي الباقي). سنة جارية فعلى طريقة السلف يمشي

ص: 159

الخلف، و يجري على الحاضرين ما كان يجري على الماضين...

(ألا فاذكروا هاذم اللذات). نبههم إلى ذكر هذه الحقيقة التي لا بد و أن نصل إليها و لا بد و أن تدركنا و مع ذلك لا نتعامل معها كحقيقة لا بد من الوقوف عليها...

ينبهنا إلى ذكر الموت فما ذكره إنسان إلا و رجع إلى نفسه و عاد إلى حقيقته يستنطقها و يستفسر منها عن هذا اللغز الرهيب الذي لم يقدر هذا الإنسان على حله و إنما اللّه تولى حله فعاش المؤمنون في رحاب تعاليمه حياة أبدية و كان الموت بالنسبة إليهم كثوب و سخ خلعوه و استبدلوه بثوب نظيف، فهم مطمئنون إلى حكم اللّه و قضائه يتنعمون بما أحله لهم و يبتعدون عما حرم عليهم و بذلك هان الموت عليهم بل كان القنطرة التي يقطعونها ليدخلوا إلى الجنة و نعيمها...

و على كل حال يريد الإمام أن يذكرنا بالموت الذي يقطع لذات الدنيا من مأكل و مشرب و نكاح و طيبات.

يذكرنا أن هذه الأمور إذا كانت من حرام لن تدوم لنا و إذا كانت أنفسنا تطمعنا بدوامها فلا دوام لها سيقضي عليها الموت و سيأتي عليها فلا تبقى.

(و منغص الشهوات). هذه صفة ثانية للموت إنه يكدّر على المرء رغباته ففي ليلة زفافه قد يأتي أجله و في ليلة فرحه قد يأتي ترحه...

(و قاطع الأمنيات). فما يتمناه الإنسان و يطمح إليه و يرغب فيه و يسعى إلى تحقيقه يقطعه الموت و يوقفه و هذه الصفة للموت لنتذكر أن أمنياتنا يجب أن تكون في طاعة اللّه و في خدمة عباده.

(عند المساورة للأعمال القبيحة و استعينوا اللّه على أداء واجب حقه و ما لا يحصى من أعداد نعمه و إحسانه). يقول الإمام اذكروا هادم اللذات و منغّص الشهوات و قاطع الأمنيات عند ما تريدون أن تعملوا الأعمال القبيحة التي لا يحبها اللّه، فإنكم إذا تذكرتم الموت ارتدعتم عن فعل القبيح و لم تقدموا على عمل يكرهه اللّه و لا يحبه و إن المؤمن باستمرار لا يغفل عن ذكر الموت و خصوصا في المواقف التي يكون فيها معصية للّه فإنه يتوقف عن ارتكابها عند ما يتذكر الموت و ما بعده من الحساب و العقاب...

ثم يأمرنا عليه السلام أن نستعين باللّه على القيام بحقه و ما أوجبه علينا فإن من أدى حق اللّه فقد أدرك أقصى الغايات.

كما أن علينا أن نقوم بشكر نعم اللّه التي لا تعد و إحسانه الذي لا يحد...

ص: 160

100 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في رسول الله و أهل بيته الحمد للّه النّاشر (1) في الخلق فضله (2)، و الباسط فيهم بالجود يده (3).

نحمده في جميع أموره، و نستعينه على رعاية (4) حفوقه، و نشهد أن لا إله غيره، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، أرسله بأمره صادعا (5)، و بذكره ناطقا، فأدّى (6) أمينا، و مضى رشيدا (7)، و خلّف فينا راية الحقّ ، من تقدّمها مرق (8)، و من تخلّف (9) عنها زهق (10)، و من لزمها لحق، دليلها مكيث (11) الكلام، بطيء (12) القيام، سريع إذا قام. فإذا أنتم ألنتم (13) له رقابكم، و أشرتم (14) إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به، فلبثتم (15) بعده ما شاء اللّه حتّى يطلع اللّه لكم من يجمعكم و يضمّ نشركم (16)، فلا تطمعوا في غير مقبل (17)، و لا تيأسوا (18) من مدبر (19)، فإنّ المدبر عسى أن تزلّ (20) به إحدى قائمتيه (21)، و تثبت الأخرى، فترجعا حتّى تثبتا (22) جميعا.

ألا إنّ مثل آل محمّد، صلّى اللّه عليه و آله، كمثل نجوم السّماء: إذا خوى (23) نجم طلع (24) نجم، فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصّنائع (25)، و أراكم ما كنتم تأملون.

اللغة

1 - الناشر: من نشر الثوب إذا بسطه و الشيء فرّقه.

2 - الفضل: الإحسان أو الابتداء به بلا علة له.

ص: 161

3 - اليد: في الأصل هي الجارحة المعلومة و قد يكنى بها عن النعمة كما يقال لفلان يد عندي.

4 - الرعاية: الحفظ و الصيانة.

5 - صادعا: مظهرا و متجاهرا.

6 - أدى: أوصل.

7 - الرشيد: المدرك للصواب أو المستقيم على طريق الحق.

8 - مرق: خرج من الدين.

9 - تخلف: عنها إذا تأخر و لم يلتحق.

10 - زهق: هلك.

11 - المكيث: البطيىء.

12 - البطيء: المتأني.

13 - ألنتم: من اللين و هو ضد الخشونة الملاطفة و حسن العشرة.

14 - أشار: إليه أومأ إليه.

15 - لبثتم: مكثتم و أقمتم.

16 - يضم نشركم: يصل متفرقكم.

17 - المقبل: المتوجه نحوك.

18 - لا تيأسوا: لا تقنطوا.

19 - المدبر: من أعطاك دبره و توجه بخلاف ما أنت عليه.

20 - تزل: تسقط و تزلق.

21 - قائمتاه: رجلاه.

22 - تثبت: تستقر.

23 - خوى: سقط للمغيب.

24 - طلع: ظهر.

25 - الصنائع: جميع صنيعة النعم و الإحسان.

الشرح

(الحمد للّه الناشر في الخلق فضله، و الباسط فيهم بالجود يده نحمده في جميع أموره و نستعينه على رعاية حقوقه). هذه الخطبة المباركة تتضمن أخباره بأمور تجري على الناس ممن يتولون الحكم بعده كما يخبرهم أنه لا بد من ظهور إمام هو الإمام

ص: 162

المنتظر و على يديه يكون الفرج...

ابتدأ بذكر حمد اللّه الذي فرق في الناس إحسانه و عمم كرمه على الناس جميعا، نحمده في كل أموره سراءها و ضرائها، بؤسها و نعيمها، رخائها و ضيقها، في أوقات المرض و الصحة في الغنى و الفقر و في كل الأحوال لأنه يستحق الحمد.

و نطلب إعانته لأداء حقه مما كلفنا به من صلاة و صيام و حج و زكاة و جهاد و غيرها...

(و نشهد أن لا إله غيره و أن محمدا عبده و رسوله أرسله بأمره صادعا و بذكره ناطقا). فبعد الشهادة للّه بالوحدانية و أنه لا إله غيره شهد أن محمدا هو رسول اللّه و سفيره إلى الخلق أرسله مجاهرا بما أمر معلنا للناس رسالة اللّه و بذكر اللّه متكلما.

فإن الرسول يحكي مراد اللّه إلى الخلق و ينقل إليهم ما يريد منهم و قد يراد بذكره ناطقا انه يحمداللّه و يسبحه و يذكره بما ينزهه و يقدسه...

(فأدى أمينا و مضى رشيدا و خلف فينا راية الحق من تقدمها مرق و من تخلف عنها زهق و من لزمها لحق). يذكر رسول اللّه و بعض صفاته الكريمة و أهمها أنه أدى عن اللّه ما أئتمنه عليه... بلّغ للناس بأمانة و صدق ما كلّفه اللّه به و قد كان الأمين قبل النبوة و هو بعدها أشد أمانة كما أنه مضى إلى اللّه رشيدا قد بلّغ الرسالة على وجهها الصائب الكامل التام و ترك بعده في الأمة راية الحق و هي كتاب اللّه و عترته حيث قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..».

فقد جعل الميزان لهداية الخلق هذه الراية و التقاء الناس عندها و التفافهم حولها و جعل من تقدم عليها مارقا عن الدين و خارجا عن أحكامه لأنه أخذ ما ليس له بحق أو أخذه عن غير الطريق المشروع الذي أمر اللّه بالسير فيه...

كما جعل من تخلف عنها و لم يقتد بها من الهالكين لأنه أهمل نفسه أو اعتمد على غيرها من رايات الضلال و الانحراف فدفعته إلى الهاوية...

و أما الناجي و الفائز برحمة اللّه و عفوه وجوده و كرمه فهو الملتزم بهذه الراية التي نصبها النبي لهداية الناس فمن اقتدى بأهل البيت و عمل بأوامرهم فهو الملتزم بهذه الراية و أما من اكتفى بحبه لهم دون الاقتداء بهم فهذا لن يستفيد شيئا من هذا الحب...

(دليلها مكيث الكلام، بطيء القيام، سريع إذا قام). يريد بهذا الكلام نفسه الشريفة

ص: 163

فإنه سيد العترة و زعيمها و راية الحق و دليلها و عنوانها و شعارها...

أشار إلى نفسه إلى أنه دليل هذه الراية لأن من عرف الإمام فقد وضع يده على الحق و اهتدى أول الطريق و استطاع أن يمشي على الصراط المستقيم...

ثم أشار إلى بعض أوصافه فهو متروي متثبت في أقواله لا يقع منه خطأ في حديث و لا يعتذر من كلمة لأن له ملكة تهديه إلى صواب الكلام و صدق الحديث...

و أشار أيضا إلى بطئه في القيام أي لا يتسرّع في أخذ القرار بل يدرس الأمور بتأني و يرى وجه المصلحة فيها، فقد كان صلوات اللّه عليه يدفع الحرب ما اندفعت و يحاول أن يؤخرها و يسوفها عسى أن يرجع إليه ضال أو يهتدي تائه و كان يصرح بذلك و يقول: ما دفعت الحرب يوما إلا و أنا أطمع أن تلحق بي فئة فتهتدي بي و تعشو إلى ضوئي و ذلك أحب إليّ من أن أقتلها على ضلالها و إن كانت تبوء بآثامها.

و من صفات هذا الإمام أنه إذا قام عند ما تكتمل عناصر القوة و تتم عوامل النصر قام بدون تأخير بل بأقصى سرعة و قد كان في الحرب سيدها و بطلها و منتزع النصر من شجعانها.

(فإذا أنتم ألنتم له رقابكم و أشرتم إليه بأصابعكم جاءه الموت فذهب به فلبثتم بعده ما شاء اللّه حتى يطلع اللّه لكم من يجمعكم و يضم نشركم). و في هذا إشارة إلى موته و أنه سيكون عند ما تخضع له الأمة و تستسلم لإرادته و تؤدي له فروض الطاعة و الاحترام و تجلّه و تعظمه عندها يأتيه الموت فيذهب به...

و قد قالوا: إنه عليه السلام كنى في هذه الخطبة عن نفسه و أعلمهم فيها أنهم سيفارقونه و يفقدونه بعد اجتماعهم عليه و طاعتهم له و هكذا وقع الأمر فإنه نقل أن أهل العراق لم يكونوا أشد اجتماعا عليه من الشهر الذي قتل فيه عليه السلام.

و جاء في الأخبار أنه عقد للحسن ابنه عليه السلام على عشرة آلاف و لأبي أيوب الأنصاري على عشرة آلاف و لفلان و فلان حتى اجتمع له مائة ألف سيف و أخرج مقدمته أمامه يريد الشام فضربه اللعين ابن ملجم و كان من أمره ما كان و انفضت تلك الجموع و كانت كالغنم فقدت راعيها...

ثم أخبر أنه بعد موته سيتشتتون و يتوزعون و يبقون هكذا ما شاء اللّه حتى يخرج إليهم القائد العظيم الذي يجمع شملهم و يضم متفرقهم و يوحد كلمتهم و حمل على أنه الإمام المهدي أرواحنا له الفداء و هذا القدر المتيقن و عليه ينطبق الأمر بكماله و تمامه

ص: 164

و هو المعدّ لذلك و حمله بعضهم على دولة العباسيين و أمراؤها و بعضهم حملها على كل قيادة تخرج من أهل البيت، و هذا الأخير و إن كان في نفسه صحيحا و لكن لم يكتب لأحد من أهل البيت أن يجمع المسلمين و يوحدهم جميعا نعم هذا ينحصر في الإمام المهدي بالخصوص و به يتعين التفسير.

(فلا تطمعوا في غير مقبل و لا تيأسوا من مدبر فإن المدبر عسى أن تزل به إحدى قائمتيه و تثبت الأخرى فترجعا حتى تثبتا جميعا). ثم بين لهم أن لا يطمعوا فيمن لم يطلب الإمامة و الرياسة لأن عدم طلبه قد يكون لعدم استكمال شرائطها كما نهاهم عن اليأس عمن أدبر عن الخلافة و لم يطلبها إذ ربما كان ذلك لفقدان بعض الشروط و لربما اجتمعت تلك الشروط فعندها يرجع إلى حقه و تتم شروط قيادته.

و قال بعضهم في تفسير هذه الكلمات المباركة: لا تطمعوا أن يحكمكم بعدي من هو مثلي فإن هذا بعيد المنال و لا تيأسوا من هدايتنا أهل البيت فإذا لم تجدوا بعدي من آل الرسول من يملك الحكم و الأمر سياسيا فإنكم واجدون منهم أئمة يهدون بالحق و به يعدلون فالزموهم و انقادوا لأمرهم و أشار بالقائمتين إلى السلطة الدينية و السلطة الزمنية و أنه إذا ذهبت هذه بوفاة الإمام تبقى تلك ببقاء أبنائه و على طول المدة ستعود السلطة السياسية أيضا و تنضم إلى السلطة الدينية.

(ألا أن مثل آل محمد صلى اللّه عليه و آله كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم فكأنكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع و أراكم ما كنتم تأملون). أوصى بأهل البيت و أشار إلى أنهم كالنجوم في ضوئها و كونها تهدي الناس و إلى أن الأرض لا تخلو من أحدهم بل كلما غاب واحد ظهر منهم آخر حلّ محله و قام مقامه و هذا يدل على أنه لا يخلو زمان من إمام يوجه الناس و به يحفظون.

ثم زف إليهم البشرى بتفضل اللّه عليهم بإحسانه العميم الذي يشمل الجميع و يكمل عليهم فضله و إحسانه و يريهم ما كانوا يأملون و يرجون من انتصار الحق و لمّ الشعث و إعادة حكم اللّه في الأرض و هذا إشارة إلى ظهور الإمام المهدي و ما يكون على يديه من المعجزات و به تكتمل النعم و يعم الخير كل البشر...

ص: 165

101 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي إحدى الخطب المشتملة على الملاحم الحمد للّه الأوّل قبل كلّ أوّل، و الآخر بعد كلّ آخر، و بأوّليّته وجب (1) أن لا أوّل له، و بآخريّته وجب أن لا آخر له، و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة يوافق فيها السّرّ (2) الإعلان، و القلب اللّسان.

أيّها النّاس، لا يجرمنّكم (3) شقاقي (4)، و لا يستهوينّكم (5) عصياني (6)، و لا تتراموا بالأبصار (7) عند ما تسمعونه منّي. فو الّذي فلق الحبّة (8)، و برأ (9) النّسمة (10)، إنّ الّذي أنبّئكم (11) به عن النّبيّ الأمّيّ صلّى اللّه عليه و آله، ما كذب المبلّغ، و لا جهل السّامع. لكأنّي أنظر إلى ضلّيل (12) قد نعق (13) بالشّام، و فحص (14) براياته (15) في ضواحي (16) كوفان (17). فإذا فغرت (18) فاغرته، و اشتدّت شكيمته (19)، و ثقلت في الأرض و طأته (20)، عضّت (21) الفتنة (22) أبناءها بأنيابها (23)، و ماجت (24) الحرب بأمواجها، و بدا (25) من الأيّام كلوحها (26)، و من اللّيالي كدوحها (27). فإذا أينع (28) زرعه، و قام على ينعه، و هدرت (29) شقاشقه (30)، و برقت (31) بوارقه (32)، عقدت رايات الفتن المعضلة (33)، و أقبلن كاللّيل المظلم، و البحر الملتطم (34). هذا، و كم يخرق (35) الكوفة من قاصف (36) و يمرّ عليها من عاصف (37)! و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون (38)، و يحصد (39) القائم، و يحطم (40) المحصود!.

ص: 166

اللغة

1 - وجب: ثبت و لزم.

2 - السّر: ما يكتمه الإنسان في نفسه.

3 - لا يجرمنكم: لا يحملنكم.

4 - شقاقي: مخالفتي و عصياني.

5 - لا يستهوينكم: لا يستميلنكم من استهواه إذا استماله.

6 - العصيان: ترك الطاعة و عدم الانقياد.

7 - لا تتراموا بالأبصار: لا ينظر بعضكم إلى بعض تغامرا.

8 - فلق الحبة: شقها.

9 - برأ: خلق.

10 - النسمة: الروح.

11 - أنبئكم به: أخبركم به.

12 - الضليل: الكثير الضلال.

13 - نعق: صاح و النعيق صوت الراعي بغنمه.

14 - فحص: القطا التراب إذا اتخذ فيه مفحصا و هو الموضع الذي تبيض فيه.

15 - الرايات: جمع راية و هي علم الجيش، العلامة المنصوبة لكي يراها الناس.

16 - الضواحي: النواحي البارزة القريبة.

17 - كوفان: اسم لمدينة الكوفة و هي معروفة مشهورة و لها أيام في تاريخ الإسلام.

18 - فغرت: فتحت.

19 - اشتدت شكيمته: إذا كان قوي النفس أبيا و أصل الشكيمة الحديد المعترض في فم الفرس من اللجام.

20 - الوطأة: الأخذة الشديدة و الضغطة.

21 - عضت: من العض و هو الإمساك بالأسنان.

22 - الفتنة: المحنة، الإبتلاء.

23 - الأنياب: جمع ناب السن خلف الرباعية.

24 - ماجت: اضطربت.

25 - بدا: ظهر.

26 - الكلوح: العبوس.

27 - الكدوح: الخدوش و أثر الجراحات.

28 - أينع: نضج و حان قطافه.

ص: 167

29 - هدرت: سالت و هدر البعير إذا قرقر و كرر صوته في حنجرته.

30 - الشقاشق: جمع شقشقة شيء كالزبد يخرج من فم البعير عند هياجه.

31 - برقت: لمعت.

32 - البوارق: السيوف و الرماح لبريقها و لمعانها سميت بذلك.

33 - المعضلة: كالمشكلة لفظا و معنى ما استعصى حلّه.

34 - الملتطم: الذي يضرب بعضه بعضا كالبحر يضرب موجه بعضه بعضا.

35 - يخرق: ينفذ من الشيء و يقطعه.

36 - القاصف: ما اشتد صوته من الرعد و الريح و غيرها.

37 - العاصف: ما اشتد من الريح.

38 - القرون: جمع قرن العظم النابت المرتفع في رءوس بعض الحيوانات.

39 - يحصد: يقطع الزرع بالمنجل - و القرن الجيل من الناس.

40 - يحطّم: يكسّر.

الشرح

(الحمد للّه الأول قبل كل أول و الآخر بعد كل آخر و بأوليته وجب أن لا أول له و بآخريته وجب أن لا آخر له). تحدث عليه السلام بهذه الخطبة عن أمور ستقع في مستقبل الأيام و ابتدأها بحمد اللّه الأول الذي هو مبدأ الكائنات و الآخر الذي يبقى و تفنى الكائنات و بهذا الاعتبار امتنع أن يكون قبله أحد أو يبقى بعده أحد لأنه لو كان الأمر كذلك لأنتفت أوليته و آخريته بما فسرناه...

(و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة يوافق فيها السر الإعلان و القلب اللسان). أراد أن يثبت صدق توحيده و ينفي النفاق عنه و ذلك يتطابق ما في السر من هذه الشهادة لما في الظاهر و ما في القلب لما في اللسان...

(أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي و لا يستهوينكم عصياني و لا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه مني). وجّه الخطاب إلى أولئك الذين جلسوا تحت منبره يستمعون كلامه و هو يحدثهم بأمور خارقة للعادة ستجري عليهم و على الناس و هم على أطوار شتى فهذا يحمله عداءه له و معادته معه إلى تكذيبه و ذلك يجره التمرد و حب مخالفته إلى تكذيبه أيضا و ثالث يتغامز مع غيره إشارة منه إلى عدم الصدق في قوله عليه السلام يرى ممن تحت منبره هذه المناظر الموحشة و يبصر بأم عينه مدى تجاوزهم عليه ورميه بما لا يليق

ص: 168

بساحته ليس لأمر يرون فيه كذبه بل لأمور في نفوسهم المريضة العليلة التي تحملهم على ذلك و لذا يحلف لهم و يبيّن لهم مصدر علمه حتى يستمعوا له و يتقبلوا قوله و لا يرمونه بأمر باطل هو منه بريء.

(فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة أن الذي أنبئكم به عن النبي الأمي صلى اللّه عليه و آله ما كذب المبلّغ و لا جهل السامع). حلف عليه السلام باللّه الذي شق الحبة فأخرج منها الأشجار و الزرع و خلق النفس البشرية بما تحويه من ألوان و لغات و أشكال، حلف باللّه بهذين الوصفين أن الذي يخبرهم به من الأمور الغيبية و الملاحم و ما يجري عليه و عليهم هو عن النبي صلى اللّه عليه و آله و ليس من عند نفسه و إذا كان من عند النبي فالنبي لا يكذب فيما يقول أو يتكلم و أنا لست بجاهل ما سمعت بل كان صلوات اللّه عليه أصدق القائلين و كان الإمام هو الأذن الواعية لكل ما نطق به النبي فالمتكلم ثقة أمين صادق و السامع واعي مدرك حافظ...

(لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام و فحص براياته في ضواحي كوفان). نقل عليه السلام هذا الخبر و كأنه أمامه ينظر إليه يخبر أنه سيخرج في الشام رجل كثير الضلال يصيح إما بالدعوة لنفسه أو بالخروج للحرب و قد وصل براياته إلى الكوفة و نصب لراياته أمكنة يأوي أليها جنده و جماعته.

و قد اختلفت كلمة الشرّاح في المراد من الضليل من هو؟.

فقالوا: إنه معاوية فقد ابتدأت دعوته بالشام و شملت العراق بما فيه الكوفة.

و قيل إن هذا ينطبق على عبد الملك بن مروان لأن هذه الإمارات تنطبق عليه أكثر من غيره فقد قام بالشام حين دعا إلى نفسه و هو معنى نعيقه و فحصت راياته بالكوفة حين قتل مصعبا.

و قيل: إنه أشار بذلك إلى السفياني الدجال. و على كل حال فكل ما ذكر فهي مصاديق لتلك الكبرى التي ذكرها الإمام...

(فإذا فغرت فاغرته و اشتدت شكيمته و ثقلت في الأرض و طأته). و هذه أيضا من أوصاف هذا الضليل الذي نعق بالشام و ما يمارسه على الناس أنه يفتك فيهم كما يفتك الأسد بفريسته حينما يفتح فمه و يتناولها و قد عبّر عن ذلك بقوله فغرت فاغرته...

و كذلك عبّر عن شدة شكيمته بقوة شوكته و شدة بأسه.

و عن كون الأرض ثقلت بوطأته أي كثر جوره و ظلمه...

ص: 169

إذا كان الأمر كذلك مرّ على الناس فتنة قاسية شرحها الإمام بقوله...

(عضت الفتنة أبناءها بأنيابها و ماجت الحرب بأمواجها). بيان لما يصيب الأمة عند ما يشتد جور هذا الضليل و تقوى شكيمته و تشتد في الأرض و طأته، إنها تأخذ هذه الفتنة الأبناء و تذيقهم مرارتها و ألمها فقد شبهها بدابة لها أنياب قد غرزتها في هذه الأمة فكم يكون الألم و كم تكون المرارة ؟!.

و عندها تموج الحرب بأمواجها أي تكثر و تشتد و تتحول في كل مكان و تشمل كل إنسان فيكثر القتل و التشريد و العذاب...

(و بدا من الأيام كلوحها). عندها تظهر الأيام السوداء على الناس لما تحمله معها من مآسي و آلام.

(و من الليالي كدوحها). تظهر آثار تلك الليالي السوداء في جسد الأمة حيث يكون العذاب و المرارة و الألم بحيث لا تمحى و لا يعفى أثرها...

(فإذا أينع زرعه و قام على ينعه). أراد بهذا الكلام أنه إذا هدأت له الحال فتملك و استقر و أراد أن يستفيد من ذلك الاستقرار.

(و هدرت شقاشقه و برقت بوارقه). ظهرت قبائحه و بان طغيانه بما يصدر منه من تهديد و وعيد و ظهرت سطوته و قوته.

(عقدت رايات الفتن المعضلة). عندئذ تقع الفتن الكثيرة التي يصعب حلها و يستعصي علاجها.

(و أقبلن كالليل المظلم و البحر الملتطم). فهذه الفتن لشدتها و قساوتها شبهها بالليل المظلم الذي لا يرى فيه الإنسان مواقع أقدامه و لا يهتدي فيها إلى الحق كما أن الناس فيها يضرب بعضهم وجوه بعض و يقضي بعضهم على بعض كالبحر تتلاطم أمواجه و يضرب بعضها بعضا...

(هذا و كم يخرق الكوفة من قاصف و يمر عليها من عاصف). و هذا إخبار عما سيجري على الكوفة من البلاء و المحن، إنها كثيرة تقضي على الشرفاء و الأخيار بل تعم الناس جميعا... سيمر عليها الجبار العنيد و الشيطان المريد الذي يأتي على الناس فيقضي عليهم و قد وقع ذلك في زمن ابن زياد و الحجاج و الأمويين حيث كانوا يعرفون موقع الكوفة من الأحداث و يعرفون من بها من رجالات العرب و أنصار أهل البيت و لذا أذاقوها المرارات و جرعوها الغصص و مارسوا عليها أبشع صور الإذلال و القهر...

ص: 170

(و عن قليل تلتف القرون بالقرون). شبههم بالكباش الذين يتناطحون فتلتف قرون بعضها ببعض كنى بذلك عن لقاء السيوف بعضها ببعض و وقوع الحرب بالمواجهة و المباشرة بحيث تلتحم السيوف و يعضّ بعضها البعض.

و قيل: و عن قليل يلحق قرن من الناس بقرون و كنى بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم في بطن الأرض.

(و يحصد القائم و يحطم المحصود). قالوا: إنه كناية عن قتل الأمراء من بني أمية في الحرب ثم قتل المأسورين منهم صبرا فحصد القائم قتل المحاربة و حطم الحصيد القتل صبرا.

و قيل: إن ذلك إشارة إلى عموم البلاء و حصد القائم كناية عن قتل القوي و حطم المحصود كناية عن استئصال الضعيف.

و قيل: كنى بحصدهم عن قتلهم و بحطمهم عن فنائهم و تفرق أوصالهم...

ص: 171

102 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

تجري هذا المجرى و فيها ذكر يوم القيامة و أحوال الناس المقبلة

يوم القيامة

و ذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين و الآخرين لنقاش الحساب (1) و جزاء (2) الأعمال، خضوعا (3)، قياما، قد ألجمهم العرق (4)، و رجفت (5) بهم الأرض، فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا، و لنفسه متّسعا (6).

حال مقبلة على الناس

و منها: فتن كقطع اللّيل (7) المظلم، لا تقوم لها قائمة (8)، و لا تردّ لها راية (9)، تأتيكم مزمومة (10) مرحولة (11): يحفزها (12) قائدها (13) و يجهدها (14) راكبها، أهلها قوم شديد كلبهم (15)، قليل سلبهم (16) يجاهدهم في سبيل اللّه قوم أذلّة عند المتكبّرين، في الأرض مجهولون، و في السّماء معروفون. فويل (17) لك يا بصرة عند ذلك، من جيش من نقم (18) اللّه! لا رهج (19) له، و لا حسّ (20)، و سيبتلى أهلك بالموت الأحمر، و الجوع الأغبر (21).

ص: 172

اللغة

1 - نقاش الحساب: الاستقصاء فيه.

2 - الجزاء: المكافأة.

3 - الخضوع: التواضع و التطامن و الانقياد.

4 - ألجمهم العرق: سال منهم العرق حتى بلغ موضع اللجام من الدابة و هو الفم.

5 - رجفت: تحركت و اضطربت و الرجفة الزلزلة.

6 - المتسع: من وسع ضد ضاق.

7 - قطع الليل: جمع قطع بكسر القاف و هو الظلمة.

8 - القائمة: للدابة رجلها أو يدها و قائمة السيف مقبضه.

9 - الراية: علم الجيش، ما يوضع ليهتدى به.

10 - مزمومة: من الزمام و هو المقود و المزمومة التي معها زمامها.

11 - مرحولة: من الرحل و هو ما يجعل على ظهر البعير كالسرج و المرحولة عليها رحلها.

12 - يحفزها: يحثها، يدفعها.

13 - القائد: من قاد يقود قيادة الدابة مشى أمامها آخذا بقيادها.

14 - يجهدها: يحمل عليها فوق ما تطيق.

15 - الكلب: بفتح اللام الشر و الأذى و الشدة في كل شيء.

16 - السلب: محركة ما يأخذه القاتل من ثياب المقتول و سلاحه في الحرب.

17 - الويل: الشر، الهلاك، يدعى به لمن وقع في هلكة يستحقها.

18 - النقم: جمع نقمة العقوبة.

19 - الرهج: بالتحريك و سكون الهاء الغبار.

20 - الحس: بفتح الحاء الجلبة و الأصوات المختلطة الخفية.

21 - الأغبر: جمعه غبر ما لونه الغبرة، و الغبرة لون الغبار.

الشرح

(و ذلك يوم يجمع اللّه فيه الأولين و الآخرين لنقاش الحساب و جزاء الأعمال خضوعا، قياما قد ألجمهم العرق و رجفت بهم الأرض). تضمنت هذه الخطبة في مطلعها الحديث عن يوم القيامة و بعض شدائده و في بقيتها تضمنت الحديث عن بعض الملاحم و الأمور الغيبية.

ص: 173

أما يوم القيامة فهو يوم شديد يجمع اللّه فيه الناس جميعا من مضى منهم في قديم الزمان و من هو قريب عهد يجمعهم للحساب كما قال تعالى: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خٰافَ عَذٰابَ اَلْآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» . قال الطبرسي في مجمع البيان: أي يجمع فيه الناس كلهم الأولون و الآخرون منهم للجزاء و الحساب...

يشهده الخلائق كلهم من الجن و الإنس و أهل السماء و أهل الأرض أي يحضره و لا يوصف بهذه الصفة يوم سواه و في هذا دلالة على إثبات المعاد و حشر الخلق...

و يوم القيامة يلتقي فيه الظالم و المظلوم، المطيع للّه و العاصي، يلتقون جميعا لتقديم حساباتهم و ما عملوا في دار الدنيا.

و قيامهم في خشوع و خضوع يأخذهم الخوف و الفزع قد أغرقهم العرق إلى أفواهم و اضطربت بهم الأرض و زلزلت زلزالها...

(فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا و لنفسه متسعا). و هذا وصف لشدة الزحام في ذلك اليوم و أن أحسن الناس و أفضلهم من وجد موطئا لقدميه بحيث تستقران به على الأرض و لشخصه مكانا يسعه دون ضيق...

(فتن كقطع الليل المظلم). اضطرابات شديدة يخبر بها الإمام حتى كأنها ظلمات الليالي الحالكة التي لا يهتدي فيها المرء إلى الطريق و لا يبصر كيف يسير...

(لا تقوم لها قائمة و لا ترد لها راية). لا يقف في وجهها أحد إلا أخذته و دمرته و لا تهزم في موقع أو تسقط في معركة بل يكون النصر لها باستمرار.

(تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها و يجهدها راكبها). و هذه الفتنة شبهها بالناقة المهيأة للركوب فزمامها التي تقاد به جاهز و رحلها بأدواته كلها عليها و كذلك الفتنة فإن جميع عناصرها جاهزة المشاغبون و الإعلاميون و السياسيون و العسكريون.

إنها تأتي متكاملة يدفعها قائدها و هم الأعوان و يسعر نارها راكبها و هم أرباب الفتنة.

و قيل: يمكن أن يراد بالقائد هم الرّجل و بالراكب الفرسان...

و مختصر ما يراد أنها فتنة شديدة و فوضى رهيبة يجهد أهلها في تسعيرها لإدراك ما يطلبون...

(أهلها قوم شديد كلبهم قليل سلبهم). و هذا وصف لأهل هذه الفتنة إنهم قوم

ص: 174

شديد أذاهم و كبير ضررهم همهم القتل لا ينظرون إلى سلب القتلى الذين تطالهم سيوفهم بل همهم في نفس القتل و الأذى...

(يجاهدهم في سبيل اللّه قوم أذلة عند المتكبرين في الأرض مجهولون و في السماء معروفون). و هذه بشرى يزفها الإمام إلى الناس و أنه بعد تلك الفتنة و ما وصف به أهلها سيبعث اللّه قوما يطلبون وجه اللّه في جهادهم إنهم مجهولون عند الناس محتقرون عند المتكبرين يعرفهم اللّه و إن جهلهم الناس و احتقرهم الطغاة و هم قوم اتصلوا باللّه و باعوا أنفسهم له، و قالوا: إن هذا إخبار منه لأمر سيأتي في آخر الزمان و أنه ستكون فتنة و يكون ما أخبر به.

و ذهب بعضهم إلى أن هذا الإخبار منه إنما هو لوقعة الزنج في البصرة. (فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم اللّه لا رهج له و لا حس و سيبتلى اهلك بالموت الأحمر و الجوع الأغبر). ثم أنذر البصرة و المراد أهلها بما يصيبها حيث يرسل اللّه عليها جيشا من عذابه لا غبار له عند ما يمشي و لا أصوات لأدواته من حافر أو سلاح و قد قال بعضهم: إن اللّه يسلط عليهم الجرب و الطاعون فيصيبهم حتى يبيدهم و فسّر الموت الأحمر بالوباء و الجوع و فسّر الجوع الأغبر كناية عن المحل و وصف بالأغبر لأن الجائع يرى الآفاق كأن عليها غبرة و ظلاما.

و قال بعضهم: إن هذا منه إخبار بوقعة الزنج في البصرة و أنهم لم يكن لهم غبار و لا أصوات إذ لم يكونوا أهل خيل و لا قعقعة لجم فإذن لا رهج لهم و لا حس و فسر الموت الأحمر إشارة إلى قتلهم بالسيف و وصف بالحمرة كناية عن شدته و ذلك لأن أشد الموت ما كان بسفك الدم و فسر الجوع الأغبر لأن أشد الجوع ما أغبر معه الوجه منه.

ص: 175

103 - و من خطبة له عليه السلام

في التزهيد في الدنيا

أيّها النّاس، انظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها (1)، الصّادقين (2) عنها، فإنّها و اللّه عمّا قليل تزيل (3) الثّاوي (4) السّاكن، و تفجع (5) المترف (6) الآمن، لا يرجع ما تولّى (7) منها فأدبر، و لا يدرى (8) ما هو آت منها فينتظر.

سرورها مشوب (9) بالحزن، و جلد (10) الرّجال فيها إلى الضّعف و الوهن (11)، فلا يغرّنّكم (12) كثرة ما يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها.

رحم اللّه امرأ تفكّر فاعتبر (13)، و اعتبر فأبصر، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن، و كأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل، و كلّ معدود منقض (14)، و كلّ متوقّع آت، و كلّ آت قريب دان (15).

صفة العالم

و منها: العالم من عرف قدره (16)، و كفى بالمرء جهلا ألاّ يعرف قدره، و إنّ من أبغض (17) الرّجال إلى اللّه تعالى لعبدا و كله اللّه إلى نفسه، جائرا (18) عن قصد السّبيل (19)، سائرا بغير دليل، إن دعي إلى حرث (20) الدّنيا عمل، و إن دعي إلى حرث الآخرة كسل (21)! كأنّ ما عمل له واجب عليه، و كأنّ ما ونى (22) فيه ساقط عنه!.

آخر الزمان

و منها: و ذلك زمان لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمن نومة (23)، «إن شهد (24)

ص: 176

لم يعرف، و إن غاب لم يفتقد (25)، أولئك مصابيح الهدى،» و أعلام السّرى (26)، ليسوا بالمساييح (27)، و لا المذاييع (28) البذر (29)، أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته، و يكشف عنهم ضرّاء (30) نقمته (31).

أيّها النّاس، سيأتي عليكم زمان يكفأ (32) فيه الإسلام، كما يكفأ الإناء (33) بما فيه. أيّها النّاس، إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور (35) عليكم، و لم يعذكم من أن يبتليكم (36)، و قد قال جلّ من قائل: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَ إِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ » .

قال السيد الشريف الرضي: أما قوله عليه السلام: «كل مؤمن نومة» فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر، و المساييح: جمع مسياح، و هو الذي يسيح بين الناس بالفساد و النمائم، و المذاييع، جمع مذياع، و هو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها و نوّه بها، و البذر: جمع بذور و هو الذي يكثر سفهه و يلغو منطقه.

اللغة

1 - زهد فيه: و عنه رغب عنه و تركه.

2 - الصادفين: المعرضين عن الشيء.

3 - تزيل: تهلك.

4 - الثاوي: المقيم.

5 - تفجع: من الفجيعة و هي المصيبة.

6 - المترف: بفتح الراء المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع.

7 - تولى: عنه أدبر عنه و تركه.

8 - لا يدرى: لا يعلم.

9 - مشوب: مخلوط.

10 - الجلد: الصلابة و القوة.

11 - الوهن: بسكون الهاء و تحريكها الضعف.

12 - لا يغرنكم: لا يخدعنكم.

13 - اعتبر: اتعظ.

ص: 177

14 - منقض: من انقضى الشيء إذا فني و تصرم.

15 - دان: قريب.

16 - القدر: الشأن، مبلغ الشيء، كون الشيء مساويا لغيره بدون زيادة و لا نقصان.

17 - البغض: الكراهية ضد الحب.

18 - الجائر: المائل عن الاستقامة.

19 - قصد السبيل: الطريق المستقيم و معنى و على اللّه قصد السبيل أي بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق.

20 - الحرث: كل ما يصنع ليثمر فائدة.

21 - الكسل: الفتر و التثاقل و التواني عما لا ينبغي أن يتوانى عنه.

22 - ونى فيه: ضعف و فتر.

23 - النومة: كثير النوم - خامل الذكر.

24 - شهد: حضر.

25 - لم يفتقد: لم يطلب في غيبته.

26 - السّرى: كالهدى السير في الليل.

27 - المساييح: جمع مسياح و هو الذي يسيح بين الناس بالفساد و النمائم.

28 - المذاييع: جمع مذياع و هو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها.

29 - البذر: الذي يذيع الأسرار، أو الذي يكثر سفهه و يلغو منطقه.

30 - الضراء: الشدة، نقيض السراء.

31 - النقمة: العقوبة.

32 - يكفأ: الإناء يقلب على وجهه.

33 - الإناء: الوعاء.

34 - أعاذكم: اللّه عصمكم و حفظكم.

35 - يجور: يظلم، يميل عن الحق.

36 - يبتليكم: يمتحنكم ليميز الخبيث من الطيب.

الشرح

(أيها الناس انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها الصادفين عنها). هذه الخطبة تتضمن التزهيد في الدنيا كما تتضمن وصف أبغض الرجال إلى اللّه و في آخرها وصف لأخبار آخر الزمان.

ص: 178

ابتدأ عليه السلام بمناداة الناس أن ينظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها المعرضين عنها و هؤلاء الزاهدون الصادقون قد أعرضوا عن الدنيا و استخدموها لآخرتهم، ملكوها و لم تملكهم، لم يعيشوا لبطونهم و شهواتهم و إنما عاشوا للّه و في سبيله و من أجل خدمة عباده، هؤلاء القوم هم الذين خلفوا الدنيا وراء ظهورهم و لم يجعلوها بما فيها ثمنا لحياتهم فلذا كانت عندهم حقيرة صغيرة...

(فإنها و اللّه عما قليل تزيل الثاوي الساكن و تفجع المترف الآمن). علل نصيحته بعدم بقائها و أقسم أنها عن قريب تهلك المستقر المقيم الهادىء الذي غفل عنها فظن بقاءه فيها فأخلد إليها فنقلته فجأة بالموت إلى عالم الآخرة...

و هذا المترف الذي طغى و تكبر و تجبر و أمن غدر الدنيا و غفل عن أشراكها هذا ستنزل عليه بمصيبة مؤلمة في نفسه و فيمن أحب...

(لا يجرع ما تولى منها فأدبر و لا يدرى ما هو آت منها فينتظر). و هذه من أوصاف الدنيا أيضا ما مضى منها قضى و لم يعد له رجوع فالشباب لن يعود إليك بعد أن تصبح شيخا و القوة لن تعود إليك بعد أن تصبح عاجزا و أيامك الماضية التي كانت رأس مالك لن تعود إليك...

و أما المستقبل فهو مجهول لا يعلمه إلاّ علاّم الغيوب فلربما لم يكن يوم غد من أيامك في هذه الدنيا، و لربما كان و لكنه جاء محملا بالآلام و المصائب و الأحزان و الأحداث الجسام، إنك لا تدري ما ذا تحمل الأيام لتعدّ لها عدتها...

(سرورها مشوب بالحزن و جلد الرجال فيها إلى الضعف و الوهن). و هذه من صفات الدنيا إنها لا تصفو لأحد، إن سرتك من جانب ساءتك من عدة جوانب...

و قوة الرجال و بأسهم و شدتهم إلى ضعف و انحلال، كانت لك قوة أيام شبابك تستطيع أن تقطع المسافات الطويلة مشيا و كان لك قوة تستطيع أن تصارع الأبطال و لكن قد عجزت أو سوف تعجز عن نقل رجلك من مكانها و لن تستطيع أن تقاوم طفلا صغيرا بعد حين...

(فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها). لا يأخذكم الغرور بكثرة ما يعجبكم من الدنيا، يعجبكم المال و البنين و النساء و الدور و القصور و لكن هذه كلها يجب أن لا تخدعكم عن طاعة اللّه فتركنوا إليها و تفرحوا بها...

و علل ذلك بقلة ما نأخذه معنا منها إذ لا نأخذ إلا الكفن ثلاث خرق نأبى أن نلبسها

ص: 179

في الدنيا و من كان نصيبه من دنياه هذا حق له أن لا يغترّ بها و بزينتها و ما فيها...

(رحم اللّه امرأ تفكر فاعتبر، و اعتبر فابصر). دعا بالرحمة لمن تفكر لأن الإنسان إذا فكّر في حاله و حال الدنيا و ما هو فيه و ما هو صائر إليه اتعظ و أخذ العبرة و إذا اتعظ انكشف له وجه الحق و الصواب فادرك الحقيقة عارية كما هي فعمل لها و أوصى بها و كم في التاريخ من أشخاص تداركتهم رحمة اللّه فحوّلتهم من أشرار فساق فجار إلى أخيار عدول أتقياء، قد تكون كلمة واحدة تنطلق من قلب صادق فتلتقي بساعة من ساعات الصفاء و الطهر و التوجه فتغير مسار هذا الشخص و برنامج حياته و قصة بشر الحافي مع الإمام الكاظم أصدق شاهد فقد كان بشر منحرفا مستهترا فاسقا و بكلمة واحدة تحوّل ليكون من الأبدال و الأوتاد في الأرض...

(فكأن ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن و كأن ما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل). موجود الدنيا لزواله كأنه لم يكن و معدوم الآخرة لوجوده و دوامه لا يفنى، كناية عن شدة زوال الدنيا و انقضائها و أن الموجود منها لا يبقى و كنى عن دوام الآخرة و نعيمها بعدم الفناء لها، فنعيم الدنيا يفنى و كأنه لم يكن و أجر الآخرة يبقى و إن لم يأت بعد...

(و كل معدود منقض و كل متوقع آت و كل آت قريب دان). كل معدود محدود و المحدود ينتهي فينقضي أشار إلى الأعمار و أنها معدودة بالأيام و الساعات و هي تتصرم شيئا فشيئا و تهدم في كل لحظة حتى ينتهي عمر هذا الإنسان و ما تتوقعه من خير أو شر في الآخرة لا بد و أن يأتي و لك آت قريب و إن طالت مدته لأن كل يوم يمضي يقترب هو منك و تدنو أنت منه...

(العالم من عرف قدره و كفى بالمرء جهلا ألاّ يعرف قدره). الذي يصح أن يطلق عليه أنه عالم و ينحصر العلم فيه هو ذلك الذي يعرف قدره أي موقعه من تكوين هذا الوجود و دوره فيه و من هذه المعرفة تتفرع عنها سائر المعارف الصغيرة من نسبته إلى غيره من الموجودات و ما المراد منه بالنسبة إلى الحياة.

و يكفي الإنسان جهلا أن لا يعرف قدره لأن من يجهل موقعه و قدره من اللّه و هذا الكون فهو الجهل الذي يتفرع عنه غيره من الجهل.

(و إن من أبغض الرجال إلى اللّه تعالى لعبدا و كلّه اللّه إلى نفسه جائرا عن قصد السبيل سائرا بغير دليل). هذا هو الرجل الذي سقط من عين اللّه فتركه اللّه و شأنه...

ص: 180

إنه من أبغض الرجال و أكرههم عند اللّه، إنه الرجل الذي تخلى اللّه عنه و سلب عنه ألطافه و عنايته و في الدعاء: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك».

و من وكله اللّه إلى نفسه أو استبد هو برأيه متخليا عن اللّه فهذا يشبه السيارة التي انتهى منها الوقود و تعطلت فيها الأجهزة تفقد الحركة و تصبح عالة على نفسها و على من وراءها و الإنسان إذا قطع اللّه عنايته به و تخلى عنه خبط خبط عشواء لا يهتدي الطريق و لا يصل إلى مطلوب...

إنه لضلاله يتخلى عن الطريق المستقيم لا يعرف الاستقامة و لا الطريق إليها فهو مائل منحرف عن ذلك يمشي بغير دليل لم يتخذ الأنبياء و الأوصياء هداة و قادة يمشي على أثرهم بل يستبد برأيه فلا يهتدي و لا يرشد...

(إن دعي إلى حرث الدنيا عمل و إن دعي إلى حرث الآخرة كسل كأن ما عمل له واجب عليه و كأن ما ونى فيه ساقط عنه). و هذه من جملة صفات من وكله اللّه إلى نفسه إنه إذا دعي إلى عمل من أعمال الدنيا يستفيد منه و ينتفع هبّ إليه مسرعا نشطا لا يؤخره عنه شيء و إن دعي إلى عمل الآخرة من إصلاح بين الناس و عمل بر و دعوة إلى اللّه كف و امتنع و تباطأ و تكاسل، و لسوء فعله كأن ما نشط من أجله واجب عليه و ما كسل فيه ساقط عنه غير واجب عليه، إنه لسوء فعله عكس القضايا و غيّر المطلوب.

(و ذلك زمان لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نومة إن شهد لم يعرف و إن غاب لم يفتقد أولئك مصابيح الهدى و أعلام السرى). يتحدث في هذا الفصل عن زمان يأتي يقل فيه الدين فتتعطل أحكامه و يتنكر له أهله و أتباعه و يذكر الناجي فيه و يحدده بأنه المؤمن النومة أي خامل الذكر الذي فسره: إن شهد في المناسبات و مع الناس لم يعرف لأن الأعلام و وسائله من إذاعات و تلفزة و مجلات و جرائد لا تتناوله و لا تعرفه و لا تعرف موقعه فلا يعرفه أحد إنه مجهول في اللقاءات و التجمعات...

و كذلك من صفات هذا المؤمن أنه إذا غاب عن هذه اللقاءات لا يفتقد و لا يبحث عنه أو يسأل أين هو لأنه لا يتمتع بموقع مميّز بين أبناء الدنيا.

ثم إنه عليه السلام قال: إن هؤلاء هم مصابيح الهدى هؤلاء ينيرون الدرب أمام السالكين إلى اللّه الطالبين مرضاته، هؤلاء الذين يعلّمون الناس أحكام دينهم و يأخذون بأيديهم إلى اللّه و إلى رضاه و ما يحب و يرغب، هؤلاء هم الذين يرفعون الجهل و الغشاوة عن أعين الناس و يكشفون بأنوارهم الطريق المظلم و يوضحونه للناس إنهم دعاة هداة.

ص: 181

(ليسوا بالمساييح و لا المذاييع البذر أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته و يكشف عنهم ضراء نقمته). و هذه أيضا من صفات أولئك الذين كتب لهم النجاة إنهم لا يسيحون بين الناس بالفساد و النمائم و لا ينشرون بينهم الفواحش و الموبقات و لا يعملون لإفساد المجتمع و إضلاله و زرع الفتن فيه كما يعمله المفسدون و المضلون الذين يجهزون كل وسائل الإعلام و أجهزتها من أجل أن يضلوا الناس و يفسدوا أخلاقهم و يحلولوهم عن عقيدتهم...

ثم رتب عليه السلام على هذه الأوصاف نتيجة كريمة، و هي أن اللّه يفتح لهم أبواب رحمته من حيث تيسير أمورهم و توفيقهم في الدنيا و من حيث يدخلهم الجنة عرفها لهم في الآخرة.

و كذلك يكشف عنهم ضراء نقمته فلا يصيبهم مكروه في الدنيا كما لا يصيبهم أذية من عقاب اللّه في الآخرة...

(أيها الناس سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه). أخبر عليه السلام بما يحمله الزمان بعده و أن الإسلام ستتعطل أحكامه و يتوقف دوره و لا يعود يعمل به حتى من أهله بل تقلب مفاهيمه و أحكامه و تسخر من أجل أهداف الحكام و تمرير مخططاتهم الجهنمية و قد هزّنا التلاعب بهذا الدين و أحكامه و راح علماء السوء يبررون فعل الظالمين و يباركون مسيرة الخائنين و قد برز ذلك فيما حدث في معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية حيث راح علماء البلاط يصححون السلام المذل و يباركون جهود الخونة و يضفون على خطواتهم شرعية إسلامية و الإسلام منها بريء، و كذلك حدث ما يهز المسلم من أعماقه أثناء حرب الخليج التي حشدت فيها أمريكا و حلفاؤها جيوشهم في مواجهة الخائن الصغير صدام التكريتي فقد دارت المهاترات بين العلماء و على شاشات التلفزيون و صفحات الجرائد فهذا يقف إلى جانب الاستعمار الأمريكي في حربه لتحرير الكويت المزعوم و ذاك يقف إلى جانب العميل الاستعماري صدام و كلهم في خدمة الحكام و ليس في مصلحة الإسلام و بيان أحكامه أو الالتزام بما فيه و ما أمر.

(أيها الناس إن اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم و لم يعذكم من أن يبتليكم و قد قال جل من قائل: إن في ذلك لآيات و إن كنا لمبتلين). أشار عليه السلام إلى أن اللّه عصمنا من ظلمه لنا فقال سبحانه: «وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ» فليس في ساحة الجلالة الإلهية ظلم...

ص: 182

نعم إنه سبحانه لم يعصمنا من الابتلاء بل كان الابتلاء من أجل اختبارنا حتى يميز الخبيث من الطيب و المطيع من العاصي و الناجح من الفاشل و تنقطع حجة من يقول لما ذا عاقبني و لم يعاقب فلان كما يرتفع سؤال لو كلفني لأطعت فقد كلفك فأمرك و نهاك فعصيت و تمردت فاستحققت العذاب...

و قد استشهد على عدم عصمته لنا من الابتلاء بقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَ إِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ » . فإنه سبحانه لا يلجىء عباده إلى الصلاح لكن يتركهم و اختيارهم امتحانا لهم فمن أطاع دخل الجنة و من تمرد و عصى دخل النار.

ص: 183

104 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله، و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا، و لا يدّعي نبوّة و لا وحيا، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم (1)، و يبادر (2) بهم السّاعة أن تنزل بهم (3)، يحسر (4) الحسير (5)، و يقف الكسير (6)، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته، إلاّ هالكا لا خير فيه، حتّى أراهم منجاتهم و بوّأهم (7) محلّتهم (8)، فاستدارت رحاهم (9)، و استقامت قناتهم (10). و ايم اللّه، لقد كنت من ساقتها (11) حتّى تولّت (12) بحذافيرها (13)، و استوسقت (14) في قيادها (15)، ما ضعفت، و لا جبنت، و لا خنت، و لا وهنت، و ايم اللّه، لأبقرنّ (16) الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته (17).

قال السيد الشريف الرضي: و قد تقدم مختار هذه الخطبة، إلا أنني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة و نقصان، فأوجبت الحال إثباتها ثانية.

اللغة

1 - المنجاة: النجاة، الباعث على النجاة.

2 - يبادر: يسرع.

3 - نزل به: حل به، نزل به الموت إذا حل به.

4 - يحسر: يكشف و حسرت عن وجهها إذا كشفته.

5 - الحسير: الذي أصابه الإعياء في طريقه، الكليل الضعيف.

ص: 184

6 - الكسير: المكسور.

7 - بوأهم: أسكنهم.

8 - محلتهم: منزل الحلول.

9 - استدارت رحاها: كناية عن وفرة أرزاقهم.

10 - القناة: الرمح و معنى استقامت قناتهم أي انتظم أمرهم.

11 - ساقتها: الساقة جمع سائق.

12 - تولت: أدبرت، و مضت.

13 - بحذافيرها: بأجمعها.

14 - استوسقت: اجتمعت و انتظمت.

15 - القياد: الزمام.

16 - بقر: شق.

17 - الخاصرة: جمعها خواصر من الإنسان جنبه فوق رأس الورك.

الشرح

(أما بعد فإن اللّه سبحانه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا و لا يدعي نبوة و لا وحيا). في هذه الخطبة بيان حال العرب قبل الإسلام و منها أيضا ذكر النبي و جهاده و معاناته و في ختامه يذكر موقعه من الدعوة حينما قام النبي و إكماله المسيرة بعده حتى يومه ذاك...

ابتدأ بذكر بعثة رسول اللّه و أن اللّه بعثه في أمة أمية لا تقرأ كتابا و ليس منها أحد يدعي أنه نبي أرسله اللّه أو أنزل اللّه عليه وحيا فيما أراد ليبلغه للناس قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ » .

(فقاتل بمن أطاعه من عصاه يسوقهم إلى منجاتهم و يبادر بهم الساعة أن تنزل بهم). فعند ما بعث اللّه نبيه شرح اللّه صدور قوم فهداهم للإيمان فآمنوا و أطاعوا و التزموا أمره فنظمهم و رتب صفوفهم و قاتل بهم من عصاه و لم يؤمن به، قاتلهم من أجل أنفسهم يريد هدايتهم و إنقاذهم من براثن الكفر و ظلمات الجاهلية... إنه يسوقهم إلى ما فيه نجاتهم من النار و يسرع بهم لإخراجهم من الضلال و العمى و الكفر قبل أن تقوم القيامة فتسبقه و تفوته هدايتهم فيموتوا على الكفر و الضلال...

ص: 185

(يحسر الحسير و يقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته إلا هالكا لا خير فيه).

يصف إشفاق النبي على الناس و كيف كانت مداراته لهم و قيامه عليهم و إحسانه إليهم و هذا الكلام من باب المجاز يقول عليه السلام كان النبي لحرصه عليهم و رأفته بهم يلاحظ من تزلزل اعتقاده أو عرضت له شبهة فكان لا يزال يوضح له و يرشده حتى يزيل ما به من العلل و يلحقه بالمؤمنين الصادقين و لم يكن يقصّر في حق أحد من الناس إلا من لا خير فيه قد ارتكب العناد و كفر برب العباد و أصر على ركوب رأسه معاندة و شقاقا...

فقد شبه الناس معه بإبل في سفر قد أعيا بعضها و كلّ و قد وقف النبي عليها يعالجها و يصلح أمرها حتى يلحقها بالقافلة فلم يهملها و يضيّعها إلا ما كان منها هالكا لا يمكن علاجه و لا شفاؤه كأبي لهب و أضرابه.

(حتى أراهم منجاتهم و بوأهم محلتهم فاستدارت رحاهم و استقامت قناتهم).

و هؤلاء الذين تابعوا النبي و التزموا أمره رأوا ما ينجيهم من حيث آمنوا و اعتقدوا باللّه و رسوله و قد وصلوا إلى مكانهم الذي أعد لهم من كونهم قادة الأمم و رواد الحضارة و بأيديهم زمام الأمور، فاجتمعوا موحدين قد نجحوا فيما سعوا إليه و كانوا القوة التي تغيّر المعادلات و تحطّم الموازين.

و بعبارة موجزة أراهم النبي الإسلام الذي فيه نجاتهم و أجلسهم في مكانهم اللائق بهم رواد العالم و قادته فقويت شوكتهم و انتصروا في أمورهم...

(و ايم اللّه لقد كنت من ساقتها حتى تولت بحذافيرها و استوسقت في قيادها ما ضعفت و لا جبنت و لا خنت و لا وهنت). أقسم عليه السلام أنه كان ممن ساق الجاهلية إلى حتفها و حتى تولت و غابت عن الوجود بأجمعها عقيدة و عادة و قد اجتمعت في ذل الانقياد التي لا تخرج منها قد كبّلت و جمعت فلا فكاك لها من هذا الوثاق...

ثم أشار إلى عزيمته و قوته فقال: إنه ما ضعف عن قتالها و لا جبن في موقف من مواقفها و لا خان المسلمين في موقعة و لا توانى عن قتال لحظة.

و من قلّب نظره في تاريخ الإسلام و حروبه أدرك صدق هذا القول و وقف على الحقيقة.

(و ايم اللّه لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته). أقسم عليه السلام باللّه أنه سوف يشق الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته التي خبأه فيها كناية عن أنه سيقاتل أهل الباطل حتى يهتدوا إلى ما هو عليه من الحق و بذلك يموت الباطل و يتخلص الحق مما يشوبه من هذا الباطل...

ص: 186

105 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في بعض صفات الرسول الكريم و تهديد بني أمية و عظة الناس

الرسول الكريم

حتّى بعث اللّه محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله، شهيدا، و بشيرا، و نذيرا، خير البريّة (1) طفلا، و أنجبها (2) كهلا (3)، و أطهر المطهّرين شيمة (4)، و أجود المستمطرين (5) ديمة (6).

بنو أمية

فما احلولت (7) لكم الدّنيا في لذّتها، و لا تمكّنتم من رضاع أخلافها (8) إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلا (9) خطامها (10)، قلقا (11) و ضينها (12)، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر (13) المخضود (14)، و حلالها بعيدا غير موجود، و صادفتموها، و اللّه، ظلاّ ممدودا (15) إلى أجل معدود. فالأرض لكم شاغرة (16)، و أيديكم فيها مبسوطة (17)، و أيدي القادة عنكم مكفوفة (18)، و سيوفكم عليهم مسلّطة (19)، و سيوفهم عنكم مقبوضة (20) ألا و إنّ لكلّ دم ثائرا (21)، و لكلّ حقّ طالبا. و إنّ الثّائر في دمائنا كالحاكم في حقّ نفسه، و هو اللّه الّذي لا يعجزه (22) من طلب، و لا يفوته (23) من هرب.

فأقسم باللّه، يا بني أميّة، عمّا قليل لتعرفنّها في أيدي غيركم و في دار عدوّكم! ألا إنّ أبصر الأبصار ما نفذ (24) في الخير طرفه! ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى (26) التّذكير (27) و قبله!.

ص: 187

وعظ الناس

أيّها النّاس، استصبحوا من شعلة (28) مصباح واعظ متّعظ، و امتاحوا (29) من صفو (30) عين قد روّقت (31) من الكدر (32).

عباد اللّه، لا تركنوا (33) إلى جهالتكم، و لا تنقادوا (34) لأهوائكم، فإنّ النّازل بهذا المنزل نازل بشفا (35) جرف (36) هار (37)، ينقل الرّدى (38) على ظهره من موضع إلى موضع، لرأي يحدثه بعد رأي، يريد أن يلصق (39) ما لا يلتصق، و يقرّب ما لا يتقارب! فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكي (40) شجوكم (41)، و لا ينقض (42) برأيه ما قد أبرم (43) لكم. إنّه ليس على الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه: الإبلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النّصيحة، و الإحياء للسّنّة، و إقامة الحدود (44) على مستحقّيها، و إصدار (45) السّهمان (46) على أهلها. فبادروا (47) العلم من قبل تصويح (48) نبته، و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار (49) العلم من عند أهله، و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه، فإنّما أمرتم بالنّهي بعد التّناهي!.

اللغة

1 - البرية: جمعها برايا الخلق.

2 - أنجبها: أكرمها.

3 - الكهل: بفتح الكاف من جاوز الثلاثين و قيل من بلغ الأربعين و قيل غير ذلك.

4 - الشيمة: الخلق.

5 - المستمطر: طالب المطر و المراد هنا طالب العون.

6 - الديمة: المطر الدائم بهدوء.

7 - أحلولت: صارت حلوة و احلولى الشيء صار حلوا.

8 - الأخلاف: جمع خلف بالكسر و هو حلمة ضرع الناقة أو نفس الضرع لكل ذات ظلف و خف.

ص: 188

9 - الجائل: المتحرك، و جال في مكانه إذا طاف و دار.

10 - الخطام: بالكسر ما يقاد به البعير.

11 - القلق: المضطرب المتحرك الذي لا يستقر في مكانه.

12 - الوضين: بطان منسوج بعضه ببعض يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج.

13 - السدر: شجر النبق.

14 - المخضود: الذي خضد شوكه أي قطع.

15 - الظل الممدود: الفيء الواسع الطويل.

16 - شاغرة: خالية، شغر المكان أي خلا.

17 - المبسوطة: الممدودة، و يده مبسوطة أي كريم.

18 - مكفوفة: مقبوضة، ممنوعة.

19 - سلط: السيف أعمله من السلط هو الطويل اللسان، الشديد...

20 - مقبوضة: خلاف المبسوطة، جمعه و زواه و منعه.

21 - الثائر: طالب الثأر.

22 - لا يعجزه: لا يصعب عليه و عجز عن كذا إذا لم يقتدر عليه.

23 - فاته: الأمر إذا ذهب منه و مضى وقت فعله.

24 - نفذ: الشيء خرقه و نفذ السهم إذا دخل و خرج طرفه من الشيء.

25 - الطرف: العين.

26 - وعى: الشيء حفظه و فهمه.

27 - التذكير: الوعظ.

28 - الشعلة: لهب النار، ما اشتعلت النار به.

29 - امتاحوا: من الماتح و هو الجاذب للدلو من البئر و امتاحوا معناها استقوا.

30 - الصفو: خلاف الكدر، النقي.

31 - روقت: صفيت.

32 - الكدر: خلاف الصفاء.

33 - ركن: إليه مال إليه و سكن و وثق.

34 - انقادوا: أذعنوا و خضعوا و ذلوا.

35 - الشفا: للشيء حرفه.

36 - الجرف: بضمتين ما تجرفه السيول.

37 - الهاري: أصله هائر و هو المنهدم.

38 - الردى: الهلاك.

39 - يلصق: يلزق ألصق الشيء بالشيء ألزقه به.

ص: 189

40 - يشكي: من أشكاه إذا أزال شكواه.

41 - الشجو: الهم و الحزن.

42 - ينقض: يحلّ .

43 - أبرم: الأمر أحكمه.

44 - الحدود: جمع حد و هو الحاجز بين شيئين و شرعا عقوبة وضعها الشارع لبعض المحرمات.

45 - أصدر: من صدر عن المكان إذا رجع عنه و إلى المكان صار إليه و صدر السلعة ورّدها إلى الخارج.

46 - السهمان: بضم السين جمع سهم بمعنى الحظ و النصيب.

47 - بادروا: أسرعوا.

48 - التصويح: للنبت هو اليباس.

49 - مستثار: اسم مفعول من الاستثارة طلب الثور و هو السطوع و الظهور.

الشرح

(حتى بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله شهيدا و بشيرا و نذيرا). في هذه الخطبة الشريفة ثلاثة أمور:.

الأول: ذكر محامد رسول اللّه و صفاته الكريمة.

الثاني: ذم بني أمية و ذكر بعض أفعالهم.

الثالث: حال بني أمية مع أهل البيت عليهم السلام.

كأنه عليه السلام قد ذكر أمورا سابقة من سوء حال الناس فوصل بعدها إلى ذكر رسول اللّه فقال: إن حالهم بقي كذلك حتى بعث اللّه محمدا شهيدا و بشيرا و نذيرا و هذا مستقى من كتاب اللّه الذي وصف رسوله محمدا بهذه الأوصاف.

فقال تعالى:(1)«يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» .

فهو شاهد على أمته بأنه قد بلغها دستور سعادتها الذي أرسله به اللّه و هو مبشر لها بما أعده اللّه لها من الثواب و الأجر و النعيم و هو منذر لها أي مخوفها بما أعدّه اللّه للعصاة

ص: 190


1- سورة الأحزاب آية - 45.

و المتمردين من العذاب الأليم و الجحيم...

(خير البرية طفلا و أنجبها كهلا). كان رسول اللّه خير الخلق في طفولته لاجتماع الصفات الطيبة فيه فقد كانت كل أعماله صالحة و أخلاقه مرضية يسير بالحق و يعمل بالصدق و يكره الباطل، و لخصاله و طيب عنصره كان محط عناية أهله...

و أما نجابته في كهولته فقد ظهرت في مواقفه قبل النبوة في صدق الحديث و أداء الأمانة و حمل الكلّ و إقراء الضيف و حل المعضلات حتى غلب عليه اسم الأمين و هل تجتمع هذه الخلال في رجل إلا و بلغ سدرة المنتهى في النجابة...

(و أطهر المطهرين شيمة و أمطر المستمطرين ديمة). طينته أطهر الطهر جبلت على عين اللّه و بيده فجاء رسولا نبيا معلما للأخلاق و الآداب فهو صاحب الأخلاق الكريمة خاطبه ربه بقوله: «وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ » و قال هو عن نفسه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

و أما جوده و عطاياه للطالبين فهو الذي علم الناس الكرم فيده كالسحاب و عطاياه لا يقف عندها عدّ و لا حساب، كان ينفق و لا يخاف الفقر، و كانت بيده أموال الجزيرة العربية كلها و مغانم الحروب من العدو فكان يوزعها على المحتاجين و المجاهدين و لا يتناول منها شيئا...

(فما احلولت لكم الدنيا في لذتها و لا تمكنتم من رضاع أخلافها إلا من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها قلقا و ضينها). وجّه خطابه إلى الصحابة و المسلمين و قيل إلى بني أمية بقرينة السياق قائلا: إن الدنيا لم تقبل عليكم و تعطيكم خيراتها و لا استطعتم أن تتذوقوا حلاوتها و نعيمها في زمن رسول اللّه كرامة له و اعزازا لجانبه و إنما كان كل ذلك عند ما فتحت أبوابها لكم و أنزلت خيراتها في ساحتكم و لكنها لم تكن على موازين القسط و العدل فكان فيها الخلل و الزلل و الاضطراب بحيث أضلت قوما و أعمت آخرين و ذلك نتيجة من تولى الأمر بعده من حيث إنهم لم يراعوا الأمور على أصولها و لم يحكموا بالعدل و الحق فكان هذا الانحراف و الزيغ...

و قال بعضهم ما مضمونه: إن النبي هو الذي طوع الدنيا لكم و جعلها تحت أقدامكم و بعده لم تجد من يحل محله ليضبطها و يسدد رعيتها فكان مثله مثل راكب الناقة التي لا يملك زمامها ليضبطها و مع ذلك لا يثبت رحلها من تحته فهو مهدد بالسقوط في كل وقت...

ص: 191

(قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود و حلالها بعيدا غير موجود).

و هذا بيان لحال نفسية بعض الناس و سلوكهم و أن الدنيا عندهم أصبحت سهلة لا صعوبة فيها باعتبار أنهم أسقطوا من حسابهم قانون الحرام و الممنوع فأضحت كل الطرق لهم سالكة و آمنة و لم يعد لهم من طرق الحلال بابا يطرقونه أو يدخلون منه لأن الابواب المشروعة للحلال قد انسدت و لا مجال لكسب العيش إلا من الحرام...

(و صادفتموها و اللّه ظلا ممدودا إلى أجل معدود). قد أتتكم الدنيا بخيراتها و عطاياها فاحذروا هذا العطاء فإنما هو إلى وقت محدود ينقضي عنده و ينتهي إليه فلا تبطركم النعمة فتنسوا اللّه، و هذا تحذير لهم أن لا يغتروا بالدنيا و نعيمها لأنها إلى انتهاء...

(فالأرض لكم شاغرة و أيديكم فيها مبسوطة و أيدي القادة عنكم مكفوفة و سيوفكم عليهم مسلطة و سيوفهم عنكم مقبوضة). الأرض كلها لكم و ليس من ينازعكم عليها و أيديكم عليها تتصرفون فيها كيف تشاءون و أيدي مستحقي الرئاسة مكفوفة عنكم لعدم قدرتهم عليكم لعدم الناصر و المعين و سيوفكم عليهم مسلطة تقتلون من شئتم بينما سيوفهم عنكم ممنوعة لا تطالكم و لا تنالكم.

و قال ابن أبي الحديد في شرحه: و كأنه كان يرمز إلى ما سيقع من قتل الحسين عليه السلام و أهله و كأنه يشاهد ذلك عيانا و يخطب عليه و يتكلم على الخاطر الذي سنح له و الأمر الذى كان اخبربه.

(إلا و إن لكل دم ثائرا و لكل حق طالبا و أن الثائر في دمائنا كالحاكم في حق نفسه و هو اللّه الذي لا يعجزه من طلب و لا يفوته من هرب). كل دم طاهر زكي سفك بغير حق كان له طالب يأخذ بثأر صاحبه و كل حق لإنسان أخذ منه بغير حق كان وراءه طالب يطالب به و من طلب حقه أخذه.

و قدم هذه المقدمة ليتوصل منها إلى إثبات حقهم و أن دماءهم سوف يثأر لها و الذي يتولى ذلك هو الحاكم و هو الخصم و سوف يحكم لنا و هو اللّه الذي لا يعجزه مطلوب و لا يفلت منه هارب فالحاكم الآخذ بحقنا هو الخصيم لكم و هو اللّه و هذا تحذير منه لبني أمية من عذاب اللّه و عقابه و ما ينالهم من جراء فعلتهم الشنيعة...

(فأقسم باللّه يا بني أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم و في دار عدوكم). بعد أن هددهم بانتقام اللّه منهم أقسم باللّه أن دولة بني أمية ستزول عن قريب و ستتحول عنهم إلى أعدائهم من بني العباس و ستصبح ملكا في أيديهم و قد كان هذا الإخبار من جملة

ص: 192

أخباراته بالغيب و هي واحدة من مفرداته التي جاءت كفلق الصبح...

و إن أي حاكم يتعامل مع رعيته بالظلم و القهر لا بد و أن يزول ملكه لأن الأمة تصبر قليلا حتى إذا قهرت و لم يعد بالإمكان أن تتحمل الأذى ثارت و حطمت الحكم و الحاكمين و أزالت أربابه من الوجود.

و إن الدولة الأموية التي ابتدأت بأول ملوكها معاوية سنة أربعين للهجرة لم تستمر إلا إلى سنة 132 فسقطت بأيدي بني العباس و كان آخر ملوك الأمويين مروان بن محمد الملقب بالحمار و كان أول ملوك العباسيين السفاح و المعروف أن اسمه أحمد...

(ألا إنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التذكير و قبله). و هذه نصيحة الإمام يوجهها إلى الناس بما فيهم أعداءه، يقول: إن أحسن الأبصار من أبصر الخير و عمل به و أفضل الأسماع من سمع الخير و فهمه و قبل الموعظة.

(أيها الناس، استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ و امتاحوا من صفو عين قد روقت من الكدر). أراد أن يدلهم على الدليل المستقيم و أن يأخذ بأيديهم إلى ما فيه نجاتهم فشبه نفسه بالمصباح و أمرهم أن يشعلوا أسرجتهم منه باعتبار أنه باب الهداية و مفتاحها و هو بعد ذلك واعظ لغيره متعظ في نفسه و من كانت هذه مواصفاته وجب على الخلق أن يهتدوا بنوره و أن يقبلوا قوله و أن يسيروا خلفه.

كما أمرهم أن يأخذوا علومهم و يشربوا من عينه الصافية التي لم تعكرها الطرق المختلفة و الوسائط المتعددة لأنه أخذ علمه مباشرة من النبي.

(عباد اللّه لا تركنوا إلى جهالتكم و لا تنقادوا لأهوائكم). بعد أن بيّن لهم طريق الهدى و أرشدهم إلى مصدر العلوم الصافية نهاهم أن يعتمدوا على ما توصلت إليه أفكارهم القاصرة التي لن توصلهم إلى الحق و الهدى و إنما إلى الجهالة و الردى...

كما نهاهم أن يسيروا خلف أهوائهم و ما تميل إليه نفوسهم فإن من ركب هذا المركب ضل و هلك...

(فإن النازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار ينقل الردى على ظهره من موضع إلى موضع لرأي يحدثه بعد رأي يريد أن يلصق ما لا يلتصق و يقرب ما لا يتقارب). أشار إلى أن من يعتمد على هواه و يركن إلى جهله فكأنه ينزل في منزل مشرف على السقوط و الخراب باعتبار عدم صحته و سلامته و مثله أيضا كمن ينقل هلاكه على ظهره من موضع إلى موضع فإنه يحدث الرأي و يختلقه بدون سند شرعي صحيح و لكنه يقيم عليه صورة

ص: 193

الحجة و البرهان، إنه لجهالته يعتمد على الشبهات و يتصور أنها حقائق...

(فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكي شجوكم و لا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم).

حذرهم اللّه أن لا يشكوا لمن لا يرفع عنهم حزنهم و لا يبدّد همهم لعدم علمه بمجاري الأمور كما حذرهم من ذلك الشخص أن ينقض بنظره القصير و رأيه الفطير ما استحكم أمره فيهم من أوامر الشرع و نواهيه.

(إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه: الإبلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النصحية، و الإحياء للسنة، و إقامة الحدود على مستحقيها، و إصدار السهمان على أهلها). حصر ما وجب على الإمام و ولي الأمر بهذه الأمور الخمسة التي ترجع إلى معاش الإنسان و معاده و هي:

الأول: الإبلاغ في الموعظة: التي هي عبارة عن الاجتهاد في تقريب الناس من اللّه و قد قام النبي و الإمام من بعده بأبلغ المواعظ و لم يتركوا شيئا يقرب الناس من اللّه إلاّ و ذكروه و بينوه و حملوا الناس عليه و لم يبق شيء يبعد عن اللّه إلا و بينوه و ذكروه و حملوا الناس على تركه...

الثاني: الاجتهاد في النصيحة: التي تعني إرشاد الناس إلى أعدل الطرق و أقومها و أن لا يخفى عنهم ما يصلحهم و ينفعهم و يسدد خطاهم نحو الأفضل.

الثالث: الإحياء للسنة: و تعني إقامة ما جاء به النبي بحيث لا يخالفها و لا يهملها و لا يسوّف في تنفيذها.

الرابع: إقامة الحدود على مستحقيها: فمن زنا جلده أو رجمه و من سرق و تمت شروط السرقة أقام عليه الحد بقطع يده و من قتل نفسا معصومة - لا يجوز سفك دمها - قتل بها و هكذا دواليك فلو لم يكن هناك حاكم يقيم الحدود لدبّت الفوضى و انتشر الفساد و لم يعد يأمن الناس على دمائهم و أموالهم...

الخامس: و إصدار السهمان: أي توزيع بيت مال المسلمين على أهله و قد كان الإمام يوزع الأموال و يكنس مكانها و يغسله و يصلي فيه ركعات شكرا للّه...

(فبادروا العلم من قبل تصويح نبته و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله). بعد أن تقدم منه نهيهم عن الركون إلى الجهل حثهم على طلب العلم و طلب منهم السرعة في تحصيله و ذلك لأمرين:

الأول: قبل استشهاده و خروجه من بين أظهرهم و قد كنى عن ذلك بالنبت الذي

ص: 194

تبطل فائدته إذا يبس و تجف خضرته عند ما يتعرض لليابس.

و الثاني: إنه قال لهم: سارعوا في طلب العلم و استخرجوه من معادنه و مصادره و مقصوده نفسه الشريفة قبل أن تشتغلوا بفتنة بني أمية و متاعبها و ما يلحقكم منها فإنها لا تدع لكم وقتا تتوجهون فيه نحو العلم و المعرفة...

(و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي). أمرهم أن ينهوا عن المنكر أي يزجروا أصحاب المنكرات بحسب مراتب النهي: من الإعراض عنهم أو الكلام معهم على اختلاف درجاته و قد يتوصل الأمر إلى الضرب فالجرح و قد بيّن لهم أفضل أنواع النهي عن المنكر و أرفع درجاته ألا و هو كون الناهي عن المنكر مما تناهى عنه و تركه ليكون قوله مؤثرا في غيره و يكون هو قدوة لمن سواه في حديثه و فعله و من المعروف أن من نهى عن أمر و ارتكبه لا يكون لنهيه أثر ملحوظ و إن وجب عليه النهي...

ص: 195

106 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها يبين فضل الاسلام و يذكر الرسول الكريم ثم يلوم أصحابه

دين الاسلام

الحمد للّه الّذي شرع (1) الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده (2)، و أعزّ (3) أركانه (4) على من غالبه، فجعله أمنا (5) لمن علقه (6)، و سلما لمن دخله، و برهانا (7) لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم (8) عنه، و نورا لمن استضاء به، و فهما لمن عقل، و لبّا (9) لمن تدبّر (10) و آية لمن توسّم (11)، و تبصرة (12) لمن عزم (13)، و عبرة لمن اتّعظ، و نجاة لمن صدّق، و ثقة لمن توكّل، و راحة لمن فوّض، و جنّة (14) لمن صبر. فهو أبلج (15) المناهج (16) و أوضح الولائج (17)، مشرف (18) المنار (19)، مشرق الجوادّ (20)، مضيء المصابيح، كريم المضمار (21)، رفيع الغاية (22)، جامع الحلبة (23)، متنافس (24) السّبقة (25)، شريف الفرسان. التّصديق منهاجه، و الصّالحات مناره، و الموت غايته، و الدّنيا مضماره، و القيامة حلبته، و الجنّة سبقته.

و منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم

حتّى أورى (26) قبسا لقابس (27)، و أنار علما (28) لحابس (29)، فهو أمينك المأمون، و شهيدك يوم الدّين، و بعيثك (30) نعمة، و رسولك بالحقّ رحمة. اللّهمّ اقسم له مقسما (31) من عدلك، و اجزه مضعّفات الخير من فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه! و أكرم لديك نزله (32)، و شرّف

ص: 196

عندك منزله، و آته الوسيلة (33)، و أعطه السّناء (34) و الفضيلة، و احشرنا في زمرته (35) غير خزايا (36)، و لا نادمين (37)، و لا ناكبين (38)، و لا ناكثين (39)، و لا ضالّين، و لا مضلّين، و لا مفتونين.

قال الشريف الرضي: و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم، إلا أننا كررناه ها هنا لما في الروايتين من الاختلاف.

و منها في خطاب أصحابه

و قد بلغتم من كرامة اللّه تعالى لكم منزلة تكرم بها إماؤكم (40)، و توصل (41) بها جيرانكم، و يعظّمكم من لا فضل لكم عليه، و لا يد لكم عنده، و يهابكم (42) من لا يخاف لكم سطوة (43)، و لا لكم عليه إمرة (44).

و قد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون! و أنتم لنقض ذمم (45) آبائكم تأنفون (46)! و كانت أمور اللّه عليكم ترد، و عنكم تصدر، و إليكم ترجع، فمكّنتم الظّلمة (47) من منزلتكم، و ألقيتم إليهم أزمّتكم (48)، و أسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشّبهات، و يسيرون في الشّهوات، و ايم اللّه، لو فرّقوكم تحت كلّ كوكب، لجمعكم اللّه لشرّ يوم لهم!.

اللغة

1 - شرّع: سنّ و بين و أوضح.

2 - ورده: من ورد الماء إذا قصده و دنى منه و بلغه و هو ضد الصدور.

3 - أعز: من العزة و هي القوة و المنعة و هو خلاف الذل.

4 - الاركان: جمع ركن الذي يقوم عليه الشيء، الأمر العظيم، لجانب الاقوى من الشيء .

ص: 197

5 - أمنا: طمأنينة.

6 - علقه: بكسر اللام تعلق به.

7 - البرهان: الحجة و الدليل.

8 - خاصم: مخاصمة نازعه و جادله.

9 - اللب: العقل الخالص من الشوائب أو ما ذكا من العقل.

10 - تدبّر: تفكر، و نظر في عواقب الأمور.

11 - توسم: تفرس.

12 - تبصرة: يقال تبصّر الشيء استقصى النظر إليه و في الشيء تأمل.

13 - عزم: الأمر عليه عقد ضميره على فعله.

14 - الجنة: الترس، الوقاية.

15 - الابلج: الواضح المشرق.

16 - المناهج: جمع منهج و هو الطريق الواضح.

17 - الولائج: جمع الوليجة الدخيلة و البطانة.

18 - المشرف: من أشرف إذا أطل عليه من مكان مرتفع.

19 - المنار: ما يوضع في الطريق للاهتداء إليه.

20 - الجواد: بتشديد الدال جمع جادة و هي الطريق.

21 - المضمار: محل تضمير الخيل أو ترويضها أو زمانه أو نفسه.

22 - الغاية: الراية المنصوبة.

23 - الحلبة: خيل تجمع من مواضع متفرقة للسباق أو النصرة.

24 - التنافس: التسابق.

25 - السبقة: محركة ما يتراهن عليه المتسابقان.

26 - أورى: أشعل و أوقد.

27 - القبس: الشعلة من النار.

28 - العلم: محركة ما يوضع في الطريق ليهتدى به.

29 - الحابس: الواقف بالمكان تحيرا لم يدر الطريق.

30 - بعيثك: مبعوثك.

31 - المقسم: النصيب و الحظ.

32 - النزل: بضمتين ما يهيأ للضيف من طعام.

33 - الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، المنزلة.

34 - السناء: الشرف و الرفعة.

35 - الزمرة: الجماعة من الناس.

ص: 198

36 - خزايا: جمع خزيان من الخزي و هو الذل و الخجل استحياء.

37 - ندم: تأسف و تحسر على ما فعل.

38 - ناكبين: عن الطريق عادلين عنه.

39 - نكث: العهد إذا نقضه.

40 - الاماء: جمع أمة المملوكة و الخادمة.

41 - الوصل: ضد القطع.

42 - هابه: حذره و خافه.

43 - السطوة: القهر و الغلبة.

44 - إمرة: إمارة.

45 - الذمم: العهود و الضمانات.

46 - انف: استنكف.

47 - مكنتم الظلمة: جعلتم لهم قدرة و قوة و سلطانا.

48 - الازمة: جمع زمام المقود.

الشرح

(الحمد للّه الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده). حمد اللّه على تشريع الإسلام السهل في احكامه و قوانينه و تشريعاته، فمن قصده و أراد معرفته أدرك مناله بأيسر ما يكون و أسهل ما يكون و ذلك لأنه دين يتوافق مع العقول و ينسجم معها و لا يخالف السليم و الصحيح منها و لذا نجد خطابات القرآن تنادي بالعقل كقوله تعالى: «إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ » «أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ » «أَ فَلاٰ تَتَذَكَّرُونَ » من هنا كان كل عاقل بمجرد أن يلتفت بعقله إلى هذا الدين يهتدي و يؤمن و يدخل في دين اللّه و قد قال رسول اللّه «جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء..».

(و أعزّ أركانه على من غالبه) فأصول الإسلام قوية متينة مبنية على حجج و براهين لا تهدم و لا تغلب فمن أراد أن يغلبه أو يهزمه فلن يفلح و لن ينتصر...

(فجعله أمنا لمن علقه) من تعلق بالإسلام فآمن به فهو الأمان له في الدنيا من القتل و في الآخرة من العذاب...

(و سلما لمن دخله) فمن دخل الإسلام فهو في سلام لا يعلن عليه الحرب فيسلم في الدنيا و يسلم في الآخرة...

ص: 199

(و برهانا لمن تكلم به) فهو الحجة القاطعة على صحة كل قضية يريد أن يتكلم بها الإنسان...

(و شاهدا لمن خاصم عنه) من يدافع عن الإسلام فشهادة الإسلام قائمة منتصرة و حجته جاهزة حاضرة...

(و نورا لمن استضاء به) من أراد الحقيقة فالإسلام يضيء له الدرب، يكشف له الظلمات و يرفع المبهمات و يضعه أمام الهدى و التقى...

(و فهما لمن عقل) من وعى أحكام الإسلام و تشريعاته استطاع أن يصبح جيد الادراك بل يصبح في جودة الفكر و الفهم في أعلى الدرجات...

(و لبا لمن تدبر) من تدبر الإسلام و فكّر فيه و في تشريعاته تحول إلى صاحب عقل عظيم بل هو الذي يصنع العقول السليمة الصحيحة...

(و آية لمن توسم) الإسلام طريق به يستطيع الإنسان أن يدرك فراسته على حقيقتها...

(و تبصرة لمن عزم) من أراد فعل الخير فالإسلام هو الكاشف لهذا الخير و الدال عليه...

(و عيرة لمن اتعظ) من أراد أن يتعظ فإنه عند ما ينظر إلى ما جاء به الإسلام من العظات عندها يعتبر و يتعظ...

(و نجاة لمن صدّق) من آمن به و صدّق أحكامه نجا من النار و من عذاب الملك الجبار...

(و ثقة لمن توكل) فمن توكل على اللّه و التجأ إليه أصبح لديه ثقة بكل ما جاء به هذا الدين...

(و راحة لمن فوض) فمن فوض أمره للّه و أيقن أنه هو الذي يدبر شئونه فهذا قد إرتاح من الهموم و الأحزان و من كل طارق يطرقه...

(و جنة لمن صبر) فمن صبر على أحكام الإسلام و تعاليمه و صبر عما نهى عنه فإن ذلك وقاية له من النار و حاجزا بينها و بينه...

(فهو أبلج المناهج) فهو أوضح الطرق و أسلمها إلى الحق و هو اللّه...

(و أوضح الولائج) فمداخله و أسراره ظاهرة بينة واضحة...

ص: 200

(مشرف المنار) فشعاراته واضحة ظاهرة تدعو الناس إلى الخير و تهديهم إلى سبل السلام...

(مشرق الجواد) فطرقه واضحة ظاهرة بمجرد أن يلتفت إليها الإنسان يهتدي...

(مضيء المصابيح) المصابيح هم أئمة الهدى و علماء الدين من حيث إنهم ينيرون الدرب للسالكين أو يراد بالمصابيح ادله الإسلام الكتاب و السنة...

(كريم المضمار رفيع الغاية جامع الحلبة متنافس السبقة شريف الفرسان). قالوا في تفسيرها: كأنه جعل الإسلام كخيل السباق التي مضمارها كريم و غايتها رفيعه عالية و حلبتها جامعة حاوية و سبقتها متنافس فيها و فرسانها أشراف.

و يمكن أن يراد بالمضمار هو الدنيا حيث فيها يبسط الإسلام سلطانه و تكون محل ارادته.

و الغاية هي الوصول إلى رضا اللّه و هل هناك أرفع منها غاية و الحلبة هي مجمع الناس يوم القيامة و النتيجة هي المسابقة و المنافسة على الجنة و أما اشراف الفرسان فهم العلماء الذين يتسابقون إلى طاعة اللّه و إدراك ما عنده.

(التصديق منهاجه) طريق الإسلام هو التصديق و الإيمان الثابت في كل شيء و لذا نهى اللّه أن يمشي الإنسان خلف غير العلم قال تعالى: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » فما لم يحصل العلم و هو الحقيقة الصادقة الكاشفة لا يعمل به...

(و الصالحات مناره) الأعمال الصالحة هي التي تدل على إسلام الناس و إيمانهم...

(و الموت غايته) فإن الموت هي غاية الحياة الدنيا و نهايتها و به ينقطع التكليف...

(و الدنيا مضماره) محل السباق و العمل و فيها يكون الامتحان...

(و القيامة حلبته) موضع اجتماع الناس و لقاءهم يوم القيامة حيث يجتمع الجميع للحساب...

(و الجنة سبقته) الجنة هي النتيجة و الجائزة التي يحصل عليها الناس و هي ميزان الربح و الخسارة فمن ادركها فاز و من فاتته فشل و هوى...

(حتى أورى قبسا لقابس و أنار علما لحابس) في هذا الفصل يذكر النبي و فضله و بعض أوصافه الكريمة فالنبي أشعل الشعلة و عرضها لكل من أراد أن يأخذ منها و هو

ص: 201

كناية عن أنه أظهر الإسلام و أوضح معالمه فكل من أراد الهداية و الخير عليه أن يأخذ منه و يقتدي به...

و نصب من أنوار الهداية ما يرفع حيرة المتحيرين و يزيل شكهم فالكتاب بين أيدينا و سنة النبي في متناول الجميع و سيرة المعصومين محفوظة و هذه كلها أعلام تهدي الخلق و ترفع حيرتهم...

(فهو امينك المأمون) قد ائتمنته فكان المأمون الثقة على رسالتك و كلامك و ما اردت إيصاله إلى الناس...

(و شهيدك يوم الدين) فهو الشاهد على خلقك بأنه قد بلغ الرسالة و أوصلها إليهم فيشهد للمطيع و يشهد على العاصي...

(و بعيثك نعمة) فأنت بعثته إلى خلقك نعمة لهم حيث يهديهم سبيل الحق و يأخذ بأيديهم إلى العدل...

(و رسولك بالحق رحمة) فأنت سبحانك أرسلته بالحق من الشرائع و الأحكام رحمة للعالمين كما قلت له: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ » ...

(اللهم أقسم له مقسما من عدلك). دعا للنبي أن يعطيه اللّه نصيبا وافرا من عدله بأن يجعله في محل القرب منه و في الدرجات السامية من الكمال و الوصول إلى رضاه...

(و أجزه مضعفات الخير من فضلك). كذلك دعا للنبي أن يضاعف له فضله و احسانه أضعافا مضاعفة فوق ما يستحق.

(اللهم أعل على بناء البانين بناءه) دعاء أن يرفع اللّه الإسلام و يجعله الظاهر على جميع الأديان لأن هذا ما بناه النبي و شيده و قد يراد به الدعاء لشخص النبي أن يرفع شأنه فوق كل أصحاب الشأن من الأنبياء فما دونهم...

(و أكرم لديك نزله) اللهم أكرمه أجلّ كرامة و أفضلها و أحسن إليه أجزل إحسان و أعلاه عنده نزوله بك و حلوله عندك...

(و شرفّ عندك منزله) اجعله عندك في أشرف المنازل و أكرمها لديك فإنه مستحق لكل إجلال و إكرام.

ص: 202

(و آته الوسيلة) أعطه الوسيلة التي بها يكون إليك أقرب المقربين و عندك من المقبولين...

(و أعطه السناء و الفضيلة) اجعله في أرفع منزلة و أتم فضيلة.

(و احشرنا في زمرته) اجعل مقامنا مع جماعته المخلصين الذين هم معه على الحق و الهدى من الأئمة الطاهرين و العلماء العاملين و الهداة الميامين.

(غير خزايا و لا نادمين) لا يلحقنا ذل و إهانة و لا ندم و أسف على ما فات و لا يكون ذلك إلا بمتابعته و السير على هداه...

(و لا ناكبين و لا ناكثين) لم ننحرف عن طريقه إلى طريق الضلال و لم ننكث عهده و ما أخذه علينا من العمل بما جاء و شرّع...

(و لا ضالين و لا مضلين و لا مفتونين). و لا ضالين عن طريقك و صراطك و لا مضلين لأحد من عبادك و لا مفتونين عن دينك إلى غيره من الاباطيل و الاضاليل...

(و قد بلغتم من كرامة اللّه تعالى لكم منزلة تكرم بها اماؤكم و توصل بها جيرانكم).

قالوا إن هذا الفصل مسوق لأصحابه الذين أسلموا مدنهم و نواحيهم إلى معاوية و جنده يغزوها و يفتك بأهلها...

فذكر أولا فضل الإسلام عليهم و ما جعله لهم من القوة و المنعة بقوله:

لقد بلغتم بالإسلام الذي هو من كرامة اللّه مرتبة رفيعة عظيمة تكرم بها اماؤكم و عبيدكم و خدمكم إكراما لكم و لإسلامكم و حفظ جيرانكم بحيث لا يؤذى و لا يعتدى عليه بل يحفظ و يصان...

(و يعظمكم من لا فضل لكم عليه و لا يد لكم عنده). (يحترمكم و يجل مقامكم من لا فضل لكم عليه في شرف أو حسب أو نسب و لا يد لكم عنده أي لم تتفضلوا عليه بعطية أو هدية أو كرامة و إنما كان كل ذلك بفضل الإسلام و الإيمان...

(و يهابكم من لا يخاف لكم سطوة و لا لكم عليه إمرة). يحسب حسابكم و يخافكم و يحذر منكم من لا يخاف شدتكم و بأسكم و ليس لكم عليه سلطان، فإن هذه المهابة التي وضعها اللّه في صدور الناس لكم هي للإسلام و قوته و ما يتمتع به المؤمنون من عقيدة راسخة تهون الدنيا و ما فيها من أجلها و من أجل أن تبقى عزيزة مصانة...

(و قد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون و أنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون). بعد

ص: 203

ذكر نعم اللّه عليهم وبّخهم على تقصيرهم و تهاونهم في أمر الدين و بيّن لهم إنهم يرون عهود اللّه لا يوفى بها و مع ذلك لا يثورون و لا يتحركون بينما إذا أخذ آباؤهم عهدا على أحد و نقضه كانوا يثورون و يأنفون و يقومون لردّ الكرامة و إعادتها مع أن نقض عهود اللّه أحق أن يقام من أجلها و أولى من غيرها و هذا بيان لما أخذه اللّه من القيام في وجه معاوية الظالم الذي نقض العهود و مزق المواثيق و خرج على الإمام باغيا عليه مقاتلا له بدون حق...

(و كانت أمور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع). و هذه نعمة أخرى ضيعتموها و هي أمور اللّه من أحكامه و تشريعاته كانت تصدر من الرسول إليكم و كان الناس يأخذونها منكم و إليكم يرجعون عند ما تتعقد عليهم بعض الأمور فتحلونها لهم.

و في شرح المعتزلي: كانت الأحكام الشرعية إليكم ترد مني و من تعليمي إياكم و تثقيفي لكم ثم تصدر عنكم إلى من تعلمونه إياها من اتباعكم و تلامذتكم ثم ترجع إليكم بأن يتعلمها بنوكم و أخوتكم من هؤلاء الاتباع و التلامذة.

(فمكنتم الظلمة من منزلتكم و القيتم إليهم أزمتكم و أسلمتم أمور اللّه في أيديهم).

بعد أن بيّن لهم كيف كانوا في المراتب العليا من العلم و المعرفة و السطوة ذمهم من حيث تخلوا عن أماكنهم لأعدائهم و أصبحت الأمور بيد هؤلاء الظلمة العادلين عن الحق الجائرين عن قصد السبيل قد سلموهم أمور اللّه حينما مكنوا لهم في البلاد و أفسحوا لهم في ظلم العباد، لقد تهاونوا حتى أحتل معاوية رقعة واسعة من أرض الإسلام و أخذ و أصحابه يحتلون كرسي الزعامة و الإمامة و يفتون باسم الإسلام و ينسبون إليه كل ما يوافق هو اهم و ترغب فيه شهواتهم و من جملتها ما يذكره الإمام بقوله...

(يعملون بالشبهات و يسيرون في الشهوات). فهؤلاء الذين أسلمتم لهم الأمور ليسوا أصحاب دين لأنهم يعملون بالشبهات يستندون في تحليل الأمور و تحريمها إلى أدلة ليست صحيحة و إلى حجج سخيفة لم يوافق عليها اللّه و لم يأذن بها أو يجعلها حجة و دليلا و أما مسيرتهم و طريقة حياتهم فإن شهواتهم هي القائدة لهم و الموجهة كيف تكون رغبة الإنسان و شهوته تكون مسيرته و حركة حياته دون نظر إلى دين أو شرع مبين...

(و أيم اللّه لو فرقوكم تحت كل كوكب لجمعكم اللّه لشر يوم لهم). أقسم عليه السلام باللّه أن هؤلاء الظلمة - و هم الأمويون - لو فرقوا أهل العراق في كل مكان و شتتوهم في بقاع الأرض و نواحيها لجمع اللّه شملهم و وّحد لقاءهم ليوم عظيم و شرّه على بني أمية جليل..

ص: 204

و قد مارس بنو أمية سياسة التغريب و التبعيد فكانوا إذا خافوا من أحد أبعدوه عن داره و مجتمع قومه كما فعل عثمان بأبي ذر و صعصعة بن صوحان و كميل بن زياد و عمرو بن الحمق الخزاعي و الاشتر النخغي...

و لكن اللّه صدق أخبار الإمام فاجتمع أهل العراق و المسلمون على عداوة الدولة الأموية و التقى رأيهم على ابادتها و زوال أهلها فكان أن خرج الدعاة إلى الرضا من آل محمد و استطاع هذا الشعار أن يزيل دولة الأمويين و يأتي العباسيون من بعدهم تحت هذا الشعار فيحرفونه لصالحهم و يستغلونه لمآربهم و يسرقونه من أهله و من أحق الناس به و هم أهل البيت، و على كل حال فقد صدق إخبار الامام كما صدق في كل أخباره التي أخبر بها عن أمور غيبية كانت بعد لم تقع فوقعت كم حدث له بإخباره عن كربلاء و قتل الحسين و صحبه و كما أخبر بقتل ميثم التمار و رشيد الهجري.

و كما أخبر في هذا المقام بأخبار الدولة الأموية و زوالها.

ص: 205

107 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في بعض أيام صفين و قد رأيت جولتكم (1)، و انحيازكم (2) عن صفوفكم، تحوزكم (3) الجفاة (4) الطّغام (5)، و أعراب (6) أهل الشّام، و أنتم لهاميم (7) العرب، و يآفيخ (8) الشّرف، و الأنف المقدّم، و السّنام (9) الأعظم. و لقد شفى (10) و حاوح (11) صدري أن رأيتكم بأخرة (12) تحوزونهم كما حازوكم، و تزيلونهم (13) عن مواقفهم كما أزالوكم، حسّا (14) بالنّصال (15)، و شجرا (16) بالرّماح (17)، تركب أولاهم أخراهم كالإبل الهيم (18) المطرودة، ترمى عن حياضها (19)، و تذاد (20) عن مواردها (21)!.

اللغة

1 - الجولة: من جال الفرس في الميدان إذا قطع جوانبه، و جال القوم جولة إذا انكشفوا ثم كروا.

2 - انحيازكم: ميلكم إلى الشيء و منه أو متحيزا إلى فئة أو مائلا إليها.

3 - تحوزكم: من حزت الشيء إذا جمعته و ضممته و حزته أيضا غلبته.

4 - الجفاة: جمع جاف و هو الغليظ من الناس.

5 - الطغام: الأوغاد من الناس جمع و غد الأحمق الضعيف الرذيل.

6 - الأعراب: سكان البادية البعيدون عن التمدن و الحضارة و عن الدين.

7 - اللهاميم: الجواد من الناس و الخيل.

8 - اليآفيخ: جمع يأفوخ و هو معظم الشيء و أيضا يراد به أعلى الرأس.

ص: 206

9 - السنام: حدبة في ظهر البعير.

10 - شفى: اللّه فلانا إذا أبرأه و أذهب مرضه.

11 - الوحاوح: جمع الوحوحة صوت معه بحح يصدر عن المتألم.

12 - الآخرة: محركة آخر الأمر.

13 - تزيلونهم: تنحونهم و تكشفونهم عن مواقعهم.

14 - الحس: بفتح الحاء القتل.

15 - النصال: المباراة في رمي السهام.

16 - الشجر: كالضرب الطعن.

17 - الرماح: جمع رمح عود طويل في رأسه حربة.

18 - الهيم: بكسر الهاء الإبل العطاش.

19 - الحياض: جمع حوض مجتمع الماء.

20 - تذاد: تمنع.

21 - الموارد: جمع مورد موضع الورود، الطريق إلى الماء.

الشرح

(و قد رأيت جولتكم و انحيازكم عن صفوفكم تحوزكم الجفاة الطغام و أعراب أهل الشام). ذكر أن هذه الخطبة من الإمام كانت على أثر انهزام ميمنة أهل العراق من قبل جند الشام ثم عودتها إلى موقعها بقيادة الأشتر الذي أعاد الكرة لها بعد أن كانت عليها...

يذكر الإمام أنه رأى هزيمتهم و تضعضع صفوفهم و ما أصابهم من غلبة أهل الشام عليهم الذين وصفهم بالغلاظ اللئام الذين لا يرحمون و لا يعدلون و هذا منه يشبه التوبيخ لهم و التقريع لعملهم و وصف أهل الشام بالأعراب لأنهم لم يفقهوا من دين اللّه شيئا و لم يقفوا على الحلال و الحرام و لم يعرفوا الأمور على حقيقتها.

(و أنتم لهاميم العرب و يآفيخ الشرف و الأنف المقدم و السنام الأعظم). رأيت ما وقعتم فيه و ما أصابكم و لكن كيف يصيبكم ذلك ؟ و أنتم سادات العرب و أجوادها و أعلى القوم و المقدمين منهم الذين لا يرتقى إليكم و لا يعلى عليكم و هذا منه إثارة لنفوسهم و تحريكا لهممهم و دفعا لهم لكي يأبوا الهزيمة و يرفضوها و يجددوا العزيمة لعدم تكرار ما وقع مرة أخرى.

ص: 207

و قد شبههم باليآفيخ التي هي أعلى الرأس و بالأنف الذي هو موضع العزة و الشرف و السنام لأنه أعلى ما في البعير.

(و لقد شفى و حاوح صدري أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم كما حازوكم و تزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم). كان يغلي من الأسى و يحز في قلبه أن تهزم ميمنته و لكنه شفي من ذلك و برىء عند ما عادت هذه الميمنة إلى موقعها و أخذت تثأر لنفسها و لهزيمتها فرآها ترد الصاع صاعين و اللطمة بلطمتين فرح بعودتها إلى موقعها و تناولها لعدوها و إزالتهم عن مواقعهم كما أزالوها أولا.

(حسا بالنصال و شجرا بالرماح تركب أولاهم أخراهم كالإبل اليهم المطرودة ترمى عن حياضها و تذاد عن مواردها). أعجبه من هذه الكتيبة عودتها إلى موقعها و كيفية تناولها لعدوها حيث كانت ضرباتها أبرد من الثلج على قلب الإمام و أطيب من العسل فوصفها بما رأى حيث قال تشجيعا لهم و ثناء عليهم: لقد استأصلتموهم بضرب السيوف و طعن الرماح و أضحت أولاهم المواجهة لكم تركب المتأخرة عنها و هي هاربة، شبههم بالإبل العطشى التي وردت على الماء ثم طردت عنه و رميت بالسهام و منعت عن تناول وردها فإنها تتدافع يركب المتقدم منها المتأخر و كل يريد أن ينجو من ضربه سيف أو طعنة رمح...

ص: 208

108 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و هي من خطب الملاحم

الله تعالى

الحمد للّه المتجلّي (1) لخلقه بخلقه (2)، و الظّاهر (3) لقلوبهم بحجّته (4). خلق الخلق من غير رويّة (5)، إذ كانت الرّويّات لا تليق (6) إلاّ بذوي الضّمائر (7) و ليس بذي ضمير في نفسه. خرق (8) علمه باطن غيب السّترات (9)، و أحاط (10) بغموض (11) عقائد السّريرات (12).

و منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:. النبي عليه السلام

اختاره من شجرة الأنبياء، و مشكاة (13) الضيّاء، و ذؤابة (14) العلياء (15)، و سرّة (16) البطحاء (17)، و مصابيح الظّلمة، و ينابيع الحكمة.

فتنة بني أمية

و منها: طبيب دوّار (18) بطبّه، قد أحكم (19) مراهمه (20)، و أحمى (21) مواسمه (22)، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي (23)، و آذان صمّ (24)، و ألسنة بكم (25)، متتبّع بدوائه مواضع الغفلة، و مواطن الحيرة (26)، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، و لم يقدحوا (27) بزناد (28) العلوم الثّاقبة (29)، فهم في ذلك كالأنعام (30) السّائمة (31)، و الصّخور القاسية.

ص: 209

قد انجابت (32) السّرائر (33) لأهل البصائر (34)، و وضحت محجّة (35) الحقّ لخابطها (36)، و أسفرت (37) السّاعة عن وجهها، و ظهرت العلامة لمتوسّمها (38). ما لي أراكم أشباحا بلا أرواح، و أرواحا بلا أشباح (39)، و نسّاكا (40) بلا صلاح، و تجّارا بلا أرباح، و أيقاظا (41) نوّما، و شهودا (42) غيّبا، و ناظرة عمياء، و سامعة صمّاء، و ناطقة بكماء! راية ضلال قد قامت على قطبها (43)، و تفرّقت بشعبها (44)، تكيلكم (45) بصاعها (46)، و تخبطكم (47) بباعها (48). قائدها خارج من الملّة (49)، قائم على الضّلّة (50)، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة (51) كثفالة القدر (52)، أو نفاضة (53) كنفاضة العكم (54)، تعرككم عرك (55) الأديم (56)، و تدوسكم دوس (57) الحصيد (58)، و تستخلص (59) المؤمن من بينكم استخلاص الطّير الحبّة البطينة (60) من بين هزيل (61) الحبّ .

أين تذهب بكم المذاهب (62)، و تتيه (63) بكم الغياهب (64) و تخدعكم (65) الكواذب ؟ و من أين تؤتون، و أنّي تؤفكون (66)؟ فلكلّ أجل (67) كتاب، و لكلّ غيبة أياب (68)، فاستمعوا من ربّانيّكم (69)، و أحضروه قلوبكم، و استيقظوا إن هتف بكم (70). و ليصدق رائد (71) أهله، و ليجمع شمله (72)، و ليحضر ذهنه، فلقد فلق (73) لكم الأمر فلق الخرزة (74)، و قرفه (75) قرف الصّمغة (76). فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، و ركب الجهل مراكبه و عظمت الطّاغية (77)، و قلّت الدّاعية، و صال (78) الدّهر صيال السّبع (79) العقور (80) و هدر (81) فنيق (82) الباطل بعد كظوم (83)، و تواخى (84) النّاس على الفجور (85)، و تهاجروا (86) على الدّين، و تحابّوا (87) على الكذب، و تباغضوا على الصّدق. فإذا كان ذلك كان الولد غيظا (88)، و المطر

ص: 210

قيظا (89)، و تفيض (90) اللّئام (91) فيضا، و تغيض (92) الكرام غيضا، و كان أهل ذلك الزّمان ذئابا، و سلاطينه سباعا، و أوساطه أكّالا، و فقراؤه أمواتا، و غار (93) الصّدق، و فاض (94) الكذب، و استعملت المودّة (95) باللّسان، و تشاجر (96) النّاس بالقلوب، و صار الفسوق (97) نسبا، و العفاف (98) عجبا، و لبس الإسلام لبس الفرو (100) مقلوبا.

اللغة

1 - المتجلي: الظاهر المتكشف.

2 - الخلق: الناس.

3 - الظاهر: خلاف الباطن، البارز.

4 - الحجة: البرهان و الدليل.

5 - الرويّة: النظر و التفكر في الأمور.

6 - لا تليق: به لا تحسن له و لا تناسبه و ليس أهلا أن ينسب إليه.

7 - الضمائر: جمع ضمير باطن الإنسان.

8 - خرق: الثوب مزقه و البناء فتح فيه نافذة و الخرق الثقبة و الفرجة.

9 - السترات: جمع سترة ما يستتر به أيا كان.

10 - أحاط: أحدق به من جوانبه و أحاط بالأمر علما أي أحدق به علمه من جميع جوانبه.

11 - الغموض: الخفاء و غمض الكلام إذا خفى مأخذه و معناه.

12 - السريرات: جمع سريرة و هو ما يكتم.

13 - المشكاة: كل كوة غير نافذة.

14 - الذؤابة: الناصية أو منبتها من الرأس.

15 - العلياء: كل مكان مشرف، رأس الجبل، السماء.

16 - السرة: ما تقطعه القابلة من الولد عند الولادة و سرة الوادي أفضل مواضعه.

17 - البطحاء: الأرض المنبسطة و اختصت بوادي مكة.

18 - دوّار: كثير الدوران و هو الذي يطوف و لا يستقر.

19 - أحكم: أتقن.

ص: 211

20 - المراهم: الأدوية للجروح.

21 - أحمى: الحديد أسخنه شديدا.

22 - المواسم: جمع ميسم بكسر الميم و هو المكواة.

23 - العمى: عدم البصر فيما من شأنه أن يبصر.

24 - الصمم: مرض يمنع السمع.

25 - البكم: الأبكم هو الذي ولد لا يقدر على الكلام.

26 - الحيرة: عدم الاهتداء للشيء.

27 - قدح: بالزند استخرج النار منه.

28 - الزناد: هو الآلة التي يستخرج بواسطتها النار.

29 - الثاقبة: المضيئة إذا كانت للكواكب و المتقدة إذا كانت للنار.

30 - الأنعام: جمع النعم الإبل و تطلق على البقر و الغنم.

31 - السائمة: الراعية.

32 - انجابت: انكشفت.

33 - السرائر: جمع سريرة السر الذي يكتم، ما يسره الإنسان من أمره.

34 - البصائر: جمع بصيرة العقل الفطنة و هي في الباطن كالبصر بالنسبة إلى الظاهر.

35 - المحجة: وسط الطريق.

36 - الخابط: السائر على غير هدى.

37 - أسفرت: كشفت.

38 - المتوسم: المتفرس.

39 - الشبح: الشخص.

40 - النساك: جمع ناسك العابد المتزهد.

41 - الإيقاظ: ضد النوم و أيقضه من نومه إذا نبهه منه و اليقظ المتنبه للأمور.

42 - الشهود: الحضور.

43 - القطب: حديدة تدور عليها الرحى، ملاك الأمر و مداره الرئيس الذي تدور عليه الأمور.

44 - شعب: جمع شعبة و هو الفرع و أما الشّعب فهي القبيلة العظيمة.

45 - تكيلكم: تأخذكم للهلاك جملة كما يأخذ الكيال ما يكيله من الحب.

46 - الصاع: وعاء يكال به.

47 - تخبطكم: من الخبط و هو ضرب ورق الشجر حتى يسقط و البعير ضرب بيده.

48 - الباع: قدر مد اليدين.

49 - الملة: الطريقة و الشريعة في الدين و ملة الإسلام دينه.

50 - الضلة: ضد الهدى.

ص: 212

51 - الثفالة: بالضم ما استقر تحت الشيء من كدره.

52 - القدر: إناء يطبخ فيه.

53 - النفاضة: ما يسقط بالنفض.

54 - العكم: العدل بالكسر.

55 - عركه: دلكه بقوة.

56 - الأديم: الجلد.

57 - داس: الحنطة دقها ليخرج الحب منها.

58 - الحصيد: المحصود.

59 - تستخلص: تختار من خلص الماء من الكدر إذا صفا و خلّص الشيء ميّزه.

60 - البطينة: السمينة.

61 - الهزيل: ضد البطين.

62 - ذهب به: استصحبه و ذهب معه.

63 - تتيه: تتحير.

64 - الغياهب: جمع الغيهب الظلمة.

65 - تخدعكم: تمكر بكم و تحتال عليكم.

66 - تؤفكون: من الإفك و هو الكذب.

67 - الأجل: غاية الوقت.

68 - الإياب: الرجوع.

69 - ربانيكم: جمع ربي و هو المتأله، العارف باللّه.

70 - هتف به: صاحب به.

71 - الرائد: الذي يتقدم المنتجعين لينظر لهم الماء و الكلأ.

72 - الشمل: ما اجتمع من الأمر و جمع اللّه شملهم أي ما تشتت من أمرهم.

73 - فلق: شق.

74 - الخرزة: الجوهرة و ما ينظم.

75 - قرف: الشيء قرفته إذا قشرته.

76 - الصمغة: ما ينحلب من الشجر.

77 - الطاغية: الطغيان.

78 - صال: حمل و وثب.

79 - السبع: المفترس من الحيوان.

80 - العقور: الذي يعقر أي يجرح، الضاري.

81 - هدر: إذا ردد الصوت في الحنجرة دون أن تخرج الشقشقة.

82 - الفنيق: الفحل من الإبل.

ص: 213

83 - الكظوم: الإمساك و السكوت.

84 - تواخى: الناس صاروا اخوة.

85 - الفجور: أصله الميل عن الصدق و القصد يستعمل في الزاني و مرتكب المعاصي.

86 - تهاجروا: تقاطعوا.

87 - تحابوا: حبّ بعضهم بعضا.

88 - الغيظ: الغضب، أو أشده و قيل سورته و أوله و الغياظ الغم و المحنة.

89 - القيظ: شدة الحر.

90 - تفيض: تسيل و تجري.

91 - اللئام: جمع لئيم خلاف الكريم، المهان، الدنيء الأصل.

92 - تغيض: من غاض الماء إذا غار في الأرض و جفت ينابيعه.

93 - غار: الماء في الأرض ذهب.

94 - فاض: كثر حتى سال.

95 - المودة: المحبة.

96 - تشاجر: الناس تنازعوا.

97 - الفسوق: الخروج عن طريق الحق و الصواب، الفجور.

98 - العفاف: الامتناع عما لا يحل، و العفة ترك الشهوات الدنيئة، الطهارة.

99 - العجب: انفعال نفساني يعتري الإنسان عند استعظامه أو استطرافه أو إنكاره ما يرد عليه.

100 - الفرو: جمعه فراء شيء كالجبة يبطّن من جلود بعض الحيوانات.

الشرح

(الحمد للّه المتجلي لخلقه بخلقه). حمد اللّه الظاهر و الواضح لخلقه بما خلق فإن الإنسان بل كل شيء يدرك وجود اللّه و يتحققه بهذا الخلق فهو السبب و هو العلة و لو لا العلة لما وجد المعلول فمن وجود المعلول نقرأ وجود العلة و تقدمها عليه...

(و الظاهر لقلوبهم بحجته). المنكشف لقلوب الخلق بما في الكون من براهين و أدلة على وجوده فالذرة الصغيرة تحكي وجوده و تنطق بتوحيده إنه لم تره العيون و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان...

(خلق الخلق من غير رويّة إذ كانت الرويّات لا تليق إلا بذوي الضمائر و ليس بذي

ص: 214

ضمير في نفسه). خلق اللّه الخلق بمجرد الإرادة و كلمة «كن» تعبير عن الإرادة التكوينية فلا يحتاج خلقه للخلق إلى أن يفكر و يدرس القضايا و يقف ليحلل كيفية الصنع و نتائجه و آثاره و فوائده بل بالتوجه كان ما يريد و علل ذلك بأن الرويّة و التفكر في المقدمات و استخراج النتائج منها إنما يحسن بأصحاب الضمائر التي لها قلوب و حواس بدنية و جل سبحانه أن يكون كذلك و إلا لتحول إلى مركب ذي أجزاء يفتقر إليها و يبطل عندها أن يكون واجب الوجود...

(خرق علمه باطن غيب السترات و أحاط بغموض عقائد السريرات). نفذ علم اللّه في كل غائب و مستتر سواء كان في المستقبل أو فيما لا يرى و أحاط بما انعقد عليه السر من دقائق الأمور و صغيرها قال تعالى: «أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً» و قال: «يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ » .

(اختاره من شجرة الأنبياء و مشكاة الضياء). هذا وصف للنبي و بيان لما فيه و ما هو عليه، اختار اللّه محمدا من نفس الشجرة التي اختار منها الأنبياء، فالشجرة واحدة تفرعت إلى فروع متعددة كان منها إبراهيم و إسماعيل و كان منها محمد، و في طهر الأصل و صفائه كان طهر الفرع و صفائه.

و مشكاة الضياء هم آل إبراهيم فإن محمدا منهم و هؤلاء قد سطع نور الأنبياء منهم كما يسطع النور من المشكاة فكان محمد نورا من تلك الأنوار المنبعثة من تلك المشكاة.

(و ذؤابة العلياء و سرة البطحاء). إنه من قريش أعلى الورى جبينا و أشرفها أسرة و أرفعها مقاما و من أفضل بقاع الأرض حيث كان في وسط مكة و في سهلها الذي يعد من أفخر أماكنها و أشرفها...

(و مصابيح الظلمة و ينابيع الحكمة). فإن الأنبياء يكشفون برسالاتهم ظلمات الجهل و التخلف و لولاهم لعاشت البشرية حياة مظلمة استولى عليها الجهل و داسها الطغاة بأقدامهم فكانت أنوار النبوة تشع لتمحي الظلمات و تقضي على روح الجاهلية.

و الأنبياء هم ينابيع الحكمة تتفجر عنهم العلوم و تتدفق لتروي القلوب الظمأى إلى الحق المتعطشة إلى العدل.

(طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه و أحمى مواسمه يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي و آذان صم و ألسنة بكم). أشار في هذا الفصل إلى نفسه و أطلق عليها لفظة الطبيب لأنه يعالج أمراض النفوس و القلوب كما يعالج الطبيب أمراض الأبدان...

ص: 215

طبيب يحمل مهنته معه بما عنده من العلوم و بما اتقن من الأدوية التي هي المواعظ و الحكم و آيات الكتاب و سنة النبي المختار حمل أدويته و استعد بكل أجهزته التي بها يكون العلاج من مكواة و غيرها، إنه حملها كلها و أخذ يضع لكل داء حاجته من الدواء فمن مرض قلبه داواه بالذكر و الموعظة و الرجوع إلى اللّه و فتحه بما عنده من آثار النبوة و عبق الإمامة و عطر الإخلاص، و من كانت آذانه صماء لا تسمع موعظة و لا تعي حكما فتحها فجعلها تسمع و تعي و تعتبر بكل ما تسمع كما أن من كان أبكما لا يتكلم بحق حوّل لسانه إلى أن ينطق بالحق و يقول الصدق و حلّ عقدته بذكر اللّه و العودة إليه...

(متتبع بدوائه موضع الغفلة و مواطن الحيرة). إنه يحمل الدواء و يبحث عن الداء فمن كان غافلا عن آخرته و عما ينفعه أيقظه من غفلته و وعاه لما ينفعه و دلّه على موارد النجاة.

و من كان في حيرة من أمره و في نفسه شك و تردد من أمر اللّه أو شيء من أحكامه رفعه حيرته و أنزل عليه برد اليقين و سقاه شراب التصديق فارتفعت الحيرة و زال الشك و التردد و حل محلها اليقين باللّه و بما جاء به رسوله...

(لم يستضيئوا بأضواء الحكمة و لم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة فهم في ذلك كالأنعام السائمة و الصخور القاسية). هذا توبيخ للذين تخلفوا عن الاخذ منه إنهم لم يجنوا عن أنوار الحكمة التي تتفجر منه و لم يستفيدوا مما أناره لهم من الطرق و الدروب و لم يجهدوا أنفسهم في استخراج العلوم الحقة المضيئة المفيدة التي تنفع البشرية و تساهم في رقيها و تقدمها...

ثم وصفهم أنهم كالأنعام المعلوفة التي اكتفت بشبعها دون أن تفكر بشيء من مصالحها و ما ينفعها كما شبههم بالصخور القاسية التي لا تتأثر بشيء و لا يفتتها شيء...

(قد انجابت السرائر لأهل البصائر). انكشفت الأسرار لأهل الأفكار و الفطنة و قالوا: إن الأسرار هي ما أضمره المعاندون للحق في إطفاء نور اللّه و هدم أركان الشريعة و قالوا: إن الأسرار هي ما انكشف له عليه السلام من استيلاء بني أمية على الحكم و ظلمهم.

(و وضحت محجة الحق لخابطها). لقد ظهرت أعلام الشريعة و وضحت أحكام الدين فلا عذر للجاهلين السائرين على غير هدى لأن سيرهم عن شقاق و عناد بدون حجة و برهان.

ص: 216

(و أسفرت الساعة عن وجهها). اقترب موعد القيامة و هذه معالمها قد برزت و أشرقت.

و قيل: إنه أراد بالساعة قيام الدولة الأموية و أن علاماتها قد ظهرت بظهور معاوية الذي يمثل وجه الأمويين...

(و ظهرت العلامة لمتوسمها). بانت و انكشفت العلامة التي تدل على قرب الساعة أو قرب ظهور الدولة الأموية لمن تفرس ذلك و حكم بمقتضى حسه الداخلي و ما عنده من قوة الفراسة.

(مالي أراكم أشباحا بلا أرواح و أرواحا بلا أشباح). ذمهم لتناقض أحوالهم و عدم انسجامهم فهم يملكون الهياكل البشرية و لكن بدون عقل أو تفكير كالجمادات التي لا تحس و لا تفكر...

أو يتحولون إلى أرواح صافية بدون أجسام، و الأرواح بنفسها لا فائدة فيها في قانون الحياة و ليس لها مجال و لا دور في الدنيا كما هو الحال في الملائكة و الشياطين.

(و نساكا بلا صلاح). فهم عباد متهجدون و لكن بدون تقوى و لا إخلاص و عبادتهم لم تقترن بصلاح سرائرهم حتى تقع صحيحة و على وجهها الشرعي.

(و تجارا بلا أرباح). أرادوا أن يتاجروا مع اللّه فيصلّون و يصومون و يعملون بعض الأعمال و لكنها بدون ثمرة و لا ربح لأنها لم تقع لوجه اللّه و تقربا منه.

(و إيقاظا نوما). فهم أيقاظ و لكن لعدم انتفاعهم بيقظتهم فهم نائمون، يرون حركة الحياة و يرون ما يدبر لهم و لكنهم لا يحركون ساكنا و لا يدفعون ضيما نيام عن مواجهة ما يجري...

(و شهودا غيبا). إن الساحة أمامهم يرون ما يجري فيها و عليها و لكنهم لا يعدون العدة لمواجهتها فكأنهم غائبون عنها لا تبدو لهم آثار أو تظهر لهم أخبار.

(و ناظرة عمياء). ينظرون بعيونهم المادية و لكن لا ينظرون بقلوبهم ليعتبروا من هذا النظر و يخططوا لما يجري فهم كالعمي...

(و سامعة صماء). فآلة السمع موجودة تسمع كل شيء و لكن لأنها لا تعتبر بما تسمع و لا تفكر فيه فكأنها صماء لا تسمع لأن فائدة السمع الاعتبار فمن لم يعتبر يسقط سماعه و يتحول إلى عدم.

ص: 217

(و ناطقة بكماء راية ضلال قد قامت على قطبها و تفرقت بشعبها). هذا كلام منقطع عما سبقه يذكر فيه بعض ما يأتي به الزمان و أول ذلك أن تخرج راية ضلال، إنه شعار يراد من ورائه إضلال الناس و الانحراف بهم قد اجتمعت على رئيسها و محرك دورتها و قائد مسيرتها و بعد ذلك توزعت في كل النواحي و الجهات و القبائل و الناس...

(تكيلكم بصاعها و تخبطكم بباعها). إشارة إلى ما ينالهم من ظلمها و جورها و أنها لن تتركهم أحرارا يفعلون ما يشاءون بل تأخذهم بظلمها و تضربهم بأعظم ما عندها من قوة و قدرة.

(قائدها خارج من الملة قائم على الضلة). و هذا وصف لقائد هذه الفتنة فهو ليس على دين الإسلام في واقع الأمر و إن كان في الظاهر أنه منه و هو أيضا ثابت مستمر على الضلال و الانحراف لن ينزع عنه إلى العدل...

(فلا يبقى يومئذ منكم إلا ثفالة كثفالة القدر أو نفاضة كنفاضة العكم). عند ما يحكم هذا الظالم و يمارس القهر و القتل فلن يبقى منكم يومها إلا ما لا خير فيه و لا ينتفع به من أراذلكم و هؤلاء لن يثوروا و لن يثأروا أو يبقى منكم بقايا قليلة و أثر يرمى دون فائدة فيه كما ترمى النفاضة من العدل...

(تعرككم عرك الأديم و تدوسكم دوس الحصيد و تستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة البطينة من بين هزيل الحب). و هذا وصف لشدتها و ما يطالهم منها إنها صورة رهيبة فكما يعرك الجلد عند الدبغ كذلك بشدتها و قسوتها تكون عليكم حتى تغيّر ألوانكم و تطالكم جميعا...

كما أنها ستمارس عليكم المذلة و الهوان و تدوسكم كما يداس الزرع لاستخراج الحب منه و ستبحث عن المؤمن الملتزم الذي يشكل خطرا عليها و يهددها في مصالحها فيؤخذ من بين ما تبقى منكم لينفى من الأرض أو يقتل أو يسجن أو ينكل به و يكون عبرة لغيره و قد شبه استقصائهم و بحثهم عن المؤمن ببحث الطائر للحبة السمينة و أخذها من بين الضعاف من الحبوب، كناية عن اهتمامهم بأخذ المؤمنين ليخلصوا منهم و يطمئنوا بفقدهم.

(أين تذهب بكم المذاهب و تتيه بكم الغياهب و تخدعكم الكواذب). استفهام يراد به تقريعهم و توبيخهم لعلهم إلى الحق يرجعون يقول لهم: أين تأخذكم المذاهب و هي الطرق المنحرفة عن الحق و كيف تأخذكم الظلمات و تتيه بكم فلا تهتدون إلى الهدى و لا

ص: 218

ينكشف عنكم الردى و كيف تخدعكم الآمال الكاذبة و الدعاوى الباطلة فتتسارعون نحوها و تتسابقون إليها...

(و من أين تؤتون و أنى تؤفكون). من أي جهة يأتيكم الباطل فيسيطر عليكم و يضلكم عن السبيل و كيف تصرفون عن قصد السبيل و عن الحق الواضح المبين.

(فلكل أجل كتاب و لكل غيبة إياب). قالوا: إن هذا الكلام منقطع عما قبله على عادة الشريف في التقاط أبلغ كلام الإمام و أن كل حكم مكتوب على الإنسان لا بد و أن يأتي وقته و لا بد لكل غائب من رجوع تحذيرا لهم عن غفلتهم و اشتغالهم بأمور الدنيا فحسب و قال بعضهم: إنه متصل بما قبله و فسره بقوله: إن ما أخبرتكم من وقوع الفتن واقع في أجله و حينه لا محالة...

(فاستمعوا من ربانيكم و أحضروه قلوبكم). استمعوا إلى أقوال المتوجهين إلى اللّه المخلصين من علماء الأمة و لتحضر قلوبكم و تتوجه إلى كلامهم و تتفهمه و تعمل به و يريد بهذا الكلام نفسه الشريفة.

(و استيقظوا إن هتف بكم و ليصدق رائد أهله). انتبهوا من غفلتكم و ارجعوا إلى أنفسكم إذا صاح بكم و دعاكم لما يحييكم.

و أنتم رواد قومكم فكل واحد منكم إذا رجع إليهم ليصدق في نقل ما سمع و ليحمل إليهم ما وعى من هذا الحديث...

(و ليجمع شمله و ليحضر ذهنه). أما أن يراد بقوله: و ليجمع شمله أي يجمع أفكاره و عزائمه و لينظر في الأمور التي أقولها له.

أو يراد بجمع شمله أن يوحد صفه مع الآخرين و يجتمع معهم تحت لوائه.

و ليحضر ذهنه أي يتوجه و لا يشتغل بما يواجهه من أمور الدنيا و إنما يتوجه إلى كلامه و يحلله و يعرف مغزاه...

(فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة و قرفه قرف الصمغة). لقد أوضح الإمام أمور الدين و الشرع و لم يترك خافية عليهم إلا و دلّهم عليها و ظهرت جلية أمامهم كما يظهر باطن الخرزة إذا انفلقت و انكسرت كما أنه ألقى إليهم كل ما ينفعهم و لم يدّخر عنهم شيئا سواء كانت من أمور دينهم أو دنياهم و قيل: ما أخبرهم به من الفتن و شبه إلقاؤه لهذا الأمر بالصمغة إذا قشرها الشخص عن الشجرة فإنها لتماسكها تخرج كلها و تنقلع بأجمعها.

ص: 219

(فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه و ركب الجهل مراكبه). هذا من جهلة أخباره بما يجرى بعده و أن الفتنة إذا جرت فعند ذلك يتمادى الباطل و يسرح و يمرح و يأخذ أوج عزه فينتشر بكل زاوية و مكان.

و أما الجهل فإنه يركب عقول الناس و يديرها كيف شاء و يفقد العلم دوره و المعرفة مكانتها و كيف يكون هذا المجتمع الذي يتحكم فيه الباطل على أيدي الجهال المتمكنين من القوة و القدرة...

(و عظمت الطاغية و قلت الداعية). استفحل أمر الفتنة التي عمّت و طغت على البلاد.

و في المقابل قلت الفرقة الداعية إلى اللّه الراعية لحقوقه التي توجه الناس إليه و تردهم إلى رحابه.

(وصال الدهر صيال السبع العقور). وثب الدهر على الصالحين و الضعفاء فجردهم من حقوقهم و سلبهم معيشتهم و أفقدهم لذة الحياة و طيبها بل قد يفقدهم حياتهم و وجودهم و هو كناية عن استبداد الظالمين و ممارستهم الظالمة التي تقتل و تشرد و تسجن و قد شبّه ذلك بالحيوان المفترس الضاري...

(و هدر فنيق الباطل بعد كظوم). فبعد سكون الباطل و خموده و انعدام حركته ظهر من جديد و علا صوته و استفحل أمره فإن الأجواء التي يعيش فيها الباطل و يصبح له يد يبطش بها هي تلك التي يتخاذل فيها الدعاة إلى اللّه و يكفون عن حمل رسالتهم و أداء أمانتهم...

(و تواخى الناس على الفجور). أصبح الفجور هو محور الأخوة فالفجار التقوا و اجتمعوا على هذه الرذيلة و أننا نجد كيف يجتمع الفساق على حفلات الرقص و الغناء و الانحلال أكثر مما يجتمع الأخوة فيما بينهم و كم من شخص لا يجمعه مع آخر إلا هذه المناسبة الفاجرة الباطلة...

(و تهاجروا على الدين). افترقوا على الدين فهذا المتدين يقطع علاقته بغيره من الفساق خوف العدوى كما أن الفاسق يقطع علاقته بالمتدين لدينه و عدم مماشاته له في انحلاله...

(و تحابوا على الكذب و تباغضوا على الصدق). أحب بعضهم بعضا لأن كل واحد منهم يكذب على الآخر في حديثه و في مواعيده و في حياته.

ص: 220

و تباغضوا على الصدق من حيث إن من يصدق منهم في أقواله و أفعاله لا يعجب الآخرين كما أنه لا يعجبه الآخرون فيقع البغض و الكره فيما بينهم.

(فإذا كان ذلك كان الولد غيظا). فإذا كان ذلك الزمان تبدلت المقاييس و تحطمت الموازين و تحول الولد الذي من حقه أن يكون قرة عين لوالده تحول إلى محنة يغيظ بها أباه لأنه خالفه في مسيرته و لم يكمل شوطه و اكتفى بنفسه.

(و المطر قيظا). و هذا من خصائص ذلك الزمن النكد أن المطر الذي حقه أن ينزل في الشتاء و في مواسم المنفعة يتحول لينزل في أيام الصيف و شدته فيفسد المزروعات و يصيبها بالتلف...

و يمكن أن يكون المراد بهذا الكلام أن يحل الحر محل المطر...

(و تفيض اللئام فيضا). تكثر اللئام لأن الزمان سيئ فاسد فيكثر من هم على شاكلته.

(و تغيض الكرام غيضا). تذهب الكرام و تقل لأن أجواء الفساد ستفسد الناس و تغريهم و تخرجهم عن دينهم فيقل الكرام في مقابل كثرة اللئام.

(و كان أهل ذلك الزمان ذئابا و سلاطينه سباعا و أوساطه أكالا و فقراؤه أمواتا). في الزمن الفاسد يتحول الحاكم الظالم إلى سبع مفترس يبحث عن فريسته و يطاردها بمجرد أن يراها لا يرحم ضعفها و لا استعطافها قد انتزعت الشفقة منه و فقدت الرحمة من قلبه و تحول من حول هذا الحاكم الظالم إلى ذئاب همها أن تفترس من سواها و تنتزع اللقمة من فم غيرها.

و يتحول أوساط الناس إلى لقمة سائغة يتناولها الحاكم و زبانيته و من حوله.

و أما الفقراء فلا تبحث عنهم و لا تسأل عن شأنهم لأنك لا تسمع لهم حسا فهم أموات في أثواب الأحياء.

و هذا تسلسل طبيعي ينعكس من قمة الهرم إلى أسفله.

فإذا جار الملك على من تحت يده و من حوله جار هؤلاء على من دونهم و أكلوا ما تحت أيديهم و عندها يموت الفقراء و يفقدون الحياة...

(و غار الصدق). ذهب الصدق مع أيام العدل فلا تجد له أثرا يظهر في الناس.

ص: 221

(و فاض الكذب). أصبح الكذب منتشرا بين الناس يتداولونه بيسر و سهولة و بدون حرج أو عسر...

(و استعملت المودة باللسان). كما يقال: يعطيك من طرف اللسان حلاوة... لو قرأت لسانه لطربت و انشرحت يثني عليك و يمدحك و يطربك و لكن كل ذلك باللسان و أما قلبه فلم يعرف شيئا من ذلك.

(و تشاجر الناس بالقلوب). في القلوب عداوة و قتال بل حقد دفين لا يكشفه إلا رب العالمين...

(و صار الفسوق نسبا). يصبح الفاسق صديقا للفاسق و أخا له من حيث يجمعهما الوصف و توحد نظرتهما ما في العمق من فساد.

(و العفاف عجبا). يتعجب من العفاف لقلته.

(و لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا). طرحوا شعارات الإسلام و استغلوا أحكامه من أجل المصالح الخاصة و لم يطرحوها من أجل الإسلام و تحكيمه في الأمور و القضايا و كان من حق من طرح الشعار أن يحفظ المضمون و يراعيه و يعمل به...

أو إن الإسلام يراد به أن يدخل إلى القلب فيحول الإنسان من داخله ليصبح مسلما ملتزما و هؤلاء الناس أخذوا ظاهر الإسلام و لم يتدينوا به في قلوبهم و لم يلتزموا به في نفوسهم .

ص: 222

109 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في بيان قدرة اللّه و انفراده بالعظمة و أمر البعث

قدرة الله

كلّ شيء خاشع (1) له، و كلّ شيء قائم به: غنى كلّ فقير، و عزّ كلّ ذليل، و قوّة كلّ ضعيف، و مفزع (2) كلّ ملهوف (3). من تكلّم سمع نطقه، و من سكت علم سرّه، و من عاش فعليه رزقه، و من مات فإليه منقلبه. لم ترك العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك. لم تخلق الخلق لوحشة (4)، و لا استعملتهم لمنفعة، و لا يسبقك من طلبت، و لا يفلتك (5) من أخذت، و لا ينقص سلطانك من عصاك، و لا يزيد في ملكك من أطاعك، و لا يردّ أمرك من سخط (6) قضائك (7)، و لا يستغني عنك من تولّى (8) عن أمرك. كلّ سرّ عندك علانية، و كلّ غيب عندك شهادة (9). أنت الأبد (10) فلا أمد (11) لك، و أنت المنتهى فلا محيص عنك (12)، و أنت الموعد فلا منجى منك إلاّ إليك. بيدك ناصية (13) كلّ دابّة، و إليك مصير كلّ نسمة (14).

سبحانك ما أعظم شأنك (15)! سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك! و ما أصغر كلّ عظيمة في جنب قدرتك! و ما أهول (16) ما نرى من ملكوتك! و ما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك! و ما أسبغ نعمك (17) في الدّنيا، و ما أصغرها في نعم الآخرة!.

ص: 223

الملائكة الكرام

و منها: من ملائكة أسكنتهم سماواتك، و رفعتهم عن أرضك، هم أعلم خلقك بك، و أخوفهم لك، و أقربهم منك، لم يسكنوا الأصلاب (18)، و لم يضمّنوا الأرحام (19)، و لم يخلقوا «من ماء مهين (20)»، و لم يتشعّبهم (21) «ريب المنون (22)»، و إنّهم على مكانهم منك، و منزلتهم عندك، و استجماع أهوائهم فيك، و كثرة طاعتهم لك، و قلّة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا (23) كنه (24) ما خفي عليهم منك لحقّروا أعمالهم، و لزروا (25) على أنفسهم، و لعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك، و لم يطيعوك حقّ طاعتك.

عصيان الخلق

سبحانك خالقا و معبودا! بحسن بلائك (26) عند خلقك خلقت دارا، و جعلت فيها مأدبة (27): مشربا و مطعما، و أزواجا و خدما، و قصورا، و أنهارا، و زروعا، و ثمارا، ثمّ أرسلت داعيا يدعو إليها، فلا الدّاعي أجابوا، و لا فيما رغّبت رغبوا، و لا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا، أقبلوا على جيفة (28) قد افتضحوا (29) بأكلها، و اصطلحوا على حبّها، و من عشق شيئا أعشى (30) بصره، و أمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، و يسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت (31) الشّهوات عقله، و أماتت الدّنيا قلبه، و ولهت (32) عليها نفسه، فهو عبد لها، و لمن في يديه شيء منها، حيثما زالت زال إليها، و حيثما أقبلت أقبل عليها، لا ينزجر (33) من اللّه بزاجر، و لا يتّعظ منه بواعظ، و هو يرى المأخوذين على الغرّة (34)، حيث لا إقالة (35) و لا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون، و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم: اجتمعت عليهم

ص: 224

سكرة الموت (36) و حسرة (37) الفوت (38)، ففترت (39) لها أطرافهم (40)، و تغيّرت (41) لها ألوانهم، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا (42)، فحيل (43) بين أحدهم و بين منطقه، و إنّه لبين أهله ينظر ببصره، و يسمع بأذنه، على صحّة من عقله، و بقاء من لبّه (44)، يفكّر فيم أفنى عمره، و فيم أذهب دهره! و يتذكّر أموالا جمعها، أغمض (45) في مطالبها، و أخذها من مصرّحاتها (46) و مشتبهاتها (47)، قد لزمته تبعات (48) جمعها، و أشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، و يتمتّعون بها، فيكون المهنأ (49) لغيره، و العبء (50) على ظهره، و المرء قد غلقت رهونه (51) بها، فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر (52) له عند الموت من أمره، و يزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، و يتمنّى أنّ الّذي كان يغبطه (53) بها و يحسده عليها قد حازها دونه! فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه سمعه، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، و لا يسمع بسمعه: يردّد طرفه بالنّظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم، و لا يسمع رجع كلامهم. ثمّ ازداد الموت التياطا (55) به، فقبض بصره كما قبض سمعه، و خرجت الرّوح من جسده، فصار جيفة بين أهله، قد أوحشوا من جانبه، و تباعدوا من قربه. لا يسعد باكيا، و لا يجيب داعيا. ثمّ حملوه إلى مخطّ (56) في الأرض، فأسلموه فيه إلى عمله، و انقطعوا عن زورته (57).

القيامة

حتّى إذا بلغ الكتاب أجله، و الأمر مقاديره، و ألحق آخر الخلق (58) بأوّله، و جاء من أمر اللّه ما يريده من تجديد خلقه، أماد (59) السّماء و فطرها (60)، و أرجّ (61) الأرض و أرجفها (62)، و قلع جبالها و نسفها، و دكّ

ص: 225

بعضها بعضا من هيبة جلالته و مخوف سطوته، و أخرج من فيها، فجدّدهم بعد إخلاقهم، و جمعهم بعد تفرّقهم، ثمّ ميّزهم (63) لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال و خبايا (64) الأفعال، و جعلهم فريقين: أنعم على هؤلاء و انتقم من هؤلاء. فأمّا أهل الطّاعة فأثابهم (65) بجواره، و خلّدهم في داره، حيث لا يظعن (66) النّزّال، و لا تتغيّر بهم الحال، و لا تنوبهم (68) الأفزاع (69)، و لا تنالهم الأسقام (70)، و لا تعرض لهم الأخطار (71)، و لا تشخصهم (72) الأسفار. و أمّا أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار، و غلّ (73) الأيدي إلى الأعناق، و قرن النّواصي (74) بالأقدام، و ألبسهم سرابيل (75) القطران (76)، و مقطّعات (77) النّيران، في عذاب قد اشتدّ حرّه، و باب قد أطبق على أهله، في نار لها كلب (78) و لجب (79)، و لهب (80) ساطع (81)، و قصيف (82) هائل (83)، لا يظعن مقيمها و لا يفادى (84) أسيرها، و لا تفصم (85) كبولها (86). لا مدّة للدّار فتفنى، و لا أجل للقوم فيقضى (87).

زهد النبي

و منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله: قد حقّر الدّنيا و صغّرها، و أهون بها و هوّنها، و علم أنّ اللّه زواها (88) عنه اختيارا، و بسطها لغيره احتقارا، فأعرض عن الدّنيا بقلبه، و أمات ذكرها عن نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها (89) عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا (90)، أو يرجو فيها مقاما. بلّغ عن ربّه معذرا (91)، و نصح لأمّته منذرا، و دعا إلى الجنّة مبشّرا، و خوّف من النّار محذّرا.

أهل البيت

نحن شجرة النّبوّة، و محطّ (92) الرّسالة، و مختلف الملائكة (93)

ص: 226

و معادن العلم، و ينابيع الحكم، ناصرنا و محبّنا ينتظر الرّحمة، و عدوّنا و مبغضنا ينتظر السّطوة.

اللغة

1 - خاشع: خاضع ذليل.

2 - مفزع: ملجأ و فلان مفزع الناس أي ملجأهم.

3 - الملهوف: المظلوم المضطر المستغيث المتحسر.

4 - الوحشة: ضد الأنس، نفور القلب من الأشياء.

5 - يفلت: يتخلّص.

6 - سخط: غضب.

7 - القضاء: الحكم.

8 - تولى: عنه أعرض عنه و تركه.

9 - شهادة: حضور.

10 - الأبد: الدائم.

11 - الأمد: الغاية و منتهى الشيء.

12 - لا محيص: لا خلاص و لا مهرب.

13 - الناصية: الشعر المسترسل في مقدمة الرأس أو منبت الشعر منها.

14 - النسمة: النفس.

15 - الشأن: العظيم من الأمور و الأحوال.

16 - أهول: ما أعظم من هال الأمر فلانا إذا أفزعه و عظم عليه.

17 - أسبغ النعمة: أوسعها و أتمها.

18 - الأصلاب: جمع صلب، فقرات عظم الظهر.

19 - الأرحام: جمع رحم مكان نمو الجنين من المرأة.

20 - المهين: الحقير.

21 - تشّعبهم: تفرّقهم.

22 - ريب المنون: المنون الدهر و ريبه ما يكره من حوادثه.

23 - عاينوا: رأوا الشيء بأعينهم.

24 - كنه: الشيء حقيقته و أصله.

25 - زروا: عليه استهزءوا به و عابوا فعله.

ص: 227

26 - البلاء: الامتحان و الاختبار و قد يكون نعمة إذا فاز و قد يكون نقمة إذا فشل.

27 - المأدبة: بضم الدال و فتحها ما يصنع من الطعام للمدعوين في عرس و نحوه.

28 - الجيفة: جثة الميت المنتنة.

29 - افتضحوا: كشفوا مساويهم.

30 - أعشى: من العشى و هو مرض يصيب العين يمنع من الرؤية ليلا و أعشى أي أعمى.

31 - خرقت: مزقت و خرق السهم الثوب إذا نفذ فيه.

32 - ولهت: تحيرت من شدة الوجد.

33 - ينزجر: يرتدع و يكف.

34 - الغرة: بكسر الغين الغفلة.

35 - الإقالة: الموافقة على نقض البيع، و تقايلا إذا فسخا البيع.

36 - سكرة الموت: شدته و غشيته.

37 - الحسرة: التلهف.

38 - الفوت: ما مضى، ما ذهب وقت فعله.

39 - فترت: سكنت.

40 - الأطراف: النواحي و أطراف الإنسان رجليه و يديه و رأسه.

41 - تغيرت: تحولّت و تبدّلت.

42 - الولوج: الدخول.

43 - حيل: من حال حولا و حؤولا و حيلولة بينهما حجز و اعترض.

44 - اللب: العقل الخالص من الشوائب أو ما ذكا من العقل.

45 - أغمض: عينيه أطبقهما فلم يعد يرى و المراد أنه لم يفرق بين حلال و حرام.

46 - مصرحاتها: الظاهرة البينة.

47 - المشتبهات: الأمور المشكلات و المشتبه المشكل و الملتبس.

48 - التبعات: جمع التبعة الإثم.

49 - المهنأ: مصدر هنيء و هنؤ بالكسر و الضم و من الطعام ما سهل و لذ و طاب.

50 - العبء: جمع أعباء الحمل و الثقل.

51 - الرهون: الرهن و هو ما يوضع تأمينا للدين و علقت رهونه استحكمت و عجز عن فكها.

52 - أصحر: ظهر و برز و أصله من أصحر القوم إذا ظهروا من مكامنهم إلى الصحراء.

53 - الغبطة: تمني نعمة على أن لا تحول عن صاحبها.

54 - حازها: ضمها و جمعها إليه.

ص: 228

55 - التياطأ: التصاقا.

56 - المخط: هو الخط سماه كذلك لرقته يعني اللحد.

57 - زورته: زيارته.

58 - الخلق: الناس.

59 - أماد: حرّك من ماد يميد إذا تحرك.

60 - فطرها: صدعها.

61 - أرج: زلزل.

62 - أرجفها: أي جعلها راجفة مرتعدة متزلزلة.

63 - ميزهم: فرز بعضهم عن بعض.

64 - الخبايا: جمع خبيئة ما خبىء.

65 - الإثابة: المجازاة و أثاب الرجل إثابة جازاه.

66 - خلدهم: أدامهم و أبقاهم باستمرار.

67 - لا يظعن: لا يرحل.

68 - تنوبهم: تعرض عليهم و تعاودهم.

69 - الأفزاع: جمع فزع و هو الخوف.

70 - الأسقام: الأمراض.

71 - الأخطار: جمع خطر ما يشرف به على الهلكة.

72 - تشخصهم: من أشخصه إذا أزعجه و أخرجه عن منزله.

73 - الغلّ : الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه.

74 - النواصي: مقدم الرأس أو شعره.

75 - السرابيل: جمع سربال القميص.

76 - القطران: مادة لزجة منتنة تطلى بها الإبل الجرباء.

77 - المقطعات: بضم الميم الثياب القصار.

78 - الكلب: الشدة.

79 - اللجب: الصوت المرتفع.

80 - اللهب: لسان النار.

81 - الساطع: المرتفع المنتشر.

82 - القصيف: الصوت الشديد.

83 - الهائل: المفزع و من الأمور الذي عظم عليك.

84 - لا يفادى: من الفدية ما يعطى عوض المفدي.

85 - تفصم: تكسر.

86 - كبولها: أغلالها.

ص: 229

87 - يقضى: ينتهى منه.

88 - زواها: نحّاها، و قبضها.

89 - الزينة: ما يتزين به و زينة الدنيا مقتنياتها و ما فيها من مال و بنين.

90 - الرياش: الثياب الفاخرة.

91 - المعذر: من بيّن للناس الحجة التي تلزمهم تبعاتها إن خالفوا.

92 - المحط: المنزل.

93 - مختلف الملائكة: بفتح اللام محل اختلافهم أي ورودهم واحدا بعد الآخر.

الشرح

(كل شيء خاشع له و كل شيء قائم به). كل مخلوقات اللّه خاشعة للّه خاضعة له و خضوع كل شيء بحسبه لأنه العظيم القوي و ما دونه الضعيف الحقير و أما قيام كل شيء به لأن كل ما عداه ممكن الوجود و يحتاج في أصل وجوده و كمال وجوده و إكمال وجوده إلى اللّه سبحانه و تعالى إما مباشرة أو بالواسطة و لو تخلّى عنه لحظة لانهار و انعدم.

(غنى كل فقير و عز كل ذليل). كل ما دون اللّه فهو فقير محتاج و باللّه خرج من زاوية العدم إلى الوجود و باللّه كان كل موجود و باللّه كان غنى كل موجود.

كما أن الذليل الحقير المهين إذا آمن باللّه و استقام كما أمر كان عزيزا قويا و كم من الضعفاء تحولوا إلى أعزة عند ما نبذوا الأصنام و الأهواء و توجهوا للّه و اعتمدوا عليه فبلال الحبشي و صهيب الرومي و سلمان الفارسي أصبحوا باللّه أعزة.

(و قوة كل ضعيف و مفزع كل ملهوف). باللّه يصبح الضعيف قويا، لأن هذا الضعيف إذا اتصل باللّه اتصل بمصدر الوجود و بأصل كل موجود و من آمن باللّه فهو موصول العرى بأعظم قوة في العالم بل كل العالم في قبضته و تحت قدرته إن شاء فعل و إن شاء منع و من هذا التصور يكبر الإنسان المتصل باللّه و يقوى بل يتحدى العالم كله منفردا عند ما يدخل هذا الإيمان إلى قلبه كما تحداه إبراهيم الخليل فكان أمة برأسه يتحدى الطغاة و الجبابرة لأنه يشعر باستمداد القوة من اللّه، القوة المطلقة في عالم الوجود الموجهة لكل ما فيه...

و كذلك فإلى اللّه يلجأ كل مكروب خائف مستغيث، فعند ما تتقطع الأسباب و تنسد الأبواب و لم يعد في الوجود من يلجأ إليه عندها و من أعمق أعماق هذا الإنسان

ص: 230

و بالاضطرار و القهر و بدون التفات و تنبّه يصرخ المضطر بصوت كله رقة و عطف و استغاثة «يا اللّه» إنها الكلمة التي ينطقها الإنسان من أعمق شعوره و من فطرته و أساس تكوينه «يا اللّه» حقيقة تنطوي عليها كل نفس تظهر قهرا عن كل الناس حتى الجاحدين لمضمونها و المنكرين لوجودها، حتى هؤلاء يرجعون إلى اللّه في كشف كربتهم و إزالة علتهم، يلتفت الإنسان لا شعوريا إلى القوة المطلقة القادرة على إغاثته فلا يجد غير اللّه يعينه و ينجيه...

و هذا مضمون قوله تعالى: «وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ ثُمَّ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ » و قال تعالى: «وَ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّٰ إِيّٰاهُ » .

(من تكلم سمع نطقه و من سكت علم سره). هذا إشارة إلى عموم علمه و إنه كما يعلم كل ما يتكلم به الإنسان يعلم ما يسره و يكتمه إنه «يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ » .

(و من عاش فعليه رزقه و من مات فإليه منقلبه). إنه سبحانه الحاكم في الدنيا و في الآخرة فمن عاش فاللّه هو رازقه و به تقوم حياته و من مات فإلى اللّه يرجع و إليه الحساب يجزي المطيع بالجنة و العاصي بالنار، و هذا رد لهذا الإنسان إلى حقيقته و أنه في كلا الدارين تحت عين اللّه...

(لم ترك العيون فتخبر عنك بل كنت قبل الواصفين من خلقك). تنزيه للّه أن يقع تحت بصر لأن من يقع تحت الأبصار يكون محدودا و المحدود ممكن محتاج إلى المكان و اللّه منزه عن ذلك هو واجب الوجود و لكن إذا لم تره العيون فقد رأته القلوب بحقائق الإيمان...

بل كيف يخبر عنك الواصفون و أنت كنت قبل خلقهم أي الأصل في خلقهم و المنزه عن الجسمية التي هي من عوارض الإمكان...

(لم تخلق الخلق لوحشة و لا استعملتهم لمنفعة). هذا تنزيه للّه عما يعتري المخلوقات من الناس فإن المتفرد منهم يستوحش فيطلب ما يؤنسه و يزيل وحشته و اللّه سبحانه لا يتأثر بالكون و ما فيه فلم يخلق ما خلق من أجل أن يرفع استيحاشه.

كما أنه لم يكلفهم بما كلفهم به من أجل أنه محتاج يريد أن ترجع المنفعة إليه بل هو غني بالذات و ما كلفهم إلا لصالحهم و ما ينفعهم...

(و لا يسبقك من طلبت و لا يفلتك من أخذت). من طلبته أدركته و لن يفوتك أخذه و من أخذت لن يفلت منك و يهرب من بين يديك و هذا إشارة إلى كمال قدرته و هذا

ص: 231

مضمون ما نطق به الجن و صدقه القرآن في قولهم: «وَ أَنّٰا ظَنَنّٰا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اَللّٰهَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» (1).

(و لا ينقص سلطانك من عصاك و لا يزيد في ملكك من أطاعك). المعصية للّه لا تهدّ سلطانه و لا تؤثر في ملكه كما أن من أطاعه لا يزيد في ملكه و لا يقويه و يدعمه كما هو حال ملوك الدنيا الذين يتزلزل سلطانهم بعصيان الناس لهم و تمردهم عليهم و يقوى و يشتد كلما أطاعهم الناس و التفوا حولهم...

(و لا يرد أمرك من سخط قضاءك و لا يستغني عنك من تولى عن أمرك). إذا أراد اللّه أمرا نفذ و إن لم يرضه العباد «إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » لأن اللّه لا يفعل إلا لحكمة و له السلطة الكاملة على خلقه و سخطهم و عدم رضاهم فلضعفهم و جهلهم بمقام الربوبية...

كما أن من تولى عن طاعة اللّه و أمره لم يستغن عن عونه و حاجته إليه باعتبار إمكانه و حاجته و الممكن المحتاج بحاجة دائما إلى الغني الكريم بالذات.

(كل سر عندك علانية و كل غيب عندك شهادة). الأمور كلها منكشفة للّه على مستوى واحد فليس هناك سر و آخر جهر و ليس هناك غائب و آخر حاضر و ذلك لأن علمه أحاط بكل شيء و هي كلها منكشفة لديه إنه «يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ » يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور.

(أنت الأبد فلا أمد لك و أنت المنتهى فلا محيص عنك). أنت الدائم فلا غاية لك يقف عندها وجودك لأنه واجب الوجود الذي لا ينتهي كما أن الرجوع إليه فلا مهرب من لقائه و لا خلاص من عذابه قال تعالى: «أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىٰ » .

(و أنت الموعد فلا منجى منك إلا إليك). إليك يعود الخلق و هم على ميعاد معك يوم الحساب و لا ينجي من عذابك و عقابك إلا الرجوع إليك و التوبة من الذنوب و إصلاح ما فسد و طلب العفو و الغفران منك قال تعالى: «إِنَّ إِلَيْنٰا إِيٰابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا حِسٰابَهُمْ » .

(بيدك ناصية كل دابة و إليك مصير كل نسمة). مخلوقاتك كلها تحت سلطانك و بيدك زمامها تفعل بها ما تشاء و كنى بالناصية عن قدرته عليها قال تعالى: «مٰا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّٰ هُوَ آخِذٌ بِنٰاصِيَتِهٰا» قال الطبرسي في مجمع البيان: أي ما من حيوان يدب على2.

ص: 232


1- سورة الجن آية - 12.

وجه الأرض إلا و هو مالك لها يصرفها كيف يشاء و يقهرها و جعل الأخذ بالناصية كناية عن القهر و القدرة لأن من أخذ بناصية غيره فقد قهره و أذله...

و إلى اللّه مصير كل روح إليه سبحانه ترجع كل نفس فيجازيها على ما عملت و يحاسبها عما اقترفت...

(سبحانك ما أعظم شأنك). تنزيه للّه يراد به التعجب من أمر اللّه و حكمه و أن أمره أعظم من أن يوصف أو يحد و يؤطر...

(سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك). ننزهك يا رب عن كل أمر يصغرك و نحن نرى خلقك ما أعظمه و أجله و أكبره و كيف يعدد العبد المحدود مخلوقاتك و هل يقدر على إحصائها بأنواعها و أفرادها و مشخصات كل فرد و توجه كل فرد و طريقة كل فرد...

(و ما أصغر كل عظيمة في جنب قدرتك). مهما عظم خلقك من سماوات و أرضين و بر و بحر و ليل و نهار و ما يدب على الأرض أو يطير في الجو كلها حقيرة صغيرة بالنسبة إلى قدرتك فإنها لا تحد و لا توصف.

(و ما أهول ما نرى من ملكوتك و ما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك). هذا تعجب من عظيم ما نشاهد و نرى من ملك اللّه و أنه كبير عظيم يقف الإنسان أمامه يمجد اللّه و يحمده و لكن مع كل عظمة ملكه فهو حقير أمام ما غاب من سلطانه الممتد إلى أعالي السماء مما هو مستور عنا تحت أستار القدرة و في حجب العزة من بدايع ما في الملأ الأعلى و لعل بعض مشاهدات النبي في معراجه تدلل على هذه العظمة التي نقرأها في كل ما خفي في ملكوت اللّه...

(و ما أسبغ نعمك في الدنيا و ما أصغرها في نعم الآخرة). تعجب من سعة نعم اللّه على عباده في الدنيا بحيث شملت البر و الفاجر و تناولت كل حاجات هذا الإنسان و لكن استصغرها بالنسبة إلى نعم الآخرة لأن نعم الدنيا محدودة بحدود الدنيا فحسب و أما نعم الآخرة فلا حدود لها و لا انتهاء و ما لا حد له و لا انتهاء يصغر بالنسبة إليه ما يحد و ينتهي و هذا ترغيب لنا في الآخرة لنسعى من أجل نعيمها و ما فيها...

(من ملائكة أسكنتهم سماواتك و رفعتهم عن أرضك). يذكر الملائكة الذين مع قربهم من اللّه لم يؤدوا حقه و لم يعبدوه حق عبادته.

و إن من عظيم خلق اللّه ما خلق من ملائكة عظم قدرهم بأن جعل مسكنهم في السماء و رفعهم عن الأرض و طينتها تشريفا لهم و تكريما.

ص: 233

(هم أعلم خلقك بك و أخوفهم لك و أقربهم منك). هذه أوصاف كريمة للملائكة تجعلهم في المحل الأعلى و هي:

الأولى: إن الملائكة أعلم خلق اللّه باللّه فقد وصلوا إلى مرحلة متقدمة في علمهم باللّه و لم يصلوا إلى نهاية المعرفة.

الثانية: إن الملائكة أخوف خلق اللّه للّه و هذا نتيجة المعرفة الصادقة فمن عرف قدرة اللّه خاف منه و لذا قال تعالى: «إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ » . الثالثة: إن الملائكة أقرب خلق اللّه للّه و هذا القرب ليس مكانيا و إنما تشريفيا و مرتبة على غيرهم لأن هذا أيضا نتيجة علمهم باللّه و خوفهم منه...

(لم يسكنوا الأصلاب و لم يضمنوا الأرحام و لم يخلقوا من ماء مهين و لم يتشعبهم ريب المنون). و هذه أوصاف بشرية ينفيها الإمام عن الملائكة.

فهم لم الآباء و لم تحتويهم أرحام الأمهات و لم يخلقوا من ماء حقير - و هو مني الرجل - و لم يفرّق شملهم الموت كما يحدث لبني آدم.

(و إنهم على مكانهم منك و منزلتهم عندك و استجماع أهوائهم فيك و كثرة طاعتهم لك و قلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم و لزروا على أنفسهم و لعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك و لم يطيعوك حق طاعتك). يبيّن عليه السلام بعض خصائص الملائكة و أنهم على مكانتهم السامية القريبة من اللّه و منزلتهم الرفيعة عنده و التقاء كل أهوائهم و توجهاتهم في اللّه و كثرة طاعتهم له و قلة الغفلة عن أمر اللّه مع كل ذلك لو أدركوا حقائق ما خفي عنهم و ما حجب عن أبصارهم و معرفتهم لأدركوا حقارة أعمالهم و عابوا أنفسهم بهذه الطاعات القليلة و عرفوا عندها أنهم لم يعبدوه كما يستحق و إنما عبدوه على قدر معرفتهم و لم يطيعوه كما هو أهل و هذا منه تعليم لنا و تهذيب و حث على طاعة اللّه و أن لا يأخذنا العجب من بعض أعمال مطلوبة منا نؤديها...

(سبحانك خالقا و معبودا بحسن بلائك عند خلقك). أنزهك يا رب عما لا يليق بك حالة كونك خالقا للخلق و معبودا لهم دون شريك معك أو ند بسبب ما جعلت من البلاء و الامتحان لخلقك فإنك أردت إيقافهم على الصالح و الطالح و الشقي و السعيد فاختبرتهم بما أردت من وجوه البلاء و الامتحانات...

(خلقت دارا و جعلت فيها مأدبة: مشربا و مطعما و أزواجا و خدما و قصورا و أنهارا

ص: 234

و زروعا و ثمارا). أشار إلى الدار الآخرة و أن اللّه خلقها و جعل فيها مأدبة كريمة فيها ما تستلذ الأعين و تستطيب الأنفس و عدد من أصناف تلك النعم الممتدة فوق هذه المائدة المشروب من لبن و عسل مصفى، و من المطعوم ما يهنأ به الآكل و يلتذ و من الأزواج حور عين و من المساكن قصور و من مميزاتها أن فيها أنهارا تجري من تحتها تسر الناظرين و زروع تبهج النظر و ثمار طيبه الطعم...

(ثم أرسلت داعيا يدعو إليها فلا الداعي أجابوا و لا فيما رغبتّ رغبوا و لا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا). خلق اللّه الدار الآخرة و جعل فيها مأدبة و أرسل رسله يدعون إليها فأجهدوا أنفسهم ليحملوا الناس على دخولها و قد كانت مشقات و أتعاب و ألم و عذاب و لكن لسوء حظ هؤلاء الناس و لتعاستهم و شقائهم لم يستجيبوا للرسل و لم يقبلوا من الأنبياء و ذهبت كل مرغباتهم أدراج الرياح و كل ما شوقوهم إليه فيها مما أعده اللّه هباء منثورا لم يتأثروا بشيء منه و لم يستجيبوا للدعاة إلى الجنة و لم يقبلوا منهم دعوتهم.

(أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها و اصطلحوا على حبها). تركوا الآخرة و رفضوا دعوة الأنبياء إليها و لم يقبلوا منهم قولا.

ثم أقبلوا على جيفة و هي الدنيا و ما فيها و ما أقبح هذه الصورة و ما أصدقها على الدنيا و قد وصفتها جملة من الأحاديث بهذا الوصف المنفر المبعّد و لكن مع هذا ترى إقبال أهلها عليها و حبهم لها و تضحيتهم من أجلها...

إنها جيفة أقبل عليها الناس كل واحد يأخذ منها ما يقدر عليه قد افتضحوا بأكلها أي ظهرت معايبهم لذوي الأبصار و الأفهام من حيث تكالبهم عليها و تقاتلهم للوصول إليها و بالدنيا تمتحن الرجال فعند ما تأتي إليك و ترفضها فأنت أنت، و أما إذا لم تقع بيدك، و لم تقدر عليها فليس لك كبير فضل إن زهدت فيها و ابتعدت عنها...

و أما قوله و اصطلحوا على حبها فهو كناية عن التوافق على محبتها فقد تراضى الناس أن يأخذ كل واحد منها ما يقع تحت يده منها دون أن ينكر عليه الآخر أو يردعه و يرده أو يعظه و يحذره...

(و من عشق شيئا أعشى بصره و أمرض قلبه). و هذه قاعدة عامة و كبرى كلية في كل المجالات، إنها الحقيقة السافرة التي كشفت القناع عن كل أمر، من أحب امرأة لم يعد يرى سواها.. يراها في أعلى مراتب الجمال و في أسمى منازل الكمال و لا يقبل عليها حديثا باطلا و لا كلمة سوء و إن كانت حقا.. و من أحب المال فلا يعود يرى إلا بريقه و وسائل الوصول إليه و تتعطل عنده كل مواعظ الأنبياء و تزهيدهم فيها و في رفضها...

ص: 235

و من أحب اللّه لم يعد يرى أحدا معه و استولى حبه حتى وصل إلى شغاف القلب فلم يعد يبصر أحدا معه في الوجود...

و هذه الكبرى الكلية و القاعدة العامة تنطبق على من أحب الدنيا إنه لم يعد يرى شيئا سواها فتغيب عن نظره الآخرة و ما فيها و تختفي القيم و المثل و كل كرامة و شرف و يمرض قلبه من حيث لا يعود يفكر فيها و في عواقبها و ما ينتج عن العبودية لها...

(فهو ينظر بعين غير صحيحة و يسمع بأذن غير سميعة). تتعطل حواس المحب بل تنقل الأشياء على خلاف واقعها لصالح المحب فمن أحب شيئا يرى فيه قمة الكمال و إن كان في الحضيض و يتحول القبح إلى جمال و الاعتداء إلى اعتدال و يتحول ما يسمعه من حديث عنه إلى مناقب له و إن كان فيه مذمة و هذا مصداق ما يقوله الشاعر:

و عين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا

(قد خرقت الشهوات عقله و أماتت الدنيا قلبه و ولهت عليها نفسه فهو عبد لها و لمن في يديه شيء منها حيثما زالت زال إليها و حيثما أقبلت أقبل عليها). فهذا العقل الذي هو حصن حصين و الذي من عادته أن يمنع صاحبه من التردي و الوقوع في المهالك و الرذائل قد انخرق و تمزق فقد خرقته الشهوات و مزقته و نفذت فيه من جهة إلى أخرى و بذلك فقد حصانته و مناعته و فقد بالتالي قيمته و ما قيمة عقل تغلبه شهوة فرج أو شهوة بطن ؟! و ما قيمة عقل تغلبه شهوة ملك أو مال ؟!.

و أما هذا القلب فقد أماتته الدنيا لم يعد يحمل القلب الذي يرق على الضعفاء و الفقراء و المساكين و أهل الحاجة لقد مات الحس الداخلي في هذا القلب فلم يعد ينتفع به...

و استولى حب الدنيا على نفسه و تاه في حبه لها حتى عشقها فأضحى عبدا لها و لمن في يديه شيء منها فتراه يذل نفسه من أجل الحصول عليها، و يبيع كرامته و عزته كما يبيع وطنه و داره من أجل هذه الدنيا و يميل مع من تكون فهو مع هذا النظام الذي يوفر له الدنيا و إن كان من أفسد الأنظمة و أبعدها عن اللّه و قد يكون مع ذاك و هكذا دواليك ليس له ضوابط إلا الدنيا و منافعها و من أجلها تهون كل كرامة و من أجل الوصول إليها تذوب كل فضيلة و منقبة و كل قيم السماء و دعوات الأنبياء...

و قد مرّ علينا في حياتنا نماذج رهيبة ممن يميلون مع الدنيا و مع من تكون فهذا العالم الفذ الكبير يشتم فلانا ثم يصير من أتباعه بل يكيل له المدح و الثناء فتروح تفتش عن أسباب هذا الإنقلاب تدرك أنه كان يشتمه لأنه لم ينل من عطائه و لم يحصل على ما

ص: 236

حصل عليه غيره منه فليس شتمه و إهانته غضبا للدين و حفظا لشريعة سيد المرسلين و إنما كان غضبه للدنيا و لمن حرمه شيئا منها...

(لا ينزجر من اللّه بزاجر و لا يتعظ منه بواعظ). أمام المحب للدنيا و العاشق لها و المتطلع إلى ملذاتها تسقط كل زواجر اللّه التي بثها اللّه في كتبه و على ألسنة رسله كما أن كل المواعظ تفقد مفعولها و تتعطل و تسقط عن الاعتبار، يقفل على القلب و تتعطل أجهزة الاستقبال فيه فمهما بالغ الوعاظ و المرشدون و مهما بذلوا من قدرة و طاقة لحمله على الطاعة و الابتعاد به عن المعصية لم يفلحوا بل ارتدت عليهم دعوتهم بالاستهزاء بهم و التصغير لشأنهم...

(و هو يرى المأخوذين على الغرة حيث لا إقالة و لا رجعة). الضمير يعود إلى عبد الدنيا و الإمام هنا يشرح تفاصيل الموت و يبتدأ في هذا الفصل بهذه الالتفاتة الكريمة و يشرح فيها غفلة هذا الإنسان بأنه يرى من فاجأهم الموت فأخذهم إليه فقد كانوا في ريعان الشباب و كانوا يتطلعون إلى المستقبل بأمل عريض يرسمون خلاله الحياة التي ينشدون و يرغبون و لكنه الموت الذي هجم عليهم و هم في آمالهم فأخذهم و عندها فلا إقالة من عمل سيئ و لا رجوع إلى الدنيا كي يصلحوا ما أفسدوا و يرمموا ما خربوا...

(كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون و جاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون). هجم عليهم الموت بتفاصيله و خصوصياته و قد كانوا يجهلون هذه التفاصيل و الخصوصيات و ما يلاقونه عند ما يحل بساحتهم.

كما أنهم كانوا يأمنون إلى صحة أبدانهم و سلامتها و إلى أموالهم و كثرتها و كانوا لا يفكرون تفكير من يفارقها و لكن الآن بعد أن جاءهم الموت عرفوا الفراق لكل ما يحبون.

كما أن ما كانوا يوعدون فيه في الآخرة من العذاب و العقاب قد وصلوا إليه و أدركوه بل هم يعيشونه حقيقة تمارس عليهم...

(فغير موصوف ما نزل بهم: اجتمعت عليهم سكرة الموت و حسرة الفوت).

و كيف يصف الموت إلا من حل به أو تلقى أخباره عن النبي، إنه فوق الوصف اجتمعت على هذا العبد الآبق سكرة الموت أي آلامه و عذابه و حسرة الفوت حسرة ما فاته من الأعمال الصالحة التي ضيعها أو حسرة الترك للواجبات التي يتمنى لو أتى بها و امتثلها...

(ففترت لها أطرافهم و تغيرت لها ألوانهم ثم ازداد الموت فيهم و لوجا فحيل بين

ص: 237

أحدهم و بين منطقه). فهذه الأعضاء من اليد و الرجل و العين و الأذن كانت قوية تملك الحركة و لكن عند ما نزل بها الموت سكنت و تراخت و لم تعد تقوى على الحركة أو التحرك و أما ألوانهم التي كانت تزهر و كانت تحكي عن النعيم و نضرته هذه قد سحبت و تغيّرت عما كانت عليه إنها تنطق بعظيم ما حل بها و نزل بساحتها و هكذا تحرك الموت في جميع أجزاء البدن و ابتدأ يغزو كل ناحية من هذا الجسم و يتغلغل في كل زاوية حتى بلغ الأمر أن امتنع المحتضر عن الكلام و توقف عن الحديث و لم يعد يقدر على النطق مع كونه مالكا لآلة النطق و أدواته... (و إنه لبين أهله ينظر ببصره و يسمع بأذنه على صحة من عقله و بقاء من لبه).

فالجسد بكامل أعضائه قائم تام، إنه مسجى بين أهله ينظر يبصره يقلبه في الحضور بين أبنائه و أزواجه و حفدته و يسمع بأذنه كل ما يتكلمون به و يتحدثون عنه في كمال العقل و الفهم و الوعي و لكنه مع ذلك لا ينطق و لا يتكلم و إنما يرى و يسمع فحسب...

(يفكر فيم أفنى عمره و فيم أذهب دهره). هذه الساعات الأخيرة من الدنيا يرجع الإنسان فيها إلى نفسه و يعيد حساباته من جديد، إنها ساعات الاستحقاق يجب أن يدفع فاتورتها هذا المسجى على فراش الموت، إنه يفكر في أغلى ما عنده، يفكر في رصيده كيف ضيعه و أهدره... الآن و هو يلفظ أنفاسه يفكر في عمره الذي انقضى و مضى كيف أفناه في اللهو و متع الدنيا و ملذاتها فتأكل الحسرة قلبه و يتمنى أن يكون قد قدّم ليومه هذا و لما بعده...

و هذا الوقت الذي مضى من عمره أيام شبابه و كهولته و شيبته، كيف تصرّم ذلك الوقت و كيف لم يستفد منه لحياته الباقية.. إنها ساعات صعبة يستحضر الإنسان فيها عمره الماضي ليتمنى من خلال هذا الاستحضار لو أنه عمل لآخرته...

(و يتذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها و أخذها من مصرحاتها و مشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها و أشرف على فراقها). و هذه أيضا من جملة ما يستحضره المحتضر، إنه يلتفت إلى أمواله التي جمعها و لمّها دون أن يسأل عن مصدرها ككثيرين منا يهمهم المال يجمعونه من أي سبيل كان، من حلال أو حرام أو من موارد الشبهات لم يتحروا مصادره الشرعية بل اغمضوا أعينهم عنها.. هؤلاء سيأتي عليهم وقت يأسفون لكل قرش لم تتضح مصادره الشرعية، و ستأكل الحسرة قلوبهم عند ما تتقطع بهم الأسباب و لم يقدروا على إعادتها لأهلها، لقد لحقتهم آثارها من العذاب و العقاب و فارقوها لغيرهم يتمتعون بها...

ص: 238

(تبقى لمن وراءه ينعمون فيها و يتمتعون بها فيكون المنهأ لغيره و العبء على ظهره و المرء قد غلقت رهونه بها). و هذه حال الأغبياء في الدنيا إنهم يجمعون الأموال لا ينظرون إلى حلالها من حرامها بل ينظرون إلى ما تكدس عندهم منها و عند ما تأتي ساعتهم و تقع منيتهم يفارقونها و يتخلون عنها للورثة فيكون الغرم عليهم حيث يعذبون بها و تنالهم النار بسببها بينما تأتي إلى الورثة حلالا صافية لعدم علمهم بمصادرها فيأتون و يتمتعون و يتهنئون بها فالمهنأ لغيره و العقاب عليه و هل هناك أكثر تعاسة و غباء ممن يجمع لغيره و يعذب من أجل أن يوفر له الملذات و الطيبات و قد كان باستطاعته أن يوفر لنفسه و لغيره ما يكون عن طريق الحلال...

لقد استحكمت تبعاتها فيه و لا يمكنه الخلاص من تلك الآثار، لقد لزمته و سيحارب على جمعها من غير طرقها المشروعة...

(فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره و يزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره و يتمنى أن الذي كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه). عند الموت تنكشف الدنيا على حقيقتها و يدرك هذا الإنسان ما كان يحذّره منها المرشدون و المبلغون، لقد وقف أمام الحقيقة عارية لا يحجبه عنها شيء، لقد وصلته الأنباء من قبل.. إنه سيفارق الأموال و الدور و القصور و الأهل و الولد و سيدرك أن العمل الصالح الذي كان يحضه عليه أهل الخير هو الباقي النافع المفيد، سينكشف أمام بصره عند الموت كل شيء و سيعض يده ندامة ستأكل الحسرة قلبه على ما فرط في جنب اللّه و ما عمل من حرام و ارتكب من موبقات... سيعض يده حسرة و ندامة على ما ظهر له من حقائق نافعة يتمنى لو قام بها و من حقائق باطلة يتمنى لو اجتنبها، و سيدرك أن الذي كان يرغب فيه عند ما كان على قيد الحياة من المال و الجاه و المنصب قد زهد فيه الآن لأنه عرف أنه لن يدوم و لن يبقى و إنه سيفارقه... لقد زهد الآن و هو في ساعة الاحتضار زهد بكل ما كان يرغب فيه و يحبه و يتمناه في أيام عمره في الدنيا...

و كذلك يتمنى أن من كان يغبطه على الدنيا أو يحسده عليها قد أوتيها دونه ليناله ما ناله من ندم و حسرة و ألم...

و هكذا أبناء الدنيا وكلنا من أبنائها لا ننتبه إلى أنفسنا و ما ينفعها إلا بعد أن نقع على فراش الاحتضار عندها فقط تنكشف لنا الأمور و ندرك الحقائق و نتمنى أن نكون قد هجرنا الدنيا و ما فيها من متع زائلة فانية لا تدوم و توجهنا إلى ما يبقى و يدوم...

(فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه و سمعه فصار بين أهله لا ينطق

ص: 239

بلسانه و لا يسمع بسمعه يردد طرفه بالنظر في وجوههم يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم). و الموت يبتدأ بحركة بطيئة يسري كالمخدّر في جسد الإنسان ثم يشتد و يعنف حتى يبلغ درجة يمنعه عن الكلام و عن السمع فهو مطروح بين أهله لا ينطق بلسانه و لا يسمع منهم شيئا، لقد تعطل لسانه كما تعطل سمعه، و لم يعد يملك إلا بصره ينقله بين الحضور يرى حركات شفاههم و لكن لا يسمع حديثهم و لا يفهم ما يقولون.

(ثم ازداد الموت التياطا به فقبض بصره كما قبض سمعه و خرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله). و هذه صورة تحكي آخر لحظات هذا الإنسان في الدنيا.. تحكي قصة الموت الذي أجهز على هذا المخلوق، إنه بقي يتغلغل في هذا الجسد و يسلب من كل عضو دوره و حركته و فاعليته حتى أتى على البصر فقبضه و منعه من أداء دوره كما قبض سمعه من قبل و منعه من أداء دوره و عندها خرجت الروح من الجسد... هذه الروح التي كانت تحرك هذا الجسد بطوله و عرضه قد خرجت منه فأصبح جيفة بين أهله ينفرون منها و يشمئزون من وجودها و إذا تأخرت عن المواراة قليلا تخرج رائحتها فتزعج القريب و البعيد... إنها صورة تستدعى من هذا الإنسان أن لا يعطي هذا البدن كل همه و لا يبحث عن راحته و لذته إلا من خلال ما أمر اللّه أو أباح و لا يخرج عن ذلك تحت أي ظرف أو اضطرار...

(قد أوحشوا من جانبه و تباعدوا من قربه لا يسعد باكيا و لا يجيب داعيا). فهذا الحبيب الذي كان يتمنى الحبيب رؤيته و يطلب القرب منه... هذا الأخ القريب الذي كان ينشر الأنس قبل لحظات هذا الولد الذي لا يقدر على فراقه والداه.. هذا الخليل الذي كان يذوب رقة لخليلته.. هؤلاء جميعا تتبدل أحوالهم بعد الموت تبدل الأنس بالوحشة فلا يقدر أحد من الأحبة على البقاء مع حبيبه الذي مات.. إنه يخاف و يخشى منه و هو ميت... يبطل التفكير و تتعطل قوى العقل فيخاف من ميت حبيب فيتباعد عنه و يهرب منه...

و هذا الميت الذي كان يلبي من دعاه قبل قليل لم يعد يستجيب لأحد حتى لأعز الناس و من كان أشدهم طوعا له كما أنه لا يرفع دمعة مسكين عليه أو يجبر قلب يتيم له...

(ثم حملوه إلى مخط في الأرض فأسلموه فيه إلى عمله و انقطعوا عن زورته).

و هذه هي نهاية هذا المخلوق مع أهله و هذا غاية ما يقدمونه إليه، إنهم يحملون جنازته إلى مقره الأخير... إلى حفرة صغيرة حقيرة تداس بالأقدام و ينظر إليها العابرون بدون مبالاة...

ص: 240

يحملونه إلى مقره و يتركونه إلى عمله و هنا يبرز دور العمل الصالح الذي كان يرغب فيه أو يزهد فيه... إنه و عمله يخضع لحكمه و يقبل ما يصدر عليه منه... فإن كان صالحا آنسه و إن كان سيئا استوحش منه... لقد تركه أهله إلى عمله و انقطعوا عن زيارته.

كانوا قبل وفاته يأمون داره و يقصدون جنابه و لكن الآن بعد أن غاب عن أعينهم و أضحى رهين القبور انقطعوا عن زيارته بل نسوه و غفلوا عنه...

(حتى إذا بلغ الكتاب أجله و الأمر مقاديره و ألحق آخر الخلق بأوله و جاء من أمر اللّه ما يريده من تجديد خلقه). هذا الفصل في مقام ذكر يوم القيامة و حشر العباد و نشرهم و إثابتهم و معاقبتهم.

فبعد أن مات الخلق و وصل الأمر الذي أراده اللّه و كتبه على عباده و اجتمع الناس كلهم في القبور و أراد اللّه أن يبعثهم في خلق جديد، أراد لهم أن يحشرهم و يبعثهم ليحاسبهم عندها تبتدأ العمليات الصعبة على المخلوقات و يرون كيف تتجسد الآيات القرآنية التي كانت تحكي أحوال يوم القيامة و ما يجري فيه و ما يصيب الخلائق من بلاء و مصائب...

(أماد السماء و فطرها و أرجّ الأرض و أرجفها و قلع جبالها و نسفها و دك بعضها بعضا من هيبة جلالته و مخوف سطوته). و هذه أحداث يوم القيامة، إنها تأخذ بالقلب فتتركه يرتجف فزعا و خوفا لأنها على مستوى الكون كله... إنها هزة عنيفة يقلب فيها الكون بما فيه فهذه السماء ترتجف و تتزلزل و تتشقق قال تعالى: «إِذَا اَلسَّمٰاءُ اِنْفَطَرَتْ » أي تشققت و قال تعالى: «يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمٰاءُ مَوْراً» أي تضطرب و تتحرك... فهذه السماء بسعتها و ما فيها تضطرب و أما الأرض فإنها تضطرب و تتزلزل أيضا و لم تعد تستقر و هذه الجبال التي كانت رواسي قد قلعت من أماكنها و نسفت من جذورها و انعدمت فلم يبق لها أثر قال تعالى: «إِذٰا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا» و قال تعالى: «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ فَقُلْ يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً» إنها تكسر بعضها بعضا من مهابة اللّه و جلاله و خوفا من عذابه و عقابه...

مشهد مرعب مخوف لو كان يملك هذا الإنسان عقلا و وعيا...

(و أخرج من فيها فجددهم بعد إخلاقهم و جمعهم بعد تفرقهم ثم ميزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال و جنايا الأفعال). و بعد انقلاب العالم و خرابه و بعد أن تتشقق السماء و تنفطر و بعد اضطراب الأرض و ميدانها بعد كل ذلك يخرج اللّه هذا

ص: 241

الإنسان من بطن الأرض فيعيده بعد أن بلي و اندثر و يجدده و يجمعه بعد أن تفرقت أوصاله و أجزاؤه.

ثم بعد هذا الجمع للأعضاء و لمّ متفرقات هذا الإنسان يجمعهم جميعا على صعيد واحد و يميز بينهم أي يفصل بينهم ليسألهم عما فعلوه فى الخفاء و عما اجترموه من السيئات.

(و جعلهم فريقين أنعم على هؤلاء و انتقم من هؤلاء فأما أهل الطاعة فأثابهم بجواره و خلدهم في داره حيث لا يظعن النزال و لا تتغيّر بهم الحال و لا تنوبهم الأفزاع و لا تنالهم الأسقام و لا تعرض لهم الأخطار و لا تشخصهم الأسفار). بهذا الحساب سينفصل المطيع عن العاصي و الشقي عن السعيد سيجعلون فريقين كما قال تعالى: «إِنَّ اَلْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ اَلْفُجّٰارَ لَفِي جَحِيمٍ » .

و لكل فريق حظه و نتيجة عمله.

فالفريق المطيع الملتزم الذي كان يخاف اللّه في الدنيا و يحسب حساب هذا اليوم و يعد له العدة هذا الفريق من الذين أنعم اللّه عليهم و أما الفريق الثاني فمن الذي أنتقم اللّه منهم...

و الفريق المطيع في جوار اللّه مكانه أي في دار كرامته و هي الجنة يخلد فيها و يدوم لا يرحل عنها و لا يعتريهم ما يعتري أبناء الدنيا و لا يصيبهم شيء من الخوف أو الأمراض أن يتعرضون لهلاك أو تخرجهم الأسفار إلى طلب أمر يريدونه فيشق عليهم السفر و يزعجهم...

و هذا كله كان يصيب أبناء الدنيا فيرتفع عن المطيعين للّه العاملين بأمره في الآخرة... (و أما أهل المعصية فأنزلهم شر دار و غل الأيدي إلى الأعناق و قرن النواصي بالأقدام و ألبسهم سرابيل قطران و مقطعات النيران في عذاب قد اشتد حره و باب قد أطبق على أهله في نار لها كلب و لجب، و لهب ساطع و قصيف هائل لا يظعن مقيمها و لا يفادى أسيرها و لا تفصم كبولها لا مدة للدار فتفنى و لا أجل للقوم فيقضى). و هذه حالة أهل المعصية الأشقياء الذين انحرفوا عن اللّه و تمردوا على حكمه لقد كانت عاقبتهم شر عاقبة و قد ذكر لهم من العذاب ما فيه مزدجر ذكر لهم:

ص: 242

1 - نزولهم شر دار و هي جهنم و هل هناك أشر منها و أشد قساوة و لا يدخلها إلا الأشقياء.

2 - غلت أيديهم إلى أعناقهم تذليلا لهم و تحقيرا و عقابا و عذابا قال تعالى: «إِنّٰا جَعَلْنٰا فِي أَعْنٰاقِهِمْ أَغْلاٰلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقٰانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ » .

3 - قرن النواصي بالأقدام فيجمع مقدم رأسه مع أقدامه في غل و هذا تعذيب له و تذليل قال تعالى: «يُعْرَفُ اَلْمُجْرِمُونَ بِسِيمٰاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوٰاصِي وَ اَلْأَقْدٰامِ » .

4 - و بدل لباس الحرير الذي يلبسه أهل الجنة يلبس أهل النار ثيابا من قطران فإن هذه المادة السوداء ذات الريح المنتن يطلى بها بدنهم فتحرق الجلد.

قال تعالى: «وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفٰادِ سَرٰابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرٰانٍ » .

قالوا: إن القطران ما يطلى به الإبل الجرباء فيحرق الجرب و الجلد و في النار يطلى به العاصي فيصير كالقميص عليه ثم يرسل إلى النار ليكون أسرع في الإحراق و أشد في العذاب.

5 - و كذلك ألبس أهل المعصية مقطعات النيران.

قال تعالى: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ» .

قال ابن عباس: حين صاروا إلى جهنم لبسوا مقطعات النيران و هي الثياب القصار أو الثياب التي فصلّت لهم على القياس...

6 - في عذاب قد اشتد حره و باب قد أطبق على أهله.

فالعذاب هناك شديد قوي لا يطيقه بشر قد انغلقت أبواب العذاب على أهلها فلا خروج لهم من دار الهوان و لا نجاة لهم من العذاب.

7 - في نار لها كلب و لجب و لهب ساطع و قصيف هائل.

أدخل هؤلاء المجرمون إلى نار شديدة قوية ذات حركة و اضطراب ترعب قلوب من فيها و لها لهب يلمع و صوت يدوي و يعظم في قلوب من سمعه...

8 - لا يظعن مقيمها و لا يفادى أسيرها.

فالإقامة في النار دائمة ليس هناك فترة استراحة أو هجرة لها إلى مكان آخر يخفف فيه العذاب كما أن من دفع فيها لا يدفع عنه فدية و يطلق سراحه بل هو أسير دائم و ذلك

ص: 243

لأن هذا المخلوق كان بمقدوره أن يفدي نفسه و هو في دار الدنيا بما يقدمه من عمل صالح و لكن بعد أن انقطع التكليف بالموت فلا انفكاك له من الأسر و لا خروج له من العذاب.

9 - و لا تفصم كبولها.

و القيود التي وضعت في عنق هذا الإنسان و يديه و رجليه لا تحل و لا تفك بل هي باقية مستمرة.

10 - لا مدة للدار فتفنى و لا أجل للقوم فيقضى.

و هذه مصيبة المصائب أنه ليس لهذه الدار و هي النار مدة فتفنى و تنتهي كما أنه ليس هناك وقت محدود يقضيه هذا الإنسان و ينتهي منه بل بقاء دائم.

و منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله.

(قد حقر الدنيا و صغرها و أهون بها و هونها). يصف النبي في زهده و إعراضه عن الدنيا و زينتها و قد وصفه بأنه حقّر الدنيا أي نظر إليها نظرة الاحتقار - و التشديد للتكثير - و من حقّر أمرا أعرض عنه و لم يعطه من نفسه التفاتة أو انتباها، إنه يسقط من عينه و يغفل عنه بالكلية... كما أنه صغّرها و من صغر أمرا لم يسأل عنه إذا فقده بل الكرام يترفعون عن صغار الأمور و محقراتها و من كان يعرف قيمة الجنة و كان نظره إليها احتقر ما عداها مهما كان جليلا و كبيرا...

كما أنه صلوات اللّه عليه قد استهان بالدنيا عند نفسه و هوّنها على غيره و ذلك بأنه لم يعطها من نفسه شيئا بل كان زاريا و محتقرا لها فقد خرج منها دون أن يضع لبنة على لبنة و تحت يديه كل أموال الجزيرة.. و قد هوّنها على الناس حتى زهدهم فيها فتركوا التعلق بها بل طلقوها و باعوها بالآخرة...

(و علم أن اللّه زواها عنه اختيارا و بسطها لغيره احتقارا). ما اختاره النبي كان موافقا لإرادة اللّه و قد اختار الإعراض عن الدنيا و زينتها فقبضها اللّه عنه حبا له و تقديرا لمنزلته و علوا لمقامه بينما بسطها لغيره احتقارا له و تصغيرا لقدره لأنه صغير ينشد الصغار و ما يكون فيه الصغار و الدنيا لحقارتها و خستها و أنها دار لا تدوم بسطها لبعض الناس بينما أكرم نبيه بقبضها عنه.

و في هذا الكلام العلوي عبرة لأهل الدين أن لا يكبروا أصحاب الدنيا الذين جاءتهم

ص: 244

بأموالها و كنوزها و مدخراتها فإنها لا تحمل الشرف و لا العزة و لا القرب من اللّه و لو كانت كذلك لبسطها اللّه لأصفى أصفيائه و أخلص أنبيائه...

و في المقابل أن لا نحتقر من انزوت عنه الدنيا أو نجعل ذلك علامة لغضب اللّه عليه...

(فأعرض عن الدنيا بقلبه و أمات ذكرها من نفسه و أحب أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشا أو يرجو فيها مقاما). الإعراض الحقيقي عن الشيء أن يعرض القلب عنه بحيث تتحول نظرته القلبية إلى نظرة مجانبة بعيدة لا تنسجم معه فيجد النفور منه و البعد عنه.

بل لم يعد يخطر بباله شيء من الدنيا و ما فيها و تتعلق نفسه بما عند اللّه و ما يحققه من أعمال تقربه إليه و لذا يجب أن تغيب عن عينيه كل الأشياء التي يمكن أن تذكره بالدنيا أو تخطره ببعض ما فيها...

ثم علل كل ذلك لئلا يتخذ منها لباسا فاخرا ينسيه الآخرة أو يحول بينه و بين النظر إلى اللّه أو يرجو من خلال ما فيها أنه يقيم فيها فهو يغيّب عن عينيه ما يذكّره بها و يقطع الأسباب التي يمكن أن يتعلق بشيء منها.

(بلّغ عن ربه معذرا و نصح لأمته منذرا و دعا إلى الجنة مبشرا و خوف من النار محذرا). و هذه غاية البعثة و قد ذكر هذه الأسباب باعتبار قيامه صلوات اللّه عليه بها خير قيام فبلغ الأمانة و أدى الرسالة...

بلّغ عن ربه كل مراداته بحيث كان للّه الحجة على الناس و العذر فيما لو عاقب من خالف و تمرد.

كما أنه نصح لأمته في كل ما يقربها من اللّه و يشدها إليه مخوفا لها و واعظا بكل ما يبعدها عن المعصية و التمرد...

كما أنه بشّر بالجنة لمن أطاع اللّه و التزم أمره و دعا الناس إليها و إلى دخولها و كونهم من أبنائها على عكس النار حيث خوفهم منها و من عذابها و ما فيها من شدة الألم و حذرهم منها و مما فيها من عذاب و آلام...

(نحن شجرة النبوة و محط الرسالة و مختلف الملائكة و معادن العلم و ينابيع الحكم، ناصرنا و محبنا ينتظر الرحمة و عدونا و مبغضنا ينتظر السطوة). هذه خصائص انفرد بها أهل البيت لم يشاركهم فيها أحد فهم شجرة النبوة فإن رسول اللّه منهم و فيهم

ص: 245

و عند هذا تقصر المناقب و تذوب الفضائل..

و في بيوتهم نزلت رسالة الإسلام حيث أنزل اللّه وحيه على نبيه فكان الإمام عنده ربيبا فنعم بهذه البركة الكريمة..

و إلى بيوتهم تختلف الملائكة فهذا ينزل بالوحي و ذلك ينزل للخدمة و ذاك ينزل يطلب التوسل برسول اللّه و هكذا تختلف الملائكة هابطة صاعدة.

و هم معادن العلم و هذا مشهود لأهل البيت و كل من له أدنى اطلاع عرف أنهم قوم زقوا العلم زقا، شهد بذلك القريب و البعيد الموالي و المعادي و من قلّب نظره في ذلك قرأ الحقيقة و عرف أنهم قوم اختصهم اللّه بالعلم على اختلاف أنواعه و تعدده.

كما أنهم ينابيع الحكم فهم يصدرون الأحكام و عندهم فصل الخصومات أو أن يكون المقصود أنهم مصدر العلوم و أهل الفهم و إدراك حقائق الأشياء و وضعها في موضعها لأن الحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه...

ثم أراد أن يجذب الناس إلى نفسه لأنه باب الهدى و عن طريقه يكون دخول الجنة فأشار إلى ذلك بقوله: ناصرنا و محبنا ينتظر الرحمة لأنه ينصر الحق و يحب أهل الحق و من كان كذلك فإنه ينتظر الرحمة عند ما يموت و ينتقل إلى اللّه و هي الجنة.

كما أن عدو أهل البيت الذي حاربهم بيده أو بلسانه أو بقلبه أو بأي أسلوب كان ينتظر العقاب و العذاب بمجرد أن يموت و كذلك مبغض أهل البيت ينال العذاب و العقاب...

ص: 246

110 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في أركان الدين

الاسلام

إنّ أفضل ما توسّل (1) به المتوسّلون إلى اللّه سبحانه و تعالى، الإيمان به و برسوله، و الجهاد في سبيله، فإنّه ذروة (2) الإسلام، و كلمة الإخلاص (3) فإنّها الفطرة (4)، و إقام الصّلاة فإنّها الملّة (5)، و إيتاء الزّكاة فإنّها فريضة (6) واجبة، و صوم شهر رمضان فإنّه جنّة (7) من العقاب (8)، و حجّ البيت و اعتماره فإنّهما ينفيان الفقر و يرحضان (10) الذّنب، و صلة الرّحم فإنّها مثراة (11) في المال، و منسأة (12) في الأجل (13)، و صدقة السّرّ فإنّها تكفّر (14) الخطيئة (15)، و صدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء. و صنائع (16) المعروف فإنّها تقي (17) مصارع (18) الهوان (19).

أفيضوا (20) في ذكر اللّه فإنّه أحسن الذّكر. و ارغبوا فيما وعد المنّقين فإنّ وعده أصدق الوعد. و اقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه أفضل الهدي (21). و استنّوا بسنّته فإنّها أهدى (22) السّنن (23).

فضل القرآن

و تعلّموا القرآن فإنه أحسن الحديث، و تفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، و استشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور. و أحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص. و إنّ

ص: 247

العالم العامل بغير علمه كالجاهل الجائر (24) الّذي لا يستفيق (25) من جهله، بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة (26) له ألزم، و هو عند اللّه ألوم (27).

اللغة

1 - توسل: إلى اللّه عمل عملا تقرب به إليه تعالى.

2 - الذروة: لكل شيء اعلاه.

3 - كلمة الأخلاص: هي كلمة لا إله إلا اللّه.

4 - الفطرة: الخلقة.

5 - الملة: الدين، الطريقة و الشريعة.

6 - الفريضة: ما أوجبه اللّه و فرضه على عباده.

7 - الجنة: بالضم كل ما وقى.

8 - العقاب: الجزاء بالشر.

9 - اعتمر: إذا زار البيت الحرام و العمرة أفعال مخصوصة يؤدي من قصد مكة.

10 - يرحضان: يغسلان من رحض الثوب إذا غسله.

11 - المثراة: من ثرى المال إذا كثر و نمى و هذا مثراة أي تكثرة.

12 - المنسأة: التأخير.

13 - الأجل: جمعة آجال وقت الموت.

14 - تكفّر: تستر و تغطي و المقصود هنا إنها تسقط المعصية.

15 - الخطيئة: المعصية.

16 - الصنائع: مفردها صنيعة الإحسان.

17 - تقي: تدفع و تحمي.

18 - مصارع: جمع مصرع و هو موضع الصرع أي الطرح لأن صرعه أي طرحه على الأرض.

19 - الهوان: الذل.

20 - افيضوا: اندفعوا.

21 - الهدي: السيرة و الطريقة.

22 - أهدى: أرشد.

23 - السنن: الطرق.

24 - الحائر: المتحير.

ص: 248

25 - استفاق: من النوم استيقظ و من سكره صحا.

26 - الحسرة: التلهف.

27 - ألوم: من اللوم و هو العذل التكدير بالكلام لاتيانه ما لا ينبغي...

الشرح

اشارة

(إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى اللّه سبحانه و تعالى الإيمان به و برسوله).

يذكر عليه السلام أفضل ما يتقرب به الإنسان إلى اللّه سبحانه و تعالى ترغيبا لنا و بيانا لأهمية هذه الواجبات فيذكر أن الإيمان باللّه هو أول شيء يجب أن يتقرب به العبد إلى اللّه لأنه الأساس الذي يشاد عليه غيره و يبني فوقه ما سواه فإن كل الأمور الأخرى متفرعة عنه ناشئة من وجوده..

و الإيمان باللّه عقيدة راسخة في القلب تنعكس على نفس هذا الإنسان و ذات أبعاد في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فإن هذا الإيمان باللّه يستدعي أن يتكيّف الإنسان حسب البرنامج الألهي الذي يضعه له و يدعوه إليه و أما في الآخرة فيؤمن بكل ما أخبر به من جنة و نار و حساب و عقاب و غيرها...

و الإيمان برسول اللّه فرع الإيمان باللّه فإن من لم يؤمن بالمرسل لا يؤمن بالرسول.

و من آمن بالرسول وجب أن يتلقى منه أحكام اللّه و مراداته و يعمل بها و ينفذها فإن الرسول هو الواسطة بين اللّه و الإنسان و هو الناقل لهذا الإنسان برنامجه الإلهي الذي يسعده في الدنيا و الآخرة...

(و الجهاد في سبيله فإنه ذروة الإسلام). الجهاد في سبيل اللّه قمة التكاليف الشرعية و أعظم الواجبات الإلهية و وصفه بالذروة و إنه أعلى ما في الإسلام لما فيه من تضحية و بذل و تقديم للنفس و لما فيه من عز للإسلام بحيث لولاه لتغلب الكفر على بلاد المسلمين و منع أهل الإسلام من القيام بواجباتهم و إداء ما للّه عليهم و قد ظهرت فوائد الجهاد و ثمراته بما قام به المسلمون من فتوحات شملت شرق الأرض و غربها و بما بسط الإسلام من حكمه على تلك البلاد بينما عاش المسلمون اليوم الذل و الهوان بتركهم الجهاد و اماتتهم لهذه الفريضة العظيمة...

(و كلمة الأخلاص فإنها الفطرة). و كلمة الأخلاص هي كلمة لا إله إلا اللّه فإن اللّه

ص: 249

خلق الإنسان و جعلها في أعماقه بحيث لو خلي و نفسه لأهتدى إلى اللّه و لم ينحرف عن الإيمان به و عن توحيده و لكن المجتمع المحيط به و العادات و التقاليد المحدقة به هي التي تضله عن هذه الحقيقة و تحرفه عنها و بهذا جاءت الأخبار.

- في كتاب المحاسن بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عز و جل «فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا» قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم و لو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم و من رازقهم...

- و في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن اللّه خالقه..».

(و إقام الصلاة فإنها الملة). و إقام الصلاة عبارة عن المداومة عليها و عدم التهاون بها و قد جعلها الدين و الشريعة مع أنها جزئية من ذلك لأهميتها و دورها و أثرها في تصفية النفس و تنقيتها و لما فيها من صلة بين العبد و ربه و بين العبد و مجتمعه.

و قد وردت الأحاديث بأن تاركها عن انكار لها يخرج عن ملة الإسلام.

- ففي الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1) قال: جاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول اللّه أوصني، فقال: «لا تدع الصلاة متعمدا، فإن من تركها متعمدا فقد برئت منه ملة الإسلام».

- و عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2) عن أبيه عن جابر قال: قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «ما بين الكفر و الإيمان إلا ترك الصلاة»...

- و قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «إن عمود الدين(3) الصلاة و هي أول ما ينظر فيه من عمل ابن آدم فإن صحّت نظر في عمله و إن لم تصح لم ينظر في بقية عمله»...

(و ايتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة). و وجوب الزكاة من ضروريات الدين و منكرها كافر و قد دل الكتاب الكريم و السنة الشريفة على وجوبها...

قال تعالى: «أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ » . و قال سبحانه:(4)«وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ » . و قوله5.

ص: 250


1- الوسائل كتاب الصلاة باب 11 من أبواب أعداد الفرائض.
2- الوسائل كتاب الصلاة باب 11 من أبواب أعداد الفرائض.
3- الوسائل كتاب الصلاة باب 8 من أبواب أعداد الفرائض.
4- سورة البينة آية - 5.

تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا» . - قال الصادق عليه السلام: لما نزلت آية(1) الزكاة «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا» في شهر رمضان فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مناديه فنادى في الناس: إن اللّه تبارك و تعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة (إلى أن قال) ثم لم يتعرض لشيء من أموالهم حتى حال عليهم الحول في قابل فصاموا و أفطروا فأمر صلى اللّه عليه و سلم مناديه فنادى في المسلمين: أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلاتكم ثم وجه عمال الصدقة و عمال الطسوق.

- و عن أبي جعفر عليه السلام قال:(2) ما من عبد منع من زكاة ماله شيئا إلا جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب و هو قول اللّه عز و جل: «سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ » .. يعني ما بخلوا به من الزكاة...

و الزكاة فريضة إلهية واجبة على الأغنياء تؤخذ منهم و ترد على الفقراء و في هذا التشريع من التكافل الاجتماعي ما يجعل الجسد الإسلامي وحدة متكاملة يحس الغني من خلالها بواجبه نحو الفقراء كما يشعر الفقير أنه في عين اللّه و نظر الأغنياء...

و الزكاة واجب مالي يكفي لسد عوز الفقراء بحيث يرتفع الفقر من المجتمع و قد قدرها اللّه بقدر حاجة الفقراء تكفيهم و ترفع عوزهم و ما نراه من الفقر إنما هو نتيجة منع الأغنياء هذا الحق و بخلهم به.

- قال الإمام أبي عبد اللّه عليه السلام: و في حديث: إن اللّه عز و جل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم و لو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة اللّه عز و جل و لكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض اللّه لهم و لو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير(3)...

- و قال الصادق عليه السلام: إنما وضعت الزكاة اختبارا للأغنياء و معونة للفقراء و لو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي فقيرا محتاجا و لا ستغنى بما فرض اللّه له، و إن الناس ما افتقروا و لا احتاجوا و لا جاعوا و لا عروا إلا بذنوب الأغنياء و حقيق على اللّه تبارك و تعالى أن يمنع رحمته ممن منع حق اللّه في ماله(4).1.

ص: 251


1- الوسائل كتاب الزكاة باب 1.
2- الوسائل كتاب الزكاة باب 3.
3- وسائل الشيعة كتاب الزكاة باب 1.
4- وسائل الشيعة كتاب الزكاة باب 1.

و أقسم بالذي خلق الخلق و بسط الرزق أنه ما ضاع مال في بر و لا بحر إلا بترك الزكاة و ما صيد صيد في بر و لا بحر إلا بترك التسبيح في ذلك اليوم و إن أحب الناس إلى اللّه تعالى اسخاهم كفا و اسخى الناس من أدى زكاة ماله و لم يبخل على المؤمنين بما افترض اللّه لهم في ماله.

ما تجب فيه الزكاة.

تجب الزكاة في تسعة أشياء حدّدها النبي (صلی الله علیه و آله) في الحديث الشريف عن الصادق عليه السلام قال: «لما نزلت آية الزكاة «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا» في شهر رمضان فأمر رسول اللّه مناديه فنادى في الناس: إن اللّه تبارك و تعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض اللّه عليكم من الذهب و الفضة و الإبل و البقر و الغنم و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب... و في حديث الإمام الرضا أيضا يحدد الزكاة في تسعة أشياء قال عليه السلام: الزكاة على تسعة أشياء على الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الإبل و البقر و الغنم و الذهب و الفضة...

نصب الزكاة.

اشارة

و من المعروف أنه ليس كل من ملك شيئا من هذه الأموال يجب عليه الزكاة بل إذا بلغت قدرا معينا حدده الشارع و نحن سنذكر ذلك بشيء من الاختصار و نكتفي بالعناوين العامة...

حدّد الشارع النصاب كما يلي:.

في الإبل اثنا عشر نصابا.

1 - 5 - خمسة منها كل واحد خمس من الإبل و في كل واحد من النصب شاة بمعنى أنه لا يجب فيما دون خمس.

6 - ست و عشرون ففيها بنت مخاض.

7 - ست و ثلاثون و فيها بنت لبون.

8 - ست و أربعون و فيها حقة.

9 - إحدى و ستون فجذعة.

10 - ست و سبعون ففيها بنتا لبون.

11 - إحدى و تسعون و فيها حقتان.

12 - مائة و إحدى و عشرون ففي كل خمسين حقة و كل أربعين بنت لبون.

ص: 252

و في البقر.

1 - إذا بلغت ثلاثين فتبيع أو تبيعة.

2 - أربعون مسنة.

نصب الغنم. للغنم خمسة نصب.
اشارة

1 - أربعون فشاة.

2 - مائة و إحدى و عشرون فشاتان.

3 - مائتان و واحدة ثلاث.

4 - ثلاثماية و واحدة أربع.

5 - إذا بلغت أربعمائة و أزيد ففي كل ماية شاة.

شروط للأنعام.

يشترط في الأنعام حتى يجب الزكاة فيها.

1 - السوم و هو الرعي أي يجب أن لا تكون قد علفت من مال المالك بل ترعى من البرية.

2 - يشترط أن لا تكون عوامل أي لا يستعملها صاحبها في الحراثة و ما أشبة ذلك.

3 - الحول بأن يمر عليها حول كامل و هي في ملك صاحبها.

نصب الذهب و الفضة.
اشارة

1 - عشرون دينارا من الذهب و هو النصاب الأول.

2 - ثم أربعة دنانير فلا شيء فيما دون العشرين.

و المخرج ربع العشر.

و أما في الفضة.

1 - مائتا درهم فلا يجب فيما دون ذلك.

2 - ثم أربعون درهما.

و المخرج أيضا ربع العشر.

ص: 253

و يشترط في النقدين.

1 - يشترط في النقدين بلوغ كل منهما النصاب.

2 - أن يكون مسكوكا صالحا للمعاملة به.

3 - أن تبقى عند المالك حولا كاملا.

نصب الغلات.

يشترط في وجوب الزكاة فيها أمران.

1 - بلوغ النصاب و تقدر في زماننا بثمانمائة و سبعة و أربعين كيلو تقريبا.

2 - الملك في وقت تعلق الوجوب سواء كان بالزرع أم بالشراء.

مقدار الزكاة.

المقدار الواجب اخراجه في زكاة الغلات العشر إذا سقى سيحا أو بماء السماء.

و نصف العشر إذا سقى بالدلاء و الماكينات و النواعير.

فوائد الزكاة و آثارها.

للزكاة آثار جمة و فوائد متعددة لو فكر الإنسان في بعضها لكانت كافية في دفعه إلى ادائها و القيام بها و أهم هذه الآثار هي:.

1 - أن في اخراج الزكاة طاعة للّه و امتثالا لأمره و بها يخرج الإنسان عن دائرة التمرد و العصيان إلى خط الطاعة و الإيمان.

2 - في الزكاة سد حاجة الفقراء و الأيتام و الأرامل و المساكين...

3 - إن في الزكاة تحصين المال عن التلف و في ذلك يقول الصادق عليه السلام:

«و أقسم بالذي خلق الخلق و بسط الرزق إنه ما ضاع مال في بر و لا بحر إلا بترك الزكاة» و قال موسى بن جعفر عليهما السلام: حصنوا أموالكم بالزكاة.

4 - إنها تذكر الأغنياء بحال الفقراء فيتذكرون نعمة اللّه عليهم و يقومون بإداء هذا الشكر حيث أن اللّه الذي ضيق على الفقراء قادر على أن يضيق على الأغنياء و يبتليهم بالفقر.

5 - إن إداء الزكاة تعوّد النفس على الكرم و السخاء - و تنفي الشح و البخل - و هي صفة يحبها اللّه و يريدها الإسلام.

قال النبي (صلی الله علیه و آله) : «من أدى ما افترض اللّه عليه فهو أسخى الناس».

ص: 254

6 - إن في إداء الزكاة نماء للمال.

7 - في بعض الروايات أنها لا تقبل صلاة إذا لم تؤد الزكاة.

قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «ثمانية لا تقبل منهم صلاة مانع الزكاة»...

8 - إن المال غير المزكى ملعون على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففي الحديث عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال لأصحابه يوما «ملعون كل مال لا يزكى».

9 - إن في منع الزكاة منع الأرض خيراتها و بركاتها قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «إذا منعت الزكاة منعت الأرض بركاتها».

(و صوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب). و صوم شهر رمضان من الواجبات الضرورية التي نص عليها الكتاب و السنة.

قال تعالى:(1)«يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعٰامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » . و قال تعالى.

(2) «شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْهُدىٰ وَ اَلْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » .

و أما السنة فأخبارها كثيرة.

منها ما ورد عن رسول اللّه قال: «شهر رمضان فرض اللّه عليكم صيامه فمن صامه إيمانا و احتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

- و عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه عز و جل.

- و قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، و الزكاة، و الصوم، و الحج و الولاية».5.

ص: 255


1- البقرة البقرة - 184-185.
2- - 184-185.

فوجوب صيام شهر رمضان من ضروريات الدين و يعلم بوجوبه كل فرد مسلم حتى الأطفال الصغار...

و ما ورد في كلام الإمام يتوافق مع ما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) في حق شهر رمضان و إن صيامه وقاية من العذاب و العقاب.

قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «الصوم(1) جنة من النار».

و في حديث آخر: «و الصيام جنة العبد المؤمن يوم القيامة كما يقي أحدكم سلاحه في الدنيا.

(و حج البيت و اعتماره فإنهما ينفيان الفقر و يرحضان الذنب). و الحج و العمرة واجبان على المستطيع و وجوبهما مما تعرفه الأمة و تعمل به.

قال تعالى: «وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّٰهِ » . و في تفسير ذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام: هما مفروضان.

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع لأن اللّه عز و جل يقول: «وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّٰهِ » و إنما انزلت العمرة بالمدينة يقول الراوي قلت له: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أ يجزي ذلك عنه ؟.

قال: نعم.

و أما كونهما ينفيان الفقر و يرحضان الذنب أي يزيلانه و يمحوان أثره فهذا مما جاءت به الأخبار و وردت به الروايات.

قال الإمام علي بن الحسين عليهما السلام: حجوا و اعتمروا تصح أبدانكم و تتسع ارزاقكم و تكفون مؤنات عيالكم.

و قال: الحاج مغفور له و موجوب له الجنة و مستأنف له العمل و محفوظ في أهله و ماله.

(و صلة الرحم فإنها مثراة في المال و منسأة في الأجل). اوصى اللّه بصلة الرحم و حث عليها فقال تعالى(2): «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ »1.

ص: 256


1- وسائل الشيعة كتاب الصوم باب 1 من أبواب الصوم المندوب.
2- سورة النساء آية - 1.

«وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي تَسٰاءَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحٰامَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» . و الأرحام مفهوم عرفي يدركه الناس و ينطبق على الآباء و الأبناء و الأعمام و الأخوال و أولادهم و من يعده العرف من الأقارب القريبين...

قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) :

«أوصي الشاهد من أمتي و الغائب منهم و من في أصلاب الرجال و أرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرحم و إن كانت منه على مسيرة سنة فإن ذلك من الدين».

و قد ورد في بعض الأحاديث ذكر آثارها و ما يترتب عليها كما في كلام الإمام.

فقد قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «من سره أن يمد اللّه في عمره و أن يبسط له في رزقه فليصل رحمه فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول: يا رب صل من وصلني و اقطع من قطعني..».

و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام:

صلة الأرحام تزكي الأعمال و تنمي الأموال و تدفع البلوى و تيسر الحساب و تنسيء في الأجل.

و أما كونها مثراة في المال و تطيل الأجل فلأن الأرحام إذا توافقوا و التقوا فكروا في مصالح بعضهم و أعانوا بعضهم و بذلك ترتفع الحاجة و تنموا الأموال و أما إنها تطيل الأعمار فلأن من أراد الاعتداء ارتدع و كف لقوة الأرحام و تكاتفهم هذا بحسب الظاهر...

و الحقيقة التي يجب أن نذهب إليها أن علم ذلك يترك لأهله فطالما صدر ذلك عنهم و اللّه لا يحد قدرته شيء و هو قادر على تحقيق ذلك.

(و صدقة السر فإنها تكفر الخطيئة). و صدقة السر أقرب للتقوى و يتحقق فيها الاخلاص أكثر من غيرها و لذا تمحى بها الخطيئة و يكفر بها عن الذنوب و قد جاء في الروايات ما يدل على ذلك.

- قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «صدقة السر تطفي غضب الرب(1) تبارك و تعالى».

- و عن أبي جعفر الباقر(2) عليه السلام قال: صدقة السر تطفي غضب الرب و تطفية.

ص: 257


1- وسائل الشيعة كتاب الزكاة باب 14 من أبواب الصدقة.
2- وسائل الشيعة كتاب الزكاة باب 14 من أبواب الصدقة.

الخطيئة كما يطفي الماء النار.

- و قال الباقر عليه السلام: سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل(1) إلا ظله (إلى أن قال) و رجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله.

(و صدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء). و الصدقة بنفسها مستحبة لأنها تخرج من قلب يعيش مع الفقراء و أصحاب الحاجة و يحس هذا القلب بوشائج الرحم بين الإنسان و أخيه الإنسان.. صدقة قليلة تعبر عن عمق الشعور مع هذا الفقير و تواسيه قدر استطاعتها، إنها نفس طيبة تقدر ظروف الآخرين و تتعاون معهم بل تعاونهم قدر استطاعتها و قد ورد في الروايات الحث على الصدقة.

قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : «الصدقة تدفع ميتة السوء».

قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) : إن اللّه لا إله إلا هو ليدفع بالصدقة الداء و الدبيلة و الحرق و الغرق و الهدم و الجنون و عدّ سبعين بابا من السوء».

و عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الصدقة لتدفع سبعين بلية من بلايا الدنيا مع ميتة السوء إن صاحبها لا يموت ميتة السوء أبدا مع ما يدخر لصاحبها في الآخرة.

(و صنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان). و صنائع المعروف هي الأمور الطيبة التي يعملها الإنسان مع غيره كإعانته و مساعدته و تعليمه و إرشاده و هدايته إلى ما فيه منافعه و دفع السوء عنه و ما فيه مضرة عليه و غيرها...

و كونها تدفع ميتة الهوان لأن النفوس بطبيعتها مجبولة على حب من أحسن إليها فتكون هذه اليد التي له عند الناس هي التي تدافع عنه و ترد كل من يريد به سوءا أو أن المصنوع لهم هذا المعروف يمطرونه بالدعاء فيدفع اللّه عنه بدعائهم السوء و ميتة الهوان...

و قد ورد في الروايات أن صنائع المعروف تقي مصارع الهوان.

- ففي الرواية عن أبي جعفر عليه السلام يقول: إن(2) صنائع المعروف تدفع مصارع السوء.

(افيضوا في ذكر اللّه فإنه أحسن الذكر). ذكر المحبوب محبوب و هل هناك أحبف.

ص: 258


1- وسائل الشيعة كتاب الزكاة باب 14 من أبواب الصدقة.
2- الوسائل كتاب الأمر بالمعروف باب 1 من أبواب المعروف.

من اللّه ؟ إليه ينتهي الحب و منه يصدر و عنه يتفرع و كل حب لا يكون منه أو لا يصل إليه فهو خاسر فاشل...

و من أحب شيئا أكثر من ذكره بل أخذ يردده على لسانه و إن كان فاقد الوعي و في سكرات الموت، لقد تمكن من قلبه فلم يستطع أن يكتمه لسانه فجهر به و أصحر و أعلن...

و ذكر اللّه أحسن الذكر لأنه الذكر الذي يبقى و يدوم و غيره يفنى و يموت...

لأنه ذكر اللّه و اللّه إليه تتجه القلوب و الأبصار و به تطمئن القلوب و ترتاح النفوس ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب.

و قد ورد الأمر بذكر اللّه.

قال تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لاٰ تَكْفُرُونِ » [البقرة 152]. و قال مادحا قوما: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ » [آل عمران 191]. و قال آمرا رسوله: «وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكٰارِ» [آل عمران 41]. و في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللّه عز و جل قائما كان أو جالسا أو مضطجعا إن اللّه عز و جل يقول: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ » . و يستحب ذكر اللّه في كل مجلس.

عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا اللّه عز و جل و لم يذكرونا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة.

كما يستحب ذكر اللّه لمن أراد أن يخرج من المجلس و عند الملتقى.

قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل إذا أراد أن يقوم من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين.

و يستحب ذكر اللّه في السر و في النفس.

كما أنه يستحب ذكر اللّه إذا غفل الناس عن ذلك.

(و ارغبوا فيما وعد المتقين فإن وعده أصدق الوعد). ترغيب للناس فيما وعد اللّه فيه المتقين و قد وعدهم بالجنة و ما فيها كما قال تعالى: «مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ » (1)5.

ص: 259


1- سورة الرعد آية - 35.

«مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ أُكُلُهٰا دٰائِمٌ وَ ظِلُّهٰا تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكٰافِرِينَ اَلنّٰارُ» . قال تعالى: «وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ » [آل عمران 123]. و قال تعالى: «وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» [ق 31]. و قال تعالى: «إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَعِيمٍ فٰاكِهِينَ بِمٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ » [الطور 17]. و إذا كانت هذه الوعود مما يرغب فيها العقلاء و كانت صادرة عن اللّه الذي لا يخلف الميعاد فعلى المؤمن أن يرغب فيها و يطلبها و يبذل قصارى جهده في تحصيلها...

(و اقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدى). لأن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) اكمل الخلق و أشرفهم فإن سلوكه أشرف السلوك في المنطق و الحركة و النظرة و التصرف و قد كان أبا رحيما يبحث عما ينفع الناس و يهديهم و كان في الدرجة العليا في السلوك بين الناس حتى نظراته كان يقسّمها بين جلسائه و زواره...

(و استنوا بسنته فإنها أهدى السنن). أمر للمسلمين أن يعملوا بسنة رسول اللّه لأن فيها الهدى بل لأنها أهدى من كل سنة أخرى.. و سنة النبي تتجسد في ثلاثة أمور.

الأول: قوله الصادر عنه كأمره بالصلاة و الصيام و صلة الرحم و إعانة الفقير.

الثاني: في فعله فلو تصدق لعلمنا حسن ذلك و كان التصدق من الأمور المرغوبة و لو امتنع عن أمر لعلمنا عدم حسنه...

الثالث: تقريرة و هو عبارة عن سكوته عن فعل يقوم به بعض المسلمين فإنه بسكوته نستكشف جواز ذلك...

و النبي باعتباره معصوم مسدّد من قبل السماء لا يعصي و لا يخطىء فإن سيرته أهدى من كل سيرة و سنته أهدى من كل سنّة من حيث توصل صاحبها إلى الحق و العدل و تأخذ بيده إلى مرضاة اللّه و طاعته.. و قد أمرنها اللّه باتباعه و طاعته فقال تعالى: «مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» .

(و تعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث). و سمى القرآن حديثا اتباعا لقوله تعالى:

«نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتٰاباً مُتَشٰابِهاً» و هذا ترغيب في القراءة و محو للأمية فإن من أحسن تعلّم القرآن قدر على قراءة ما سواه و كان هذا التعلّم بداية لفهمه و العمل به...

(و تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب) تفهموا القرآن بعد قراءته فإنه ينعش القلوب و يحرك الجوارح و يضع الإنسان في خط اللّه.. فكما أن الربيع هو أجمل فصول السنة و فيه تتفتح الأزهار و تخرج من أكمامها و يكتسي الكون بحلة خضراء جميلة كذلك القرآن

ص: 260

بالنسبة إلى النفس إذا فهمت ما فيه فإنها تتحرك في حالة انتعاش و سرور و تعلو في سماء الفضيلة و العدل...

(و استشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور). و هذا من قوله تعالى:(1)«وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » . فإن من طلب الشفاء بالقرآن شفي و عوفي من مرض النفاق و الحسد و كل الرذائل المضرة بالإيمان.

(و احسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص). و هذا من قوله تعالى(2): «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ » ... و حسن التلاوة و خصوصا في بعض صورها فإنها تدخل إلى عمق القلب و يشعر الإنسان معها بالرقة و الخشوع و الإنابة و الاستكانة، و كم من آية يقرأها الإنسان و يرددها فلا يتأثر بها و إذا به في بعض الأحيان يقرأها آخرون فتحرك فيه الحس الداخلي فيخشع و يخضع و يتعظ و يعتبر...

(و إن العالم للعامل بغير علمه كالجاهل الجائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم و الحسرة له ألزم و هو عند اللّه ألوم). سوّى أولا بين العالم التارك لعلمه و بين الجاهل لأنهما سواء في الانحراف و الضلال و الخروج عن قصد السبيل فإن العالم إذا لم يعمل بعلمه فكأنه جاهل من حيث هذه الجهة...

ثم جعل العالم التارك لعلمه أخس من الجاهل لوجوه ثلاثة.

1 - إن الحجة على العالم أعظم منها على الجاهل لأن ذاك يعرف و هذا لا يعرف و إذا كان للجاهل أن يعتذر بعدم المعرفة فليس للعالم مثل هذا الاعتذار.

2 - الحسرة له ألزم لأن من يعلم طرق الخير ثم لا يفعلها يتألم لفواتها و يتحسر على ضياعها بينما الجاهل لعدم علمه بذلك يبقى جهله سدا دون هذه الحسرة لأنه لا يشعر بفوات شيء منه.

3 - إن العالم التارك لعلمه عند اللّه أشد لوما لأن عدم عمله لتمرده و اصراره على المعصية و هو أشد قبحا ممن لا يعرف أصل ذلك الفعل و دواعيه و ما وراءه.

و قد وردت الأخبار الكثيرة في ذم العالم التارك لعلمه كما وردت الأخبار بحسرته يوم القيامة و لومه لنفسه...3.

ص: 261


1- سورة الإسراء آية - 82.
2- سورة القصص آية - 3.

1 - عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يحدث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه قال في كلام له: «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج و عالم تارك لعلمه فهذا هالك، و إن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه و إن أشد أهل النار ندامة و حسرة رجل دعا عبدا إلى اللّه فاستجاب له و قبل منه فأطاع اللّه فأدخله اللّه الجنة و أدخل الداعي النار بتركه علمه و اتباعه الهوى و طول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و طول الأمل ينسي الآخرة».

2 - و عن أبي عبد اللّه (ع) قال مخاطبا أحد أصحابه و اسمه حفص: يا حفص يغفر اللّه للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.

ص: 262

111 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في ذم الدنيا أمّا بعد، فأنّي أحذّركم الدّنيا، فإنّها حلوة خضرة، حفّت (1) بالشّهوات، و تحبّبت بالعاجلة، و راقت (2) بالقليل، و تحلّت بالآمال، و تزيّنت بالغرور. لا تدوم حبرتها (3)، و لا تؤمن فجعتها (4). غرّارة ضرّارة، حائلة (5) زائلة، نافدة (6) بائدة (7)، أكّالة غوّالة (8). لا تعدو (9) - إذا تناهت (10) إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها و الرّضاء بها - أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه: «كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً» . لم يكن امرؤ منها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة (13)، و لم يلق في سرّائها بطنا، إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا و لم تطلّه (14) فيها ديمة (15) رخاء (16)، إلاّ هتنت (17) عليه مزنة (18) بلاء! و حريّ (19) إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكّرة (20)، و إن جانب منها اعذوذب (21) و احلولى (22)، أمرّ منها جانب فأوبى (23)! لا ينال امرؤ من غضارتها (24) رغبا (25)، إلاّ أرهقته (26) من نوائبها (27) تعبا! و لا يمسي منها في جناح أمن، إلاّ أصبح على قوادم (28) خوف! غرّارة، غرور ما فيها، فانية، فان من عليها، لا خير في شيء من أزوادها (29) إلاّ التّقوى. من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه! و من استكثر منها استكثر ممّا يوبقه (30)، و زال عمّا قليل عنه. كم من واثق بها قد فجعته، و ذي طمأنينة إليها قد صرعته،

ص: 263

و ذي أبّهة (31) قد جعلته حقيرا، و ذي نخوة (32) قد ردّته ذليلا! سلطانها دوّل (33)، و عيشها رنق (34)، و عذبها أجاج (35)، و حلوها صبر (36)، و غذاؤها سمام (37)، و أسبابها رمام (38)! حيّها بعرض موت، و صحيحها بعرض سقم (39)! ملكها مسلوب، و عزيزها مغلوب، و موفورها (40) منكوب (41)، و جارها محروب (42)! ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، و أبقى آثارا، و أبعد آمالا، و أعدّ عديدا (43)، و أكثف جنودا! تعبّدوا للدّنيا أيّ تعبّد، و آثروها أيّ إيثار، ثمّ ظعنوا (44) عنها بغير زاد مبلّغ و لا ظهر قاطع (45). فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم نفسا بفدية (46)، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة! بل أرهقتهم (47) بالقوادح (48)، و أوهقتهم (49) بالقوارع (50)، و ضعضعتهم (51) بالنّوائب، و عفّرتهم (52) للمناخر (53)، و وطئتهم بالمناسم (54)، و أعانت عليهم «ريب المنون (55)».

فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها (56)، و آثرها و أخلد إليها (57)، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد. و هل زوّدتهم إلاّ السّغب (58)، أو أحلّتهم إلاّ الضّنك (59)، أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة، أو أعقبتهم إلاّ النّدامة! أ فهذه تؤثرون، أم إليها تطمئنّون، أم عليها تحرصون ؟ فبئست الدّار لمن لم يتّهمها، و لم يكن فيها على وجل (60) منها! فاعلموا - و أنتم تعلمون - بأنّكم تاركوها و ظاعنون عنها، و اتّعظوا فيها بالّذين قالوا: «من أشدّ منّا قوّة»: حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، و أنزلوا الأجداث (61) فلا يدعون ضيفانا، و جعل لهم من الصّفيح (62) أجنان (63)، و من التّراب أكفان، و من الرّفات (64) جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعيا، و لا يمنعون ضيما، و لا يبالون مندبة (65). إن جيدوا (66) لم يفرحوا، و إن قحطوا (67) لم يقنطوا (68). جميع و هم آحاد،

ص: 264

و جيرة و هم أبعاد. متدانون لا يتزاورون، و قريبون لا يتقاربون. حلماء قد ذهبت أضغانهم (69)، و جهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم، و لا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا، و بالسّعة ضيقا، و بالأهل غربة، و بالنّور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها، حفاة عراة، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة و الدّار الباقية، كما قال سبحانه و تعالى: «كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ » .

اللغة

1 - حفّت: أحيطت.

2 - راقت: صفت و راقه الشيء الفلاني أعجبه و سره.

3 - حبرتها: سرورها.

4 - الفجعة: الرزيئة.

5 - حائلة: متغيرة.

6 - نافدة: فانية.

7 - بائدة: هالكة.

8 - غوّالة: مهلكة.

9 - لا تعدو: لا تتجاوز.

10 - تناهت: بلغت و وصلت.

11 - الهشيم: اليابس المتكسر من النبات.

12 - تذروه: تطيره و تنسفه.

13 - العبرة: بفتح العين الدمعة و قيل هي قبل أن تفيض.

14 - تطله: من الطل و هو المطر الخفيف.

15 - الديمة: مطر يدوم بدون برق و لا رعد.

16 - الرخاء: السعة.

17 - هتنت: انصبت.

18 - المزنة: القطعة من السحاب ذي الماء أو الأبيض منه.

19 - حري: جدير و خليق.

ص: 265

20 - متنكرة: متغيرة من حال تسره إلى حال يكرهها.

21 - اعذوذب: صار عذبا.

22 - احلولى: صار حلوا.

23 - أوبى: صار كثير الوباء و الوباء مرض معد.

24 - الغضارة: طيب العيش، السعة.

25 - الرغب: بالتحريك المرغوب و رغبت في الأمر إذا أردته.

26 - أرهقته: أغشته إياه.

27 - النوائب: جمع نائبة النازلة و المصيبة.

28 - القوادم: للطير هي مقدم ريش جوانحه و هي أربعة عشر ريشة.

29 - الأزواد: جمع زاد ما يتخذ من الطعام للسفر.

30 - يوبقه: يهلكه.

31 - الأبهة: العظمة و الكبر.

32 - النخوة: بفتح النون الافتخار.

33 - دوّل: بضم الدال و فتح الواو المشددة المتحول.

34 - رنق: بفتح فكسر كدر.

35 - الأجاج: المالح.

36 - صبر: بكسر الباء عصارة شجر مر أو نفس الشجر.

37 - سمام: جمع سم مثلث السين.

38 - رمام: بكسر الراء جمع رمة بالضم و هي القطعة البالية من الحبل.

39 - السقم: المرض.

40 - موفورها: صاحب الوفر و هي الثروة.

41 - المنكوب: المصاب.

42 - المحروب: المسلوب للمال.

43 - العديد: كثير العدد.

44 - ظعنوا: رحلوا.

45 - الظهر القاطع: ما يركب من الدواب لقطع الطريق.

46 - الفدية: الفداء مقدار من المال يدفع من أجل تحرير الأسرى.

47 - أرهقتهم: غشيتهم و غطتهم.

48 - القوادح: جمع قادح آفة تظهر في الشجر و صدوع تظهر في الأسنان.

49 - أوهقتهم: من الوهق بفتح الهاء حبل تشد به قائمة الدابة.

50 - القوارع: المحن و الدواهي.

51 - ضعضعتهم: ذللتهم.

ص: 266

52 - عفرتهم: من العفر و هو التراب.

53 - المناخر: الأنوف.

54 - المناسم: جمع منسم خف البعير.

55 - ريب المنون: طوارق الدهر.

56 - دان لها: خضع و ذل، أطاع.

57 - أخلد إليها: ركن إليها.

58 - السغب: الجوع.

59 - الضنك: الضيق.

60 - الوجل: الخوف.

61 - الأجداث: القبور.

62 - الصفيح: الحجارة و في الأصل وجه كل شيء عريض.

63 - الأجنان: جمع جنين - بالتحريك - القبر.

64 - الرفات: العظام البالية.

65 - المندبة: الندب على الميت و هو تعداد محاسنه.

66 - جيدوا: مطروا أي جادت عليهم السماء بالمطر.

67 - قحطوا: من القحط و هو الجدب.

68 - القنوط: اليأس.

69 - الأضغان: الأحقاد.

الشرح

(أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات و تحببت بالعاجلة و راقت بالقليل و تحلت بالآمال و تزينت بالغرور). حذر عليه السلام من الدنيا و قال لنا:

تنبهوا إليها و إلى خطرها و ذكر بعض أوصافها التي يمكن أن تكون هي الأسباب الداعية لنا إلى الإقدام عليها و تناولها.. إنه يضع لنا بعض المفردات التي يمكن أن تدفعنا في مهاوي الانحراف و قد ذكر لنا منها أوصاف.

الأولى: «إنها حلوة خضرة» فطعمها حلو طيب ترغب فيه النفس و تستلذه و كذلك خضرة نضرة تسر الناظرين و يقال: إن ذكره عليه السلام لهذين الوصفين لأكثرية تأديتهما إلى النفس و الالتذاذ بواستطهما دون سائر الحواس...

ص: 267

الثانية: «حفت بالشهوات» فالشهوات محيطة بهذه الدنيا شهوة المال و الجاه و السلطان و الأولاد و غيرها و القوي هو الذي يكسر هذا الستار المضروب و يطيع اللّه فيما أمر...

(و تحببت بالعاجلة). جعلت الناس يحبونها بما فيها من ملذات عاجلة ترغب فيها النفس من مأكل و مشرب و جنس فهي كالمرأة المتحببة بمالها و جمالها...

(و راقت بالقليل). أعجبت الناس بهذا القدر القليل الذي فيها.. فما قيمة المال فيها مقابل الآخرة و ما قيمة الطعام مقابل طعام الآخرة و ما قيمة القصور مقابل الجنان في الآخرة و ما قيمة الخدم و الحشم مقابل الولدان و الخدم في الآخرة ؟!.

(و تحلت بالآمال). تزينت لأهلها بما يؤملون منها و هي آمال باطلة غير مستقرة يؤمل الإنسان بحسب صحته أنه يعيش و كأنه مخلد فيها فيعمل بمقتضى هذا الأمل و إذا بالموت يأتيه فيرديه...

(و تزينت بالغرور). أظهرت زينتها بما فيها من مال و جاه و نعيم و لكنها زينة باطلة لعدم دوامها و بقائها بل هي كالظل يختفي بسرعة.

(لا تدوم حبرتها). لا تدوم مسراتها و لا تستقر ملذاتها و أي سرور يستقر و من لطائف ما قرأت أن يزيد بن عبد الملك عند ما أفضت إليه الخلافة قالت له زوجته: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء قال: نعم قالت: و ما هو قال: حبابة - و هي مغنية كان يحبها قبل الخلافة - فاشترتها له و هو لا يعلم و زينتها و أجلستها(1) من وراء ستر لها ثم قالت: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء قال: أو ما أعلمتك أنها حبابة فرفعت الستر و قالت: ها أنت و حبابة و تركته و إياها فحظيت عنده و غلبت في عقله.. و إنه قال يوما: إن بعض الناس يقولون: إنه لن يصفو لأحد من الملوك يوم كامل من الدهر و إني أريد أن أكذبهم في ذلك ثم أقبل على لذاته و اختلى مع حبابة و أمر أن يحجب عن سمعه و بصره كل ما يكره فبينما هو على تلك الحالة في صفو عيشه و زيادة فرحه و سروره إذ تناولت حبابة حبة رمان و هي تضحك فغصت بها فماتت فاختل عقل يزيد و تكذر عيشه و ذهب سروره و وجد عليها وجدا شديدا...

(و لا تؤمن فجعتها). فمصائبها و رزاياها على أهبة الاستعداد بينما الإنسان في عرس و إذا به ينتقل إلى مأتم و بينما هو في سرور و إذا به ينتقل إلى حزن.1.

ص: 268


1- حياة الحيوان الكبرى للدميري ج 1 ص 71.

(غرارة ضرارة). فهي كثيرة الغرور بما تظهر من أمور تعجب الناس و هي كثيرة الضرر لهم لأنها تجرهم إلى النار بملذاتها المؤقتة و تفوّت عليهم المنافع الحقيقية في الآخرة...

(حائلة زائلة). إنها متغيرة من حال إلى حال لا تستقر و نحن نرى تغير الدنيا و تحولاتها فبينما هو اليوم في الملك و السلطان و إذا به يطارد غدا و لا ترى له قرار و بينما هو اليوم في صحة جيدة إذ به غدا طريح الفراش يصرخ و يشتكي و هكذا... و هي أيضا زائلة لا بقاء لها تمضي بسرعة و تنقضي على عجل...

(نافذة بائدة). إنها تنتهي إلى مدة مضروبة لها لا تتجاوزها و هي هالكة لا خلود لها و لا دوام...

(أكّالة غوالة). فهي تأكل الناس و تبتلعهم و هي تهلكهم و لا تبقي منهم أحدا فعلى كثرة ما تدفع الأرحام تبتلع الأرض.

(لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها و الرضا بها أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه: «كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً» ). لا تتجاوز الدنيا بما فيها عند الراغبين فيها و الراضين بها و المتمنين لها أن تكون أكثر مما ضربه اللّه لها مثلا في القرآن من أنها تعجبهم و تزهر في عيونهم و تروقهم محاسنها ثم عن قليل تزول عنهم و تنزوي عن ساحتهم، و تتحول إلى غيرهم... فحال من أعجبتهم و حلت في أعينهم كحال الزرع الأخضر النضر يأتي عليه الزمن فيصيبه اليباس ثم يتحطم و تنسفه الريح في الفضاء و الدنيا هكذا تعجب أشخاصا و تروق لهم ثم تنزوي عنهم و تتخلى عن رغباتهم...

(لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة). و هذه حال الدنيا بعد السرور يأتي الحزن و بعد العرس و الفرح يأتي المأتم و الحزن.

(و لم يلق في سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا). لم يتناول من خيرها شيئا إلا جاءته بشر بعده و تعبيره بالبطن للسراء لأن من يلقى صاحبه بالبشر و السرور يلقاه بوجهه و عبر بالظهر للضراء لأن من يلقى عدوه بشر أو باشمئزاز و كراهية يعطيه ظهره...

و تعبيره بالظهر و البطن يمكن أن يشير إلى قرب السراء من الضراء و أنهما متلاصقان لا يفصل بينهما حاجز...

(و لم تطله فيها ديمة رخاء إلا هتنت عليه مزنة بلاء). لم تعطه قليلا من العيش

ص: 269

الرغيد و السعة و الجاه إلا و أعقبت ذلك ضيقا و غما و مطاردة و عبّر عن الخير الذي يصيبه من الدنيا بالمطر الخفيف القليل و مقابل ذلك سقوط الشدة و البلاء عليه بالغيوم ذي الأمطار الكثيرة...

(و حرّي إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة). و جدير بها و هو ان طبعها أنها إذا انتصرت لإنسان و أعزته و رفعت مقامه صباحا أن تهزمه في آخر النهار و تتغير عليه و كم من نجاح باهر و فرته له الحياة صباحا لم يأت المساء إلا و أعقبته هزيمة مرة و غصّة مؤلمة...

(و إن جانب منها اعذوذب و احلولى أمّر منها جانب فأوبى). إذا صفت من جانب الصحة و تمتع بها فإنها من جانب المادة و المال يذوق حرارة الحاجة و الفقر..، و إن صفت من جانب الأولاد فكانوا صالحين تعكرت من جهة الجيران و الخلان فكانوا متهتكين غير ملتزمين...

(لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعبا). لم ينل الإنسان من نعيمها ما يرغب فيه و يريده إلا حملته و أغشته من نوائبها و مصائبها التعب و المشقة...

(و لا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف). بينما هو مساء في أمن و دعة إذ به يصبح في معرض الخوف و الفزع إشارة لكثرة تقلبها و سرعته و تعبيره بجناح أمن لما في الجناح من العز و الأمن بينما القوادم و هي ريش مقدم الجناح لأنها دقيقة و الراكب عليها في معرض الخطر أتى به.

(غرارة غرور ما فيها فانية فان من عليها). إنها تغر الإنسان كثيرا يراها كل أمنيته و غاية نظره لأنها تزينت له و لبست أجمل حللها فغرته و كذلك كل ما فيها من جمال و مال و شباب و أولاد و زينة كلها تغر هذا الإنسان و تدفعه إلى حبها و السير ورائها ظنا منه أنها تبقى له و يدوم لها و لكنها فانية و يفنى من عليها و لا يبقى أحد سوى وجه اللّه العزيز القهار...

(لا خير في شيء من أزوادها إلا التقوى). نفي لكل زاد يتصور الإنسان أنه يتزود منه في الدنيا إلا زاد التقوى.. فالمال لا يبقى و الجاه يزول و الأولاد يموتون و السلطان ينقضي نعم لا يبقى و لا يفيد الإنسان و ينفعه إلا التقوى المتجسدة بالقيام بالواجبات الشرعية و ترك المحرمات الإلهية...

(من أقلّ منها استكثر مما يؤمنه و من استكثر منها استكثر مما يوبقه و زال عما قليل عنه). هذه معادلة مغايرة لما عند الناس، إنها معادلة تنسف ما تسالم عليه الناس

ص: 270

و توافقوا.. إنها تقول - و كما هي الحقيقة -: إن من يكثر جمع ما في الدنيا يهلكه و يرديه في الآخرة لأنه إن كان من حلال ففيه حساب و إن كان من حرام كان فيه العذاب و بعد هذا أيضا يفارقه و يجعل في نفسه حسرة. و بعبارة أخرى من جمع من حطامها زاد حمله فأعجزه و هذا عكس المخف الذي يقلل من الجمع من حطامها فإنه يأمن من غوائلها و من العقاب عليها...

(كم من واثق بها قد فجعته). كثيرون هم الذين وثقوا بالدنيا و ظنوا أنها لا تتحول عنهم و لا تغدر بهم فإذا بها تصيبهم في أنفسهم و في أعز ما عندهم...

(و ذي طمأنينة إليها قد صرعته). اطمأن إليها و ارتاح إلى نعيمها فإذا به صريعا مع الموتى أو في مشروعهم و على قائمتهم...

(و ذي أبهة قد جعلته حقيرا). كان صاحب عظمة و فخامة على رأس السلطة فإذا بانقلاب عسكري يطيح به و يجعله في أذل مكان و أحقره و كم ينقل لنا التاريخ عن نادي الملوك المخلوعين و كم يذكر لنا من ملوك قد تسكعوا على الأبواب يستجدون لقمة العيش بعد ذلك العز و الأبهة و العظمة...

(و ذي نخوة قد ردته ذليلا). قد كان يفتخر على الأقران و يثور من أجل الكرامة فإذا به يعود ذليلا حقيرا لا يملك ماء وجهه...

(سلطانها دول). تتنقل من يد إلى يد سبحانه يهلك ملوكا و يستخلف آخرين فالسوقة ربما صار ملكا و الملك ربما صار سوقة...

(و عيشها رنق).

عيشها متكدر لا صفاء فيه و كما قال الشاعر:

طبعت على كدر و أنت تريدها *** صفوا من الأقذار و الأكدار

(و عذبها أجاج). السائغ من شرابها و الصافي منه ما لح مرّ لا يكاد يستساغ.

(و حلوها صبر). الحلو منها و الطيب مرّ المذاق كالصبر و هو نبات يعرف بشدة مرارته...

(و غذاؤها سمام). طعامها سم قاتل قالوا: كنى بها عن لذاتها بالغذاء و أن الانهماك في ذلك موجب للهلاك في الآخرة...

(و أسبابها رمام). أسباب الدنيا بالية فتسقط الأولاد و الأموال و لا تنفع أو تشفع كما

ص: 271

قال تعالى: «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً» هذا إذا لم يكونوا صالحين أتقياء...

(حيها بعرض موت و صحيحها بعرض سقم). هذا الحي الذي يتحرك و يملأ الدنيا بنظرياته و يشغل العالم بما يعمل و يفكر إنه سيموت، بل يحمل موته في طيات حياته و كل يوم يمر عليه يقترب فيه من آخرته...

و هذا السليم الصحيح في معرض المرض و الشيخوخة مرض العقل و الجسد..

هذا المعافى تقعده جرثومة صغيرة لا ترى بالعين المجردة... إنه يحمل سقمه في عافيته...

(ملكها مسلوب). كل ما تملكه ستتخلى عنه إما تنتزعه منك الأيام بنكباتها و مصائبها و إما ستتخلى عنه للوراث و على كل حال لن يدوم لك و لن تدوم مالكا له.

(و عزيزها مغلوب). هذا العزيز الذي كان يحمي ساحته و يدفع عن كرامته فهو أمام الموت مغلوب مقهور.

(و موفورها منكوب). صاحب المال الكثير مصاب بماله إما ينكبه الدهر بأن يصاب بالفلس و العوز بعد الغنى كما نشاهد في بعض الناس و إما ينكب بنفسه فيتخلى عما يملك لغيره...

(و جارها محروب). أي جار الدنيا مسلوب منه ما يملك لأنها لا تحفظ الجوار و لا ترعى حق الدار...

(ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا و أبقى آثارا و أبعد آمالا و أعد عديدا و أكثف جنودا). استفهام استنكاري لهؤلاء الذين يعيشون معه أن يكون مثلهم كمثل من تقدمهم و لم يعتبروا بهم و لم يأخذوا الدروس مما مرّ عليهم.

ذكّرهم ببعض خصائص من مضى و مع ذلك لم تنفعهم تلك الذكرى فلقد كان من قبلهم أطول أعمارا و القرآن يحكي عمر نوح و مدة إقامته في قومه بقوله: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً» (1). و قد كانوا أبقى آثارا و تلك الشواهد أمامنا كأهرامات مصر و قلعة بعلبك و غيرهما...

و كانوا أبعد أمالا لأن طول العمر يستدعي طول الأمل كما هو الغالب.4.

ص: 272


1- سورة العنكبوت آية - 14.

و كانوا أعد عديدا أي أكثر عددا.

و كانوا أكثف جندا فإن الرعية كلها جنود بأمرة السلطان.. و من يخرج عن إرادة فرعون إذا وجهه إلى القتال؟!.

(تعبدوا للدنيا أي تعبد و آثروها أي إيثار). فإن أولئك الماضين أصحاب تلك الخصائص قد أذلوا أنفسهم للدنيا و ما فيها و توجهوا إليها بكل جهودهم حتى أضحت معبودة عندهم.

و كذلك قدموها على الآخرة و رجحوا كفتها على ما عند اللّه و لكنها لم تبق لهم و لم يبقوا لها.

(ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ و لا ظهر قاطع). فبعد هذا التعبد منهم للدنيا و إيثارهم لها على الآخرة تركوها و رحلوا عنها مكرهين بغير زاد يشبعهم منها أو يكفيهم و لا وسيلة يقطعون بها هذا الطريق الصعب إلى الآخرة.. إنهم رحلوا عنها و لم يكن لهم من الطاعات و القربات ما يكتفون به في الآخرة أو يعينهم على تذليل الصعوبات في هذا الطريق الذي يبتدأ بالموت و ينتهي بالنار أو الجنة...

(فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية أو أعانتهم بمعونة أو أحسنت لهم صحبة). و هذا استفهام إنكاري ثاني لتشديد الأمر عليهم لعلهم يتنبهون و من غفلتهم يستيقظون...

هل وصل إلى أسماعكم أن الدنيا تكرمت عليهم و قدمت من نفسها فدية لهم تفديهم بها من الموت و تدفع عنهم سطوته أو أنها قدمت لهم معونة على التغلب عليه أو على دفعه أو أحسنت لهم صحبة بأن سألت عنهم و اهتمت بهم على حد اهتمام الأصحاب ببعضهم، إنه لم يكن شيء من ذلك و في هذا أكبر اعتبار...

(بل أرهقتهم بالقوادح و أوهقتهم بالقوارع). بعد أن نفى عن الدنيا كل مساعدة لمن أحبها و آثرها أراد أن يقرر و يثبت أنها عكس ذلك فعلت إنها أغشت أهلها بالشدائد و أثقلتهم بها هذا إذا كانت لفظة الفوادح بالفاء و أما إذا كانت بالقاف فمعناه غشيتهم بالأمراض الصعبة المستعصية على الطب.

و كذلك أضعفتهم بالمحن و الدواهي و حبستهم فيها فلا يكادون يفكون أنفسهم...

(و ضعضعتهم بالنوائب و عفرتهم للمناخر). أذلتهم بالمصائب التي صبتها عليهم

ص: 273

و مرغتهم بالتراب حتى أنوفهم أي أذلتهم إلى منتهى الذل...

(و وطئتهم بالمناسم و أعانت عليهم ريب المنون). داستهم بأخفافها و أعانت عليهم حوادث الدهر و مصائبه.

(فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها و آثرها و أخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد).

فمن ذل لها و أطاعها و استسلم لحكمها و قدمها على الآخرة تنكرت له و أدبرت عنه و تغيرت عليه و كأنها لا تعرفه و لم تتعرف عليه فقد تغيرت عليهم حينما رحلوا عنها إلى الآخرة و فارقوها إلى اللالقاء...

(و هل زودتهم إلا السغب أو أحلتهم إلا الضنك). إنها لم تزودهم إلا بالجوع فهي لم تنفعهم بشيء و إنما حرمتهم التقوى التي هي خير الزاد حيث غفلوا عنها بوعود الدنيا الكاذبة و لم تنزلهم إلا في ضيق القبور و الحال أنهم بحاجة إلى كل فسحة ترتاح لها النفوس...

(أو نورت لهم إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا الندامة). جعلت لهم الظلمة تحل محل النور و لم يحصلوا في النهاية إلا على الحسرة و الندم على ما اعتمدوا عليه منها...

(أ فهذه تؤثرون أم إليها تطمئنون أم عليها تحرصون). بعد أن بيّن معايب الدنيا و أفعالها و ما جنته على من أحبها و آثرها أنكر عليهم بصيغة الاستفهام لتكون أقوى و أقرب للقبول.. أ فهل هذه الدنيا هي التي تقدمونها على الآخرة و هي التي تسكنون إليها و تتمسكون بها و لا تقبلون عنها بدلا و عنها متحولا.

(فبئست الدار لمن لم يتهمها و لم يكن فيها على و جل منها). إنها دار شؤم و تعاسة لمن اطمأن إليها و وثق بها و هي كذلك لمن لم يخف منها و يحسب لها ألف حساب و حساب لأنها سترديه و تقتله و توصله إلى النار...

أما من أتهمها بمعاداته و إضلاله و الانحراف به و خاف منها و من غوائلها فهذه نعم الدار لأنه يتخذها طريقا إلى الآخرة و يعمل فيها لسعادته الدائمة...

(فاعلموا - و أنتم تعلمون - بأنكم تاركوها و ظاعنون عنها). اعلموا و أنتم على معرفة و علم بما أقول، أقول لكم: إنكم تاركوها لغيركم و راحلون عنها إلى الدار الآخرة و إذا علم الإنسان بذلك لا يأسف على ما يتركه بل يأخذ بالاستعداد لما يقدم عليه...

(و اتعظوا فيها بالذين قالوا: «مَنْ أَشَدُّ مِنّٰا قُوَّةً » حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا و انزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا). لفت أنظارهم إلى من تقدم قبلهم ليعتبروا

ص: 274

بهم فقد اعتد هؤلاء الأوائل بقوتهم و عددهم و عدتهم كما قصّ اللّه أقوالهم في التنزيل حيث قال: «وَ قٰالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّٰا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً » (1)و لكن مع هذه القوة ماتوا و حملوا على أكتاف الرجال و لم يتمتعوا بعدها بما تمتع به الأحياء و قد عدّ جملة منها أفقدتهم صفة الأحياء:.

أ - إنهم و إن حملوا على أكتاف الرجال فلا يدعون ركبانا لأنهم أموات كالجمادات.

ب - إنهم و إن نزلوا الأجداث فلا يسمون ضيوفا و العادة الجارية عند العرب أن من نزل منزلا سمي ضيفا.

(و جعل لهم من الصفيح أجنان و من التراب أكفان و من الرفات جيران فهم جيرة لا يجيبون داعيا و لا يمنعون ضيما و لا يبالون مندبة). و هذه نهاية هذا الإنسان و خاتمة مطافه فإلى القبور مصيره و فيها مستقرهم يجعل لهم من الصخور قبور تسترهم و من التراب أكفان تواريهم إما لأن التراب يغطيهم و إما لأنهم يصبحون ترابا.

و بدل جيران الدنيا الذين كانت لهم مواصفات الأحياء من التزوار و دفع الضيم و الاستجابة للدعوة و غيرها من الحالات فهؤلاء الجيران ليس لهم أي شيء من هذه الصفات و يذكر بعض ذلك:

أ - فقد تجاورت العظام البالية فهذا قبر قد فني من فيه إلا عظام يجاور مثله بالقرب منه...

ب - إنهم لا يلبون من دعاهم إلى أمر وليمة أو فرح أو حزن.

ج - إنهم لا يدفعون ظلما طال أحدا من الناس بل لا يدفعون عن أنفسهم فكيف عن غيرهم.

د - إنهم لا يكترثون و لا يتأثرون بالنوح على الأموات و ندبهم شأن الأحياء الذين تأخذهم الرقة فيتأثرون عاطفيا و يتعاطفون مع الحالات النفسية التي يعيشها النادبون...

(إن جيدوا لم يفرحوا و ان قحطوا لم يقنطوا جميع و هم آحاد و جيرة و هم أبعاد، متدانون لا يتزاورون و قريبون لا يتقاربون حلماء قد ذهبت أضغانهم و جهلاء قد ماتت أحقادهم لا يخشى فجعهم و لا يرجى دفعهم). لا يزال ينفي عنهم صفات الأحياء و هذه جملة مما نفي:5.

ص: 275


1- سورة فصلت آية - 15.

ه - إن أمطروا و أخصبت الأرض لم يفرحوا و إن أجدبت الأرض و منعت السماء خيرها لم يدب اليأس إلى قلوبهم كما هو شأن الأحياء الذين يتغيرون بتغير الأحوال و الظروف...

و - إنهم في حال اجتماعهم على صعيد واحد في مقبرة واحدة لكنهم منفردون كل واحد مستقل عن الآخر منفرد عنه.

ز - مع كونهم جيران متقاربون في السكن و المكان و لكنهم متباعدون عن بعضهم لأن الاتصال بينهم منقطع و العلاقات غير موصولة.

ح - إنهم على قرب ديارهم من بعضها ليست بينهم زيارات كما هي عادة الأحياء.

ط - إنهم بالرغم من قرب بعضهم لبعض لا يقترب أحد من أحد فهذه الأشبار التي تفصلهم عن بعضهم لا تحد و لا تعد و لا يقدر أحد على قطع مسافاتها...

ي - وصفهم بالحلماء الذين ماتت أحقادهم تنزيلا لهم هذه المنزلة و إن كانوا أمواتا لفقد الموضوع من أصله و كذلك نزلهم منزلة الجهلاء من حيث إن أحقادهم قد ماتت بموتهم.

ك - باعتبار أنهم فقدوا الحياة فلا يخاف منهم ضرر يصل إليك كما أنك لا ترجو منهم دفعا عنك لأمر تكرهه أو دفاعا عنك في موقف...

(استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا). كانوا يعيشون على ظهر الأرض يتحركون فيها كانت لهم بساطا مريحا فتحولوا عنها إلى باطنها إلى قبر في أحشاء الأرض تدوسه الأقدام و تسفي عليه الرياح التراب...

و وجه الأرض بكل سعتها كانت لهذا الميت يتحرك فيها أين يشاء و في أي زمان يشاء فاستبدل ذلك كله بضيق القبر و مساحته الصغيرة.

(و بالأهل غربة و بالنور ظلمة). استبدلوا عن الأهل و العشيرة غربة القبر فانفردوا فيه و تخلت عنهم معارفهم و من لهم بهم صلة...

كما أنهم استبدلوا ما كانوا يتمتعون به من نور النهار أو نور السراء ظلمة القبر و وحشته.

(فجاءوها كما فارقوها، حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية كما قال سبحانه و تعالى: «كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ » ). فجاءوا إلى الدنيا حفاة عراة كما أنهم فارقوها و خرجوا منها كذلك حفاة عراة قال تعالى: «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونٰا فُرٰادىٰ كَمٰا خَلَقْنٰاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مٰا خَوَّلْنٰاكُمْ وَرٰاءَ ظُهُورِكُمْ » (1). قال الطبرسي في تفسيره «فُرٰادىٰ » أي وحدانا لا مال لكم و لا خول و لا ولد و لا حشم.

ص: 276

(فجاءوها كما فارقوها، حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية كما قال سبحانه و تعالى: «كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ » ). فجاءوا إلى الدنيا حفاة عراة كما أنهم فارقوها و خرجوا منها كذلك حفاة عراة قال تعالى: «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونٰا فُرٰادىٰ كَمٰا خَلَقْنٰاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مٰا خَوَّلْنٰاكُمْ وَرٰاءَ ظُهُورِكُمْ » (1). قال الطبرسي في تفسيره «فُرٰادىٰ » أي وحدانا لا مال لكم و لا خول و لا ولد و لا حشم.

و في قوله: «كَمٰا خَلَقْنٰاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ » أي كما خلقناكم في بطون أمهاتكم فلا ناصر لكم و لا معين عن الجبائي و قيل معناه ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله إنه قال:

تحشرون حفاة عراة عزلا.

ثم أخبر أنهم يخرجون عن الدنيا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة فإن كانت الأعمال صالحة فإلى روح و ريحان و جنة نعيم و إن كانت الأعمال طالحة فإلى نار و عذاب الجحيم و على كل حال إنه الخلود المؤبد إما في الجنة و إما في النار، إنها دار باقية لا يتحول عنها الإنسان و لا يخرج منها.

ثم استشهد عليه السلام بهذه الآية الكريمة «كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ » إشارة إلى البعث و الحساب و أن اللّه الذي خلق الإنسان من اللاشيء قادر على إحيائه بعد الموت و إعادته للحساب...4.

ص: 277


1- سورة الأنعام آية - 94.

112 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

ذكر فيها ملك الموت و توفية النفس و عجز الخلق عن وصف الله هل تحسّ به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه إذا توفّى (1) أحدا؟ بل كيف يتوفّى الجنين (2) في بطن أمّه! أ يلج (3) عليه من بعض جوارحها (4) أم الرّوح أجابته بإذن ربّها؟ أم هو ساكن معه في أحشائها (5)؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله!.

اللغة

1 - التوفي: الإماتة و قبض الأرواح.

2 - الجنين: الولد في بطن أمه.

3 - ولج: دخل.

4 - الجوارح: الأعضاء.

5 - الاحشاء: ما فى البطن من الأمعاء و غيرها.

الشرح

(هل تحس به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه إذا توفى أحدا، بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه أ يلج عليه من بعض جوارحها أم الروح أجابته بإذن ربها، أم هو ساكن معه في أحشائها، كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله). قالوا: إن هذا الكلام منه عليه السلام ملتقط من جملة كلام له كان قد خطب به في معرض توحيد اللّه و تنزيهه عن

ص: 278

اطلاع العقول على كنه ذاته و خصائص صفاته و قد قدم ليبيّن عجز المخلوق عن إدراك قضية من مخلوق مثله فكيف يدرك ذات اللّه و صفاته ثم خلص إلى تنزيه اللّه الذي هو خالق الخلق جميعا.

تحدث عن ملك الموت الموكل بقبض الأرواح و استفهم على سبيل الإنكار قائلا هل تحس بهذا الملك إذا دخل منزلا لقبض روح صاحبه كلا فلا يقع تحت واحدة من الحواس فلا يحس و لا يشم و لا يذاق و كذلك لا تراه العيون.

و هناك أعظم من هذه كيف يتوفى الجنين في بطن أمه و قد حصر وفاة الجنين بأمر من ثلاثة:.

1 - إما أن يلج عليه لقبض روحه من بعض جوارحها و هذا على فرض أن يكون خارجا عنها و بعيدا عنها.

2 - و إما أن يكون قد أعطي سلطة الأمر و النهي و فرض اللّه على الأرواح الاستجابة له فهو يأمر الروح بالخروج من السجد فتذعن و تستجيب له. و هذا أيضا على فرض أن يكون خارجا و بعيدا عنها.

3 - و إما أن نفرضه في داخل الأحشاء و يعيش مع الجنين فهو يتولى قبض روحه بإذن ربه.

قال ابن أبي الحديد و هذه القسمة من الإمام لهذه الحالة لا يمكن الزيادة عليها و لو قسمها واضع المنطق لما زاد.

و هذا القول منه حط لمقام الإمامة و عدم علم بمرتبتها السامية الشريفة و ما واضع علم المنطق إلا بشر تفوق ببعض ما أعطاه اللّه فكيف بمن أعطاه اللّه كل معقول و جعله أسمى العقول و مصحح العقول...

ثم خلص عليه السلام إلى القضية الأساسية و المحور الذي من أجله ساق هذه المقدمة ليقول: كيف يصف إلهه و يعرف هويته من يجهل معرفة بعض مخلوقاته و خصائص بعض موجوداته...، فمن كان في هذه عاجز فهو في معرفة اللّه و صفاته أعجز و أعيا.

ص: 279

113 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في ذم الدنيا و أحذّركم الدّنيا فإنّها منزل قلعة (1)، و ليست بدار نجعة (2). قد تزيّنت بغرورها، و غرّت بزينتها. دار هانت (3) على ربّها، فخلط حلالها بحرامها، و خيرها بشرّها، و حياتها بموتها، و حلوها بمرّها. لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه، و لم يضنّ (4) بها على أعدائه. خيرها زهيد (5) و شرّها عتيد (6). و جمعها ينفد (7)، و ملكها يسلب، و عامرها يخرب. فما خير دار تنقض نقض (8) البناء، و عمر يفنى فيها فناء الزّاد، و مدّة تنقطع انقطاع السّير! اجعلوا ما افترض اللّه عليكم من طلبكم، و اسألوه من أداء حقّه ما سألكم.

و أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إنّ الزّاهدين في الدّنيا تبكي قلوبهم و إن ضحكوا، و يشتدّ حزنهم و إن فرحوا، و يكثر مقتهم (9) أنفسهم و إن اغتبطوا (10) بما رزقوا. قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال (11)، و حضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدّنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة، و إنّما أنتم إخوان على دين اللّه، ما فرّق بينكم إلاّ خبث السّرائر، و سوء الضّمائر. فلا توازرون (12) و لا تناصحون، و لا تباذلون (13) و لا توادّون (14). ما بالكم تفرحون باليسير من الدّنيا تدركونه، و لا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه! و يقلقكم (15) اليسير من الدّنيا يفوتكم، حتّى يتبيّن ذلك في وجوهكم، و قلّة صبركم عمّا زوي (16) منها

ص: 280

عنكم! كأنّها دار مقامكم، و كأنّ متاعها باق عليكم. و ما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه، إلاّ مخافة أن يستقبله بمثله. قد تصافيتم على رفض الآجل و حبّ العاجل، و صار دين أحدكم لعقة (17) على لسانه، صنيع من قد فرغ من عمله، و أحرز رضي سيّده.

اللغة

1 - منزل قلعة: بضم القاف المكان الذي لا يثبت فيه صاحبه و يقال مجلس قلعة إذا كان أصحابه يحتاجون إلى القيام عنه مرة بعد أخرى.

2 - النجعة: بضم النون طلب الكلأ في موضعه.

3 - هانت: ذلت.

4 - يضن: يبخل.

5 - زهيد: قليل.

6 - العتيد: الحاضر، المهيأ المعدّ.

7 - ينفد: يفني.

8 - نقض البناء: هدّه و هدمه.

9 - المقت: البغض.

10 - اغتبطوا: فرحوا.

11 - الآجال: أوقات الموت.

12 - لا توازرون: لا تتعاونون.

13 - لا تباذلون: لا يبذل بعضكم لبعض أي لا يجود و يعطي.

14 - و لا توادون: و هو الحب أي لا يبادل بعضكم بعضا الحب.

15 - يقلقكم: يزعجكم.

16 - زوي: الشيء عن فلان نحي و منع منه.

17 - اللعقة: بضم اللام اسم لما يلعق أي يؤكل بالإصبع أو بالملعقة.

الشرح

(و أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة و ليست بدار نجعة). اهتم الإمام بالدنيا كثيرا و ذكرها في خطبه و لكن اهتمامه بها و ذكره لها كان من باب التحذير منها و الهروب من

ص: 281

حبالها و رفضها و رفض ما يتعلق بها و قد بذل قصارى جهده في سبيل أن يدفع الناس عنها و التوجه بهم نحو الآخرة و هذه الخطبة الشريفة إحدى تلك العينات من كلامه فقد حذّر الناس منها و بيّن أنها دار لا يستقر فيها المقيم بل دائما على جناح سفر و هذه قائمة الأجداد و الأحباب لم يبق منهم فيها أحد قد خرجوا منها و سنخرج نحن أيضا كما خرجوا فهي ليست دار إقامة و استقرار و لا دار كلأ و مرعى و مأكل و مشرب و لذة و سرور...

(قد تزينت بغرورها و غرت بزينتها). جعلت الغرور زينة لها ثم بهذه الزينة غرت الناس و خدعتهم عن أهدافهم الأساسية و بعبارة بعض الشراح حاكت شباك الصيد و اصطادت كثيرين...

(دار هانت على ربها فخلط حلالها بحرامها و خيرها بشرها و حياتها بموتها و حلوها بمرها). دار الدنيا بالنسبة إلى الآخرة دار هانت على ربها و من هوانها أنك تجد الحلال مخلوط بالحرام فإلى جانب الماء مدامة و إلى جانب الطيب خبيث و إلى جانب الخير شر فمقابل إكرام اليتيم هناك من يهينه و إلى جانب العناية بالفقير هناك من يقهره، و إلى جانب الحياة موت و الحلو مرّ فلا صفاء فيها كما هو الحال في الآخرة فهناك أمن و أمان و هنا تعب و أحزان و هناك نعيم دائم و هنا عذاب متواصل و الفرق كبير و الشقة واسعة...

(لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه و لم يضن بها على أعدائه). أولياء اللّه الذين أخلصوا له و اعتمدوا عليه و توجهوا نحوه و كانوا أحق الناس أن يعتنى بهم لم يجعلها صافية لهم و كيف صفت و تلك مسيرتهم شاهدة على أنهم من أشد الناس تعبا و جهادا فيها فقد كانت حركتهم مملوءة بالعذاب فهذا تاريخ الأنبياء كله مسيرة عذاب و إيذاء فإبراهيم و موسى و عيسى و محمد و جميع الأنبياء جاهدوا بأنفسهم و قدموا ما يملكون من أجل اللّه و دينه و قد اكتفوا منها بما يسد الرمق و يحفظ عليهم الحياة و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله:

«ما أوذي نبي كما أوذيت» فقد جاع و ربط حجر المجاعة على بطنه...

و في المقابل كانت الدنيا قد أقبلت على الطغاة و المنحرفين و من ادعى الربوبية و استعبد الناس و استذلهم و الشاهد على ذلك فرعون و قارون و نمرود و غيرهم و هذا من هوانها على اللّه و أنه سبحانه لم يجعلها لأوليائه لزوالها و فنائها و عدم بقائها بينما جعلها للكافرين يتمتعون بها أياما قليلة يساقون بعدها إلى عذاب الجحيم...

(خيرها زهيد و شرها عتيد). خيرها قليل و دليل قلته قلة المؤمنين العاملين بهذا الخير بينما شرها حاضر في متناول الناس و لذا ترى الأشرار أكثر...

ص: 282

(و جمعها ينفد). كل ما فيها إلى الفناء و الهلاك قال تعالى: «لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ » .

(و ملكها يسلب). فهذه الأرض تداولتها السلاطين و لم تستقر عليها يد إلا إلى مدة لتنتقل إلى يد أخرى أما بالغلبة أو بالموت و إذا شئت فاضرب بنظرك إلى ما تملك كم من يد وضعت عليها و كم من يد قبل يدك تقدمت عليها...

(و عامرها يخرب). فالبناء الشميد و القصر المرمري الجميل سيندك و يتهدم و لا يبقى منه إلا أطلال يمر عليها الناس و يتذكرون أربابها و من عاش فيها.

(فما خير دار تنقض نقض البناء و عمر يفنى فيها فناء الزاد و مدة تنقطع انقطاع السير). تقليل لأهميتها و استصغار لها بصيغة الإنكار و أنه لا خير في دار الدنيا التي يتهدم منها حجر إثر حجر و يسقط من عمرانها واحد بعد آخر فهذه الحضارات تتساقط و هذه المدنيات تتساقط و هذه المدن و البلدان تزول عن خريطة الوجود.

و أما الأعمار فهي باستمرار يأكلها الليل و النهار و يأتي على أصحابها الزمان.

و أما مدة البقاء في الدنيا فإنها تنتهي كما تنتهي المسافة التي يقطعها المسافر و يتوقف عندها.

(اجعلوا ما افترض اللّه عليكم من طلبكم و اسألوه من أداء حقه ما سألكم). اجعلوا من جملة ما تطلبونه من الله ما افترض عليكم من واجبات و حقوق لأن هذه الواجبات المفترضة إذا تحولت إلى أمور مطلوبة للعبد أضحت محبوبة له و مرغوبة فيجدّ فيها و يحافظ عليها و يحفظها و كذلك اسألوا اللّه أن يعينكم على ما أمركم به و طلبه منكم.

و نكتة المقابلة بين اسألوه ما سألكم على حد قوله تعالى: «وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا» لأجل المقابلة بين اللفظين و فيه ما فيه من الحسن و البديع.

(و اسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم). احسبوا لذلك القادم حسابه و أعدوا له عدته و اعملوا له و لما بعده و اقصدوا الأماكن التي تذكركم بالموت كمجالس الوعظ و المقابر و المصحات التي تجبر الإنسان على التفكير في الموت فإنها محطات يتزود الإنسان منها للآخرة و يتذكر الموت قبل حلوله بساحته و قبل أن يأتي دوره...

(إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم و إن ضحكوا و يشتد حزنهم و إن فرحوا و يكثر مقتهم أنفسهم و إن اغتبطوا بما رزقوا). ذكر بعض أوصاف هذا الصنف من الناس الطيبين لعلهم يرغبون في الاقتداء بهم و يمشون على سيرتهم...

ص: 283

إنهم الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة و قد وصفهم بأن قلوبهم تبكي خوفا من اللّه و شوقا إليه و إن ضحكوا أمام الناس و في وجوههم و العمدة على القلب ما ذا يحمل و ما ينوي و أما معاملة الناس و مجاراتهم فأمر آخر.

و كذلك يشتد حزنهم على ما يفوتهم من الطاعات أو على بعض التقصير و إن فرحوا ظاهرا ببعض الأعمال الطيبة التي يمارسونها و يقومون بها...

و كذلك يبغضون أنفسهم لأنها الأمارة بالسوء المضلة لهم عن مستقيم الطريق فلا يتركون لها الأمر و لا يسمحون لها أن توردهم النار و إن اغتبطهم الناس على ما أنعم اللّه به عليهم...

(قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال و حضرتكم كواذب الآمال فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة و العاجلة أذهب بكم من الآجلة). و هذا عيب حاضر عند الكثيرين حيث يغيب عن قلوبهم ذكر الموت فتسقط كل الاستعدادات له و كل ما يسهله عند نزوله و يخفف من وطأته عند حلوله.

بل على العكس من ذلك حضرت في القلوب الآمال الكاذبة المتمثلة بالشباب و الصحة و المال و ظنوا أن هذه ستدوم لهم و تبقى فسعوا من أجلها فقطعوا الأرحام و اعتدوا على العباد و أفسدوا بمالهم ما قدروا عليه.

و من هنا صارت الدنيا أولى بكم و صارت توجهكم كيف شاءت و صرتم لها تابعين خادمين على عكس الآخرة التي أضحت عندكم شيئا ثانويا لا تنظرون إليها إلا في مرحلة متأخرة و بقليل من الاهتمام...

لقد أخذتكم الدنيا أكثر مما أخذتكم الآخرة أي استولت عليكم الدنيا أكثر من استيلاء الآخرة عليكم.

(و إنما أنتم إخوان على دين اللّه ما فرق بينكم إلا خبث السرائر و سوء الضمائر).

و هذا بيان لوحدة المسلمين و أنهم أخوة في دين اللّه قال تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » و بمقتضى هذه الوحدة أن تتوحد الجهود و تتلاقى الأفكار و تتحد الأهداف و تتكاتف الأيدي و يجتمع المسلمون على مصالحهم و ما ينفعهم و لكن ما يحصل من التفرقة بينهم إنما هو نتيجة فساد القلوب و الضمائر...

فإن هذه الضمائر مريضة بمرض الحسد و البغي و الاستعلاء مرض التعصب وحب «الأنا» التي سحقت في سبيل تحقيقها و ذاتها كل نفيس و عزيز و قد ذكر الإمام نتيجة هذا

ص: 284

الفساد في السرائر و الضمائر فقال:

(فلا توازرون و لا تناصحون و لا تباذلون و لا توادون). لا يعين أحدكم الآخر و لا ينصحه و لا يبذل له ما يحتاج أو يحب و كذلك الأخ الآخر يتعامل مع أخيه و يقابله بالمثل و من هنا تزداد الفرقة بين المسلمين و تتسع هوة الخلاف فإن المسلم إذا وجد يدا حانية عليه تمتد إليه لتعينه على الحياة و مصاعبها ترتاح نفسه و يستقر قلبه و يحاول أن يرد الجميل بمثله أو بأحسن منه أما إذا وجد البعد عنه و التخلي عن حل مشاكله فإنه يشعر بوحدته في الوجود و يتعامل مع الآخرين معاملة الأعداء...

و قد فرض الإسلام للمسلمين حقوقا.. كل فرد له على أخيه حق يجب أن يؤديه.

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه(1) و لا يخذله و لا يخونه و يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل و التعاقد على التعاطف، و المواساة لأهل الحاجة و تعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه عز و جل، رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله.

و عن المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما حق المسلم على المسلم ؟ قال: له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا و هو عليه واجب إن ضيّع منها شيئا خرج من ولاية اللّه و طاعته و لم يكن للّه فيه نصيب. قلت له: جعلت فداك و ما هي ؟ قال: يا معلى إني عليك شفيق أخاف أن تضيع و لا تحفظ و تعلم و لا تعمل. قلت: لا قوة إلا باللّه. قال: أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك و تكره له ما تكره لنفسك.

و الحق الثاني: أن تجتنب سخطه و تتبع مرضاته و تطيع أمره.

و الحق الثالث: أن تعينه بنفسك و مالك و لسانك و يدك و رجلك.

و الحق الرابع: أن تكون عينه و دليله و مرآته.

و الحق الخامس: أن لا تشبع و يجوع، و لا تروى و يظمأ و لا تلبس و يعرى.

و الحق السادس: أن يكون لك خادم و ليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فتغسل ثيابه و تصنع طعامه و تمهد فراشه.

و الحق السابع: أن تبر قسمه و تجيب دعوته و تعود مريضه و تشهد جنازته و إذا2.

ص: 285


1- وسائل الشيعة كتاب الحج - أحكام العشرة باب 122.

علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها و لا تلجئه إلى أن يسألها و لكن تبادره مبادرة فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته و ولايته بولايتك...

(ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه و لا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه). حالة كثيرين منا يطير من الفرح إذا أدرك قليلا من الدنيا مجرد أن يدرك منصبا أو يجمع ثروة أو يعلو نجمه السياسي أو الاجتماعي تراه لا يكاد يصدق نفسه و في مقابل ذلك لو خسر الكثير من الآخرة.. خسر المنزلة الرفيعة.. مرافقة الأخيار و الأبرار و الأنبياء.. أو خسر بعض الأعمال الطيبة من صلاة و صيام و مساعدة للفقراء تراه لا يهتم لشيء من ذلك و لا يتأثر لحرمانه منه...

(و يقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم و قلة صبركم عما زوي منها عنكم كأنها دار مقامكم و كأن متاعها باق عليكم). و هذه صورة تتحرك أمامنا و قد نكون بعض أفرادها.. صورة هذا الإنسان الذي يتملكه الإزعاج و يتبين في وجهه التأثر و الشكوى.. صورة إنسان فاته شيء من حطام هذه الدنيا.. لم يدرك أمنيته.. لم يحقق غايته.. خسرت بعض صفقاته... لم يوفق في مسعاه... تراه لهذا اليسير يضج بالشكوى و يرتفع صوته بالتأثر و كأن ما فاته سيبقى له و يدوم و لم يعرف أنه حتى لو أدركه و حرص عليه لن يدوم و لن يبقى...

(و ما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله).

و هذا عيب يمارسه الكثيرون لا يرضاه الإسلام لنا: و هو أننا لا نواجه أخانا بعيوبه.. بل نتركها فيه دون أن ننبهه إليها و ندّله عليها و ما ذلك إلا خوفا منه أن يواجهنا بعيوبنا و يدلنا عليها، و هذا خلاف ما يريد الإسلام فقد جاء «رحم اللّه من أهدى إليّ عيوبي» لأن العيوب أقذار و أمراض قد لا يراها صاحبها فعلى الأخ الذي رآها أن يدل أخاه عليها و هكذا كل أخ يشكل مرآة لأخيه يريه عيوبه من أجل أن يتطهر من آفاتها و يتنزه عنها و عن أوساخها و قد كان الصالحون يتعاهدون فيما بينهم أن يشير كل منهم على الآخر بما عنده من العيوب و يدل كل واحد منهم على عيوب الاخر فيتقبل الصالح رأي الآخر بكل رضى و يقدم له الشكر و يجزيه خيرا...

(قد تصافيتم على رفض الآجل وحب العاجل و صار دين أحدكم لعقة على لسانه صنيع من قد فرغ من عمله و أحرز رضى سيده). و هذا عيب آخر إنهم اتفقوا على رفض الآخرة و ما فيها كما اتفقوا على حب الدنيا و ما فيها كما قال تعالى: «إِنَّ هٰؤُلاٰءِ يُحِبُّونَ اَلْعٰاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرٰاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً» و تحوّل الدين إلى كلمة يتداولونها على رءوس

ص: 286

ألسنتهم ليس عندهم من الدين حقيقة أو عقيدة أو عمل و هذا ما نجده عند أكثر التجار و أصحاب المصالح الذين ليس لهم من الدين حظ إلا الحلف باللّه و بالأنبياء و المقدسات من أجل أرباح صفقاتهم و اكتساب أرباحهم...

و فعلهم هذا يشبه فعل العبد الذي قام بما أمره به سيده فنفذه كما أراد و التشبيه للاشتراك في الترك و الإعراض عن العمل...

ص: 287

114 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها مواعظ للناس الحمد للّه الواصل الحمد بالنّعم و النّعم بالشّكر. نحمده على آلائه (1)، كما نحمده على بلائه (2). و نستعينه على هذه النّفوس البطاء (3) عمّا أمرت به، السّراع (4) إلى ما نهيت عنه. و نستغفره ممّا أحاط به علمه، و أحصاه كتابه: علم غير قاصر، و كتاب غير مغادر (5). و نؤمن به إيمان من عاين (6) الغيوب، و وقف على الموعود، إيمانا نفى إخلاصه الشّرك، و يقينه الشّكّ .

و نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبده و رسوله، شهادتين تصعدان القول، و ترفعان العمل. لا يخفّ ميزان توضعان فيه، و لا يثقل ميزان ترفعان عنه.

أوصيكم، عباد اللّه، بتقوى اللّه الّتي هي الزّاد و بها المعاذ (7): زاد مبلغ (8)، و معاذ منجح. دعا إليها أسمع داع، و وعاها (9) خير واع. فأسمع داعيها، و فاز واعيها.

عباد اللّه، إنّ تقوى اللّه حمت (10) أولياء اللّه محارمه، و ألزمت قلوبهم مخافته، حتّى أسهرت لياليهم، و أظمأت (11) هواجرهم (12)، فأخذوا الرّاحة بالنّصب (13)، و الرّيّ (14) بالظّمإ، و استقربوا الأجل فبادروا العمل، و كذّبوا الأمل فلاحظوا الأجل. ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء و عناء (15)، و غير (16) و عبر (17)، فمن الفناء أنّ الدّهر موتر قوسه (18)، لا تخطىء سهامه، و لا تؤسى (19)

ص: 288

جراحه. يرمي الحيّ بالموت، و الصّحيح بالسّقم (20)، و النّاجي بالعطب (21). آكل لا يشبع، و شارب لا ينقع (22). و من العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل و يبني ما لا يسكن، ثمّ يخرج إلى اللّه تعالى لا مالا حمل، و لا بناء نقل! و من غيرها (23) أنّك ترى المرحوم مغبوطا، و المغبوط (24) مرحوما، ليس ذلك إلاّ نعيما زلّ (25)، و بؤسا نزل. و من عبرها أنّ المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله. فلا أمل يدرك، و لا مؤمّل يترك. فسبحان اللّه ما أعزّ سرورها! و أظمأ ريّها! و أضحى فيئها (26)! لا جاء يردّ، و لا ماض يرتدّ.

فسبحان اللّه، ما أقرب الحيّ من الميّت للحاقه به، و أبعد الميّت من الحيّ لانقطاعه عنه!.

إنّه ليس شيء بشرّ من الشّرّ إلاّ عقابه، و ليس شيء بخير من الخير إلاّ ثوابه. و كلّ شيء من الدّنيا سماعه أعظم من عيانه، و كلّ شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه. فليكفكم من العيان السّماع، و من الغيب الخبر.

و اعلموا أنّ ما نقص من الدّنيا و زاد في الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة و زاد في الدّنيا: فكم من منقوص رابح و مزيد خاسر! إنّ الّذي أمرتم به أوسع من الّذي نهيتم عنه. و ما أحلّ لكم أكثر ممّا حرّم عليكم. فذروا (27) ما قلّ لما كثر، و ما ضاق لما اتّسع. قد تكفّل لكم بالرّزق و أمرتم بالعمل، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنّه و اللّه لقد اعترض الشّكّ ، و دخل (28) اليقين، حتّى كأنّ الّذي ضمن لكم قد فرض عليكم، و كأنّ الّذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم. فبادروا العمل، و خافوا بغتة (29) الأجل، فإنّه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرّزق. ما فات اليوم من الرّزق رجي غدا زيادته، و ما فات أمس من العمر لم يرج اليوم

ص: 289

رجعته. الرّجاء مع الجائي، و اليأس مع الماضي. «فاتّقوا اللّه حقّ تقاته، و لا تموتنّ إلاّ و أنتم مسلمون».

اللغة

1 - آلائه: نعمه.

2 - بلائه: أصل البلاء الاختبار و يطلق على المصيبة و على ما يوجب الغم.

3 - البطاء: بطيئة ضد السراع.

4 - السراع: جمع سريعة.

5 - المغادر: من غادره إذا تركه و رحل عنه.

6 - عاين: الأمر رآه بعينه و يقينا.

7 - المعاذ: الملاذ.

8 - زاد مبلغ: زاد كافي.

9 - وعاها: حفظها و فهمها.

10 - حمت: منعت.

11 - أظمأت: من الظمأ العطش أو شدته.

12 - الهواجر: جمع هاجرة شدة حر النهار.

13 - النصب: التعب.

14 - الري: بالكسر الاسم من روى إذا شرب حتى شبع.

15 - العناء: التعب.

16 - الغير: التقلبات و غير الدهر أحداثه و تقلباته.

17 - العبر: العظات.

18 - أوتر القوس: جعل لها وترا أو شد الوتر منها.

19 - تؤسي: تداوي.

20 - السقم: المرض.

21 - العطب: الهلاك و عطب الفرس إذا انكسر.

22 - لا ينقع: لا يروي.

23 - الغير: بكسر الغاء و فتح الراء التقلبات.

24 - المغبوط: من الغبطة و هي المسرة و حسن الحال تمني ما عند الغير من النعمة دون زوالها عنه.

ص: 290

25 - زلّ : سقط أو مر سريعا.

26 - الفيء: الظل.

27 - ذروا: اتركوا.

28 - دخل: كفرح خالطه فساد الأوهام.

29 - البغتة: الفجأة.

الشرح

(الحمد للّه الواصل الحمد بالنعم و النعم بالشكر). ابتدأ بحمد اللّه باعتبارين أنه واصل الحمد بالنعم أي موجب الحمد عليها و آمر به عند حصولها.

و الثاني وصله الشكر بالنعم باعتبار زيادتها بالشكر كما قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » .

(نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه). و هذا أدب رفيع من الإنسان نحو اللّه... أدب العبد الذي اعترف بحكمة اللّه و عدله و أن كل ما عنده خير و من أجل صالح هذا الإنسان لا يفعل شيئا إلا لحكمة تعود بالنفع لهذا المخلوق و بهذا الفهم تتحول المصائب و البلايا إلى أن تكون مصدر نفع و من أجل مصالحه، و تتغير النقمة لتكون نعمة يجب شكرها...

«الحمد للّه الذي لا يحمد على مكروه سواه» حقيقة تسالم عليها المتدينون انطلاقا من عقيدتهم باللّه و أن كل أفعاله لحكمة تعود لصالح هذا الإنسان...

و ربما اكتشف هذا العبد بعد مدة سر هذا البلاء فأذعن بهذه الحقيقة و ربما لم ينكشف السر و لكن تبقى حقيقة النفع في البلاء موجودة أيضا.

(و نستعينه على هذه النفوس البطاء عما أمرت به السراع إلى ما نهيت عنه). طلب من اللّه الإعانة و علمنا أن نطلب أيضا الإعانة على هذه النفوس البطيئة إلى الإقامة بما أمرت من صلاة و صيام و حج و أداء الواجبات لأن هذه الأمور خلاف طبع الإنسان من جهة و لأن فيها مشقة على النفس التي تحب الراحة و اللذة و من طبيعة هذه النفس أيضا أنها تسارع إلى ما نهيت عنه و تبادر إلى القيام به لأنه يلائمها و يوافق مزاجها...

(و نستغفره مما أحاط به علمه و أحصاه كتابه علم غير قاصر و كتاب غير مغادر).

ص: 291

بعد الحمد على النعم نستغفر اللّه على الذنوب التي أحاط بها علم اللّه و أحصاها كتابه فإن علمه لا يفوته أمر بل هو يعلم السر و أخفى و أما كتابه فلا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها...

و هذا الاستغفار على ما أحاط به علمه عبارة عن الاستغفار من جميع الذنوب لأنه سبحانه يعلم كل شيء...

(و نؤمن به إيمان من عاين الغيوب و وقف على الموعود إيمانا نفى اخلاصه الشرك و يقينه الشك). و هذه مرتبة عليا من الإيمان مرتبة الحسن بحيث يتحول الغيب إلى أمر مشاهد و حقيقة واقعة و يكون الموعود من الجنة أو من النار و ما فيهما قد أدركهما و أحس بهما و مثل هذا الإيمان ينفي الشرك باللّه لأن من عاين الغيوب و وقف على المحجوب أدرك أن لا إله إلا هو و بطبيعة الحال يكون يقينه هذا نافيا لكل شك فيه أو خلل يعيشه في نفسه.

(و نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له و أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبده و رسوله شهادتين تصعدان القول و ترفعان العمل لا يخف ميزان توضعان فيه و لا يثقل ميزان ترفعان عنه). الشهادتان: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أصغر شعار لأعظم مضمون بهما تتحقق العبودية للّه و بهما يرفض كل طاغوت يعبد من دون اللّه و هما ميزان القبول و الرفض لكل عمل.. بدونهما تسقط الأعمال و لا تقبل بل ترد إلى أصحابها و تضرب بها وجوههم و بهما يقبل كل عمل و تكونان مدخلا لكل أمر...

شهادتان تصعدان القول كما قال تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ » . بهما تثقل الموازين و تكثر الحسنات لأن بهما تقبل الأعمال و عن طريقهما يكون رضا الرحمن و بدونهما يخف الميزان و ترفض الأعمال و خفة الميزان عبارة عن عدم قبول الأعمال و أنه لا حسنات توزن على عكس قبولها فإنها توزن و تثقل الميزان...

(أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه التي هي الزاد و بها المعاذ زاد مبلغ و معاذ منجح دعا إليها أسمع داع و وعاها خير واع فأسمع داعيها و فاز واعيها). وصل عليه السلام إلى مراده و هذا هو بيت القصيد: الأمر بتقوى اللّه التي تعني اجتناب المحرمات و القيام بالواجبات و تقوى اللّه هي الزاد إلى الآخرة قال تعالى: «وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّٰادِ اَلتَّقْوىٰ » و بهذه التقوى يكون الاعتصام باللّه و النجاة من النار.

إنها - تقوى - نعم الزاد الموصل لصاحبها إلى الجنة و البالغ بها إلى الدرجات العلى و أنها ملجأ منجح لصاحبها و واصل بها إلى غاياته العظمى.. دعا إليها أسمع داع

ص: 292

و هو اللّه حيث بلغّها إلى الناس عبر الأنبياء و أوصلها إلى كل الناس فوعاها و فهمها خير واع و هم الأنبياء و يمكن أن يكون خير من أسمعها النبي و خير من وعاها هو الإمام فقد ورد في تفسير قوله تعالى: «وَ تَعِيَهٰا أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ » أنها أذن علي... و داعيها أسمع كل الناس و نجح من فهمها و عمل بها...

(عباد اللّه إن تقوى اللّه حمت أولياء اللّه محارمه و ألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم و أظمأت هواجرهم فأخذوا الراحة بالنصب و الري بالظمأ و استقربوا الأجل فبادروا العمل و كذبوا الأمل فلاحظوا الأجل). ذكر عليه السلام آثار التقوى عند الزاهدين و قد تمثلت في عدة مجالات من حياتهم:

أ - إن هذه التقوى منعت أولياء اللّه عن ارتكاب محارم اللّه فكل أمر محظور في الشريعة امتنعوا عنه و كل أمر واجب قاموا به.

ب - إن قلوبهم التي في صدورهم قد عاش فيها الخوف من اللّه و من عذابه و عقابه فهم دائما يعيشون حالة استنفار في مواجهة المعصية خوفا من اللّه...

و هذه التقوى التي حمت أولياءه محارمه و ألزمت قلوبهم مخافته ظهرت آثارها أيضا في سلوكهم فقد تحولت لياليهم إلى سهر مع اللّه يخلون أنفسهم لعبادته تهجدا و اجتهادا و تعبدا.

و أما نهارهم و في أشد أوقات الحر و الشدة فهم صيام و ما أجمل هذا الإسناد و ألطفه «أسهرت لياليهم و أظمأت هواجرهم» من حيث أسند السهر إلى الليالي و الظمأ إلى الهواجر لأن الفعل فيهما أسند إليهما و العرب تقول: «نهاره صائم و ليله قائم».

ثم إن نتيجة ذلك أنهم أخذوا الراحة في الآخرة بتعب الدنيا و الري و هو الشبع من الماء بعطش الدنيا من جراء الصوم و استقربوا الموت فبادروا إلى العمل لما بعده. و كذبوا الأمل الذي كان يمنّيهم و يغريهم بطول العمر و بالصحة و المال فلاحظوا أوقات أعمارهم و أنها تنقضي بسرعة فأسرعوا في فعل الخير و الأعمال الطيبة.

(ثم إن الدنيا دار فناء و عناء و غير و عبر). ثم ذكر بعض أوصاف الدنيا تنفيرا منها و لأجل الحذر منها و من غرورها فبيّن أولا أنها دار فناء و بيّن فناءها بقوله:.

(فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه لا تخطىء سهامه و لا تؤسى جراحه يرمي الحي بالموت و الصحيح بالسقم و الناجي بالعطب، آكل لا يشبع و شارب لا ينقع). و من الفناء أن الدهر هيأ عدة قتاله و أدوات حربه و جهزها لإطلاقها نحو غريمه - هذا الإنسان - فهو

ص: 293

يرمي و يصيب كل من رماه فيقتله و إذا جرحه لا دواء له بل يعلّ و يستمر به المرض حتى يموت...

و من جملة أفعاله أن هذا الكائن الحي الذي يتحرك و كله حركة يرميه بالموت فإذا هو جثة هامدة فالصحيح السليم المعافى الذي يعتد بقوته و يفخر بعزيمته يرميه بالمرض بجرثومة صغيرة لا ترى بالعين المجردة فإذا به عليل مريض يتقلب على الفراش يستغيث و يستنجد...

و هذا الناجي الذي قطع شوط الحياة يدركه بالهلاك فيرديه...

إنه دهر آكل للبشر يبتلع كل من ولد و شارب دماء البشر لا يروى أبدا...

(و من العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل و يبني ما لا يسكن ثم يخرج إلى اللّه تعالى لا مالا حمل و لا بناء نقل). هذه سيئة أخرى من سيئات الدنيا يعيشها الإنسان و لا يتنبه إلى مخاطرها.. إنه يعيش العناء و هو التعب فيها فتراه يكد ليجمع ما لا يأكل ففي حين تكفيه حفنة من حنطة إذ به يكدس من القوت و الأموال ما يكفيه لسنة إن لم يكن لسنوات و يبني ما لا يدوم له السكن فيه و الإقامة أو ما يزيد على حاجته ثم يخرج من الدنيا إلى اللّه بدون شيء منها فالأموال التي جمعها ليأكل بها و يدخرها لوقت الحاجة تركها محلها و تخلى عنها و البناء الذي شيده.. هذا القصر الذي أتعب نفسه في عمارته تكره لم يقدر على نقله إلى الآخرة فهل استفاد إلا التعب في الدنيا و الشقاء فيها و النصب...

(و من غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا و المغبوط مرحوما ليس ذلك إلا نعيما زل و بؤسا نزل). فمن تقلبات الدنيا و نكباتها و تغير أحوالها أنك تجد المرحوم فيها و هو الإنسان الذي كان يترحم عليه الناس لفقره و مسكنته هذا بعينه يغتني و يثري فيصبح مغبوطا تفرح له الناس و تتمنى حاله و ما هو فيه.

و قد ينعكس الأمر فمن كان غنيا ثريا يغبطه الناس على حاله و يتمنون أن يكونوا كما هو هذا هو قد يصبح فقيرا مسكينا يترحم عليه الناس فهذا قد نزل البؤس في ساحته و النعيم ولىّ مسرعا عنه.

(و من عبرها أن المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله فلا أمل يدرك و لا مؤمل يترك). و هذا عيب رابع للدنيا يذكره الإمام أن الإنسان يرسم لآماله طرقا لبلوغها و الوصول إليها و يبقى يعمل حتى يكاد يدرك ما أمله و في تلك اللحظات التي يشرف بها لبلوغ أمله إذ بالموت يأتيه فتزول الآمال و تسقط و يتهدم ذلك البناء الذي كان يرسمه بل

ص: 294

المؤمل نفسه و هو هذا الإنسان يموت فلا الأمل أدرك و لا المؤمل بقي...

(فسبحان اللّه ما أعز سرورها و أظمأ ريّها و أضحى فيئها لا جاء يرد و لا ماض يرتد).

تعجب عليه السلام من قلة سرور الدنيا لكثرة ما بها من الأحزان فإن سرورها يغر الإنسان فيظن أنه يدوم له فإذا به بعد لحظات و قد يكون في أوقات السرور يأتي الحزن و المصاب...

و مراده «ما أظمأ ريها» يعني الشرب منها مهما كان كثيرا فإنه يزيد الشارب ظمأ كماء البحر كلما شرب منه ازداد عطشا و هكذا طالب الدنيا فإنه لا يشبع منها و لا يدرك غايته بل كلما أدرك منها أمرا ازدادت رغبته فيما فيها و هكذا تزداد شهيته و لا يبلغ أمنيته...

و قوله «أضحى فيئها» يعني راحتها صعبة متعبة فكيف بضحاها...

ثم نعى الحياة و الأحياء بأن الموت إذا جاء لا يرده أحد و أن من مات لا يرتد إلى الدنيا فالحي مطلوب للموت و الموت مدركه.. و الميت لا يرجع مهما كانت المحاولات...

(فسبحان اللّه ما أقرب الحي من الميت للحاقه به و أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه). ثم تعجب ثانيا من هذا الأمر الذي هو قرب الأحياء من الأموات قرب زمان لأنهم يمشون إلى المكان الذي استقر فيه الأموات.

بينما الأموات أبعد شيء عن الأحياء لأنهم لا يقدرون على العودة إليهم، فالحي يتحرك نحو الميت و من تحرك نحو شيء أدركه و أما الميت فهو جامد في مكانه لا يتحرك فهو أبعد ما يكون على مكان الحي و اللقاء به...

(إنه ليس شيء بشر من الشر إلا عقابه و ليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه). إن شر الشر العقاب على الشر و خير الخير الثواب على الخير، أو يراد أن شر الشر في الدنيا أعظم منه عقابه في الآخرة و أن خير الخير في الدنيا خير منه ثوابه في الآخرة لأن ثواب الآخرة و عذابها أعظم من كل شرور الدنيا و خيرها...

(و كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه و كل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه فليكفكم من العيان السماع و من الغيب الخبر). كل أمر من أمور الدنيا سمعت به و بأوصافه يكون أعظم مما لو رأيته و هذا أمر مشاهد بالوجدان فربما وصف لك عالم بالنبوغ و الذكاء المفرط فإذا اجتمعت فيه بان لك الأمر جليا و أنه لا يتمتع بكل ما قيل عنه

ص: 295

و ربما وصفت لك امرأة بالجمال و الدلال و إذا بها لا تتمتع بما وصفت و إنما تتمتع بجزء منه...

و أما أمور الآخرة فالامر عكس ذلك و خلافه فكل أمر وصف لك منها أو فيها يكون أقل من العيان لأن الحس البشري يتصور أوصاف الجنة و الآخرة بمستوى أوصاف الدنيا و أشيائها التي تمر عليه في حياته فيحملها على أوصاف الآخرة و هذا أمر دون الحقيقة فيكون الوصف دون العيان...

ثم أمرهم بالاكتفاء من العيان و الرؤية في دار الدنيا بالسماع من الأنبياء و الأئمة و من الآخرة التي هي غيب محجوب بالخبر المنقول عنهم - فإنهم صادقون - و الخبر عنها دون الحقيقة بدون شك لأن العبارة لا تقدر أن تحمل الحقيقة و نحن لا نقدر على تصور أمر خارج عما نحس به و نعيشه...

(و اعلموا أن ما نقص من الدنيا و زاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة و زاد في الدنيا فكم من منقوص رابح و مزيد خاسر). و هذه معادلة إلهية و قاعدة إسلامية ينظر فيها إلى الآخرة و أن كل ما نقص من الدنيا و كانت به تزاد الآخرة فهو خير مما ينقص من الآخرة و يزاد في الدنيا و علة ذلك أن ما يزاد في الآخرة يبقى و يدوم بعكس زيادة الدنيا فإنه مؤقت و محدود و العقل يحكم بأهمية ما يبقى و تقديمه على غيره و من ذلك أن تربح أجر الصدقة أو الزكاة أو الخمس في الآخرة و إن كانت أموالك تنقص أرقامها قليلا و على عكس ذلك ما لو ربحت بمعاملة ربوية و زادت أموالك في الدنيا و خسرت من رصيدك في الآخرة فإن العاقل يقدم ما يبقى على ما يفنى و يقدم الآخرة و يسعى لزيادة ربحها على الدنيا و ما فيها من الربح...

ثم قال: كم من منقوص في الدنيا رابح في الآخرة و كم من رابح في الدنيا و مزيد له خاسر في الآخرة و هذا ترغيب في الآخرة و في العمل لها و تقديمها على الدنيا و ما فيها...

(إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه و ما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم فذروا ما قل لما كثر و ما ضاق لما اتسع). هذا البيان حث على الآخرة و أنه طالما دائرة المحللات أوسع من دائرة المحرمات فعلى العاقل أن يختار ما فيه نجاته طالما له فيه سعة و لقد جاز لنا تناول الواجب و المباح و المستحب و المكروه و هذه لها دوائر واسعة وافرة بينما الحرام ليس له إلا دائرة واحدة محصورة في أفراد كالزنا و شرب الخمر و ما أشبههما و الإنسان يدع ما قل من المحرمات لما كثر و اتسع من غيرها المحللات.

ص: 296

(قد تكفل لكم بالرزق و أمرتم بالعمل فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله مع أنه و اللّه لقد اعترض الشك و دخل اليقين حتى كأن الذي ضمن لكم قد فرض عليكم و كأن الذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم). إن اللّه قد تكفل لكل نفس برزقها فقال تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلرَّزّٰاقُ » و قال: «فِي اَلسَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ » و نحن إنما أمرنا بالعمل و تهيئة الأسباب و على اللّه بعد ذلك النجاح ثم نهانا عن التوجه إلى ما هو مضمون و ترك ما هو مفروض فإذا كان الرزق مضمون و الواجب عليّ فقط السعي فإذا قمت بذلك فقد قمت بالمطلوب و لا يجوز الحرص أكثر من هذا وراء الرزق و هذا على عكس ما أنا مأمور به من الواجبات فإن عليّ أن أسعى وراءها و أنفذها و لا أهمل شيئا منها...

ثم أقسم أنه دخل الشك إلى القلوب فزلزل اليقين بأمر اللّه و وعده و ما أخذه على نفسه فصار ما هو مضمون من الرزق كأننا مأمورون بتحصيله و ما فرض علينا من الواجبات و الأسباب قد وضع عنه...

(فبادروا العمل و خافوا بغتة الأجل). أسرعوا إلى تنفيذ ما افترض اللّه عليكم و خافوا أن يفاجئكم الموت فتنقطع الأعمال...

(فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق ما فات اليوم من الرزق رجي غذا زيادته و ما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته الرجاء مع الجائي و اليأس مع الماضي «فاتقوا اللّه حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون»). دعوة إلى المحافظة على عمر هذا الإنسان و أن لا يذهب هدرا بدون فائدة بل يجب أن يؤدي فيه ما وجب عليه بدون تسويف أو تأخير فإن لكل ساعة عملها و لكل لحظة ما يشغلها و العمر هو رأس مال الإنسان الذي لا يعوّض و من فاته يوم لا يقدر على إعادته و ذلك عكس المال فإنه إذا لم يقدر على تحصيل دينار اليوم يمكن أن يحصل عليه غدا و إذا خسر اليوم دينارا يمكن أن يعوّضه غدا.

و من هنا كان ما يمكن مجيئه و الحصول عليه من المال يجرى و يؤمل أن يدركه طالبه و أما ما مضى من العمر فاليأس كل اليأس في تحصيله فكل يوم مضى و انقضى لا يمكن رده أو الاستفادة منه.

ثم أمر عليه السلام في خاتمة الخطبة الشريفة بتقوى اللّه حق تقاته أي كما يجب بترك المحرمات و فعل الواجبات...

ص: 297

115 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في الاستسقاء (1) اللّهمّ قد انصاحت (2) جبالنا، و اغبرّت (3) أرضنا، و هامت (4) دوابّنا، و تحيّرت في مرابضها (5)، و عجّت (6) عجيج الثّكالى (7) على أولادها، و ملّت التّردّد في مراتعها (8)، و الحنين إلى مواردها (9)! اللّهمّ فارحم أنين (10) الآنّة (11)، و حنين الحانّة (12)! اللّهمّ فارحم حيرتها في مذاهبها (13)، و أنينها في موالجها (14)! اللّهمّ خرجنا إليك حين اعتكرت (15) علينا حدابير (16) السّنين، و أخلفتنا مخايل (17) الجود (18)، فكنت الرّجاء للمبتئس (19)، و البلاغ (20) للملتمس (21). ندعوك حين قنط (22) الأنام، و منع الغمام، و هلك السّوام (23)، ألاّ تؤاخذنا (24) بأعمالنا، و لا تأخذنا (25) بذنوبنا. و انشر علينا رحمتك بالسّحاب المنبعق (26)، و الرّبيع المغدق (27)، و النّبات المونق (28)، سحّا (29) وابلا (30)، تحيي به ما قد مات، و تردّ به ما قد فات.

اللّهمّ سقيا منك محيية مروية، تامّة عامّة، طيّبة مباركة، هنيئة مريعة (31)، زاكيا نبتها، ثامرا (32) فرعها، ناضرا (33) و رقها تنعش بها الضّعيف من عبادك، و تحيي بها الميّت من بلادك! اللّهمّ سقيا منك تعشب بها نجادنا (34)، و تجري بها وهادنا (35)، و يخصب بها جنابنا (36)، و تقبل بها ثمارنا، و تعيش بها مواشينا، و تندى بها (37) أقاصينا (38)، و تستعين بها ضواحينا (39)، من بركاتك الواسعة، و عطاياك الجزيلة، على بريّتك المرملة (40)، و وحشك

ص: 298

المهملة. و أنزل علينا سماء مخضلة (41)، مدرارا (42) هاطلة، يدافع الودق (43) منها الودق، و يحفز (44) القطر (45) منها القطر، غير خلّب برقها (46)، و لا جهام (47) عارضها (48)، و لا قزع (49) ربابها (50)، و لا شفّان (51) ذهابها (52)، حتّى يخصب (53) لإمراعها (54) المجدبون (55)، و يحيا ببركتها المسنتون (56)، فإنّك «تنزل الغيث (57) من بعد ما قنطوا، و تنشر رحمتك و أنت الوليّ الحميد».

تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب قال السيد الشريف، رضي اللّه عنه، قوله عليه السلام: (انصاحت جبالنا) أي تشقّقت من المحول، يقال: انصاح الثّوب إذا انشقّ . و يقال أيضا: انصاح النّبت و صاح و صوّح إذا جفّ و يبس، كلّه بمعنىّ . و قوله: (و هامت دوابّنا) أيّ عطشت، و الهيام: العطش. و قوله: (حدابير السّنين) جمع حدبار و هي الناقة التي أنضاها السّير، فشبّه بها السنة التي فشا فيها الجدب، قال ذو الرّمّة:

حدابير ما تنفكّ إلاّ مناخة *** على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

و قوله: (و لا قزع ربابها)، القزع: القطع الصّغار المتفرّقة من السّحاب. و قوله: (و لا شفّان ذهابها) فإنّ تقديره: و لا ذات شفّان ذهابها. و الشّفّان: الرّيح الباردة، و الذّهاب: الأمطار اللّيّنة. فحذف (ذات) لعلم السّامع به.

اللغة

1 - الاستسقاء: طلب السقي أي الشرب.

2 - انصاحت: تشققت، جفت، يبست.

3 - اغبرت: صارت غبارا أو أصابها ذلك.

4 - هامت: أصلها تحيرت و ذهب على وجهها و فسرها الشريف بالعطش.

5 - المرابض: جمع مربض و هو مبرك الغنم.

6 - عجت: صاحت و رفعت صوتها.

ص: 299

7 - الثكالى: جمع ثكلى من فقدت ولدها.

8 - المراتع: أماكن الخصب و السعة.

9 - الموارد: أماكن الشرب.

10 - الأنين: التأوه.

11 - الآنة: الشاة.

12 - الحانة: الناقة.

13 - المذاهب: المسالك.

14 - الموالج: المداخل من ولج إذا دخل.

15 - اعتكرت: اختلطت و ازدحمت.

16 - الحدابير: جمع حدبار الناقة التي أنضاها السير شبه السنة التي فشى فيها الجدب.

17 - المخايل: جمع مخيلة للسحابة التي ترجى المطر.

18 - الجود: المطر.

19 - المبتئس: الذي مسته البأساء و هي الضراء.

20 - البلاغ: الكفاية.

21 - الملتمس: الطالب.

22 - قنط: يئس.

23 - السّوام: جمع سائمة و هي البهيمة الراعية من الإبل و الغنم.

24 - لا تؤاخذنا: لا تعاقبنا.

25 - لا تأخذنا بذنوبنا: لا تستأصلنا و تقضي علينا بسبب ذنوبنا.

26 - المنبعق: المنفرج بالمطر.

27 - المغدق: من أغدق يقال: أغدق المطر إذا كثر ماؤه.

28 - المونق: الحسن المعجب.

29 - السح: الصب و السيلان من فوق.

30 - الوابل: الشديد من المطر الضخم القطر.

31 - مريعة: خصيبة.

32 - ثامرا: مثمرا.

33 - الناضر: الناعم الحسن الجميل.

34 - النجاد: المرتفع من الأرض.

35 - الوهاد: المنخفض من الأرض.

36 - الجناب: الناحية.

37 - تندى: تنتفع.

ص: 300

38 - الأقاصي: البلاد البعيدة.

39 - الضواحي: النواحي القريبة.

40 - المرملة: الفقيرة.

41 - المخضلة: من أخضله إذا بلّه.

42 - المدرار: الغزير السيلان.

43 - الودق: المطر.

44 - يحفز: يدفع بشدة.

45 - القطر: حبات المطر.

46 - البرق الخلب: ما يطمعك من البرق بالمطر و لا مطر معه.

47 - الجهام: السحاب الذي لا مطر فيه.

48 - العارض: ما يعرض من السحاب في الأفق.

49 - الرباب: السحاب الأبيض.

50 - القزع: قطع من السحاب متفرقة.

51 - الشفان: الريح الباردة.

52 - الذهاب: الأمطار اللينة.

53 - أخصب: المكان أصابه الخصب و هو عبارة عن كثرة العشب و الخير فيه.

54 - أمرع: أخصب.

55 - المجدبون: الممحلون من الجدب و هو المحل.

56 - المسنتون: الجائعون، المقحطون.

57 - الغيث: المطر.

الشرح

اشارة

(اللهم قد انصاحت جبالنا و اغبرت أرضنا). هذه الخطبة المباركة خطب بها الإمام في صلاة الاستسقاء و قد قلت في شرح دعاء الإمام زين العابدين الذي دعاه في صلاة الاستسقاء من الصحيفة السجادية قلت ما نصه:

عند الشدائد و في الأزمات... عند ما تمنع السماء قطرها و الأرض خيرها...

عند ما تضيق بهذا الإنسان الحياة مع رحبها وسعتها و يتعذر عليه القوت و ضروريات العيش، عندها يتصل باللّه قهرا عنه.. يرفع إليه يديه بالدعاء.. يبتهل... يتضرع...

يستغيث... يناجي... يطلب من اللّه بحرارة و صدق أن يرحمه و يرزقه و يدر عليه من

ص: 301

عطائه و خيره و فيض وجوده... و عند ما يرى اللّه صدق العبد و صحة توجهه إليه...

عند ما يرى ذله و مسكنته يرسل أبواب رحمته من كرمه... يرسل السماء عليه مدرارا و يأمر الأرض أن تخرج له كنوزها فتدب الحياة في الأموات و ينتعش ميت البلاد، إنها رحمة اللّه و قدرته تتجسد في صلاة الاستسقاء...

صلاة الاستسقاء:.

اشارة

صلاة الاستسقاء صلاة يطلب بها أن يرسل اللّه المطر على قوم أجدبوا و ضاقت بهم سبل الحياة... عند ما تشح السماء بعطائها فتمنع قطرها يتوجه هذا الإنسان بهذه الصلاة إلى اللّه فتنفتح أبواب الرحمة الإلهية فينزل الغيث و تروى العباد و البلاد و الحيوانات و البهائم و تعود لهم الحياة...

و كيفيتها كما يذكرها الفقهاء موجزا:

1 - أن يتوب الناس عن المعاصي و الآثام و يردوا المظالم إلى أهلها.

2 - صوم ثلاثة أيام يكون ثالثها يوم الإثنين.

3 - يخرجون في اليوم الثالث إلى الصحراء و إن كانوا بمكة فإلى المسجد الحرام حفاة و نعالهم في أيديهم بسكينة و وقار متخشعين مستغفرين.

4 - يخرجون الشيوخ و الصبيان و البهائم و أهل الزهد و الصلاح.

5 - يفرقون بين الأمهات و الأولاد.

6 - و يقولون بدل الآذان: الصلاة ثلاثا.

7 - يصلي الإمام بالناس ركعتين يقرأ في الأولى بعد الحمد سورة جهرا ثم يكبّر أربع تكبيرات يقنت عقيب كل تكبيرة و يدعو في القنوت بالاستغفار و طلب الغيث و إنزال الرحمة ثم يكبّر السادسة و يركع و يسجد بعدها سجدتين ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيفعل مثلما فعل في الأولى إلا أن التكبيرات فيها أربع.

فإذا فرغ من الصلاة يصعد المنبر و يحوّل رداءه فيجعل الذي على يمينه على يساره و الذي على يساره على يمينه ثم يخطب بخطبتين.

ثم يستقبل القبلة فيكبّر مائة مرة رافعا بها صوته.

ثم يلتفت إلى يمينه فيسبّح اللّه مائة مرة رافعا بها صوته.

ثم يلتفت إلى يساره فيهلل اللّه مائة مرة رافعا بها صوته.

ص: 302

ثم يستقبل الناس بوجهه فيحمد اللّه مائة مرة رافعا بها صوته و الناس يتابعونه في الأذكار دون الالتفات إلى الجهات فإن سقوا و إلا عادوا ثانيا و ثالثا و إن أفطروا فبصوم مستأنف...

قد يقال: كيف يتم إنزال المطر بالدعاء؟! و هل هذا إلا و هم لا أساس له ؟...

نقول: إن اللّه سبحانه و تعالى قادر على كل شيء و لا يعجزه شيء إذا أراد أمرا قال له: كن فيكون.

فربما جعل نزول المطر متوقفا على الدعاء و يكون الدعاء سببا غير منظور لدى الناس إلا الخاصة منهم...

و الأمور بيد اللّه فكما ينزله في الشتاء ينزله في الصيف...

التجربة: و يروي التاريخ و الأحاديث كما أن سيرة المسلمين قائمة على هذه الصلاة و أنهم قد استسقوا بالنبي و استسقى المسلمون بعد وفاته بأهل بيته...

(اللهم قد انصاحت جبالنا و اغبرت أرضنا). هذه حالات من البؤس و الشقاء و الضيق و العناء يمر بها المسلمون و الإمام يضعها بين يدي اللّه و هو عالم بها و لكن شكوى إليه يرفعها المحتاجون و شرح حال لمن يعلم بالحال زيادة في التذلل و الخضوع...

لقد جفت رءوس جبالنا و تشققت من قلة الماء و يبس نبتها و أما الأرض فللجدب الذي نالها قد اغبرت كثر غبارها أو أصبحت غبراء لعدم النبات فيها...

(و هامت دوابنا و تحيرت في مرابضها و عجت عجيج الثكالى على أولادها و ملت التردد في مراتعها و الحنين إلى مواردها). فالأرض تحكي جدبها و تشتكي و هذه البهائم بحركتها أيضا تحكي و تشتكي و ما أجمل أن يتوسل الإنسان بهذه الحيوانات و يضمها إلى قائمة المتوسلين بهم فإنها خرساء لا تملك الاحتجاج على الإنسان و تمرده على اللّه و عصيانه له... إنها حالة الدواب التي تحيرت من العطش فراحت على وجوهها تحكي عطشها و من حركاتها فإنها ضجت و ارتفعت أصواتها تستغيث و تطلب الغيث كالثكلى و هي الأم المفجوعة بولدها يعلو صوتها فكذلك تصرخ هذه الدواب في عطش و ألم تستنجد باللّه أن ينزل عليها المطر.

إنها ملت التردد إلى أماكنها التي كان فيها الكلأ لأنها أماكن قاحلة فقد قصدتها فلم تجد فيها عرقا أخضرا يؤكل و كذلك أماكن شربها التي كانت ترتوي منها قد ملتها أيضا لأنها جفّت.

ص: 303

(اللهم فارحم أنين الآنة و حنين الحانة، اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها و أنينها في موالجها). بعد شرح حال الدواب و معاناتها و ما يمر عليها جاء دور الاستغاثة باللّه...

بهذا النداء و بما فيه من الرقة و العطف اللهم فارحم أنين الآنة من الشياه و حنين الحانة من النوق اللهم ارحم حيرتها في مسالك سيرها حيث فقدت توازنها و لم تعد تعرف كيف تتحرك في طرقها و ارحم تأوهها في أماكن دخولها.

و قدم عليه السلام ذكر الدواب لأنها أقرب إلى الرحمة و في الحديث: لو لا أطفال رضع و شيوخ ركع و بهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا...

(اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين و اخلفتنا مخايل الجود فكنت الرجاء للمبتئس و البلاغ للملتمس). اللهم خرجنا إليك و ما أجمل هذا الخروج و أجمل منه أن يخرج إليه في أيام العافية و الرخاء...

اللهم خرجنا إليك حين تكررت علينا السنون المجدبة القاسية الماحلة الهزيلة التي أكلت الشحم و اللحم و قد أخلفت ظنوننا السحب التي كانت تمطرنا و تنزل علينا قطرها...

فأنت يا رب الرجاء الذي يتطلع إليه من أصابه البؤس و مسته الضراء و الشقاء.

و بك يا رب يبلغ الطالب حاجته و يصل إلى بغيته...

(ندعوك حين قنط الأنام و منع الغمام و هلك السوام ألا تؤاخذنا بأعمالنا و لا تأخذنا بذنوبنا). نتوجه إليك يا رب بالدعاء في وقت صعب جدا إنه وقت يئس فيه الناس من رحمتك و منع الغمام المطر و هلكت المواشي التي تعيش ببرك و عطائك، ندعوك يا رب ألا تعاقبنا على سوء أعمالنا و قبائح ما عندنا و لا تقضي علينا بما ارتكبنا و عملنا من الآثام.

و هذا يدل على أن الأعمال القبيحة تمنع قطر السماء و ترفع البركة و الرحمة و تنزل العقاب و العذاب.

(و انشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق و الربيع المعذق و النبات المونق سحا وابلا تحيي به ما قد مات و ترد به ما قد فات). بعد أن دعا اللّه أن لا يعاقبنا بذنوبنا أو يأخذنا بها دعاه أن يبسط رحمته المتمثلة بالغيوم التي ينفجر منها الماء و يخرج لنا الربيع المثمر بالخير و النبات المعجب للعين المؤنس للنفس...

ص: 304

اللهم اجعله مطرا شديدا قويا تحي به ما قد مات من الأرض و ترد به ما قد فات من زرع و نبات و شجر...

(اللهم سقيا منك محيية مروية تامة عامة طيبة مباركة هنيئة مريعة، زاكيا نبتها ثامرا فرعها ناضرا ورقها تنعش بها الضعيف من عبادك و تحيي بها الميت من بلادك). دعا اللّه أن تكون هذه السقية منه فيها حياة لكل ما قد مات من أرض خربت من جراء القحط، راوية لكل شيء يحتاج إلى ري، تامة غير ناقصة عامة لجميع البلاد طيبة لا أذية فيها تعطي الخير و البركة خصيبة واسعة ينمو نبتها التي أخرجته مثمرا فرعها ناضرا أي ذا بهجة و حسن و بالجملة تشد بها قوة الضعيف حتى يتغلب على ضعفه فقره و تحي بها ما قد مات من البلاد...

(اللهم سقيا منك تعشب بها نجادنا و تجري بها و هادنا و يخصب بها جنابنا و تقبل بها ثمارنا و تعيش بها مواشينا و تندى بها أقاصينا و تستعين بها ضواحينا). سأل اللّه أن يجعلها سقيا منه تكتسي بها المرتفعات بالعشب و الخضرة و تجري بها الوديان و جوانب بلاده، تخصب و تعطي خيرات كثيرة و كذلك تزداد ثمارنا و تكثر خيراتها...

سقيا تعيش بها مواشينا من بقر و غنم و إبل و غيرها و تنتفع بها أطراف بلادنا البعيدة و تكون عونا لمن حولنا من البلاد و النواحي...

(من بركاتك الواسعة و عطاياك الجزيلة على بريتك المرملة و وحشك المهملة).

اللهم اجعلها سقيا من بركاتك الواسعة و ما أكثر بركاتك على بريتك و اجعلها من عطاياك الكبيرة و كل عطاياك كبيرة على من بريت و خلقت من خلقك الفقير الذي تمرغ في الرمل من الحاجة و وحشك الذي يعيش في البراري يتنظر كرمك وجودك...

(و أنزل علينا سماء مخضلة مدرارا هاطلة يدافع الودق منها الودق و يحفز القطر منها القطر). أنزل علينا يا رب سحابة مملؤة بالمطر تتساقط بقوة و غزارة و تتدافع بكثرة و شدة.

(غير خلب برقها). أكد المعنى السابق بأن لا يكون برقها ناشفا دون مطر.

(و لا جهام عارضها). و لا تجعل سحابها المعترض في الأفق بدون مطر...

(و لا قزع ربابها و لا شفان ذهابها). لا تجعل سحابها أبيض متفرقا لا خير فيه و لا تجعل أمطارها اللينة ذات ريح باردة مضرة بالزرع.

(حتى يخصب لإمراعها المجدبون و يحيا ببركتها المسنتون فإنك تنزل الغيث من

ص: 305

بعد ما قنطوا و تنشر رحمتك و أنت الولي الحميد). حتى تعطي الأرض خيراتها لأهل الجدب و يحيا من أصابهم القحط ببركتها.

ثم قرأ الآية و دعا بها رجاء للإجابة و أن اللّه هو الذي ينزل المطر بعد ما يئس الناس منه و ينشر رحمته على العباد و هو ولي عباده و المتولي لشئونهم و معرفة مصالحهم و هو المستحق لكل حمد...

ص: 306

116 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

و فيها ينصح أصحابه أرسله داعيا إلى الحقّ و شاهدا على الخلق، فبلّغ رسالات ربّه غير وان (1) و لا مقصّر، و جاهد في اللّه أعداءه غير واهن (2) و لا معذّر (3) إمام من اتّقى، و بصر من اهتدى.

و منها: و لو تعلمون ما أعلم ممّا طوي عنكم غيبه، إذا لخرجتم إلى الصّعدات (4) تبكون على أعمالكم، و تلتدمون (5) على أنفسكم، و لتركتم أموالكم لا حارس لها و لا خالف (6) عليها، و لهمّت (7) كلّ امرىء منكم نفسه، لا يلتفت إلى غيرها، و لكنّكم نسيتم ما ذكّرتم، و أمنتم ما حذّرتم، فتاه (8) عنكم رأيكم، و تشتّت عليكم أمركم. و لوددت أنّ اللّه فرّق بيني و بينكم، و ألحقني بمن هو أحقّ بي منكم. قوم و اللّه ميامين (9) الرّأي، مراجيح (10) الحلم، مقاويل (11) بالحقّ ، متاريك (12) للبغي (13). مضوا قدما (14) على الطّريقة، و أوجفوا (15) على المحجّة (16)، فظفروا بالعقبى الدّائمة، و الكرامة الباردة (17). أما و اللّه، ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذّيّال (18) الميّال (19)، يأكل خضرتكم (20)، و يذيب شحمتكم، إيه أبا وذحة (21)!.

قال الشريف: الوذحة: الخنفساء. و هذا القول يومئ به إلى الحجاج، و له مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره.

ص: 307

اللغة

1 - الواني: المتثاقل الكال الفاتر.

2 - واهن: ضعيف.

3 - المعذر: بالتشديد من يعتذر و لا يثبت له عذر.

4 - الصعدات: جمع الصعد و هو جمع الصعيد وجه الأرض أو الطريق.

5 - الالتدام: ضرب النساء صدورهن أو وجوههن للنياحة.

6 - الخالف: من تخلفه في غيابك على مالك و أهلك.

7 - همت: شغلت و أهمني الأمر أحزنني.

8 - تاه عن فلان رأيه: أي عزب و ضل.

9 - ميامين: جمع ميمون المبارك و رأي ميمون أي مبارك.

10 - مراجيح: من رجح إذا مال بغيره إذا وزن بغيره كان أوزن.

11 - مقاويل: جمع مقوال من يحسن القول.

12 - متاريك: جمع متراك المبالغ في الترك.

13 - البغي: الظلم و التعدي.

14 - القدم: بضم القاف و الدال سابقين.

15 - أوجفوا: أسرعوا.

16 - المحجة: الطريق المستقيمة الواضحة.

17 - الكرامة الباردة: الهنية.

18 - الذيال: التائه المتبختر، من جر ثوبه على الأرض تيها.

19 - الميال: الظالم.

20 - الخضرة: بفتح الخاء و كسر الضاد الزرع و البقلة الخضراء.

21 - الوذحة: الخنفساء.

الشرح

(أرسله داعيا إلى الحق و شاهدا على الخلق فبلّغ رسالات ربه غير و ان و لا مقصر و جاهد في اللّه أعداءه غير واهن و لا معذر إمام من اتقى و بصر من اهتدى). ابتدأ عليه السلام بذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكر بعض أوصافه الكريمة فقال: إن اللّه أرسله رسولا داعيا إلى الحق و هو الإسلام و ما في تعاليمه من خير و أخلاق...

ص: 308

و كذلك جعله شاهدا على الخلق كما قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» (1) فهو يشهد على من عصى و تمرد و يشهد لمن أطاع و امتثل.

و رسول اللّه بلّغ رسالات اللّه لم يتباطأ أو يتهاون أو يقصر في شيء من ذلك.

و جاهد في اللّه أعداء اللّه من مشركين و نصارى و يهود و استطاع بعزيمته المحمدية أن يدك عروش الطغاة و الظالمين غير واهن بدون ضعف منه و بدون أن يترك لأحد عذرا يعتذر به عن كفره أو تقصيره فقد أتاهم بالبينات و المعجزات و قطع بها أعذار كل من أراد أن يعتذر بعدم وصول الحجة إليه...

إنه إمام من اتقى فقد كان القدوة و الأسوة التي يقتدى بها أفضل الناس و هم الأتقياء و كان لهم أسوة يتأسون به و يمشون على طريقته.

إنه بصر من اهتدى من أراد الهداية فإنه ببركة النبي و بتعاليمه يرى الحياة على حقيقتها كما يرى الآخرة و يدرك أمامه ما ينفع مما يضر...

(و لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه إذا لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم و تلتدمون على أنفسكم و لتركتم أموالكم لا حارس لها و لا خالف عليها و لهمت كل امرىء منكم نفسه لا يلتفت إلى غيرها). إنه عليه السلام كان يعيش بين أهل الكوفة و يقرأ مستقبلهم الرهيب و ما ينتظرهم من المحن و يحل بهم من المصائب...

إنه يعلم ما انطوى عن الناس علمه، يعلم نهايتهم التعيسة في الآخرة التي رسموها بأيديهم من حيث أهملوا و ضيعوا و توانوا و تكاسلوا و تركوا الجهاد و ما فيه عزهم و كرامتهم...

يقول لهم لو تعلمون ما أعلم مما هو مطوي عنكم علمه لخرجتم على وجوهكم في الطرقات تبكون على أعمالكم السيئة القبيحة لأن اللّه سيحاسبكم عليها، و لخرجتم و أنتم تلطمون على صدوركم حزنا و جزعا من شدة المصيبة و لتركتم أموالكم التي هي حبيبة عندكم و أثيرة لديكم تركتموها بدون حارس يحرسها أو إنسان يخلفكم عليها في إدارتها و حفظها و لكان كل فرد منكم يهتم بنفسه و ينظر ما ينفعها و يترك ما لا ينفعه و لا يفيده...

إن أهل العراق غفلوا عن المستقبل و اشتغلوا بالقيل و القال، لم يطيعوا الإمام فيما أمر و قد أمر بما يصلحهم و ينفعهم و لكنهم أبوا و تمردوا...5.

ص: 309


1- سورة الأحزاب آية - 45.

(و لكنكم نسيتم ما ذكرتم و أمنتم ما حذرتم فتاه عنكم رأيكم و تشتت عليكم أمركم). فهناك تذكير لكم و تحذير تذكير بما ينتظركم إن توحدتم و التزمتم بما أراد اللّه و تحذير لكم من معصيته و عدم التزامكم بما أمر و عدم طاعته في العمل و الإقدام على دحر الطواغيت و الظالمين.

و لكن أعقبكم عدم التذكر و النسيان أن ضل عنكم رأيكم الصائب و لم تهتدوا إلى الأمر الصحيح السليم المنقذ لكم من السقوط في مهاوي المهالك...

(و لوددت أن اللّه فرق بيني و بينكم و ألحقني بمن هو أحق بي منكم قوم و اللّه ميامين الرأي مراجيح الحلم مقاويل بالحق متاريك للبغي مضوا قدما على الطريقة و أوجفوا على المحجة فظفروا بالعقبى الدائمة و الكرامة الباردة). تمنى عليه السلام و أطلق ما تمناه في وجوههم.. إنها نفثة خرجت من قلب المعاناة التي يعيشها و من واقع التمرد الذي يمارسه أهل العراق عليه... إنه تمنى لو أن اللّه فرق بينه و بينهم و كم تكون الأذية حتى يتمنى فراقهم و البعد عنهم...

إنه تمنى فراقهم و تمنى أن يلحقه اللّه بقوم أحق به منهم لم يذكرهم بأسمائهم و إنما ذكرهم بأوصافهم و إن انطبقت هذه الأوصاف على ثلة طاهرة تقدمت عليه و استشهدت بين يديه و صفاتهم هي:

أ - قوم ميامين الرأي: أصحاب رأي مبارك صائب مستقيم.

ب - قوم مراجيح الحلم: فأحلامهم و عقولهم راجحة إذا ارتأت أمرا كان الحق معها...

ج - قوم مقاويل بالحق: منطقهم الحق لا يتكلمون بالباطل.

د - قوم متاريك للبغي: إنهم لا يدنون من الظلم أبدا و لا يتجاوزون المرسوم بحال...

ه - قوم مضوا قدما على الطريقة: قوم ساروا على الطريقة الصحيحة قديما أو قوم تقدموا علينا ساروا على الطريقة الصحيحة و السليمة...

و - قوم أوجفوا على المحجة: أي أسرعوا في مسيرهم على الطريقة الواضحة حبا بها و رغبة بما فيها.

و كانت العاقبة لهذه الثلاثة الطاهرة التي تمنى وجوده معها إنهم أدركوا الآخرة السعيدة و هي الجنة و ما فيها من نعيم خالدين فيها...

ص: 310

(أما و اللّه ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال يأكل خضرتكم و يذيب شحمتكم إيه: أبا وذحة).

أخبار بالغيب. و هذه رؤية علوية و أخبار بالغيب علمه رسول اللّه ما يجري عليه و ما سيجري بعده... و هذا النبأ يخبر به أهل العراق و يقسم باللّه أنه سيتولى عليهم غلام ثقيف و هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي تولى على العراق و وصفه بالتجبر و الظلم و أنه سيقضي على ما هم فيه من القوة و الأبهة و العظمة و ما يتمتعون به من ثراء و نعيم كما أنه سيذلهم و يقضي على شرفهم و عزتهم و قد نقلت كتب التاريخ و السير عن هذا الطاغية ما تقشعر منه الأبدان و يكاد لا يصدق ما ينقل لغرابته و بشاعته من حيث لا ترتكبه نفس بشرية على الإطلاق و لا يمكن أن يتصور في حق إنسان.

ثم قال له: زد و هات و لقّبه أبا وذحة و هي في الأصل اسم للبعر الملتصق بشعر الشاة و قيل اسم للخنفساء و وجه تسميته بذلك يمكن أن يكون تحقيرا له و تصغيرا على عادة العرب من حيث تكني الإنسان إذا أرادت تحقيره بما يستحقر كما تكينه بما يكون مظنة التعظيم إذا أرادت تعظيمه.

و قيل لأن الخنفساء قرصته بيده فمات منها و قيل لأنه كان مثفارا و كان يمسك الخنفساء حية ليشفي بحركتها في الموضع حكاكه و قالوا غير هذا...

ص: 311

117 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يوبخ البخلاء بالمال و النفس فلا أموال بذلتموها (1) للّذي رزقها، و لا أنفس خاطرتم (2) بها للّذي خلقها. تكرمون (3) باللّه على عباده، و لا تكرمون اللّه في عباده! فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، و انقطاعكم عن أوصل إخوانكم!.

اللغة

1 - بذل الشيء: اعطاه و جاد به.

2 - خاطرتم: ارتكبتم ما فيه خطر و هلاك.

3 - تكرمون: من كرم الشيء إذا عز و نفس.

الشرح

(فلا أموال بذلتموها للذي رزقها و لا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها). ذمهم بهذين الوصفين القبيحين.

فالأموال التي هي من اللّه و التي هي ملك له و التي من فضله كانت بأيديكم كان حقها أن تصرف فيما أمر و أراد من اعانة عباد اللّه و سد عوزهم و رفع حاجتهم... من أجل مصالح الأمة و ما ينفعها و يفيدها.. هذه الأموال قد بخلتم بها عن اللّه و في سبيله و لم تبذلوها لمستحقيها... و هذه الأنفس التي خلقها اللّه و التي بقاؤها و استمرارها بيد اللّه من حقكم أن تجاهدوا فيها من أجله فلما ذا تبخلون بها عمن هو أحق بها منكم فلا الأموال بذلتم و لا بالأنفس جاهدتم.

ص: 312

(تكرمون باللّه على عباده و لا تكرمون اللّه في عباده). أنتم باللّه و بما أعطاكم و خولكم يكرمكم الناس و يحترمونكم فلما ذا لا تكرمون اللّه و تحترمونه في عباده بأن تقدموا لهم يد المساعدة و العون.

و بعبارة أخرى: الناس يطيعونكم و يجلونكم لأجل اللّه فلما ذا لا تجلون اللّه و تطيعونه في الناس...

(فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم و انقطاعكم عن اوصل أخوانكم). ذكرهم بنهايتهم التي هي نهاية من كان قبلهم من الأمم و الشعوب.. إنها حفرة صغيرة حقيرة تدوسها الأقدام... حفرة نزلها المتقدمون و سننزل فيها نحن كما نزلوا... و بها تتفكك العرى الملتحمة و تنقطع الخيوط الموصولة...

ينفصل الأب عن الابن و الأخ عن أخيه و القريب عن قريبه و في هذا عبرة للعودة إلى اللّه و الرجوع إليه و أن يكون الإنسان سخيا كريما مالا و نفسا في طاعة اللّه و مرضاته...

ص: 313

118 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في الصالحين من أصحابه أنتم الأنصار على الحقّ ، و الإخوان في الدّين، و الجنن (1) يوم البأس (2)، و البطانة (3) دون النّاس. بكم أضرب المدبر (4)، و أرجو طاعة المقبل. فأعينوني بمناصحة (5) خليّة من الغشّ ، سليمة من الرّيب (6)، فو اللّه إنّي لأولى النّاس بالنّاس!.

اللغة

1 - الجنن: بضم جمع جنة أيضا بالضم و هي الوقاية و ما يستتر به.

2 - البأس: الشدة.

3 - البطانة: للرجل خاصته و أصحاب سره.

4 - المدبر: من أعطى دبره، الهارب.

5 - المناصحة: أن ينصح كل واحد الآخر و النصح هو إخلاص المودة، الموعظة.

6 - الريب: الشك.

الشرح

(أنتم الأنصار على الحق و الإخوان في الدين و الجنن يوم البأس و البطانة دون الناس). وجه الإمام هذا الكلام إلى أصحابه بعد انتصاره في معركة الجمل حيث ابدوا شجاعة فائقة ففي يوم واحد تم له ما أراد و كسب المعركة و هزم اللّه الناكثين.. مدحهم ليشد من عزيمتهم و يقويهم على إكمال المسير فقال لهم: أنتم الأنصار على الدين

ص: 314

تدفعون عنه و تقاتلون من أجله و هذا أفضل الجهاد و أعظمه و هو الجهاد الذي يستحق أن يبذل الناس من أجله كل شيء... و وصفهم بإخوة الدين تمشيا مع قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » أخوة عقيدة و إيمان...

و وصفهم بأنهم الدروع الواقيه يوم الشدة و البأس و في اشتداد الخطوب و الأزمات لأنهم يدفعون عن الحق و يدافعون عنه...

و جعلهم من خواصّه و أهل سرّه زيادة لهم في القرب و العطف و الحب و إنهم شركاء له في كل قرار و في كل نصر...

(بكم أضرب المدبر و ارجو طاعة المقبل). أنتم اليد التي أضرب بها من أدبر عن الحق و تولى عن الجماعة و أراد أن يفكك عرى الوحدة و يوهن قوة هذا الدين و أرجو بكم طاعة المقبل أي من كان في صفوفنا ضعيف العقيدة يعيش القلق يتربص الأوقات ليفر هذا إذا رآكم متفقين متوحدين صادقين صحاح القلوب سالمي النوايا فإنه يرغب في البقاء و يكمل المسير معنا إلى النهاية.

(فاعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب فو اللّه إني لأولى الناس بالناس). بعد أن ذكرهم بما تقدم من الأوصاف الكريمة طلب منهم أن يساعدوه بالنصيحة الخالية من الغش الصادقة السليمة من الشك فيه و في أحقيته بالخلافة ثم أقسم إنه أولى الناس و أحقهم بإمامة الناس لأنه أعلمهم بأمر اللّه و أقدرهم على إقامة حكم اللّه و قد شهد الرسول بذلك فيما ورد عنه من النصوص التي عينت عليا خليفة بعده و إنه أولى الناس بالناس و بهذا شهد واقع حاله و لسان مقاله.

ص: 315

119 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد جمع الناس و حضهم على الجهاد فسكتوا مليا فقال عليه السلام: ما بالكم أ مخرسون (1) أنتم ؟ فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك.

فقال عليه السلام: ما بالكم (2)! لا سدّدتم (3) لرشد (4)! و لا هديتم لقصد (5)! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج ؟ و إنّما يخرج في مثل هذا رجل ممّن أرضاه من شجعانكم و ذوي بأسكم (6)، و لا ينبغي لي أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية (7) الأرض، و القضاء بين المسلمين، و النّظر في حقوق المطالبين، ثمّ أخرج في كتيبة (8) أتبع أخرى، أتقلقل (9) تقلقل القدح (10) في الجفير (11) الفارغ، و إنّما أنا قطب الرّحا (12)، تدور عليّ و أنا بمكاني، فإذا فارقته استحار (13) مدارها (14)، و اضطرب ثفالها (15). هذا لعمر اللّه الرّأي السّوء. و اللّه لو لا رجائي الشّهادة عند لقائي العدوّ - و لو قد حمّ (16) لي لقاؤه - لقرّبت ركابي (17) ثمّ شخصت (18) عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال، طعّانين (19) عيّابين (20)، حيّادين (21) روّاغين (22)، إنّه لا غناء (23) في كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم. لقد حملتكم على الطّريق الواضح الّتي لا يهلك عليها إلاّ هالك، من استقام فإلى الجنّة، و من زلّ فإلى النّار!.

ص: 316

اللغة

1 - أ مخرسون: من الخرس و هو انعقاد اللسان عن الكلام.

2 - ما بالكم: ما شأنكم.

3 - السداد: الصواب.

4 - الرشد: الاستقامة على طريق الحق.

5 - القصد: استقامة الطريق، الاعتدال.

6 - البأس: الشدة و الشجاعة.

7 - الجباية: للخراج جمعه و جبي الماء في الحوض إذا جمعه فيه.

8 - الكتيبة: قطعة من الجيش.

9 - اتقلقل: اتحرك.

10 - القدح: السهم و قيل هو قبل أن يراش.

11 - الحفير: الكنانة و قيل وعاء للسهام أوسع من الكنانة.

12 - قطب الرحى: حديدة في الطبق الأسفل من الرحى يدور عليها الطبق الأعلى.

13 - استحار: اضطرب و لم يستقم.

14 - المدار: للشيء ما يدور عليه.

15 - الثفال: بكسر الثاء جلد يبسط و يوضع عليه الرحا فوقه فيطحن باليد ليسقط عليه الدقيق.

16 - حمّ : قدّر.

17 - الركاب: الابل.

18 - الشخوص: الخروج.

19 - طعانين: شتامين، تقدحون بالناس و تعيبونهم.

20 - عيابين: تنسبون الناس إلى العيب.

21 - حيادين: تميلون عن الحق.

22 - رواغين: مكارين حيالين.

23 - لا غناء: لا نفع.

الشرح

(ما بالكم ا مخرسون أنتم). هذا الكلام قاله عليه السلام عند ما أخذ معاوية يشن الغارات على أطراف البلاد التي يحكمها الإمام فكان يحث جنده على الخروج و يحضهم

ص: 317

على الجهاد فقال لهم ذلك في يوم ما فسكتوا جميعا طويلا فقال لهم: هل أصابكم الخرس و تعطلت ألسنتكم عن الجواب.

فقالوا عندها إن سرت سرنا معك فقد ربطوا مسيرهم بمسيره فعندها و بخهم لهذا الرأي الفقير الذي لم يعهده قائد من جنده و لن يعهده التاريخ إلا من بني إسرائيل الذين قالوا لموسى اذهب أنت و ربك فقاتلا.

ثم بين فساد رأيهم و ضلال قولهم قائلا.

(ما بالكم لا سددتم لرشد و لا هديتم لقصد أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج).

استفهم مستنكرا عليهم طلبهم و صدره بالدعاء عليهم - و ليس لبيان حالهم كما قال بعضهم - دعا عليهم بأن لا يوفقوا لصواب و لا يهتدوا للخير لأن طلبهم هذا لم يقع في موقعه و ليس فيه من الصواب أدنى درجاته.

أ في مثل هذا ينبغي أن أخرج أي لا يجوز لي أن أخرج لأن معاوية يرسل كتائبه لغزو اطرافكم فيجب أن تقابلوهم و تردوهم و هل كان من شأن الإمام أن يخرج خلف كل حملة يرسلها معاوية و يجلس قادة الجند و الناس لا يخرجون إلا معه...

ثم بين فساد رأيهم بقوله.

(و إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ارضاه من شجعانكم و ذوي بأسكم). يجب أن يخرج لملاقاة ما يرسله معاوية من جند لغزوكم رجل يقع موضع الرضا عندي بأن يكون أمينا ثقة صاحب خبرة شجاعا ذا قوة و شدة يدفع جند معاوية و يطاردهم و ينكل بهم لأن هذه الحملات الصغيرة لا تستدعي من خليفة المسلمين أن يواجهها بنفسه طالما يستطيع بعض قادته مع جنود الإسلام مواجهتها وردها و تأديب أهلها...

(و لا ينبغي لي أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الأرض و القضاء بين المسلمين و النظر في حقوق المطالبين). هذه هي الأمور التي تستوجب عدم خروجه لكتائب معاوية التي وجهها لغزو بعض أطراف حكمه.

1 - إن هناك الجنود الذين يحتاجون إلى رعاية و يجب أن يكون نظر الإمام باستمرار إليهم في التدريب و العناية و البحث عن مصالحهم و ما يقوي شوكتهم و يشد عزيمتهم و هذا لا يتأتى إذا كان الإمام بعيدا عنهم...

2 - كيف يترك عاصمة الحكم و من يدبر أمور الحكم و يضبط الناس و يمنع الفوضى...

ص: 318

3 - إن بيت مال المسلمين يجب أن يوزع على المستحقين و أصحاب الحاجة و العوز و كل من له حق فيه فمن هو الذي يتولى ذلك إذا خرج و لو خرج لأفسد ذلك.

4 - جباية الأرض فإذا خرج من يتسلم ضريبة الأرض و نتاجها و ما فرض عليها؟!.

5 - إنه لو خرج فمن يقضي بين المسلمين و قد كان مسجد الكوفة هو قاعة المحكمة التي يجري فيها القضاء فإذا خرج تعطل القضاء و من هنا نستفيد إنه لم يكن يطمئن إلى القضاة في زمانه و في بعض الروايات إنه اشترط على شريح القاضي أن لا يمضي قضاءه إلا بعد مشاورته...

6 - إنه عليه السلام كان ينظر في قضايا المطالبين بحقهم أو رفع الظلم عنهم.

فهذه الأمور تتعطل و توجب الفوضى و الاضطراب إذا خرج الإمام لملاحقة العصابات التي شكلها معاوية و أرسلها إلى غزو أطراف البلاد التي هي تحت حكم الإمام...

(ثم أخرج في كتيبة اتبع أخرى اتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ). هل أخرج في كتيبة من الجيش أبحث عن الغارة و أين أصبحت و اتنقل وراءها من مكان إلى آخر في اضطراب و عدم استقرار إن مثل هذه الغارة تحتاج إلى شجاع مع فرقة تطاردها و تلاحقها.. و قالوا إنه عليه السلام شبه نفسه في اضطراب الحال و الانفصال عن الجند و الاعوان بالقدح - السهم - الذي لا يكون حوله قداح تمنعه من الاستقرار و قال بعضهم:

شبه خروجه معهم بالقدح في الجفير و وجه الشبه إنه كان قد نفذ الجيش و أراد أن يجهز من بقي من الناس في كتيبة أخرى فشبه نفسه في خروجه في تلك الكتيبة وحده مع تقدم أكابر الجماعة و شجعانها بالقدح في الجفير الفارغ في كونه يتقلقل و في العرف يقال للشريف إذا مشى في حاجة ينوب فيها من هو دونه و ترك المهام التى لا تقوم إلا به: ترك المهم الفلاني و مشى يتقلقل على كذا...

(و إنما أنا قطب الرحا تدور عليّ و أنا بمكاني فإذا فارقته استحار مدارها و اضطرب ثفالها هذا لعمر للّه الرأي السوء). أشار إلى مقامه و مركزه و إنه القطب الذي تدور عليه الأمور، منه تصدر و إليه ترد و هو جامع ادارات الدولة و بيده الحل و العقد..

و الخليفة هو مدار حركة الدولة بنظره تجري الأمور و على يديه تمضي و برأيه تسير الجيوش و تخاض الحروب و تنتصر الأمة فيجب أن يبقى في مكانه يخطط و يرسم للدولة سياستها و حركتها و يراقب الحياة بكل تشعباتها فيسعى من أجل صالح الدين و صالح المسلمين و أشار إلى إنه إذا خرج من مركزه اضطربت الحركة و دبت الفوضى و ساد الهرج

ص: 319

و المرج و لم يعد هناك من تماسك في البناء ثم أشار إلى فساد رأيهم و إنه رأي سوء قبيح ليس عليه غبار من الصحة...

(و اللّه لو لا رجائي الشهادة عند لقائي العدو - و لو قد حمّ لي لقاؤه - لقربت ركابي ثم شخصت عنكم فلا اطلبكم ما اختلف جنوب و شمال). و هذه نفثة مصدور و آهة محزون تخرج الكلمات مبللة بالدموع ممزوجة بالالم من العمق الحزين تنطلق و يقسم علي و هو صادق إنه لو لا رجاء الشهادة عند لقاء العدو لو قدر له لقاؤه لركب راحلته و خرج عنهم و لم يعد إليهم ما تحرك الهواء و ما عاش الأحياء.. إنها معاناة شديدة تمنى فراقهم و عدم العود إليهم ما هب النسيم.

(طعانين عيابين حيادين رواغين) وصفهم بهذه الاوصاف التي تنزه عنها المؤمنون المجاهدون الذين يتحركون في خط اللّه واضعين رضاه أقصى امنيتهم و غاية هدفهم..

إنهم يطعنون في المؤمنين يجرحونهم بالسنتهم عيابين يذكرون عيوب الناس و يتفكهون بها، حيادين عن الحق مجانبين له رواغين أصحاب حيل و مكر و هي اوصاف قبيحة لا يعيشها مجتمع إلاّ ضل أو طائفة إلا فسدت...

(إنه لا غناء في كثرة عددكم مع قلة اجتماع قلوبكم).

لم نغلب من قلة: ليس العبرة بالكثرة و ضخامة الرقم إنما العبرة باجتماع القلوب و توحدها قال تعالى:(1)«كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّٰهِ » فالاساس للانتصار هو اللقاء الفكري و القلبي و اجتماع الكلمة و وحدة الشمل و إنني أنظر اليوم إلى هذه الأمة الممزقة الموزعة التي لم تجتمع على كلمة واحدة و لم تلتقي على أهم هدف مقدس فهذه القدس الشريفة و هذه فلسطين السليبة تباع اليوم في مؤتمر مدريد و تسلم مفاتيح الأرض المقدسة إلى حكام اسرائيل تحت رعاية الظلم الدولي التي تقوده امريكا أم الجرائم و رأس الأفعى...

أكتب هذه الكلمات في يوم الأربعاء الواقع في الثلاثين من شهر تشرين الثاني سنة 1991 المصادف 22 ربيع ثاني من سنة 1412 هجري حيث يعقد ما يسمى بمؤتمر السلام في الشرق الأوسط في هذه الليلة الآثمة التي التقى فيها العالم على ظلم الشعب المسلم و اغتصاب الأرض المقدسة.. إنها مؤامرة و ليست مؤتمرا.. إنه استسلام و ليس سلاما إننا لا نشكو من قلة بل هناك كثرة فائضة.. نشكو من الفرقة و التمزق و الانحلال.. نشكو فقد القائد الذي يجمع الأمة و يوحد صفوفها و يدخل المعركة باسم الإسلام... إن اليهود بضع ملاين اجتمعت كلمتهم على رأي واحد و التقوا على إقامة9.

ص: 320


1- سورة البقرة آية - 249.

وطن يهودي لهم على أرض فلسطين فعملوا من أجل هدفهم و سخروا العالم من أجل تحقيق رغبتهم و قد نجحوا في غياب الأمة و تسلط حكام السوء علينا... لقد فرقنا الاستعمار و زرع في كل شير دولة نصب عليها ملكا غاصبا أو حاكما جائرا ينفذ ما يريد بدون اعتراض أو استفهام...

لقد تداعت الأنظمة العربية إلى مدريد و مدريد هي الأندلس التي حكمها الإسلام و أسس عليها دولته في الغرب تداعى الحكام العرب إلى الأندلس ذليلين خانعين نسوا أن هذه الأرض - مدريد - هي أرض الإسلام لقد اختار لهم العدو المكان ليقول لهم اقرؤا الفاتحة عن روح فلسطين كما قرأتم الفاتحة من قبل عن روح الأندلس التي أصبحت الآن مدريد و التي يعقد مؤتمركم على أرضها...

بدون حياء تداعت الوفود العربية... و كلهم يعلمون أن اليهود لن يردوا لهم القدس و لن يتنازلوا عن شبر واحد من أرض فلسطين...

إنني أصرخ في الأمة.. في رجالاتها العظام.. في ابنائها في كل طفل صغير في كل جنين يتحرك في بطن أمه.. في كل نطفة ستصبح انسانا.. اصيح و أصرخ لا تقبلوا الصلح مع اليهود.. ارفضوه.. إنه محرم في شرع اللّه و في دين اللّه...

كما إنني أصرخ في وجوه العاهرين من التجار.. أصحاب العروش.. الحكام..

الرؤساء.. القادة.. السياسين.. اصرخ و أقول كلمة الحق: كفوا عن بيع الكرامة..

فإنها أغلى ما في الأمة.. إنها و صمة عار.. خيانة.. ذل.. إهانة.. لكم و للزمن الذي تعيشون فيه.. كفوا و توقفوا و اتركوا الأمة تدخل المعركة من باب الإسلام فستجدون النصر لكم و الهزيمة لعدوكم أنني أكتب هذه الكلمات من قلب جريح مملوء بالأسى ينظر إلى الوضع الحاضر فلا يرى إلا بصيص نور يحمله القائد المدخر الإمام المنتظر...

(لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا يهلك عليها إلا هالك من استقام فإلى الجنة و من زلّ فإلى النار). أوضح أنه بيّن لهم طريق الحق و ما يسعدهم و لشدة عنايته بهم فكأنه حملهم عليه و لهذا لا يهلك بعد هذا البيان الواضح و الرؤية لطريق الحق السليم إلا من أراد أن يهلك باختياره و حريته و عن علم و معرفة.

ثم أعطى القاعدة العامة: من استقام على الطريق الواضح الذي بينه فعمل بمقتضى القواعد فإلى الجنة نهايته و أكرم بها من دار و أما من زل عن هذا الطريق الواضح و انحرف عنه و تنكب السير عنه فمصيره إلى النار و بئس القرار...

ص: 321

120 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يذكر فضله و يعظ الناس تاللّه لقد علّمت تبليغ الرّسالات، و إتمام العدات (1)، و تمام الكلمات.

و عندنا - أهل البيت - أبواب الحكم و ضياء الأمر. ألا و إنّ شرائع الدّين واحدة، و سبله (2) قاصدة (3). من أخذ بها لحق و غنم (4)، و من وقف عنها ضلّ و ندم. اعملوا ليوم تذخر له الذّخائر (5)، «و تبلى فيه السّرائر (6)». و من لا ينفعه حاضر لبّه (7) فعازبه (8) عنه أعجز، و غائبه أعوز (9). و اتّقوا نارا حرّها شديد، و قعرها (10) بعيد، و حليتها (11) حديد، و شرابها صديد (12). ألا و إنّ اللّسان الصّالح يجعله اللّه تعالى للمرء في النّاس، خير له من المال يورثه من لا يحمده.

اللغة

1 - العدات: جمع عدة الوعد.

2 - السبل: الطرق.

3 - قاصدة: مستقيمة.

4 - غنم: استفاد و انتفع.

5 - الذخائر: جمع ذخيرة ما يخبأ لوقت الحاجة.

6 - تبلى فيه السرائر: تختبر.

7 - اللب: العقل.

8 - عازبه: غائبه و عزب الشيء إذا غاب.

9 - عوز الشيء: كفرح أي لم يوجد و أعوزه الدهر إذا أفقره.

ص: 322

10 - القعر: عمق الشيء و نهاية أسفله.

11 - الحلية: بكسر الحاء جمع حلى بالكسر و الضم ما يزيّن به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة الكريمة.

12 - الصديد: القيح المختلط بالدم.

الشرح

(تاللّه لقد علمت تبليغ الرسالات و إتمام العدأت و تمام الكلمات).

(تاللّه لقد علمت تبليغ الرسالات) أقسم باللّه أنه قد تعلم أداء الرسالات التي أنيطت به و كلف بها، لقد تعلمها من النبي حينما كلفه أداء سورة براءة في الحج و قال: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني و تعلم منه كيف يبلغ بعد وفاته و كذلك هو بلغها إلى الأئمة من ولده.

و مراده بإتمام العدات أي إنجاز ما يعد به دون خلف فيه قال ابن أبي الحديد و فيه إشارة إلى قوله تعالى: «مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اَللّٰهَ عَلَيْهِ » و باتفاق المفسرين أنها نزلت في علي و حمزة و جعفر.

و يمكن أن يراد بذلك أنه الذي ينجز عدات رسول اللّه و يفي بها حيث كانت الوصية إليه بذلك و قد وفى في ذلك...

و أما مراده بتمام الكلمات فهي معرفته بكل ما يتعلق بكلام اللّه تفسيرا و تأويلا و نزولا و ناسخا و منسوخا و غير ذلك و قال ابن أبي الحديد في شرحه: و خلاصة هذا أقسم باللّه أنه قد علم - أو علّم - على اختلاف الروايتين أداء الشرائع إلى المكلفين و الحكم بينهم بما أنزل اللّه و علم مواعيد رسول اللّه التي وعد بها فمنها ما هو وعد لواحد من الناس بأمر نحو أن يقول له: سأعطيك كذا و منها ما هو وعد بأمر يحدث كأخبار الملاحم و الأمور المتجددة. و علم تمام كلمات اللّه تعالى، أي تأويلها و بيانها الذي يتم به لأن في كلامه تعالى المجمل الذي لا يستغنى عن متمم و مبين يوضحه...

(و عندنا - أهل البيت - أبواب الحكم و ضياء الأمر). أشار إلى فضيلة أهل البيت و اختصاصهم بهذه الصفات دون غيرهم من الأمة فهم أبواب الحكم أي فصل الخصومات و حكم الناس و إدارة سياستهم و ترتيب أمورهم هذا إذا كانت بالضم و أما إذا

ص: 323

كانت بكسر الحاء فعندهم الحكم و المواعظ و إرشاد الناس و كلا الوجهين جاريين في حق أهل البيت و هم أهل ذلك و أحق الناس به.

و أما مراده بضياء الأمر يعني أنهم بعلومهم يكشفون للناس الطريق و يهدونهم إلى الحق و العدل.

و قيل: إن مراده «بضياء الأمر» يعني العقليات و العقائد.

و قيل: إن مراده «بالأمر» إما الولاية كما كنى به عنها كثيرا في أخبار أهل البيت عليهم السلام و في قوله تعالى: «وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ » و الضياء حينئذ بمعناه الحقيقي أي عندنا نور الإمامة و الولاية.

(ألا و أن شرائع الدين واحدة و سبله قاصدة من أخذ بها لحق و غنم و من وقف عنها ضل و ندم). أشار إلى أن قواعد الدين و قوانينه واحدة و طرقه مستقيمة و هي عند أهل البيت و كل ما ورد عنهم يصدّق بعضه البعض ينطقون عن لسان واحد و يتكلمون بلهجة واحدة من أخذ بهذه الشرائع الواردة عنهم لحق بالإسلام و بأهل الإيمان و السابقة و ربح الدنيا و الآخرة و من وقف عنها و لم يأخذ بها ضل عن الطريق و انحرف عن العدل و الحق و يوم القيامة يندم ولات ساعة مندم لأن الأمور انقضت و سقطت الأعمال و جاء دور الحساب...

(اعملوا ليوم تذخر له الذخائر و تبلى فيه السرائر). أمرهم بالعمل ليوم القيامة و الحساب فإنه يوم رهيب يحتاج الإنسان فيه إلى عمل صالح يدخره لأهواله و مصاعبه و خير ما يدخر الإنسان الإيمان باللّه و برسوله و بأهل بيت رسول اللّه ثم العمل الصالح المتجسد بامتثال أوامر اللّه و اجتناب نواهيه إنه يوم يكشف فيه عن الضمائر و ما كان يسره الإنسان و يخفيه...

(و من لا ينفعه حاضر لبه فعازبه عنه أعجز و غائبه أعوز). من لم ينتفع بعقله و هو يمتلكه فإنه يسقط الانتفاع و الفائدة في حال غيابه و عدم حضوره لشدائد الموت و أهواله...

و قيل: إن من لم يكن له من نفسه رادع و زاجر فمن البعيد أن ينزجر و يرتدع بعقل غيره و موعظته، و قيل غير ذلك...

(و اتقوا نارا حرها شديد و قعرها بعيد و حليتها حديد و شرابها صديد). بعد أن حثهم على العمل الصالح حذرهم من النار و ذكر بعض أوصافها الرهيبة التي تقشعر لها

ص: 324

الجلود فحرها شديد لا يقوى عليه بشر و قعرها أي عمقها بعيد فمن سقط فيه لا يقدر على الخروج منه و حليتها أي ما يتزين به هناك أغلال و قيود من حديد بدل الأساور من الذهب و الفضة لأهل الجنة و أما شرابها فقيح مخلوط بالدم لا يستطيع الإنسان تذوقه و لا ينفع في رفع الظمأ أو يدفع العطش...

(ألا و إن اللسان الصالح يجعله اللّه تعالى للمرء في الناس خير له من المال يورثه من لا يحمده). أشار عليهم بأمر يبقى لهم و لأبنائهم عزه ألا و هو حديث الناس بالخير لهم و مدحهم و ذكرهم بالفضائل و الكرم فإن الذكر الجميل الذي يتناقله الناس و يرونه لبعضهم خير من المال الذي يورثه المرء لأبنائه لأنه لا يخرج عنهم و لا يعرف به غيرهم، و ذكر حاتم في جوده يعيش في العالم و تتناقله الركبان و قصصه تتلى في كل مكان و قد كان غيره كثيرون يملكون أكثر مما يملك فلما ماتوا مات ذكرهم.. و الإنسان إذا نجح في القرب من اللّه و تفوق في طاعته و بلغ الدرجات الرفيعة عنده يخلد ذكره و تتناقل أحاديثه الناس بكل خير...

ص: 325

121 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

بعد ليلة الهرير و قد قام إليه رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أي الأمرين أرشد؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال:

هذا جزاء من ترك العقدة (1)! أما و اللّه لو أنّي حين أمرتكم به حملتكم على المكروه الّذي يجعل اللّه فيه خيرا، فإن استقمتم هديتكم و إن اعوججتم (2) قوّمتكم (3)، و إن أبيتم (4) تداركتكم، لكانت الوثقى، و لكن بمن و إلى من ؟ أريد أن أداوي بكم و أنتم دائي (5)، كناقش الشّوكة بالشّوكة، و هو يعلم أنّ ضلعها (6) معها! اللّهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الدّاء الدّويّ (7)، و كلّت (8) النّزعة (9) بأشطان (10) الرّكيّ (11)! أين القوم الّذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، و قرءوا القرآن فأحكموه، و هيجوا (12) إلى الجهاد فولهوا (13) و له اللّقاح (14) إلى أولادها، و سلبوا السّيوف أغمادها (15)، و أخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا (16)، و صفّا صفّا. بعض هلك، و بعض نجا. لا يبشّرون بالأحياء، و لا يعزّون عن الموتى. مره (17) العيون من البكاء، خمص البطون (18) من الصّيام، ذبل (19) الشّفاه من الدّعاء، صفر الألوان من السّهر. على وجوههم غبرة الخاشعين. أولئك إخواني الذّاهبون. فحقّ لنا أن نظمأ إليهم، و نعضّ الأيدي على فراقهم. إنّ الشّيطان يسنّي (20) لكم طرقه، و يريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة، و يعطيكم بالجماعة الفرقة، و بالفرقة الفتنة. فاصدفوا (21) عن

ص: 326

نزغاته (22) و نفثاته (23)، و اقبلوا النّصيحة ممّن أهداها إليهم، و اعقلوها (24) على أنفسكم.

اللغة

1 - العقدة: بالضم الحزم و الرأي السديد.

2 - الأعوج: الملتوي، غير المستقيم.

3 - قومتكم: عدلتكم و رفعت اعوجاجكم.

4 - أبيتم: رفضتم.

5 - الداء: العلة و المرض.

6 - الضلع: الميل و الهوى.

7 - الداء الدوي: الداء الشديد.

8 - كلّت: ضعفت.

9 - النزعة: جمع نازع و هو الذي يستقي الماء.

10 - الأشطان: جمع الشطن و هو الحبل.

11 - الركي: جمع الركية و هي البئر.

12 - هيجوا: من هاج إذا ثار و انبعث.

13 - ولهوا: من الوله و هو شدة الحب و قيل: هو حتى يذهب العقل.

14 - اللقاح: جمع لقوح و هي الناقة.

15 - الأغماد: جمع غمد جفن السيف.

16 - الزحف: إلى الشيء هو المشي نحوه.

17 - مره: جمع أمره إذا فسدت عينه.

18 - خمص البطون: ضوامرها.

19 - الذبول: يقال ذبل الورد إذا قلّت نضارته و ذهب ماؤه.

20 - يسني: يسهل.

21 - أصدفوا: أعرضوا.

22 - نزعات الشيطان: وساوسه.

23 - نفثات الشيطان: ما ينفث به و ينفث بالضم أو الكسر أي يخيل و يسحر.

24 - أعقلوها: احبسوها، و ألزموها.

ص: 327

الشرح

(هذا جزاء من ترك العقدة أما و اللّه لو أني حين أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل اللّه فيه خيرا فإن استقمتم هديتكم و إن اعوججتم قومتكم و إن أبيتم تداركتكم لكانت الوثقى). هذا الكلام منه عليه السلام كان على أثر التحكيم و ذلك أن معاوية عند ما أيقن بالهزيمة في صفين بعد ليلة الهرير استشار عمرو بن العاص فأشار عليه برفع المصاحف و طلبوا منهم التحكيم إلى القرآن و علم الإمام أنها خدعة و أصر على أصحابه أن يتابعوا القتال حتى النصر و لكنهم اختلفوا فيما بينهم و خرج الخوارج و أعلنوا التوقف عن الحرب و دعوا الإمام إلى قبول التحكيم مهددين قائلين: يا علي أجب القوم إلى كتاب اللّه و إلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان فاضطر الإمام إلى القبول كرها لا رغبة و كتبت الصحيفة و قرأها الأشعث بن قيس فقامت عندها الخوارج أصحابه بالأمس الذين أجبروه على التحكيم رفضوا التحكيم و نادوا لا حكم إلا للّه ليس الحكم لك يا على و لا لمعاوية ثم كفّروا الإمام و طلبوا منه أن يتوب عن التحكيم كما تابوا قائلين: قد كنا زللنا و أخطأنا حين رضينا بالحكمين و قد بان لنا خطأنا فرجعنا إلى اللّه و تبنا فارجع أنت و تب إلى اللّه كما تبنا.

فقال عليه السلام: و يحكم أبعد الرضا و الميثاق و العهد نرجع أليس اللّه قد قال:

أوفوا بالعقود و أبى أن يرجع شاهدا على نفسه بالكفر و أبت الخوارج إلا تكفيره.

و في هذه الأجواء قام إليه رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أي الأمرين أرشد؟.

فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال: هذا جزاء من ترك العقدة أي جزاء من ترك الحزم و الأخذ بالقوة و الإصرار على ما كنت أراه من إكمال الحرب و عدم قبول التحكيم و لكن كما قلنا اضطر إلى ذلك تحت قهر الخوارج و حكمهم.

ثم بين موقفه يومها و كيف يجب أن يتعامل معهم، فأقسم أنه لو حملهم و ألزمهم بما كان يرتئي من الحرب التي يكرهونها و لم يرضوا بها و فيها الخير الكثير لكانوا بين أمرين إما أن يستجيبوا له و يقبلوا منه و يحاربوا عدوه معه فيكونوا قد اهتدوا، و إما أن يميلوا و يترددوا فكان يقعد لهم على الطريق المستقيم بما يملك من نصيحة و إرشاد و إن أبوا و رفضوا و أصروا على البقاء على مواقفهم اضطر أن يستعين عليهم بشيعته و من يرى رأيه ثم يقول: لو كنت فعلت ذلك لكان هو الرأي الصائب و العمل الصحيح...

ص: 328

(و لكن بمن و إلى من ؟ أريد أن أداوي بكم و أنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة و هو يعلم أن ضلعها معها). استدرك عليه السلام على ما بيّن من الرأي الصائب الصحيح الذي كان يجب أن يفعله رافعا عن نفسه ما يمكن أن يظن أنه قد أخطأ فيه قائلا: لقد كان هذا رأيا صائبا لو كان لي من يطيعني فيه و يعمل بموجبه و أستعين به على فعله و لكن بمن كنت أستعين عليكم و إلى من أرجع في ذلك.

إما أن أرجع إليكم و أنتم على ما أنتم عليه من الشقاق و الخلاف و النزاع و عدم الاتفاق في الرأي و أما الغائبون عني من شيعتي و أصحاب الولاء فإلى أن يصلوا إليّ يكون العدو قد بلغ مقصده مني إذن فلم يبق لي من يعاونني على رأي الصحيح الصائب إلا أنتم بأن أستعين ببعضكم على البعض الآخر و أقاتل بعضكم ببعضكم الآخر و في هذا أكون كناقش الشوكة بالشوكة و هو يعلم أن ضلعها معها و هذا مثل مفاده: لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها فإن إحداهما في القوة و الضعف كالأخرى فكما أن الأولى انكسرت في رجلك فالثانية إذا حاولت استخراج الأولى بها تنكسر و تحتاج إلى شوكة ثالثة و هكذا لا ينتفع بالشوك قط لاستخراج شبيهتها و المقصود أنه كيف يستعين ببعضهم على البعض الآخر و هو يحمل هواه و طباعه و رأيه...

(اللهم قد ملّت أطباء هذا الداء الدوي و كلّت النزعة بأشطان الركي). اشتكى إلى اللّه و أقرّ بالعجز فهو الطبيب الحاذق الذي يعرف الداء و الدواء و لكنهم أصيبوا بداء شديد لا يمكن الشفاء منه إنه داء الجهل و التمرد و العصيان الذي أعياه و أسقط ما في يده...

و قد كان الإمام هو طبيب القلوب لمن يستعمل و صفته و دواؤه و لكن أصحابه كانوا لا يقبلون منه رأيه بل يردون عليه أقبح رد و يخالفونه شر مخالفة حتى وصل به الأمر أن دعى عليهم و تمنى لو يصرفه معاوية بهم صرف الدرهم بالدينار فيأخذ عشرة و يعطيه واحدا من أهل الشام و تمنى فراقهم و استبداله خير منهم... و قال: لقد ملأتم قلبي قيحا...

و قال: لقد سئمتهم و سئموني و مللتهم و ملوني و قال: بالأمس كنت أميرا و اليوم أصبحت مأمورا.. و قال: الرعية تخاف ظلم ولاتها و أصبحت أخاف ظلم رعيتي إلى غيرها من الكلمات التي تعبر عن مدى الأسى و الغم و ما يكابده من ألم و حسرة...

و كذلك شبه نفسه بالعجز عن إنقاذهم و ردهم إلى الصواب و إلى ما فيه مصلحتهم بمن ينزع من البئر بالحبل ماء و لا يقدر على الإرواء للعطاشى فإنه يكلّ و يمّل و لا يؤدي المطلوب أو يصل إلى هدفه و كذلك هو يحاول استخراجهم من هوة الضلال و الانحراف و لكنهم لا يستجيبون له و لا يقبلون منه فيقر بالعجز و يصاب بالملل...

ص: 329

(أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه و قرءوا القرآن فأحكموه و هيجوا إلى الجهاد فولهوا و له اللقاح إلى أولادها و سلبوا السيوف أغمادها و أخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا و صفا صفا، بعض هلك و بعض نجا لا يبشرون بالأحياء و لا يعزون عن الموتى). ثم تأسف على اخوان له قد فقدهم من الصحابة كسلمان و عمار و أبي ذر و حمزة و جعفر و غيرهم و في هذا التحسر و التأسف ازدراء لهم بأنهم ليست لهم أوصافهم.

و قد ذكر الإمام أوصاف اخوانه الذين تقدموا بأوصاف المسلم المستسلم للّه و هي أوصاف رفيعة كريمة و هي:.

أ - إنهم دعوا إلى الإسلام فقبلوه: و هذا دليل طيب نفوسهم و إذعانهم للحق.

ب - و قرءوا القرآن فأحكموه: و هذا أيضا من علامات إيمانهم فإنهم أتقنوا قراءة القرآن و عملوا به و بما ورد في نصوصه.

ج - هيجوا إلى الجهاد فولهوا و له اللقاح إلى أولادها: أي عند ما يثارون إلى الجهاد و قتال الأعداء يكون لهم عشق وحب لما أثيروا إليه كحب النياق الحلوب لأولادها فهم أبناء الحرب و شجعانها لا يتوقفون و لا يفرون.

إنهم أخرجوا السيوف من أجفانها و لن ترجع إلا مروية من دماء الأعداء و أخذوا على العدو أطراف الأرض فضيقوا عليه الحركة حيث إنهم زاحفين زحفا منظما في صفوف تتبع صفوفا، و بقوا على ذلك حتى هلك بعضهم و نجا بعض كما قال تعالى:

«فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىٰ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» و هذا منه عليه السلام توبيخ لهم و أنهم ليسوا كذلك...

د - و من صفاتهم أنهم لا يفرحون بمن سلم و لا يعزون بمن مات لأن من سلم ينتظر الشهادة و من مات فاز بإحدى الحسنين و هي غاية المجاهد و أمنيته...

و قيل: إنهم لتجردهم للجهاد و العبادة لا يهنىء بعضهم بعضا إذا ولد له ولد و لا يعزيه إذا مات له عزيز.

(مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام ذبل الشفاه من الدعاء صفر الألوان من السهر على وجوههم غبرة الخاشعين أولئك اخواني الذاهبون فحق لنا أن نظمأ إليهم و نعض الأيدي على فراقهم). و هذه أوصافهم التي تحكي صدق إيمانهم و إخلاصهم و شدة تعلقهم باللّه.. إذا نظرت إليهم أخبرك مظهرهم عن مخبرهم و كان

ص: 330

واقع حالهم أقوى من مقالهم... تقرأ في صورهم حكاية الأتقياء و الأولياء و الصالحين الأبرار.

انظر إلى عيونهم تراها من البكاء من خشية اللّه فسدت أو كادت... إنها الدمعة الصادقة في جوف الليل يجمعها البكاءون ليوم عظيم... دمعة الخوف من اللّه صاحبها في ظل اللّه و صاحبها لا تبكي عينه يوم تبكي العيون... و أما بطونهم فهي ضامرة من الصيام يقضون أيامهم في عبادة الصوم فلا ترى عليهم ضخامة الأجسام كما هي حال أبدان أهل الدنيا الذين يعيشون من أجل بطونهم و تهمهم أكثر من كرامتهم و دينهم و في الحديث: «إن اللّه يبغض الحبر السمين» و الصوم جنة من النار و في الحديث: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به فمن صام اليوم ذاق لذة صيامه في الدنيا و في الآخرة...

و وصف شفاههم بالذبول لكثرة دعائهم فهي ناشفة يابسة فمع الصوم ذكر اللّه الدائم المستمر لا يفترون عنه مدة يقظتهم.

و أما ألوانهم فهي صفراء قد تغيرت من السهر و التهجد و التعبد فهم في قيام و ركوع و سجود يقضون ليلهم في العبادة على خلاف أهل زماننا الذين يقضون لياليهم في السهر على التلفزيون و في البارات و على أدوات اللهو و في حفلات الباطل و شتان بين الاثنين لقد فرّقت بينهما الأهداف فكانت الطرق مختلفة...

و من سيماهم أن «على وجوههم غبرة الخاشعين» فهناك سمات تبدو لكل ناظر... سمات الخاشعين في سكونهم و في خوفهم من اللّه إنهم يشعرون بالرقابة الإلهية في كل لحظة من لحظات حياتهم و على أساسها يعيشون الدقة في أعمالهم و الجودة في كل حركاتهم و الالتزام بالتقوى في كل مجالات حياتهم و كم من شخص عند ما نظرت إليه و عظك برؤيته و بحاله و أثر فيك كأبلغ خطيب و أفصح متكلم بل يخرس الخطباء و المتكلمون أمام هيبة بعض الأفراد و قدسيتهم...

ثم بعد هذه الأوصاف نسبهم إلى الاخوة إنهم اخواني الذين تقدموا علينا و الذين سبقونا إلى الشهادة فمن الحق لنا و لنا كل الحق أن نتطلع إليهم بشوق و نتلهف لرؤيتهم فإنهم أملنا و رمزنا الذين يعز نظيرهم و نفقد شبيههم و هذا جدير بنا أن نتأسف عليهم و على فراقهم و نعض الأيدي حسرة على فراقهم و عدم وجود أمثالهم معنا...

(إن الشيطان يسني لكم طرقه و يريد أن يحل دينكم عقدة عقدة و يعطيكم بالجماعة الفرقة و بالفرقة الفتنة، فاصدفوا عن نزغاته و نفثاته و اقبلوا النصيحة ممن أهداها إليهم

ص: 331

و اعقلوها على أنفسكم). أراد أن يرجع بهم إلى مصدر حديثهم و من وراءه... إنه الشيطان الذي يسهل طرقه إلى الناس بالإغراء و التزين للمعصية حتى يرتكبها الإنسان، إنه يحاول عن رغبة في حل دين المرء فيعمد إلى كل واجب عليه يهوّنه في نظره و يخفف أثره حتى إذا ارتكبه فتح له الأبواب الأخرى التي يصل منها إلى ما بقي من الواجبات و من تلك الأمور التي يريدها الشيطان و يحاول جهده في الوصول إليها و تحقيقها هي تمزيق الناس و تفريقهم... إنه يقلق و يضج إن رأى اثنين مجتمعين على رأي واحد فلذا يريد أن يبدلهم بالجماعة فرقة و إذا تفرق الناس دبت الفتنة و عمت الفوضى و ساد الهرج و المرج و الفساد...

و بعد هذا أمرهم أن يعرضوا عن وساوسه و تخيلاته و ما يمكن أن يزينه للمرء فإنه لا يهدي إلى خير و لا يسدد إلى رشاد...

ثم في النهاية دعاهم إلى قبول النصيحة ممن أهداها إليهم فإن الناصح أمين...

يشير بالمصلحة فعلى العاقل أن يأخذها و يستفيد منها...

ص: 332

122 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله للخوارج، و قد خرج إلى معسكرهم و هم مقيمون على إنكار الحكومة، فقال عليه السلام:

أكلّكم شهد معنا صفّين ؟ فقالوا: منّا من شهد و منّا من لم يشهد قال:

فامتازوا (1) فرقتين، فليكن من شهد صفّين فرقة، و من لم يشهدها فرقة، حتّى أكلّم كلاّ منكم بكلامه. و نادى النّاس، فقال: أمسكوا (2) عن الكلام، و أنصتوا (3) لقولي، و أقبلوا بأفئدتكم إليّ ، فمن نشدناه (4) شهادة فليقل بعلمه فيها. ثمّ كلّمهم عليه السّلام بكلام طويل، من جملته أن قال عليه السّلام:

ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة و غيلة (5)، و مكرا و خديعة:

إخواننا و أهل دعوتنا، استقالونا (6) و استراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه، فالرّأي القبول منهم و التّنفيس (7) عنهم ؟ فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، و باطنه عدوان، و أوّله رحمة، و آخره ندامة. فأقيموا على شأنكم، و الزموا طريقتكم، و عضّوا على الجهاد بنواجذكم (8)، و لا تلتفتوا إلى ناعق نعق (9):

إن أجيب أضلّ ، و إن ترك ذلّ . و قد كانت هذه الفعلة (10)، و قد رأيتكم أعطيتموها. و اللّه لئن أبيتها (11) ما وجبت عليّ فريضتها، و لا حمّلني اللّه ذنبها. و و اللّه إن جئتها إنّي للمحقّ الّذي يتّبع، و إنّ الكتاب لمعي، ما فارقته مذ صحبته: فلقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ القتل ليدور على

ص: 333

الآباء و الأبناء و الإخوان و القرابات، فما نزداد على كلّ مصيبة و شدّة إلاّ إيمانا، و مضيّا على الحقّ ، و تسليما للأمر، و صبرا على مضض (12) الجراح.

و لكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزّيغ (13) و الاعوجاج، و الشّبهة و التّأويل. فإذا طمعنا في خصلة (14) يلمّ اللّه بها شعثنا (15)، و نتدانى (16) بها إلى البقيّة فيما بيننا، رغبنا فيها، و أمسكنا عمّا سواها.

اللغة

1 - امتازوا: انفردوا و افترقوا.

2 - أمسك: عن الكلام سكت و عن الأمر كف عنه و امتنع.

3 - انصتوا: اسكتوا و استمعوا.

4 - نشد: الضالة طلبها و بحث عنها و ناشده اللّه و الرحم سأله باللّه و الرحم.

5 - الغيلة: الخداع.

6 - استقالونا: طلبوا الإقالة و هي الصفح أو رفع ما كانوا عليه و فسخه.

7 - التنفيس: التفريج.

8 - النواجذ: مفرده ناجذ أقصى الأضراس.

9 - نعق: صوّت.

10 - الفعلة: بالفتح المرة من الفعل.

11 - أبيت: رفضت.

12 - المضض: الألم.

13 - الزيغ: الانحراف و الاعوجاج.

14 - الخصلة: إصابة الغرض، الخلة، و هنا يراد بها الوسيلة.

15 - لم الشعث: جمع الشمل.

16 - نتدانى: نتقارب.

ص: 334

الشرح

(أ كلكم شهد معنا صفين ؟ فقالوا: منا من شهد و منا من لم يشهد. قال: فامتازوا فرقتين فليكن من شهد صفين فرقة و من لم يشهدها فرقة حتى أكلم كلا منكم بكلامه و نادى الناس فقال: أمسكوا عن الكلام و انصتوا لقولي و أقبلوا بأفئدتكم إليّ فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها ثم كلمهم عليه السلام بكلام طويل من جملته أن قال عليه السلام). بعد أن أجبر الخوارج عليا على التحكيم أنكروا عليه ذلك و كفروه ثم لم يكتفوا بالخلاف معه في الرأي بل راحوا إلى منابذته و أصروا على قتاله و اتخذوا منه موقف العداء الذي لا يقل عن موقفهم من معاوية و لذا اجتمعوا في أحد معسكراتهم منكرين عليه التحكيم و الإمام أزاء هذه الأمور كان يقف منهم موقف المحاور يبيّن لهم خطأهم سابقا و خطأهم الآن... إنهم أصحاب رؤية قاصرة لا يدركون خطأهم إلا بعد حين و عند ما يدركونه يحملون الناس على الرأي الجديد لا يقبلون حوارا و إن قبلوه بان عليهم العجز و العي و مع ذلك على إصرار أشد في مواقف كلها خطأ... و الإمام يستفهم منهم بعد أن التقى فيهم في معسكرهم و ملتقى جمعهم هل كلكم حضر معنا صفين فقالوا: منا من حضر و منا من لم يحضر فأراد أن يقسمهم فرقتين ليكلم كل واحدة بما يناسبها فافترقوا ثم اخذ يكلمهم و كان من جملة كلامه لهم قوله:

(أ لم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة و غيلة و مكرا و خديعة اخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه فالرأي القبول منهم و التنفيس عنهم ؟ فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان و باطنه عدوان و أوله رحمة و آخره ندامة فأقيموا على شأنكم و الزموا طريقتكم و عضوا على الجهاد بنواجذكم و لا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن أجيب أضل و إن ترك ذل). بيّن عليه السلام كيف كانت حالتهم عند ما رفعت المصاحف بخدعة عمرو بن العاص حيلة و مكرا و كيف واجهوا الإمام بهذا المنطق قالوا له: إنهم إخواننا و أهل دعوتنا أخوة الإسلام بيننا و بينهم و هم و إيانا أهل ملة واحدة و قد أبطلوا الحرب و رفعوا أيديهم عنها و اطمأنوا إلى كتاب اللّه و أرادوا أن يحكّموه فيما وقع بيننا و بينهم و قد قلتم:

إن الرأي قبول ما قبلوا و التوسعة عليهم في ذلك...

هذه كانت حجتهم و ملخصها أن جبهة معاوية قد رجعت إلى حكم اللّه في كتابه فيجب أن نقبل بحكم الكتاب...

ورد الإمام عليهم مقررا لهم خطأهم و ما قاله لهم...

ص: 335

قال لهم: إن هذا الأمر الذي ظاهره إيمان من حيث القبول بحكم القرآن و لكن في عمقه يحمل الظلم و الاعتداء لأنهم أرادوا أن يخدعوكم و يحتالوا عليكم و قلت لكم: هذا أمر أوله رحمة منكم و عطف أو رحمة من حيث توقف القتال و لكن في آخره ندامة لأنه سيتبين لكم كذبهم و مكرهم و أن التوقف عن الحرب ليست لصالحكم و لا لصالح الإسلام...

ثم نبههم إلى أنه قال لهم: استمروا على ما أنتم عليه من الحرب و استمروا على القتال و أصروا على متابعته مهما كانت الظروف و لا تلتفتوا إلى من صرخ بوقف القتال و نادى بالسكون و التوقف و قلت لكم: إن هذا الذي رفع صوته بوقف القتال إن أجيب إلى ما طلب فقد أضل غيره كما وقع لكم الآن و إن ترك و لم يستجب له ذل و هان و خضع...

(و قد كانت هذه الفعلة و قد رأيتكم أعطيتموها و اللّه لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها و لا حملني اللّه ذنبها و واللّه إن جئتها إني للمحق الذي يتبع و إن الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته). لقد كانت هذه الحكومة و رأيت اتفاقكم عليها بل - إن الخوارج ألزموا الإمام بقبولها -.

ثم أقسم باللّه أنه إذا رفضها و لم يقبلها لما وجبت عليه و لما وجب العمل بها و لا تتبعه آثارها لو أكمل المعركة حتى نهايتها و مهما كانت نتائجها و إن قبل بها و رضيها فإنه صاحب الحق الذي يجب اتباعه و السير خلفه ثم برهن على ذلك بأن الكتاب معه حيث يقول: «أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ » و الإمام يحب أي يبحث عن المصلحة الإسلامية العليا فقد يرتيء للمصلحة الإسلامة أن يقبل بالحكومة و قد يرفض ذلك و يكمل القتال حتى النهاية، و في ختام الفصل بيّن تلازم الكتاب معه و ملازمته للكتاب و أنه لم يفارق العلم به منذ نزوله على رسول اللّه حيث كان الإمام إلى جنبه يعاضده و يسانده و يقوي دعوته...

و حاصل هذا الفصل أن الحق على الخوارج الذين قبلوا بالحكومة و فرضوها على غيرهم و أما الإمام فهو بالخيار بين قبولها و رفضها تبعا للمصلحة الإسلامية فله كل العذر و ليس لهم أي عذر عند ما قبلوا بها ثم أرادوا الآن أن يرفضوها...

(فلقد كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أن القتل ليدور على الآباء و الأبناء و الإخوان و القرابات فما نزداد على كل مصيبة و شدة إلا إيمانا و مضيا على الحق و تسليما للأمر و صبرا على مضض الجراح). هذا بيان لما كان عليه المسلمون من قوة العقيدة التي تخطوا على أساسها أواصر القرابة و صلة الدم و ملكت عليهم شعورهم و عواطفهم التي

ص: 336

كانت تحكمهم و تحكم جميع الناس... لقد كانوا مع رسول اللّه يجاهدون أقرب الناس لهم و أعزهم عليهم فالمعركة بين الإسلام و الشرك و بين الحق و الباطل فكان الأبناء مع النبي و الآباء مع المشركين و عند ما تدور المعركة ربما نالت الابن بسيف الأب و ربما انعكس الأمر و هكذا انقسمت القرابات و أخذت السيوف من الآباء و الأبناء و القرابات و مع ذلك كانت كل مصيبة تحدث أو نازلة تقع تزيد إيماننا و تقوي عقيدتنا و تدفعنا إلى إكمال الشوط في طريق الحق و تسليم الأمر للّه وحده إنها تزيدنا صبرا على ألم الجراح لما في ذلك من تقوية للدين و إعزاز له و نصرة للحق...

إنها دعوة منه و بيان... بيان حال المسلمين و جهادهم و صبرهم و دعوة منه لهم إلى متابعته لأنه يمثل الرسول في القيادة و هو خليفته الذي يجب إطاعته...

(و لكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ و الاعوجاج و الشبهة و التأويل فإذا طمعنا في خصلة يلم اللّه بها شعثنا و نتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها و أمسكنا عما سواها). لئن كانت المعركة في زمن رسول اللّه بين الإسلام و الكفر فإن ما وقع في الجمل وصفين كانت بين أهل القبلة التي تجمعهم كلمة التوحيد ظاهرا و التي على أساسها جرت المناكح و المواريث و حفظت الدماء و الأموال و الفروج...

إننا نقاتلهم على ما دخلوا فيه من الانحراف و الالتواء و عدم الاستقامة... نقاتلهم لأنهم دخلوا في شبهة ألقاها إليهم معاوية و عمرو بن العاص و هي شبهة الاقتصاص لعثمان من قتلته و هذه دعوة ضلل القوم على أساسها و دخلت عليهم الشبهة و هكذا كان معاوية و عمرو يسعيان لتمكين الشبهة في أذهان الناس و من كان عنده مسكة من دين أو بقية من عقل يغرونه بالمال أو المنصب أو يضغطون عليه بشتى السبل و مختلف الطرق...

لقد بيّن أن العامة من أهل الشام لا يملكون رؤية صحيحة عما يجري و ليس لهم معرفة صحيحة بدوافع الحرب و أسبابها فلعل هذه الحكومة نتوصل من خلالها إلى صيغة توحدنا جميعا و نقترب من بعضنا... لعل ما بقي من أثر العقيدة يجمعنا و يوحّد صفوفنا فإن توفقنا إلى ذلك كانت هذه رغبتنا و غاية أملنا و ما نسعى إليه و إلا فالحرب متى أردتها وقعت...

ص: 337

123 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قاله لأصحابه في ساحة الحرب بصفين و أيّ امرىء منكم أحسّ (1) من نفسه رباطة جأش (2) عند اللّقاء، و رأى من أحد من إخوانه فشلا (3) فليذبّ (4) عن أخيه بفضل نجدته (5) الّتي فضّل بها عليه كما يذبّ عن نفسه، فلو شاء اللّه لجعله مثله. إنّ الموت طالب حثيث (6) لا يفوته المقيم، و لا يعجزه الهارب. إنّ أكرم الموت القتل! و الّذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسّيف أهون عليّ من ميتة (8) على الفراش في غير طاعة اللّه!.

و منه: و كأنّي أنظر إليكم تكشّون كشيش (9) الضّباب (10): لا تأخذون حقّا، و لا تمنعون ضيما (11). قد خلّيتم و الطّريق، فالنّجاة للمقتحم (12)، و الهلكة للمتلوّم (13).

اللغة

1 - أحس: علم و وجد.

2 - رباطة الجأش: قوة القلب و شدته.

3 - الفشل: الجبن و الضعف.

4 - فليذب: فليدفع.

5 - النجدة: الشجاعة.

6 - الحثيث: السريع.

ص: 338

7 - فات: الأمر مضى و ذهب وقته و فاته الشيء جاوزه.

8 - الميتة: هيئة الميت يقال: مات فلان ميتة حسنة.

9 - الكشيش: الصوت يشوبه خور مثل الخشخشة و كشيش الأفعى صوتها من جلدها.

10 - الضباب: بكسر الضاد جمع ضب دابة برية معروفة.

11 - الضيم: الظلم.

12 - المقتحم: الذي يرمي نفسه بالشدة و المشقة، من يندفع بدون روية.

13 - المتلوم: المتوقف و المتباطئ.

الشرح

(و أي امرىء منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء و رأى من أحد من إخوانه فشلا فليذب عن أخيه بفضل نجدته التي فضل بها عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء اللّه لجعله مثله). وصية إلى أبطال الحرب و شجعان القتال أن يكون عندهم نخوة إسلامية في هذا الموضع المهم فأي فرد منهم يشعر أن به قوة قلب و شجاعة و إقدام عند لقاء العدو و رأى أخاه إلى جانبه قد تقاعس أو تأخر أو استسلم لحالة نفسية من الجبن فإن عليه أن يدفع عنه عدوه و ينافح عنه بالظبا دفاعه عن نفسه بفضل هذه الشجاعة التي أعطاها اللّه و كما لو كان هو المطلوب.

ثم ذكّر الشجعان بهذه النعمة الإلهية التي يتمتعون بها و أن اللّه لو شاء لجعلهم كأصحاب الفشل أو لو شاء لجعل أصحاب الفشل مثلهم أصحاب نجدة و شجاعة و في كلتا الحالتين تكون هذه النعمة على الشجعان مما يستحق الشكر و من شكرها أن يدفع الشجاع عن أخيه إذا وجد منه جبنا أو ترددا...

(إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم و لا يعجزه الهارب إن أكرم الموت القتل و الذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة اللّه). هوّن عليهم القتل في سبيل اللّه بذكر الموت الذي يطلب الناس سريعا فإن هذا الموت يمشي نحو الإنسان منذ أن يسقط من بطن أمه إلى الأرض و يبقى يسير نحوه بسرعة و في كل يوم يقطع مرحلة لا يستطيع المستقر في بيته و الساكن فيه بدون حرب و قتال أن يدفعه عن نفسه كما لا يقدر الهارب منه أن يعجزه أو يمتنع عنه...

ص: 339

ثم أعطى كبرى كلية و ذكر أظهر مصاديقها فقال: إن أكرم الموت القتل، فإذا كان لا بد من الموت و هو دائر بين الموت الطبيعي الذي يأتي إلى الإنسان و لا يكون لهذا الإنسان فيه حرية الاختيار و بين القتل في ساحات الجهاد و من أجل هدف إنساني شريف فإن القتل الذي يختاره الإنسان و يسعى إليه أكرم عند اللّه و أفضل من الموت الطبيعي لأن ذلك يتجسد فيه القرب من اللّه و طلب مرضاته و الجهاد في سبيله...

ثم ذكر صغرى تلك الكبرى ترغيبا لهم و حثا على الجهاد و النزال فأقسم باللّه و هو الصادق بدون قسم أنه يختار ألف ضربة في سبيل اللّه يقتل بها أهون عليه من ميتة على الفراش في غير طاعة اللّه...

ألف مرة يموت كل مرة بضربة سيف أهون عليه من الموت على الفراش في غير طاعة اللّه لأن في تلك أجر و ثواب و في هذه وزر و عقاب.

و أما كونها أهون فهذه حالة علوية لا يرتقي إليها إلا بعض أفراد الأمة الذين يخلصون للّه و يتجردون من كل ما سواه...

و يعجبني ابن أبي الحديد في قوله: «و ليست النفوس كلها من جوهر واحد و لا الطباع و الأمزجة كل من نوع واحد، و هذه خاصية توجد لمن يصطفيه اللّه تعالى من عباده في الأوقات المتطاولة و الدهور المتباعدة و ما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان فإن التواريخ من قبل الطوفان مجهولة عندنا أن أحدا أعطى من الشجاعة و الإقدام ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها من الترك و الفرس و العرب و الروم و غيرهم و المعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرب على السلم و الموت على الحياة و الموت الذي كان يطلبه و يؤثره هو القتل بالسيف لا الموت على الفراش...».

(و كأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب لا تأخذون حقا و لا تمنعون ضيما، قد خليتم و الطريق فالنجاة للمقتحم و الهلكة للمتلوم). وبّخ أصحابه و قرّعهم بهذا الكلام العنيف و ربما كان هذا من أخباره بما يجري عليهم فيقول: كأني أنظر إليكم تزدحمون و أنتم هاربون و أصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذي اعتراكم فهي أشبه شيء بأصوات الضباب المجتمعة أو أن المراد بيان حالهم من الإزدحام حال الهزيمة ثم أكد جبنهم و فشلهم و ما هم فيه من الانهيار أنهم لا يأخذون حقا لهم من أيدي الغاصبين و الظالمين و لا يرفعون ظلما حاق بالمؤمنين و المستضعفين و هم منهم و هذا منتهى الهزيمة النفسية و الانهيار و التقاعس و ما الحياة و ما قيمتها إن خلت من أحد هذين الأمرين أخذ حق أو دفع باطل...

ص: 340

ثم قال لهم: قد وقفتم على الطريق الصحيح و السليم الموصل إلى العز و إلى الجنة و دللتم على طريق النصر و النجاة و هي أن تقتحموا الحرب و تدخلوا في أعماقها بقلب شجاع و رأي حازم و أما إذا ترددتم و أحجمتم و توقفتم عن القتال فالموت و الهلاك لكم و الذل و العار و بعد ذلك النار...

ص: 341

124 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في حث أصحابه على القتال فقدّموا الدّارع (1)، و أخّروا الحاسر (2)، و عضّوا (3) على الأضراس (4)، فإنّه أنبى (5) للسّيوف عن الهام (6)، و التووا (7) في أطراف الرّماح، فإنّه أمور (8) للأسنّة (9)، و غضّوا الأبصار (10) فإنّه أربط للجأش (11)، و أسكن للقلوب، و أميتوا الأصوات، فإنّه أطرد (12) للفشل. و رايتكم (13) فلا تميلوها و لا تخلّوها، و لا تجعلوها إلاّ بأيدي شجعانكم، و المانعين الذّمار (14) منكم، فإنّ الصّابرين على نزول الحقائق (15) هم الّذين يحفّون (16) براياتهم، و يكتنفونها (17): حفافيها (18)، و وراءها، و أمامها، لا يتأخّرون عنها فيسلموها، و لا يتقدّمون عليها فيفردوها. أجزأ (19) امرؤ قرنه (20)، و آسى (21) أخاه بنفسه، و لم يكل (22) قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه و قرن أخيه. و ايم اللّه لئن فررتم من سيف العاجلة، لا تسلموا من سيف الآخرة، و أنتم لهاميم (23) العرب، و السّنام (24) الأعظم. إنّ في الفرار موجدة (25) اللّه، و الذّلّ اللاّزم، و العار الباقي. و إنّ الفارّ لغير مزيد في عمره، و لا محجوز بينه و بين يومه. من الرّائح إلى اللّه كالظّمآن (26) يرد الماء؟ الجنّة تحت أطراف العوالي (27)! اليوم تبلى (28) الأخبار! و اللّه لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم. اللّهمّ فإن ردّوا الحقّ فافضض (29) جماعتهم، و شتّت كلمتهم، و أبسلهم (30) بخطاياهم. إنّهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن (31)

ص: 342

دراك (32): يخرج منهم النّسيم (33)، و ضرب يفلق (34) الهام، و يطيح (35) العظام، و يندر (36) السّواعد و الأقدام، و حتّى يرموا بالمناسر (37) تتبعها المناسر، و يرجموا (38) بالكتائب (39) تقفوها (40) الحلائب (41)، و حتّى يجرّ ببلادهم الخميس (42) يتلوه الخميس، و حتّى تدعق (43) الخيول في نواحر أرضهم (44)، و بأعنان (45) مساربهم (46) و مسارحهم (47).

قال السيد الشريف: أقول: الدّعق: الدّقّ ، أي تدقّ الخيول بحوافرها أرضهم. و نواحر أرضهم: متقابلاتها. و يقال: منازل بني فلان تتناحر، أي تتقابل.

اللغة

1 - الدارع: لابس الدرع.

2 - الحاسر: الذي لا درع عليه و لا مغفر.

3 - العض: الأخذ بالأسنان.

4 - الأضراس: الأسنان الأربعة في مؤخرة الفم.

5 - أنبى: من نبا السيف إذا كلّ و ارتد و لم يمض.

6 - الهام: جمع هامة الرأس.

7 - التووا: انعطفوا و أميلوا جانبكم.

8 - أمور: أشد فعلا للمور و هو الحركة و الاضطراب.

9 - الأسنة: مفردها سنان نصل الرمح.

10 - غض بصره: كفّه و كسره.

11 - رباطة الجأش: قوة القلب و شدته.

12 - أطرد: أبعد و أنفى.

13 - الراية: علم الجيش، العلامة المنصوبة لكي يراها الناس.

14 - الذمار: بكسر الذال ما يلزم الرجل حفظه.

15 - الحقائق: جمع حاقة النازلة الشديدة.

16 - يحفون: بالرايات يستديرون حولها.

17 - يكتنفونها: يحيطون بها.

ص: 343

18 - حفافيها: جانبيها.

19 - أجزأ: كفى.

20 - القرن: بالكسر الكفو و النظير.

21 - آسى: أخاه أي جعله أسوة نفسه فيه.

22 - لم يكل: لم يترك.

23 - اللهاميم: جمع لهموم السيد الجواد من الناس و الخيل.

24 - السنام: حدبة في ظهر البعير.

25 - موجدة اللّه: غضبه و سخطه.

26 - الظمأ: العطش.

27 - العوالي: الرماح.

28 - تبلى: تمتحن و تختبر.

29 - فضّ : اللّه جمعهم فرقّهم.

30 - أبسلته: أسلمته إلى الهلكة.

31 - الطعن: الضرب و طعنه بالرمح ضربه حتى نفذ.

32 - دراك: متتابع متوال.

33 - النسيم: النفس.

34 - يفلق: يشق.

35 - يطيح: العظام يسقطها و طاح الشيء سقط أو هلك.

36 - يندر: السواعد يسقطها.

37 - المناسر: جمع منسر بكسر السين و فتح الميم قطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأعظم.

38 - يرجموا: يغزوا.

39 - الكتائب: جمع كتيبة و هي طائفة من الجيش.

40 - اقتفى: أثر فلان تبعه.

41 - الحلائب: جمع حلبة الجماعة تجتمع من كل صوب للنصرة.

42 - الخميس: الجيش سمي بذلك لأنه خمس فرق.

43 - تدعق: تدق.

44 - نواحر أرضهم: متقابلاتها.

45 - أعنان الشيء: أطرافه و نواحيه.

46 - المسارب: المراعي.

47 - المسارح: و هي المراعي واحدتها مسرحة.

ص: 344

الشرح

(فقدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام و التووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة و غضوا الأبصار فإنه أربط للجأش و أسكن للقلوب، و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل). هذه تعاليم قتالية و أحكام حربية يرسم الإمام صورتها لجنده فيقول قدموا الدارع و هو الذي يلبس الدرع فهذا حقه أن يكون في المواجهة و في الصفوف الأولى للهجوم أو الدفاع لأن شدة الحرب تقع على المهاجم أو على خط الدفاع الأول فيجب أن يكون محصنا و حصن المقاتل أن يكون لابسا درعا واقية له من الضربة بينما الحاسر أمرهم أن يؤخروه إلى الخلف إلى الخطوط الخلفية حيث يحتمي بالدارع...

ثم أمرهم بأن يعضوا على الأضراس إما لأن العض عليها يصّلب جمجمة الرأس فلا يأخذ السيف منها مأخذه كما يأخذه من المسترخي و هذا يظهر من كلام الإمام و إما أن يراد شدة الحنق و الغضب على الأعداء كما يفعل الغاضب الحانق على عدوه...

و أمرهم أن يميلوا مع الرمح عند ما يرسلونه نحو العدو أو أمر لهم عند ما يطلق عليهم الرمح أن يميلوا لينعطف و ينزلق فلا ينفذ.

و أمرهم بغض الأبصار أي كفها عن التطلع نحو ما يجري من دماء و ما يقع من أشلاء فإن الإنسان يتأثر بما يرى و هذا ينعكس على نفسه فربما ينهزم أو يفر فلو لم ير ذلك بقي على قوة قلبه و شجاعته و على إقدامه و مثابرته في الجهاد و هذا أمر مدرك بالوجدان يحس به كل إنسان.

و أمرهم أن يقللوا من الكلام لأن كثرته دليل الفشل و يكون مطمعا للعدو و من عادة الجبان كثرة صياحه و علو صوته و عادة الشجاع سكونه و قلة كلامه لثقته بنفسه و اطمئنانه إلى انتزاع النصر...

(و رايتكم فلا تميلوها و لا تخلوها و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم و المانعين الذمار منكم فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفّون براياتهم و يكتنفونها حفافيها و وراءها و أمامها لا يتأخرون عنها و لا يتقدمون عليها فيفردوها). الراية هي علم الجيش و هي رمز الصمود و القوة فطالما هي قائمة شامخة مرتفعة فمعنى ذلك أن المجاهدين بأحسن حال، و أما إذا وقعت فمعنى ذلك الهزيمة و الانكسار و لذا كان لها من الأهمية أكبر الأثر المعنوي في نفوس المقاتلين و يمكن أن نشبهها بالإتصالات اللاسلكية

ص: 345

في زماننا هذا فكما أنه لو انقطع الاتصال بين القيادة و بين الكتائب و الجيوش تضطرب الأحوال و تسود الفوضى و لا يعود المنقطع يملك الثقة بنفسه و لا يعرف كيف يتصرف أو ما ذا يعمل هكذا يمكن أن تكون الراية في القديم... كانت دليل القوة و البقاء و استمرارية المعركة و من هنا يركز الإمام عليها فيقول لهم: لا تتركوها تميل لأن ميلانها يجعل العدو يظن فيكم الاضطراب و الفوضى فيقوى عليكم و يندفع نحوكم هذا من جهة و أيضا تغيب عن نظر عساكركم فتهون قوتهم و لا يدرون و جهتهم و أيضا لا تفردوها فإن العدو إذا استفردها اقتحم عليها...

و أمر أن تكون بأيدي الشجعان الذين لا يخافون الموت و لا يرهبون الأعداء و بأيدي المانعين للذمار الذين يحفظون الحرمات و لا يسلمونها إلا بالموت فهؤلاء هم الصابرون الذين يتحملون الشدائد القوية التي تنزل في الحروب، هؤلاء الصابرون هم الذين يلتفون براياتهم و الرايات لها حقوق و من حقوقها أن يجتمع حولها أهل النجدة و الشجاعة و يحيطون بها من جميع جوانبها من اليمين و اليسار و الأمام و الخلف لا يتأخرون عنها فيسلمونها للأعداء و لا يتقدمون عليها فيتركونها منفردة تطمع بها الأعداء بل هم معها و حولها و من جميع جوانبها.

(أجزأ امرؤ قرنه و آسى أخاه بنفسه و لم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه و قرن أخيه). أجزأ فعل ماضي يراد به الأمر فليكف كل إنسان نظيره و ليكن مقابله يقهره.

و آسى فعل ماضي أيضا يراد به الأمر بالمواساة للأخ بالنفس و ذلك أن لا يترك خصمه إلى أخيه فيجتمع عليه خصمان فيكون قد ساعد على قتل أخيه و هذا أمر محرم و لذا لا يجوز الفرار لما في ذلك من تقوية للكفر و هزيمة للمسلمين...

(و أيم اللّه لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الآخرة و أنتم لهاميم العرب و السنام الأعظم إن في الفرار موجدة اللّه و الذل اللازم و العار الباقي و إن الفار لغير مزيد في عمره و لا محجوز بينه و بين يومه). أقسم عليه السلام أن من يفر من سيوف الدنيا في الحرب و الجهاد و ينكل عن مقارعة الأبطال حبا بالحياة و طلبا للسلامة فإن سيوف الآخرة ستطاله و لن يسلم منها لأن في فراره معصية كبيرة تدخله النار و هذا ما صرح به النبي و الأئمة في أحاديثهم.

ثم وصفهم بأوصاف تجعلهم يرفضون الفرار و يأنفونه لأنفسهم فوصفهم أنهم سادات العرب و أهل الشرف و المجد و المنزلة الرفيعة.

ثم عاد إلى ذكر عيوب الفرار و قبائحه.

ص: 346

فذكر أن في الفرار غضب اللّه و سخطه لما فيه من توهين للإسلام يقول الإمام الرضا عليه السلام: حرم اللّه الفرار من الزحف لما فيه من الوهن(1) في الدين و الاستخفاف بالرسل و الأئمة العادلة و ترك نصرتهم على الأعداء... إلى أن يقول: و ما يكون في ذلك من السبي و القتل و إبطال دين اللّه عز و جل و غيره من الفساد...

و ذكر أيضا أن في الفرار الذل اللازم من حيث غلبة العدو و ضعف المسلمين من جهة و من حيث إن في الفرار معصية و مرتكب الحرام ذليل في نظر الإسلام و المسلمين...

و أيضا في الفرار العار الباقي في الأعقاب و هذا شر ميراث يتركه الآباء للأبناء.

و أخيرا فإن الفار لا يزاد في عمره و لو ساعة واحدة لأن الأعمار بيد اللّه هو الذي قدر لكل واحد عمرا معينا لا يتجاوزه و لا يتقدمه فكم من بطل خاض الحروب سلم و كم من فار من المعركة مات و هو في أوقات شبابه.

و الفرار لا يمنع حلول الأجل بل كما قال تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » .

(من الرائح إلى اللّه كالظمآن يرد الماء؟). استفهام على سبيل العرض و مفاده أيكم يذهب إلى اللّه فيكون كالظمآن يرد الماء فيروي غليله و يدرك مطلوبه...

(الجنة تحت أطراف العوالي). ففي كل طعنة رمح ينفتح باب إلى الجنة يدخل منه المجاهدون، إن أطراف الرماح مفاتيح الجنة ففي الحديث عن رسول اللّه قال: الخير كله في السيف و تحت ظل السيف و لا يقيم الناس إلا السيف و السيوف مقاليد الجنة و النار(2).

(اليوم تبلى الأخبار). في المعركة تختبر السرائر و يعرف ما في الضمائر، يعرف الصادق من المنافق و الشجاع من الجبان و صاحب البصيرة من الأعمى و كما يقال: «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان» و المعركة هي محل الاختبار.

(و اللّه لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم). فهؤلاء الأعداء من أهل الشام خرجوا من ديارهم و هم في شوق إليها و إلى العودة إلى أهلهم و أبنائهم و إني إلى لقائهم في ساحات الحرب و القتال أشد شوقا منهم إلى ديارهم و هذا ترغيب في قتالهم و حث1.

ص: 347


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 29.
2- وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 1 حديث 1.

على جهادهم من حيث إنه يقاتل في سبيل اللّه و على المجاهد أن يرغب في عبادة اللّه و منها جهاد الأعداء...

(اللهم فإن ردوا الحق فافضض جماعتهم و شتت كلمتهم و أبسلهم بخطاياهم).

و هذا دعاء على أهل الشام إن ردوا الحق و رفضوه و لم يقبلوا بحكم اللّه أن يفرق جماعتهم و يرمي الاختلاف بينهم حتى لا يتفقوا على رأي واحد و هذا من أهم العوامل التي تؤدي إلى الهزيمة و كذلك دعا عليهم أن يأخذهم اللّه بذنوبهم و يهلكهم و يقضي عليهم...

(إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك يخرج منهم النسيم و ضرب يفلق الهام و يطيح العظام و يندر السواعد و الأقدام). أظهر موقف أهل الشام أنهم سيبقون على إصرارهم على الباطل و يراد بهذا الكلام حث أصحابه على الاستعداد للقتال و أن هؤلاء القوم لن يتحولوا عما هم عليه إلا بطعن متتابع لسعته يخرج منه الريح و ضرب يشق الرءوس و يرمي بالعظام و السواعد و الأقدام، إنهم يحتاجون إلى شراسة في القتال يرون من خلالها الأشلاء ممزقة و الأوصال مقطعة فعندها يتحولون عن عنادهم و إصرارهم على الباطل.

(و حتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر و يرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب و حتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس). لا يزال يتحدث عن أهل الشام و أنهم لن يزولوا عن مواقفهم الضالة إلا بأن تجتمع عليهم كل القوى المسلحة و بجميع قطاعاتها و على اختلاف وظائفها و مهامها فالمناسر التي هي طلائع الجيوش لا بد و أن تتوالى عليهم و تقصدهم ليشعروا بضخامة الجيش ثم يغزوا بالكتائب التي هي قطع من الجيش تأتي بعدها ما يجتمع من كل مكان و يقصدهم في بلادهم أيضا الجيش المعبر عنه بالخميس تتلوه الجيوش و سمى الجيش بالخميس لأنه مؤلف من خمس فرق: المقدمة و القلب و الميمنة و الميسرة و الساقة.

(و حتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم و بأعنان مساربهم و مسارحهم). و يبقى القتال حق تتزاحم الخيول في أواسط أرضهم و في قلب بلادهم و تصل إلى أطراف مراعيهم فتضيق عليهم الخناق و عندها فقط تتغير مواقفهم و يرضحون لحكم اللّه و ما أراد منهم...

ص: 348

125 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في التحكيم و ذلك بعد سماعه لأمر الحكمين إنّا لم نحكّم الرّجال، و إنّما حكّمنا القرآن. هذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين (1)، لا ينطق بلسان، و لا بدّ له من ترجمان (2). و إنّم ينطق عنه الرّجال. و لمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي (3) عن كتاب اللّه سبحانه و تعالى، و قد قال اللّه سبحانه: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ » فردّه إلى اللّه أن نحكم بكتابه، و ردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حكم بالصّدق في كتاب اللّه، فنحن أحقّ النّاس به، و إن حكم بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنحن أحقّ النّاس و أولاهم بها. و أمّا قولكم: لم جعلت بينك و بينهم أجلا (4) في التّحكيم ؟ فإنّما فعلت ذلك ليتبيّن (5) الجاهل، و يتثبّت العالم، و لعلّ اللّه أن يصلح في هذه الهدنة (6) أمر هذه الأمّة، و لا تؤخذ بأكظامها (7)، فتعجل عن تبيّن الحقّ ، و تنقاد لأوّل الغيّ (8). إنّ أفضل النّاس عند اللّه من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه - و إن نقصه و كرثه (9) - من الباطل و إن جرّ إليه فائدة و زاده.

فأين يتاه (10) بكم! و من أين أتيتم! استعدّوا للمسير إلى قوم حيارى (11) عن الحقّ لا يبصرونه، و موزعين (12) بالجور لا يعدلون (13) به، جفاة (14) عن الكتاب، نكب (15) عن الطّريق. ما أنتم بوثيقة (16) يعلق بها، و لا زوافر (17) عزّ يعتصم إليها. لبئس حشّاش (18) نار الحرب أنتم! أفّ (19) لكم! لقد لقيت

ص: 349

منكم برحا (20)، يوما أناديكم و يوما أناجيكم، فلا أحرار صدق عند النّداء، و لا إخوان ثقة عند النّجاء (21)!.

اللغة

1 - دفتا المصحف: جانباه اللذان يكتنفانه.

2 - الترجمان: بفتح التاء و ضم الجيم هو مفسر اللغة بلسان أخر.

3 - تولى عنه: أعرض عنه و تركه.

4 - الأجل: الوقت المضروب المعين.

5 - تبين الأمر: ظهر و وضح.

6 - الهدنة: وقف الحرب إلى حين..

7 - الأكظام: جمع كظم محركة مخرج النفس.

8 - الغي: الضلال.

9 - كرثه: الغم اشتد عليه.

10 - يتاه: من تاه إذا تحيّر.

11 - حيارى: مفرده حيران من ضل الطريق و لم يهتد، جهل وجه الصواب.

12 - موزعين: من أوزعه أي أغراه و رب أوزعني أي ألهمني.

13 - لا يعدلون به: لا يستبدلونه بالعدل.

14 - جفاة: جمع جاف النابي عن الشيء و المرتفع عنه.

15 - نكب: جمع ناكب الحائد عن الطريق التارك له.

16 - الوثيقة: الثقة و ما أنتم بوثيقة أي لستم عروة وثيقة.

17 - الزوافر: العشيرة و الأنصار.

18 - الحشاش: جمع حاش من حش النار إذا أوقدها.

19 - أفّ : له و عليه أي قذرا له و أفّ اسم فعل بمعنى أتضجر.

20 - البرح: الشدة و الأذى.

21 - النجاء: المناجاة.

الشرح

(إنا لم نحكم الرجال و إنما حكمنا القرآن هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان و لا بد له من ترجمان و إنما ينطق عنه الرجال) هذا الكلام من الإمام

ص: 350

كان في مقام الرد على الخوارج الذين أنكروا عليه التحكيم و كانوا قد قالوا حكّمت الرجال في دين اللّه - يعني عمرا و أبا موسى - فأجابهم الإمام بأجوبة عديدة و حاورهم كثيرا و كان من جملة ما قاله لهم هذه الكلمات التي تقنع كل ذي لب و تردّ كل ذي شبهة...

إنا لم نحكّم الرجال لأن معنى تحكيم الرجال هو تفويض الأمر إليهم ليحكموا بما يرون بحسب أنظارهم بقطع النظر عن الكتاب و السنة و مصادر التشريع و إنّا لم نفعل ذلك بل حكّمنا كتاب اللّه و هو مكتوب محفوظ بين الدفتين ليس له لسان يتكلم به عن المراد، فالآية التي تقرأها تحتاج إلى من يشرحها و يفسرها و يبيّن المراد منها إذ ربما كان له أكثر من معنى و أكثر من وجه و ربما دلت الآية على معنى آخر غير ما يتراءى لك فالقرآن حمّال ذو وجوه و لا بد له من ترجمان يكشف المراد منه و يفسره و يبيّن مدلوله و إنما يتولى ذلك الرجال الذين يقومون بالكشف عن مدلوله و بيان المراد منه.

(و لما دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب اللّه سبحانه و تعالى و قد قال اللّه سبحانه: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ » فرده إلى اللّه أن نحكم بكتابه ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه فنحن أحق الناس به و إن حكم بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنحن أحق الناس و أولاهم بها) بيان منه لقبول التحكيم و أنه إنما استجاب للقوم لوجود النزاع و مع وجود النزاع فلا بدّ من الرجوع إلى اللّه و رسوله و لم يكن له أن يترك ذلك أو لا يعمل به و قد قال سبحانه: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ » و الرد إلى اللّه أن نحكم بكتابه و الرد إلى الرسول أن نحكم بسنته و هذا الأمر مما يوافقنا و مما نريده و لم يكن القتال إلاّ من أجل أن يحكم القرآن و الرسول فإذا حكم الحكمان بحكم اللّه و حكم رسوله فنحن معهما و إلا فلا طاعة لهما و لا يقبل حكمهما...

أخذ عليه السلام على الحكمين أن يحكما بالصدق و الحق و العدل في كتاب اللّه و سنة نبيه بأن ينظرا فيهما.. و بالبداهة الحكم من القرآن لصالح الإمام لأن معاوية و من معه بغاة و اللّه سبحانه يقول: «فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اَللّٰهِ » .

و أما السنة فلأن من خرج على إمام العدل و أراد أن يضرب وحدة المسلمين وجب قتاله و على هذا إن حكم الحكمان بالصدق و هذا هو الصدق قبلنا بحكمهما و إلا فلا يقبل قولهما بل يرد عليهما و يضرب به وجهيهما...

(و أما قولكم: لم جعلت بينك و بينهم أجلا في التحكيم فإنما فعلت ذلك ليتبين

ص: 351

الجاهل و يتثبت العالم و لعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة و لا تؤخذ بأكظامها فتعجل عن تبيّن الحق و تنقاد لأول الغي) و هذا أيضا جواب للخوارج الذين قالوا لم عيّنت أجلا للتحكيم فكان في الوثيقة «و أجل الموادعة سنة كاملة فإن أحب الحكمان أن يعجّلا الحكم عجلاّه..» فكان تعيين الوقت من أجل أن يتبين الجاهل أي يعرف الحقيقة خلال هذه الفترة التي تتوقف فيها الحرب فيعود إلى عقله و يثوب إلى رشده و يفكر بهدؤ فلعله يصل إلى الحق و كذلك من أجل أن يتثبت العالم أي يطمئن إلى الحق الذي هو عليه فيكمل الشوط على يقين مما يجاهد من أجله...

و كذلك كان الأجل المعين رجاء أن تصلح هذه الأمة في مدة هذه الهدنة التي يتوقف فيها القتال فيترك لها المجال في النظر في أمرها و ما يصلحها و لا يؤخذ عليها الطريق إلى الهدى و الرجوع إلى الحق إذ لو لم نقبل بالهدنة و تعيين الأجل نكون قد ضيقنا عليها و منعنا بعض الناس من العودة إلى الحق و تركناه مع راية الضلال و الانحراف...

و بعبارة أخرى: إن الإمام يعيش مع الحق و العدل و لذا لا يترك فرصة لأحد يستطيع العودة إليهما إلا و يوفرها له.. همه أن ينقذ هذا الإنسان مما هو فيه من ضلال فلذا يؤقت للهدنة لعل أصحاب النفوس الطيبة ترجع عن ضلالها.

(إن أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحق أحب إليه - و إن نقصه و كرثه - من الباطل و إن جرّ إليه فائدة و زاده) أراد أن يجذبهم إلى الحق فبيّن لهم أن أفضل الناس عند اللّه من كان الحق عنده آثر و أحب إليه من الباطل و إن كان الحق يجر عليه شدة في البدن أو نقصانا في المال لأنه من القيم المعنوية التي تسقط أمامها المنافع و الفوائد التي يمكن أن يوفرها الباطل و ما الدنيا و قيمتها إن خلت من الحق و أهله...

(فأين يتاه بكم و من أين أتيتم) استفهم متعجبا منهم و هو العالم بهم قائلا كيف تذهبون هذه المذاهب الباطلة التي تخرجكم عن الحق و تدخلكم في الباطل.

و من أين أتيتم من أي جهة أتاكم الشيطان حتى استطاع أن يدخل عليكم و يحرفكم عن الاستقامة و من المعلوم أنه جاءهم من الغباء و اللاوعي و محدودية الفكر و النظر...

(استعدوا إلى قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه و موزعين بالجور لا يعدلون به جفاة عن الكتاب نكب عن الطريق) أمرهم بالاستعداد لحرب معاوية و جماعته و رغبهم في ذلك بذكر صفات أعدائهم التي توجب قتالهم فوصفهم:

أ - إنهم قوم حيارى عن الحق تائهون عنه لا يهتدون إليه.

ص: 352

ب - إنهم قوم مولعون بالظلم لا يعدلون عنه إلى الحق و العدل أو لا يعدلون به غيره فهو آثر عندهم من كل أمر آخر.

ج - إنهم جفاة عن الكتاب أي بعيدين عنه لا يقبلون حكمه و لا يعملون بما جاء فيه.

د - إنهم تركوا طريق الحق و العدل و ابتعدوا عنه إلى طريق الباطل و الظلم.

(ما أنتم بوثيقة يعلق بها و لا زوافر عز يعتصم إليها لبئس حشاش نار الحرب أنتم أف لكم لقد لقيت منكم برحا يوما أناديكم و يوما أناجيكم فلا أحرار صدق عند النداء و لا إخوان ثقة عند النجاء) بعد أن ذكر أصحاب معاوية و أوصافهم التي يستحقون عليها القتال و من أجلها القتل توجه إلى أصحابه مؤنبا لهم على عدم استجابتهم له و قد وبخهم بعدة أمور كل أمر في نفسه عيب كبير:.

أ - ما أنتم بوثيقة يعلق بها أي لا يعتمد عليكم و لستم بعروة وثقى ينجو من تعلق بها.

ب - و لا زوافر عز يعتصم إليها لستم أنصارا يعتمد عليكم أو يعتز بكم من التجأ إليكم...

ج - لبئس حشاش نار الحرب أنتم بئس الموقدون للحرب فلا تؤدونها حقها و لا تصمدون لها...

(أف لكم لقد لقيت منكم برحا) تأفف منهم و تذمر لما لاقاه منهم إنه لقي الشدائد و القساوة.

(يوما أناديكم) إلى الجهاد و الخروج إلى قتال الأعداء.

(و يوما ناجيكم) و في اليوم الآخر أناجيكم أسر إليكم بالخطط الحربية و بما يكسب النصر.

(فلا أحرار صدق عند النداء و لا إخوان ثقة عند النجاء) فعند النداء للحرب لا تصدقون النداء أي لا تستجيبون أو تلبون النداء و لستم بإخوان ثقة في الحديث إنكم لا تحفظون الأسرار بل تفشونها إلى الأعداء...

ص: 353

126 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لما عوتب على التسوبة في العطاء أ تأمروني أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه! و اللّه لا أطور (1) به ما سمر (2) سمير، و ما أمّ (3) نجم في السّماء نجما! لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه! ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف، و هو يرفع صاحبه في الدّنيا و يضعه في الآخرة، و يكرمه في النّاس و يهينه عند اللّه. و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و لا عند غير أهله إلاّ حرمه اللّه شكرهم، و كان لغيره ودّهم (4). فإن زلّت (5) به النّعل (6) يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خليل و ألأم خدين (7)!.

اللغة

1 - لا أطور به: من طار يطور إذا حام حول الشيء أي لا أمر به و لا أقاربه.

2 - السمر: الليل و حديثه و قولهم لا أفعله ما سمر سمير أي مدى الدهر.

3 - أمّ : قصد.

4 - الود: الحب.

5 - زلت: انزلقت و سقطت.

6 - النعل: الحذاء، و ما وقيت به القدم من الأرض.

7 - الخدين: الصديق.

الشرح

(أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه و اللّه لا أطور به ما سمر سمير و ما أم نجم في السماء نجما) كانت سيرة الإمام أنه يسوّي في العطاء بين جميع المسلمين

ص: 354

فهو يعطي بالتساوي الأبيض و الأسود و العربي و العجمي و المولى و العبد و المهاجر و الأنصاري و على هذا كانت سيرة النبي و منه أخذ الإمام هذا الحكم و قد كان أبو بكر على هذه السيرة و لكن لما تولى عمر الخلافة فاوت فيما بين الناس في العطاء فكان يقدم المهاجر على الأنصاري و العربي على العجمي و أهل السابقة على غيرهم و على هذا درج عثمان فعند ما ولي الإمام الخلافة ساوى بين الناس فعوتب على هذا التساوي الذي خالف فيه سنة عمر و عثمان فقال هذه الكلام العادل الصريح في التساوي...

أ تأمرون أن أطلب النصر بالجور أي أفاوت في العطاء ليرضى عني المهاجرون و الأنصار و أصحاب السابقة بالظلم الذي لا يجوز... إنه لا يجوز أن يطلب رضا الناس بغضب اللّه و لا يجوز أن يبحث الإنسان عن موقع يثبت به كرسيه على حساب المسلمين و من تولى أمرهم...

إن سيرة النبي في الصدقات معروفة حيث كان يسوّي بين الناس و يعطيهم أعطياتهم بدون تفاوت و كذلك سار الإمام و إن اختلفت سيرة الخلفاء الذين تقدموه فهذا عمر يخالف أبا بكر و بأيهما يأخذ المسلم و كل يدعي أنه على الصواب و أن الحق معه ؟! كلا إن الحق مع النبي و سيرته و سنته و قد كانت قائمة على التساوي و كذلك تبعه الإمام في سيرته... و الإمام يحلف أنه لا يفعل ذلك و لا يرتكبه ما سمر سمير أي مدى الدهر و ما أم نجم نجما أي دائما لأن النجوم تدور في أفلاك بعضها...

(لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف و إنما المال مال المسلمين) لو كان المال لعلي لسوّى بين الناس في العطاء و ذلك ينبع من شعوره بمساواة الناس بعضهم لبعض و أنهم مسلمون تجمعهم العقيدة فيجب أن يتساووا في العطاء و إذا كان من تفاوت في بعض الأمور أو في الإيمان فهذا يعود إلى اللّه فهو الذي يثيب في الآخرة عليه و هو الذي يحرم الثواب...

فإذا كان المال لعلي كان لا بد له أن ينهج هذا السبيل فبطريق أولى أن يكون كذلك إذا كان المال للمسلمين فإنه يجب أن يوزّع عليهم بالتساوي لأنه لهم و لا يجوز إعطاء ما يملكه زيد إلى غيره فيكون ظلما و عدوانا..

(ألا و إن إعطاء المال في غير حقه تبذير و إسراف و هو يرفع صاحبه في الدنيا و يضعه في الآخرة و يكرمه في الناس و يهينه عند اللّه) بيّن عليه السلام مفاسد إعطاء المال لغير مستحقه و وضعه في غير محله:

1 - إنه تبذير إن أعطي لغير أهله و غير مستحقيه و إسراف إن أعطي المستحقين أكثر

ص: 355

مما لهم و كلا الأمرين قبيح مذموم قال تعالى: «إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ » و قال تعالى: «إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ » .

2 - إن إعطاء المال في غير حقه يرفع صاحبه في الدنيا من حيث تثني عليه الناس و تطيع أمره و تلتف حوله و لكن هذا المال بعينه يضعه و يذلّه و ينزله دركات الجحيم و في ذلك ذل كبير... و كذلك هذا المال يكرمه عند الناس من حيث يحترمونه و يجلونه و يرتفع مقامه في نظرهم و لكنه عند اللّه مهان ذليل لأنه وضعه في غير مستحقيه...

(و لم يضع امرؤ ماله في غير حقه و لا عند غير أهله إلا حرمه اللّه شكرهم و كان لغيره ودهم فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل و ألأم خدين) نبه عليه السلام على خطأ وضع المال في غير محله و أنّ أثر ذلك يظهر في الدنيا فإن من يضع المال في غير أهله حرمه اللّه شكرهم فلا يعترفون له بجميل لأنهم يدركون قبح تصرفه في أعماقهم و يعدلون في حبهم إلى غيره من حيث يرونه المؤهل لمقامه و فضلا عن ذلك إذا عثر في الدنيا فاحتاج إلى معونتهم تخلوا عنه و تنكروا له و كانوا من أبعد الناس و أشدهم عليه...

إنّ تحببه لهم بالمال يقابله التخلي عنه لو عثر أو وقع لأن صداقتهم له لم تكن للّه و إنما لأجل المال و قد فارقه ففارقوه...

ص: 356

127 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و فيه يبين بعض أحكام الدين و يكشف للخوارج الشبهة و ينقض حكم الحكمين فإن أبيتم (1) إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأت و ضللت، فلم تضلّلون عامّة أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، بضلالي، و تأخذونهم بخطئي، و تكفّرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم (2) تضعونها مواضع البرء (3) و السّقم (4)، و تخلطون من أذنب بمن لم يذنب. و قد علمتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجم (5) الزّاني المحصن (6)، ثمّ صلّى عليه، ثمّ ورّثه أهله، و قتل القاتل و ورّث ميراثه أهله. و قطع السّارق و جلد (7) الزّاني غير المحصن، ثمّ قسم عليهما من الفيء (8)، و نكحا المسلمات، فأخذهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذنوبهم، و أقام حقّ اللّه فيهم، و لم يمنعهم سهمهم (9) من الإسلام، و لم يخرج أسماءهم من بين أهله. ثمّ أنتم شرار النّاس، و من رمى به الشّيطان مراميه، و ضرب به تيهه (10)! و سيهلك فيّ صنفان: محبّ مفرط (11) يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ، و مبغض مفرط (12) يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، و خير النّاس فيّ حالا النّمط (13) الأوسط فالزموه، و الزموا السّواد الأعظم (14) فإنّ يد اللّه مع الجماعة. و إيّاكم و الفرقة!.

فإنّ الشّاذّ من النّاس للشّيطان، كما أنّ الشّاذّ من الغنم للذّئب. ألا من دعا إلى هذا الشّعار (15) فاقتلوه، و لو كان تحت عمامتي هذه، فإنّما حكّم

ص: 357

الحكمان ليحيا ما أحيا القرآن، و يميتا ما أمات القرآن، و إحياؤه الاجتماع عليه، و إماتته الافتراق عنه. فإن جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم، و إن جرّهم إلينا اتّبعونا. فلم آت - لا أبا لكم - بجرا (16)، و لا ختلتكم (17) عن أمركم، و لا لبّسته (18) عليكم، إنّما اجتمع رأي ملئكم (19) على اختيار رجلين، أخذنا عليهما ألاّ يتعدّيا القرآن، فتاها عنه، و تركا الحقّ و هما يبصرانه، و كان الجور هواهما فمضيا عليه. و قد سبق استثناؤنا عليهما - في الحكومة بالعدل، و الصّمد (20) للحقّ - سوء رأيهما، و جور حكمهما.

اللغة

1 - أبيتم: رفضتم و امتنعتم.

2 - العواتق: جمع العاتق ما بين المنكب و العنق.

3 - البرء: الصحة.

4 - السقم: المرض.

5 - الرجم: حد شرعي للزاني المحصن بموجبه يرجم حتى يموت.

6 - المحصن: المتزوج.

7 - الجلد: هو الضرب و هو حد شرعي لارتكاب بعض المحرمات.

8 - الفيء: الغنيمة.

9 - السهم: النصيب.

10 - ضرب به تيهه: حيّره و جعله تائها.

11 - أفرط: تعدى الحد المفروض.

12 - فرّط: قصّر عما هو مطلوب ضد أفرط.

13 - النمط: الطريقة و المذهب و النوع من الشيء، الجماعة من الناس أمرهم واحد.

14 - السواد الأعظم: الجماعة.

15 - الشعار: علامة القوم في الحرب.

16 - البجر: بالضم الأمر العظيم، الشر.

17 - ختلتكم: خدعتكم.

ص: 358

18 - لبّس الأمر: خلطه حتى لا يعرف.

19 - الملأ: أشراف الناس و وجهاؤهم الذين يرجع إليهم.

20 - الصمد: القصد.

الشرح

(فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت و ضللت فلما تضللون عامة أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله بضلالي و تأخذونهم بخطئي و تكفرونهم بذنوبي) رفض الخوارج التحكيم بعد أن أجبروا أمير المؤمنين عليه و لم يكتفوا بالرفض بل عدوه من الذنوب الكبيرة التي توجب الكفر على مذهبهم في الكبائر و من ثم حكموا بكفر كل من قبل التحكيم و من هذا المنطلق ذهبوا إلى أن الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها فاستعرضوا من مروا فيه فقتلوا الشيوخ و النساء و الصبيان و الأطفال حتى البهائم و لما رأى الإمام فعلهم حاورهم و أراد أن يلزمهم الحجة فلعل من يعود إلى الحق أو يرجع إلى الصواب ابتدأ بردّهم و بيان خطئهم في فعلهم بأن قال: إن التحكيم ليس بضلال و لا كفر كما تقدم الدليل عليه من قوله: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ » و بعد هذا قد أخذنا على الحكمين أن يحكما بالحق و إلا فلا ملزم يلزمنا بقولهما...

و لكن على فرض أنكم لم تقتنعوا بكل الأدلة و البراهين السابقة و بقيتم على ظنكم أنني أخطأت و ضللت فلما ذا تخطئون أمة محمد كلها بضلالي و خطئي و تأخذونهم بذنوبي و هذا خلاف قول القرآن: «وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ » .

(سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء و السقم و تخلطون من أذنب بمن لم يذنب و قد علمتم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورثه أهله) و هكذا كانت سيرتهم حملوا سيوفهم و شحذوها و استعدوا للقتال و راحوا يقتلون بها المذنب و المطيع حتى من لم يكلفه اللّه كالأطفال.

ثم بيّن لهم بسيرة الرسول كيف أن صاحب الكبيرة لا يخرج من الإسلام إلى الكفر بارتكابها و ذلك أن الزاني المحصن - و هو المتزوج - إذا زنا فإنه رجمه و لكن صلى عليه بعد الرجم صلاة الأموات الإسلامية ثم ورث أهله ماله و هذا يدلّل على أن مرتكب الكبيرة يبقى على الإسلام و إن وجب قتله فلما ذا أنتم تخالفون سنة رسول اللّه و ما عليه المسلمون...

(و قتل القاتل و ورّث ميراثه أهله) و هذا حجة ثانية من سيرة النبي و هي أن من قتل

ص: 359

مؤمنا عامدا يقاد منه و رسول اللّه قتله و مع ذلك ورث أهله ماله بل و صلى عليه و دفنه في مقابر المسلمين لأنه بارتكابه المعصية الكبيرة لا يخرج من الإسلام.

(و قطع السارق و جلد الزاني غير المحصن ثم قسّم عليهما من الفيء و نكحا المسلمات فأخذهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذنوبهم و أقام حق اللّه فيهم و لم يمنعهم سهمهم من الإسلام و لم يخرج اسماءهم من بين أهله) و هذان دليلان أيضا على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر فهذا السارق التي ثبتت السرقة في حقه على الوجه الشرعي و كذلك الزاني غير المحصن - من لم يكن له زوجة قادر على وطئها - فقد قطع يد الأول و جلد الثاني و مع هذه العقوبة أعطاهما سهمهما من الغنيمة و من بيت مال المسلمين و كل ما يستحقان من حقوق و هذا دليل على أنهما لا يزالان في خانة المسلمين و لم يخرجا عن الإسلام.

و أيضا أن النبي صلّى اللّه عليه و آله أجاز لهما نكاح المسلمات فلو كانا في زمرة الكفار و كانت معصيتهما تخرجهما عن الإسلام لم يبح النبي لهما نكاح المسلمات لأن الكافر لا يجوز له في شرع الإسلام أن ينكح مسلمة فهذا الأمر من النبي دليل آخر على أنهما لا يزالان في الإسلام، فالعقوبة و إقامة حق اللّه شيء و تكفيرهما شيء آخر لا يرتبط بالكبيرة...

(ثم أنتم شرار الناس) وصفهم بأنهم شرار الناس لعقائدهم الفاسدة التي لا ترتبط بالإسلام ثم لأعمالهم الشنيعة التي لا يرتكبها الكفار.

(و من رمى به الشيطان مراميه و ضرب به تيهه) فأنتم شرار الناس و من أضله الشيطان ضلالا بعيدا و حيّره في فكره و سلوكه فهو لا يدري كيف يسير و لا أين يتوجه.

(و سيهلك فيّ صنفان: محب مفط يذهب به الحب إلى غير الحق و مبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق و خير الناس فيّ حالا النمط الأوسط فالزموه، و الزموا السواد الأعظم فإن يد اللّه مع الجماعة و إياكم و الفرقة) و هذا من جملة أخباره بالغيب التي تلقاها عن النبي و هو أنه سيهلك في علي اثنان المحب الغالي الذي يرفع الإمام إلى مستوى الآلهة كما هو الحال عند الغلاة فإنهم لما رأوا منه ما لا يقدر عليه البشر لم تستطع عقولهم إدراجه في خانة البشر فرفعوه إلى منزلة اللّه جل و علا.. و هذا حب مفرط يقود صاحبه إلى النار و بئس القرار و هناك في المقابل من أفرط في بغضه حتى كفّره كما هو حال الخوارج لعنهم اللّه.

ثم أشار إلى أن خير الناس هو الحد الأوسط الذي يخرج عن طرفي الإفراط

ص: 360

و التفريط فلا يجعل عليا إلها و لا يسلبه حقه و ما هو فيه و هذا هو ما عليه الشيعة الإثنا عشرية فإنهم يوحدون اللّه و لا يجعلون معه شريكا و لا ندا و لا شبيها «قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» .

و إنهم يذهبون إلى أن الخلافة بعد رسول اللّه إلى الإمام علي و من بعده إلى الأئمة من ولده آخرهم محمد بن الحسن المنتظر و بهذا جاء الخبر عن النبي فهم بشر و لكن قادة البشر و أكملهم على الإطلاق...

ثم أمر بلزوم الجماعة و ما عليه عامة الناس و أشار إلى أن اللّه بقوته الكبيرة مع الجماعة يحفظها و يسددها و يوفقها للخير.

كما أنه نهى عن الفرقة و الاختلاف و التشرذم لما في ذلك من الضعف و الوهن و الإنحلال.

(فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه) من يخرج عن الجماعة و ينفرد يقوى عليه الشيطان و يغريه و يغويه و يوسوس له بما يضر ثم يكون ضعيفا أمام الأعداء هزيلا لا يقوى على مواجهة أحد. و شبهه بالشاة المنفردة عن القطيع التي هربت من الراعي و من القطيع فإنها من نصيب الذئب يفترسها ثم لشدة رغبته في الوحدة دعا إلى قتل من ينادي بشعار الفرقة و الاختلاف الذي دعا إليه الخوارج و دعا إلى قتله حتى لو كان من أقرب الناس إليه أو لو كان هو نفسه و حاشاه...

(فإنما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن و يميتا ما أمات القرآن و إحياؤه الاجتماع عليه و إماتته الافتراق عنه فإن جرنا القرآن إليهم اتبعناهم و إن جرهم إلينا اتبعونا) هذا بيان لمعذوريته في قبول التحكيم و أنه لم يحكم الرجال و إنما حكّم القرآن و لكن بما أنه صامت فيحتاج إلى من يفسره و يبيّن المراد منه و قد كان الشرط الأساسي على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن و يميتا ما أمات القرآن و ما أحياه القرآن هو الاجتماع و الوحدة في ظل الخليفة الشرعي الذي انعقدت له الخلافة و إماتته هو الافتراق و البغي و البعد عن الخليفة الشرعي و من هنا تنزلا و مجاراة للقوم قال: إن جرنا القرآن إليهم فنحن معهم و نتبعهم و إن جرهم إلينا يجب أن يتبعونا و من الواضح أن القرآن يقول: «فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اَللّٰهِ » و من الواضح بغي معاوية و جماعته و كيف شقوا عصا الطاعة و خرجوا عن الجماعة...

(فلم آت - لا أبا لكم - بجرا و لا ختلتكم عن أمركم و لا لبسته عليكم إنما اجتمع

ص: 361

رأي ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألا يتعديا القرآن فتاها عنه و تركا الحق و هما يبصرانه و كان الجور هواهما فمضيا عليه و قد سبق استثناؤنا عليهما - في الحكومة بالعدل و الصمد للحق - سوء رأيهما و جور حكمهما) اعتذر لنفسه بأنه لم يأت شرا و لا خدعهم عن رأيهم و لا زينه لهم بحيث يرغبون فيه يعني لم يروّج للتحكيم و لم يرغب فيه بل كان رأيه عليه السلام متابعة القتال حتى نهاية المعركة...

ثم بين لهم أن وجهاءهم و زعماءهم و أصحاب الكلمة منهم هم الذين اختاروا للتحكيم عمرا و أبا موسى و كان الإمام يرفض الأشعري و يقول: إنه ليس لي بثقة و لكنهم فرضوه فاضطر الإمام إلى أن يشترط على الحكمين أن يحكما بالعدل و الحق و إلا فلا حكم لهما فكان هذا الاستثناء معذرا له و لكل من معه أن يرفضوا حكمهما الظالم الجائر... إنهما تعديا القرآن و خالفا الحق عمدا و عن علم و اتبعا هواهما و ما ترغب به نفسيهما فكان الاستثناء في محله حيث سبق سوء رأيهما و ظلم ما حكما به و ذهبا إليه...

و بعبارة أخرى: أخذ على الحكمين أن يحكما بالحق و العدل فلم يحكما به بل حكما بالهوى و الجور فسقط حكمهما لسقوط ما اشترط عليهما...

ص: 362

128 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة يا أحنف، كأنّي به و قد سار بالجيش الّذي لا يكون له غبار و لا لجب (1)، و لا قعقعة (2) لجم (3)، و لا حمحمة (4) خيل. يثيرون (5) الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام (6).

قال الشريف: يومئ بذلك إلى صاحب الزّنج.

ثم قال عليه السلام: ويل لسكككم (7) العامرة، و الدّور المزخرفة الّتي لها أجنحة (8) كأجنحة النّسور، و خراطيم (9) كخراطيم الفيلة، من أولئك الّذين لا يندب (10) قتيلهم، و لا يفقد غائبهم. أنا كابّ (11) الدّنيا لوجهها، و قادرها بقدرها، و ناظرها بعينها.

منه في وصف الأتراك

كأنّي أراهم قوما «كأنّ وجوههم المجانّ (12) المطرّقة (13)»، يلبسون السّرق (14) و الدّيباج (15)، و يعتقبون (16) الخيل العتاق (17). و يكون هناك استحرار قتل (18) حتّى يمشي المجروح على المقتول، و يكون المفلت أقلّ من المأسور!.

فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السلام، و قال للرجل، و كان كلبيا:.

يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، و إنّما هو تعلّم من ذي علم. و إنّما

ص: 363

علم الغيب علم السّاعة، و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله: «إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ » الآية، فيعلم اللّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، و قبيح أو جميل، و سخيّ (22) أو بخيل، و شقيّ أو سعيد، و من يكون في النّار حطبا (23)، أو في الجنان للنّبيّين مرافقا. فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه، و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه، و دعا لي بأن يعيه صدري، و تضطمّ (24) عليه جوانحي (25).

اللغة

1 - اللجب: محركة الجلبة و الصياح.

2 - اللجم: جمع لجام حديد توضع في فم الفرس لضبطها.

3 - قعقعة اللجم: ما يسمع من أصوات اللجم بين أسنان الخيل.

4 - حمحم: الفرس ردد صوته في طلب علف أو إذا رأى من يأنس به.

5 - يثيرون: الأرض يحركون فيرتفع غبارها.

6 - النعام: جمع نعامة حيوان معروف بعنقه الطويل و ريشه الناعم.

7 - السكك: جمع سكة الطريق المستوي.

8 - أجنحة الدور: رواشنها.

9 - الخراطيم: الميازيب تطلى بالقار.

10 - الندب: البكاء على الميت و تعداد مناقبه.

11 - كب: فلانا على وجهه تركه و لم يلتفت إليه و كب الإناء قلبه على رأسه.

12 - المجان: بفتح الميم و تشديد النون جمع المجن بكسر الميم الترس.

13 - مطرقة: وضع بعضها فوق بعض حتى صارت طبقتين أو أكثر.

14 - السرق: محركة الحرير أو الحرير الأبيض خاصة.

15 - الديباج: جمعها ديابج و ديابيج الثوب الذي سداه و لحمته حرير.

16 - يعتقبون: يحتبسون و يرتبطون من اعتقب السلعة إذا حبسها ليقبض ثمنها.

ص: 364

17 - عتاق الخيل: كرائمها.

18 - استحرار القتل: شدته.

19 - المفلت: الهارب.

20 - الغيث: المطر.

21 - الأرحام: من الرحم مكان نمو الجنين.

22 - السخي: الكريم.

23 - وعى الخطاب: فهمه و حفظه.

24 - اضطم الشيء: جمعه إلى نفسه.

25 - الجوانح: الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر.

الشرح

اشارة

(يا أحنف كأني به و قد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم و لا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام) هذا الكلام من الإمام كان في البصرة بعد وقعة الجمل و قد خاطب به الأحنف بن قيس صاحب الحلم و العقل يخبره فيه كما قال الشريف الرضي بصاحب الزنج و يصف أتباعه و جنده بهذه الأوصاف التي هي على خلاف عادة الجيوش.

ففي حال يسير الجيش ينتشر الغبار و يرتفع نتيجة كثرتهم و خيلهم و هؤلاء لا يكون لهم غبار بل يتحركون و لا غبار لهم و لا صياح يعلو منهم أو صراخ و لا أصوات اللجم حيث لا خيل عندهم يلجمونها أو ترتفع أصواتها.

إنهم يمشون بأقدامهم حفاة و إذا ساروا أثاروا الأرض خفيفا لأن أقدامهم كأقدام النعام عريضة متى يضعونها ينبعث الغبار.

(ويل لسكككم العامرة و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة من أولئك الذين لا يندب قتيلهم و لا يفقد غائبهم أنا كاب الدنيا لوجهها و قادرها بقدرها، و ناظرها بعينها) بيّن عليه السلام ما ينال البصرة من جراء خروج صاحب الزنج و كأنه عليه السلام يتأسف عليها و يريد أن يبيّن ما يلحقها بطرقها الحلوة الجميلة العامرة بأهلها و بما فيها و تلك القصور المزينة و هذا يدل على أن البصرة كانت مدينة عامرة و أهلها أغنياء و قد كانت كذلك فإنها من أغنى بلاد الرافدين و كان يعبر عنها و عن الكوفة «السوادين» لكثرة زرعهما و خضارهما و نضرة ما تنتجا و تعطيا...

ص: 365

يذكر عليه السلام تلك الدور المزخرفة التي لها رواشن (برندات) كأجنحة النسور لظهورها و قوتها و لها ميازيب مطلاة بالقير ظاهرة إلى الخارج كخراطيم الفيلة.

ثم بيّن بعض صفات أتباع صاحب الزنج و أنهم قوم لا يندب قتيلهم إما لأنهم غرباء ليس لهم أهل يندبونهم و إما لأنهم لا يبالون بالموت و كذلك لا يفقد غائبهم أي لا يسأل عنه لكثرتهم أو لعدم قريب لهم يسأل عنهم و يهتم بهم...

و بيّن عليه السلام قيمة الدنيا عنده فإنه قد تركها و أهملها و أنه يقدرها بحقها و ناظر إليها بمقدار ما تستحق و من المعروف أن عليا طلقها و استهان بها و هجرها و لم يلتفت إليها.

(كأني أراهم قوما «كأن وجوههم المجان المطرقة يلبسون السرق و الديباج و يعتقبون الخيل العتاق و يكون هناك استحرار قتل حتى يمشي المجروح على المقتول و يكون المفلت أقل من المأسور) قالوا: إن هذا إخبار منه بخروج التتار و ذكر بعض أوصافهم و ما ينال البلاد و العباد منهم. إنهم قوم وجوههم كالتروس الخشنة لاستدارتها و عظمها و خشونتها و غلظتها يلبسون الحرير و الثياب الفاخرة و يحبسون الخيل لأنفسهم لا يسمحون بها لغيرهم و أما ما يجري على أيديهم فهناك شلالات الدم بحيث يمشي المجروح على الميت دون أن يلتفت إليه أو يخشى منه أو يمد يده إليه ليدفنه و يكون الهارب أقل من المأسور فهم لا يسمحون لأعدائهم بالهروب لانهم لا يتركون لهم فرصة لذلك بل يأسرونهم ثم يعرضونهم للقتل.

(يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب و إنما هو تعلم من ذي علم و إنما علم الغيب علم الساعة و ما عدده اللّه سبحانه بقوله: «إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ » الآية فيعلم اللّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى و قبيح أو جميل، و سخي أو بخيل، و شقي أو سعيد و من يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا اللّه و ما سوى ذلك فعلم علمه اللّه نبيه فعلمنيه و دعا لي بأن يعيه صدري و تضطم عليه جوانحي).

كلام في علم الغيب.

عند ما أخبر الإمام بهذه الأخبار و بيّن هذه الحوادث لم يستطع هذا الرجل الكلبي إلا أن يفهم هذه الأخبار على أنها علم الغيب الذي هو من مختصات اللّه فلذا تعجب من الإمام و قال له: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فما كان من الإمام إلا أن ابتسم

ص: 366

حمدا للّه على هذه النعمة و شكرا له ثم أخذ في تقسيم علم الغيب إلى قسمين:.

القسم الأول: هو الذي انحصر في اللّه و هي هذه الأمور الخمسة:.

أ - علم الساعة و أنها متى تقوم القيامة.

ب - هو ينزل الغيث كمية و كيفية و في أي مكان و أي زمان.

ج - يعلم ما في أرحام النساء من ذكر أو أنثى أسود أو أبيض قصير أو طويل جميل أو دميم شقي أو سعيد، سخي أو بخيل و إلى غيرها من الصفات...

د - ما ذا يكسب هذا الإنسان غدا من خير أو شر كثير أو قليل، في أي زمان و مكان.

ه - أين تكون وفاة هذا الإنسان فهو من علم الغيب أيضا...

القسم الثاني من الغيب: هو جزء من العلم عرّفه اللّه لنبيه و أطلعه عليه و بدوره قام النبي بإبلاغه للإمام و إفهامه إياه و قد بلغه إياه النبي و دعا له أن يحفظه و يفهمه فكان الإمام أصدق صورة تحكي النبي و تنقل عنه كل خصوصية و كل حقيقة و قد قال المفسرون عند ما فسروا قوله تعالى: «وَ تَعِيَهٰا أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ » قالوا: إنها إذن علي و قد قال النبي يومها: إني دعوت اللّه أن يجعلها أذنك يا علي فقال علي عليه السلام: فما نسيت شيئا بعد و ما كان لي أن أنسى. فقد نقلها الطبري في تفسيره ج 29 ص 35 و الزمخشري في الكشاف عند تفسيره للآية و كذلك الرازي في التفسير الكبير و الهيثمي في مجمعه و السيوطي في الدر المنثور.

ترجمة الأحنف بن قيس.

الأحنف و اسمه الضحاك(1) و قيل صخر بن حصين التميمي السعدي أبو بحر و الأحنف لقب له.

أسلم في حياة النبي و لم يره و جاء في حديث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا له و كان سيدا شريفا مطاعا مؤمنا عليم اللسان و كان يضرب بحلمه المثل و له أخبار في حلمه سارت بها الركبان.

ص: 367


1- البداية و النهاية ج 8 ص 327.

قال الحاكم: هو الذي فتح مرو الروذ و كان الحسن و ابن سيرين في جيشه و هو الذي افتتح سمرقند و غيرها من البلاد.

توفي الأحنف بالكوفة و صلى عليه مصعب بن الزبير و مشى في جنازته قيل أنه توفي سنة سبع و ستين و قيل غير ذلك عن سبعين سنة.

ص: 368

129 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في ذكر المكاييل و الموازين عباد اللّه، إنّكم - و ما تأملون من هذه الدّنيا - أثوياء (1) مؤجّلون (2)، و مدينون مقتضون (4): أجل منقوض، و عمل محفوظ. فربّ دائب (5) مضيّع، و ربّ كادح خاسر. و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدبارا، و لا الشّرّ فيه إلاّ إقبالا، و لا الشّيطان في هلاك النّاس إلاّ طمعا. فهذا أوان قويت عدّته (6)، و عمّت (7) مكيدته، و أمكنت (8) فريسته (9). اضرب بطرفك حيث شئت من النّاس، فهل تبصر إلاّ فقيرا يكابد (10) فقرا، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا، أو بخيلا اتّخذ البخل بحقّ اللّه وفرا (12)، أو متمرّدا كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقرا (13)! أين أخياركم و صلحاؤكم! و أين أحراركم و سمحاؤكم! و أين المتورّعون في مكاسبهم، و المتنزّهون (14) في مذاهبهم! أليس قد ظعنوا (15) جميعا عن هذه الدّنيا الدّنيّة، و العاجلة المنغّصة (16)، و هل خلقتم إلاّ في حثالة لا تلتقي إلاّ بذمّهم (18) الشّفتان، استصغارا لقدرهم، و ذهابا (19) عن ذكرهم! «فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون!» «ظهر الفساد»، فلا منكر مغيّر، و لا زاجر مزدجر. أ فبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه في دار قدسه (20)، و تكونوا أعزّ أوليائه عنده ؟ هيهات! لا يخدع اللّه عن جنّته، و لا تنال مرضاته إلاّ بطاعته.

لعن اللّه الآمرين بالمعروف التّاركين له، و النّاهين عن المنكر العاملين به!.

ص: 369

اللغة

1 - أثوياء: جمع ثوي الضيف.

2 - مؤجلون: مؤخرون.

3 - مدينون: مقرضون من الدين و هو القرض.

4 - مقتضون: جمع مقتضى أي مطالب.

5 - الدائب: المجد الدائم على العمل.

6 - العدة: جمعها عدد الاستعداد، ما أعد لحوادث الدهر من مال و سلاح.

7 - عمت: شملت.

8 - المكيدة: الحيلة.

9 - أمكنت: سهلت.

10 - الفريسة: ما يصطاده الأسد و نحوه.

11 - يكابد: من الكبد و هي المشقة و الشدة و الصعوبة.

12 - الوفر: المال الكثير.

13 - الوقر: الثقل في الأذن، الصمم.

14 - المتنزهون: المبتعدون عن المكروه، المترفعون عن الدنايا.

15 - ظعنوا: رحلوا.

16 - المنغصة: من نغص عيشه أي كدّره.

17 - الحثالة: الرديء من كل شيء.

18 - الذم: خلاف المدح ذكر الأمور المعيبة.

19 - ذهابا: عن ذكرهم أي ترفعا و فلان يذهب بنفسه عن كذا أي يرفعها.

20 - دار القدس: الجنة.

الشرح

اشارة

(عباد اللّه إنكم - و ما تأملون من هذه الدنيا - أثوياء مؤجلون و مدينون مقتضون أجل منقوص و عمل محفوظ فرب دائب مضيّع و رب كادح خاسر) قال الشريف: إن هذه الخطبة خطبها الإمام في ذكر المكاييل و الموازين...

ابتدأ عليه السلام بذم الدنيا و ذكر بعض معايبها حتى يخفف الناس من الإقبال عليها و التهالك على ما فيها و افتتح كلامه بتذكيرهم أنهم عباد اللّه و ما أجمل هذه العبودية إذا

ص: 370

صدقت من قبل العبد إنكم أنتم و ما تأملون من هذه الدنيا من أموال و عقار و أولاد و أزواج ضيوف إلى وقت معلوم و أجل محدود لأن الضيف على جناح سرعة في الخروج و الرحيل.

و كذلك مدينون مقتضون أي مطالبون بما عليكم من حقوق و واجبات فما أعطيتم من الدنيا مطالبون به و مسئولون عنه.

ثم أراد أن يدفعهم إلى عدم التسويف و إلى الإخلاص في العمل و الإجادة فيه فقال: أجل منقوص أي أن هذا الأجل الذي أجلتموه سابقا يتآكل شيئا فشيئا بمرور الليل و النهار و أما العمل فهو محفوظ في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى و إذا كان كذلك فلا بدّ من إصلاحه و الإخلاص فيه للّه...

و نبه بقوله: «رب دائب مضيّع و ربّ كادح خاسر» إلى أن العامل المجدّ في عمله يجب أن يسعى ليكون عمله مقبولا فلا تضيع جهوده أدراج الرياح و ذلك برفع الموانع و معرفة ما يفسده فهذا الذي يستمر على ورد معين من الإذكار أو التسبيح أو غيرها و لكنه يأخذه العجب فإن هذه الأعمال تسقط و لا يعود لها فائدة و يكون عمله فاسدا و هذا المصلي المؤدي لواجباته إذا لم تكن على الوجه الشرعي تتبخر كلها و تذهب سدى و هكذا لا بد من معرفة المعبود و ما يعبد به و الطريق إليه...

(و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا و لا الشر فيه إلا إقبالا و لا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أوان قويت عدته و عمت مكيدته و أمكنت فريسته) يحكي الإمام واقع زمانه الذي يعيش فيه أنه زمان نكد يختفي فيه الخير أو يتراجع عن مواقع الحياة و في نفوس الأحياء فمساعدة الناس و إعانتهم و نشر الفضيلة و إقامة أحكام اللّه كلها تكاد تختفي بينما الشر و العصيان و التمرد و قتل الناس و هتك الحرمات تنتشر و تتوسع و تجد لها في قلوب الناس أفسح مكان... و بطبيعة الحال إذا انزوى الخير أو ارتفع لا بد للشر أن يتمدد و ينتشر.

إنه زمان سوء ازداد طمع الشيطان في إضلال الناس و جرّهم إلى الهلاك لأن الشيطان يقوى إذا كان الزمن فاسدا فإذا انتشر الإنحلال و الفوضى و هتك الحرمات فهذه كلها أبواب يدخل منها الخبيث ليهلك هذا الإنسان و يضله عن مستقيم الطريق.

ثم ذكر أن هذا الوقت الذي هذه صفاته أوان قويت فيه عدة الشيطان فالملاهي و الفتن و الفرقة و الاختلاف و الاختلاط كلها تحت سلطانه و أمره و ما شئت فعدّد.

و قد انتشرت حيله في كل مكان و شملت من لا يظن في حقهم ذلك فرب تقي في

ص: 371

نظر الناس أشد إجراما من مجرم عند اللّه لأن الشيطان استطاع أن يدخل إليه من باب الرياء و العجب و غيرها...

و أما هذا الإنسان الضال فقد وقع فريسة سهلة سهّل نفسه للشيطان ليأخذها و أعانه عليها لأنه عاش في أجواء موبؤة و محيط فاسد فسرى الوباء و الفساد إلى نفسه، عاش بين الفاسدين فسهّل دخول الشيطان إليه...

(اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا أو غنيا بدل نعمة اللّه كفرا أو بخيلا اتخذ البخل بحق اللّه وفرا أو متمردا كأن بأذنيه عن سمع المواعظ وقرا).

علامات فساد الزمان.

و هذه عيّنات من فساد الزمان يضعها الإمام بين يدي الإنسان فإنه يعيشها على أرض الواقع و يتحرك فيها أربابها أمام أنظارنا...

اضرب بطرفك و ما أجمل هذا التعبير و أفصحه حيث شئت من الناس أي واحد تضع يدك عليه تجده واحدا من أربعة.

فإنك لا تجد إلا فقيرا يعيش التعب و النصب و المشقات... فقير متعب يبحث عن لقمة يسد بها رمقه و يكفي بها عائلته.. فقير قد أضرّ به الإملاق فهو لا يحصل على قوته إلا بالعذاب و الهوان...

فقير و ما أكثر الفقراء في بلاد اللّه، إنهم الكثرة الغالبة التي حرمت حقها في الكسب و العطاء... حرمها الظالمون من خيرات الأرض و عطائها...

إنه الفقير الذي ينام على صراخ أطفاله من الجوع و يستيقظ على النغمة نفسها أيضا.

و في مقابل هذا الفقير لا تجد إلا غنيا بدل نعمة اللّه كفرا... فهذا الغني هو الذي سرق حق الفقير أو منعه منه إنك تجده قد بدل نعمة اللّه كفرا... غيّر هذه النعمة و استبدلها بالكفر... كان من حقه أن يشكر اللّه عليها فيضعها في محلها فإذا به يعصيه فيها و يتمرد عليه بها... يحوّل نعمة اللّه إلى سلاح يحارب به اللّه... في الفساد... في الرشوة - في قطع الأرحام - في الفتنة، في ظلم العباد...

أو أنك لا تجد إلا بخيال اتخذ البخل بحق اللّه وفرا.

ص: 372

و هذا هو البخيل الذي اتخذ البخل بحق اللّه وسيلة لزيادة ثروته و تضخيم رصيده و ما أكثرهم اليوم و لو أن غينا واحدا من أغنياء المسلمين أطاع ربه و أدى ما عليه من الحقوق الشرعية المالية من الخمس و الزكاة لسد عوز مئات العوائل التي تعيش على التسول و جمع النفايات...

و أقول واحدا من أثرياء المسلمين لأن في المسلمين أغنياء بخلاء على أهل دينهم كرماء على الغرباء من الكفار و المستعمرين و هذه ملكة بريطانية تزور الكويت و الإمارات فيتبارى مشايخ النفط في الكرم فهذا يهديها سيفا من ذهب و ذاك نخلة من الذهب تحمل تمرا من اللؤلؤ و هذه الملكة بنفسها تزور أمريكا و عند ما تصل إلى مجلس الشيوخ في تكساس - إحدى ولايات أمريكا - يقدم لها جزمة - كوي بوي - و قد صورتها الجرائد و هي تقدم لها الجزمة كما صورت هدية العرب... فانظر كيف تبدد الثروة الإسلامية بالأيدي العربية و انظر كيف تحفظ ثروة أميركا فإنا للّه و إنا إليه راجعون من قوم تسلطوا على رقاب الناس ظلما و عدوانا و بغير حق...

و الرابع أو متمردا كأن في أذنيه عن سمع المواعظ وقرا فهذا هو الذي عصى اللّه و تمرد على أحكامه و خالف أمره تنصحه و تعظه فلا يسمع و لا يتأثر و هل هناك أقسى من قلب لا تحركه موعظة أو أشقى من إنسان يرى الحق فلا يتبعه...

(أين أخياركم و صلحاؤكم و أين أحراركم و سمحاؤكم و أين المتورعون في مكاسبهم و المتنزهون في مذاهبهم أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية و العاجلة المنغصة) استفهم عليه السلام على نحو التعليم لهم و التنبيه إلى ما صار إليه خيارهم الذين يسارعون في الأعمال الطيبة و الحسنات و الخيرات و صلحاؤهم الذين عاشوا مع اللّه في كل أوامره و نواهيه و كذلك أحرارهم الذين لم يعبدوا غير اللّه و لم يتوجهوا لأحد غيره و كذلك استفهم عن سمحاؤهم الذين يغضون عن السيئة و يتجاوزون عن هفوات الناس معهم...

و استفهم عن المتورعين في مكاسبهم الذين يجتنبون ما فيه مظنة الحرام و شبهته و كذلك عن المتنزهين في مذاهبهم الذين يبتعدون عن طرق الحرام و ما يمكن أن يفضي إلى الحرام.

استفهم عليه السلام عن هؤلاء جميعا ثم أجاب تقريرا بأنهم جميعا قد رحلوا عن الدنيا الذليلة و العاجلة التي تمر كالبرق ليس فيها ما يهنأ فيه الإنسان أن يرتاح.

(و هل خلقتم إلا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان استصغارا لقدرهم و ذهابا عن

ص: 373

ذكرهم «فإنا للّه و إنا إليه راجعون» ظهر الفساد فلا منكر مغيّر و لا زاجر مزدجر) لم يبق في زمانكم إلا بقايا من أوغاد الناس و أراذلهم بحيث يترفع المتكلم عن ذكرهم فلا تنطق الشفتان في الحديث عنهم ترفعا عن ذكرهم و احتقارا لهم و استصغار لشأنهم إنها مصيبة عظمى و داهية كبرى «إنا للّه و إنا إليه راجعون» ظهرت المنكرات و شاعت فلا منكر للمنكر مغيّر له إما لعدم القيام به أصلا أو لعدم كفاية من يقوم به أو لعدم تأثيره في القلوب القاسية الجامدة و ليس في الناس من زاجر عن القبيح و منزجر هو عنه...

(أ فبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه في دار قدسه و تكونوا أعز أوليائه عنده هيهات! لا يخدع اللّه عن جنته و لا تنال مرضاته إلا بطاعته لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له و الناهين عن المنكر العاملين به) استفهم عليه السلام مستنكرا عليهم أمرا يريدونه و هم ليسوا من أهله... إنهم يريدون الجنة و مجاورة أولياء اللّه و أنبياءه و يكونون من أعز أوليائه عنده هكذا يريدون و لكنه يستبعد ذلك عنهم بهيهات ما تطلبون ما أبعده عنكم لأن اللّه لا يخدع عن جنته فالجنة تريد الصدق مع اللّه و الوفاء له و الامتثال لأمره... الجنة تريد الالتزام... تريد منكم أن تبيعوا اللّه نفوسكم و أموالكم فإذا ظننتم أن اللّه لا يعلم سركم و لا يعلم خداعكم فهذا أمر أخطأتم فيه و جانبتم الصواب فإن الجنة لا تنال إلا بما يرضي اللّه و لا رضا للّه إلا بطاعته في أوامره و نواهيه...

ثم لعن الآمرين بالمعروف التاركين له لأنهم يعيشون العصيان في أنفسهم و لا يطيعون اللّه فيها... كما أنه لعن الناهين عن المنكر العاملين به لأنهم عصاة.

و كأن هذا إشارة منه إلى وجود هذين الصنفين في المخاطبين...

ص: 374

130 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

لأبي ذر رحمه اللّه لما أخرج إلى الربذة يا أبا ذرّ، إنّك غضبت للّه، فارج (1) من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم، و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، و اهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، و ما أغناك عمّا منعوك! و ستعلم من الرّابح غدا، و الأكثر حسّدا. و لو أنّ السّماوات و الأرضين كانتا على عبد رتقا (2)، ثمّ اتّقى اللّه، لجعل اللّه له منهما مخرجا! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، و لا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت (3) منها لأمّنوك (4).

اللغة

1 - أرج: فعل أمر من رجا ضد يئس و هو الأمل.

2 - الرتق: ضد الفتق الالتئام و الوصل.

3 - قرضت: منها قطعت منها قطعة.

4 - أمنّوك: سلموك و لم يؤذوك.

الشرح

اشارة

(يا أبا ذر إنك غضبت للّه فارج من غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك فاترك في أيديهم ما خافوك عليه و اهرب منهم بما خفتهم عليه فما أحوجهم إلى ما منعتهم و ما أغناك عما منعوك و ستعلم من الرابح غدا و الأكثر حسدا) هذه الكلمات

ص: 375

المباركة كانت في وداع صحابي عظيم قالها الإمام تسلية له و بيانا للحقيقة و التاريخ...

أبو ذر الغفاري صاحب رسول اللّه أمر عثمان بنفيه إلى الربذة بعد أن كان قد نفاه إلى الشام أولا و عاد منها إلى المدينة... فخرج أبو ذر و لم يجرؤ أحد من الناس أن يخرج لتوديعه و تشييعه حيث حرّم عثمان تشييعه و توديعه إلا ما كان من الإمام علي و الحسن و الحسين و عقيل و عمار فلما أراد أن يودعه الإمام بلسم جراحه بهذه الكلمات المعبرة عن الحقيقة.

يا أبا ذر إنك غضبت للّه حيث كان أبو ذر لسان الفقراء بل لسان الإسلام الذي يرتفع بكلمة الحق منددا بمظالم عثمان و أعماله التي تتنافى و عدالة الإسلام فقد كان عثمان يوزع بيت مال المسلمين كما يحب و يرغب، يصل هذا يحابي ذلك يصانع الثالث و هكذا دون ضوابط تحكمه أو قوانين تلجم تصرفاته فكان أبو ذر إزاء هذا العمل الباطل يصرخ في وجه عثمان و يقود الثورة ضده معلنا ظلمه و سوء تصرفه...

فكان غضبه ليس لنفسه بل للّه و إذا كان الغضب للّه فيجب أن يكون الرجاء من اللّه و بهذا التفكير كان يتحرك أبو ذر و عليه سار و إلى أهدافه كان يقصد...

ثم بين السبب في نفيه إن القوم - عثمان - و من حوله من الأمويين و المنتفعين و الانتهازيين خافوك على دنياهم لأن تحرك يحرك معه الجماهير المظلومة و هذه لا ترحم كما جرى فيما بعد بحق عثمان.. خافوك على كراسيهم و عروشهم خافوك على الامتيازات التي انفردوا بها دون بقية الناس فصرختك أمام الناس تكشف عوراتهم و تجردهم من ثيابهم فهم قد خافوك على دنياهم و أما أنت فقد خفتهم على دينك...

صرختك كانت في سبيل الدين... خوفا من التشويه و التدنيس و خوفا من التحريف...

أنت خفتهم على عقيدتك أن يمسخوها و يقتلوا العدل فيها... خفتهم أن يمزقوا الحق و يقتلوا روح الإسلام...

فاترك في أيديهم ما خافوك عليه من دنياهم... إنك لن تقدر أن تسلبهم دنياهم و تردهم إلى موقعهم فاتركهم إذن و شأنهم و اهرب أنت بما خفتهم عليه من دينك، فإذا استطعت أن تهرب بدينك و تحفظه و تحتفظ به سالما فقد بلغت أمنيتك... اهرب بدينك...

ثم طمأن القلب الجريح باستغنائه عما منعوه منه من الدنيا و استأثروا به لأنفسهم و حاجتهم إلى ما منعهم من دينه فهم إلى دينه أحوج منه إلى دنياهم و ستعلم من الرابح غدا يوم القيامة إنه صاحب الدين و ستعلم من الأكثر حسدا و هو صاحب الدين يكثر حساده...

ص: 376

(و لو أن السماوات و الأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا لا يؤنسنك إلا الحق و لا يوحشنك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك و لو قرضت منها لأمنوك) أراد الإمام أن يزرع الثقة في نفس أبي ذر فقال له: لو أن السماوات و الأرضين أطبقت على عبد و كان في تقوى من اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا.

ثم أراد تثبيته على الحق فنهاه عن الاستيناس بغير الحق الذي هو عليه و الذي اختاره و لا يستوحش إلا من الباطل الذي عليه غيره...

و في الختام علل معاداة القوم له بعدم انسجامه معهم في سلوكهم نحو الدنيا فهو لم يشاركهم فيها و لو قبل دنياهم و سكت عنهم و عن انحرافهم لو أنه شاركهم هذه الدنيا و خاض فيها كما خاضوا لارتاح من الإزعاج و التهجير و أمن عذابهم و ما يلاقيه منهم من أذى...

ترجمة أبي ذر الغفاري.

اشارة

جندب بن جنادة الغفاري أحد صحابة النبي العظام الذين لهم قدم صدق في الإسلام و من أوائل من أسلم فقد ذكروا أنه كان ربع الإسلام حيث كان رابع أربعة أسلموا و كان أحد الأركان الأربعة الذين ثبتوا على الولاء لعلي و قد أثنى عليه علماؤنا و مدحوه بما هو أهل له و لا نرى بعد أحاديث النبي في حقه و فضله كلام و لذا نقتصر بذكر بعض ما ورد فيه.

روى الخاص و العام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: ما أظلت الخضراء و لا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر.

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: في أمتي أبو ذر شبيه عيسى بن مريم في زهده و بعضهم يرويه: من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.

سئل الإمام علي عليه السلام عن أبي ذر فقال: ذاك رجل وعى علما عجز عنه الناس ثم أوكأ عليه و لم يخرج شيء منه...

محنة أبي ذر.

لما رأى أبو ذر أفعال عثمان و انحرافاته من إعطاء المال لبني أمية و منعها عن المسلمين و تقريب الأمويين منه و توليتهم على بلاد المسلمين دون كفاءة و من تعطيله الحدود و غير ذلك من المنكرات أخذ أبو ذر على نفسه أن يأمر بالمعروف و ينهى عن

ص: 377

المنكر فأخذ يقرأ على الناس قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ » و رفع ذلك إلى عثمان فنهاه فلم ينته و في يوم قام عثمان فقال: أ يجوز للإمام أن يأخذ شيئا من المال قرضا فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا و تكرر حديث أبي ذر الذي يحمل على عثمان و يفضحه بأعماله القبيحة فعندها سيره إلى معاوية في الشام.

أبو ذر في الشام.

دخل أبو ذر الشام فرأى معاوية أشد انحرافا من عثمان و أقوى خطرا... رأى كسرى العرب في إسرافه و انحرافه... رأى أمورا غريبة لم يعهدها من قبل فلم يكف و لم يسكت بل كان ينكر على معاوية مخالفاته و ظلمه و إسرافه.

و لما بنى معاوية الخضراء بدمشق قال له أبو ذر: يا معاوية إن كانت هذه من مال اللّه فهي الخيانة و إن كانت من مالك فهي الإسراف.

و كان يقول و هو بالشام: لقد حدثت أعمال ما أعرفها و اللّه ما هي في كتاب اللّه و لا سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه.

تكرر من أبي ذر مهاجمة معاوية على انحرافه فاستدعاه معاوية قهرا عنه و عنفه بما لا يليق بمسلم فكيف يليق بصحابي جليل من أصحاب رسول اللّه أمثال الغفاري العظيم و لكنه الظلم الأموي المتجسد في الحاكم و ولاته و قد قابل أبو ذر معاوية بما يليق به حيث روى له ما سمعه بحقه من النبي قائلا له: ما أنا بعدو للّه و لا لرسوله بل أنت و أبوك عدوان للّه و لرسوله أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر و لقد لعنك رسول اللّه و دعا عليك مرات أن لا تشبع.

فلما سمع معاوية منه ذلك حبسه و كتب إلى عثمان بأمره فكتب إليه عثمان أن يحمله إليه، فحمله معاوية من الشام إلى المدينة على شارف ليس عليه إلا قتب حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد.

فلما وصل إلى المدينة و دخل على عثمان تهدده بالقتل و دارت حوارات طويلة لم يثن أبو ذر هامته فيها بل كان يروي أمام عثمان قول النبي: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال اللّه دولا و عباده خولا و دينه دخلا» و لما يئس عثمان من أبي ذر و أنه لن يستطيع أن يسكت الصوت الثائر قرّر نفيه من المدينة إلى مكان ليس فيه جليس أو أنيس.

ص: 378

النفي الأخير.

حظر عثمان على الناس مجالسة أبي ذر أو الحديث معه و بقي كذلك حتى قرر أن ينفيه إلى الربذة فنفاه إليها و عند ما أراد الخروج لم يخرج لتوديعه إلا أهل البيت لأن عثمان منع تشييعه و ذهب أبو ذر ضحية التمرد الأموي و الارتداد عن الدين من الطغمة الحاكمة.

و بقي أبو ذر هناك حتى مات غريبا فريدا و صلى عليه مالك الأشتر و قيل ابن مسعود... مات أبو ذر غريبا عن وطنه مهجرا منه فريدا و لكنه أضحى الراية التي ترفع في وجوه الحكام الفاسقين و الولاة الضالين فرحمه اللّه من عالم شهيد...

ص: 379

131 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و فيه يبين سبب طلبه الحكم و يصف الإمام الحق أيّتها النّفوس المختلفة، و القلوب المتشتّتة (1)، الشّاهدة (2) أبدانهم (3)، و الغائبة عنهم عقولهم، أظأركم (4) على الحقّ و أنتم تنفرون (5) عنه نفور المعزى (6) من وعوعة (7) الأسد! هيهات أن أطلع بكم سرار (8) العدل، أو أقيم (9) اعوجاج (10) الحقّ . اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة (11) في سلطان، و لا التماس (12) شيء من فضول (13) الحطام (14)، و لكن لنرد المعالم من دينك، و نظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، و تقام المعطّلة من حدودك. اللّهمّ إنّي أوّل من أناب (15)، و سمع و أجاب، لم يسبقني إلاّ رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - بالصّلاة.

و قد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدّماء و المغانم (16) و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته (17)، و لا الجاهل فيضلّهم بجهله، و لا الجافي (18) فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف (19) للدّول (20) فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي (21) في الحكم فيذهب بالحقوق، و يقف بها دون المقاطع (22)، و لا المعطّل للسّنّة فيهلك الأمّة.

ص: 380

اللغة

1 - المتشتتة: المتفرقة و تشتت الشمل إذا تفرق.

2 - الشاهدة: الحاضرة.

3 - الأبدان: جمع بدن و هو جسد الإنسان.

4 - أظأركم: أعطفكم.

5 - تنفرون: تتباعدون، و النفور من الشيء هو الشرود عنه و البعد.

6 - المعزى: من الغنم خلاف الضأن.

7 - الوعوعة: الصوت.

8 - السرار: آخر ليلة من الشهر و تكون مظلمة.

9 - أقيم: المعوج أو المائل أعدّل.

10 - الاعوجاج: ضد الاستقامة.

11 - المنافسة: المغالبة في الشيء النفيس كالكرم و غيره.

12 - التمس: الشيء طلبه.

13 - الفضول: جمع الفضل البقية.

14 - الحطام: ما تكسر من الشيء اليبس.

15 - أناب: رجع.

16 - المغانم: جمع مغنم و هو الغنيمة ما يؤخذ من المحاربين عنوة و على كل ما يكسبه الإنسان.

17 - النهمة: بفتح النون و سكون الهاء إفراط الشهوة و المبالغة في الحرص.

18 - الجافي: من الجفاء أي الغلظة.

19 - الحائف: من الحيف و هو الجور و الظلم.

20 - الدول: جمع دولة بضم الدال اسم للمال المتداول أي المنتقل من يد إلى أخرى.

21 - المرتشي: آخذ الرشوة و هي ما يدفع لإبطال حق أو إحقاق باطل.

22 - المقاطع: جمع مقطع ما ينتهي الحق إليه.

الشرح

اشارة

(أيتها النفوس المختلفة و القلوب المتشتتة الشاهدة أبدانهم و الغائبة عنهم عقولهم) أشار في هذه الخطبة إلى أمور ثلاثة: إلى ذم أصحابه و إلى بعض مناقبه و إلى ذكر

ص: 381

المغتصبين للخلافة ممن تقدمه بذكر بعض صفاتهم...

وصف أصحابه بما رآه فيهم و ما هم عليه... صورة مفزعة ناطقة بقبحها و قبح من يحملها... إنهم يحملون أنفسا مختلفة الأهواء فلا يجمعها هدف و لا تلتقي عند رضا اللّه... و كذلك هي موزعة الآراء فكل فرد له رأي يغاير آراء الآخرين... إنهم أصحاب أبدان حاضرة تراها أمامك مجتمعة مكتملة و لكن عقولهم غائبة ليست بحاضرة فلا تفكر فيما يجب و لا تنظر فيما ينبغي...

(أظأركم على الحق و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد) أجعل لكم كل ما يحملكم على أن تعطفوا على الحق و أسلك بكم كل السبل التي تحملكم للسير نحوه و الدفاع عنه و لكنكم تذهبون عنه و تنفرون منه نفور المعزى من صوت الأسد، فكما أن المعزى إذا سمعت صوت الأسد تولي هاربة و لا تلتفت إلى أحد كذلك أنتم تبتعدون عن الحق و تهربون منه رغم دعائي لكم بالعودة إليه و الرجوع إلى رحابه...

(هيهات أن أطلع بكم سرار العدل أو أقيم اعوجاج الحق) استبعد أن يخرج بهم خفي العدل أو يمنع الاعوجاج للحق بوجودهم... فهم أقل من أن يقيم بهم الحق أو يجهر بالحق.

و بعبارة أخرى أن العدل قد اختفى في زمن من تقدمه و الحق قد اعوج و هؤلاء أهون من أن يظهر الإمام بهم العدل أو يعدّل الانحراف فيرفعه و يضع موضعه الحق...

(اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان و لا التماس شيء من فضول الحطام و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطلة من حدودك اللهم إني أول من أناب و سمع و أجاب، لم يسبقني إلا رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله و سلم - بالصلاة).

الموقف العلوي و نظرته إلى الحكم.

برأ ساحته عن كل ما يشين و ما يتدافع غيره عليه فأشهد اللّه على أنه وحده يعلم أنه لم يكن ما كان منه في زمن من تقدمه من الخلفاء من مخالفته لهم و ما هو عليه الآن من الحروب لم يكن ذلك مغالبة منه لهم على الحكم و اعتلاء كرسي الخلافة حبا بها و رغبة في التسلط كما هو دأب طلابها و الراغبين فيها حيث يضحون بكل عزيز من أجل بلوغ كرسي الحكم و الوصول إليه فيبيعون كرامتهم و عزتهم من أجل الحكم.

كما أنه عليه السلام لم يكن ما كان منه طلبا للحصول على أموال الدنيا و عروضها

ص: 382

و ما فيها من متاع فليس للكرسي قيمة في نظره كما أن ما يجني منه و به لا قيمة له فالحكم في نظر علي وسيلة لتحقيق كرامة الإنسان و عزته و ليس للتسلط على الناس أو سلبهم حقوقهم و أموالهم...

و بعد أن بيّن أنه لم يكن همه كرسي الحكم و لا ما وراءه من أموال و متاع بيّن غاية طلبه له أن يرد المعالم التي اختفت من الدين حيث عملت أيدي المبطلين ممن تقدمه على محو تلك الآثار التي يهتدي بها المهتدون فإنه أراد أن يردها حتى يهتدي بها الناس.

و كذلك من أجل أن يظهر الإصلاح في بلاد اللّه حيث إن الفساد قد انتشر و شاع فهو يريد من خلال الحكم أن يقضي على المفاسد و يعيد للحق ظهوره و إذا ظهر الإصلاح ارتفع الفساد و أمن المظلومون فلا يظلم مع العدل أحد و لا يؤكل مال أحد و لا يعتدى على أحد و كذلك إذا ظهر الإصلاح أقيمت الحدود التي فرضها اللّه و سار الناس على الشرع المبين و استقاموا على وفق إرادة اللّه و حكمه.

ثم أكد ذلك بذكر حقيقة يعرفها كل الناس و وقف عليها كل فرد إنها حقيقة واضحة تكشف عن صدق ما قاله و تظهر حقيقة ما ادعاه و هي أنه أول من عاد إلى اللّه و سمع من رسول اللّه و أجابه في دعوته و لم يسبقه إلى الإيمان باللّه إلا رسول اللّه الذي صلى قبله بمقتضى نبوته و من كان أول من آمن و الدنيا كلها ضده و هو في معرض خطر لم يكن همه الدنيا و لم يرد من وراء إيمانه حطامها و ما تحويه و إنما كان من أجل الحق و من أجل الإيمان فهو لا ينحرف الآن و لا يميل من أجل الحكم و لا من أجل الدنيا و ما فيها...

صفات يجب أن تنتفي من الحاكم.

(و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته و لا الجاهل فيضلهم بجهله و لا الجافي فيقطعهم بجفائه و لا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع و لا المعطل للسنة فيهلك الأمة) ذكر عليه السلام شروط الوالي الذي يحكم و تكون بيده مقاليد الأمور فاشترط:

1 - أن لا يكون بخيلا لأن هذه الصفة كما يعللها الإمام تجعله يحرص على سلب أموالهم و ضمها إليه و جمعها من الناس و تكديسها عنده، فهو لبخله شره إلى جمعها و يمنعها عن أهلها و هذا يستلزم نفورهم منه و بعدهم عنه مع ما في ذلك مما لا يحبه اللّه من قبيح الصفات.

ص: 383

2 - أن لا يكون جاهلا فإن من كان جاهلا بأحكام الدين فهو ضال و من كان ضالا ضلل غيره و حملهم على الضلال و هذا خلاف مقصود الشارع و من المعلوم أن الوالي قدوة فإذا كان جاهلا فكيف يرضى الشارع بقدوة جاهل و يمكن أن يشير بهذا إلى أبي بكر فقد كان أجهل من صبي حتى سئل عن قوله: و فاكهة و أبّا فلم يعرف ذلك.

3 - أن لا يكون جافيا و الجافي هو الفظ الغليظ سيئ الخلق فإذا كان الوالي كذلك امتنع الناس عن لقائه و كفوا عن الدخول عليه و بذلك لا يصله منهم صوت و لا شكوى و لا أمر ينتفع به و بذلك ضرر و فساد فإنه صاحب الأمر الذي يجب أن يفتح صدره لكل الناس و يستقبلهم و يسمع منهم فإنه الأب للجميع و الرحمة العامة لكل الرعية و يمكن أن يكون هذا إشارة إلى ما كان عليه عمر من الفظاظة و الغلظة...

4 - أن لا يكون حائفا للدول أي لا يكون الوالي جائرا فيما يتداول من أموال المسلمين فيجب أن يقسم المال بالسوية فلا يؤثر طائفة على أخرى فتكون الأولى بطانة له و الأخرى عدوة له كما وقع ذلك لعثمان حيث آثر بني أمية عشيرته على كل الناس و ليس ذلك بالمال و الأعطيات فحسب بل تعدى ذلك إلى الولايات و التاريخ يشهد بمدى ظلمه و ظلمهم فإنه قد اتخذهم بطانة دون الناس فأوردوه مورده من الهلاك...

5 - أن لا يكون الوالي مرتشيا في الحكم أي في فصل الخصومات و موارد النزاع فإنه إذا قبض مالا مقابل الجور في الحكم و العدول فيه عن الحق فإن ذلك يخرج الحق من أيدي أصحابه و يسلبه منهم بل يميت الحق و يبطله فلا تصل الحقوق إلى أصحابها بهذه الرشوة.

6 - أن لا يكون معطلا للسنة فيهلك الأمة لأن الوالي إذا عطل سنة رسول اللّه و ما جاء عنه فقد ضاعت قواعد الشريعة و قوانينها لأن السنة هي الشارحة للكتاب و المتولية لبيانه و تفصيل مجمله بها تبينت خصوصيات الفرائض و تفصيلاتها و خذ لذلك مثلا الصلاة فإن عدد ركعاتها و كيفيتها و ما فيها من قراءة و ذكر و ركوع و سجود و تشهد و تسليم و غير ذلك كل هذا قد تكفلت به السنة فإذا تعطلت فكيف يهتدي الناس إلى الدين و كيف نعرف متى يرجم الزاني و خصوصيات ذلك...

إن من عطّل السنة أعاد الجاهلية و في ذلك هلاك الأمة في الدنيا و الآخرة...

ص: 384

132 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يعظ فيها و يزهد في الدنيا

حمد الله

نحمده على ما أخذ و أعطى، و على ما أبلى (1) و أبتلى (2). الباطن (3) لكلّ خفيّة، و الحاضر لكلّ سريرة (4)، العالم بما تكنّ (5) الصّدور، و ما تخون العيون. و نشهد أن لا إله غيره، و أنّ محمّدا نجيبه (6) و بعيثه (7)، شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان، و القلب اللّسان.

عظة الناس

و منها: فإنّه و اللّه الجدّ (8) لا اللّعب، و الحقّ لا الكذب. و ما هو إلاّ الموت أسمع داعيه (9)، و أعجل حاديه (10). فلا يغرّنّك (11) سواد النّاس (12) من نفسك، و قد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال و حذر الإقلال (13).

و أمن العواقب - طول أمل و استبعاد أجل - كيف نزل به الموت فأزعجه (14) عن وطنه، و أخذه من مأمنه، محمولا على أعواد المنايا (15) يتعاطى به الرّجال الرّجال، حملا على المناكب (16) و إمساكا بالأنامل (17). أما رأيتم الّذين يأملون بعيدا، و يبنون مشيدا (18)، و يجمعون كثيرا! كيف أصبحت بيوتهم قبورا، و ما جمعوا بورا (19)، و صارت أموالهم للوارثين، و أزواجهم لقوم آخرين، لا في حسنة يزيدون، و لا من سيّئة يستعتبون (20) فمن أشعر التّقوى قلبه برّز (21) مهله (22)، و فاز عمله. فاهتبلوا (23) هبلها، و اعملوا

ص: 385

للجنّة عملها: فإنّ الدّنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازا لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار. فكونوا منها على أوفاز (24)، و قرّبوا الظّهور (25) للزّيال (26).

اللغة

1 - أبلى: من الابلاء و هو الإحسان و الإنعام.

2 - الابتلاء: الامتحان و الاختبار.

3 - الباطن: العالم.

4 - السريرة: جمعها سرائر السر الذي يكتم، ما يسره الانسان من أمره.

5 - تكّن: تستر و تخفي.

6 - النجيب: المنتجب من النجابة.

7 - البعيث: المبعوث، المرسل.

8 - الجد: بكسر الجيم خلاف الهزل، الاجتهاد.

9 - الداعي: جمعه دعاة من يدعو الناس إلى شيء يرغبه.

10 - الحادي: الذي يسوق الإبل و يغني لها.

11 - غرّه: خدعه.

12 - سواد الناس: عامتهم و جماهيرهم.

13 - الاقلال: الفقر.

14 - ازعجه: اقلقه، قلعه من مكانه، طرده.

15 - المنايا: جمع منية و هو الموت.

16 - المناكب: جمع منكب مجتمع رأس الكتف و العضد.

17 - الانامل: رءوس الاصابع.

18 - المشيد: المبنى بالشيد و هو الجصّ .

19 - البور: جمع بائر الفاسد الهالك.

20 - يستعتبون: من استعتب فلان أي طلب أن يعتب أي يرضى.

21 - برّز: فاق و تقدم.

22 - المهل: شوط الفرس.

23 - اهتبلوا: اغتنموا.

24 - الافواز: جمع الوفز العجلة.

ص: 386

25 - الظهور: المطايا.

26 - الزيال: الفراق.

الشرح

(نحمده على ما أخذ و أعطى و على ما ابلى و ابتلى الباطن لكل خفية و الحاضر لكل سريرة العالم بما تكن الصدور و ما تخون العيون و نشهد أن لا إله غيره و إن محمدا نجيبه و بعيثه شهادة يوافق فيها السر الاعلان و القلب اللسان) علّمنا أن نحمد اللّه على ما أخذ منا مما وصل إلينا من جناب قدسه و فيض عطائه ما أخذه من مال أو ولد أو غير ذلك كما أن له الحمد على ما أعطى و ما أكثر عطاياه ابتداء من أصل الوجود وصولا إلى كل موجود كما أن له الحمد على ما ابلى أي أعطى من جميل العطايا و على ما ابتلانا و اختبرنا به من أنواع البلايا و الامتحانات...

ثم وصف اللّه بهذه الأوصاف التي هي من مختصاته:

- إنه يعلم بكل ما خفي في الوجود لا يعزب عن علمه مثقال ذرة...

- إنه الشاهد الرائي لكل سر مهما كان في طيات النفس و في عمق الضمير إنه «يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ » ...

- إنه العالم و الخبير و المطلع على ما تخفي الصدور مما يدور فيها و تتحدث فيه النفس كما إنه يعلم ما تسترقه العيون مما لا يجوز كما قال تعالى: و الله «يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مٰا تُخْفِي اَلصُّدُورُ» .

ثم أقرّ للّه بالوحدانية و نفي الشريك تأكيدا للإثبات ثم بعد الإقرار برسول اللّه تعليما لنا ذكر كيف يكون ذكره في مطلع كل كلام و وصفه بالنجابة و هي الاختيار و كونه أفضل مخلوقات اللّه و أكرمهم و ذكر أنه مبعوث من اللّه إلى عباده يحمل رسالته و يؤدي ما أؤتمن عليه من كلامه و ذكر أن الشهادة للّه بالوحدانية و لمحمد بالنجابة و البعثة إنها شهادة يتطابق فيها الجهر بالسر و القلب اللسان لتكون صادقة من جهة و عليها الأجر من جهة أخرى...

(فإنه و اللّه الجد لا اللعب و الحق لا الكذب و ما هو إلا الموت أسمع داعيه و أعجل حاديه) ما أقوله لكم و اللّه إنه الجد و اليقين لا اللعب و التخمين و إنه الحق الصراح ليس فيه للكذب مجال أبدا ما هو إلا الموت فإن داعيه اسمع كل الأحياء و رسله وصلت إلى كل

ص: 387

فرد و قد اعجل حاديه فإنه لم يترك الناس أو يمهلهم ليدبروا شئونهم بل أخذهم بسرعة و ساقهم إلى نهايتهم بقوة...

(فلا يغرنك سواد الناس من نفسك و قد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال و حذر الاقلال و أمن العواقب - طول أمل و استبعاد أجل - كيف نزل به الموت فازعجه عن وطنه و أخذه من مأمنه محمولا على أعواد المنايا يتعاطى به الرجال الرجال حملا على المناكب و امساكا بالانامل) بعد أن ذكر عليه السلام الموت و إنه الحقيقة الواقعة التي لا بد منها حذّر من الغفلة عنه بما يراه من الناس حوله و هذه حالة نفسية يدخل الإمام إلى عمقها ليحاكيها و يدرسها و يقول لمن توسوس له نفسه بأنه لا يزال على قيد الحياة و إن الناس من حوله كثيرون أن لا يهتم بالموت و ما بعده يقول له الإمام لا يغرنك كثرة الناس حولك فأنهم مثلك و سيلاقون ما تلاقيه و يمر عليهم ما يمر عليك و سينالهم ما ينالك و لن يدفعوا عنك شيئا و لن يؤخروا عنك ما ينزل بك...

و قد لفت النظر إلى أننا قد رأينا من كان قبلنا ممن جمع المال كقارون و خاف الفقر أن يدخل بيته فبخل بمال اللّه على عباد اللّه و أخذه من غير حله و وضعه في غير محله و أمن العواقب لم يحسب لما بعد الموت حساب و لم يعطه أي اهتمام عاش الأمل في حياة طويلة ناعمة و لم يفكر في الموت بل غيّبه و أبعد شبحه عن ناظريه.

هذا الإنسان انظر إليه كيف نزل به الموت و سقط عليه القضاء الإلهي فلم يقدر على دفعه أو الهروب منه فأخرجه عن وطنه و بلده الذي كان يعيش فيه آمنا مطمئنا لا يعكر صفوه شيء و كيف أخرج ؟! إنه لم يخرج معززا مكرما كما كان يخرج أيام حياته واثق الخطا مطمئن الجنان.. إنه لم يخرج إلا محمولا على نعش جثة هامدة تتناقلها أيدي الناس و يتدافعونها من يد إلى أخرى و من كتف إلى اختها.. إنها عبرة لهذا الإنسان أن ينظر إلى نهايته و يعتبر بمصيره... مهما عاش و جمع و اقتنى و استفاد فإنه مصيره على أحسن تقدير أن تحمله أيدي احبته و اكتافهم إلى المقر النهائي حيث القبر المفتوح الذي ينزلونه فيه وحيدا غريبا...

(أما رأيتم الذين يأملون بعيدا و يبنون مشيدا و يجمعون كثيرا كيف اصبحت بيوتهم قبورا و ما جمعوا بورا و صارت أموالهم للوارثين و ازواجهم لقوم آخرين لا في حسنة يزيدون و لا من سيئة يستعتبون) و هذه عبرة لمن اعتبر انظروا إلى من كان يدفعهم الأمل بعيدا.. كانوا ينظرون إلى الحياة فيرونها شوطهم الوحيد و حقل عملهم الفريد فاخذوا يبنون بناء من يخلد في الدنيا حيث يشيدون القصور و الدور كما هو المشاهد من تلك

ص: 388

الآثار اليوم و كذلك يجمعون المال بكثرة و ما بعض الكنوز من النقود و الجواهر التي تظهر في بعض الأحيان إلا دليل ذلك...

هؤلاء الذين كانوا يحبون الدنيا فيبنون فيها مشيدا و يجمعون كثيرا انظروا إليهم كيف اصبحت بيوتهم قبورا و ما جمعوا فاسدا يحكي عبث السنين به و بأهله و انظروا إلى اموالهم كيف تحولت عنهم إلى ورثتهم.. و انظروا إلى ازواجهم كيف تزوجت بغيرهم...

إنهم توقفوا عن كل حركة فلا يقدرون على زيادة حسنة فوق حسناتهم و لا يدفعون سيئة من سيئاتهم إذا طلبوا العفو منها أو رفعها عنهم...

(فمن أشعر التقوى قلبه برز مهله و فاز عمله) هذه النتيجة التي يريد أن يقولها و بيت القصيد الذي يطلبه.. هذه زبدة المخض فمن عاش الطاعة للّه و عاش قلبه مع ربه التزاما و سلوكا و رهبة و رغبه سبق اقرانه و تقدم عليهم في شوطه و نجح في عمله و نال منتهى امله...

(فاهتبلوا هبلها و اعملوا للجنة عملها فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام بل خلقت لكم مجازا لتزودوا منها الاعمال إلى دار القرار فكونوا منها على أوفاز و قربوا الظهور للزيال) أمرهم باغتنام الفرصة اللازمة التي يستحقها من يطلب الآخرة و أن يعملوا للجنة عملها اللائق بها من الأعمال الصالحة و الخيرات و ما هو مطلوب لها مما هو مرسوم في قوانين الشريعة و الدين و بيّن أن الدنيا لم تخلق للناس دار استقرار و دوام بل هي خلقت طريقا يعبرون منها إلى الآخرة و يتزودون فيها من الأعمال الصالحة إلى الدار الباقية و هي الدار الآخرة...

و في نهاية كلامه أمرهم أن يعجلوا في قطع عقباتها و تذليل مشاكلها و سرعة الارتحال منها لأن التأني فيها يوجوب الالتفات إليها و الانشغال فيها و بهذا تضيع الغاية القصوى و هي بلوغ الجنة.

ثم أمرهم أن يقربوا المطايا للركوب و الخروج منها و هي عبارة عن الأعمال الصالحة التي تحمل الإنسان إلى الجنة...

ص: 389

133 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يعظم اللّه سبحانه و يذكر القرآن و النبي و يعظ الناس

عظمة اللّه تعالى

و انقادت له الدّنيا و الآخرة بأزمّتها (1)، و قذفت إليه السماوات و الأرضون مقاليدها (2)، و سجدت له بالغدوّ (3) و الآصال (4) الأشجار النّاضرة، و قدحت (5) له من قضبانها النّيران المضيئة، و آتت أكلها (6) بكلماته الثّمار اليانعة.

القرآن

منها: و كتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا (7) لسانه، و بيت لا تهدم أركانه، و عزّ لا تهزم أعوانه.

رسول الله

منها: أرسله على حين فترة (8) من الرّسل، و تنازع من الألسن، فقفّى به الرّسل، و ختم به الوحي، فجاهد في اللّه المدبرين عنه، و العادلين (9) به.

الدنيا

منها: و إنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر ممّا وراءها شيئا، و البصير ينفذها بصره، و يعلم أنّ الدّار وراءها. فالبصير منها شاخص (10)، و الأعمى إليها شاخص. و البصير منها متزوّد، و الأعمى لها متزوّد.

ص: 390

عظة الناس

منها: و اعلموا أنّه ليس من شيء إلاّ و يكاد صاحبه يشبع منه و يملّه إلاّ الحياة فإنّه لا يجد في الموت راحة. و إنّما ذلك بمنزلة الحكمة (11) الّتي هي حياة للقلب الميّت، و بصر للعين العمياء، و سمع للأذن الصّمّاء (12)، وريّ (13) للظّمآن (14)، و فيها الغنى كلّه و السّلامة. كتاب اللّه تبصرون به، و تنطقون به، و تسمعون به، و ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض، و لا يختلف في اللّه، و لا يخالف بصاحبه عن اللّه. قد اصطلحتم على الغلّ (15) فيما بينكم، و نبت المرعى على دمنكم (16). و تصافيتم (17) على حبّ الآمال، و تعاديتم (18) في كسب الأموال. لقد استهام (19) بكم الخبيث، وتاه بكم الغرور، و اللّه المستعان على نفسي و أنفسكم.

اللغة

1 - الأزّمة: جمع زمام المقود.

2 - المقاليد: جمع المقلاد و هو المفتاح و قيل الخزائن.

3 - الغدو: البكور أو ما بين طلوع الفجر و الشمس.

4 - الآصال: مفرده الأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب.

5 - قدحت: الزند حاولت إخراج النار منه.

6 - أكلها: بالضم و بضمتين المأكول.

7 - العي: الحصر في الكلام و العجز عنه.

8 - الفترة: ما بين الرسولين من انقطاع الوحي كما هي الفترة بين عيسى و محمد.

9 - عدل به: أشرك.

10 - شاخص: راحل.

11 - الحكمة: الكلام الموافق للحق، صواب الأمر و سداده، وضع الشيء موضعه.

12 - الصماء: مؤنث و المذكر أصم و الصمم فقدان حاسة السمع.

13 - الري: الشرب حتى الشبع.

ص: 391

14 - الظمآن: العطشان.

15 - الغل: الحقد.

16 - الدمن: البعر المجتمع كالمزبلة.

17 - تصافيتم: من تصافى القوم إذا أخلص الود بعضهم لبعض.

18 - تعاديتم: عادى بعضكم بعضا أي خاصمه.

19 - استهام: أصله من هام على وجهه إذا خرج لا يدري أين يذهب.

الشرح

(و انقادت له الدنيا و الآخرة بأزمتها و قذفت إليه السماوات و الأرضون مقاليدها) تتضمن هذه الخطبة فقرات متعددة في مجالات و حقول مختلفة ملتقطة من عدة خطب و أول فقرة يذكر فيها اللّه سبحانه و عظمته و عموم قدرته و أن الدنيا بما فيها و كذلك الآخرة تحت سلطان اللّه و أمره لا تخرج واحدة منهما عن إرادته بل أتت إليه طوعا و استجابت لأمره حكما و كذلك السماوات و الأرضون هو مالك أمرها و حافظها و بيده مفاتيح خزائنها قال تعالى: «لَهُ مَقٰالِيدُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ » .

(و سجدت له بالغدو و الآصال الأشجار الناضرة و قدحت له من قضبانها النيران المضيئة و آتت أكلها بكلماته الثمار اليانعة) و سجود الأشجار الناضرة للّه في الصباح و المساء إنما هو عبارة عن حاجتها إليه و فقرها و إمكانها و كونها تسير وفق مشيئته و إرادته لا تتخلف عما رسم لها و أريد منها.

و من عظمة اللّه سبحانه و قدرته أنه أخرج من أغصان الأشجار الخضراء نيرانا مضيئة كما قال تعالى: «اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نٰاراً فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ » .

و من عظمة اللّه أيضا أن الثمار الناضجة صح أكلها و نضجت و ساغت بمشيئة اللّه و قدرته، فهو الذي أراد لها أن تستساغ و تستطاب فكانت كما أراد.

(و كتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه و بيت لا تهدم أركانه و عز لا تهزم أعوانه) هذا توبيخ لأصحابه من حيث تركهم للعمل بكتاب للّه و ترغيب لهم بذكر بعض خصائص هذا الكتاب فهو بينهم ناطق لا يعجز و لا يكل تحفظه القلوب و تردده الأفواه.

و وصفه بأنه بيت لا تهدم أركانه من حيث إن جميع الشبهات حوله لا تؤثر فيه لأنه من اللّه فهو قوي ثابت لا يتزعزع أو يتحرك أو يتعرض للشك، إنه يحفظ العاملين به

ص: 392

و الحافظين له و قواعده الأساسية لا تهدم و لا تلغى...

و كذلك هو عز لا تهزم أعوانه فهو سبب للعز الذي من عمل به لا يذل لأن أعوانه و مناصريه هم اللّه و الملائكة و الأولياء و هؤلاء لا يهزمون أو يخسرون.

(أرسله على حين فترة من الرسل و تنازع من الألسن فقفى به الرسل و ختم به الوحي فجاهد في اللّه المدبرين عنه و العادلين به) هذا ثناء على النبي و مدح له فقد أرسله اللّه بعد مضي مدة من الزمن تجاوزت الستمائة سنة فترة ما بين عيسى و بين بعثة رسول اللّه و هذه المدة تحتاج بعدها إلى رسول يحمل من اللّه الأمانة و يبلغها للناس.

و قد ذكر بعض سيئات ذلك الزمان من حيث اختلاف الآراء و تعدد المذاهب فالعرب في عبادته أصناف شتى و الفرس لهم مذهب يخالفهم و الروم كذلك و هكذا الكون كله مختلف الآراء و المعتقدات.

ثم قفى به الرسل أي أتبعه بهم و ختم به الوحي فلا يوحي اللّه بعده لأحد من البشر.

و هذا النبي العظيم حارب البعيدين عن اللّه للّه و من أجله كما حارب من جعل له عدل أو شبيه أو ند أو نظير فهو حارب الملحدين كما حارب الضالين...

(و إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئا و البصير ينفذها بصره و يعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص و الأعمى إليها شاخص، و البصير منها متزود و الأعمى لها متزود) في هذا الفصل ذم للدنيا و لمن تعلق بها و قصر نظره عليها...

يذكر عليه السلام هذه المقابلة بين الأعمى و البصير... و يقصد بالأعمى هو أعمى القلب و الفكر و أما البصير فهو عكس ذلك و قد ذكر المفارقة بين الشخصين، و إنها لمفارقة كبيرة كل منهما ينظر بمنظاره الخاص الذي يحكمه و يحكم تصرفه.

فالدنيا بالنسبة لأعمى القلب هي كل شيء عنده... إليها ينتهي نظره و عندها يتوقف مسيره و هي غاية ما يطمح إليه... نظر إلى الدنيا على أنها شوطه الوحيد فراح يسعى لها بكل ما أوتي من قوة و ما أعطى من عزم لم يبصر ما وراءها من آخرة حتى يسعى لها و يحسب لها حسابها بل شغلته الدنيا عن كل أمر آخر.

و أما البصير الذي انكشف الغشاء عن عينيه فرأى الدنيا على حقيقتها و وقف من خلالها على أن هناك دارا آخرة هي دار القرار و إليها يجب السعي فهذا هو البصير حقيقة و هو الذي يعمل ما يعمل من أجلها إنه بجسده فيها مؤقتا و لكنه راحل عنها بقلبه و فكره و توجهه، لم يعمل للدنيا إلا بمقدار ما يوصله إلى الآخرة.

ص: 393

و هذا عكس الأعمى الذي لا يرى الآخرة أبدا بل يرى الدنيا فحسب فهذا يسعى للدنيا و يقتصر عليها و لا يتعدى نظره عنها بل على الدوام ناظر إليها مشتغل بها.

و كذلك البصير يتزود منها للآخرة بينما الأعمى يتزود لها و فرق كبير بين من يتزود للآخرة بالأعمال الصالحة و الخيرات و ما ينفع الناس و بين ذاك الذي يتزود للدنيا فإنه يقطع أرحامه و يفسد المجتمع و يسعى في إضلال الناس و هكذا لأن زاد الدنيا للدنيا يخالف زاد الآخرة...

(و اعلموا أنه ليس من شيء إلا و يكاد صاحبه يشبع منه و يمله إلا الحياة فإنه لا يجد في الموت راحة و إنما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت و بصر للعين العمياء و سمع للأذن الصماء وري للظمآن و فيها الغنى كله و السلامة) كل شيء يتكرر في حياة الإنسان يمل حتى الطعام اللذيذ على لذته إذا استمر على تناوله الإنسان ملّه و كرهته نفسه إلا الحياة فإن الإنسان مهما طال عمره يتمنى أن يبقى حيا و تستمر به الحياة، فالشيخ العجوز الذي أحنت السنون ظهره و أتلفت قواه و أتت على شهوته... هذا الهّم الفاني لا يمل الحياة و لا يسأم منها بل يطلب الاستزادة منها و البقاء فيها. و ذلك لأنه لا يجد في الموت راحة و لا يجد فيما بعده حياة أحسن من حياته التي هو فيها و هذا مسوق للغالب من الناس الذين لم يقفوا على ما أعده اللّه للصالحين و إلا فإن أرباب المعرفة كالنبي و الأئمة كانوا يرون الراحة كل الراحة فيما بعد الموت...

ثم قال: «و إنما ذلك بمنزلة الحكمة» و قد اختلف فيما أشار إليه بكلمة ذلك فقال بعضهم: أشار إلى كلام كان قد تقدم عن رسول اللّه و أنه بمنزلة الحكمة و قال بعض: إنه أشار به إلى أن ما لا يجب أن يمل منه مثل الحكمة...

و ذهب ثالث إلى أن المراد «بذلك» الدنيا المفهوم من سياق الكلام و ذكر في سياق تعليله أن في حب الحياة مصلحة و حكمة و هي البعث على الجد و الاجتهاد.

ثم وصف الحكمة التي هي عبارة عن العلم بحكمة الصانع و علمه و ما في الدار الآخرة بخصوصيات و آثار.

إن الحكمة حياة للقلب الميت فالقلب الجاهل إذا نزلت عليه الحكمة فاهتدى من خلالها فإن ذلك حياة له...

كذلك هي بصر للعين العمياء لأن الحكمة للجاهل تحصل له بها البصيرة فيدرك بها الأمور و يقف على حقائق الأشياء و ذلك بمثابة البصر للأعمى...

ص: 394

و كذلك الحكمة سمع للأذن الصماء فإن من أوتي الحكمة أدرك ببصيرته ما هو خير له في مستقبل الأيام و هذا بمنزلة من ارتفع عنه مانع السمع فسمع و وعى ما سمع.

و كذلك الحكمة «ري للظمآن» لأن الجاهل يعيش فقد العلم و المعرفة و بذلك أذية له فإذا جاءت الحكمة ارتفع الجهل و ارتوى منها بالمعرفة.

و كذلك «فيها الغنى كله و السلامة» و كما قال تعالى: «وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» و الخير الكثير كل شيء لا يعكر صفو الدنيا و الآخرة...

(كتاب اللّه تبصرون به و تنطقون به و تسمعون به و ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض و لا يختلف في اللّه و لا يخالف بصاحبه عن اللّه) ذكر القرآن و بعض أوصافه حثا لهم و ترغيبا للعمل به وصفه بعدة أوصاف:

الأول: كتاب اللّه تبصرون به أي تهتدون به إلى الحق في الدنيا و الآخرة قال تعالى:

«إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » .

الثاني: تنطقون به أي تحتجون به حججا دامغة مفحمة لا يستطيع أن يقوم لها خصم معاند أو مبطل جاحد...

الثالث: و تسمعون به أي به تسمعون كلام اللّه و خطاباته لكم و لجميع الناس.

الرابع: «و ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض» يفسر بعضه بعضا و يشرح بعضه بعضا لأن فيه المجمل و المبيّن و العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ و هذا أمر كلي لا يجوز التبعيض فيه «وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً» و لكن لا اختلاف و لا خلاف.

الخامس: «لا يختلف في اللّه» أي ما دل على اللّه و أرشد إليه فكله نسيج واحد متكامل ما دل على صفة لا ينفيها غيرها من الدلالات و هكذا.

السادس: «لا يخالف بصاحبه عن اللّه» أي لا يأخذ بيد من اعتمد عليه إلا إلى اللّه فله وجهة واحدة هي اللّه يأخذ بيد من توجه نحوه إليه.

(قد اصطلحتم على الغل فيما بينكم و نبت المرعى على دمنكم و تصافيتم على حب الآمال و تعاديتم في كسب الأموال، لقد استهام بكم الخبيث و تاه بكم الغرور و اللّه المستعان على نفسي و أنفسكم) هذا ذم لأصحابه و لما تنطوي عليه قلوبهم من أنهم لم ينكروا على بعضهم ما فيهم من الرذائل كالحقد و الحسد و الغش و أما قوله: «و نبت

ص: 395

المرعى على دمنكم» قال الشارح البحراني: يضرب مثلا للمتصالحين في الظاهر مع غل القلوب فيما بينهم و وجه مطابقة المثل أن ذلك الصلح سريع الزوال لا أصل له كما يسرع جفاف النبات في الدمن.

ثم وصفهم بقوله: «و تصافيتم على حب الآمال و تعاديتم في كسب الأموال» الصفاء بينهم قائم على ما يأملون لأن كل ما يأمل الإنسان قد لا يظهره على الآخرين ثم إن الأمل مجرد حالة نفسية لا تؤثر على الآخرين و لا تأخذ من طريقهم شيئا أو تسلبهم أمرا.

بينما تعادوا على كسب الأموال فهذا يعادي ذاك لمعاملة خسر معه فيها أو لأنه لم يربح بها أو لأنه يظن أنه لولاه لنجح في تجارته و لم تبر سلعته و هكذا دواليك.

(لقد استهام بكم الخبيث وتاه بكم الغرور و اللّه المستعان على نفسي و أنفسكم) أي جعلكم الشيطان هائمين متحيرين فأخرجكم من نور الإيمان إلى ظلمات الضلال.

و كذلك قوله: وتاه بكم الغرور أن جعلكم الشيطان الذي هو الغرور جعلكم ضالين تائهين عن الحق و الصواب.

ثم طلب من اللّه أن يعينه على نفسه و على أنفسهم...

ص: 396

134 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد شاوره عمر به الخطاب في الخروج إلى غزو الروم و قد توكّل اللّه لأهل هذا الدّين بإعزاز الحوزة (1)، و ستر العورة (2).

و الّذي نصرهم، و هم قليل لا ينتصرون، و منعهم و هم قليل لا يمتنعون، حيّ لا يموت.

إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك، فتلقهم فتنكب (3)، لا تكن للمسلمين كانفة (4) دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلا محربا (5)، و احفز (6) معه أهل البلاء (7) و النّصيحة، فإن أظهر اللّه (8) فذاك ما تحبّ ، و إن تكن الأخرى، كنت ردأ (9) للنّاس و مثابة (10) للمسلمين.

اللغة

1 - الحوزة: الناحية و حوزة الإسلام حدوده و نواحيه.

2 - العورة: ما يستحى من إبدائها و كشفها، الخلل في ثغر البلاد و غيره يخاف فيه.

3 - تنكب: من النكبة و هي المصيبة.

4 - كانفة: عاصمة و مانعة من كنفه إذا حفظه و آواه.

5 - المحرب: بكسر الأول و سكون الثاني و فتح الثالث صاحب الحرب.

6 - أحفز: أمر من الحفز و هو الدفع و السوق الشديد.

7 - البلاء: الإجادة في العمل و إحسانه و أهل البلاء أهل المهارة في الحرب مع الصدق في القصد.

8 - أظهر اللّه: فلانا على فلان نصره عليه.

9 - الردء: العون و الملجأ.

10 - المثابة: المرجع و المآب.

ص: 397

الشرح

(و قد توكل اللّه لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة و ستر العورة و الذي نصرهم و هم قليل لا ينتصرون و منعهم و هم قليل لا يمتنعون حي لا يموت) أراد عمر بن الخطاب أن يمشي بنفسه لغزو الروم فاستشار الإمام علي عليه السلام فأشار عليه بهذه الكلمات التي تنضح بالنصح لأن فيها قوة الإسلام و عزته و قد كان عليه السلام ينظر إلى من يتولى الأمر من خلال الإسلام و كان كل شغله أن يبقى الإسلام عزيزا كريما محفوظ الجانب و لذا كان ينصح من تقدمه و يهديه إلى مواقع إعزاز الدين و لم يبخل بنصيحة ترفع من شأن الإسلام أو تدفع عنه السوء...

و هذه الكلمات منه في هذا المقام إحدى عينات النصح و أظهر أفراد الحيطة للإسلام و الدفاع عنه و قد قدم لذلك مقدمة رد المخاطب إلى اللّه و ذكره بالأيام الأولى على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و أن اللّه هو الذي تولى لأهل هذا الدين إعزاز دينه بحفظ مواقع المسلمين و ديارهم و ستر عليهم بعض الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها العدو و التي يمكن أن تؤدي إلى خلل أو اضطراب في صفوفهم و أن اللّه الذي نصرهم و هم قلة لا يقدرون على النصر بحسب موازين أهل الأرض و منع عنهم أذى المشركين و هم غير قادرين على أن يمتنعوا منهم إنه حي قادر على أن يكتب النصر لنا و يمنع الأعداء عنا الآن...

(إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث إليهم رجلا محربا و احفز معه أهل البلاء و النصيحة فإن أظهر اللّه فذاك ما تحب و إن تكن الأخرى كنت ردءا للناس و مثابة للمسلمين) إنك يا عمر إن سرت إلى العدو بنفسك و دارت المعركة بيننا و بينهم فأصبت و قتلت لم يبق للمسلمين بعدك عاصم أو ضابط يضبطهم و يهدأ أعصابهم بل إنهم سينهزمون إلى أقصى حدود بلاد الإسلام إذ ليس بعدك خليفة قائم فعلا و لا منصوب الآن فإن شئت النصيحة فابعث رجلا صاحب حرب قد تمرس عليها و خاض غمارها صادقا في نيته مشهود له في وقائعه و ادفع معه أقرانه من أهل الحرب و الأبطال المنظور إليهم شجاعة و قوة و سداد رأي فإن نصر اللّه المسلمين و ظهروا على عدوهم فكانت إرادة اللّه و ما يحبه المسلمون و إن كانت الهزيمة و الانكسار كنت لهم عونا و مرجعا يعودون إليه في تدبير أمورهم و نظم صفوفهم و يبقى هناك من يجتمعون حوله لإعادة الكرة على عدوهم و لا تسقط هيبة المسلمين من أعين الكفار...

ص: 398

135 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد وقعت مشاجرة بينه و بين عثمان فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان:

أنا أكفيكه، فقال علي عليه السلام للمغيرة:

يا بن اللّعين (1) الأبتر (2)، و الشّجرة الّتي لا أصل لها و لا فرع، أنت تكفيني ؟ فو اللّه ما أعزّ اللّه من أنت ناصره، و لا قام من أنت منهضه. اخرج عنّا أبعد اللّه نواك (3)، ثمّ ابلغ جهدك (4)، فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت (5)!.

اللغة

1 - اللعين: الملعون و هو المطرود.

2 - الأبتر: من لا عقب له، المقطوع عن الخير.

3 - النوى: لغة في النأي و هو البعد، و النوى هنا المقصد الذي يقصده المسافر.

4 - الجهد: بالضم الطاقة و بالفتح المشقة.

5 - أبقيت: على فلان إذا راعيته و رحمته.

الشرح

(يا ابن اللعين الأبتر و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع أنت تكفيني ؟ فو اللّه ما أعز اللّه من أنت ناصره و لا قام من أنت منهضه أخرج عنا أبعد اللّه نواك ثم أبلغ جهدك فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت) وقع هذا الكلام من الإمام عليه السلام للمغيرة بن الأخنس الثقفي و قد كان رجلا سفيها بذيئا لئيم النسب و كان أبوه من المنافقين الذين ألّفهم النبي في حياته و قد قتل الإمام في أحد شقيق المغيرة هذا و من هنا كان حاقدا على الإمام و كان المغيرة من شيعة عثمان و أنصاره و لما وقع بين الإمام و بين عثمان بعض الخلاف قال المغيرة

ص: 399

لعثمان: أنا أكفيك عليا فذهب إلى الإمام و أخذ يهدده بسلطان عثمان فأجابه الإمام بهذه الكلمات التي بينت حقيقته و صغّرت شأنه فذكر أصله الخبيث و أن أباه ملعون على لسان رسول اللّه لأنه من المنافقين و كذلك أبتر أي المقطوع عن كل خير أو لأن أولاده لا خير فيهم و من لم يكن في أولاده من الخير شيء فهو أبتر مقطوع لأنه بحكم من لا أولاد له...

ثم وصفه بأنه من شجرة خبيثة ليس لها أصل تثبت عليه و لا فرع تحمل عليه طيب الثمار فأبوه فاسد منافق و هو و من وراءه خبيث نكد...

ثم استفهم مستحقرا له أ أنت تقف في وجهي و تردّ علي كلامي بئس الرجل أنت ثم أقسم عليه السلام أن اللّه لا يعز من نصره هذا الرجل و لا ينهض من كبوة أو تقال عثرة من أراد إنهاضه و الأخذ بيده لأن هذا الرجل ليس للّه في عمله نصيب و لا ينصر أولياء اللّه حتى ينصر اللّه من ينصره هذه.

ثم انتهره و طرده و أمره بالخروج و دعا عليه بأن يبعد اللّه غربته و داره...

و في الختام قال له: اعمل قدرتك و طاقتك و ما في وسعك و لا رحمك اللّه و لا رعاك إن أبقيت عليّ حياتي و رحمتني.

ص: 400

136 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في أمر البيعة لم تكن بيعتكم (1) إيّاي فلتة (2)، و ليس أمري و أمركم واحدا. إنّي أريدكم للّه و أنتم تريدونني لأنفسكم.

أيّها النّاس، أعينوني على أنفسكم، و ايم اللّه (3) لأنصفنّ (4) المظلوم من ظالمه، و لأقودنّ الظّالم بخزامته (5)، حتّى أورده (6) منهل (7) الحقّ و إن كان كارها.

اللغة

1 - البيعة: التولية و عقدها.

2 - الفلتة: الأمر يقع من غير تدبر و لا روية.

3 - أيم اللّه: أقسم باللّه و أحلف به.

4 - لأنصفن: من الإنصاف و هو العدل.

5 - الخزامة: بالكسر حلقة من شعر تجعل في أنف البعير ليشد فيها الزمام و يسهل قياده.

6 - أورده: أحضره الماء للشرب، و الإيراد الإحضار.

7 - المنهل: المشرب.

الشرح

(لم تكن بيعتكم إياي فلتة و ليس أمري و أمركم واحدا إني أريدكم للّه و أنتم تريدونني لأنفسكم) هذا الكلام منه عليه السلام رد على بعض أصحابه الذين يريدون أن

ص: 401

يستفيدوا من خلافته و ينتفعوا من وجوده فقال لهم: لم تكن بيعتكم لي فلتة أي في ساعة صعبة و بدون تفكير منكم و إدراك لما أتولاه و ما أقوم به و ما هو دوري فيها و عملي...

بل كنتم بكامل قواكم العقلية و إدراكاتكم فلذا يجب أن تتحملوا ما أريد و لا أريد إلا الصالح العام...

و هذا الكلام منه تعريض ببيعة أبي بكر التي تمت في ظروف غير اعتيادية اغتنمها أبو بكر لصالحه في غياب و عي المسلمين و عدم تماسكهم و عدم معرفتهم بما يخطط من بعض الناس للخلافة.

ثم أشار إلى المفارقة الصارخة بين ما يريد و ما يريدون... لا جامع مشترك بينه و بينهم بل فرّقت الأهداف بينهم فهو يريدهم للّه في نياتهم و في عملهم و في كل حركات حياتهم و أما هم فيريدونه لأنفسهم، يريدونه لمصالحهم و مآربهم الشخصية... يريدونه من أجل منافعهم و ما يعود عليهم بالفائدة و شتان ما بين الإرادتين.

(أيها الناس أعينوني على أنفسكم و ايم اللّه لأنصفن المظلوم من ظالمه و لأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق و إن كان كارها) خاطبهم و طلب معونتهم على أنفسهم بأن يلتزموا الحدود فيقيموا العدل و الحق و يطبقوا الشريعة بحمل أنفسهم عليها...

ثم أقسم باللّه يمينا صادقة أنه سيأخذ الحق من الظالم للمظلوم قهرا عنه و مهما كان الظالم متعاليا و صاحب قوة فإنه سيذلّله بالحق الذي فرضه اللّه عليه و يقوده إليه حتى يورده إلى الحق و العدل و إن كان كارها للحق و رافضا له...

و هل تجد قائدا في التاريخ متعصبا للحق كعلي ؟ و هل مرّت أمامك كلمات بعمق هذه الكلمات ؟ و هل وقع نظرك على أحرف تحمل ثورة على الظالمين مثل هذه الكلمات..؟.

إنه علي نسيج وحده أحب العدل و ضحى من أجله فعاش عند شهادته في قلوب أصحاب الحق و العدل...

ص: 402

137 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في شأن طلحة و الزبير و في البيعة له

طلحة و الزبير

و اللّه ما أنكروا عليّ منكرا، و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا (1). و إنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه، و دما هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه، فإنّ لهم نصيبهم منه، و إن كانوا ولوه دوني فما الطّلبة (2) إلاّ قبلهم. و إنّ أوّل عدلهم للحكم على أنفسهم. إنّ معي لبصيرتي ما لبست (3) و لا لبس عليّ . و إنّها للفئة (4) الباغية (5) فيها الحمأ (6) و الحمّة (7)، و الشّبهة المغدفة (8)، و إنّ الأمر لواضح، و قد زاح (9) الباطل عن نصابه (10)، و انقطع لسانه عن شغبه (11).

و ايم اللّه لأفرطنّ (12) لهم حوضا أنا ماتحه (13)، لا يصدرون (14) عنه بريّ (15)، و لا يعبّون (16) بعده في حسي (17)!.

أمر البيعة

و منه: فأقبلتم إليّ إقبال العوذ (18) المطافيل (19) على أولادها، تقولون: البيعة البيعة! قبضت كفّي فبسطتموها، و نازعتكم يدي فجاذبتموها. اللّهمّ إنّهما قطعاني و ظلماني، و نكثا (20) بيعتي، و ألّبا (21) النّاس عليّ ، فاحلل ما عقدا، و لا تحكم (22) لهما ما أبرما (23)، و أرهما المساءة فيما أمّلا و عملا. و لقد استثبتهما (24) قبل القتال، و استأنيت (25) بهما أمام الوقاع (26)، فغمطا (27) النّعمة، و ردّا العافية.

ص: 403

اللغة

1 - النصف: محركة الإنصاف و العدل.

2 - الطلبة: بكسر اللام المطلوب.

3 - التلبيس: التخليط و التدليس.

4 - الفئة: الجماعة.

5 - الباغية: المعتدية.

6 - الحمأ: الطين الأسود المنتن و الحما بألف مقصور مطلق القريب و النسيب.

7 - الحمة: العقرب و كل شيء يلسع أو يلدغ.

8 - أغدفت: المرأة قناعها إذا أرسلته على وجهها.

9 - زاح: بعد و ذهب.

10 - النصاب: المرجع و الأصل.

11 - الشغب: تهيج الشر.

12 - لأفرطن: لأملأن و الفرط بالتحريك السبق.

13 - الماتح: المستقي من فوق.

14 - لا يصدرون: عنه لا يرجعون.

15 - الري: الارتواء من الماء.

16 - العب: شرب الماء من غير مص.

17 - الحسي: بفتح الحاء و تكسر سهل من الأرض يستنقع فيه الماء.

18 - العوذ: بضم العين جمع عائذة الحديثات النتاج من النوق أو من كل أنثى.

19 - المطافيل: جمع المطفل و هي ذات الطفل من الأنس و الوحش.

20 - نكث: العهد أو البيع إذا نقضه و نبذه.

21 - التأليب: الإفساد و التحريض.

22 - أحكم: الشيء أتقنه.

23 - أبرم: الأمر أحكمه و الحبل جعله طاقين ثم فتله.

24 - أستثبتهما: طلبت منهما أن يثوبا أي يرجعا.

25 - استأنيت: من الأناة و هي الانتظار.

26 - الوقاع: النزال إلى الحرب.

27 - غمط: النعمة جحدها و حقّرها.

ص: 404

الشرح

(و اللّه ما أنكروا عليّ منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا و أنهم ليطلبون حقا هم تركوه و دما هم سفكوه فإن كنت شريكهم فيه فإن لهم نصيبهم منه و إن كانوا ولوه دوني فما الطلبة إلا قبلهم و أن أول عدلهم للحكم على أنفسهم) هذا الكلام منه رد على طلحة و الزبير اللذين بايعاه ثم نكثا بيعته و حرضا الناس على الخروج عليه و قتاله و فيه توبيخ لهما و لأصحاب الجمل...

أقسم أنهم لم يكن خروجهم عليه و حربهم له لأنه فعل منكرا فأرادوا أن يردعوه عنه أو يردوه عن فعله لأن أفعاله لم يكن بها خلل فهو يقسم بالسوية و يعدل في الرعية و يؤدي حقّ اللّه و الأمة نعم لم يكن خروجهم إلا حبا للدنيا و رغبة فيها و طلبا لحطامها كما أنهم حيث ادعوا أمرا - و هو قتل عثمان - لم يجعلوا بيني و بينهم عدلا ينصف بيننا و يحكم لمن الحق و على من الحق...

ثم بين فساد ما يزعمون بقوله: إنهم يطلبون و هم في البصرة اليوم حقا هم تركوه في المدينة فإن بإمكانهم أن يرفعوا أمرهم إلى ولي الأمر و يتقاضون عنده فيحكم لصاحب الحق بحقه...

و كذلك يطلبون دما هم سفكوه و هذه تهمة بل إنه يحملهم دم عثمان صراحة و يلقي في أعناقهم مسئولية قتله و هذا الأمر يصدقه التاريخ و ما نقل عن طلحة و الزبير في شأن عثمان...

نقل ابن أبي الحديد «في شرحه»(1) و كان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه - على عثمان - و كان الزبير دونه في ذلك...

و قال: روى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب قد استتر به عن أعين الناس يرمي الدار بالسهام.

و رووا أيضا أن الزبير كان يقول: اقتلوه فقد بدل دينكم فقالوا: إن ابنك يحامي عنه بالباب فقال: ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدىء بابني إن عثمان لجيفة على الصراط غدا.

ثم قال عليه السلام: إن كنت شريكهم في دم عثمان - و هو أبرأ خلق اللّه من دمه -

ص: 405


1- شرح ابن أبي الحديد ج 9 ص 36.

فإن لهم نصيبهم منه فلا يجوز و الحالة هذه أن يطلبوا بدمه و هم شركاء فيه...

و أما إذا و لووه دوني فهم المطلوبون دون غيرهم فإذا أرادوا أن يكونوا حكاما عدولا فعليهم أن يبدأوا بأنفسهم فيحاسبوها و يقتصوا منها ثم يعدلوا بعدها إلى من اتهموه و رموه بدم عثمان...

(إن معي لبصيرتي ما لبست و لا لبس علي، و إنها للفئة الباغية فيها الحمأ و الحمة و الشبهة المغدقة و أن الأمر لواضح و قد زاح الباطل عن نصابه و انقطع لسانه عن شغبه) إني على رؤية كاملة من الأمر معي عقلي الذي يهديني إلى الحق ما دلست على أحد من الناس و لا موهت عليهم الأمور كما أنه لا أحد يستطيع أن يموه الأمور عليّ أو يشوشها ثم أشار إلى أنها الفئة الباغية المعهودة التي يترقبها منذ زمن طويل... إنها هي الفئة التي أخبر بها النبي... إنها الفئة الناكثة للبيعة التي ستقاتل عليا و فيها الحمأ و الحمة و الشبهة المغدفة قال الشيخ محمد عبده: المراد بالحما هنا مطلق القريب و النسيب و هو كناية عن الزبير فإنه من قرابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و ابن عمته قالوا: و كان النبي أخبر عليا أنه ستبغي عليه فئة فيها بعض أحمائه و إحدى زوجاته و الحمة بضم ففتح كناية عنها و أصلها الحية أو الإبرة اللاسعة من الهوام و اللّه أعلم... انتهى...

و أراد بالشبهة المغدفة يعني أن شبهة الطلب بدم عثمان شبهة ساترة للحق حيث لم يعلم الناس الحقيقة فساروا مع الناكثين في غفلة عن الحقيقة...

ثم أشار إلى وضوح الأمر بأن هذه الجماعة التي خرجت هي الفئة الناكثة التي سبق الخبر عنها و قد انقلع الباطل من مغرسه فلا أساس لما ادعوا من الباطل كما أن حجتهم خرست و تعطلت عن إثارة الشر و تحريكه لوضوح فساد ما هم عليه و باطل ما يمشون فيه...

(و ايم اللّه لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه لا يصدرون عنه بري و لا يعبون بعده في حسي) أقسم باللّه تهديدا لهم و تخويفا أنه سيملأ لهم حوضا هو نازح مائه لا يرجعون عنه بارتواء كما يرجع من يرد الماء كما أنهم لا يشربون بعده ماء باردا أبدا و هذا كناية عن أنه سيوقدها حربا ضروسا يعقبها قتلهم و هلاكهم ليس هي كسائر الحياض المعهودة التي إذا وردها الظمآن صدر عنها بري بل هم سيصدرون عنها مجزرين لا يشربون الماء البارد بعدها أبدا لأنهم يموتون و لا يبقون...

(فأقبلتم إليّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون: البيعة البيعة، قبضت كفي فبسطتموها و نازعتكم يدي فجاذبتموها) هذه صورة تحكي تعلق الناس بالإمام و رجوعهم

ص: 406

إليه و إجبارهم له على البيعة، لقد أقبلوا في شوق و حب و عطف يريدون مبايعته فكان الإمام يمتنع عن الإجابة و لا يبادر إلى مطالبهم لأنه يعرف الظرف التي تمر به الأمة كما أنه يعرف الساحة التي تحوي الاتجاهات المختلفة و الآراء المتنازعة فلذا كان يمتنع عن قبولها و هم يصرون و أخيرا أمام إلحاح الجماهير و شدة طلبهم و إصرارهم على بيعته استجاب من أجل صالح الإسلام و المسلمين و قبل البيعة و لكن الطبقة المنتفعة أيام حكم عثمان و الأخرى التي تطمع أن يكون لها نصيب في الحكم فوجئت أن عليا لم يجعل لها أي امتيازات زائدة عن أفراد الأمة الآخرين بل أراد أن يرد ما أخذته من أموال و إقطاعيات كان عثمان قد حباها بها بدون حق فمن هنا نقمت عليه و خرجت تحت ستار الطلب بالثأر لعثمان و هي تخفي نواياها و بواعث خروجها...

(اللهم إنهما قطعاني و ظلماني و نكثا بيعتي و ألبا الناس عليّ فاحلل ما عقدا و لا تحكم لهما ما أبرما و أرهما المساءة فيما أملاّ و عملا و لقد استثبتهما قبل القتال و استأنيت بهما أمام الوقاع فغمطا النعمة وردا العافية) شكاهما إلى اللّه بأمور:

أ - إنهما قطعا رحمه حيث إنهما من قريش و خصوصا أن الزبير ابن عمته صفية.

ب - إنهما ظلماه حيث اتهماه بقتل عثمان.

ج - إنهما نكثا بيعته أي نقضاها و أبطلاها.

د - إنهما جمعا الناس على قتاله و أفسدا و دهم نحوه.

ثم دعا عليهما بأن تتفكك عرى الاتفاق الذي تم بينهما و اجتمعا من أجله لقتاله.

و كذلك ما اتفقا عليه و نويا العزم عليه أن لا ينفذ و لا يجري و أن يريا ما يسوؤهما في آمالهما فقد كانت آمالهما أن يربحا الحرب و يتسلما زمام الأمور و قد استجاب اللّه له دعاءه فلم يتحقق من آمالهما أقلها.

و دعاء الإمام عليهما مستجاب فيهما في الدنيا و الآخرة لظلمهما و خروجهما بدون حق و تفكيكهما عرى الوحدة التي لا تزال الأمة تعيش آثارها إلى اليوم...

ثم لشدة حرصه على رجوعهما فقد طلب منهما العودة عن خطئهما قبل القتال و انتظر عليهما طويلا قبل وقوع المعركة لكنهما جحدا هذه النعمة و رفضا العودة بالسلامة و وقف الحرب بل أرادوها حربا تقضي على الحرث و النسل و تزرع اسفينا في جسد الأمة تجرأ من بعدهما معاوية أن ينازع الحق أهله...

ص: 407

138 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

يومئ فيها إلى ذكر الملاحم يعطف (1) الهوى (2) على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، و يعطف الرّأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرّأي.

و منها: حتّى تقوم الحرب بكم على ساق (3)، باديا (4) نواجذها (5)، مملوءة أخلافها (6)، حلوا رضاعها، علقما (7) عاقبتهما. ألا و في غد - و سيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمّالها على مساوىء أعمالها، و تخرج له الأرض أفاليذ (8) كبدها، و تلقي إليه سلما مقاليدها (9)، فيريكم كيف عدل السّيرة، و يحيي ميّت الكتاب و السّنّة.

منها: كأنّي به قد نعق (10) بالشّام، و فحص (11) براياته في ضواحي كوفان (12)، فعطف (13) عليها عطف الضّروس (14)، و فرش الأرض بالرّؤوس. قد فغرت فاغرته (15)، و ثقلت في الأرض وطأته (16)، بعيد الجولة، عظيم الصّولة (17). و اللّه ليشرّدنّكم (18) في أطراف الأرض حتّى لا يبقى منكم إلاّ قليل، كالكحل (19) في العين، فلا تزالون كذلك، حتّى تؤوب (20) إلى العرب عوازب (21) أحلامها! فالزموا السّنن (22) القائمة، و الآثار البيّنة، و العهد القريب الّذي عليه باقي النّبوّة. و اعلموا أنّ الشّيطان إنّما يسنّي (23) لكم طرقه لتتّبعوا عقبه (24).

ص: 408

اللغة

1 - يعطف: يميل.

2 - الهوى: ما ترغب فيه النفس من الباطل.

3 - الساق: ما بين الركبة و القدم و الساق أيضا الشدة.

4 - باديا: من بدى إذا ظهر.

5 - النواجذ: أقصى الأضراس.

6 - الأخلاف: للناقة حلمات الضرع.

7 - العلقم: الحنظل.

8 - أفاليذ: جمع أفلاذ و هو جمع فلذ و هي القطعة من الكبد أو القطعة من الفضة و الذهب.

9 - المقاليد: المفاتيح.

10 - نعق: صاح.

11 - فحص: بحث.

12 - كوفان: الكوفة البلدة المعروفة في العراق اتخذها الإمام علي عاصمة لحكمه.

13 - العطف: الميل و الاعوجاج.

14 - الضروس: الناقة السيئة الخلق تعض حالبها.

15 - فغرت فاغرته: انفتح فمه.

16 - الوطأة: الشدة.

17 - الصولة: الوثبة و السطو على الشيء و قهره.

18 - ليشردنكم: ليفرقنكم و شرد البعير ندّ و نفر.

19 - الكحل: الأثمد حجر يسحق حتى يدق ثم يذر في العين للشفاء أو للزينة.

20 - تؤوب: ترجع و تعود.

21 - عوازب: أحلامها غائبات عقولها.

22 - السنن: من الطريق نهجه و جهته و معظمه.

23 - يسنى: يسهل.

24 - العقب: مؤخر القدم.

الشرح

(يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى و يعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي) هذه الخطبة فيها ذكر الملاحم و هي الأمور التي ستجري

ص: 409

على الأمة و ما يمر عليها من غرائب الحوادث و ابتدأ بذكر الإمام المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و جاءت عنه الأخبار بظهوره في آخر الزمان و قد ثبت أنه الإمام محمد بن الحسن العسكري الذي هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت و من خصوصياته أنه يجعل الهوى و ما ترغب فيه النفس تابعا للهدى و الحق الذي يريده اللّه و إن كان غيره من أئمة الضلال على عكس ذلك حيث يعطفون الهدى على الهوى أي يجعلون الهدى تابعا لأهوائهم و شهواتهم و بعبارة أخرى أئمة الضلال يطوعون الحق و ينحرفون به حتى يوافق هواهم بينما هو يطوع هواه نحو الحق و يجعل الحق متبوعا و هو تابع...

و كذلك يحمل رأيه ليوافق القرآن في وقت يحمل غيره القرآن على رأيه...

(حتى تقوم الحرب بكم على ساق باديا نواجذها مملؤة أخلافها حلوا رضاعها علقما عاقبتها) و هذا إخبار عن حرب تقع بعد زمانه إنها حرب شديدة قاسية و لقساوتها كشرت عن أنيابها كما يكشّر الأسد إذا غضب و أكد شدتها بأنها جاهزة بعتادها و رجالها... و إنها في أولها تكون مرغوبة لأنها تشفي القلوب و لما فيها من المغانم و لكن في آخرها تكون قتلا و هلاكا و إتلافا للمال و خرابا للدار...

(ألا و في غد - و سيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوىء أعمالها و تخرج له الأرض أفاليذ كبدها و تلقي إليه سلما مقاليدها فيريكم كيف عدل السيرة و يحيي ميت الكتاب و السنة) هذا إخبار عما يحمل الغد و أكده بذكر الغد أيضا لبركته و عظمة ما يجري فيه... إنها إخبار بذكر بعض صفات الإمام المهدي و أعماله و ما يقوم به... إنه سيخالف ما عليه ملوك الدنيا و ما يقومون به... إنه من غير أولئك الملوك الذين تعهدهم البشرية و من صفاته أنه يحاسب الأمراء و الولاة و أصحاب المسئولية عن كل عمل سيء يقومون به فليس في دولته جور و من جار و ظلم حوسب و عوقب...

و في زمانه لعدله تخرج له الأرض ما فيها من خيرات فتشقق و تخرج كنوزها و ما فيها... و كذلك يعطى مفاتيح الأرض فكل الحكام و الملوك يذعنون له و يستقبلونه لما يرون من عدله و قوته و سيفه.

و في أيام حكمه يريكم كيف تكون الطريق العادلة في الحكم في الرعية و في كل مجالات الحياة و أشواطها و عندها يحي تعاليم القرآن و السنة التي أجهز عليها الظالمون فعطلوها و منعوها من أن تحكم الحياة... إن الإمام المهدي يحكم بالقرآن و السنة و هذا هو إحياء لهما و أما الظالمون فإنهم عطلوا الحكم بهما فأماتوهما...

ص: 410

(كأني به قد نعق بالشام و فحص براياته في ضواحي كوفان فعطف عليها عطف الضروس و فرش الأرض بالرءوس قد فغرت فاغرته و ثقلت في الأرض وطأته بعيد الجولة عظيم الصولة) قال شراح النهج و على رأسهم ابن أبي الحديد: إنه عليه السلام يقصد بكلامه هذا عبد الملك بن مروان فقد ظهر بالشام و وجه جنده لقتال مصعب بن الزبير و ابن الأشعث في العراق و كانت وقائع و أحداث عظيمة سجلها التاريخ و على كل حال هذا إخبار منه بظهور هذا الرجل الذي يخرج من الشام و يتحرك حتى يدخل نواحي الكوفة و أطرافها و يتعامل مع تلك الضواحي بالقسوة و الشدة و لكثرة قتله و إجرامه يفرش الأرض و يبسطها بالرءوس كناية عن كثرة ما يقتل من الخلق... إنه لحنقه و شدته و قساوته و شدة غضبه كالذئب المفترس الذي انتفخت أشداقه من شدة الغضب و أما شدته و قهره فقد ازداد و اشتد...

ثم وصفه بأنه بعيد الجولة أي تطواف خيوله و جيوشه في البلاد لامتدادها و سعتها و أما صولته أي جرأته و إقدامه على أعدائه فهي عظيمة كبيرة...

(و اللّه ليشردنكم في أطراف الأرض حتى لا يبقى منكم إلا قليل كالكحل في العين فلا تزالون كذلك حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها) لما ذكر صفات ذلك الشخص الذي يخرج في الشام أقسم على وقوع ما سيلحقهم منه و ينالهم من حكمه أنه سيفرقهم في أطراف الأرض و يشتت شملهم و يقضي على وجودهم حتى لا يبقى منهم إلا أثر يدل عليهم فحسب و لذا شبههم ببقايا الكحل في العين و الكحل لا يبقى إلا أثره يدلّ عليه و كذلك هم لا يبقى منهم إلا قلة قليلة و سيبقون كذلك في تشريد و تغريب و تهجير حتى تعود العرب و ترجع إلى عقولها فعندها تفكر في التخلص منه و الإطاحة به و الراحة من وجوده و هذا يدل على أن من ملك الفكر المستقيم و استعمله استطاع أن يتخلص من مشاكله مهما كانت كبيرة شرط العمل بعد العلم...

(فالزموا السنن القائمة و الآثار البينة و العهد القريب الذي عليه باقي النبوة. و اعلموا أن الشيطان إنما يسني لكم طرقه لتتبعوا عقبه) أمرهم بأن يقتفوا الطرق الواضحة و الآثار الظاهرة و ما هو عليه فإنه أقرب ما يكون إلى النبوة.. و آثارها فيه بادية ظاهرة بل هو امتداد لها و أعظم معالمها و أرفع آثارها.

و أخيرا حذرهم الشيطان الذي يسهل لهم المعاصي و يرغبهم فيها ليتبعوا أثره و يسيروا خلفه في التمرد و العصيان...

ص: 411

139 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في وقت الشورى لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ ، و صلة رحم (1)، و عائدة (2) كرم.

فاسمعوا قولي، وعوا (3) منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى (4) فيه السّيوف، و تخان فيه العهود، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة، و شيعة لأهل الجهالة.

اللغة

1 - الرحم: في الأصل مكان نشأة الجنين في بطن الأم و المقصود هنا القرابة.

2 - العائدة: الصلة و المعروف و المنفعة.

3 - وعوا: أمر مفرده ع من وعى الحديث إذا حفظه و تدبره.

4 - تنتضى: تسل.

الشرح

(لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق و صلة رحم و عائدة كرم فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السيوف و تخان فيه العهود حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة و شيعة لأهل الجهالة) هذا الكلام منه عليه السلام كان لأهل الشورى بعد أن طعن عمر و مات ذكرّهم ببعض فضائله لعلهم إلى الحق يلتفتون و إليه ينظرون.

ذكّرهم أنه أول من يستجيب لدعوة الحق و أول سابق لها و هذا يثبت أنه على الحق من جهة و أن غيره إذا فارقه كان على الباطل.

ص: 412

و كذلك هو الوصول للرحم مهما كانت قاطعة له كما أنه صاحب المعروف و الكرم و يدل على هذا أن آية الإطعام نزلت فيه و في زوجته و أولاده حيث تصدق على المسكين و اليتيم و الأسير.

ثم بعد هذا دخل في صلب الموضوع فأمرهم بالاستماع له و فهم ما يقول لأنه باب الخير و المدخل إلى حقن الدماء و حفظ النفوس و لو أن شورى عمر اختارت عليا لما وقع المسلمون فيما وقعوا فيه و لما سقط عثمان بأيدي المسلمين و لم يكن معاوية ينازع عليا حقه و في النهاية لم يكن ليذهب الإمام شهيد هذه الشورى المشئومة.

دعاهم أن يفهموا ما يقول و أنهم إن لم ينتخبوه فإن السيوف ستسل في وجه عثمان و تخان العهود التي أعطيت لهذا الحاكم حتى يكون بعض أعضاء هذه الشورى أئمة لأهل الضلالة و شيعة لأهل الجهالة و قد تولى الزبير و طلحة قيادة الثورة ضد عثمان و كان كل واحد منهما يطمع فيها لنفسه و كان كلما هدأت الثورة و خفّت النقمة أثارا الناس ضد عثمان و ذكّرا المسلمين بقبائح أعماله و تصرفاته و قد سجل التاريخ دورهما في الإجهاز عليه و قتله...

ص: 413

140 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في النهي عن غيبة الناس و إنّما ينبغي لأهل العصمة (1) و المصنوع (2) إليهم في السّلامة أن يرحموا أهل الذّنوب و المعصية، و يكون الشّكر هو الغالب عليهم، و الحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الّذي عاب أخاه و عيّره (3) ببلواه (4)! أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب الّذي عابه به! و كيف يذمّه بذنب قد ركب مثله! فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه فيما سواه، ممّا هو أعظم منه. و ايم اللّه لئن لم يكن عصاه في الكبير، و عصاه في الصّغير، لجراءته على عيب النّاس أكبر!.

يا عبد اللّه، لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعلّه مغفور له، و لا تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلّك معذّب عليه. فليكفف (5) من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، و ليكن الشّكر شاغلا له على معافاته (6) ممّا ابتلي به غيره.

اللغة

1 - العصمة: المنع، ملكة اجتناب المعاصي أو الخطأ.

2 - المصنوع إليهم: من الصنيعة و هي الإحسان.

3 - عيّره: بكذا ذكر عيوبه استهانة به.

4 - البلوى: المصيبة.

ص: 414

5 - فليكفف: من كف إذا امتنع.

6 - عافاه اللّه: وهب له العافية من العلل و الأسقام.

الشرح

(و إنما ينبغي لأهل العصمة و المصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب و المعصية و يكون الشكر هو الغالب عليهم و الحاجز لهم عنهم) هذا الكلام منه عليه السلام في النهي عن غيبة الناس كما قال الشريف و ابتدأ بهذه الالتفاتة الكريمة و الدقيقة إلى أهل التقى و الإحسان الذين توفقوا للطاعة و ساروا في طريق الاستقامة إلى أنه ينبغي عليهم و هم في هذا التوفيق الإلهي أن يرحموا أهل الذنوب و المعصية و رحمتهم تتجلى في وعظهم و إرشادهم بالحسنى و الأخذ بأيديهم لما فيه صلاحهم و يكون شكرهم للّه على هذا التوفيق الذي هم فيه دائما و مستمرا و في غالب أوقاتهم فلا تشغلهم الدنيا و زينتها و ما فيها عن هذا الشكر كما أن هذا الشكر للّه يكون هو الحاجز لهم عن أولئك العصاة الذين ارتكبوا المعصية و تعدوا حدود اللّه بأن ينظروا إلى أنفسهم و إلى أولئك العصاة فيدفعهم ذلك إلى شكر اللّه فلا يخوضون في أكل لحم العصاة و غيبتهم...

(فكيف بالعائب الذي عاب أخاه و عيّره ببلواه أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به و كيف يذمه بذنب قد ركب مثله! فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى اللّه فيما سواه مما هو أعظم منه و ايم اللّه لئن لم يكن عصاه في الكبير و عصاه في الصغير لجرأته على عيب الناس أكبر) بعد أن ذكر حال أهل السلامة و التقى و كيف يجب أن يتعاملوا مع أهل الذنوب و المعصية و لا يغتابوا أحدا منهم قال:

إذا كان هذا هو حال أهل التقى فكيف - و هذا استفهام تعجب و إنكار - حال أهل المعصية و ما ذا يجب أن يعملوا نحو أهل المعصية أمثالهم أما يذكر هذا موضع ستر اللّه عليه فإن اللّه لم يفضحه و لم يكشف عيوبه للناس و هذه كريمة تستحق الشكر و من حق هذا المبتلى أن لا يعيب أخاه و يعيّره بذنب ارتكبه.

ثم قسّم المذنبين إلى ثلاث أصناف:

1 - صنف ارتكب نفس هذا الذنب الذي ارتكبه هذا المذنب و هذا لا يجوز له في منطق العقل أن يذم من ارتكب هذا الذنب لأنه و إياه شركاء في نفس الجريمة فليذم نفسه أولا قبل أن يذم غيره...

2 - الصنف الثاني أنه لم يرتكب نفس الذنب الذي ارتكبه المذنب و لكنه ارتكب

ص: 415

غيره مما هو أعظم منه و هذا أولى بذم نفسه و الكف عن غيره لأن جرمه أكبر و أعظم.

3 - الصنف الثالث أنه ارتكب ذنبا أصغر مما ارتكبه غيره و لكن تجرأ عليه بالغيبة و هذا و إن كان ذنبه أصغر و لكن غيبته هذه فيها جرأة عظيمة على المعصية و هذه الجرأة على عيب الناس أكبر من كل كبيرة من حيث إقدامه على أمر يعلم ضرره الاجتماعي و يعلم أنه معصية يجب الاجتناب عنها...

(يا عبد اللّه لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعله مغفور له و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه و ليكن الشكر شاغلا له على معافاته مما ابتلي به غيره) نبّه و نهى أن يسرع الرجل في عيب أحد لذنب ارتكبه و بيّن هذا الاحتمال الذي يجري و يمكن أن يجري إذ لعل هذا الذنب من هذا الرجل مغفور له لأمر من الأمور التي لا نعلمها كأن يكون قد تاب و أناب أو تداركه بأمر يغفره و لكن فلينظر هذا الرجل إلى ما ارتكب من معصية و لو كانت صغيرة فلعلها لا تغفر و لا تأمن نفسك من عقابها و هذا أمر محتمل يجري في كل واحد منا فلعل ذنوبنا نعاقب عليها و إن كانت صغيرة و ذنوب غيرنا مغفورة و إن كانت كبيرة و هذه طريقة تربوبية رائعة ترد هذه النفس الجامحة إلى موقعها و تبلغ بها موطنها و تحسسها بعظيم معصيتها فتكف عن ذنوب الغير و تشتغل بذنوبها...

ثم أمرهم أن يكف كل واحد عن عيوب الناس لما يعلم من عيوب نفسه فيشتغل بعيوبه و يتوب منها و يصلحها و يترك غيره و شأنه دون أن يعيره بها أو يذمه عليها.

و ليجعل الشكر شغلا شاغلا له على هذه النعمة التي عصمته عن المعصية التي ارتكبها غيره، فعافيته عن المعصية التي ارتكبها غيره تحتاج إلى شكر فليشغل نفسه بهذا الشكر ...

ص: 416

141 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في النهي عن سماع الغيبة و في الفرق بين الحق و الباطل أيّها النّاس، من عرف من أخيه وثيقة (1) دين و سداد (2) طريق، فلا يسمعنّ فيه أقاويل (3) الرّجال. أما إنّه قد يرمي الرّامي، و تخطىء السّهام، و يحيل (4) الكلام، و باطل ذلك يبور (5)، و اللّه سميع و شهيد. أما إنّه ليس بين الحقّ و الباطل إلاّ أربع أصابع.

فسئل، عليه السلام، عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه و وضعها بين أذنه و عينه ثم قال:

الباطل أن تقول سمعت، و الحقّ أن تقول رأيت!.

اللغة

1 - الوثيقة: جمعها وثائق ما يعتمد به، الأحكام في الأمر.

2 - السداد: بالفتح الصواب من القول و الفعل.

3 - الأقاويل: جمع أقوال و هو جمع قول الكلام.

4 - يحيل: يستحيل.

5 - يبور: يهلك و يفسد.

الشرح

(أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين و سداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال أما أنه قد يرمي الرامي و تخطىء السهام و يحيل الكلام و باطل ذلك يبور و اللّه سميع شهيد أما أنه ليس بين الحق و الباطل إلا أربع أصابع) فسئل عليه السلام عن معنى

ص: 417

قوله هذا فجمع أصابعه و وضعها بين أذنه و عينه و قال:

(الباطل أن تقول سمعت و الحق أن تقول رأيت) هذا الكلام منه عليه السلام نهي عن التسرع و العجلة في قبول ما يحكى عن الأخ صاحب العقيدة الصحيحة في الدين و الاستقامة في السلوك فلا ينقض هذا اليقين بما نقلته إليه ألسنة بعض الناس إذا ربما أشاع الإعلام المغرض أمرا على هذا الأخ بقصد تشويه سمعته و الحط من مكانته و هذا في زماننا ما أكثره فأنت تعرف شخصا تعيش معه... تعرفه عن قرب بالتدين و الالتزام كما تعرفه بالاستقامة و السلوك الجيد فيأتي المغرضون و أصحاب الأهواء و من في قلوبهم مرض يريدون تشويه سمعته فينقلون عنه أخبارا لا أصل لها و لا أساس فيروح السامع لها يفكر فيها و في مقدار صحتها و قد تؤثر في نفسه و إذا تكررت قد توجب التصديق الذي أساسه الكذب و النفاق من هذا الناقل و لذا ينهى الإمام أن يستمع الرجل إلى أقاويل الرجال إذا عرف من أخيه عقيدة صحيحة و التزاما شرعيا مستقيما...

ثم ضرب لذلك مثلا فقال: قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض و تخطىء السهام و يحيل الكلام فإن المتكلم قد يرمي هذا الأخ بعيب و هو ليس فيه فيكون كلامه غير مطابق للواقع و لا مصيب كالسهم الذي يرمى فلا يصيب الغرض و يكون الكلام باطلا و لا حقيقة له.

ثم أردف هذا بالتهديد لما ينال من يشوّه سمعة الناس و أن هذا الباطل من الكلام يفسد و يبطل أمام اللّه و اللّه يسمع و يرى و يحاسب على الأمور فيثيب على الحسنة و يعاقب على السيئة...

ثم بين الميزان الذي يفرق بين الحق و الباطل فقال: أما إنه ليس بين الحق و الباطل إلا أربع أصابع و لما لم يعرف السامع ما المراد بالأربع أصابع استفهم منه فما كان منه عليه السلام إلا أن جمع أصابعه و وضعها بين أذنه و عينه ثم قال: الباطل أن تقول:

سمعت و الحق أن تقول رأيت و ذلك لأن الرؤية مشاهدة فعلية يقل فيها الخطأ بينما السماع قد يكون عن الكاذب و المغرض و من في قلبه مرض و من يحب تشويش الحقيقة أو كما يقال و ما آفة الأخبار إلا رواتها و هكذا دواليك...

ص: 418

142 - و من كلام له عليه السلام

المعروف في غير أهله

و ليس لواضع المعروف (1) في غير حقّه، و عند غير أهله، من الحظّ (2) فيما أتى إلاّ محمدة (3) اللّئام (4)، و ثناء الأشرار، و مقالة الجهّال، ما دام منعما عليهم: ما أجود يده! و هو عن ذات اللّه بخيل!.

مواضع المعروف

فمن آتاه اللّه مالا فليصل به القرابة، و ليحسن منه الضّيافة، و ليفكّ به الأسير و العاني (5)، و ليعط منه الفقير و الغارم (6)، و ليصبر نفسه (7) على الحقوق و النّوائب (8)، ابتغاء الثّواب، فإنّ فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدّنيا، و درك (9) فضائل الآخرة، إن شاء اللّه.

اللغة

1 - المعروف: الرزق، الخير، الإحسان.

2 - الحظ: النصيب.

3 - المحمدة: نقيض المذمة.

4 - اللئام: جمع لئيم خلاف الكريم الدنىء الأصل، المهان - الشحيح النفس.

5 - العاني: هو الأسير.

6 - الغارم: من عليه الديون.

7 - صبر نفسه: حبسها.

8 - النوائب: جمع النائبة النازلة التي تنوب على الإنسان و تنزل عليه.

9 - الدرك: الإصابة.

ص: 419

الشرح

(و ليس لواضع المعروف في غير حقه و عند غير أهله من الحظ فيما أتى إلا محمدة اللئام و ثناء الاشرار و مقالة الجهال ما دام منعما عليهم: ما أجود يده و هو عن ذات اللّه بخيل) هذا الكلام منه وارد في معرض ذم الواضع للمعروف في غير أهله كما أن فيه تعليم لبعض المواضع التي يجب أن يكون فيها...

ذكر أولا أنه ليس لواضع المعروف - و هو المال - و إن كان بحسب المفهوم أعم - في غير أهله و لغير مستحقه ليس له من النصيب و الحظ إلا ما يحمده عليه شرار الناس و سفلتهم و اراذلهم ليس له عندهم ما دام منعما عليهم إلا قولهم له ما أجود يده و إن كان في طاعة اللّه و التقرب إليه بخيل حيث لا يصرف شيئا على عباد اللّه و خلقه...

و من الجهل أن يتصرف بعض الناس بدافع المدح له و الثناء فيبذل ماله و يعطيه لغير المستحق رجاء أن ينشروا عنه إنه كريم جواد و إنهم لخساستهم و دناءة احسابهم لا يحفظون الجميل و لا يرعون الحقوق فهم معه السنة مدح و نشر و ثناء طالما يده تعطيهم و تغدق عليهم فإذا توقفت توقفوا عن ذكره و الثناء عليه بل ربما حملوا عليه و ذكروه بالقبيح لتوقف احسانه إليهم و هذا من سوء حظه و تعاسة وقته و قلة عقله و تدبيره... إنه أراد أن يتاجر مع الاشرار فلم و لن تربح تجارته و لن يدرك امنيته و لو كان يتقرب إلى اللّه بعمله و يقصد أهل الحاجة في عطائه لكانت تجارته رابحة في الدنيا و لآخرة...

و بعد هذا ذكر الإمام مواضع المعروف و إنه يجب على من أنعم اللّه عليه و أعطاه أن يضع المعروف فيها.

1 - يصل قرابته قال تعالى: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ » .

2 - أن يحسن فيه الضيافة فإذا نزل به أحد أكرمه و أحسن إليه بتقديم الضيافة.

3 - يفك به الأسير و العاني و هما شيء واحد مع اختلاف اللفظ.

4 - و ليعط منه الفقير المحتاج و الغارم و هو المديون الذي يعجز عن وفاء دينه.

5 - أن يحبس نفسه و يجبرها على دفع الحقوق المتوجبة عليه من خمس و زكاة و من إنسان يقصده في دفع فدية أو دفع دية أو غير ذلك، فإنه إذا قام بذلك بدافع

ص: 420

القرب من اللّه و طلب رضاه فإنه في ذلك يحصل على شرف المكارم في الدنيا و يحصل على أعلى منازل الآخرة.

و بعبارة مختصرة: إن من يضع أمواله في هذه الجهات مع نية القربة للّه فأنه يدرك الغايتين ففي الدنيا ينال العز و الكرامة و الشهرة و يسوق اللّه له من يحمل اسمه في الآفاق و ينشر فضله في الأمصار و أما في الآخرة فينال الكرامة و يدخل دار السلام...

ص: 421

143 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في الاستسقاء و فيه تنبيه العباد إلى وجوب استغاثة رحمة اللّه إذا حبس عنهم رحمة المطر ألا و إنّ الأرض الّتي تقلّكم (1)، و السّماء الّتي تظلّكم (2)، مطيعتان لربّكم، و ما أصبحتا تجودان (3) لكم ببركتهما توجّعا (4) لكم، و لا زلفة (5) إليكم، و لا لخير ترجوانه منكم، و لكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، و أقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا.

إنّ اللّه يبتلي (6) عباده عند الأعمال السّيّئة بنقص الثّمرات، و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، و يقلع (7) مقلع، و يتذكّر متذكّر، و يزدجر مزدجر. و قد جعل اللّه سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرّزق و رحمة الخلق، فقال سبحانه: «اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً» . فرحم اللّه أمرا استقبل توبته، و استقال (9) خطيئته، و بادر (10) منيّته (11)!.

اللّهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار و الأكنان (12)، و بعد عجيج (13) البهائم و الولدان، راغبين في رحمتك، و راجين فضل نعمتك، و خائفين من عذابك و نقمتك (14). اللّهمّ فاسقنا غيثك (15) و لا تجعلنا من القانطين (16) و لا

ص: 422

تهلكنا بالسّنين (17)، «و لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا»، يا أرحم الرّاحمين.

اللّهمّ إنّا خرجنا إليك نشكوا إليك ما لا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق (18) الوعرة (19)، و أجاءتنا (20) المقاحط (21) المجدبة (22)، و أعيتنا (23) المطالب المتعسّرة، و تلاحمت (24) علينا الفتن المستصعبة.

اللّهمّ إنّا نسألك ألاّ تردّنا خائبين، و لا تقلبنا واجمين (25). و لا تخاطبنا بذنوبنا، و لا تقايسنا بأعمالنا. اللّهمّ أنشر علينا غيثك و بركتك، و رزقك و رحمتك، و اسقنا سقيا (26) ناقعة مروية معشبة، تنبت بها ما قد فات، و تحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا (27)، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان (28)، و تسيل البطنان (29)، و تستورق الأشجار، و ترخص (30) الأسعار، «إنّك على ما تشاء قدير».

اللغة

1 - تقلكم: تحملكم.

2 - تظلكم: تعلوكم.

3 - تجود: تعطي و تبذل.

4 - توجع: تألم.

5 - الزلفة: القربة.

6 - يبتلي: يختبر.

7 - أقلع: عن الأمر تركه.

8 - مدرارا: غزيرا متدافعا.

9 - استقال: خطيئته طلب اقالته منه أي اعفاؤه منها.

10 - بادر: اسرع.

11 - المنية: الموت.

12 - الاكنان: جمع كن ما يستر من الحر و البرد.

13 - العجيج: الصياح و رفع الصوت.

14 - النقمة: الانتقام المكافأة بالعقوبة.

ص: 423

15 - الغيث: المطر.

16 - القانطين: من قنط أي يئس.

17 - السنين: جمع سنة القحط و الجدب.

18 - المضايق: جمع المضيق و هو ما ضاق من الأمور.

19 - الوعرة: ضد السهلة و المضايق الوعرة الصعبة.

20 - ألجأتنا: أ جاءتنا.

21 - المقاحط: جمع مقحطة و هي السنة الممحلة.

22 - المجدبة: من الجدب و هو القحط.

23 - أعيتنا: اعجزتنا.

24 - تلاحمت: اتصلت.

25 - الواجم: الذي اشتد حزنه حتى امتنع عن الكلام.

26 - السقيا: الغيث.

27 - الحيا: المطر.

28 - القيعان: جمع قاع و هو الفلاة أو الأرض السهلة المطمئنة.

29 - البطنان: جمع بطن المنخفض من الأرض أو الغامض منها.

30 - الرخص: ضد الغلاء.

الشرح

(ألا و إن الأرض التي تقلكم و السماء التي تظلكم مطيعتان لربكم و ما اصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجعا لكم و لا زلفة إليكم و لا لخير ترجوانه منكم و لكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا و اقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا) هذه الخطبة من خطب الاستسقاء و قدّم لها مقدمة تناولت موعظة الناس بالتوبة و الإنابة و الانقطاع للّه و كذلك يذكر الأرض و السماء و إنهما تسيران وفق إرادة اللّه و حكمته فهو الذي رسم لهما طريقهما لا تتخلفان عنه و لا تخالفان منه فهما تحت إرادة اللّه و لم يكن ما تعطيان لكم من خيرات و بركات توجعا و تألما عليكم و لم يكن ذلك أيضا لتتقربا منكم و لا لأجل خير مرجو منكم و إنما الأمر التكويني لهما بأن تكونا في صالحكم و من أجل منافعكم فكانتا كذلك.

و بعبارة أخرى مختصرة أن الأرض و السماء ترتب أمرهما بحسب الإرادة الإلهية من أجل منافعكم و مصالحكم و إنهما لم يخرجا عما رسم لهما فهما حسب التصميم الإلهي و الإرادة الربانية. و إذا كانتا كذلك فيجب التوجه إلى اللّه من كل فرد فى الجتمع

ص: 424

ان يتوجه لما أراد اللّه منه و لا يخرج عن أمره و إرادته.

(إن اللّه يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات و حبس البركات و اغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب و يقلع مقلع و يتذكر متذكر و يزدجر مزدجر و قد جعل اللّه سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق و رحمة الخلق فقال سبحانه: «اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً» فرحم اللّه امرأ استقبل توبته و استقال خطيئته و بادر منيته) ذكر عليه السلام أن اللّه يبتلي عباده عند ارتكابهم للمعاصي بتضييق الارزاق عليهم و حبس مطر السماء عنهم و اقفال أبواب العطايا و الخيرات فلا تصل إليهم و هذا منه تأديب لهم ليعودوا إليه و يرجعوا إلى الطريقة المستقيمة فيتركوا المعاصي و يهجروا الخطايا و يلتفتوا إليه سبحانه، فهذه الابتلاءات إنما كانت لصالحهم لعلهم يرجعون إلى رحابه...

ثم علمهم أن اللّه يقبل عودتهم و يبدل سيئات أحوالهم الدنيوية إلى أحسن حال إذا طرقوا أبواب الاستغفار و استعملوا هذه الوصفة الإلهية التي تفتح عليهم خيرات السماء و بركات الأرض... إنه الاستغفار الذي يتضمن التوبة و العودة إلى رحاب اللّه و التوجه إليه بقلب مملوء بالإيمان به و الثقه بجوده...

الاستغفار الذي تغفر به الذنوب...

الاستغفار الذي يدر المطر...

الاستغفار الذي يفتح أبواب الرزق.

الاستغفار الذي يزيد في البنين.

إنها زينة الدنيا و ثمراتها يجنيها المستغفر للّه التائب من ذنبه الراجع إلى رحاب قدسه...

ثم دعا لهذا الإنسان بل دعاه إلى امتثال هذا الأمر فرحم اللّه من واجه توبته بصدق و اخلاص فكان صادقا فيها مجددا و مستأنفا لها في كل حين و كذلك رحم اللّه من طلب إقالة خطيئته أي العفو عنها لما يلحقه من عقابها.

و كذلك رحم اللّه من بادر إلى التوبة و العودة إلى اللّه قبل أن يسبقه الموت فيعجز و يؤاخذ بما كسب...

(اللهم إنا خرجنا إليك من تحت الاستار و الأكنان و بعد عجيج البهائم و الولدان

ص: 425

راغبين في رحمتك و راجين فضل نعمتك و خائفين من عذابك و نقمتك) ذكر عليه السلام سوء الأحوال و تعاسة ما هم فيه.. إنها شكوى فقر حال بما هم عليه و اللّه يعلمها و لكن زيادة استرحام و استعطاف.

اللهم إنا خرجنا إليك نطلبك و نطلب رحمتك خرجنا إليك من بيوتنا التي تسترنا و التي لا يخرج منها إلا لضرورة و كذلك أنت يا رب ترى أصوات البهائم و الأطفال كيف تستصرخ و تطلب من جودك راغبة في عطائك و كرمك و راجية فضل نعمتك... إننا في خوف من عذابك و عقابك فإن لم ترحمنا هلكنا...

(اللهم فاسقنا غيثك و لا تجعلنا من القانطين و لا تهلكنا بالسنين و لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا يا أرحم الراحمين) اللهم يا رب أنزل علينا مطرك لنشرب نحن و مواشينا و لا تجعلنا في يأس من رحمتك و لا تهلكنا بالقحط و الجدب و لا تعاقبنا بما فعل السفهاء منا الذين تجاوزوا حدودك و تعدوها و لم يرجعوا إلى رحابك أو يتوبوا من معصيتك فإنك أرحم الراحمين.

(اللهم إنا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضايق الوعرة و أ جاءتنا المقاحط المجدية و اعيتنا المطالب المتعسرة و تلاحمت علينا الفتن المستصعبة) اللهم إنا خرجنا إليك من ذنوبنا و توجهنا إليك قاصدين كرمك.. خرجنا إليك لا إلى سواك.. خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك من سواء حالنا و قصر ذات يدنا و قلة حيلتنا.

خرجنا إليك حين انسدت الطرق و ضاقت المسالك و لم تنفع الوسائل لصعوبتها و عسرها...

خرجنا إليك حين دفعتنا الأزمنة القاحلة المجدبة التي أكلت الزرع و ايبست الضرع و أتت على كل ذات حياة.

جئنا إليك حين اعجزتنا المطالب الصعبة و تلاحقت علينا الفتن من الجوع و العري و الحاجة...

نحن يا الهي خرجنا إليك بعد أن انسدت الأبواب في وجوهنا و عجزنا عن تحصيل قوتنا و لم يعد في اليد وسيلة أو حيلة...

(اللهم إنا نسألك ألا تردنا خائبين و لا تقلبنا واجمين و لا تخاطبنا بذنوبنا و لا تقايسنا بأعمالنا) اللهم إنا نسألك و نتوجه إليك أن لا تردنا خاسرين، و لا ترجعنا في غم و حزن جراء عدم قبولك لدعائنا...

ص: 426

اللهم لا تخاطبنا بذنوبنا أي لا تجعل اجابتك لنا أن تذكر لنا ذنوبنا فإننا لا نستحق معها أجرا و لا نستحق منك كرما و فضلا...

و لا تقايسنا بأعمالنا أي لا تجعل إجابتك لنا تعادل أعمالنا لأن أعمالنا قبيحة لا نستحق فيها أجرا و لا جزاء.

(اللهم انشر علينا غيثك و بركتك و رزقك و رحمتك و اسقنا سقيا نافعة مروية معشبة تنبت بها ما قد فات و تحي بها ما قد مات) بعد أن قدم الحاجة للّه و الفقر لعظمته و بعد التوبة و الإنابة و الاستعطاف و الاسترحام توجه إليه في المقصود طالبا منه أن ينزل المطر و البركة و الرزق و الحرمة و سأله أن يسقي عباده ماء نافعا يروي العطاشى و تعشوشب به الأرض، تنبت به ما قد فات في السنين الماضية و تعيد الحياة لما قد مات فيكون التعويض للفاءت و الحياة للميت...

(نافعة الحيا كثيرة المجتنى تروي بها القيعان و تسيل البطنان و تستورق الأشجار و ترخص الأسعار إنك على ما تشاء قدير) هذه مواصفات السقيا التي يطلبها أن تكون بمطرها نافعة مفيدة للناس و مواشيهم و زروعهم و كل ما يهمهم كثيرة المجتنى أي الثمرات و الخيرات تمتلأ بها الفلوات و الأماكن التي كانت تستقر فيها و تسيل بها الأودية و تجمعات الماء و كذلك تورق بها الأشجار و يدب الرخص في الأسعار بل يرتفع الغلاء و يحل محله الرخص إنك على ما تشاء قدير و هذه تحت قدرتك تتصرف كيف تشاء و لا يمنعك شيء...

ص: 427

144 - و من خطبة له عليه السلام

مبعث الرسل

بعث اللّه رسله بما خصّهم به من وحيه، و جعلهم حجّة (1) له على خلقه، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الإعذار (2) إليهم، فدعاهم بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ . ألا إنّ اللّه تعالى قد كشف الخلق كشفة، لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون (3) أسرارهم و مكنون (4) ضمائرهم، «و لكن ليبلوهم (5):

أيّهم أحسن عملا»، فيكون الثّواب جزاء، و العقاب بواء (6).

فضل أهل البيت

أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم دوننا، كذبا و بغيا (7) علينا، أن رفعنا اللّه و وضعهم (8)، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم. بنا يستعطى (9) الهدى، و يستجلى (10) العمى. إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن (11) من هاشم، لا تصلح على سواهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم.

أهل الضلال

منها: آثروا (12) عاجلا و أخّروا (13) آجلا، و تركوا صافيا، و شربوا آجنا (14) كأنّي أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه، و بسىء به (15) و وافقه، حتّى شابت (16) عليه مفارقه (17)، و صبغت به خلائقه (18)، ثمّ أقبل

ص: 428

مزبدا (19) كالتّيّار (20) لا يبالي (21) ما غرّق، أو كوقع النّار في الهشيم (22) لا يحفل (23) ما حرّق!.

أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، و الأبصار اللاّمحة (24) إلى منار (25) التّقوى! أين القلوب الّتي وهبت للّه، و عوقدت (26) على طاعة اللّه! ازدحموا (27) على الحطام (28)، و تشاحّوا (29) على الحرام، و رفع لهم علم الجنّة و النّار، فصرفوا عن الجنّة وجوههم، و أقبلوا إلى النّار بأعمالهم، و دعاهم ربّهم فنفروا (30) و ولّوا (31)، و دعاهم الشّيطان فاستجابوا و أقبلوا!.

اللغة

1 - الحجة: ما يحتج به، البرهان.

2 - الأعذار: تقديم العذر.

3 - المصون: المحفوظ.

4 - المكنون: المستور.

5 - ليبلوهم: ليختبرهم.

6 - البواء: الكفو، يقال باء فلان بفلان أي قتل به.

7 - البغي: الظلم و العدوان.

8 - وضعه: اللّه أذّله و أنزله عن مكانته.

9 - يستعطى: يطلب أن يعطى.

10 - يستجلى: يطلب جلاؤه أي إظهاره.

11 - البطن: دون القبيلة أو دون الفخذ و فوق العمارة.

12 - آثروا: اختاروا و قدموا.

13 - أخروا: تركوا.

14 - الآجن: من الماء هو ما تغير لونه و طعمه.

15 - بسىء به: ألفه و استأنس به.

16 - شابت: ابيض شعرها.

17 - المفارق: من الطريق ما يتشعب منه طريق آخر و من الشعر موضع افتراقه.

18 - الخلائق: جمع الخليقة الطبيعة.

ص: 429

19 - مزبدا: أي ذو زبد و الزبد هو ما يخرج من الفم كالرغوة.

20 - التيار: موج البحر الهائج.

21 - لا يبالي: لا يهتم و لا يحفل.

22 - الهشيم: ما تكسر من اليبس.

23 - لا يحفل: لا يبالي.

24 - الأبصار اللامحة: الناظرة.

25 - المنار: العلم الذي يجعل للاهتداء في الطريق.

26 - عوقدت: من عقد الحبل نقيض حله و البيع أحكمه و عقد على الشيء عاهده.

27 - ازدحموا: تضايقوا، تدافعوا.

28 - الحطام: ما تكسر من الشيء اليبس.

29 - تشاحوا: شح بعضهم على بعض في المطلوب، أراد كل منهم أن يستأثر به.

30 - نفروا: إلى منى اندفعوا إليها و إلى الشيء أسرعوا إليه.

31 - ولوا: أدبروا، أعرضوا و ابتعدوا.

الشرح

(بعث اللّه رسله بما خصهم به من وحيه و جعلهم حجة له على خلقه لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق) هذه الخطبة الشريفة تتضمن فصلين.

الأول: يتعرض فيه لذكر أهل البيت عليهم السلام و أنهم لا يساوى بهم أحد من الأمة.

الثاني: فيه ذم لبعض الصحابة الذين أرادوا منازعته الفضل و قدّم ذلك كله ببيان بعثة الرسل و الحكمة منها...

بعث اللّه رسله بالوحي الإلهي الذي اختصهم به كرامة لهم و شرفا و جعلهم حجة له على خلقه فقد وصلت عن طريقهم الحجج و البينات الملزمة التي لا يمكن التخلص منها إلا بالعمل بها و الالتزام بمضمونها و السير على نهجها و هذا كله ليقطع على المتعللين بعدم العمل بأنه لم تصلهم التكاليف و لم يتعرفوا عليها فتكون لهم الحجة على الإهمال فقطع اللّه عذرهم بوصول الحجة إليهم عن طريق الأنبياء.

ثم إن الأنبياء هم ألسنة الصدق الذين يؤدون عن اللّه مراداته و يبلغونها إلى الناس كاملة غير منقوصة و يدعون إلى سبيل اللّه الذي هو سبيل الحق.

ص: 430

(ألا إن اللّه تعالى قد كشف الخلق كشفة لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم و مكنون ضمائرهم و لكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا فيكون الثواب جزاء و العقاب بواء) هذا بيان للغرض من تكليف هذا الإنسان و أن اللّه أراد من وراء هذا أن يظهر حقيقة هذا الإنسان و جوهره و ما هو دفين في صدره و هو يعلم ذلك و لكن أراد بالتكليف أن يظهر الإنسان بل يظهر نفسه بنفسه و أنه من أهل الطاعة أو أهل المعصية و أنه سبحانه يعلمهم و يعلم ما يفعلون قبل فعلهم و لكنه أراد ابتلاءهم و اختبارهم ليعلم أيهم أحسن عملا فيعاقب أهل المعصية و يثيب أهل الطاعة...

و إحدى فوائد التكليف أن العبد به تعرف حقيقته و ينكشف واقعه و تسقط حجته ليس عند اللّه لأنه يعلم كل خفية و لكن عند نفسه و عند الآخرين و تسقط مقولته لما ذا تعاقبني على ما لم أفعل و لم أعمل؟...

(أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا و بغيا علينا أن رفعنا اللّه و وضعهم و أعطانا و حرمهم و أدخلنا و أخرجهم بنا يستعطى الهدى و يستجلى العمى) هذا الاستفهام أراد به التوبيخ و التحقير لأولئك الذين ادعوا أنهم ينازعونه الفضل و العلم وردا لما ادعوه و زعموه كذبا و زورا... و لقد اختلقوا لبعض الصحابة اختصاصات و مؤهلات في بعض العلوم زعموا أنهم أعلم الأمة فيها حيث زعموا أن زيدا أفرض الناس و أبي أقرؤهم و فلان أعلمهم بالحلال و الحرام و هكذا فرّد عليهم أنهم يكذبون في هذه المقولات و يظلموننا في هذه الدعاوى و هذا لم يكن منهم إلا لأن اللّه رفعنا عنهم و وضعهم... رفع أقدارنا في الدنيا و الآخرة و وضعهم اللّه... و أعطانا اللّه من فضله النبوة و الإمامة و العلم و الحكمة و حرمهم منها و كذلك أدخلنا اللّه برحمته و كلأنا بعنايته و أخرجهم منها...

ثم أشار إلى حقيقة تطفئ بأنوارها ظلمات جهلهم فقال: بنا يطلب الهدى و يعطى و يرتفع العمى و يخفى، فهم الأنوار الكاشفة للمعارف كلها دينية و دنيوية و في كل مجالات الحياة كما أن بهم يرتفع الجهل و يحل محله نور العلم.

فهم منارات تهدي الخلق إلى الحق و أنوار تكشف ظلمات الجهل و الضلال...

(إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم و لا تصلح الولاة من غيرهم) حصر عليه السلام الإمامة في قريش و خصّها في هذا البطن من هاشم يقصد بها نفسه الشريفة فهي لهم لا تصلح إلا بهم و لا يصلح لها إلا هم فإذا تولاها

ص: 431

غيرهم فسدت و انحرفت و ضلّت و لم يكن ذلك الغير من أهلها أو القائمين عليها بحقيقتها.

و هذا الكلام منه مستقى من حديث النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي أجمعت الأمة على صحته و نقلته كتب الصحاح بالأسانيد الصحيحة عن النبي.

نقل البخاري في صحيحه عن عبد الملك قال: سمعت جابر بن سمرة قال:

سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: يكون بعدي اثنا عشر أميرا فقال صلى اللّه عليه و آله و سلم كلمة لم أسمعها فسألت أبي ما ذا قال ؟ قال: إنه قال: كلهم من قريش و كذلك رواه البخاري عن ابن عيينة و رواه مسلم في صحيحه و صاحب الجمع بين الصحيحين و غيرهم من أئمة الحديث عند السنة و لم يناقش فيه أحد مناقشة معتبرة نعم اختلف أهل السنة في تطبيقه فشرّقوا و غرّبوا و تاهوا و ضلوا و لم يهتدوا إلى تفسيره أو معرفة الأئمة المقصودين فيه...

أما على طريقة الحق و العدل فهو من أصدق ما يدل على إمامة الأئمة من أهل البيت و هو من أوضح النصوص على إمامتهم و أنهم قادة الخلق، و لا أظن أن فردا يتجرد عن رواسبه المذهبية و عصبياته إلا و يذهب إلى ما يعة من كون المقصود بالاثني عشر هم أئمة أهل البيت عليهم السلام...

(آثروا عاجلا و أخروا آجلا و تركوا صافيا و شربوا آجنا كأني أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه و بسىء به و وافقه حتى شابت عليه مفارقه و صبغت به خلائقه ثم أقبل مزبدا كالتيار لا يبالي ما غرّق أو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرّق) هذا الكلام أراد به بعض الصحابة الذين انحرفوا و ضلوا و لا موجب لصرفه عنهم بعد ما ثبت فسق بعضهم و ضلال بعض آخر بل الأوصاف تنطبق على من حارب الإمام كمعاوية و عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و كثيرين ممن هم على شاكلتهم ممن سموا بالصحابة.

و على كل حال ذكر الإمام بعض قبائح أعمالهم و سيئات صفاتهم:

1 - آثروا عاجلا و أخروا آجلا قدموا الدنيا و اختاروها و سعوا إليها و هي فانية بينما أخروا الآخرة التي لا تفنى و لا تزول.

2 - تركوا صافيا و شربوا آجنا تركوا الآخرة التي لا يشوبها ألم أو مرض إلى الدنيا المملوءة بالهموم و الأحزان و الآلام أو يراد تركوا الإسلام و ما ورد عن النبي من علم صحيح إلى آرائهم و ما ذهبوا إليه من أمور باطلة مملوءة بالانحراف و عدم الصحة...

ص: 432

ثم أرسل القضية و كأنه ينظر إلى مستقبل بعضهم و ما يؤول إليه أمره كمعاوية و عمرو و المغيرة و مروان و غيرهم كأني أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه و كيف يجيز معاوية لنفسه قتال الخليفة الشرعي ؟ و كيف يصر على مطاردة أنصار الإمام و شيعته ؟ و كيف يسن سبّه و شتمه و يجعلها سنة يتداولها الولاة و الأمراء؟ أليس هذا كله منكر قد ألفه و اعتاد عليه و ربى رجاله و رعيته عليه... أليس قد «بسىء به و وافقه» أي ألفه و اعتاده و أصبح من طبعه يستأنس به و قد استمر على ذلك حتى شابت عليه مفارقه أي من أول عمره إلى آخره أي عاش هذا المنكر طيلة حياته و صبغت به خلائقه أي صار طبيعة له و من سجاياه لكثرة ما اعتاد عليه و كرره...

ثم شبه هذا الفاسق - و تقرأ سيرة معاوية و عمرو فلا تكاد إلا أن تطبق قوله عليهما - بالتيار الذي يتحرك في وسط البحر و يأخذ معه كل ما يقع في طريقه أو كالنار التي توقد في الهشيم اليابس من الحشيش و غيره فإنها تأتي على كل ما تمر به و تحرق كل ما تقع فيه بدون تمييز و هذا الفاسق مثل النار و التيار يقتل و يسلب و يشرد و يحبس و يصادر الأموال و يهدم الدور و يأتي على الحرث و النسل و نظرة واحدة لسيرة معاوية و ما فعله بشيعة الإمام تدلل على انطباق كلمة الإمام عليه و أنه من أوضح مصاديق الفاسقين الذين عناهم الإمام في حديثه هذا...

(أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى و الأبصار اللامحة إلى منار التقوى! أين القلوب التي وهبت للّه و عوقدت على طاعة اللّه، ازدحموا على الحطام و تشاحوا على الحرام و رفع لهم علم الجنة و النار فصرفوا عن الجنة وجوههم و أقبلوا على النار بأعمالهم و دعاهم ربهم فنفروا و ولوا و دعاهم الشيطان فاستجابوا و أقبلوا) استفهم متأسفا عن العقول التي لا تأخذ الحق من أئمة الهدى أين هي ؟ كما تأسف عن الأبصار كيف لا تتطلع إلى الأعلام الشامخة في التقوى فتقتدي بها و تسير على نهجها و أين القلوب الطاهرة الصافية التي وهبت للّه على أن تكون في طاعته و خدمته و عقدت الأمور على الالتزام بأمره ؟.

ثم عاد ليذكر أولئك الصحابة الذين تقدمت بعض أوصافهم ليذكر هنا ما هم عليه من الانحراف فذكر من أوصافهم أيضا:

1 - إنهم ازدحموا على الحطام: إنهم تسابقوا و تدافعوا على ما في الدنيا من أموال و متاع و سلطان و جاه و هي أمور صغيرة حقيرة يجب أن يترفع عنها المؤمن المتصل باللّه.

2 - إنهم تشاحوا على الحرام: فكل واحد منهم يقاتل الآخر طلبا للحرام و يصّر

ص: 433

على أن يكون له دون غيره فلم يكتفوا بطلب الدنيا بل طلبوا الحرام و أصر كل واحد أن يكون له...

3 - رفع لهم علم الجنة و النار فصرفوا عن الجنة وجوههم و أقبلوا إلى النار بأعمالهم: أشار بهذا إلى أن للجنة راية و للنار راية فراية الجنة الدعاة إلى اللّه و الأئمة الهداة و راية النار إبليس و جنده و أئمة الضلال و هؤلاء الصحابة عدلوا بنظرهم عن راية الجنة و تخلوا عن الدعاة إليها من الأئمة و أخذوا بأعمالهم الساقطة و سلوكهم العاصي نحو النار...

4 - دعاهم ربهم فنفروا و ولوا و دعاهم الشيطان فاستجابوا و أقبلوا: دعاهم ربهم إلى الطاعة المؤدية إلى الجنة فرفضوا و أعرضوا و هربوا من أمره قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ » (1) و قال تعالى: «وَ اَللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ اَلسَّلاٰمِ » (2) و في المقابل دعاهم الشيطان إلى المعصية و التمرد فاستجابوا له و لبوا دعوته و أقبلوا يسعون إليه قال تعالى: «وَ قٰالَ اَلشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ » (3).4.

ص: 434


1- سورة الأنفال، آية - 54.
2- سورة يونس، آية - 25.
3- سورة إبراهيم آية، - 24.

145 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

فناء الدنيا أيّها النّاس، إنّما أنتم في هذه الدّنيا غرض (1) تنتضل (2) فيه المنايا (3)، مع كلّ جرعة (4) شرق (5)، و في كلّ أكلة غصص (6)! لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكله إلاّ بنفاد (7) ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له أثر، إلاّ مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق (9) له جديد، و لا تقوم له نابتة (10) إلاّ و تسقط منه محصودة (11). و قد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله!.

منها: و ما أحدثت بدعة (12) إلاّ ترك بها سنّة. فاتّقوا البدع، و الزموا المهيع (13). إنّ عوازم الأمور (14) أفضلها، و إنّ محدثاتها شرارها.

اللغة

1 - الغرض: الهدف.

2 - تنتضل: تترامى.

3 - المنايا: جمع المنية الموت.

4 - الجرعة: من الماء البلعة.

5 - الشرق: محركة مصدر من شرق إذا غصّ .

6 - الغصص: محركة مصدر غصصت من الغصّ و هو الشجى.

7 - نفد: الشيء فرغ و انقطع و فني.

ص: 435

8 - الأثر: ما بقي من رسم الشيء.

9 - يخلق: يبلي.

10 - النابتة: مؤنث النابت ما ينشأ من الأولاد.

11 - محصودة: من حصد الزرع إذا قطعه و كأنه هنا أراد الآباء و الأجداد.

12 - البدعة: ما أحدث على غير مثال سابق/إدخال ما ليس في الدين على أنه منه.

13 - المهيع: من الطريق الواضح المبين. 14 - عوازم الامور: ما تقادم منها و العوازم جمع عوزم العجوز المسنة.

الشرح

(أيها الناس إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا مع كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى و لا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، و لا تجدد له زيادة في أكلة إلا بنفاد ما قبلها من رزقه و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر، و لا يتجدد جديد إلا بعد أن يخلق له جديد و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصودة. و قد مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله) المقصود من هذه الخطبة التنفير من الدنيا بذكر معايبها لينصرف الإنسان عنها إلى الآخرة و قد نفّر عنها بذكر بعض قبائحها و مثالبها و هي:

1 - جعل الناس هدفا ترميه الدنيا بسهامها فقد شبهها بالمتناضلين بالسهام و سهامها متعددة فمنكم من يصيبه سهم المرض و الآخر سهم الغرق و الثالث سهم الحرق و هكذا...

2 - مع كل جرعة شرق: و هذا عيب من عيوب الدنيا و أن نعيمها لا يدوم و أن مع كل لذة من لذاتها منغصاتها...

3 - و في كل أكلة غصص: فهذا الأكل الطيب لا يصفى دائما بل فيه ما يؤذي و ينغّص.

4 - لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى: فليس بمقدور هذا الإنسان أن يجمع بين ملذاته كلها بل إذا تلذذ في أمر حرم آخر و هكذا... أو يكون المقصود لا يلتذ بأمر إلا و قد مرت لذة ما سبق في وقته و لا يقدر على الجمع بين ما مضى و ما هو فيه...

ص: 436

5 - و لا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله: فإذا أردت أن تصل إلى التسعين لا بد و أن تهدم الثمانين و إذا أردت أن تعمر إلى يوم الأحد فلا بد و أن يهدم من عمرك يوم السبت و بهذا الهدم يقترب من الموت و مثل هذا لا لذة فيه و لا نفع.

6 - و لا تجدّد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه فإنه لا يأكل لقمة إلا بعد أن ينتهي من التي قبلها و تكون السابقة قد فنيت و ما يفنى كيف تكون فيه اللذة...

7 - و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر: لا يذكر بأمر جميل أو قبيح إلا و قد نسي القديم الذي كان يذكر به فإذا كان يعرف بالشر فعند ما يشتهر بالتقوى يموت الأثر الأول و ينسى.

8 - و لا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد فلا يأتي المشيب إلا و قد بلى الشباب.

9 - و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصودة و قد مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله لا يصبح الأبناء شبابا إلا و قد ولى الآباء و ماتوا أو لا يصبح عند الأبناء أولادا إلا و قد مات الأجداد.

ثم قال نحن فروع من أصول قد ماتت و إذا ماتت الأصول فلا تبقى الفروع كما أن الشجرة الممتدة الأغصان إذا ماتت أصولها ماتت تبعا لها فروعها و هكذا الأمر بالنسبة لنا فإننا من الآباء و الأجداد فإذا جاءهم الموت لا بد و أن يأتي إلينا و إذا كان الأمر كذلك فما قيمة هذه الحياة التي لا تبقى و لا تدوم و التي يتبغ فروعها أصولها في الموت...

(و ما أحدثت بدعة الأتراك بها سنة فاتقوا البدع و الزموا المهيع إن عوازم الأمور أفضلها و إن محدثاتها شرارها) من السنة ترك البدعة و من ابتدع فقد ترك السنة فاتقوا البدعة و اتركوها لما فيها من الحرمة و الزموا الطريق الواضح البيّن من سنة رسول اللّه ففيه السلام و فيه الأمان.

و إن الأمور القديمة التي كانت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الأمور و أشرفها لأنه مقطوع بصحتها و لا شبهة فيها بينما محدثاتها و ما استجد من الأمور التي لم تكن و لكن ارتاها بعض المتنفذين و استحسنوها و ابتدعوها للناس كما حدث لعمر حيث ابتدع صلاة التراويح و لم تكن على عهد رسول اللّه و لا أصل لها في الدين فهذه من شر البدع و شر ما أحدث من أمور في الدين..

ص: 437

146 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

و قد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه (1) بكثرة و لا بقلّة. و هو دين اللّه الّذي أظهره، و جنده الّذي أعدّه و أمدّه، حتّى بلغ ما بلغ، و طلع حيث طلع (2)، و نحن على موعود من اللّه، و اللّه منجز (3) وعده، و ناصر جنده.

و مكان القيّم (4) بالأمر مكان النّظام (5) من الخرز (6) يجمعه و يضمّه: فإن انقطع النّظام تفرّق الخرز و ذهب، ثمّ لم يجتمع بحذافيره (7) أبدا. و العرب اليوم، و إن كانوا قليلا، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع! فكن قطبا (8)، و استدر (9) الرّحا (10) بالعرب، و أصلهم (11) دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت (12) من هذه الأرض انتقضت (13) عليك العرب من أطرافها و أقطارها، حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات (14) أهمّ إليك ممّا بين يديك.

إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم (15) عليك، و طمعهم فيك.

فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، و هو أقدر على تغيير ما يكره. و أمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، و إنّما كنّا نقاتل بالنّصر و المعونة!.

ص: 438

اللغة

1 - الخذلان: ترك النصرة.

2 - طلع: الكوكب إذا ظهر و طلع الجبل إذا علاه.

3 - أنجز: الوعد و فى به و أتمه.

4 - القيم: بالأمر القائم به.

5 - النظام: الخيط و نظام العقد الخيط الجامع له.

6 - الخرز: محركة الحب المثقوب من الزجاج و نحوه تنظم منه العقود و المسابح.

7 - بحذافيره: بأصله واحده حذفار و أخذه بحذافيره بأجمعه.

8 - القطب: حديد في الطبق الأسفل من الرحى يدور عليها الطبق الأعلى، ملاك الشيء و مداره.

9 - استدر: أجعلها تدور.

10 - الرحا: مؤنثة و هي الطاحونة.

11 - اصلهم: فعل أمر من صليت اللحم إذا شويته.

12 - شخصت: خرجت.

13 - انتفضت: فسدت، و انتفض عليه البلد إذا تغير عليه أهله و خلعوا الطاعة.

14 - العورات: جمع عورة ما يستحى من إبدائه/الثغرات في أطراف البلاد.

15 - الكلب: محركة الشر و الأذى.

الشرح

(إن هذا الأمر لم يكن نصره و خذلانه بكثرة و لا بقلة و هو دين اللّه الذي أظهره و جنده الذي أعده و أمده حتى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع و نحن على موعود من اللّه و اللّه منجز وعده و ناصر جنده) هذا الكلام منه عليه السلام وجهه إلى عمر عند وقعة القادسية أو نهاوند على الاختلاف في ذلك و كان عمر قد استشار الصحابة فأشار عليه السلام برأيه السديد و قدم مقدمة توطئة لما يذهب إليه فقال: إن الإسلام الذي تراه اليوم يتحدى أقوى قوة في العالم و قد امتد إلى رقعة كبيرة من الأرض لم يكن نصره بكثرة العدد و كون المسلمين أكثر من غيرهم كما أن هزيمته لم يكن لقلتهم فالقلة و الكثرة لا يجب أن تحكم عقليتنا الإسلامية و لا يجب أن نبقى أسرى تحت حكم هذه النظرية بل يجب أن نعي حقيقة إلهية قد لا تدخل في قاموس أبناء الدنيا و لكنها من صلب هذا الدين و أسس هذه

ص: 439

العقيدة و هي حقيقة أن الإسلام دين اللّه الذي أظهره على الأديان و العقائد كلها و هو الذي تكفل بحمايته و نصره و جنده هم جنوده الذين أعدهم لحمل راية الفتح و الجهاد في سبيل اللّه و قد أمدهم بالملائكة و ثبت قلوبهم في مواطن الاضطراب و الخوف و هكذا الأمر حتى بلغ الإسلام ما بلغ من العظمة و الكرامة و وصل إلى ما وصل إليه من امتداد و ظهور و انتشار.

و أشار عليه إلى أن المسلمين على موعد من اللّه بالنصر و الاستخلاف إشارة إلى قوله تعالى: «وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» و عقب هذا بأن اللّه منجز ما وعد و ناصر جنده، إن الله لا يخلف الميعاد...

و إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا...

(و مكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمه فإن انقطع النظام تفرق الخرز و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا و استدر الرحا بالعرب و اصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك) شبّه عليه السلام القائم بالأمر و المتولى لأمور المسلمين بالخيط الذي يجمع حبات الخرز في العقد أو السبحة فإذا انقطع الخيط تبعثرت الحبات و توزعت و لم تعد واحدة تجتمع أو تلتقي مع الأخرى فهذه تذهب إلى اليمين و الأخرى إلى اليسار و هذه إلى الأمام و تلك إلى الخلف و هكذا لا يلتقي حبتان مع بعضهما و لا تجتمع الحبات قط و كذلك القيم بالأمر إذا ذهب و مات أو غاب تبعثر المسلمون و تشتتوا...

ثم هدأ روع عمر بأن العرب اليوم و إن كانوا قلة في العدد و لكن الإسلام كثرهم بعقيدته و فكره و أصحاب قوة بوحدتهم و اجتماعهم و توحدهم على رأي واحد...

ذكر أولا أهمية القائم بالأمر و دوره ثم ذكر الجند الذين هم الجبهة العسكرية التي تواجه العدو و بعد هذا رأى رأيه و قال: اثبت في مكانك الذي أنت فيه و لا تباشر الحرب بنفسك و تدخل فيها بشخصك و ذلك لأمرين أحلاهما مرّ و لا يجوزان في شرع اللّه...

إن خرجت بنفسك لحرب الفرس و تركت الحرمين و ما حولهما ثارت ثائرة العشائر و القبائل و طمعوا فيك لأن الإسلام لم يثبت في قلوبهم بشكل قوي كعقيدة دينية و إذا انتفضوا و تحركوا و ارتدوا و أنت في الخارج كان هذا الأمر أهم إليك من قتال الفرس

ص: 440

و يشغلك عن وجهتك التي أنت فيها و إن خرجت بنفسك طمع فيك الفرس أيضا و قالوا هذا هو الإسلام كله و قيادته فيشتد ساعدهم للقضاء عليك و إسدال الستار على الإسلام و حركته إلى الأبد و من هنا أثبت في محلك و ادفع العرب ليخوضوا المعركة و أنت أدر المعركة من مقرك الذي أنت فيه.

(إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و طمعهم فيك) هذا هو الخطر الثاني الذي يترقب من جراء خروج عمر بنفسه لقتال الفرس فإنهم عند ما ينظرون إليه يشعرون بأن الإسلام كله في المواجهة و إذا انتصروا في هذه المعركة قضوا على أصل الدين و رجاله و بهذا تشتد قوتهم و تقوى عزيمتهم و يكون لهم في الحرب شدة و طمع و بهذا يمكن الخطر...

(فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك و هو أقدر على تغيير ما يكره و أما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنما كنا نقاتل بالنصر و المعونة) كان عمر قد قال: إن هؤلاء الأعاجم يقصدوننا بالحرب و الهجوم و أنا أكره أن يغزوننا في عقر دارنا و كذلك قال: إن عددهم كبير كيف يقوى المسلمون على مواجهتم فردّ الإمام عليه السلام بأنك إذا كنت تكره غزوهم لنا فإن اللّه أشد كراهة لهذا الأمر منك و هو أقدر على ردّهم فأعمل أنت بما هو تكليفك و ما فيه المصلحة من بقائك هنا و اترك الأمر الآخر للّه هو المتكفل بإيجاد الحل له...

و أما كثرة العدد لديهم و قلته عندنا بالنسبة إليهم فإنا لم نقاتل فيما مضى في بدر و أحد و غيرهما بكثرة العدد فقد كان العدو يومها أكثر منا و مع ذلك كنا نقاتل و ننتصر لأنه تكليفنا الشرعي و اللّه هو الذي ينصرنا و يعيننا و يهزم عدونا.

ص: 441

147 - و من خطبة له عليه السلام

الغاية من البعثة

فبعث اللّه محمّدا، صلّى اللّه عليه و آله، بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان (1) إلى عبادته، و من طاعة الشّيطان إلى طاعته، بقرآن قد بيّنه و أحكمه (2)، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، و ليقرّوا (3) به بعد إذ جحدوه (4)، و ليثبتوه بعد إذ أنكروه. فتجلّى (5) لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته، و خوّفهم من سطوته (6)، و كيف محق من محق (7) بالمثلات (8). و احتصد (9) من احتصد بالنّقمات (10)!.

الزمان المقبل

و إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ، و لا أظهر من الباطل، و لا أكثر من الكذب على اللّه و رسوله، و ليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة (11) أبور (12) من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، و لا أنفق منه (13) إذا حرّف (14) عن مواضعه، و لا في البلاد شيء أنكر من المعروف، و لا أعرف من المنكر! فقد نبذ (15) الكتاب حملته، و تناساه حفظته: فالكتاب يومئذ و أهله طريدان (16) منفيّان، و صاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما (17) مؤو. فالكتاب و أهله في ذلك الزّمان في النّاس و ليسا فيهم، و معهم و ليسا معهم! لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى، و إن اجتمعا. فاجتمع القوم على الفرقة، و افترقوا على الجماعة، كأنّهم أئمّة الكتاب و ليس الكتاب

ص: 442

إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه، و لا يعرفون إلاّ خطّه و زبره (18). و من قبل ما مثّلوا (19) بالصّالحين كلّ مثلة، و سمّوا صدقهم على اللّه فرية (20)، و جعلوا في الحسنة عقوبة السّيّئة.

و إنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم و تغيّب آجالهم (21)، حتّى نزل بهم الموعود الّذي تردّ عنه المعذرة، و ترفع عنه التّوبة، و تحلّ معه القارعة (22) و النّقمة.

عظة الناس

أيّها النّاس، إنّه من استنصح اللّه وفّق، و من اتّخذ قوله دليلا هدي «للّتي هي أقوم»، فإنّ جار اللّه آمن، و عدوّه خائف، و إنّه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظّم، فإنّ رفعة الّذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له، و سلامة الّذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا تنفروا (23) من الحقّ نفار الصّحيح من الأجرب (24)، و الباري (25) من ذي السّقم (26). و اعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد (27) حتّى تعرفوا الّذي تركه، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذي نقضه (28)، و لن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذي نبذه. فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنّهم عيش العلم، و موت الجهل. هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدّين و لا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، و صامت ناطق.

اللغة

1 - الأوثان: جمع وثن و هو الصنم.

2 - أحكمه: أتقنه.

ص: 443

3 - يقروا: يعترفوا و يذعنوا.

4 - جحد: أنكر.

5 - تجلى: انكشف و ظهر.

6 - السطوة: عليه الوثوب عليه و قهره.

7 - محق: الشيء محاه و أهلكه.

8 - المثلات: العقوبات.

9 - حصد: الزرع و احتصده قطعه بالمنجل.

10 - النقمات: جمع النقمة المكافأة بالعقوبة.

11 - السلعة: المتاع.

12 - أبور: من بار الشيء إذا فسد.

13 - أنفق منه: أروج منه.

14 - حرّف: القول غيّره عن مواضعه.

15 - نبذ: رمى و ألقى.

16 - الطريد: المطرود الهارب.

17 - لا يؤويهما: لا يضمهما إليه و ينزلهما عنده.

18 - الزبر: الكتابة و زبرت الكتاب كتبته.

19 - مثلوا: نكلوا و الاسم منه المثلة.

20 - الفرية: بكسر الفاء الكذب.

21 - الآجال: أوقات الموت.

22 - القارعة: الداهية المهلكة، المصيبة الشديدة.

23 - نفر: من الحق باعد عنه و هرب.

24 - الأجرب: من الجرب داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكة شديدة.

25 - الباري: المعافى من المرض.

26 - السقم: المرض و العلة.

27 - الرشد: الهدى، ضد الغي.

28 - نقضه: أبطله و أفسده.

الشرح

(فبعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته و من طاعة الشيطان إلى طاعته بقرآن قد بينه و أحكمه ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه

ص: 444

و ليقروا به بعد إذ جحدوه و ليثبتوه بعد إذ أنكروه فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته و خوفهم من سطوته و كيف محق من محق بالمثلات و احتصد من احتصد بالنقمات) في هذه الخطبة الشريفة ثلاثة أمور:

1 - فيها الغاية من بعثة الرسل.

2 - فيها إخبار عن مستقبل الزمان و ما يجري فيه.

3 - الموعظة للناس و النصيحة لهم أن يصححوا سلوكهم وفق طريق الإسلام و شريعته.

بعث اللّه نبيه محمدا بالحق إلى خلقه ليخرجهم من عبادة الأصنام و الأهواء إلى عبادة اللّه تعالى و من طاعة الشيطان الذي أمرهم بعبادة غير اللّه إلى طاعة اللّه فالمهمة الأساسية للنبي أن يعبّد الناس للّه وحده دون غيره و ذلك بأن يفتح بصيرتهم على الحق تعالى و ينير الدرب أمامهم و يردهم إلى عقولهم ليفكروا فيها بدقة و يعيدوا لها تحررها و تعقّلها.

و قد كان هذا القرآن الذي هو معجزة النبي و دليل نبوته بينا ظاهرا محكما متقنا ليس فيه خلل أو اختلاف كان من أجل أن يعلم العباد ربهم إذ جهلوه فهو الذي يثير فيهم الإحساس بالتفكير باللّه و يدفعهم إلى أن يعيشوا في عالم يوصلهم إلى الإيمان به و التوجه إليه و الإقرار به بعد إذ جحدوه و أنكروه و قد ظهر اللّه لعباده و رأوه و لكن ليس بالبصر بل بما أعطاهم من بصيرة نافذة حيث أوقفهم من قدرته و خوفهم من بطشه و كيف قضى بالعقوبات على من خالف أمره و كيف إذا أتى أمره «دمّره بعذابه من تمرد على إرادته».

فإن هذا القرآن بما قصّ و ما نقل من أخذ اللّه للأمم الماضية و انتقامه منهم قد ظهر للناس و لم يبق خافيا على أحد...

(و إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق و لا أظهر من الباطل و لا أكثر من الكذب على اللّه و رسوله و ليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته و لا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه و لا في البلاد شيء أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر) هذا إخبار منه بما يحمل الزمان في المستقبل بعد شهادته إنه زمان صعب تنقلب فيه الحقائق و تتغير المعادلات و كثير من الأمور تتبدل فيتحول الحق إلى باطل و الباطل إلى حق و ذكر بعض تلك الأمور فقال:

1 - إنه زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق و لا أظهر من الباطل و هذا ما نعيشه اليوم بأجلى و أظهر صوره فالحكام كلهم - إلا ما استثني - فجرة فسقة لهم الصدارة

ص: 445

و الأمر و النهي و الحكم و السياسة و قد احتلوا المناصب مع أزلامهم و المنتفعين معهم أما أصحاب الدين و أهل الإيمان، أما الدين و الإسلام فقد اختفى و ضاعت أعلامه من القائمة...

2 - إنه زمان لا يوجد فيه أكثر من الكذب على اللّه و رسوله و هذا أيضا في متناول الجميع فعلى مستوى الدس و الافتراء فقد امتلأت الكتب بذلك و يكفي أن يكون أبو هريرة الدوسي هو الرواية لحديث الرسول حيث راح يختلق ما يشاء و ما يريده معاوية... و أما في زماننا فخذها فتاوى تستند إلى اللّه و رسوله و اللّه و رسوله بريئان منها...

3 - إنه زمان يتنكر فيه لكتاب اللّه إذا أقيم على حقيقته و أريد تنفيذ أحكامه كما هي أما إذا حرفت آياته و صرفت عن وجهها و طوعت لإرادة الحكام و مشتهياتهم فإنهم يرحبون بها و يقبلون ذلك...

4 - إنه زمان ليس في البلاد شيء أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر إنه زمان يمر علينا اليوم فالقرض أصبح منكرا و الربا صار معروفا و السفور أصبح تقدما و معروفا و الحجاب تأخرا و منكرا و التدين أصبح رجعية و اللادين أصبح تقدما و هكذا أضحى المنكر من أعرف الأمور و المعروف من أشدها نكرانا...

(فقد نبذ الكتاب حملته و تناساه حفظته فالكتاب يومئذ و أهله طريدان منفيان و صاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو. فالكتاب و أهله في ذلك الزمان في الناس و ليسا فيهم و معهم و ليسا معهم لأن الضلالة لا توافق الهدى و إن اجتمعا) و هذه من صفات ذلك الزمان أيضا.

5 - إنه زمان نبذ الكتاب حملته و تناساه حفظته فأهل الدين الذين يعرفون أحكام الكتاب قد هجروه و تركوه و أما الحافظون له فقد جعلوا أنفسهم ناسين له لئلا يحتجوا على الناس به.

6 - فالكتاب و أهله طريدان منفيان و صاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو.

فالكتاب و أهله الذين يحملونه بحق و يحفظونه بجدارة منفيان من جهة إهمالهما و عدم الالتفات إليهما بل محاربان، إنهما صاحبان مترافقان في طريق واحد و هو طريق الحق و الصدق و رفض الباطل لا يستقبلهما أحد أو يضمهما إليه أحد لعدم وجود المخلصين الطالبين للحق و العدل.

ص: 446

7 - الكتاب و أهله في ذلك الزمان في الناس و ليسا فيهم و معهم و ليسا معهم لأن الضلالة لا توافق الهدى و إن اجتمعا.

الكتاب الكريم و أهله في ذلك الزمان في الناس بوجودهما القائم و لكن ليسا فيهم بالمتابعة و الالتزام و إذا لم يعملوا بالكتاب و أهله و ألغوا فائدتهما فهما كأنهما ليسا بموجودين إذ فائدة الموجود أن ينتفع به.

و كذلك معها بالمصاحبة شكلا ترى الكتاب و أهله في مصاحبة الناس فيقرءون القرآن في المآتم و يحضر المشايخ و أهل الدين فيها و لكن ليس من جامع يجمع بينهما لأن الكتاب و أهله يريدان العمل بهما و بأمرهما و الناس ترفض هذا و لا تعمل به فهي مصاحبة شكلا مع التباين واقعا لأن الهدى لا يلتقي مع الضلال و لا يجتمعان واقعا و إن اجتمعا بحسب الصورة.

(فاجتمع القوم على الفرقة و افترقوا على الجماعة كأنهم أئمة الكتاب و ليس الكتاب إمامهم فلم يبق عندهم منه إلا اسمه و لا يعرفون إلا خطه و زبره و من قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثله و سموا صدقهم على اللّه فرية و جعلوا في الحسنة عقوبة السيئة) إنه الزمان الآتي بما يحمل معه من هفوات و سقطات و بما يحمل من ضلال و انحراف و من تلك السقطات و المعيبات أن يجتمع القوم فيه على الفرقة فكل حزب بما لديهم فرحون بل كل فرد يكتفي بنفسه و يعد نفسه رأسا مستقلا له رأيه و عمله بينما يفترقون عن الجماعة و لا تجمعهم وحدة أو عقيدة أو نظام فهم اتفقوا على الفرقة.

و من سيئات ذلك الزمن أن يجعلوا أنفسهم بعملهم كأنهم أئمة الكتاب و ليس الكتاب إمامهم فهم يطوّعون نصوصه لصالحهم و لما يذهبون إليه من آراء بينما حقهم أن يذهبوا وراء الكتاب و يهتدوا بهداه و يتخذوه إماما يقتدون به.

إنهم جردوا الكتاب من المضمون و لم يعملوا بما فيه و عطلوا أحكامه فلم يبق عندهم منه إلا اسمه و خطه يقرءونه لا يتجاوز حناجرهم و يتبركون به في المآتم لجريان العادة بذلك و دفعا للتهمة عن أنفسهم بالتقصير بحق الموتى.

ثم ذكر مدى الجور و الظلم الذي يحيق بالصالحين بحيث ينكلون بهم و يمثلون و يحولون صدقهم إلى كذب و يجعلون حسناتهم سيئات يعاقبونهم عليها و كم في التاريخ من صور تنقل إلينا و كأن هذه الحقيقة يراها الإمام رؤية العين و إذا نقّلت نظرك في العهد الأموي و العباسي لوجدت الحقيقة بأظهر ما تكون و لبان لك صدق هذا الحديث بأجلى ما ترى.

ص: 447

(و إنما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم و تغيّب آجالهم حتى نزل بهم الموعود الذي ترد عنه المعذرة و ترفع عنه التوبة و تحل معه القارعة و النقمة) هذه الموعظة للمخاطبين يذكر الماضين و كيف كان هلاكهم و ما سببه إنهم هلكوا بطول الآمال و تغيب الموت عن أنظارهم و الإنسان إذا طال أمله يطغى و يظلم و يريد أن يحققه و لو على حساب وجود الناس فإذا ذكر الموت و الحساب و العقاب ارتدع و كف و أما إذا غيّب الموت عن نظره و نظر بعين الأمل الواسع فإنه يهلك لا محالة لأنه إذا بقي على ذلك ينزل به الموت الذي لا يقبل عذرا و ترفع التوبة في لحظات الحياة الأخيرة و تحل المأساة الكبرى و العذاب الدائم المقيم...

(أيها الناس إنه من استنصح اللّه وفق و من اتخذ قوله دليلا هدي «للتي هي أقوم» فإن جار اللّه آمن وعدوه خائف و أنه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظم فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له و سلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له) هذه موعظة للناس و توجيه لهم نحو سعادتهم و عزتهم فمن طلب النصح من اللّه وفقه اللّه للخير لأن اللّه بيده مفاتيح الهداية و من اعتمد على قول اللّه و اتخذه هاديا له و دليلا فإنه يهدي لأصلح الطرق و أفضلها و من كان طريقه وفق إرادة اللّه فهو جار للّه قريب منه و جار اللّه آمن في الدنيا كما هو آمن في الآخرة ففي الدنيا يملك رؤية واضحة حقيقية و هي أن اللّه بيده الأمور و هو مالك للدنيا و ما فيها و لا يجري أمر إلا بقضائه و قدره فهو بعين اللّه فتطمئن نفسه و يرتاح قلبه و أما في الآخرة فإنها السعادة الأبدية التي تنتظره.

و نبه الحاضرين إلى أمور و لفت نظرهم إليها:

1 - إن من عرف عظمة اللّه و علوه يجب أن لا يجعل نفسه عظيما و يرتفع عن أوامره و تكاليفه بل إن الإنسان إذا عرف عظمة اللّه فتواضع له ارتفع و علا فكان سبب علوه تواضعه للّه و هذا أمر طبيعي لأن التواضع للّه هو امتثال أمره و الاتصال به و من اتصل باللّه اتصل بأقوى الأسباب و أمتنها فيستمد منه العظمة في قلوب الناس.

2 - سلامة من يعلمون قدرته حيث يعلمون أنه القوي الشديد الذي لا يقف في وجهه شيء أن يستسلموا له أي يسلموا له فيطيعوا أمره و يتركوا نهيه.

(فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب و الباري من ذي السقم و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه و لن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه) بعد أن ردهم إلى اللّه و أمرهم أن يكونوا معه رغبهم في الحق و قال لهم: لا تبتعدوا عن الحق و تهربوا منه كهروب الصحيح

ص: 448

السليم من المريض بالجرب أو المعافى من صاحب العلة فإن الناس الأصحاء يهربون من الأمراض خوف العدوة فأنتم لا تسلكوا نفس الطريق عند ما تقابلون الحق و ترونه بل بادروا إليه و اعملوا به...

ثم نبههم إلى أن معرفة الحق و الرشد و الهدى لا تكون إلا بعد معرفة من تركه و هم أئمة الضلال الذين عاندوا اللّه و رسوله و حاربوا عباده.

و كذلك لن تأخذوا بأحكام الكتاب و تعملوا بها إلا إذا عرفتم الذي نقضه فتحاربوه و تردعوه و كذلك لن يصدق أنكم تمسكتم به و عملتم بمضمونه إلا إذا عرفتم الذي طرحه و حاربه فتحاربوه و تتخلوا عنه و ذلك لأن البراءة من أهل الضلال تعادل الولاء لأهل الحق.

(فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم و موت الجهل هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم و صمتهم عن منطقهم و ظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الدين و لا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صادق و صامت ناطق) أمرهم أن يطلبوا الرشد و الحق من عند أهله و هم نفسه الشريفة و أبناؤه و وصفهم بحقيقتهم و ما هي عليه... وصفهم بما فيهم و هي:

1 - إنهم عيش العلم و موت الجهل ففيهم حياة العلم و موت الجهل بهم يكون وجود العلم و الانتفاع به و بهم يمحى الجهل و يبطل العمل به.

2 - يخبركم حكمهم عن علمهم: فأحكام أهل البيت و ما نقل عنهم يدل على علمهم و سعته و غزارته و عمقه و دقته.

3 - و صمتهم عن منطقهم: لأن الصمت من البليغ الفصيح يحكي عن المنطق بل ربما كان الصمت أبلغ من المنطق في بعض حالاته، أو لأن سكوتهم حجة لأنه تقرير يؤخذ به فلو سكت المعصوم عن فعل قام به أحد الناس يؤخذ من سكوته شرعية ذلك الفعل...

4 - و ظاهرهم عن باطنهم: أي سلوكهم و منطقهم و سيرتهم يحكي ذلك عن نواياهم و نفوسهم الطيبة فإن حسن الظاهر يحكي عن حسن الباطن غالبا خصوصا إذا امتد طويلا...

5 - لا يخالفون الدين: هم رعاته و دعاته و أهله يحكون أحكامه و تشريعاته و أخلاقه و آدابه.. يتبعونه و لا يخالفونه فإنهم معصومون منزهون عن الخطأ و النسيان.

ص: 449

6 - و لا يختلفون فيه: و كيف يختلفون فيه و هم يأخذون من عين واحدة و قد زودهم اللّه بالعصمة التي تمنعهم من الوقوع في الخطأ و الاختلاف...

7 - فهو بينهم - الدين - شاهد صادق و صامت ناطق... فالدين شاهد صادق على عدم الاختلاف فيما بينهم إذ كلام اللاحق منهم يصدق السابق و كلام السابق متسق متفق فيما بينه و كذلك هذا الدين صامت في شهادته و لكنه ناطق ببيانه و لسانه من حيث إنهم معه متفقان لا يفترقان و متوحدان لا ينفصلان...

و قال بعضهم: إن قوله: شاهد صادق يعني أن الدين شاهد صادق يأخذون بحكمه كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق و هو صامت لأنه لا ينطق بنفسه فلا بد له من مترجم فهو صامت في الصورة بينما في المعنى أنطق الناطقين لأن الأوامر و النواهي و الآداب كلها مبنية عليه و متفرعة عنه...

ص: 450

148 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

في ذكر أهل البصرة كلّ واحد منهما يرجو الأمر له، و يعطفه (1) عليه دون صاحبه، لا يمتّان (2) إلى اللّه بحبل، و لا يمدّان إليه بسبب (3). كلّ واحد منهما حامل ضبّ (4) لصاحبه، و عمّا قليل يكشف قناعه (5) به! و اللّه لئن أصابوا الّذي يريدون لينتزعنّ (6) هذا نفس هذا، و ليأتينّ هذا على هذا. قد قامت الفئة الباغية، فأين المحتسبون (7)! فقد سنّت (8) لهم السّنن (9)، و قدّم لهم الخبر، و لكلّ ضلّة (10) علّة، و لكلّ ناكث شبهة. و اللّه لا أكون كمستمع اللّدم (11)، يسمع النّاعي، و يحضر الباكي، ثمّ لا يعتبر!.

اللغة

1 - عطف: الشي عليه اماله إليه و جذبه إلى نفسه.

2 - لا يمتان: لا يتصلان و لا يتقربان، لا يتوسلان.

3 - السبب: الحبل و يستعمل لكل ما يتوصل به إلى الشيء.

4 - الضب: الحقد.

5 - القناع: جمع أقنعة ما تغطى به المرأة رأسها.

6 - انتزع: الشيء قلعه من مكانه.

7 - المحتسبون: طالبوا الحسبة و هي الأجر.

8 - سنت: بيّنت و شرعت.

9 - السنن: الطريقة، الشريعة و السنن من الطريق اوضحه.

10 - الضلة: الضلالة ضد الهدى.

11 - اللدم: الضرب باليد على الصدر و هو من فعل الحزين.

ص: 451

الشرح

(كل واحد منهما يرجو الأمر له، و يعطفه عليه دون صاحبه لا يمتان إلى اللّه بحبل و لا يمدان إليه بسبب كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه و عما قليل يكشف قناعه به و اللّه لئن اصابوا الذي يريدون لينتزعن هذا نفس هذا و ليأتين هذا على هذا) في هذا الكلام الشريف بيان حال طلحة و الزبير و ما يحمل كل منهما في نفسه نحو الآخر و لما ذا خرجا عليه...

فكل واحد منهما - طلحة و الزبير - يرجو أن يكون أمر الخلافة له و يعمل لذلك و يجذبة إليه دون غيره و قد صرح بهذا كل منهما و نقل الرواة ما كان منهما في هذا السبيل قال ابن أبي الحديد: ذكر ارباب السيرة أن الرجلين اختلفا من قبل وقوع الحرب فإنهما اختلفا في الصلاة - من يصلي بالناس - فأقامت عائشة محمد بن طلحة(1) و عبد اللّه بن الزبير يصلي هذا يوما و هذا يوما إلى أن تنقضي الحرب.

ثم اختلفا في الإمارة فأمرت عائشة الناس أن يسلموا عليهما معا بالإمارة.

ثم نفى أن يكون ذلك الخروج عليه منهما أن يكون للّه أو يكون له ما يبرره بل كله عدوان صارخ على حقه و على حق الدين إذ بعد أن انعقدت له الخلافة و بايعاه معا من جملة من بايعوا كيف يكون نقضهما للبيعة و نكثهما للعهد و لما اعطيا من ميثاق.

و أشار بقوله «كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه» إن كل واحد منهما يحمل حقدا على الآخر و يتربص به الفرص للخلاص منه.

و عما قليل تتكشف الأمور فإنه جمر تحت الرماد و حقدهما سوف يظهر و ينكشف للناس...

ثم حلّف باللّه و هو صادق بار إنهما لو انتصرا في حربهما و صارت الخلافة لهما ليأتي أحدهما على الآخر و يقضي عليه و لا يتركه على قيد الحياة و ذلك لأن حربهما للإمام لم تكن للّه و إنما كانت من أجل الخلافة و حبا بها فإذا صارت لهما و دارت بينهما وقع النزاع و الخلاف و تحولت إلى أقوى الطرفين و أشد الخصمين و هذا أمر طبيعي فيمن أحب الدنيا و الرئاسة و الزعامة و قطع النظر عن اللّه و الآخرة و قد قيل «الملك عقيم» أي لا يترك أحدا ينازع صاحبه.

ص: 452


1- ابن أبي الحديد ج 9 ص 110.

(قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون فقد سنت لهم السنن و قدم لهم الخبر و لكل ضلة علة و لكل ناكث شبهة و اللّه لا أكون كمستمع اللدم يسمع الناعي و يحضر الباكي ثم لا يعتبر) أشار عليه السلام إلى هؤلاء القوم - أهل الجمل - و إنهم الفئة التي بغت عليه و خرجت على حكمه ثم استفهم متحسرا و متأسفا أين هم الذين يطلبون الأجر و يبغون الثواب ؟ أين هم عن جهاد هؤلاء فإن جهادهم فيه الأجر فقد بيّن لهم طريق الشرع في قتالهم و جاء الخبر عن النبي إنه عليه السلام يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين و قد روى هذا الخبر العامة و الخاصة ثم بين أن لكل ضلالة علة و سبب و علة هذه الفئة الحسد و البغي و التعدي على حدود اللّه و كذلك لكل ناكث عهد و لم يف ببيعة شبهة و هؤلاء أخذوا دم عثمان شبهة يرفعونها أمام الناس و يحتجون بالمطالبة بالثأر له و لكنها شبهة باطلة مزّيفة لا يريدون من ورائها إلا الخلافة و زرع الفتنة بين المسلمين و في الحقيقة إنهم لم يرفعوا قميص عثمان و يطالبوا بدمه حبا به و رغبة في إحقاق الحق و إقامة العدل و إنما كانوا يرفعون القميص لغاية في نفس يعقوب عرفها أهل الدين و البصيرة بل كل مسلم له أبسط اطلالة على الأحداث يعرف أن طلحة و الزبير و أم المؤمنين عائشة كانوا من أشد الناس عداوة لعثمان و كانوا يبغون له الغوائل و يحثون المسلمين على جهاده و التخلص منه...

ثم حلف أخيرا إنه لا يكون كمستمع اللدم كناية عن الضبع فإنها عند ما تسمع صوت الحجر من الصائد تنخذل و تكف حتى يدخل عليها فيربطها و يأخذها: فيقول: لا أغفل عن كيد الأعداء و أفعالهم و ما يعملون و انتظر اترقب صوت الناعي بفقد الأحبة و البكاء عليهم ثم لا أحرك ساكنا و لا أرد معتديا...

ص: 453

149 - و من كلام له عليه السلام

اشارة

قبل موته أيّها النّاس، كلّ أمرىء لاق ما يفرّ منه في فراره. الأجل مساق النّفس (1). و الهرب منه موافاته (2). كم أطردت (3) الأيّام أبحثها عن مكنون (4) هذا الأمر، فأبى اللّه (5) إلاّ إخفاءه. هيهات! علم مخزون! أمّا وصيّتي: فاللّه لا تشركوا به شيئا، و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين. و أوقدوا (6) هذين المصباحين، و خلاكم ذمّ (7) ما لم تشردوا (8). حمّل كلّ امرىء منكم مجهوده، و خفّف عن الجهلة. ربّ رحيم، و دين قويم (9)، و إمام عليم. أنا بالأمس صاحبكم، و أنا اليوم عبرة (10) لكم، و غدا مفارقكم! غفر اللّه لي و لكم!.

إن تثبت الوطأة (11) في هذه المزلّة (12) فذاك، و إن تدحض (13) القدم فإنّا كنّا في أفياء (14) أغصان، و مهابّ رياح (15)، و تحت ظلّ غمام، اضمحلّ في الجوّ متلفّقها (16)، و عفا (17) في الأرض مخطّها (18). و إنّما كنت جارا جاوركم بدني أيّاما، و ستعقبون منّي جثّة خلاء (19). ساكنة بعد حراك، و صامتة بعد نطق. ليعظكم هدوّي (20)، و خفوت (21) إطراقي (22)، و سكون أطرافي (23) فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع. و داعي لكم وداع امرىء مرصد (24) للتّلاقي! غدا ترون أيّامي، و يكشف لكم عن سرائري، و تعرفونني بعد خلوّ مكاني و قيام غيري مقامي.

ص: 454

اللغة

1 - مساق النفس: ما تسوقها إليه اطوار الحياة حتى توافيه.

2 - الموافاة: الإتيان.

3 - الطرد: الإبعاد و أطردت الرجل إذا أمرت بإخراجه و طردته إذا أخرجته.

4 - المكنون: المستور.

5 - أبى اللّه: كرهه و لم يرضه، امتنع.

6 - أوقدوا: النار اشعلوها.

7 - خلاكم ذم: برئتم من الذم.

8 - تشردوا: تنفروا و تبتعدوا من شرد البعير إذا ند و نفر.

9 - قويم: معتدل.

10 - العبرة: العظة.

11 - الوطأة: موضع القدم من الوطي و هو الدوس بالرجل.

12 - المزلة: الزلق و السقوط.

13 - تدحض: تزّل و تنزلق.

14 - الأفياء: جمع فيىء الظل.

15 - مهب الريح: محل هبوبها.

16 - متلفقها: من تلفق الشيء إذا انضم و اجتمع.

17 - عفا: اندرس و ذهب.

18 - المخط: الأثر.

19 - جثة خلاء: جثة خالية من الروح.

20 - هدوي: سكوني.

21 - الخفوت: السكون.

22 - اطراقي: من أطرق إذا أرخى عينيه إلى الأرض لضعف جفنيه.

23 - اطرافي: جمع الطرف بالتحريك و هي الأعضاء كاليدين و الرجلين.

24 - مرصد: منتظر من أرصد أنتظر.

الشرح

(أيها الناس كل أمرىء لاق ما يفر منه في فراره، الأجل مساق النفس و الهرب منه موافاته كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه إلا إخفاءه هيهات علم

ص: 455

مخزون) هذه وصية الإمام بعد أن ضربه اللعين ابن ملجم و هي تتضمن موعظه غالية للناس ليستعدوا و يتأهبوا للموت و يتعظوا به و يأخذوا العبرة من مقامه الذي هو فيه الآن...

كل إنسان يفر من الموت و في أثناء فراره يجده لأن مدة فراره تذهب بأيامه و فيها ذهاب عمره و أتيان أجله قال تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ » .

و الأجل و هو الموت يسوق النفس إلى نهايتها و تنتهي عنده فإذا هرب منه فكأنه يهرب إليه باعتبار احاطته به و سيطرته عليه.

ثم بين إنه كان يطرد الأيام بقوة و شدة فإذا مضى يوم لم يستشهد فيه طرده ليأتي غيره عسى أن يكشف له عن شهادته و يحمل له سعادته فيأبى اللّه أن يظهر له أو يكشفه بل يبقى وقت الشهادة مجهولا إنه من العلم المخزون عند اللّه الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه و الإمام كان يعرف إنه يذهب شهيدا و في بعض الأخبار يعرف قاتله بل يعرف بعض الخصوصيات لقتله و لكن يبقى هناك علم مكنون عند اللّه لم يظهره لأحد من خلقه به نقدر أن نفسر الشهادة و نرفع عن الإمام تهمة إلقاء النفس في التهلكة و ليس في هذا الأمر الإلهي غضاضة على الإمام أو حط من شأنه لأنه ليس فيه تكليف قد أخل به أو اخطأ...

(أما وصيتي: فاللّه لا تشركوا به شيئا و محمدا صلّى اللّه عليه و آله فلا تضيعوا سنته أقيموا هذين العمودين و أوقدوا هذين المصباحين و خلاكم ذم ما لم تشردوا) أما وصيتي التي أريدها منكم و أريد لكم أن تعملوا بها و تتنبهوا لها:

فاللّه لا تشركوا به شيئا و هذا هو مفتاح النجاح فإن من وحد اللّه و رفض كل ما سواه استدعى منه أن يعمل بكل ما أمر و يترك كل ما نهى و بهذا يصدق التوحيد.

و أما النبي محمد فلا تضيعوا سنته أي اقيموها و أعملوا بها و لا تهملوها أو تسوفوا في تطبيقها و من وحّد اللّه و عمل بسنة رسول اللّه فقد فاز و نجح و قد شبههما الإمام بعمودي الخيمة التي تقوم عليهما و هما عمودي الإسلام الذي ينهض بهما و ترتفع أعلامه بهما، عليهما يقوم نظام المسلمين في معاشهم و معادهم كما إنه عليه السلام شبههما بالمصباحين لأنهما يهديان إلى جنات النعيم و يضيئان الدرب إلى الحق المبين.. فإذا تم هذا لكم فلا ذم عليكم بعده و قد برئتم من كل ما يعيبكم أو يحط من شأنكم إذا استمررتم على ذلك و لم ترتدوا عنه أو تتفرقوا عنه إلى غيره...

(حمل كل امرىء منكم مجهوده و خفف عن الجهلة رب رحيم و دين قويم و إمام عليم) لما أمرهم بتوحيد اللّه و العمل بسنة رسول اللّه و كان هذا تكليف كبير أراد أن يخفف

ص: 456

عنهم همهم فقال كل إنسان يحمل قدر طاقته و يحاسب قدر معرفته فلا يحاسب القاصر كما يحاسب المقصر و لا يحاسب من وصله البيان كما يحاسب من لم يصله البيان و قد خفف عن الجهلة فلا يحاسبوا حساب العلماء فربات الحجال و أهل الغباوه لا يحاسبهم اللّه حساب من يعرف الحقيقة و فحص و محّص حتى توضحت امامه الأمور.

ثم وصف اللّه بالرحمة فهو الرحمن الرحيم يغفر لمن أخطأ و أساء إذا تاب و أناب كما أن هذا الدين مستقيم لا عوج فيه فهو دين ينسجم مع الفطرة و يتوافق مع العقل ليس فيه شيء ينكر أو أمر يستبعد.

و أراد بالإمام العليم رسول اللّه فإنه العليم بكل اسرار الحياة و الكون و ما يوصل إلى اللّه و يبلغ به الإنسان الجنة و دار السلام.

و يمكن أن يريد به نفسه و كل إمام في زمانه لأن الأئمة امتداد لرسول اللّه و خلفاؤه و هم علماء الأمة و قادتها اعطاهم اللّه من علمه ما يغطون به حاجة الإنسان في الدنيا و ما يوصله إلى الآخرة بسلام و أمان...

(أنا بالأمس صاحبكم و أنا اليوم عبرة لكم و غدا مفارقكم غفر اللّه لي و لكم) فبالأمس كنت صاحبكم الذي تعهدونه بالقوة و الرأي و الأمر و النهي و الشجاعة و الإقدام و أما اليوم فأنا عبرة لكم لأنني بين أيديكم صريع هذه الضربة الظالمة الكافرة ملقى صريعا ضعيف الحركة اعالج سكرات الموت فاستعدوا لمثل هذه الساعة و تأهبوا لمثل هذا الوقت الصعب و أما غدا فأنا مفارقكم سأترككم و أرحل إلى الرفيق الأعلى سأترك الدنيا و طلابها و ما فيها غفر اللّه لي و لكم...

(إن تثبت الوطأة في هذه المزلة فذاك و أن تدحض القدم فإنا كنا في أفياء أغصان و مهاب رياح و تحت ظل غمام اضمحل في الجو متلفقها و عفا في الأرض مخطها) إن بقيت بعد هذه الضربة و لم أمت فذاك تقدير اللّه و ما تحبون و إن أمت بها فإنا كنا في دنيا سريعة الزوال كما هو الحال في أفياء الأغصان التي تنقضي بسرعة و محل هبوب الرياح التي تمر بعجلة و تحت ظل غمام لا تلبث الغمام أن تتفرق في الجو و تذهب وحدتها و لا يبقى لها أثر في الأرض أو عليها...

شبه وجوده فيها بهذه الأمور التي تذهب و تزول بسرعة...

(و إنما كنت جارا جاوركم بدني أياما و ستعقبون مني جثة خلاء ساكنة بعد حراك و صامتة بعد نطق ليعظكم هدوي و خفوت اطراقي و سكون اطرافي فإنه أوعظ للمعتبرين

ص: 457

من المنطق البليغ و القول المسموع) لقد جاورتكم ببدني أياما قليلة اشارة إلى أن نفسه الشريفة كانت متعلقة بالملأ الأعلى متصلة باللّه و ستجدون في عاقبة أمركم مني جسدا خاليا من الروح و جثة هامدة بعد حراك و صامتة بعد نطق فتلك الحركة و ذلك المنطق توقفا فلا حركة و لا كلام فهذا الشجاع البطل الذي كان يتحرك في ميادين القتال قد توقفت حركته و تعطلت و هذا الخطيب البليغ الفصيح قد أخرسه الموت فتوقف عن الكلام إنها عبرة يوجههم إليها و يقول لهم ليعظكم سكوني الذي أنا فيه و هذه الوقفة المتداعية مني التي لا أملك فيها رفع عيني عن الأرض و لا أقدر على أن أحرك أطرافي من رأسي و رجلي إلى غيرها.. فإن هذا الذي ترون مني أوعظ لمن أراد أن يعتبر من الواعظ البليغ الفصيح و من أعظم قول يستحق السمع و الانتباه إليه و هذا أمر طبيعي فإن المتكلم البليغ و الكلام المسموع ما هو إلا حكاية عن واقع و صورة عن حقيقة فمهما كان تأثير ذلك لن يكون كإحضار الحقيقة نفسها و وجود المحكي بعينه و مهما يعظ الخطباء في الموت لن يصل ذلك إلى مستوى أن يرى الإنسان جثة ميت و يبيت معها ليلة واحدة منفردا...

(و داعي لكم وداع امرىء مرصد للتلاقي، غدا ترون أيامي و يكشف لكم عن سرائري و تعرفونني بعد خلو مكاني و قيام غيري مقامي) إنها كلمة الوداع التي يطلقها المفارق للأحبة... و داعي لكم وداع امرىء مهيأ للقاء اللّه منتظر لرحمته.. إنه أمل المحبين و العاشقين و غدا عند ما يحكم بنو أمية ترون أيامي الماضية و ما كانت تحمله لكم من العز و الكرامة و تعرفون أنني لم أقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين إلا لإحقاق الحق و إزهاق الباطل و القضاء على المنكرات.. و إنه سيكشف لكم عن سرائري و ما كنت أنويه و إنني لم أكن أبغي الملك و السلطان و إنما كان همي أن أقيم الحق و العدل..

و ستعرفونني بعد خلو مكاني و قيام غيري مقامي فعند ما انتقل إلى اللّه و تخلو الساحة لمعاوية و لبني أمية ستعرفون حاجتكم لي و ستبكون على تلك الأيام التي مرت عليكم في حياتي.. ستعرفون جيدا ما تحمله الأيام المقبلة من ظلم و عدوان و من مفاسد و قبائح و عندها تعرفون حقي و ما كنت أريده لصالحكم و صالح الإسلام...

ص: 458

150 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يومي فيها إلى الملاحم و يصف فئة من أهل الضلال

ذكر الملاحم

و أخذوا يمينا و شمالا ظعنا (1) في مسالك (2) الغيّ (3)، و تركا لمذاهب الرّشد (4). فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد (5)، و لا تستبطئوا ما يجيء به الغد. فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ (6) أنّه لم يدركه. و ما أقرب اليوم من تباشير (7) غد! يا قوم، هذا إبّان (8) ورود (9) كلّ موعود، و دنوّ (10) من طلعة (11) ما لا تعرفون. ألا و إنّ من أدركها منّا يسري فيها بسراج (12) منير، و يحذو (13) فيها على مثال (14) الصّالحين، ليحلّ فيها ربقا (15)، و يعتق (16) فيها رقّا (17)، و يصدع (18) شعبا، و يشعب (19) صدعا، في سترة (20) عن النّاس لا يبصر القائف (21) أثره و لو تابع نظره. ثمّ ليشحذنّ (22) فيها قوم شحذ القين (23) النّصل (24). تجلى (25) بالتّنزيل أبصارهم، و يرمى بالتّفسير في مسامعهم، و يغبقون (26) كأس الحكمة بعد الصّبوح (27).

في الضلال

منها: و طال الأمد (28) بهم ليستكملوا الخزي (29)، و يستوجبوا الغير (30)، حتّى إذا اخلولق (31) الأجل (32)، و استراح قوم إلى الفتن، و أشالوا (33) عن لقاح (34) حربهم، لم يمنّوا (35) على اللّه بالصّبر، و لم يستعظموا بذل أنفسهم في الحقّ ، حتّى إذا وافق وارد (36) القضاء انقطاع مدّة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم، و دانوا (37) لربّهم بأمر واعظهم حتّى إذا

ص: 459

قبض اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله، رجع قوم على الأعقاب، و غالتهم (38) السّبل (39)، و اتّكلوا (40) على الولائج (41)، و وصلوا غير الرّحم، و هجروا السّبب الّذي أمروا بمودّته، و نقلوا البناء عن رصّ (42) أساسه، فبنوه في غير موضعه. معادن كلّ خطيئة، و أبواب كلّ ضارب في غمرة (43). قد ماروا (44) في الحيرة (45)، و ذهلوا (46) في السّكرة، على سنّة من آل فرعون: من منقطع إلى الدّنيا راكن (47)، أو مفارق للدّين مباين (48).

اللغة

1 - ظعن: ظعنا سار.

2 - المسالك: جمع مسلك الطريق.

3 - الغي: الضلال.

4 - الرشد: الاستقامة على طريق الحق، ضد الغي.

5 - مرصد: منتظر.

6 - ودّ: أحب و تمنى.

7 - التباشير: للصبح أوائله.

8 - إبّان: الشيء وقته.

9 - الورود: ضد الصدور، القدوم.

10 - الدنو: القرب.

11 - الطلعة: الظهور.

12 - السراج: إناء و نحوه يوضع فيه زيت و نحوه يستضاء به.

13 - يحذو: يقتفي.

14 - المثال: الشبه، النظير.

15 - الربق: بالكسر فالسكون حبل فيه عدة عرى يشدّ بها البهم و كل عروة ربقة.

16 - يعتق: يحرر.

17 - الرق: العبودية.

18 - يصدع: يفرّق.

19 - يشعب: يجمع.

ص: 460

20 - السترة: الخفاء.

21 - القائف: الذي يعرف الآثار فيتبعها.

22 - يشحذن: من شحذ السكين إذا حددها.

23 - القين: الحداد.

24 - النصل: حديدة السيف و السكين و نحوها.

25 - تجلى: تكشف و تظهر.

26 - يغبقون: يسقون و الغبوق الشرب بالعشي.

27 - الصبوح: ما يشرب بالغداة.

28 - الأمد: الوقت.

29 - الخزي: الهوان، الذل.

30 - الغير: بكسر ففتح أحداث الدهر و نوائبه.

31 - أخلولق: إذا استوى و صار خليقا.

32 - الأجل: الوقت المضروب.

33 - أشالوا: من شالت الناقة ذنبها إذا رفعته.

34 - اللقاح: اسم ماء الفحل، لقحت الناقة إذا قبلت اللقاح.

35 - يمّنوا: من منّ عليه بما صنع إذا عدّد له ما فعله من الأمور الطيبة.

36 - الوارد: ضد الصادر، فهو وارد الماء أي صار إليه.

37 - دانوا: أطاعوا.

38 - غالتهم: أهلكتهم.

39 - السبل: الطرق.

40 - اتكلوا: اعتمدوا، و وثقوا.

41 - الولائج: جمع وليجة البطانة خاصة الرجل من أهله و عشيرته.

42 - الرّص: مصدر رصصت الشيء أرصه أي ألصقت بعضه ببعض.

43 - الغمرة: الضلال و الجهل، الشدة.

44 - ماروا: تحركوا و اضطربوا.

45 - الحيرة: الضلال و عدم الاهتداء، جهل وجه الصواب.

46 - ذهلوا: عن الشيء نسوه.

47 - راكن: مخلد.

48 - مباين: مزايل.

ص: 461

الشرح

اشارة

(و أخذوا يمينا و شمالا ظعنا في مسالك الغي و تركا لمذاهب الرشد فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد و لا تستبطئوا ما يجيء به الغد فكم من مستعجل بما أن أدركه ودّ أنه لم يدركه و ما أقرب اليوم من تباشير غد) يذكر بعض فرق الضلال الذين زاغوا عن طريق الحق و ذهبوا في متاهات الانحراف بين الإفراط و التفريط و لم يسلكوا طريق الهدى و ما شرّعه الإسلام و سنّه.

ثم نهاهم عن استعجال ما هو كائن و ما لا بدّ أن يوجد مما كانوا يتوقعونه من الفتن التي أخبرهم النبي بأنها ستقع.

كما نهاهم عن الاستبطاء لما يجيء في الغد القريب لوقوعه و تحققه و علل ذلك النهي بأن الإنسان ربما استعجل أمرا و أحب الحصول عليه و بذل جهده في تحصيله فلما أدركه تمنى أن لم يكن حصل عليه و لا بذل جهده في سبيله كما لو ضحى الإنسان من أجل امرأة و سعى للوصول إليها فلما صارت عنده ظهر منها قبيح الصفات و الأفعال فيتمنى عندها أنه لم يسع في سبيل ذلك كما يتمنى عندها لو أنه لم يدركها.

ثم لما نهاهم عن استبطاء ما يجيء به الغد أشار إلى قرب الغد من اليوم و أن طلائعه قد ظهرت و أوائله قد بانت و ما أقربه من اليوم، إنه متصل به لا يفصله عنه فاصل...

(يا قوم هذا إبّان ورود كل موعود و دنوّ من طلعة ما لا تعرفون ألا و إن من أدركها منا يسري فيها بسراج منير و يحذو فيها على مثال الصالحين) ينبههم إلى أن هذا الوقت هو وقت الأمور الموعودة التي تأتي قبل يوم القيامة و تكون من علامات حدوثها و هذا وقت قرب ظهور ما لا تعرفون من الأمور لأنها أمور على خلاف ما اعتاده الناس...

ثم ذكر سيرة أهل البيت و كيف يكون مسيرهم وقتها و سلوكهم خلالها، إنهم يسيرون برؤية واضحة من تعاليم الإسلام حيث توجد عندهم المعالم الواضحة التي تهدي إلى الحق و تميز بينه و بين غيره من الباطل و كذلك إنّ لهم من سيرة الصالحين من أهلهم و ما تركوه لهم ما يكفي للنجاة من العثار و الوصول إلى شاطىء السلامة و الأمن و الطمأنينة...

(ليحل فيها ربقا و يعتق فيها رقا و يصدع شعبا و يشعب صدعا في سترة عن الناس لا

ص: 462

يبصر القائف أثره و لو تابع نظره ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل تجلى بالتنزيل أبصارهم و يرمى بالتفسير في مسامعهم و يغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح) و هذا الإمام الذي يكون أثناء تلك الفتن يكون له أعظم دور و أهمه إذ مضافا إلى سيرته الشخصية الصالحة يتولى أمور الناس، فهو يحل الأسرى و يحررهم و يطلق سراحهم أو أنه يزيل الشك من نفوسهم و يحررها من العبودية لغير اللّه...

كما أنه يفرق جمعا التقوا على الضلال و الانحراف و يجمع قوما تفرقوا عن حقهم...

و من خصوصياته أنه مستور عن الناس لا يعرفونه بهذه الصفة و هذه الخصوصية و لا يكاد يبصره الخبير بالآثار و لو دقق النظر و اتبع الأثر و من هنا كان الأئمة في وصيتهم أن لا يذيعوا سرا.

و كون الإمام مستورا ينطبق على الإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام و هذا تصريح من الإمام علي به و قد تعب أصحاب الحق و كبار العلماء و تمنوا رؤيته فلم يحظى بذلك إلا بعض السعداء الذين كحلوا أنظارهم بطلعته و سعدوا برؤيته و قد صرح ابن أبي الحديد أن كلام الإمام هنا إنما هو في ذكر «مهدي آل محمد صلّى اللّه عليه و آله» ثم أراد أن يشكك فيما عليه الشيعة من أنه محمد بن الحسن بدعوى أنه سيخلقه اللّه فيما بعد و هذه حجة ساقطة منه يدحضها ما ورد عن النبي من أخبار يذكره باسمه و اسم أبيه و كذلك ما ورد عن الأئمة من آبائه...

ثم ذكر أنصار هذا الإمام المهدي و ما فيهم من صفات إنهم قوم يتخرجون عن يديه رجالا عظماء عباقرة الفكر و النظر دقيقين في كل علومهم و معارفهم أقوياء في حججهم و بيناتهم تجلى بالقرآن ظلمات بصائرهم و يكشف الرين به عن قلوبهم و بواسطة هذا الإمام و تفسيره و تثقيفه يلهمون دقائق علوم القرآن و معارفه.

ثم أشار إلى أن هؤلاء الذين يتخرجون عن أيدي الأئمة يعيشون في عالم أخذ الحكمة و المداومة على تناولها و اللذة الدائمة في الحياة معها و هذا يصدق على فقهاء أهل البيت عليهم السلام فإنهم بهذه الأوصاف فإن هممهم تطال الجبال و لا يكلّون أو يملّون تجد المرجع منهم ابن التسعين و مع ذلك يعيش هموم الناس و فضاياهم و يرد على من استفتاه و يجلس في الدرس يباحث و يقبل المناقشة حر و عقل كبير يعجز القلم عن وصفه...

(و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزي و يستوجبوا الغير حتى إذا اخلولق الأجل

ص: 463

و استراح قوم إلى الفتن و أشالوا عن لقاح حربهم لم يمنوا على اللّه بالصبر و لم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم و دانوا لربهم بأمر واعظهم) قالوا: إن هذا الكلام يتصل بكلام قبله لم يذكره الرضي يذكر فيه وصف فئة ضالة امتدت أيامها طويلا و عمرت في الملك كثيرا من أجل أن تبلغ الدرجة العليا في المهانة و الذل و يستوجبوا تغيير نعم اللّه عليهم بأضدادها بسوء فعلهم و أعمالهم و بقوا كذلك حتى إذا قرب موعد انتهاء حكمهم و زوال ملكهم و قد استراح بعض الناس و استسلموا للفتن التي تعم البلاد و كفوا أيديهم عن قتال هؤلاء القوم الضالين و رفعوا سيوفهم عنهم إما لعجزهم أو لأمر آخر و أنهم و إن كانوا كذلك و لكنهم يملكون نفوسا طيبة إذا لم يمنوا على اللّه بجهادهم لأعدائهم و لم يروا لأنفسهم عظيم أمر إذا قدموا أنفسهم و بذلوها في سبيل الحق و العدل و إنما عدوا ذلك واجبا مقدسا يقومون به و بقوا هكذا و على هذه الطريقة... القلوب مملوءة بالحب للّه... و الاستقامة على الطريق، و البذل في سبيله... إنهم وطنوا أنفسهم على ذلك حتى إذا قدر اللّه لهذا الحكم الظالم أن يزول و للبلاء أن يرتفع بأن تزول دولة الأشرار و ممارساتهم الظالمة في العباد قام هؤلاء المؤمنون عندها و قد حملوا بصائرهم على أسيافهم قال ابن أبي الحديد في تفسير هذه العبارة: يعني أنهم أظهروا بصائرهم و عقائدهم و قلوبهم للناس و كشفوها و جردوها من أجفانها مع تجريد السيوف من أجفانها فكأنها شيء محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف و لا ريب أن السيوف المجردة من أجلى الأجسام للأبصار فكذلك ما يكون محمولا عليها...

و عندي تفسير آخر محتمل و هو أنهم جعلوا السيوف تتحرك وفق بصائرهم من الإيمان و العقيدة فكانوا يقاتلون و يعرفون لما ذا يقاتلون و يشهرون السيوف... و إنهم لالتزامهم أذعنوا للّه و أطاعوه بما أمرهم به و أرشدهم إليه و اعظهم و هو الرسول الأكرم أو الإمام...

(حتى إذا قبض اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله رجع قوم على الأعقاب و غالتهم السبل و اتكلوا على الولائج و وصلوا غير الرحم و هجروا السبب الذي أمروا بمودته و نقلوا البناء عن رص أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئة و أبواب كل ضارب في غمرة قد ماروا في الحيرة و ذهلوا في السكرة على سنة من آل فرعون من منقطع إلى الدنيا راكن أو مفارق للدين مباين).

ذكر الصحابة.

ذكر حال الصحابة بعد وفاة رسول اللّه و أن قوما منهم غيروا و بدلوا و ارتدوا و قد

ص: 464

ذكر بعض ما فعلوا في ضمن أمور:

1 - رجع قوم على الأعقاب: عادوا إلى جاهليتهم فارتدوا عن الإسلام كما قال تعالى: «وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً» (1).

2 - و غالتهم السبل: أهلكتهم الآراء التي اعتمدوها و ذهبوا إليها لأنها لم تستند إلى كتاب اللّه أو سنة رسول اللّه.

3 - اتكلوا على الولائج: اعتمدوا في أخذ قراراتهم على بطانتهم التي هي أقاربهم و خواصّهم و من ينتفع بوجودهم و هذه البطانة أفسدت و ما أصلحت و ضلت و أضلت و أصدق شاهد على ذلك ما ذهب إليه عثمان أيام خلافته حيث اعتمد على الأمويين و كان مروان بن الحكم مستشاره الخاص و صاحب سره و الناطق باسمه حتى تحول إلى أن يكون هو الخليفة و لكن في ثوب عثمان...

4 - و وصلوا غير الرحم: إنهم أمروا بأن يوصلوا رحم رسول اللّه و هم أهل بيته فقطعوها و وصلوا غيرها ممن لا تستحق الصلة...

5 - هجروا السبب الذي أمروا بمودته: و السبب الذي أمروا بمودته هم آل رسول اللّه حيث أجمعت الأمة على صحة ما ورد عنه صلوات اللّه و سلامه عليه حيث قال: «خلفت فيكم الثقلين: كتاب اللّه(2) و عترتي أهل بيتي حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض».

و قد أمر اللّه الأمة بمودة أهل البيت حيث قال تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ » (3).

5 - نقلوا البناء عن رص أساسه فبنوه في غير موضعه: الإسلام كلّ لا يتجزأ و كل حكم في موقعه تناول أعظم أمور الأمة من الإمامة و الولاية إلى أصغرها و أحقرها كدخول الحمام و بيت الخلاء لا تجد فيه زيادة و لا نقيصة أكمله اللّه و أتمه و هؤلاء الصحابة قد نقضوا هذا البناء المحكم المرصوص المتصل المتكامل و غيّروا مواقع الأمور و أبدلوها... نقلوا أعظم قطب في الإسلام عن موقعه و أعطوا الحكم لغير أهله بعد أن3.

ص: 465


1- سورة آل عمران، آية - 144.
2- ابن أبي الحديد ج 9 ص 133.
3- سورة الشورى، آية - 23.

سلبوه من أهله... إنه بناء في غير موضعه فمن نقله مجرم و من أخذه أشد إجراما...

6 - معادن كل خطيئة: لأن كل خطيئة إنما كانت تستند إليهم و كل ضال كان يعتمد عليهم، فلو لم يبعدوا أهل البيت عن حقهم و يغتصبوا الخلافة منهم لم يستطع أحد أن يجرأ على منابذة أهل البيت أو مخالفتهم، إنهم أسسوا أساس الظلم و شيدوا بناءه و لا يزال أبناؤهم حتى اليوم يحتجون بأفعالهم و كل انحراف يسندونه إليهم لحديث مختلق أو رواية من كذاب لا أصل لها...

7 - و أبواب كل ضارب في غمرة: كل ضال و منحرف يتخرج عن أيديهم و يخرج من أبوابهم لأنهم أساس الضلال و أساتذته.

8 - قد ماروا في الحيرة: فهم حائرون في ترددهم لا يهتدون إلى الحق سبيلا لأنهم بعد أن تركوا أعلام الهدى و أئمة التقى ضلوا و تحيروا و لم يهتدوا.

9 - ذهلوا في السكرة: أي غابت أفكارهم في سكرة الجهل، و للجهل سكرة منكرة.

10 - علس سنة من آل فرعون: من منقطع إلى الدنيا راكن أو مفارق للدين مباين...

من الصحابة من هو على سنة من آل فرعون سنة الضلال و الانحراف و الخروج عن طاعة اللّه المؤدي إلى دخول النار إنهم بين رجلين بين رجل انقطع إلى الدنيا فهي عنده كل شيء و لا شيء بعدها قد أخلد إليها و سعى من أجلها و عمل كل شائنة للحصول عليها لا يمنعه دين أو يردعه ضمير أو خلق قويم و بين رجل مفارق للدين مجانب له يحاربه و يحارب من يحمله أو يتدين به...

ص: 466

151 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يحذر من الفتن

الله و رسوله.

و أحمد اللّه و أستعينه على مداحر (1) الشّيطان و مزاجره (2)، و الاعتصام (3) من حبائله و مخاتله (4). و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و نجيبه (5) و صفوته. لا يؤازى (6) فضله، و لا يجبر فقده. أضاءت به البلاد بعد الضّلالة المظلمة، و الجهالة الغالبة، و الجفوة (7) الجافية، و النّاس يستحلّون الحريم (8)، و يستذلّون الحكيم، يحيون على فترة (9)، و يموتون على كفرة (10)!.

التحذير من الفتن

ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض (11) بلايا (12) قد اقتربت. فاتّقوا سكرات النّعمة، و احذروا بوائق (13) النّقمة (14)، و تثبّتوا (15) في قتام (16) العشوة (17)، و اعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، و ظهور كمينها (18)، و انتصاب قطبها (19)، و مدار (20) رحاها (21). تبدأ في مدارج (22) خفيّة، و تؤول (23) إلى فظاعة (24) جليّة. شبابها (25) كشباب الغلام، و آثارها كآثار السّلام (26)، يتوارثها الظّلمة بالعهود! أوّلهم قائد لآخرهم، و آخرهم مقتد بأوّلهم، يتنافسون في دنيا دنيّة، و يتكالبون (27) على جيفة (28) مريحة (29) و عن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع، و القائد من المقود، فيتزايلون (30) بالبغضاء (31)،

ص: 467

و يتلاعنون عند اللّقاء. ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف (32)، و القاصمة (33) الزّحوف (34)، فتزيغ (35) قلوب بعد استقامة، و تضلّ رجال بعد سلامة، و تختلف الأهواء عند هجومها، و تلتبس (36) الآراء عند نجومها (37).

من أشرف لها قصمته (38)، و من سعى فيها حطمته، يتكادمون (39) فيها تكادم الحمر (40) في العانة (41)! قد اضطرب معقود الحبل، و عمي وجه الأمر.

تغيض (42) فيها الحكمة، و تنطق فيها الظّلمة، و تدقّ (43) أهل البدو (44) بمسحلها (45)، و ترضّهم (46) بكلكلها (47)! يضيع في غبارها الوحدان (48)، و يهلك في طريقها الرّكبان (49)، ترد بمرّ القضاء، و تحلب عبيط (50) الدّماء، و تثلم (51) منار الدّين، و تنقض عقد اليقين. يهرب منها الأكياس (52)، و يدبّرها الأرجاس (53). مرعاد (54) مبراق (55)، كاشفة عن ساق (56)! تقطع فيها الأرحام، و يفارق عليها الإسلام! بريّها (57) سقيم (58)، و ظاعنها (59) مقيم!.

منها: بين قتيل مطلول (60)، و خائف مستجير، يختلون (61) بعقد الأيمان و بغرور الإيمان، فلا تكونوا أنصاب (62) الفتن (63)، و أعلام البدع (64)، و الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، و بنيت عليه أركان الطاعة، و اقدموا على اللّه مظلومين، و لا تقدموا عليه ظالمين، و اتّقوا مدارج الشّيطان، و مهابط (65) العدوان، و لا تدخلوا بطونكم لعق (66) الحرام، فإنّكم بعين (67) من حرّم عليكم المعصية، و سهّل لكم سبل الطّاعة.

اللغة

1 - المداحر: جمع مدحر الأمور التي يدحر بها أي يطرد و يبعد.

2 - المزاجر: الأمور يزجر بها أي يكف و يمنع.

ص: 468

3 - الاعتصام: باللّه الامتناع بلطفه من المعصية، الالتجاء و الامتناع.

4 - المخاتل: الأمور التي يختل بها أي يخدع.

5 - النجيب: الفاضل النفيس في نوعه.

6 - لا يؤازى فضله: لا يساوى يقال: آزيت فلانا أي حاذيته.

7 - الجفوة: الجافية غلظ الطبع و بلادة الفهم.

8 - الحريم: جمع حرم ما حرم فلم يمس.

9 - الفترة: ما بين الرسولين من انقطاع الوحي.

10 - الكفرة: واحد الكفرات أي الكفر.

11 - الأغراض: الأهداف.

12 - البلايا: المصايب.

13 - البوائق: جمع بائقة و هي الداهية:

14 - النقمة: المكافأة بالعقوبة.

15 - تثبتوا: من التثبت و هو التوقف.

16 - القتام: الغبار.

17 - العشوة: ركوب الأمر على غير بيان و وضوح.

18 - الكمين: الجماعة المختفية في الحرب تترصد العدو.

19 - القطب: حديد في الطبق الأسفل من الرحى يدور عليها الطبق الأعلى/ملاك الشيء و مداره.

20 - المدار: للشيء ما يدور عليه و مدار الأمر ما يجري عليه غالبا.

21 - الرحا: مؤنثة و هي الطاحونة.

22 - المدارج: المسالك.

23 - تؤول: ترجع و تعود.

24 - الفظاعة: مصدر فظع بالضم فهو فظيع أي شديد شنيع تجاوز الحد.

25 - شبابها: الشباب لكل شيء أوله أي بداياته في عنفوان و شدة كشباب الغلام.

26 - السلام: بالكسر الحجارة.

27 - يتكالبون: يتنافسون فيها و يقبلون عليها.

28 - الجيفة: جمعها جيف و اجياف جثة الميت المنتنة.

29 - المريحة: المنتنة.

30 - يتزايلون: يتفرقون.

31 - البغضاء: البغض الشديد ضد الحب، الكراهة.

32 - الرجوف: من رجف الشيء إذا تحرك و اضطرب.

33 - القاصمة: الكاسرة.

ص: 469

34 - الزحوف: من الزحف و هو السير على تؤده كسير الجيوش.

35 - تزيغ: تميل.

36 - تلتبس: تختلط، عدم الاتضاح.

37 - نجومها: ظهورها.

38 - قصمته: كسرته و قصمه اللّه أذله و قيل قرّب موته.

39 - يتكادمون: يعضّ بعضهم بعضا من الكدم و هو العض بأدنى الفم.

40 - الحمر: جمع حمار و له فردان حمار وحشي و حمار أليف.

41 - العانة: القطيع من حمر الوحش.

42 - تغيض: تنقص و تغور.

43 - تدق: تفتت.

44 - أهل البدو: أهل البادية.

45 - المسحل: المبرد، أو آلة النحت و النشر و أيضا هي حلقة تكون في طرف شكيمة اللجام مدخلة في مثلها.

46 - الرض: التهشيم.

47 - الكلكل: الصدر.

48 - الوحدان: جمع واحد أي المتفرد.

49 - الركبان: جمع راكب و لا يكون إلا ذا بعير.

50 - العبيط: من الدم الطري الخالص منها.

51 - تثلم: من ثلمت الإناء إذا كسرت حرفه.

52 - الأكياس: العقلاء.

53 - الأرجاس: جمع رجس و هو القذر النجس.

54 - مرعاد: شديدة الرعد و هو الصوت الحادث من اصطدام الغيوم.

55 - مبراق: شديدة البرق ما يحدث من الشرر إثر اصطدام الغيوم.

56 - الساق: الشدة و المشقة.

57 - البري: الصحيح السليم.

58 - السقيم: المريض.

59 - الظاعن: الراحل.

60 - مطلول: مهدور الدم لا يطلب به.

61 - يختلون: يخدعون.

62 - الأنصاب: جمع نصب و هو العلم المنصوب ليهتدى به.

63 - الفتن: جمع الفتنة، الابتلاء، الاختبار، المحنة.

ص: 470

64 - البدع: جمع بدعة ما أحدث على غير مثال سابق، إدخال ما ليس في الدين على أنه منه.

65 - المهابط: أماكن النزول.

66 - اللعق: جمع لعقة بضم اللام و هي ما تأخذه في الملعقة.

67 - أنت بعين فلان: أي بمرأى منه.

الشرح

اشارة

(و أحمد اللّه و أستعينه على مداحر الشيطان و مزاجره و الاعتصام من حبائله و مخاتله و أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا عبده و رسوله و نجيبه و صفوته لا يؤازى فضله و لا يجبر فقده أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة و الجهالة الغالبة و الجفوة الجافية و الناس يستحلون الحريم و يستذلون الحكيم يحيون على فترة و يموتون على كفرة) هذه الخطبة الشريفة إخبار عما يحدث بعده صلوات اللّه عليه و آله و هي من الملاحم التي يكشف الإمام فيها ما يخفيه الزمن و تحمل به الأيام و صدّرها بالاستعانة باللّه و ذكر رسول اللّه و بعض ممادحه فقال: أحمد اللّه على ما كان و على ما أعطى و قدّر و أستعينه على ما يطرد الشيطان و يكّفه عني و ذلك يكون بممارسة الطاعات و الاجتناب عن المحرمات...

كما أنه عليه السلام طلب من اللّه أن يمنعه عن حبائل الشيطان التي هي شهوات النفس و الميل مع الهوى و أن يجنبه خدعه التي هي تزيين الحرام و تهوين المعصية و تسهيلها...

ثم بعد الإقرار للّه بالوحدانية و لمحمد بالعبودية و الرسولية أخذ في ذكر ممادح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فوصفه بأنه نجيب اللّه و صفوته أي الحسيب الكريم المصطفى المختار...

لا يوازى فضله و لا يجبر فقده و كيف يكون هناك من الناس من يساوي رسول اللّه في الفضل و قد اختاره اللّه لحمل رسالته و هداية خلقه و قد استطاع بجهاده أن يرد الأمم إلى اللّه و يهديهم لما فيه صلاح دينهم و دنياهم و لا يجبر فقده إلا نظير له و حاشا أن يكون نظير لرسول اللّه من الناس... ثم وصفه بقوله: أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة:

فبعد الجاهلية و ظلماتها و كفرها و انحرافها جاء النبي فمحى تلك الظلمات بنور الإسلام و الهداية و الإيمان و العلم...

إنهم قوم يعيشون الجاهلية في أغلب عاداتها و تقاليدها و الغلظة الشديدة و القساوة

ص: 471

المريرة فقد نشئوا على سفك الدماء و هتك الأعراض و الغزو و السلب. ليس هناك أمر محرم يرتدعون عنه أو يكفون عن ممارسته و القيام به و من جاهليتهم أنهم يستضعفون الحكيم الذي يحرم عليهم بعض عاداتهم القبيحة و لا يخوض معهم فيها... إنهم يعيشون فترة مظلمة بين رسول قد مضى و هو عيسى و بين النبي محمد الذي هو الآن قد ظهر يعيشون هذه الفترة المظلمة و يموتون على الكفر لعدم الموجّه و لما طبعوا عليه من العادات و التقاليد القبيحة...

(ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت فاتقوا سكرات النعمة و احذروا بوائق النقمة و تثبتوا في قتام العشوة و اعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها و ظهور كمينها و انتصاب قطبها و مدار رحاها) أخذ في تحذير العرب من الفتنة و كيف تتكون و مدى الآثار التي تتركها...

إنكم يا معشر العرب أهداف للمصائب تصوّب سهامها نحوكم و قد اقتربت منكم و ستحل فيكم و لما كان العرب قد انفتحت أمامهم خزائن الدنيا و أصبحت بأيديهم أموال كسرى و قيصر حذرهم من سكرة هذه النعمة و إغفال شكرها و قليلون أولئك الذين يلتفتون إلى ما أعطوا من النعم فيؤدون شكرها بل الإنسان إذا أنعم اللّه عليه ينسى ماضيه و تاريخه السابق و ما كان عليه من البؤس و الحاجة فيأخذه الغرور و البطر و عندها يأخذ اللّه ما في يديه و يسلبه النعمة و يكون هو الذي عرضها للزوال و الفناء...

كما حذرهم من غوائل الدهر و شروره و أن لا يركنوا إلى ما هم فيه من صحة و مال و جاه فإنها كلها في معرض الزوال و الذي أعطاها هو القادر على سلبها منك و إزالتها عنك...

ثم أمرهم أن يفكروا في الأمور و يدرسوا القضايا و لا يستعجلوا في أخذ القرار فيها فإن ذلك يوقع في المهالك فإن الفتنة التي لم تظهر بشكل واضح و لم تتكشف أمام الناس بصورتها الحقيقية فإنها تخرج صغيرة ضعيفة كشبهة الخوارج أو تكون مختفية ثم تظهر فجأة فإن هذه تحتاج إلى تنبه و تفكر لأنها تقوى و يشتد صلبها ثم تتحرك نحو اتجاهها و لا يمكن السيطرة عليها بعدئذ...

(تبدأ في مدارج خفية و تؤول إلى فظاعة جلية شبابها كشباب الغلام و آثارها كآثار السلام) إن الفتنة تحاك وراء الكواليس و تدبر شئونها في السر... إنها لا تصل إلى أيدي الناس إلا و قد تجهزت لها كل العناصر التي توفر لها النجاح... تبدأ في الخفاء صغيرة حقيرة و لكنها ترجع بعد فترة إلى أمر مهول فظيع واضح... إنها تنمو كما ينمو الطفل

ص: 472

يبدأ ضعيفا صغيرا لا يقوى على الحركة ثم ينمو حتى يتخرج مجرما يهدم الحضارة و يقضي على الإنسان و ما بنى و كذلك الفتنة تبدأ خفية صغيرة و لكن فعلها كفعل الحجارة من حيث إنها لو وقعت على رأس إنسان هشمته و قضت عليه و لعل ذلك إشارة إلى الشبهة التي ادعاها الناكثون - طلحة و الزبير و أم المؤمنين و من وراءهم - فإنها كانت شبهة بسيطة حاكها هؤلاء في السر ثم سربوها إلى الناس فعاشت و تحركت حتى تركت في الإسلام أثرا واضحا لا يزال حتى اليوم بين المسلمين...

(يتوارثها الظلمة بالعهود أولهم قائد لآخرهم و آخرهم مقتد بأولهم يتنافسون في دنيا دنية و يتكالبون على جيفة مريحة و عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع و القائد من المقود فيتزايلون بالبغضاء و يتلاعنون عند اللقاء) الظلمة يتوارثون هذه الفتنة بالعهود فإنهم غصبوا الأمة حقها و ابتزوها قيادتها و جلسوا على كرسي الخلافة بالقهر و الغلبة كمعاوية ثم عهد بها من بعده إلى ابنه يزيد و هكذا تنقلت في العصبة الأموية الخبيثة الأول يرسم الخط و يشق الطريق في العداء لأهل الحق و العدل و الآخر يقتدي به و لا يحيد عن طريقه و عما رسم له...

إنهم يتنافسون في دنيا حقيرة لا تستحق هذا التنافس و التزاحم و يتجاذبون فيما بينهم تجاذب الكلاب على جيفة منتنة ظاهر ريحها المؤذي تحقيرا لها و تنفيرا منها...

ثم أشار إلى أن هذا التضامن لن يعمر طويلا إذ سيسقط عند ما تنهار سلطتهم و تنتقل إلى غيرهم أو عند ما يأتي يوم القيامة و تنكشف الأوراق و يستحق كل فرد ما يعمل و عندها يتبرأ التابع من المتبوع و يتنكر له و ينكره و في المقابل يقوم التابع و القائد بالبراءة ممن اتبعه و سار خلفه كما قال تعالى حكاية ذلك: «إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبٰابُ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنٰا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمٰا تَبَرَّؤُا مِنّٰا» .

إنهم يفترقون بالبغضاء لأن اجتماعهم لم يكن للّه فافتراقهم لم يكن إلا للعداوة بينهم لأن مصلحة كل واحد تتنافى مع مصالح الآخرين و عند ما يلتقون و يتواجهون تبدأ بينهم معركة اللعن و السب فكل واحد يدعو على الآخر و يلعنه...

(ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف و القاصمة الزحوف فتزيغ قلوب بعد استقامة و تضل رجال بعد سلامة و تختلف الأهواء عند هجومها و تلتبس الآراء عند نجومها).

ص: 473

الفتنة و أحوال الناس.

يخبر الإمام بهذه الفتنة التي تحدث و تظهر فيصف مقدماتها المهولة إنها فتنة رجوف يضطرب فيها الناس أو يضطرب فيها أمر الإسلام وصفها بالقاصمة الزحوف التي تكسر الخلق و تهلكهم و تزحف نحوهم و تبيرهم...

ثم وصف حال الناس في تلك الفتنة المشئومة.

1 - تزيغ قلوب بعد استقامة: فقد كانت هناك قلوب مطيعة للّه ملتزمة بتكاليفه لم تستطع أن تصمد أمام قوة هذه الفتنة فخرجت عن استقامتها و اعتدالها لتضل و تنحرف...

2 - تضل رجال بعد سلامة: و كان هناك من الرجال من هو سليم في دينه و في تفكيره و في نهجه فعند ما جاءت الفتنة خرج من الهدى و الرشاد إلى الردى و الهلاك.

3 - تختلف الأهواء عند هجومها: فعند ما تحل الفتنة يذهب كل فرد وراء هواه لا يجمعهم دين و لا يوحد صفهم حق أو عدل بل و لا مصلحة ترجع إلى الجميع...

4 - و تلتبس الآراء عند نجومها: عند ظهور الفتنة تختلط الآراء الصحيحة بالفاسدة و السليمة بالمغرضة و لم يعد الناس يعرفون وجه الحق و الصواب منها...

(من أشرف لها قصمته و من سعى فيها حطمته يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة قد اضطرب معقود الحبل و عمي وجه الأمر تغيض فيها الحكمة و تنطق فيها الظلمة و تدق أهل البدو بمسحلها و ترضهم بكلكلها يضيع في غبارها الوحدان و يهلك في طريقها الركبان) لا يزال يذكر ما يجري في تلك الفتنة و بعض أحداثها العظيمة.

5 - من أشرف لها قصمته: من وقف في وجهها أهلكته و قضت عليه و منعت كونه عقبة في طريق زحفها.

6 - من سعى فيها حطمته: من سعى في إطفائها و القضاء عليها قضت عليه و أنهت وجوده.

7 - يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة: الناس أيام هذه الفتنة يعيشون مع هذه الفتنة حالة عداء يؤذي بعضهم البعض كالحمير الوحشية التي في قطيعها تعض بعضها البعض...

8 - قد اضطرب معقود الحبل: ارتبكت الأمور التي كانت محكمة و جارية على

ص: 474

قواعدها و الأسس التي بنيت عليها و فسرها بعضهم بقواعد الدين و الأحكام الشرعية.

9 - و عمي وجه الأمر: ما فيه صلاحهم و نجاحهم قد اختفى و لم يعووا طرق الهداية و الصلاح.

10 - تغيض فيها الحكمة: تقل و تنقص فيها الحكمة إما لعدم جرأة الحكيم في تلك الظروف و إما لعدم الاستماع له...

11 - تنطق فيها الظلمة: لأنهم الحاكمون و من بيدهم الأمور و هذا ما نجده في زماننا تجد الكلمة لأهل النفاق و الظلم من الحكام و أتباعهم و نظرة واحدة إلى وسائل الإعلام بمختلف أصنافها تجد صدق هذا الكلام و انطباقه بحذافيره على أيامنا هذه...

12 - تدق أهل البدو بمسحلها و ترضهم بكلكلها: بيان لما يصيب أهل البادية من هذه الفتنة إنها تصيبهم بإصابة عظيمة تفرقهم و تمزق جمعهم و تهلك منهم الخلق الكثير فقد شبهها بالمبرد الذي يأتي على ما تحته من حديد أو بالمنشار الذي يقضي على وحدة الخشب و يمزق أوصاله كما أنه شبه الفتنة بالناقة التي أناخت بصدرها بكل ثقله على أحد من الناس فإنها تقضي عليه أو تسحقه...

13 - يضيع في غبارها الوحدان و يهلك في طريقها الركبان: إنها فتنة لا تبقي على أحد فمن كان وحده يضيع من غبارها من إعلامها و ما تبثه و ترعب به القلوب و إذا كانوا جماعة و أرادوا الدخول فيها بثورة أو انتفاضة فإنهم إلى الهلاك و الفناء...

و قيل يهلك فيها العظماء و الحكماء من الأمة لأنهم النوابع و يكون الوحدان جمع أوحد و هو وحيد عصره لغموض الشبهة و استيلاء الباطل و يكون الركبان كناية عن أهل القوة فأولئك يهلكون بالشبهة و هؤلاء يهلكون بالقتل...

(ترد بمر القضاء و تحلب عبيط الدماء و تثلم منار الدين و تنقض عقد اليقين يهرب منها الأكياس و يدبرها الأرجاس. مرعاد مبراق كاشفة عن ساق تقطع فيها الأرحام و يفارق عليها الإسلام بريها سقيم و ظاعنها مقيم).

14 - ترد بمر القضاء: تأتي بالهلاك و الدمار فلا تترك حرثا و لا نسلا...

15 - تحلب عبيط الدماء: تسفك فيها الدماء للحرب التي تقع فيها.

16 - تثلم منار الدين: أي تعطل أهم الواجبات الدينية المعمول بها و المتسالم عليها.

ص: 475

17 - و تنقض عقد اليقين: أي تشكك الناس المسلمين فيما اعتقدوه و آمنوا به.

18 - يهرب منها الأكياس و يديرها الأرجاس: أصحاب العقول و الدين يهربون من هذه الفتنة بينما يديرها و يحركها الفساق العصاة الذين لا يقدرون على العيش إلا في ظل تلك الظروف المضطربة...

19 - مرعاد مبراق كاشفة عن ساق: إنها ترعد و تبرق ذات وعيد و تهديد أو يعني بالرعد صوت السلاح و قعقعته و بالبرق لونه وضوءه. و مراده بالساق أنها شديدة و شاقة.

20 - تقطع فيها الأرحام: يتنكر الأرحام لبعضهم لشدتها و قساوتها و لم يعد أحد منهم يسأل عن أحد.

21 - و يفارق عليها الإسلام: فإن من ساندها و مشى في ركاب أربابها فارق الإسلام و دخل في الكفر.

22 - بريها سقيم و ظاعنها مقيم: لا ينجو من شرها أحد فمن يظن من نفسه أنه سليم منها و من شرها ليس بسالم بل يناله من مشاكلها و أحداثها و من يهرب منها كان كالمقيم فيها من حيث إن بعض أحداثها تلحقه و لا أقل أن يلحقه الأمر العام كالمجاعة و الحاجة و الخوف التي تحكم الساحة أثناء الفتنة...

(بين قتيل مطلول و خائف مستجير يختلون بعقد الأيمان و بغرور الإيمان فلا تكونوا أنصاب الفتن و أعلام البدع و الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة و بنيت عليه أركان الطاعة و أقدموا على اللّه مظلومين و لا تقدموا عليه ظالمين) قالوا: إن هذا الكلام لا علاقة له بما تقدم و لذا حملوا الكلام على أن المنكوبين من الناس هذا هو حالهم.

و قالوا: إن هذا يشبه أن يكون وصفا لحال المتمسكين بالدين و على كل حال:

فهؤلاء بين قتيل يذهب دمه هدرا بدون ثأر أو خائف فزع يطلب من يجيره و يحميه فلا يجد، إنهم يخدعون بما يقسم لهم و يحلف و بما يغرونهم به من إيمان يدعونه و يدعون الدفاع عنه.

ثم نهاهم أن يكونوا رؤساء الفتن و قادتها أو من يقتدى به فيها و هذا يتناسب مع قوله عليه السلام في إحدى كلماته القصار: «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب».

ثم أمرهم أن يلزموا ما عليه الاتفاق و ما ترضاه الجماعة لأنه الذي يوحّد الصفوف

ص: 476

و يجمع الكلمة و يلزموا ما تبنى عليه أركان الطاعة من كونها ضمن الخط الإسلامي النابع من الكتاب و السنة...

ثم نهاهم عن الظلم و إذا دار الأمر بين أن تكون ظالما أو مظلوما فلا تقبل أن تكون الظالم بل اقبل أن تكون مظلوما في الدنيا لأن حقك لن يموت فإنك تدركه في الآخرة...

(و اتقوا مدارج الشيطان و مهابط العدوان و لا تدخلوا بطونكم لعق الحرام فإنكم بعين من حرّم عليكم المعصية و سهل لكم سبل الطاعة) نهاهم عن السير في طرق الشيطان و النزول في أماكن الظلم و العدوان و كل ما يؤدي إلى المعصية أو يوصل إليها فهو من مسالك الشيطان و طرقه و ما أكثرها و أوفرها كيف نظرت و أنّى اتجهت وجدت الشيطان و جنوده يسهّلون لك المعصية و يرغبونك بها بل يوفرونها...

ثم نهاهم عن أكل الحرام و هو كل أمر لم يأذن به الشرع و عبّر عنه باللعق لقلته و حقارته و نبه عما نهى عنه بأبلغ عبارة و أقربها و هي أن اللّه الذي حرم عليكم الحرام مطلع عليكم ناظر إليكم يرى كل فرد منكم فيرى من يرتكب الحرام و لا يمكن أن يغيب عنه فإذا كان الأمر كذلك فالاجتناب لازم ثم إنه سهل لكم الطاعة لم يجعل فيها عسرا و لا حرجا و لا أي صعوبة...

ص: 477

152 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

في صفات الله جل جلاله، و صفات أئمة الدين

صفات الله جل جلاله

الحمد للّه الدّالّ على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته، و باشتباههم على أن لا شبه (1) له. لا تستلمه (2) المشاعر (3)، و لا تحجبه السّواتر (4)، لافتراق الصّانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، و الرّبّ و المربوب، الأحد بلا تأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب (5)، و السّميع لا بأداة (6)، و البصير لا بتفريق آلة، و الشّاهد لا بمماسّة، و البائن (7) لا بتراخي (8) مسافة، و الظّاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة. بان من الأشياء بالقهر لها، و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له، و الرّجوع إليه.

من وصفه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله، و من قال: «كيف» فقد استوصفه، و من قال: «أين» فقد حيّزه. عالم إذ لا معلوم، و ربّ إذ لا مربوب، و قادر إذ لا مقدور.

أئمة الدين

منها: قد طلع طالع، و لمع لامع، ولاح (9) لائح، و اعتدل مائل (10)، و استبدل اللّه بقوم قوما، و بيوم يوما، و انتظرنا الغير (11) انتظار المجدب (12) المطر. و إنّما الأئمّة قوّام (13) اللّه على خلقه، و عرفاؤه (14) على عباده، و لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم و أنكروه.

إنّ اللّه تعالى خصّكم بالإسلام، و استخلصكم له، و ذلك لأنّه اسم سلامة،

ص: 478

و جماع (15) كرامة. اصطفى اللّه تعالى منهجه (16)، و بيّن حججه (17)، من ظاهر علم، و باطن حكم. لا تفنى غرائبه، و لا تنقضي عجائبه. فيه مرابيع (18) النّعم، و مصابيح الظّلم، لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه، و لا تكشف الظّلمات إلاّ بمصابيحه. قد أحمى (19) حماه، و أرعى مرعاه. فيه شفاء المستشفي، و كفاية المكتفي.

اللغة

1 - الشبه: المثل.

2 - لا تستلمه: لا تلمسه.

3 - المشاعر: الحواس لأنها محل الشعور.

4 - السواتر: الأغطية.

5 - النصب: محركة التعب.

6 - الأداة: الآلة.

7 - البائن: المنفصل.

8 - الحيّز: المكان و هو مأخوذ من الحوزاي الجمع.

9 - لاح: بان و ظهر.

10 - المائل: الملتوي، غير المعتدل.

11 - الغير: بكسر ففتح أحداث الدهر و تقلباته.

12 - المجدب: الممحل، من أصابه الجدب و هو القحط.

13 - القوام: الذين يقومون بتدبير غيرهم.

14 - العرفاء: جمع عريف و هو النقيب و هو دون الرئيس.

15 - جماع الشيء: مجتمعه.

16 - المنهج: الطريق الواضح.

17 - الحجج: البراهين و الأدلة.

18 - المرابيع: الأمطار التي تجيء أول الربيع.

19 - حمى: المكان من الناس إذا منعهم عنه.

ص: 479

الشرح

(الحمد للّه الدال على وجوده بخلقه و بمحدث خلقه على أزليته و باشتباههم على أن لا شبه له لا تستلمه المشاعر و لا تحجبه السواتر لافتراق الصانع و المصنوع و الحاد و المحدود و الرب و المربوب) في هذه الخطبة إثبات وجود اللّه و صفاته و ذكر أئمة الدين كما أن فيها ذكر الإسلام و بعض خصائصه.

الفصل الأول: يتضمن هذا الفصل إثبات وجود اللّه و بعض صفاته و قد ذكر ذلك ضمن أمور:

1 - الحمد للّه الدال على وجوده بخلقه و بمحدث خلقه على أزليته و باشتباههم أن لا شبه له: و هذا الأمر يتضمن ثلاثة أشياء:.

أ - إثبات وجود اللّه عن طريق خلقه، فمن المخلوق تستدل على وجود الخالق و تقريره أنه لا شك في وجود مخلوقات من شمس و قمر و بشر و هذه قطعا لم تخلق نفسها فلا بد لها من خالق و هو اللّه.

و يمكن أن نستدل بها على اللّه من جهة أنها أمور ممكنة و الإمكان محتاج في وجوده إلى موجد و لا يمكن أن يكون مثلها ممكنا فلا بد و أن يكون واجب الوجود بالذات و هو اللّه...

ب - إثبات أزلية اللّه و يعني بذلك أنه لا أول له و لا ابتداء و ذلك لأن ما كان له أول يدخل في ضمن الممكنات المحتاجة إلى مؤثر و موجد و اللّه منزه عن الحاجة و عن الحدوث فيكون أزليا بلا أول له و لا ابتداء...

ج - إثبات أنه لا شبيه له و لا مثيل: لأن كل الأشياء واقعة تحت الإمكان و بحاجة إلى مؤثر في إيجادها فهي تشابه من هذه الجهة و هو منزه عن ذلك إذ هو الغني بذاته.

2 - لا تستلمه المشاعر: لا تلمسه الحواس و لا يقع تحت الإحساس المعهود لعدم جسمانيته و كل ما لم يكن جسما لا يقع تحت الحواس فهو سبحانه ينزه عن الجسمية و عوارضها.

3 - لا تحجبه السواتر لأن ما يحجب هو الجسم لوجوده في جهة أما اللّه المنزه عن الجسمية فلا يمكن حجبه.

ثم علل كل ما تقدم بمغايرة الصانع عن المصنوع و الحاد عن المحدود و الرب عن

ص: 480

المربوب إذ في الثاني قصور و حاجة و إمكان و في الأول كمال و غنى و وجوب...

(الأحد بلا تأويل عدد و الخالق لا بمعنى حركة و نصب) اللّه واحد أحد ليس بمعنى أنه أول العدد بل إنه واحد لا ثاني له في الوجود و لا يقبل تجزئة فهو واحد بالذات و بالصفات...

و هو أيضا الخالق لكل موجود و لكن بدون حركة كما هو متعارف لدى الناس و الآلات و لكن لا يمسه تعب لأن الممكن هو الذي يعرض عليه التعب و الذي يحتاج في عمله و صنعه إلى حركة أما اللّه فبالإرادة التكوينية التي عبر عنها بما يفهم البشر بكلمة «كن فيكون».

(و السميع لا بأداة) فهو السميع بدون أذن لأن سمعه للأمور عبارة عن علمه بها و بما تعمل و نحن بحاجة إلى أذن لنسمع و هذا من خواص الممكن المفتقر أما اللّه الواجب الوجود فهو الغني عن كل موجود بل الموجد لكل موجود...

(و البصير لا بتفريق آلة) فلا يحتاج في رؤيته للأشياء ن كي يرى كما هو المتعارف عند البشر...

(و الشاهد لا بمماسة) فهو الشاهد أي الحاضر مع كل أحد و لكن بدون مماسة لأحد لأن المماسة من خواص الأجسام و هو منزه عن ذلك...

(و البائن لا بتراخي مسافة) فهو بعيد عن مخلوقاته بذاته و صفاته لا بالبعد المكاني و الزماني فهو أقرب إلينا من حبل الوريد يسمع و يرى و لكن ليس بالمسافة و التقدير.

(و الظاهر لا برؤية و الباطن لا بلطافة) فهو ظاهر للقلوب و البصائر و ليس للبصر و هو الباطن الذي لا يدرك ليس للطافته و دقته و صغره بل لمغايرته للأجسام و لما يعهده البشر.

(بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه) فهو القاهر للمخلوقات و القادر عليها خلقها و سواها ثم إنها لاستمرارها و دوامها تحتاج إليه كما أنها بلسان حلها التكويني خاضعة له ذليلة بين يديه راجعة إليه فهي ممكنة تحتاج في أصل وجودها إلى كرمه كما تحتاج في بقائها إلى ذلك أيضا...

(و من وصفه فقد حده و من حده فقد عدّه و من عدّه فقد أبطل أزله) من وصف اللّه بما لا يليق به من الصورة كاليد و الوجه فقد جعله جسما ذا حدود و من حده فقد جعله ذا أجزاء و كل ذي أجزاء حادث محتاج إلى إيجاد فتبطل أزليته و اللّه منزه عن ذلك...

ص: 481

(و من قال: «كيف» فقد استوصفه) كيف استفهام عن الكيفيات من الألوان و الطعوم و الأشكال و المعاني و نحو ذلك و هذه لا يسأل عنها إلا الأجسام التي تتشكل بهذه الأمور و اللّه منزه عن ذلك إذ هو الغني بذاته و ليس له صفة زائدة ليسأل عنها...

(و من قال: «أين» فقد حيزه) «و أين» استفهام عن المكان و الجهة و من استفهم عن شيء بها فقد حجّمه و حيّزه و حصره و كل ذلك من صفات الأجسام و هو سبحانه منزه عن ذلك...

(عالم إذ لا معلوم و رب إذ لا مربوب و قادر إذ لا مقدور) هذه الأوصاف من خصائص اللّه و صفاته لأنه العالم بالأشياء قبل وجودها عالم متى توجد و أين توجد بل عالم بذاته حيث لا شيء في الوجود و هو رب الأشياء و مالكها و القادر على إيجادها فقد كان كذلك و لم تكن هذه و يبقى كذلك و إن فنيت هذه...

(قد طلع طالع و لمع لامع و لاح لائح و اعتدل مائل و استبدل اللّه بقوم قوما و بيوم يوما و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر) قالوا: إن هذه الخطبة خطبها إثر مقتل عثمان حينما صارت الخلافة إليه.

و الجمل: طلع طالع و لمع لامع و لاح لائح كلها يراد بها معنى واحد و هو عود الخلافة إليه و قيل: إن قوله طلع طالع عود الخلافة إليه و لمع لامع ظهور من حيث هي حق و لاح لائح يراد به ظهور الحروب و الفتن الواقعة بعد انتقال الأمر إليه...

ثم قال: «و اعتدل مائل» أي استقام ما كان عليه أمر الخلافة و الناس من الاعوجاج و الظلم و التعدي... استقام الأمر و اعتدل برجوع الخلافة إليه و قد كانت المظالم سارية في جميع أوصال المجتمع في عهد عثمان و ولاته.

و أشار بقوله: «و استبدل اللّه بقوم قوما و بيوم يوما» إلى ما كان عليه عثمان و ولاته من الظلم فقد ذهب عثمان و جماعته و جهازه الفاسد بكل ما حمل من ظلم و إثم و استبدل اللّه به قوما آخرين أتقى للّه و أعمل بأمر اللّه أشار بهذا إلى نفسه الشريفة و من معه من الولاة و الأمراء و ذهب يوم الظلم و الجور و جاء يوم آخر فيه العدل و الحق... ذهب يوم عثمان و حاشيته و جاء يوم علي و أصحابه و هو يتغاير مع أمس بكل خصوصياته و شئونه...

و أشار بقوله: «و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر» أشار بهذا إلى ما كان يتوقعه المسلمون و ينتظرون حصوله... إنهم كانوا ينتظرون أن تتغير الأحوال و يسقط الحكم الظالم الذي لم يكن عثمان إلا ستارا تختبىء وراءه العصابة الأموية و تحكم باسمه بالجور و الظلم و تمارس خنق الحريات و تضطهد الأحرار و الثوار و تأخذ كل من يريد لها النصيحة

ص: 482

عدوا لها تطارده و تنفيه... انتظر المسلمون تلك الساعة التي تتغيّر فيها الأحوال و تنتقل عقارب الساعة معلنة بدء حياة جديدة... إنهم كانوا ينتظرون زوال الحكم الأموي انتظار من أصابه الجدب و القحط فإنه ينتظر الفرج و يترقب حدوث المطر... هكذا كان المسلمون ينتظرون زوال خلافة عثمان و مجيء خلافة الإمام...

(و إنما الأئمة قوام اللّه على خلقه و عرفاؤه على عباده و لا يدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه و لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه) أشار عليه السلام إلى نفسه و إلى الأئمة من ذريته و أنهم أصحاب الأمر و النهي الذين لهم حق الولاية و تدبير شئون الناس، أعطاهم اللّه سلطة واسعة ينظمون مسيرة الناس و يأخذون بأيديهم إلى ما فيه عزهم في الدنيا و سعادتهم في الآخرة... ثم بيّن عليه السلام أمرا فيه ترغيب و تحذير فقال: «و لا يدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه» فيجب أن يكون التعارف من الطرفين لدخول الجنة و لا جنة بدون ذلك.

لا بد لكل واحد أن يعرف الأئمة... يعرفهم بأسمائهم و أسماء آبائهم...

و يعرفهم بمنهاجهم و مدرستهم و بما يذهبون إليه و ما يعتقدون به فيأخذ دينه عنهم و يعمل بأمرهم و بهذا تكون معرفته بهم... و أما معرفتهم به فإنهم يعرفون كلا بسيماهم...

يعرفون المؤمن من الكافر و من تولاهم ممن أنكرهم... أعطاهم اللّه علم ذلك و في ذلك أخبار كثيرة و من هنا كانوا الطريق إلى اللّه و الهداة إلى الجنة من أرادها و طلبها فعليه أن يدخل من أبوابهم إليها و يطلبها من جهتهم... و هذه بشارة يزفها الإمام إلى كل من تولى الأئمة و آمن بهم و بمنهجهم...

و في المقابل لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه فمن أنكرهم و لم يعترف بهم أنهم قادة الأمة و لم يأخذ الدين عن طريقهم و لم يتعبد للّه من جهتهم فهذا في النار.

و قد يدعي ذلك كثيرون و قد يظنون اتصالهم بأهل البيت و أنهم على خطهم و لكن الحقيقة خلاف ذلك و هم لا يعترفون بذلك...

(إن اللّه تعالى خصكم بالإسلام و استخلصكم له و ذلك لأنه اسم سلامة و جماع كرامة) ثم بيّن كرامتهم عند اللّه و أنه سبحانه خصّهم بالإسلام و استخلصهم من بين الأمم له و هذا شرف عريض أن يخص اللّه أمة بكرامة من كراماته و يعدهم لهذا الشرف العظيم و قد علل ذلك بأن الإسلام سلامة و مجتمع كرامة... سلامة من كل أذية فلا اعتداء في جواره و لا ظلم في حماه و لا قهر في ربوعه... به الكرامة... فلا ذل و لا إهانة و الإسلام عزيز كريم لا يرضى لأحد من أتباعه بالذل قال تعالى: «وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ » .

ص: 483

(اصطفى اللّه تعالى منهجه و بيّن حججه من ظاهر علم و باطن حكم لا تفنى غرائبه و لا تنقضي عجائبه) اختار اللّه طريق الإسلام من بين الطرق و أظهر أدلته و براهينه التي تثبت صحته و تدل على أحقيته من علم ظاهر و من حكمة باطنة يستكشفها اللبيب بعقله و يقوده إليها منطقه السليم، لا تفنى أموره الغريبة و لا تنتهي عجائبه فقد عاد الإنسان بعد تطواف طويل و بحث و تنقيب إلى الإقرار بعظمة الإسلام و حضارته و ما جاء به من تشريع و تقنين و لم يستطع هذا العقل إلا أن يعترف بأن الإسلام دين العقل الذي يحارب الجهل و الأمية و كل شعوذة و انحلال...

(فيه مرابيع النعم و مصابيح الظلم) الضمير يعود إلى القرآن و قيل: إلى الإسلام... و قد شبهه بالأمطار الربيعية التي تنعش الزرع و تبعث الخير و لا شك أن القرآن ينعش القلوب و يحركها و يبعث فيها الحياة و يدفع الناس إلى العمل الصالح و الدفاع عن المستضعفين و كذلك هو ينير الدرب و يكشف بتعاليمه الجهل و يرفع الغشاوة عن العيون فهو مصباح القلوب و كاشف ظلماتها و سوادها و رافع جهلها...

(لا تفتح الخيرات إلا بمفاتيحه و لا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه) أي خير لا يكون إلا عن طريق القرآن، و ما فيه من أدلة و براهين موصلة إلى اللّه و دالة عليه هي التي تفتح أمام الإنسان طرق النجاة.

و كذلك لا تكشف ظلمات الجهل و لا ترفع الغشاوة عن البصائر و الأبصار إلا بما ورد فيه من تعاليم و أحكام لأنه الخطاب الإلهي لهذا الإنسان و دليل السعادة و مفتاح النصر، و من طلب الخير لن يدركه في غير كتاب اللّه و تشريعه و ما جاء فيه و من طلب كشف الجهل فلن يكشف جهله إلا في هذا الكتاب الكريم الشاهد على ذلك ما حققته أمة الإسلام من عز و نصر و كرامة و فتح يوم تعلمته و عملت به و كيف انهزمت في كل مجالات حياتها يوم تركته و تخلت عنه و هجرت العمل به...

(قد أحمى حماه و أرعى مرعاه فيه شفاء المستشفي و كفاية المكتفي) أراد بحماه محارمه فمنع بنواهيه و زواجره أن تستباح محارمه و كذلك هيأه لأن يرعى أن يسر أحكامه و آدابه و شرائعه حيث إنه أنزله بلسان عربي مبين نفهمه و نفقهه... و فيه شفاء لمن أراد الاستشفاء قال تعالى: «وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » و فيه أيضا الكفاية لكل من أراد الاكتفاء من كل شيء... فيه الكفاية لمن طلب العز و الكرامة و فيه الكفاية لمن أراد أمجاد الدنيا و فيه الكفاية لمن أراد الآخرة...

ص: 484

153 - و من خطبة له عليه السلام

صفة الضال

و هو في مهلة من اللّه يهوي (1) مع الغافلين، و يغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد (2)، و لا إمام قائد.

صفات الغافلين

منها: حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم، و استخرجهم من جلابيب (3) غفلتهم استقبلوا مدبرا، و استدبروا مقبلا، فلم ينتفعوا بما أدركوا (4) من طلبتهم، و لا بما قضوا (5) من وطرهم (6).

إنّي أحذّركم، و نفسي، هذه المنزلة. فلينتفع امرؤ بنفسه، فإنّما البصير من سمع فتفكّر، و نظر فأبصر، و انتفع بالعبر (7)، ثمّ سلك (8) جددا (9) واضحا يتجنّب فيه الصّرعة (10) في المهاوي (11)، و الضّلال في المغاوي (12)، و لا يعين على نفسه الغواة بتعسّف (13) في حقّ ، أو تحريف في نطق، أو تخوّف من صدق.

عظة الناس

فأفق (14) أيّها السّامع من سكرتك، و استيقظ من غفلتك، و اختصر من عجلتك، و أنعم (15) الفكر فيما جاءك على لسان النّبيّ الأمّيّ - صلّى اللّه عليه و آله و سلّم - ممّا لا بدّ منه و لا محيص (16) عنه، و خالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه و ما رضي لنفسه، وضع فخرك، و احطط كبرك، و اذكر قبرك،

ص: 485

فإنّ عليه ممرّك، و كما تدين تدان، و كما تزرع تحصد، و ما قدّمت اليوم تقدم عليه غدا، فامهد (17) لقدمك، و قدّم ليومك. فالحذر الحذر أيّها المستمع! و الجدّ الجدّ أيّها الغافل! «و لا ينبّئك مثل خبير».

إنّ من عزائم (18) اللّه في الذّكر الحكيم، الّتي عليها يثيب و يعاقب، و لها يرضى و يسخط، أنّه لا ينفع عبدا - و إن أجهد (19) نفسه، و أخلص فعله - أن يخرج من الدّنيا، لاقيا ربّه بخصلة (20) من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك باللّه فيما افترض (21) عليه من عبادته، أو يشفي غيظه (22) بهلاك نفس، أو يعرّ (23) بأمر فعله غيره، أو يستنجح (24) حاجة إلى النّاس بإظهار بدعة (25) في دينه، أو يلقى النّاس بوجهين، أو يمشي فيهم بلسانين. اعقل ذلك فإنّ المثل دليل على شبهه.

إنّ البهائم (26) همّها بطونها، و إنّ السّباع همّها العدوان (27) على غيرها، و إنّ النّساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا و الفساد فيها، إنّ المؤمنين مستكينون (28). إنّ المؤمنين مشفقون. إنّ المؤمنين خائفون.

اللغة

1 - يهوي: يسقط.

2 - القصد: المستقيم و السبيل القصد هو الطريق المستقيم.

3 - الجلابيب: جمع جلباب الثوب الواسع.

4 - أدركوا: الشيء لحقوه.

5 - قضوا: وطرهم بلغوا مرادهم و قضى حاجته أتمها و فرغ منها.

6 - الوطر: الحاجة.

7 - العبر: العظات.

8 - سلك: المكان دخل فيه و الطريق سار عليه.

ص: 486

9 - الجدد: محركة الطريق الواضح.

10 - الصرعة: بالفتح الطرح على الأرض.

11 - المهاوي: ما بين جبلين و قيل: الوهدة العميقة و قيل الحفرة.

12 - المغاوي: جمع مغواة و هي الشبهة التي يضل بها الناس.

13 - التعسف: يكون الأمر بدون رويّة.

14 - أفق: من أفاق إذا صحا من نومه و استيقظ.

15 - أنعم: الفكر في المسألة حقق فيها و دقق.

16 - لا محيص: لا مفر و لا مهرب و حاص أي تخلص من أمر كان نشب فيه.

17 - أمهد: سوّ و وطّىء.

18 - عزائم اللّه: ضرورياته المتسالم عليها.

19 - أجهد: نفسه أتعبها.

20 - الخصلة: بفتح الخاء الصفة.

21 - أفترض: اللّه الأحكام سنها و أوجبها.

22 - الغيظ: الغضب أو أشده و قيل: سورته و أوله.

23 - يعّر: يعيب.

24 - يستنجح: يطلب النجاح.

25 - البدعة: في الدين إدخال ما ليس منه على أنه منه.

26 - البهائم: مفردها البهيمة و هي كل ذات أربع قوائم من دواب البر أو الماء ما عدا السباع و الطيور.

27 - العدوان: الظلم الصراح.

28 - مستكينون: خاضعون.

الشرح

(و هو في مهلة من اللّه يهوي مع الغافلين و يغدو مع المذنبين بلا سبيل قاصد و لا إمام قائد) يصف عليه السلام إنسانا ضالا قد أمهله اللّه و مدّ له في الأجل فراح مع الغافلين عن ذكر اللّه قد نسي العهد و الميثاق و ترك ما أراد اللّه و أحب ثم تعدى ذلك فراح يجري في حلبة المذنبين إنه في لهو دائم و معصية مستمرة بدون أن يشق لنفسه طريقا مستقيما يوصله إلى اللّه و لا إمام صالح يقتدى به و يهديه إلى سبيل النجاة، لقد نسي نفسه و ما يصلحها فوقع في الضلال...

(حتى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم و استخرجهم من جلابيب غفلتهم استقبلوا

ص: 487

مدبرا و استدبروا مقبلا فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم و لا بما قضوا من وطرهم) هذه موعظة لأصحابه و تنبيه لهم بما يلاقيه الضالون. إنها ساعات صعبة تلك الساعات التي يكشف اللّه فيها للضالين جزاء معصيتهم من عذاب أليم و نار و حميم و يرفع عنهم الغشاوة التي كانت تمنع الرؤية الصحيحة في الدنيا، إنه الموت إذا نزل بساحة إنسان انكشف عنه الغطاء فرأى الأمور على حقيقتها و نال جزاء معصيته و عندها استقبلوا ما كان مدبرا من الموت و ما بعده من حساب و جزاء كما أنهم استدبروا ما كان مقبلا من الدنيا المتجسدة بالأموال و البنين و كل حطام الدنيا، لقد تخلوا عن كل ذلك و أصبح وراء ظهورهم لم ينتفعوا بما أدركوه من أموال و أولاد و تراث لأن كل ذلك تخلف عنهم و لم ينتفعوا أيضا بما قضوا من لذات خاصة و ملذات. إنهم تركوا كل ما خولهم اللّه في دار الدنيا وراء ظهورهم و توجهوا نحو الحساب ليأخذوا العذاب نتيجة انحرافهم و اسفافهم و بعدهم عن اللّه...

(إني أحذركم و نفسي هذه المنزلة فلينتفع امرؤ بنفسه فإنما البصير من سمع فتفكر و نظر فأبصر و انتفع بالعبر ثم سلك جددا واضحا يتجنب فيه الصرعة في المهاوي و الضلال في المغاوي و لا يعين على نفسه الغواة بتعسف في حق أو تحريف في نطق أو تخوف من صدق) حذّر المخاطبين من الغفلة و أدخل نفسه معهم تطيبا لقلوبهم ليكون شريكهم في هذا التحذير فيكونوا إلى الانقياد له أقرب و عن النفرة و الآباء أبعد و بعد أن حذرهم الدنيا و ما فيها رغبهم بما ينفع و يفيد في الآخرة و أمرهم أن ينتفع كل إنسان بنفسه بأن يوجهها إلى طاعة اللّه و العمل بما أمر و الاجتناب عما نهى و يسارع في الخيرات.

ثم بين طرق الانتفاع و هو ما عليه أهل البصر و هؤلاء قوم سمعوا الآيات ففكروا فيها و انتفعوا بما فكروا فهداهم عقلهم إلى السير على نهج الحق و العدل و ما جاء به الأنبياء و حملته الرسل إلى العباد.

و أهل البصر أيضا قوم نظروا في الدنيا و زوالها و ما ينفع منها فأبصروها على حقيقتها و أدركوا ما يمر عليهم و ما يشاهدون و كذلك أخذوا العبرة و العظة و الدروس المفيدة لهم في دنياهم و آخرتهم.

و بعد هذا الفكر الذي تولد عن البصر و السمع و أخذ العبر ساروا في الطريق المستقيم الواضح و لم يميلوا إلى المنعطفات أو المواقع التي تضل أو تنحرف بهم عن سبيل اللّه... إنهم قوم أخذوا قوانين الشريعة يحذافيرها و التزموا بها بحدودها و لم يفرطوا بشيء منها و تركوا كل ما يؤدي إلى الانحراف أو الضلال...

ص: 488

ثم إنه عليه السلام لما نبّه على ما ينفع المرء و يصلحه أراد أن ينبه إلى موارد يمكن أن يقع منها الفساد.

أولا: «أن لا يعين على نفسه الغواة بتعسف في حق» و قد فسره بعض شراح النهج بأن يتعسف في حق يقوله أو بأمر به فإن الرفق أنجح و قال بعضهم أيضا: أي لا يحملهم على مر الحق و صعبه فإن ذلك يوجب لهم النفرة عمن يقوله و يأمر به...

و لكن الأقرب في التفسير هو أن لا يهوّن على الغواة ما هم فيه بمجاراتهم و خلق الأعذار لهم و التفتيش عن الحيل الشرعية البعيدة التي تصحح ما هم فيه فيكون بذلك قد أضر نفسه و جنى عليها لأنه سعى لإرضاء مخلوق بمعصية الخالق...

و ثانيا: أن لا يعين على نفسه بتحريف في نطق أي لا يكذب في منطقه و لا يحرّف الكلم عن موضعه طلبا لرضا الغواة فإن ذلك يضره.

و ثالثا: أن لا يتخوّف من صدق يمكن أن يقوله فإن الصدق مهما كان مرّا فيه لذة و فيه ثمرة...

(فأفق أيها السامع من سكرتك و استيقظ من غفلتك و اختصر من عجلتك و أنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبي الأمي - صلّى اللّه عليه و آله و سلم - مما لا بد منه و لا محيص عنه) أمرهم عليه السلام بأوامر و نصحهم بنصائح كلها تعود إليهم و هي:

1 - أفق أيها السامع من سكرتك و استيقظ من غفلتك نبهه إلى أن يفيق و يستيقظ من الغفلة و عبّر عن تلك الفترة بالسكرة لأن الغافل قد عطّل عقله فأشبه السكران في ذلك.

2 - اختصر من عجلتك: أي خفف من سرعتك في طلب الدنيا فإن كل متاعها إلى زوال و قال بعضهم: لا تعجل في أمر حتى تتبين عواقبه.

3 - أمره بأن يفكر مليا و يدقق فيما جاء به النبي من كتاب و سنة و تشريع و تقنين فإن هناك من الأمور ما لا بد منه لكل مسلم كمعرفة أصول الدين و العبادات المكلف بها و ما يمكن أن يقع فيه من أمور... و قيل: إنه أمر بأن يفكر في الموت و ما بعده مما جاءت به الروايات عن النبي و يروض نفسه على الخير و على ما بعد الموت...

(و خالف من خالف ذلك إلى غيره ودعه و ما رضي لنفسه وضع فخرك و احطط كبرك و اذكر قبرك فإن عليه ممرك و كما تدين تدان و كما تزرع تحصد و ما قدمت اليوم تقدم عليه غدا فامهد لقدمك و قدم ليومك فالحذر الحذر أيها المستمع و الجد الجد أيها الغافل و لا ينبئك مثل خبير) لا يزال عليه السلام يلقي نصائحه.

ص: 489

4 - أمره أن يخالف من نظر إلى الدنيا و زينتها و ترك الآخرة و نعيمها، أن يتركه و شأنه و ما اختار لنفسه من الشقاء و التعاسة و الأمور التي لا تدوم و لا تبقى.

5 - أمره أن يضع فخره أي يترك افتخاره بالأمور الزائلة من مال و جاه و سلطان فإنها كلها فانية.

6 - و احطط كبرك: لا تتكبر فما تكبر أحد إلا لنقص فيه و يحشر المتكبرون يوم القيامة بصورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم كما في الروايات.

7 - و اذكر قبرك فإن عليه ممرك: اذكر القبر و ضيقه و وحشته و ظلمته و انفرادك فيه فإنك ستصل إليه و ستدخل إلى عمقه فاستعد لمثل ذلك المقر و خذ له ما ينفعك و يفيدك فإنه ممر موحش مظلم إلى أن تخرج منه للوقوف بين يدي اللّه للحساب...

8 - و كما تدين تدان: كما تجزي تجزى من باب المشاكلة و المقصود كما تتعامل مع اللّه يتعامل معك إن تعاملت معه بالطاعة و الالتزام أثابك و جزاك الجنة و إن تعاملت معه بالتمرد و العصيان تعامل معك بالعقاب و النيران.

9 - و كما تزرع تحصد: إن زرعت خيرا حصدت خيرا و إن زرعت شرا حصدت شرا و لا يمكن للعبد أن يطيع اللّه إلا أن يكسب الثواب و الأجر، و من عصى اللّه أدخل النار جزاء وفاقا...

10 - و ما قدمت اليوم تقدم عليه غدا فامهد لقدمك و قدم ليومك: ما تقوم به اليوم من أعمال طيبة أو خبيثة سيحفظ لك و ستقدم عليه في يوم الحساب و الجزاء قال تعالى:

«وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا اَلْكِتٰابِ لاٰ يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً إِلاّٰ أَحْصٰاهٰا وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (1) .

فاعمل لذلك اليوم الذي تقف فيه بين يدي اللّه اعمل ما ينجيك و يخلصك من عذابه و غضبه و لا يكون ذلك إلا بالعمل الصالح المتمثل بالالتزام بكل ما أمر اللّه و الانتهاء عن كل ما نهى اللّه...

(فالحذر الحذر أيها المستمع و الجد الجد أيها الغافل و لا ينبئك مثل خبير) أكد الحذر بقوله: الحذر الحذر من كل معصية أو تقصير كما أمر بالاجتهاد و أكده بإعادة لفظه لمن غفل و سهى ثم استعار من القرآن قوله: «وَ لاٰ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» أي لا يخبرك أحد9.

ص: 490


1- سورة الكهف آية، - 49.

بالأمور على حقائقها و أصولها إلا العالم بها العارف بكنهها يشير إلى نفسه الشريفه و مدى معرفته بها و بدقائقها...

(إن من عزائم اللّه في الذكر الحكيم التي عليها يثيب و يعاقب و لها يرضى و يسخط أنه لا ينفع عبدا و إن أجهد نفسه و أخلص فعله أن يخرج من الدنيا لاقيا ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك باللّه فيما افترض اللّه عليه من عبادته أو يشفي غيظه بهلاك نفس أو يعرّ بأمر فعله غيره أو يستنجح حاجة إلى الناس بإظهار بدعة في دينه أو يلقى الناس بوجهين أو يمشي فيهم بلسانين أعقل ذلك فإن المثل دليل على شبهه) إن من الأمور المحكمة الثابتة التي لا ريب فيها المنصوص عليها في القرآن الكريم التي لا تحتمل التأويل و التي لا نسخ فيها و لا تخصيص و التي عليها يكون الثواب و بتركها العقاب و بها يتحقق رضى اللّه و بدونها يغضب اللّه و لا ينتفع عبد بعمل يعمله مهما كان ذلك العمل جيدا و مهما أخلص فيه لا ينفعه ذلك و يدخل النار إذا خرج من الدنيا بهذه الأمور و لم يقلع عنها و يتب منها و هذه الأمور هي:

1 - أن يشرك باللّه فيما افترض اللّه عليه من عبادته: أشار إلى الرياء في العبادة التي هي شرك حرمه اللّه فإن اللّه لا يقبل عملا يكون له و لغيره قال تعالى: «فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» .

2 - أو يشفي غيظه بهلاك نفس: فهذا يغضب و إذا غضب لا يهدأ إلا بقتل النفس التي أغضبته أو غيرها و هذه كبيرة تؤدي إلى النار قال تعالى: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً» .

3 - أو يعرّ بأمر فعله غيره: أي يفعل أمرا مشينا ثم يقذف به غيره.

4 - أو يستنجح حاجة إلى الناس بإظهار بدعة في دينه: أي يروم حاجة من أحد الناس فيظهر بدعة في الدين من أجل ذلك و يقول ابن أبي الحديد: «كما يفعل أكثر الناس في زماننا» و أقول: ليته يرى ما نحن عليه الآن ليعمم حكمه و لا يستثني إلا ما قلّ ممن يعد على الأصابع و إلا كيف نفسر سكوت القيادات الدينية عن الانحرافات التي تجري في المجتمع و كيف تشارك هذه القيادات في الأنظمة الظالمة التي تقهر الإنسان و تمارس عليه أبشع أنواع الظلم و تمسخ أحكام الإسلام بل تلغي أحكامه و تشريعاته و تمنع من العمل بها...

5 - أو يلقى الناس بوجهين أو يمشي فيهم بلسانين: و هذا أقبح ما في الإنسان أن يطريك حاضرا و يذمك غائبا يثني عليك في وجهك و يقدح بك في قفاك، يضحك لك

ص: 491

عند ما يراك و يضحك عليك عند ما يغيب عنك إنه يحمل وجهين و لسانين فهو منافق يعيش مع المؤمنين بصورته الظاهرية و مع الكفار في عمقه و دخيلته...

ثم أمر عليه السلام بأن يعقل ما قاله و يعلم باطن خطابه و يحمل عليه ما يشبهه فإن المثل دليل على شبهه.

قال ابن أبي الحديد: و إنما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل لأنهم حاولوا أن يشفوا غيظهم بإهلاكه و إهلاك غيره من المسلمين عرّوه - سبوه - عليه السلام بأمر هم فعلوه و هو التأليب على عثمان و حصره و استنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة بإظهار البدعة و الفتنة و لقوا الناس بوجهين و لسانين لأنهم بايعوه و أظهروا الرضا به فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشرك باللّه سبحانه في أنها لا تغفر إلا بالتوبة...» و بعد هذا البيان من ابن أبي الحديد جاء ليعتذر عنهم بأمر غير مقبول تارة بأن هذه الخطبة خطبها و هو في طريقه إلى البصرة و أخرى بأنهم تابوا و كلا الأمرين لم يثبت منهما شيء...

(إن البهائم همها بطونها و إن السباع همها العدوان على غيرها و إن النساء همهن زينة الحياة الدنيا و الفساد فيها، إن المؤمنين مستكينون. إن المؤمنين مشفقون، إن المؤمنين خائفون) أراد عليه السلام أن يومي - كما في شرح ابن أبي الحديد - إلى ذكر النساء للحال التي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بالامرأة فذكر قبل ذلك أنواعا من الحيوانات تمهيدا لقاعدة ذكر النساء فذكر البهائم و أن همها بطونها و ما تأكله و تلتذ به و أن السباع همها العدوان و افتراس الناس و الاعتداء عليها أما النساء فهمهن زينة الحياة الدنيا بأن تظهر بأحسن صورة و أفضلها و همهن الفساد في الحياة بما يتبذلن و يتبرجن و يثرن غرائز الرجال و شهواتهم.

ثم ذكر صفات المؤمنين و بعض خصائصهم و قد ذكر ثلاث صفات:

1 - إن المؤمنين مستكينون للّه أي خاضعون له ذليلون بين يديه.

2 - إن المؤمنين مشفقون أي خائفون من اللّه و عذابه.

3 - إن المؤمنين خائفون من عذاب اللّه و من كل ما يغضبه و يبعد عن ساحته.

ص: 492

154 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يذكر فيها فضائل أهل البيت و ناظر (1) قلب اللّبيب به يبصر أمده (2)، و يعرف غوره (3) و نجده (4).

داع دعا، و راع رعى، فاستجيبوا للدّاعي، و اتبعوا الرّاعي..

قد خاضوا (5) بحار الفتن (6)، و أخذوا بالبدع (7) دون السّنن (8).

و أرز (9) المؤمنون، و نطق الضّالّون المكذّبون. نحن الشّعار (10) و الأصحاب، و الخزنة و الأبواب، و لا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقا.

منها: فيهم كرائم (11) القرآن، و هم كنوز (12) الرّحمن. إن نطقوا صدقوا، و إن صمتوا لم يسبقوا. فليصدق رائد (13) أهله، و ليحضر عقله، و ليكن من أبناء الآخرة، فإنّه منها قدم، و إليها ينقلب (14). فالنّاظر بالقلب، العامل بالبصر، يكون مبتدأ عمله أن يعلم: أعمله عليه أم له! فإن كان له مضى فيه، و إن كان عليه وقف عنه. فإنّ العامل بغير علم كالسّائر على غير طريق. فلا يزيده بعده عن الطّريق الواضح إلاّ بعدا من حاجته. و العامل بالعلم كالسّائر على الطّريق الواضح. فلينتظر ناظر: أسائر هو أم راجع!.

و أعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، و ما خبث ظاهره خبث باطنه. و قد قال الرّسول الصّادق - صلّى اللّه عليه و آله -: «إنّ اللّه يحبّ العبد، و يبغض عمله، و يحبّ العمل و يبغض بدنه».

ص: 493

و اعلم أنّ لكلّ عمل نباتا. و كلّ نبات لا غنى به عن الماء، و المياه مختلفة، فما طاب سقيه (15)، طاب غرسه (16) و حلت (17) ثمرته، و ما خبث سقيه، خبث غرسه و أمرّت (18) ثمرته.

اللغة

1 - الناظر: السواد الأصغر الذي فيه انسان العين الذي يرى فيه.

2 - الأمد: الغاية.

3 - الغور: المنخفض من الأرض.

4 - النجد: المرتفع.

5 - خاض: الماء دخله و في الحديث أفاض فيه و الغمرات اقتحمها.

6 - الفتن: جمع فتنة الضلال و الكفر، و ما يقع بين الناس من الاختلاف.

7 - البدع: جمع بدعة ما أحدث على غير مثال سابق/في الأراء و ما يقع بينهم من قتال.

8 - السنن: الطرق الواضحة، ما شرّعه النبي.

9 - أرز: انقبض، انضم و أجتمع.

10 - الشعار: ما يلي الجسد من الثياب.

11 - الكرائم: جمع كريمة نفائس الشيء و خيارها.

12 - الكنوز: كل مجموع مدّخر يتنافس فيه.

13 - الرائد: من يتقدم القوم يبحث لهم عن المكان المناسب.

14 - ينقلب: يرجع و يعود.

15 - السقي: الحظ من الشرب.

16 - الغرس: ما يغرس في الأرض من شجر و نحوه.

17 - حلت: من الحلاوة صارت حلوة.

18 - أمرّت: صارت مرّة.

الشرح

(و ناظر قلب اللبيب به يبصر أمده و يعرف غوره و نجده. داع دعا وراع رعى فاستجيبوا للداعي و اتبعوا الراعي) البصيرة التي يتمتع بها الإنسان العاقل هي التي تريه

ص: 494

كيف يكون مستقبله و ما يصل إليه من سعادة أو شقاء و ما ينفعه و يضره.

ثم نبههم إلى وجود الداعي إلى اللّه الذي كانت على يديه هدايتهم و هو الرسول الأكرم و كذلك إلى وجود نفسه الشريفة بينهم و إنه الراعي بعد رسول اللّه الذي يحفظهم في أنفسهم و في دينهم و يسعى في سبيل سعادتهم و ما ينفعهم و دعاهم إلى الاستجابة للداعي الذي هو الرسول و إلى الراعي و هو نفسه.

(قد خاضوا بحار الفتن و اخذوا بالبدع دون السنن و أرز المؤمنون و نطق الضالون المكذبون) يذكر قوما باعيانهم كمعاوية و اتباعه و من سنّ له الطريق و الخوارج و أصحاب الجمل و قيل إن كلامه عليه السلام منقطع عما سبق و يذكر هنا قوما من أهل الضلال و يصف أعمالهم بأنهم دخلوا في بحار الفتن و الانحراف و أخذوا بما خالف الدين و ما شرعه سيد المرسلين و تركوا الحق و العدل و ما شرعه الرسول و في أجواء الفتن هذه احجم المؤمنون عن الكلام و سكنوا طلبا للسلامة و دفعا للضرر عن أنفسهم و في المقابل كانت الكلمة لأصحاب الباطل و الكذب فتكلموا بالباطل و نطقوا بالإثم و الكذب.

(نحن الشعار و الأصحاب و الخزنة و الأبواب و لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا) نحن الشعار أي أقرب الناس لرسول اللّه و أشدهم اختصاصا به فكما أن الشعار هو الثوب الملاصق للبدن و أقرب الثياب إلى الجسد كذلك نحن أقرب الناس و ألصقهم برسول اللّه و نحن أصحابه الذين صدقناه و آمن به و عشنا معه و سرنا على دربه.

و نحن الخزنة و الأبواب أي خزان علم النبي و أبواب علمه فعندنا علوم النبي و ما جاء به و عن طريقنا يؤخذ الدين و التشريع و ما جاء به الرسول و هذا موافق لما جاء عن النبي من قوله: «أنا مدينة العلم و علي بابها» و قوله عن علي «خازن علمي» و قوله عنه «عيبة علمي».

قال ابن أبي الحديد: و يمكن أن يريد خزنة الجنة و أبواب الجنة أي لا يدخل الجنة إلا من وافى بولايتنا فقد جاء في حقه الخبر الشائع المستفيض: إنه قسيم النار و الجنة.

ثم ذكر عليه السلام أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها و هذا ما جرت عليه العادة ثم لقوله تعالى: «وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا» و ثالثا إن من أتاها من غير أبوابها سمي سارقا أما ظاهرا فلأنه لا يتسور البيوت إلا السرّاق و أما باطنا فلان العلم لا يؤخذ إلا من أهله و هم أهل البيت و من أخذه من غيرهم فهو منتحل له.

ص: 495

(فيهم كرائم القرآن و هم كنوز الرحمن إن نطقوا صدقوا و إن صمتوا لم يسبقوا) يذكر فضائل أهل البيت و قد ذكر منها:

1 - فيهم كرائم القرآن أي نزلت فيهم آيات القرآن الكريمة تبين فضلهم و تشرح عظمتهم و تثني عليهم و قيل فيهم أحسن ما في القرآن من فضائل و مناقب و منافع و أخلاق و آداب.

2 - و هم كنوز الرحمن: إنهم خزنة علم اللّه و بهم تتوضح مشكلات العلوم و ما يستعصي حله على الناس.. إنهم أفضل خلق اللّه و أعزهم عليه و أقربهم إليه.. إنهم أثمن ما في الدنيا لأنهم الصفوة التي اختارها اللّه لقيادة البشرية.

3 - إن نطقوا صدقوا: فكلامهم ملازم للصدق لعصمتهم و إنهم لا ينطقون عن الهوى.

4 - و إن صمتوا لم يسبقوا: إن صمتوا و لم يتكلموا فإنما ذلك لحكمة و مصلحة فلا يكون المتكلم سابقا لهم و متقدما عليهم أو كما قال الشيخ محمد عبده: يهاب الناس سكوتهم فلا يجرأ أحد على الكلام عما سكتوا عنه و إن كان الأول أرجح و أقرب...

(فليصدق رائد أهله و ليحضر عقله و ليكن من أبناء الآخرة فإنه منها قدم و إليها ينقلب) بعد ذكر مناقبه و أهله توجه إلى من هو موجود عنده و قد جاء ليأخذ منه الخبر اليقين أن يكون صادقا مع أهله الذين ينقل إليهم أخبار أهل البيت و ليفكر بجد و يمعن النظر فيما عندنا و يعود إلى أهله بالخبر اليقين.

ثم شرع في ربط الناس باللّه عن طريق ردهم إلى الآخرة و إنهم يجب أن يكونوا من ابنائها الساعين إليها العاملين لها فإنه منها قدم و إليها ينقلب أي من الحضرة الإلهية عند ما كان في عالم الذر قد قدم الآن و إلى اللّه يعود عند ما يموت و يخرج من الدنيا و تأول بعضهم هذه العبارة بقوله: أي خلق من أجل الآخرة و لا يستقيم المعنى إلا إذا فسرنا قدم بخلق و لكن الأولى حمله على المعنى الأول لوجود بعض الأخبار بذلك و لبعد التأويل ثانيا...

(فالناظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم: أعمله عليه أم له فإن كان له مضى فيه و إن كان عليه وقف عنه) نبه العاقل الناظر بعين بصيرته إلى ما يجب أن يكون عليه و هذه طريقة عقلائية يجري عليها ارباب الفكر و النظر إنهم ينظرون إلى ما يقدمون عليه و يريدون القيام به فيدرسونه بدقة و يتعرفون على نتائجه فإن كانت لصالحهم تابعوا طريقهم و ساروا في عملهم بجد و نشاط و إن كانت النتيجة غير مفيدة و لا مثمرة

ص: 496

و ليس فيها مردود جيد عليهم اعرضوا و تركوا و أهملوا.. و هكذا المسلم يدرس عمله فإن كان للّه أقدم عليه و إن كان لغير ذلك كف عنه و توقف...

(فإن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلا بعدا من حاجته و العامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح فلينظر ناظر سائر هو أم راجع) شبه الجاهل العامل بغير علم كالسائر على غير طريق فإنه كلما مشى ابتعد و هكذا يزداد بعدا كلما سار أما الذي يعرف الطريق و يمشي عليها فإنه يقطعها بأسرع ما يكون و يصل إلى مراده عن أقرب طريق و هكذا العالم العارف فإنه يصل إلى مرضاة اللّه و يبتعد عما يسخطه و يغضبه فلا بد من العلم الذي استودعه اللّه خاصة أوليائه و هم النبي و من بعده الأئمة.

ثم لفت انظارهم إلى أن كل عاقل فليفكر فيما هو فيه و ما يعمل هل هو سائر نحو رضا اللّه و ما رسمه لعباده أم أنه راجع عن ذلك و متخلف عنه...

(و أعلم أن لكل ظاهر باطنا على مثاله فما طاب ظاهره طاب باطنه و ما خبث ظاهره خبث باطنه و قد قال الرسول الصادق - صلّى اللّه عليه و آله و سلم - إن اللّه يحب العبد و يبغض عمله و يحب العمل و يبغض بدنه) الظاهر ترجمة لما في الباطن فمن غش في البيع كشف ذلك عن غشه الباطني و من تبرّم برؤية الصالحين ظاهرا كشف عن لؤمه و عداوته للدين باطنا، و من صلى و صام و أعان الناس و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر دللّ ذلك على طيب باطنه و عمق تدينه.

ثم استشهد بقول رسول اللّه و مفاده أن اللّه يحب العبد لإيمانه و عقيدته و يبغض عمله الذي ينحرف به كما لو فعل بعض الصغائر و إن اللّه يحب العمل الصالح من أي إنسان صدر حتى و لو كان من الكافر و إن كان يبغضه لكفره و بعده عن اللّه من جهات أخرى.

(و أعلم أن لكل عمل نباتا و كل نبات لا غنى به عن الماء و المياه مختلفة فما طاب سقيه طاب غرسه و حلت ثمرته و ما خبث سقيه خبث غرسه و أمرت ثمرته) العمل كالنبات ينمو و يتحرك و لكن هذا النبات يحتاج إلى الماء ليستمر و يكمل نموه و حياته فإن كان الماء صافيا طيبا طابت النباتات و طاب الغرس و امتلأ نضارة و خضره و طابت ثمرته التي يعطيها و إن كان الماء آسنا مالحا خبيثا تقزم الغرس و اصفر لونه و ضعفت اغصانه و أعطى ثمارا مرة.. و هذا الكلام يريد من ورائه أن يقول:

ص: 497

إن كل عمل وراءه نية أما حسنة طيبة خالصة للّه أو سيئة قبيحة خبيثة فيها شرك و رياء فإن كانت النية على الوجه الأول ترى الفعل حسنا صالحا و ترى نتائجه في طاعة اللّه و خدمته و خدمة عباده و إن كانت النية على الوجه الآخر انعكس ذلك على العمل فكان عملا سيئا قبيحا و كانت ثمرته معصية اللّه و محاربة عباده و الاضرار بهم...

ص: 498

155 - و من خطبة له عليه السلام

اشارة

يذكر فيها بديع خلقه الخفاش (1)

حمد الله و تنزيهه

الحمد للّه الّذي انحسرت (2) الأوصاف عن كنه (3) معرفته، و ردعت (4) عظمته العقول، فلم تجد مساغا (5) إلى بلوغ غاية ملكوته!.

هو اللّه الحقّ المبين، أحقّ و أبين ممّا ترى العيون، لم تبلغه (6) العقول بتحديد فيكون مشبّها، و لم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلا. خلق الخلق على غير تمثيل، و لا مشورة (7) مشير، و لا معونة معين، فتمّ خلقه بأمره، و أذعن (8) لطاعته، فأجاب و لم يدافع، و انقاد و لم ينازع.

خلقة الخفاش

و من لطائف (9) صنعته، و عجائب خلقته، ما أرانا من غوامض (10) الحكمة في هذه الخفافيش الّتي يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شيء، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حيّ ، و كيف عشيت (11) أعينها عن أن تستمدّ من الشّمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها، و تتّصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها. و ردعها بتلألؤ ضيائها عن المضيّ في سبحات (12) إشراقها، و أكنّها (13) في مكامنها (14) عن الذّهاب في بلج (15) ائتلاقها (16)، فهي مسدلة (17) الجفون (18) بالنّهار على حداقها (19)، و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به في التماس (20) ارزاقها، فلا يردّ أبصارها إسداف (21) ظلمته، و لا تمتنع

ص: 499

من المضيّ فيه لغسق (22) دجنّته (23) فإذا ألقت الشّمس قناعها (24)، و بدت أوضاح (25) نهارها، و دخل من إشراق نورها على الضّباب (26) في وجارها (27)، أطبقت الأجفان على مآقيها (28)، و تبلّغت (29) بما اكتسبته من المعاش (30) في ظلم لياليها. فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا، و النّهار سكنا (31) و قرارا! و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج (32) بها عند الحاجة إلى الطّيران، كأنّها شظايا (33) الآذان، غير ذوات ريش و لا قصب (34)، إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما (35). لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا، و لم يغلظا فيثقلا. تطير و ولدها لاصق بها لاجيء إليها، يقع إذا وقعت، و يرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه، و يحمله للنّهوض جناحه، و يعرف مذاهب عيشه، و مصالح نفسه. فسبحان الباريء لكلّ شيء، على غير مثال خلا من غيره!.

اللغة

1 - الخفاش: بضم الخاء و تشديد الفاء حيوان لبون معروف يطير ليلا.

2 - انحسرت: كلت.

3 - كنة الشيء: جوهره و حقيقته و غايته.

4 - ردعته: منعته و كفته.

5 - المساغ: المسلك و الطريق.

6 - بلغه: ادركه و وصل إليه.

7 - المشورة: النصيحة.

8 - أذعن: أقرّ و اعترف.

9 - اللطائف: جمع لطيفة ما صغر و دق.

10 - الغامض: ما خفي مأخذه خلاف الواضح.

11 - عشيت: العين ضعفت عن الرؤية و العشا سوء البصر و ضعفه.

12 - سبحات النور: درجاته و أطواره.

ص: 500

13 - اكنّها: سترها.

14 - المكامن: جمع ممكن و هو المكان الذي يتوارى فيه و يختفي.

15 - البلج: الظهور و الوضوح.

16 - الأئتلاف: اللمعان.

17 - سدل: الثوب أرخاه و أرسله.

18 - الجفون: اغطية العين من اعلاها و أسفلها.

19 - الحداق: جمع حدقة سواد العين.

20 - التمس: الرزق طلبه.

21 - اسدف: الليل أي أظلم.

22 - الغسق: محركة ظلمة أول الليل.

23 - الدّجنة: الظلمة.

24 - القناع: للمرأة ما تستر وجهها به.

25 - أوضاح: جمع وضح و أوضاح النهار ضوؤه.

26 - الضباب: جمع ضب و هو دابة معروفة.

27 - الوجار: الحجر.

28 - مآقيها: جمع مأق و هو طرف العين مما يلي الأنف.

29 - تبلّغت: أقتاتت، أو اكتفت.

30 - المعاش: ما يعاش به و ما يعاش فيه و بمعنى العيش و هو الحياة.

31 - سكنا: قرارا و مستقرا.

32 - عرج: رقى و ارتقى.

33 - الشظايا: جمع الشظية و هي القطعة من الشيء.

34 - القصب: عمود الريش أو اسفلها المتصل بالجناح.

35 - اعلاما: رسوما ظاهرة.

الشرح

(الحمد للّه الذي انحسرت الأوصاف عن كنة معرفته و ردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته) هذه الخطبة تتضمن وصفا للخفاش كي يعتبر الإنسان بمخلوقات اللّه و قدرة اللّه و دقة صنعه و حكمته و منها يستدل على عظمته و قد افتتح الخطبة بحمد اللّه الذي كلت الأوصاف و عجزت الكلمات عن ادراك حقيقة معرفته لأنه فوق العقول و لا يدرك العقل إلا محسوسا أو معقولا منتزعا من محسوس و اللّه منزه عن

ص: 501

ذلك.. و كذلك حمده باعتبار أن عظمة اللّه منعت العقول أن تجد طريقا لها إلى بلوغ نهاية ملكوته لأن سلطانه و ملكه لا تنهى إليه العقول...

(هو اللّه الحق المبين أحق وابّين مما ترى العيون) بعد أن ذكر الحمد للّه للأمرين المتقدمين أعاد بذكر اللّه ليقول أنه الحق الثابت الموجود الذي تقر بوجوده العقول بشكل أظهر و أوضح مما ترى العيون لأن العيون قد تخطىء أما العقول فإن اقرارها باللّه من شئونها الفطرية المركوزة في عمق النفس البشرية و هذه من أولى البديهيات التي يؤمن بها هذا الإنسان و لا يخطىء بما يتوصل من خلالها...

(لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبها و لم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلا) نفى أن تصل العقول إلى تحديد اللّه و تعريفه لأن ذلك يستدعي الوقوف عند الحدود كما هو حال الموجودات فيكون مشبها بها و مشابها و هذا ليس من صفات الباري جلّ و علا.

و كذلك لا يمكن للأوهام أن تختلف له صورة تخترعها مما تلتقطه من الأمور فيكون مركبا منها و مما يسرقه الوهم من كل منها و اللّه منزه عن ذلك...

(خلق الخلق على غير تمثيل و لا مشورة مشير و لا معونة معين فتم خلقه بأمره و أذعن لطاعته فأجاب و لم يدافع و انقاد و لم ينازع) بكلمة كن كان الوجود ابتداء و اختراعا و لم يكن ثمة خلق قبل اللّه حتى خلق هذا الخلق على شكله و مثاله كما أن اللّه لكماله المطلق ليس بحاجة إلى مشير أو معين لأن ذلك من صفات المحتاج و اللّه هو الغني المتعال و بهذا تم خلق اللّه بقوله كن و مشيئته التكوينية كان ما أراد واضحت كل مخلوقاته مقرة بعظمته مستجيبة له مطيعة لأمره إطاعة تكوينية بلسان الحاجة و الفقر إلى جوده و عطائه و أجابت كلها لندائه و أمره بدون مدافعة و لا منازعة كما قال تعالى: «ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ » .

(و من لطائف صنعته و عجائب خلقته ما ارانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء و يبسطها الظلام القابض لكل حي) بعد أن انتهى من المقدمة دخل في المقصود من الخطبة و هو النظر إلى عجائب خلق اللّه في الخفاش و دقائق ما فيه و سر ذلك و قد تعجب - و هو موضع العجب - من هذا الخفاش الذي ينزوي و يختبىء من ضوء الشمس و نورها الذي يسرح به كل مخلوقات اللّه و تخرج معلنة عن حركتها و حرية تنقلها و سعيها بينما يخرجها الظلام و يطلق سراحها الليل عكس سائر المخلوقات التي تأوي إلى أماكنها و تستريح من عملها و تنزوي فلا تخرج... إنه حيوان على خلاف المعهود من مخلوقات اللّه و كائناته الحية...

ص: 502

(و كيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها و تتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها و ردعها بتلالؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها و اكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج إئتلاقها) استفهم عليه السلام متعجبا من هذا المخلوق الذي جرت أموره على خلاف مقتضى القاعدة العامة التي عليها المخلوقات إنه مخلوق تجعل الشمس عيونه كليلة عاجزة تمنعه عن التحرك في طرف فوائده و ما ينفعه... ففي ضوء الشمس تتعطل قواه و يمتنع عن الحركة و يلزم أماكنه المستقر فيها.

(فهي مسدلة الجفون بالنهار على حداقها و جاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس ارزاقها فلا يرد ابصارها اسداف ظلمته و لا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته) من عظمة خلق اللّه أن هذا الخفاش في النهار نائم قد أطبق جفنيه و استسلم للراحة عاجزا عن الحركة أما الليل فهو ابنه و فارس ميدانه لا يجاريه فيه أحد و لا يفارق فيه مخلوق، إن الظلمة هي سراجه يسرح فيها ملتمسا رزقه لا تقف ظلمة الليل حاجزا عن الرؤية و لا تمنعه عن الحركة و التنقل، و أين هذا من سائر مخلوقات اللّه فإن العتمة تحجزها و تمنع بصرها عن الرؤية و تقعدها عن طلب معاشها؟...

(فإذا القت الشمس قناعها و بدت أوضاح نهارها و دخل من اشراق نورها على الضباب في وجارها اطبقت الأجفان على مآقيها و تبلغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها فسبحان من جعل الليل لها نهارا و معاشا و النهار سكنا و قرارا) يذكر خصائص هذا المخلوق في النهار - بعد أن ذكر خصائصه بالليل - بمجرد أن تخرج الشمس إلى الوجود و تنير معالم الحياة و تدخل أوكار الضباب كناية عن وصولها إلى كل مكان ترى الخفاش قد اطبق اجفانه و أغمض عينه و امتنع عن الرؤية لقد حجبت الشمس بنورها نور عينه و منعته من الرؤية و اكتفى بما اكتسبه في الظلمة معاشا يتقوت به و يعيش عليه ثم ذكر اللّه مسبحا له على هذه العظمة و هذه القدرة الإلهية الحكمية التي جعلت الليل للخفاش نهارا مبصرا و مورد معاش يعمل فيه لاكتساب قوته و جعل النهار سكنا ينام فيه و قرارا يستقر فيه بدون حركة.

(و جعل لها اجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان غير ذوات ريش و لا قصب إلا إنك ترى مواضع العروق بينة اعلاما لها جناحان لم يرّقا فينشقا و لم يغلظا فيثقلا) و هذا أيضا من موارد التعجب و هو افتراقها عن سائر المخلوقات بأنه سبحانه خلق لها اجنحة لحمية تصعد بها عند ما تريد الطيران كأنها قطع من الآذان لا تحوى على ريش و لا قصب كما هو الحال في سائر الطيور و من غرابتها إنك

ص: 503

ترى موضع عروقها ظاهرة بينة و هي جناحان لم يرّقا كثيرا حتى لا يتحملان صدمة الهواء فينشقان و لم يغلظا بحيث يزداد ثقلهما فيعجز عن الطيران بهما فسبحان من جعل لهما توزانا خاصا في الرقة و الثقل و في هذه الدقة...

(تطير و ولدها لاصق بها لاجىء إليها يقع إذا وقعت و يرتفع إذا ارتفعت لا يفارقها حتى تشتد اركانه و يحمله للنهوض جناحه و يعرف مذاهب عيشه و مصالح نفسه فسبحان البارىء لكل شيء على غير مثال خلا من غيره) و هذا ثالث موارد التعجب و هو حالتها مع ولدها فإنها تحمله على بطنها و ترضعه و الحال كذلك إنه تبع لها في هبوطه و صعوده في طيرانه و سقوطه لا يفارقها حتى تشتد اجنحته و تقوى و يستطيع أن تنهضه جناحاه على الطيران و يعرف وجوه كسبه و رزقه و مصالح نفسه من قدرته على الدفاع و الهروب عند الضرورة و غيرها من موارد الدفاع و بعبارة أخرى يبقى ملتصقا بأمه حتى يستقل بشئونه و كل أموره التي يكمل بها حياته...

ثم إنه بعد أن كان قد افتتح كلامه بالحمد للّه ختمه بالتسبيح له الخالق لكل ما في الوجود ابتداء و ابتداعا من غير تقليد لأحد كان قد خلق شيئا فيها فقلده اللّه فيها حاشا للّه و جل إنه يقول للشيء كن فيكون ابتداء لا تقليدا لغيره و من عجائب صنعه ما نراه من خلق الخفاش و دقة تكوينه...

ص: 504

الفهرس

85 - و من خطبة له عليه السلام و فيها صفات الجلال 5

86 - و من خطبة له عليه السلام و فيها بيان صفات الحق جل جلاله ثم عظة الناس بالتقوى و المشورة 9

87 - و من خطبة له عليه السلام و هي في بيان صفات المتقين و صفات الفساق و التنبيه إلى مكان العترة الطيبة و الظن الخاطئ لبعض الناس 17

عترة النبي (صلی الله علیه و آله) 30

الحب لا يكفي 30

الرأي في الدين 34

88 - و من خطبة له عليه السلام و فيها بيان للأسباب التي تهلك الناس 37

89 - و من خطبة له عليه السلام في الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلم و بلاغ الإمام عنه 42

90 - و من خطبة له عليه السلام و تشتمل على قدم الخالق و عظم مخلوقاته و يختمها بالوعظ 48

91 - و من خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة الأشباح و هي من جلائل خطبه عليه السلام روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الخطبة على منبر الكوفة و ذلك أن رجلا أتاه فقال له:

يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثلما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة فغضب و نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله فصعد المنبر و هو مغضب متغيّر اللون فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ثم قال: 55

92 - و من كلام له عليه السلام لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان 117

ص: 505

93 - و من خطبة له عليه السلام و فيها ينبّه أمير المؤمنين على فضله و علمه و يبيّن فتنة بني أمية 120

94 - و من خطبة له عليه السلام و فيها يصف اللّه تعالى ثم يبين فضل الرسول الكريم و أهل بيته ثم يعظ الناس 128

95 - و من خطبة له عليه السلام يقرر فضيلة الرسول الكريم 135

96 - و من خطبة له عليه السلام في اللّه و في الرسول الأكرم 137

97 - و من خطبة له عليه السلام في أصحابه و أصحاب رسول اللّه 140

98 - و من كلام له عليه السلام يشير فيه إلى ظلم بني أمية 151

99 - و من خطبة له عليه السلام في التزهيد من الدنيا 154

100 - و من خطبة له عليه السلام في رسول اللّه و أهل بيته 161

101 - و من خطبة له عليه السلام و هي إحدى الخطب المشتملة على الملاحم.. 172

102 - و من خطبة له عليه السلام تجري هذا المجرى و فيها ذكر يوم القيامة و أحوال الناس المقبلة 176

103 - و من خطبة له عليه السلام في التزهيد في الدنيا 184

104 - و من خطبة له عليه السلام 187

105 - و من خطبة له عليه السلام في بعض صفات الرسول الكريم و تهديد بني أمية و عظة الناس 196

106 - و من خطبة له عليه السلام و فيها يبين فضل الإسلام و يذكر الرسول الكريم و يلوم أصحابه 196

107 - و من خطبة له عليه السلام في بعض أيام صفين 206

108 - و من خطبة له عليه السلام و هي من خطب الملاحم 209

109 - و من خطبة له عليه السلام في بيان قدرة اللّه و انفراده بالعظمة و أمر البعث 223

110 - و من خطبة له عليه السلام في أركان الدين 247

111 - و من خطبة له عليه السلام في ذم الدنيا 263

112 - و من خطبة له عليه السلام ذكر فيها ملك الموت و توفية النفس و عجز الخلق عن وصف اللّه 278

113 - و من خطبة له عليه السلام في ذم الدنيا 280

114 - و من خطبة له عليه السلام و فيها مواعظ للناس 288

115 - و من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء 298

صلاة الاستسقاء و كيفيتها 302

ص: 506

116 - و من خطبة له عليه السلام و فيها ينصح أصحابه 307

117 - و من كلام له عليه السلام يوبخ البخلاء بالمال و النفس 311

118 - و من كلام له عليه السلام في الصالحين من أصحابه 314

119 - و من كلام له عليه السلام و قد جمع الناس و حضهم على الجهاد فسكتوا مليا 316

لم نغلب من قلة 320

120 - و من كلام له عليه السلام يذكر فضله و يعظ الناس 322

121 - و من خطبة له عليه السلام بعد ليلة الهرير قام إليه رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فلم ندري أي الأمرين أرشد؟ فصفقّ عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال:... 326

122 - و من كلام له عليه السلام قاله للخوارج و قد خرج إلى معسكرهم و هم مقيمون على إنكار الحكومة فقال عليه السلام 333

123 - و من كلام له عليه السلام قاله لأصحابه في ساحة الحرب بصفين 338

124 - و من كلام له عليه السلام في حث أصحابه على القتال 342

125 - و من كلام له عليه السلام في التحكيم و ذلك بعد سماعه لأمر الحكمين 349

126 - و من كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء 354

127 - و من كلام له عليه السلام و فيه يبيّن بعض أحكام الدين و يكشف للخوارج الشبهة و ينتقض حكم الحكمين 357

128 - و من كلام له عليه السلام فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة 363

كلام في علم الغيب 366

ترجمة الأحنف بن قيس 367

129 - و من خطبة له عليه السلام في ذكر المكاييل و الموازين 369

علامات فساد الزمان 372

130 - و من كلام له عليه السلام لأبي ذر رحمه اللّه لما أخرج إلى الربذة 357

ترجمة أبي ذر الغفاري 377

131 - و من كلام له عليه السلام و فيه يبين سبب طلبه الحكم و يصف الإمام الحق 380

الموقف العلوي و نظرته إلى الحكم 382

صفات يجب أن تنتفي من الحاكم 393

132 - و من خطبة له عليه السلام يعظ فيها و يزهد في الدنيا 385

ص: 507

133 - و من خطبة له عليه السلام يعظم اللّه سبحانه و يذكر القرآن و النبي و يعظ الناس 390

134 - و من كلام له عليه السلام و قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم 397

135 - و من كلام له عليه السلام و قد وقعت مشاجرة بينه و بين عثمان فقال المغيرة بن الأخنس: أنا أكفيكه فقال علي عليه السلام للمغيرة 399

136 - و من كلام له عليه السلام في أمر البيعة 401

137 - و من كلام له عليه السلام في شأن طلحة و الزبير و في البيعة له 403

138 - و من كلام له عليه السلام يومئ فيها إلى ذكر الملاحم 408

139 - و من كلام له عليه السلام في وقت الشورى 412

140 - و من كلام له عليه السلام في النهي عن غيبة الناس 414

141 - و من كلام له عليه السلام في النهي عن سماع الغيبة و في الفرق بين الحق و الباطل 417

142 - و من كلام له عليه السلام عن واضع المعروف في غير أهله 419

143 - و من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء و فيه تنبيه العباد إلى وجوب استغاثة رحمة اللّه إذا حبس عنهم رحمة المطر 422

144 - و من خطبة له عليه السلام في مبعث الرسل و فضل آل البيت 428

145 - و من خطبة له عليه السلام في ذم الدنيا 435

146 - و من كلام له عليه السلام و قد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه 438

147 - و من خطبة له عليه السلام فيها مواعظ للناس 442

148 - و من كلام له عليه السلام في ذكر أهل البصرة 451

149 - و من كلام له عليه السلام قبل موته 454

150 - و من خطبة له عليه السلام يومي فيها إلى الملاحم و يصف فئة من أهل الضلال 459

151 - و من خطبة له عليه السلام يحذر من الفتن 467

152 - و من خطبة له عليه السلام في صفات اللّه جل جلاله و صفات أئمة الدين 478

153 - و من خطبة له عليه السلام في صفة الضالين و موعظة الغافلين 485

154 - و من خطبة له عليه السلام يذكر فيها فضائل أهل البيت 493

155 - و من خطبة له عليه السلام يذكر فيها بديع خلقه الخفاش 499

ص: 508

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.