دلائل الصدق لنهج الحق المجلد 8

هوية الکتاب

المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر

المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - دمشق

الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - دمشق

المطبعة: ستاره

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1430 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-319-360-8

المتبرع الدیجیتالي : جمعیة المساعدة إمام الزمان (عج) في اصفهان

محرر : سيدة مرضیه محمدی سرپیری

ص: 1

اشارة

دلائل الصدق

لنهج الحق

تالیف

ایة الله العلامة

الشیخ محمدحسین المظفر

(1375-1301 ه)

الجزء الثامن

تحقیق

موسسة آل البيت الاحياء التراث

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1438 ه- - 2017م

مؤسسة ال البيت الاحياء التراث

بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فَوق صيدلية دياب - ط2

تلفاكس : 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - حرب : 24/34

البريد الإلكتروني alalbayt@inco.com.lb

www.al-albayt.com

ص: 4

ص: 5

المطلب الرابع

ما رواه الجمهور في حقّ معاوية

اشارة

قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :

المطلب الرابع

في مطاعن معاوية :

وهي أكثر من أن تحصى ، وقد روى الجمهور منها أشياء كثيرة .

منها : ما روى الحميدي قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «ويحَ عمّار ! تقتله الفئة الباغيةُ [ بصفّين ] ((2)) يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ((3)) ، فقتله معاوية .

ص: 6


1- نهج الحق : 306.
2- ليست في المصدر وهي اضافة توضيحية من العلامة الحلي قدس سرة.
3- الجمع بين الصحيحين 462/2 1794 ، وأنظر : صحيح البخاري 194/1 107 و ج 4 / 77 ح صحیح مسلم 185/8 - 186 ، سنن الترمذي 627/5 -628 ح 5/ 3800 ، سنن النسائي الكبرى 5 / 75 ح 8275 و ص 155 - 157 ح 8543 - 8553 ومن 161/2 عدة طرق ، مسند أحمد 2 / 161 و 164 و 206 وج 5/3 و 22 - 28 و 91 وج 1974 197/1 و 199 و ج 306/5 و 307 و ج 6/ 289 و 300 وج مسند الطيالسي : 90 ج 649 و ص 288 ح 2168 ، مصنف عبد الرزاق 240/11 20427 ، مصنف ابن أبي شيبة 723/8 ح 9 و 15 و ص 728 ح 39 و 40 ، مسندالبزار 256/4 1428 و ج 358/6 ح22368 و ج 351/7 ح 2948، مسند ابی يعلى 209/3 ح1645 وج 195/7 ح4181 وج 403/11 ح 6524 و ج424/12 ح6990 و ج 123/13ح 7175 و ص 331 ح 7347 ، المعجم الكبير320/1 ح 954 وج 4 / 85 ح 3720 ص186ح 4030 و ج 221/5 ح 5146 و ص 266 ح 5296 وج 19 / 171 ح 382 و ص 396 ح 396 ح 932 و ج 23 / 363 - 364 ح 932 852 - 858 و ص 369 - 370 ح 873 و 874 ، المعجم الأوسط 324/6 ح 6315 وج 298/8 ح 8551 ، المعجم الصغير 187/1 ، مسند الشاشي 408/3 ح 1532 ، صحیح ابن حبّان 260/8 ح 6701 و ج 9 / 105 - 106 ح 7036 - 7038 ، مستدرك الحاكم 2 / 168 ح 2663 وج 3 / 434 - 436 ح 5657 و 5659 .

ولما سمع معاوية اعتذر فقال : قتله من جاء به.

فقال ابن عباس : فقد قتل رسول الله صلی الله علیه واله و سلم حمزة لأنه جاء به إلى الكفار ((1)) .

ص: 7


1- بنظر : سنن النسائي الكبرى 157/5 ح ح 8553 ، مسند أحمد 206/2 وج 199/4 ، مسند أبي يعلى 123/13 - 124 ح 7175 وص ح 7346 و ص 7351 ، مصنف عبد الرزاق 240/11 ، طبقات ابن سعد 3/ 191 و 192 ، الإمامة والسياسية 146/1 ، العقد الفريد 13/ 337 ، أحكام القرآن للجصاص 596/3 ، مستدرك الحاكم 168/2 ح 2663 وج 436/3 -437ح 5659 و 5660 ، دلائل النبوة - للبيهقي - 551/2 - 552 ، تاریخ دمشق 414/43 و 425 و 431 ، مناقب الخوارزمي : 234 ، الكامل في التاريخ 188/3 - 189 ، شرح الأخبار1 / 408 ح 360 ، أمالي الصدوق : 489 ح665.

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

قول أهل السنة والجماعة في معاوية : أنّه رجل من أصحاب رسول الله صلی الله علیه واله و سلم ، وصحبته ثابتةٌ ، لا ينكره الموافق والمخالف ، وكان كاتب وحي رسول الله صلی الله علیه واله و سلم.

وبعد أن توفي رسول الله صلی الله علیه واله و سلم خرج إلى الشام تحت راية أخيه يزيد بن أبي سفيان ، ولمّا توفّي يزيد في إمارة الشام زمن إمارة عمر بن الخطاب ، ولاه عمرُ في إمارة الشام، وكان أميراً بها مدة خلافة عمر بن الخطاب .

ثمّ ولاه عثمان الشام، وأضافه ما فتحه من بلاد الروم، وكان على ولايتها مدة خلافة عثمان بن عفان((2)) .

ثمّ لمّا تولّى الخلافة أمير المؤمنين علي ، عزله من إمارة الشام وجعل الإمارة لعبد الله بن عباس.

فقال عبد الله : يا أمير المؤمنين ! إنّ معاوية قد استولى على الشام وله سنين كثيرة يحكم في الشام - وهو رجل من أهل الدنيا - فقره على أمره حتى تأخذ منه البيعة ، ثمّ إذا جاء الموسم للحج استوقفه في المدينة ، وابعث من تريد إلى الشام .

فلم يسمع أمير المؤمنين كلام عبد الله بن عباس وعزله في يومه » ((3)).

ص: 8


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق : 590 (حجري) .
2- أسد الغابة 435/4
3- أنظر : تاريخ الطبري 704/2 ، البدايه والنهاية 183/7

وبعد أن قتل عثمان ، ذهب مروان ونائلةُ بنتُ الفرافصة ((1)) - زوجة عثمان - إلى الشام ، وقد قطعت أنامل نائلة حين هموا بقتل عثمان ، فأوقعت نائلة نفسها على عثمان ، فقطعوا أناملها بالسيف .

فأخذ مروان ونائلة قميص عثمان وأناملها ، وذهبا بهما إلى معاوية .

فعلق معاوية القميص والأنامل على مسجد دمشق ، واجتمع بنو أُمية كلّهم في الشام ، وهموا بطلب ثأر عثمان ، ولم يبايعوا لعلي حتى وقع ما وقع من الفتن والحوادث المشهورة ((2)) .

ومذهب أهل السنة والجماعة أنّ الإمام الحق بعد عثمان كان علي بن أبي طالب ، ولا نزاع لأحد من أهل السنة في هذا ، وأن كل من خرج على عليّ ، كانوا بغاة على الباطل .

ولكن كانوا من أصحاب رسول الله صلی الله علیه واله و سلم ينبغي أن يحفظ اللسان عنهم، ويكفّ عن ذكرهم وذكر ما جرى بين الصحابة ؛ لأنّه يورث الشحناء، ويثير البغضاء ، ولا فائدة في ذكره .

وأما ما ذكره من مطاعن معاوية ، فلا اهتمام لنا أصلاً بالذب عنه ؛ فإنّه لم يكن من الخلفاء الراشدين حتى يكون الذب عنه موجباً لإقامة سنة

ص: 9


1- نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو ، ويقال عفير ، وكان الأحوص نصرانياً ، ولما كان سعيد بن العاص على الكوفة تزوج أختها هنداً ، فبلغ عثمان ذلك ، فطلب منه أن يوصفها له ، ففعل ، فطلب منه أن يخطب له أختاً إن كان لها ، فخطب نائلة ، فحملها له أخاها حنب من بادية السماوة فتزوجها لم يذكر أي تاريخ لولادتها أو وفاتها أو أي شيء آخر .أنظر ترجمتها في : الأغاني 348/16 ، تاريخ دمشق 135/70 ت 9435 ،الأعلام للزركلي 343/7.
2- أنظر : الكامل في التأريخ 161/3

الخلفاء وذب الطعن عن حريمهم ، ليقتدوا بهم الناس ولا يشكوا في كونهم الأئمة ؛ لأن معظم الإسلام منوط بآرائهم ، فإنّهم كانوا خلفاء النبوة ، ووارثي العلم والولاية .

وأما معاوية ، فإنّه كان من ملوك الإسلام ، والملوك في أعمالهم لا يخلون عن المطاعن ، ولكن كفُّ اللسان عنهم أولى ؛ لأن ذكر مطاعنه لا يتعلّق به فائدةٌ ما أصلاً ؛ فإنّ ذكر مطاعن الخلفاء ينفعُ الرّفضة ، وأقل المنافع أن يصير سبباً للمباحثة والمعارضة التي هي أنفع المنافع عند المجادلين من الرفضة. وهذه المنفعة مفقودة في ذكر مطاعن معاوية ؛ لأنه لم يعارض أحدٌ في الذب عنه، فَذِكْرُ مطاعنه محض الغيبة الضارة، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: «ولا تذكروا موتاكم إلا بالخير»((1)).

لكن لما ذكر هذا الرجلُ مطاعنه - ونحن لا نريد أن نترك شيئاً ممّا ذكره - نذكر مطاعنه ، ونتكلم في كل فصل بما يليق في ذلك الفصل من الكلام.

فنقول : ما ذكر أن رسول الله قال : «ويحَ عمّار تقتله الفئة الباغية » .

فهذا حديث صحيح ، ولاشك أنه قتل في حرب صفين ، ولا شك أن أصحاب معاوية قتلوه - وهم الفئة الباغية - ولا نزاع في هذا .

* * *

ص: 10


1- كنز العمال 15 / 680 ح 42712 .

وأقول :

إثبات الصحبة لمعاوية غير نافعة له ؛ إذ كم من صاحب للنبي صلی الله علیه و اله وسلم منافق ، بل ربِّ خاصة له في الظاهر وهو أفسقُ فاسقٍ .

روى البخاري ((1)) عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم قال :

«ما بعث الله من نبي ، ولا استخلف من خليفة ، إلّا كانت له بطانتان ؛ بطانة تأمرة بالمعروف وتحضّه عليه؛ وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه» ((2))

ونحوه في «مسند أحمد» ((3)) .

فأيّة فائدة لمعاوية في الصحبة، وهو من أكبر المنافقين ؛ لحربه ؛ واستدامة بغضه لسيّد المسلمين وأخ النبي الأمين ؟!

وكان من المؤلّفة قلوبهم، كما في ترجمته من كما في ترجمته من «الاستيعاب »((4)) و تاريخ الخلفاء للسيوطي ((5)) ، وغيرهما ((6)) ؛ ولأجل تأليفه استكتبه النبي صلی الله علیه و اله وسلم للصدقات ونحوها ، كما حقق كونه كاتب الصدقة حافظ أبرو الشافعي ((7))

ص: 11


1- في باب بطانة الإمام وأهل مشورته من كتاب الأحكام . منه قدس سرة.
2- صحيح البخاري 138/9 ح 56 .
3- ص : 289 2 . منه قدس سرة.
4- الاستيعاب 1416/3 ت 1435 .
5- تاريخ الخلفاء : 233 عهد بني امیة.
6- أسد الغابة 433/4 ت 4977 .
7- حافظ أبرو : لطف الله بن عبد الله ، نور الدين الهروي المولد ، همداني والدار ، الشهير بحافظ أبرو ، توفي بزنجان سنة 834 ه- . له زبدة التواريخ [فارسي] .إلى وقائع سنة 829 .انظر : کشف الظنون 839/5

رد الشيخ المظفر

على ما نقله السيد السعيد رحمه الله ((1))

ولا أدري أيه آية كتبها معاوية للنبي صلی الله علیه و اله وسلم ، وأية رواية جاءت بها ؟!

فلا أصل لما تشدق به الخصم وبعض أصحابه من أنّه كاتب الوحي . وغاية ما ذكره قدماؤهم ؛ كالطبري وابن الأثير في تاريخهما ، وابن عبد البر في «الاستيعاب » : أنّه كتب لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم ولم يبينوا المكتوب ((2)) .

وقال ابن أبي الحديد ((3)) : اختلف في كتابته له ، كيف كانت ؟

فالذي عليه المحققون من أهل السيرة : إنّ الوحي كان يكتبه عليّ ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأن حنظلة بن الربيع التيمي ، ومعاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك ، وإلى رؤساء القبائل ، ويكتبان حوائجه بين يديه ، ويكتبان ما يجيء من أموال الصدقات وما يُقسم في أربابها » ((4)).انتهى .

ولو سُلّم أنه كتب شيئاً من الوحى فى أيام إسلامه البسيرة المدخولة ، فقد كتب قبله ابنُ أبي سرح ، وارتد عن الإسلام ((5)) ، وما صدر من معاوية ، أشد وأنكى في الإسلام .

ص: 12


1- احقاق الحق : 591 ( حجري)
2- تاريخ الطبري 218/2 حوادث سنة 10 ه- ، الكامل في التاريخ 179/2 حوادث سنة 10 ه- ، الاستيعاب 1416/3 في ترجمته
3- ص : 112 مجلد 1 . منه قدس سرة.
4- شرح نهج البلاغة 338/1 .
5- تاريخ الطبري 218/2 حوادث سنة 10ه- ، الاستيعاب 918/3 ت 1553 ، أسد الغابة 3/ 155 ت 2974 ، الكامل في التاريخ 33/3 ت 8.

وأما ما ذكر من تولية عمر له على الشام فصحيح ، لكن لا تدلّ على فضيلة له ، وأن الإشكال في المولّي أعظم، وتوليته له إحدى مطاعنه ؛ لوجود كبار الصحابة السابقين الذين هم أولى منه بالولاية ، وأصلح للدين ، كما سبق مثله في تولية عثمان لأقاربه ((1)) ، بل عَزلَ عمر به من هو أولى منه بالأمارة ، فقد روى الترمذي في مناقب معاوية :

« أنّه لمّا عزل عمر عمير بن سعد ((2)) عن حمص ، ولى معاوية ، فقال الناس : عزل عميراً وولّى معاوية» ((3)) الحديث .

ولا شك أنّ هذا القول منهم إنّما هو لظهور فسق معاوية ، أو ظهور فضل عمير عليه ، فلم يحط عمر الإسلام نُضحاً .

وقد سبقت رواية البخاري ومسلم عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم أنه قال :

«ما من عبد استرعاه الله رعيّةً فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة» ((4))

ولكن يا لَلْعَجبِ !! قد أضاف الراوي إلى ذلك : «أنّ عميراً قال :

لا تذكروا معاوية إلا بخير ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يقول :

« اللهم ! اهد به » .

ص: 13


1- راجع ج409/7
2- عمير بن سعد بن عبيد الله بن النعمان الأوسي الأنصاري ، وقيل بن سعد بن شهيد وقيل سعد بن عبيد بن قيس ، كان يقال له نسيج وحده ، كان قد شهد فتح الشام وأستعمله عمر بن الخطاب على حمص وقيل دمشق أيضاً ، سكن الشام ومات بها وقيل نزل بفلسطين ومات بهاآنظر : الاستيعاب 3/ 1215 ت 1983 ، أسد الغابة 289/3 ت 4069 ، سير أعلام النبلاء 103/2 ت 12 .
3- سنن الترمذي 645/5 رقم 3843 .
4- راجع ج 431/7

إذ أيُّ مناسبة بين معاوية والهداية به ؟!

فهل من الهداية به إلحاقه العَهارَ ((1)) بالنسب جهراً ((2)) ، وإضلاله قطرالشام حتى أماتهم ميتة جاهليّةً ؛ لجهلهم بإمام زمانهم وخروجهم عليه ((3)) ؟!

وهل من الهداية به لبسه الحرير والديباج ، وشربه الخمر ، واستعماله أواني الذهب والفضة ((4)) ؟ !

إلى غير ذلك مما يتهتك به ، كما ستعرف .

وليت عمر بعد ما ولاه على رقاب المسلمين يسمع به قول قائل ، أو لا يَمدّه في غيه بالمال، أو لا يغضي عما يعمله من سييء أفعاله .

روى في «الاستيعاب» بترجمة معاوية: «أنّه ذُمّ يوماً عند عمر، فقال : دعونا من ذم فتى قريش»((5)).

وروى أيضاً : أنّه كان يجري عليه في كل شهر ألف دينار» ((6)) .

ص: 14


1- العهار : عهر اليها يعهر عهراً وعهوراً وعهارةً وعهورة وعاهرها عهاراً : أتاها ليلاً للفجور . ثمّ غلب على الزنا مطلقاً وقيل هو الفجورأنظر : لسان العرب 451/9 ، تاج العروس 279/7 مادة « عهر » .
2- إشارة إلى استلحاقه زياد ابن ابيه ونسبه لأبي سفيان علانيةً
3- إشارة إلى خروج معاوية ومعسكره من أهل الشام لحرب أمير المؤمنين صلی الله علیه و اله وسلم في صفين
4- سنن أبي داود 67/4 رقم 4131 كتاب اللباس ، مسند أحمد 347/5 ، الاستيعاب 836/2 رقم 1424 [دون أن يسمّي معاوية ] ، تاريخ دمشق 197/26 - 198 وص 198 200 في ترجمة عبادة بن الصامت برقم 3071 و ج 312/27 بترجمة عبد الله بن الحارث بن أُمية بن عبد شمس برقم 3230 بن عبد شمس برقم 3230 ، و ج 420/34 ، أسد الغابة 353/3 رقم 3322 ، شرح نهج البلاغة 5/ 130 ،الاصابة 321/4 رقم 340 بترجمة عبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري .
5- الاستيعاب 1418/3 .
6- الاستيعاب 1416/3 .

وفي رواية أخرى : «في السنة عشرة آلاف دينار» ((1)).

ذلك يزعمون : «أن عمر حج سنة عشر من خلافته، فکانتنفقته ستة عشر ديناراً .

فقال : أسرفنا في هذا المال»، كما في «تاريخ الخلفاء»، وفي «الصواعق » ((2)) بسيرة عمر.

فهل من السرف إنفاق هذا القدر اليسير في مجموع طريق الحج ، ولا يكون من السرف إعطاء معاوية في كل شهر ألف دينار لو كانت الأمور على حقائقها ؟!

وفي الاستيعاب أيضاً : « أن عمر قال : - إذ دخل الشام ورأى معاوية - :

هذا كسرى العرب .

وكان معاوية قد تلقاه في موكب عظيم ، فلما دنا منه قال :

أنت صاحب الموكب العظيم ؟

قال : نعم ...

قال : مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك ؟

قال : مع ما يبلغك من ذلك .

قال : ولم تفعل هذا ؟

قال : نحن بأرض جواسيس العدو بها كثيرةٌ ، فيجب أن تظهر لهم عزّ السلطان ما نرهبهم به ...

ص: 15


1- الاستيعاب 1422/3 ت 2435 .
2- تاريخ الخلفاء : 165 في نُبذ من أخباره وقضاياه ، الصواعق المحرقة : 158 الفصل السابع من الباب الرابع .

فقال عمر: ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس ((1))

إن كان ماقلت حقاً ، إنّه لرأي أريب، وإن كان باطلاً : إنّه لخدعة ادیب.

قال : فمرني يا أمير المؤنين .

قال : لا أمرك ولا أنهاك » ((2)) .

ونحوه في تاريخ الطبري ((3)) .

ولا ريب أن إظهار عمر للشك في صحة عذر معاوية ، إغضاء منه عمّا علمه من بطلان عذره ؛ إذ كيف يخفى على عمر أو غيره أن عز السلطان الإسلامي وإرهاب العدوّ ، إنما يحصل بكثرة الجن-د والخيل والسلاح، وتفاني الرعيّة في طاعة الوالي لاعتقادهم بفضله ، وهداه ، لا بتجبر الوالي ، ووقوف ذوي الحاجات ببابه ، وتحقيره لهم ؟!

ولا أعجب من عمر ؛ فإنّه أظهر الشك في معاوية ثمّ ما برح حتى أوكل الأمر إلى هواه ، فقال : «لا أمرك ولا أنهاك».

وهل يشتبه على عمر سوء أعمال معاوية وهو مهتوك الستر ؟!

قال ابن أبي الحديد ((4)) في شرح كتاب لأمير المؤمنين إلى ابن العاص

ص: 16


1- الرواجب : مفاصل أصول الأصابع التي تلي الأنامل أو بواطن مفاصلها ، واحدتها : راجبة . تاج العروس 2 / 17 ، مادة«رجب». ولعل المراد بقوله : في مثل رواجب الضرس ؛ كناية عن الحيرة أو الندم ؛ لأن النادم أو المتحيّر يعض على يده أو اصبعه ، كما يُقال : قرعَ فلان سنّه ؛ إذا حرقه ندماً .
2- الأستيعاب 1417/3 .
3- ص : 184 ج . 6 . منه قدس سرة ، تاريخ الطبري 3/ 265 حوادث سنة 60 ه-
4- ص : 60 مجلد 4 . منه قدس سرة.

يقول فيه :

«فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امريء ، ظاهر غيّه، مهتوك ستره ...» إلى آخره .

قال : «أما مهتوك ستره ؛ فإنّه كان كثير الهزل والخلاعة ، صاحب جلساء وسمار .

ومعاوية لم يتوفّر ، ولم يلزم قانون الرياسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين علیه السلام، واحتاج إلى الناموس والسكينة .

وإلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك ، موسوماً بكل قبيح.

وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً ؛ خوفاً منه ، إلا أنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات المحلاة بهما ، وعليهما جلال ((1)) الديباج والوشي ، وكان حينئذ شاباً وعنده نزق الصبا وأثر الشبيبة ، وسكر السلطان والإمرة .

ونقل الناس عنه في كتب السيرة : إنّه كان يشرب الخمر في أيام عثمان بالشام، وأما بعد وفاة أمير المؤمنين علیه السلام واستقرار الأمر له ، فقد اختلف فيه.

فقيل : إنّه شرب الخمر في ستر ، وقيل : لم يشرب .

ولا خلاف أنّه الغناء وطرب عليه ، وأعطى ووصل عليه»((2)) .

أقول ، الظاهرُ شربه لها بعد استقرار الأمر له ؛ لما في «مسند

ص: 17


1- الجلال : جمع الجل ، وجل الدابة : الذي تلبسه لتصان به ، وجلال كل شيء :غطاؤه . لسان العرب 336/2 .
2- شرح نهج البلاغة 16 / 160 - 161 .

أحمد » ((1)) عن عبد الله بن بريدة الأسلمي ، قال :

«دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ، ثم أتينا بالطعام فأكلنا ، ثمّ أُتينا بالشراب ، فشرب معاوية .

ثم ناول أبي ، قال : ما شربته منذ حرمه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.

فإن مثل بريدة لا يغضي عن معاوية لولا خوفه منه واستقرار الأمر له

مضافاً إلى ما في تتمة الحديث قال : «أي عبد الله » :

«ثمّ قال معاوية : كنتُ أجمل شباب قريش ، وأجوده ثغراً ، وما شيء كنتُ أجد له لذة كما كنتُ أجده وأنا شاب غير اللبن ، أو إنسان حسن الحديث يحدثني» .

فإن هذا الكلام ظاهر في بلوغه سن الشيخوخة ، وذهاب اللذات عنه ، سوى لذتي اللبن والحديث الحسن ، فلا يجد لذة للخمر - وقد شاخ - كما كان يجدها وهو شاب ، فيا سوأةً له ولمن يواليه .

وأعظم دليل على ظهور فسقه ونفاقه ، أنّه لمّا ولي أمير المؤمنين علیه السلام لم يرض أن يبقيه والياً زمناً يسيراً ، وقال - كما في ترجمة المغيرة من «الاستيعاب» -:

«لا والله ، لا رآنى الله مستعملاً له ولا مستعيناً به ما دام على حاله».

ثم قال علیه السلام: ( إن أقررتُ معاوية على ما في يده ، كنت متخذ المضلين عضدا»((2))((3)).

ص: 18


1- ص : 347 5 . منه قدس سرة.
2- اشارة إلى قوله تعالى : (ما أشهدتُّهم خَلقَ السموات والأرض ولا خَلقَ أنفُسِهم وما كنت مُتَّخِذَ المُضلَّينَ عَضُدا) سورة الكهف 18 : 51 .
3- الاستيعاب 1447/4 رقم 2483

وروى الطبري في تأريخه ((1)) أن أمير المؤمنين علیه السلام لما أشار عليه المغيرة بإقرار معاوية قال: «والله لا أُداهنُ في ديني» ((2))

وأنّه علیه السلام أجاب ابن عبّاس بعد ما أشار عليه بإقرار معاوية وأصحابه

قال :

«أما ما ذكرت من إقرارهم ، فوالله ، ما أشك أنّ ذلك خيرٌ في عاجل الدنيا لإصلاحها ، وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان ، فوالله لا أُولي منهم أحداً أبداً» ((3)).

وأما ما ذكره من أنّه لا نزاع لهم في أنّ من خرج على علي علیه السلام كانوا بغاةً على الباطل ، وأنّه ينبغي أن يحفظ اللسان عنهم ؛ لأنه يورث الشحناء ، فطريف ؛ لأنّهم إذا لم ينازعوا في أنهم على الباطل ، فما بال ذكرهم بباطلهم ومثالبهم يورث شحناء السنّة وبغضهم لنا ، بل كان يلزمهم إعانتنا على ثلب

المبطلين ؟!

أترى من سنة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أن يبغض المسلم المسلم لذكره أهل الباطل بباطلهم ومعائبهم ؟!

وقوله : « لا فائدة بذكره ، أطرف من سابقه ؛ إذ أيّةً فائدة أعظم من إظهار حال المبطل ؛ لئلا يغتر به الجاهل، ويدخل الناس في ضلالته، ويعظموا حقير منزلته ، ويعادوا أولياء الله لإجله ؟!

وكم من آية وسنّة لعنت أهل النفاق، وذمّت المردة الفساق.

وهل هذا إلا مثل أن يقال : لا تذكروا اليهود والنصارى بما هم فيه ؛

ص: 19


1- ص : 160 ج 5 . منه قدس سرة.
2- الطبري 704/2 حوادث سنة 35 ه .
3- الطبري 703/2 حوادث سنة 35 ه .

لأنه يورث الشحناء ؟!

وأما ما زعمه من أنّه لا اهتمام لهم بالذب عن معاوية ، فيكذبه الوجدان ، فكم كتاب لهم في الذب عنه، وكم مقال لهم في الدفع عن مخازيه ، حتى أبانوا عن غاية ولائهم له وتمسكهم به ، فلا يؤثر في شأنه مخالفته لضرورة شريعة الرسول صلی الله علیه و اله وسلم بالحاق زياد بأبيه بالزنا ،وخروجه على إمام زمانه، وسفك ما لا يحصى من الدماء، سبّ أخ النبي صلی الله علیه و اله وسلم ونفسه على المنابر ((1)) ، وفي كل ذلك ينسبونه إلى الاجتهاد ، ويعذرونه ((2)).

وقد أثبت ابن حجر الهيثمي خلافة معاوية في «صواعقه»، وألف لها وللذب عنه ، كتاباً سمّاه :

«تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوّه بثلب سيّدنا معاوية بن أبي سفيان ((3)). »

فانظر إلى هذا الاسم العريض الطويل، الكاشف عما اشتمل عليه المسمّى من الخرافات والأباطيل .

وأما قوله : « ولا يشكوا في كونهم الأئمة»

ففيه : إنّه لا بأس بالشك في إمامتهم بمقتضى مذهبهم ؛ إذ ليست هي من الاعتقاديات وأصول الديانات، وإنما مسألة الإمامة عندهم فرعيّة

ص: 20


1- راجع المحاسن والمساوي : 55 ، مروج الذهب 184/3 ، الكامل في التأريخ 314/4 - 315 ، معجم البلدان 3/ 215 ، تاريخ الخلفاء : 225.
2- انظر : الإبانة - لأبي الحسن الأشعري - : 178 - 179 ، شرح المقاصد308/5 ، تطهير الجنان : 42 .
3- طبع بهامش الصواعق المحرقة الطبعة الميمنية سنة 1312 ه- ، وبذيل طبعة دار الكتب العلمية .

عمليّةً ؛ بأن يجب على الأمة نصبُ إمام حاضر ، ولا دخل لها بالاعتقاد بإمامة إمام غابر ((1))

وتعليله لذلك بأن معظم الإسلام منوط بآرائهم ، خطاً ؛ لأن اتباع أقوالهم عندهم لا يتوقف على الاعتقاد بإمامتهم ، وإنما يتوقف على اجتهادهم ، كسائر الصحابة .

على أنا لا نعرف أحكاماً مأخوذةً من آرائهم سوى الأحكام التي ابتدعوها ، ومرّ عليك بعضُها .

وأما ما زعمه من أن المباحثة والمعارضة أنفع المنافع عند المجادلين من الرفضة ، ففيه :

إنّ همة الشيعة ورفضة الباطل ، أعلى وأرفع من هذه الغاية ، كيف ؟ وأدلتهم القويمة شاهدةً بأن غايتهم هدايه الأنام، وقصدهم بالزام الخصم بحجته إرشاده إلى الحق .

ومن المضحك إطلاقه الغيبة الضارّة على ذكر مطاعن معاوية ؛ فإن الغيبة الضارّة هي ذكر المؤمن بما يكره ، والكلام في إيمان معاوية .

على أن هذا الذكر لو حرم لسقط علم الرجال ، وانسدّ باب الجرح ، من أوليائه .

مع أنّ المصنف رحمه الله إنما أخذ ذلك منهم ، ورواه عنهم ، فهم أوّل من استغاب معاوية ، بل الله سبحانه أوّل من استغابه وعشيرته حيث أظهر أسواءهم ، ووصفهم بأنّهم الشجرة الملعونة في القرآن((2))، واتبعه نبيه

ص: 21


1- راجع ج 186/4 من هذا الكتاب .
2- وهو قوله تعالى : (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) سورة الإسراء 117 : 60 ، وأنظر كنز العمال 87/14 ح 38014.

الكريم بهذا ولوازمه من بغض هذا الحي ولعنه ((1)) ، ونحن ما زدنا على هذا . ومما ذكرنا يعلم أن معاوية ليس من موتانا الذين أريدوا بقوله : لا تذكروا موتاكم إلا بخير»

ولا شك لعاقل أن غرض هذا الخصم وصحبه من هذه الكلمات ونحوها منع النظر في مطاعن أوليائهم ؛ لئلا يتضح حالهم ، وإلا فأي شخص ينكر وجوب النظر في معرفة الدين الحقِّ وبيان أدلته ومؤيداته ؟!

ثمّ إن ما ذكره من تسليم صحة حديث : قتل الفئة الباغية لعمار .

يستلزم أن يقول : إن معاوية وأصحابه دعاة النار ؛ لاشتمال الحديث على ذلك ، وهو مستفيض الرواية((2)) . حتى رواه البخاري في باب الجهاد ((3)) بلفظ : «ويح عمّار ! تقتله الفئة الباغية ، عمّار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار» ((4))

ورواه أيضاً في «كتاب الصلاة » ((5)) بلفظ : «ويح عمّار ! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»((6)).

ص: 22


1- انظر : المعيار والموازنة : 299 ، مستدرك الحاكم 383/2 ح 3343
2- بل يربو على حد التواتر ، وقد عده الزبيدي من الأحاديث المتواترة في لقط اللآلي المتناثرة ومن طريق أربعة وعشرون صحابياً، وكذا السيوطي في الأزهار المتناثرة ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب 1140/3 : وتواترت الآثار عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم أنه قال : «تقتل عمار الفئة الباغية ، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلی الله علیه و اله وسلم، وهو من أصح الأخبار .
3- في مسح الغبار عن الناس في السبيل . منه قدس سرة.
4- صحيح البخاري 77/4 ح27.
5- في التعاون في بناء المسجد . منه قدس سرة.
6- صحيح البخاري 194/1 ح 107 .

وكفى القوم ذمّاً أن يوالوا دعاة النار الباغين على إمام زمانهم، الكافرين حين بغيهم، فقد رووا:

إن من مات وليس في عنقه بيعةً ، فقد مات ميتة جاهلية» ((1)) ، إلى نحوه من الأخبار ((2)) .

وبالضرورة أن من لو مات مات ميتة جاهليةً ، كافر .

ص: 23


1- صحيح مسلم 22/6 كتاب الإمارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة ، المعجم الك- للطبراني - 19 / 334 - 335 ح 769 ، السنن الكبرى -للبيهقي - 156/8 ، مصابيح السنّة - للبغوي - 9/3 ح 2765 ، مجمع الزوائد 218/5
2- مسند أحمد 96/4 ، المعجم الكبير 19 / 388 ح 910 ، الإحسان بترتيب صحيح 4554 ، حلية الأولياء 224/3 ، مجمع الزوائد 218/5 ، ابن حبان 49/7 اح اتحاف السادة 334/6 ، كنز العمال 103/1 ح 464 .

نسب معاوية واستلحاقه لزياد

اشارة

قال المصنف - طيب الله رمسه _((1)):

ومنها : ما رواه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب في كتاب «المثالب» قال :

«كان معاوية [يعزى ] لأربعة ؛ لعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي ؛ ولمسافر بن عمرو ؛ ولأبي سفيان ، ولرجل آخر سمّاه» قال :

وكانت هند أُمّه من المغتلمات ((2)) ، وكان أحبُّ الرجال إليها السودان ،وكانت إذا ولدت أسود قتلته((3)).

وأما حمامة ((4)) ، فهي بعض جدّات معاوية ، كان لها راية بذي المجاز ((5)) يعني من ذوات الرايات في الزنا، وادّعى معاوية أخوّة زياد، وكان له مدع يقال له : أبو عبيد ؛ عبد بني علاج من ثقيف.

فأقدم معاوية على تكذيب ذلك الرجل، مع أن زياداً ولد على

ص: 24


1- نهج الحق : 307 .
2- المغتلمات : الغُلمة : هيجان شهوة النكاح . انظر : العين 4 : 422 ، لسان العرب12 : 439 - علم .
3- مثالب العرب : 72 - 73 ، وأنظر : الأغاني 62/9 ، ربيع الأبرار 551/3 ، شرح ابن أبي الحديد 336/1 ، تذكرة الخواص : 184
4- حمامة : هي أم أبي سفيان جدة معاوية ، كانت بغياً في الجاهلية صاحبة راية .شرح نهج البلاغة 125/2 .
5- مثالب العرب ،85 ، شرح ابن أبي الحديد 125/2 ، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار - للشيخ حسين عبد الصمد والد البهائي - : 78

فراشه ، وادعى معاوية أن أبا سفيان زنى بوالدة زياد - وهي عند زوجها المذكور - وأن زياداً من أبي سفيان»((1))

فانظر إلى هذا الرجل ، بل إلى القوم الذين يعتقدون فيه الخلافة وأنّه حجّةُ الله في أرضه ، والواسطة بينهم وبين ربّهم ، وينقلون عنه أنه ولد زنا ، وأنّ أباه زنى بأخته ، هل يقاس بمن قال الله في حقه :«إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» ؟!((2))

ص: 25


1- أنساب الأشراف 197/5 - 204 ، تاريخ اليعقوبي 127/2 ، تاريخ الطبري 3 / 195 ، العقد الفريد 4/4، مروج الذهب 6/3 - 8 ، تاریخ دمشق 162/19 ، 172 - 177 ، المنتظم 31/4 - 32 . تاريخ ابن الأثير 3/ 299 - 302 .
2- سورة الأحزاب 33/33 .

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

إن ما اتفقت عليه الأمةُ بلا نزاع : أن تشييع الفاحشة ونشرها قبيح شرعاً، ويستقبحه العقول السليمة، سيما ما كان من أمر الجاهلية ؛ فإن أنكحة الجاهليّة لا ندري كيف جرت ؟

والأنساب في الجاهلية لا اعتداد بها ؛ لأنّ أنكحتهم لم تكن معتبرة . وهذه أشياء قد نهى الله ورسوله عن نشرها ، والقذف بالزنا قبيح لأيّ شخص كان ، ولا ندري ما غرض هذا الرجل من نشر هذه الأمور .

وأمّا قذف هند ، فهي لا نزاع أنّها أسلمت يوم الفتح ، فقذفها يوجب الحدّ بلا شبهة ، وهو من الكبائر بلا نزاع، سيما وأن ما ذكره غير موافق لصحاح التواريخ .

وحقيقة خبر هند ، كما ذكره أرباب صحاح التواريخ، وذكر الميداني في مجمع الأمثال»، وغيره من علماء التواريخ : «أنّ هنداً قبل أن تُزَوّج بأبي سفيان كانت متزوجة برجل من صناديد قريش ، لا أدري الآن أنه كان مسافر بن عمرو أو غيره ((2)) ، فذهب زوجها يوماً يصطاد - وكان يوماً شديد القيظ والحرّ - فخرجت هند من البيت ونامت في ساحة الدار.

فرجع زوج هند فرآها مضطجعة في ساحة الدار ، والرجل راقد

ص: 26


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن احقاق الحق : 594 (حجري)
2- كانت متزوجة من الفاكة بن المغيرة المخزومي ، أما مسافر بن أبي عمرو بن ، أُمية ابن عبد شمس فقد كان يعشقها انظر : الأغاني 62/9 - 68

بقربها فأخذته الغيرة .

فقالت هند : ما شعرت بهذا الرجل ، وأنه متى دخل الدار ؟

فوقعت بينهما منازعة وشقاق ، ورفعا أمرهما إلى كاهن ، فحكم لهند وأنّها بريّةً ممّا يقذفها الزوج به ، وقال الكاهن : إن هذه المرأة ستلد ملكاً عظيماً ، يبلغ حكمه المشارق والمغارب .

فحلفت هند أن لا تلد هذا الملك من ذلك الزوج ، وسألت طلاقها وأخذت منه الطلاق .

ثم تزوجت بأبي سفيان ، فولدت له معاوية .

هذا ما ذكروه من أمر هند ((1)) .

وأما ما ذكر أن معاوية ادعى أخوّة زياد، فتفصيل هذه الرواية على ما ذكره المؤرّخون ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة»، وذكره ابن الجوزي في تأريخه : «إن زياداً وُلِدَ على فراش عبيد الثقفي ، وكان أبو سفيان يدعي أنه ولد في الجاهليّة على عادتهم في إلحاق الأولاد ، فلما جاء الإسلام، ونهى عن الإلحاق، ترك أبو سفيان ذلك الدعوى .

وكان زياد رجلاً رشيداً شجاعاً نجيباً ، فبعثه عمر بن الخطاب أيام خلافته لبعض الأعمال إلى اليمن، فعمل فيها عملاً جيداً .

فلما رجع من اليمن كان يقصُّ قصته في عمله على عمر بن الخطاب، وتكلّم على قوانين العقل بالكلام الجيد.

ص: 27


1- لم يذكر الميداني أي شيء يتعلق بهذه القصة التي ذكرها الفضل ، وهو ما اعتدنا عليه من الفضل حيث أنّه كثيراً ما يُنسب أموراً إلى مصادر لم تشر إليها. ولكن هناك مصادر أخرى ذكرت ما أشار إليه الفضل باختلاف.أنظر : المنمق : 109 - 110 ، الأغاني 66/9 ، تاريخ دمشق 168/70 - 169.

فقال عمرو بن العاص : الله در أبيه ، لو كان هذا الغلام من قريش الساق العرب بعصاه .

فقال أبو سفيان : أنا أعلم من وضع ماءه عند أمه .

فقال أمير المؤمنين عليّ : اتَّقِ الله يا أبا سفيان ولا ترجع إلى الجاهلية.

فلم يذكر أبو سفيان شيئاً بعدما قال له أمير المؤمنين هذا الكلام .

ثمّ لمّا كان زمن علي بن أبي طالب ، بعث زياداً أميراً على آذربيجان . فكتب إليه معاوية يستلحق ويسترضيه ، فكتب أمير المؤمنين إلى زياد : أن لا تميل إلى استمالة معاوية ، وكتب فيه :

إنّ ذلك نزعةٌ من نزعات الشيطان ألقاها على أبي سفيان ، ولم يثبت به نسب .

فقال زياد : والله لقد شهد به .

ثمّ لما بلغ [أمر] الخلافة إلى معاوية ، بعث إلى الكوفة واستلحق زياداً ((1)) .

وهذا من قبائح الأمور الصادرة من معاوية ، ولا يعتذر له ؛ لأنّه كان من الملوك ، والملوك لا يخلون عن أمثال هذه الأمور.

وأما قوله : «إنّ أهل السنة يعدونه خليفة ، ويجعلونه حجة الله في أرضه .

فهذا أمرٌ باطل ؛ فأنّ أهل السنّه لا يعدّونه إلا ملكاً من ملوك الإسلام،

ص: 28


1- شرح نهج البلاغة 179/16 - 181 وفيه اختلاف ملحوظ . ولم يشر ابن الجوزي إلا اشارة خفيفة لهذا الموضوع . انظر : المنتظم 31/4 و 32 ، الاستيعاب 525/2 .

وهو كان من أهل البغي في زمن أمير المؤمنين ، ثمّ صار ملكاً بعد وفاة أمير المؤمنين لما بايعه الحسن بن عليّ ، وانتهى خلافة النبوة ، وختم بالحسن ابن عليّ .

هذا مذهب أهل السنة والجماعة .

ص: 29

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

نعم ، اتفقت الأمّة على حرمة تشييع الفاحشة ، لكن في الذين آمنوا ،كما قيدت به الآية الكريمة ((1)).

وأما في المنافقين والكافرين فلا بل هو راجح ؛ لفائدة التنفير عنهم ؛ لئلا يعظمهم الناسُ ويتخذوهم أئمةً ، وهذا هو غرضُ المصنف - رحمه الله - في رواية هذه الكلمات.

وكيف يقال بقبح نشر هذه الأمور شرعاً ، وقد فعله الصحابه أيام النبي صلی الله علیه و اله و سلم؟!!! قال حسّان هنداً لما أخبره عمر بشعرها في أحد ، كما رواه الطبري في تأريخه ((2)) :

[ من الكامل ]

أشِرَت ((3)) لكاع ((4)) وكان عادتها *** لُوْماً إذا أشِرَتْ مع الكفر

لعن الإله وزوجها معها *** هند الهنود عظيمة البظر

ومنها :

ص: 30


1- اشارة إلى الآية الكريمة 19 من سورة النور «إنّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم».
2- ص : 23 ج 3 . منه قدس سره.
3- أشرت : بطرت . لسان العراب 149/1 .
4- لكاع : لثيم أحمق . لسان العرب 321/12.

ونَسيتِ فاحشة أتيت بها *** یا هند ويحكِ سبّةَ الدّهر!

زعم الولائدُ ((1)) أنها ولدت *** ولداً صغيراً كان من عهر((2))

ونقل ابن أبي الحديد ((3)) عن محمد بن إسحاق قول حسّان - أيضاً - في هجائها :

لِمَن سواقط ولدان مطرحةٌ *** باتت تفحص في بطحاء أجياد ((4))

باتت تفحّصُ لم تشهد قوابلها *** إلا الوحوش وإلا جنة الوادي

يظل يرجمه الصبيان منعفراً *** وخاله وأبوه سيدا الوادي

لفحشها»((5)).

ولحسان أبياتٌ أخر فى هجانها تأتى.

وأما قوله : « والأنساب فى الجاهلية لا اعتداد بها ؛ لأنّ أنكحتهم لم تكن معتبرة» فغلط فاحش ؛ لأن النبي صلی الله علیه واله و سلم قال : «لكل قوم نكاح » ((6))،بل هو من ضروريات الدين والعقلاء .

ولعلّ قصد الخصم من هذا تبرير فعل معاوية بنفيه زياداً عن أبيه عبيد ، وإلحاقه بأبي سفيان ، وإلا فأيُّ فائدة بهذا الكلام ؟!

ص: 31


1- الولائد : القوابل . لسان العرب 394/15
2- راجع : دیوان حسان بن ثابت 384/1 ، تاريخ الطبري 70/2 و 71 ، الأغاني 192/5.
3- ص 387 مجلد 3 . منه قدس سرة.
4- أجياد : موضع بمكة يلي الصفا ، أو جبل بها . معجم البلدان 1 : 105
5- انظر : شرح نهج البلاغة 15/ 15 ، دیوان حسان بن ثابت 397/1 ، وفيه اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
6- تهذيب الأحكام 472/7 ح 1891

ثمّ إنّه كما للجاهليّة نكاح ، فلهم سفاح ؛ وهو إتيان الرجل غير زوجته ، كما وقع في قضايا هند ، ولهذا كانت تُعيّرُ بالعهر، وبأنها ولدت معاوية وعتبة من سفاح.

وأما ما زعمه من أنّ هنداً أسلمت فقذفها يوجب الحد

ففيه : إن إسلامها مدخول ، ونفاقها محقق ، فلا حرمة لها ولا حدَّ في قذفها .

ولو سلم أن إسلامها صحيح ، فلا حد في قذفها أيضاً ؛ لأنه بلحاظ أيام كفرها ، حكى في «الكنز» بكتاب الحدود ((1)) عن عبد الرزاق عن أبي سلمة :

«أن رجلاً عيّر رجلاً بفاحشة عملتها أمه بالجاهلية ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فقال : لا حدّ عليه» ((2))

ثمّ إنّ القاذف لهند هو الراوي الأوّل ، لا الناقل عنه بواسطة أو بغير واسطة كالمصنف رحمه الله والكلبي .

وأمّا زعمه من أن ما ذكره المصنف غير موافق لصحاح التواريخ ، وأن حقيقة الخبر غير ذلك .

ففيه : إنّه إنّما زعم صحة تلك التواريخ ؛ لموافقتها لهواه في معاوية ، وإلا فالصحيح ماذكره المصنف رحمه الله؛ بدليل ما اشتهرت به هند من البغاء ، كما عرفته في شعر حسّان ، وبدليل ما سينقله المصنف - رحمه الله - عن الحافظ أبي سعيد ، وأبي الفتوح ؛ من أن مسافر بن أبي عمر جامع هنداً سفاحاً فحملت.

ص: 32


1- ص : 120 ج منه قدس سرة.
2- كنز العمال 120/3 كتاب الحدود .

فتزوّجها أبو سفيان فولدت معاوية بعد ثلاثه أشهر .

ونحوه عن الأغانى ((1)).

وبدليل ما نقله ابن ابي الحديد ((2)) عن الزمخشري في «ربيع الأبرار» قال : كان معاوية يعزى إلى أربعة : إلى مسافر بن ابي عمرو ، وإلى عمارة ابن الوليد بن المغيرة ، وإلى العباس بن عبد المطلب ، وإلى الصَّباح ؛ مغَنَّ كان لعمارة بن الوليد ((3)).

قال : وكان أبو سفيان ذميماً قصيراً، وكان الصباح عسيفاً ((4)) لأبي سفیان شاباً وسيماً ، فدعته هند إلى نفسها فغشيها .

وقالوا : إنّ عتبة ابن أبي سفيان من الصباح أيضاً .

وقالوا : إنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته.

وفي هذا المعنى يقول حسّان - أيام المهاجاة بين المسلمين ، والمشركين في حياة رسول الله صلی الله علیه واله و سلمقبل عام الفتح-:

لمن الصبي بجانب البطحاء *** في الترب ملقى غير ذي مهدِ

نجلت ((5)) به بيضاءُ آنسةٌ ((6)) *** من عبد شمس صلبة الخد ((7))

أقول : ومن شواهد كون معاوية ابن زنا صلافة وجهه باستلحاقه

ص: 33


1- شرح نهج البلاغة 336/1 .
2- ص : 111 مجلد 1 . منه قدس سرة.
3- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار 3 : 551.
4- العسيف : الأجير المستهان به. لسان العرب 62/9 - 63.
5- النجل : النسل ، والولد ، نجل به أبوه ، نجله : أي ولده . لسان العرب 57/14 .
6- آنسة : طيبة النفس والحديث . لسان العرب 235/1
7- شرح النهج 336/1 ، وأنظر ديوان حسان بن ثابت 396/1 رقم 220 ، ربيع الأبرار 551/3 .

زياداً جهراً بين الجماهير ؛ فإن معاوية لو لم يكن لحيقاً أيضاً لاستحيى من ذلك واستنكره، ولا سيّما أنّ كيفية استلحاقه لزياد قد اشتملت على أنواع التهتك وصنوف المخازي .

قال ابن الأثير في كامله ((1)) : رأى معاوية أن يستميل زياداً ، ويستصفي مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي ، فقال له معاوية :

بم تشهد يا أبا مريم ؟

فقال : أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً ، فقلت له :

ليس عندي إلا سميّة .

منياً .

فقال : ائتني بها على قدرها ووضرها ((2)) .

فأتيته ،بها، فخلا ،معها ، ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها ليقطران منیا.

فقال له زياد : مهلاً أبا مريم إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتما ،فاستلحقه معاوية .

وكان استلحاقه أوّل مارُدّت به الشريعة علانية ، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قضى ب: الولد للفراش وللعاهر الحجر».(3)

ص: 34


1- ص : 225 ج3. منه قذس سرة.
2- الوضر : الدرن والدسم والصفات والريح الخبيثة . لسان العرب 325/15 .
3- الكامل في التأريخ 301/3 ، وأنظر : صحيح البخاري 48/4 - 49 ح 8، و 5 / 308 ح 308 ، و 295/8 صحیح مسلم 1171/4 کتاب الرضاع ، باب ح الولد للفراش وتوقي الشبهات، الترمذي 463/3 ح 1157 ، ابن ماجة 647/1 2006 و 2007 ، سنن ابي داود 2/ 290 - 291 ح 2273 ، مسند أحمد 59/1 و 65وج 2/ 239 و 386 وج4 / 187 وج 276/5.

ونقل ابن أبي الحديد نحوه عن عليّ بن محمّد المدائني ، وذكر فيه :«أنّ زياداً قال من فوق المنبر : يا أبا مريم ! لا تشتم أمهات الرجال تُشْتَمْ أُمَك » ((1)) .

فيا قاتل الله زياداً ومعاوية، ما أصلف وجهيهما وما أبعدهما عن الحياء .

وأعجب من معاوية من يواليه - وهو بهذا الحال من الخنا ((2))- ويضع الأخبار، الأخبار في فضله - وهو بهذا الفجور - ويعد رواياته من صحاح وهو بهذا التجاهر في الفسق .

وأما ما ذكره من اعتقادهم في معاوية ، فقد عرفت الكلام فيه ((3)) ، وقد بقي في كلامه موارد تاريخية هي محل للانتقاد تركناها لرائيها .

ص: 35


1- شرح النهج 187/16 .
2- الخنا : الفحش . لسان العرب 238/4
3- تقدّم في الصفحة 19 وما بعدها من هذا الجزء

دعاء النبي على معاوية

اشارة

قال المصنّف - طاب مرقده ((1)) :

ومنها : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم دعا عليه .

روى مسلم في الصحيح عن ابن عباس ، قال :

كنتُ ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فتواريت خلف باب ، قال :فحطأني حطأة ((2)) وقال : اذهب فادع لي معاوية .

قال : فجئت ، فقلت : هو يأكل

قال : ثمّ قال لي : اذهب فادع لي معاوية .

قال : فجئت ، فقلت : هو يأكل : فقال : لا أشبع الله بطنه» .

قال ابن المثنى : قلت لأميه ، ما حطأني ؟ قال : قفدة ((3)) »((4)).

قال : قفدني فلو لم يكن عنده معاوية من أشدّ المنافقين لما دعا عليه ؛ لأنّه كما وصفه الله تعالى:«وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم» ((5)) ، وقال في حقه :« فلا

ص: 36


1- نهج الحق : 308.
2- خطأ : ضرب ، وحطأه : ضرب ظهره بيد مبسوطة ، والحطو : تحريك الشيء مزعزعاً . لسان العرب 222/3 و 228 .
3- القفد : صفع الرأس ببسط الكف من قبل الصغار . لسان العرب 252/11.
4- صحیح مسلم 27/8 ، وأنظر : مسند أحمد 291/1 و 335 ، دلائل النبوة -للبيهقي - 243/6.
5- سورة القلم 4/68 .

تذهب نفسك عليهم حسرات»((1)) «فلعلك باخع نفسك على آثارهم» ((2)).

ومن يقارب قتل نفسه على الكفّار، كيف يدعو على مسلم عنده ؟! وقال الله تعالى :«إن تستغفر لهم سبعين مرّةً»((3)) .

فقال : والله ، لأزيدن على السبعين ((4)).

وقد ورد في تفسير:«إنّك لعلى خلق عظيم»((5)) .

أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كلما آذاه الكفار من قومه قال :«اللهم اغفر لقومي ،إنهم لا يعلمون»((6)).

فلو لم يكن عنده منافقاً، لكان يدعو له ولا يدعو عليه .

وكيف جاز لمعاوية أن يعتذر بالأكل ، مع أنه صلی الله علیه و اله و سلم قال :

«لا يؤمنُ عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، وأهله ، وماله ، وولده »((7))

ص: 37


1- سورة فاطر 8/35.
2- سورة الكهف 6/18.
3- سورة التوبة 80/9.
4- تفسير الطبري 434/6 و 435 ، والدر المنثور 254/4 .
5- سورة القلم 4/68 .
6- لم يرد في كتب التفسير ولكن ورد في المصادر، أنه لما شُجّ وجهه الكريم يوم أحد قال ذلك.انظر : صحيح البخاري 28/9 ح 11 ، صحیح مسلم 179/6 ، سنن ابن ماجة ، مسند أحمد 380/1 ، 427 ، 432 ، ومواضع أخر.
7- ورد بألفاظ عديد مختلفة :انظر : صحيح البخاري 17/1 ح 13 ، صحیح مسلم 49/1 كتاب الأيمان ، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل ، سنن النسائي 114/8 - 115 ، سنن ابن ماجة 1 / 26 ح 67 ، مسند أحمد 177/3 ، 207، 275 و ج 336/4 ، المعجم الكبير 75/7 ح 6416 ، المعجم الأوسط 116/6 ح 5790 ، مصابيح السنة 1 / 114 ح 5 ، مسند أبي عوانة 41/1 ح 90 ، مجمع الزوائد 88/1.

حتى دعا النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليه ، مع أنه لا ينطق عن الهوى ، فيكون الدعاء بإذن الله تعالى ؟!

* * *

ص: 38

وقال الفضل ((1)) :

من الأمور المقرّرة عند العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

إنّما أنا بشر يعرضني ما يعرض البشر ، وقد سألت الله تعالى أنّ كلّ دعوة أدعوها على أحدٍ من المسلمين يجعلها الله رحمة ومغفرة له»((2)).

وهذا من المعلومات عند العلماء ، والإجماع واقع على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على بعض المسلمين .

كما قال لمعاذ : تكلتك أمك ((3)).

وقال لأُم سلمةَ : تَرِبَتْ يمينُكِ ((4)).

وقال لِسَوْدَة : قطع الله يدك ((5)) .

وقال الصفيّة : « عَقْرى حَلْقى » ((6))((7)) ، وغيرها من الدعوات .

ص: 39


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن احقاق الحق : 597 (حجري) .
2- ورد هذا الحديث بأختلاف بالألفاظ.انظر : كنز العمال 609/3 - 613 رقم 8148 - 8168 .
3- مسند أحمد 237/5 ، كنز العمال 352/3 ح6893.
4- المعجم الكبير 382/23 ح 908 ، سنن البيهقي الكبرى 167/1 - 168 ، كتاب الطهارة .
5- مسند أحمد بن حنبل 141/3 ، السنن الكبرى للبيهقي 89/9 ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قالها لعائشة ، مجمع الزوائد 266/8 ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قالها لحفصة.
6- عَقرى حَلْقى : دعاء على مذهب العرب على المرأة ؛ بمعنى عقرها الله وحَلَقها . وهما في الأصل مصدران لعقرَ وَحَلَقَ ، وقيل : بل المعنى أن تعقر قومها وتحلقهم بسؤمها ؛ أي تستأصلهم ، قال الزمخشري : هما صفتان للمرأة المشؤمة ومحلهما الرفع على الخبرية . تاج العروس 250/7 ، مادة «عقر »
7- صحيح البخاري 14/3 ح 349 ، صحیح مسلم 94/4 ، مسند أحمد 253/6 ،السنن الكبرى - للبيهقي - 163/5 5 / 163 ، مصابيح السنة 276/2،ح 1939.

ولأجل هذا سأل من الله أن يجعلها رحمةً لمن دعا عليه.

فما ذكر - أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لا يدعو إلا على منافق - باطل بإجماع العلماء.

وأما ما ذكر أنّه كيف جاز لمعاوية أن يعتذر بالأكل ؟

فلم يصح أنه اعتذر ولم يجيء ، وربّما رآه ابن عباس مشغولاً بالأكل . فلم يذكر أن رسول صلی الله علیه و اله وسلم يطلبه ، وظاهر الحديث يدلُّ على هذا ،هكذا قال العلماء ((1)) .

وأنا أقول : أثر دعوة النبي صلی الله علیه و اله وسلم أنه أكل جميع الدنيا ولم يشبع من الخلافة والملك حتّى وُوري في التراب ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب .

ص: 40


1- تطهير الجنان : 37.

(1)

رد شیخ المظفر

وأقول :

حاصل جواب الفضل : معارضة الآيات الشريفة بما تقرر عند علمائهم، وتكذيب الله سبحانه وتصديقهم؛ فإنّ الله تعالى يصف نبيه الكريم بالخلق العظيم ((1)) ، وهم يصفونه بما ينبعث عن الخُلق.

والله سبحانه ينفي عنه القول عن الهوى وبدون الوحی(2)،وهم يثبتون له القول عن جزع النفس وضيق الطبيعة ((3)) .

والله عزّ وجلَّ يخبرُ أنّه كاد أن يهلك نفسه غمّاً ويستغفر لهم ((4)) ،وهم يخبرون أنه لا يبالي بالمؤمنين ويتهوّر في الدعاء عليهم ((5)).

والله تبارك وتعالى يفضّله على المرسلين والنبيين ، وهم يجعلونه من سائر البشر ((6)) ، يصد عنه ما يصدر عنهم، حتّى يقع منه ما حُرِّم عليه من الدعاء على المؤمنين باللعن ونحوه .

وما الداعي إلى ذلك إلا نصرةً أشباه معاوية وابن العاص الذين لعنهم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ودعا عليهم ؛ إعلاماً بشدّة نفاقهم، وخبث سرائرهم ،

ص: 41


1- سورة القلم 68 : 4.
2- اشارة إلى الآية الكريمة «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى» سورة النجم 3/53.
3- وهو مقتضى قوله : إنّما أنا بشر يعرضني ما يعرض للبشر
4- كما في قوله تعالى : «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات»سورة فاطر 35 : 8.
5- انظر هامش 3 - 7 صفحة 38.
6- انظر هامش 2 صفحة 38 .

و تحذيراً للناس من اتباعهم .

وأما الدعوات التي رواها الخصم عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم، فلو سُلّم وقوعها منه ، فليس المراد بها الدعاء الحقيقي، وإلا لاستجيبت ، بل المراد منها : بيان التألّم من المدعو عليه ، وهذا بخلاف الدعاء على معاوية ؛ فإن المراد منه : حقيقة الدعاء .

ولذا كان يأكل ولا يشبع، ويقول: «كلت أضراسي ولم يشبع بطني »((1)).

وقد ورث هذا الداء منه ملوك الأمويين ، كما هو معلوم من حالهم .

وقد نسب القوم إلى النبي صلی الله علیه و اله وسلم دعوات مجابة لا تناسب النبوة والرحمة ، كدعائه على صبي بأن يقطع الله أثره ، فأقعد ((2)) - جزاهم الله بما نقصوا به نبيّهم العظيم وكذبوا عليه.

وكله لإخفاء حال معاوية وابن العاص ، والحكم الوزغ واشباهم .

ولا أدري من هم العلماء الذين زعم الخصم إجماعهم على إثبات الحمق والتهوّر إلى نبي الرحمة المعصوم من الخطأ والزلل ؟!

أليسوا هم علماء النصب، ورواة الكذب، والمتعلّقين بأغصان الشجرة الملعونة في القرآن الذين لا يبالون بنص الكتاب، ولا يحجبهم عن عيب النبي حجاب ؟!

ص: 42


1- وردت بتعابير مختلفة :انظر : دلائل النبوة - للبيهقي - 243/6 ، تاريخ الطبري 622/5،الأبرارربيع682/2 ، شرح نهج البلاغة 18/ 398 ، البدايه والنهاية 129/6 .
2- أنظر سنن أبي داود 1 / 185 ح 705 و 706 ، تاريخ البخاري الكبير 365/8 رقم : 3349 ، مسند الشاميين - للطبراني - 1 / 198 ح 346 ، دلائل النبوة - للبيهقي - 241/6 ، الشفا - للقاضي عياظ - 328/1 ، تاریخ دمشق 336/21 وج 224/68 .

وأمّا اعتذاره لدلالة الحديث على اعتذار معاوية بالأكل ، فلا ينفعه بل هو أضرُّ عليه ؛ لأنّ دعاء النبي صلی الله علیه و اله وسلم عليه إبتداء أدل على نفاقه.

على أن قول ابن عباس : هو يأكل»، يدلُّ على اعتذار معاوية بالأكل ، كما هو المتعارف في أمثاله.

فإنّك إذا أرسلت رسولاً إلى أحدٍ فذهب إليه ، وقال : هو مشغول ،ُفهم منا منه أنّه اعتذر بالشغل ؛ إذ هو المطلوب منه الاعتذار .

وكيف يحسن من ابن عباس أن لا يبلغ في المرتين رسالة النبی صلی الله علیه و اله وسلم إلى معاوية ، ويعتذر من عند نفسه ؟!

ولو لم يفهم النبي صلی الله علیه و اله وسلم لو أن هذا العذر من معاوية ، لقال لابن عباس في المرة الثانية : بلغه أمري .

ثم إن هذا الحديث قد رواه مسلم في «كتاب البر والصلة والآداب»((1))فراجع ((2))

هذا وقد ذكر المصنف رحمه الله بعد الطعن المذكور طعناً آخر ((3)) تركه الفضل..

ص: 43


1- في باب من لعنه النبي أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة . منه قدس سرة.
2- صحیح مسلم 27/8.
3- سيأتي في الصفحة الآتية

مخاصمة معاویة لعلی علیه السلام

قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :

ومنها : إنّه خاصم عليّاً وقتل جمعاً كثيراً لا يحصى من المسلمين.

وأدخل الشبهة على أكثر الباقين، مع أن الأمر لعلي بالإجماع عندهم ، ومبايعة المسلمين ((2)) والنص من النبي صلی الله علیه و اله و سلم((3))، واستحقاقه بواسطة العصمة ((4)) .

وأجاب بعضهم عن حربه لأمير المؤمنين علیه السلام: بأنه اجتهد فأخطأ ((5)) .

وفيه : إنّه لا وجه للاجتهاد في حرب إمام الوقت ، والقاح الفتنة ، وإضلال الأمة ، وقتل ما لا يحصى من نفوس المسلمين ؛ طلباً لثأر شخص واحد من أُناس مخصوصين ، هم أولى منه بالاجتهاد ، وأحقُّ منه بالدين ، على أنه ليس ولي الدم .

ولا أدري كيف يحمل معاوية على الاجتهاد وهو لم يبال بمخالفة ضروریات الدین، کاستلحاق زیاد((6)) ، وشرب الخمر ((7)) ؟!

ومن أين جاءه الاجتهاد والمعرفة بالأحكام ، وهو إنّما أظهر الإسلام

ص: 44


1- لم يرد قول المصنف هذا في نهج الحق المطبوع
2- تاريخ الطبري 622/5.
3- راجع ج 6 .
4- راجع ج 205/4
5- تطهير الجنان : 25 و 42.
6- راجع الصفحة 24 من هذا الجزء
7- أنظر : مسند أحمد 347/5 ، تاریخ دمشق 197/26 - 198 ،200، و ج312/27 ، وج 420/34 ، سير أعلام النبلاء 52/5.

بعد الفتح بمدةٍ ((1)) واشتغل بالرياسة ، وملاذ الدنيا وشهواتها ؟!

وكيف استقام له الاجتهاد بعد ما ظهر له ولغيره بعد قتل عمار أنّهم الفئة الباغية ؟ !

وكيف اجتهد حتى استجاز قتل الأبرياء من المسلمين في غير ساحة الحرب ، وروّع أهل الحرمين ((2)) ، وقتل الأطفال ((3)) ، ونهب حليّ المسلمات ، والمعاهدات ((4)).

ثم خرج على سيد شباب أهل الجنّة إلى أن انتزى على الأمّة قهراً ؟!

وقتل خيار المسلمين صبراً ؛ كحُجر وأصحابه ((5)) ، وعمرو بن الحمق ((6)) وأمثاله ((7)) ، ومكّن ولاة الجور والفساد من رقاب العباد ؟!

وعهد لابنه الرّجس المارد المعلن بالكفر والفجور ؟!

فيا بارك الله للقوم بهذا الاجتهاد الذي استباحوا به مسخ الشريعة وحرب ، الأئمة ، وإهلاك الأمة ، وسيجزون بما قالوا وعملوا يوم يعضُ الظالم على يديه ويقول: «يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا

ص: 45


1- سيأتي ذكره في المطلب التالي
2- تأريخ اليعقوبي 2/ 99 - 100 ، تاريخ الطبري 153/3 ، الأغاني 285/16،الاستيعاب 162/1.
3- تاريخ اليعقوبي 101/2 ، تاريخ الطبري 153/3 ، الأغاني 286/16 ، الاستيعاب 159/1-160.
4- الأغاني 16 / 287 ،الاستيعاب 161/1.
5- انظر : تاريخ الطبري 228/3 - 231 ، تاریخ دمشق 211/12 وما بعدها ، تاريخ ابن الأثير 326/3 وما وبعدها .
6- أنظر تاريخ الطبري 224/3 وما بعدها، تاریخ دمشق 493/45 وما بعدها،تاريخ ابن الأثير 329/3 - 330 .
7- کالحضرميان اللذان صلبهما زياد بأمر معاوية كما في المحبر - لابن حبيب - :479.

ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا»((1))

ص: 46


1- سورة الفرقان 27/25 و 28.

طعن معاویة فی خلافة عمر

اشارة

قال المصنّف - شيّد الله حجّته ((1)) :

ومنها : إنّه قال : أنا أحقُّ بالخلافة من عمر بن الخطاب .

روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين ، قال عبد الله بن عمر :

دخلت على حفصة - ونوساتها ((2)) تنطف- ((3)) ، قلتُ : قد كان من أمر الناس ما تبيّن فلم يحصل لي من الأمر شيء.

فقالت : إلحق بهم ، فإنّهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ، فلم تدعه حتى ذهب.

فلما تفرّق الناس خطب معاوية فقال : من أراد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحق منه ومن أبيه ((4)).

قال الحميدي : وأراد عبد الله أن يجيب معاوية فأمسك عن الجواب »((5)).

فإن كان ما يقوله معاوية حقاً ، فقد ارتكب عمر الخطأ في أخذه الخلافة ، وإن كان ،باطلاً، فكيف يجوز تقديمه على طوائف المسلمين ؟ !

ومنها : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يلعنه دائماً ويقول : الطليق ابن الطليق ،اللعين ابنُ اللعين ((6)).

ص: 47


1- نهج الحق : 309
2- ونسواتها (خ ل) . منه قدس سرة.
3- أي ذوائب شعرها تقطر ماءً
4- يعني عمر .
5- الجمع بين الصحيحين 2/ 73 ح 1418.
6- أنظر : أنساب الأشراف 136/5 ، تاريخ الطبري 621/5 - 622 ، وقعة صفين :218 ، 220.

وقال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»((1)).

وكان من المؤلفة قلوبهم ، ولم يزل مشركاً مدة كون النبي صلی الله علیه و اله و سلم مبعوثاً يُكذب بالوحي ويهزأ بالشرع .

وكان يوم الفتح باليمن يطعن على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ويكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيره بالإسلام ، ويقول له :

أصبوت إلى دين محمد وفضحتنا، حيث يقول الناس : إن ابن هند تخلّى عن العزّى ((2)) ؟

وكان الفتح في شهر رمضان لثمان سنين من قدوم النبي قال الله صلی الله علیه و اله و سلم المدينة ، ومعاوية يومئذ مقيمٌ على الشرك، هارب من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لأنه قد هدر دمه فهرب إلى مكة ((3)).

فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم مضطراً فأظهر الإسلام . وكان إسلامه قبل موت النبي بخمسة أشهر، وطرح نفسه على العباس حتى شفع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فعفا عنه .

ثمّ شفع إليه ليكون من جملة خمسة عشر ليكتب له الرسائل ((4))

ص: 48


1- أنظر : وقعة صفين : 216 ، 221 ، أنساب الأشراف 136/5 221 و 137 ، تاریخ الطبري 522/5 ، الكامل - لابن عدي - 146/2 و ص 209 و ج 419/3 وج 5/ 98 و 103 و 200 و 201 ، وج 112/6 و 422 و ج 83/7 ، تاریخ بغداد وج 181/12 ، شرح نهج البلاغة 32/4 .
2- مقتل الحسين - للخوارزمی - 1 / 173 - 174
3- لعلّ الصواب ( من مكة) . منه قدس سرة.
4- أنظر : التعجب - لابي الفتح الكراجكي -: 105 - 106 ، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار:79 .

رد الفضل بن روز بهان

وقال الفضل ((1)):

ما ذكر أن معاوية كان يدعي أنه أحق بالخلافة من عمر ، فلا يبعد هذا ؛ لأنه كان يدعي أنه أحق من أمير المؤمنين في حياته وأيام خلافته فخرج عليه وبغى عليه، وقتل جيوش المسلمين، وفعل ما فعل ممّا لا ينبغي أن يذكر لقباحته وإساءته ، فلا يبعد أن يدعي مثل ذلك في عمر .

ومن خالف الحقَّ ، وخاض في الباطل والخطأ ، يدّعي كلّ ما يكون خطأ .

ولا إمامة له على المسلمين، ولا شرائط في إمامته صحت ، بل أخذ الخلافة والملك عنوةً بالسيوف، كما قال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم:

«الخلافة بعدي ثلاثون سنةً، ثمّ بعد ذلك يكون ملكاً عضوضا»((2)).

والصحيح إن معاوية أسلم بعد الفتح بأيام يسيرة ((3)).

ص: 49


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن احقاق الحق : 599 (حجري) .
2- آنظر : سنن أبي داود 210/4 ح 4646 و 4647 ، سنن الترمذي 436/4 ح2226، مسند أحمد 5/ 220 و221.
3- أسد الغابة 433/4.

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

لم يُرد المصنف رحمه الله الطعن على معاوية بأنه أدعى الأحقية ممن هو أحقُّ منه وهو عمر ، بل أراد أن هذه الدعوى إن بطلت ، فقد بطلت خلافة معاوية ؛ لأن الكاذب المبطل لا يصلح للإمامة ، وإن صحت فقد بطلت خلافة عمر ؛ لوجود الأحقُّ منه ، ولأن الأحق ليس أهلاً للخلافة بإقرار الخصم ، فكيف بالمفضول ؟!

ولا معيّن للاحتمال الأوّل ، ولا يتأتى الترديد المذكور في دعوى معاوية الأحقية من أمير المؤمنين علیه السلام ؛ إذ لو سلّم صدور هذه الدعوى منه ؛فهي متعيّنة البطلان ؛ لأنّ خلافة أمير المؤمنين مسلّمة الصحّة عند الفريقين ،بخلاف خلافة عمر .

ولا أشدّ وهناً وأضعف شأناً من خلافة عمر ؛ لادعاء صاحبه وصنيعته أنّه أحق بها منه .

وهذا الحديث قد رواه البخاري في غزوة الخندق من «كتاب المغازي » ((1)).

وأما ما صححه الخصم من إسلام معاوية بعد الفتح بأيام يسيرة ، فقول نشأ من الهوى لا الدليل.

ويكفينا في صحة خلافه رواية واحد منهم له، كما ذكره المصنف رحمه الله ((2)).

ص: 50


1- صحيح البخاري 240/5 ح 144 .
2- راجع الصحفة 49 من هذا الجزء.

ويؤيده ما حكاه ابن أبي الحديد ((1)) عن الزبير بن بكار في كتاب «المفاخرات » :

«أنّ الحسن علیه السلام قال لمعاوية :« أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر ، وأنت تسوقه ، وأخوك عتبة هذا يقوده ، فراكم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : لعن الله الراكب ، والقائد ، والسائق »((2)).

أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يُسلم تنهاه عن ذلك :

[من البسيط]

يا صخرُ لا تُسْلِمَن يوماً فتفضَحَنا *** بعد الذين ببدر أصبحوا فرقا

خالي وعمي وعم الأم ثالثهم *** وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا

لا تركنن إلى أمر تكلفنا *** والراقصات به في مكة الخرقا ((3))

فالموت أهون من قول العداة لقد *** حاد ابن هند عن العُزى إذاً فرقا ((4))

فإنّه على الظاهر إنّما كتب إليه بعد الفتح وهو هارب ؛ إذ لم يهم أبو

ص: 51


1- ص : 102 مجلد 2 . منه قدس سرة.
2- راجع تاريخ الطبري 622/5 .
3- والراقصات : الواو للقسم ، الراقصات : الابل ؛ سُمِّيت بذلك لتمايلها في مشيها الخُرْقُ والخرُق : نقيض الرّفق ، والخرق : مصدرُهُ ؛ وهو الجهل والحَمقُ . لسان العرب 74/4 مادة «خرق»
4- شرح نهج البلاغة 289/6 .

سفيان بالإسلام قبل الفتح جزماً ، ويبعد أن يسلم معاوية إلا بعد مدة طويلة من هذا الشعر.

ولو سلمنا أنّه أسلم بعد الفتح بمدة يسيرة ، فلا فائدة في إسلامه ؛ لأنّ إسلامه مدخول ، وهو من المؤلّفة قلوبهم، كما سبق عن «الاستيعاب»((1)) و «تاریخ الخلفاء» ((2)) ، وذكره ابن أبي الحديد ((3)).

كما أنه من أشدّ المنافقين ؛ لمزيد بغضه وعداوته لأمير المؤمنين علیه السلام ، حتى اتخذ السبّ له ديناً لأهل الشام ((4) ) .

وقد استفاض كما سبق قول النبي صلی الله علیه و اله وسلم لعلي علیه السلام: «لا يبغضك إلا منافق »((5)).

وقال ابن أبي الحديد ((6)) : «معاوية عند أصحابنا مطعون في دينه منسوب إلى الإلحاد ، قد طعن فيه صلی الله علیه و اله وسلم.

وروى فيه شيخنا أبو عبد الله المصري في كتاب «نقض السفيانية»على الجاحظ أخباراً كثيرةً تدلّ على ذلك».

أحمد وروى بن أبي طاهر في كتاب «أخبار الملوك» :

أن معاوية سمع المؤذن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقالها ثلاثاً .

فقال : أشهد أن محمّد رسول الله .

ص: 52


1- الاستيعاب 1416/3 ، وراجع الصفحة 11 من هذا الجزء.
2- تاريخ الخلفاء : 233.
3- ص : 192 مجلد 4 . منه قدس سرة، شرح نهج البلاغة 29/9وج 17 /226.
4- أنظر : العقد الفريد 355/3 ،ربيع الأبرار 186/2معجم البلدان 3/ 215 ، شرح نهج البلاغة 56/4 - 59.
5- راجع 141/6 من هذا الكتاب
6- ص : 537 مجلد 4 . منه قدس سرة.

فقال : لله درك يا ابن عبد الله ! لقد كنتَ عالي الهمة ، ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين» ((1))

ونقل في النصائح الكافية عن الزبير بن بكار في «الموفقيات» عن المطرف بن المغيرة بن شعبة ((2)) ، قال :

«دخلت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يأتيه فيتحدث معه مه ، ثمّ ينصرف إليّ ويذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ليلةً العشاء، ورأيته معتماً ، فانتظرته ساعةً وظننتُ أنّه لأمر حدث

فأمسك عن فينا ، فقلت : مالي أراك مغتمّاً منذ الليلة ؟

فقال : يا بُنيّ جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم .

قلت : وما ذاك ؟

قال : قلت له - وقد خلوت به - : إنّك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين !

فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً ، فقد كبرت .

ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فوالله ، ما عندهم اليوم شيءٌ تخافه ، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه .

فقال : هيهات هيهات! أي ذكرٍ أرجو بقاءه ؟ ملك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل : أبو

ص: 53


1- شرح نهج البلاغة 101/10 .
2- المطرف بن المغيرة بن شعبة : ولاه الحجاج المدائن، وزحف عليه شيبة الخارجي ، فخرج لقتاله وبعث إلية رجالاً من أصحابه لمعرفة ما يدعون إليه ، فمال إلى رأيه وخلق عبد الملك بن مروان والحجاج ، فلما وصل خبره إلى الحجاج أرسل إليهم من قاتلهم في بعض جهات أصفهان فتمزقوا وقتل مطرف قبل أن يستفحل أمره راجع : تاريخ الطبري 592/3 ، تاريخ ابن الأثير 178/4.

بكر .

ثمّ ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلا أن يقول قائل : عمر.

وابنُ أبي كبشة ((1)) ليصاح به كلَّ يوم خمسَ مرّاتٍ : أشهد أن محمداً رسول الله .

فأي عمل يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا ، لا أبا لك ؟!

لا والله ، إلا دفناً دفنا »((2))

وعن ابن تيمية في كتاب الصارم المسلول» بسنده عن عباية ((3))

قال :

ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية ، قال : بنيامين النضري : كان قتله غدراً.

ص: 54


1- كانت قريش تطلق على رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: ابن أبي كبشة ، تنقيصاً له ،واختلف في أبي كبشة ، فقيل هي كنية وهب بن عبد مناف أبو آمنة أم النبي صلی الله علیه و اله وسلم، وقيل هو أبو قيلة ، وقيلة أم وهب بن عبد مناف بن زهرة ، وهو من خزاعة ، ويدعى أبو كبشة ، وكان يعبد الشعرى وخالف العرب بذلك.وقيل هي كنية الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة السعدية مرضعة النبي صلی الله علیه و اله وسلم. وقيل كنية رجل من خزاعة خالف قريشاً وعبد الشعرى فشبه به رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لأنّه خالف عبادتهم . راجع : الاستيعاب 4/ 1738 ، مجمع البيان 273/9 ، النهاية في غريب الحديث والأثر - لابن الأثير - 144/4 ، لسان العرب 18/12 ، الاصابة 342/7 ، الأعلام156/2وج124/8.
2- راجع النصائح الكافية : 161 - 162 ، الموفقيات : 462 ، شرح نهج البلاغة129/5-130.
3- الصارم المسلول : 124 .

فقال محمد بن مسلمة الأنصاري : يا معاوية ! أيغدرُ عندك رسول الله ولا تنكر، والله لا يظلّني وإياك سقف بيت أبدا، ولا يخلو لي دم هذا إلا قتلته » .

وروى الطبري ((1)) في حوادث سنة 284:

«أن المعتضد عزم في هذه السنة على لعن معاوية على المنابر ، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس ، وكان من جملته في ذكر أبي سفيان :

«فحارب مجاهداً ، ودافع مكايداً ، وأقام منابذاً ، حتى قهره السيف وعلا أمرُ الله وهم كارهون ، فتقول بالإسلام غير منطو عليه ، وأسر الكفر غیر مقلع عنه.

فعرفه بذلك رسول الله ،والمسلمون، وميّز له المؤلفة قلوبهم ، فقبله وولده على علم منه ((2)).

فمما لعنهم الله به على لسان نبيه صلی الله علیه و اله و سلم قوله :« والشجرة الملعونة فی القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيرا» ((3)).

ولا اختلاف بين أحدٍ أنّه أراد بها :بني أمية ((4)).

ومنه قول الرسول - وقد رآه مقبلاً على حمار، ومعاوية يقوده، ويزيد يسوقه :«لعن الله الراكب والقائد والسائق »((5)).

ومنه ما يرويه الرواة عنه من قوله يوم بيعة عثمان :

تلقفوها - يا بني عبد شمس - تلقف الكرة ، فوالله ما من جنّة ولا

ص: 55


1- ص : 354 ج 11 . منه ثذس سرة.
2- راجع الصفحة 51 من هذا الجزء.
3- سورة الإسراء 17 : 60
4- راجع156/1من هذا الكتاب.
5- راجع الصفحة 46هذا الجزء.

نار»((1)) ... إلى أن قال :

ومنها الرؤيا التي رآها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فوجم لها فما رنی بعدها ضاحکا فانزل الله:«وما جعلنا الرویا التی اریناک الا فتنة للناس » ((2)).

فذكروا أنه رأى نفراً من بني أمية ينزون على منبره نزو القردة» ((3))... إلى أن قال :

ومنها ما أنزل الله على نبي الله صلی الله علیه و اله و سلم: «ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر»((4)).

قالوا : ملك بني أُمية ((5)).

ومنها : إنّ رسول الله بني صلی الله علیه و اله و سلم دعا معاوية ليكتب بين يديه، فدافع بأمره ، واعتل بطعامه ، فقال : «لا أشبع الله بطنه » ((6)).

ص: 56


1- انظر : مروج الذهب 342/2 - 343 ، الأغاني 371/6 ، الاستيعاب 1679/4 ، تاریخ دمشق 23/ 471 ، شرح نهج البلاغة 45/2 و 15 / 175 ، النزاع والتخاصم :56.
2- سورة الاسراء 17 : 60
3- انظر : مسند أبي يعلى 348/11 ح 6461 ، مستدرك الحاكم 527/4 ح 8481 وصححه على شرط الشيخين ، دلائل النبوة - للبيهقي - 511/6 ، تاریخ دمشق من عدة طرق ، مجمع الزوائد 243/5 - 244 وقال رجاله رجال الصحيح غير مصعب بن عبد الله بن الزبير وهو ثقة ، كنز العمال 167/11 31064 ، وص 358 ح 31736 و 31737.
4- سورة القدر 97 : 3.
5- انظر : سنن الترمذي 414/5 ح 3350 ، تفسير الطبري 653/12ح 37714،مستدرك الحاكم 187/3 ح 4796 ، دلائل النبوة - للبيهقي - 510/6 ، تاریخ دمشق278/13-279.
6- راجع الصفحة 36من هذا الجزء .

فبقي لا يشبع وهو يقول : والله ، ما أترك الطعام شبعاً ولكن إعياء ((1)) .

ومنها : إن رسول الله قال : « يطلعُ من هذا الفجّ رجل من أمتي يحشر على غير ملّتي ، فطلع معاوية((2)).

ومنها : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه »((3)).

ومنها : الحديث المشهور المرفوع أنه صلی الله علیه و اله و سلم قال : «إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك من الجحيم » ((4)).

ثم ذكر جملة من بوائق معاوية ((5)) تستدعي مراجعتها، ولولا الإطالة لذكرنا الكتاب بتمامه ، وهو كتاب أحد خلفائهم في خليفة آخر .

وقد اشتمل على مطاعن مما ذكرها المصنف رحمه الله.

وما زال معاوية منافقاً مستهيناً بالقيامة وبرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.

روى الحاكم ((6)) وصححه مع الذهبي : «أن أبا أيوب قال لمعاوية :

أما إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قد أخبرنا أنه سيصيبنا بعده إثرة .

قال : فما أمَرَكُمْ ؟

قال : أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض .

قال : فاصبروا إذن .

فغضب أبو أيوب وحلف أن لا يكلّمه أبداً »(7).

ص: 57


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15 : 176
2- راجع : وقعة صفين : 219 220 ، أنساب الأشراف 134/5
3- راجع الصفحة 46 من هذا الجزء
4- نحوه شرح الأخبار القاضي النعمان 2 : 536 ، وقعة صفين 1 : 217.
5- راجع : تاريخ الطبري 619/5 - 624 ، شرح نهج البلاغة 15/ 171 - 180 .
6- ص : 459 ج 3 . منه قدس سرة.
7- مستدرك الحاكم 520/3 ح 5935.

وروى الحاكم أيضاً ((1)) ، وكذا أحمد في مسنده ((2)) ، عن أبي سعيد ((3)) .

هذا وقد ذكر السيوطي في «اللآلىء المصنوعة» في فصل مناقب الصحابة حديث: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » ((4)) .

وذكر أنّ ابن الجوزي نقله في «الموضوعات» عن ابن عدي من طريق عن عبد الله وطريقين عن أبي سعيد ، وزعم أنه موضوع ؛ لأنّ في سند الأوّل : عباد بن يعقوب ، وهو رافضي ، والحكم بن ظهير، وهو متروك كذاب .

وفي سند أحد حديثي أبي سعيد : مجالد بن سعيد ، وفي سند الآخر:علي بن زيد بن جذعان ، وهما ليسا بشيء ((5)) .

ثمّ نقل ابن الجوزي الحديث عن عمرو بن عبيد عن الحسن ((6)) .

وأقول : لا وجه لحكمه بالوضع سوى ولاء معاوية ؛ فإنّ عباداً قد احتج به البخاري في «صحيحه»((7)).

وروى عنه الترمذي وابن ماجة في صحيحهما ((8)) .

ص: 58


1- ص : 461 : 461 ج 3 . منه قدس سرة.
2- ص : 89 ج 3 . منه قدس سرة.
3- مستدرك الحاكم 522/3 ح 5941 ، مسند أحمد 89/3.
4- اللآلي المصنوعة 388/1 .
5- الموضوعات 24/2 - 25 ، وأنظر : الكامل - لابن عدي - 146/2 و 209 و ج ، 314 ، 200 ، 101/5 ،200، 314، وج 422/6 ، وج 83/7 .
6- الموضوعات 25/2 - 26 .
7- صحيح البخاري 278/9ح160 كتاب التوحيد .
8- انظر : سنن الترمذي 383/2 ح 509 ومواضع أخرى كثيرة ، سنن ابن ماجة 1 / 417 ح 1468 ومواضع أخرى .

كما أن الحكم قد روى عنه الترمذي في صحيحه ((1)).

وأما مجالد وعلي ، فقد روى عنهما أهل الصحاح الستة سوى البخاري ((2)).

فلا بد أن يكون حديثا أبي سعيد صحيحين في منتهى الصحة عندهم ، فكيف يزعم ابن الجوزي الوضع؟!

وقد كان اللازم على السيوطي أن يتعقبه بذلك ، لكن تعقبه بحديث آخر حسن عن جابر، وذكر أن ابن عدي زعم : أن سفيان بن محمد الفزاري الواقع في سنده قد سوّی سنده ((3)).

وأنت تعلم أنّ هذا تخرّص وتهجم من غير حجّةٍ .

وتعقبه أيضاً بحديث آخر صحيح عن سهل بن حنيف، لكن في سنده سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق صاحب «المغازي » ((4)) .

قال ابن عدي : سلمة ضعفه إسحاق بن راهويه ((5)) .

وقال البخاري : في حديثه مناكير ((6)).

وفيه : إنّه لا عبرة بتضعيف ابن راهويه مع توثيق ابن معين له

ص: 59


1- سنن الترمذي 503/5 ح 3523 .
2- راجع : میزان الاعتدال 156/5 رقم 5850 ، و ج 23/6 رقم 7076 واضعاً لهما رمز مسلم وأصحاب السنن الأربعة
3- اللآلي المصنوعة 388/11 ، وأنظر : الكامل - لابن عدي - 419/3
4- اللآلي المصنوعة 389/1
5- الكامل 340/3 .
6- تاريخ البخاري الكبير 84/4 رقم 2044 ، الكامل 340/3 ، اللآلي المصنوعة389/1.

وتصديق غيره وتوثيقه له ((1)).

قال في تهذيب التهذيب بترجمة سلمة : قال ابن معين : ثقة.

وقال : كتبنا عنه ، ليس في المغازي أتم من كتابه.

وقال أيضاً : سمعت جريراً يقول : من لدن بغداد إلى خراسان ، ليس أثبت في ابن إسحاق من سلمة.

وقال أبو داود : ثقةً ، وقال ابنُ سعد : كان ثقة صدوقاً.

وقال أبو حاتم : محله الصدق ، وقال ابن عدي : لم أجد له ما جاوز الحد في الإنكار ((2)) .

ثمّ إنّ القوم وقعوا في حيص من هذا الحديث ، فصحفه بعضهم ورواه :هكذا

«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقبلوه - بالموحدة - فإنّه أمين مأمون » ((3)) .

كما ذكره السيوطي أيضاً نقلاً عن الخطيب ، وحكى عن الخطيب أن في سنده مجاهيل أربعة ، وفيه - أيضاً - محمد بن إسحاق الفقيه ، وهو كثيرالخطأ والمناكير ((4)) .

هذا ، فقد نقل السيوطي عن ابن عدي أنّه قال : هو أقرب إلى العقل ؛ فإن الأمة رأوه يخطب على منبر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ولم ينكروا

ص: 60


1- انظر : معرفة الرجال - لابن معين - 83/1 رقم 268 ، تاریخ ابن معين 226/2 ، كما وثقه ابن سعد في الطبقات 267/7 رقم 3683 ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 169/4 رقم 739 ، كما ذكره ابن حبان في الثقات 287/8.
2- تهذيب التهذيب 439/3 - 440 رقم 2580.
3- الموضوعات 27/2
4- اللآلي المصنوعة 389/1 ، أنظر تاریخ بغداد 259/1.

ذلك عليه ، ولا يجوز أن يقال : إنّ الصحابة ارتدت بعد نبيها صلی الله علیه و اله وسلم،وخالفت أمره((1)).

وأقول : هذا من غرائب الكلام ؛ فإنّ الحديث لا يدلُّ على علم الأمة أو الصحابة جميعاً بأمر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، حتى يكون مارواه الخطيب أقرب إلى العقل .

ولو فرض علم جميع الصحابة ، ففي وقت سلطان معاوية لم يبق منهم إلا الأقلّون ، وهم أضعف من أن ينكروا على معاوية أو يقتلوه ؛ لأنّه قد ملكهم وغيرهم برعاع الشام قسراً ، ونزا على منبر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قهراً، ولذا استلحق زياداً من دون مبالاة بهم وبغيرهم، وبالشريعة الأحمدية .

وإنّما أمرهم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بقتله مع علمه بضعفهم، وعدم عملهم ، كما صرّحت به بعض الأخبار ((2)) ؛ لأن غرضه صلی الله علیه و اله وسلم الإعلام بأن معاوية مستحق القتل ، مهدور الدّم .

ولو سلّم ما ادعاه ابن عدي ؛ من أنّ ما رواه الخطيب أقرب إلى العقل ، للجهة التي ذكرها ؛ فهو أبعد عن العقل من جهة أخرى ؛ وهي قوله فيه : فإنّه أمين مأمونٌ ؛ لأنّ المراد أنّه أمين مأمون على دين النبي صلی الله علیه و اله وسلم وأمته.

ومعاوية ليس كذلك بالضرورة ؛ لسفكه الدماء بغير حقها ، واستلحاقه زياداً ؛ وشربه الخمر ، وإتيانه سائر المنكرات المنافية للأمان على الدين

ص: 61


1- اللآلي المصنوعة 389/1
2- انظر : وقعة صفين : 216 ، الكامل - لابن عدي - 200/5 ، شرح نهج البلاغة32/4.

والدنيا .

هذا ، وقد زعم ابن الجوزي وضع حديث آخر مشهور - أيضاً - نقله عن أبي يعلى بسنده عن أبي برزة ، قال :

«كنا مع النبي صلی الله علیه و اله وسلم فسمع صوت غناء ، فقال : أنظروا .

فصعدت فنظرتُ ، فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان ، فجئت فأخبرت النبي صلی الله علیه و اله وسلم.

فقال :« اللهم ! أركسهما في الفتنة ركسا ، اللهم ! دُعَهُما إلى الناردعا »((1)).

وقد تعلّل ابن الجوزي لوضعه، بأن في سنده يزيد بن أبي زياد ،وكان يلقن بأجرة فيتلقّنُ ((2)).

وتعقبه السيوطي بقوله : هذا لا يقتضي الوضع، والحديث أخرجه أحمد في مسنده ((3)).

أقول : مضافاً إلى أن يزيد ممّن أخرج له أرباب صحاحهم سوى البخاري ((4)).

ثمّ قال السيوطي : وله شاهد من حديث ابن عباس ، أخرجه الطبراني في «الكبير» عنه.

قال : سمع النبي صلی الله علیه و اله وسلم صوت رجلين يتغنيان وهما يقولان :

ص: 62


1- الموضوعات 28/2 ، وأنظر : مسند أبي يعلى 13 / 429 - 431 - 7437.
2- نفس المصدر
3- اللآلي المصنوعة 390/1 ، وأنظر : مسند أحمد 421/4.
4- راجع : میزان الاعتدال 240/7 رقم 9703 واضعاً له رمز مسلم وأصحاب السنن الأربعة .

ولا يزال جوادي تلوح عظامه *** ذوى الحرب عنه أن يُجنّ فيُقبرا

فسأل عنهما ، فقيل له : معاوية وابن العاص.

فقال :« اللهم اركسهما في الفتنة ركسا ، ودعهما إلى النار دعا» ((1)) .

ثمّ قال السيوطي : قال ابن قانع في معجمه : حدثنا محمد بن عبدوس ، ثم ذكر سنده عن صالح شقران ، قال :

«بينما نحنُ ليلة في سفر إذ سمع النبي صلی الله علیه و اله وسلم صوتاً.

فقال : ما هذا ؟ فذهبتُ أنظر ، فإذا هو معاوية بن رافع ، وعمرو بن رفاعة بن التابوت يقول :

ولا يزال جوادي تلوح عظامه ذوى الحرب عنه أن يموت فيقبرا فأتيت النبي صلی الله علیه و اله وسلم فأخبرته .

فقال :« اللهم اركسهما ، ودعهما إلى نار جهنم» .

فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبي صلی الله علیه و اله وسلم من السفر ».

قال السيوطي : « وهذه الرواية أزالت الإشكال ، وبيّنت أنّ الوهم وقع في الحديث الأوّل في لفظة واحدة .

وهي قوله : ابن العاص، وإنّما هو ابن رفاعة أحد المنافقين

وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين» ((2)) .

وأقول : يشكل بإمكان تعدّد الواقعة مع أن نسبة الوهم إلى الحديث الأوّل ليست بأولى من نسبته إلى الحديث الثاني ، بل الأقرب في الثاني

ص: 63


1- المعجم الكبير للطبراني 11 : 38 .
2- اللآلي المصنوعة 390/1 - 391 .

العمد دفعاً للطعن عن معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص الذين هما أولى بالنفاق لمن أنصف، مضافاً إلى أن رجال سند الحديث الثاني بين ضعيف ومجهول ، فلا يصلح لمقاومة غيره حتى يحمل بسببه على لوهم ولاسيما أن طرق الأوّل متعدّدة، وصح منها حديث أبي برزة ، فيبعد وهم الجميع وضبط المتحد.

ص: 64

قول النبي صلی الله علیه و اله وسلم: إنّه يموت على غير سنتي ، ولعنه له

اشارة

قال المصنّف - أعلى الله مقامه ((1)) :

ومنها : إنّه روى عبد الله بن عمر قال : أتيت النبي صلی الله علیه و اله وسلم فسمعته يقول : «يطلع عليكم رجل يموت على غير سُنّتي »((2)) .

فطلع معاوية .

ص: 65


1- نهج الحق : 310 .
2- انظر : كتاب الصفين : 220 ، أنساب الأشراف 134/5 ، تاريخ الطبري 622/5 ،شرح نهج البلاغة 176/15

ردّ الشيخ المظفر

وقال الفضل ((1)) :

إن صح هذا ، فلا يحكم بأنّه مات على الكفر ، وربما أراد أنه ترك سنة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في أخذ الخلافة عنوة ، وفي التوغل بالبغي ، وطلب شيء لا حق له فيه.

ص: 66


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن احقاق الحق : 600 (حجري ) .

وأقول :

هذا تأويل مضحك ؛ فإنّ المراد بالحديث : أنه حين الموت مفارق للسنة ، وبغي معاوية إنما كان قبل موته عندهم بأكثر من عشرين سنة ، بل عندهم أنه حين موته خليفة حق ؛ لتحقق الإجماع عليه بعد صلح الحسن علیه السلام.

على أنه لا ریب بدلالة الحديث على ذمّ معاوية ، وفي مذهبهم أن بغیه خطافي الإجتهاد ، فله أجر فيه ، فكيف يحسن تأويل الفضل ؟!

فالظاهر أن معنى الحديث : أنّه يموت على خلاف ما يموت عليه المؤمنون ، وما هو إلا الكفر ، والخروج عن الإسلام .

ولعل لفظ الحديث في كتاب «المعتضد» السابق : - « يحشر على غير ملتي »((1))- أظهر في كفره من اللفظ الذي ذكره المصنف رحمه الله

ص: 67


1- تاريخ الطبري 622/5 ، شرح نهج البلاغة 176/15

قال المصنّف - قدس الله نفسه ((1)) :

ومنها : إن النبي صلی الله علیه و اله وسلم كان ذات كان ذات يوم يخطب ، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ، ولم يسمع الخطبة ، فقال النبي صلی الله علیه و اله وسلم:

«لعن الله القائد والمقود ، أي يوم يكون لهذه الأمة يكون لهذه الامة من معاوية ذى الاستاه ) ((2))؟ !

ص: 68


1- نهج الحق : 310 .
2- المعجم الكبير 176/17 ح 465 ، وفيه :«... ويل لهذه الأمة من فلان ذي الاستاه»، مجمع الزوائد 242/5.

وقال الفضل ((1)):

لا شك أن يزيد بن معاوية لم يكن في زمن النبي صلی الله علیه و اله وسلم وأنه تولد بعد عمه يزيد بن أبي سفيان ، وهو مات في طاعون عمواس ((2))((3))- زمن عمر ابن الخطاب - فالله أعلم بحقيقة الخبر .

ص: 69


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 600 (حجري) .
2- طاعون عمواس : أوّل طاعون كان في الإسلام بالشام ، أنظر الصحاح 953/3 ،لسان العرب 398/9 مادة (عمس) .
3- انظر تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء الراشدين : 179.

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

نقل السيد السعيد رحمه الله ، هذا الخبر عن الزمخشري في : «ربیع الأبرار»((1)) ، وهو حجّة على من قال : إنه ولد بعد النبي صلی الله علیه و اله وسلم، ولو سلم أنّه ولد بعده كما هو الأشهر، فلا يبعد وقوع الخطأ في الحديث ؛ لأنّ المشهور هو يزيد بن معاوية ، فاشتبه الراوي ، أو الناسخ، فعبر بالابن ، والمقصود الأخ ، والله العالم .

ص: 70


1- إحقاق الحق : 600( حجري ) ، وأنظر : ربيع الأبرار 400/4 ، وفيه : «لعن الله الراكب والقائد والسائق».

سب معاوية لسيّد الكونين

قال المصنّف - أعلى الله مقامه ((1)) :

ومنها : إنّه سبّ أمير المؤمنين علیه السلام، مع الآيات التي نزلت في تعظيمه ، وأمر الله تعالى النبي صلی الله علیه و اله وسلم بالاستعانة به على الدعاء يوم المباهلة ، ومؤاخاة النبي صلی الله علیه و اله وسلم، واستمر سبه ثمانين سنة إلى أن قطعه ابن عبد العزيز ((2))، وفيه قال ابن سنان الخفاجي شعراً:

[من الكامل ]

أعلى المنابر تُعلنون بسبه *** وبسيفه نُصِبَتْ لَكُمْ أَعْوَادُها ؟ ! ((3))

ص: 71


1- نهج الحقِّ : 310 .
2- انظر : تاريخ اليعقوبي 231/2 ، مروج الذهب 184/3 ، ربيع الأبرار 186/2 معجم البلدان 215/3 ، الكامل في التأريخ 314/4 - 315 ، شرح نهج البلاغة56/4 - 59 ، تاريخ الخلفاء - للسيوطي - : 290.
3- دیوان ابن سنان الخفاجي

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

أمّا سبّ أمير المؤمنين - نعوذ بالله من هذا - فلم يثبت عند أرباب الثقة ، وبالغ العلماء في إنكار وقوعه، حتى إن المغاربة وضعوا كتباً ورسائل ، وبالغوا فيه كمال المبالغة ، وأنا أقول شعراً :

[من الخفيف]

من یکن تاركاً ولاء علي *** لست أدعوه مؤمناً وزكيّاً

كيف بين الأنام يذكر سباً ؟ *** للذي كان للنبي وصيّاً

ليس قولي لفاعل السبّ إلا *** لعن الله من يسبّ علياً

ص: 72


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 601 (حجري) .

وأقول :

إنكار سبهم لعلي علیه السلام من إنكار الضروريات ، ومكابرة المتواترات وليس هو إلا كإنكار صحة حديث الغدير وتواتره .

كيف ؟ ولا يخلو من حكاية سب القوم لأمير المؤمنين علیه السلام كتاب من كتب السيرة والتاريخ ، حتّى إنه يستفاد ممّن لا دخل له بالتاريخ ؛ كصحيح مسلم ؛ فإنّه روى فيه في باب فضائل علي علیه السلام عن عامر بن سعد بن أبي وقاص .

قال : « أمر معاوية سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟

فقال : «أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فلا ...» ((1))

الحديث .

ونحوه في «مسند أحمد» ، ومستدرك الحاكم ((2)) .

وروى مسلم أيضاً في الباب المذكور أنّه استعمل رجل من آل مروان على المدينة ، فأمر سهل بن سعد أن يشتم عليّاً ، فأبى.

فقال : أمّا إذا أبيت فقل : لعن الله أبا تراب» ((3)). الحديث .

والاشتغال في إثبات ذلك وما جاء فيه يعد من الفضول .

وقد استفاض - أيضاً - قول رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: « من سب عليّاً فقد

ص: 73


1- صحیح مسلم 120/7 .
2- مسند أحمد 185/2 ، المستدرك على الصحيحين 117/3 ح 4575 ، وقال فيه : هذا حديث صحيح على شروط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص : على شرط مسلم فقط.
3- صحیح مسلم 124/7.

سبني».

كما رواه الحاكم في المستدرك ((1)) وصححه مع الذهبي عن أم سلمة ((2)).

وفي رواية أُخرى عنها قالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يقول : من سب علياً فقد سبني ، ومن سبني فقد سبّ الله » .

روت هذا لما قالت لشبث بن ربعي : يسب رسول الله في ناديكم ؟

قال : « وأنى ذلك ؟

قالت : فعلي بن أبي طالب

قال : إنا نقول أشياء نريد عرض الدنيا .

قالت : «فإني سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم...»((3)) الحديث.

والروايات في هذا أكثر أن من تحصى ((4)) ، فما حال من سب الله ورسوله مدة خلافته ، وكتب به إلى البلدان وأبقاه سُنّة بعده في كثير من السنين ((5)) ؟ !

وأما ما قاله من الشعر، فالأحسن منه ما قلته في مدح سيد

ص: 74


1- ص : 121 ج 3 . منه قدس سرة.
2- المستدرك على الصحيحين 3/ 130 ح 4615 وفيه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
3- المستدرك على الصحيحين 130/3 - 131 ح 4616
4- انظر : سنن النسائي الكبرى 133/5 ح 8476 ، مسند أحمد 323/6 ، فضائل الصحابة - لأحمد - لأحمد - 2 / 735 - 736 ح 1011 ، المعجم الكبير 23 / 322 - 323 ح 737 و 738 ، المعجم الأوسط 133/6 5832 ، المعجم الصغير 21/2 ، مسند يعلى 444/12 - 445 ح 7013 ، فردوس الأخبار 2 / 285 - 6099 ، تاریخ دمشق 266/42 - 267 وص 533.
5- راجع الصفحة 51 هامش 4 والصفحة 69 هامش 2 من هذا الجزء .

الوصيين علیه السلام:

[من الخفيف]

مَنْ يَكُن سالكاً صراط «على» *** لَمْ يَزل سالِكاً صراطاً سويًا

هُوَ جَنبُ الله الذي رفع الله له في الورى مكاناً عليّا

إن رآه الملوك خرُّوا خضوعاً *** لمعاليه سجداً وبكيّا

وَهُوَ نفسُ النبي في سابق الفضل ويتلوه شاهداً ووصيّا

و «بخم» لما ارتضاه إماماً *** كان وجه الإسلام فيه مضيّا

غير أن النفوس مرضى فمالت *** لشقاها ورشدها عادَ غيّاً

كالذي يخبط الظلام ضلالاً *** بعد ما أسفر الصباح وضيا

عاندوا «أحمداً» وعادوا «عليّاً» *** وتولوا منافقاً وغويا

وأسروا سبّ النبي نفاقاً *** حين سبّوا جهراً أخاه «عليا»

لعنوه دهراً فيا لعن الله *** عداه مدى البقا سرمديا

وسلام عليه يوم توفاه *** زكياً ويوم يبعث حيّا

ص: 75

سم معاوية للحسن علیه السلام وجنايات ابنه وأبيه وأُمّه

اشارة

قال المصنف - طاب ثراه ((1)) :

ومنها : إنّه سمّ مولانا الحسن علیه السلام، وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين علیه السلام، وسلب نساءه ، وهدم الكعبة ((2)) ، ونهب المدينة وأخافهم ((3)).

وكسر أبوه ثنية النبي صلی الله علیه و اله وسلم((4)) ، وأكلت أمه كبد حمزة ((5)) .

فما أدري ، كيف العقل الذي قاد إلى من أحاطت به هذه الرذائل وإلى متابعته ؟ !

ص: 76


1- نهج الحق : 311 .
2- انظر : تاريخ اليعقوبي 166/2 - 167 ، تاريخ الطبري 360/3 - 362 ، مروج الذهب / 71 - 72 ، الكامل في التأريخ 463/3 - 464 .
3- أنظر : تاريخ اليعقوبي 165/2 ، تاريخ الطبري 355/3 - 359 ، مروج الذهب69/3 - 71 ، الكامل في التأريخ 456/3 - 462 .
4- انظر : سيرة ابن اسحاق : 328، مغازي الواقدي 244/1 ، سيرة ابن هشام4 / 28 ، تاريخ الطبري 2 / 65 ، سيرة ابن حبان : 223 ، تاريخ ابن الأثير 49/1.
5- انظر : سيرة ابن اسحاق : 333 ، مغازي الواقدي 286/1 ، سيرة ابن هشام40/4 ، تاريخ اليعقوبي 1 / 366 ، تاريخ الطبري 70/2 ، سيرة ابن حبان : 2226 ،تاريخ ابن الأثير 53/2.

وقال الفضل ((1)) :

من يرضى بمتابعة معاوية ، ومن يجعله إماماً حتّى يشنع عليه ابن المطهر ، وقد ذكرنا أنّه من الملوك وليس علينا أن نذب عنه .

ص: 77


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن احقاق الحق : 601 (حجري) .

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

سبق أنّهم رضوا بمتابعته ، وقالوا بخلافته وإمامته ، وكذا ابنه الرّجس المارد يزيد ، وسائر فروع الشجرة الملعونة ((1)) .

ولهذا بايع ابن عمر معاوية وابنه ، وأوجب التمسك ببيعة يزيد ، كما روي في صحاحهم وغيرها ((2)).

ولا ريب عندنا أن معاوية سم إمامنا الحسن الزكي بِدَرِّهِ السُّمَّ إلى جعيدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن بن قيس زوجة الحسن علیه السلام، ووافقنا عليه كثير من علمائهم .

ففي «الاستيعاب» بترجمة الحسن علیه السلام بعد ما روى أن بنت الأشعث سقت الحسن علیه السلام السم ، قال :« وقالت طائفة : كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها » ((3)).

وحكى ابن أبي الحديد ((4)) عن أبي الحسن المدائني قال : «دس إليه معاوية سمّاً على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن ، وقال لها : إن قتلتيه بالسم ، فلك مئة ألف، وأزوجك يزيد ابني ، فلما مات ، وفي لها بالمال ، ولم يزوجها من يزيد» ((5)).

ص: 78


1- راجع الصفحة 156 من الجزء الأول من هذا الكتاب
2- انظر : صحيح البخاري 103/9 ح 55 ، مسند أحمد 48/2 و 96 ، سنن البيهقي159/8 - 160 ، فتح الباري 87/13 .
3- الاستيعاب 389/1.
4- ص : 4 مجلد 4 . منه قدس سرة.
5- شرح نهج البلاغة 11/16 .

ونقل - أيضاً - نحوه ((1)) عن أبي الفرج الأصبهاني عن مغيرة ((2)).

ونقل - أيضاً ((3)) - عن المدائني عن الحصين بن المنذر الرقاشي ، إنّه قال : « والله ، ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه ، قتل حُجراً وأصحاب حجر ، وبايع لابنه يزيد ، وسمّ الحسن»((4)).

ونقل - أيضاً ((5)) - في محل آخر عن أبي الفرج «أن الحسن علیه السلام شهيداً مسموماً، دس معاوية إليه وإلى سعد بن أبي وقاص - حين أراد أن يعهد إلى يزيد ابنه - سمّاً فماتا في أيام متقاربة، وكان تولى ذلك من الحسن زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال بذله لها معاوية»((6)) إلى غير ذلك مما في شرح النهج .

وروى الحاكم في المستدرك ((7)) في آخر فضائل الحسن علیه السلام، عن قتادة بن دعامة ، قال :«سمت ابنة الأشعث الحسن بن علي - وكانت تحته - ورشيَتْ على ذلك مالاً» ((8)) .

ومن الروايات السابقة يعلم أن الراشي لها معاوية .

وقال ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة»: لما أتى معاوية الخبر بموت الحسن ، أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه ((9)).

ص: 79


1- ص: : 17 ج 4 . منه قدس سرة.
2- شرح نهج البلاغة 49/16 ، مقاتل الطالبيين : 80 .
3- ص : 7 ج 4 . منه قدس سرة.
4- شرح نهج البلاغة 29/16 ، مقاتل الطالبيين : 60
5- ص : 11 ج 4 . منه قدس سرة.
6- شرح نهج البلاغة 29/16 ، مقاتل الطالبيين : 60
7- ص 176 :ج 3 . منه منه قدس سرة.
8- المستدرك على الصحيحين 193/3 ح 4815.
9- الأمامة والسياسة 196/1 ، وذكر أيضاً في العقد الفريد 351/3 .

فيا ويله من الله ورسوله ! قتل سيد شباب أهل الجنة وأحد الثقلين ، ثم ما استحى من عالم السرائر حتى سجد فرحاً بقتل وليه ، والله سبحانه يقول في قتل سائر المؤمنين : «ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم

خالداً فيها » ((1)) .

فكيف بمن قتل سيد أوليائه وريحانة رسوله ؟؟

ص: 80


1- سورة النساء 4: 93 .

الشجرة الملعونة في القران

اشارة

قال المصنّف - شرف الله منزلته ((1)) :

ومنها : إنّه نزل في حقه وحق أنسابه :« والشجرة الملعونة في القرآن» ((2)).

ص: 81


1- نهج الحق : 312 .
2- سورة الإسراء 17 : 60 ، أنظر الصفحة 168 من الجزء الأول من هذا الكتاب بخصوص الشجرة الملعونة.

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

هذه الآية اختلف في شأن نزولها ، قال بعضهم : نزل في رؤيا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأنّه رأى فى الرؤيا أولاد مروان ينزون على منبره ، ولم يذكر أحد من علماء السنة أنه نزل في معاوية.

ص: 82


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 601 (حجري) .

وأقول :

من المضحك مغالطة الفضل في المقام ؛ فإنَّ المصنف رحمه الله لم يرد أنّ الآية نزلت في معاوية خصوصاً أُميّة عموماً، حتى يقول الفضل : لم يذكر أحد من العلماء النزول في معاوية ، بل أراد أنها نزلت في بني أُمية ،ومنهم معاوية .

ويدل على نزولها فيهم ؛ ما سبق في «كتاب المعتضد»؛ من أنّه لا خلاف في إرادتهم من الآية ((1)).

وما في «الدرّ المنثور» عن ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرّة ، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:« أريت بني أُمية على منابر الأرض ،وسيتملكونها فتجدونهم أرباب سوء » .

واهتم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لذلك ، فأنزل الله : «وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس» ((2)).

وفيه - أيضاً - عن ابن مردويه ، عن الحسين بن علي عليهما السلام :«أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أصبح وهو مهموم ، فقيل : مالك يا رسول الله ؟ قال : إني أُريت في المنام كأن بني أُمية يتعاورون ((3)) منبري هذا ، فقيل : يا رسول الله ! لا تهتم فإنّها دنيا تنالهم، فأنزل الله تعالى:«وما جعلنا الرؤيا التي

ص: 83


1- راجع الصفحة : 54 من هذا الجزء
2- الدر المنثور 309/5 .
3- يتعاورون على منبري : أي يختلفون ويتناوبون كلّما مضى واحد خَلَفَه آخر .انظر : لسان العرب 471/9 مادة «عور» .

أريناك إلّا فتنة للناس» ((1))

وفيه - أيضاً - عن ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الله «الدلائل »، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بني أُميّة على المنابر ، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه إنّما هي دنيا أعطوها ،فقرت عينه ، وهي قوله تعالى:«وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس» ، يعني : بلاء ((2)).

ونقل الرازي وغيره عن ابن عباس أنّ الشجرة الملعونة بنو أُميّة ((3)) وبهذه الروايات يعلم أن المراد ببني فلان في بعض الأخبار بنو أُمية ففي «الدرّ المنثور» عن ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى النبي صلی الله علیه و اله و سلم بنو فلان ينزون ((4)) على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتى مات، وأنزل الله :«وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس»((5)).

فقد ظهر بما ذكرنا أن الشجرة الملعونة هي بنو أمية ؛ وهم معاوية وذووه ، ويدخل فيهم - أيضاً -: عثمان.

كما يشهد له ما في «الدرّ المنثور» - أيضاً - عن ابن مردويه ، عن

ص: 84


1- الدرّ المنثور 310/5
2- الدر المنثور 310/5 ، وانظر : دلائل النبوة 509/6 ، تاريخ دمشق 266/57 -267 ترجمة « مروان بن الحكم .وانظر : كتاب النزاع والتخاصم للمقريزي : 79 .
3- التفسير الكبير - للرازي - م 10 ج 239/20
4- نزوت على الشيء أنزو نزواً إذا وثبت عليه . أنظر لسان العرب 14 / 114 مادة «نزو».
5- الدر المنثور 309/5 ، آنظر : تفسير الطبري 103/8 ح 22433 ، تفسير ابن كثير48/3.

عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول لأبيك وجدك : «إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن» ((1)) .

فإن جد مروان هو أبو العاص ، وهو جد عثمان ، فيدخل في الآية .

وأما ما ورد عندهم من نزولها في بني الحكم ((2)) ، فلا ينافي نزولها في بني أُمية مطلقاً ، لأن أُميّة مطلقاً ، لأن بني الحكم منهم .

ولو لا إرادة الأعم لم يدخل والد الحكم ، كما صرحت بدخوله عائشة ، على أنّ القول بإرادة خصوص بني الحكم يضر القوم في دخول عمر بن عبد العزيز الذي زعموه من صلحاء الخلفاء ، وأحد الاثني عشر أريدوا فى أخبار : «إنّ الخلفاء اثنى عشر خليفة من قريش».

ص: 85


1- الدر المنثور 310/5
2- الدر المنثور 310/5

نسب معاوية أيضاً

اشارة

قال المصنّف - قدس الله نفسه ((1)) :

ومنها : إنّ الحافظ أبا سعيد إسماعيل بن علي السمّان الحنفي ذكر في كتاب : مثالب بني أُميّة ، والشيخ أبا الفتوح محمد بن جعفر بن محمد الهمداني في كتاب «بهجة المستفيد» :

أن مسافر بن عمرو بن أُمية بن عبد شمس ، كان ذا جمال وسخاء ، عشق هنداً وجامعها سفاحاً ، فاشتهر ذلك في قريش ، وحملت ، فلما ظهر السفاح هرب مسافر من أبيها عتبة إلى الحيرة - وكان فيها سلطان العرب عمرو بن هند - وطلب عتبة - أبو هند - أبا سفيان ، ووعده بمال كثير ، وزوجه ابنته هنداً ، فوضعت بعد ثلاثة أشهر معاوية .

ثمّ ورد أبو سفيان على عمرو بن هند أمير العرب ، فسأله مسافر عن حال هند ، فقال : إنّي تزوجتها ، فمرض مسافر ومات ((2)) .

ص: 86


1- نهج الحق : 312
2- انظر : مثالب العرب - لابن الكلبي - : 72 - 73 ، الأغاني 62/9 - 63 ، تذكرة الخواص : 184 .

وقال الفضل ((1)) :

قد قدمنا تفصيل هذه الحكاية ((2)) على ماذكره المعتمدون من أرباب التواريخ ، فطي هذه الحكايات والمثالب لا شك أولى وأنسب بطريق الإسلام .

ص: 87


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 602 (حجري) .
2- راجع الصفحة : 26 من هذا الجزء

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

سبق أن الأصح ما ذكره المصنف رحمه الله ، وأن الأنسب بطريق الإسلام نشر مثالب المنافقين والكافرين ؛ كما فعله شاعر النبي صلی الله علیه و اله و سلم حسان بحياة النبی صلی الله علیه و اله و سلم؛ لئلا يغتر بهم الجاهلون ، ويكابر بفضلهم المعاندون((1)).

ص: 88


1- راجع الصفحة : 30 من هذا الجزء

قتل معاوية للمهاجرين والأنصار ونسب ابن العاص

اشارة

قال المصنّف - نور الله رمسه ((1)) :

ومنها : ما رواه صاحب «كتاب الهاوية»، فيه : إن معاوية قتل أربعين المهاجرين والأنصار وأولادهم ((2)) ، وقد قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: « من أعان على قتل امرىء مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوباً على جبهته آيس من رحمة الله» ((3)).

وفيه عن ابن مسعود : لكلّ : « لكلّ شيء آفة، وآفة هذا الدين بنو أُمية » ((4)).

والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى .

فلينظر العاقل المنصف، هل يجوز له أن يجعل مثل هذا الرجل واسطة بينه وبين الله عزّ وجلّ، وأنّه تجب طاعته على جميع الخلق ؟ !

وقد نقل الجمهور أضعاف ما قلناه ، وقد كان ظلم معاوية معروفاً عند كلّ أحد حتّى النساء .

ص: 89


1- نهج الحق : 312.
2- انظر : وصول الأخيار إلى أصول الأخبار : 80 .
3- انظر : سنن ابن ماجة 874/2 ح 2620 ، السنن الكبرى 22/8 ، حلية الأولياء 74/5 ، كنز العمال 22/15 ح39895 و 31 ح 39935 - 39938 بألفاظ مختلفة.
4- أنظر : كتاب الفتن - لنعيم بن حماد - : 72 ، كتاب العلل - لأحمد بن حنبل - 455/3 رقم 5933 ، شرح الأخبار - للقاضي النعمان - 149/2 ح 457 ، كنز العمال 14 / 87 ح 38013 ، فيض القدير 362/5ح 7310.

روى الجمهور أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية في خلافته بالشام - وهي يومئذ عجوز كبيرة - فلما رآها معاوية قال : مرحباً بك يا خاله !

قالت : كيف أنت يا ابن أخي ؟ لقد كفرت النعمة ، وأسأت لابن عمك الصحبة ((1)) ، وتسمّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك ، بلا بلاء كان منك ولا من أبيك بعد أن كفرتم بما جاء به محمد صلی الله علیه و اله و سلم، فأتعس الله منكم الجدود ((2)) ، وأضرع منكم الخدود ، حتّى ردّ الله الحق إلى أهله ، هي العليا ، ونبيّنا هو المنصور على كلّ من ناواه «ولو كره المشركون» ((3)).

فكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء، وعن أهله غناءً وقدراً ، حتى قبض الله نبيه صلی الله علیه و اله و سلم المغفوراً ذنبه ، مرفوعة منزلته ، شريفاً عند الله مرضيّاً .

فوثب علينا بعده تيم ، وعدي وبنو أمية ، فأنت منهم تُهدى بهداهم ،وتقصد بقصدهم ، فصرنا فيكم - بحمد الله - أهل البيت بمنزلة قوم موسى وآل فرعون ؛ يذبحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم .

وصار سيدنا فيكم بعد نبينا صلی الله علیه و اله و سلم بمنزلة هارون من موسى حيث يقول :

«يا ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني» ((4))،فلم

ص: 90


1- المقصود هنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام.
2- الجدود : جمع الجَد ، وهو الحظ والبخت
3- سورة التوبة 9 : 33 ، سورة الصف 61 : 9
4- سورة الأعراف 7 : 150.

يجمع بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم شمل ، ولم يسهل وعث، وغايتنا الجنة ،وغايتكم النار».

فقال لها عمرو بن العاص : أيتها العجوز الضالة ! أقصري من قولك ،وغضي من طرفك.

قالت : من أنت ؟

قال : أنا عمرو بن العاص .

قالت : « يا ابن النابغة ، أربع على ضلعك ، واعن بشأن نفسك ، ما أنت من قريش في لباب حسبها ، ولا صحيح نسبها، ولقد ادعاك خمسة من قريش ، كلّهم يزعم أنك ابنه ، ولطالما رأيت أُمّك أيام منى بمكة تكسب الخطيئة وتتزن الدراهم ((1)) من كلّ عبد عاهر، هائج، وتسافح بهم أليق ، وهم بك أشبه منك بفرع سهم» ((2))

والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى ، ووقائعه الردية أشهر من أن تذكر .

ص: 91


1- تتّزن الدراهم : بمعنى تأخذها هنا ، يقال : وزنت له الدراهم فائزنها ، فالوازن : المعطي ، والمتزن : الآخذ ، كما يقال : نقد المعطي فانتقد الآخذ ، وقال سيبويه :اتّزن يكون على الاتِّخاذ وعلى المطاوعة .تاج العروس 572/18 . مادة «وَزَنَ »
2- انظر : بلاغات النساء - لابن طيفور: 82 ، العقد الفريد 346/1 ، ثمرات الأوراق132/1-134.

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

قد ذكرنا أن هذه الحكايات والأخبار التي لم يصح بها رواية ، ولم يقم بصحتها برهان، ترك ذكرها أولى وأليق، سيما أنها متضمنة لنشر الفواحش، وعظام هذه الجماعة رميمة، ولم يبق لهم آثار، ولم يبق أحد يدعي حقيتهم ولا إمامتهم حتى يكون متعلقاً بأمر من أمور الدين .

ولينصف المنصف ، إن ترك نشر الفواحش والإقدام بها أولى ، سيّما لطائفة محت الدهور آثارهم وجرت الرياح على مكان ديارهم .

ص: 92


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن احقاق الحق : 603 (حجري) .

وأقول :

إن كان نشر هذه الفواحش قبيحاً ، فهم أوّل ناشر لها، وقد نقلها المصنف رحمه الله عنهم ، بل أوّل ناشر لها هو الصحابة.

روى في السيرة الحلبية »((1))« أنّ أمّ عمرو بن العاص وطئها أربعة ؛وهم : العاص ، وأبو لهب ، وأُمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب ، وادعى كلّ منهم عمراً ، فألحقته بالعاص .

وقيل لها : لم اخترت العاص ؟

قالت : لأنه كان ينفق على بناتي ... إلى أن قال : وكان عمرو يعير بذلك، عيّره علي وعثمان ، والحسن ، وعمّار بن ياسر، وغيرهم من الصحابة »((2)) انتهى .

فكيف يزعم الفضل أولوية ترك نشرها ؟

وكيف ينكر صحتها ، وقد استفاضت بها الرواية ، وقامت على صحتها قرائن سوء أفعالهم ، وعادات ،آبائهم ، ولو ضممت إليها أخبارنا حصلت على التواتر واليقين ؟ !

وأما ما ذكره من أنّ عظامهم رميمة ، فصحيح ، لكن هواهم حي في قلوب النواصب ، وقد اتبعوا آثارهم في أعمالهم وأخبارهم واتخذوها حجّة بينهم وبين الله تعالى ، فأمرنا الله سبحانه بإبداء مساوئهم ؛ ليموت حبّهم من القلوب ويعلم الناس أن آثارهم كأصولهم ، ولولا ذلك فإنا نربأ بأقلامنا أن

ص: 93


1- ص : 47 ج 1 . منه قدس سرة.
2- السيرة الحلبية 70/1 .

تدَنس بذكر هذه المخازي القبيحة .

هذا ، وما رواه المصنف رحمه الله عن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب ، قد رواه في «العقد الفريد» بتغيير يسير ((1)) تحت عنوان : «وفود أروى بنت عبد المطلب» ((2)).

ولم يتعرّض الفضل لما ذكر المصنف رحمه الله - من أنّ آفة هذا الدين بنو أُميّة - غفلةً أو تغافلاً، وهو قد رواه ونحوه في «كنز العمال»((3)) عن علي علیه السلام، قال :« لكلّ أُمّة آفة ، وآفة هذه الأمة بنو أمية» ((4)).

عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت علي بن أبي طالب على منبر الكوفة يقول : «ألا لعن الله الأفجرين من قريش؛ بني أُمية ؛ وبني المغيرة » ((5)).

وعن ابن مندة وأبي نعيم عن عمران بن جابر الحنفي ، قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول :« ويل لبني أمية» ! ثلاث مرات ((6)) .

وروى الحاكم في المستدرك ((7)) وصححه مع الذهبي - على شرط الشيخين - عن أبي برزة الأسلمي قال :

كان أبغض الأحياء إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بنو أمية ، وبنو حنيفة ،

ص: 94


1- ص: 164 ج1 منه قدس سرة.
2- العقد الفريد 346/1 .
3- ص : 91 ج 6 . منه قدس سرة.
4- كنز العمال 364/11 ح31755.
5- كنز العمال 363/11ح 31753وج 14 / 87 ح 38013.
6- كنز العمال 11 / 165 ح 31059 و 363 ح 31750 ، آنظر : معرفة الصحابة - لأبي نعيم 2 / 895 ح 2312 ، أسد الغابة 527/1 - 528 رقم 1248 ، الإصابة 120/2ح 1822.
7- ص : 480 ج 4 . منه قدس سرة.

وثقيف ((1)).

والأخبار من نحو ماذكرناه كثيرة ، وهي دالة بمنطوقها أو لازمها على أن آفة الدين والأمة بنو أميه .

تمّ القسم الأوّل من الجزء الثالث من دلائل الصدق ويلحقه القسم الثاني إن شاء الله تعالى .

ص: 95


1- المستدرك على الصحيحين 528/4 ح 8482 .

ما رواه الجمهور في حق الصحابة

اشارة

قال المصنّف - شرف الله خاتمته ((1)) :

المطلب الخامس

فيما رواه الجمهور في حق الصحابة.

روى الحميدي في : «الجمع بين الصحيحين» في مسند سهل بن سعد في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول :

«أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ ، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثمّ يحال بيني وبينهم » .

قال أبو حازم فسمع النعمان بن أبي عياش - وأنا أُحدّثهم - هذا الحديث ، فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول: ؟ قال : فقلت نعم ، قال : أنا أشهد على أبي سعید الخدری، لسمعته يزيد على اللفظ المذكور فيقول :

إنّهم من أمتي ، فيقال : إنّك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً ، لمن بدل بعدي »((2)).

ص: 96


1- نهج الحق : 314 .
2- الجمع بين الصحيحين 556/1 ح 923 ، وأنظر : صحيح البخاري 216/8 164 ، وج 3/9 - 84 ح3 ، صحيح مسلم 65/7 .66 ، مسند أحمد 333/5 339 ، مسند الروياني 124/2 ح 1022م و ص 138ح 1053 - 1054.

وقال الفضل ((1)) :

شرع من هاهنا في مطاعن الصحابة ونحن نذكر قبل الشروع فيما ذكر شمّة من مناقب الصحابة إن شاء الله تعالى

فنقول : مذهب عامة العلماء أنه يجب تعظيم الصحابة كلهم ، والكف عن القدح فيهم ؛ لأنّ الله تعالى عظمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه ؛ كقوله تعالى :« والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار»((2)) .

وقوله :« يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم» ((3)).

وقوله :« والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً» ((4)).

وقوله :«لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة»((5)) .

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم قدرهم وكرامتهم عند الله والرسول قد أحبّهم ، وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة .

منها : قوله صلی الله علیه و اله و سلم«خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم»((6)).

ومنها : قوله صلی الله علیه و اله و سلم« لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل

ص: 97


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 603 (حجري) .
2- سورة التوبة 9 : 100 .
3- سورة التحريم 66 : 8 .
4- سورة الفتح 48 : 29.
5- سورة الفتح 48 : 18.
6- سنن الترمذي 652/5

أحد ذهباً ما بلغ مُدّ ((1)) أحدهم ولا نصيفه ((2))»((3))

ومنها : قوله صلی الله علیه و اله و سلم: «أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبّهم فبحُبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فيبغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخُذه»((4)) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المشهورة في الكتب الصحاح.

منها : ما روى عن أبي برزة قال : «رفع - يعني النبي صلی الله علیه و اله و سلم- رأسه إلى السماء ، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال :النجوم أمنة السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأنا أمنةً أصحابي ، فإذا ذهبتُ - أنا - أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أُمتي ما يوعدون»((5)).

وفيها ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم«أكرموا أصحابي فإنّهم خياركم ، ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى إن الرجل ليحلف ، ولا يستحلف ، ويشهد ، ولا يُستشهد ، ألا من سرّه بحبوحة الجنّة ، فليلزم الجماعة ؛ فإنّ الشيطان فإنّ الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد ... » ((6))الحديث .

ص: 98


1- المُدُّ بالضم - مكيال ، وهو ربع صاع . وإنّما قدره به لأنه أقل ما كانوا يتصدقون به في العادة . لسان العرب 3 : 400 مادة - مدد - .
2- النصيف : النصف هنا ؛ وهو أحد شقي الشيء ، أو أحد جزءي الكمال ، كما في الأساس . تاج العروس : 12 / 500 مادة «نصف » .
3- سنن الترمذي 653/5ح 3861.
4- مسند أحمد 87/4.
5- صحیح مسلم 183/7
6- المعجم الأوسط 3 / 274 ح 2929 ، کنز العمّال 532/11 ح 32487 ( وفيه اختلاف في الألفاظ) .

وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : « لا تَمسُّ النار مسلماً رآني ورأى من رآني» ((1)) .

وعن عبد الله بن معقل قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «الله الله في أصحابي .. لا تتخذوهم ،غرضاً ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» ((2)).

وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام ، ولا يصلح الطعام إلا بالملح»((3)).

وعن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله : «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائداً ونوراً لهم يوم القيامة» ((4)).

والأخبار في هذا الباب كثيرة لا تحصى .

ثمّ إنّ من تأمّل سيرتهم ووقف على مآثرهم وجدهم في الدين ، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله صلی الله علیه و اله و سلم لم يتخالجه شك في عظم شأنهم ، وبراءتهم عمّا نسب إليهم المبطلون من المطاعن ، ومنعه ذلك عن الطعن فيهم ، ورأى ذلك مجانباً للإيمان .

ونحن - إن شاء الله - نذكر كلّ ما طعن به هذا الرجل الضال ونجيب عنه على ما اعتمدنا - إن شاء الله تعالى - فنقول :

ما روي من الجمع بين الصحيحين أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : « لا

ص: 99


1- سنن الترمذي 651/5.
2- سنن الترمذي 653/5.
3- مشكاة المصابيح 3/ 335 ح 6015
4- سنن الترمذي 654/5 ح 3865

تدري ما أحدثوا بعدك » ((1)).

فاتفق العلماء أن هذا في أهل الردّة الذين ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وهم كانوا أصحابه في حياته ثم ارتدوا بعده، ويدلّ عليه الأحاديث والأخبار التي سيذكر بعد ذلك.

ولا شك أن هذا لم يرد في شأن جميع أصحاب محمد صلی الله علیه و اله و سلم بالإجماع ؛ لأنّ فيهم من لم يتغيّر ولم يبدل بعده بلا خلاف ، فهو من أهل النجاة بلا نزاع .

فإن أريد به : من بدل بعض التبديل ولم يبلغ الارتداد ، فليس في الأصحاب إلا من بدل بعض التبديل فرجع الوعيد إلى الأكثر ، فلزم أن لا يهتدي لمحمد صلی الله علیه و اله و سلم إلا نفر معدود في كل عصر من عصر من الأعصار ، وهذا ينافي ما ذكره رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من كثرة أمته يوم القيامة ، وأنّه يباهي بهم الأمم ، كما ورد في صحاح الأحاديث ((2)) .

وإن أُريد به : التبديل إلى حدّ الكفر ، فهو عين المدعى ، فلزم من هذه المقدّمات أنّ هذا الحديث وأمثاله في هذا الباب واردة في شأن أهل الردّة كما قاله العلماء .

ص: 100


1- انظر صحيح البخاري 83/9 ذيل الحديث 2
2- انظر : كنز العمال 16 / 277 ح 44442 .

وأقول :

لا وجه لوجوب تعظيم الصحابة كلّهم والكف عن القدح بهم ، ومنهم المنافق، والفاسق، والباغي، والزاني ، وشارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة .

وكيف يجب تعظيمهم جميعاً ، وقد ذمّهم الله سبحانه في كتابه العزيز آحاداً وجماعات في موارد كثيرة ؟

ويكفيك ما اشتملت عليه سورة براءة» حتّى سُميت الفاضحة ((1)) ، وذمّهم أيضاً نبيه الكريم في عدة مواطن ، وآذوه في كثير من المقامات .

وكيف يحسن القول بوجوب تعظيمهم جميعاً، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم«ما من نبي إلا كانت له بطانتان ؛ بطانة تأمره بالمعروف ؛ وبطانة تأمره بالشر»، كما سبق في أوّل مطاعن معاوية ((2)) .

فإذا كان هذا حال من يُعدّ بطانة، فكيف حال سائر الصحابة ؟ !

وكيف يحسن ترك القدح بهم جميعاً ، وقد روى البخاري - كما سبق ويأتي - :« أنهم ارتدوا جميعاً على أدبارهم القهقرى، وأنهم إلى النار،

ص: 101


1- أنظر : تفسير البغوي 224/2 ، الكشاف 171/2 ، مجمع البيان 5/5 .
2- راجع الصفحة 11 من هذا الجزء ، وأنظر : سنن الترمذي 505/4 ح 2369 ، سنن النسائي 158/7 - 159 159 ، مسند أحمد 237/2 39/3، مسند أبي يعلى 428/12 ح 1228 و ج 308/10 ح 5901 و ص 397 ح 6000 و ص 415 ح 6023 ، المعجم الأوسط 303/3 ح 2991 ، صحيح ابن حبان 25/8 ، ح 6158-6159.

ولا يخلص منهم إلا مثل همل النعم» ((1)).

ولا أعجب من دعوى وجوب تعظيمهم جميعاً ، ولم تكن لهم هذه المنزلة عند أنفسهم ، كما هو واضح عند من عرف طرفاً من أخبارهم ، فقد كان فاشياً بينهم سب بعضهم بعضاً، وضرب بعضهم بعضاً ((2)) ، ونفي((3)) بعضهم لبعض ؛ كما فعله خلفاؤهم، بل استباح بعضهم قتل بعض كما ، عرفته مع عثمان((4)).

وفي الاستيعاب بترجمة عمّار : أن معاوية قتل من أهل بيعة الرضوان ثلاثة وستين رجلاً ((5)).

وقد سبق أنه قتل من المهاجرين والأنصار أربعين ألفاً ((6)) ، وعلم الخاص والعام أنّه قتل حجراً وأصحابه الذين غضب لقتلهم أهل السماء والأرض ، وأنّه قتل عمر بن الحمق وسير رأسه ((7)) .

ويكفيك حرب البصرة وما فعلته عائشة والزبير وطلحة بعثمان بن حنيف.

إلى ما لا يحصى ، ممّا كان يقوله أو يفعله بعضهم مع بعض ، وقد جمع يسيراً منه ابن أبي الحديد بعدة صفحات من شرح النهج ((8)) .

ص: 102


1- صحيح البخاري 217/8 ذيل ذيل ح 166
2- راجع ج463/7 - 491 من هذا الكتاب
3- راجع ج505/7من هذا الكتاب .
4- راجع ج535/7من هذا الكتاب
5- الاستيعاب 3/ 1138 .
6- راجع الصفحة 87من هذا الجزء .
7- راجع الصفحة 44من هذا الجزء
8- مبدؤها ص 454 مجلد 4 . منه قدس سرة، شرح نهج البلاغة : 18/14 بخصوص مافعلا طلحة والزبير بعثمان بن حنيف.

وأما ما ذكره من ثناء الله تعالى عليهم في كتابه ، فغير مفيد له ؛ لأنّ المقصود بالآيات التي ذكرها هو بعضهم ؛ فإنّ المراد بالسابقين في الآية الأولى : : هو خصوص من أسلم في أوائل البعثة ، بل بعضهم

خاصة ؛ وهم المحسنون منهم ؛ بدليل تتمتها، وهي قوله تعالى في سورة التوبة :«والذين اتبعوهم بإحسان»((1)) .

فإنّ التبعية بالإحسان تستدعى المشاركة فيه، ونحن لا نشك بأن السابقين المحسنين محل للثناء من الله عزّ وجلّ ومن رسوله ، سواء ماتوا أم قتلوا في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، أم بقوا بعده .

وأما الآية الثانية : فالممدوح بها من آمنوا بألسنتهم وقلوبهم، وثبتوا على الإيمان، وعملوا بطاعة الرحمن ، فإنّهم هم الذين يسعى نورهم بين أيديهم ، لامن انغمس فى ظلمات المعاصى وارتد القهقرى أو حارب من حربه حرب الله ورسوله صلی الله علیه و اله و سلم، فقد قال رسول الله لعلي صلی الله علیه و اله و سلم: «حربك حربي»((2)).

ولا من دخل في زمرة المنافقين بحكم النبي الأمين ؛ وهم الذين أبغضوا علياً ، وأولئك أكثر الصحابة .

الله

وكذا الكلام في «الآية الثالثة» : فإنّ الممدوح بها من وصفهم سبحانه بأنهم :«أشداء على الكفّار رحماء بينهم * تراهم ركعاً سجداً»((3)).

ص: 103


1- سورة التوبة 9: 100.
2- مناقب الخوارزمي : 200 ، شرح نهج البلاغة 297/2 ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:«أنا حرب لمن حاربكم ...»الحديث انظر : المعجم الصغير 3/2 ، جامع الأصول 157/9ح6707.
3- سورة الفتح 29/48.

وبالضرورة أن ليس كل الصحابة كذلك ؛ وإنّما هم على علیه السلام وشيعته ، كما مر عند ذكر المصنف رحمه الله للآية في الآيات النازلة بأمير المؤمنين علیه السلام.

وأما الآية الرابعة : فلا تدلّ على أكثر من رضا الله تعالى عن جماعة خاصة من الصحابة في فعل خاص ؛ وهو بيعتهم للنبي صلی الله علیه و اله و سلم بیت الشجرة ، فلا تشمل جميع الصحابة ولا تدلّ على رضا الله تعالى عن أهل بيعة الشجرة في كل أفعالهم . ولا سيما بعد ما أحدثوا الأحداث.

روى البخاري ((1)) عن المسيب ، قال :

لقيت البراء بن عازب، فقلت له : طوبى لك صحبت النبي صلی الله علیه و اله و سلم وبايعته تحت الشجرة .

فقال : يا ابن أخي إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده ((2)) .

هذا كلّه في الآيات .

وأما ما استدل به من أخبارهم فغير حجّة علينا ، بل أكثرها ليس حجّة عندهم ؛ لضعف أسانيدها، ودعوى الفضل اشتهارها ممنوعة ؛ فإنّ الراوي لأكثرها هو الترمذي ، وقد رماها بالغرابة ؛ كرواية: «الله الله في أصحابي» ، ورواية : لا تمس النار مسلماً رآني ، ورواية: «ما من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائداً ونوراً لهم يوم القيامة» ((3)).

ولا ريب في غرابتها وكذبها لأمور كثيرة ، إلا أن يراد بها الخصوص ، كما هو صريح بعضها ، فإن الخطاب في قوله : لا تسبوا أصحابي ، ولا

ص: 104


1- في غزوة الحديبية من كتاب المغازي. منه قدس سرة.
2- صحيح البخاري 264/5 - 265 ح 197
3- راجع الصفحات 95 - 97 .

تتخذوا أصحابي غرضاً ، وأكرموا أصحابي ، لا يمكن أن يكون خطاباً للكافرين، أو للمعدومين حال الخطاب ، كما هو ظاهر ، فلابد أن يكون خطاباً للأصحاب أنفسهم ، ولا أقل من شموله لهم.

فيلزم أن يكون الذين أراد إكرامهم وعدم سبهم جماعة مخصوصين منهم ؛ وهم الذين اتخذهم الصحابة غرضاً بعده وسبوهم ولم يكرموهم،وما هم بالضرورة إلا عليّ علیه السلام وآله ، كما يشهد له ما في «كنز العمال»((1))عن الديلمي عن جابر وأحمد بن حنبل والطبراني وسعيد بن منصور عن أبي أمامة عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال: «يجيء يوم القيامة المصحف، والمسجد والعترة .

فيقول المصحف : يا رب حرقوني ومزقوني .

ويقول المسجد : يا رب خربوني وعطلوني وضيعوني.

وتقول العترة : طردونا وقتلونا وشرّدونا !

وأجثو بركبتي للخصومة.

فيقول الله تعالى : ذلك إلى ، وأنا أولى بذلك »((2)) .

وما في «مسند أحمد »((3)) عن أمّ الفضل قالت :

أتيت النبي صلی الله علیه و اله و سلم في مرضه فجعلت أبكي ، فرفع رأسه فقال : ما يبكيك ؟

قلت : خفنا عليك ، وماندري ما نلقى من الناس بعدك ؟

ص: 105


1- ص: 339 ج 6 . منه قدس سرة.
2- كنز العمال 193/11ح31190.
3- ص : 339 ج 6.منه قدس سرة.

قال : أنتم المستضعفون بعدي » ((1)).

وما في المسند أيضاً ((2)) عن عبد عبد المطلب بن ربيعة قال : «دخل العباس على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فقال : يا رسول الله ! إنا لنخرج فنرى قريشاً تتحدث ، فإذا رأونا سكتوا ، فغضب رسول الله - ودرّ عرق بين عينيه - ثمّ قال : والله لا يدخل قلب إمريء إيمان حتّى يحبّكم الله والقرابتي».

ومثله في محلّ آخر من المسند ((3)).

وكذا في الكنز ((4)) عن ابن ماجة والطبراني وغيرهما عن العباس بن عبد المطلب ((5)).

ويشهد له - أيضاً - ما في المسند ((6)) عن عبد المطلب بن ربيعة قال : أتى ناس من الأنصار النبي صلی الله علیه و اله و سلم فقالوا : إنا نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم : إنّما مثل محمد مثل نخلة في كباء والكباء : الكناسة»

الحديث .

إلى غير ذلك من الأخبار والآثار الدالة على عداوة الأصحاب وسبهم لأهل البيت علیهم السلام، واتخاذهم لهم غرضاً .

ويؤيد المدعى قوله في بعض الأحاديث التي ذكرها الخصم : «فمن أحبهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم».

ص: 106


1- مسند أحمد 339/6.
2- ص : 207 ج 1 . منه قدس سرة.
3- ص : 165 ج 4 . منه قدس سرة.
4- ص : 217 ج 6 . منه قدس سرة.
5- كنز العمال 16/12ح 34160 وص 102ح34193 ، وأنظر : سنن ابن ماجة 1 /50 ح 140 ، المعجم الكبير 20 / 285 ، المعجم الكبير 20 / 285 ح 672 - 674 ، تاریخ دمشق302/26
6- ص : 166 ج 4 . منه قدس سرة.

فإن مضمونه وارد كثيراً في حق على علیه السلام وآله الأكرمين.

ولا يبعد أن أصل الروايات هكذا : « لا تسبوا أهل بيتي ولا تتخذوهم غرضاً وأكرموهم».

فحرفوها كما حرّفوا رواية «النجوم أمنة لأهل السماء» المذكورة .

فإن مضمونها وارد في خصوص أهل البيت علیهم السلام، كما سبق في الحديث السابع والعشرين من الأحاديث التي ، بها المصنف رحمه الله على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام في الجزء الثاني ((1)).

وأما رواية :«خير القرون قرنى » ، فظاهرة الكذب ؛ إذ لا أقل من اشتمال قرنه على طواغيت الأمة وفراعنة الملوك ؛ كمعاوية ويزيد وعبد الملك والوليد ،وأشباههم، الذين أحرقوا الكتاب العزيز وجعلوه هدفاً للسهام ((2)) ، وحاربوا وسبوا مَنْ حربُهُ وسبّه حرب وسب الله ورسوله ، وقتلوا سبطي الرحمة وسيدي شباب أهل الجنة علیهما السلام، وسبوا أهل بيت النبوة ، و هدموا الكعبة ، وهتكوا حرمة الحرمين ، وأباحوا المدينة للنهب والفجور، وقتلوا خيار المسلمين وعباد الله الصالحين ؛ كحجر وأشباهه ، وأسسوا الكذب على رسول الله واستعملوا الرشى عليه ، وكان هلاك الأُمة على أيدي غلمة سفهاء منهم ، كما في الخبر ((3)).

ص: 107


1- راجع 239/6 من هذا الكتاب.
2- انظر : الأغاني 59/7 60 ، مروج الذهب 216/3.
3- انظر : صحيح البخاري 47/5 ح 109 و اوج 85/9 ح 9 ، مسند أحمد 288/2 ، 304، 324 ، 328 ، 485 ، 520 ، 536 ، مسند الطيالسي : 327 ح 2508 ، المعجم الصغير 1 / 200 ، صحيح ابن حبّان 251/8 ح 6677 ، مستدرك الحاكم 516/4 - 517 ح 8450 و ص 526 ذيل ح 8476 و ص 572 ح 5605 و 8606 ، دلائل النبوة - للبيهقي - 464/6 - 465.

وما تركوا الله حرمة إلا هتكوها ، ولا سُنّة إلا ضيعوها فماعسى أن يقع في سائر القرون حتى يكون هذا القرن الأوّل خيرها ؟ !

هذا مع معارضتها بأخبار مستفيضة لهم .

منها : ما رواه البخاري في باب خلق أفعال العباد عن أبي جمعة ، قال : كنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم- ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة - فقلنا يا رسول الله ! هل من أحد أعظم منا أجراً ؟ آمنا بك واتبعناك ، قال : «وما يمنعكم من ذلك - ورسول الله بين أظهركم - يأتيكم الوحي من السماء ، بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجراً»((1)).

ومنها ما رواه أحمد في مسنده ((2)) عن أنس قال: قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:«طوبى لمن آمن بي ورآني ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني» سبع مرار .

ونحوه في «المسند» - أيضاً ((3)) - عن أبي إمامة .

ومنها ما في المسند» - أيضاً ((4)) - عن أبي جمعة من طريقين ، قال :

تقدّمنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ومعنا أبو عبيدة الجراح فقال : يا رسول الله ! هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك ، وجاهدنا معك ، قال : نعم ، قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني.

ومنها ما فيه - أيضاً - عن الجهني ، قال : بينما نحن عند رسول

ص: 108


1- كتاب خلق أفعال العباد : 75 .
2- ص : 155 ج 3 . منه قدس سرة.
3- ص : 264ج5.منه قدس سرة.
4- ص : 106 ج 4 .منه قدس سرة.

الله صلی الله علیه و اله و سلم إذا طلع راكبان ... فدنا إليه أحدهما ليبايعه ، فلما أخذ بيده قال :

يا رسول الله ! أرأيت من رآك وآمن بك وصدقك واتبعك ، ماذا له ؟

قال : طوبى له .

قال : فمسح على يده فانصرف، ثمّ أقبل الآخر حتى إذا أخذ بيده ليبايعه ، قال : يا رسول الله ، أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك ؟

قال : طوبى له ، ثمّ طوبى له ، ثمّ طوبى له ، فمسح بيده فانصرف((1)). وهذه الروايات أقرب إلى الصحة من الخبر الأوّل ؛ لأنّ من شاهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم وصحبه تطلبه الآيات والمعجزات، ومن لم يصحبه يطلبها ،فمن لم يصحبه أعظم عناء في طلب الحق ، وكلّما تأخر الزمان زاد العناء وكثرت الشكوك ، فيكون المؤمن في الأزمنة المتأخرة أولى بعظم المنزلة ، وأحق بالأجر والرعاية ، ولذا في أوّل البقرة وصف الله سبحانه المتقين ومدحهم بالذين يؤمنون بالغيب ((2)).

ولا ينافي ذلك دلالة القرآن المجيد على تفضيل السابقين ؛ ؛ لأن المقصود به تفضيل السابقين من الصحابة على اللاحقين منهم .

ولا ريب بفضل السابق منهم إلى الإيمان عن صميم القلب ، على اللاحق منهم ؛ لأنّ السبق إلى الحق رغبة فيه دليل على كمال السابق وأفضليته ، وهذا بخلاف السبق في الوجود الزماني ؛ فإنّه لا دخل له بالفضل والكمال الذاتي ، ولا ينشأ منه بالضرورة .

ص: 109


1- مسند أحمد 152/4.
2- قوله تعالى :« الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون»سورة البقرة 2 : 2 .

وأما ما ذكره من أنّ من تأمّل سيرتهم لم يتخالجه شك في عظم شأنهم» ، ففيه :

أولاً : إنّ سيرتهم مختلفة ، وكثير منها دال على ضعة شأنهم، فبين فرار من زحف ((1)) ، ولمز في الصدقات ((2)) ، وإنّهام للنبي الأمين في القسمة ((3)) ، ونسبة الهجر إليه ((4)) ، وعصيانه في تنفيذ جيش أسامة واللحاق به ((5)) ، إلى كثير من مخالفة أوامره ونواهيه .

وثانياً : إنه لو سلّمنا استقامة سيرتهم في رضا الله تعالى أيام حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فلا شك أنّهم انقلبوا على أعقابهم بعده ، كما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز ((6)) .

وقد اتبعوا سنن من كان قبلهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع ، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة(7)، كما أخبر به رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((8))؛ لأن بني إسرائيل بعد أن آمنوا بموسى علیه السلام ونصروه على عدوّه ، انقلبوا بلا فصل على أعقابهم ، واتّبعوا السامري ، واستضعفوا هارون وكادوا يقتلونه .

ص: 110


1- كيوم أحد وخيبر وحنين .
2- قوله تعالى : (ومنهم من يلمزك في الصدقات) سورة التوبة 9 : 58 .
3- عند قسمة غنائم حنين واتهامه صلی الله علیه و اله و سلم بأنه لم يعدل .
4- راجع ج 4 / 81 وج 7 / 154 .
5- راجع ج 15/7 وما بعدها .
6- قوله تعالى : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) سورة آل عمران 3 : 144 .
7- القُذَّة : ريش السهم ، وجمعها : قذةً وقذاذ . وحذو القذة بالقذة كما تقدر كل واحد منهن صاحبتها وتقطع ، وقيل يضرب مثلاً لشيئين يستويان ولا يتفاوتان .أنظر : لسان العرب 71/11 - 72 ، تاج العروس 389/5 مادة «قذذ ».
8- راجع 269/4 من هذا الكتاب.

فكذا أُمّة نبينا صلی الله علیه و اله و سلم بعد أن آمنوا به و نصروه ، انقلبوا بالأثر على أعقابهم، واتّبعوا في السقيفة غير من نصبه لهم، واستضعفوا من بمنزلة هارون من موسى، وكادوا يقتلونه يوم قادوه بحمائل سيفه.

ولو أحسنًا الظن بعموم الصحابة لكذبنا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في قوله المذكور ؛ فإنّ المسلمين لم يتبعوا سُنّة بني إسرائيل في مخالفة خليفة موسى إلا يوم السقيفة حيث خالفوا خليفة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم واتبعوا غيره .

ولذا قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «ليسیرن راكب في جانب المدينة فيقولن : لقد كان في هذه مرّة حاضر من المؤمنين كثير »، كما في مسند أحمد ((1)) بلفظه، أو نحوه ((2)).

فإن قوله صلى الله عليه وسلم : « مرّة » دال على قصر زمان الإيمان بالمدينة ، وعلى كونه اتفاقياً غير دائمي ، ولا بد أن يكون الاتفاقي هو الإيمان في زمان النبي صلی الله علیه و اله و سلم؛ لأن الناس بعده إلى هذا الوقت على مذهب واحد ، وهو ليس إيماناً حقيقياً وعلى ما يريد الله ورسوله ، وإلا لكان وجود المؤمنين دائمياً لا اتفاقياً ، وما مغايرته له إلا لمخالفتهم خليفة النبي ، وإنكارهم النص عليه إنكاراً مستمراً من يوم السقيفة إلى هذا الوقت، فإنّه لم يصدر منهم ما يوجب كونهم غير مؤمنين في طول هذا الزمان سواه .

وأما ما أجاب به عن حديث الحوض ، فهو مشوّش خال عن المعنى ولا محصل له، إلا أن يراد به دعوى أن المراد بالحديث الذي ذكره المصنّف وأمثاله من الأحاديث هم أهل الردّة دون أبي بكر ومن قال بإمامته ، وإلا لزم أن يكون المؤمنون بالنبي صلی الله علیه و اله و سلم في كل عصر قليلين ،

ص: 111


1- ص : 347 ج 3 . منه قدس سرة.
2- ص : 20 ج 1 . منه قدس سرة.

وهو خلاف ما روى أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم يباهي بأمته الأمم يوم القيامة الدالة على كثرتهم ، فلا بد أن يراد بتلك الأحاديث قليل من الصحابة ، وهم أهل الردّة ، كما اتفق عليه العلماء .

ويرد عليه أن الكلام تارة في المراد بأحاديث الحوض ومفادها وأُخرى في معارضتها بما روي أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم يباهي بأمته الأمم .

أمّا الأول : فلا إشكال بظهور تلك الأحاديث بأبي بكر وأتباعه دون أهل الردّة ؛ لقرائن :

منها : دلالةُ بعض تلك الأحاديث على ارتداد عامة الصحابة إلا مثل همل النعم ، كما سيذكره المصنف رحمه الله.

ومنها : تعبير بعضها بأنهم ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم ، أو مازالوا يرجعون على أعقابهم، كما في حديثي مسلم في كتاب «الفضائل» ((1)).

أو بأنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، كما في حديث مسلم «في كتاب الجنّة وصفة نعيمها» ((2)) .

وحديث البخاري في «كتاب بدء الخلق» ((3)).

فإنّ هذا النحو من الكلام ظاهر في الاستمرار وطول مدة الارتداد ، لا يناسب إرادة مانعي الزكاة أيّاماً وأشباههم ، ولا سيّما أنّهم رجعوا إلى الإسلام بإقرار الخصوم.

ص: 112


1- في باب إثبات حوض نبينا صلی الله علیه و اله و سلم منه قدس سرة.صحيح مسلم 65/7 - 66 .
2- في باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ص 350 ج 2 . منه قدس سرة.الاولى صحیح مسلم157/8.
3- في باب قول الله تعالى : (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) وباب (واذكر في الكتاب مريم) الآية . منه قدس سرة. صحيح البخاري 277/4 ح151.

ومنها : ما اشتمل عليه حديث أحمد ((1)) عن أم سلمة ، قالت جملة حديث عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم سمعته يقول : «أيها الناس ! بينما أنا على الحوض جيء بكم ،زمراً ، فتفرقت بكم الطرق فناداني مناد بعدي فقال : إنهم قد بدلوا بعدك ، فقلت : ألا سحقاً سحقاً » ((2)).

فإن قوله صلی الله علیه و اله و سلم: «أيها الناس»، وقوله : «جيء بكم زمراً»،

وقوله : « فتفرّقت بكم الطرق» ، لا يناسب إرادة قوم مخصوصين من اهل البادية رأوا النبي صلی الله علیه و اله و سلم أوقاتاً قليلة وارتدوا أياماً يسيرة وتابوا وأسلموا .

فلا ينبغي الإشكال بأن المراد بهذه الأحاديث ونحوها من أنكروا إمامة أمير المؤمنين ، وخالفوا نص الغدير ؛ لارتدادهم بإنكارهم الضروري في وقتهم - مع أنّ الإمامة أصل من أصول الدين على الأحق - وهؤلاء عامة الصحابة إلا النادر ، ولذا قال في حديث البخاري : « ولا أراه يخلص إلا مثل همل النعم» ((3)).

وأما معارضتها بحديث مباهاة النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأمته ، فليست بمحلها ؛ لاستفاضة تلك الأحاديث ؛ ولأنّ الشيعة من أيّام النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلى اليوم - فضلاً عن أيّام الحجّة المنتظر علیه السلام وما بعده - أكثر من مؤمني النبی صلی الله علیه و اله و سلم، فإن من بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم من باقي الأمم كفار لإنكارهم رسالته .

ص: 113


1- ص : 297 ج 6 . منه 6 منه قدس سرة.
2- مسند أحمد 297/6
3- صحيح البخاري 217/8 ح ح 166 .

ردّ الشيخ المظفر

قال المصنف - طاب ثراه ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين من المتفق عليه في الحديث الستين من مسند عبد الله بن عباس عنه قال :

ألا إنه سيجاء برجال من أُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول :

يارب! أصحابي .

فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

فأقول كما قال العبد الصالح :«وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنّهم عبادك ...» ((2)) .

قال : فيقال لي : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ((3)) .

ص: 114


1- نهج الحق : 314 .
2- سورة المائدة 5 : 117 و 118 .
3- الجمع بين الصحيحين 2 / 1036 ، وأنظر : صحيح البخاري 108/6ح147،صحیح مسلم 157/8.

وقال الفضل ((1)) :

قد وقع التصريح في هذا الحديث على ما ذكرنا ((2)) أن المراد منهم : أرباب الارتداد الذين ارتدوا بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وقاتلهم أبو بكر الصديق .

ص: 115


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 609 (حجرى) .
2- راجع الصفحة 97 - 98 من هذا الجزء .

وأقول :

نعم، وقع التصريح فيه بارتدادهم ، ولكن صريحه أنهم لم يزالوا مرتدين ، وهم غير من زعموا ردّتهم وقاتلهم أبو بكر ؛ لقلة أيام ردّتهم وعودتهم إلى الإسلام - كما عرفت ((1)) - على أنّ الكثير ممن زعموا ردّتهم إنّما منعوا الزكاة عن أبي بكر ، وغاية ما يقال فيه : الحرمة لا الإرتداد ؛ ولذا أجرى عليهم عمر أحكام الإسلام، فردّ سبيهم وأموالهم ، مضافاً إلى أن هذه الرواية وغيرها مصرّحةٌ بأنّهم من الصحابة .

ومن زعموا ردّتهم إن ماتوا على الارتداد - كما هو ظاهر هذه الأخبار - لم يكونوا من الصحابة ؛ لأن من مات مرتداً ليس بصحابي عندهم ، وإن تابوا وماتوا مسلمين ، لم يكونوا ممن يؤخذ بهم ذات الشمال ويحال بينهم وبين النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فلا يرادون بتلك الأخبار على كلاالوجهين .

ولا يرد علينا النقض بمن أنكروا النصَّ على أمير المؤمنين ودفعوه عن الإمامة ، حيث نقول : بارتدادهم، ونسميهم مع ذلك بالصحابه ؛ لأنّه لا يشترط عندنا في إطلاق اسم الصحابي على الشخص بقاؤه على الإيمان بل لا يشترط فيه إلا تحقق الصحبة لاسيما مع بقائه على صورة الإسلام .

فالوجه - كما سبق - أن يراد بهذه الأخبار : من أنكروا إمامة أمير المؤمنين ؛ فإنّهم لم يزالوا مرتدين ؛ لإنكارهم أصلاً من أصول الدين وهو

ص: 116


1- راجع الصفحة 109 - 110 من هذا الجزء

الإمامة ، وإنكارهم ضروري الإسلام في وقتهم ؛ وهو النص على أمير المؤمنين.

ص: 117

قال المصنّف - أعلى الله درجته ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في الحديث الحادي والثلاثين بعد المئة من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : «إنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : ليردن على الحوض رجال ممّن صحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ((2)) ، فلأقولنّ : أي رب ! أصحابي ! فليقالَن لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ((3)).

وفي الجمع بين الصحيحين - أيضاً - في الحديث السابع والستين بعد المئتين من المتفق عليه من مسند أبي هريرة من عدة طرق، قال: قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم:« بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عَرفْتُهُمْ خرج رجل بيني وبينهم ، فقال : هلموا .

فقلت إلى أين ؟

قال : إلى النار والله.

قلت : ما شأنهم ؟

قال : إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى .

ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم ، فقال : هلموا .

ص: 118


1- نهج الحق : 314 .
2- الخَلج : الجذب ، اختلجه : جذبه وانتزعه . لسان العرب 2 : 256 - مادة خلج.
3- الجمع بين الصحيحين 2 / 593 ح 1977 ، وأنظر : صحيح البخاري 216/8 ح 163 ، صحيح مسلم 70/7 - 71 .

فقلت : إلى أين ؟

فقال : إلى النار والله.

قلت : ما شأنهم ؟

قال : إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى .

فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هملِ النَّعم» ((1)).

ورووا نحو ذلك من عدة طرق في مسند أسماء بنت أبي بكر ، ومن عدة طرق في مسند أُمّ سلمة ، ومن عدة طرق في مسند سعيد بن المسيب كلّ ذلك في الجمع بين الصحيحين ((2)).

وفي الجمع بين الصحيحين - أيضاً - في مسند عبد الله بن مسعود ، قال : قال : رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «أنا فرطكم على الحوض ، ولَيُرفعن إليَّ رجال منكم ، حتى إذا هويت لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ! أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ((3)) .

وروى نحو ذلك في مسند حذيفة بن اليمان في الحديث السابع من المتفق عليه ((4)) .

وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند أبي الدرداء في

ص: 119


1- الجمع بين الصحيحين 194/3-195 ح 2434 ، وأنظر : صحيح البخاري 217/8 ح166.
2- الجمع بين الصحيحين 271/4 ح 3518 و ص 239 ح 3466 وص ح 3466 و ص 493 - 494 ح 3050 ، وانظر : صحيح البخاري 218/8 - 219 ح 171 وج 219 ح 171 و ج 83/9 ح 1، وج217/8ح 165 ، صحيح مسلم 66/7 وص67.
3- الجمع بين الصحيحين 229/1 ح 276 ، وأنظر : صحيح البخاري 214/8ح 157 ،وج83/9ح2 صحیح مسلم 68/7.
4- الجمع بين الصحيحين 1 / 80 ح 393 ، وأنظر : صحيح البخاري 214/8 ذيل ح157،صحیح مسلم 68/7.

الحديث الأوّل من صحيح البخاري : قالت أم الدرداء : دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب ، فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف من محمد صلی الله علیه و اله و سلم شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً ((1)) .

وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث الأول من صحيح البخاري من مسند أنس بن مالك عن الزهري ، قال : «دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرف شيئاً ، ممّا أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت» ((2)) .

وفي حديث آخر منه ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، قيل : الصلاة ، قال : أليس قد ضيعتم ما ضيعتم فيها » ((3)).

وفي الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك وأبي عامر أنّ النبی صلی الله علیه و اله و سلم، قال: «أول دينِكُمْ نبوّة ورحمة ، ثمّ ملك ورحمةٌ ، ثم ملك وجبرية ، ثمّ ملك عضّ ((4)) يستحل فيه الحرّ والحرّة » ((5)) .

وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث السادس بعد الثلاثمائة من المتفق عليه من مسند أبي هريرة عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال : « مَثَلي كمثل رجل قد استوقد ناراً ، فلمّا أضاءت ما حوله جاء متهافت الفراش من

ص: 120


1- الجمع بين الصحيحين 465/1 745 ، وأنظر : صحيح البخاري 1/ 264 ح 45 .
2- الجمع بين الصحيحين 613/2 2015 ، وأنظر : صحيح البخاري 224/1 ح 9
3- الجمع بين الصحيحين 613/2 ذيل ح 2015 وفيه (صنعتم) ، وأنظر : صحيح البخاري 224/1 ح 8 .
4- العِضُ : الشديد ، وأراد به في الحديث : الملك الذي فيه عشف وظلم للرعيّة ، والعضوض والعضيص : الزمن الشديد الكلب ، ومنه مجازاً : ملك عضوض وعِضُ.تاج العروس 10/ 100 مادة «عضض».
5- الجمع بين الصحيحين 3/ 467 ذيل ح 3009 وفيه : الحر والحرير .

الدواب إلى النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنّه فيقحمن فيها ، قال : وذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بِحُجَزِكُمْ ، هلموا عن النار ،فتغلبونني فتقتحمون فيها » ((1)) .

وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث العاشر من مسند ثوبان مولی رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:« وإنّما أخاف على أُمتي الأئمة المُضلين ، وإذا وقع عليهم السيف لا يرفع عنهم إلى يوم القيامة ، فلا تقوم الساعة حتّى يلحق حي من أُمتي بالمشركين ، وحتّى يعبد الفئام ((2)) من أُمّتي لأوثان » ((3)).

وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث التاسع والأربعين من إفراد البخاري من مسند أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: « لا تقوم الساعة حتّى تأخذ أمتى ما أخذ الدول ((4)) شبراً بشبر وذراعاً بذراع .

فقيل : يا رسول الله ! كفارس والروم ؟

قال : ومَن الناس إلّا أُولئك» ((5)) .

ص: 121


1- الجمع بين الصحيحين 319/3 - 320ح2473، وأنظر : صحيح البخاري182/8ح70 صحیح مسلم 63/7 - 64 .
2- الفئام : الجماعة من الناس . لسان العرب 168/10 مادة «فأم» .
3- الجمع بين الصحيحين 535/3 ذيل ح 3097 ، وأنظر : سنن أبي داود 95/4 ذيل 4252 ، سنن ابن ماجة 1304/2 ضمن ح 3952 ، مسند أحمد 278/5و 284 ، سنن الدارمي 53/1 ح 214 ، مصابيح السنة 470/3 ح 4155،كنز العمال 10/ 190ح28996.
4- كذا في الأصل وفي المصدر ( مأخذ القرون)
5- الجمع بين الصحيحين 248/3 ح 2541 ، وأنظر : صحيح البخاري 184/9ح89.وانظر : الجمع بين الصحيحين - للصاغاتي - : 182 ح 589 .

وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث الحادي والعشرين من المتفق عليه من مسند أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم:«لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتتبعونهم.

قلنا يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟

قال : فمن» ((1)) .

وروى البغوي في كتاب المصابيح في حديث طويل في صفة الحوض ، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: أنا فرطكم على الحوض ، من مرّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم ، فأقول : إنّهم أُمتي ! فيقال : إنك لا ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي » ((2)) .

ص: 122


1- الجمع بين الصحيحين 437/2 ح 1753 ، وأنظر : صحيح البخاري 326/4 ح249و 9 /184 ح 90 ، صحیح مسلم 57/8 - 58 .
2- مصابيح السنة 537/3 ح4315.

وقال الفضل ((1)) :

ما ذكره من الأحاديث بعضه يدل على أنّ الأمة بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يبدلون سُنّته ، وبعضه يدلّ على أمراء السوء فى الأُمة يعملون بخلاف سُنّته.

وكلّ هذه الأمور واقعة ، ولا طعن فيه على الصحابة، وهو يدعي الطعن ، وما ذكر من اسم الأصحاب فقد ذكرنا أنّ المراد بهم : المرتدون بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((2)).

ص: 123


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 612(حجري ) .
2- انظر الصفحة 97 - 98 من هذا الجزء

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

قد علم ممّا بينا أن المتعين إرادة أكثر الصحابة إلا النادر من أحاديث الحوض واختلاجهم دونه ؛ للقرائن السابقة ، وامتنع إرادة من زعموهم أهل الردة؛ لتوبتهم وعودتهم إلى الإسلام ، لو سلمنا ارتداد مانعي الزكاة منهم(1).

وأما ما دلّ على تبديل الأمة لسنة النبي صلی الله علیه و اله و سلم کحديثي أبي الدرداء وأنس ، فعمدة النظر فيها إلى الصحابة ، ولا سيّما أنّ أبا الدرداء مات في خلافة عثمان قبل قتله بسنتين ، كما في باب الأسماء والكنى من «الإستيعاب » ((2)) .

وأظهر منها في الدلالة على الطعن بالصحابة وذمهم حديث أبي هريرة المذكور الذي ضرب النبي صلی الله علیه و اله و سلم فيه مثلاً لهم بالفراش، وهو مما رواه مسلم في باب شفقته صلی الله علیه و اله و سلم على أُمته من كتاب «الفضائل » ((3)) .

وأمّا الأحاديث المتعلقة بأمراء السوء، فالمراد ما يشمل الخلفاء الثلاثة ، لصراحة بعضها في ذلك ؛ كحديث : «أوّل دينكم نبوّة ورحمةٌ ثمّ ملك ورحمة ...» إلى آخره ((4))

فإنّه صريح بإرادة من ملكوا بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم بلا فصل ومع الفصل .وأن إمارتهم ملك لا خلافة نبوّة، ولكن لا بد من خروج

ص: 124


1- أنظر الصفحة 109 - 110 من هذا الجزء
2- الاستيعاب 1648/4 .
3- صحيح مسلم 63/7.
4- سنن الدارمي 2/ 80 ح 2097.

المؤمنين علیه السلام للإجماع على خلافته ، مع عدم استقرار الأمر له .

دالة وأما أحاديث اتباع الأمة سُنَن مَنْ قبلهم ، فهي على انقلاب الصحابة ؛ لما سبق من أن من جملة ما وقع في الأمم السالفة أن أُمّة موسى خالفت خليفته في قومه أخاه هارون واتبعوا السامري .

ولم يقع مثله في هذه الأُمّة إلا يوم السقيفة ؛ حيث خالفت الأُمّة خليفة نبيّها صلی الله علیه و اله و سلم، ومن هو بمنزلة هارون من موسى ، واتبعوا غيره .

وقد صرّح بعض أخبارهم بأن الأمة تتبع سُنَن بني إسرائيل ، كما في مسند أحمد من طريقين(1) وهم أُمّة موسی الذين ضيّعوا هارون واتّبعوا غیرة.

ص: 125


1- ص : 89 و 94 ج 3 . منه قدس سرة، وأنظر : صحيح البخاري 326/4 ح249،صحيح مسلم 57/8 ، سنن ابن ماجة 2/ 1322 ح3994،الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان248/8 ح6668، المستدرك على الصحيحين 93/1 ح 106.

ردّ الشيخ المظفر

قال المصنّف - قدس الله روحه ((1)) :

وقد تضمّن الكتاب العزيز وقوع أكبر الكبائر منهم ؛ وهو الفرار من الزحف ، فقال تعالى :« ويوم حنين إذ أعجبتْكُم كثرتكم فلم تُغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين» ((2)).

وكانوا أكثر من عشرة آلاف نفر ، فلم يتخلّف معه إلا سبعة أنفس ((3)) :

عليّ بن أبي طالب ، والعبّاس والفضل ابنه ، وربيعة وأبو سفيان ابنا الحارث بن عبد المطلب ، وأسامة بن زيد، وعبيدة بن أم أيمن ، وروي - أيضاً - أيمن بن أُمّ أيمن وأسلمه الباقون إلى الأعداء للقتل ((4)).

ولم يخشوا النار ولا العار، وآثروا الحياة الدنيا الفانية على دار البقاء ، ولم يستحيوا من الله الله تعالى ولا من نبيهم صلی الله علیه و اله و سلم، وهو يشاهدهم عيانا.

ص: 126


1- نهج الحق : 317 .
2- سورة التوبة 25/9.
3- أنظر : لسان العرب 14 / 235 مادّة «نفس».
4- انظر : صحيح مسلم 166/6 - 169 ، سنن النسائي الكبرى 197/5ح 8653، مصنف عبد الرزاق 379/5 ح 9741 ، السير لأبي اسحاق الفزاري - : 203 - 204 ح 307 و 308 ، سنن سعید بن منصور 2/ 259 ح 2696 ، تاريخ اليعقوبي 381/1.

وقال الفضل ((1)) :

ذكر الله قصة حنين في كتابه العزيز، وأن أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ولّوْا مُدبرين ، وكان هذا قضاء الله في الحرب ؛ ليُعْلَمْ أَن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان مؤيّداً من الله تعالى ، لا من قوة العساكر .

وقد رُوي في صحيح البخاري عن البراء بن عازب : أنه قال له رجل : أفررتم يوم حنين ؟

قال : لا والله ، ما ولى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولكن خرج شُبّان أصحابه ليس عليهم كثير سلاح ، فلقوا قوماً رماةً ... لا يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقاً ما يكادون يخطئون ، فأقبلوا هنالك إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على بغلته البيضاء ... وأبو سفيان بن الحارث يقودها ، فنزل فاستنصر ، وقال : «أنا النبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب» ((2)).

قال البراء : كنا إذا حمى البأس اتقينا به، وإن الشجاع منا من يحاذي به» ؛ يعني النبي صلی الله علیه و اله و سلم.

ويعلم من هذا الحديث أن شبّان الصحابة ولوا يوم حنين ، وأمّا الباقون فقاموا وثبتوا ؛ لأنّ البراء نفى الفرار وقال : لا والله .

وأيضاً اختلفوا في العدد الذين وقفوا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقيل : كانوا ثلاثمائة رجل ، ولا خلاف في أن أبا بكر وقف معه ولم يفارق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في موقف من المواقف .

ص: 127


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 613 ( حجري ) .
2- صحيح البخاري 116/4 ح 141 ، وفيه اختلاف في بعض الفاظه

ثمّ إنّا لم ندَّع عصمة الصحابة من الذنوب حتى يلزمنا براءتهم عن الفرار، والإنسان لا يخلو من الذنوب، وقد عفا الله عنهم على ما يقتضيه النصّ ؛ لأنّه قال :« ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثمّ الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم» ((1)).

قيل : المراد من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم : الفارون ،والعجب أنّ الله قَبِلَ عذرهم وتاب عليهم ، وابن المطهر لا يرضى به .

ص: 128


1- سورة التوبة 9 : 26 و 27

وأقول :

قوله : «هذا قضاء الله في الحرب أراد به - بمقتضى مذهبه من الجبر - أنّه قضاءً حتمٌ، ليرفع بذلك العيب عن المنهزمين بعيب سبحانه ، حيث قضى عليهم حتماً بالفرار، وذمّهم على فعله.

وأمّا قوله : « لِيُعْلَمْ أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان مؤيداً » ... إلى آخره .

فهو مخالف بظاهره لمذهبه من أن أفعال الله تعالى غير معللة، بالأغراض ، ولو علل فرارهم بما اشتملت عليه الآية من إعجابهم بكثرتهم ووردت به الرواية من أنّ أبا بكر هو الذي أعجبته كثرتهم - كان أولى .

وأما ما نسبه إلى البخاري من رواية البراء ، فلا يبعد أن المراد بها ما رواه في كتاب الجهاد ((1)) بتغير يسير .

وكذا رواه مسلم في كتاب الجهاد.(2)

وهو من الكذب الواضح ؛ لمخالفته لما تضافرت به الأخبار من فرار المسلمين عامة إلا النادر ، وقد سبق جملة منها في مطلب جهاد أمير المؤمنين علیه السلام ((3)) ؛ ولأنه لو كان الفارون هم الشبان والأخفاء ، وقد خرجوا حسّراً ليس عليهم سلاح - كما في رواية البخاري - أو ليس عليهم كثير سلاح ، ولقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، ولا يكادون يخطئون ، لما

ص: 129


1- في باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر . منه قدس سرة.البخاري 116/4 ح 141.
2- في باب غزوة حنين . منه قدس سرة. صحیح مسلم 167/5 - 168 .
3- راجع ص 398 ج 6 .

حَسُنَ من الله سبحانه أن يعير المسلمين عامة ، ويذمهم بأنّهم ولوا مدبرين . والحال : أنّه قد ثبت الكثير ، وأهل الحزم منهم ، بل يكون الشبّان والأخفاء - أيضاً - معذورين بالفرار في تلك الحال ، ولا سيما قد أقبلوا إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وتحيزوا إلى فئة.

فيا عجباً للقوم !! كيف يكذبون نصرة للمذنبين ، وإن استلزم نقص الله سبحانه وإثبات الظلم له بذمّ قوم بُراء ؟ !

ومن الخطل قوله : وأما الباقون فقاموا وثبتوا ، لأن البراء نفى الفرار وقال : «لا والله» ؛ فإنّ جواب القسم هو قوله في الرواية : ما ولّى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولا دَخلَ له بنفي فرار غيره.

والحق أن المسلمين فرّوا جميعاً سوى نفر لا يزيد عددهم على

عشرة، وأفضلهم ثباتاً أمير المؤمنين علیه السلام، كما سبقت الإشارة إليه في جهاده ((1)) .

ونقل في كنز العمّال» في كتاب الغزوات ((2)) عن العسكري في أنس قال : « لما كان يوم حنين ، قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم:«الآن حمي الوطیس»، وكان علي بن أبي طالب أشدّ الناس قتالاً بين يديه» ((3)).

ويشهد لفرار عامة المسلمين ما رواه البخاري في كتاب المغازي ((4)) ومسلم في كتاب الزكاة ((5)) عن أنس قال : «لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع النبي صلی الله علیه و اله و سلم عشرة آلاف ومن

ص: 130


1- ص : 353 ج 2 . منه قدس سرة. احالة
2- ص : 306 ج 5 . منه قدس سرة.
3- كنز العمال 548/10 ح 30255 .
4- في غزوه الطائف . منه قدس سرة.
5- في باب إعطاء المؤلفة قلوبهم . منه قدس سرة.

الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده ...» ((1)) الحديث .

ولكن يرد على قوله : - بقي وحده - أن عليا علیه السلام لا شك ولا خلاف في ثباته ، وأنّه مدار الحرب وقطبها ، وكذلك ثبت العبّاس ، وبعض بني هاشم ، كما حققناه في جهاد أمير المؤمنين علیه السلام.

كما لا شك ولا خلاف في فرار أبي بكر وعثمان ، كما يدلّ عليه كلام الاستيعاب في ترجمة العبّاس ((2)) ، وإنما الخلاف بينهم في فرار عمر .

ويظهر من الاستيعاب اختيار فراره - وهو الصواب كما أوضحناه في المطلب المشار إليه ، وذكرنا فيه خبرين صريحين في فرار عمر ، فراجع(3).

وأمّا ذكره من القول : «بأن الثابتين كانوا ثلاثمائة رجل» ، فلا يبعد أنّه من مفترياته بدليل أن غاية ما روي في عدد من فاؤا للحرب بعد الهزيمة أنّهم مائة.

روى الطبري في تأريخه ((4))«أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لما رأى الناس لا يلوون على شيء قال : يا عباس ! اصرخ يا معشر الأنصار ! يا أصحاب السمرة ! قال : فناديت ، فأجابوا : أن لبيك لبيك ... إلى أن قال : حتى اجتمع إليه منهم مائة رجل استقبلوا الناس فاقتتلوا ...» ((5)) الحديث .

وأما قوله : «لم ندع عصمة الصحابة من الذنوب»

فصحيح ، لكنّهم يمنعون عن الطعن بهم ويوجبون تعظيمهم، والإغضاء عن قبائحهم، خلافاً لله سبحانه حيث فضحهم بها في صريح

ص: 131


1- صحيح البخاري 319/5 ح 333 وص 320 ح 337 ، صحيح مسلم 106/3 .
2- الاستيعاب 812/2.
3- راجع الصفحة 425 من الجزء السادس من هذا الكتاب.
4- ص : 128 ج 3 . منه قدس سرة.
5- تاريخ الطبري 168/2 .

كتابه ، وذمّهم على إتيانهم أكبر الذنوب .

وغرض المصنف رحمه الله من ذكر مطاعنهم بيان أن اجتماع أكثرهم على أبي بكر لا يقتضي سلامته وإمامته، لعِلْمِنا بإتيان أكثرهم القبيح وارتكاب عامتهم أعظم الذنوب إلا الأندر منهم .

ولتعلم أنّ أبا بكر وصاحبيه ليسوا أهلاً للإمامة ، لأن من تصدر منه تلك الكبيرة العظيمة لا يؤْمَنُ على الأمة وأموالهم ونصر الإسلام عند الزحام .

وقوله : « وقد عفا الله عنهم، على ما يقتضيه النص»

خطأ ، فإنّ الآية الكريمة لم تدلّ على توبة الله تعالى على الفارين جميعاً، بل على من يشاء خاصة ، على أنّه قد يقال : أن المراد ب-«من يشاء» : ناس من الكافرين المحاربين، وبالتوبة عليهم : إسلامهم كما في الكشاف »((1)) ، ولم يذكر غير هذا المعنى ، فلا يكون في الآية دلالة على توبة الله على أحد من الفارين .

ولو سلّم فالتوبة عليهم لا تمنع من الطعن بهم بالنقصان ، وأنهم محل لارتكاب أكبر الذنوب ، والتلبس بأعظم العيوب ، فلا يمتنع اجتماعهم على شخص للهوى وحبّ الدنيا ، وحسداً وعداوةً لولي الأمر .

وأما ما نقله من القول بأنّ :«المراد بالمؤمنين الذين أنزل الله عليهم السكينة هم الفارون» ، فقول صادر عن بعض أصحابه.

وقال بعضهم : المراد منهم الثابتون كما في «الكشاف »((2)) وهو الأصح ؛ لأن الله سبحانه جمعهم مع رسوله في إنزال السكينة عليهم، ولا

ص: 132


1- الكشاف 183/2.
2- الكشاف 182/2.

يجتمع معه فيها إلا من ثبت معه، لا من فرّ عنه وأسلمه لعدوّه ، ولا سيّما من لم يعد إلا بعد ما قام بأعباء الحرب غيره : «وأيده بجنود لم تروها» ((1)).

روى الطبري ((2)) أنّه : اجتلد الناس ، وما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين ((3)).

وكيف يراد بأهل السكينة : المنهزمون ، وقد وصفهم الله تعالى بالإيمان ومدحهم به، فإنّه لا يحسن مدحهم به في مقام عصيانهم وذمّهم بهذه الجريمة العظمى ، بل ينبغي وصفهم في هذا الحال بخلاف الإيمان كما ورد : «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن » ((4)).

والتوبة لا تصحح مدحهم في المقام، لأنّها واقعة بعده ، قال تعالى :«ثم يتوب الله على من يشاء»((5)) مع أنّها على من يشاء لا على الجميع .

ص: 133


1- سورة التوبة 40/9
2- ص : 129 : 129 ج 3 . منه قدس سرة.
3- تاريخ الطبري 168/2
4- صحيح البخاري 281/8 - 182 ح 1 وص 284 ح 11 مقطع منه ، وفيه (الزاني )بدل «العبد» ، سنن النسائي 63/8 - 64.
5- سورة التوبة 9: 27 .

قال المصنّف - قدس الله نفسه ((1)) :

وقال الله تعالى :« وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما» ((2)) .

رووا أنهم كانوا إذا سمعوا بوصول تجارة تركوا الصلاة معه والحياء منه ومراقبة الله تعالى، وكذا في اللهو ((3)) ، ومن كان في زمانه معه بهذه المثابة ، كيف يستبعد منه مخالفته بعد موته وغيبته عنهم بالكلية ؟ !

ص: 134


1- نهج الحق : 318 .
2- سورة الجمعة 62 : 11 .
3- أنظر : صحيح البخاري 48/22 ح 59 و ج 116/3 ح 12 و ص 119 و ص 119 ح 16 وج 267/6 ح 393 ، صحيح مسلم 9/3 - 10 ، سنن الترمذي 386/5 ح 3311 ، سنن النسائي الكبرى 490/6 ح 11593 ، مسند أحمد 370/3 ، مصنف ابن أبي شيبة 22/2 ح 8 ، مسند عبد بن حميد : 335 ح 1110 و 1111 ، مسند أبي يعلى 3 / 405 - 406 ح 1888 و ص 468 ح 1979 ، صحیح ابن خزيمة 161/3 - 162 وص ح 1852 ، تفسير مجاهد : 660 ، تفسير الحسن البصري 348/2 ، تفسير الطبري 12 / 97 - 99 ح 34134 - 34147 ، أحكام القرآن - للجصاص-670/3، ، سنن الدارقطني 2 / 4 - 5 ح 1567 و 1568 ، تفسير الثعلبي317/9 ، سنن البيهقي 181/3 - 182 .

وقال الفضل ((1)) :

ذكروا في شأن نزول الآية أن القوافل التي كانت تأتي بالطعام انقطع عن المدينة وضاق أمر الناس ، فجاء القافلة والنبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يخطب ، وكانوا يضربون الطبل عند نزول القافلة .

فلما سمعوا صوت الطبل تسارع إليه فئام ((2)) الناس ، وقام أكابر الصحابة معه ، فأنزل الله الآية في شأن من يذهب ويترك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قائماً ، وفي كل طائفة يكون عوام وخواص ، ولا يبعد هذا عن الإنسان ، وهذا لا يوجب الكفر بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كما يدعيه هذا الرجل .

ص: 135


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 616 ( حجري ) .
2- الفئام : الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظه ، والعامة تقول : فيام بلا همز . انظر : الصحاح 2000/5 ، لسان العرب 168/10 ، تاج العروس 530/17 مادة«فأم» .

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

ينبغي هنا بيان أمور :

الأوّل : سبب نزول الآية ، لا شك أنّ سبب نزولها أمران : التجارة واللهو الواقعان من المسلمين في واقعتين أو أكثر ؛ لعطف أحدهما على الآخر ب- «أو» في قوله تعالى :« وإذا رأوا تجارة أو له-واً انفضّوا ... » ((1)) ، ولتكرار من الجارة في قوله تعالى: «خير من اللهو ومن التجارة» ((2)) ، ولورود كل منها مستقلاً في أخبارهم.

أما التجارة ؛ فقد روى البخاري في كتاب الجمعة ((3)) عن جابر قال :

«بينما نحن نصلي مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي إلا اثني عشر رجلاً ، فنزلت هذه الآية» ((4)).

وروى نحوه في بابين من أوائل «كتاب البيع» ((5))، وفي الجميع أن العير أقبلت وهم يصلون ، ولم يُسْتَتْنَ إلا اثني عشر رجلاً .

وكذا روى نحوها في «كتاب التفسير » ((6)) ، لكن لم يقيد بحال الصلاة

ص: 136


1- سورة الجمعة 62 : 11.
2- سورة الجمعة 62 : 11 .
3- في باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة . منه قدس سرة.
4- صحيح البخاري 48/2 ح 59 .
5- صحيح البخاري 116/3 ح 12 وص 119 ح 16.
6- في تفسير سورة الجمعة . منه قدس سرة. صحيح البخاري 267/6ح393.

وروى مسلم في كتاب الجمعة »((1)) عدّة أخبار من نحو ما عرفت لم يَسْتَثْنِ إِلَّا اثني عشر رجلاً، وفي بعضها : أن العير جاءت فانفتل الناس إليها ، وقد كان النبي صلی الله علیه و اله و سلم يخطب قائماً ((2)).

وأمّا اللّهو ؛ فقد روى نزول الآية فيه لما وقع منفرداً ابن جرير ((3))وابن المنذر .

قال السيوطي في «لباب النقول» بعد نقل ما رواه البخاري ومسلم في نزولها بالتجارة : أخرج ابن جرير عن جابر - أيضاً -: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير ، ويتركون النبي صلی الله علیه و اله و سلم قائماً على المنبر وينفضون إليها ، فنزلت ، قال : وكأنها نزلت في الأمرين معاً .

ثم رأيت ابن المنذر أخرجه عن جابر لقصّة النكاح، وقدوم العير معاً ، من طريق واحد ، وأنّها نزلت في الأمرين ، فلله الحمد» . انتهى كلام السيوطي ((4)) .

الثاني : إن الآية دالة على أن انفضاض المسلمين عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم سجيّة لهم ، كما وقع منهم مرتين ((5)) ، وفي «الكشاف» وغيره قيل : ثلاث مرّات ((6)) ، وذلك لتعبيرها ب «إذا» التي هي شرط في المستقبل، والفعل

ص: 137


1- في باب قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا ) الآية . منه قدس سرة.
2- صحيح مسلم 10/3
3- تفسير الطبري 98/12 - 99 ح 34144 - 34147 .
4- لباب النقول : 213
5- الدر المنثور 167/8
6- تفسير الطبري 12 / 98 ح 34140 وفيه : « ثمّ قام في الجمعة الثالثة » ، الكشاف 106/4 ، تفسير القرطبي 72/18 وفيه : «إنّهم فعلوه ثلاث مرات ، الدر المنثور166/8 وفيه : «إنّهم فعلوا ذلك ثلاث مرات».

المستقبل يفيد بذاته التجدّد، ويفيد في المقام الاستمرار ؛ لأنّه لم يقيد بوقت خاص، فيكون كناية عن كون الانفضاض للهو والتجارة سجيّة لهم وشأناً ، كقوله تعالى :« وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحنُ مستهزؤون» ((1)).

وقوله تعالى :« وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون» ((2)).

أي أنّ ذلك مع وقوعه منهم هو من شأنهم وسجيتهم ، ولا يصح أن يراد مجرّد الحكاية عن انفضاض سابق ، فإنّه لا يناسب التعبير ب- «إذا»الشرطية ، بل يتعين التعبير ب- «إذ الظرفية ، فالعدول عن «إذ» إلى «إذا» التي هي للاستقبال لا بد أن يكون لنكتة ؛ وهي بيان سجيتهم

الثالث : لا ريب بانفضاض الصحابة عامة إلا النادر الذي يصح إلحاقه بالعدم من حيث العدد لقلته ، ولذا تركت الآية ذكر من بقي مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ونسبت الانفضاض إلى عموم المؤمنين ، وقد عرفت أن صحاح أخبارهم المذكورة إنّما استثنت اثني عشر رجلاً .

وحكى في الكشاف وغيره قولاً بأنّهم ثمانية ((3)) ، فلا يتجه قول الفضل : « وقام معه أكابر الصحابة ، فإنّ أكابرهم أضعاف العدد المذكور . والحامل له على هذا دفع الطعن عن مشايخهم ووجوههم ، وقد كفاه بعضهم هذه الكلفة بالنسبة إلى الشيخين فروى لهم أن من جملة الاثني عشر

ص: 138


1- سورة البقرة 2 : 14.
2- سورة البقرة 2 : 11 .
3- الكشاف 106/4 ، تفسير القرطبي 72/18 ، الدر المنثور 165/8 عن عبد بن حميد وفيه ( سبعة نفر) .

أبا بكر وعمر ، كما في بعض أخبار مسلم ((1)) .

وهو إلى الكذب أقرب ، وإلا لما خَلَتْ عنه رواية من رواياتهم ، لشدّة اهتمامهم بشأنهما ، على أنّ هذا الحديث ضعيف السند بجماعة ، منهم : هشيم الذي سبقت ترجمته في مقدّمة الكتاب ((2)) ، ومنهم حصين بن عبد الرحمن الذي ضعفه البخاري، وابن عدي والعقيلي ، كما في ميزان الاعتدال»((3)).

وقال يزيد بن هارون : اختلط ((4)).

الرابع : ثبت بما ذكرنا أن جميع جميع الصحابة إلا الأندر ليسوا من أهل السجايا الجميلة والمراقبة الله تعالى، والحياء من رسوله صلی الله علیه و اله و سلم، كيف وقد تركوا أهم الواجبات بمرأى من نبيهم صلی الله علیه و اله و سلم وتركوه قائماً يخطب ، أو في الصلاة ، لأجل اللهو والتجارة ؟ !

وما اعتذر لهم به الخصم من انقطاع قوافل الطعام عن المدينة ، وضيق أمر الناس - لو صح - فليس عذراً شرعياً في ترك الواجب ، إذ يمكنهم الانتظار قليلاً حتى يؤدوا الواجب .

ولذا روى في «الكشاف » وغيره : أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : « والذي نفسي بيده ، لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً» ((5)) على أنه

ص: 139


1- صحیح مسلم 10/3.
2- دلائل الصدق 264/1 رقم 331 .
3- میزان الاعتدال 310/2 رقم 2078
4- الضعفاء الكبير 314/1 رقم 385
5- الكشاف 106/4 وفيه نفس محمد » بدل «نفسي » ، تفسير القرطبي 72/18 ، الدرالمنثور 167/8 وفيه :«... لو تتابعتم حتى لا يبقى معي أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً» ، وفي رواية أخرى :«... لو اتبع آخركم أولكم لالتهب الوادي عليكم ،ناراً» ، وفى أخرى: «لو تتابعتم لتأجج الوادي ناراً»

يكفي في ذمّهم انفضاضهم عن الصلاة لأجل اللهو واللعب .

والعجب من السُنّة ! كيف يعرضون عن الكتاب العزيز وصراحته في

ذمّ الصحابة ، لأجل رغباتهم في مدح قوم ذمّهم الله تعالى ، حتى افتعل الخصم أو غيره قصة لا حقيقة لها ؟ !

أترى أن الله سبحانه مع عدله ورحمته وعفوه يذمّ الصحابة عموماً ،لأجل انفضاض الرعاع منهم لعذر يشرع عادة لمثلهم ؟ !

وليت شعري ، إذا علموا أنّ في الصحابة عواماً لا يستغرب منهم ترك أهم الواجبات ، وعدم المبالاة بالنبي صلی الله علیه و اله و سلم، فما بالهم يعظمون كل صحابي ويثبتون عدالته ، ويصححون حديثه ، ويبنون عليه دينهم ؟ !

فإذا عرفت أنّ الصحابة إلّا النادر بتلك الحال ، وعلى تلك السجيّة الردية التي يتركون معها أعظم الواجبات لغير عذر شرعي بلا خوف من الله تعالى ، واستحياء من رسوله صلی الله علیه و اله و سلم، لم يستبعد منهم مخالفة النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعد وفاته في وصيه وخليفته لأجل الدنيا ، أو الحسد لوصيه ، أو طلب الثأر منه ، أو اتباع رؤسائهم .

وأما قوله : وهذا لا يوجب الكفر بعد رسول الله ، كما يدعيه هذا الرجل .

ففيه : إن المصنف رحمه الله لم يدع إيجابه للكفر ، وإنّما يقول : إنّهم إذا کانوا بتلك المثابة لم يستبعد مخالفتهم للنبي صلی الله علیه و اله و سلم في خليفته، خلافاً لأهل السنة ، ولو فرض أنّه ادعى الايجاب ، فالدعوى غير بعيدة بمقتضى أخبارهم.

ص: 140

روي في «كنز العمال »((1)) عن الشافعي ، والبيهقي في المعرفة عن ابن عباس عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم: «من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقاً في كتاب لا يمحى ولا يبدل »((2)).

وروي عن أرباب السنن الأربعة ، والحاكم، وأحمد بن حنبل عن أبي الجعد عن عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم: « من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها ، طبع الله على قلبه»((3)) .

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المشتمل عليها «الكنز» وغيره ((4)) ، الدالة على أنّ تارك الجمعة لا لعذر ، منافق مطبوع على قلبه ، والمنافق كافر

ص: 141


1- ص : 154 ج 4 . منه قدس سرة.
2- كنز العمال 730/7 21144 ، وأنظر : مسند الشافعي 382/9 (مرفق مع كتاب الأُمّ) ، معرفة الآثار والسنن - للبيهقي - 527/2 - 1809.
3- كنز العمال 73/7 ح 21145 ، وأنظر : مسند أحمد 424/3 - 425 ، سنن أبي داود 276/1 ح 1052 ، سنن ابن ماجة 1 / 357 ح 1125 ، سنن الترمذي 373/2 ح 500 ، سنن النسائي 88/3 ، سنن الدارمي 1 / 263 ح 1574 ، مستدرك الحاكم 1 / 415 ح 1034 و 3 / 723 6620 61/2 ح ، مصنف ابن أبي شيبة 2 / 61 ح 1 ، مسندأبي يعلى 175/3 1600 ، المعجم الكبير 365/22 الكبير 365/22 - 366 ح صحيح ابن خزيمة 176/3 ح 1857 ، سنن ابن الجارود : 176/3 81 ح 288 ، صحیح ابن حبان 4 / 198ح2775، معرفة الصحابة 1 / 352 ح 1086 ، سنن البيهقي 172/3و 247 ، مصابيح السنّة 1/ 469 ح 964 .
4- راجع : كنز العمال 730/7 ح 21144 ، مسند الشافعي 383/9 (مرفق مع كتاب الأم) ، مسند أبي داود الطيالسي : 122 و 319 ، مسند أبي يعلى 12/5 ح 2712 ، بن أبي شيبة 2 / 61 ح 2 ، المستدرك على الصحيحين 1/ 415 - 416 ح1035 - 1036 و 2 /530 ح 3811 ، المعجم الاوسط 142/1 3811 ، المعجم الأوسط 142/1 ح 275 و 3 / 246 ح 2849 ، كتاب فضائل الأوقات - للبيهقي - : 476 - 477 ح 259 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 172/3 ، مجمع الزوائد 192/3 - 193 ، جامع الأصول 666/5ح3954 وص667ح3954.

في الباطن .

ص: 142

قال المصنف - طاب ثراه ((1)) :

وقال الله تعالى :« ومنهم من يلمزك في الصدقات»((2)) اتهموا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وهم من أصحابه .

وقال الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك في الحديث الحادي عشر من المتفق عليه : أنّ أناساً من الأنصار قالوا يوم حنين، حيث أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء ، وطفق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يعطي رجالاً من قريش المئة من الإبل فقالوا : يغفر الله

لرسول الله ، يعطي قريشاً ويتركنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم((3)).

وقال الحميدي في هذا الحديث عن أنس : إن الأنصار قالت : إذا كانت شدة فنحن ندعى ، وتعطى الغنائم غيرنا ((4)).

قال ابن شهاب : فحدث ذلك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فعرفهم في حديث ذلك أنّه فعل ذلك تأليفاً لِمَن أعطاه ((5)) .

ثم يقول في رواية الزهري عن أنس : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال للأنصار :«إنكم ستجدون بعدي إثرة شديدة ، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله

ص: 143


1- نهج الحق : 318
2- سورة التوبة 9 : 58 .
3- الجمع بين الصحيحين 493/2 ح 1857 ، وأنظر : صحيح البخاري 203/4-302مقطع من ح 54 و 318/5 مقطع من ح337،صحیح مسلم 105/3.
4- الجمع بين الصحيحين 495/2 ذيل ح 857 ، وانظر : صحيح البخاري320/5 مقطع من ح 337،صحیح مسلم 107/3.
5- الجمع بين الصحيحين 2 / 493 ح1857.

على الحوض» .

قال أنس : فلم نصبر ((1)).

ص: 144


1- الجمع بين الصحيحين 2 / 493 ح 1857.

وقال الفضل ((1)) :

اتفق المفسّرون على أن قوله تعالى :« ومنهم من يلمزك في الصدقات»((2)) ، نزل في ذي الخويصرة الخارجي - اسمه : حُرقوص بن زهير ، وهو أصل الخوارج - قال الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: اعدل ، فإنك لا تعدل .

فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: لقد خِبْتُ وخسرتُ إن لَمْ أعدل .

فقال عمر : يا رسول الله ! ائذن لي أضرب عنقه.

فقال له رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم : إنه سيخرج من ضئضئي ((3))هذا قوم وكذا ((4))... ووصف الخوارج ، وهو ذو الثدية المشهور ((5)).

والغرض أن الآية لم تنزل فى الأنصار ، نعم ، كان من شبّان الأنصار هذا القول ، فلما سأل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عنهم ، تابوا واستغفروا ، فقبل الله رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أعذارهم .

ص: 145


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 617 ( حجري ) .
2- سورة التوبة 9 : 58.
3- الضئضيء : الأصل والمعدن ، وفي خطبة أبي طالب علیه السلام، كما عن التاج : الحمد لله الذي جعلنا في ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد... أي من أصلهم ، والمراد به في الحديث هنا قوله صلی الله علیه و اله و سلم: من ضئضىء هذا : اي من نسله وذريته .أنظر : تاج العروس 194/1 مادة «ضأضأ».
4- نقل الفضل هذه العبارة : «إنّه سيخرج من ضئضي هذا قوم كذا وكذا من صحيح البخاري 326/5 - 327 ذيل ح 349 ، ولم ترد في التفاسير.
5- انظر تفسير الطبري 394/6 - 16832 ، تفسير الماوردي 373/2 وقال : أنّها نزلت في ثعلبة بن حاطب ، تفسير البغوي 254/2 - 255 وقيل : إنها نزلت في أبو الجوّط ، تفسير الرازي 16 /100 ، ونزلت أيضاً في أبو الجواظ ، تفسير القرطبي106/8.

وأمثال هذا يكون من أهل العسكر ، ومن الشبّان ، ولم يقل أحد من الحكماء وذوي الرأي شيئاً مما ذكره.

وأما قول أنس : «فلم نصبر» فهو شكاية منه من بعض الأنصار ، ولا يدلّ على أنّ الأنصار تركوا الصبر ، لأنّهم صبروا على الإثرة .

ص: 146

وأقول :

ذكر المصنف رحمه الله مورد نزول الآية مجملاً بقوله : اتهموا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم- وهم من أصحابه - ولم يعيّن أنّهم من الأنصار ، ثم ذكر مارواه الحميدي دليلاً آخر للطعن في أناس من الأنصار ، لا لبيان مورد نزول الآية ، كما توهّم الخصم ، وإن كان نزولها فيهم أو فيما يعمهم غير بعيد.

ودعوى الفضل اتفاق المفسرين على نزولها في ذي الخويصرة ، كاذبة ، فإن مفسّريهم اختلفوا ، كما في «الكشاف» وغيره في أنها نزلت بالمؤلّفة قلوبهم ، أو بأبي الجواظ ، أو بذي الخويصرة ((1)) .

كما أن قوله : « تابوا واستغفروا ، فقبل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كذب أيضاً ، إذ لم يذكر ذلك في الحديث، فإنّه رواه البخاري في باب غزوة الطائف من كتاب المغازي، ولم يذكر فيه توبتهم واعتذارهم وقبول عذرهم ((2)) .

نعم ، ذكر فيه اعتذار فقهاء الأنصار ، لا أولئك القائلين ، قال : قال فقهاء الأنصار أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئاً ، وأمّا ناس منا حديثةً أسنانهم ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، يعطي قريشاً ويتركنا ، وسيوفنا تقطرمن دمائهم .

ص: 147


1- الكشاف 2 / 196 - 197 ، تفسير الماوردي 373/2 ، وقال أيضاً: «نزلت في ثعلبة بن حاطب » ، تفسير البغوي 254/2 - 255 ، تفسير الرازي 16 / 100 ، تفسير القرطبي 106/8 ، وذكر الحديث أيضاً أحمد في مسنده 56/3 ، وقال : «جاء ابن أبي الخويصرة .... الحديث وص 65.
2- صحيح البخاري 317/5 - 318 ح 330 - 331.

فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: «فإني أعطى رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال ، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم ...

قالو یا رسول الله ! قد رضينا .

فقال لهم النبي صلی الله علیه و اله و سلم: ستجدون إثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله ، فإني على الحوض».

قال أنس : فلم يصبروا ((1)) .

ورواه البخاري أيضاً : في آخر كتاب الجهاد ((2)) ، وقال فيه أنس : «فلم نصبر» ((3)).

ورواه مسلم من طريقين في كتاب الزكاة ((4))وذكر في أحدهما «إنّ أنساً قال : فلم نصبر»((5)).

وروى مسلم - أيضاً - في المحل المذكور والبخاري في باب غزوة الطائف حديثاً آخر عن أنس ، يدلّ على إنكار أكابر الأنصار وصغارهم ،على قسمة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ويدل على سكوتهم وعدم اعتذارهم.(6)

فيكشف ذلك عن تمحل الحديث الأوّل في التخصيص بالصغار، وإثبات اعتذار الكبار .

ص: 148


1- صحيح البخاري 318/5 مقطع من ح 331 .
2- في باب ما كان النبي صلی الله علیه و اله و سلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه منه قدس سرة.
3- صحيح البخاري 202/4 - 203 ذیل ح54.
4- في إعطاء المؤلفة قلوبهم ص288ج1.منه قدس سرة.
5- صحیح مسلم 105/3 - 106 .
6- صحیح مسلم 3 / 105 - 106 ، صحيح البخاري 319/5 ح323.

قال أنس : «لما كان يوم حنين ، أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم، بنعمهم وذراريهم ، ومع النبي عشرة آلاف ومن الطلقاء ، فأدبروا حتى بقي وحده» ... إلى أن قال : « فانهزم المشركون ، فأصاب يومئذ غنائم كثيرة ، فقسم في المهاجرين والطلقاء ، ولم يعط الأنصار شيئاً ، فقالت الأنصار : إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا .

فبلغه ذلك ، فجمعهم في قبة فقال : يا معشر الأنصار ! ما حديث بلغني عنكم ؟! فسكتوا .

فقال : يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تحوزونه إلى بيوتكم ؟ قالوا : بلى ...»((1))

الحديث.

بل جاء عندهم حديث آخر يصرح باعترافهم بقولهم ، ولزومهم جانب الشدّة في إنكار القسمة على النبي صلی الله علیه و اله و سلم من دون حياء وتوبة ، وهو متعلق ظاهراً بقسمة حنين أيضاً.

رواه مسلم في المحل المذكور، والبخاري في باب مناقب الأنصار كلاهما عن أنس ، قال :

«لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش ، فقالت الأنصار : إن هذا لهو العجب !!! إن سيوفنا تقطر من دمائهم ، وإن غنائمنا تردّ عليهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فجمعهم فقال : ما الذي بلغني عنكم ...؟ قالوا : هو الذي بلغك ، قال : أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم

ص: 149


1- صحيح البخاري 320/5 ح 336 ،صحيح مسلم 106/3 مسلم 106/3 - 107 وفيه اختلاف في بعض الفاظه.

وترجعون برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...» ((1)) ؟ ! الحديث.

وهو كالذي قبله شامل لمطلق الأنصار ، بل هما ظاهران جداً في إرادة الكبار ، لأنّهم هم الذين يجمعهم النبي صلی الله علیه و اله و سلم ويخاطبهم .

فقد ظهر أن الأنصار مطلقاً طعنوا برسول الله في قسمته، وهو أكبر طعن بهم .

كما يستفاد من هذه الأخبار أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم الأعلى قريشاً ، مهاجرهم وطليقهم من غنائم حنين، فيكون المهاجرون منهم كالطلقاء في التأليف ، وهو من أدلّ الأمور على سوء حالهم .

كما دلّت هذه الأخبار على استثثارهم على الأنصار ظلماً ، وهو طعن بهم - أيضاً - من وجه آخر ، وهو أكبر من الطعن بالأنصار بعدم الصبر وعدم امتثال أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهم بالصبر ، وتخصيص الفضل لقول أنس لم نصبر ببعض الأنصار ، تحكّم بحت ، كما أن قوله : «لأنهم صبروا على

الإثرة» ، تخرص على الغيب في قبال إقرار أنس .

هذا ، وقد غضبت الأنصار مع قريش على النبي صلی الله علیه و اله و سلم في قسمة أخرى تتعلق بما بعثه إليه علي علیه السلام من اليمن ، فإنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم قسمة بین أربعة : الأقرع بن حابس ((2)).

ص: 150


1- صحيح البخاري 108/5 مقطع من ح 266 و 318 ح332،صحیح مسلم 106/3 باب اعطاء المؤلفة قولبهم على الإسلام.
2- الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد التميمي المجاشعى الدارمي : وقيل : اسم الأقرع بن حابس فراس ، قيل له : الأقرع ؛ لقرع كان برأسه ، وفد على النبي ، وشهد فتح مكة وحنيناً والطائف، وهو من المؤلفة قلوبهم ، وقيل : قتل في معركة اليرموك في عشرة من بنيه .انظر : 101/1 : الاصابة 101/1 رقم 231 ، الاستيعاب 103/1 رقم 69 ، أسد الغابة 128/1.

وعيينة بن بدر ((1)) ، وزيد الطائي ((2)) ، وعلقمة بن علاثة ((3)).

فغضبت قريش والأنصار ، وقالوا : يعطي صناديد أهل نجد ويَدَعُنا ، فاعتذر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأنه يتألفهم ، كما رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ((4))

ص: 151


1- عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري : يكنى أبا مالك ، يقال : كان اسمه حذيفة ، ولُقب عيينة ؛ لأنّه كان أصابته شجّة فجحظت عيناه ، أسلم بعد الفتح ، وقيل : قبل الفتح ، وشهدها ، وشهد حنيناً ، والطائف ، كان ممن ارتد في عهد أبي بكر ، ومال إلى طلحة فبايعه، وهو من المؤلفة قلوبهم .انظر : الاصابة 767/4 رقم 6155 ، الاستيعاب 2055/3 ، اسد الغابة 31/4رقم 4160.
2- زيد الطائي : هو زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي ، المعروف بزيد الخيل وكان يكنى بأبي مكنف ، قدم على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في وفد طيئ ، وأسلم ، وسمّاه رسول الله زيد الخير ، وقال له: «ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصفة ، غيرك، وأقطع له أرضيين في ناحيته. وكان شاعراً خطيباً لسناً ، شجاعاً كريماً ، وكان بينه وبين كعب بن زهير مهاجاة ، لأن كعباً اتهمه بأخذ فرس له ، وهو من المؤلفة قلوبهم. فخرج راجعاً فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم:«إن ينج زيد من حمّى المدينة فإنّه غالب». فأصابته الحمى بماء يقال له قردة ، فمات بها ، وقيل : أقام بقردة ثلاثة أيام ومات. :آنطر الاصابة 622/2 رقم 2943 ، الاستيعاب 559/2 رقم 862 ، أسد الغابة149/2رقم 1877.
3- علقمة بن علاثة بن عوف العامري الهلالي : كان من أشراف بني عامر بن صعصعة ، وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان سيّداً في قومه ، حليماً عاقلاً .ولما عاد النبي صلی الله علیه و اله و سلم من الطائف ارتد ولحق بالشام وعاد وأسلم من جديد وحسن إسلامه، واستعمله على حوران، فمات بها، وهو صحاب المناظرة المشهورة مع ابن عمه عامر بن الطفيل أنظر : الاستيعاب 583/3 رقم 1848 ، أسد الغابة 583/3 رقم 3772.
4- في باب قول الله تعالى : (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قومي اعبدوا الله) . منه قدس سرة.صحيح البخاري 273/4 - 274 ضمن ح 146.

وأحمد في مسنده ((1)) عن أبي سعيد ، ومسلم في كتاب الزكاة ((2)) ، لكنه قال :

«فغضبت قریش» ، ولم يذكر الأنصار .

ص: 152


1- ص : 58 ج 3 . منه قدس سرة، مسند أحمد 68/3 و 73.
2- في باب ذكر الخوارج وصفاتهم وهو بعد الباب السابق . منه قدس سرة.صحیح مسلم 110/3.

قال المصنّف - رفع الله درجته ((1)) :

وروى مسلم في الصحيح في حديث عن عائشة عن قصّة الإفك قالت : قام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول .

قالت : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على المنبر : يا معشر المسلمين ! ... من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي ، فوالله ، ما علمت على أهلى إلا خيراً ، ولقد ذكر رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.

فقام سعد بن معاذ ، فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ! إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج ، أمرتنا فقبلنا أمرك .

قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج - وكا رجلاً صالحاً ،ولكن احتملته الحمية .

فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله.

فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلنه ؛ فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يَعِظُهُم حتى سكتوا وسكت» ((2)).

فلينظر العاقل المقلّد في هذه الأحاديث المتفق على صحتها عندهم ،

ص: 153


1- نهج الحق : 319 .
2- صحیح مسلم 115/8 - 116 .

كيف بلغوا الغاية في تقبيح ذكر الأنصار وفضائحهم ، ورداءة صحبتهم لنبيهم في حياته وقلة احترامهم له ، وترك الموافقة ؟ ! وكيف أحوجه الأمر إلى قطع الخطبة ، ومنعوه ، ومنعوه من التألم من المنافق عبد الله بن أبي بن سلول، ولم يتمكن من الانتصاف من رجل واحد، حيث كان لهم غرض فاسد في منعه ، وخالفوه واختلفوا عليه، واقتصر على الإمساك ؟ ! فكيف يكون حال

ص: 154

وقال الفضل ((1)):

ما ذكره من مجادلة الأنصار ، فسببه أنّهم كانوا قومين قبل هجرة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وكان بينهم جدال عظيم حتى أنه وقع بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، منها حرب البعاث المشهور ((2))، فلما جمعهم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تركوا ما كانوا عليه من المنازعة والجدال وتألفوا برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وقد كان يبدر ((3)) عنهم آثار أعمال الجاهلية العصبية المكنونة في الضمائر ، والبشر لا يخلو من هذا .

ولكن كانوا متسارعين إلى أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وهذا الرجل المتعصب لا يذكر محاسنهم ومساعيهم ، وما بذلوا في سبيل الله والأنفس ، وما أثنى الله عليهم في كتابه ، ويذكر هفواتهم ، في القليلة ، وما ذكره لا يوجب أن يتركوا نص رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعد وفاته ، مع أن النص يكون مقيداً لهم في دفع بيعة أبي بكر.

ص: 155


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 619(حجري ) .
2- حرب البعاث : وهي آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج .أنظر : الكامل في التاريخ 538/1.
3- البادرة : ما يبدر من حدّتك في الغضب بلغت الغاية في الاسراع من قول وفعل وقيل : هي الغضبة السريعة.أنظر : الصحاح 587/2 ، لسان العرب 340/1 و 341 ، تاج العروس 63/6مادة ( بدر ) .

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

نحن لا ندعي أن مجادلتهم كانت بلا سبب ، بل نقول : إن حميتهم الجاهلية لم تبطل ولم يحصل لهم الكمال المطلوب ، والطاعة الحقيقية الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وإن تألّفوا به وأطاعوه فيما لا ينافي مقاصدهم، ولذا جرى منهم هذا الأمر الشنيع ، وصغروا عظيم مقامه.

وأعظم منه منه في هتك حرمته ، ما رواه البخاري في أوّل كتاب الصلح أنس ، قال : «قيل للنبي صلی الله علیه و اله و سلم: لو أتيت عبدالله بن أبي ، فانطلق إليه النبی صلی الله علیه و اله و سلم،وركب حماراً ، فانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه النبی صلی الله علیه و اله و سلم قال : إليك عني ، والله لقد آذاني نَتْنُ حمارك .

فقال رجل من الأنصار : والله ، لحمار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنّها نزلت :

«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» ((1)) ((2)).

ورواه مسلم في كتاب الجهاد ((3)) .

فأنت ترى طائفة من المسلمين قد انتصروا لابن أبي - و - وهو كافر قد أساء الأدب مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على طائفة أخرى من المسلمين غضبوا

ص: 156


1- سورة الحجرات 49: 9.
2- صحيح البخاري 19/4ح2.
3- في باب دعاء النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلى الله وصبره على أذى المنافقين . منه قدس سرة.مسلم 183/5.

لرسول الله - وهو حاضر بينهم - فكيف بهم بعد موته ؟!

وأعظم من ذلك أضعافاً مضاعفة تصغيرهم لأمر النبي ، واستهزاؤهم على حكم الله تعالى لما أمرهم بالإحلال في حجّة الوداع ، فقالوا : يروح أحدنا إلى ( منى ) وذكره يقطر منيّاً ، كما سبق في مطاعن عمر في بعض أخبار متعة الحجّ ((1)) .

وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق لا تحصى ، وقد غضب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من عدم امتثالهم أمره ، ودخل على عائشة وهو غضبان ، فرأت الغضب في وجهه ، فقالت : من أغضبك ، أغضبه الله ؟ قال : ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع »((2))، كما رواه أحمد في مسنده.(3)

ومثله في تصغير أمره بأوحش وجه نسبتهم الهجر إليه في مرضه ومخالفة أمر الكتاب حتى وقع الناس ، وانغمسوا بالضلال بسببهم(4).

وكم مقام لهم عصوه فيه ، وأغضبوه لأجله وأساؤوا صحبته فيه !

وكم أمر صنعه هو بنفسه الشريفة، وتنزّهوا عنه مريدين به إظهار الفضل عليه !

ص: 157


1- راجع الجزء السابع الصفحة 277 - 278
2- انظر : صحيح البخاري 19/3 ح 362 و ص : 382 - 383 ح 21 ، صحیح مسلم 37/4 ، سنن أبي داود 2 / 161 ح 1789 ، سنن ابن ماجة 2 / 992 - 993 ح 2980 ، سنن النسائي 5/ 178 ، مسند أحمد 305/3 و 317 و 366 ، مسند ابی يعلى 412/3 ح 1897 ، المعجم الكبير 122/7 - 127 ح 6569 - 6584 - 6584 ، صحيح ابن خزيمة 165/4 - 166 ح 2606 ، مسند أبي عوانة 333/2 3327 وص 342 ح 3363 و 3364 ، صحيح ابن حبان 6/ 90 ح 3910 و ص 90 ح 3913 ، مستدرك الحاكم 1 / 647 ح 1742 ، سنن البيهقي 19/5.
3- ص : 286 ج 4 . منه قدس سرة.
4- راجع الجزء الرابع الصفحة 93 من هذا الكتاب.

روى البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وكتاب الأدب عن عائشة قالت : صنع النبي صلی الله علیه و اله و سلم شيئاً ، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فخطب ، فحمد الله ، ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! فوالله ، إنّي أعلمهم بالله وأشدّهم له خشية ((1)) .

وروى مسلم نحوه من طرق في كتاب الفضائل ((2)) قالت عائشة في بعضها : فغضب حتى بان الغضب في وجهه ((3)).

إلى غير ذلك من أحوالهم الردية، وأفعالهم الخبيثة ، وأقوالهم السيئة التي أجروها مع سيد النبيين في حياته وجاهاً له .

فكيف يستبعد منهم تصغير مقام أمير المؤمنين ، ومخالفة نص النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليه بعده ؟ !.

وكيف يستبعد من قريش التظاهر على إمامهم ، وعنده أوتارهم الكثيرة ، والعهد قريب ، والجرح لما يندمل ، مع الحسد لفضله ، وطلب الدنيا ، وسابق العداوة لبني هاشم التي تضاعفت بحروب النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهم ، واستيلاء سلطانه عليهم قهراً ، وكون الكثير منهم من المؤلفة ؟ !

فائدة :

قصة نزول الآية في أمر الإفك على عائشة إنما كانت من حديثها ، وعندي فيها إشكال ، إذ لو صحت ؛ لرواها الكثير ؛ لتعلّقها بنزول الآية ، وكونها بأهل النبي وابنة الخليفة بعده ، المعظمة لديهم ، وصدور الشكاية من

ص: 158


1- صحيح البخاري 47/8 - 48 و 9 / 172.
2- في باب علمه وشدّة خشيته صلی الله علیه و اله و سلم،منه قدس سرة.
3- صحیح مسلم 90/7.

رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم - وهو يخطب على المنبر - ووقوع الخلاف بين الأوس والخزرج ، حتى كادوا أن يقتتلوا .

فلو كان لذلك أصل لنقله الكثير ، وما اختصت بنقله عائشة.

والأقرب أن الآية نزلت في شأن الإفك من عائشة على (مارية) ، حتّى قالت : إن ابراهيم ليس من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وظاهرتها حفصة وأبواهما .

كما يشهد له ما في «الدر المنثور» في تفسير سورة التحريم عن ابن مردويه عن أنس ، قال : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أنزل أُمّ إبراهيم منزل أبي أيوب ، قالت عائشة : فدخل النبي صلی الله علیه و اله و سلم بيتها يوماً، فوجد خلوة فأصابها فحملت بإبراهيم .

قالت عائشة : فلما استبان حملها فزعت من ذلك ، فمكث رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حتى ولدت، فلم يكن لأمه لبن فاشترى له ضائنة يغذي منها الصبي ، فصلح عليه جسمه ، وحسن لحمه ، وصفا لونه .

فجاء به يوماً يحمله على عنقه ، فقال : يا عائشة ! كيف ترين الشبه ؟

فقلت : أنا غيرى ما أدري شبهاً .

فقال : ولا باللحم ؟

فقلت : لعمري ، لَمَنْ تغذى بألبان الضأن ليحسُنُ لحمه .

قال : فجزعت عائشة وحفصة ، فحرمها ، وأسر إليها سراً فأفشته إلى عائشة ، فنزلت آية التحريم ، فأعتق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم الرقبة ((1)) .

ونقل في كنز العمال عن الطبراني أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : «ألا أخبرك يا عمر ! إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ الله عزّ وجلّ قد برأ ماريّة

ص: 159


1- الدرّ المثور 215/8.

وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها منّي غلاماً ، وأنه أشبه الخلق بي ، وأمرني أن أسميه إبراهيم ...» ((1))الحديث.

فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إنما خص عمر بالخطاب ، لأنّ له شأناً مارية ، ولما أراد النبي صلی الله علیه و اله و سلم إظهار براءة مارية وجداناً ، أمر عليّاً علیه السلام بضرب عنق من اتهموه بها ، فجاءه علي علیه السلام إلى الدار ، فلما رآه عرف في وجهه العطب ((2)) ، فصعد نخلة ، فرآه على علیه السلام مجبوباً ، فكف عنه وأخبر النبي صلی الله علیه و اله و سلم ((3)).

وروى مسلم في آخر كتاب التوبة : أن علياً علیه السلام أخرجه من ركيّ يتبرّد بها ، فإذا هو مجبوب((4)).

ولو لا علم النبي صلی الله علیه و اله و سلم ببراءته ، وإرادته كشف الحال عياناً مع علمه بأنّه يسلم من علي علیه السلام - لما أمر بقتله بمجرد التهمة بالضرورة .

فيا سبحان الله ما أكبر كيدهم ، الذي اضطر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يفعل ذلك.

ص: 160


1- كنز العمّال 471/11 ح32216.
2- العطب : الهلاك . لسان العرب 265/9 .
3- مستدرك الحاكم 41/4 - 42 ح 6821 ، الاستيعاب 4/ 1912 ، تفسير علي بن إبراهيم 75/2 .
4- صحیح مسلم 119/8

قال المصنّف - أعلى الله منزلته- ((1)) :

وروى الحميدي في مسند أبي هريرة في «صحيح مسلم» : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لما فتح مكة وقتل جماعة من أهلها ، فجاء أبو سفيان بن الحارث بن هاشم ، فقال : يا رسول الله ! أبيدت خضراء قريش ، فلا قريش بعد اليوم .

فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .

فقالت الأنصار بعضهم لبعض : أمّا الرجل فأدركته رغبة في تربته ورأفة بعشيرته .

وفي رواية أخرى : فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته ((2)).

فلينظر العاقل هل يجوز أو يحسن من الأنصار مثل هذا القول في حق النبي صلی الله علیه و اله و سلم؟!

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة ، من المتفق عليه : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال لها : يا عائشة ! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - وفي رواية : حديثو عهد بكفر ، وفي رواية : حديثو عهد بشرك وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم ، فأدخلت فيه ما أخرج منه ولزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ؛ باباً شرقياً ؛ وباباً غربياً، فبلغت به

ص: 161


1- نهج الحق : 320
2- الجمع بين الصحيحين 318/3 - 320 ح 2769 ، وأنظر : صحیح مسلم 171/5 -173.

أساس إبراهيم(1).

فانظر - أيها المنصف - كيف يروون في صحاح أحاديثهم أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يتقي قوم عائشة - وهم من أعيان المهاجرين والصحابة -من أن يواطئهم في هدم الكعبة ، وإصلاح بنائها ؟ !

فكيف لا يحصل الاختلال بعده في أهل بيته الذين قتلوا آباءهم وأقاربهم ؟

ص: 162


1- الجمع بين الصحيحين 42/4 - 46 ح 3162 ، وأنظر البخاري 72/1 ح 67 و ج286/2-287ح 175 ح 175 - 178 ، صحیح مسلم 97/4 - 100 ، سنن الترمذي224/13 - 225 875 ، سنن ابن ماجة 2 / 985 ح 2955 ، سنن النسائي 214/5 -216، سنن الدارمي 38/2 - 39 ح 1869 و 1870 ، مسند أحمد 179/6 و 239 ، مصنف عبد الرزاق 104/5 ح 6 9106 و ص 131 ح 131 ح 9157 ، صحیح ابن خزيمة 336/4 - 337 ح 3020 - 3022 ، صحيح ابن حبان 47/6 ابن حبّان 47/6 - 48 ح 3804-3807.

وقال الفضل ((1)):

ما ذكر من قول الأنصار : إن الرجل أدركته رغبة في قومه ، فهذا كان من غاية شدّتهم في الدين، وكانوا يحبّون أن يقتلوا الكفرة المتمردين ، وأيضاً كانوا يخافون من أن يرغب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في الإقامة بمكة ، ويترك المدينة ، ولهذا دعاهم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وقال لهم : المحيا محياكم والممات مماتكم .

ثمّ إنّ الكريم من تُعدّ هفواته.

وأما ما ذكر من حديث عائشه فإنّه يدلّ على أن هذا الرجل أعجمي ،لا يعرف عرف كلام العرب أصلاً ، فإنّ المراد من خطاب عائشة في الحديث : وأن قومها حديثو عهد بكفر : ليس بني تيم ، بل المراد : قريش كلهم .

ومن عادة المتكلم أن ينسب القوم إلى المخاطب ، إذا كانوا من قومه . والرجل حسب أنّ المراد بني تيم وجعله من المطاعن ، وهذا باطل صريح يفهمه كلّ من يعرف العرف ، وإنّما كف رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عن تغيير بناء الكعبة ؛ لحداثة عهد قريش ،بالإسلام، وكان مظنة الارتداد ، كما ألف قلوبهم بنفل الغنائم ، والغرض أنّه لم يرد به قوم عائشة ؛ وهم بنو تيم، فإنّهم لم يكونوا ذلك اليوم من الأعيان في قريش ، ولم يُرِدْ به أبا بكر وطلحة ، كما لا يخفى .

ص: 163


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 620 ( حجري ) .

وأقول :

المضحك اعتذاره عنهم بشدّتهم في الدين ، فإنّ الشدّة فيه إنما تكون باتباع أمر الله ورسوله ، والتسليم لهما في كل ما يقولان ويفعلان ، لا بالتنديد برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، والاستخفاف بشأنه.

وكل عاقل إذا سمع مثل كلامهم لا يفهم منه إلا الطعن بالنبي ، والتوهين لمقامه ؛ بأنّ عمله ناشئ عن الميل إلى قومه، لا عن أمر الله تعالى ، كما يشهد لإرادتهم الاستخفاف بشأنه، تعبيرهم عنه : بالرجل ،لا بأوصافه الجليلة.

كما عبر الخصم عن المصنف رحمه الله في هذا المقام وغيره بالرجل استخفافاً به، به ، للإشارة إلى أنّه من سائر الرجال ، ولا مزية له على غيره .

وهذا في الحقيقة من أكبر منافيات الدين ، إن لم يدخل في قسم الكفر برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، على أن الاعتذار عنهم بالشدة في المقام شهادة عليهم بالنقصان ، فإنّ هذه الشدّة مع تأمين النبي صلی الله علیه و اله و سلم لمن دخل دار أبي سفيان ، ومن ألقى سلاحه ، لا تكون إلا ممّن يرى نفسه أشدّ من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في الدين ، ويجهل وجه الحكمة في فعله صلی الله علیه و اله و سلم، وهل الدين إلا الإيمان بالله ورسوله والتسليم والرضا بفعلهما ؟ ! ومما ذكرنا يعلم ما في

العذر بالخوف من أن يرغب النبي صلی الله علیه و اله و سلم في الإقامه بمكة ، فإن خوفهم لا يسوّغ لهم ذلك الكلام السَّيِّئ والطعن والاستخفاف بنبيهم صلی الله علیه و اله و سلم، وكلامنا.

فیه.

وأما قوله : « والكريم من تُعدّ هفواته» ، ففيه :

ص: 164

إنّها كيف تُعدّ وقد وصل إلينا منها أكثر الكثير ؟! فكيف بما لم يصل ؟! حتّى عرفنا أحوالهم ومعارفهم ، وأن الإسلام لم يغيّرهم تمام التغيير ، وهو ليس بغريب ممّن ألفوا العوائد الجاهلية ، ونشأوا على الأخلاق الردية والأعمال الوحشية .

ولو سلّم أنّها معدودةٌ ، فمثل هذه الهفوات أدلّ شيء على نقصان إيمانهم ، وزيادة جهلهم ، وجرأتهم على مقام النبوة ، فلا يمكن أن يكونوا محلاً لحسن الرأي بهم ، وأهلاً للثناء عليهم بالفضل والصلاح ، بل يكونون من أقرب الناس إلى الخلاف والارتداد على أدبارهم القهقرى ، خصوصاً بعد مفارقة النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهم ، وانتقاله إلى عالم الكرامة ، كما خاطبهم سبحانه بذلك بقوله :«أفإن مات أو قتل انقلبتم ...» ((1)) .

ثمّ إنّ هذا الحديث قد رواه مسلم في باب فتح مكة من كتاب الجهاد ((2))

وأما ما فهمه الفضل من كلام المصنف رحمه الله من إرادة بني تيم من قوم عائشة : فجهل ظاهر ؛ إذ لم يُرِدْ المصنف رحمه الله بهم إلا قريشاً ، ولا ينافيه قوله : وهم من أعيان المهاجرين والصحابة ، فإن قريشاً بعض من كل منهما ، لا جميعهما .

وكيف يفهم المصنف رحمه الله من قوم عائشة بني تيم ، ويحكم بأنهم من الأعيان ، وهو يعرف منازلهم ، ولا حاجة له إلى تكلّف دعوى إرادتهم ، فإنّها أخفٌ طعناً في الصحابة من إرادة مطلق قريش التي يقتضيها ظاهر الحديث ؟ !

ص: 165


1- سورة آل عمران 3 : 144
2- صحیح مسلم 170/5 - 172.

فإذا خاف النبي صلی الله علیه و اله و سلم على قريش الانقلاب لتغيير الكعبة ، فكيف لا يحصل لهم الانقلاب بمخالفة خليفته ودفعه عن مقامه ، وقد عادَوْهُ مِنْ قَبْلُ ، وحسدوا مقامه ، ولهم عنده الترات ((1)) الكثيرة والزمان قريب ، وقد أمكنتهم الفرصة ؟ ! !

ص: 166


1- الثّرات : جمع التَّرَةِ ؛ وهي ؛ وهي الثأر .

قال المصنف - طاب ثراه -((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة عن عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الحادي عشر من إفراد مسلم ، قال : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم ، أي قوم أنتم ؟

قال عبد الرحمن بن عوف : نكون كما أمرنا الله.

فقال رسول الله : أو غير ذلك تتنافسون ، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون ، ثم تتباغضون ، وفي رواية : ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض ((2)) .

وهذا ذم منه صلی الله علیه و اله و سلم لأصحابه.

ص: 167


1- نهج الحق : 321.
2- الجمع بين الصحيحين 446/3 ح 2960 ، صحیح مسلم 212/8 - 213 .

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

هذا نصيحة وتنبيه، وإرشاد إلى عدم التنافس والتحاسد والتباغض

عند إقبال الدنيا عليهم ، وليس من شأن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يذم أصحابه.

فقد ثبت في «الصحاح» : أن عمر قال لرسول الله ، دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي بن سلول - حين ظهر نفاقه - فقال : لا ... لا يقال إنّ محمداً يقتل أصحابه ((2)) .

والغرض أنه صلی الله علیه و اله و سلم كان مشفقاً مرشداً ، لا معنفاً ذاماً ، كما يدعيه ابن المطهر .

ص: 168


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 622 ( حجري ) .
2- راجع : صحيح البخاري 21/5 ح 30 و ج 2712/29 ح 399، صحیح مسلم 19/8 ، سنن الترمذي 5/ 390 ح 3315 ، مسند أحمد 393/3، مصنف عبد الرزاق 469/9 ح18041 ، مسند الحميدي 2/ 520 ح 1239 .

وأقول :

لا أدري من أين يفهم الإرشاد ، وقول رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: « أو غير صريح في الرد على عبد الرحمن إذ قال : نكون كما أمرنا.

وأما قوله : وليس من شأن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يذم أصحابه ، فتمويه وجهل ، فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إنما قصد الإخبار على خلاف ما زعمه عبد الرحمن ، وإن كان لازمه الدم ، على أنه صلی الله علیه و اله و سلم أولى الناس بدم من يستحق الذم ؛ ردعاً له وتنبيهاً للناس على حاله ، إذا خيف من تعظيمه والاقتداء به ، وكم الله ورسوله ذمّاً للصحابة ، كما سبق ويأتي .

وأما ما ذكره من حديث عمر ، فلا ربط له بالمقام ، فإنّه إنما يدلّ على كفّه عن قتل منافقي أصحابه حذراً من تشنيع أعدائه وتوهين ،أمره ، وهذا مخصوص بالقتل لمجرّد مخالفته والنفاق معه.

وأما القتل فما دونه حداً وتعزيراً ودفعاً للفساد ، فلا، لأنه لا محلّ للتشنيع فيه عليه ، بل التشنيع في تركه ، والوهن في الرأي والمجتمع والدين بخلافه .

ص: 169

قال المصنّف - قدّس سرّه ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين في مسند المسيب بن حزن بن أبي وهب ، من إفراد البخاري : إن سعيد بن المسيب حدّث أن جده حزناً قدم على النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : ما اسمك ؟

قال : اسمي حزن .

قال : بل أنت سهل .

قال : ما أنا بمغيّر اسماً سمّانيه أبي .

وفي رواية : قلت : لا أغيّر اسماً سمّانيه أبي .

قال ابن المسيب : فما زالت فينا الحزونة بعد(2).

وهذه مخالفة ظاهرة من الصحابي للنبي صلی الله علیه و اله و سلم فيما لا يضره ، بل فيما ينفعه ، فكيف لا يخالفونه بعد فيما ينفعهم ؟ .

ص: 170


1- نهج الحق : 321 .
2- الجمع بين الصحيحين 391/3 ح 2877 ، وانظر : صحيح البخاري 78/8ح 211وص 79 ح 215.

وقال الفضل ((1)) :

مخالفة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فيما يأمر وينهى من أمور الشريعة حرام و فسق.

وأما ما يتعلق بأمثال هذا ، فلا يوجب حرمة ، ألا ترى أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال لبريرة حين في رجعتها مغيث : ألا تراجعيه ؟

فقالت : أتأمرني بهذا ؟

قال : إنّما أشفع.

قالت : لا حاجة لي فيه ((2)).

فَعْلِم من هذا أن الشفاعة ، وتغيير الاسم ، وأمثال هذا لا توجب مخالفته قدحاً ، وهذا لا يصير دليلاً وبرهاناً على أن الصحابة خالفوا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وتركوا نصه بعده ، كما لا يخفى .

ص: 171


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 622 ( حجري ) .
2- سنن ابن ماجة 1 : 2075/671.

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

هذا الحديث رواه البخاري على نحو ورقتين من آخر كتاب الأدب في باب اسم حزن ، وباب بعده ، باللفظين الذين ذكرهما المصنف رحمه الله ((1)) و هو دال على العجرفة الشديدة، وقلّة المبالاة برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والردّ عليه ، ولذا بقيت فيهم الحزونة.

ولا ريب أنّ من يصدر منه مثل ذلك فيما لا يضره ، بل ينفعه ، لا يستبعد منه المخالفة فيما يراه نفعاً وإن كان حراماً .

وأما مسألة بريرة ، فإنّ كانت من هذا الباب، كان الطعن وارداً أيضاً ، وإلا فذكرها خطأ ، وواضح أن بريرة كانت في سؤالها على جانب كبير من الأدب والورع لا تقاس بحزن ، إذ استفهمت أنّه إن كان الطلب من نوع الأمر فهي تمتثله مُرغمة ، وإن كان من نوع الشفاعة حفظ اختيارها ، فهي لا تطيق الرجوع إلى مغيث ، فإنّها كانت أمة تحت مغيث فأعتقت ، وخيّرها النبی صلی الله علیه و اله و سلم، فاختارت نفسها ، وكانت تبغض مغيثاً، حتّى قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم للعباس : ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً ، كما رواه البخاري في كتاب الطلاق(2).

على أنه يمكن أن تعذر عرفاً في امتناعها من مراجعة مغيث ، لشدة بغضها ،له ، لا سيما وهي امرأة لا تجد نفسها محلاً للعتب.

ص: 172


1- راجع الصفحة 165 هامش 2 من هذا الجزء.
2- في باب شفاعة النبي صلی الله علیه و اله و سلم في زوج بريرة ، منه رحمه الله ، صحيح البخاري 85/7ح 28.

وأما حزن ، فقد كان من أشراف قريش ومن المهاجرين ، كما في «الاستيعاب » ((1)) ، ولم يقل له النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلا ما ينفعه، ويستحسنه كلّ سامع ، فكيف تقاس إحدى المسألتين بالأخرى ؟

ص: 173


1- الاستيعاب 401/1 رقم 560.

قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين من المتفق عليه من مسند أبي هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، لقد هممتُ أن آمر بحطب فيحطب ، ثم أمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم أمر رجلاً يوم الناس ، ثمّ أخالف إلى رجال فأُحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده ، لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً ((2)) سميناً وخبزاً براً لشهد العشاء » ((3)) .

وهذا ذم من النبي صلی الله علیه و اله و سلم الجماعة من أصحابه حيث لم يحضروا الصلاة جماعة معه .

ص: 174


1- نهج الحق : 321 .
2- العَرْق : العظم الذي أخذ أكثر لحمه ، وجمعه عُراق .انظر : لسان العرب 162/9 - 163 مادة «عرق ».
3- الجمع بين الصحيحين 150/3 ح 2371 ، وأنظر : صحيح البخاري 262/1 ح40 ، صحیح مسلم 123/2.

وقال الفضل ((1)) :

هذا تهديد واحتساب وتوعيد على ترك الصلاة للمتكاسلين ، والناس لا تخلو من الكسل ، وربما قال هذا في جماعة من المنافقين ، لا أنه ذكر هذا على سبيل التعنيف والإيذاء ، بل قصد إرشادهم إلى الجماعة ، كما دأب أرباب الاحتساب ، والمرشد قد يوعد ويهدد ، ولا يقصد الذم ، والله اعلم.

ص: 175


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 623 ( حجري ) .

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

قد روى البخاري هذا الحديث في كتاب الأذان ((1)) ، ومسلم في كتاب الصلاة ((2)) ، وهو مشتمل على أمرين: التهديد وهو واضح، والذم وهو أوضح ، إذ لا أدل عليه من قوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم أحدهم أنّه يجد عَرْقاً الله سميناً ... إلى آخره ، بل ذلك التهديد يستلزم الذمّ أيضاً ، إذ لا يحسن مثله على مالا ذمّ عليه.

وأما قوله : « وربّما كان هذا في جماعة ، فغير بعيد ، لما رواه مسلم في المقام المذكور عن أبي هريرة ، قال : «إنّ أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء ، وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم أمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم أنطلق برجال معهم حُزَمُ الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» ((3)).

وروی نحوه البخاري (4)في في كتاب كتاب الأذان .

وروى مسلم أيضاً ((5)) عن عبد الله ، قال : لقد رأيتنا وما يتخلف عن

ص: 176


1- في باب وجوب صلاة الجماعة . منه رحمه الله.
2- في باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها . منه رحمه الله.
3- صحیح مسلم 123/2
4- في باب فضل صلاة العشاء في الجماعة ، منه رحمه الله، صحيح البخاري 265/1 -266 ح 49.
5- في باب صلاة الجماعة من سنن الهدى . منه رحمه الله.

الصلاة إلا منافق أو مريض ((1)).

وفي رواية أخرى : ما يتخلف عنها إلا منافق ((2)).

لكن على هذا يلزم إثبات النفاق لأكثر الصحابة ، فيكون أضرّ على الخصم .

روى أحمد في مسنده ((3)) عن أبي هريرة قال : «أخر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم صلاة العشاء حتى تهوّر الليل ((4)) ، فذهب ثلثه أو قرابته ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس عزون ((5)) ، وإذا هم قليل ، قال : فغضب غضباً ما أعلم أنّي رأيته غضب غضباً قط أشدّ منه ، ثم قال : لو أنّ رجلاً دعا الناس إلى عَرْق أو مَرْماتين ((6)) أتوه لذلك ولم يتخلّفوا ، و وهم يتخلفون عن هذه الصلاة ، لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ، وأتبع هذه الدور التي تخلّف أهلوها عن هذه، فأضرمها عليهم بالنيران ((7)).

وروى أيضاً ((8)) عن أسامة بن زيد حديثاً قال فيه : إن رسول الله

ص: 177


1- صحیح مسلم 124/2.
2- صحيح مسلم 124/2.
3- ص: 537 2. منه قدس سرة.
4- تهوّر الليل : أي ذهب أكثره ، وقيل : ولّى أكثره وانكسر ظلامه .انظر : لسان العرب 158/15 مادة «هور» .
5- العزون : جمع العِزَّةِ ؛ وهي العصبة أو الفرقة من الناس لسان العرب 196/9 مادة «عزا» .
6- المرماتان : تثنية المرماة ظلف الشاة. وقيل ما بين ظلفيها ، وتكسر ميمه وتفتح ،ويفسّر بما بين ظلفي الشاة ، ويريد به حقارته أنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 269/2 - 270 مادة «رمي» ، تاج العروس 476/19 مادّة ( رمي ).
7- مسند أحمد 537/2.
8- ص : 206 ج 5 . منه قدس سرة.

صلی الله علیه و اله و سلم كان يصلي الظهر بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان من الناس ، والناس في قائلتهم وتجارتهم ، فأنزل الله تعالى:«حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين» ((1)) فقال رسول صلی الله علیه و اله و سلم:«لينتهُنّ رجال أو لأحرقن بيوتهم»((2)).

وروى أحمد أيضاً ((3)) عن بن كعب قال : صلى بنا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم صلاة الفجر ، فلما قضى الصلاة رأى من أهل المسجد قلّة ، فقال :«إنّه ليس من صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء الآخرة ، ومن صلاة الفجر».

إلى غيرها من الأخبار الدالّة على تخلّف أكثر الصحابة عن الجماعة ، فيلزم أن يكون أكثرهم من أهل النفاق، وهو أضرّ بمذهب الخصم .

وليت شعري ، إذا تخلّفوا عن الجماعة تكاسلاً وطلباً للراحة ، ولم يواسوا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وما اعتنوا بغضبه ، وفوات الثواب الجزيل ، فهل يستبعد منهم التخلّف عن أمير المؤمنين ؛ طلباً للجاه العريض الطويل ؛ ونيل المال الكثير ؛ وحسداً لولي الأمر ؛ وطلباً للثأر منه ؛ ووفاقاً لأكابرهم؟ !!

ص: 178


1- سورة البقرة 2 : 238.
2- مسند أحمد 206/5.
3- ص : 141 منه قدس سرة.

قال المصنّف - أعلى الله مقامه ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند حذيفة بن اليمان عن زيد بن زيد ، قال : كنا عند حذيفة، فقال رجل : لو أدركت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قاتلت معه فابليت.

فقال حذيفة ، أنت كنت تفعل ذلك ؟! لقد رأيتنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ليلة الأحزاب ، وأخدتنا ريح شديدة وقرّ .

فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم ؟ جعله الله معي يوم القيامة ، فسكتنا فلم يجبه منا أحدٌ ، ثمّ قال : ألا رجل يأتيني

بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ، فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، ثمّ قال : ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ، فسكتنا فلم منا أحد ، فقال : قم يا حذيفة ! فأتنا بخبر القوم ، ولا تذعرهم

على ((2)).

فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام ، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس ، فأردت أن أرميه ، فذكرت قول رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: لا تدعرهم علي ، ولو رميته لأصبته ، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام ، فلما أتيته فأخبرته بخبر

ص: 179


1- نهج الحق : 322.
2- لا تاعرهم على : أي لا تفرعهم يريد لا تعلمهم بنفسك ، وامش بخيفة لئلا ينفرو منك تاج العروس 438/6 مادة « ذعر ».

القوم وفرغت قُررت ((1)) ، فالبسني رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من فضل عباءة كانت عليه يصلّي فيها ، فلم أزل نائماً حتى أصبحت ... قال : قم یا نومان ((2))((3)).

وهذا يدلّ على التهاون في أمره ، والإعراض عن مطالبه ، وقلة القبول منه ، وترك المراقبة الله تعالى ، وإيثارهم الحياة على لقاء الله تعالى ، فكيف يستبعد منهم المخالفة بعد موته ؟ !

ص: 180


1- قُرَ الرجلُ : أصابه القرُّ ؛ وهو البرد.
2- یا نومان : أي الكثير النوم ، وقال الجوهري : هو مختص بالنداء ، فلا يقال : رجلٌ نومان تاج العروس 7 / 710 مادّة «نوم».
3- ورد الحديث في صحيح مسلم 177/5 - 178.

وقال الفضل ((1)) :

الإنسان عند الشدائد البدنية قد يضطرب حاله ، ولا يطيق مقاساتها ويتغيّر حاله ، والبشر لا يخلو من هذه الأشياء ، وإنّما ذكر حذيفة هذه الحكاية ؛ لئلا يغتر الناس بإسلامهم ، ولا يتمنوا الشدائد ، وأمثال هذا لا يعده المؤمن المنصف من المطاعن في الذين بذلوا نفوسهم وأموالهم في سبيل الله تعالى ، سيّما حذيفة ، فإنّه صاحب سر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.

والشيعة أيضاً يعدّونه من خواص الأصحاب ، ومن مارس الشدائد والحروب ، يعلم أنّ أمثال هذا قد يعرض الإنسان عند شدة الأمر، وهذا لا دليلاً على مخالفتهم نص رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعد وفاته.

ص: 181


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 624 ( حجري ) .

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

نعم ، قد يضطرب حال الإنسان عند الشدائد ، ولكن كامل الإيمان لا يبالي بها في جنب الله تعالى ، وفي جنب تعهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأن يكون معه القيامة ، الذي هو من نوادر الفوائد ، التي يتنافس عليها بالنفس والنفيس ، ولا تعرض إلا اتفاقاً، ولا سيّما قد كرر النبي صلی الله علیه و اله و سلم الطلب والتعهد ، فمن لا يغتنم ذلك الأمر العظيم الفذ ، لا يكون إلا ناقص الفضل والمعرفة .

فالصحابة ليسوا إلا من سائر البشر ، لا يستبعد في حقهم ما يصح على غيرهم ، فلا غرابة في إنكارهم نص الغدير للأغراض البشرية ، ولاشك أن من يرغب عن ذلك الثواب الجسيم طلباً للراحة ، ويترك طاعة الرسول إيثاراً للعاجلة ، أحق بأن يرغب في ملاذ الدنيا التي لا ينالها مع من يقسم بالسوية ، ويستوي عنده الشريف والوضيع ، ولا يعصي الله طرفة عين .

وأما ما ذكره من أن حذيفة عندنا من الخواص ، فصحيح ((1)) ، لكن الكمال يأتي تدريجاً ، ولأجل علم النبي صلی الله علیه و اله و سلم بفضله على الحاضرين من الصحابة حينئذ ، وبأنّه يصير بعد من الخواص ، خصه وميزه بعنايته .

ص: 182


1- انظر : رجال الكشي 32/1 - 34 ح 13 ، الاختصاص : 5 - 6 .

قال المصنّف - زيد شرفه- ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين من إفراد البخاري من مسند ابن عمر ، قال : بعث رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا .

فجعل خالد يقتل ويأسر ، ويدفع إلى كل واحد منا أسيراً ، حتى إذا كان يوم أمرنا خالد أن يقتل كل واحد منا أسيره .

فقلت : والله ، لا أقتل أسيري ، ولا يقتل واحد من أصحابي أسيره ، حتى قدمنا على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فذكرنا له ، فرفع يديه وقال :«اللهم ! إنّى أبرأ إليك ممّا صنع خالد» مرتين.(2)

ولو كان مافعله خالد صواباً لم يتبرأ الرسول منه ، وإذا كان خالد قد خالفه في حياته وخانه في أمره ، فكيف به وبغيره بعده ؟!

ص: 183


1- نهج الحق : 322 .
2- الجمع بين الصحيحين 2/ 270 ح 1413 ، وأنظر : صحيح البخاري 321/5 ح339وص133/9ح 49 .

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

قَتْلُ خالد لتلك الجماعة باجتهاد أنّهم كفار ولم يسلموا ، فلما علم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حالهم وحكم بإسلامهم ، تبين خطأ خالد ، وهذا لا المخالفة أصلاً ، لأن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم ينهه عن قتلهم ، فقتلهم خالد ، وهذا لا يوجب مخالفته أصلاً ، كما لا يخفى .

ص: 184


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 624(حجري ) .

وأقول :

روى البخاري هذ الحديث في كتاب المغازي ((1)) وكتاب الأحكام ((2)) . ولا مساغ فيه لحمل خالد على الاجتهاد ، ضرورة أن المطلوب حقيقة الإسلام بلا دخل لخصوصية اللفظ.

فلو أسلم شخص باللغة الهندية أو غيرها لصح إسلامه ، كإسلام الأخرس بالإشارة .

ولذا امتنع ابن عمر وأصحابه من قتل أسراهم ، وبرأ النبي صلی الله علیه و اله و سلم من فعله ، ولو كان فعله عن اجتهاد ، لكان معذوراً فيه ، بل مثاباً عليه ، وإن كان مخطئاً ، فلا يجوز تهجين أمره ، والبراءة من فعله.

ولو سلّم أن المورد محل اجتهاد ، فما على خالد لو احتاط في دمائهم المخالفة ابن عمر وصحبه ، إلى

يرجع إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم أو يراجعه ؟ !

ولكن كيف يؤخّر قتلهم وهو يطلبهم بإحنة الجاهلية ، وما قتلهم إلا لأجلها ،فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إنما أرسله إليهم داعياً لا مقاتلاً .

روى الطبري في تأريخه في حوادث سنة ثمان من الهجرة ((3)) : «أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم- بعث - حين افتتح مكة - خالد بن الوليد داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب، فلما نزلوا على الغميصاء - وهي ماء من

ص: 185


1- في باب بعث النبي صلی الله علیه و اله و سلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة . منه قدس سرة.
2- في باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد . منه قدس سرة، وراجع الصفحة 177 من هذا الجزء .
3- ص : 123 ج 3 . منه قدس سرة.

مياه بني جذيمة - وكان بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف ، والفاكه بن المغيرة .... إلى أن قال : «فلما رأه القوم أخذوا السلاح ، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح ، فإنّ الناس قد أسلموا .

ثمّ روي أنّهم لما وضعوه أمر بهم خالد فكتفوا ، ثمّ عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم رفع يديه إلى السماء ثم قال : « اللهم ! إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد.»

ثم دعا عليّ بن أبي طالب ، فقال : يا عليّ ! اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم ... فخرج حتى جاءهم ومعه مال قد بعثه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم به ، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال ، حتى أنّه لَيَدِي مِبْلَغَةَ ((1)) الكلب ، ثم ذكر أنّه أعطاهم احتياطاً بقية ما معه من المال».

وقال : ثم رجع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فأخبره فقال : أصبت وأحسنت ، ثمّ قام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فاستقبل القبلة قائماً ، شاهراً يديه حتى إنه ليرى بياض ماتحت منكبيه، وهو يقول « اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد » ثلاث مرات ((2)).

ثمّ روى الطبري أنّه كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فی ذلك ، فقال له : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام.

فقال : إنما ثارت بأبيك.

فقال عبد الرحمن : كذبت ، قد قتلت - أنا - قاتل أبي ، ولكنك إنّما

ص: 186


1-
2- تاريخ الطبري 164/2 مقاطع من الواقعة حوادث سنة 8ه.

ثارت بعمّك الفاكه بن المغيرة» ((1)) الحديث.

و روى ذلك كله ابن الأثير في كامله ((2))وهو كما ترى مشتمل على تصريح عبد الرحمن ، وإقرار خالد بأنه قتلهم للثأر .

كما أن صدر الخبر مصرّح بأنّه إنما بعث داعياً لا مقاتلاً ، فأين الاجتهاد الذي زعمه أنصار خالد ؟! وقد جاءت أخبارنا - أيضاً - بذلك وأنّ بني جذيمة امتنعوا من وضع السلاح ، معتذرين بأنّا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية ، فآمنهم ثمّ قتلهم ، وقد أراد السُنّة إصلاح أمر خالد فوضعوا حديث البخاري ونحوه ، وقد اتضح لك أنّه - أيضاً - غير نافعهم .

وهل يصلح العطّار ما أفسد الدهر ((3)) ؟

وإنما لم يقتل النبي صلی الله علیه و اله و سلم خالداً بمن قتلهم من المسلمين ، لقبول أهلهم الديات أو لئلا يقال : إنّه يقتل أصحابه، فيحصل في أمره وهن ، أو لادعاء خالد الشبهة لقوله - كما ذكره الطبري، وابن الأثير - : إن عبد الله بن حذافة أمرني بذلك عن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، أو لما ذكره ابن عمر من قالوا : صبأنا ، وإن لم يكن للشبه حقيقة عندنا .

ولذا برىء النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلى الله تعالى من فعله ، كما أن براءته صلی الله علیه و اله و سلم من صنع خالد دون ابن حذافة دليل على كذب خالد في عذره ، أو كذب من أرادوا إصلاح حاله ، والله العالم .

ص: 187


1- تاريخ الطبري 2 / 164 - 165 حوادث سنة 8 ه.
2- ص : 123ج2 . منه قدس سرة، الكامل في التاريخ 128/2.
3- عجز بيت من الطويل ، وصدره : وارحت إلى العطار تبغي شبابها.

قال المصنّف - رفع الله درجته- ((1)) :

وروى أحمد بن حنبل في مسنده من عدة طرق : «إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلما بلغ ذا الحليفة دعا عليّاً علیه السلام، فقال : أدرك أبا بكر ، فحيث لحقته ، فخذ الكتاب منه ، واذهب به إلى أهل مكة واقرأه عليهم ، قال : فلحقته بالجحفة ، فأخذت الكتاب منه ، فرجع أبو بكر إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : يا رسول الله نزل في شيء ؟ قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني ، فقال : لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك» ((2)).

ونحوه روى البخاري في صحيحه ((3)).

وفي الجمع بين الصحاح الستة عن أبي داود والترمذي عن عبد الله ابن عباس : « أنّ النبي دعا أبا بكر ، وأمره أن ينادي في الموسم ببراءة ، ثمّ أردفه علياً ، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله العضباء ، فقام أبو بكر فزعاً، وظنّ أنه حدث أمر ، فدفع إليه علي كتاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فيه : إن علياً ينادي بهؤلاء الكلمات ، فإنّه لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي».

فانطلقا فقام عليّ أيّام التشريق ينادي : ذمّة الله ورسوله بريّة من كلّ مشرك ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يَحُنّ بعد العام مشرك ، ولا

ص: 188


1- نهج الحق : 323.
2- مسند أحمد 3/1 و 151 و ج 212/3 ومواضع أخر .
3- صحيح البخاري 123/6 - 124 ح 176 - 177.

يطوف بالبيت بعد اليوم عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة »((1)).

ورواه الثعلبي في تفسير براءة .

وروى فيه : «إن أبا بكر رجع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقال : نزل في شيء ؟ قال : لا ، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني»((2)).

فمن لا يصلح لأداء آيات يسيرة يبلغها، كيف يستحق التعظيم المفرط في الغاية، وتقديمه على من عزله ، وكان هو المؤدّي ؟ !

ولكن صدق الله العظيم:«إنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»((3)).

فلينظر العاقل في هذه القصة، ويعلم أن الله تعالى لو لم يرد إظهار فضيلة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، وأن أبا بكر ينبغي أن يتابعه ، لما ردّه عن طريقه بعد خروجه من المدينة على أعين الخلائق ، وكان يمنعه من الخروج في أوّل الحال ، بحيث لا يعلم أحد انحطاط مرتبته ، لكن لم يأمره بالردّ إلا بعد تورّطه في المسير أياماً ؛ لأنه سبق في علمه تعالى تقصير أكثر بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ففعل في هذه القضية ما فعل ؛ ليكون حجّة له تعالى عليهم يوم العرض بين يديه .

ص: 189


1- جامع الأصول - لابن الأثير - 8/ 660 ح 6509 عن الجمع بين الصحاح السنّة.وانظر : سنن الترمذي 257/5ح3091.
2- تفسير الثعلبي 8/5 .
3- سورة الحج 22 : 46 .

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

قد ذكر هذا الرجل المكرّر هذا الكلام مرّة بعد أخرى ، وقد أجبناه في ما سبق ((2)) ، ومن الغرائب أنّ هذا الرجل يدعى أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم رد أبا بكر من تلك السفرة ، وعزله من إمارة الحجّ ، وهذا من غاية جهله بالأخبار ، فإن من المتواتر - كوجود أبي بكر وعمر ، ووجود الكعبة والحج أن أبا بكر حجّ بالناس في سنة تسع ، ولا ينكره إلا من كان حديث العهد بالإسلام ، أو مجادل جاهل مثل ابن المطهر، ثمّ يرتب عليه أنه يريد أن يبايع أبو بكر عليّاً .

فيا معشر المسلمين ! هذا يستفاد من أي شيء ؟

أيستفاد من إرداف علي بقراءة سورة براءة ، ولم يتحقق غير هذا، وقد ذكرنا أن هذا الإرداف كان لنبذ العهود مع الكفّار، وقد كان دأب من العرب أن لا يتولّى نبذ العهد إلا صاحب العهد ، أو أحد قومه ، وهل في هذا مظنّة إرادة البيعة ؟ ! بل لأهل السنة والجماعة أن يعكسوا الكلام ويقولوا : إنّما بعث عليّاً خلف أبا بكر ليحضر معه الحج ، ويقتدي به في الأعمال ، لأن أبا بكر كان أمير الحاج ، ويقرأ سورة البراءة المتضمنة لتبليغ القيام بمقام الوصية ، ليعلم الناس أنّ أبا بكر خليفة ، وأن علياً هو الوصي .

ص: 190


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 625 ( حجري ) .
2- راجع 58/6 - 59 من هذا الكتاب .

وأقول :

إنّما ذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث ؛ أوّلاً لبيان فضل علي علیه السلام وإمامته ؛ وذكره ثانياً للطعن في أبي بكر ، وذكره هنا للطعن فيمن قدموه ، مع علمهم بعدم صلوحه للقيام مقام النبي صلی الله علیه و اله و سلم في هذا الأمر الخاص السهل ، فكيف يصلح للقيام مقامه بالزعامة العامة العظمى ؟ !

وأما ما زعمه من تواتر حجّ أبي بكر في الناس ، فظاهر الكذب ، لما استفاض في أخبارهم - فضلاً عن أخبارنا - من رجوع أبي بكر عند وصول على إليه ، وإشفاقه من نزول شيء فيه .

وقد ذكر المصنف رحمه الله هنا بعضها ، ومرّ كثير منها في الحديث السادس الدال على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام((1)) ، فإنّ رجوعه وإشفاقه دليل على عزله بالكلية ، ولو بقي أميراً للحاج، لما كان وجه لإشفاقه ؛ لأن علياً علیه السلام- بزعمهم - تحت إمرته ، ولم يبعث معه إلا لنبذ العهد الذي تقضي به به عادة العرب .

وأمّا نداؤه لمعشر المسلمين ، فها نحن أولاء معشر الشيعة - ونحن أفضلهم - نجيبه : بأنّ إرادة النبي لمتابعة أبي بكر لعلي علیه السلام كما عبر به المصنف رحمه الله أو مبايعته له كما عبّر به الخصم ، مستفادة من عزله بعلي بما هو من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وبعضه بوحي من الله أنه لا يؤدّي عنه إلا هو أو رجل منه ، فإنّه إذا كان هذا الأمر اليسير من خواص النبي صلی الله علیه و اله و سلم ومن هو بمنزلة

ص: 191


1- راجع 57/6 من هذا الكتاب

بعضه ، فالزعامة العظمى أولى ، وإذا اختصت الزعامة بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعلي ، وجب على أبي بكر وغيره متابعته ومبايعته .

وأيضاً إذا كان علي من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، كان أحق بمنصبه وأفضل من أبي بكر وغيره ، فتلزمهم متابعته ومبايعته، وليس المراد بكونه منه : مجرد قرب النسب ، إذ كم قريب منه لا يصدق عرفاً أنّه منه ؛ البعده عنه بالكفر ، أو الفسق ، أو الجهل ، فلا بد أن يراد به : قرب الفضل والمنزلة خاصة ، أو مع النسب ، فيتم المطلوب .

ولذا ورد في كثير من أخبارهم تعبير النبي صلی الله علیه و اله و سلم بما يخص علياعلبه السلام، قال صلی الله علیه و اله و سلم:« على مني وأنا من عليّ ، ولا يؤدّي عني إلا أنا أو عليّ »((1)) كما سبق نقلها في الحديث السادس(2).

وأما قوله : « ولم يتحقق غير هذا» ، ففيه :

ما عرفت من تحقق عوده بأخبارهم التي هي حجّة عليهم، فيعزل قهراً عن إمارة الحجّ ، لو سلّم ثبوتها له أوّلاً ، وما يخالفها من أخبارهم ليس حجة علينا ، بل وعليهم، لما عرفت من حال رجالهم ، مع أنّهم محلّ التهمة في المقام .

وأما قوله : وقد كان من دأب العرب»، ففيه :

« ما عرفت - أيضاً - من أنه كذب على العرب، وإلا لما خالفه النبي صلی الله علیه و اله و سلم أولاً ، ولما خفي على أصحابه ، ولما أشفق أبو بكر من عزله حتى بكي ، ولما أجابه النبي صلی الله علیه و اله و سلم بأنه من الوحي ، من دون إشارة إلى العادة ،

ص: 192


1- مسند أحمد 164/4 - 165 ، سنن ابن ماجة 44/1 ح 119 ، سنن الترمذي594/5ح3719، سنن النسائي الكبرى 128/5 - 129 ح 8459 - 8463 .
2- راجع 62/6من هذا الكتاب.

ولا طلع أهل السير على هذه العاده ، فهل بقيت مستورة عن الناس إلى أن أخبر بها الخصم ؟

فالحق أن نصب أبي بكر أوّلاً وعزله ثانياً ، كله بأمر الله تعالى ووحيه ، ليعرف الناس قولاً وفعلاً فضل علي علیه السلام، وانحطاط منزلة أبي بكر عن تولّي مثل ذلك ، فكيف بالإمامة ؟ ولو أرسل عليا علیه السلام من أول الأمر، لم یتبین ذلک.

وأما ما ذكره من العكس فمبني على بقاء أبي بكر على إمرة الحاج ، وقد عرفت بطلانه ((1)) ، بل مبني - أيضاً - على عدم عزله بما يقضي بوصية على علیه السلام، كما أقرّ بقضائه بها الخصم ، فإنّه إذا قضى بها دلّ على أفضلية عليّ ، والأفضل أحق بالإمامة ، بل معنى الوصي هو الإمام ، كما عرفته من،بعض أحاديث الوصية وغيرها .

ص: 193


1- راجع 61/6 وما بعدها من هذا الكتاب.

قال المصنّف - رحمة الله عليه -((1)) :

وكذلك في قصة خيبر ، فإنّهم رووا في صحيح أخبارهم : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أعطى أبا بكر الراية فرجع منهزماً ، ثمّ أعطاها لعمر فرجع منهزماً ، فقال صلی الله علیه و اله و سلم« لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ، ويحبّ الله ورسوله ، كرار غیر فرار »((2)).

ثمّ أعطاها لعلي علیه السلام، وقصد بذلك إظهار فضله ، وحط منزلة الآخرين ، لأنّه قد ثبت بنص القرآن العظيم أنّه : «ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»((3)) .

فوجب أن يكون دفع الراية إليهما بقول الله تعالى ، ولا شك في أنه تعالى عالم بالأشياء في الأزل، فيكون عالماً بهرب هذين، فلولا إرادة إظهار فضل عليّ ، لكان في ابتداء الأمر أوحى بتسليم الراية إليه ، ثم إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم وصفه بما وصفه ، وهو يشعر باختصاصه بتلك الأوصاف ، وكيف لا يكون ومحبة الله تعالى تدلّ على إرادة لقائه ؟! وأمير المؤمنين علیه السلام لم يفرّقاصداً بذلك لقاء ربه تعالى ، فيكون محباً له تعالى .

ص: 194


1- نهج الحق : 325 .
2- أنظر 75/6 من هذا الكتاب .
3- سورة النجم 53 : 2 و 3.

وقال الفضل ((1)) :

أما قوله : «إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قصد بذلك إظهار فضله ، وحطّ منزلة الآخرين» ، فهذا باطل ؛ لأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يقصد قط حط منزلة أحد من المسلمين ، وكلّهم كانوا من أصحابه وأمرائه ، وإرادة حط منزلة من دأب أرباب الغرض والتعصب ، وحاشاه عن ذلك ، بل في كل يوم من أيام خيبر بعث رجلاً ولم يحصل الفتح ، فبعث من فتح الله بيده ، وهو كان أمير

المؤمنين .

وأمّا ما قال : إنّه كان بأمر الله تعالى، فإنّه لا ينطق عن الهوى ، فنقول :

المراد من قوله :«ما ينطق عن الهوى»((2)): أنّه لا يتكلم بالباطل وبأمنية النفس ومتابعة الهوى ، لا أنّه لا يعمل برأيه الصائب ، فإن كل ما عمل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من تدبير أمور الحرب لم يكن من قبل هواه ونفسه ، بل برأيه الصائب المستنبط من كلام الله تعالى ومن أوامره .

فالظاهر أنه صلی الله علیه و اله و سلم عمل هذا برأيه في الحروب ؛ لأنّ تدبيرات الحروب تتعلق بالرأي ، وإن سلّمنا أنّه من أمر الله تعالى ، فلا يلزم منه إرادة حط منزلة الشيخين ، ورفعة منزلة علي علیه السلام لا تستلزم حطهما ، وأمثال هذه الاستدلالات على مطلوبه أوهن من بيت العنكبوت .

ص: 195


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 627 ( حجري ) .
2- سورة النجم 53 : 2 .

ردّ الشيخ المظفر

وأقول :

لا وجه لإنكار قصد النبي صلی الله علیه و اله و سلم حط منزلة أحد من المسلمين ، والحال أنّه قد تتعلّق به المصلحة ، بل ما زال يحط منازل بعض عن بعض بالتأمير، وتفضيل المطيعين على العصاة وذوي الفضل على غيرهم، وبنحو قوله صلی الله علیه و اله و سلم: « على سيّد المسلمين»((1)) و «فاطمة سيدة نساء العالمين»((2)) و «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة » ((3))..

ص: 196


1- المستدرك على الصحيحين 148/3 ح 4668 ، حلية الأولياء 63/1 و 66 ،الرياض النضرة 3/ 138 ، كنز العمال 11 / 619 و 620 ح 33009 - 33011.
2- مصنف بن أبي شيبة 527/7 ح 5 وص 530 ح ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 52/9 ح 6912 ، كنز العمال 110/12 130 ح 34335 ، وقال في صحيح مسلم 143/7 - 144«... سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة ...»الحديث وذكر الحديث بصيغة أخرى وهو : «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة».انظر : صحيح البخاري 54/5 - 55 وزاد فيه أو نساء المؤمنين الحديث ، ذيل ح126ص91،سنن الترمذي 619/5ح3781،مسند أحمد 64/3وج391/5، مصنف ابن أبي شيبة 526/5 - 527 ح 2 و 3 ، مسند أبي يعلى 395/2ح 1169 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 52/9 ح 6913 ، مجمع الزوائد 201/9 ، الجامع الصغير : 232 ح 38223 وص 292 ح 4769 ، كنز العمال 19/12/2 ح 34224 وص 110 ح34260 وص 117 117 ح 34274.وذكر في تفسير آية«إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين»سورة آل عمران 3 : 42 ، أنها سيدة نساء العالمين انظر : كتاب التسهيل 106/1 ،فتح القدير 340/1 ، الدر المنثور193/2 - 194 .
3- سنن الترمذي 641/5ح3768وص619ح3781،، مسند أحمد 3/3وص62 وص 64 وص 82 وج 391/5 ، الخصائص للنسائي : 99 ح 124 و 125 و 104 - 105 ح 135 - 137 ، مسند أبي يعلى 395/2 اح 1169 ، مصنف ابن أبي شيبة512/7 ح2 و 3 ، المعجم الكبير 35/3 -40 ح 2598 ، المعجم الأوسط 1 / 174 و 175ح368وج 3/ 908 ح 211 وج 20/4 - 4332 ، تاریخ بغداد 138/1 و 140 وج 4 / 207 وج 372/6 - 373 ح ،وج 231/9 وج 90/11 ، مجمع الزوائد 182/9 183 و 201 ، مصابيح السنة 193/4ح4827وص196ح4835.

فلا معنى لزعمه أن ذلك دأب أرباب التعصب ، فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذا أراد بحط منزلة الشيخين إرشاد الناس إلى عدم صلوحهما للإمامة ، لجبنهما، وارتكابهما أكبر الذنوب بالفرار من الزحف ، وتوهين الإسلام، كان من أقرب الأمور إلى السداد وأصحها للأُمّة ، والتعصب لا يحصل إلا

فيما يكون هضماً للحق وحيفاً على الحقيقة .

وأما ما ذكره من معنى الآية ، وعدم دلالتها على أن فعل النبي صلی الله علیه و اله و سلم بوحی الله تعالى، فغيرُ متجه ، لأنّ مقصود المصنف بالاستدلال هو قوله تعالى :«إن هو إلا وحي يوحى»((1)) لا مجرد قوله:«وما ينطق عن الهوى»((2)).

وأنت تعلم أن مقتضى الحصر في الآية أنه لا ينطق عن رأي واجتهاد ، لأنهما غير الوحي، فيكون تقديم النبي صلی الله علیه و اله و سلم لهما بوحي الله تعالى ، فإذا أوحى إليه به - مع علمه سبحانه بانهزامهما - وأن الفتح على يد علي علیه السلام لزم أن يكون تعالى مريداً بذلك إظهار فضل عليّ، وحط منزلة الرجلين ، وإلا كان أمره تعالى بتقديمهما عبثاً .

ثمّ من حكمته سبحانه أنّه لم يقدمهما إلا بعدما أرمد علياً علیه السلام؛ لئلا

ص: 197


1- سورة النجم 53: 3 .
2- سورة النجم 53 : 2 .

يكون عليه بتقديمهما بأس ، حيث إنّه التحق بهم ، ولو سلم أن تقديمهما برأي النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فهو أفضل الناس رأياً وأكملهم عقلاً ، فكيف يقدّمهما علی علی علیه السلام مع علمه بشجاعته وجبنهما وقدرته على شفائه ؟ ! وعلمه أن الفتح على يده ، كما أخبر به قبل وقوعه ؟! فلا بد أن يكون قاصداً بذلك إظهار فضل علي علیه السلام وحط منزلتهما ، والإعلام بعدم صلوحهما للإمامة .

ثمّ إنّ الفضل قد أغفل ما ذكره المصنف رحمه الله من إشعار الحديث بانحصار تلك الأوصاف بأمير المؤمنين علیه السلام، إذ لا حيلة له في الجواب إن كان من المنصفين .

والظاهر : أن تعبير المصنف رحمه الله بالإشعار مسامحة مع الخصوم، وإلا فهو من أصرح الأمور بالتعريض بهما بعد فرارهما ، وأن تلك الأوصاف ليست من صفاتهما ، كما أوضحناه في الحديث العاشر من الأحاديث الدالة على إمامة أمير المؤمنين ((1)).

ص: 198


1- راجع 86/6 وما بعدها من هذا الكتاب

تألّم أمير المؤمنين علیه السلام من الصحابة والشقشقية

اشارة

قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :

وقد روى ابن عبد ربه - من الجمهور - : أن أمير المؤمنين كان يتألّم من الصحابة كثيراً في عدة مواطن، وعلى رؤوس المنابر ، وقال في بعض خطبه : «عفا الله عما سلف ، سبق الرجلان ، وقام الثالث كالغراب همه بطنه ، ويله لو قص جناحه وقطع رأسه ، لكان خيراً له ، انظروا ، فإن أنكرتم فأنكروا ، وإن عرفتم فاعرفوا ... ألا إن أبرار عترتي ، وأطائب أرومتي ، أحلم الناس صغاراً ، وأعلمهم كباراً ، ألا وإنا نحن أهل البيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، من قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحقِّ ، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق ، ألا وبنا عزّة كلّ مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقهم، وبنا فتح الله وبنا ختم» ((2)).

ونقل الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري - من أهل السنة - في كتاب «معاني الأخبار» بإسناده إلى ابن عباس ، قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علیه السلام، فقال :

«والله ، لقد تقمصها أخو تَيْم وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً ،

ص: 199


1- نهج الحق : 325 .
2- العقد الفريد 119/3 مقاطع من الخطبة.

وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربِّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى إذا مضى الأوّل لسبيله أدلى بها إلى فلان بعده ، ثمّ تمثل بقول الأعشى :

شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر

عقدها لأخي عدي بعده ، فيا عجباً بين ما هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ماتشطرا ،ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء يخشن مسُّها ، ويغلظ كلمها، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فَمُني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، مع هن وهن ، فصبرت على طول المدة، وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي منهم .

فيا الله وللشورى ، متى اعترض الرَّيبُ في مع الأوّل منهم، حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن ، إلى أن قام ثالث نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ، فما راعني إلا والناس يهرعون إليَّ كعرف الضبع ، قد انثالوا علي من كل جانب ، حتّى لقد وطىء الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، حتى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، وفسقت أُخرى ، ومرق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى :«تلك الدار الآخرة نجعلها

ص: 200

للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين»((1)).

بلى والله ، لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم احلولت الدنيا بأعينهم وراقهم زيرجها .

أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظة ظالم ، ولا سعب ،مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» ((2)) .

وهذا يدلّ بصريحه على تألّم أمير المؤمنين علیه السلام، وتظلمه من هؤلاء الصحابة ، وأن المستحق للخلافة هو ، وأنّهم منعوه عنها .

ومن الممتنع ادّعاؤه الكذب ، وقد شهد الله له بالطهارة ، وإذهاب الرجس عنه ، وجعله ولياً لنا في قوله تعالى :«إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...»((3)) الآية ، وأمر النبي صلی الله علیه وسلم بالاستعانة به في دعاء المباهلة ، فوجب أن يكون محقاً في أقواله .

ص: 201


1- سورة القصص 28 : 83 .
2- معاني الأخبار : 361 - 362 عن الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري ، وأنظر :علل الشرائع 181/1 - 182 ح 12 ، نهج البلاغة : 48 - 50 .
3- سورة المائدة 5 : 55 .

وقال الفضل ((1)) :

هذه الخطبة الشقشقية المعروفة المشهورة، وقد ذكرها السيد الرضي في كتاب «نهج البلاغة ، والله أعلم بهذا ، وليس لأمثال هذا حجّة في صحة من إسناد ، أو نقل من كتاب الثقات ، حتى يجعل دليلاً .

وإن فرضنا صحته ، فهو خبر آحاد ، ولا يعارض الخبر المتواتر ، أن أمير المؤمنين بايع الخلفاء طائعاً راغباً وناصحهم وشاورهم في الأمر ، ووافقهم في التدابير .

وإن سلّمنا أنّه كان مكرهاً، لأنّه كان يرى نفسه أفضل من غيره، وإمامة المفضول عندنا جائزة ((2)) ، فكان كراهته للبيعة ، لا أنّه يراهم غير مستأهلين للخلافة، وخلافة المفضول عندنا جائزة ، ولهذا بايعهم، ولمّا رأى معاوية غير أهل للخلافة حاربه ومنعه من الخلافة.

ص: 202


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 629(حجري ) .
2- راجع 233/4 - 234 من هذا الكتاب.

وأقول :

قد أغفل الفضل التعرض لجواب الخطبة الأولى ، تخفيفاً للمؤنة ، وهی قد رواها ابن عبد ربه عند ذكر خطب أمير المؤمنين علیه السلام((1)).

وما حكاه المصنف رحمه الله هو نبذة منها ، ومنها بعد قوله علیه السلام: « وإن عرفتم فاعرفوا»، قوله: «حق وباطل ولكلّ أهل ، ولأن أمر الباطل فقديماً فعل ، ولأن قل الحق فلربما ولعلّ ولقلما أدبر شيء فأقبل ، ولأن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء ، وإنّي لأخشى أن تكونوا في فترة وماعلينا إلا

الاجتهاد »((2)).

ثم ذكر بعده قوله علیه السلام:«ألا إن أبرار عترتي ...»إلى آخره .

وهذه الخطبة قد صرّحت بالطعن في عثمان بما هو معلوم من حالته من أنّه كالغراب همه بطنه ، ولوّحت إلى الطعن فيه وفيمن تقدّمه بقوله علیه السلام:« ولأن أمر الباطل فقديماً فعل وبقوله :« ولأن قل الحق فلربما ولعلّ» ؛ إذ لو كانوا على الحقِّ ، لما نسبه إلى القلّة.

ولو كان الشيخان على الحقِّ لما قال : «سبق الرجلان من دون تعرّض لمدحهما في هذا المقام .

وقد أشار إلى أنّهم ظالمون ، وأنّ الناس ارتكبوا معهم ما لا يجهلون ،بقوله : «عفا الله عما سلف».

ثمّ أشار إلى وقوع الفتن بأيّامه وعدم استقامة الحق بقوله : «ولقلما

ص: 203


1- ص : 351 ج 2 من الطبعة المقسمة إلى أربعة أجزاء منه رحمه الله.
2- العقد الفريد 119/3

أدبر شيء فأقبل»، وبقوله :«وإنّي لأخشى أن تكونوا في فترة».

وقد صدق علیه السلام، فإن الفترة قد وقعت بأعظم مما كان في السالفة ، فقامت دول الضلال بمحو آثار النبوة ، والحكم بأحكام الجاهلية ،والعمل بأعمالهم ، وصار أئمة الحق الذين أوجب رسول الله على أمته بهم في زوايا الخمول والإهمال، وهم الذين أشار إليهم أمير المؤمنين علیه السلام ووصفهم بأوصافهم الحقيقية بقوله : «ألا إن أبرار عترتي ...»إلى آخر الخطبة الأولى .

وأما الثانية ، فقد ناقش الخصم أوّلاً بصحتها ، وادعى ثانياً معارضتها ، وزعم ثالثاً عدم إفادتها الطعن بخلفائهم .

ويردّ على الأوّل : إنّ صحة الرواية إما أن تثبت بصحة السند ، أو بكثرة طرقها وشهرتها بين المخالف والمؤالف ، أو بموافقة مضمونها لما هو ثابت ، وهذه الخطبة الشقشقية إن سلّمنا أنّها لم تصح من الجهة الأولى ، فهي صحيحة من الجهتين الأخيرتين .

أما من أولاهما : فلأنها قد رواها الكثير منا ، وجماعة منهم كالحسن ابن عبد الله العسكري الذي حكاها المصنّف عنه ، وقد ترجمه في وفيات «الأعيان وكنّاه بأبي أحمد وأثنى عليه ، قال :

هو أحد الأئمة فى الآداب والحفظ ، وهو صاحب أخبار ونوادر ، وله رواية متسعة ، وله التصانيف المفيدة ... إلى أن قال : وكانت ولادته ي-وم الخميس لست عشره ليلة خلت من شوال سنة 293 ، وتوفّي يوم لسبع خلون من ذي الحجة سنة 382((1)) ، وكأبي علي الجبائي ، وأبي هلال

ص: 204


1- وفيات الأعيان 83/2 - 84 رقم 164 .

العكسري في كتاب «الأوائل» المتوفى سنة 395 على ما في كتاب «هداية الأحباب» ، وقد نقل ذلك عنهما السيّد السعيد رحمه الله ((1)).

وكابن الأثير فى «النهاية» ، حيث روى فيها بعض هذه الخطبة ، قال في مادة «خضم» في حديث علي : فقام إليه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع» ((2)).

وكالفيروزآبادي في «القاموس»، قال في مادة «شق»: والخطبة الشقشقية العلوية ، لقوله لابن عبّاس لما قال له : لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت [قال]: يا ابن عبّاس ! هيهات تلك شقشقة هدرت ثمّ

قرت» ((3)).

وقال ابن أبي الحديد ((4)) حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة 603 قال : «قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ... إلى أن قال: فقلت له : أتقول إنّها منحولة ؟ فقال : لا والله، وإنّي لأعلم أنّها كلامه ، كما أعلم أنّك مصدق».

قال : فقلت له : إن كثيراً من الناس يقولون : إنّها من كلام الرضي ، فقال : أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب ، وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقه وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خلّ ولا خمر.

ص: 205


1- راجع إحقاق الحقِّ : 629 - 63 ( حجري ) .
2- النهاية في غريب الحديث 44/2 مادة «خصم»
3- القاموس المحيط 259/3 مادة «شق ».
4- ص : 69 مجلد 1 . منه قدس سرة.

ثم قال : والله ، لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يُخلق الرضي بمئتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي .

ثم قال ابن أبي الحديد : قلت : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ، ووجدت كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة ((1)) - أحد متكلمي الإمامية - وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف»، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضى موجوداً»((2))

وأمّا صحة الخطبة من الجهه الثانية ، فلاشتمالها على التظلّم من الخلفاء الثلاثة ، وهو مستفيض في الأخبار - كما سبق - بل ادعى ابن أبي الحديد ،تواتره ولاشتمالها - أيضاً - على بيان زهده بالإمارة وكيفية البيعة له ، وخروج الناكثين والقاسطين والمارقين عليه ، إلى غير ذلك من مضامينها المعلومة المشهورة ، فما عسى أن يناقش المنصف في صحتها ، ولا سيما

ص: 206


1- ابن قبة : بكسر القاف وفتح الموحدة المخففة كعِدّة ؛ هو : أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن ابن قبة الرازي، فقيه رفيع المنزلة من متكلي الإمامية صاحب كتاب«الإنصاف » في الإمامية وذكره النجاشي وقال : متكلّم عظيم القدر ، حسن العقيدة قوي في الكلام ، كان قديماً من المعتزلة وتبصر وانتق ، له كتب في الكلام وقد سمع الحديث وأخذ عنه ابن بطة.انظر : الفهرست لابن النديم : 308 ، الكنى والألقاب 382/1.
2- شرح نهج البلاغة 205/1 - 206 .

أن مجرد رواية أحد علمائهم لها كاف في صحتها، كما عرفت وجهه في مقدّمة الكتاب ؟! وهل يليق مثلها في بلاغتها وسوقها بغير سيد الوصيين ؟ ويرد على الثاني : وهو معارضتها بما زعم تواتره أنه ليس في أخبارهم ما يدلّ على أنه بايع طائعاً راغباً - فضلاً عن تواتره - سوى النادر ، كرواية ذكرها الطبري في تأريخيه ((1)) رواها بسند واءٍ ، ومتن مُضْحِك ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : «كان عليّ في بيته إذ أتي ، فقيل له : قد جلس أبو بكر للبيعة ، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً كراهية أن يبطئ عنها ، حتى بايعه ، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلّله ولزم مجلسه ((2)).

وإنّي لأعجب من الطبري كيف يروي مثل هذا الحديث الهزلي ؟

وهو قد روى قبله أخباراً كثيرة تدلّ على أنه ما بايع إلا قهراً ، التي في بعضها - وقد أتى إلى منزل علي - : والله لأُحَرِّقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة ((3)) .

وأصح ما عندهم - بزعمهم - ما رواه البخاري في غزوة خيبر : «إنّ علياً استنكر وجوه الناس لما توفيت فاطمة ، فالتمس مصالحة أبي بكر» ((4)).

و هو- مع أن سنده لم يشتمل إلا على عدوّ لأمير المؤمنين ؛ كعروة بن الزبير وعائشة - أقرب إلى الدلالة على الخوف ، وأنه لم يبايع طائعاً راغباً ، ولو ادعى المتتبع المنصف تواتر أخبارهم - فضلاً عن أخبارنا - بأنه لم

ص: 207


1- ص : 201 ج 3 . منه قدس سرة.
2- تاريخ الطبري 236/2.
3- انظر : تاريخ الطبري 233/2 وما بعدها.
4- صحيح البخاري 288/5 ضمن ح256.

يبايع إلا قهراً ، لكان أقرب إلى الصواب .

وأما قوله : «ناصحهم وشاورهم ووافقهم في التدابير» .

فإن أراد أن ذلك لترويج إمرتهم وتصويبها ، فهو كذب ظاهر ، كيف وهو لم يزل يتظلم منهم ، وينسبهم إلى غصب حقه وأنه لولا عدم الناصر ، وأن يده جذاء ، لقاتلهم ؟ !

وإن أراد به أنه شاركهم في التدبير حفظاً لبيضة الإسلام، فقد كان ذلك عند الضرورة في أيّام عمر لما يعلم من تهوّره ، وكان يجب عليه حفظ الإسلام بقدر الإمكان ، فإنّه الإمام الحق ، ولا يمكنه الحفظ إلا بموافقتهم في الظاهر، وجعلهم آلةٌ لمقصوده ، ولو كان مشاركاً لهم رضاً بإمرتهم ، لسار كما سار مع رسول الله صلی الله علیه واله وسلم في الجهاد والنصرة ، ولجاهد معهم كما جاهد في أيام خلافته.

ويرد على الثالث : إن قوله :«كان يرى نفسه أفضل ، وإمامة المفضول عندنا جائزه ...»إلى آخره .

باطل بالضرورة ، فإنّه علیه السلام لم يكن يرى نفسه أفضل فقط ، بل كان يراهم ظالمين غير أهل للخلافة ، كيف لا ؟ وهو يقول: «فطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء»، فإنّه دال على أنّه علیه السلام يرى حربهم وهو لا يجتمع مع أهليتهم للخلافة وصحة إمامتهم ، ويقول :«أصبر على طخية عمياء»،ويقول : « أرى تراثي نهباً»، إلى غير ذلك من فقرات الخطبة الصريحة بإثبات الجور والعصيان لهم، وأنّهم غاصبون لميراث النبوة وهو الخلافة ، وهو لا يجتمع مع كون خلافتهم خلافة حقّ .

وأما ما زعمه من جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، فقد

ص: 208

عرفت في أوّل مباحث الإمامة ((1)) أنّه مخالف للعقل والنقل.«أفمن يهدي إلى الحقِّ أحق أن يتبع أم من لا يهدى إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون»((2)).

وأما قوله : « ولمّا رأى معاوية غير أهل للخلافة حاربه ومنعه من الخلافة» ، ففيه :

أولاً : إنّه إذا علم الخصوم رأي أمير المؤمنين علیه السلام- الذي يدور معه الحقِّ حيث دار - في معاوية، على وجه استباح تلك الحرب الشعواء ، عن الخلافة ، فما بالهم اتخذوه خليفة حق ويترضون عليه ؟!

أكانوا أعرف بمعاوية من أمير المؤمنين علیه السلام، أو أحق منه بمراعاة الحق ، وأتقى الله تعالى ؟!

وثانياً : إن حربه له ليس لمنعه عن الخلافة، فإن معاوية لم يدعها حينئذ ، بل لأنه يراه ضالاً مضلاً، لا يصلح أن يتخذه عضداً ووالياً عنه.

فإنّ معاوية لما علم رأيه فيه، تعلّل لمخالفته بالطلب بدم عثمان ، بعد أن كان من الخاذلين له - كما سبق - فحاربه أمير المؤمنين لضلاله وبغيه بأمر الله ورسوله صلی الله علیه واله وسلم حيث عهد إليه أن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ((3)).

وثالثاً : إن محاربة أمير المؤمنين علیه السلام لمعاوية دون المشايخ الثلاثة لا تدل على صحة خلافتهم ، للفرق بوجود الناصر له على مغاوية دونهم ، كما هو ظاهر .

ص: 209


1- راجع 235/4 وما بعدها من هذا الكتاب.
2- سورة يونس 35/10.
3- راجع 437/7 هامش 1 من هذا الكتاب.

ردّ الشيخ المظفر

قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :

وروي أنه اتصل به أنّ الناس قالوا : ما باله لم ينازع أبا بكر و عمر وعثمان ، كما نازع طلحة والزبير ؟

فخرج مرتدياً ، ثمّ نادى بالصلاة جامعة ، فلمّا اجتمع أصحابه ، قام خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : يا معشر الناس ! بلغني أن قوماً قالوا : ما باله لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان ، كما نازع طلحة والزبير وعائشة ، وإن لي في سبعة أنبياء أسوة .

فأولهم نوح، قال الله تعالى مخبراً عنه :«إنّي مغلوب فانتصر»((2)).

فإن قلتم : ما كان مغلوباً كذبتم القرآن ، وإن كان ذلك كذلك ، فعليّ أعذر.

والثاني إبراهيم خليل الرحمن، حيث يقول :«وأعتزلكم وما تدعون من دون الله»((3)).

فإن قلتم : إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم، وإن قلتم : رأى مكروهاً منهم فاعتزلهم ، فالوصي أعذر.

والثالث ابن خالته لوط إذ قال لقومه :«لو أنّ لى بكم قوة»((4))

فإن قلتم إنّه لم يكن له بهم قوة فاعتزلهم ، فالوصي أعذر.

ص: 210


1- نهج الحق : 328.
2- سورة القمر 54 : 10.
3- سورة مريم 19: 48.
4- سورة هود 11 : 80.

ويوسف إذ قال :«ربّ السجن أحبّ إلى ممّا يدعونني إليه»(1).

فإن قلتم : إنّه دُعي إلى ما يسخط الله عزّ وجلّ فاختار السجن ،فالوصى أعذر.

وموسى بن عمران إذ يقول :«ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين»((2))

فإن قلتم : إنه فرّ منهم خوفاً ، فالوصي أعذر.

وهارون إذ قال : «يا ابن أمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بی الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين»((3)).

فإن قلتم : إنّهم استضعفوه وأشرفوا على قتله، فالوصي أعذر .

ومحمد صلی الله علیه و اله و سلم لما هرب إلى الغار ، .

فإن قلتم : إنّه هرب من غير خوف أخافوه ، فقد كذبتم .

وإن قلتم : إنّهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب، فالوصي أعذر .

فقال الناس جميعاً : صدق أمير المؤمنين ((4)).

ص: 211


1- سورة يوسف 12 : 33 .
2- سورة الأعراف 7 : 150 .
3- سورة الأعراف 7 : 150.
4- أنظر : علل الشرائع 178/1 - 179 ، الاحتجاج 446/1 - 448 ، مناقب ابن شهرآشوب 331/1.

وقال الفضل ((1)) :

هذا النقل ممّا لا إسناد له ، ولا علامة لصحته ، بل هو مخالف للواقع لأنّ أمير المؤمنين لم يكن مستضعفاً ، ولا عاجزاً ، لأن قواد بني عبد مناف كانوا معه وكان فاطمة في علوّ منصبها في بيته ، وإنّهم يدعون أن فاطمة كانت مغضبة على أبي بكر ، فلِمَ لم تأمره بالخروج عليه ويساعده الأنصار الذين نازعوا أبا بكر في خلافته، سيما سعد بن عبادة فإنّه لم يبايع أبا بكر ؟ !

فالقول : بأن أمير المؤمنين كان ضعيفاً غير مسلّم ، ولاشك في أن أبا بكر كان أضعف منه ، ولكنّ الروافض حسبوا أنّهم ملوك يتنافسون في الملك ، حاشاهم عن ذلك .

ص: 212


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 631 ( حجري ) .

وأقول :

في مغلوبيّة أمير المؤمنين علیه السلام كهؤلاء النبيين الأكرمين علیهم السلام، ولا شاهد أكبر من الوجدان ، وإنكار الخصم أحد مكابراتهم التي ما قام لهم مذهب إلا بها ، كيف وقد أقرّ هو في كلامه الآتي بأنّه ما من بطن من بطون قريش إلا ولهم عليه ،دم ، وأنّ الضغائن كانت في صدورهم عليه؟!

وأما قوله : إن قوّاد بني عبد مناف كانوا معه ، فالظاهر أنه يريد بهم ما يشمل بني أمية ، وأنت تعلم أن أجلهم عثمان كان أحد أعضاد القوم ، وأن أبا سفيان كان منافقاً لا فائدة بنصره ، فقد طلب في أوّل الأمر بيعة أمير المؤمنين ؛ استحقاراً لأبي بكر ، ولما رشوه بما معه من الصدقات وبتولية ابنه يزيد صار عوناً لهم، ومن أشياعهم ، كما سبق((1)).

وأما بنو هاشم ، فأعظمهم العباس وعقيل ، فهما عاجزان عن مقابلة جماهير قريش .

وأما قوله : كان فاطمة في علوّ منصبها في بيته ، فمن الغرائب ، لأنّ علوّ منصبها لم يردعهم عن غصب حقها من الأموال القليلة ، فكيف يجلب قوة لأمير المؤمنين علیه السلام يبلغ بها السلطان ؟ !

وأي علوّ منصب أبْقَوْهُ لها وقد هجموا عليها دارها ، وهموا بإحراق بيتها بمن فيه(2)؟ !

ص: 213


1- راجع 284/4 من هذا الكتاب.
2- راجع 114/7 - 115 و ص 128 وما بعدها من هذا الكتاب.

وأعجب من ذلك قوله : وإنّهم يدعون أن فاطمة كانت مغضبة على أبي بكر ، فإنّ هذا ليس دعوى مجردة منا ، فقد صرّحت به صحاح أخبارهم كرواية البخاري في باب فرض الخمس من كتاب الجهاد ، قال : غضبت ،فهجرت أبا بكر ولم تزل مهاجرته حتى توفيت((1)) .

وروى البخاري ومسلم ((2)) أنّها وجدَت على أبي بكر فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت ((3)).

وقوله : فلِمَ لم تأمره بالخروج ، خطأ ؛ لعلمها بأنه إمامها ولا يعمل إلا بأمر الله تعالى ، مع أنّه لم يخف عليها استضعاف القوم له ، حيث اغتصبوه منصبه واغتصبوها إرثها ونحلتها .

ولكن ذلك سعت معه إلى بيوت وجوه المسلمين ليلاً ؛ إتماماً للحجّة عليهم ، كما سبق في المبحث الرابع من مباحث الإمامة ((4)).

وأما قوله :«ويساعده الأنصار».

ففيه : إنّهم فريقان ؛ فريق يطلب الإمرة لنفسه ، وفريق أنصار أبي بكر، فكيف يساعدون عليّاً ؟ هذا قبل تمام الأمر لأبي بكر، وأما بعده فالأمر أظهر .

وأما قوله : «ولا شك أنّ أبا بكر كان أضعف منه »

فإن أراد أنّه أضعف منه نفساً وبيتاً ، فهو مما لا ينكره ذو إدراك ،ولكن لا أثر له في المقام .

ص: 214


1- صحيح البخاري 177/4 - 178 ضمن ح 2 .
2- في باب قول النبي صلی الله علیه و اله و سلم: لا نورث ما تركناه صدقة من كتاب الجهاد . منه قدس سرة.
3- صحيح البخاري 288/5 ضمن ح 256 ، صحيح مسلم 153/5 - 154 .
4- راجع 282/4 من هذا الكتاب .

وإن أراد أنّه أضعف منه ،ناصراً ، فهو ظاهر الكذب ، وليس أمير المؤمنين بأكثر ناصراً ولا بأشد تكليفاً من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لما فر إلى الغار .

وقوله ، «ولكن الروافض حسبوا أنهم كالملوك» .

خطأ واضح، فإن رفضة الباطل لم يحسبوا حسباناً أن أضداد أمير المؤمنين علیه السلام كالملوك ، بل علموه علماً يقينياً بشهادة ما فعلوه بالثقلين الأعظمين من الحرق والظلم ، وما أجَرَوْهُ في الرعية من الجور والتجبر والاستثثار، وما أبدعوه فى الدين من المظالم والأحكام.

ص: 215

قال المصنّف - رفع الله درجته- ((1)) :

وروى ابن المغازلي الشافعي في كتاب «المناقب» بإسناده قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لعلي بن أبي طالب : إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي»(2).

ومن كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ من الجمهور بإسناده إلى ابن عباس ، قال :«خرجت أنا والنبي صلی الله علیه و اله و سلم وعلي ، فرأيت حديقة ، فقلت : ما أحسن هذه يا رسول الله !

فقال : حديقتك في الجنة أحسن منها.

ثمّ مررنا بحديقة ، فقال عليّ : ما أحسن هذه يا رسول الله !

قال : حتى مررنا بسبع حدائق.

فقال : حدائقك في الجنة أحسن منها.

ثمّ ضرب بيده على رأسه ولحيته وبكى حتى علا بكاؤه .

قال علي علیه السلام: ما يبكيك يا رسول الله ؟

قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني(3).

فإذا كان علماؤهم قد رووا هذه الروايات، لم يخل إما أن يصدقوا فيجب العدول عنهم ، وإما أن يكذبوا ، فلا يجوز التعويل على شيء من رواياتهم ألبتة.

ص: 216


1- نهج الحق : 329 .
2- الطرائف - لابن طاووس - : 427 نقلاً عن مناقب ابن المغازلي ، وأنظر : 195/5من هذا الكتاب.
3- الطرائف - لابن طاووس - : 427 نقلاً عن مناقب ابن مردويه .

وقال الفضل ((1)) :

ماروى عن ابن المغازلي أن الأمة يغدرون بعلي ، فإن هذا ظاهر.

وقد غدره الناكثون والقاسطون والمارقون ، والبغاة والخوارج ، وهذا لا يتعلّق بالخلفاء .

وما روى أن الضغائن كانت في صدور أقوام منه ، فهذا أيضاً ،ظاهر لأنه روي أنه لم يكن بطن من بطون قريش إلا وكان لهم على أمير المؤمنين دعوى دم أراقه في سبيل الله ، والضغائن كان في صدورهم ، ولكن لم يظهروه مادام أمر الخلفاء ،منتظماً ، وأظهروه بعد انقراض الخلفاء في زمن خلافته وخالفوه .

ثمّ ما ذكر أن علماءهم يروون هذا ، فنحن لا نعرف ابن المغازلي وأشباهه ممّن يذكر عنهم المناكير والشواذ .

وأما ما ذكره ورواه من الصحاح ، فنحن نسلّم صحته ، ونذكر معانيه ، ونبينه على وجه لا يبقى فيه ارتياب ، ولا يخالف شيئاً من قواعد المذهب الحق ، كما رأيته .

ص: 217


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 632 ( حجري ) .

وأقول :

ظاهر الرواية الأولى غدر الأمة جميعاً بعلي ، ولم يقع ذلك إلا في أيام المشايخ الثلاثة ، كما أن لفظ ( بعدي ) ظاهر في البعدية المتصلة ، لا بعد نيف وعشرين سنة.

وكذلك السين تقتضي الاستقبال القريب، فلا يشك ذو فهم مع هذه الأمور أن مراد النبي صلی الله علیه و اله و سلم:هو غدر الأمة الواقع بأثر موته المستمر إلى أيام خلافة أمير المؤمنين .

وأما قوله : «لم يظهروه ما دام أمر الخلفاء منتظماً».

فتكلّف ظاهر ، لأنّ أحق وقت تظهر فيه تلك الضغائن هو وقت قرب العهد بأسبابها ، وليس هو إلا زمن وفاة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، فإذا رأينا أهل تلك الضغائن هم اللفيف الأعظم للخلفاء الثلاثة، علمنا أن ذلك أوّل وقت إظهارها ، وأنّ قيام دولتهم لم يكن إلا بتلك الضغائن.

ولذا جعل النبي صلی الله علیه و اله و سلم الغاية في إبدائها مجرد فقده ، لا فقده وفقد غیره بسنين متطاولة .

وليت شعري ، كيف لم يظهروها له وقد عزلوه قبل دفن النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن منصبه ؟ ولم يدخلوه في الرأي بالخلافة، ثمّ همّوا بإحراق بيته عليه ((1)) وغصبوا حق زوجته بضعه النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وتركوه نيفاً وعشرين سنة جليس داره وحبيس بيته؟!

ص: 218


1- راجع 114/7 - 115 و ص 128 وما بعدها.

وأما تجاهله بأمر ابن المغازلي ، فغير مسموع منه بعدما عرفه من هو أعظم منه ، وهو ابن حجر في «الصواعق» ، حيث كناه بأبي الحسن ، وروى عنه نزول الآية السادسة من الآيات الواردة في أهل البيت علیهم السلام((1))مع أن ابن المغازلي لم يختص برواية هذا الحديث، بل رواه الحاكم في المستدرك ((2)) ، وصححه هو والذهبي في : « تلخيص المستدرك » ((3)) .

ونقله في «كنز العمال »((4)) عن الحاكم والدار قطني والخطيب ((5)).

ونقله ابن أبي الحديد ((6)) عن أحمد بن عبد العزيز في كتاب «السقيفة » ((7)).

كما أن الرواية التي حكاها المصنف رحمه الله عن ابن مردويه الذي من أعاظم علمائهم قد ذكرها - أيضاً - في الكنز ((8)) نقلاً عن البزار ، وأبي يعلى ، والحاكم في «المستدرك ، وأبي الشيخ ، والخطيب ، وابن النجار ، لكن بأسانيدهم عن علي علیه السلام من دون ذكر لحديقة ابن عباس(9).

ص: 219


1- الصواعق المحرقة : 233.
2- في كتاب معرفة الصحابة ص : 140 ج 3 . منه قدس سرة.
3- المستدرك على الصحيحين 150/3 ح 4676 .
4- في كتاب الفضائل ص 157 ج 6 . منه قدس سرة.
5- كنز العمال 617/11 ح 32997 ، وأنظر : تاريخ بغداد 216/11 رقم 5928 ،وتقدّم في 195/5 من هذا الكتاب عن البخاري والبزار والدولابي والبيهقي وابن عساکر.
6- ص : 18 مجلد 2 . منه قدس سرة.
7- شرح نهج البلاغة 45/6 .
8- ص : 408 ج 6 . منه قدس سرة.
9- كنز العمال 13 / 176 ح 36523 ، وأنظر : مسند البزار 293/2 ح 716 ، مسند أبي يعلى 426/1 - 427 ح 565 ، فضائل الصحابة - لأحمد - 808/2 - 809 ح1109 ، المعجم الكبير 11 / 60 - 61 ح 11084 ، مستدرك الحاكم 149/3 - 150ح 4672 مختصراً ، تاريخ بغداد 398/12 ، تاریخ دمشق 422/42 - 324 .

ويشبه هذه الأحاديث ما رواه الحاكم بعد الحديث الأوّل الذي نقلناه عنه ، وصححه هو والذهبي على شرط البخاري ومسلم ، عن ابن عباس قال : « قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم لعلي : أما إنك ستلقى بعدي جهداً ، قال : في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة سلامة من دينك »((1)).

وما رواه الحاكم - أيضاً - قبل ذلك الحديث عن أنس قال : «دخلت مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم على علي بن أبي طالب يعوده وهو مريض ، وعنده أبو بكر وعمر ، فتحوّلا حتى جلس رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقال أحدهما لصاحبه :

الله ما أراه إلا هالكاً ، فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: إنّه لن يموت إلا مقتولاً ، ولن يموت حتّى يملأ غيظاً»((2)).

وهذا الحديث باعتبار اشتماله على مالا ينبغي صدوره من الرجلين بمحضر النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وعلي مشعر بشماتتهما وتمنيهما موت أمير المؤمنين علیه السلام، فأجابهما النبي صلی الله علیه و اله و سلم بما يدل على سلامته من هذا المرض ، وما يشعر بظلمهما ، وغيظهما له ، وإلا فأي حاجة في المقام إلى قوله صلی الله علیه و اله و سلم«ولن يموت حتى يملأ غيظا»؟

ص: 220


1- المستدرك على الصحيحين 151/3 ح4677.
2- المستدرك على الصحيحين 150/3 ح 4673 .

قال المصنّف - أعلى الله مقامه- ((1)) :

وقد روى الحافظ محمد بن موسى ((2)) الشيرازي في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر : تفسير أبي يوسف يعقوب بن سفيان ، و تفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن سليمان ، وتفسير وكيع بن جرّاح ، وتفسير يوسف بن موسى القطان، وتفسير قتادة، وتفسير أبي عبد الله القاسم بن سلام ، وتفسير علي بن حرب الطائي ، وتفسير السُّدّي ، وتفسير مجاهد، وتفسير مقاتل بن حيان، وتفسير أبي صالح، وكلهم من الجماهرة ، عن أنس بن مالك قال :

«كنا جلوساً عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: فتذاكرنا رجلاً يصلّي ، ويصوم ويتصدق ، ويزكي .

فقال لنا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: لا أعرفه .

فقلنا : يا رسول الله ! إنّه يعبد الله ، ويسبّحه ويقدسه ، ويوحدّه .

فقال رسول الله لا أعرفه .

فبينا نحن في ذكر الرجل إذ طلع علينا فقلنا : هو ذا ، فنظر إليه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وقال لأبي بكر : خذ سيفي هذا ، وامض إلى هذا الرجل واضرب عنقه، فإنه أوّل من يأتيه من حزب الشيطان.

فدخل أبو بكر المسجد فرآه راكعاً فقال : والله لا أقتله، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم نهانا عن قتل المصلين، فرجع إلى رسول الله فقال : يا رسول

ص: 221


1- نهج الحق : 330 .
2- كذا والصحيح محمد بن مؤمن الشيرازي كما في معجم المؤلفين 745/3 .

الله ! إني رأيته يصلّي

فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: اجلس فلست بصاحبه .

قم يا عمر وخذ سيفي من أبي بكر ، وادخل المسجد واضرب عنقه ، قال عمر : فأخذت السيف من أبي بكر ودخلت المسجد ، فرأيت الرجل ساجداً فقلت : والله لا أقتله، فقد استأمنه من هو خير منّي ، فرجعت إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فقلت : يا رسول الله ! إني رأيت الرجل ساجداً .

فقال : يا عمر اجلس فلست بصاحبه .

قم يا عليّ ! فإنّك أنت قاتله إن وجدته فاقتله ، فإنّك إن قتلته لم يقع بین أُمتي اختلاف اختلاف أبداً .

قال علي : فأخذت السيف ، ودخلت المسجد فلم أره .

فرجعت إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فقلت : يا رسول الله ! ما رأيته .

فقال : يا أبا الحسن ! إن أُمّة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن أُمّة عيسى افترقت اثنتين وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن أُمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية، والباقون في النار .

فقلت : يا رسول الله ! وما الناجية ؟

فقال : المتمسك بما أنت وأصحابك عليه.

فأنزل الله في ذلك الرجل «ثاني عطفه»((1)) يقول : هذا أوّل من يظهر من أصحاب البدع والضلالات .

قال ابن عباس : والله ، ما قتل ذلك الرجل إلا أمير المؤمنين علیه السلام يوم

ص: 222


1- سورة الحج 22 :9.

صفين ، ثمّ قال:«له في الدنيا خزي»((1)) ، قال : القتل «ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق»((2))بقتاله علي بن أبي طالب يوم صفين ((3)) .

فلينظر العاقل إلى ما تضمنه هذا الحديث المشهور المنقول من طريق الجمهور من أن أبا بكر وعمر لم يقبلا أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ولم يقبلا قوله واعتذرا بأنّه يصلي ويسجد ، ولم يعلما أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أعرف بما هو عليه منهما ، ولو لم يكن مستحقاً للقتل لم يأمر الله نبيه بذلك .

وكيف ظهر إنكار النبي صلی الله علیه و اله و سلم على أبي بكر بقوله : لست بصاحبه ذلك فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم حكم بأنه لو قتل لم يقع وامتنع عمر من قتله ، ومع ذلک فان النبی صلی الله علیه و اله و سلم،حکم بانه لو قتل لم یقع بین امته اختلاف أبداً ، وكرّر الأمر بقتله ثلاث مرات عقيب الإنكار على الشيخين ، وحكم صلی الله علیه و اله و سلم بأن أُمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة اثنتان وسبعون منها في النار ، وأصل هذا بقاء ذلك الرجل الذي أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم الشيخين بقتله فلم يقتلاه ؟

فكيف يجوز للعامي تقليد من يخالف أمر الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم؟

ص: 223


1- سورة الحج 22 : 9.
2- سورة الحج 22 : 9.
3- الطرائف - لابن طاووس - : 429 نقلاً عن كتاب محمّد بن مؤمن الشيرازي ،وأنظر : مسند أبي يعلى 90/1 ح 90 ، حلية الأولياء 226/3 - 227 .

وقال الفضل ((1)) :

الظاهر أن هذا الخبر موضوع ، ولا كل ماذكر في كتب أهل السنة نحكم على صحته ، وإنّما قلنا : إنّ الظاهر أنّ هذا الخبر موضوع ؛ لوجوه : الأول : إنّه من المنكرات غير مألوف من أُمور الدين أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يأمر بقتل من يمدحه الأصحاب : إنّه يصوم، ويصلي ، ويتصدق، وهذا من منكرات الدين ولم يرو مثله .

الثاني : إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لو أراد قتله ، لم يكن يأمر أكابر الصحابة بهذا الأمر ، بل كان يأمر أحداً من الأصحاب فيقتله ، ومثل هذا الأمر منكر من أحوال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.

الثالث : إن هذا الذي أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بقتله - كما زعم الراوي -كان ذلك الرجل الذي هو أصل الخوارج، وهو الذي أصل الخوارج، وهو الذي قتله علي بعد هذا ، وهو ذو الخويصرة الذي قال الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: اعدل ، فإنك لا تعدل ، أن يأذن له في ضرب عنقه، فلم يأذن له رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولو كان يريد قتله لكان يأذن لعمر في قتله .

الرابع : إن أصول الفرق المبتدعة أقوام شتّى ، ولم يشتهر أن رجلاً واحداً أصل هذه الجماعات .

وبالجملة : هذا الحديث ظاهر عليه أنّه من المنكرات .

ص: 224


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 634(حجري ).

وأقول :

قد روى نحو الحديث أحمد في مسنده عن أبي سعيد ((1)) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد ((2)) عند كلامه في أصحاب الأهواء، وابن حجر في الإصابة بترجمة ذي الثدية، نقلاً عن أبي يعلى عن أنس، ثم ذكر في الإصابة» أخباراً أخر بضامين أُخر ((3)).

ثمّ قال : « وللقصة الأولى شاهدان عند محمد بن قدامة ، أحدهما من مرسل الحسن ، فذكر سببها بالقصّة، والآخر من طريق مسلمة بن أبي بكرة ، عن أبيه عند محمد بن قدامة ، والحاكم في «المستدرك» ، ولم يسمّ الرجل فيهما ((4)) .

فعلى هذا يكون أصل الحديث مشهوراً ، مروياً بطرق عديدة ، فيكون موثوقاً به ، غير أن بعض الخصوصيات التي اشتمل عليها مختلفة ، كما تختلف في سائر الأحاديث المتعدّدة الطرق الحاكية لواقعة واحدة .

ففي حديث المصنف ، وحديث :أحمد : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أمر كلاً من أبي بكر وعمر ، وأمير المؤمنين علیه السلام بقتله.

وفي حديث ابن عبد ربه ، وابن حجر : جر: أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : أيكم يقوم فيقتله ؟ فقام أبو بكر ، فقال : أنا ، ثمّ عمر ، ثمّ علي علیه السلام ، وهذا ونحوه

ص: 225


1- ص : 15 ج 3 . منه قدس سرة.
2- ص : 355ج 13 . منه قدس سرة.العقد الفريد 2/ 145 - 146 .
3- الإصابة 409/2 - 410 41 رقم 2448.
4- الإصابة 410/2 رقم 2448 .

غير مضر في صحة أصل الحديث .

وأما ما ذكره الخصم من الوجوه الموجبة لكونه من المنكرات ، فباطل .

أما الأوّل ، فلاته إن أراد به عدم مألوفية أن يأمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتل العالي أحد لأجل مدح الأصحاب له ، فهو صحيح ، لكن لا يدل الحديث عليه بوجه حتى يستنكره .

وإن أراد عدم مألوفية أن يأمر بقتل من مدحوه وإن كان هناك لقتله فهو خطأ ، إذ ليس هذا مما يتكرّر الوقوع حتى يكون أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتله في هذه الواقعة منكراً مخالفاً لعادته، وليس مجرد مدح الصحابة له المبني على الظاهر، والجهل بمستقبله مما يوجب امتناع النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن الأمر بقتله وهو يعلم بحاله .

وأما الثاني ، فلأن أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم لأكابر الصحابة بالقتل لا ينافي شؤونهم ، بل هم يستأذنونه في قتل من يحتملون استحقاقه للقتل ، وقد كان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يأمر أعظم أصحابه عليا علیه السلام بقتل من يريد قتله .

وأمّا الثالث ، فلأنا لا نسلّم اتّحاد ذي الثدية الذي أمر النبي بقتله في هذه القصة مع ذي الخويصرة ، الذي قال للنبي صلی الله علیه و اله و سلم: اعدل .

ولذا ذكر ابن الأثير في أسد الغابة ذا الخويصرة في الصحابة ((1)) ، مستدركاً على من قبله ، مع أنّهم ذكروا ذا الثدية ، وذكرهما ابن حجر في الإصابة بعنوانين، لكن قال في ترجمة ذي الثدية : ويقال : هو ذو الخويصرة ((2)) .

ص: 226


1- أسد الغابة 20/2 رقم 1541.
2- الإصابة 409/2 رقم 2448.

ولو سلّم اتّحادهما ، فليس من المعلوم أن ذا الثدية والخويصرة هو الذي أمر النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتله ، لأن ذا الثدية قتل بالنهروان ، ومن أمرالنبي صلی الله علیه و اله و سلم بقتله قتل بصفین،کما صرح به هذا الحدیث الذی ذکره المصنف رحمه الله.

نعم ، ظاهر حديث أحمد الذي أشرنا إليه سابقاً أن من أمرالنبی صلی الله علیه و اله و سلم بقتله من الخوارج، وصرّح محمد بن كعب - كما في «الإصابة» - بأنّه ذو الثدية ، فتحصل المعارضة بين الأحاديث ، وتسقط في هذه الخصوصية فلا يثبت الاتحاد .

ولو سُلّم ، فيمكن أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يكن يعلم بأنّه أوّل من يظهر البدع إلا حين الأمر بقتله ، دون حين النهي عنه ، أو إنّه يعلم به في الوقتين ، لكنه مأمور من الله تعالى بقتله في وقت دون آخر، أو إنّه أراد امتحان الشيخين لا الأمر الحقيقى ، لعلمه صلی الله علیه و اله و سلم بأنه يبقى ولا يقتل حتى يكون أوّل من يظهر البدع في أمته ، فيتضح حال الشيخين وأنهما ليسا ممّن يأتمر بأمره ، ويعتقد فيه ما يجب اعتقاده .

وهذا واضح بناءً على أنه صلی الله علیه و اله و سلم أمرهما بالخصوص بقتله ، وكذا بناءً على أنّه قال : أيكم يقوم فيقتله ؟! لعلمه بأنّهما يتسرعان إلى نحو ذلك السلم ، أو إلى خصوص الواقعة.

والعجب من الشيخين كيف يتعلّلان لعدم قتله بتلك العلل الواهية ؛حيث تعلل أبو بكر بنهي النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن قتل المصلين .

والحال إن الأصحاب أخبروا النبي بأنه من المصلين الصائمين المزكّين ، ومع ذلك أمره بقتله، مصرحاً بأنّه أوّل من يأتيه من حزب الشيطان ، كما في الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله ، أو بأن بين عينيه

ص: 227

سفعة ((1)) من الشيطان ، كما في حديث «الإصابة» و«العقد الفريد » ((2)).

وأعجب منه عمر حيث شاهد ذلك كله ورأى إصرار النبي صلی الله علیه و اله و سلم على قتله وتعلل بأنه استأمنه من هو خير مني ؛ يعني : أبا بكر .

فهل يرى أن أبا بكر أحق بالاتباع من النبي صلی الله علیه و اله و سلم وأصوب رأياً منه ؟ !

أو أن ذلك منهما تعلّل، والمانع في الحقيقة جبنهما ، أو أنهما يريدان أن يظهرا للناس أنّهما محتاطان بالدماء دون النبي صلی الله علیه و اله و سلم، كما كان يرى ذو الخويصرة أنّه أعدل منه ؟ !

وأما بطلان الوجه الرابع ، فلأن الحديث لم يقل : إن أصل الفرق المبتدعة هذا الشخص، بل دلّ على أنه أوّل من يظهر من أصحاب البدع ، على أنه يجوز أن يكون بسببه سَهْلَ على غيره الابتداع ، فيعد أصلاً بهذا اللحاظ ، أو بلحاظ أنّه أساس لما بعده كإبليس ، حيث إن هذا الرجل فتنة الخوارج التي أوجبت الوهن في أمر أمير المؤمنين علیه السلام یوم صفین، وزوال الأمر عن أبنائه الطاهرين ، ولولاه لتغلّب أمير المؤمنين بصفين ودام الأمر في بنيه ، وزالت البدع السابقة ، ولم تحدث اللاحقة .

ص: 228


1- السفعة . نوع من السواد ليس بكثير ، علامة من الشيطان . النهاية لابن الأثير 2 :374 - سفع - لسان العرب 8 157 - سفع - .
2- الإصابة 409/2 رقم 2448 ، العقد الفريد 145/2 .

قول عمر : إنّ النبي لَيَهجر

اشارة

قال المصنّف - أعلى الله مقامه ((1)) :

وهذا كما روى مسلم في صحيحه ، والحميدي في مسند عبد الله بن عباس ، قال : «لما احتضر النبي وفي بيته رجال منهم عمر بن الخطاب .

فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده .

فقال عمر بن الخطاب: قد غلب عليه الوجع ، وإن الرجل ليهجر ،حسبكم كتاب الله

وفي رواية ابن عمر : إنّ النبي ليهجر .

قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين : فاختلف الحاضرون عند النبی صلی الله علیه و اله و سلم، فبعضهم يقول : القول ما قاله النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وبعضهم يقول : القول ما قاله ،عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف قال النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع.

وكان عبد الله بن عباس يبكي حتى تبل دموعه الحصى ، ويقول : يوم الخميس ! وما يوم الخميس ؟!

وكان يقول : الرزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وبين كتابه »((2)).

ص: 229


1- نهج الحق : 332.
2- صحیح مسلم 75/5 - 76 ، الجمع بين الصحيحين 9/2 - 10 ح 980 ، وأنظر :صحيح البخاري 66/1 ذيل ح 55162/4 ح 251 و ص 211 - 212 ح 0 2 ح 10 و29/6ح 22 و 23 و 219/7 ح 30 و 9 / 200 ح 134 ، وراجع 92/4من هذاالكتاب

فلينظر العاقل إلى ما تضمنه هذا الحديث من سوء أدب الجماعة في حق نبيهم ، وقد قال الله تعالى :«يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول ... »((1)) الآية .

ثم إنه صلی الله علیه و اله و سلم لما أراد إرشادهم ، وحصول الإلفة بينهم بحيث لا تقع بينهم العداوة والبغضاء ، منعه عمر عن ذلك وصدّه عنه ، ومع هذا لم يقتصر على مخالفته حتى شتمه ، وقال :«إنّه يهذي ، والله يقول : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»(2)

وبالخصوص مثل هذا الكتاب النافي للضلال، وكيف يحسن مع عظمة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأمر الله تعالى الخلق بتوقيره وتعظيمه ، وإطاعته في أوامره ونواهيه، أن يقول له بعض أتباعه : إنّه يهذي ، مقابلاً في وجهه بذلك ؟ !

وفي الجمع بين الصحيحين من مسند جابر بن عبد الله قال : «دعا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عند موته ، فأراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلّون بعده أبداً ،فكثر اللغط ، وتكلّم عمر ، فرفضها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم» ((3)).

وكيف يسوغ لعمر منع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من كتبه ما يهتدون به إلى يوم القيامة ؟ !

فإن كان هذا الحديث صحيحاً عن عمر وجب ترك القبول منه ، وإلا

ص: 230


1- الحجرات 49 : 2 .
2- النجم 53: 3 .
3- الجمع بين الصحيحين 408/2 ذيل ح 1702 .

لم يَجُزْ لهم إسناده إليه ، وحرم عليهم التعويل على كتبهم هذه .

ص: 231

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

قد ذكر هذا الحديث فيما مضى ((2)) ، وأجبنا عن اعتراضه ((3)) ، وهوعلى عادته يكرّر الكلام مرّات ونحن نجيبه ، فنقول :

إن المتواتر بين المسلمين أن عمر كان وزيراً لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وصاحب مشورته ، وكثيراً ما كان رسول الله يقدم على أشياء فيمنعه ،عمر،ويقول : لا تفعل يا رسول الله ! فيسمع قوله ، وهذا فيما يتعلق برأي النبي .

منها : إنّه عزم في غزوة تبوك أن يدخل دمشق ويحارب ملكها ، فقال عمر : لا تفعل يا رسول الله ! فأطاعه وقبل رأيه ((4)).

ومنها : قصة الأسرى، وكان رسول الله يشاوره في أمرهم ، فنهاهم أخذ الفداء ، ووافقه الله تعالى في قوله :«ما كان لنبي أن يكون له أسرى»((5)) ((6)).

ومنها : أمر الحجاب ، وكان عمر يبالغ فيه حتّى أنزل الله تصديقه ((7)).

ومن مارس الأخبار والآثار علم أن عمر كان له عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم هذا المقام والمنصب، فجرى على عادته عند موت رسول الله، فقبل

ص: 232


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 636 ( حجري ) .
2- انظر : 154/7 من هذا الكتاب .
3- انظر : 156/7 - 157 من هذا الكتاب.
4- مغازي الواقدي 1019/3 .
5- سورة الأنفال 8 : 67.و
6- راجع 125/7من هذا الكتاب
7- انظر : مناقب عمر - لابن الجوزي - : 31 - 32.

رسول الله رأيه وترك الكتاب.

وأما ما قال إنّه شتم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فهذا من جهله باللغة ، وجرأته على الصحابة - لا أفلح - فإنّ الهجر - كما بينا - ، هو الكلام الذي يتكلّم المريض به ، وليس هو ألبتة شتماً ،وهذا المتعصب لا يعرف اللغة ،ويحسب أنه من إساءة الأدب ، وكان عمر من أحسن الناس أدباً بالنسبة إلى رسول الله ، يعلمه المتدرّب في الأخبار .

ص: 233

وأقول :

عرفت ممّا مرّ وجه تكرار المصنف لمثل الحديث ، فهو قد ذكره - أولاً - للطعن بعمر وأعاده - ثانياً - للطعن بالصحابة من حيث موافقتهم له في شتم النبي صلی الله علیه و اله و سلم ورد أمره ، ومن حيث تأميرهم لمثله.

وأما حديث الوزارة فمن حديث الخرافة ، كما مرّ .

وقوله : «كان صاحب مشورته» ، إنّما هو مأخوذ من روايتهم نزول قوله تعالى :«وشاورهم في الأمر» في أبي بكر وعمر، وقد عرفت أنه أدل على ذمّهما لصراحة الآية في تأليفهما .

قال تعالى:«فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله»((1)).

فإن قوله تعالى :«ولو كنت فظاً ... لانفضوا»دال على أن إسلامهم غير ثابت عن صميم القلب، فلابد أن يكون الأمر بمشاورتهم والعفو عنهم والاستغفار لهم للتأليف.

كما أن آخر هذه الآية يكذب ما رواه الخصم من انه صلی الله علیه و اله و سلم عزم على دخول دمشق ، فنهاه عمر فأطاعه ، وذلك لأن الله تعالى أمره بالإقدام والتوكل عليه إذا عزم ، فكيف يعصي الله ويطيع عمر ؟

ثم إن من آخر الآية ، ومن قوله تعلى :«يا أيها الذين آمنوا لا

ص: 234


1- سورة آل عمران 3 : 159.

تقدموا بين يدى الله ورسوله ...»((1)).

وقوله سبحانه :«وما آتاكم الرسول فخذوه ..»((2)).

وقوله : عزّ وجلّ :«أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ...»((3)).

وقوله تعالى :«وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ...»(4).

إلى غيرها من الآيات ، يعلم أنه ليس لعمر معارضة رسول الله فيما عزم عليه من كتابة ذلك الكتاب الهادي. وأنه عاص بمخالفة أمره .

وقد سبق في مطاعن عمر دلالة الحديث على وجوه من المطاعن في،عمر، فراجع ((5)).

ومن أعجب العجب أن الخصم يرى قول المصنف : إن عمر شتم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم جرأة على الصحابة ، ولا يرى قول عمر : إنّ النبي يهجر ، جرأة على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولا ردّه لأمره نقصاً فيه، ولا تسبيبه لكلّ ضلال إلى الأبد سيئة من سيئاته ، فلو قال القائل : إنّهم أُمّة عمر لا أُمّة لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان مصيباً !!

وأما ما ذكره من قصة أسرى بدر ، فقد عرفت حقيقته في ذيل مطاعن أبي بكر ((6)) .

وأمّا ما زعمه من أنّ أمر الحجاب نزل على موافقة رأي عمر، فمن

ص: 235


1- سورة الحجرات 49: 1.
2- سورة الحشر 59 : 7.
3- سورة المائدة 5 : 92 .
4- سورة الأحزاب 33 : 36.
5- راجع 159/7 وما بعدها من هذا الكتاب.
6- راجع7 / 150من هذا الكتاب.

أظهر الكذب ، كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى .

ص: 236

عتراضات عمر على النبي صلی الله علیه و اله و سلم

اشارة

قال المصنف - رفع الله منزلته - ((1)):

وفي الجمع بين الصحيحين من مسند أبي هريرة من إفراد مسلم، قال : «كنا قعوداً حول رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ومعنا أبو بكر وعمر في نفر ، فقام رسول الله من بين أظهرنا فأبطأ علينا حتى خشينا أن يقتطع دوننا ،وفزعنا فقمنا ، وكنت أوّل من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار ، فدرت به هل أجد له باباً ؟ فلم أجد ، فإذا ربيع - أي جدول - يدخل في جوف حائط من بئر خارجة ، فاحتفرت كما يحتفر الثعلب ، فدخلت على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.

فقال : أبو هريرة ؟

فقلت : نعم يا رسول الله

قال : ما شأنك؟

قلت : كنت بين أظهرنا فقمت ، وأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا ، فكنت أوّل من فزع ، فأتيت هذا الحائط فاحتفرت كما يحتفر الثعلب ، وهؤلاء الناس وراثي .

فقال : يا أبا هريرة ! وأعطاني نعليه ، فقال : اذهب بنعلي هاتين ، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره

ص: 237


1- نهج الحق : 334 .

بالجنة .

فكان أوّل من لقيت عمر فقال : ما هاتان النعلان يا أبا هريرة ؟

قلت : هاتان نعلا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بعثني بهما ، من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه ، بشرته بالجنّة .

قال : فضرب عمر بين ثديي ، فخررت لاستي.

فقال : ارجع يا أبا هريرة !

فرجعت إلى رسول الله ، فأجهشت بالبكاء ، وركبني عمر فإذا هو على اثری.

فقال رسول الله : مالك يا أبا هريرة ؟

قلت : لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به ، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي ، وقال : ارجع.

فقال له رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: يا عمر ! ما حملك على ما صنعت ؟

فقال : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة ؟

قال رسول الله : نعم.

قال : فلا تفعل، فإنّي أخشى أن يتكل الناس عليها ، فخلهم يعملوا .

فقال رسول الله : خلّهم ((1)) .

وهذا رد من عمر على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وإهانة لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حيث ضرب أبا هريرة حتى قعد على استه، ورجع إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم باكياً شاكياً، مع أنه لو كان شريكاً له في الرسالة لم يحسن منه وقوع مثل

ص: 238


1- الجمع بين الصحيحين 3 / 315 - 316 ح 2764 ، وأنظر : صحيح مسلم 1 / 44 - 45.

هذا في حق أتباع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، مع أنه قد كان يمكنه منع أبي هريرة أداء الرسالة على وجه أليق وألطف فيبلغ غرضه معظماً لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، مع أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال له ذلك بوحي من لقوله :«وما ينطق عن الهوى»((1)) ، ولأن هذا جزاء أخروي لا يعلمه إلاالله تعالى ، ولأنّه ضمان على الله تعالى ، لأنه الحاكم في الجنة.

مع أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، قال فيما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند أبي ذر ، قال صلی الله علیه و اله و سلم: «أتاني جبرئيل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة»((2)).

وفي رواية :«لم يدخل النار»((3)) .

فهذا صحيح عندهم، فكيف استجاز عمر الردّ على رسول صلی الله علیه و اله و سلم؟!

وفيه في مسند غسان بن مالك - متفق عليه - قال : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : «إن الله تعالى قد حرّم النار على من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهه»((4)).

وإذا كان النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال ذلك في عدة مواضع ، كيف استجاز عمرفعل ما فعله بأبي هريرة ؟!

ص: 239


1- سورة النجم 53: 3 .
2- الجمع بين الصحيحين 1 / 264 ح 356 ، وأنظر : صحيح البخاري 156/2 ح 1 و8 /108 - 109 ، ضمن ح 41 41 وص 168 - 169 وص 168 - 169 ضمن ح 30 ، صحیح مسلم76/3.
3- الجمع بين الصحيحين 265/1 ذيل ح 356 ، وأنظر : صحيح البخاري 234/4ح32.
4- الجمع بين الصحيحين 432/1 ح 699 ، وانظر : صحيح البخاري 2/ 135 ذيل ح210 و ج 130/7 ذیل ح 28 ، صحيح مسلم 126/2 .

وقد روى عبد الله بن عباس ، وجابر ، وسهل بن حنيف ، وأبو وائل ، والقاضي عبد الجبار ، وأبو علي الجبائي ، وأبو مسلم الأصفهاني ، ويوسف ، والثعلبي ، والطبري، والواقدي والزهري والبخاري، والحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند المسور بن مخرمة» في حديث الصلح بين سهيل بن عمرو وبين النبي صلی الله علیه و اله و سلم بالحديبية ، يقول فيه :

فقال عمر بن الخطاب : فأتيت النبي فقلت له : ألست نبي الله حقاً ؟

قال : بلى .

قلت : ألسنا على الحقِّ ، وعدوّنا على الباطل ؟

قال : بلى .

قلت : فلِمَ نعطي الدنيّة في ديننا ؟

قال : إنّي رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري .

قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟

قال : بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟

قلت : لا .

قال : فإنّك آتيه ومطوف به .

قال عمر : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً ؟

قال : بلى .

قلت ألسنا على الحقِّ ، وعدونا على الباطل ؟

قال : بلى .

قلت : فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ !

قال : أيها الرجل ! إنّه رسول الله ، وليس يعصي ربه وهو ناصره،

ص: 240

فاستمسك بغرزه ((1)) ، فوالله إنّه على الحقِّ .

قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟

قال : فأخبرك أنك تأتيه العام ؟

قلت : لا

قال : فإنّك آتيه ومطوف به » ((2)).

وزاد الثعلبي في تفسيره عند ذكر سورة الفتح وغيره من الرواة : «أن عمر بن الخطاب قال : ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ »((3)).

وهذا الحديث يدلّ على تشكيك عمر، والإنكار على النبي صلی الله علیه و اله و سلم فيما فعله بأمر الله تعالى، ثم رجوعه إلى أبي بكر حتى أجابه أبو بكر بالصحيح .

وكيف استجاز عمر أن يوبخ النبي صلی الله علیه و اله و سلم، ويقول له عقيب قوله - إنِّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري - أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟!

ص: 241


1- استمسك بغرزه : أي اعتلق به وأمسكه واتبع قوله وفعله ولا تخالفه ، على الاستعارة ؛ كالذي يُمسك بركاب الراكب ويسير بسيره ؛ لأن الغرز في الأصل : ركاب الرجل من جلد مخزوز.تاج العروس 115/8 - 116 مادة « غرز ».
2- الجمع بين الصحيحين 377/3 ح 2860 ، وأنظر : صحيح البخاري 40/3 ضمن ح18، و 4 / 318 ح 23 و 242/5 وص 2 ح 338، صحیح مسلم 175/5 ، تاريخ الطبري 122/2 أحداث سنة 6ه ، مغازي الواقدي 606/2 ، مسند أحمد / 330 ، مصنف 339/5 - نف عبد الرزاق 339/5 - 340 ح 9720 ، المعجم الكبير 13/20-15 ح 13 ..
3- تفسير الثعلبي 60/9 ، وأنظر : مصنف عبد الرزاق 339/5 ، المعجم الكبر20 / 14 ح 13 ، تاریخ دمشق 229/57 .

وقال الفضل ((1)) :

أما ما ذكر أنّ عمر نهى أبا هريرة عن تبليغ الرسالة ؛ فاتفق العلماء على أن ذلك يدلّ على كمال علم عمر، وعلق منزلته عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم؛ حيث مكنه بعد الاعتراض، وذلك أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعث أبا هريرة مبشراً للناس بأنّ التيقن في الشهادة كاف في دخول الجنّة على أي عمل كان خيراً أو شرّاً ، وهذا يوجب أنّ الفاسق يعتمد ولا يتوب : ويقول أنا متيقن بالشهادة وقد بشرني رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بدخول الجنة ، فلا أرتدع من الفسق والذنوب ، وكان يؤدي هذا إلى ترك الأعمال .

وكان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حيث يبلغ هذا في مقام البسط والثقة بالتوحيد ، وأنّه كاف في النجاة إذا حصل كماله ، فإنّ كمال اليقين بالتوحيد ينفي درن الذنوب ، ولا يبقى معه شيء.

ولكن هذا المعنى لم يفهمه العامة ؛ لأنّهم يفهمون من اليقين ماهم عليه ، والحال أن اليقين حال المشاهدة، ولهذا الكلام بسط لا يليق بهذا المقام ، فلمًا سمع عمر هذا الكلام من أبي هريرة علم أنه صلی الله علیه و اله و سلم كان في مقام البسط ، والعامة لا يفهمون ضيقه هذا ، ولا يدركون ماهية اليقين ، وأنّه كيف يتحقق في المرء ، فيحسبون أن ماهم عليه من الشهادة بالتوحيد هو اليقين الذي بشر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بأن صاحبه يدخل الجنّة إذا كان متصفاً به، وهذا يوجب أن يتكلوا ويتركوا العمل .

ص: 242


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 638 ( حجري ) .

ولهذا لما ذكر عمر عذره عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تابع رأيه ، وقال : خلهم يعملوا ، وهذا يصدق ما ذكرنا قبله أن عمر كان له هذا المنصب عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ومن حمل هذا من عمر على ترك الأدب ، فهو من الرفضة المبتدعة الجهلة ، الذي لا يعلم حقيقة الحال، فنقول له : لو كان هذا إساءة أدب منه مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، لكان ينبغي أن يضرب عنقه، ويأمر عليّاً أو واحداً من الصحابة أن يضرب عنق عمر لنفاقه وإساءة أدبه .

أكان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يخاف من عمر ؟!! أم كان لا يقدر على قتله ؟

ولو كان أمثال هذه الأمور صادرة عن عمر لإساءة الأدب ، لكان مشتهراً بالنفاق ؛ كعبد الله بن أبي بن سلول ، نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة ، مع أن فعل عمر موافق لمذهب الإمامية، فإن جزاء الأعمال عندهم واجب على الله تعالى ، وليس الشهادة وحدها كافية في النجاة من النار .

وأما ما ذكر أن عمر أساء الأدب لأبي هريرة حين ضربه حتى خرّ لاسته، فالجواب : أن عمر كان أميراً مبجلاً ، وكان وزيراً لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ولم يعد ضرب عمر لأبي هريرة من إساءة الأدب ، وهذا كما يضرب الأمراء والمقربون سائر الجنود ويأمرونهم وينهونهم ، وربما كان لم

الأداء يمتنع من بمجرد نهي عمر، فأحوجه إلى الضرب ، وأمثال هذا لا يذكره إلا من يتبع عوام الناس ، وقصد عمر في فعله معلوم ، وأنه لم يرد بما فعله إلا حفظ الإسلام ، ورعاية قواعد الدين .

وأما ما ذكره من حديث يوم الحديبية ، وأن عمر قال للنبي صلی الله علیه و اله و سلم:ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟

ص: 243

فالجواب : إنّ هذا شبهة دارت في خاطره ، وأراد دفعها والجواب عنها ، فسأل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ثم سأل أبا بكر حتى ارتفع الشك من خاطره ، والإنسان يعرضه أمثال هذا ، ألا تسمع قول الله في الرسل :«حتّى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا ...»((1)) الآية .

وطلب رفع الشك بأي عبارة لا يكون ترك الأدب ، ولم يذكر عمر ماذكر للتوبيخ وتعنيف رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، بل ذكر لدفع الشبهة ودفع التردد ، وهذا على الموافق المؤمن ظاهر .

ص: 244


1- سورة يوسف 12 : 110.

وأقول :

حاصل جوابه عن الحديث الأوّل تخطئة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وتصويب عمر من وجهين :

الأوّل : إنّ النبي أراد باليقين معنى ، والناس يفهمون خلافه ، فيكون مغرّراً بالناس .

الثاني : إنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يعرف مفسدة كلامه بأنّه يؤدّي إلى الاتكال وترك الأعمال ، وقد عرف عمر خطأ النبي صلی الله علیه و اله و سلم بالأمرين فرد أمره ، ولما عرف النبي صلی الله علیه و اله و سلم خطأ نفسه وإصابة عمر ، اتبع رأي عمر وسمع قوله .

فيحق للقائل أن يقول : تعالوا على الإسلام نبكي ونلطم ، فإن النبي الذي لا يعرف موارد التغرير بالأمة ، ولا يدرك المفاسد الواضحة في أفعاله،ويتهوّر في مقام التبسط حتى ينبهه مثل عمر ، كيف يكون رسولاً إلى جميع الخلق ، هادياً لهم بكل أعمالهم إلى الحقِّ ؟

وفي الحقيقة يكون الطعن على الله سبحانه، حيث يرسل مثل هذا الرسول ، ويوجب طاعته والأخذ منه بنص كتابه ، بل هو الذي أوحى إليه بما أمر به أبا هريرة ، لأنه لا ينطق إلا عن وحي يوحى ، فيكون النقص مستنداً إليه سبحانه ، والكمال الأعظم لعمر ، وبئس المذهب مذهباً يؤدّي إلى هذا .

ثمّ إنّه لا فائدة لذكر الخصم ماهيّة اليقين ، وبيان أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم أراد به : حال المشاهدة، سوى بيان خطأ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في إتيانه بلفظ لا يفهم الناس مراده منه ، وبيان أن عمر عرف حقيقة اليقين ، فيكون من أهل

ص: 245

الفضل والمعرفة ، وإلا فالمدار في منع عمر بهذه الرواية هو اتكال الناس ، ولا إشعار فيها بإرادة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لذلك المعنى من اليقين، ولا في فهم عمر له .

هذا ، والظاهر أن أبا هريرة لم ينقل القصّة على وجهها كما يشهد له مارواه مسلم مع ذلك الحديث في كتاب الإيمان ((1)) عن معاذ : إنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال له : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار .

قال : يا رسول الله ! أفلا أخبر الناس فيستبشروا ؟

قال : إذن يتكلوا» ((2)) .

وفي رواية أخرى قال : « أفلا أبشر الناس ؟

قال : لا تبشّرهم فيتكلوا» ((3)) .

ومثلها في صحيح البخاري ((4)) .

فإنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذا نهى معاذاً عن بشارتهم خوفاً من الاتكال ، فكيف يأمر أبا هريرة بما ينهى عنه ؟ !

وأيضاً فالشهادة بالتوحيد لا تكفي وحدها في النجاة ؛ بضرورة الدين، فإنّ من أنكر نبوّة نبينا صلی الله علیه و اله و سلم من أهل النار ، وإن شهد بالتوحيد متيقناً .

فكيف يأمر أبا هريرة بتلك البشارة لمن أيقن بالوحدانية على

ص: 246


1- في باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة . منه قدس سرة.
2- صحیح مسلم 45/1.
3- صحیح مسلم 43/1.
4- في باب اسم الفرس والحمار من كتاب الجهاد . منه قئس سرة، صحيح البخاري 90/4 -91 ذیل ح 71.

الإطلاق ؟ اللهم إلا أن يراد : البشارة بالتوحيد بشروطه ، ومنها : الشهادة بالرسالة ، كما ستعرف .

كما أن إشكال الاتكال قد يرتفع بأنّ الحكمة اقتضت التبشير في ذلك الوقت ، تشويقاً للناس إلى التوحيد، وترغيباً لهم في الإسلام ، وإن أدى إلى اتكال من سمع في ذلك الوقت.

ويشكل أيضاً على صحة الواقعة بأن أبا هريرة إذا كان شجاعاً يتطرّق الأماكن الخالية طلباً للنبي صلی الله علیه و اله و سلم وخوفاً عليه أن يُقتطع ، فما باله يجهش بالبكاء كالطفل لضربة عمر ؟ !

وليت شعرى ، لِمَ اتّخذ الأنصار تلك البستان بلا باب ، حتّى الجَؤوا أبا هريرة إلى أن يحتفر كالثعلب ؟

ثمّ أي مناسبة بين النعلين ، وهذه البشارة العظمى للمتيقن بأشرف المعتقدات ؟

ألم يكن عند النبي علامة لتصديق أبي هريرة غير النعلين ؟!

والمنصف إذا تدبّر عرف التصنّع في هذا الحديث ، وأن ترتيبه من خرافات أبي هريرة وكذباته ، لكنّه لا يتهم على عمر فيما يتعلق بسوء أدبه ونصدقه في سكوت النبي صلی الله علیه و اله و سلم؛ لما نعلمه من عظيم خلقه وجميل تأليفه .

فأما قول الخصم : «لو كان هذا إساءة أدب مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم،لكان ينبغي أن يضرب عنقه».

فمُسَلّم، لكن منعه عنه أن يقال : إنّه يقتل أصحابه ، كما روى

ص: 247

البخاري في كتاب بدء الخلق ((1)) : إنَّ ابن أبي بن سلول قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل .

فقال عمر : ألا نقتل يا رسول الله ! هذا الخبيث ؟

فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم: لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ((2)) .

وروى - أيضاً - نحوه في كتاب التفسير ((3)).

وأما قوله : ولو كان أمثال هذه الأمور صادرة عن عمر لإساءة الأدب لكان مشتهراً بالنفاق كعبد الله بن أبي بن سلول .

ففيه : إن له طريقة في مخالفة النبي لا تشبه طريقة ابن أبي ، فإنّ ابن أبي كان يظهر في كثير من أحواله مظهر العداوة لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ودينه ،بخلاف عمر فإنّه كان يخرج في مخالفاته في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم مخرج الشفقة على الإسلام وأهله ، وبعد حياة النبي يخرج مخرج أنّها من الدين ومصالحه ، وأمضتها رياسته وإقبال الدنيا عليه ، والأعوان الذين همّهم العاجلة .

فتراهم حتى اليوم يسدّدون أمره، ويحملون ما كان منه في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم وبعده على الصحة، ولا يصفون إلى انتقاد منتقد ، وإن جاءهم بأعظم البينات ، فإذا إضطرهم المجال نسبوه إلى الاجتهاد، أي أنّ له رأياً محترماً ، وإن خالف الله ورسوله ، وأبطل الكتاب والسنة وهو مرتبة ف-مرتبة النبوّة ، وحاكمة على الله وكتابه.

ص: 248


1- في باب ما ينهى من دعاء الجاهلية . منه قدس سرة.
2- صحيح البخاري 20/5 ذيل ح30.
3- في تفسير سورة المنافقين في باب قوله تعالى : (استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ) الآية . منه قدس سرة.صحيح البخاري 268/6 ح 395 وص 270 ، مقطع من ح399.

ولم يكن عمر يظهر في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم مظهر المعارضة الصريحة له ، والردّ لأمره بلا مبالاة إلا في قصّة الهجر، فإنّه علم حينئذ موت النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وعرف كثرة أنصاره وأهل رأيه ، ولا عطر بعد عروس(1).

وأما قوله : إن فعل عمر موافق لمذهب الإمامية ... إلى آخره .

ففيه : إنا لا نقول : بوجوب جزاء المعصية والعقاب عليها ، بل نقول :

باستحقاق العقاب على المعصية، وأن الله العفو عنها ، لأن العقاب حقه .

نعم ، نقول : بوجوب جزاء الطاعة والثواب عليها ، ولكن لا يلزم منه موافقة فعل عمر لمذهبنا ، إذ لا يلزم من مذهبنا القول بعدم كفاية الشهادة بالوحدانية في دخول الجنّة .

على أن عمر لم يمنع من هذا ، وإنما يقول : إن التظاهر به يوجب التسامح في الأعمال ، والاتكال على الشهادة ، وهو مسألة أخرى .

ص: 249


1- لا عطر بعد عروس : مثل يضرب لمن لا يدّخر عنه نفيس، وأوّل مَن قاله - كما في كتب الأمثال واللغة - امرأة من بني عذرة ، يقال لها : أسماء بنت عبد الله العذرية ، وكان زوج من بني عمها يُقال له : عروس ، فمات عنها ، فتزوجها رجل من غير قومها يقال له : نوفل ، وكان أعسر أبخر بخيلاً دميماً ، فلما أراد أن يظعن بها قالت له : لو أذنت لي فرثيت ابن عمي وبكيت عند رمسه .فقال : افعلي.فقالت : أبكيك يا عروس الأعراس ! يا ثعلباً في أهله وأسداً عند الناس !قالت : يا عروس الأغرّ الأزهر ... مع أشياء له لا تذكر .قال : وما تلك الأشياء ؟قالت : كان عيوفاً للخنا والمنكر ، طيب النكهة غير أبخر ، أيسر غير أعسر . فعرف الزوج أنّها تعرّض به ، فلما رجل بها قال : ضمي إليكِ عطرك ، وقد نظر إلى وعاء عطرها مطروحاً ، فقالت : لا عطر بعد عروس ، فذهبت مثلاً .انظر :مجمع الأمثال 151/3 رقم 3491 ، المستقصى 263/2 رقم 919 ، تاج العروس /358 مادة «عرس » .

وبالجملة : إن مذهبنا ورأي عمر مسألتان مختلفتان لا تلازم بينهما ولا تنافی.

ثمّ إن مضمون حديث أبي هريرة قد جاء في أخبارنا عن إمامنا الرضا علیه السلام. قال - ما حاصله - : إن كلمة الشهادة كافية في دخول الجنة والنجاة من النار ، لكن قال علیه السلام: بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها ((1)).

أي أنها مشروطة بالشهادة لمحمد صلی الله علیه و اله و سلم بالنبوة ، وللأئمة الاثني عشر بالإمامة ، لأن الشهادة بهذا كله من أصول الدين.

وأما ما زعمه من أنّه لا إساءة أدب من عمر مع أبي هريرة بضربه له ،لانه كان أميراً مبجلاً ووزيراً للنبي صلی الله علیه و اله و سلم.

ففيه : إنا لا نعرف له من الإمرة والوزارة إلا الدعوى من أصحابه ، مع أن المصنف رحمه الله لم يتكلم في إساءة الأدب مع أبي هريرة ، وإن كان مسيئاً للأدب معه ، وفاعلاً للحرام بضربه له بلا جرم ، بل تكلّم في إساءة أدبه مع النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وإهانته له بضربه لرسوله ، وردّه لأمره ، فإنّ الأمير والوزير لوفعل برسول الملك هذا الفعل ، وردّ أمره بهذا الردّ من دون جرم من الرسول ، كان معدوداً في زمرة الجهال الجفاة الطغام المستهزئين بملكهم وأوامره ، بل الشريك لا يفعل هذا الفعل برسول شريكه، ولا يرد أمره بذلك الردّ المستهجن المستقبح ، ولو فعل كان مسيئاً للأدب مع شريكه مهيناً له أعظم إهانة.

وقوله : « وربما كان أبو هريرة لم يمتنع من الأداء بمجرد نهي عمر خطأ، لأنّه إن أريد احتمال أنّه منعه فلم يمتنع ، فهو خلاف ظاهر

ص: 250


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام 144/1 - 145 4 ، معاني الأخبار : 370 - 371 ح 1 ،التوحيد : 25 ح 23 ، الأمالي - للصدوق - : 305 - 306 ح 349 .

الحديث ؛ لدلالته على أنّه ضربه بمجرد الإخبار ، مع أنه كيف لا يمتنع بمنعه إلى مراجعة النبي صلی الله علیه و اله و سلم ولا سيما مع اللطف ، وهو يعلم - كما يزعمون - أنّه وزير رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و له منصب المعارضة عنده ، هريرة من أضعف الناس نفساً ؛ لأنّه يجهش بالبكاء لضربة واحدة ، ومن أدناهم شأناً وحالاً ؛ لأنه من أهل الصفة، ويتملق للناس لسد رمقه ؟ !

وإن أُريد أن عمر يحتمل أن أبا هريرة لم يمتنع بمنعه له فضربه ، فهو الأوّل بالبطلان ، إذ لا يجوز العقاب قبل الجناية وبمجرد احتمال صدور المخالفة .

وأما ما أجاب به عن حديث صلح الحديبية .

ففيه : إن عمر لو كان مستفهماً حقيقة وطالباً لدفع الشبهة من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لاكتفى بجوابه له بقوله : إنّي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أي إني فاعل بوحي الله تعالى ولست أعصيه ، أي إنّي مأمور حتماً بهذا الصلح وهو ناصري ، أي لا تخشى على الدنية لنصر الله تعالى لي.

بل رأينا عمر زاد في جرأته ، ووبّخ النبي صلی الله علیه و اله و سلم بقوله : ألست كنت تحدّثنا بأنا سنأتي البيت ؟ أي أن دعوى الرسالة ونصر الله لك غير مسموعة لما رأيناه من كذبك فيما ادعيته سابقاً من دخول البيت .

فأجابه النبي صلی الله علیه و اله و سلم: بأني لم أكذب ، أفحدثتك أنك تأتيه العام حتى أكون كاذباً ؟

وأيضاً فقول أبي بكر : فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق ، صريح في أن كلام عمر ينافي هذا ولا أقل من أن يكون عمر شاكاً في أمر

ص: 251

النبی صلی الله علیه و اله و سلم، كما صرح به عمر نفسه فيما رواه المصنف عن الثعلبي.(1)

ومن المعلوم أنّ الشاك غير مؤمن ، قال تعالى:«إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون»((2).

فقال الناس : حَلْ حَلْ ((3)) ، فألحت (§َلَحْتِ الناقةُ : لزمت مكانها فلم تبرح ، من ألح بالشيء : إذا لزمه وأصر عليه.تاج العروس 188/4 مادة «لَحَحَ ».(4)خلاتِ الناقة - كَمَنعَ - خلاً وخلاءٌ وخلوءاً : بَرَكتْ وحَرَنَتْ من غير علة ، فلم تبرح مكانها . تاج العروس 147/1 مادة (خلا)(5)صحيح البخاري 36/4 مقطع من ح 18.


1- احالة
2- سورة الحجرات 49: 15.). هذا وقد روى البخاري في صدر الحديث بكتاب الشروط : «أنّ النبی صلی الله علیه و اله و سلم سار حتى إذا كان بالثنية ... بركت به راحلته
3- حَلْ حَلْ : زجرٌ للناقة يحملها على السير ، قال الجوهري : حَلْحَلْتُ بالناقةِ ؛ إذا قلتُ لها : حَلْ . لسان العرب 304/3 مادة «حَلَلَ».
4- ). فقالوا : خلات (
5- ) القصوى. فقال النبي صلی الله علیه و اله و سلم ما خلات .... ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، ثمّ زجرها فوثبت»(

فعله بين المسلمين ، حتّى ما أطاعوه بالنحر والحلق ، وقد أمرهم ثلاثاً ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها مالقي من الناس ، كما رواه البخاري في تتمة الحديث ((1)) .

ولو ذكر المصنف رحمه الله هذه التتمة لكانت دخيلة بمقصوده ، وإن كفى بالطعن بهم الطعن السابق في كبيرهم ، بل فيهم ذاتاً من حيث اعتبارهم له وتأميرهم إياه.

وقد كشفت لهم هذه الواقعة عن حاله ، وهذا الصلح قد كان فتحاً مبيناً حتّى أنزل الله تعالى فيه :«إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً»((2))، كما رواه البخاري في غزوة الحديبية ، ومسلم في صلح الحديبية ((3)). وأمّا اعتذار الخصم عن شك عمر بعروض مثله للرسل ، لقوله تعالى :

«حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا»((4))الآية.

فمبني على رجوع ضمير ظنّوا إلى الرسل ، على معنى أنهم ظنّوا أنّ الله سبحانه قد أخبرهم بالنصر كذباً ، فيكون عذراً عن عمر بشكه ، وهو ظاهر البطلان ؛ لاستلزامه كفر الرسل بظنّهم كذب الله سبحانه في إخباره ، وهو خلاف الإجماع ؛ لأنّهم معصومون عن الكفر حتى عند السُنّة ، فلابد من رجوع الضمير إلى قومهم المفهوم من صدر الآية ، لأن معناها حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم وظنّ قومهم أنّ الرّسل كذبوا ، أو إلى نفس الرسل على معنى : أنهم ظنوا أن أصحابهم المؤمنين كذبوهم في إيمانهم ، سواءً

ص: 253


1- صحيح البخاري 41/4 مقطع من ح 18 .
2- سورة الفتح 48 : 1.
3- صحيح البخاري 266/5 ح203،صحیح مسلم 176/5.
4- سورة يوسف 12 : 110 .

كان الظنّ حقيقياً أم مجازياً باعتبار ما يقتضي كذب المؤمنين في إيمانهم من طول البلاء عليهم ، وتأخر النصر عنهم ، هذا كله على تقدير قراءة كذبوا بالتخفيف.

وأما على قراءتها بالتشديد فالأمر أوضح ، لأن المعنى حينئذ : حتى إذا استيأس الرسل ممن لم يؤمن بهم، وظنّوا أن من آمن بهم كذبهم في إخبارهم له بالنصر ، جاءهم نصرنا .

روى البخاري في كتاب بدأ الخلق ((1))«أنّ عروة سأل عائشة : أرأيت قوله تعالى :«حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا»، أو كذبوا ((2)).

قالت : بل كذبهم قومهم .

فقلتُ : والله ، لقد استيقنوا أنّ قومهم كذبوهم وماهو بالظنّ ، فلعلها ، او کذبوا.

قالت : معاذ الله ! لم تكن الرُّسل تظنّ بربها.

:قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، وطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، حتى إذا استيأس الرُّسُلُ ممّن كذبهم من قومهم ، وظنوا أن أتباعهم كذبوهم ، جاءهم نصرنا ((3)).

وروى البخاري نحوه في كتاب التفسير ((4)).

ولو أعرضنا عن ذلك ، فالآية إنما تكون عذراً لعمر في شكه ، لا في

ص: 254


1- في باب قول الله تعالى (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) . منه قدس سرة.
2- بالتخفيف والبناء للمجهول . منه قدس سرة.
3- صحيح البخاري 296/4 ح192.
4- في آخر تفسير سورة يوسف . منه قدس سرة.صحيح البخاري 147/6ح 215 ، وفيه اختلاف في بعض الفاظه.

إساءته الأدب مع النبي صلی الله علیه واله وسلم، ومواجهته بالتوبيخ والكفر ، وهو محلّ القصد.

وما ذكره الخصم من أنّ طلب دفع الشك بأي عبارة كانت ، لايكون ترك الأدب ...»إلى آخره ،مكابرة ظاهرة لا تستحق الجواب.

ص: 255

قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة : من المتفق على صحته أن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أعتم بالعشاء حتى ناداه عمر : الصلاة ، نام النساء والصبيان .

فخرج وقال : ما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم على الصلاة،وذلك حين صاح عمر بن الخطاب ((2)) .

وقد قال الله تعالى :«لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون»((3)).

فجعل ذلك محبطاً للعمل .

وقال:«إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون* ولو أنّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم»((4)).

ص: 256


1- نهج الحق : 337.
2- الجمع بين الصحيحين 4 / 65 ح 3177 ، وأنظر : صحيح البخاري 236/1 - 237 ح 46 ، صحيح مسلم 115/2.
3- سورة الحجرات 49: 2 .
4- سورة الحجرات 49 : 4 و 5.

وقال الفضل ((1)) :

ما ذكر من رفع الصوت فوق صوت النبي صلی الله علیه واله وسلم، فإنّه وارد في غير الصلاة ، وأما الصلاة وإنهاء النبي الا برفع الصوت والإعلام، فلا بأس به ، وإلا لم يكن يجوز لبلال ولسائر المؤذنين أن يرفعوا أصواتهم بالأذان .

وقد صح أن بلال كان إذا فرغ من الأذان ينادي عند حجرة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم:الصلاة الصلاة ، والعجب أنه يجعل هذا من باب رفع الصوت فوق صوت النبي صلی الله علیه واله وسلم، فبلال على هذا التقدير وسائر المؤذنين كان أعمالهم محبطاً ، لأنّهم ينادون : الصلاة الصلاة، وهذا من غرائب الاعتراضات الدالة على جهله وعناده .

ص: 257


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 643(حجري ) .

وأقول :

روى مسلم هذا الحديث في كتاب الصلاة ((1)) ، ولا ريب بدلالته على حرمة نداء عمر ، لقول النبي صلی الله علیه واله وسلم: مالكم أن تنزروا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أي تستعجلوه وتستحوه .

كما يدلّ على حرمته قوله تعالى :«لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول»((2)).

وقول الخصم : إنّه وارد في غير الصلاة ، دعوى بلا بينة .

وأما رفع الصوت بالأذان ، فخارج بالدليل ، أو لأن الآية مختصة بمقام التخاطب مع النبي صلی الله علیه واله وسلم.

وما صححه الخصم من نداء بلال عند حجرة النبي صلی الله علیه واله وسلم: الصلاة الصلاة ، كاذب .

ولو سلّم فغايته أن يجعل مقيّداً للآية لا جواباً عن الحديث ،إذ ليس هذا النداء مقصوداً به النزروالإعجال ، بل التنبيه، بخلاف نداء عمر ، ولذا لم يؤنب بلالاً ، ولم ينكر عليه ، كما فعل مع عمر.

ص: 258


1- في باب وقت العشاء وتأخيرها . منه قدس سرة، صحيح مسلم 115/2.
2- سورة الحجرات 49: 2 .

قال المصنّف - قدس سره- ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب : أنّه لمّا توفّي عبد الله بن أبي بن سلول ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فسأله أن يصلي عليه ؟

فقام رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ليصلي عليه

فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فقال : يا رسول الله !

أتصلي عليه وقد نهاك ربّك أن تصلي عليه ؟

فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم: إنما خيرني الله تعالى قال :«استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرّة»((2)) ، وسأزيد على السبعين .

قال : إنّه منافق .

فصلى عليه رسول الله ((3)).

وهذا رد على النبي صلی الله علیه واله وسلم.

ص: 259


1- نهج الحق : 338.
2- سورة التوبة 9: 80.
3- الجمع بين الصحيحين 2/ 219 ح 1335 ، وأنظر : صحيح البخاري 202/2 ح 120 و 6 / 129 ح 190 وص 130 - 131 ح 192 ، وصحيح مسلم 116/7 وج120/8.

وقال الفضل ((1)) :

غير الحديث عن صورته ، والصواب من رواية الصحاح : إن عمر قال الرسول الله صلی الله علیه واله وسلم: أتصلي عليه ، وهو قال كذا وكذا ؟ وطفق يعد مثالبه وما ظهر عليه من نفاقه.

فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم:دعني فأنا مأمور ومخيّر، فصلّى عليه ،فأنزل الله تصديقاً لفعل عمر ونهيه عن الصلاة عليه قوله :«ولا تصل على مات أبداً ولا تَقُمْ على قبره ...»((2))((3)) الآية .

وهذا من مناقب عمر، حيث وافقه الله في فعله ، وأنزل على تصديق قوله القرآن .

وهذا الرجل يذكر هذه المنقبة العظيمة من مثالبه ومطاعنه ، وهذا أيضاً - يدل على ما ذكرنا أن عمر كان جريئاً في المشاورات ، وكان رسول الله أعطاه هذا المقام .

ص: 260


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 644(حجري ) .
2- سورة التوبة 9 : 84 .
3- صحيح البخاري 202/2 ضمن ح 120 ، 130/6 ضمن ح 191.

وأقول :

قد روى البخاري في تفسير سورة براءة ((1)) هذا الحديث بألفاظه التي ذكرها المصنف رحمه الله ، وكذلك مسلم ، في فضائل عمر، وفي أوّل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ((2)).

فما نسبه الفضل إلى المصنف رحمه الله من تغيير صورة الحديث جهل وتحامل ، بل الفضل هو الذي غير صورة الحديث الذي صوّبه ، فإنّه على الظاهر هو الذي رواه البخاري ((3)) عن عمر ، قال:«لما مات عبد الله بن ابن سلول دعي له رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ليُصلي عليه .

فلما قام رسول الله ، وثبتُ إليه فقلت : يا رسول الله ! أتصلي على ابن ابی وقد قال يوم كذا وكذا وكذا ؟ ثمّ عدّد عليه قوله .

فتبسم رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وقال : أخر عني يا عمر !

فلمّا أكثرتُ عليه ، قال : إنّي خُيّرت فاخترت ، لو أعلم أنّي زدت على السبعين فغفر له لزدت عليها ، فصلّى عليه رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة :«ولا تُصلّ على أحدٍ منهم أبداً ...»إلى قوله :«وهم فاسقون»(4) (5).

ص: 261


1- في باب (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) . منه قدس سرة.
2- صحيح البخاري 129/6ح190وص130-131ح191،صحیح مسلم116/7و120/8.
3- في الباب السابق وفي باب ما يكره من الصلاة على المنافقين من أبواب الجنائز .منه قدس سرة.
4- سورة التوبة 9 : 84 .
5- صحيح البخاري 202/2 ح 120 وج 130/6 ح 191 .

ونحوه في«مسند أحمد»((1))عن عمر ، وقال فيه: «فلما وقف عليه يريد الصلاة، تحوّلت حتّى قمت في صدره»((2)).

وروى البخاري - أيضاً - حديث ابن عمر في باب الكفن في القميص من أبواب الجنائز، وقال فيه :«فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر،فقال : أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين ؟

فقال : أنا بين خيرتين »((3)).

وروى البخاري - أيضاً - نحوه في كتاب اللباس(4).

إلى غير ذلك من الأخبار المروية عن عمر وابنه ، في هذه الواقعة الدالة على أنه صدر من عمر فيها أُمورٌ منكرة .

منها : افتراؤه وقوله : « أتصلى وقد نهاك ربّك أن تصلي عليه ؟ أو نحو هذا القول ، فإن النبي صلی الله علیه واله وسلم لم يكن منهياً حينما صلى على ابن أبي ، وإنّما نُهي بعد ذلك ، ولذا قال : ( خُيّرت فاخترت»((5)) .

ومنها : جرأته على رسول الله صلی الله علیه واله وسلم وإنكاره عليه الإنكار الشنيع ، الله حتى أخذ بثوبه ، أو جذبه وقام في صدره ، وقد قال الله تعالى :«يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ...»((6)).

وليت شعري ، ، أكان عمر يرى نفسه أعلم من النبي صلی الله علیه واله وسلم، أو يرى الله. أنّ النبي لم يتبع أحكام الله تعالى ؟ أو كان لا يعرف لرسول الله حرمة

ص: 262


1- ص : 16 ج 1 . منه قدس سرة.
2- مسند أحمد 16/1 .
3- صحيح البخاري 166/2 مقطع من ح 31.
4- في باب لبس القميص . منه قدس سرة، صحيح البخاري 262/7.
5- انظر هامش 5 صفحة 260.
6- سورة الحجرات 1:49 .

ورسالة ، وأراد أن يهجن فعله بين الناس؟

ومنها : إنه عصى رسول الله صلی الله علیه واله وسلم في قوله : «أخر عنّي ، حتّى أكثر عليه»، وقد أمر الله بطاعته.

فمن وقع منه مع النبي صلی الله علیه واله وسلم في واقعة واحدة أنواع المنكرات .كيف يكون أهلاً للولاية على المسلمين ؟

فأما قوله : وهذا من مناقب عمر حيث وافقه الله تعالى في فعله...

إلى آخره، فمن المضحكات ، لأنّه لم يعد منكرات عمر الصريحة من مطاعنه ، ويعد النسخ الاتفاقي من مناقبه .

وحقيقة الموافقة المدّعاة أنّ الله سبحانه ظهر له برأي عمر تعالى في تخيير النبي صلی الله علیه واله وسلم، فاتبع رأي عمر ، لأن النبيّ لم يفعل برأيه حتى يكون الله موافقاً لرأي عمر دون النبي صلى الله عليه وسلم ! وهذا كفر صريح .

على أنّ تلك الموافقة المستفادة من نزول الآيتين بعد إنكار عمرعلی النبی صلی الله علیه واله وسلم إنّما أخذوها من أخبارهم، وهي غير حجّة علينا ، مع أن تلك الأخبار إنما هي من مرويات عمر وابنه ، وهما محلّ التهمة فيما به جلب الفضل ، وعمر هو محلّ الكلام .

بل لا ريب بكذب الرواية في بعضها ، وهو تبسم النبي صلی الله علیه واله وسلم إليه إذ لا يساعد فعل عمر ووقوف النبي صلی الله علیه واله وسلم على جنازة تبسمه إليه .

ومما ذكرنا في المقام وقبله يعلم ما في قوله : كان رسول الله صلی الله علیه واله وسلمأعطاء هذا المقام، كما أن صريح الروايات أن ماصدر من عمر لم يكن مسبوقاً باستشارة النبي صلی الله علیه واله وسلم، فلا محل لقول الفضل : «وهذا يدلّ على أن عمر كان جريئاً في المشاورات ولو قال : كان جريئاً في المخالفات وفعل المنكرات ، لكان أولى.

ص: 263

واعلم أن الحكمة في صلاة النبي صلی الله علیه واله وسلم على ابن أبي وإعطاء قميصه كفناً له هو تأليف المنافقين والكافرين من الخزرج، ويدل عليه مافي «الدرّ المنثور عن أبي الشيخ ، قال في حديث: «إنّهم ذكروا القميص ، فقال النبي صلی الله علیه واله وسلم: وما يغني عنه قميصي ؟! والله ، إنّي لأرجو أن يُسلم به أكثر من ألف من الخزرج»((1)).

ولكن - ياللأسف - زاد الراوي في هذا المقام إنتصاراً لعمر ، أنه نزل بعد قول النبي صلی الله علیه واله وسلم: إني لأرجو أن يسلم ... إلى آخره، قوله تعالى عقيب الآيتين السابقتين :«ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم»((2)).

إذ لا يمكن أن ينهى عن الإعجاب بإسلام البنين بعد ما رجاه، وهو إنّما بعث إلى الدعوة إلى الإسلام، وهذا الراوي لم يعرف أن المراد : هو النهي عن الإعجاب بذوات البنين وصفاتهم ومحاسنهم الظاهرية ، فكذب على الله ورسوله في نزولها في المقام .

ص: 264


1- الدر المنثور 259/4 .
2- سورة التوبة 9 : 55 .

قال المصنّف - أعلى الله مقامه- ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين من مسند عائشة قالت : كان أزواج رسول الله صلی الله علیه واله وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المصانع ((2)).

فخرجت سودة بنت زمعة فرآها عمر - وهو في المجلس - فقال :عرفتك يا سودة !

فنزلت آية الحجاب عقيب ذلك ((3)).

وهو يدلّ على سوء أدب عمر، حيث كشف سرّ زوجة النبي صلی الله علیه واله وسلم،ودلّ عليها أعين الناس ، وأخجلها ، وما قصدت بخروجها ليلاً إلا الاستتار عن أعين الناس وصيانة نفسها .

وأي ضرورة له إلى تخجيلها حتّى أوجب ذلك نزول آية الحجاب ؟ !

ص: 265


1- نهج الحق : 338.
2- كذا في النسخ ، والظاهر أنه تصحيف«المناصع » ، والمناصع : موضع خارج المدينة ، كان النساء يتبرّزن إليه بالليل .انظر : تاج العروس 481/11 مادة «نصع » ، معجم البلدان 34/5 رقم 11573.
3- الجمع بين الصحيحين 79/4 ح 3191 ، وأنظر : صحيح البخاري 81/1 ح 12 و ج 97/8 ح 13 ، صحيح مسلم 6/7 - 7 .

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

هذا يدلّ على كمال غيرة عمر، وشدّة اهتمامه في حفظ سرّ أزواج النبی صلی الله علیه واله وسلم، ولهذا قال : عرفناك يا سودة ! والمراد : إن الخروج بالليل - أيضاً - يوجب معرفة الناس ، وليس هذا كمال الاستتار، فينبغي أن يتحرّز عن الخروج بالليل أيضاً .

ألا ترى أن الله تعالى أنزل عقيب هذا آية الحجاب ، وهذا موافقة لعمر ، وهو من مناقبه.

ولو لم يكن هذا العمل من عمر مقبولاً عند الله ، لأنزل عقيبه تأنيباً لعمر وتوبيخاً له على مافعل ، لا أنّه ينزل ما يكون تصديقاً له وموافقة إيَّاه ،وهذا ظاهر على غير المتعصب.

ص: 266


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 645(حجري ) .

وأقول :

لا مناسبة بين الغيرة والاهتمام في ستر أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم، وبين نداء سودة باسمها في مجمع الناس ، وهي خارجة إلى الخلاء ليلاً صيانة لنفسها .

وقد يوجه بأنّه هتكها فعلاً طلباً لسترها في المستقبل ، لأنّه كان يقول للنبي صلی الله علیه واله وسلم: احجب نساءك ، فلم يفعل ، فصنع عمر ذلك حرصاً على أن يُنزل الحجاب ، كما دلّ على ذلك تمام الحديث الذي حكاه المصنف رحمه الله فإنّه رواه البخاري مصرحاً بذلك في باب آيه الحجاب من كتاب الاستئذان ولنذكره بلفظه ليعرفه كل سامع .

قال : «إن عائشة قالت : كان عمر بن الخطاب ، يقول الرسول الله :احجب نساءك .

قالت : فلم يفعل ، وكان أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المصانع ((1))، فخرجت سودة بنت زمعة - وكانت أمرأة طويلة - فرآها عمر ابن الخطاب - وهو في المجلس -.

فقال : عرفتك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب .

قالت : فأنزل الله عزّ وجلّ آية الحجاب» ((2)).

ورواه البخاري أيضاً بلفظ قريب منه في كتاب الوضوء ((3)) وكذا مسلم

ص: 267


1- كذا في النسخ
2- صحيح البخاري 97/8 ح 13.
3- في باب خروج النساء إلى البراز . منه قدس سرة.صحیح البخاري 81/1 ح 12.

في كتاب السلام ((1)).

ويرد على هذا التوجيه أنّ لازمه أن يكون عمر أغير من رسول الله صلی الله علیه واله وسلم وأحرص منه على حجاب نسائه ، بل يكون أغير من الله سبحانه وأعرف منه بالصلاح ، لأن النبي صلی الله علیه واله وسلم إنّما يُحل ويحرّم بأمر الله تعالى ، ويكون عمر قد فعل ذلك الفعل القبيح، وأساء الأدب مع النبی صلی الله علیه واله وسلم واجترأ عليه ، ليلجأ الله سبحانه إلى أن يأمر نبيه صلی الله علیه واله وسلم بحجابهن ! وهذا - لعمر الله - رأي من لم يشم رائحة الإيمان .

وأما قوله : «فينبغي أن يتحرّز عن الخروج بالليل».

فإن أراد به : أنّه ينبغي أن يتحرّزن بأمر النبي صلی الله علیه واله وسلم لهن بالتحرز ،فهو راجع إلى ذلك التوجيه القبيح.

وإن أراد أنه ينبغي لهنّ أن يتحرّزن ، وإن لم يأمرهنّ النبي صلی الله علیه واله وسلم،فهو خلاف قول عائشة : حرصاً على أن ينزل الحجاب .

مع أن التحرّز غير ميسور لهنّ بعد اضطرار من إلى الخروج ، لعدم وجود الكنيف في دار النبي حينئذ وإلا لما خرجن .

وأما ما ذكره ... الحديث ، وتشدّق به الخصم من نزول آية الحجاب عقيب فعل ،عمر، فكذب ظاهر اختلقه القوم تلافياً لما فرط من عمر ، فإنّ آية الحجاب نزلت قبل ذلك ، بدليل مارواه البخاري في تفسير سورة الأحزاب عند ذكر آية الحجاب عن عائشة ، قالت : «خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت أمرأةً جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، الخطاب ، فقال : يا سودة ! والله ما تخفين علينا ، فانظري

ص: 268


1- في باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان . منه قدس سرة.صحیح مسلم 7/7.

كيف تخرجين ؟

اللهُ: قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلی الله علیه واله وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْق فدخلت ، فقالت : يا رسول الله ! إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي فقال لي عمر كذا وكذا .

قالت : فأوحى الله إليه ، ثمّ رفع عنه ، وإنّ العرق في يده ماوضعه ،فقال : إنّه قد أذِنَ لَكُنْ أنْ تَخرُجْنَ لحاجتكن»((1)).

ومثله في كتاب السلام ((2)) .

وهو صريح بأن ما صدر من عمر كان بعد نزول الحجاب ، كما هو دال على أن الله سبحانه أوحى في الحال إلى نبيه صلی الله علیه واله وسلم بجواز خروجهن رضاً بفعل سودة، ورداً لعمر ، وهو كافٍ في تأنيبه وتوبيخه ، ولو أنبه النبی صلی الله علیه واله وسلم صريحاً ، أو عاقبه بما هو حقه ، لم يأمن منه ومن بعض خواصه أن يأفكوا على سودة ، كما أفكوا على مارية ، لأنه لم يفعل ما فعل شفقة على سودة وطلباً لسترها، وإلا لنبهها بطريق جميل .

وهلا فعل مثل ذلك مع ابنته ، إذ كانت تخرج كما تخرج سودة ، بل يلزمه أن يفعل ذلك مع ابنته خاصة، ليعلم صدق نيته وصحة ما يقوله قومه .

هذا ، ويدل - أيضاً - على كذب دعوى نزول آية الحجاب في قصه سودة أخبارهم المستفيضة بنزولها في قصة تزويج النبي صلی الله علیه واله وسلم بزينب بنت جحش ، والآية أنسب بهذه القصّة.

وروى البخاري في تفسير سورة الأحزاب عن أنس ، قال : «لما تزوج

ص: 269


1- صحيح البخاري 216/6ح289.
2- كما في الباب المذكور . منه قدس سرة.صحیح مسلم6/7.

رسول الله صلی الله علیه واله وسلم زينب ابنة جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلمّا قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلی الله علیه واله وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثمّ إنّهم قاموا ، فجئت فأخبرت النبي صلی الله علیه واله وسلم أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله :«يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي ...»((1))((2)) الآية .

وتَيَمَّتُها :«إلّا أن يؤذن إلى طعام غير ناظرين إناء ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب»((3)).

وروى البخاري نحو هذا الحديث من عدة طرق في المحل المذكور وغيره ((4)) .

ومثله مسلم في «كتاب النكاح»((5)).

وبهذه الأخبار يعلم كذب ما روى عن عمر - أيضاً - كما في البخاري في كتاب الصلاة ((6)) قال :

ص: 270


1- سورة الأحزاب 33: 53.
2- صحيح البخاري 242/6 ح 285.
3- سورة الأحزاب 33: 53.
4- صحيح البخاري 214/6 - 215ح286 - 288وج40/7ح 97و ص 150-151ح90وج95/8-96ح11و12.
5- في باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب ، وفي باب قبله منه قدس سرة،صحیح مسلم 149/4 - 150 .
6- في باب ما جاء في القبلة . منه قدس سرة.

وافقت ربّي في ثلاث : قلت : يا رسول الله ! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت«واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى»((1)) .

وآية الحجاب ، قلت : يا رسول الله ! لو أمرت نساءك أن يحتجبن ، فإنّه يكلّمُهن البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب ((2)) ، ... الحديث .

ص: 271


1- سورة البقرة 2 : 125 .
2- صحيح البخاري 178/1 " ح 66 .

قال المصنف - طاب ثراه -((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين في مسند جابر بن عبد الله - من المتفق عليه - قال جابر: «إنّ أباه قتل يوم أحد شهيداً ، فاشتد الغرماء في حقوقهم ، فأتيت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم وكلمته ، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحلوا أبي ، فلم يوافقوا، فلم يعطهم رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثمرة حائطي ولم يكرههم ، ولكن قال : سأغدو عليكم .

فغدا علينا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم حين أصبح فطاف في النخل ، ودعا في ثمرها بالبركة، فَجَذَذْتُها فقضيتُهُمْ حقوقهُمْ ، وبقي لنا من ثمرها بقيّة، ثمّ جئت إلى رسول الله صلی الله علیه واله وسلم،فأخبرته بذلك.

فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم لعمر - وهو جالس : اسمع يا عمر !

فقال عمر: إن لم نكن قد علمنا أنك رسول الله ، فوالله إنّك لرسول الله»(2).

وهذا يدل على أنّ النبي سيّء الرأي فيه، ولهذا أمره بالسماع وأجاب عمر : إن لم نكن علمنا أنك رسول الله ، فإنّك رسول الله

ص: 272


1- نهج الحق : 339.
2- الجمع بين الصحيحين 367/2 ذيل ح 1596 ، وأنظر : صحيح البخاري 318/3 -319 ح 35.

وقال الفضل ((1)):

الصحيح في هذا الخبر أن عمر لم يكن حاضراً، وقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم جابر : أخبر عمر ؛ فأخبر جابر عمر ، فقال : نشهد أنّه رسول الله.

وسرُّ هذا الأمر بالإخبار أن عمر كان يسرّه ظهور الآيات فأمره باخباره.

وإن كان الرواية كما ذكر ، فهو أيضاً في هذا المعنى ، لا أنّ لا أنّ عمر كان في رسالة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولا أن النبي كان سيئ الرأي فيه ، نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة في حق أصحاب رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.

ص: 273


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 646 ( حجري ) .

وأقول :

قد روى البخاري الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله في «كتاب الهبة »((1)) .

ولا ريب أن معناه ما فهمه المصنف رحمه الله لا مافهمه الفضل ، إذ لا وجه لأن يقصد النبي صلی الله علیه واله وسلم بأمره لعمر بالسماع إدخال السرور عليه ، فإنّ حضوره وسماعه كافيان في دخول السرور عليه - لو كان ممن يستر بذلك فلا بد أن يكون أمر النبي صلی الله علیه واله وسلم له بالسماع - مع عدم الحاجه إليه - لإرادة إلزامه بالحجّة ، ولذا أجاب بأنّا إن لم نكن علمنا أنّك رسول الله ، فوالله إنك لرسول الله.

كما أنّ الأقرب في الحديث الذي ذكره الفضل - لو ثبت وجوده - هو ذلك أيضاً ، إذ لو كان المقصود إدخال السرور عليه ، للاحت عليه إمارته من إظهار الفرح ، وحمد الله تعالى ونحو ذلك ، لا مجرد الإقرار بالشهادة .

ص: 274


1- من صحيحه في باب إذا وهب ديناً على رجل . منه قدس سرة. الاولى البخاري 318/3- 319 ح 35.

قال المصنّف - رفع الله درجته -((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك ، قال : إن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم مشاور حين بلغه إقبال أبي سفيان .

قال : فتكلّم أبو بكر ، فأعرض عنه ، ثمّ تكلّم عمر ، فأعرض عنه ((2)).

وهذا يدلّ على سقوط منزلتهما عنده ، وقد ظهر بذلك كذب من اعتذر عنهما في ترك القتال ببدر ، بأنهما كانا ، أو أحدهما في العريش يستضيء برأيهما ، فمن لا يسمع قولهما في ابتداء الحال ، كيف يستنير بهما حالة الحرب ؟

وقد اعترض أبو هاشم الجبائي فقال : أيجوز أن يخالف النبي صلی الله علیه واله وسلم فيما يأمر به .

ثمّ أجاب فقال : أما ما كان على طريق الوحي ، فليس يجوز مخالفته على وجه من الوجوه .

وأما ما كان على طريق الرأي ، فسبيله سبيل الأئمة في أنه لا يجوز أن يخالف ذلك حال حياته، ويجوز بعد وفاته .

والدليل على ذلك أنّه أمر أسامه بن زيد أن يخرج بأصحابه في الوجه الذي بعثه فيه، فأقام أسامة وقال : لم أكن لأسأل عنك الركبان ، وكذلك أبو بكر استرجع ، عمر ، ولا كان لأبي بكر استرجاع عمر((3)).

ص: 275


1- نهج الحق : 339.
2- الجمع بين الصحيحين 644/2 ح 6122 ، وأنظر : صحیح مسلم 170/5.
3- الطرائف : 449 نقلاً عن كتاب الجامع الصغير لأبي هاشم الجبائي.

وهذا قول بتجويز مخالفة النبي صلی الله علیه واله وسلم، والله تعالى قد أمر بطاعته وحرّم مخالفته، ثمّ كيف يجيب بجواز المخالفة بعد الموت لا حال الحياة ، ويستدلّ عليه بفعل أسامة وأبي بكر وعمر ، ومخالفتهم كانت في حياة الرسول صلی الله علیه واله وسلم؛ ولهذا قال ؛ ولهذا قال أسامة : لم أكن لأسأل عنك الركبان .

وهذا يدلّ على المخالفة في الحياة وبعد الموت ، فأي وقت يجب القبول منه ؟! وكيف يجوز لهؤلاء القوم أن يستدلوا على جواز مخالفة الرسول بفعل أسامه وأبي بكر وعمر ؟!

ص: 276

وقال الفضل ((1)):

كانت واقعة بدر من غير عزم من رسول الله صلی الله علیه واله وسلم على القتال . وخرج ليتلقى عِيرَ أبي سفيان ، فلما علم قريش بخروجه خرجوا عازمين على القتال ، وكان صلی الله علیه واله وسلم بايع الأنصار وبايعوه على أن يحموه في المدينة ، ويدفعوا عنه بما يدفعون به عن عيالهم ، ولم يبايعوا على أن يقاتلوا معه في أي وقت كان .

فلما خرج قريش ، وسمع رسول الله صلی الله علیه واله وسلم بخبرهم ، أراد أن ينظر أن الأنصار يوافقونه إن قاتل أو لا يوافقونه ؛ لأنّهم لم يبايعوا على الخروج معه إلى العدوّ ، فاستشار الأصحاب ، وقال : أيها الناس ! ما الرأي ؟

فقال أبو بكر : الرأي الخروج إليهم والمقاتلة معهم ، فأعرض رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.

وكذا عمر قال : الرأي الخروج، فأعرض رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.

وَسِرُّ الإعراض أنّه يريد الأنصار يتكلمون في هذا الأمر ، فإنّه كان من المعلوم أن أبابكر وعمر يوافقانه في القتال، والغرض استفسار حال الأنصار ليعلم ما عندهم من الرأي .

ولهذا لما تكلّم مقداد بن الأسود بالكلام الدال على الموافقة ، أعرض وقال : يا أيها الناس ! ما الرأي ؟

فقام إليه سعد بن معاذ وقال : كأنك تريدنا يا رسول الله ؟

ص: 277


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 647 ( حجري ) .

قال : نعم .

قال : بايعناك ونوافقك في القتال .

وقال ما قال ، فسر بذلك رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وسار إلى قريش ، وهذا سرّ الإعراض.

وهذا الرجل إما جاهل بالأخبار أو متجاهل للتعصب ، نعوذ بالله منه ، وهذا الإعراض لهذا الأمر، لا لمنع أن يستنير رسول الله في العريش برأي أبي بكر .

وحاصل الكلام : أن هذا الرجل ما يدعى ؟ أيدعى أن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم لم يكن يشاور أبا بكر ولا عمر في الأمور ، فهذا أمر باطل ودعوى كاذبة ، مخالفة للتواتر المعلوم ؛ لأن أبا بكر وعمر كانا وزيري رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولم يصدر رسول الله صلی الله علیه واله وسلم عن أمر إلا برأيهما ، ومن خالف هذا فهو مكابر للمعلوم بالتواتر، ولما هو جار مجرى الضروريات من الدين .

وما ذكر من أبي هاشم من جواز مخالفة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فهذا مذهب لم يقل به أهل السنة والجماعة ، والمذهب أنّه لم يجز مخالفة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم في حال حياته ولا بعد موته .

نعم، يجوز أن يقال له فيما لا يكون بطريق الوحي : افعل كذا ولا تفعل كذا على سبيل المشاورة، لأنّ الله تعالى قال:«وشاورهم في الأمر»((1))، والمشاورة لأجل أن يقال : افعل ولا تفعل، وإلا فما فائدة المشاورة ، كما كان يفعل عمر، فإن وافق ذلك القول رأي النبي صلی الله علیه واله وسلم فذاك ، وإلا يجب الرجوع إلى أمره وموافقته وطاعته فيما أمر ونهى .

ص: 278


1- سورة آل عمران 3 : 159 .

وأقول :

يرد عليه أمور :

الأوّل : إنّ ما زعمه من إشارة أبي بكر وعمر بالخروج والمقاتلة كذب صريح لا أثر له في أخبارهم ، ومخالف لما نطقت به رواياتهم ، من قولهما : إنها قريش ،وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزّت ، فتأهّب لهم يا رسول الله ، وقولهما : بلغنا أنّهم كذا وكذا ، كما سبق نقله عن «الدر المنثور في آخر مآخذ أبي بكر ((1)).

فإنّ ذلك دال على إشارتهما بترك الحرب ، وترهيب النبي صلی الله علیه واله وسلم والمسلمين من قتال قريش بكثرتهم، وعدم دخول الذلّ عليهم أصلاً ، فيلزم ترك حربهم إلى وقت التأهب .

فحينئذ يعلم أن إعراض النبي صلی الله علیه واله وسلم عنهما - كما رواه مسلم في باب غزوة بدر من كتاب الجهاد ((2)) ، وأحمد في مسنده ((3)) - إنما هو لسوء قولهما ، لا لأنّه يريد الأنصار كما زعمه الفضل .

صَدَّ اللهُ ولذا سُرِّيَ عن النبي صلی الله علیه واله وسلم بقول المقداد، وسُرّ به، ولم يعرض عنه ، وهو من المهاجرين ، كما ستعرف .

نعم، جاء في رواية الزمخشري الآتية : أنهما قاما فأحسنا ، ولعله من حيث طلبهما التأهب لقتال قريش ؛ لضعفهم فعلا عن حربهم، و الا فلم

ص: 279


1- راجع 149 من هذا الكتاب.
2- صحیح مسلم 170/5
3- ص : 219 و ص 220 ج 3 . منه قدس سرة.

تؤثر عنهما كلمة حسنة في المقام .

وما زعمه الفضل من أنّ الأنصار لم يبايعوا على الخروج للحرب ،فمنقوض بالمهاجرين ، فإنّهم لم يبايعوه - أيضاً - على ذلك.

وقد كان خطاب النبي صلی الله علیه واله وسلم عاماً للجميع ، فأجابه كل من المهاجرين والأنصار حتى أجابه المقداد بعد سعد بن عبادة ، كما في رواية الزمخشري الآتية .

ولو كان يريد الأنصار لما أجابه المقداد بعد سعد، إذ لا يمكن أن يخفى عليه إرادة النبي صلی الله علیه واله وسلم للأنصار ، ويظهر للفضل وأشباهه ، فإذا كان الشيخان على ذلك الرأي غير المرغوب به للنبي صلی الله علیه واله وسلم في أوّل الحال ، فكيف يستنير برأيهما في ثاني الحال .

الثاني : إن ما ذكره من إعراض النبي صلی الله علیه واله وسلم عن المقداد أكذب من سابقة.

روى البخاري في غزوة بدر في أوّل الجزء الثالث من صحيحه عن ابن مسعود قال : شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحبّ إليَّ ممّا عُدل به ((1)).

أتى النبي صلی الله علیه واله وسلم فقال : لا نقول كما قال قوم موسى :«إذهب أنت وربك فقاتلا»((2))، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك

ص: 280


1- ممّا عُدلَ به : أي وُزِنّ ؛ من كلّ شيء يقابل ذلك من الدنيويات ، وقيل : من الثواب ، أو المراد الأهم من ذلك ، ومراد المتكلّم : المبالغة في عظمة ذلك الشي والعدل : الكيل ، وعدل الشيء عدلاً وعادله : وازنه ، وقيل : العدل ؛ تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه ، وقيل : هو المثل وليس بالنظير عينه.انظر : لسان العرب 84/9 . مادة « عَدَلَ ».
2- سورة المائدة 5 : 24 .

وخلفك ، فرأيت النبي صلی الله علیه واله وسلم أشرق وجهه وسره - يعني قوله - »((1)).

وروى البخاري - أيضاً - في تفسير سورة المائدة من كتاب التفسير عند ذكر قوله تعالى :«فاذهب أنت وربك فقاتلا ...»الآية .

أنّه قال المقداد يوم بدر : يا رسول الله ! إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى :«فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون».

ولكن امض ونحن معك ، فكأنّه سُرِّي عن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم»((2)) .

ونقل السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى :«كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق ...»((3))الآية .

عن ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي أيوب ، قال في حديث له : «إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما تَرَوْنَ في القوم ، فإنّهم أخبروا بمخرجكم ؟ فقلنا : يا رسول الله ! لا والله، ما لنا طاقة بقتال القوم ،إنما خرجنا للعير .

ثمّ قال : ما ترون في قتال القوم ؟ فقلنا : مثل ذلك.

فقال المقداد : لا تقولوا كما قال اصحاب موسى لموسى :«إذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون»((4)) ... الحديث .

وروى الزمخشري في الكشاف : أنّه نزل جبرئيل فقال : يا محمد ! إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إمّا العير، وإمّا قريشاً، فاستشارالنبی صلی الله علیه واله وسلم أصحابه وقال : ما تقولون ؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على

ص: 281


1- صحيح البخاري 5/ 180 ح 4 .
2- صحيح البخاري 101/6 ح 131
3- سورة الأنفال 8 : 5 .
4- الدر المنثور 4 / 14.

كلّ صَعْب وذَلُولٍ ، فالعيرُ أحبُّ إليكم أم النفير ؟

قالوا : بل العير أحبّ الينا من لقاء العدو .

فتغير وجه رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثم ردّد عليهم ، فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل .

فقالوا : يا رسول الله ! عليك بالعير ودع العدو .

فقام عند غضب النبي صلی الله علیه واله وسلم أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثمّ قام سعد بن عبادة ، فقال : أنظر أمرك فامض ، فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلّف عنك رجل من الأنصار .

ثمّ قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله ! امض لما أمرك الله فإنّا معك حيثما أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى :«إذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون»((1)).

ولكن : اذهب أنت ورتك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، مادامت تطرف.

فضحك رسول الله صلی الله علیه واله وسلم»((2))الحديث .

إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة ((3)).

الثالث : إن ما ذكره من حاصل الكلام قد أهمل فيه الشق الثاني الذي هو مراد المصنف رحمه الله ، أعني أن النبي صلی الله علیه واله وسلم لم يعتبر رأيهما ، وإن عمتهما المشورة كما هو صريح كلام المصنّف ومحل دليلة .

ص: 282


1- سورة المائدة 5 : 24
2- تفسير الكشاف للزمخشري 143/2 - 144.
3- أنظر : المعجم الكبير 174/4 - 175 ح 4056 وج 212/10 - 213 ح 10502 ،المستدرك 329/3 ح 5486 ، دلائل النبوة - للبيهقي - 106/3 - 107 ، الاستيعاب1481/4-1482.

ولو فرض أنّه أراد ما ذكره الخصم فهو لا يضر المصنف رحمه الله الأن مشاورتهما وأشباههما إنّما هي للتأليف كما مر مراراً ، وقد عرفت أيضاً سخافة دعوى وزارتهما ، وضلالة القول بأنّه لا يصدر إلا عن رأيهما .

وأما ما زعمه من التواتر فهو كسائر مزاعمه الكاذبة التي لا يخفى حالها حتى على الجهال .

نعم ، المعلوم هو تدخلهما بما ليس لهما التدخل فيه، ولا سيّما عمر ، فيعرض النبي صلی الله علیه واله وسلم تكرماً وتأليفاً .

الرابع : إنّ ما زعمه من مخالفة قول أبي هاشم لمذهبهم مخالف لما قاله سابقاً ؛ إن لعمر منصب الاعتراض والمعارضة عند النبي صلی الله علیه واله وسلم، كما عرفته في قصة رمي عمر للنبي صلی الله علیه واله وسلم فيما عزم عليه ، إعراضاً عن قوله سبحانه:«يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم»((1)) .

وقوله تعالى :«لا تقدموا بين يدي الله ورسوله»((2)).

وقوله تعالى :«أطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين»((3)).

إلى نحوها من الآيات الكريمة .

وأما قوله :«المشاورة لأجل أن يقال : افعل ولا تفعل»

فصحيح ؛ لكن لا لحاجة برسول الله إلى ذلك ، فإنّه غني بتعليم الله وإرشاده ، بل للتأليف وحسن العشرة ، كما عرفته في صحيح الآية .

ثمّ إنّ الفضل قد تغافل عما ذكره المصنف رحمه الله من قصة بعث أسامة

ص: 283


1- سورة الأنفال 8 : 24 .
2- سورة الحجرات 49: 1.
3- سورة الأنفال 8: 1 .

ومخالفة القوم للنبي صلی الله علیه واله وسلم، إذ لا مندوحة له عن الالتزام بأنها تقضي بجواز مخالفة النبي صلی الله علیه واله وسلم في مذهبهم حتى حال حياته .

ص: 284

قال المصنّف - أنار الله برهانه -((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين قال : قال النبي صلی الله علیه واله وسلم رأيتني دخلت الجنّة فإذا أنا بالرميصاء ((2)) - امرأة أبي طلحة - فسمعت خفقةً ، فقلت : من هذا ؟

فقال : هذا بلال .

فرأيت قصراً بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا ؟

فقال : لعمر بن الخطاب.

فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك فوليت مدبراً .

فبكى عمر ، وقال : عليك أغار يا رسول الله ؟ ! ((3))

وكيف يجوز أن يرووا مثل هذا الخبر ؟ !

وأي عقل يدل على أن الرميصاء وبلالاً يدخلان الجنّة قبل النبي صلی الله علیه واله وسلم؟

قوله : «ذكرت غيرتك» ، يعطي أن عمر كان يعتقد جواز وقوع الفاحشة من النبي في الجنة.

ص: 285


1- نهج الحق : 341 .
2- الرميصاء ، وقيل : الغميصاء : لقب لأُمّ سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية.تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية ، فولدت أنساً واسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات بها ، فتزوجت بعده أباطلحة .أنظر : معرفة الصحابة - لابي نعيم - 3333/6 ، الاستيعاب 1847/4 ، الإصابة227/8.
3- الجمع بين الصحيحين 342/2 ح 1554 ، وأنظر: صحيح البخاري 75/5 ح176 ، صحيح مسلم 114/7.

وقال الفضل ((1)) :

في هذا الفصل استدل بأشياء ينبغي أن يضحك عليه الضاحكون ، ويبكي عليه الباكون ؛ فإنّه قال :«وأي عقل يدلّ على أن الرميصاء وبلالاً يدخلان الجنّة قبل النبي صلی الله علیه واله وسلم.

وهذا يدلّ على أنّه لم يفرّق بين النوم واليقظة !! ورؤيا النبي صلی الله علیه واله وسلم أنه دخل الجنّة وكان فيه الرميصاء وبلالاً ، أيوجب أنهما دخلا قبل النبي الجنّة يوم القيامة في اليقظة ؟ !

وهذا غاية الجهل ، ومما ينبغي أن يتخذه الظرفاء ضحكة

ثمّ قال : إن ماذكر رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أنه ذكر غيرة عمر يدل على اعتقاد عمر لجواز وقوع لجواز وقوع الفاحشة عن النبي صلی الله علیه واله وسلم في الجنة ، وهو يعلم أن الجنّه لا يكون فيه الفاحشة ، وهذا أمر من أمور الرؤيا، وهل يثبت به شيء ؟!

وقد اتفق أن رسول الله ذكر غيرة عمر في الرؤيا ، ثم حكاه له .

ومن كان من أهل الرؤيا يعلم أنّه يتفق الآراء والخيالات للرائي ممّا شاهده وعلمه في اليقظة ، ثمّ إنّ عمر أجاب : بأنّي أغار عليك يا رسول الله !ولم لم يجعل هذا جواباً لدفع اعتقاد جواز الفاحشة ؟

وبالجملة : ذهب التعصب بهذا الرجل مذهباً عجيباً حتى الحق بالجهال وأهل المضاحك ، نعوذ بالله من سوء التعصب والجدال بالباطل .

ص: 286


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 651 ( حجري ) .

وأقول:

لا شبهه عندنا أن رؤيا الأنبياء حق ، لأنّها من الوحي ، ويشهد له ما رواه الحاكم في«المستدرك» في كتاب التفسير وصححه هو والذهبي في«التلخيص » ، على شرط الشيخين عن ابن عبّاس ، قال : رؤيا الأنبياء وحي ((1)) .

وحينئذ، فإن وافقنا القوم على هذا، فقد لزمهم كلّ ما أورده المصنف رحمه الله ، وإن خالفونا وقالوا : إنّها من الخيالات المصيبة تارةً والمخطئة أخرى ، فلا معنى لذكر هذه الرواية ونحوها في فضائل عمر ، كما فعل القوم ، ومنهم الخصم ، فيما سبق .

ولو نظرت إلى مارواه البخاري ومسلم في فضائل عمر ، لرأيت الكثير منها على هذا النحو من الخرافات ((2)).

وأما قوله : إن عمر أجاب بأنّي عليك أغار ... إلى آخره ، فخطأ ؛لأن رؤيا النبي صلی الله علیه واله وسلم- بناء على صحتها - أصدق من قول عمر .

ص: 287


1- المستدرك على الصحيحين 2 / 468 ح 3613.
2- انظر : صحيح البخاري في ج 5 / 76 - 81 ح 179 - 190 ، صحیح مسلم 111/7- 116.

قال المصنّف - قدس سره ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين : أن عمر قال قال - يوم مات رسول الله صلی الله علیه واله وسلم- : والله، ما مات محمد ولا يموت حتى يكون آخرنا ((2)).

وفيه عن عائشة من إفراد البخاري : أنّ رسول الله صلی الله علیه واله وسلم مات وأبوبكر بالسُّنح ((3)) - يعني بالعالية - فقام عمر يقول : والله ، ما مات رسول الله قالت : وقال عمر : ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي قوم وأرجلهم .

فجاء أبو بكر، فكشف عن وجه رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وعرفه أنه قد مات(4).

وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين اعتذار عمر عن ذلك من إفراد البخاري ، عن أنس : إنّه سمع خطبة عمر بن الخطاب الأخيرة حين جلس على منبر رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وذلك في الغد من يوم توفّي رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم .

ص: 288


1- نهج الحق : 341.
2- الجمع بين الصحيحين 324/4.
3- السُّنح : بضم السين ، موضع بعوالي المدينة، وفيها منازل بني الحارث بن الخزرج ، وبينها وبين منازل النبي صلی الله علیه واله وسلم، وقيل أيضاً ، كان بها منزل أبي بكر ؛ لأن زوجته ملكية أو حبيبة بنت خارصة من بني الحارث بن الخزرج . انظر : معجم البلدان 301/3 رقم 6675 ، لسان العرب 386/6 ، تاج العروس96/4 ، مادة«سنح».
4- الجمع بين الصحيحين 194/4ح 3339 ، وأنظر : صحيح البخاري 70/5 ح167.

وقال عمر : فإنّي قلت لكم أمس مقالة ما كانت في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي سول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولكن أرجو أن يعيش حتى يَدْبُرَنا ((1)) ((2)) .

وهذا اعتراف منه صريح بأنّه تعمد قول ما ليس في الكتاب ولا في سنة النبی صلی الله علیه واله وسلم، وأنّه كان مخطئاً فيه ، ثم اعتذر بأنه رجا أن يعيش النبي صلی الله علیه واله وسلم في زمانه ويَدْبُرَهُ ، وكلّ هذا اضطراب .

ص: 289


1- حتى يدبرنا : أي يكون آخرنا ؛ والدُّبُرُ من كل شيء : عَقِبَهُ ومؤخره .
2- الجمع بين الصحيحين 1 / 131 - 132 ح 60 ، وأنظر : صحيح البخاري 146/9 ح76.

وقال الفضل ((1)) :

قد سبق الجواب عن هذا الاعتراض ((2)) ، وأن عمر اعتراه حالة مدهشة لموت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم أغفله عن جواز الموت ، فإن المحب المفرط التائه لا يجوز موت حبيبه ، ويضطرب وينكر ،موته ، وهذا من تجاهل العارف لفرط الدهشة .

ثمّ لما سكن اضطرابه اعتذر بما اعتذر ، واعترف بأنّه أخطأ في عدم جواز الموت، والاعتذار عن الخطأ صواب عند أولي الألباب.

ص: 290


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 653 ( حجري ) .
2- راجع 181/7 - 182من هذا الكتاب.

وأقول :

قد مرّ ما فيه في مآخذ عمر عمر ((1)) ، وأنّ دعوى الدهشة لا تناسب الإسراع إلى السقيفة والعمل الذي عمله عمر بها، والتزوير الذي زوّره بنفسه لأجلها ، ودعوى فرط المحبة لا تجامع إيذاء النبي صلی الله علیه واله وسلم المشجية ، بنسبة الهجر إليه في وجهه ، واللغط عنده ، ورد أمره بأسوأ ردّ ، ولا تجتمع مع الإعراض عن دفنه أياماً.

ومن العجب قوله :«وهذا من تجاهل العارف» فإن التجاهل إنّما يحصل من الملتفت ، ولذا أضيف إلى العارف .

وقد زعم أن عمر اعترته حالة مدهشة أغفلته عن جواز الموت على النبي صلی الله علیه واله وسلم، فكيف تكون تجاهلاً ؟

والحق أن كلامه من عَمْد العارف ؛ لعدم اندهاشه - كما عرفت - ولعلمه يقيناً قبل موت النبي صلی الله علیه واله وسلم بأنه يموت ؛ لأنه نعى نفسه الشريفة إليهم مراراً عديدة، وقد تخلف عمر وأصحابه عن جيش أسامة انتظاراً لوفاته صلی الله علیه واله وسلم.

ونسبه إلى الهجر ، وقال : حسبنا كتاب الله علماً بمماته ، وإنّما حكم بعدم موت النبي صلی الله علیه واله وسلم، خوفاً من وقوع البيعة لأمير المؤمنين قبل حضور أبي بكر من السُّنح ، فقال تلك المقالة ليشغل الناس عن التوجه إلى بيعة علي علیه السلام إلى أن يحضر أبو بكر ويتفقا مع أعوانهما ، كما سبق توضيحه في

ص: 291


1- راجع 183/7 من هذا الكتاب.

مآخذ عمر .

ثم إن المصنف رحمه الله هنا أخذ على عمر حصول الاضطراب في أقواله ؛لأنه حلف - أولاً - إنّه ما مات رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وهو دليل التيقن به .

ثم اعترف أنّه قال عن غير مستند ، وإنما رجا رجاء .

وقول الفضل اعترف بأنّه أخطأ ، والاعتذار الخطأ صواب ، غير صالح لأن يكون جواباً عن مؤاخذة المصنف ، لأن الاعتذار عن الخطأ إنما يكون صواباً مقبولاً إذا كان اعترافاً بالخطأ ، لا بتوجيه ما فرط منه بالرجاء الذي لا يناسب وقوع اليمين منه في السابق.

ص: 292

قال المصنّف - طاب ثراه- ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين في مسند أبي هريرة قال : كان رسول الله صلی الله علیه واله وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة ، فيقول :

من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر.

فتوفي رسول الله صلی الله علیه واله وسلم والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ((2)).

ثمّ روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أبي هريرة - المتفق على صحته - عن عبد الرحمن بن عبد الباري((3)) ، قال : خرجت مع عمرليلاً في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلي بصلاته الرهط.

فقال عمر : لو جمعت هؤلاء على قار واحد لكان أمثل .

ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب.

قال : ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم .

فقال عمر : بدعة ، ونعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوّله ((4)).

فلينظر العاقل وينصف ، هل يحل لأحد أن يبتدع بدعة

ص: 293


1- نهج الحق : 342.
2- الجمع بين الصحيحين 74/3 ح 2255 ، وأنظر :صحيح البخاري 97/3 ح116،وصحیح مسلم 177/2.
3- كذا في النسخ ، وفي المصدر«عبد القاري».
4- الجمع بين الصحيحين 75/3 ، وأنظر : صحيح البخاري 97/3 - 98 ضمن ح 116 .

ويستحسنها ؟ !

وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم: كل بدعة ضلالة ((1)).

ويقول عمر : إنّها بدعة ونعمت البدعة ، ويأمر بها ويحثّ عليها

وكيف استجاز لنفسه أن يأمر بما لم يأمر الله ولا نبيه به ؟

أتراه أعلم منهما بمصلحة العباد - معاذ الله تعالى - أو أن النبي صلی الله علیه واله وسلم كتمه - نعوذ بالله منه - أو أنّ المسلمين في زمان النبي صلی الله علیه واله وسلم وأبي بكر أهملوا ؟ ! وقد قال النبي صلی الله علیه واله وسلم:«من أحدث في ديننا ماليس منه فهو رد»((2)).

ورواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلی الله علیه واله وسلم يصلي في رمضان ، فجئت وقمت إلى جنبه ،وجاء رجل آخر فقام أيضاً حتّى كنا رهطاً .

فلما أحسّ النبي صلی الله علیه واله وسلم بنا خلفه ، جعل يتجوز في الصلاة ، ثم دخل رَحْلَهُ فجعل يصلي صلاة لا يصليها عندنا.

قال : فقلنا له حين أصبحنا : أفطنت لنا الليلة ؟

فقال : نعم، وذلك الذي حملني على الذي صنعت ((3)).

ص: 294


1- الجمع بين الصحيحين 2/ 372 ح 1608 ، وأنظر : صحیح مسلم 11/3.
2- صحيح البخاري 21/4 ح7،صحیح مسلم 132/5 وفيها: «أمرنا هذا» بدل «دیننا»سنن أبي داود 199/4 - 200 ح 4606 ، سنن ابن ماجة 6/1 ح 12 ،مسند أحمد 240/6 و 270 ، ، مسند أبي يعلى 70/8 ح 4594 ، سنن الدارقطني122/4ح4488،السنن الكبرى - للبيهقي - 119/10 مصابيح السُنّة 1 / 150 ح 101 ، كنز العمال 219/1 ح 1101.
3- الجمع بين الصحيحين 2/ 580 ح 1955 ، وانظر : صحيح مسلم 134/3.

فإذا كان النبي صلی الله علیه واله وسلم امتنع أن يكون إماماً في نافلة رمضان ، ومنع من الاجتماع فيها ، فكيف جاز لعمر أن يخالفه ، ومع ذلك يستمر أكثر المسلمين عليه ويهملون ما فعله النبي صلی الله علیه واله وسلم هذا يشهد على نفسه أنّه ابتدعه ، ومع وأبو بكر ؟ !

ص: 295

وقال الفضل ((1)) :

قد سبق هذه المباحثة ((2)) ، وذكرنا من روايات الصحيح أن رسول الله ذلك يستمر أكثر المسلمين عليه ويهملون ما فعله النبي صلی الله علیه واله وسلم صرح بأنه يخشى أن يفرض عليهم الجماعة في قيام رمضان فلايطيقونه ، ولهذا ترك الجماعة.

وكان أوّلاً يصلّى الجماعة ولما كان في زمن عمر ارتفع ذلك المحذور ؛ لانقطاع الوحي ، فجمع في القيام ، وجمع الناس ؛ لئلا تفوت عليهم فضيلة القيام ، ووقع الإجماع على الجماعة .

وأيضاً ذكرنا أنّ البدعة لفظ مشترك ، قد يقال ويراد به : ما يخالف أصول الشرع ، ومنه : البدعة ضلالة.

وقد يقال : ويراد به : ما ابتدع في الشرع ، ويكون موافقاً للأصول الصحيحة الدينية ، وبهذا المعنى قد يكون مندوباً وقد يكون مباحاً ، وما ذكرعمر أنّها بدعة ونعمت البدعة فبهذا المعنى .

ص: 296


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 654 ( حجري ) .
2- راجع 317/7 - 319 من هذا الكتاب.

وأقول :

سبق ما فیه فی ماخذ عمرمفصلاً ((1)) ، وبالجملة : يستفاد من كثير من أخبارهم وأقوالهم أنّ التراويح ليست من سُنّة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، بل من بدع عمر وأولياته ، ولا يدفع الطعن منه الخلاف ؛ لأنّه من أخبارهم ومحلّ التهمة ، ونحن لا نعرف عبادةً مبتدعة وهي سُنّة ، بل لا يمكن لاعتبار التقرّب وقصد الامتثال في العبادة، ومع فرض الابتداع ، لا أمر حتى تكون مسنونة ومقصوداً بها الامتثال ، وليس عندنا أصل ديني يقتضي جواز الجماعة وترك الفاتحة في النافلة ، مع قوله : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب »((2)).

ولو سلّم أن الجماعة في نافلة رمضان غير محرّمة ، فلا شك باستفادة مرجوحيتها من أخبارهم، ومفضولية النافلة في المسجد عن في البيت ، فإذا فضّل عمر التراويح وكونها في المسجد كان مبدعاً ، وهو كاف فى الطعن به.

ص: 297


1- راجع 324/7 - 326 من هذا الكتاب.
2- صحيح البخاري 302/2 ح 144 ، صحیح مسلم 9/2 ، مسند أحمد 428/2 ،سنن الترمذي 2/ 123 و 124 ضمن ح 312 ، سنن أبي داود 241/1 و 820 وص 215 ح 22 و 823 ، سنن الدار قطني 254/1 - 255 1213 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 38/2 و 59 و 375 ، حلية الأولياء 124/7 ، المغني لابن قدامة 1 / 525 وص 535 ، مصابيح السنّة 1 535 ، مصابيح السنّة 1/ 319 ح 577.

قال المصنّف - قدّس سرّه- ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن أبي سلمة ((2)) وجابر قالا : كنا في جيش فأتانا رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، قال : قد أُذن لكم أن تستمتعوا متعة النساء ((3)).

فاستمتعنا ؛ يعني وفيه في مسند عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله ليس معنا نساء ، فقلنا: ألا نستمني ((4)) ؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله :«يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ...»((5))((6)).

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أبي موسى الأشعري ، عن إبراهيم بن أبي موسى: أن أباه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ؛ فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في

ص: 298


1- نهج الحق : 343.
2- كذا في الأصل ، وهو تصحيف ، والصحيح ، وهو تصحيف ، والصحيح (سلمة بن الأكوع) كما في : نهج الحق محيح البخاري 21/7-22 ح53، صحيح مسلم 130/4.
3- الجمع بين الصحيحين 1 / 577 ح 962 ، وأنظر : صحيح البخاري 21/7 - 22 ح53، صحیح مسلم 130/4.
4- كذا في النسخ ، وفي نهج الحق ص الحق ص 343 ، والجمع بين الصحيحين 577/1 ح962:( نستخصي) .
5- سورة المائدة 5 : 87 .
6- الجمع بين الصحيحين 222/1 ح 257 ، وانظر : صحيح البخاري 104/6 ح 137وج 6/7 ح 13 ، صحیح مسلم 130/4.

النسک.

فلقيه بعد ذلك فسأله ، فقال عمر : قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا مُعرَّسين بين الأراك ((1)) ، ثمّ يروحوا في الحج تقطر رؤوسهم ((2)).

وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند عمران بن حصين متعة الحج - وقد تقدّم لعمران بن حصين حديث في متعة النساء أيضاً ((3)) - قال : أنزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ، وفعلناها مع رسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ولم ينزل قرآن يُحرمها، ولم ينه عنها رسول الله صلی الله علیه واله وسلم حتى مات ، وقال رجل برأيه ما شاء .

قال البخاري ومسلم في صحيحهما : إنّه عمر ((4)).

وهذا تصريح بأنّ عمر قد غير شرع الله وشريعة نبيه في المتعتين وعمل فيهما برأيه ، وقال الله تعالى:«ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ...»((5)).

فإن كانت هذه الروايات صحيحة عندهم فقد ارتكب عمر كبيرة ، وإن كانت كاذبة ، فكيف يصححونها ويجعلونها من الصحاح ؟!

ص: 299


1- الأراك : شجرة طويلة خضراء ناعمة كثيره الورق والاغصان خوارة العود تنبت بالغور تتخذ منها المساويك .انظر : لسان العرب 122/1 مادة «أرك ».
2- الجمع بين الصحيحين 1 / 313 ح 469 ، وأنظر : صحيح مسلم 44/4 .
3- راجع 250/7 من هذا الكتاب.
4- الجمع بين الصحيحين 349/1 ح 548 ، وأنظر : صحيح البخاري 59/6 ذيل ح43صحيح مسلم 131/4.
5- سورة محمد 47 : 9 .

وقال الفضل ((1)) :

قد سبق أن متعة النساء كانت على عهد رسول الله صلی الله علیه واله وسلم ثم أبيحت ، واختلف في أنّه تقرّر الأمر على الحرمة أو الإباحة ، والنص يقتضي الحرمة كما ذكرنا ((2)).

وأكثر العلماء على الحرمة ، وبعض الصحابة كانوا يقولون : بالإباحة ، ولكن الأكثرون تابعوا رأي عمر ، وإليه ذهب الأئمة الأربعة وسائر أصحاب الحديث ، ومن اعترض من الصحابة على عمر لم يبلغه أن الأمر تقرّر على الحرمة ، فأي ذنب يتصوّر فيه لعمر حتى يقول : إنّه فعل كبيرة ، نعوذ بالله

من هذه الاعتقادات.

ثمّ ما ذكر في متعة الحج فقد ذكر نهي عمر وأنه نهى عن وأنه نهى عن المتعة ، فإن للإمام المجتهد أن يختار طريقاً من الطرق المتعدّدة التي جوزها الشريعة ، والحج ينعقد بثلاثة طرق : بالإفراد والقرآن، والتمتّع ، فكان لعمر أن يختار القرآن والإفراد ، وينهى عن المتعة لمصلحة رآها ، وهذا لاينافي كونه جائزاً ، فإن المباح قد يصير منهياً عنه ؛ لتضمنه أمراً مكروهاً ، وللإمام النهي عنه.

وأيضاً يحتمل أن عمر سمع من رسول الله شيئاً في المتعة فعمل بما سمع هو بنفسه ؛ لأنّ الدليل عنده يقيني ، وأمثال هذا لا يعد من الكبائر ، كما عده هذا الرجل وأساء الأدب .

ص: 300


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 654(حجري ) .
2- راجع 252/7 - 253 من هذا الكتاب.

وأقول :

قد سبق ما فيه في مآخذ عمر فراجع ((1)).

والعجب أنّ الخصم قد تنصل قريباً من تجويز مخالفة ما يقوله النبي صلی الله علیه واله وسلم على سبيل الرأي فضلاً عن الوحي، وهنا يسوغ لعمر أن يجتهد في مقابلة نص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين فيحرم متعة الحج الجائزة بالنصّ إلى الأبد لمصلحة رآها ، فكأنّه لم يسمع قوله تعالى :«ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»((2)).

وليت شعري ، أي مصلحة علمها عمر في تحريم متعة الحج وجهلها الله ورسوله ؟! وأي مكروه عثر عليه فيها دونهما ؟ !

أو أي شيء سمعه من النبي صلی الله علیه واله وسلم فيها، وقد تواتر عنه أنها حلال إلى الأبد ؟ ! فانظر واعجب .

ص: 301


1- راجع 254/7من هذا الكتاب
2- سورة المائدة 44/5.

قال المصنّف - رفع الله مقامه ((1)) :

وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي موسى الأشعري قال : دخل عمر على حفصة وأسماء عندها ، فقال حين رأى أسماء : من هذه ؟

قالت : أسماء بنت عُميس .

قال عمر : الحبشية هذه ؟ البحرية هذه ؟

فقالت أسماء : نعم .

فقال عمر : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم .

فغضبت وقالت : كذبت یا عمر ! کلا والله ، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو أرض البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله ورسوله ، وأيم الله ، لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلی الله علیه واله وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف ، وسأذكر ذلك الرسول الله صلی الله علیه واله وسلم، وأسأله ، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك .

قال : فلما جاء النبي صلی الله علیه واله وسلم قالت : يا نبي الله ! إن عمر قال كذا وكذا .

فقال رسول الله صلی الله علیه واله وسلم: ليس بأحق بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ((2)) .

وهذا نص من النبي صلی الله علیه واله وسلم في تخطئته وتفضيل هجرة المرأة على هجرته ، وأنّها أحق برسول الله منه ، وليس لهذه المرأة الخلافة فلا تكون له.

ص: 302


1- نهج الحق : 347 .
2- ورد الحديث في صحيح البخاري 284/5 خ 249 ، صحیح مسلم 172/7 - 173.

وقال الفضل ((1)):

هذا الفصل أيضاً ذكر فيه أموراً عجيبة تدلّ على عدم فهمه معاني الأخبار، فإن المراد بقول النبي صلی الله علیه واله وسلم:« ليس بأحق بي منكم : تفضيل أهل الهجرتين على أهل الهجرة الواحدة، لاتفضيل أسماء على عمر ، كما لا يخفى على كل من له أدنى معرفة .

ثمّ الاستدلال بأنّ المرأة كانت أحق برسول الله ولم تكن لها الخلافة ، فلا تكون له ، من المضاحك ، فإنّ الأحقية بمعنى الأكثرية للسعي لأجل رسول الله صلی الله علیه واله وسلم بالهجرتين ، أي نسبة لها بالخلافة ؟ !

ص: 303


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 656 ( حجري ) .

وأقول :

نعم ، المراد تفضيل أهل الهجرتين على أهل الهجرة ، ولكن لما كانت أسماء من أهل الهجرتين ، وعمر من أهل الهجرة ، كانت أفضل منه بالهجرة وأحق منه بالنبي صلی الله علیه واله وسلم بحسب العموم ، بل بالخصوص والنصوصية ؛ لأنّ التفاخر في الفضل والأحقية بالنبي صلی الله علیه واله وسلم قد وقع بينهما ، والنبي صلی الله علیه واله وسلم صوبها وخطأه .

فإذا كانت أسماء أحق بالنبي صلی الله علیه واله وسلم من عمر ، وهي لا تستحق الخلافة ، كان هو أولى بعدم استحقاق الخلافة ؛ لامتناع أن يكون الأبعد عن النبی صلی الله علیه واله وسلم أولى بمنصبه.

ولا ينتقض بأمير المؤمنين علیه السلام، وإن كان من أهل ؛ الهجرة لمعلومية أحقيته بالنبي صلی الله علیه واله وسلم من وجوه عديدة ؛ كالقرابة ؛ والعلم ؛ والعصمة ، فلا بدّ من تخصيص العموم به ، بخلاف عمر ؛ للعلم بعدم أحقيته من بعض الجهات والشك في غيرها .

بل نعلم بحسب ظاهر الحديث بانتفاء الأحقية له من وجه أصلاً لإطلاق الأحقية فيه بالنبي صلی الله علیه واله وسلم الأهل الهجرتين ، فإنّه يقتضي ثبوتها لهم بلا تزاحم في جهات الأحقية .

وانتفاءها عن . هذا ، وليت شعري ، كيف يرى القوم مقاماً وفضلاً لرجل يحسد امرأة ويذمّها بقوله : الحبشية البحرية ، ويفتخر عليها حتى كذبته وخصمته بحجتها القويمة ، وقول النبي الكريم صلی الله علیه واله وسلم؟! فمن كان بهذه المثابة كيف يصلح للزعامة العامة لولا إقبال الدنيا ؟

ص: 304

وهذا الحديث قد رواه مسلم في كتاب الفضائل ((1)) ، والبخاري في كتاب المغازي ((2)) .

ص: 305


1- صحيح مسلم 172/7 - 173.
2- صحيح البخاري 284/5 ح 249 .

قال المصنف - رفع الله درجته -(1):

وروى ابن عبد ربه في كتاب العقد الفريد في حديث استعمال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص في بعض ولايته، فقال عمرو بن العاص : « قبح الله زماناً عمل فيه عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب ، والله إني لأعرف الخطاب يحمل على رأسه حزمة من حطب وعلى ابنه مثلها ، وما ثمنها إلا تمرة لا تبلغ مضغته ((2)) .

وهذا يدلّ على انحطاط مرتبته ، ومنزلة أبيه عند عمرو بن العاص فكيف استجازوا ترك بني هاشم، وهم ملوك الجاهلية والإسلام ؟

ص: 306


1- نهج الحق : 348 .
2- أنظر : العقد الفريد 56/1 ، وفيه (وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه).

وقال الفضل ((1)) :

قد علم الناس أنّ عمر كان من أشراف قريش ، من أولاد عدي بن لؤي ، وكان أُمّه مخزومية من صناديد قريش ، ولو طعن عليه عمرو بن العاص ، كان كطعنه على علي بن أبي طالب، فلا يبعد منه الطعن على الخلفاء .

ثمّ إنّ العرب كانوا يعتادون ذكر مثالبهم فيما بينهم، وليس فيه حجة على دناءة عمر ، وإن فرضنا صحته ، فهي من الدلائل على أنّه أخذ الخلافة من جهة استحقاق الإسلام وفضيلته فيه، لا من جهة النسب والحسب ،وهذا هو المدعى.

ص: 307


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 657 ( حجري ) .

وأقول :

لا نعرف مِنْ زَعْمِ كونه من أشراف قريش وصناديدها إلا الدع-وى المجردة ، وقد أقرّ عمر بنفسه بما يقضي بخلاف ذلك ، كما سبق في ذيل مآخذ أبي بكر عن «الاستيعاب» و «تاريخي الطبري، وابن الأثير» وغيرها ((1)) .

كما سبق هناك - أيضاً - ما في دعوى كون أُمه مخزومية نسباً لا استلحاقاً ((2)).

وأمّا تشبيه الفضل طعن ابن العاص بعمر بطعنه بأمير المؤمنين علیه السلام، فليس في محلّه ؛ لأن طعنه بأمير المؤمنين علیه السلام له إنما هو بالمشاركة في قتل عثمان ونحوه ، لا بالخسة والدناءة ، كما طعن بعمر .

وأما قوله :«وإن فرضنا صحته ، فهو من الدلائل على أنه أخذ الخلافة من جهة استحقاق الإسلام وفضيلته» ، فممنوع ؛ لأنّه لم يأخذها إلا باجتماع قريش على عداوة علي علیه السلام وحسدهم له ، وإرادتهم صرف الأمر عنه بكل وجه ورجائهم الإمرة بعد عمر، ونيل الكثير من الدنيا في حياته مع نص،أبي بكر ((3))، وقد تشاطرا ضرعيها.

ص: 308


1- راجع 139/7من هذا الكتاب .
2- راجع 140/7 من هذا الكتاب.
3- راجع 26/7 و 43 من هذا الكتاب .

قال المصنّف - طاب ثراه ((1)) :

وفيه : خرج عمر بن الخطاب ويده على المعلى بن الجارود ، فلقيته امرأة من قريش ، فقالت له :يا عمر فوقف لها ، فقالت له :

كنا نعرفك مرّة عُميراً، ثمّ صرت من بعد عمير عمر ، ثمّ صرت من بعد عمر أمير المؤمنين، فاتق الله يا ابن الخطاب ! وانظر في أمور الناس ؛ فإنّه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت ((2)).

ص: 309


1- نهج الحق : 348.
2- العقد الفريد 113/2 ، وأنظر : الاستيعاب 1831/4.

وقال الفضل ((1)) :

إن صح هذا دلّ على فضيلة من فضائل عمر، وأنه كان يقف للنساء والضعفاء ، ويتحمّل أذاهم ويسمع منهم النصيحة ، ولا طعن فيه .

ص: 310


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 658(حجري ) .

وأقول :

ذكره في «العقد الفريد »((1)) ، وهو واضح الدلالة على ضعة ((2)) عمرحتى عرفتها النساء ، كما هو محل قصد المصنف رحمه الله.

كما يدلّ - أيضاً - على سوء رأي المرأة فيه حتى أمرته بالتقوى ؛مريدةً أن عمله على خلافها ،وأغلظت له القول .

ولا دلالة في وقوفه لها على التواضع ؛ لاحتمال شرف المرأة ، أو جريانه على العادة من الوقوف لنداء المنادي ، وإلا فسيرته على الخلاف ؛ يضرب بدرّته من لم يقم له ولم يخضع لمقامه.

ص: 311


1- باب التواضع ص 322 من الجزء الأول .منه قدس سرة، راجع الصفحة 299،من هذاالجزء.
2- الضّعة : الذل والهوان والدناءة ، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة .انظر : لسان العرب مادة «وضع ، 327/15.

قال المصنّف - قدست نفسه ((1)):

وقد روى أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي - وهو من رجال السنة - في كتاب «المثالب» قال:

كانت صهاك أمةً حبشية لهاشم بن عبد مناف ، فوقع عليها نفيل بن هاشم، ثمّ وقع عليها عبد العزى بن رياح ، فجاءت بنفيل جد عمر بن الخطاب ((2)).

ومن أعجب الأشياء نسبتهم الشيعة إلى السب، ولم يستجرئ الشيعة على مثل هذا القول ، ولا تعرّضوا له، وعلماؤهم يروونه ، وهذا من جملة قلة الإنصاف ، فإنّ الشيعة أقصى ما يقولون : إنّه أخذ الإمامة وهي حق أمير المؤمنين علیه السلام، وغصبه ذلك ، وهذا عالمهم قد نقل عنه ما ترى ، فأهملوا

واشتغلوا بذم الشيعة.

ص: 312


1- نهج الحق : 348.
2- مثالب العرب : 88.

وقال الفضل ((1)) :

الكلبي كتب كتاب «المثالب» وذكر فيه مثالب العرب ، وما يرمي به بعضهم بعضاً من القدح بالأنساب ، ولا صحة له ولا دليل فيه ، وهو لم يذكر هذه لمعائب الخلفاء - كما اعتاده الشيعة - بل رواه عن مثالب قبائل العرب . ثمّ أنكحة الجاهلية - على ما ذكره أرباب التواريخ - على أربعة أوجه : منها : أن يقع جماعةٌ على امرأةٍ ، ثمّ مَنْ وُلِدَ منها يحكم فيه القائفُ ،أو تصدّق المرأة، وربما كان هذا من أنكحة الجاهلية.

وما ذكر أنّ الشيعة لا يسبّون عمر إلا بأنّه أخذ الخلافة ، ولا يقدحون فيه بشيء آخر ، فكلّ هذا الكتاب يدلّ على كذبه في هذا الكلام ، والموعد بيننا وبينه عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، إذ يؤاخذه بإيذاء أصحابه ، وذكر مطاعن أحبائه ، ثمّ يبعثه إلى جهنم وبئس المهاد .

ص: 313


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 658 ( حجري ) .

وأقول :

قد روى ابن أبي الحديد نحو ذلك ((1))، فيؤيد ما ذكره الكلبي، ومجرّد عدم قصد الكلبي ذكر معائب خلفائهم - بما هم خلفاؤهم - لا يغير موضوع الثلب لهم .

وأما ما ذكره من وجوه أنكحة الجاهلية، فتمحل بارد ؛ إذ لا يبقى معه موضوع للزنا في الجاهلية ، وهو كما ترى .

نعم ، قد يلحقون الولد بتولّده من الزنا كما يلحقونه بالتبنّي ، وهو أمر آخر.

وأما تكذيبه للمصنّف رحمه الله بحجّة ما تضمنه هذا الكتاب ، فخطأ ؛ لأنّ كل ما ذكره المصنف رحمه الله فيه إنّما هو عنهم ، فهم المعاقبون به لو كان ذنباً ، على أنّ المصنف رحمه الله إنّما نفى عن الشيعة السبّ بنحو ما ذكره الكلبي ، لا بما يدل على عصيان الخلفاء الثلاثة ، وعدم صلوحهم للخلافة الإلهية فإن ذكر مثله مما لابد منه في مقام المحاجة.

وأما ما أحال عليه من الموعد ، فنحن نحيله على مثله ، وعند الساعة يخسر المبطلون .

ص: 314


1- ص : 24 مجلد 3 . منه رحمه الله،شرح نهج البلاغة 12/ 39

قال المصنف - ضاعف الله اجره - (1):

وفي الجمع بين الصحيحين قال :

إن عمر بن الخطاب أمر على المنبر أن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره ، فذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله تعالى :

«وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً»((2)) .

فقال : كلّ أحد أعلم من عمر حتى النساء ((3)).

فلينظر العاقل المنصف، هل يجوز لمن وصف نفسه بغايه الجهل وقلة المعرفة أن يجعل رئيساً على الجميع ، وكلّهم أفضل منه على ما شهد به على نفسه ؟!

ص: 315


1- نهج الحق : 349.
2- سورة النساء 4 : 20.
3- الجمع بين الصحيحين 324/4 ، وأنظر : مصنف عبد الرزاق 180/6 سنن سعيد بن منصور 1/ 166 - 167 ح 598 ، الموفقيات : 507 رقم 430 ، زوائد أبي يعلى 334/2 - 757 ، تمهيد الأوائل : 501 ، المستدرك 2/ 193 ح 2728 ، ح سنن البيهقي 233/7 ، جماع بيان العلم - لابن عبد البر - 159/1 ، تفسير الكشاف 1 / 514 ، تفسير الرازي 10 / 15.

ردّ الفضل بن روزبهان

وقال الفضل ((1)) :

قد سبق هذا الكلام وجوابه ((2)) ، وأنه ذكر هذا الكلام للتواضع ،والعجب من هذا المرء كيف يكرر الكلام ؟

ص: 316


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 659 ( حجري ) .
2- راجع 192/7 - 195 من هذا الكتاب

وأقول :

قد عرفت بطلان جوابه ((1)) ، وإنّما كرّر المصنف رحمه الله هذا الحديث ونحوه ؛ لأنه ذكره أوّلاً للطعن في عمر ؛ لبيان عدم استحقاقه للخلافة وذكره هنا للطعن فيه بما هو من الصحابة ، وللطعن بالصحابة حيث رضوا به أميراً .

ص: 317


1- راجع 196/7 وما بعدها من هذا الكتاب.

قال المصنّف - طاب مرقده - ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي أن عمر أمر برجم أمرأة ولدت لستة أشهر ، فذكره علي علیه السلام قول الله تعال :

«وحمله وفصاله ثلاثون شهراً»((2)).

مع قوله تعالى :«والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين»((3)).

فرجع عمر عن الأمر برجمها(4).

وهذا يدلّ على إقدامه على قتل النفوس المحترمة وفعل ما يتضمن القذف .

ص: 318


1- نهج الحق : 349 .
2- سورة الاحقاف 46 : 15 .
3- سورة البقرة 2 : 233
4- الجمع بين الصحيحين 324/4 ، وأنظر : مصنف عبد الرزاق 349/7 - 350 ح و 13443 ، سنن سعيد بن منصور 66/2 ح 2074 ، سنن البيهقي 442/7 ، جامع بيان العلم - لابن عبد البر - 2/ 108 ، كنز العمّال 457/5 ح 13598 و 5،2/6 15362 و 15363 عن عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي .

وقال الفضل ((1)) :

ما أبرد هذا الحلّي الجاهل، وما أسمجه في تكراره وكودنيته ، وقد ذكرنا أنّ عمر حكم حكماً ، ثمّ ذكره عالم كتاب الله فرجع عن الحكم ، كيف يدل هذا على إقدامه وجرأته في قتل النفوس المحترمة ؟ ! نعوذ بالله من سماجة الرجل الحلّى.

ص: 319


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 660 ( حجري ) .

وأقول :

لم يسبق من المصنف رحمه الله ذكر لهذا الحديث في مطاعن عمر ،وإن ذكرناه نحن عند الكلام على الخبر المتعلق بأمره برجم الحامل والمجنونة ((1)) .

نعم، ذكر المصنف نحوه في مطاعن عثمان ، وأن عثمان لم يبال بتعليم أمير المؤمنين علیه السلام له ، وما كان عنده إلا أن بعث إلى المرأة فَرُحِمَتْ ((2)).

وهذا وإن دلّ على أن عثمان أجراً على النفوس المحترمة من عمر ،وأشد مخالفة أحكام الله وعدم المبالاة بها ، لكن عمر - أيضاً - جراً عليها ؛ لاستبداده وعدم تروّيه في الحكم بقتل النفوس المحترمة ، بل تصديه للحكم فيها ، مع جهله ووجود عالم كتاب الله تعالى ، حرام ؛ لقوله تعالى :«أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتَّبَع ...»((3)) الآية .

فإنّه إذا حُرّم بحكم الآية اتباع من لا يهتدي إلا أن يهدى لم يجز له التصدّي لما حُرّم .

ثمّ إنّ هذا الحكم من عمر الذي لا يشرع له يتضمن القذف فيستحق عليه الحدّ .

ص: 320


1- راجع 497/7من هذا الكتاب.
2- راجع492/7من هذا الكتاب.
3- سورة يونس35:10.

قال المصنف - طاب ثراه - ((1)):

حمد بن حنبل في مسنده : أن عمر بن الخطاب أراد أن وروی يرجم مجنونة ، فقال له عليّ : مالك ذلك ، أما سمعت رسول صلی الله علیه و اله و سلم يقول : «رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يبرأ ويعقل ، وعن الطفل حتى يحتلم » ؟ !

فدرأ عمر عنها الرجم ((2)).

وذكر ابن حنبل عن سعيد بن المسيب ، قال : كان عمر يتعوّذ من معضلة ليس لها أبو الحسن ؛ يعني عليّاً ((3)).

ص: 321


1- نهج الحق : 350 .
2- مسند أحمد 140/1 وص 154 - 155 ، وأنظر : سنن أبي داود 137/4 -138ح 4399 - 4402 ، سنن سعيد بن منصور 67/2 - 68 ح 2078 و 2080 ،صحيح ابن خزيمة 1003/2وج348/4،صحيح ابن حبّان 178/1ح143،مستدرك الحاكم 1/ 389 ح 949 و ج 2/ 68 ح 2351 ، سنن البيهقي 264/8ومواضع أخر.
3- فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 803/2 ح 100 ، وأنظر : الاستيعاب 1102/3 - 1103 ، تاریخ دمشق 406/42 ، مناقب الخوارزمي : 97 ح 98 ، صفوة التصوف 131/1 ، ذخائر العقبى : 149 ، مختصر تاریخ دمشق 25/18 ، فرائد السمطين 1 / 344 - 345 ح 267 ، تاريخ الخلفاء - للسيوطي - : 203 .

وقال الفضل ((1)) :

قد سبق جواب هذا ، وأنّه من الأحكام التي حكم بها إمام فذكره عالم بالمسألة فرجع ، وليس في هذا طعن، ولا شك أن الخلفاء كانوا يستمدون من العلماء ، وسيّما عليّاً ((2)).

ص: 322


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 660 ( حجري ) .
2- راجع 187/7 من هذا الكتاب

وأقول :

قد عرفت ما فيه مما قبله ، ومما ذكرناه في نفس الحديث عند ذكره مآخذ عمر ((1)) ، ولا شك أن ، ولا شك أن من يحتاج إلى الاستمداد بالعلماء ، ويجهل مثل هذه الأحكام الواضحة ، ولا سيما المتعلقة بالنفوس المحترمة ، لحري بأن يكون مأموماً لا إماماً ، ومحكوماً لا حاكماً.

ص: 323


1- راجع 189/7 -191من هذا الكتاب.

قال المصنف - زيد اجره -((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي من عدة طرق ، منها في مسند ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأبي بكر ،وسنتين من خلافة خلافة عمر الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه

عليهم(2).

فلينظر العاقل ، هل كان يجوز لعمر مخالفة الله ورسوله ، حيث جعلا الثلاثَ ،واحدةً ، ويجعلها هو ثلاثاً؟!

ص: 324


1- لم ترد في نهج الحق المطبوع.
2- الجمع بين الصحيحين 2/ 119 ح 1195 ، وأنظر : صحيح مسلم 183/4 - 184 مسند أحمد 314/1 ، مصنف عبد الرزاق 391/6 - 392 ح 11336 ، المعجم الكبير 11 / 19 ح 10916 ، مسند أبي عوانة 152/3 ح 3534 ، شرح معاني الآثار - للطحاوي - 56/3 ، مستدرك الحاكم 2 / 241 ح 2793 وصححه هو والذهبي ، سنن البيهقي 336/7 ، الدر المنثور 668/1 عن أبي داود والنسائي وغيرهم .

وقال الفضل ((1)) :

لم يجعل عمر الثلاث غير واحدة، بل أمرهم بالطلاق السني ؛ والطلاق السُّنّي أن لا يوقع الثلاث مرّةً واحدة، وقد اعتذر عمر عن هذا ؛ بأنّ الناس يستعجلون في أمر الطلاق ويطلقون الثلاث دفعةً واحدةً ، وهذا الطلاق البدعِي ، ولم يحكم بأن الثلاث لا تقع دفعة واحدة ، وأن ليس له في الوقوع حكم الواحدة ، ولا يفهم هذا من الحديث .

والحاصل : أنّه يجعل الواحدة في الحديث صفة للطلقة ونحن نجعلها صفةً للدفعة ؛ فمعنى الحديث :وكان الطلاق في عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقع الثلاث دفعةً واحدةً ، وهو الطلاق البدعي ، والناس لم يكونوا يمتنعون من هذه البدعة ، ويوقعون الثلاث دفعة ، فنهى عمر عن هذه البدعة .

ص: 325


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 661 ( حجري ) .

وأقول :

لا يخفى ما في كلامه من التشويش والاضطراب ، فإنّه قال أولاً : «لم يجعل عمر الثلاث غير واحدةٍ ، ثمّ ناقض نفسه فقال : «ولم يحكم بأن الثلاث لا تقع دفعة واحدة»، ثمّ قال : «وأن ليس له في الوقوع حكم الواحدة»؛ أي ولم يحكم بأن ليس له في الوقوع حكم الواحدة ، وهو بمعنى كلامه الأوّل ، إلا أن يقال أنّ لفظ (لا) في قوله : «لا تقع» زائدةٌ ،فتتفق الجمل كلها بالمقصود .

وكيف كان ؟ فما ذكره في معنى الحديث لا يلائم قوله : «فلو أمضيناه عليم فأمضاه» ؛ إذ لو أراد عمر النهي عن البدعي بالمعنى الذي ذكر الفضل ، لقال : فلو نهيناهم عنه ، فنهاهم، على أنّه لا يجامع عدالة الصحابة جميعاً كما يزعمون - فإنّهم كيف يستمرون في عهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم وبعده إلى سنتين أو ثلاث من إمارة عمر على هذه البدعة بلا ناه من الصحابة عن المنكر ولا منته عنه ؟ !

بل كيف تقع هذه البدعة في عهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وتستمر في عهده ، ولا يرفعها إلى أن تجيء نوبة عمر ، فيتولى هو المنع عن هذه البدعة دون النبي صلی الله علیه و اله و سلم؟!

وما بال عمر لم ينه عنها في السنين الأول من إمارته ، ولا في أيام أبي بكر ، وهما كسلطان واحد ؟ !

على أنّه إذا كان طلاق الثلاث في دفعة واحدة بدعة، ونهى عنه عمر ، فكيف ذهب إليه علماؤهم واستمر عليه عملهم ؟! فلا إشكال أن عمرأول من أجاز طلاق الثلاث ثلاثاً ، وتبعه السُنّة ، وأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، كان

ص: 326

يجعل الثلاث واحدة، ويقول : إن غيره لعب بكتاب الله تعالى ، كما استفاضت به أخبارهم .

فقد روى مسلم في باب طلاق الثلاث عن طاووس : إن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم إنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلی الله علیه و اله و سلم وأبي بكر ، وثلاثاً من إمارة عمر ؟

فقال ابن عباس : نعم ((1)) .

ونحوه - أيضاً - في صحيح النسائي في طلاق الثلاث المتفرقة ((2)) .

وروى مسلم في الباب المذكور عن طاووس : أن أبا الصهباء ، قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن طلاق الثلاث في عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وأبي بكر واحدة ؟!

فقال : قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم(3).

ونحوه في الدر المنثور عن أبي داود ، والبيهقي في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة :«الطلاق مرتان ..»((4)) الآية ((5)).

ص: 327


1- صحيح مسلم 184/4 ، وأنظر أيضاً ، سنن أبي داود 268/2 ح 2200 ، السنن الكبرى - للنسائي - 351/3 ح - 351/3 - 5599 ، مصنف عبد الرزاق 392/6 ح 11337 ، مسند 152/3 أبي عوانة 152/3 ح 4531 - 4533 ، أحكام القرآن 4531 - 4533 ، أحكام القرآن - للجصاص - 529/1 ، سنن البيهقي 336/7.
2- سنن النسائي 145/6 .
3- صحيح مسلم 184/4 ، وأنظر : مصنف ابن أبي شيبة 21/4 ح 2، مسند أبي ح شرح معاني الآثار 55/3 ، أحكام القرآن - للجصاص529/1.
4- سورة البقرة 2 : 229.
5- الدر المنثور 1/ 668 ، وأنظر : سنن أبي داود 2/ 268 ح 2199 ، السنن الكبرى للبيهقي - 336/7.

ونقل في كنز العمال في كتاب الطلاق عن أبي نعيم عن طاووس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناةٌ فاستعجلتم أناتكم ، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك((1)).

ثم نقل عن أبي نعيم عن الحسن : أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: «لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ولكن أقواماً جعلوا على أنفسهم ، فأَلْزِمْ كُلّ نفس ما أَلْزَمَ نفسه من قال لامرأته : أنت حرام علي فهي حرام ، ومن قال لامرأته : أنت بائنةٌ ، فهي بائنة ، ومن قال : أنت طالق ثلاثاً فهي ثلاث ((2)).

وروى الحاكم في«المستدرك»((3)) وصححه عن ابن أبي مليكة : أن أبا الجوزاء أتى ابن عبّاس فقال: أتعلم أن ثلاثاً كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلى واحدة ؟

قال : نعم ((4)).

وروى مسلم في الباب السابق ما حكاه المصنّف هنا عن الجمع بين الصحيحين ((5)).

ورواه - أيضاً - أحمد في مسنده ((6)) ، والحاكم في مستدركه ((7)).

ص: 328


1- كنز العمال 676/9 ح 27943 ، وأنظر : شرح معاني الآثار 56/3
2- كنز العمال 676/9ح27944.
3- في أول كتاب الطلاق ص 196 ج 2 . منه قدس سرة.
4- المستدرك على الصحيحين 241/2 ح 2792.
5- صحيح مسلم 183/4 - 184.
6- مسند أحمد 314/1.
7- في المقام المذكور منه قدس سرة، المستدرك على الصحيحين 2 / 214 ح 2793 .

ونقله في الدرّ المنثور بتفسير قوله تعالى :«الطلاق مرتان ...»(1)الآية ، عن عبد الرزاق وأبي داود والنسائي والبيهقي(2).

ونقل - أيضاً - في تفسير هذه الآية عن ابن عباس قال : «طلق ركانة امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: كيف طلقتها ؟

قال : طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد .

قال : نعم ، فإنّما تلك واحدةٌ ، فأرجعها إن شئت»((3)).

ونقل - أيضاً - في الدر المثور» عن عبد الرزاق ، وأبي داود ، والبيهقي ، عن ابن عباس ، قال:«طلق عبد زيد أبو ركانة أُمّ ركانة ... إلى أن قال : قال راجع امرأتك أم ركانة.

فقال : إنّي طلقتها ثلاثاً يا رسول الله !

قال : قد علمت وتلا:«يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لِعِدَّتِهِنَّ»((4))((5))».

وروى النسائي في صحيحه تحت عنوان «الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ عن محمود بن لبيد ، قال : «أخبر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضباناً ، ثم قال : أيُلْعَبُ بكتاب

ص: 329


1- سورة البقرة229/2.
2- الدر المنثور 668/1 ، وانظر : المصنف 391/6 - 392 ح 11336 ، السنن الكبرى336/7.
3- الدر المنثور 1/ 668 ؛ وأنظر : السنن الكبرى - للبيهقي - 339/7.
4- سورة الطلاق 65 : 1
5- الدر المنثور 668/1 ، المصنف 390/6 - 391 - 11334 ، سنن أبي داود2/ 266 ح 2196 ، السنن الكبرى 339/7.

الله وأنا بين أظهركم ؟! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ! ألا أقتله ؟»((1)).

ونحوه في «الكشاف» بتفسير سورة الطلاق ((2)).

وقد أشار رسول صلی الله علیه و اله و سلم بقوله :«أيُلْعَبُ بكتاب الله ؟ ... إلى قوله تعالى:«الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ...»((3)) الآية .

فإن قوله سبحانه :«الطلاق مرتان يدلّ على اعتبار الرجوع بعد الطلقة الأولى لتقع الطلقة الثانية ، ويصدق المرتان ، فإن الطلاق هو الفراق ورفع عُلْقَةِ الزوجية ، وبالضرورة لا ترتفع العُلقة مرتين إلا بالرجوع بعد الطلقة الأولى ، وكذا يعتبر الرجوع بعد الثانية ؛ لتقع الثالثة ، فتحرم بعدها .

كما قال سبحانه:«فإمساك»؛ أي رجوع بعد الطلقتين ،«بمعروف أو تسريح بإحسان»؛ أي بطلاقها مرة ثالثة«فإن طلقها»أي ثالثة ،«فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره».

فالحلّ المنفي هو ما كان بعد الطلقة الثالثة المسبوقة بالطلقتين ، فلا تحرم بالطلاق ثلاثاً مجتمعة .

فليت شعري ، إذا كان الكتاب دالاً على ذلك ؛ بحيث سمى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم خلافه لعباً بكتاب الله ، وصرّحت به السنة مع علم عمر ،جاز له مخالفتهما ؟

وكيف صح للقوم أن يتخذوه إماماً ويتبعوه في أقواله وأفعاله ، وقد قال سبحانه :«ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين *

ص: 330


1- سنن النسائي 142/6 - 143.
2- تفسير الكشاف 118/4.
3- سوره البقره 2 : 229 .

ثمّ لقطعنا منه الوتين»((1)) ؟ !

فهل يَرَوْنَ أنّ الله سبحانه هدّد سيد رسله بهذا التهديد على التقول عليه ، وأطلق لعمر ماشاء هواه ، بل هو ليس من التقوّل على الله تعالى ، وإنّما هو من القول في عرض الله وفوق الله ، ولذا اتبعوه دونه في هذا الحكم .

ولا يكاد ينقضي العجب من هؤلاء القوم ، إذا نظر المتأمل في هذا المقام وأشباهه .

ثمّ إنّ قول الخصم : والطلاق السنّي أن لا يوقع الثلاث مرّة واحدة مخالف لقول مذهبه الشافعي ؛ فإنّه يرى أنّ طلاق الثلاث دفعة واحدة من الطلاق السنّي ، كما حكاه عنه الشعراني في كتاب «الطلاق» من«الميزان»((2)).

ص: 331


1- سورة البقرة 4 : 230.
2- الميزان الكبرى 395/2 ، كتاب الأم 207/9.

قال المصنّف - قدس الله روحه - ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عمار بن ياسر قال : إن رجلاً أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء .

فقال : لا تصل .

فقال عمار: ألا تذكر يا أمير المؤمنين ! إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً ؛ فأما أنت فلم تصل ؛ وأما أنا فتمعكت ((2)) بالتراب وصليت .

فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك .

فقال عمر : اتق الله يا عمّار !

فقال : إن شئت لم أحدّث به .

فقال عمر : نوليك ما توليت ((3)).

ص: 332


1- لم ترد في نهج الحق المطبوع.
2- التمعك : التقلب فيه ، آنطر : لسان العرب 145/13 مادة ( معك ) .
3- الجمع بين الصحيحين 253/1 ح 345 ، وانظر : صحيح مسلم 193/1 من عدة طرق ، صحيح البخاري 151/1 ح 5 ، سنن أبي داود 86/1 - 87 ح 322 - 326 ، سنن ابن ماجة 1 / 188 ح 569 ، سنن النسائي 166/1 و 198 و 170 ، مسند أحمد 12 / 265 و 319 ، مسند البزار 223/4 - 227 ح 1385 - 1388 ، مسند أبي يعلى 181/3 - 183 حر - 1607 ، مسند الطيالسي : 88 - 89 ح 638 ،مصنف ابن أبي شيبة 1/ 184 ح 7 ، سن ابن الجارود : 41 ح 125 خزيمة 1 / 135 ح 268 و 269 ، مسند أبي عوانة 255/1 - 256 شرح معاني الآثار - للطحاوي - 1/ 112 - 113 ، مسند الشاشي 425/2 - 431 ح - 112/1 - 1028 - 1039 ، صحيح ابن حبّان 2/ 300 - 302 ح 1303 و 1306 ، سنن البيهقي209/1-210.

وهذا يدلّ على عدم معرفة عمر بظاهر الأحكام، وقد ورد به القرآن العزيز في قوله تعالى :«فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً»((1)) في موضعين ، ومع ذلك فإنه عاشر النبي صلی الله علیه و اله و سلم والصحابة مدة حياة النبي ،ومدة أبي بكر أيضاً ، وخفي عنه هذا الحكم الظاهر للعام ، أفلا يفرّق العاقل بین هذا ، وبين من قال في حقه رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «أقضاكم على »((2)).

وقال تعالى :«ومن عنده علم الكتاب»((3))«وتعيها أذن واعية»((4)) .

وقال هو :«سلوني عن طرق السماء ؛ فإنّي أخبر بها من طرق الأرض ، سلوني قبل أن تفقدوني»((5)).

والله لو ثنيت لى الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم»((6)).

ص: 333


1- سورة النساء 4 : 43 ، سورة المائدة 5 : 6.
2- تمهيد الأوائل للباقلاني : 542 ، تاريخ مدينة دمشق 51 : 300 ، شرح نهج البلاغة:7 : 219 ، تفسير القرطبي 15 : 162.
3- سورة الرعد 13 : 43 . وراجع 5/...من هذا الكتاب.
4- سورة الحاقة 19 : 12 ، وراجع 5/.... من هذا الكتاب.
5- أنظر نهج البلاغة - صبحي صالح - : 280 خطبة رقم 189 ، ينابيع المودة208/1 ح 9، مع اختلاف في الالفاظ
6- مناقب الخوارزمي : 91 ذیل ح 85 ، شرح نهج البلاغة %136/6 و 197/12 ،فرائد السمطين 341/1 ، شرح المواقف 370/8 .

وقال الفضل ((1)) :

ظاهر آيات القرآن ليس بنص في كيفية تيمّم الجنب ، وهذا أمر يعلم السُنّة ، لأنّ كيفية تيمّم الجنب لا يُفهم من النصّ ، ولهذا تمعك عمار في التراب .

ولو كان النص يدلّ بصريحه على كيفية تيمّم الجنب ، لم يقع لعمّار التمعك في التراب ، ويمكن أن يكون قد فهم من الكتاب والسنة ما يدل على ترك الصلاة للجنب ؛ لعدم صريح النصّ على هذا، كما يعلم من التفاسير ((2))، ويمكن أن يكون يعرضه نسيان الحكم ، ولا ندعي عصمته من الخطأ .

وأما ما ذكر من علم أمير المؤمنين ، فلا نزاع لأحد فيه ، وكمال علمه لا يدلّ على جهل غيره .

ص: 334


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 662(حجري ) .
2- تفسير الطبري 113/4 ح 9662 ، تفسير الماوردي 492/1 ، تفسير البغوي346/1.

وأقول :

لا شك أن قوله سبحانه :«يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ...»إلى قوله تعالى :«فلم تجدوا ماء فتيمموا ...»((1))نص في ثبوت أصل التيمم للصلاة ، كما هو محل الكلام .

وإن لم يكن نصاً في كيفيته، فيكون عمر بإسقاطه للتيمم، وللصلاة الجامعة للشرائط الواجبة بنص كتاب الله ، مخالفاً للنص في الأمرين ، وذلك ليس عن نسيان ؛ لتذكير عمّار له لو نسي، كما رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم ((2)).

أن هذا الحكم ممّا لا يُنسى ؛ لكونه من الضروريات وكثرة الابتلاء به في حياة النبي صلی الله علیه و اله وسلم وبعده ؛ حتى إن المسلمين ابتلوا به مرّة في السفر ،فنزلت الآية .

روى البخاري في أوّل كتاب التيمم ، ومسلم، وغيرهما من عدة طرق : أنّ آية التيمم نزلت في السفر لما أدركت المسلمين الصلاة وهم على غير ماء ، فتيمموا بعد نزول الآية ((3)).

فمن يجهل مثل هذا الحكم، أو ينساه ، لم يمكن أن يكون عالماً بأمر ألبتة .

وقول الخصم :«يمكن أن يكون قد فهم من الكتاب والسنّة ما يدل

ص: 335


1- سورة المائدة 5 : 6 .
2- صحيح البخاري 151/1 ح صحیح مسلم 193/1 ، سنن النسائي 170/1 .
3- صحيح البخاري 148/1 - 149 ح 1 ، وص 150 ح 3 ، صحیح مسلم 192/1.

على ترك الصلاة للجنب ... إلى آخره ، من المضحكات ؛ إذ أية آية أو سُنّة يمكن أن يفهم منها الدلالة على ترك الصلاة ؟ !

وقياس عدم نصوصية الآية في وجوب التيمم على عدم نصوصيتها في كيفيته غلط ؛ لعدم التلازم ، بل الآية الكريمة نص في خلاف فعل عمار ، وإن لم يكن نصاً في تمام الكيفية ، فلابد أن يكون فعله قبل نزول الآية ؛ إذ هو أجل من أن تخفى عليه صراحتها في خلاف فعله .

فإذا اتضح لك حال عمر، علمت أنه لا يصلح أن يكون إماماً للمسلمين أو يكون مجتهداً أو ينسب إليه فضل ، فضلاً عن أن يقرن بمن عنده علم الكتاب ، وباب مدينة علم النبي صلی الله علیه و اله وسلم.

وقول الخصم : « وكمال علمه لا يدل على جهل غيره»، صحيح ، لكن المصنف رحمه الله لم يرد أن يثبت بأخبار فضل أمير المؤمنين علیخ السلام جهل الغير، وإنّما أراد أن يبيّن للمنصف الفرق بين عمر ، وبين من عنده علم الكتاب ، وأقضى الأمة ؛ ليعتبر بقوله تعالى :«أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتبعَ أم من لا يهدي إلا أن يُهدى»((1))

وقوله سبحانه :«هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»((2)).

هذا ، والأقرب أن عمر لم يكن يجهل ذلك الحكم ولا نسيه ، بل كان عامداً إلى الخلاف ؛ استكباراً عن مخالفة عمله الأول الذي وقع له مع عمار ؛ وتكبراً على عمار أن يُخَطَّئَهُ ويُرشِدَهُ ، وإلا فلم أشفق منه عمّاروقال : «إن شئت لم أحدّث به» ؟!

ص: 336


1- سورة يونس 10 : 35 .
2- سورة الزمر 39 : 9.

ولو فرض أنه كان شاكاً في خبر عمّار، فقد كان اللازم عليه أن يستوضح الحال من بقية المسلمين .

واعلم : أن البخاري روى في كتاب التيمم عن شقيق بن سلمة ، قال :«كنت عند عبد الله وأبي موسى ، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن ! إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟

فقال عبد الله : لا يصلّي حتى يجد الماء .

فقال أبو موسى : كيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي صلی الله علیه و اله وسلم:كان يكفيك .

قال : أو لَمْ تر عمر لم يقنع بذلك ؟

فقال أبو موسى : فدعنا من قول عمار ، كيف تصنع بهذه الآية ؟ - يعني آية التيمم -

فما درى عبد الله ما يقول .

فقال : إنا لو رخصنا لهم في هذا ، لأوشك إذا بَرُدَ على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم ((1)).

وروى البخاري نحوه - أيضاً - من عدة طرق ((2)) ، وكذا مسلم في باب التيمم ((3)).

ص: 337


1- صحيح البخاري 155/1 ح 12.
2- صحيح البخاري 1 / 155 ح 11 .
3- صحیح مسلم 1/ 192 - 193 ، وأنظر : سنن أبي داود 85/1 ح321،سنن النسائي 170/1، مسند أحمد 264/4 و 265 ، مصنف ابن أبي شيبة 1/ 184 ح6 ،صحیح ابن خزيمة 136/1 ح270،مسندأبي عوانة 254/1،ح 875 ، مسند الشاشي 423/22 - 424 ح 1025 و 1026 ، صحيح ابن حبان 2/ 300 - 301 ح1302 و - 1304 ، سنن الدارقطني 1/ 139 - 140 ح 673 ، سنن البيهقي 211/1و226.

وهو من الكذب على عبد الله بن مسعود ، فإنّه أعظم من أن يستبيح ترك الصلاة ، ويخالف الكتاب والسنّة ؛ خوفاً أن يعصي عاص فيترك الوضوء في البرد ويتيمم، ولو جازت مخالفة الله ورسوله ، وطرح الكتاب والسنّة لهذه الاستحسانات الواهية ، لما بقي للشريعة رسم ، وأسقطنا كل الواجبات ، وأبحنا كلّ المحرّمات .

ص: 338

قال المصنّف - أعلى الله مقامه - ((1)) :

وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى سلمان بن ربيعة ، قال : قال عمر بن الخطاب : قسم ((2)) رسول الله.

فقلت : والله يا رسول الله ! لغير هؤلاء أحق به منهم .

قال : إنّهم خيروني أن يسألوني بالفحش ، أو يبخلوني ، فلست بباخل ((3)) .

وهذه معارضة لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وهو العارف بمصالح العباد ، ومن يستحق العطاء والمنع .

ص: 339


1- لم ترد في نهج الحق المطبوع.
2- كذا في النسخ ، وفى المصدر زيادة «قَسْماً»
3- صحيح مسلم 103/3 ، وأنظر: مسند أحمد 20/1 و 35 ، تاریخ دمشق463/21.

وقال الفضل ((1)) :

قد عرفت شأن عمر عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في الأحاديث التي مرت وأنّه كان له منصب ومقام يذكر أمثال هذه الأشياء عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وهذا شأن الوزراء في المشاورات والمصالح، ألا ترى جواب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يتضمن تصديق قول عمر ؛ حيث قال : إنّهم خيروني أن يسألوني بالفحش ، أو يُبخلوني ؟

والمراد أنّه يعطيهم هذا من غير استحقاق لهم ، بل لتأليف قلوبهم ،وغيرهم أحق بالعطاء ، ولكن المصلحة هذا .

وأمثال هذا لا يعد من المطاعن .

ص: 340


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 663(حجري ) .

وأقول :

إثبات ذلك الشأن والمقام لعمر عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم إنما هو من سوء فهم أوليائه ، استنتجوه من سوء أدبه مع النبي صلی الله علیه و اله وسلم، لعدم معرفته ومعرفتهم بمقام صفوة الله من عباده .

وأمّا من عرفه الله تعالى منزلته وعلو شأنه بقوله :«لا تُقدموا بين یدی الله ورسوله»((1))، حيث ساوى سبحانه بين نفسه ورسوله في عن التقدم بين يديهما، وبقوله تعالى:«وما آتاكم الرسول فخذوه...»((2)) إلى غيرهما من الآيات الكريمة .

فلا يرى ذلك إلا معارضة للحق بالباطل، وسوء أدب ومعرفة ، إذ ليس الحديث متعلقاً بالمشاورة حتى يقول الخصم : « وهذا شأن الوزراء في المشاورات » .

وأما ما زعمه من تضمّن جواب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لتصديق عمر، ففيه : إنّه بتكذيبه أليق ؛ لأن فعل النبي صلی الله علیه و اله وسلم التابع للمصلحة يستدعي كذب عمر في دعوى الأحقية لغير هؤلاء في المقام، على أن مازعمه موقوف على رجوع الضمير في قوله صلی الله علیه و اله وسلم:«إنّهم خيروني » إلى من قسم النبی صلی الله علیه و اله وسلم فيهم القسم، وهو خلاف الصواب ؛ فإنّه راجع إلى من لم يرض بعمل النبي كعمر بدليل رواية أحمد في مسنده للحديث بلفظ

ص: 341


1- سورة الحجرات 49: 1.
2- سورة الحشر 59 : 7 .

الخطاب فإنّه رواه ((1)) عن عمر أنّه قال فيه : «قسم رسول الله قسمه ، فقلت :يا رسول الله ! لغير هؤلاء أحق منهم أهل الصفة .

فقال رسول الله : إنّكم تخيروني ، إنكم تسألوني بالفحش وبين أن تبخلوني ، ولست بباخل»((2)).

ومثله في«تهذيب التهذيب»لابن حجر بترجمة سلمان بن ربيعة ((3)) .

ولو سلّم أن المراد بالحديث ، تصديق عمر ، فهو دليل على نقص من قسم فيهم رسول الله تلك القسمة ، وهو كاف في المدعى ؛ لما فيه من الطعن بالصحابة بأنّهم أتباع الدنيا، وأنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم يتألفهم ، وهذا الحديث رواه مسلم في كتاب الزكاة ((4)).

وأعظم منه ما حكاه في كنز العمال عن الترمذي ، وابن جرير، والبزار ، وغيرهم ، عن ابن عمر قال : «جاء رجل إلى رسول الله ، فسأله أن يعطيه ، فقال النبي صلی الله علیه و اله وسلم، ما عندي شيء، ولكن استقرض حتى يأتينا شيء فنعطيك.

فقال عمر : يا رسول الله ! هذا أعطيته ما عندك ، فما كلّفك الله مالا تقدر عليه ، فكره النبي صلی الله علیه و اله وسلم قول عمر حتى عرف في وجهه.

فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ! أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً .

فتبسم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم حتى عرف البشر في وجهه بقول

ص: 342


1- ص : 20 ج 1 . منه قدس سرة.
2- مسند أحمد 20/1 و 35.
3- تهذيب التهذيب 422/3 رقم 2548 .
4- في باب الكفاف والقناعة . منه قدس سرة. الاولى صحیح مسلم 103/3.

الأنصاري ، ثم قال : بهذا أُمِرتُ »((1)).

ص: 343


1- كنز العمال 203/7 - 204 - 18637 ، وأنظر : كتاب الشمائل النبوية - للترمذي: 432 - 433 ح 357 ، مسند البزار 1 / 396 ح 273 ، تهذيب الآثار - لابن جرير 88/1 - 89 ح 143 و 144 مسند عمر ، أخلاق النبي - لأبي الشيخ - : 51 ح 101 ، شمائل النبي - للبغوي - 287/1 - 288 ح 367 ، مجمع الزوائد 10 241 - 242.

قال المصنّف - طاب ثراه - ((1)) :

وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين»:أن عمر لم يدر ما يحد شارب الخمر ، ورَوَوا أنه غيّر سنة نبيه صلی الله علیه و اله و سلم فيه ((2)).

ص: 344


1- نهج الحق : 350.
2- الجمع بين الصحيحين 573/2 ح 1937 ، وانظر : صحيح مسلم 125/5 ، البخاري 283/8 ح 8 ، سنن أبي داود 161/4 ، سنن أبي داود 161/4 - 162 ح 4479 - 4481 و ص 164- 165 ح 4488 ، سنن الترمذي 4/ 38 ح 1443 ، سنن ابن ماجة 858/2 ح 2571 ، سنن النسائي الكبرى 248/3 ح 5269 و 5270 ، سنن الدارمي 121/2 5270 ح 2308 و 2309 ، مسند أحمد 82/1، 140 ، 144 - 145 و 3/ 115 ، 176 ، 180 ، 247 ، المعجم الكبير 335/1 ح 1003 ، المعجم الأوسط 304/2 ح1937مسند أبي يعلى 389/1 ح 504 وص 504 و ص 447 - 448 ح598 ، و 275/5 وص ح 4894 وص368ح 3015وص391ح3053.ص434ح4127و6/6ح3219 ، مسند الطيالسي : 25 ح 173 وص ح 1970 ، مصنف عبد الرزاق 13540 - 13542 و 13545 ، مصنف ابن أبي شيبة 503/6 ح1 ، مسند الروياني 264/2 1351 ، سنن ابن الجارود : 211 ح 829 و 239 ، مسند أبي عوانة 150/4 - 151 ح 6330 - 6335 ، شرح معاني الآثار - للطحاوي157/3- 158 ، صحيح ابن حبّان 310/6 - 311ح4431-4433،سنن الدارقطني 99/3ح3294،، مستدرك الحاكم 416/4 ح 8127 ، سنن البيهقي318/8-320.

وقال الفضل ((1)) :

ذكر العلماء أنّ حدّ الشارب للخمر لم يتعيّن في زمن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وكانوا إذا أتوا بشارب الخمر يضربونه بالنعال والجريد وأطراف الثوب ، ثمّ بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم جمع أبو بكر من حضر ضرب شارب الخمر، وقاسوه بأربعين جلدة، فعينوا له ذلك ، وهذا كان بالاجتهاد ، فلا عجب أن عمل عمر بالاجتهاد ؛ لأنه محل الاجتهاد .

ص: 345


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 664 ( حجري ) .

وأقول :

إن أراد : أنه لم يتعيّن لنقصان الدين، أو لإهمال النبي صلی الله علیه و اله وسلم، حكم الله تعالى ، فهو باطل ؛ بنص الكتاب على إكماله ؛ وبضرورة الإسلام .

وإن أراد : إنّه لم يتعين لجواز الزيادة والنقصان بحكم الله تعالى ،فتعيين أبي بكر وعمر إدخال في الدين ما ليس منه .

وكيف كان ؟ فلا شك أن عمر غيّر سُنّة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بمقتضى أخبارهم ؛ لأنّه إذا فرض أنهم قاسوه بالأربعين ، فكيف جاز لعمر ضرب الثمانين ، بل بمقتضى بعض أخبارهم أن عمر غير سنة النبي صلی الله علیه و اله وسلم مرتين .

تال روى البخاري في كتاب الحدود ((1)) عن السائب بن يزيد ، قال : «كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم وإمرة أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر ، فنقوم عليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى إذا كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين»((2)).

نعم ، في كثير من أخبارهم أن تعيين الأربعين كان لأبي بكر ،والثمانين لعمر ، فيكون كلّ منهما مغيّراً بتغيير واحد مستقل.

ثم إذا كان رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يكتفي بالضرب بالأيدي ، والنعال ، وأطراف الثوب ، فما وجه تعيينهم للجلد بالعصي ؟! فهل كان دين الله سبحانه غير صالح لدفع الفساد ؟ ؟

ودعوى أن المقصود بالحدّ : التأديب - وهو منوط برأي الإمام -

ص: 346


1- في باب الضرب بالجريدة والنعال . منه قدس سرة.
2- صحيح البخاري 283/8 ح 8 .

باطلة ؛ لعدم الدليل عليه ؛ ولاستلزامه جواز تغيير حدود الله كلها، وهو خلاف الإجماع والضرورة .

على أنه لا وجه حينئذ لتعيين الأربعين ، والثمانين ، بل يلزم إيجاب ما يحصل به التأديب بحسب الأشخاص من دون تعيين عدد وآلة ، وربما كان النعال أشدّ في تأديب بعضهم .

ص: 347

قال المصنّف - قدس سره - ((1)) :

وفيه : أنه سأل أبا أوفى ما كان يقرأ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في صلاة العيد ؟((2)).

وسأل أبا واقد الليثي ((3)) : ما كان يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر ؟((4)).

وهذا من قلة المعرفة بأظهر الأشياء ؛ التي هي الصلاة الجهرية .

ص: 348


1- نهج الحق : 350 .
2- الطرائف : 475 عن الجمع بين الصحيحين.
3- هو : الحارث بن عوف ، أبو واقد الليثي البكري .
4- الجمع بين الصحيحين 389/3 ح 2874 ، وأنظر : صحيح مسلم 21/3، مسند أبي داود 1 / 298 ح 1154 ، سنن الترمذي 315/2 ح 434 و 535 ، سنن ابن ماجة408/1ح1282،سنن النسائي 183/3 - 184 ، الموطأ : 165 ح 8 ، كتاب الأم -للشافعی- 396/1، مسند الشافعي 386/9 ، مسند أحمد 217/5 - 218و219 ، مسند أبي يعلى 31/3 - 32ح 1443 و ص 34 - 35 ح 34 - 35 ح 1446 و 1447 ،المعجم الكبير 248/3 ح 3305 و 3306 ، مصنف عبد الرزاق 298/3 ح مسند الحميدي 2/ 375 ح 849 ، مصنف ابن أبي شيبة 2/ 81 ح 1 ، صحیح ابن 375/2 849 خزيمة 346/2 - 347 ح 1440 ، صحيح ابن حبّان 208/4 - 209 ح 2809 ، سنن الدارقطني 2/ 30 ح 1703 ، سنن البيهقي 3 / 294 ، شرح السنة 173/3 30/2 ح 1107 .

وقال الفضل ((1)) :

سأل هذا عن أبي أوفى ليرى أنه يوافقه فيما قرأ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ويمكن أن يكون ناسياً له فأراد أن يذكّره ، ولاشك أن عمر حضر في الأعياد عند رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في الصلاة، والإنسان قد يعرضه النسيان ، أو يريد زيادة التحقيق ، وأمثال هذا لا يعد من المطاعن .

ص: 349


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 665 ( حجري ) .

وأقول :

بمقتضى ظاهر كلامه أنه يدور أمر عمر بين الشك والنسيان ،وبالضرورة أن وقوع أي الأمرين منه في أظهر الأشياء - التي هي الصلاة الجهرية المتكررة في السنين العديدة - يكون من أدلّ الأُمور على قلة تدبّره في الأحكام ، وقلة علمه واهتمامه بها ، ولاسيما أن الذي سأل عنه الرجلين أمر واحد ، فيكون شكه ، أو نسيانه مكرّراً ، فكيف يصلح للإمامة وإدارة شؤون الأُمّة على قانون الشرع في الكبير والصغير ؟ !

هذا، وقد روى مسلم في كتاب صلاة العيدين ((1)) صدور المسألتين من عمر لأبي واقد ((2)) ، فلعل في النسخة غلطاً ، أو روى مسلم سؤال عمر لأبي أوفى في محلّ آخر ، أو رواه البخاري ، فراجع .

ص: 350


1- في باب ما يقرأ في صلاة العيدين . منه قدس سرة.
2- صحیح مسلم 21/3.

قال المصنّف - طاب ثراه - ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين أنّ أبا موسى استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثاً ، فلم يأذن له ، فانصرف .

فقال عمر : ماحملك على ما صنعت ؟

قال : كنا نؤمر بهذا .

فقال : لَتَقيمَنُ على هذا بيّنة أو لأفعلنَّ بك .

فشهد له أبو سعيد الخدري بذلك عن النبي صلی الله علیه و اله وسلم.

فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، الهاني الصفق((2))بالأسواق((3)).

وهذا أمر ظاهر قد خفي عنه ، فكيف الخفي ؟؟

ص: 351


1- نهج الحق : 350 .
2- الصفق : التبايع، أنظر : لسان العرب 365/7 ، مادة «صفق» .
3- الجمع بين الصحيحين 319/1 ح 485 وج 485 و ج 445/22 - 446 ح 1760 ، وأنظر صحيح البخاري 3/ 118 - 119 ح 15 و 98/8 - 99 ح 18 و 9/ 194 ح 121 ، صحیح مسلم 177/6 - 180 ، سنن أبي داود 347/4 - 349 ح 5180 - 5184 ، سنن ابن ماجة 1221/2 ح 3706 ، سنن الترمذي 51/5 - 53 ح 2690 - 2691 ، سنن الدارمي 189/2 ح 2625 ، الموطأ : 837 ح 3 ، مسند أحمد 6/3 ، 19 و393/4 - 394 ، 400 ، 403 ، 410 ، 418 ، مسند البزار 11/8ح2980وص13ح2981وص127ح3133،مسند أبي يعلى 240/13-241 ح7257،مسند الطيالسي : 70 ح 518 ، مصنف عبد الرزاق 381/10 ح 19423 ، مسند الحميدي 321/2 - 322 ح 734 ، مصنف ابن أبي شيبة 167/6 الروياني 1 / 223 ح 577 ، مشکل الآثار 341/1 - 342 ح 1184 ح 1188 ، صحیح ابن حبان 524/7 ح 5776 و 5777 ، سنن البيهقي 98/7.

وقال الفضل ((1)) :

إن سُنّة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تفرق علمها في الأصحاب ، وكان كلّ عالم من الصحابة يدرون بعض سُنّته وأحواله ، وكان أبو موسى يعلم هذه السنة ، وعمر كان لا يعلمها ، وكثير من هذه الأحكام كان يعلمها بعض دون بعض ، وكانوا يذاكرونه ويعلمونه من لا يعلم، فعدم علم عمر ببعض السنن لا يقدح في علمه بالكلية .

ص: 352


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 665(حجري ) .

وأقول :

مثل هذه السنة التي هي محل الابتلاء ، ولا سيما للأخصاء والوزراء كعمر - على زعمهم - لا يمكن أن يجهلها الخواص، بل مطلق من سكن المدينة من الصحابة ، ولذا اشتهر علمها حتى عند الأصاغر منهم.

فقد روى مسلم هذا الحديث، وقال في تتمته : «فخرج - أي أبو فانطلق إلى مجلس الأنصار فقالوا : لا يشهد لك إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد ... »((1))الحديث .

وروى مسلم - أيضاً - : أن أبا سعيد قال : كنت جالساً بالمدينة ، في مجلس من الأنصار ، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً .

قلنا : ما شأنك؟

قال : إن عمر أرسل إلى أن آتيه ... إلى أن قال : فقال عمر : أقم عليه البينة وإلا أوجعتك .

فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم قال أبو سعيد : قلت :

أنا أصغر القوم .

قال : فاذهب به »((2)).

وفي حديث آخر لمسلم - أيضاً -: «أن عمر قال : فوالله لأوجعن ظهرك ، وبطنك ، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا.

فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أحدثنا سنّاً، قم يا أبا

ص: 353


1- صحيح مسلم 179/6 .
2- صحیح مسلم 177/6 - 178 .

سعيد . . . »((1)) الحديث.

وروى البخاري نحو ذلك في صحيحه ((2))، وأحمد في مسنده ((3)).

وهذه الأخبار صريحة باشتهار هذا الحكم حتى عند الأصاغر من الصحابة ، وباستهزائهم في شأن عمر ؛ بأنّه لا يعلم حتى معلومات الأصاغر ، فمن هذا حاله قلة في العلم حتّى أقرّ على نفسه في المقام بأنّه ألهاء الصفق في الأسواق ، كيف يصلح للإمامة ويحكم في صغار الأمور وكبارها ؟ !

وكيف اتخذه الصحابة إماماً مع علمهم بحاله ؟ !

وليت شعري ، بم استحق أبو موسى أن يفزعه عمر، ويحلف أن يوجع ظهره وبطنه إن لم يأت بمن يشهد له ؟! فهل يحرم على الصحابي أن يعمل بما يروي عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، إلا أن تكون له بينة ، أو أن ذلك جهالة أُخرى من عمر ، أو أنّه عذاب على الصحابة سلطه الله عليهم ؛ لأنّهم أعانوه على ظلم آل محمد صلی الله علیه و اله و سلم، ومن أعان ظالماً على ظلمه سلطه الله تعالى عليه ، كما في الخبر ؟؟ ! ((4)).

وقد روى مسلم - في ذيل بعض أحاديث المقام -: أنه يشهد لأبي أُبي بن كعب، ثمّ قال لعمر : لا تكن يا ابن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((5)).

ص: 354


1- صحيح مسلم 178/6.
2- في باب الخروج في التجارة على ورقة من كتاب البيوع ، وفي باب التسليم والإستئذان على ورقة من كتاب الإستئذان . منة قدس سرة.صحيح البخاري 118/3-119ح15و98/8ح18.
3- ص : 6 و 19 ج 3 و ص ج 3 و ص 400 و 403 و 410 و 18 4 ج 4 . منه قدس سرة.
4- الخرائج و الجرائح 3 : 1058، بحار الأنوار 89: 172 ، الجامع الصغير للسيوطي8472/574:2.
5- صحيح مسلم 180/6.

وفي رواية أخرى : لا تكونَنَّ عذاباً على أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال عمر : سبحان الله ... إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت ((1)).

أقول : هذا من الجواب المضحك : فإنّ المتثبت لا يحلف على العقوبة ، بل يسأل العلماء ، فإن شهدوا ثبتت عنده صحة الخبر، وإلا توقف إن لم يكن خبر الواحد حجّة عنده .

ومن الغريب أنّ السُنّة يحكمون بعدالة كل صحابي ، وهذا عمل سيدهم مع أخص الصحابة به ، حتى مات وهو وال عنه.

ص: 355


1- صحيح مسلم 180/6

قال المصنّف - رفع الله درجته - ((1)) :

وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين» في مسند عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ،فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر .

ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله الله إلا الله .

ثمّ قال : أشهد أن محمداً رسول الله ، قال : أشهد أن محمداً رسول الله.

ثم قال : حي على الصلاة ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم قال : حي على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله .

ثمّ قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : الله أكبر الله أكبر .

ثم قال : لا إله إلا الله ، قال : لا إله إلا الله من قلبه ، دخل الجنّة ((2)).

فهذه روايته وزاد بعد موت النبي صلی الله علیه و اله و سلم: الصلاة خير من النوم .

وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين» في حديث أبي محذورة سمرة بن معير ((3)) ، لما علمه الأذان ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا

ص: 356


1- نهج الحق : 351
2- الجمع بين الصحيحين 148/1 ح 97 ، وأنظر : صحيح مسلم 4/2، سنن أبي 527 ، سنن النسائي الكبرى 15/6 ح 9868 ، مسند البزار1 / 383 ح 258 ، صحیح ابن خزيمة 218/1 ح 417 ، مسند أبي عوانة 283/1 993 و 994 ، شرح معاني الآثار 144/1 ، صحيح ابن حبان 97/3 ح 1683 ، سنن 97/3 البيهقي 408/18 - 409 ، شرح السنة 2 / 82 - 83 ح 424.
3- أبو محذورة هو : سمرة بن معير بن لوذان بن ربيعة الجمحي، أو محذورة المؤذن .وقد اختلف في اسمه ، فقيل اسمه : أوس بن معير ، وقيل : سمير بن عمير ، وقيل غير ذلك.توفي بمكة سنة تسع وخمسين ، وقيل : سنة تسع وسبعين . أنظر : الاستيعاب 1751/4 رقم 3162 ، أسد الغابة 304/2 رقم 2248 ، سيرأعلام النبلاء 117/3 رقم 24

إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، ثم يعود فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله مرتين ، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين حي على الصلاة، مرّتين ، حي على الفلاح،مرتين ، الله أكبر لا إله إلا الله ((1)).

وقال الشافعي في كتاب الأمّ أكره في الأذان : الصلاة خير من النوم ؛ لأن أبا محذورة لم يذكره((2)).

ص: 357


1- الجمع بين الصحيحين 503/3 ح 3061 ، وأنظر : صحيح مسلم 3/2 ، سنن أبي ح 500 ، سنن ابن ماجة 1 / 235 ح 709 ، سنن الدارمي 193/1 ح1193،مسند أحمد 309/3 و 401/6 ، المعجم الكبير 170/7 - 173ح 6728-6733،المعجم الأوسط 2/ 210 ح 1681،مسند الشاميين 236/3 - 237ح 2160 - 2161 و 4 / 360 - 3557 و 3558 ، مصنف ابن أبي شيبة 231/1 ح 2 ،سنن ابن الجارود : 50 ح 162 ابن خزيمة 195/1 ح 377 و 387 ، شرح معاني الآثار 130/1 ، صحيح ابن حبان 94 - 95 ح 1678 - 1679 ، سنن الدارقطني 12 / 185 ح 890 و ص 187 ح 894 ، سنن البيهقي /392/1 - 393 ، سنن 187 النسائي 4/2 - 5 .
2- كتاب الأم 173/1 - 174 ، وفيه : «إن أبا محذورة لم يحك عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أنه أمر بالتثويب ، فاكره الزيادة في الأذان ، وأكره التثويب بعده».

وقال الفضل ((1)) :

روى مسلم في صحيحه ، وكذا الترمذي ، والنسائي في صحيحيهما عن أبي محذورة ، قال : قلت يا رسول الله ! علمني الأذان ، فذكر الأذان وقال : بعد حي على الفلاح، فإن كانت صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم ((2)).

وعن بلال قال : قال رسول الله : لا تُثَوِبَنَ في شيء من الصلاة إلا فی صلاة الفجر ، هكذا في الصحاح((3)) .

وهو يقول : إنّ التثويب من زيادة عمر، ثمّ يفتري على الشافعي ذكر في «الأُمّ»: أن أبا محذورة لم يذكر التثويب .

والحال : أن مذهب الشافعي أنّ التثويب في صلاة الصبح سُنّة من رسول الله لا خلاف فيه لأحد من أصحابه ، وهو أعلم من أصحاب الشافعي بمذهبه ، هذا جهل من جهالاته .

ص: 358


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 666 ( حجري ) .
2- لم ترد الزيادة في صحيح مسلم ولا في سنن الترمذي ، وقد ورد الحديث بسند آخر في سنن النسائي 7/2 .
3- سنن الترمذي 378/1 198 ، وقال فيه :«حديث بلال لا نعرفه إلا من حديث أبي اسرائيل الملائي».

وأقول :

ما أصلف وجهه وأقل حياءه ، كيف افترى في حديث أبي محذورة هذه الزيادة على«صحيح مسلم»وهو بأيدي الناس ، ولا أثر لها فيه ((1)) ، كما أنه لا وجود لهذا الحديث في«صحيح الترمذي» حتى بدون الزيادة ، وإنما أشار إليه إشارة ؟ !((2))

نعم ، هو موجود بالزيادة في «صحيح النسائي» في الأذان في السفر من طريق واحد ضعيف((3)).

ورواه قبله من طرق بدون هذه الزيادة ((4)) ، وحينئذ فلا يستبعد من الشافعي أن يكون له قولان ، وأن يفتي في«كتاب الأم»بكراهة : الصلاة خير من النوم ، إلتفاتاً إلى خلو حديث أبي محذورة عن هذه الزيادة في أكثرطرقه وأصحها .

وأما حديث بلال ؛ فلم أجده في صحيحي مسلم ، والنسائي ، وإنما رواه الترمذي بسند ضعيف، كما صرّح به البغوي في «المصابيح»(5).

وكيف كان ؟ فلا ينبغي التأمل في أن لفظ : «الصلاة خير من النوم»

ص: 359


1- راجع باب صفة الأذان في أوّل صحيحه من كتاب الصلاة تجد الحديث كما ذكره المصنف ره بلا زيادة ولا نقصان . منه قدس سرة،صحیح مسلم 3/2 .
2- انظر : سنن الترمذي 366/1 ح191.
3- سنن النسائي 7/2 ، وفي سنده عثمان بن السائب وهو مجهول ، كما في لسان الميزان 142/4 رقم 321 ، وتهذيب التهذيب 48/5 رقم 4605.
4- سنن النسائي 4/2 - 5 .
5- سنن الترمذي 378/1 ، مصابيح السنة 270/1ح448.

من البدع ؛ لخلوّ أكثر الأخبار المبينة لفصوله عنه .

منها : حديث عمر الذي حكاه المصنف عن مسلم ، وقد رواه في أوائل كتاب الصلاة في باب استحباب القول مثل قول المؤذن ((1)) ، وللأخبار الدالة على أنّه لم يكن في عهد رسول الله ، أو أنّه من البدع ، وفي بعضها التصريح بأنه عمر .

فمنها ما رواه مالك في موطأه تحت عنوان : ما جاء في النداء للصلاة ، قال : بلغني أن المؤذن جاء عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً ، فقال : الصلاة خيرٌ من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداءالصبح(2).

وعن الزرقاني عند وصوله إلى هذا الحديث من «شرح الموطأ»، قال : «هذا البلاغ أخرجه الدار قطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري، عن نافع ، عن ابن عمر عن عمر»((3)).

ومنها : مارواه الترمذي في باب ما جاء في التثويب في الفجر عن مجاهد ، قال : دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً وقد أذن فيه ، ونحن نريد أن نصلّي فيه ، فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : اخرج بنا من عند هذا المبدع ، ولم يصل فيه ((4)).

ونحوه في كتاب الصلاة من كنز العمال ((5)) ، نقلاً عن عبد الرزاق ،

ص: 360


1- صحيح مسلم 4/2 .
2- الموطأ : 65 ح 8 .
3- شرح الموطأ - للزرقاني 217/1 ، وأنظر سنن الدارقطني 195/1 ح 935.
4- سنن الترمذي 381/1 - 382 ضمن ح198.
5- ص : 270 ج 4 . منه له ، کنز العمال 357/8 ح 3250 ، وأنظر : مصنف عبدالرزاق 475/11 ح 1832.

والضياء في «المختارة» .

ومنها : ما في الكنز - أيضاً - عن الدار قطني ، وابن ماجة ، والبيهقي :عن ابن عمر : «أن عمر قال لمؤذنه : إذا بلغت حي على الفلاح في الفجرفقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم»((1)).

أقول : ومثله عن ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة((2)).

ومنها : ما في الكنز - أيضاً - عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني حسن بن مسلم أن رجلاً سأل طاووساً متى قيل : «الصلاة خير من النوم»، فقال : أما إنّها لم تقل على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم((3)).

ومنها : ما في الكنز - أيضاً - عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال :«أخبرني عمرو بن حفص أن سعداً أوّل من قال :«الصلاة خير من النوم»فقال عمر : بدعة ثم تركه »((4)).

إلى غير ذلك من أخبارهم ((5)) وهي كما تدلّ على أن التثويب ليس من شريعة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وإنه من البدع ، فقد دل قسم منها - وهو من رواية أعاظمهم - على أنّه من بدع عمر ، ولا ينافيه ما دلّ على أن سعداً أوّل من قاله ، فإن عمر قد أمر به وجعله سُنّة من بعده .

كما لا يعارضه مادلّ على أنّه من الرسول صلی الله علیه و اله و سلم، لضعفه عن

ص: 361


1- كنز العمال 355/8 ح 23242 ، وأنظر : سنن الدار قطني 1 / 195 ح 935 ، سنن البيهقي 423/1.
2- مصنف ابن أبي شيبة 236/1 ح 7
3- كنز العمال 357/8 ح 23252 ، وانظر : مصنف عبد الرزاق 474/1ح1827.
4- كنز العمال 357/8 ح 23252 ، وانظر المصنف 474/1ح1729.
5- انظر : سنن أبي داود 145/1 ح 538 ، الحاوي الكبير 70/1 ، شرح السنة 2/ 65و 66.

المقاومة ؛ وكونه من رواية المتهمين، بخلاف رواية كونه من عمر ، فيصح حينئذ قول المصنف رحمه الله إنه من زيادة عمر ، وإنّه قد أبدع في الأذان ما ليس من روايته.

ثمّ إنّ عمر كما زاد في الأذان : الصلاة خير من النوم نقص منه ومن الإقامة :«حي على خير العمل »(1).

قال القوشجي - وهو من متكلمي الأشاعرة - في أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد»: «صعد المنبر وقال : أيها الناس ! .. ثلاث كن على عهد رسول صلی الله علیه و اله و سلم أنا أنهى عنهنَّ وأحرمهن وأعاقب عليهن ؛ وهي متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحي على خير العمل»((2)).

واعتذر عنه بعد ما أرسله إرسال المسلّمات : بأنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع»((3))انتهى.

وهذا العذر من الغرائب ؛ إذ جعل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وعمر مجتهدين ،وسوّغ لعمر مخالفة النبيّ صلی الله علیه و اله و سلم، ومعه لا يبقى أثر للرسالة ، بل ولا للربوبية ؛ لأنّ النبي لا ينطق إلا عن الوحي ، لا سيما في الأحكام، فيلزمه أن يكون الله سبحانه مجتهداً، وعمر مجتهداً آخر، وله تصويب الله وتخطئته وهذا هو الكفر والخروج عن الدين، ولاسيما إنّهم أخذوا على أنفسهم العمل بقول عمر، دون قول الله تعالى ورسوله.

ويدل - أيضاً - على أنّ«حيّ على خير العمل من فصول الأذان ما

ص: 362


1- مصنف عبد الرزاق 1/ 464 ح 1797 ، مصنف ابن أبي شيبة 244/1 ح 301 المحلى 160/3 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 424/1 - 425 ، منتخب كنز العمال«مرفق مع مسندأحمد»276/3
2- شرح التجريد - للقوشجي - : 484.
3- شرح التجريد - للقوشجي - : 484 .

في«كنز العمال» في كتاب الصلاة ، عن الطبراني :«كان بلال يؤذن بالصبح فيقول : «حيّ على خير العمل»(1).

ونقل - أيضاً - عن أبي الشيخ ، عن سعد القرظ ، قال :«كان بلال ينادي بالصبح فيقول : حي على خير العمل ، فأمره النبي صلی الله علیه و اله و سلم أن يجعل مكانها : الصلاة خير من النوم»((2)).

ونحن نصدقه في صدر الحديث ونكذبه في ذيله ؛ لما عرفت أن لفظ : الصلاة خير من النوم ، ليس من سُنّة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.

وروى في السيرة الحلبية في باب بدء الأذان ومشروعيته ((3)) : إن ابن والإمام زين العابدين علي بن الحسين علیه السلام كانا يقولان في الأذان : حيّ على خير العمل ((4)).

إلى غير ذلك من أخبارهم((5)).

ص: 363


1- كنز العمال 342/8 ح 23174 ، وانظر : المعجم الكبير للطبراني 352/1ح1071.
2- كنز العمال 345/8 ح 23188.
3- ص : 105 ج 2 في الطبعة الثانية . منه قدس سرة.
4- السيرة الحلبية 305/2.
5- قد وجدت بعد فراغي من هذا الكتاب بنحو عشر سنين ماله تعلّق في المقام ، أحببت نقله وهو ماذكره الفاضل محمد سعيد العرفي في كتابه «مباديء الفقه الإسلامي ، المطبوع» سنة 1354 هجرية ، قال في باب الأذان ص 38 : وأما حي على خير العمل، فمذاهب العترة زيادتها بين حيّ على الفلاح، وبين «الله أكبر» ودليلهم في ذلك عدا ما في كتبهم ما يلي : روى البيهقي في سننه أن علي زين العابدين بن الحسين كان يقول في أذانه إذا قال :«حي على الفلاح»: «حي على خير العمل»، ويقول : هو الأذان الأول .وأورد في شرح التجريد مثل هذه الرواية عن ابن أبي شيبة.ثم قال : وليس يجوز أن يحمل قوله هو الأذان الأوّل ، إلا على أنه أذان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وزاد رواية أخرى عن ابن عمر أنّه ربّما زاد في أذانه : «حي على خير العمل».وأورد البيهقي هذه الرواية عن ابن عمر أيضاً .ونقل ابن الوزير عن المحب الطبري الشافعي في كتابه «إحكام الأحكام» ما لفظه : ذكر الحيعلة بحي على خير العمل عن صدقة بن يسار عن أبي أمامة سهل ابن حنيف أنّه كان إذا أذن قال : حي على خير العمل ، أخرجه سعيد بن منصور إلى أن قال : وقال علاء الدين مغلطاي الحنفي في كتاب التلويح في شرح الجامع الصحيح، ، مالفظه :«وأما حي على خير العمل ، فذكر ابن حزم على خير العمل ، فذكر ابن حزم أنّه صح عن عبد الله ابن عمر ، وأبي أمامة سهل بن حنيف أنهما كانا يقولان : حي على خير العمل : ثمّ قال : وكان علي بن الحسين يفعله»، أنتهى.وذكر سعد الدين التفتزاني في حاشيته على شرح العضد على مختصر الأصول لابن الحاجب أن حي على خير العمل كان ثابتاً على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وأن عمر هو الذي أمر أن يكفّ الناس عن ذلك ، مخافة أن يثبط الناس عن الجهاد ويتكلوا على الصلاة ، إلى غير ذلك ممّا في مبادىء الفقه الإسلامي.وليت شعري ، فهل هذه العلّة ظهرت لعمر وخفيت على الله ورسوله ، فانظر واعجب ؟! . منه قدس سرة.

ص: 364

قال المصنّف - طاب مرقده -((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند أبي موسى الأشعري ، قال : «قال عامر بن أبي موسى ، قال لي عبد الله بن عمر : هل تدري ما قال أبي لأبيك ؟

قال : قلت : لا .

قال : فإنّ أبي قال لأبيك : يا أبا موسى ! هل يسرّك أنّ إسلامنا مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و هجرتنا معه ، وجهادنا معه ، وعملنا كله معه ، يردّ كلّ عمل عملناه بعده ، ونجونا منه كفافاً رأساً برأس ؟

فقال أبوك لأبي : لا والله ! لقد جاهدنا بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وصلينا ،وصمنا وعملنا خيراً كثيراً ، وأسلم على أيدينا بشر كثير ، وأنا أرجو ذلك .

قال أبي : لكنّي أنا - والذي نفس عمر بيده - لوددت أن ذلك يرد لنا كلّ شيء عملناه بعده ، ونجونا منه كفافاً رأساً برأس»((2)).

ومن كتاب الجمع بين الصحيحين» من مسند عبد الله بن عباس:«أنّه لما طعن عمر بن الخطاب كان يتألم .

فقال ابن عباس : ولا كلّ ذلك.

فقال بعد كلام : أما ما ترى من جزعي ! فهو من أجلك، وأجل أصحابك ، والله ، لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل

ص: 365


1- نهج الحق : 352
2- الجمع بين الصحيحين 124/1 ح 51 مسند عمر ، 51 مسند عمر، وأنظر :صحيح البخاري164/5ح395.

أن أراه »((1)).

وهذا اعتراف منه حال الاحتضار ؛ بأنه وقع منه ما يستوجب المؤاخذة في حق بني هاشم ، وأنّه تمنّى أن يفتدي بملء الأرض ذهباً من عذاب الله لأجل ما جرى منه في حقهم.

ص: 366


1- الجمع بين الصحيحين 72/2 ح 1072 ، أنظر : صحيح البخاري 79/5 - 80 ح188.

وقال الفضل ((1)) :

لا يخفى على من يفهم الكلام أنّ هذا من أعمال الصديقين حال الموت وأنهم لا يرون أعمالهم في ذلك الوقت ويتواضعون عند الله ويعترفون بذنوبهم فإنّ القدوم على الله أمر صعب ، ولا يجزم المؤمن بقبول أعمله ، سيما من قصد الخلافة، والزعامة الكبرى ، فإنّه أمرصعب وأخوف .

وليس هذا من باب الاعتراف بالذنب عند الناس ، بل هو من باب التواضع عند الله تعالى، ولا يعرف هذا الا الصديقون الخائفون .

ص: 367


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 667 ( حجري ) .

وأقول :

لا يخفى أنه إذا كان الصدّيقون لا يرون أعمالهم شيئاً ، والمؤمنون لا يجزمون بقبولها وجب بمقتضى الحديث الأوّل أن لا يكون عمر صديقاً ولا مؤمناً ؛ لدلالته على أنّه يعد أعماله في أيام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم شيئاً،لا وأنّها مقبولة عند الله تعالى ؛ ولذا تمنى أن يردّ بها أعماله بعده رأساً برأس،وهذا - أيضاً - من الاعتراف عند الناس بالذنب ؛ لأن تمنّى المعادلة بين العملين يدلّ على الإقرار بفساد عمله بعد النبي صلی الله علیه و اله و سلم ليكون العمل الصالح المعلوم منجياً من العمل الفاسد المعلوم .

وبالجملة : طريق الصدّيقين أن لا يروا أعمالهم شيئاً ، ولا يعتمدوا على شيءٍ منها أصلاً ، فأين هذا من تمنّي المعادلة بين ما يحكم عليه بالقبول بلا دليل، وبين ما يعرف فساده ؟ ! كما لا دخل له بالتواضع ؛ فإنّه لا يناسب الاعتداد بشيء من الأعمال .

هذا في الحديث الأوّل الذي رواه البخاري في أواخر الجزء الثاني(1).

وأما الحديث الثاني الذي رواه البخاري - أيضاً - في مناقب عمر(2):فهو أيضاً لا يناسب قول الصدّيقين ؛ لأن تخصيص عمر لبعض الأعمال وتمنّيه أن يفتدي من عذاب الله عليها بملء الأرض ذهباً ، دليل عن أنّها من الموبقات ، وأنّه عرف منها الوبال عليه ، وهذا لا ربط له بكلام الصدّيقين ،وينفع المصنف رحمه الله في إثبات الاعتراف بالذنب عند الناس.

ص: 368


1- صحیح البخاري 164/5ح395
2- من الكتاب المذكور . منه قدس سرة،صحيح البخاري 79/5 - 80ح188.

ولا يخفى أنه كما يحتمل أن يريد عمر بالأصحاب في قوله : «من أجلك وأجل أصحابك» : ما فهمه المصنف رحمه الله ، وهو خصوص بني هاشم ، كما هو الأقرب، يحتمل أن يريد بالأصحاب : مطلق الرعايا :لإستيلائه عليهم، وعمله فيهم بغير حق .

ص: 369

قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :

وفي الجمع بين الصحيحين عن ابن عمر - في رواية سالم عنه-قال : دخلت على حفصة فقالت : أعلمتَ أنّ أباك غير مستخلف ؟

قلت : ما كان ليفعل .

قالت : إنّه فاعل .

قال : فحلفت أن أكلمه في ذلك ، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه ، وكنت كأنما أحمل بيميني جبلاً حتى رجعت فدخلت عليه ، فسألني عن حال الناس وأنا أخبره .

قال : ثمّ قلت : سمعت الناس يقولون مقالةً ، فاليت أن أقولها لك :

زعموا أنّك غيرُ مُسْتَخْلِفٍ ، وأنّه لو كان راعي غنم أو راعي إبل ، ثمّ جاء وتركها لرأيت أنّه قد ضيّع ، فرعاية الناس أشد .

قال : فوافقه قولي .

فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إليَّ ، فقال : إنّ الله يحفظ دينه ، وإنّي إن لا أستخلف ، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم يستخلف ، وإن أستخلف ، فإن أبا بكر قد استخلف.

فقال : والله ، ماهو إلا أن ذكر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وأبا بكر ، فقلت :

لم يكن ليعدل برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أحداً وإنه غير مستخلف»((2)).

وهذا يدلّ على اعتراف عبد الله بن عمر بما تشهد به العقول ؛ من أن

ص: 370


1- نهج الحق : 354 .
2- الجمع بين الصحيحين 1 / 99 - 100 ح 22 ، وأنظر : صحيح مسلم 5/6 .

المتولّي لأمور الناس إذا تركهم بغير وصيّة يكون قد ضيع أمورهم، وقد شهد على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أنه قبض ولم يستخلف وضيّع الناس ، وأن عمر وافق ابنه ثمّ عدل عنه .

ص: 371

وقال الفضل ((1)) :

هذه الأخبار تدلّ على أن ابن عمر كان يزعم أن ترك الاستخلاف تضييع ، وهذا من اجتهاده، ونبهه عمر أنّ هذا في الإسلام ليس بتضييع ؛ لأنّ الله تعالى تكفّل حفظ دينه ، وليس أمر الدين كأمر الملك ليحتاج إلى حافظ الحوزة ، والتوصية بالخلافة .

ألا ترى أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم يستخلف ، فهل ضاع أمر أمته ؟

وهل ظهر خلل أو فساد في أصول الشرائع ؟

فالاستخلاف وعدم الاستخلاف بالنسبة إلى أهل الإسلام مساو ؛ لأنّه إن استخلف الخليفة السابق،فذاك حسن ؛ لأنّه راعي أهل الإسلام بالتكفيل من الخليفة اللاحق، وإن لم يستخلف ، فإنّ إجماع المسلمين يقوم مقام الاستخلاف .

وهذا معنى قول عمر : فإن لم استخلف، فإن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لم يستخلف ، وإن أستخلف ، فأبو بكر استخلف.

والمراد : أن الاستخلاف وعدم الاستخلاف مساو بالنسبة إلى حفظ الإسلام، فإنّه يقول :«إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»((2)).

ص: 372


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 668 ( حجري ) .
2- سورة الحج 9/15 .

وأقول :

إن أراد : أن الله سبحانه قد تكفّل بحفظ الإسلام - أي الشهادتين - فلا دخل له بكلام ابن عمر حتى يكون رداً له ؛ لأنه يرى وجوب الاستخلاف خوفاً من اختلاف الرعية ، ووقوع الفساد فيها ، وظلم بعضهم بعضاً ، ويرى أن ترك الاستخلاف تضييع للرعية .

وإن أراد : أنّه تكفّل بحفظ الحوزة ، وعدم ضياع أمور الرعية أصلاً ، فهو راجع إلى القول بعدم الحاجة إلى الإمام، وهو خلاف الضرورة ، وخلاف ما صرّح به أصحابه ؛ كصاحب المواقف» وشارحها وغيرهما ((1)) على أنّ عمر إنّما قال : إن الله يحفظ دينه والمنصرف منه أصل الإسلام ، ولذا لم يكن ردّاً لقول ابنه.

وإن أراد : أنّه تكفل بحفظ الحوزة بمقدار ما تنصب الأمة إماماً لها ، فهو قول بعدم الحاجة إلى إمام في الجملة ، وهو باطل ؛ لإنه تخصيص بلا دليل .

وقوله سبحانه :«إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»(2).

إنّما يدل على حفظ القرآن ولا ربط له بالمدعى ، وأما ترك النبي صلی الله علیه و اله وسلم للاستخلاف ، فهو - لو سلّم - لا يقتضي التخصيص ؛ لاحتمال الخطأ في فعله ، أو الهجر الذي نسبوه إليه ، حاشاه .

فلا محالة أن نسبة ترك الاستخلاف إلى النبي صلی الله علیه و اله و سلم النسبة للتضييع

ص: 373


1- المواقف : 395 ، شرح المواقف 345/8 ، شرح التجريد - للقوشجي - :472.
2- سورة الحج 15 : 9.

إليه حتى لو لم يضع أمرُ الأمة بعده ، فإنّ إقدامه على التضييع لا ينافي عدم حصول التضييع لأمر اتفاقي .

ولو سلم أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم لم يضيع أمر الأمة بترك الاستخلاف ؛ لعلمه بالاستخلاف ؛ وحصول الإجماع بعده، فهو لا يتمّ في عمر وغيره ممن لا يعلم العاقبة ، ولا دلالة في عمل النبي صلی الله علیه و اله وسلمعلى ثبوت قاعدة كلية فيما بعده .

والحق أن وجه الحاجة إلى الإمام هو حفظ الحوزة والدين؛ أصولاً وفروعاً ؛ علماً وعملاً ، ولا يحصل هذا إلا بإمام عالم بجميع الأحكام،معصوم حتى عن الخطأ ؛ لئلا تضيع الأُمّة الدينية ولو بضياع بعض أحكامها .

فلا بد من النص من الله تعالى والاستخلاف من النبي صلی الله علیه و اله وسلم أو إمام بعده،و الإجماع لا يقوم مقام ذلك ؛ إذ لا علم للناس بالمعصوم الذي لا يجهل شيئاً من الأحكام.

فقد ظهر مما ذكرنا أنه بناءً على أنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم لم يستخلف ، لم يحصل مجرّد التضييع من النبي ، بل حصل الضياع ؛ لعدم قيام معصوم محيط بجميع الأحكام مقامه.

ثمّ إنّ هذا الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله قد رواه مسلم في باب الاستخلاف وتركه من كتاب الإمارة ((1)) .

ص: 374


1- صحيح مسلم 5/6 .

قال المصنّف - اجزل الله ثوابه- ((1)) :

ونقل ابن عبد ربه في كتاب العقد : أن معاوية قال لابن حصين : أخبرني ما الذي شتّت أمر المسلمين وجماعتهم، وفرّق ملأهم، وخالف بينهم ؟

فقال : قتل عثمان .

قال : ما صنعت شيئاً .

قال : فمسير علي إليك .

قال : ماصنعت شيئاً .

قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم .

قال : ما صنعت شيئاً .

قال : ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين !

قال : : فأنا أخبرك ؛ إنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر في ستّة .

ثمّ فسّر معاوية ذلك في آخر الحديث ، فقال : لم يكن من الستة رجل إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك أنفسهم . ولو أن عمر استخلف كما استخلف أبو بكر ، ما كان في ذلك اختلاف((2)).

ص: 375


1- نهج الحق : 355.
2- العقد الفريد 289/3.

وقال الفضل ((1)) :

قد كان عمر يقول : لا أحمل أمر الخلافة حياً وميتاً ، وكان هذامن اتقاء الله تعالى ، وكان يخاف أن يستخلف غير الأهل فيكون وِزْرُ فعله في رقبته.

وأيضاً جعل عمر الشورى لم يكن موجب الفتنة ؛ لأنّ الأمر تقرر على عثمان ، وهؤلاء الذين ادعى معاوية أنهم كانوا يريدون الأمر لأنفسهم ، لم يخرجوا على عثمان حتى يكون وقوع الفتنة من قبلهم .

بل نقول : إنّما شتت أمر المسلمين خروج الفئة الباغية - بالاجتهاد والخطأ - على عليّ ، وهو كان صاحب الحق ، فخرجوا وتشتت أمر المسلمين .

ص: 376


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 670 ( حجري ) .

وأقول :

سبق أنه قد تحمّلها أسوأ تحمّل ؛ لأنه حصرها في ستة بعد ماعاب أكثرهم بما ينافي الخلافة، ثمّ أمر بقتلهم بالنهج المتقدم ((1)) ، ولو كان من أهل التقوى ، لما أمر بقتل من شهد لهم بأنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم مات وهو راضِ ضرر المخالف منهم بالحبس ونحوه ، فمن يطاع عنهم ؛ إذ كان يمكنه بالقتل أولى بأن يطاع بالحبس .

وأما قوله : كان يخاف أن يستخلف غير الأهل ... إلى آخره ، فلا يتمّ إلا أن يكون عمر فكيف أهلهم وعينهم ؟! ولم لم يترك الأمر إلى اختيار المسلمين ؟

ولو فرض أنه كان معذوراً في إدخال كلّ منهم ؛ لأهليته عنده للخلافة ، فلا محالة يكون معذوراً في تعيين واحدٍ منهم ، فلا معنى لخوف الوزر في الثاني دون الأوّل .

ولا أعجب من أهل السنّة ، فإنّهم بينما يقولون في كل صحابي شاكاً حتى في الستة ، وإذا كان شاكاً في أهليتهم للخلافة بالعدالة ، إذ تراهم يجعلون عمر يخاف وزر أفعال خواص الصحابة .

وأما تعليله لعدم الفتنة في جعل الشوري ؛ بأن الأمر تقرر على عثمان ، فتجاهل ظاهر .

أمّا أوّلاً : فلأنّ الأمر وإن تقرّر - أولاً - على عثمان ، لكن بعد ذلك طمع فيها طلحة والزبير وقومهما حتّى ألبوا الناس عليه ، ولا سيما طلحة .

ص: 377


1- راجع 287/7 وما بعدها من هذا الكتاب.

وأما ثانياً : فلأنّ الذي أراده معاوية بتشتيت أمر المسلمين هو ما وقع في البصرة ، وصفين ، وما تفرّع عليهما من حرب النهروان ، والعداوة بين المسلمين .

ومن الواضح أنّ أقوى الأسباب فيه هو إطماع عمر للزبير وطلحة وقوم عثمان في الخلافة.

ومن المضحك أن الفضل أراد أن يشتم معاوية في قبال شتم معاوية لعمر ، فقال : بل نقول ... إلى آخره ، فما أتمّ كلامه حتى عذر معاوية بقوله بالاجتهاد ؛ إذ لا تطاوعه نفسه على شتم ذلك الباغي غصن الشجرة الملعونة في القرآن .

ثمّ إنّ هذا الخبر قد ذكره ابن عبد ربه ((1)) ، كما سبق ذكره في مطاعن عمر(2).

ص: 378


1- ص : 75 ج 3 . منه قدس سرة، وأنظر : ص364من هذا الجزء.
2- راجع 311/7 من هذا الكتاب.

قال المصنّف - ضاعف الله أجره -((1)) :

وروى الحميدي في«الجمع بين الصحيحين»في مسند عمر بن الخطاب : أنّ أبا بكر قال ذلك - يعني يوم السقيفة - : ولن يعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش ((2)) .

ثم قال عمر يوم الشورى بعد ذمّ كلّ واحد منهم بما يكرهه : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً ما تخالجني فيه الشكوك ((3))، وبالإجماع إن سالماً لم يكن قرشياً ((4)).

وقد ذكر الجاحظ في كتاب «الفتيا» هذه المناقضة ((5)).

ص: 379


1- نهج الحق : 355 .
2- الجمع بين الصحيحين 1/ 104 ح 26 ، وأنظر : صحيح البخاري 303/8 - 304 ح25 ، مسند أحمد 56/1 ، مسند البزار 301/1 ح 194.
3- أنساب الأشراف 421/10 ، تاريخ الطبري 580/2 ، الاستيعاب 568/2 ، أسد الغابة 156/2 ، الكامل في التاريخ 459/2 .
4- راجع 242/4 من هذا الكتاب
5- انظر : الطرائف - لابن طاووس - : 483 نقلاً عن كتاب الفتيا - للنظام - ، ولم نعثرعليه في كتاب الفتيا - للجاحظ - المطبوع ضمن رسائل الجاحظ

وقال الفضل ((1)) :

الصحيح من الخبر : أن عمر قال :لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيّاً ،لم أجعل الشورى ؛ لأن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم سماه أميناً، هذا ماصح من الرواية ، فإن صح أنّه ذكر سالماً فربما كان مذهبه أن القرشية ليست بشرط في الخلافة ، كما ذهب إليه كثير من العلماء .

وأيضاً كلام عمر لا يدلّ على تولية الخلافة لا يدلّ على تولية الخلافة ، لأنه قال : لم يخالجني فيه شك لاستحقاقه، لكن لا تمكن التولية ؛ لعدم قرشيته فلا تناقض .

ص: 380


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 671 ( حجري ) .

وأقول :

أحمد روی في مسنده ((1)) عن أبي رافع - قال في آخر حديث له قال عمر : «لو أدركني أحد رجلين ، ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به ؛ سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة بن الجراح »((2)).

وروى الطبري في تأيخه((3))«أنّه قيل لعمر : لو استخلفت ؟ قال : من أستخلف ؟

لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً استخلفته ، فإن سألني ربي ، قلت : سمعت نبيّك يقول : إنّه أمين هذه الأمة .

ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته ، فإن سألني ربّي قلت :

سمعت نبيّك يقول : إنّ سالماً شديد الحبّ له ((4)).

ونحوه في كامل ابن الأثير»((5)) و«العقد الفريد »((6)).

وقال في الاستيعاب بترجمة سالم: وروى عن عمر انه قال:« لو كان سالم حياً ماجعلتها شورى»(7).

ونقل في«كنز العمال»((8)) عن أبي نعيم ، عن شهر بن حوشب ، قال :

ص: 381


1- ص : 20 ج 1 . منه قدس سرة.
2- مسند أحمد 20/1.
3- ص : 34 ج 5 . منه قدس سرة. [2 : 580 ، حوادث سنة 23 ]
4- تاريخ الطبري 580/2
5- ص: 32 : 32 ج 3 . منه قدس سرة، الكامل في التاريخ 459/2 حوادث سنه 23.
6- ص : 71 ج 3 . منه قدس سرة، العقد الفريد 284/3.
7- الاستيعاب 568/2 رقم 881 .
8- ص : 358 ج 6 . منه قدس سرة.

قال عمر ابن الخطاب : لو استخلفت سالماً مولى أبي حذيفة ، فسألني : ما حملك على ذلك ؟ لقلت : يا رب ! سمعت نبيّك يقول : إنّه يحبّ الله حقاً من قلبه.

ولو استخلفت معاذ بن جبل فسألني ربّي : ما حملك على ذلك ؟

لقلت : يا ربّ ! سمعت نبيك محمّداً يقول : إنّ العلماء إذا حضروا ربهم كان معاذ بن جبل بين أيديهم...»((1)).

فهذه الأخبار تصرّح بأن عمر يستخلف سالماً يستخلف سالماً لو كان حيّاً، وهي ليست بأصرح في ذلك من الخبر الذي ذكره المصنف رحمه الله ، لأنّه في مقام الاستخلاف الفعلي ، لكنّ الخصم أبى إلا عناداً.

وقد سمعت في بعض هذه الأخبار أن عمر ذكر للخلافة من غير قريش معاذاً أيضاً ؛ إذ هو من الأنصار ، فتثبت به المناقضة أيضاً.

وقد جاء - أيضاً - ذكر معاذ في رواية ابن قتيبة في كتاب «الإمامة والسياسة» ص 23 قال :

قال عمر: «لو أدركت معاذ بن جبل استخلفته»((2)) الحديث.

وأما ما أجاب به عن المناقضة بقوله : فربّما كان مذهبه أنّ القرشية لیست بشرط في الخلافة.

ففيه : إن الأمر إذا كان كذلك فبم تغلبوا على الأنصار في السقيفة ؟! وكيف يقول عمر : زوّرت في نفسي مقالة أعجبتني ، فوالله ، ما ترك - أي أبو بكر - من كلمة أعجبتنى فى تزويري إلا قال مثلها وأفضل ؟ !

وقد كان من جملة ما قاله أبو بكر : لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ

ص: 382


1- كنز العمال 12/ 675 36033 ، وانظر : حلية الأولياء 1/ 177 و 228 و 229
2- الإمامة والسياسة 42/1.

من قريش(1).

ثمّ إن دعوى عمر الوثاقة في سالم، ومعاذ ، وأبي عبيدة ، دون عثمان ، مضرّةً بما يزعمه القوم من فضل عثمان على المسلمين جميعاً سوى الشيخين ، فإنّه إذا كان عمر لم يثق بعثمان على طول صحبته له ، فكيف يكون أفضل المسلمين ؟

والأعجب من ذلك دعوى عمر الوثاقة بهم دون علي علیه السلام، وقد قال الله تعالى :«إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...»((2))الآية .

وقال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»((3)) ، وهو أخو رسول الله ونفسه، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى .

وليت شعري ، مابال أبي عبيدة يستحق الخلافة بلا ريب - لكونه على روايته أميناً - ولا يستحقها عليّ كذلك ، وقد أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا ؟!

وما بال معاذ يستحقها بلا تردّد لعلمه، ولا يستحقها علي کذلک،وهو الأذن الواعية ووارث علم النبي صلی الله علیه و اله وسلم ، وباب علمه ، ومن عنده علم الكتاب ، وقرينه في أنّ من تمسك به أمن الضلال ؟!

وما بال سالم يستحقها بلا شك لروايته إنّه شديد الحبّ الله تعالى ، ولا يستحقها عليّ كذلك ؟ !

وقد روى عمر نفسه حدیث خیبر ((4)).

ص: 383


1- الكامل في التاريخ 191/2 حوادث سنه 11 وفيه اختلاف في بعض ألفاظه.
2- سورة المائدة 5 : 55.
3- راجع الجزء الأول من الطبعة الجديدة ص
4- راجع 83/6 من هذا الكتاب .

أما في هذا كلّه وأضعافه ما يوجب وثاقة عمر بسيّد المسلمين ، كما وثق بسالم ومعاذ وأبي عبيدة ؟! ما هذا إلا أعجب العجب ! !

وإذا تأمّل المنصف ذلك علم صحة ما جاءت به الرواية عندنا من : أنّ أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ومعاذاً وسالماً قد كتبوا في حجة الوداع بينهم صحيفة جعلوا أمينها أبا عبيدة، وتعاقدوا فيها على دفع أمير المؤمنين عن الخلافة ، وأن يتداولوها فيما بينهم على ترتيب أسمائهم المذكورة ، وأشهدوا فيها أربعين من أصحابهم، حيث علموا أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم يريد نصب أمير المؤمنين علیه السلام خليفة بعده ((1)) ، ثم دحرجوا له الدباب ((2)) ليلة العقبة ، بعد نص الغدير ((3)).

ص: 384


1- کتاب سليم بن قيس 589/2 - 591 ، وص 817 - 819 ، الكافي 179/8-180 ، الصراط المستقيم 153/3.
2- الدبه بالفتح : ظرف للبزر والزيت والدهن ، والجمع دباب .انظر : لسان العرب 4/ 278 ، تاج العروس 479/1 مادة (دبب ) .
3- کتاب سليم بن قيس 2/ 730 ، الإحتجاج 1 / 127 - 132 .

قال المصنّف - أجزل الله ثوابه - ((1)) :

وقد ذكر أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي من الكلبي من علماء الجمهور : أنّ من جملة البغايا وذوات الرايات صعبة بنت الحضرمي ((2)) ، وكانت لها راية بمكة، واستصفت بأبي سفيان فوقع عليها أبو سفيان ، وتزوّجها عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، فجاءت بطلحة بن عبيد الله لستة أشهر ، فاختصم أبو سفيان وعبيد الله ((3)) في طلحة ،فجعلا أمرهما إلى صعبة ، فألحقته بعبيد الله.

فقيل لها : كيف تركت أبا سفيان ؟

فقالت : يد عبيد الله طلقة ويد أبي سفيان بكرة ((4)).

وقال أيضاً : وممن كان يلعب به ويتخنّث أبو طلحة ((5)) ، فهل يحلّ لعاقل المخاصمة مع هؤلاء لعلى علیه السلام.

ص: 385


1- نهج الحق : 356 .
2- في المصدر ( صفية بنت الحضرمي ) ، ولعله تصحيف صعبة.وصعبة : هي بنت عبد الله بن عماد بن ربيعة بن بن الحضرمي أُمّ طلحة بن عبيد الله التيمي ، وهي أخت العلاء بن الحضرمي ، سكن أبوها مكة ، وحالف حرب بن ، أمية والد أبي سفيان ، وقتل أخوها عمرو بن الحضرمي ، وكان أول قتيل من المشركين . توفيت على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وقيل عن بعض آل طلحة : أنها اسلمت أنظر : أسد الغابة 467/2 رقم 2625 وج 168/6 رقم 7050 ، الإصابة 541/4ضمن رقم 5646 وج 736/7 رقم 11392 ، المعارف : 133 ..
3- في المصدر «عبد الله » ، ولعله تصحيف عبيد الله أنظر : المعارف : 133 ، أسد الغابة 467/2 .
4- مثالب العرب - ابن الكلبي - : 85 .
5- مثالب العرب - ابن الكلبي - : 54.

وقال أيضاً : ممّن كان يلعب به وينتحل عفان أبو عثمان ، فكان يضرب بالدفوف(1).

ص: 386


1- مثالب العرب - ابن الكلبي - : 54.

وقال الفضل ((1)) :

قال ابن الجوزي في«كتاب الموضوعات»: وكان من كبار الكذابين وهب بن وهب القاضي، ومحمد بن السائب الكلبي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وأبي داود النخعي، وإسحاق بن نجيح الملطي ، وغياث بن إبراهيم النخعي، والمغيرة بن سعيد الكوفي(2).

والغرض أنّ محمّد بن السائب الكلبي ، من الكذابين الوضاعين ، وهو لا يعرف اسمه ، وحسب أن اسمه : هشام بن محمد ، وهذا باطل لا يخفى على أهل الأخبار .

ثمّ ما ذكره ليس إلا نشر الفاحشة ، ولا اعتماد على نقل صاحب المثالب ، فإنّ من صنف كتاباً في شيء فلا بُدّ يأتي بكل غثّ وسمين ، ويذكر فيه معائب الناس ، وليس فيه دليل ولا حجّة ، وكلامنا في الدلائل العقلية ، والشرعية، وهو ينقل الكلام من كتاب المضاحك والمثالب ، وهو يتضمّن نسبة الفاحشة إلى أنساب أكابر الصحابة وجماعة الخلفاء ، والذين شهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لهم بالجنة، وقد صح هذا بحيث لا يرتاب فيه ، وقد صح أن ولد الزنا لا يدخل الجنة ((3)).

فيجب الحكم ببطلان ما رواه من كتاب المثالب ، وأيضاً إن صح هذا

ص: 387


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحقِّ : 671(حجري ) .
2- الموضوعات 47/1.
3- الموضوعات 109/3 - 111 ، وقال بعد أن ذكر طرقه : ليس في هذه الأحاديث شيء يصح .

الخبر فليس فيه قدح ؛ لأن هذا من أنكحة الجاهلية وقد صح أن أنكحة الجاهلية معتبرة ولا ينتفي بها النسب ، فلا مثلبة .

ص: 388

وأقول :

لو اعتبرنا كلام ابن الجوزي فلا شاهد به للخصم ، فإنّ محمداً هو أبو هشام ، وقد ذكرهما الذهبي في«ميزان الاعتدال» بترجمتين ، وكنّى الأب- وهو محمد - بأبي النضر((1))، وكنّى الابن - وهو هشام - بأبي المنذر ((2)).

وذكر في الترجمتين أن هشاماً روى عن أبيه .

ثمّ إنّه إذا كان محمّد من كبار الكذابين ، فما بال صحاحهم اشتملت على روايته ، إذ روى عنه الترمذي في صحيحه ، كما ذكره الذهبي في میزان الاعتدال ، وابن حجر في«تهذيب التهذيب »((3))؟ !

وما بال كبار رجالهم رووا عنه ، كالسفيانين ، وحمّاد بن سلمة ، وابن المبارك ، وابن جريج ، وابن إسحاق، وأبي معاوية الضرير، وهشيم ، وإسماعيل ، وأبي بكر بني عيّاش ، ويزيد بن بزيع، ومحمد بن فضيل ويزيد بن هارون ، إلى كثير من علمائهم ورجالهم، كما في تهذيب التهذيب »((4))؟ !

وفيه عن ابن عدي أنّه قال : هو معروف بالتفسير ، وليس لأحد أطول من تفسيره ، وحدث عنه ثقات الناس ورضوه في التفسير((5)).

وأمّا نشر الفاحشة فهم أساسه، وقد نقله المصنف رحمه الله عنهم لیمیز

ص: 389


1- ميزان الاعتدال 159/6 رقم 7580.
2- میزان الاعتدال 88/7 رقم 9245.
3- میزان الاعتدال159/6، تهذيب التهذيب 298/16 .
4- تهذيب التهذيب 16 / 295.
5- تهذيب التهذيب 167/7 - 168 ، وأنظر:الكامل في الضعفاء120/6.

الخبيث من الطيب وقد عرفت في آخر الكلام على مطاعن معاوية أن الصحابة عيّروا ابن العاص بأمه لشهرتها بالفاحشة ((1)) ، وهو دليل على أن نشرها لا يكون قبيحاً مطلقاً.

وأمّا دعوى عدم الاعتماد على نقل صاحب «المثالب» فغير صحيحة بالنسبة إلى ما ينقله علماؤهم في مثالب أوليائهم ، إذ يبعد جداً أن يكذبوا أو ينقلوا كذباً فيما يتعلق بهم .

وأما قوله : «وكلامنا في الدلائل العقلية والشرعية»، فصحيح ، وهذا منها ، فإنّه إذا ثبت أنّ ابن الزنا لا يَنْجُبُ ، ولا يدخل الجنّة ، ولاخير فيه ، فقد ثبت أنّ أكابر أوليائهم كذلك ، فلا يستحقون الخلافة والتعظيم ، وأن يجعلوا في عرض إمام المتقين ، ونفس النبي الأمين صلّى الله عليهما وعلى الهما الطاهرين .

وأما قوله :«وشهد لهم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بالجنة» ، فممنوع.

والحديث الذي رواه الترمذي في تبشير العشرة بالجنّة ،موضوع ، كما مرّ تحقيقه في الآية الثانية والثلاثين من الآيات التي استدل بها المصنف رحمه الله على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام.((2)).

وقد أخرجه الترمذي من طرق تشتمل على حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، وعبد الرحمن بن حميد، وتنتهي إلى عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد ((3)) ، وكلّهم محلّ التهمة، مضافاً إلى ضعف كثير من رجال الأسانيد .

ص: 390


1- راجع الصفحة 91 من هذا الجزء.
2- راجع الجزء الثاني ص 144 من كتابنا . منه قدس سرة.وأنظر : ج 140/5 من هذا الكتاب
3- سنن الترمذي 605/5 و 606 ح3747وح3748.

وكيف يكون طلحة من أهل الجنّة وقد روى مسلم ((1)) : أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم قال : من خرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية ((2)).

ونحو هذا مستفيض في أخبارهم ، حتى رواه مسلم والبخاري من عدة طرق ((3)) .

بل روى مسلم : أن ابن عمر جاء إلى ابن مطيع حينما كان من يزيد في أمر الحرّة ماكان ، فقال :سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم يقول : من خلع يداً طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة ،مات ميتة جاهلية ((4)).

ورواه أحمد في مسنده من عدة طرق ((5)) .

فإذا كان هذا عندهم حال من خلع طاعة الرجس المارد يزيد صاحب الحرة ، وهادم الكعبة ، وقاتل سيد شباب أهل الجنة ، وهاتك حرمة رسول الله ، فكيف بمن خلع طاعة إمام المتقين الذي أوجب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أمته التمسك به وجعله عديل القرآن ، وقال : «حربه حربي»حتى قتل بسبب خلع طاعته آلاف مؤلّفة من المسلمين - ثمّ قتل - أعني طلحة - وهو باق على عناده ؟ !

ودعوى الاجتهاد لا نعرف وجهها ولا سيما مع عدم وجه للاجتهاد عند ابن عمر في خلع يزيد المعلن بالفسق والفجور.

ص: 391


1- في باب الأمر بلزوم الجماع من كتاب الامارة . منه قدس سرة.
2- صحيح مسلم 21/6 .
3- صحيح مسلم 21/6 - 22 ، صحيح البخاري 84/9 5 و 6 و ص 113 ح 7.
4- صحيح مسلم 22/6
5- كما في ص و 83 و 97 ج 2.

وأما ما ذكره في أنكحة الجاهلية ، فقد عرفت ما فيه ، على أنه لا شيء في بيان الزنا أظهر من أن يقال: إنّها من البغايا وذوات الرايات ، واستصفت بأبي سفيان فوقع عليها.

ص: 392

قال المصنّف - أعز الله شأنه -((1)):

وروى البلاذري قال : لما قتل الحسين كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد ابن معاوية :

أمّا بعد فقد عظمت الرزيّة، وجلّت المصيبة ، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين

فكتب إليه يزيد :

أمّا بعدُ ... يا أحمق ! فإنّا جئنا إلى بيوت مجدّدة، وفرش ممهدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكن الحقِّ لنا فعن حقنا قاتلنا ، وإن كان الحق لغيرنا ، فأبوك أوّل من سنّ هذا ، واستأثر بالحق على أهله ((2)).

ص: 393


1- نهج الحق : 356 .
2- الطرائف : 247 نقلاً عن البلاذري .

وقال الفضل ((1)) :

تعصب هذا الرجل بلغ حداً استدلّ بكلام يزيد حين اعترض عليه في قتل الحسين ، واسترضى كلامه واستطابه ؛ لأنّه تكلّم بما يوافق مذهبه ، ولو أنه شتم أبا بكر وعمر ، لكان ابن المطهر يُحِلّ عليه دم الحسين ، وأي دليل في كلام ذلك المنحوس ، المنكوس ، المردود ؟ !

وكان في هذا المقام ينبغي أن يثني على ابن عمر، حيث شافه ذا سلطان ظالم بكلمة الحق .

ص: 394


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 674(حجري ) .

وأقول :

لا شك أنّه لو استولى أمير المؤمنين علیه السلام على خلافة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بعده وحل في منصبه، لما وليها بعده إلا الحسنان ، وما حلم بها يزيد وأبوه ، ولا مرّت على وهمهما وأشباههما ، ولكن لما دفع الشيخان أمير المؤمنين علیه السلام عن مقامه ، وصغرا عظيم شأنه وشؤون أهل بيته ، سهل الأمر على معاوية وأمثاله ، ولا سيما بعدما مكناه في البلاد وأوطاه رقاب العباد ، فنال بهما معاوية ما نال ، ثمّ صيّر الأمر بعده إلى ابنه ، فجاء إلى فرش ممهدة، ووسائد منضّدة ، من أبيه ، وممن أسس له.

وهذا أمر ضروري وجداني يدركه كل عاقل ، ولا يحتاج إثباته إلى قول يزيد وغيره، وإن كان قوله مؤيداً للمطلوب، فالحسين علیه السلام لم يقتل إلا بأسياف الأولين ، ولذا قال القاضي ابن قريعة ((1))من أبيات له :

لولا حدود صوارم *** أمضى مضاربها الخليفة

لنشرت من أسرار آل *** محمّد جملاً ظريفة

وأريتكم أن الحسين *** أُصيب في يوم السقيفة ((2))

ص: 395


1- ابن قريعة : هو القاضي أبو بكر ، محمد بن عبد الرحمن البغدادي الظريف ، قاضي السندية وغيرها من اعمال بغداد كان مزاحاً خفيف الروح ، اديباً قاضياً ، سريع البديهية بالجواب ، ولد عام 302 ه- وتوفي سنة 367 ه-.آنظر: تاریخ بغداد 317/2 رقم 806 ، وفيات الأعيان 382/4 ،المنتظم 414/8 ، سير أعلام النبلاء 326/16 رقم 234 ، العبر في خبر من غير 127/2 ،شذرات الذهب 60/3 ، اعلام الزركلي 190/6.
2- ذكر هذه الأبيات الأريلي في كشف الغمة 505/1.

بل إنّما بنيت جميع دول الضلال على ذلك الأساس ، ولذا ترى العباسيين - وهم من أبعد الناس عن الدين - مجتهدين بتعظيم الثلاثة وإثبات أحقيتهم ، إذ لا تتم دعوى استحقاقهم للخلافة إلا بذلك ، وبمعاداة من أمرت الأمة بموالاتهم والتمسك بهم.

فقد ظهر بما بينا أن يزيد قد شتم أبا بكر وعمر بأعظم شتم ، فلا محلّ لقول الخصم : ولو أنّه شتم أبا بكر وعمر ... إلى آخره .

وأما دم الحسين صلی الله علیه و اله وسلم، بل قطرة من دماء أقل أنصاره ، فلا يساويه ابن المطهر بقتل جميع أعداء الحسين فضلاً عن شتم بعضهم .

وأما ابن عمر فإنّما ترك المصنف رحمه الله الثناء عليه ؛ لأنّه لم يأت بواجبه ، إذ كان الواجب عليه نصر الحسين علیه السلام، والتمسك به كما أمره الله تعالى ، مع أنّه يحتمل فيه أن كتابه ليس الله ، بل ليرى الناس أنه ممن ينكر المنكر ، ولينال مقاصده من يزيد ، كيف ؟ وابن عمر فرع أبيه ، ورشحة منه في العداوة لآل الرسول صلی الله علیه و اله وسلم، ولذا لم يبايع أمير المؤمنين ، مع علمه بأنه من رسول الله بمنزلة هارون من موسى ، وأنّه مولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، ومدّ يد البيعة إلى أغصان الشجرة الملعونة ، كيزيد ، وأبيه ، وعبد الملك ، والله ولي الحساب وإليه المرجع والمآب .

ص: 396

قال المصنّف - قدس الله روحه - ((1)) :

أخبارهم

وروى الواقدي وغيره من نقلة الأخبار عندهم ، وذكروه في الصحيحة : أن النبي لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهود، فنزل جبرئيل بهذه الآية :«وآت ذا القربى حقه»((2)) .

فقال محمد صلی الله علیه و اله وسلم: ومن ذو القربى ؟ وما حقه ؟

قال : فاطمة تدفع إليها فدكاً والعوالي .

فاستغلتها حتّى توفّي أبوها .

فلمًا بويع أبو بكر منعها، فكلمته في ردّها عليها ، وقالت : إنّها لي، وإن أبي دفعها إلي .

فقال أبو بكر : فلا أمنعك ما دفع إليك أبوك .

فأراد أن يكتب لها كتاباً فاستوقفه عمر بن الخطاب وقال : إنها امرأة فطالبها بالبيّنة على ما ادعت .

فأمرها أبو بكر ، فجاءت بأم أيمن وأسماء بنت عميس مع علي علیه السلام فشهدوا بذلك ، فكتب لها أبو بكر .

فبلغ ذلك عمر فأخذ الصحيفة فمحاها ، فحلفت أن لا تكلّمهما ، وماتت ساخطة عليهما .

وجمع المأمون ألف نفس من الفقهاء وتناظروا ، وأدّى بحثهم إلى ردّ

ص: 397


1- نهج الحق : 357.
2- سورة الإسراء 17: 26.

فدك إلى العلويين من ولدها، فردّها عليهم(1).

وذكر أبو هلال العسكري في كتاب«أخبار الأوائل»: أن أوّل من ردّ فدك على أولاد فاطمة عمر بن عبد العزيز .

وكان معاوية أقطعها لمروان بن الحكم، وعمر بن عثمان ، ويزيد ابنه أثلاثاً .

ثمّ غصبت ، فردّها عليهم السفّاح .

ثمّ غصبت ، فردّها عليهم المهدي .

ثمّ غصبت ، فردها عليهم المأمون .

ثمّ قال - أعني أبا هلال - ثمّ غصبت ، فردّها عليهم الواثق.

ثمّ غصبت ، فردّها عليهم المعتضد.

ثمّ غصبت ، فردّها عليهم المعتضد.

ثمّ غصبت ، فردّها عليهم الراضي(2).

أن أبا بكر أعطى جابر بن عبد الله عطية ادعاها على رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم من غير بيّنة ، وحضر جابر بن عبد الله وذكر أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم وعده أن يحثو له ثلاث حثيات من مال البحرين ، فأعطاه ذلك ولم يطالبه ببينة ، مع أنّ العدة لا يجب الوفاء بها يجب الوفاء بها والهبة للولد مع التصرف توجب التمليك ، فأقل المراتب أنّه يجري فاطمة مجراه .

وقد روى سند الحفاظ ابن مردويه بإسناده إلى أبي سعيد ، قال : لما نزلت :«وات ذا القربى حقه»، دعا رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم فاطمة فأعطاها

ص: 398


1- انظر : الطرائف : 248 نقلاً عن الواقدي وغيره .
2- الأوائل : 176 .

فدك ((1)).

وقد روى صدر الأئمة أخطب خوارزم موفق بن أحمد المالكي ، قال : ومما سمعت في المفاريدبإسنادي عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله : يا علي ! إنّ الله زوجك فاطمة وجعل صداقها الأرض، فمن مشى عليها مبغضاً لها مشى حراماً ((2)).

ص: 399


1- الدر المنثور 273/5 ، وأنظر أيضاً : مسند أبي يعلى 334/2ح 1075وص 534 ح 409 ،شواهد التنزيل 338/1 - 341 ح 467 - 473 ، شرح نهج البلاغة268/16وص275،مجمع الزوائد 49/7 ، جامع الأحاديث - للسيوطي -17 / 226 ح 9829 ، ينابيع المودة 359/1 ح 18 و 19.
2- المناقب : 328 ح 345 ، وانظر أيضاً وبسند آخر : فرائد السمطين 94/1 - 95ذيل ح 64 ، احقاق الحق 368/10 نقلاً عن كتاب (مودة القربى) للهمداني

وقال الفضل ((1)) :

قد قدمنا في حقيقة خبر فدك ما هو الصحيح ((2)) ، وأن أبا بكر عمل فيها ما عمل رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وكان رسول الله يطعم أهله منها ، ثمّ ينفق ما يفضل في السلاح والكراع .

فاستنّ أبو بكر سنة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في فدك ، ثمّ عمر عمل بفدك ما عمل به أبو بكر ، إلا أنّه ردّ سهم رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم من بني النضير إلى العباس وعلي، واختصما فيه، كما ذكرنا من صحيح البخاري ((3)).

مانعاً ولو كان عمر من إعطاء فدك لفاطمة ، كيف لم يردّ عليّ علیه السلام الصدقات بالمدينة في زمان خلافته ؟!

وأما دعوى فاطمة فلم يصح في الصحاح ، ويذكرونها نقلة الأخبار أرباب التواريخ، ومجرّد نقلهم لا يصير سبباً للقدح في الخلفاء ، وإن صح فقد ذكرنا وجهه.

ص: 400


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 676(حجري ) .
2- راجع 68/7 وما بعدها من هذا الكتاب
3- راجع69/7من هذا الكتاب

وأقول :

سبق هناك ما يطفي الغليل ويشفي العليل ((1)) ، ثمّ إنّه قد يظهر ممّا ذكره المصنف رحمه الله هنا أن فدك من قرى خيبر ، وأن النبي صلی الله علیه و اله وسلم اصطفاها .

وقد أوضحنا هناك أنّها من غيرها وأنها لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بلا حاجة إلى الاصطفاء، لأنّها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، فلا بد من حمل الكلام هنا على المسامحة .

ص: 401


1- راجع 74/7 وما بعدها من هذا الكتاب

قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :

قال محمود الخوارزمي في «الفائق» : قد ثبت أن فاطمة صادقة ، وأنّها من أهل الجنّة ، فكيف يجوز الشك في دعواها فدك والعوالي؟

وكيف يقال : إنّها أرادت ظلم جميع الخلق وأصرت على ذلك إلى الوفاة ؟

فأجاب : بأن كون فاطمة صادقة في دعواها ، وأنها من أهل الجنة لايوجب العمل بما تدعيه إلا ببينة.

قال : وأصحابنا يقولون : لا يكون حالها أعلى من حال نبيهم محمد صلی الله علیه و اله وسلم، ولو ادعى محمد صلی الله علیه و اله وسلم مالاً على ذمّي ، وحكم حاكماً ، ما كان للحاكم أن يحكم له إلا بالبينة ، وإن كان نبياً ومن أهل الجنة ((2)) .

وهذا من أغرب الأشياء ، بل إنّه ليس بمستبعد عندهم ، حيث جوّزوا الكذب على نبيهم ، نعوذ بالله من هذه الأقوال .

ص: 402


1- نهج الحق : 358 .
2- ذكره الزمخشري في كتاب الفائق في الأصول كما في الطرائف : 256.

وقال الفضل ((1)) :

قد تقرّر في الشرع أن الحاكم لا بد له من مستند في حكمه ، وذلك المستند للحكم ؛ إما البيئة العادلة ؛ أو اليمين ؛ أو علم الحاكم .

ثمّ إنّ الحاكم ليس له أن يحكم بغير المستند ، وكل هذه الأمور تقرّر في الشرع ، ولا خلاف في هذا .

فالحاكم في حكمه مشروط عليه وجود المستند ، والحكم مشروط به ، فإذا فقد الشرط فقد المشروط ، لا أنّ الحاكم إذا تيقن صدق المدعي فله الحكم .

ألا ترى أنّ في الحدود لا يجوز للحاكم أن يعمل بعلمه ؟! فإذا رأى الحاكم أن فلاناً زنى ، وهو شاهد فعل الزنا بشرائطه المعتبرة في الشهادة على الزنى ، فلا يجوز له الحكم ، مع وجود العلم اليقيني بالزنى ، فالعلم اليقيني بصدق الحكم إذا فقد ، فقد مستند الحكم ، فلا يوجب الحكم بل لا يجوز .

والشيعة إن وافقوا في هذا ، فليس لهم الاعتراض على أبي بكر في عدم حكمه لفاطمة وطلبه البيّنة منها، وإن خالفوا في هذا الحكم ، فالبحث بينهم وبين أهل السنة في ذلك الأصل الذي يتفرّع عليه هذا الحكم .

ص: 403


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 677 ( حجري ) .

وأقول :

لا يصح الحصر في هذه الأمور الثلاثة ، بل هناك أمر آخر وهو الشاهد مع يمين المدعي ، كما سبق دليله في أمر فدك ((1)).

فحينئذ لو سلّم أن سيدة النساء هي المدعية المكلّفة في الإثبات وأنّها لا بيّنة لها ، فلا يصح لأبي بكر أن يحكم عليها بعد شهادة أمير المؤمنين علیه السلام لها من دون أن تنكل عن اليمين.

ولو فرض أنه لا يرى الحكم بالشاهد واليمين ، فليس لأبي بكر أن يتولّى على فدك بدون أن يحلف هو ؛ لأنه الخصم ، أو أظهر الخصماء ، كما سبق توضيحه .

ثمّ إن قوله : « أو علم الحاكم إن أراد به اطلاعه ، فلا بد من زيادة قسم آخر ، وهو علم الحاكم بصدق المدعي ، ومطابقة دعواه للواقع من غير جهة الاطلاع ، كما تشهد له قصة شهادة خزيمة للنبي صلی الله علیه و اله وسلم، فإنّها تدل على جواز الشهادة للنبي صلی الله علیه و اله وسلم للعلم بصدقه ، وهو يستدعي جواز الحكم له بالأولوية ، بل بمقتضى عدم إجراء النبي صلی الله علیه و اله وسلم في هذه القصة أحكام التداعي على نفسه ، مع مداعاة خصمه له ، يُعلم مضي قوله ووجوب الحكم له بلا بيّنة، وبذلك يعلم ما في قول الخوارزمي : ولو ادعى محمد على ذمي ... إلى آخره .

كما أنه بمقتضى صحة شهادة خزيمة ينبغي لأبي بكر والمسلمين أن

ص: 404


1- راجع 98/7 و 103 من هذا الكتاب

يشهدوا للزهراء ، لا أن يحكم عليها ، فإنّ النبي صلی الله علیه و اله وسلم قد شرع الشهادة لمن يفيد قوله العلم بمقتضى عدم انكاره على خزيمة وإنعامه عليه ، بجعل شهادته بشهادة رجلين .

وإن أراد بعلم الحاكم : الأعم من الإطلاع ، فلا شك ، أنّ قول الزهراء يفيد العلم اليقيني ؛ لشهادة الله تعالى لها بالطهارة ، ولا سيما بضميمة شهادة أمير المؤمنين علیه السلام لها ، المطهر مثلها عن الرجس تطهيرا ، فلا بد لأبي بكر من الحكم الفاطمة علیها السلام.

ولو سلّم أن ليس له الحكم لها ، فلا ريب أن له إعطاءها ما تدعيه بلا حكم ، كما أعطى جابر وأبا بشر المازني ما ادعياه من عدة النبي صلی الله علیه و اله وسلم بلا بينة ، وكما أعطى معاذ بن جبل ما أعطاه من مال اليمن الكثير بلا حجّة ، بل لمجرد دعواه أن النبي صلی الله علیه و اله وسلم أرسله ليجبره ، وكما أعطى أبا سفيان الصدقات التي لا تحل له بلا سبق دعوى منه ، كما مرّ في الكلام على فدك . أليس من المروة، وشرع الإحسان، وصلة سيد الرسل، أن يصلوا بضعته بمال أبيها ؟!

أليس من الهدى والإيمان أن يؤدوا أجر الرسالة بمودتها ولا يلجئوها إلى الخروج إلى تلك المحافل الحاشدة حتى عادت منهم راغمة واجدة !!! وأما استشهاد الفضل لمطلوبه بعدم عمل الحاكم بعلمه واطلاعه في الحدود ، فليس في محله ؛ لأن الحدود من حقوق الله تعالى ، وقد بناها بفضله على التسامح ، لا سيما الزنى، الذي اعتبر فيه أربعة شهود ، ولو لا المسامحة في الحدود لكان النقض بها وارداً على الفضل أيضاً ؛ لأنه جعل - أولاً - علم الحاكم وإطلاعه أحد الأمور التي يستند إليها الحاكم في حكمه ،والحال : إن ذلك غير كافي في الحدود ، كما ذكره .

ص: 405

وأما قوله :«فالعلم اليقيني إذا فقد فقد مستند الحكم، فلا يوجب الحكم» .

ففيه إنّه خارج عن المقام، لفرض إفادة قول سيّدة النساء العلم ، كما هو مفروض كلام الخوارزمي .

ص: 406

قال المصنّف - أعلى الله مقامه - ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن بني صهيب - مولى بني جذعان - ادعوا بيتين وحجرة ، أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أعطى ذلك صهيباً .

فقال مروان : من يشهد لكم على ذلك ؟

قالوا : ابن عمر يشهد

فقضى لهم مروان بشهادته ((2)) .

وفي صحيح البخاري : أن فاطمة علیها السلام أرسلت إلى أبي بكر وسألته ميراثها من رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر : إن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال :« لا نورث ، ماتركناه صدقة»وإنّما يأكل آل محمد صلی الله علیه و اله وسلم من هذا المال ، وإنّي - والله - لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليه ، وأبى أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً .

فوجدت ((3)) فاطمة على أبي بكر فهجرته ، فلم تتكلّم عه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ،

ص: 407


1- نهج الحق : 359.
2- الجمع بين الصحيحين 2/ 290 ح 1478 ، وأنظر :صحيح البخاري 326/3 ح56.
3- الوجد : الغضب ، أنظر : الصحاح 547/2 مادة« وجد »، لسان العرب 219/15مادة«وجد».

ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلّى عليها عليّ ((1)).

وذكره - أيضاً - في مواضع أخر بعينه ((2)) .

ص: 408


1- صحيح البخاري 288/5ح256.
2- انظر صحيح البخاري 177/4 ح 2 وج 5/ 91 ح 207 وج 266/8 ح 3 وفيه :«إن فاطمة والعباس...»الحديث .

وقال الفضل :

ما ذكره من حكم مروان لبني صهيب بشهادة عبدالله بن عمر وحده ،فربّما يكون خطأ من مروان ، أو رأى بني صهيب أهلاً للمصالح فأعطاهم من مالها، وليس في فعل مروان ،دليل، فإنّه غير كثيراً من سنن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم في أعماله وأحكامه .

وأما حديث البخاري ، فهو صحيح ، وهو يدلّ على أن فاطمة طلبت فدك على وجه الميراث ، وهذا يخالف روايته أنّها سألتها على وجه النحلة والهبة ، وبطل ما يذكر من دعوى فاطمة هبتها ؛ لأن الحديث الصحيح دل على أنّها سألتها ميراثاً حيث قال : أرسلت إلى أبي بكر وسألت ميراثها من

رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ولا يعارض هذا الخبر الصحيح أخبار المؤرّخين .

وأما ما ذكر من موجدة فاطمة على أبي بكر، فقد ذكرنا وجهه ، فنرجو من الله إذا قدمت على رسول الله استرضاها رسول الله لأبي بكر ،وأخبرها أن أبا بكر عمل بالسنة .

ص: 409

وأقول :

ليس المقصود هو الاستدلال بفعل مروان فقط ، بل في إقرار ابن عمر وغيره له على فعله .

وأما قوله : ( أو رأى بني صهيب أهلاً للمصالح ... إلى أخره» .

فهو خلاف ما صرّح به الحديث، من أنه قضى لهم بشهادته .

وليت شعري ، إذا صح هذا وجهاً فلِمَ لم يعمل به أبو بكر ؟ فهل كان لا يرى بضعة الرسول أهلاً للمصالح ؟

ثمّ إنّه إذا عرف الفضل أن مروان غيّر كثيراً من سنن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فما بالهم زعموا عدالته ، وأخذوا عنه في صحاحهم ، وانتمنوه على دينهم ؟ !

وهذا الحديث قد رواه البخاري في آخر كتاب الهبة ((1)).

وأمّا طلب الزهراء علیها السلام للميراث ، فلا أعرف وجه إبطاله لدعوى النحلة إذا صدرا متعاقبين ، كما هو الوارد .

وما أشار إليه من توجيه غضبها علیها السلام، قد مر ما فيه ، وسيأتي منه ما ينافيه .

وأما ما ترجاه ، فإن كان من رجاء مالا يقع ؛ كقوله تعالى :«ربّ ارجعوني لعلّى أعمل صالحا»((2))فله وجه.

وهذا الحديث الثاني قد رواه البخاري في غزوة خيبر من كتاب

ص: 410


1- صحيح البخاري 326/3 - 56.
2- سورة المؤمنون 23 : 99 - 100.

المغازي((1)) ، ومسلم في باب قول النبي :«لا نورث ما تركناه صدقة» من كتاب الجهاد ((2))، ورواه البخاري أيضاً مصرحاً بلفظ الغضب في باب فرض الخمس من كتاب الجهاد ((3)).

ص: 411


1- صحيح البخاري 288/5ح256.
2- صحیح مسلم 153/5 - 154.
3- صحيح البخاري 177/4 - 178ح 2 .

قال المصنّف - رفع الله درجته - ((1)) :

وهذا الحديث قد اشتمل على أشياء رديّة ، منها :

مخالفة النبي صلی الله علیه و اله وسلم أمر الله تعالى في قوله :«وأنذر عشيرتك الاقربین»(2).

فكيف لم ينذر فاطمة وعلياً والعبّاس والحسن والحسين هذا الحكم ، ولا سمعه واحد من بني هاشم، ولا من أزواجه ، ولا أحد من خلق الله ؟ !

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم ، وهما يطلبان إرثه من فدك ، وسهمه من خيبر(3).

وفيه : أن أزواج النبي صلی الله علیه و اله وسلم حين توفي رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن ((4)).

ص: 412


1- نهج الحق : 360.
2- الشعراء 26 : 214.
3- الجمع بين الصحيحين 86/1 ح 6 ، وأنطر : صحيح البخاري 266/8 ح 3،صحیح مسلم155/5.
4- الجمع بين الصحيحين 3 / 75 ح 3186 ، وأنظر : صحيح البخاري 268/8 ح 7 ،صحیح مسلم 153/5 .

وقال الفضل ((1)) :

أعجب العجائب هذا الكلام، وهذا الاستدلال ، فإن الإنذار هو أصول الشرائع ، فلو لم يبلغ رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم كل فرع من فروع الشريعة إلى كلّ واحد من الأمة لزم عدم الإنذار .

وهذا من غرائب الكلام، وكأنّ هذا الرجل رجل نزل من شاهق جبل لا يعرف الحر من البرد ، وهو جديد العهد بالإسلام ، أو أخذه تعصب حتى أورده المورد الوبى .

أيحكم أن جميع الأحكام يجب أن أن يرويه عن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم جميع الأنام ، وإلا لم يحصل الإنذار ؟

أم يزعم أن جميع أحكام الشرع من جزئيات الفروع يجب أن يكون معلوماً لجميع الصحابة ؟ !

أم يزعم أن أبا بكر ليس من أهل الرواية ، حتى يلقمه العلماء الحجر ويقتلوه بالخشب والمدر ؟

وكل هذه أُمور باطلة ، فإنّ الحديث رواه أبو بكر فإنّه سمع من رسول الله ، فروى وتقرّر الحكم وعمل به، ثم بعده عمل الناس به.

ص: 413


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 680(حجري ) .

وأقول :

يقال : أنذره بالأمر ؛ أي أعلمه، وحذره ، كما في القاموس وغيره ((1)) ، فلا يختص الإنذار بتبليغ أصول الشرائع، بل يعمّ الإعلام بوجوب الصلاة - مثلاً - والتحذير من العقاب بتركها ، قال تعالى :«فلولا نفر من كلّ فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»((2)).

ثم لا ريب بأنه كما يطلب من الأنبياء الإنذار بالأصول ، يطلب منهم الإنذار بالفروع ؛ لإنّهم بعثوابالأمرين ، ولا بد من إنذار كل فرد من الأمة بما يبتلى به من الفروع، وإلا لزم الإخلال بالإرشاد .

وحينئذ فيكون تخصيص الأقربين بقوله تعالى :«وأنذر عشيرتك الأقربين»((3)) ؛ لأنّهم في أوّل الأمر أولى من ينبغي أن يسمع منه ، أو لمزيد العناية بهم، أو لغيرهما من المصالح .

فعلى ذلك لا يمكن أن يخفي النبي صلی الله علیه و اله وسلم عن أهل بيته حكم ميراثهم ، وهو محل ابتلائهم بالخصوص .

فإن قلت : رُبِّ حكم يكون محلّ الابتلاء به هو الإمام والحكام ؛ كأحكام القضاء والحدود، فلا يجب على النبي صلی الله علیه و اله وسلم أن يعلم بها غير خليفته ومن ينصبه للقضاء، ومنها حكم ميراث النبي صلی الله علیه و اله وسلم، ولذا أعلم به

ص: 414


1- القاموس المحيط 2/ 145 مادة «النذر » ، لسان العرب 14/ 100 .
2- سورة التوبة 9 : 122.
3- سورة الشعراء 26: 214 .

أبا بكر وترك أهله .

قلت : لا يمكن أن يكون حكم ميراثهم خارجاً عن محلّ ابتلائهم ،وهو ظاهر ، ولا داخلاً في محل ابتلاء أبي بكر بما هو حاكم ،لأنه خصم ولا يجوز أن يكون الخصم هو الحكم، إذ لو جعلت حكومة مخاصمة

الحاكم إليه لضاعت الحقوق التي عليه - ولو في بعض المقامات - إلا أن يكون معصوماً .

فإن قلت : لا شك أنه لا يتوقف مُضي قول أبي بكر على لحاظ كونه حاكماً ، بل يكفي في قبول قوله كونه راوياً حين الابتلاء بالحكم ، إذ لا يلزم بيان الحكم فعلاً لمن يبتلى به في المستقبل، وإنما يلزم بيانه له في وقته ولو بواسطة من يعتمد عليه ، كأبي بكر في المقام ، فلا نحتاج إلى إثبات مضي حكمه بما هو حاكم .

قلت : لا يصلح جعل رواية الخصم محلّ الاعتماد حال الخصومة ضرورة الاتهام له ولو من خصمه ، ولذا اتهمت سيدة النساء أبا بكر في روايته ، بل قطعت بافترائه ، وقالت له ، لقد جئت شيئاً فَرِيّا((1)).

فكيف يمكن أن يجعله النبي صلی الله علیه و اله وسلم واسطة في التبليغ ؟ !

فحينئذ يكون ترك النبي صلی الله علیه و اله وسلم لإعلامها وإعلام باب مدينة علمه من أعظم الإخلال بالإنذار ، ومن أكبر الفساد ، والنبي صلی الله علیه و اله وسلم يجل عنهما ، وبما ذكرنا يعلم ما في كلام الفضل من الخلل والجهل .

ص: 415


1- فرى فلان كذباً فرياً وافتراه : أي أختلق .انظر : الصحاح 2454/6 ، لسان العرب 256/10 مادة( فرا)

قال المصنّف - أعلى الله درجاته - ((1)) :

ومنها نسبة هؤلاء إلى الجهل وقلة المعرفة بالأحكام مع ملازمتهم الرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ونزول الوحي في مساكنهم ، وهم يعلمون سره وجهره . وقد روى الحافظ ابن مردويه بإسناده إلى عائشة ، وذكرت كلام فاطمة عليها السلام لأبي بكر ، وقالت في آخره:«وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون ؟ إني لا أرث أبى ...

يا ابن أبي قحافة ! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟لقد جئت شيئاً فريا، فدونكها مرحولة مخطومة ، تلقاك يوم حشرك ونشرك ، فنعم الحكم الله ، والغريم محمد ، والموعد القيامة ، وعند

الساعة يخسر المبطلون»((2)).

ص: 416


1- نهج الحق : 360 .
2- الطرائف : 263 - 265 نقلاً عن ابن مردويه في المناقب، وراجع 85/7 من هذا الكتاب .

وقال الفضل ((1)) :

لا يلزم من عدم علم طائفة بحكم من أحكام الدين جهلهم وقلة معرفتهم ، فإن أكثر الأحكام مما تقرر بعد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، مع أن أبا بكر لما روى الحديث سأل تصديقه من الصحابة فصدقوه ، وربّما لم يسمعوا تلك الطائفة هذا الحديث ، أيدعي أن كل الفروع والأحاديث والأحاديث سمعه . سمعه خواص رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم؟!

والإجماع أنّ أبا بكر كان من أكثر الناس ملازمة ومصاحبة لرسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، ولا يمكن أن يدعى فيه بأنه سمع من رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم كل الأحكام ، بل كثير من الأحكام كان يسأل عن غيره .

وأما ما ذكر من حديث ابن مردويه من كلام فاطمة ، فلم يصح في الصحاح .

ص: 417


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 681 ( حجري ) .

وأقول :

قد تجاهل في مراد المصنف رحمه الله ، فإن مراده إثبات علم أهل البيت بحکم ميراثهم ، بدليل أن عدم علمهم به يستلزم جهلهم وقلة معرفتهم - حاشاهم - ؛ ؛ لأنّ من يجهل مثل هذا الحكم المختص به مع ملازمته ليله ونهاره ، واتخاذه داره داره ، ونزول الوحي في مسكنه ،للنبيّ صلی الله علیه و اله وسلم كان أولى أن يجهل غيره .

وليس مراد المصنف رحمه الله إثبات علم أهل البيت بكل فرع ، وإن كان الحقِّ أنّهم يعلمون بجميع ما أنزل الله تعالى على نبيه .

وأما ما زعمه من أنّ أبا بكر سأل تصديقه من الصحابة فصدقوه، فكذب ظاهر، إذ لم أجد له اثراً في رواية أصلاً .

نعم ، ورد عندهم أن عمر سأل جماعة من الصحابة عندما تنازع عنده علي والعباس فصدقوه .

وقد أوضحنا لك كذبه عند الكلام على فدك في مآخذ أبي بكر ((1)).

وأما ملازمة أبي بكر للنبي صلی الله علیه و اله وسلم فغير بعيدة ، ولكن كم من سامع لا يستمع ،و مبصر لایتبصر، لقلّة استعداده ، أو عدم اهتمامه بالعلوم الشرعية ، ولذا لم يوجد له عندهم من الروايات إلا النادر ، مع اهتمامهم بشأنه وابتلائه بالمسلمين عامة أكثر من عامين .

وأما ما رواه ابن مردويه فلا تتوقف صحته على وجوده في

ص: 418


1- راجع 97/7 وما بعدها من هذا الكتاب

صحاحهم ، فكم أهملت صحاحهم صحيحاً عندهم ، حتى استدرك الحاكم وغيره على الصحيحين أحاديث لا تحصى، وليس ما جمعه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل صحاحهم بأولى بالصحة مما جمعه ابن مردويه .

كيف ؟ وقد عرفت في طي الكتاب ما في صحاحهم من المنكرات والمكفرات ، وعرفت في المقدّمة ما في أسانيدهم أسانيدهم من رجال الكذب والفسق .

وكيف يرجى من مثل البخاري ومسلم في شدّة تعصبهم وميلهم مع ملوك وقتهم عن مذهب أهل البيت أن يرووا قول الزهراء لأبي بكر : لقد جئت شيئاً فريا ؟ !

على أنّهم يخشون أن تُرمى صحاحهم بالسقم ، ويخافون على أنفسهم القتل ، كما داسوا في خصيي النسائي حتى قتلوه لما قال : لا أعرف لمعاوية فضيلة ، إلّا لا أشبع الله بطنه ((1)).

ص: 419


1- راجع 21/1 من هذا الكتاب

قال المصنّف - رفع الله منزلته - ((1)) :

ومنها : إنّه يلزم عدم شفقة النبيّ صلی الله علیه و اله وسلم على أهله وأقاربه وخواصه ،فلا يعلمهم أنّهم لا يستحقون ميراثه ، ويعرف أبا بكر وحده ، حتى يطلبوا ما لا يستحقون ، ويظلموا حقوق جميع المسلمين، مع أنّه عظيم الشفقة على الأباعد ؛ حتى قال الله تعالى في حقه :«فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا»((2))،«ولا تذهب نفسك عليهم حسرات»((3)).

ص: 420


1- نهج الحق : 361.
2- سورة الكهف 18 : 6.
3- سورة فاطر 35 :8.

وقال الفضل ((1)) :

أحكام الشرع يعلم من كتاب الله وسنّة نبيه ، وإجماع المسلمين والقياس الجليّ ، فهذه الأصول الأربعة تعطي الأحكام، والسنّة تعلم من روايات الصحابة ، ولا كلّ الصحابة يروون جميع الأحكام ، بل كلّ طائفة الأحكام رواها بعض الأصحاب .

والشفقة والرحمة تقتضي تمهيد أحكام الشرع، كما مهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لأمته ، ولا فرق في الشفقة بتبليغ الأحكام بالنسبة إلى رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم بين القريب والبعيد، فلا يلزم من عدم ذكر حكم من الأحكام لأقاربه عدم شفقته عليهم ، سيما ما يتعلّق بحال بعد موته ، لأنه ذكر للخليفة بعده ، وهو كان يعلم أنّ الخليفة سيبلغه ، فما ترك شيئاً من الشفقة والرحمة .

ص: 421


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 682 ( حجري ) .

وأقول :

لا ريب أن وظيفة النبي صلی الله علیه و اله وسلم بيان الأحكام، وأن شفقته ثابتة على جميع الأنام ، ولا سيما آله الكرام ، وذلك الحديث الذي اختص بعلمه أبو بكر مناف لشفقة النبي صلی الله علیه و اله وسلم على أهل بيته ، إذ بين عمومات أحكام المواريث، وأخفى عنهم الحكم المخصص لها المختص بهم، ففتح لهم باب الظلم على جميع المسلمين ، وألجأ بضعته سيدة النساء إلى المشاجرة فيما لا تستحقه بمحافل البعداء .

ومجرد علمه بتبليغ خليفته لهم - لو فرض صحة ذلك التبليغ - لا ينفع بعد علمه بتكذيبهم له، حتى ماتت بضعته غضبى عليه .

بل يلزم منه - أيضاً - عدم شفقته على خليفته ، وعلى جميع آخر الأبد ، لأنّه أدّى إلى إهانة خليفته باتّهام خواصه وتكذيبهم له ، وأدّى إلى الخلاف والفتنة بين إلى يوم الدين ، فبين ناصر لأبي بكر مبرّر

لفعله، وبين ناصر لها مكذب لقوله ، وناسب له إلى ظلم مَنْ أمر الله بمودتهم ، وأوصى النبي صلی الله علیه و اله وسلم بحفظهم ، وكل هذا ناشيءٌ من النبي صلی الله علیه و اله وسلم - وحاشاه - لو كان تاركاً لبيان حكم أهله لأهله.

فهل أعظم من هذا طعن على سيّد الأنبياء وصفوة الله من أهل الأرض والسماء ؟

ص: 422

قال المصنّف - أجزل الله ثوابه - ((1)) :

ومنها : إن أبا بكر حلف أن لا يغير ما كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : كان أبو بكر يقسم خمس النبي صلی الله علیه و اله وسلم، غير غير أنّه لم يكن يعطي قرابة رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم كما كان رسول الله يعطيهم((2)).

وهذا تغيير ، مع أنّه حلف أن لا يغيّر .

فلم لا غير مع فاطمة علیها السلام ويقضي فيها بعض حقوق نبينا صلی الله علیه و اله وسلم؟

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين ، قال : كتب عبد الله بن عباس إلى نجدة بن عامر الحروري في جواب كتابه ، وكتب : تسألني عن الخمس لمن هو ؟ وإنّا نقول : هو لنا ، وأبى علينا قومك ذلك((3)).

ص: 423


1- نهج الحق : 361.
2- الجمع بين الصحيحين 369/3 - 370 ح 2856 ، وأنظر : سنن أبي داوود 145/3-146ح2978و2979.
3- الجمع بين الصحيحين 2/ 128 ح 1222 ، وأنظر : صحيح مسلم 197/6 ، سنن أبي داود 146/3 ح 2982 ، سنن النسائي 128/7 وص129.

وقال الفضل ((1)) :

لم يثبت في الصحاح أن أبا بكر غيّر الخمس ، بل عمل فيه ما عمل رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، كما رواه البخاري في صحيحه ((2)) ، وإن ذكر في الصحاح أنّه غيّر الخمس فيعارض هذا الحديث ، فلا يعتبر حكمه .

وهذا الحديث الذي حلف فيه أبو بكر أرجح ، وهو مؤكد بالحلف ، وهو من قوله ، وذلك الحديث رووا عنه ، وهذا من أسباب الترجيح ؛ لأنّ الحلف بالفعل إذا كان قائلاً به أرجح من رواية الفعل ، كما ذكر في الترجيح .

ص: 424


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 683(حجري ) .
2- راجع الصفحة 394 من هذا الجزء

وأقول :

أبو داود في صحيحه ((1)) نحو الحديثين من عدة طرق ((2)).

وروى النسائي في صحيحه ((3)) نحو الحديث الثاني من طريقين ((4)) .

أحمد في مسنده ((5)) نحو الحديث الأوّل عن جبير بن مطعم ((6)) ، ونحو الحديث الثاني ((7)) من عدة طرق عن ابن عبّاس ((8)).

وقال في بعضها : هو لنا لقربي رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قسمه رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم لهم ، وقد كان عمر عرض علينا منه شيئاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليه .

ومثله ((9)) رواية أبي داود والنسائي(10).

فثبت برواية صحاحهم المذكورة ومسند أحمد أنّ أبا بكر غيّر الخمس ، وما عمل فيه بعمل رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فكان بيمينه كاذباً حانثاً ،ومخالفاً بعمله حكم الله ورسوله ، كما ذكرناه فيما يتعلق بفدك.

ص: 425


1- في باب بيان مواضع قسمة الخمس وسهم القربى من كتاب الخراج . منه قدس سرة.
2- سنن أبي داود 145/3 - 146 ح 2978 و 2979 و 2982.
3- في كتاب قسم الفيء. منه قدس سرة.
4- سنن النسائي 128/7 و 129.
5- ص : 83 ج 4 . منه قدس سرة.
6- مسند أحمد 83/4 .
7- ص : 248 و 249 و 307 و 320 ج 1 . منه قدس سرة.
8- مسند أحمد 248/1 و 294 و 308 و 320.
9- في بيان أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قسمه لهم . منه قدس سرة.
10- سنن أبي داود 146/3 ح 2982 ، سنن النسائي 128/7

وما زعمه الفضل من المعارضة والترجيح فمن المضاحك ؛ لأنّ أبا بكر زعم أنّه لا يغير ، فقام شاهد عدل على أنه قد غيّر ، ودعوى المدعي لا تعارض شهادة الشاهد عليه ، على أن الترجيح بالحلف وبكونه من قوله سفسطة ظاهرة ، إذ لا دخل لهما في قوّة السند أو ظهور الدلالة في المقام ، كما هو واضح .

ص: 426

قال المصنّف - طاب مرقده - ((1)) :

ومنها إنّ أبا بكر أغضب فاطمة علیها السلام ، وأنها هجرته وصاحبه ستة أشهر حتى ماتت ،وأوصت أن لا يصلّيا عليها .

وقد روى مسلم في صحيحه قال : قال رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم: «إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها »((2)) في موضعين .

وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال : «فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها فقد أغضبني »((3)).

وروى في الجمع بين الصحيحين هذين الحديثين(4).

وروى صاحب الجمع بين الصحاح الستة أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال :

«فاطمة بضعة منّى ، فمن أغضبها فقد أغضبني»((5)).

وأنّه قال : «فاطمة سيّدة نساء العالمين»((6)) .

ص: 427


1- نهج الحق : 361.
2- صحيح مسلم 141/7.
3- صحیح البخاري 92/5 ح 209 وص 105 ح 255.
4- الجمع بن الصحيحين 3/ 372 ح 2858.
5- الطرائف : 262 نقلاً عن الجمع بين الصحاح الستة ، وأنظر : سنن أبي داود233/2ح 2071 ، سنن ابن ماجة 644/1 ح 1998 و 1999 ، سنن النسائي الكبرى97/5ح8370و8371وص147-148ح8518-8522،سنن الترمذي 655/5ح 3867 و ص 656 ح3869.
6- أنظر : صحيح البخاري 91/5 و ص 105 بلفظ : سيدة نساء أهل الجنّة ، صحيح مسلم 143/7 و 144 بلفظ : سيدة نساء المؤمنين ، أو هذه الأمة ، سنن الترمذي658/5ح3873،سنن النسائي الكبرى 5/ 95 - 96 ح 8365- 8368 و ص146-147ح8515-8517،سنن ابن ماجة 1/ 518 ح 1621.

وفيه أنّ رسول الله سأل فاطمة فقال :«ألا ترضين أن تكونى سيّدة نساء المؤمنين ، أو سيّدة نساء هذه الأمة »؟

فقالت : وأين مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ؟ .

فقال :«مريم سيّدة نساء عالمها ، وآسية سيدة نساء عالمها »((1)) .

وفي صحيح البخاري عن عائشة أن محمداً صلی الله علیه و اله وسلم قال : «يا فاطمة !ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، وسيدة نساء هذه الأمة »((2)) ؟

وروى الثعلبي في تفسير:«وإني سميتها مريم»((3)):أن رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم قال : « من آذى فاطمة أو أغضبها ، فقد آذى أباها وأغضبه»((4))

وقد قال الله تعالى :«إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة»((5)) ثم يشهدون ويصححون أن أبا بكر أغضبها وآذاها وهجرته إلى أن ماتت.

فإما أن تكون هذه الأحاديث عندهم باطلة فيلزم كذبهم في شهادتهم بصحتها ، أو يطعنوا في القرآن العزيز وهو كفر ، أو ينسبوا أبا بكر إلى ما لا يحلّ ولا يجوز .

ص: 428


1- الطرائف : 262 - 263 نقلاً عن الجمع بين الصحاح السنّة ، وأنظر : سنن ابن ماجة ح 1621 ، المستدرك على الصحيحين 170/3 ح 4740 ، مصابيح السنة184/4ح4798،كنز العمال 2/ 110 ح 3423.
2- صحيح البخاري 115/8 ح57.
3- سورة آل عمران 3: 36 .
4- تفسير الثعلبي 55/3 ولم يذكر فيه هذا الحديث وإنما ذكر حديث سيدة نساء العالمين ، وكذا في الطرائف : 263.
5- سورة الأحزاب 57/33 .

وقال الفضل ((1)):

قد ذكرنا فيما سبق أن الغضب قد يكون في حقوق الله تعالى ، وهذا الغضب يتبعه غضب الله تعالى ، وقد يكون في الحقوق المتعلقة بالشخص وهذا لا يوجب غضب الله ، إلا أن يكون المغضب مبطلاً ظالماً في حقّ الغاضب.

وغضب فاطمة على أبي بكر في بحث شرعي عمل فيه أبو بكر بمقتضى علمه في الحكم الشرعي ، فغضبت عليه فاطمة فهذا لا يوج- غضب الله تعالى ، إلا أن يكون أبو بكر في حكمه ظالماً مبطلاً ، ولم يثبت هذا .

فإن قيل : هذا عام في حق الأُمّة ، فإنّ كل من غضب الله فالله يغضب لغضبه ، فما فائدة تخصيصه بفاطمة ؟ وأيّ منقبة لفاطمة تكون على هذا التقدير ؟

قلنا : فيه منقبة عظيمة لفاطمة ، وهي أنّها لم تغضب لنفسها ، بل إنّما تغضب لحقوق الله تعالى، فالله دائماً يغضب لغضبها ، وكذا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يغضب لغضبها ، ولكن الغضب غضبان، غضب يحصل من المخالفة لله ، وهو قهراً ينجرّ إلى المعاداة ، وغضب يحصل من عدم مراقبة المغضوب عليه حقّ الغاضب ، وعدم مراعاة خاطره ، وهذا في الحقيقة ليس بغضب ، بل هو تغيير خاطر وتألّم للقلب ولهذا يتبعه الهجرة ، وكثيراً ما كان

ص: 429


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 684 ( حجري ) .

يغضب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على أصحابه مثل هذا الغضب ، ثمّ يرضى عنهم ، وهذا الغضب لا يستدعي إيذاء الغاضب حتى يدخل في وعيد قوله تعالى :

«إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة»((1))

ونحن نحكم بأنّ غضب فاطمة لأبي بكر كان تألّم الخاطر ، وهذا لا أن تتأذى منه ، حاشاها أن عن تغضب على وزير أبيها وصاحبه في الغار، والله تعالى يحكم بينهم ، ويرضي كلّهم بفضله ورحمته ، والأولى الإعراض عن هذه الحكايات الموحشة التي يتألم منها المؤمن ويفرح بها المنافق.

ص: 430


1- سورة الأحزاب 33 : 57 .

وأقول :

حاصل جوابه الذي بنى عليه أخيراً : أن ما حصل من فاطمة علیها السلام ليس بغضب في الحقيقة ، بل هو تغيير خاطر، وتألم قلب ، لأن الغضب ينجر إلى المعاداة قهراً ، ولا معاداة منها لأبي بكر .

وفيه - مع أنا لا نعرف وجه استلزام الغضب للمعاداة - أن المعاداة حاصلة منها لأبي بكر، إذ أيّ معاداة تطلب من المصونة الشريفة أكبر من مهاجرتها له ، وعدم تكلّمها معه إلى حين وفاتها، حتّى أدعى إلى عدم حضور الشيخين جنازتها والصلاة عليها ، فكأنّه لا يعرف من المعاداة إلا أن

تشهر عليهما الحرب ، وتسير بين الرجال من منهل إلى منهل ، ومن بلد إلى آخر.

على أن تألّم القلب مستلزم للأذية إن لم يكن عينها، فيكونون ممن آذى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بإيذائها ، ويدخلون في وعيد الآية التي ذكرها المصنف رحمه الله من سورة الأحزاب ، وقوله سبحانه في سورة التوبة :«سورة التوبة : الذين یؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»((1)).

وأما قوله : « وكثيراً ما كان يغضب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على أصحابه ،ثم يرضى عنهم .

ففيه : إنّه لا يدلّ على عدم غضب الله تعالى عليهم حين غضب النبي صلی الله علیه و اله و سلم وعدم استحقاقهم بإيذائه لعنة الله وعذابه قبل رضا رسوله صلی الله علیه و اله و سلم.

ص: 431


1- سورة التوبة 9 : 61.

نعم ، بعد رضاه يتوب الله عليهم، ولكنّ فاطمة ماتت وهي غضبى عليهما ، فلا رافع لغضب الله ورسوله وأذيّتهما عن الشيخين وأعوانهما .

وأما قوله : «حاشاها أن تغضب على وزير أبيها ...» .

ففيه : إن أبا بكر إن خالف حكم الله فلا معنى لمحاشاتها عن الغضب عليه ، وإن لم يخالف حكم الله تعالى بل جرى على حكمه، فما معنى تألمها منه وهجرانها له إلى الموت، ولقاء الله سبحانه ، وهي الطاهرة المطهرة من الرجس ؟

وقد روى مسلم في كتاب البر والصلة ((1)) عن أبي أيوب أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال :«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال»((2)) .

وروى نحوه - أيضاً - عن ابن عمر وأبي هريرة ((3)).

فهل يجوز أن تفعل سيدة النساء التي شهد الله سبحانه بطهارتها من الرجس ما لا يحل لها وتهجر أبا بكر إلى الموت ، وهي ترى أن أبا بكر لم يفعل إلا ما كلّفه الله به وأمره به رسوله صلی الله علیه و اله و سلم؟!

وأما قوله : الأولى الإعراض عن هذه الحكايات ، فخطأ ، إذ بها يعرف الحقِّ من الباطل ويفرح بها المؤمن، لأنّها تكون حجة لدينه الذي يلقى به ربه يوم العرض عليه ، ويتألم بها المنافق ؛ لأنّها تكشف عن نفاقه حيث إنّ الحجّة لزمته وخالفها.

ثمّ إنّ المصنف رحمه الله قال : وأوصت أن لا يصلّيا عليها ، وهذا ليس لفظ الحديث الذي ذكره، لكنّه اشتمل عليه معنى بلحاظ القرائن الدالة عليه ، فإنّ

ص: 432


1- في باب تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام بلا عذر شرعي . منه قدس سرة.
2- صحیح مسلم 9/8.
3- صحیح مسلم 10/8 .

الحديث صرّح بأنها وجدت على أبي بكر فهجرته حتى توفيت، وأن علياً دفنها ليلاً وصلى عليها ، ولم يؤذن بها أبا بكر .

فإنّ المفهوم عرفاً من ذلك أن عدم إيذانه له بالصلاة والدفن وإيقاعه لهما ليلاً ، إنّما هو لهجرانها له حتّى توفّيت .

وهذا الهجران له يستدعي كراهتها لحضوره ووصيّتها علیها السلام بعدم إيذانه ، مع يمتنع بدون وصيتها عليه أن يخالف أمير المؤمنين علیه السلام السنة النبوية بإعلام المؤمنين بموت المؤمن لتشييعه والصلاة عليه ، ويخالف العادة العرفية القاضية بإجلال سيّدة النساء بإحضار أصحاب أبيها وولاة الأمر بعده ووزرائه في حياته كما زعموا - فلا يمكن أن يدفنها ليلاً مخفياً أمرها عنهم بدون وصيّة منها .

فيا بأبي وأمي ! الناصرة للحقِّ الحكيمة المقيمة للحجة في حياتها وبعد وفاتها ، على ما يعرّف الناس ضلال من ضل ، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم ، فهي لم تنازع القوم طلباً للدنيا بل لإحياء شريعة أبيها ، وإظهار دين الله سبحانه.

وما صارت سيدة النساء إلا بالزهد بالدنيا وحطامها ، والرغبة بما عند الله تعالى وعبادته، لا بالنظر إلى النخيلات ومهاجرة المسلمين عليها حتّى الوفاة ، فالركن الأقوم للحق وإظهاره إنّما قام بها صلوات الله وسلامه عليها .

ص: 433

قال المصنّف - طاب ثراه - ((1)) :

على أن عمر ذكر عن عليّ والعباس ذلك .

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما : قال عمر للعباس وعلي : فلما توفي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله فجئتما أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها .

فقال أبو بكر : قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم «نورث ما تركناه صدقة» فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق .

ثمّ توفّي أبو بكر فقلت : أنا وليّ رسول الله وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنّي لصادق بار راشد تابع للحق فولّيتها .

ثم جئتنی أنت وهذا - وأنتما - جميع وأمركما واحد - فقلتما : ادفعها إلينا»((2)) .

فلينظر العاقل إلى هذا الحديث الذي في كتبهم الصحيحة ، كيف يجوز لأبي بكر أن يقول أنا وليّ رسول الله وكذا لعمر ، مع أنّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم مات وقد جعلهما من جملة رعايا أسامة بن زيد ؟

وكيف استجاز عمر أن يعبر عن النبي بقوله للعباس : تطلب ميراثك من ابن أخيك ، مع أن الله تعالى كان يخاطبه بصفاته مثل:«يا أيها الرسول ، يا أيها النبي يا أيها المزمل يا أيها المدثر»، ونادى غيره

من الأنبياء بأسمائهم.

ص: 434


1- نهج الحق : 364
2- صحيح البخاري 4/ 180 ضمن ح 3 ، صحيح مسلم 152/5.

ولم يذكره باسمه إلا في أربعة مواطن ، شهد له فيها بالرسالة لضرورة تخصيصه وتعيينه بالاسم ؛ كقوله تعالى :«وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل»((1)).

«وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين»((2)).

«برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد»((3)).

«محمّد رسول الله والذين معه»((4)).

ثمّ إنّ الله تعالى قال :«لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا»((5)) .

ثمّ عبّر عمر عن ابنته - مع عظم شأنها وشرف منزلتها - بقوله لأمير المؤمنين علیه السلام : ويطلب ميراث امرأته .

ثمّ إنّه وصف اعتقاد عليّ والعبّاس في حقه وحق أبي بكر بأنّهما كاذبان آثمان غادران خائنان .

فإن كان اعتقاده فيهما حقاً وكان قولهما صدقاً ، لزم تطرّق الدم إلى أبي بكر وعمر ، وأنهما لا يصلحان للخلافة.

وإن لم يكن كذلك ، لزم أن يكون قد قال عنهما بهتاناً وزوراً إن كان اعتقاده مخطئاً ، وإن كان مصيباً لزم تطرّق الدم إلى عليّ والعباس حيث اعتقدا في أبي بكر وعمر ما ليس فيهما .

ص: 435


1- سورة آل عمران 144/3
2- سورة الأحزاب 40/33
3- سورة الصف 6/61 .
4- سورة الفتح 29/48
5- سورة النور 24 : 63.

فكيف استصلحوه للإمامة مع أنّ الله قد نزّهه عن الكذب وقول الزور ؟ ! مع أن البخاري ومسلماً ذكرا في صحيحيهما أن قول عمر هذا لعليّ والعبّاس بمحضر مالك بن أوس ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد ، ولم يعتذر أمير المؤمنين والعبّاس عن هذا الاعتقاد الذي ذكره عمر ، ولا أحد من الحاضرين اعتذر لأبي بكر وعمر .

ص: 436

وقال الفضل ((1)):

أما قول عمر : فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فكل من تولى الخلافة فهو ولي رسول الله ، والمراد بالوليّ ها هنا المتصرّف في أموره بعده ، وهذا وصف الخليفة ، ولا يلزم أن يجعله رسول الله وليه ، كما قدّمنا في معنى الخلافة ، وكذا قول عمر .

وأمّا جعل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لهما من عسكر أُسامة ، لا يقتضي ان يجعلهما رعيته ، فمن أمره صلی الله علیه و اله و سلم أن يذهب إلى عسكر في تحت راية لا يصير رعية لذلك الأمير الذي هو صاحب الراية .

وكان أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يذهبون تحت الرايات في زمانه وبعده وذلك بأمره ، فكانوا رعية الرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لا لصاحب الراية ، فإن صاحب الراية من الرعايا ، وهذا طعن في غاية السماجة.

وأما قول عمر لعبّاس : تطلب ميراثك من ابن أخيك، فهذا على طريق محاورات العرب، وهو يتضمّن ذكر علّة طلب الميراث ، فإن علة الإرث كونه ابن أخيه ، وليس فيه إساءة أدب قطعاً .

ألا ترى أن عمر في صدر الحديث قال : فلما توفي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فذكره بلقبه الشريف ، ثمّ ذكره في عين هذا الكلام بما يفيد علة طلب الميراث ، وليس فيه أصلاً سوء أدب ، كما نقله أرباب المحاورات.

وعمر ما ذكر باسمه، فلم يقل : ثم جئت تطلب ميراث محمد ، حتى

ص: 437


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 687 ( حجري ) .

يرد ما يقول ويستدلّ به من الآيات .

وكذا قوله لعليّ : وجاء هذا يطلب ميراث امرأته، فهو ذكر علة الإرث ، والأولى ترك ذكر النساء بأسمائهن في محضر الرجال ، فاستعمل الأدب في ترك ذكر فاطمة لا أنّه أساء الأدب .

ثمّ ما ذكره من اعتقاد عليّ والعباس فيهما ، إن كان حقاً لزم تطرّق الدم إلى أبي بكر وعمر ، وإن كان باطلاً لزم تطرّق الذم إلى عليّ والعباس .

فنقول : هذا كلام أدخله هذا الكاذب في الحديث الصحيح من رواية البخاري، فإنّ الصحيح من الرواية ما ذكره البخاري في صحيحه: «أن ابن الخطاب قال : ثم توفي النبي صلی الله علیه و اله و سلم فقال أبو بكر : فأنا ولي رسول الله وأنتما حينئذ - فأقبل على عليّ والعباس - تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان ، والله يعلم أنّه فيه صادق بار راشد تابع للحق .

ثمّ توفّى الله أبا بكر ، فقلت : أنا وليّ رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وأبي بكر ، فقبضته سنتين من إمارتي، وأعمل فيه بما عمل فيه رسول الله وأبو بكر ، والله يعلم أنّي فيه صادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني كلاكما . . . »((1)).الحديث .

هذا لفظ الحديث على مانقله البخاري ، وليس فيه ما قال : فرأيتماه كاذباً غادراً خائناً حتّى يحتاج إلى الاعتذار .

ولو سلّم أنّه مروي ، فهذا كلام يفرضه الحاكم ويقوله على سبيل الفرض والتقدير والزعم ، وأمثال هذه كثيرة في المحاورات ، إن الحاكم إذا حكم بما لا يرضى به الخصم يقول له : تحسبني ظالماً ولست كذلك

ص: 438


1- صحيح البخاري 207/5 ضمن 78 .

والمراد : أنّ حكمي يقتضي أن يكون زعمك في هذا ؛ لأن الحكم لم يكن برضاك ، فهذا هو الظاهر المناسب بحالك ولم يرد حقيقة هذه النسبة .

ولهذا لم يعتذر عليّ ولا العباس ولا أحد من الحاضرين ، وأمثال هذه يعرفها أرباب المحاورات ، ولا يحملون هذا الكلام ألبتة على إرادة إثبات هذا الاعتقاد لهم ، ومن توغل في البغضاء والتعصب يجعل من كل ذرّة جبلاً .

ص: 439

وأقول :

نعم ، وليّ الشخص هو المتصرّف في أموره ، لكن لسلطانه عليه ولو في الجملة ، ولذا لا يصدق على وكيل الشخص أنّه وليه مع أنّه المتصرّف أموره ، ويصدق على المتصرّف فى أمور الطفل والغائب أنّه وليهما السلطانه عليهما ، لقصورهما فعلاً عن هذا التصرّف الخاص .

فإذا قال الشيخان : إنا وليا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فلا أقل من كونه إساءة أدب معه صلی الله علیه و اله و سلم، ولو سلّم عدم اعتبار السلطنة في معنى الولي فدعواهما - أيضاً - أنهما وليا رسول الله غير صحيحةٍ ؛ لأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يستصلحهما في حين وفاته إلا لأن يكونا في جملة رعايا أُسامة ، فيكف صلحا بعده للإمامة على الناس عامة ومنهم أسامة ؟ !

على أن إضافة الولي إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بناء على عدم اعتبار السلطنة في معنى الولي تقتضي ظاهراً أن تكون الولاية مجعولة من النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لأنهما حينئذ من إضافة الصفة إلى الفاعل لا المفعول ؛ وذلك باطل بالاتفاق .

وأما ما أنكره على المصنف من دعوى كونهما من رعايا أُسامة ، فهو مناقشة لفظية لا تضر في مقصود المصنف رحمه الله من أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم جعلهم دون أسامة وتحت إمرته.

فكيف يزعمان أنهما أميرا الناس حتى أسامة ؟ !

على أنه قال في القاموس : الراعي : من ولي أمر قوم ، جمعه : رعايا ،

ص: 440

والقوم : رعيّة ((1)).

وروى البخاري في أوّل كتاب الأحكام : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : «كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... والرجل راع على أهل بيته وه-و مسؤول عن رعيّته»(2).

وأما ما ذكره من أن قول عمر لعلي والعباس كان على طريق محاورات العرب ، فهو ظلم للعرب ، بجعل محاوراتهم منافية للآداب ، إلا أن يريد بهم من ينادون النبي صلی الله علیه و اله و سلم من وراء الحجرات ((3)) ، ومنهم عمر ،فإنه نادى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم- وهو في بيته - : نام النساء والصبيان ((4)) .

ولو عقل الفضل لعرف أن معنى كلامه أن عمر ترك آداب الله تعالى للمؤمنين في كتابه الكريم اتباعاً لطريقة جهال العرب في سوء الأدب في المحاورات ، وهو مطلوب المصنف رحمه الله.

وأما قوله : وهو يتضمن ذكر علّة طلب الميراث ، فطريف ؛ إذ أيُّ حاجة إلى بيان العلة في المقام حتى ترك الأدب مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لأجلها.

أكانت مشتملة على نكتة شريفة ؟ أو لم يكن أمير المؤمنين والعباس

ص: 441


1- القاموس المحيط 337/4ماده ( الرعي ) .
2- صحيح البخاري 111/9 مقطع من ح2.
3- قال تعالى :«إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون»، سورة الحجرات 4:49
4- انظر : صحيح : صحيح البخاري 1/ 235 ح 43 و ص 236 - 237 ح 46 وج 24/2 - 25 ح 243 و 245 و ج 153/9 ح 14 ، صحیح مسلم 115/2 ، 117 ، سنن النسائي 1 / 239 و ص 267 ، سنن ، سنن الدارمي 1 / 196 ح 1211 ، مسند أحمد 34/6 ، 199 ، 215 ، 272 ، مصنف عبد الرزاق 1/ 558 ح 2116 ، صحيح ابن خزيمة 176/1-177 ح342-343.

يعلمانها ، وهما يدّعيان الميراث ؟ !

أو كانت خفية على الحضور ؟ !

على أنه كان يمكنه الجمع بين بيان العلة وتعظيم الرسول صلی الله علیه و اله و سلم،فيقول مثلاً : جئت تطلب ميراث ابن أخيك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم.

وأما ما ذكره من أن عمر قال: «لما توفي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فذكره بلقبه الشريف»، ففيه :

إن المصنف الله ، لم يدع أنّ عمر لم يذكره قطّ بألقابه الشريفة ، بل يقول : إنّه أساء الأدب معه واستخف واستخف به في ذلك الكلام ، كما يعرفه كلّ مدرك .

وقوله : « وعمر ما ذكره باسمه ... إلى آخره، صحيح ، لكن المصنّف رحمه الله لم يدّع أنّه ذكره باسمه ، بل يقول : إن الله تبارك وتعالى - مع كبريائه وعظيم سلطانه - لم يخاطب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلا بألقابه ، ولم يذكره باسمه إلا وقرنه بما يفيد تعظيمه وهو الرسالة ، عند وجود الضرورة الموجبة لذكره باسمه .

وقد نهى عزّ وجلّ عباده المسلمين أن يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضاً، وعمر قد خالف الله في تعظيمه ولم يتأدب بما أدب به المسلمين .

نعم، حمله عبد الرزاق على الحمق، فقد ذكر الذهبي في «ميزان الاعتدال» بترجمة عبد الرزاق أنه قرأ لجماعة هذا الحديث ، فقال : انظروا إلى هذا الأنوك ((1)) يقول : ابن أخيك، من أبيها، لا يقول رسول الله

ص: 442


1- الأنوك : الاحمق والجمع نوك ونوكى ، أنظر : لسان العرب 14 / 334 مادة « نوك ».

صلی الله علیه و اله و سلم(1)!

ولكن ياللعجب ! ! كان هذا وبالاً على عبد الرزاق وسبباً لتوهينه ،حتى خرق زيد بن المبارك كتبه عنه((2)).

فكان عندهم عمر أحق بالانتصار من سيّد الرسل ، ومحمولاً منه كل فعل وقول ، حتى بالنسبة إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وصفوته من خلقه.

وأما قوله : « وكذا قوله لعليّ : وجاء هذا يطلب ميراث امرأته ، فهو ذكر العلة» .

فخطأ ؛ لأن كلام المصنف رحمه الله هنا في التعبير عن سيدة النساء بامرأته وهو لادخل له في علة الميراث ، إذ لم يطلب أمير المؤمنين علیه السلام ميراثه من الزهراء حتى يكون قوله «امرأته» بياناً لعلّة الإرث، بل كان ميراث الزهراء من أبيها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كما صرح به الحديث، فيكون قوله «امرأته» إساءة أدب مع سيدة النساء بلا بيان للعلة لو كان ثمة حاجة إليها.

وقوله : « الأولى ترك ذكر النساء بأسمائهن ...» إلى آخره .

صحيح ، لكن المصنف رحمه الله لم يشكل على عمر بعدم ذكرها باسمها ، بل يقول : لِمَ لم يعبّر عنها بما تقتضيه الآداب، كأن يقول : بضعة الرسول ، أو بنت النبي صلی الله علیه و اله و سلم أو سيدة النساء ، أو نحو ذلك ؟ !

واعلم أنّ عمر لم يخل بالآداب مع النبي وبضعته فقط ، بل أخل بها مع مولاه ومولى المؤمنين ، إذ عبّر عنه باسم الإشارة ، بلا إشارة إلى جهة من جهات عظمته.

وأما ما ذكره من أن المصنف رحمه الله أدخل فى حديث البخاري ماليس

ص: 443


1- میزان الاعتدال 344/4 ترجمة عبد الرزاق بن همام الصنعاني .
2- میزان الاعتدال 343/4 .

منه ، ففيه :

إن المصنّف نقل الحديث عن مسلم والبخاري ؛ لاتفاقهما في المعنى ((1)) ، ذكره بلفظ مسلم الذي رواه في باب حكم الفيء من كتاب الجهاد» ؛ لأنّ به تفصيل ما أجمله البخاري، فإن قول البخاري :«وأنتما تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان» بمعنى قول مسلم : «فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً»بقرينة المقابلة بين قوله تقولان ، وقوله : والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحقِّ .

وكذا قول عمر في حديث البخاري :«والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحقِّ» يدلّ على أنّهما يقولان بخلافه الذي صرّح به حديث مسلم .

ومثل هذا لا ربط له بالإدخال ، كما زعمه الخصم، ولذا استمرت طريقة علماء القوم على نقل الأحاديث المتفقة في المعنى ، بل المتقاربة فيه بلفظ أحدها ، كما يعرفه كل من اطلع على كتبهم الجامعة للأخبار، «كالدر المنثور» ، وكنز العمال، ونحوهما .

وهذا الحديث الذي ذكره الخصم قد رواه البخاري في باب حديث بني النضير من كتاب المغازي(2).

وله حديث آخر رواه في أول كتاب النفقات ، وذكر فيه عن عمر أنّه قال : وأنتما تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا ((3)) ، وهو أقرب للدلالة على المقصود .

وأما ما زعمه من أن قول عمر كان على سبيل الفرض والتقدير

ص: 444


1- صحیح البخاري 4/ 180 ضمن ح3،صحیح مسلم152/5.
2- صحيح البخاري 207/5 ضمن ح 78
3- صحيح البخاري114/7 ضمن ح93.

فتأويل مضحك ، إذ كيف لا يكون على سبيل الحقيقة وأمير المؤمنين علیه السلام والعباس يتنازعان عنده في ميراث النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعد سبق رواية أبي بكر وحكمه على الزهراء عليها السلام ؟ !

فإن هذا النزاع بينهما لا يتم إلا بتكذيبهما لأبي بكر في حديثه، وحكمهما بأنّه آثم غادر خائن ، على وجه يعلمان أن عمر عالم بكذب حديث أبي بكر ، وأن موافقة عمر له في السابق لسياسة دعته إلى الموافقة

وإلا فلو لم يعلما ذلك، فكيف تداعيا عنده في الميراث ؟

أمن الجائز أن يتداعيا عنده في رجوع إرث النبي لأيهما ليقضي بينهما فيه على الحق ، وهما يعرفان تصديقه لأبي بكر حقيقة ، وأنه يعتقد صحة حكمه ؟ !

فلا بد أن يكون قول عمر : رأيتماه ورأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً كان على سبيل الحقيقة لا الفرض والتقدير، ولذا لم يعتذرا من عمر ، إذ لا يمكن اعتذارهما عن أمر لا يتم فعلهما إلا به .

وبهذا يعلم أنّ المتعيّن من الاحتمالات الثلاثة التي ذكرها المصنف رحمه الله في قول عمر هو الاحتمال الأوّل أو الثالث ، بل المتعين الأوّل ، عملاً بشهادة الله سبحانه لعلّي علیه السلام، بالطهارة من الرجس.

وأما قوله :«ولهذا لم يعتذر عليّ ولا العبّاس ...»إلى آخره ، فخطأ ، إذ لا يحسن السكوت منهما في مقام فرض الإساءة منهما ، بل اللازم على من لم يسىء أن يتنصل عما نسب إليه وينكره أشدّ الإنكار ، لا سيما مع تعلّق الإساءة في الطعن بكبار الخلفاء بما يسقط دينهم ومروءتهم .

ص: 445

إدعاء عائشة بحجرتها

قال المصنّف - أعلى الله مقامه - ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أراد أن يشتري موضع المسجد من بني النجار فوهبوه له ، وكان فيه نخل وقبور المشركين ، فقلع النخل وخرّب القبور (2)، وقد قال الله تعالى :«لا تدخلوا بيوت النبي إلّا أن يؤذن لكم»((3)).

ومن المعلوم أنّ عائشة لم يكن لها ولا لأبيها دار بالمدينة ولا أثرها ، ولا بيت ولا آثره لواحد من أقاربها، وادعت حجرة أسكنها فيها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم،فسلّمها أبوها إليها ، ولم يفعل كما فعل بفاطمة عليها السلام.

ص: 446


1- نهج الحق : 366 .
2- الجمع بين الصحيحين 595/2 1980 ، وأنظر : صحيح البخاري 170/5 - 171ضمن ح410صحيح مسلم 65/2 .
3- سورة الأحزاب 33: 53

وقال الفضل ((1)) :

قد ثبت أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قد جعل كل حجرة ملكاً لصاحبتها ،الساكنة فيها من أزواجه ، وهذا أمر كان مقرراً في زمن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فی حال حياته ، فلا يحتاج إلى طلب البينة بعد الوفاة ، بخلاف فدك ، فإنّها كانت تحت يدي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كسائر أموال الفيء، ولم تكن في تصرّف فاطمة ، فكان الواجب على أبي بكر طلب البينة.

على أنا قد أثبتنا قبل أن حديث دعوى فاطمة النَّحْلةَ وإقامة البينة لم يصح ، لأنّه صح فى البخاري أنّ فاطمة طلبتها من أبي بكر ميراثاً ، فلم يكن لها أن تطلبها نحلة، وقد صح الأوّل فسقط الثاني ، لأنّه غير مذكور في الصحاح ، والله أعلم .

وقد وجدت في كتاب «أعلام الحديث في شرح البخاري» لأبي سليمان الخطابي ((2)) أنه قال:«بلغني عن سفيان بن عيينة ، أنّه كان يقول : أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم في معنى المعتدات، إذ كن لا يجوز لهنّ أن ينكحْنَ

ص: 447


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 690(حجري ) .
2- الخطابي : أحمد ، وقيل : حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي ، محدث، لغوي ، فقيه ، أديب .ولد سنة 308 ه- ، وقيل 319 ه- 319 ه- د ، وتوفي سنة 388 ه- .من تصانيفه : اصلاح غلط المحدثين ، معالم السنن في شرح سنن أبي داود ،شرح البخاري ، اعلام الحديث ، وغيرها .آنظر : هدية العارفين 68/5 ، أعلام الزركلي 2/ 273 ، معجم المؤلفين 238/1رقم 1727.

أبداً ، فجرت لهنّ النفقة ، وتركت حُجَرُهنّ لهن يسكنها »((1)) انتهى.

فعلى هذا فهو في حكم الملك.

ص: 448


1- أعلام الحديث في البخاري - للخطابي -.

وأقول :

ما أسهل الدعوى على القوم بلا دليل، فليت شعري ، بم ثبت التمليك الذي زعمه والتقرر الذي التزمه ؟

وغاية ما استدلوا به للتمليك قوله تعالى :«وقرن في بيوتكن»((1))

حيث أضاف البيوت إليهنّ ، وهو خطأ، لأنّ إضافة البيوت إلى النساء ، لا تفيد إلا الاختصاص من جهة السكني ، كما قال تعالى في حق المطلقات :

«ولا تُخرِجوهُنّ من بيوتهن»((2))

على أنه معارض بقوله تعالى :«ولا تدخلوا بيوت النبي»((3)) ،وهو أدل على ملك النبي صلی الله علیه و اله و سلم؛ إذ شأن الرجال ملك مساكنهم ، كما هو الغالب بخلاف النساء ، ولا سيما ذوات الأزواج .

والأمر الأعجب أنّ الخصم بعد تلك الدعوى الخالية عن الدليل ادعى أن فدك لم تكن في تصرف فاطمة علیها السلام ، مع قيام أدلتهم عليه !

فقد عرفت في الطعن على أبي بكر بأمر فدك أن أخبارهم مصرحة بأنه لما نزل قوله سبحانه:«وآتِ ذا القربى حقه»((4)) أعطى رسول الله فاطمة علیها السلام فدك وأقطعها ، إيَّاها ، مضافاً إلى امتناع أن تدعي سيدة النساء النّحلة ، ويشهد بها أقضى الأمة ، وباب مدينة علم الرسول صلی الله علیه و اله و سلم، من دون

ص: 449


1- سورة الأحزاب 33 : 51.
2- سورة الطلاق 65 : 1
3- سورة الأحزاب 33: 53
4- سورة الإسراء 17 : 26 .

أن تكون لها اليد في حياة النبي صلی الله علیه و اله و سلم، لأن الهبة بلا إقباض خالية الأثر .

وأعجب من ذلك إنكاره صحة دعوى الزهراء علیها السلام النحلة مع أنها من أوّل المسلّمات كما سبق وبيّنا بطلان ما استنده إليه في الإنكار .

وأعجب من ذلك كله قوله : « فكان الواجب على أبي بكر طل طلب البينة» .

إذ كيف يجب ، وقد كان له أن يعطيها فدك، كما أعطى جابراً وأبابشير ومعاذاً وأبا سفيان تلك الأموال الجسيمة بعد النبي بأيام يسيرة من دون دعوى ، أو بدعوى العدة بلا بينة ، كما سبق ؟ ! بل اللازم عليه إعطاؤها وفاءً لحق رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، ورعاية لحرمته وقضاء بشرع الإحسان .

وأما ما نسبه إلى أبي سليمان الخطابي ، فمن أدلّ الأمور على عدم وجود دليل عندهم على تمليك النبي صلی الله علیه و اله و سلم لأزواجه حُجَرهُنَّ ، وإلا فما الداعي له إلى نقل سفسطة ابن عيينة ؟ وأي سفسطة أعظم منها ؟!

فإنّه لو سلّم أن شبيه الشيء في الجملة بحكمه ، فكونهن في معنى المعتدّات لا يوجب أن يكون لهنّ النفقة والسكنى، فإنّ الاعتداد ليس سبباً ذلك ، ولذا لا يجب الإنفاق والسكنى للبائنة ، والمتوفى عنها زوجها ، على أن حق الإسكان إنّما يكون للمرأة على الزوج ، والحُجَرُ بعد النبي ليست له ، بل لورثته أو للمسلمين ، مضافاً إلى أن الكلام ليس في مجرّد السكنى ، بل في إجراء جميع أحكام الملك ؛ كدفن عائشة أباها وصاحبه في بيت النبي صلی الله علیه و اله و سلم بغير إذنه ، ولا إذن ورثته ، ولا المسلمين.

وكمنعها الحسن الزكي علیه السلام عن دفنه عند جده صلی الله علیه و اله و سلم وقد جاءت راكبة على بغل ، وحولها بنو أمية ومروان ، فقال لها ابن عباس :

ص: 450

تجملتِ تبغلْتِ ولَوْ عِشْتِ تَفَيَلْتِ *** لك التسعُ من الثَّمْنِ وبالكل تملكتِ ((1))

وقد ذكر بعض أخبار القوم ركوبها على بغل ، لكن بقصة أخرى كاذبة ، فقد ذكر بن حجر في «تهذيب التهذيب» بترجمة عبد الله بن بن عبد الرحمن ابن أبي بكر ، أنّه قال الزبير بن بكار : أخبرني عبد الله بن كثير بن جعفر : « أنّ عائشة ركبت بغلة وخرجت تصلح بين غلمان لها ولابن عباس ، فأدركها ابن أبي عتيق فقال : يعتق ما يملك إن لم ترجعي ، ، فقالت : ما حملك على هذا ، قال : ما انفض عنا يوم الجمل حتى يأتينا يوم البغلة ((2)).

والظاهر : أنّ الراوي لم ينقل القصّة على حقيقتها ، فإن الإصلاح بين الغلمان لا يحتاج إلى خروجها بنفسها، وركوبها على بغلة ، بحيث خاف منه ابن أبي عتيق أن يكون كيوم الجمل .

ثمّ إنّ الحديث الذي أشار إليه المصنف رحمه الله في أمر مسجد النبی صلی الله علیه و اله و سلم قد رواه البخاري على نحو ورقة من آخر الجزء الثاني من صحيحه ،

ص: 451


1- انظر : مناقب ابن شهر آشوب 50/4 - 51 ، الخرائج والجرائح 243/1 ونسب البيت لابن الحجاج البغدادي ، الاحتجاج 309/2 ونسب القول لمحمد بن أبي بكروهو غير صحيح لأنه حينها كان ميتاً ، وراجع مقاتل الطالبيين : 82 بمعناه
2- تهذيب التهذيب 472/4 ، وفيه اختلاف في بعض الفاظه ، ويؤيد هذا ما جاء في الأنساب للبلاذري 52/2 - 53 مانصه :«عرضت لعائشة حاجة فبعثت إلى ابن ابي عتيق أن ارسل إلي ببغلتك لأركبها في حاجة.قال : كان مزاحاً بطالاً ، فقال لرسولها : قل لأمّ المؤمنين : والله ما رحضنا[أي ما غسلنا] عار يوم الجمل ، أفتريدين أن تأتينا البغلة؟

ورواه مسلم في باب ابتناء مسجد النبي صلی الله علیه و اله و سلم من كتاب المساجد ((1)).

ص: 452


1- صحيح البخاري 186/2 - 187 ضمن ح89،صحیح مسلم 65/2.

خروج عائشة على أمير المؤمنين علیه السلام

قال المصنّف - زاد الله في أجره - ((1)) :

وخرجت عائشة إلى قتال أمير المؤمنين علیه السلام، ومعلوم أنها عاصية بذلک.

أمّا أوّلاً : فلأن الله تعالى قد نهاها عن الخروج وأمرها بالاستقرار في منزلها ، فهتكت حجاب الله ورسوله صلی الله علیه و اله و سلم وتبرّجت ، وسافرت في جحفل عظيم ، وجم غفير ، يزيد على سبعة عشر ألفاً ((2)).

وأما ثانياً : فلأنها ليست وليّ الدمّ حتّى تطلب به ولا لها حكم الخلافة ، فبأي وجه خرجت للطلب ؟!

وأمّا ثالثاً : فلأنها طلبته من غير مَنْ عليه الحق ؛ لأنّ أمير المؤمنين علیه السلام لم يحضر قتله ولا أمر به ولا واطأ عليه ، وقد ذكر ذلك كثيراً .

وأمّا رابعاً : فلأنها كانت تحرّض على قتل عثمان وتقول ، اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ((3)) ، فلما بلغها قتله فرحت بذلك .

فلما قام أمير المؤمنين بالخلافة أسندت القتل إليه وطالبته بدمه ؛ لبغضها له وعداوتها معه ، ثمّ مع ذلك تبعها خلق عظيم ، وساعدها عليه

ص: 453


1- نهج الحق : 367.
2- انظر : عيون الأخبار - لابن قتيبة - 1 / 300.
3- انظر : الإمامة والسياسة : 72 ، تاريخ الطبري 12/3 ، الفتوح - لابن أعثم -420/2وص 434، النهاية - لابن الأثير 80/5 ، المحصول - للرازي - 167/2 ،الكامل في التاريخ 100/3 ، شرح ابن أبي الحديد 215/6 ، وج 22/20.

جماعة كثيرة ألوفاً مضاعفة.

وفاطمة علیها السلام لما جاءت تطالب بحق إرثها الذي جعله الله لها في كتابه العزيز - وكانت محقة فيه - لم يتابعها مخلوق ولم يساعدها بشر.

ص: 454

وقال الفضل(1):

قد سبق أن من خرج على عليّ في أيام خلافته فهو باغ ، والباغي : - عند الشافعي - من يخرج على الإمام لشبهة ، وهؤلاء خرجوا على عليّ - وهو الإمام - بشبهة أنّ في عسكره قتلة عثمان ، لا أنّهم يطلبون دم عثمان من عليّ .

وهذا الرجل فيما مرّ من الكلام أثبت اعتراف علي بقتله عثمان ، وقد أبطلناه ، فما ذكره هنا من تبرئة عليّ من دم عثمان مناقض لما ذكره هناك . وما ذكر أن عائشة كانت عاصية ، فعند أصحاب الشافعي أنّ البغي ليس اسم الذم ، ولا هو من العصيان بشيء ، لأنه خروج بالشبهة ، فصاحبه مجتهد مخطىء ، والمجتهد المخطىء ليس بعاص .

وأما ما ذكر أنّ الله تعالى نهاها عن الخروج ، فذلك النهي مخصوص بالخروج مع التبرّج ، لا كل خروج ، والخروج بالتبرج كان من دأب نساء الجاهلية أن يتبرجن بالحُلي ، فيخرجن لإراءة التبرّج والحلي للناس ، فيطمع الناس فيهنّ ، هذا تبرج الجاهلية .

ولو كان الله تعالى أمرهنّ بترك الخروج مطلقاً ، لكان يحرّم عليهن الخروج للحج والجماعة ، وهذا باطل إجماعاً ، فالنهي مخصوص بالخروج بالتبرج .

وأما ما ذكر :«أنّها ليست وليّ الدّم حتّى تطالب به ، ولا لها حكم

ص: 455


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 692 ( حجري ) .

الخلافة».

فجوابه : أنّها خرجت محتسبة ؛ لأنّ قتلة عثمان قتلوا الإمام ، وهتكوا حرمة الإسلام فخرجت تريد الاحتساب ، وأخطأت في هذا الخروج مع الاجتهاد ، فيكون الحق مع عليّ وهي لم تكن عاصية للاجتهاد.

وأما قولها : اقتلوا نعثلاً ، فهذا شيء لم يصح في الصحاح ، وإن صح فنعثل لم يكن من أسماء عثمان ، وربّما أرادت شخصاً آخر.

وما ذكر أنّها كانت عدوة لأمير المؤمنين ؛ فهذا كذب وزور ، وباطل بل ذكر أرباب الأخبار أنّ بعد الفراغ عن وقعة الجمل دخل علي على عائشة ، فقالت عائشة : ما كان بيني وبينك إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها .

فقال أمير المؤمنين : والله ، ما كان إلا هذا ((1)).

وهذا يدلّ على نفي العداوة ، بل هذا من مقاولات ((2)) وأحوال يكون بين المرأة والأحماء ، ولا يسميه الناس عداوة .

وأما ما ذكر أن عائشة ساعدها الناس الكثير .

فالجواب : إنّهم يطلبون بدم ،عثمان ، فتابعوها ؛ لأن قتلة عثمان كانوا في عسكر علي .

وأما قوله : ولم يساعد أحد فاطمة

فنقول ؛ لأن دعوى الإرث ، والرفع إلى الحاكم لا يحتاج إلى جرّ العساكر والمساعدة ، فإنّ هذا دعوى وبيّنة وجواب من الحاكم ، مع أثبتنا أنّ دعوى فاطمة النِّحْلَةَ وإقامة البيئة غير صحيحة .

ص: 456


1- تاريخ الطبري 60/3 - 61 حوادث سنة 36
2- المقاولات : جمع المقاولة ؛ وأراد بها الملاسنة بالكلام والتطاول فيه عند التفاوض ، والمقاولة : مصدر قاولة في أمره ؛ أي فاوضة

وأقول :

لا عبرة بالاصطلاحات والعنديّات، وإنّما المدار على الدليل ، مع ان هذا الاصطلاح الذي نسبه إلى الشافعي مخالف حتى لأهل اللغة ، قال في القاموس : بغى عليه : عدا وظلم، وعدل عن الحق ، ثمّ قال : وفئة باغية : خارجة عن طاعة الإمام العادل»((1)).

وكيف لا يكون الباغي عاصياً، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنّة ((2)).

وفي رواية : يدعوهم إلى الله ، ويدعونه إلى النار ((3)) ؟ !

فجعل صلی الله علیه و اله و سلم الباغين دعاة النار .

ووال بل لا إشكال بأن الباغي على أمير المؤمنين علیه السلام مهدور الدم ، فضلاً عن كونه عاصياً ؛ لأمور:

الأول : قوله تعالى :«فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ...»((4))

روى الحاكم في «المستدرك» بمناقب علي علیه السلام، وصححه مع الذهبي على شرط الشيخين ، عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر :

ص: 457


1- القاموس المحيط 305/4 و 603 مادة ( بغا )
2- صحيح البخاري 194/1-195 ح107، ، مسند أحمد 91/3 ، دلائل النبوة -للبیهقی- 546/2 ، تاریخ دمشق 313/43 ، البداية والنهاية 171/3 ، كنز العمال722/13 ح3531.
3- صحيح البخاري 76/4 - 77 ح 27 ، وراجع الصحفة 5 من هذا الجزء .
4- سورة الحجرات 49: 9.

«أنّه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر إذ جاءه رجل من أهل العراق ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إني والله لقد حرصت أن أتسمت بسمتك ، وأقتدي بك في أمر فرقة الناس ، وأعتزل الشرّ ما استطعت، وإنّي أقرأ آية من كتاب الله محكمة قد أخذت بقلبي ، فأخبرني عنها ، أرأيت قول الله عزّ وجل :«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى ...» الآية ؟ أخبرني عن هذه الآية .

فقال عبد الله : مالك ، ولذلك ؟ انصرف عني .

فانطلق حتى توارى عنا سواده ، وأقبل علينا عبد الله بن عمر فقال : ما وجدت في نفسي من شيء في أمر هذه الآية ، ما وجدت في نفسي إنّي لم أقاتل هذه الفئة الباغية ، كما أمرني الله عزّ وجلّ .

ثمّ قال الحاكم: هذا باب كبير قد رواه عن عبد الله بن عمر جماعة من التابعين(1)...

وروى في الاستيعاب من عدة طرق بترجمة ابن عمر أنّه قال : ما أسى على شيء فاتني إلا أني لم أقاتل مع على الفئة الباغية.

وفي بعضها : أنّه قال ذلك حين حضرته الوفاة ((2)).

ولا ريب أن البغي على علي علیه السلام لم يختص بمعاوية ، بل هو شامل للناكثين والمارقين ، والآية عامة للجميع .

الثاني : الأخبار المستفيضة أو المتواترة القائلة : إن علياً علیه السلام يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم على تنزيله ((3)) ، فإنها دالة

ص: 458


1- المستدرك على الصحيحين 125/3 ح4598.
2- الاستيعاب 953/3 .
3- انظر : سنن النسائي الكبرى 154/5 ح 8541 ، مسند أحمد 31/3 ، 33 ، 82 ،مصنف ابن أبي شيبة 497/7 ح 19 ، مسند أبي يعلى 341/2 ح 1086 ، صحيح ابن حبان 46/9 ح 6898 ، مستدرك الحاكم 132/2 ح 4621 ، مناقب علي - لابن أخي تبوك - : 343 ح 23 ، حلية الأولياء 67/1 ، مناقب ابن المغازلي : 252 341 ، فردوس الأخبار 1/ 44 ح 118 ، تاریخ دمشق 42/ 451 - 455 ، كنز العمال613/11 ح32967.

على أنّ القتال معهما بحكم واحد واجب من الله سبحانه.

الثالث : الأخبار التي قال فيها رسول الله لعلي: «حربك حربي وسلمك سلمي»((1))، فإنها دالة على وجوب حرب من حارب علياً علیه السلام، كما يجب حرب من حارب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وأن المحارب لهما بحكم واحد في وجوب قتله وهدر دمه .

الرابع : الأخبار الآمرة لأمير المؤمنين علیه السلام بحرب الناكثين والقاسطين والمارقين ، وأنه بعهد من النبي صلی الله علیه و اله و سلم.

روى الحاكم في المستدرك» بمناقب علي علیه السلام((2)) عن عقاب بن ثعلبة ، قال : حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب قال : أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ((3)).

وروى الحاكم أيضاً عن أبي أيوب قال : سمعت النبي صلی الله علیه و اله و سلم يقول العلي لعليّ بن أبي طالب : تقاتل الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ((4)).

وحكى في كنز العمال في كتاب الفتن عن البزار ، وأبي يعلى عن

ص: 459


1- مناقب ابن المغازلي : 62 ، مناقب الخوارزمي : 200 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 :18.
2- ص : 139 ج 3 . منه قدس سرة.
3- المستدرك على الصحيحين 150/3ح4674.
4- المستدرك على الصحيحين 150/3ح4675

عليّ بن أبي ربيعة ، قال : سمعت علياً على المنبر - وأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! مالي أراك تستحل الناس استحلال الرجل إبله ؟ أبعهد من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، أو شيئاً رأيته-؟

قال : والله ، ما كذبت ولا كُذبت، ولا ضللت ولا ضُلّ بي ، بل عهد من رسول الله عهده إلي ، وقد خاب من افترى ، عهد إلي النبي صلی الله علیه و اله و سلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ((1)).

ونقل - أيضاً - في كتاب الفتن عن ابن جرير في «تهذيب الآثار» عن مخنف بن سليم عن أبي أيوب ، وعن ابن عساكر ، عن أبي صادق ، عن أبي أيوب نحو ماسبق ((2)).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي بهذا المضمون .

الخامس : الأخبار العامه الآمرة بقتل من خرج على إمام زمانه ، ونازعه ؛ كالذي رواه مسلم ((3)) عن عبد الرحمن بن عبد ربه قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص ... إلى أن قال : «فقال: اجتمعنا إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ، وذكر كلاماً لرسول الله من جملته : ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ، فَلْيُطِعْهُ إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر .

فدنوت منه فقلت له : أنشدك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم؟

فأهوى إلى أُذنيه : نيه وقلبه بيديه ، وقال : سمعته أذناي ، ووعاه قلبي.

ص: 460


1- كنز العمال 327/11 ح 31649 ، وأنظر : مسند أبي يعلى 397/1 : ح 518 و519 ، مسند البزار 26/3 - 27 ح 774.
2- كنز العمال 11/ 352 ح 31720 و 31721 ، وأنظر : تاريخ دمشق 473/42.
3- في باب الأمر ببيعة الخلفاء الأول فالأول من كتاب الإمارة . منه قدس سرة.

فقلت له : هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا ، والله يقول :«يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما»((1)).

قال : فسكت ساعة، ثمّ قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله(2).

أقول : نعمت الشهادة هذه في حق معاوية ، فأي عذر لهم يبقى بعد في موالاته والأخذ عنه في صحاحهم؟ !

وأما ما أجاب به الخصم عن عائشة ، وطلحة والزبير، من أنّهم خرجوا على عليّ بشبهة أن في عسكره قتلة عثمان ، فباطل ؛ لوجوه :

الأول : إنّهم إنما خرجوا على أمير المؤمنين علیه السلام قبل أن يكون له عسكر ، وإنّما اتخذ العسكر لخروجهم عليه ، فأين القتلة الذين في عسكره حتى خرجوا عليه لأجلهم ؟!

ولو سلّم فالمراد بقتلة عثمان إما من باشر قتله ، أو الأعم منهم وممّن أعان عليه.

فإن أريد الأوّل ، لم يجز الخروج على أمير المؤمنين علیه السلام لأجلهم إبتداء ، بل لا بُدّ أوّلاً من إحضار ولي الدم ، أو نيابتهم عنه ، ثمّ محاكمة قاتليه إلى أمير المؤمنين علیه السلام، فإن ثبت قتلهم له وأنّه بغير حق طلبوا من أمير المؤمنين علیه السلام أن يقتص منهم، فإن فعل، فقد كفى الله المؤمنين

ع القتال ، وإن أبى ، كان لهم عذر في الخروج عليه ، ونحن ما عرفنا أن عائشة

ص: 461


1- النساء 4 : 29.
2- صحيح مسلم 18/6

وصاحبيها فعلوا ذلك.

وإن أريد الثاني ، فهم أظهر من أعان على عثمان ، لا سيما عائشة وطلحة ، كما سبق وستعرف.

فاللازم عليهم أن يقودوا أولياء عثمان بأنفسهم قبل حرب أمير المؤمنين ، ولا ينتظروا أن يتربص مروان بهم الفرص ، ويقتل طلحة عند الهزيمة .

الثاني : إنّه لا وجه لجواز القاح الفتنة، وشقّ عصا المسلمين ، والخروج على إمام الزمان وإيقاعه في محلّ الهلكة ، وتعريضه للقتل ؛ لأجل الطلب بدم إمام آخر من شخص أو أشخاص في عسكره لعل له عذراً في إيوائهم .

الثالث : إنّ الذين باشروا قتل عثمان لم يكونوا بالبصرة ، فاللازم عليهم أن يطلبوهم بمصر أو الكوفة ، لا أنّهم يخرجون إلى البصرة من دون أن تكون ممهدة لهم ، ويلقحوا الفتنة فيها ، ويخلعوا أمير المؤمنين علیه السلام، ويقتلوا جمعاً كثيراً من المسلمين الأبرياء، وينتهبوا بيت المال، ويفعلوا الأفعال الشنيعة ، ويكون ذلك كله بشبهة أن في عسكر أمير المؤمنين قتلة عثمان ، سبحانك اللهم ! هذا بهتان عظيم .

الرابع : الأخبار المتعلقة ببيعة الناس لأمير المؤمنين ، وبيعة طلحة والزبير له ، وسبب خروجهما وعائشة عليه ، وسيرتهم أيام الخروج عليه إلى انتهاء الحرب .

فإنّها كاشفة عن أن خروجهم للدنيا والرئاسة والعداوة ، لا للطلب بدم عثمان ، وبشبهة أنّهم في عسكر أمير المؤمنين علیه السلام.

ولنقتصر على القليل ، فإنّ الكثير لا يتحمله هذا الكتاب ، فنقول في

ص: 462

تاريخ ذلك.

روى الطبري في تأريخه ((1)) - وكلّ ماننقله عنه هنا من هذا الجزء -: أنّه لما قتل عثمان دخل أمير المؤمنين علیه السلام،منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ولا بُدّ للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ...

فقال : لا تفعلوا، فإنّي أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً .

فقالوا : لا والله، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك .

قال : ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً ، قال ابن عباس لقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، وأبى إلا المسجد ، فلمّا دخل ، دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ، ثم بايعه الناس»((2)).

وقال الحاكم في المستدرك »((3)):«أصح الروايات أنه امتنع عن البيعة إلى أن دفن عثمان ، ثمّ بويع على منبر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ظاهراً ، وكان أوّل من بايعه طلحة ، فقال : هذه بيعة تنكث»((4)) .

وروى الحاكم فيه ((5)) عن سفيان بن عيينة قال : «سألت عمرو بن دينار قلت : يا أبا محمد ! بايع طلحة والزبير علياً.

قال : أخبرني حسن بن محمد - ولم أر أحداً قط أعلم منه - أنهما صعدا فبايعاه وهو في علية ثم نزلا»((6))

ص: 463


1- ص : 152 من الجزء الخامس . منه قدس سرة.
2- تاريخ الطبري 696/2 حوادث سنة 35
3- ص : 114 ج 3 . منه قدس سرة.
4- المستدرك على الصحيحين 123/3 - 124 ذيل ح 4594.
5- ص : 373 ج 3 . منه قدس سرة.
6- المستدرك على الصحيحين 420/3 ح 5599 .

وروى ابن أبي الحديد ((1))« أنّه لما بويع كتب إلى معاوية يأمره بالبيعة له ، وأن يوفد إليه أشراف الشام.

فكتب معاوية إلى الزبير : «العبد الله الزبير أمير المؤمنين .

سلام عليك ، أما بعد ..

فإنّي قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله بعدك ، فأظهرا الطلب بدم

عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجد والتشمير.. ».

فلما وصل الكتاب إلى الزبير سُرّ به ، وأعلم به طلحة ، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي .

جاء الزبير وطلحة إلى عليّ ، فقالا : قد رأيت ماكنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان ، وقد ولاك الله الخلافة بعده ، فولّنا بعض أعمالك.

فقال لهما : ارضيا بقسم الله لكما حتى أرى رأيي ، واعلما أني لا أشرك في أمانتي ، إلا من أرضى بدينه وأمانته ، ومن عرفت دَخِيلَتَهُ .

فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس .

ثم ذكر أنّهما طلبا أن يولّيهما البصرة والكوفة فامتنع ، فاستأذناه العمرة ، فقال : ما العمرة تريدان ، وإنّما تريدان الغدرة ونكث البيعة.

فحلفا بالله ما الخلاف عليه ، ولا نكث البيعة يريدان .

قال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية ، فأعاداها بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق ، فأذن لهما ((2)).

ص: 464


1- ص: 77 مجلد 1 . منه قدس سرة.
2- شرح نهج البلاغة 231/1 - 232.

وقد ذكر ابن أبي الحديد في تتمة الكلام ما فيه نفع ، فراجع ((1)).

وروى الطبري عن ((2)) الزهري : أنّ الزبير وطلحة سألا أمير المؤمنين أن يؤمّرهما على الكوفة والبصرة ، فقال : تكونان عندي أتجمّل بكما ((3)) .

وروى الطبري ((4)) وابن الأثير في كامله ((5)) :« أنّ عائشة خرجت من مكة تريد المدينة فانتهت إلى سرف ((6)) ، فلقيها عبيد ابن أُمّ كلاب ، فقالت له : مهيم .

قال : قتل عثمان .

قالت : فصنعوا ماذا ؟

قال : اجتمعوا على عليّ .

فقالت : ليت هذه انطبقت على هذه ، إن تمّ الأمر لصاحبك رُدّوني . فانصرفت إلى مكة ، وهي تقول : قتل - والله - عثمان مظلوماً ، والله ، لأطلبن بدمه .

فقال لها : ولِمَ ؟ والله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .

قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقولي الأخير خيرٌ من قولي

ص: 465


1- شرح النهج 1 / 232 - 235
2- ص: 153 من الجزء السابق . منه قدس سرة.
3- تاريخ الطبري 697/2 حوادث سنة 35 .
4- ص : 172 من الجزء المذكور . منه قدس سرة.
5- ص : 102 : 102 ج 3 . منه قدس سرة.
6- سَرِف : بفتح أوله ، وكسر ثانيه ، وآخره فاء ، هو موضع علي ستة أميال من الله ع- مكة ، وقيل سبعة وتسعة واثني عشرة . تزوج به رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ميمونة بنت الحارث ، وهناك بنى بها وهناك توفيت .انظر : معجم البلدان 239/3 رقم 6378 (سرف)

الأوّل .

فقال لها ابن أُمّ كلاب :

فمنكِ البداة ومنكِ الغِيّر *** ومنكِ الرّياحُ ومنكِ المطر

وأنتِ أمرت بقتل الإمام *** وقلت لنا: إنّه قد كفر

فهبنا أطعناكِ في قتله *** وقاتله عندنا من أمر

إلى أبيات أُخر .

قالا - واللفظ للطبري - :

«فانصرفت إلى مكة ، فنزلت على باب المسجد ، فقصدت للحجر ، فسترت واجتمع إليها الناس، فقالت: أيها الناس ! إنّ عثمان قتل مظلوماً والله لأطلبن بدمه»((1)) .

وروی نحوه ابن قتيبة في كتاب«السياسة والإمامة»((2)).

وقال ابن أبي الحديد ((3)) كل من صنف في السير والأخبار ، روى أن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان ، حتّى إنّها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته .

قالوا : أوّل من سمّى عثمان نعثلاً عائشة ، والنعثل : الكثير شعر اللحية والجسد ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلاً ، قتل الله نعثلاً».

ثمّ نقل ابن أبي الحديد عن المدائني في كتاب «الجمل» قال : «لما

ص: 466


1- تاريخ الطبري 12/3 ، الكامل في التاريخ 100/3 حوادث سنة 36
2- ص : 48 ج 1 . منه قدس سرة، الإمامة والسياسة 71/1 و 72.
3- ص : 77 ج 2 . منه قدس سرة.

قتل عثمان كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها وهي بشراف ((1)) ، فلم تشك في أنّ طلحة هو صاحب الأمر .

وقالت : بعداً لنعثل وسحقاً ! إيه ذا الإصبع ! إيه أبا شبل ! إيه يا ابن عم ؛ لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع له ، حنّوا الإبل ودعدعوها ((2)).

قال : وكان طلحة حين قتل عثمان أخذ مفاتيح بيت المال ، وأخذ نجائب كانت لعثمان في داره ، ثمّ فسد أمره فدفعها»((3)).

ثم ذكر ابن أبي الحديد من نحو هذا كثيراً ، وأنها لما بلغها قتل عثمان قالت : أبعده الله ، حتى جاءها خبر البيعة لعلي ، قالت : لوددت أن السماء

ص: 467


1- شراف : بفتح أوله ، وآخره فاء ، وثانيه مخفف ، قيل : هي ماء بنجد له ذكر كثير في آثارالصحابة كابن مسعود وغيره .وقيل ، شراف بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من الإحساء التي لبني وهب ومن شراف إلى واقصة ميلان.انظر معجم البلدان 375/3 رقم 7043 ( شراف) .ولقد ورد اسم الموضع في كثير من كتب السير والتاريخ بأنّه (سرف) وليس ( شراف) ، ولعلّ الأخير تصحيف.انظر بهذا الخصوص : تاريخ الطبري 12/3 ، الكامل في التاريخ 100/3 ، معجم البلدان 239/3(سرف)، البداية والنهاية 136/3 و ج29/4 وص 184 وص 187 وص942 وج128/5 وج169/6 وج47/8،وقيل في تاريخ الخميس 251/2 :إن سرف موضع دفن فيه عبد الله بن عمر ، الجمل للشيخ المفيد سلسلة المفيد 162/12 و 429 .
2- حثو الإبل ودعدعوها :الحث : الأعجال في اتصال ، وقيل :الاستعجال ، انظر لسان العرب 46/3 مادة (حثث).الدعدعة : الزجر ، انظر لسان العرب 355/4 ، تاج العروس 114/11 مادة (دعع) .
3- شرح نهج البلاغة 215/6

انطبقت على الأرض ((1)).

وروى الطبري ((2)) « أنّ عائشة انصرفت راجعة إلى مكة، حتى إذا دخلتها أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي - وكان أمير عثمان عليها - فقال : ماردك يا أم المؤمنين ؟

قالت : ردني أن عثمان قتل مظلوماً ... فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام .

فكان أوّل من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي ، وذلك أوّل ما تكلمت بنو أُمية بالحجاز ورفعوا رؤوسهم، وقام معهم سعيد بن العاص،والوليد بن عقبة ، وسائر بني أمية .

وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة ، ويعلى بن أُميّة من اليمن ، وطلحة والزبير من المدينة ، واجتمع ملؤُهم بعد نظر طويل في أمرهم على البصرة .

ثم قال : «حتى استقام لهم الرأي على البصرة، وقالوا: يا أُمّ المؤمنين ! دعي المدينة، فإنّ من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها ، واشخصي معنا إلى البصرة ؛ فإنّا نأتي بلداً مضيّعاً، وسيحتجون علينا ببيعة علي بن أبي طالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة»((3)) .

وروی نحوه ابن الأثير في كامله ((4)).

وروى الطبري ((5)) عن الزهري : « أنّ الزبير وطلحة ظهرا بمكة بعد قتل

ص: 468


1- شرح نهج البلاغة 216/6 وفيه : لوددت أن هذه وقعت على هذه .
2- ص : 166 من الجزء المذكور . منه قدس سرة.
3- تاريخ الطبري 7/3 و 8 .
4- ص : 103ج منه قدس سرة.، الكامل في التاريخ 101/3
5- ص : 168 . منه قدس سرة. [9:3 حوادث سنة 36 ]

عثمان بأربعة أشهر، وابن عامر بها يجر الدنيا ، وقدم يعلى بن أُميّة معه بمال كثير ، فاجتمعوا في بيت عائشة ، فأداروا الرأي فقالوا : نسير إلى عليّ فنقاتله.

فقال بعضهم : ليس لكم طاقة بأهل المدينة ، ولكنا نسير حتى ندخل البصرة والكوفة .

فاجتمع رأيهم على أن يسيروا إلى البصرة وإلى الكوفة ، فأعطاهم ابن عامرمالاً كثيراً وإبلاً ، فخرجوا في سبعمئة رجل ...، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل ، فبلغ علياً مسيرهم، فأمر على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري ، وخرج فسار حتى نزل ذاقار ومعه جماعة من أهل المدينة»((1)).

ثمّ روى الطبري ((2)) وابن الأثير ((3)) ، « أنّه أذن مروان حين فصل من مكة ، ثمّ جاء حتى وقف عليهما فقال : فعلى أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة ؟

فقال عبد الله بن الزبير : على أبي عبدالله.

وقال محمد بن طلحة على أبي محمد .

فأرسلت عائشة إلى مروان ، فقالت : مالك ؟ أتريد أن تفرّق أمرنا ؟ ليصل ابن أُختي... ،

فكان معاذ بن عبيد يقول : والله لو ظفرنا لاقتتلنا ، ما خلى الزبير بين

ص: 469


1- تاريخ الطبري 9/3
2- ص : 169 : 169 . منه قدس سرة. [ 3 : 10 حوادث سنة 36 ]
3- ص : 103ج3 منه قدس سرة. [3: 209 حوادث سنة 36 ]

طلحة والأمر ، ولا خلّى طلحة بين الزبير والأمر»((1)).

وروى ابن الأثير والطبري أيضاً : « أنّهم لما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها، فقال: أين تذهبون وتتركون تأركم على أعجاز الإبل وراءكم ؟

قال ابن الأثير - يعني عائشة وطلحة والزبير : عائشة وطلحة والزبير - : اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم .

فقالوا : نسير ، فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً .

فخلا سعيد بطلحة والزبير ، فقال : إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر ؟أصدقاني .

قالا : لأحدنا أينا اختاره الناس.

قال : بل اجعلوه لولد عثمان ، فإنّكم خرجتم تطلبون بدمه.

فقالا : ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم»((2)).

وروى في كنز العمال في كتاب الفتن ((3)) عن ابن أبي شيبة ونعيم بن حماد عن عائشة :«أنّ النبي صلی الله علیه واله وسلم قال لأزواجه : أيتكُن التي تنبحها كلاب الحوأب؟

فلما مرّت عائشة ببعض مياه بني عامر ليلاً ، نبحت الكلاب عليها ، فسألت عنه ، فقيل لها، هذا ماء الحوأب ، فوقفت وقالت ما أظنّني إلا راجعة ، إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم قال ذات يوم : كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب .

ص: 470


1- تاريخ الطبري 10/3 ، الكامل في التاريخ 102/3 حوادث سنة 36 ه-.
2- الكامل في التاريخ 3/ 102 - 103 ، تاريخ الطبري 9/3 حوادث سنة 36
3- ص : 84 ج 6 . منه قدس سرة.

قيل لها : يا أُمّ المؤمنين ! إنما تصلحين بين الناس»((1))

وروى الحاكم نحوه في مناقب عليّ علیه السلام ((2)).

ليت شعري، أي فتنة بالبصرة مضت تصلحها ؟! وهل الخلاف والفتنة إلا منها ؟ !

وهل بعد تحذير النبي صلی الله علیه واله وسلم محل للإصلاح ؟ !

وأصرح منه في التحذير - مع تعلقه بخصوص عائشة ونهيها - مارواه في «المستدرك» قبل الحديث المذكور بقليل ، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها ، قالت : « ذكر النبي صلی الله علیه واله وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين ، فضحكت عائشة ، فقال : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت»((3))!

وما رواه في الكنز - أيضاً - عن نعيم بن حماد في الفتن وصححه عن طاووس : «أنّ رسول الله صلی الله علیه واله وسلم قال لنسائه : أيتكنّ تنبحها كلاب كذا وكذا ؟ إيّاك يا حميراء »((4))!.

ولو لا صراحة كلام النبي صلی الله علیه واله وسلم في التحذير والنهي لما أرادت عائشة الرجوع ، كما سمعت.

وروى الطبري - أيضاً ((5)) - وابن الأثير ((6)) قصة نباح كلاب الحوأب على عائشة ، وأنّها لما عرفت الموضع صرخت بأعلى صوتها ، وقالت : أنا

ص: 471


1- كنز العمال 11/ 334 ح 31668 ، وراجع : مصنف ابن أبي شيبة 708/8 ح 15 و ص 711 ح 29 ، الفتن - لنعيم بن حماد - : 45 .
2- المستدرك على الصحيحين 129/3-130ح4613.
3- المستدرك على الصحيحين 129/3ح14610.
4- كنز العمال 11 / 334 ح 31671 ، وأنظر : كتاب الفتن - لنعيم بن حماد - : 45 .
5- ص : 171 . منه قدس سرة. [11:3 حوادث سنة 36 ]
6- ص : 104 . منه قدس سرة. [ 3 : 210 حوادث سنة 36 ]

والله صاحبة كلاب الحوأب ، فأناخت وأناخوا يوماً وليلة ، فجاءها ابن الزبير فقال : النَّجا النجا ، قد أدرككم عليُّ بن أبي طالب فارتحلوا ((1)).

فما أدري مع اليوم غرور لتابعيها ؟ وهل في يومنا محلّ لدعوى ثبوت الشبهة لها بقول هذه الأحوال ، واتضاح الحال ، هل يكون في ذلك مواليها ؟

ولنعد إلى ما نحن فيه من التاريخ، روى الطبري وابن الأثير ما ملخصه:

أنّ عائشة ومن معها لما كانوا بفناء البصرة ، أرسلت عبد الله بن عامر إلى البصرة ، وكتبت إلى رجال من أهلها، فبلغ ذلك عثمان بن حنيف عامل علیه السلام، عليها ، فأمر عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي بالانصراف إلى عائشة ليعلما علمها وعلم من معها ، فعاد أبو الأسود فقال :

یا ابن حُنَيْفٍ قَدْ أُتيتَ فالفر *** وطاعن القوم وجالد واصْبِرِ

وابْرُزس لَهُمْ مُستلئماً وشَمِّرِ

فقال عثمان : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة.

وأقبلت عائشة بمن معها حتى انتهوا إلى المزيد ((2))، فلقيهم عثمان

ص: 472


1- تاريخ الطبري 11/3 ، الكامل في التاريخ 103/3 حوادث سنة 36 ، مقاطع منها.
2- المربد : بالكسر ثم السكون ، وفتح الباء الموحده ، والدال المهملة.كلّ شيء حبست فيه الابل ، وبه سمي مريد البصرة أشهر محالها ، وكان سوقاً للابل قديماً ، ثم صار محلّة عظيمة سكنها الناس ، وبه كانت مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء ، وهو الآن بائن عن البصرة بينهما ثلاثة أميال ، وكان ما بين كله عامراً ، وهو الآن خراب ، فصار المربد كالبلدة المفردة في وسط البرية.انظر : معجم البلدان 5/ 115 ، لسان العرب 106/5 مادة «ربد »

هناك ، فافترق الناس فرقتين ؛ فرقة له ؛ وفرقة لعائشة ، فتحاتوا وتحاصبوا وأرهجوا ((1)).

ثمّ قال الطبري ، وابن الأثير ما لفظه : « وأقبل جارية بن قدامة ، فقال : يا أم المؤمنين ! والله ، لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضةً للسلاح ، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة ، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، إنّه من رأى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس»((2)) .

ثمّ قال الطبري : « وأقبل غلام من جهينة على محمّد طلحة - وكان محمد رجلاً عابداً ، فقال : أخبرني عن قتلة عثمان ؟

فقال نعم ، دم عثمان ثلاثة أثلاث : ثلث على صاحبة الهودج - يعني عائشة - وثلث على صاحب الجمل الأحمر - يعني طلحة - وثلث على عليّ ابن أبي طالب .

فضحك الغلام وقال : لا أراني على ضلال ، ولحق بعلي غلیه السلام، وقال في ذلك شعراً :

سألت ابن طلحة عن هالك *** بجوف المدينة لم يقبر

فقال : ثلاثة رهط هم *** أماتوا ابن عفان فاستعبر

فثلثٌ على تلك في خدرها *** وثلث على راكب الأحمر

وثلث على ابن أبي طالب *** ونحن بدوية قرقر

ص: 473


1- تاريخ الطبري 15/3 ، الكامل في التاريخ 105/3 ، حوادث سنة 36 .
2- تاريخ الطبري 16/3 ، الكامل في التاريخ 106/3 حوادث سنة 36.

فقلت صدقت على الأولين *** وأخطأت في الثالث الأزهر(1)

وروى الحاكم ((2)) عن إسرائيل بن موسى ، قال : سمعت الحسن يقول : جاء الزبير وطلحة إلى البصرة ، فقال لهم الناس : ما جاء بكم ؟

قالوا : نطلب بدم عثمان .

قال الحسن : يا سبحان الله ! فما كان للقوم عقول فيقولون : والله ، ما قتل عثمان غيركم ...»((3)).

وروى الطبري ((4)) عن الزهري : أنّه لمّا بلغ طلحة والزبير منزل عليّ : بذي قار، انصرفوا إلى البصرة، فأخذوا على المنكدر ... إلى أن قال : فقدموا البصرة وعليها عثمان بن حنيف ، فقال لهم : ما نقمتم على صاحبكم ؟

فقالوا : لم نره أولى بها منا ، وقد صنع ما صنع .

قال : فإن الرجل أمرني ، فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم له، على أن أصلي بالناس حتى يأتينا كتابه ، فوقفوا عليه وكتب ، فلم يلبثوا إلا يومين حتى وثبوا عليه فقاتلوه ... فظهروا ، وأخذوا عثمان فأرادوا قتله ، ثمّ خشوا غضب الأنصار ، فنالوه في شعره وجسده .

فقام طلحة والزبير خطيبين، فقالا يا أهل البصرة ! توبة بحوبة ((5)) ،إنّما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان ، ولم نرد قتله ، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه .

ص: 474


1- تاريخ الطبري 16/3
2- ص : 118 ج 3 .منة قدس سرة.
3- المستدرك على الصحيحين 128/3 ح4606.
4- ص : 178 . منه قدس سرة. [3: 18 حوادث سنة 36 ]
5- الحَوْبُ ، والحُوبُ ، والحابُ : الإثم ، انظر لسان العرب 376/3 مادة (حوب) .

فقال الناس لطلحة : قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا ((1)) ثم ذكر قيام رجل ، قال ما حاصله : إنّ المهاجرين أوّل من أجاب رسول الله صلی الله علیه و اله وسلم، فلمّا توفّي بايعوا رجلاً منهم من غير مشورة منا فرضينا وسلّمنا ، ثمّ مات واستخلف رجلاً منكم ، فلم تشاورونا فرضينا وسلّمنا ، فلما توفي جعل الأمر إلى سنّة ، فاخترتم عثمان وبايعتموه من غير مشورة منا ، ثمّ أنكرتم منه شيئاً فقتلتموه من غير مشورة منا ((2)).

ثمّ قال مالفظه : ثم بايعتم عليّاً عن غير مشورة منا ، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحق ، أو عمل شيئاً تنكرونه ، فنكون معكم عليه ، وإلا فما هذا ؟ فهموا بقتل ذلك الرجل ، فقام من دونه عشيرته ، فلمّا كان من الغد وثبوا عليه وعلى من كان معه فقتلوا سبعين ((3)).

ومثله في كامل ابن الأثير ((4)).

وروى الطبري ((5)) وابن الأثير ((6)) واللفظ للثاني ، قال : وبلغ حكيم بن جبلة ما صُنع بعثمان بن حنيف ؟ فقال : لست أخاف الله إن لم أنصره ،فجاء في جماعة .... فقال له عبد الله بن الزبير : مالك يا حكيم ؟

قال : نريد ... أن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي علیه السلام ، وأيم الله ، لو أجد أعواناً ما رضيت بهذه منكم حتّى أقتلكم بمن قتلتم ، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم ،

ص: 475


1- تاريخ الطبري 18/3 حوادث سنة 36.
2- تاريخ الطبري 18/3 حوادث سنة 36.
3- تاريخ الطبري 18/3 حوادث سنة 36
4- ص : 107 ج 3 . منه قدس سرة، الكامل في التاريخ 109/3 و 110.
5- ص : 182 . منه قدس سرة. [ 3: 21 حوادث سنة 36]
6- ص : 108 . منه قدس سرة. [3: 217 حوادث سنة 36 ]

أما تخافون الله ؟! بم تستحلون الدم الحرام ؟

قال : بدم

عثمان .

قال : فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان ، أما تخافون مقت الله ؟

فقال له عبد الله : لا نُخلي سبيل عثمان حتى يخلع عليّاً .

فقال حكيم : اللهم ! إنّك حَكَم عَدْلٌ فاشهد . ! إِنَّكَ حکم عدل فاشهد.

وقال لأصحابه : لستُ لستُ في شك من قتال هؤلاء القوم ، فمن كان في شك فلينصرف، وتقدّم فقاتلهم»((1)).انتهى مع حذف بعض الزوائد ، كما في كثير من الأخبار السابقة.

ثمّ قال ابن الأثير : ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف ، فقال لهم : أما إن سهلاً بالمدينة ، فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله فقصد علياً»((2)) .

وروى الطبري ((3)) عن عوف قال : «جاء رجل إلى طلحة والزبير وهما في المسجد بالبصرة ، فقال : نشدتكما الله في مسيركما ، أعهد إليكما فيه رسول الله شيئاً ؟

فقام طلحة ولم يجبه ، فناشد الزبير ، فقال : لا ! ولكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها»((4)).

ونقل ابن أبي الحديد نحوه ((5)) عن قاضي القضاة في كتاب

ص: 476


1- الكامل في التاريخ 110/3 حوادث سنة 36
2- الكامل في التاريخ 110/3 حوادث سنة 36.
3- ص: 183 . منه قدس سرة. [ 3 : 21 - 22 حوادث سنة 36 ]
4- تاريخ الطبري 21/3 - 22 حوادث سنة 36
5- ص : 499 مجلد 2 . منه قدس سرة.

«المغني»(1)وعن أبي مخنف (2)، إلا أن أبا مخنف ذكر هذا القول لطلحة والزبير معاً(3).

وروى الطبري وابن الأثير بعد ما سبق: «أنّه لمّا بايع أهل البصرة الزبير وطلحة ؛ قال الزبير : ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي أقتله قبل أن يصل إلينا ؟ فلم يجبه أحد

فقال : إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدّث عنها، فقال له :مولاه :أتُسميها فتنة وتقاتل فيها ؟

قال : ويحك ! إنا نبصر ولا نبصر ما كان أمر قط إلا علمتُ موضع قدمي فيه غير هذا الأمر ، فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر ؟ ((4)).

ثمّ روى الطبري : « أنّه لما قدمت عائشة كتبت إلى زيد بن صوحان :«من عائشة بنت أبي بكر ، أم المؤمنين ، حبيبة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم إلى ابنها الخالص زید بن صوحان.

أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم ، فانصرنا على أمرنا هذا، فإن لم تفعل ، فخذل الناس عن عليّ».

فكتب إليها : «أما بعد ، فأنا ابنكِ الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ورجعت إلى بيتك ، وإلا فأنا أوّل من نابذك» .

قال زيد بن صوحان رحم الله أمّ المؤمنين ، أمرت أن تلزم بيتها ،

ص: 477


1- شرح نهج البلاغة 317/9 و 318 ، وانظر : المغني - للقاضي عبد الجبار 20 ق89/2.
2- هو : لوط بن يحيى الأزدي ، أبو مخنف
3- شرح نهج البلاغة 316/9
4- تاريخ الطبري 22/3 حوادث سنة 36 ، الكامل في التارخ 112/3 حوادث سنة36.

وأُمرنا أن نقاتل ، فتركت ما أُمرت به وأمرتنا به ، وصنعت ما أُمرنا به ، ونهتنا عنه »((1)).

وروى الطبري ((2)) عن قتادة قال : نزل علي الزاوية ((3)) ، وأقام أياماً»، ... إلى أن قال : «فأقاموا ثلاثة أيّام لم يكن بينهم قتال ، يرسل إليهم عليّ ،ويكلمهم ويردعهم(4).

قال ((5)) سار علي من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة ، وساروا من الفرضة ((6)) يريدون عليّاً ، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 ، يوم الخميس .

فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه السلاح، فقيل لعليّ : هذا الزبير ! أما إنّه أحرى الرجلين إن ذكر بالله أن يذكر، وخرج طلحة ، فخرج إليهما علي علیه السلام فدنا منهما حتى اختلف أعناق دوابهم . فقال على علیه السلام: لعمري ، لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتها عند الله عذراً ، فاتقيا الله سبحانه ، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي، وأحرّم دماءكما ، فهل من حدث أحل لكما دمي .

ص: 478


1- تاريخ الطبري 22/3 .
2- ص: 199 . منه قدس سرة. [3: 36 حوادث سنة 36 ]
3- الزاوية : موضع قرب البصرة ، وقيل : قرية على شاطيء دجلة بين واسط والبصرة ، معجم البلدان 36/3 .
4- تاريخ الطبري 36/3 .
5- أي : قتادة
6- الفرضة : المشرعة ، والأصل في الفرضه الظُّلمة من النهر.انظر : معجم البلدان 276/4 مادة(فراض) ، لسان العرب 223/10 مادة (فرض) .

قال طلحة : ألبت الناس على عثمان .

قال علي :«يومئذٍ يُوفّيهم الله دينهم الحقِّ ويعلمون أنّ الله هو الحق المبين»((1)).

يا طلحة ! تطلب بدم عثمان ، فلعن الله قتلة عثمان .

يا زبير : أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في بني غنم ، فنظر إلى فضحك وضحكت له ، فقلت ، لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: «صه ، إنّه ليس به زهو ، ولتقاتلته وأنت له ظالم» فقال : اللهم ! نعم ، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا والله لا أقاتلك أبداً .

فانصرف علي علیه السلام إلى أصحابه ، فقال : أما الزبير فقد أعطى الله عهداً ألا يقاتلكم .

ورجع الزبير إلى عائشة ، فقال لها : ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا .

قالت : فما تريد أن تصنع ؟

قال : أريد أن أدعهم وأذهب .

فقال له ابنه عبد الله : جمعت بين هذين الغارين ((2)) ، حتى إذا حدّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب ، أحسست رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد.

قال : إني حلفت أن لا أقاتله، وأحفظه ما قال له ، فقال : كفّر عن يمينك وقاتله ، فدعا بغلام له يقال له : مكحول فأعتقه ، فقال عبد الرحمن

ص: 479


1- سورة النور 24 : 25.
2- الغاران : تثنيةُ الغارِ ؛ وهو الجيش الكثيرتاج العرو : 326/7 ، مادة (غَوَرَ 9 .

ابن سليمان التميمي :

لم أرَ كاليوم أخا إخوان *** أعجب من مكفّر الأيمان

بالعتق في معصية الرحمن ((1))

وروى ابن الأثير نحوه ((2)) ، ولم يذكر المصراع الأخير، ولعله لما إظهار فضيحة الزبير ((3)).

وروى الطبري ((4)) عن الزهري ، قال : لما تواقفوا خرج عليّ على فرسه فدعا الزبير فتواقفا ، فقال عليّ للزبير : ما جاء بك ؟

قال : أنت ، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ، ولا أولى به منا.

فقال عليّ : لستُ له أهلاً بعد عثمان ؟ ! قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك السوء ففرق بيننا وبينك ، وعظم عليه أشياء ، فذكرأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم مر عليهما فقال لعلي : ما يقول ابن عمتك ؟ ليقاتلنك وهو لك ظالم .

فانصرف عنه الزبير ، وقال : إنّي لا أقاتلك ، ثم ذكر قصته مع ابنه عبد الله وتكفيره عن يمينه

ثمّ قال : وكان علي قال للزبير : أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته ؟! سلّط الله على أشدّنا عليه اليوم ما يكره .

وقال عليّ : يا طلحة ! جئت بعرس رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت ...!

ص: 480


1- تاريخ الطبري 36/3 - 37 حوادث سنة 36 .
2- ص 120 ج3، منه قدس سرة.
3- تاريخ ابن الأثير 128/3 .
4- ص : 204 . منه قدس سرة. [ 41:3 حوادث سنة 36 ]

ثم قال : فقال عليّ لأصحابه : أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه ، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى ، وإن قطعت أخذه بأسنانه ؟

قال فتى شاب : أنا ، فطاف على على أصحابه يعرض ذلك عليهم فلم يقبله إلا ذلك الفتى .

فقال له عليّ : أعرض عليهم هذا ، وقل : هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره ، والله في دمائنا ودمائكم .

فحمل الفتى وفي يده المصحف ، فقطعت يداه ، فأخذه بأسنانه حتى قتل.

فقال عليّ : قد طاب لكم الضّراب فقاتلوهم(1).

وروى الطبري - أيضاً ((2)) - نحوه بطريق آخر ، وابن الأثير ((3)) ، وزاد -فيه أن أُمّ الفتى قالت :

نهم(4) إن مسلماً دعاهم *** يتلو كتاب الله لا يخشاهم

وأُمّهم قائمة تراهم *** يأتمرون الغي لا تنهاهم

قد خَضِتْ مِنْ عَلَقٍ لِحَاهُمُ

وفي رواية ابن الأثير للمصراع الرابع : «تأمرهم بالقتل لا تنهاهم»((5)).

وروى الحاكم في «المستدرك»((6)):«أنّه لمّا كان يوم الجمل نادى عليّ في الناس : لا ترموا أحداً بسهم، ولا تطعنوا برمح، ولا تضربوا

ص: 481


1- تاريخ الطبري 41/3 حوادث سنة 36 .
2- ص : 205 . منه قدس سرة. [42:3 حوادث سنة 36 ]
3- ص : 132 ج 3 . منه قدس سرة. [3: 262 حوادث سنة 36 ]
4- مخففة من اللهم . منه قدس سرة.
5- تاريخ الطبري 42/3 ، الكامل في التاريخ 147/3 حوادث سنة 36 .
6- ص : 371 ج 3 . منه قدس سرة.

بسيف ، ولا تطلبوا القوم، فإنّ هذا مقامٌ مَنْ أفلح فيه فلح يوم القيامة ، تواقفنا ... إلى أن قال : «ثمّ إنّ الزبير قال الأساورة ((1)) كانوا معه : ارموهم برشق ، وكأنّه أراد أن ينشب القتال .

فلما نظر أصحابه إلى الأنتشاب، لم ينتظروا وحملوا ، فهزمهم الله ، ورمى مروان طلحة بسه فشك ساقه بجنب فرسه ... ، فالتفت مروان إلى أبان بن عثمان - وهو معه - فقال : لقد كفيتك أحد قتلة أبيك»((2)).

وهذا الحديث كغيره يكذب ما جاء في بعض أخبارهم : أن الذين حرّشوا الحرب هم قتلة عثمان ، خوفاً من وقوع الصلح بين الفريقين فيقتلونهم .

وكيف يخافون القتل ، وعائشة وطلحة والزبير أعظم منهم حرباً ؟ !

وإذا فرض توبة هؤلاء الثلاثة عن جناية قتل عثمان ، فالباقون يمكنهم إظهار التوبة اقتداءً بالثلاثة .

وروى الطبري ((3)) قال : «لما انهزم الناس في صدر النهار، نادى الزبير : أنا الزبير .. هلموا إلي أيها الناس ! ومعه مولى له ينادي : أعن حواري رسول الله صلی الله علیه واله و سلم تنهزمون ؟! وانصرف الزبير نحو وادي السباع .

قال : ومرّ القعقاع في نفر بطلحة ، وهو يقول : إلي عباد الله ! الصبر الصَّبْرَ.

فقال له : يا أبا محمد ! إنك لجريح ، وإنّك عما تريد لعليل ، فادخل

ص: 482


1- الأساورة : الأسوار ؛ وهو الرامي الحاذق من رماة الفرس في الأصل قلما يخطئ ؛ معرب ، ويجمع على أساور ايضاً ؛ وقال أبو عبيد : أساورة الفرس : فرسانهم المقاتلون . تاج العروس 554/6 مادة «سَوَرَ»
2- المستدرك على الصحيحين 418/3 - 419 ح 5593 .
3- ص : 206 . منه قدس سرة. [3: 43 حوادث سنة 36 ]

الأبيات .

فقال : یا غلام ! أدخلني وابغني مكاناً.

فأدخل البصرة ، ومعه غلام ،ورجلان ، فاقتتل الناس بعده ،فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة، فلما رأوا الجمل أطافت به مضرُ ، عادوا قلباً كما كانوا ... وعادوا إلى أمر جديد»((1)).

وروى الطبري - أيضاً - قبل هذا عن السَّرِي ، قال ما ملخصه : «أقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة ، فقال : أدركي فقد أبى القوم إلا القتال فركبت ، وألبوا هودجها الأدراع ، ثم بعثوا جملها .... فلما برزت من البيوت .... فوالله ما فجأها إلا الهزيمة ، فمضى الزبير من سننه في وجهه ، فسلك وادي السباع ، وجاء طلحة سهم غرب يخلّ ركبته بصفحة الفرس . فلما امتلأ موزجه ((2)) دماً ثقل وقال لغلامه : أردفني وامسكني وابغني مكاناً أنزل فيه ، فدخل البصرة وهو يتمثل مَثَلَهُ ومَثَل الزبير :

فإن تكن الحوادث أقصدتني *** وأخطأهن سهمي حين أرمي

فقد ضيعت حين تبعت سهماً *** سفاهاً ما سفهت وضل حلمي

ندمت ندامة الكسعي لما *** شریت رضا بني سهم برغمي

أطعتهم بفرقة آل لأي *** فألقوا للسباع دمي ولحمي(3)

ونحوه في كامل ابن الأثير ((4)).

ولنكتفِ بهذا القدر فإنّ الكثير لا يحتمله الكتاب ، وهو كما تراه

ص: 483


1- تاريخ الطبري 43/3 حوادث سنة 36
2- الموزج : الخف ، انظر : لسان العرب 92/13 مادة (مزج).
3- تاريخ الطبري 40/3 حوادث سنة 36.
4- الكامل في التاريخ 131/3 حوادث سنة 36.

صريح في أنّهم إنّما أقدموا خلافاً لأمير المؤمنين ، وطلباً للإمرة والمال ، حتى ماتوا على الخلاف وعدم التوبة .

وقد أظهروا الطلب بدم هم أراقوه، وسيلة لأغراضهم الردية، ولا شبهة لهم من أوّل الأمر إلى آخره بأمر يمكن أن يكون لهم عذراً .

ولينظر المنصف أنّه لو كان الناس بايعوا في أوّل الحال طلحة أو الزبير، أكانت عائشة تخرج طالبة بدم عثمان ؟

ولو أنّ الزبير وطلحة بلغا زينة الدنيا من أمير المؤمنين علیه السلام، أكانا ينكثان البيعة ويتجشمان هذه المهالك ؟

وهذا غير خفي على من عذرهم، ولكن التعصب داء لا دواء له .

ولنعد إلى المناقشة مع الفضل في كلماته...

فأما ما نسبه إلى المصنف رحمه الله من الاعتراف بأنّ أمير المؤمنين علیه السلام قتل عثمان ، فقد سبق ما فيه ؛ لأن المصنّف إنّما نقل أن أمير المؤمنين علیه السلام قال : إن الله قتله وأنا معه ، وفسّره بأنّ الله تعالى حكم بقتله ، وأنا أحكم بما حكم به، وهذا لا دخل له بالاعتراف المدعى .

وأما ما ذكره من اختصاص النهي بالخروج مع التبرج.

ففيه : إن مراد المصنّف هو الاستدلال بقوله تعالى : الاستدلال بقوله تعالى :«وَقَرْنَ في بيوتكنّ»((1)) الدال على وجوب القرار عليهن في بيوتهن ، على خلاف ما فعلته عائشة ، لا بقوله تعالى :«ولا تبرجن تبرج الجاهليّة الأولى» (2)على أن معنى التبرّج هو إظهار الزينة ، كما في القاموس ((3)) لا الخروج

ص: 484


1- سورة الأحزاب 33 : 33.
2- سورة الأحزاب 33 : 33 .
3- القاموس المحيط 1 / 185 مادة (البرج ) .

بالزينة .

وقد فهمت من الآية وجوب القرار عليها في بيتها، وحرّمة هذا المسير عليها شريكتها في خطاب الآية أُم سلمة سلام الله عليها.

فقد روى الحاكم في المستدرك في مناقب علي علیه السلام وصححه مع الذهبي على شرط البخاري ومسلم عن عمرة بنت عبد الرحمن ، قالت :

«لما سار علي علیه السلام إلى البصرة ، دخل على أم سلمة يودعها.

فقالت : سر في حفظ الله وفي كنفه ، فوالله إنّك لعلى الحق والحق معك ، ولو لا أنّي أكره أن أعصي الله ورسوله، فإنّه أمرنا أن نقرّ في بيوتنا لسرت معك ، ولكن - والله - لأرسلن معك من هو أفضل عندي ، وأعزّ عليّ من نفسي ، ابني عمر»((1)).

وقد أقرها أمير المؤمنين علیه السلام على مافهمت ، فأي عبرة بكلام الخصم وأشباهه ؟!

وقد فهم ذلك أيضاً زيد بن صوحان ، حيث قال - كما سبق - : أُمِرَت أن تلزم بيتها ، وأُمرنا أن نقاتل ، فتركت ما أُمِرَت به ... إلى آخره ((2)) .

فأما قول الخصم : ولو كان الله أمرهنّ بترك الخروج مطلقاً ، لكان يحرم عليهنّ الخروج للحج والجماعة ، وهذا باطل إجماعاً.

ففيه : إن الإجماع دليل مقيد للآية ، فيُتبَعُ بمقداره ، ويبقى إطلاق الآية محكماً في غيره ، ولو حلّ لهنّ مثل هذا الخروج الشنيع في الأرض البعيدة بين الجماهير ، فأي خروج بعده يحرم ؟!

وأما ما زعمه من أنّها خرجت محتسبة ؛ لأنّ قتلة عثمان قتلوا الإمام

ص: 485


1- المستدرك على الصحيحين 129/3ح4611.
2- راجع الصفحة 463 من هذا الجزء

وهتكوا حرمة الإسلام، فطريف ، إذ لا جهاد على النساء ، مع أن خروجها على تلك الحال أعظم هتكاً لحرمة الإسلام وحرمة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم .

وهل هو إلا جرح على جرح ، وفساد فوق الفساد ، وسعي في قتل إمام آخر، وقتل ما لا يعد من النفوس البريئة ؟ !

ولو جاز الاحتساب في ذلك ، لجاز لكلّ أجنبي عن المقتول أن يقتل قاتله ، فلم يبق وجه لتخصيص وليّ الدم على أن الذين سعوا في قتل عثمان هم أكثر الصحابة ، وهم يعتقدون أنّ في قتله نصر الإسلام لا هتك حرمة الإسلام ، وهم أقرب إلى الصواب من الخصم .

وكيف تحتسب عائشة في قتلهم وقتل من أخذ بقولهم ، وقد كانت هي وطلحة والزبير أعظم الساعين في قتله ؟! ولئن زعمت توبتها فلعل غيرها قد تاب، ولا يشترط في التوبة الحرب .

وأما ما نسبه إليها من الاجتهاد في حرب أمير المؤمنين علیه السلام، فأطرف من سابقه ، إذ أيّ محل للاجتهاد في حربه بعد نباح كلاب الحوأب ، وإقرار الزبير بحديث رسول الله ، فضلاً عن أمر الله تعالى لها بالقرار في بيتها ؟!

وما أبعد بين ما يراه الخصم من احتسابها وأجرها واجتهادها ، وبين ما يراه أمير المؤمنين علیه السلام في حربه لهم !

روى الحاكم في المستدرك في مناقب علي علیه السلام((1)) عن طارق بن شهاب من حديث قال فيه أمير المؤمنين علیه السلام:«والله لقد ضربت هذا الأمر ،فما وجدت بُداً من قتال القوم ، أو الكفر بما أنزل على محمد صلی الله علیه واله وسلم»((2))

وليت شعري هل كان الخصم أعرف باحتسابها واجتهادها من

ص: 486


1- ص : 115 ج 3 . منه قدس سرة.
2- المستدرك على الصحيحين 124/3 - 125 ح 4597 .

عمار ، حيث حكم بأن طاعتها خلاف طاعة الله تعالى ؟ !

فقد روى البخاري على ثلثي كتاب الفتن : أنّ عمّاراً صعد المنبر ،فقال : إن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيَّاه تطيعون ، أم هي ((1)

ولكن يا للعجب ! قد زاد الراوي في كلام عمار شيئاً أثبت به المناقضة لعمار وضعف الرأي .

قال :« قال إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنّها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة ، ولكنّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم ...»((2)) إلى آخرما ذكرنا .

فإنّها إذا كانت طاعتها خلاف طاعة الله تعالى في هذا المقام العظيم ،كيف تنال تلك المنزلة الجليلة وتكون زوجة خير خلق الله في الجنّة ، ولا سيما بعد مانهاها وأعلمها بنباح كلاب الحوأب ؟ !

وكيف يتصوّر من عمار أنّه في مقام دعوة الناس إلى الخروج إلى حربها يقدّم هذه المقدمة المخذلة عن حربها ؟ !

وأما ما زعمه الخصم من أن قولها: «اقتلوا نعثلاً لم يصح في الصحاح» .

ففيه : إنّه لا يشترط في التاريخ أن يكون من رواية صحاحهم الستة ، وإلا لأسقطنا علم التاريخ إلا النادر .

وأقوى ما عندهم فى التاريخ كتابا الطبري وابن الأثير ، وهما قد ذكرا ذلك ، بل استفاض نقله عندهم((3)).

ص: 487


1- صحيح البخاري 100/9 ذيل ح48.
2- صحيح البخاري 100/9 ح 48.
3- راجع الصفحة 440من هذا الجزء .

وقوله :« وإن صح ، فنعثل لم يكن من أسماء عثمان ، وربّما أرادت شخصاً آخر».

خطأ ظاهر ، لأنّ إطلاقه عليه لا يتوقف على التسمية ، بل تكفي فيه المشابهة ، وهو من المشهورات، حتى قال في القاموس : «النعثل : الرجل الأحمق ، ويهودي كان بالمدينة ، ورجل لحياني كان يُشبه به عثمان إذا نيل منه»(1).

مضافاً إلى ما سبق في الأخبار من صراحة إرادتها لعثمان ، ولشهرة هذا الإطلاق عليه جاء في شعر حرب الجمل - كما رواه الطبري ((2)) - عن هانىء الخطابي قال :

أبت سيوف مذحج وهمدان *** بأن تردّ نعثلاً كما كان ((3))

وأمّا إنكاره لعداوتها لأمير المؤمنين علیه السلام فمن إنكار الضروريات ، وأية علامة للعدواة أكبر من عدولها عن السرور بقتل عثمان إلى دعوى الطلب بثأره ، بمجرّد أن عرفت بيعة الناس لأمير المؤمنين علیه السلام، وتمنت أن السماء انطبقت على الأرض ، ثمّ ساقت الجيوش، وألقحت الفتنة في بلاد الإسلام المطمئنة ؟ !

وما رواه عنها من أنّها قالت: «ما كان بيني وبينك إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ((4)) .

أشبه بالهزل ، فإنّه إذا كانت الحرب الضروس من نحو ما يقع بين

ص: 488


1- القاموس المحيط 60/4 مادة «نعثل ».
2- ص: 214 . منه قدس سرة.
3- تاريخ الطبري 50/3 .
4- راجع الصفحة 443 من هذا الجزء.

المرأة ،وأحمائها ولم تدلّ على العداوة ولا تسمّى بها ، فما العداوة وما الذي يقع بين الأعداء ؟ !

وأما قوله : «إنّ الناس كانوا يطلبون بدم عثمان فتابعوها ...» إلى آخره .

ففيه : إنّ الأمر لو كان كذلك ، فلم لم ينصروه حين أطالوا عليه الحصار حتى قتلوه ؟ .

وأين هم عن قتلة عثمان قبل دعوة عائشة ، وبعضهم بين أظهرهم وهم الأقلون فيهم ، بل عائشة والزبير وطلحة من أظهر مطلوبهم وأكبر ثأرهم؟!

وأما قوله : «إن دعوى الإرث والرفع إلى الحاكم لا تحتاج إلى جرّ العساكر» .

ففيه : إن المصنف رحمه الله لم يُرِدْ أنهم ما ساعدوها على الحرب ، بل أراد أنّهم ما ساعدوها بشيء أصلاً حتى بالقول، فما تبعها منهم أحد في ردّ أبي بكر ، مع وضوح حجتها، ولا تظلم لها بشر ، مع أنّها بضعة نبيهم ، ولم يخلف فيهم غيرها، وما ترفق بها إنسان ، فقال : يا أبا بكر ! .. هَبْ أنّ المال

تب للمسلمين ، فنحن نرعى حرمة نبينا، ونحفظ غيبته بإعطاء ماخلفه ، وكان يملكه لها.

على أنه لو أراد المصنف رحمه لله عدم المساعدة بالحرب، فهو في محله ، لأنّهم رأوا أبا بكر خالف حكم الكتاب العزيز، وبدل الشريعة الأحمدية جهراً، وانتزع ما تحت يدها قسراً ، وجعل نفسه حاكماً وهو الألد ، فآذاها وآذى الله ورسوله بإيذائها ، وبالضرورة : إن حكم من فعل ذلك هو العزل ولو بالحرب .

ص: 489

وبالجملة : إنّا رأينا المسلمين علموا أن عائشة أعظم المحرضين على عثمان ، ولما دعتهم باسم الطلب بثأره إلى حرب إمامهم وأخي نبيهم ومولاهم الذي أوجب عليهم التمسك به كالقرآن ، أطاعوها وحاربوه.

وعلم المسلمون أن أبا بكر عدا على بضعة نبيهم وسيدة النساء ،وقبض ما في يدها ، وطلب منها البينة ، على خلاف حكم الله تعالى .

ثمّ ردّ شهادة من شهد الله لهم بالطهارة ، وحكم عليها - وهو الخصم -وخالف صريح الكتاب في ميراث الأنبياء .

وقد كان الواجب عليه لو لم يكن الحق لها أن لا يمنعها ماطلبت ، حفظاً لنبيهم في بضعته ، وتفادياً عن إيذاء الله ورسوله بإيذائها ، ومع ذلك لم يساعدها المسلمون بكلمة ، وقد استغاثت بهم واستنصرتهم .

فهل ترى ذلك إلا لانقلابهم على أعقابهم ؟! وكما قال الشاعر :

ما المسلمون بأمةٍ لِمُحمّد *** كلا ولكن أُمّةٌ لعتيق

جاءتهم الزهراء تطلب إرثها *** فتقاعدوا عنها بكل طريقِ

وتواثبوا لقتال آل محمّد *** لما دعتهم ابنة الصديق

فقعودهم عن هذه وقيامهم *** مع هذه يغني عن يغني عن التحقيق ((1))

ص: 490


1- ذكر هذه الأبيات البياض في الصراط المستقيم 162/3.

قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :

ثمّ إنّها جعلت بيت رسول الله صلی الله علیه واله وسلم مقبرة لأبيها ولعمر، وهما أجنبيان عن النبي صلی الله علیه واله وسلم.

فإن كان هذا البيت ميراثاً ، كان من الواجب استئذان جميع الورثة.

وإن كان صدقة للمسلمين ، يجب استئذانهم .

وإن كان ملكاً لعائشة ، كذَّبهم ما تقدّم من أنها لم يكن لها بيت ولا مسكن ولا دار بالمدينة ((2)).

وقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن رسول الله صلی الله علیه واله وسلم قال : ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة ((3)).

وروى الطبري في تاريخه أن النبي صلی الله علیه واله وسلم قال : إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ((4)).

ص: 491


1- نهج الحقِّ : 369 .
2- راجع الصحفة 434 من هذا الجزء
3- الجمعب بين الصحيحين 478/1 ح799 وج 95/3 ح2284،وأنظر : صحيح البخاري 55/3 ح 460 ، صحیح مسلم 123/4.
4- تاريخ الطبري 228/2.

وقال الفضل ((1)) :

قد سبق أن البيت كان لعائشة بتمليك رسول الله صلی الله علیه واله وسلم إياها ((2)) ، وأما نسبة رسول الله صلی الله علیه واله وسلم البيت إلى نفسه الشريفة ، فلأن البيت له ، وهو مسكنه ،و مضجعه، وعائشة زوجته، ومن يفارق بين المرء والزوجة ؟ ! ولكلّ منهما نسبة البيت إلى نفسهما ، وليس بين المرء والزوجة في البيت والمسكن افتراق واستقلال ، ولكلّ منهما أن يقول : : بيتي .

وأما قولهم : إن عائشة لم يكن لها بيت ولا دار بالمدينة».

فالمراد غير هذه الدار التي ملكها رسول الله صلی الله علیه واله وسلم.

ثمّ نقول : لو لم يكن البيت لها ، لكان ينبغي أن ينتزع ((3)) عنها أمير المؤمنين في أيّام خلافته ، سيما بعد ما قابلته وغلب عليها، وإلا لكان مقصراً في حق بيت المال إن كان صدقة ، وفي حق أولاده إن كان ميراثاً ، ولكان ينبغي أن ينبش أبا بكر وعمر ، لأنّهما دفنا في الأرض المغصوبة .

ثم إن أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم قد تصرفوا في بيوتهن في حياتهن تصرف الملاك ، ثمّ بعدهنّ تصرّف الورثة فيها تصرّف الملك ، حتى اشتراها عمر ابن عبد العزيز أيام وليد بن عبد الملك ، وجعلها من المسجد ، ولو كان البيت الرسول الله صلی الله علیه واله وسلم، لكان عمر بن عبد العزيز يردّها إلى أولاد فاطمة ويشتري منهم ، كما زعموا أنّه عمل في فدك مثل هذا، وأمثال هذه

ص: 492


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 696 ( حجري ) .
2- راجع الصفحة 435 من هذا الجزء.
3- كذا في الأصل والظاهر « ينتزعه »

الاعتراضات من باب الهذيانات .

ص: 493

وأقول :

قد عرفت قريباً أن دعوى التمليك كاذبة، ولا أثر له في رواية أصلاً ((1)) ، وغاية ما استدلوا به قوله تعالى :«وقرن في بيوتكن»((2)).

وقد سبق أن الإضافة فيه ظاهرة فى الاختصاص من جهة السكني ، بخلاف إضافة البيت إلى النبي صلی الله علیه واله وسلم فإنها ظاهرة في الملك ، كما هو شأن الرجال والغالب ، فمجرد إضافة البيوت إليهنّ لا تستوجب الانتقال إليهن .

وأما قوله : المراد غير هذه الدار ، فتحكّم ، وإنما لم ينتزع أمير المؤمنين علیه السلام البيت من عائشة ، فلئلا يتخذه معاوية وأشباهه وسيلة للطعن عليه ، وخوفاً من زيادة الفتن، على أنّه لا يبعد أن عائشة لم تكن ساكنة البيت بعد دفنهما فلا محلّ لانتزاعه منها .

وأما ما رواه من اشتراء عمر بن عبد العزيز من ورثة أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم فمحل ريب عندي في صدقه ، لكثرة ما رأيته منه من الكذب ،كما كذب في المقام بدعوى التمليك.

ولو صح مارواه ، ففعل ابن عبد العزيز ليس حجّة علينا ، على أنّه إنّما ردّ فدك لثبوت النحلة عنده ، فلا يلزم ردّ البيوت من جهة الميراث ،لاحتمال أنه یری أن ما تركه النبي صلی الله علیه واله وسلم، صدقة ، فتنطبق على أزواج النبي صلی الله علیه واله وسلم وورثتهن .

ص: 494


1- راجع الصفحة 437 من هذا الجزء
2- سورة الأحزاب 33 : 33

قال المصنّف - ضاعف الله أجره - ((1)):

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن عائشة قالت ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلی الله علیه واله وسلم مثلما غرتُ على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي صلی الله علیه واله وسلم يكثر ذكرها ، وربّما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربّما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا أمرأة إلا خديجة !! فيقول : إنها كانت ، وكانت ، وكان لي منها ولد ((2)) .

قالت عائشة : وأمره ربّه أو جبرئيل أن يبشرها ببيت في الجنّة من قصب(3).(4)

وأجمع المسلمون على أن خديجة من أهل الجنة ، وعائشة قاتلت أمير المؤمنين ، بعد الإجماع على إمامته ، وقتل بسببها نحو من ستة عشر صحابي وغيره من المسلمين ((5)) ، وأفشت سر رسول الله، كما حكاه الله تعالى ((6)).

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين: أن عمر خليفة أبيها شد

ص: 495


1- نهج الحق : 369 .
2- الجمع بين الصحيحين 111/4 ح3223،وانظر : صحيح البخاري 121/5 ح306، وج 65/7 ح158،صحیح مسلم 133/7 و 134.
3- القصب : لؤلؤ مجوّف واسع ، كالقصر المنيف
4- الجمع بين الصحيحين 111/4 ح 3223 ، وأنظر : صحيح البخاري 121/5 ذيل ح 305 ، ج 253 ضمن ح 110 ، صحیح مسلم133/7.
5- انظر : عيون الأخبار - لابن قتيبة - 1 / 300 .
6- إشارة إلى قوله تعالى :«وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه ...»الآية 66 من سورة التحريم

عليها بذلك ((1)).

ونقل الغزالي سوء صحبتها لرسول الله صلی الله علیه واله وسلم ، فقال : إن أباها - أبا بكر - دخل يوماً على النبي ، وقد وقع منها في حق النبي صلی الله علیه واله وسلم أمر مكروه ، فكلّفه النبي صلی الله علیه واله وسلم أن يسمع ماجرى ويدخل بينهما ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :تتكلمين أو أتكلم ؟ فقالت : بل تكلم ولا تقل إلا حقاً ((2)).

فلينظر العاقل إلى هذا الجواب ، وهل كان عنده إلا الحق ؟ وينظر في الفرق بين خديجة وعائشة .

وقد أنكر الجاحظ من أهل السنّة في «كتاب الإنصاف» غاية الإنكار على من يساوي عائشة بخديجة ، أو يفضّلها عليها ((3)).

ص: 496


1- الجمع بين الصحيحين 1 / 106 ح 27 ، وأنظر : صحيح البخاري 266/3 - 270 ح41 وج 16 / 275 - 278 ح 406 - 408 ، صحيح مسلم 190/4 - 194.
2- إحياء علوم الدین 2/ 100 .
3- الطرائف - لابن طاووس - : 294 - : 294 عن الجاحظ في كتاب الانصاف

وقال الفضل ((1)) :

أما فضائل خديجة فهي كثيرة لا تحصى ، ووصفها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وقال : «إنّ لخديجة بيتاً من قصب ، لا فيها هم ولا نصب »((2)) .

ومساعيها في خدمة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كثيرة ، وهكذا لكل واحدة من أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم الفضيلة.

وليس لنا ولأمثالنا أن ندخل في الفرق بين أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وما كان لنا أن نتكلم في شأنهنّ بما يشبه طعناً أو قدحاً ، فإن هذا يرجع إلى عرض رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، والتعرض لحرمه ، وهتك سترهن بعد السنين المتطاولة ، وكلّ هذا فيه خطر الكفر نعوذ بالله من هذا .

وما ذكر من إفشاء سر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فهذا منسوب إلى حفصة بلا خلاف بين المفسّرين والمحدثين ، فإنّ الإجماع منهم على أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم دخل في بيت حفصة مارية القبطية ، فغارت حفصة فحرمها على

ص: 497


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 698 ( حجري )
2- صحيح البخاري 22/3 - 23 ح 18 ح 308 ، 33/7 ذيل الحديث صحیح مسلم 133/7 ، سنن الترمذي 5 / 659 ح 3876 ، سنن ابن ماجة 643/1 ح1997، سنن النسائي الكبرى 94/5 و 8360 و 8362 ، مسند أحمد 205/1 ، 231/2 ، 355/4، 356، 381، 58/6 ، مسند البزار 270/8 - 271 ح3332 و 3333، مسند أبي يعلى 41/4 ح2047، 477/10 ح6089، 170/12- 171ح6797، المعجم الكبير 23 / 8 - 10 ح 6 - 13 ، المعجم الأوسط 162/4 ح 3551 ، مسند الحميدي 314/2 ح 720 ، مصنف ابن أبي شيبة 7/ 529 - 530 ح 1 و 2 و 4 ، صحيح ابن حبّان 71/9 - 72 ح 6965 و 6966 ، 72 مستدرك الحاكم 204/3 ح 4848 - 4851 .

نفسه مراعاة لخاطر حفصة، واستكتمها السر فأفشته عند عائشة.

وأما ما ذكر من الغزالي أن عائشة قالت لرسول الله : تكلّم ولا تقل إلا حقاً.

فإنّ عائشة كانت من أعلم الناس بأنّ رسول الله لم يقل إلا حقاً ،ولكن هذا كلام يعرض للنساء عند مجادلة الرجل .

فتقوله من الغيرة ، ولم يذكر تتمة الحديث أنّها لما قالت هذا الكلام ضربها أبو بكر ، وقال : أتقولين لرسول الله هذا ؟! وهل يقول غير الحقِّ ؟!

فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: دَعْها ((1)) .

فعلم أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم كان يعلم أن هذا الكلام منها من فرط الغيرة ، ومن كلام مباحثات النساء مع الرجال، لا أنها ذكرته معتقدة أن رسول الله قد يقول غير الحق .

وأما التفضيل بين عائشة وخديجة ، فليس يتعلق بشيء من أمور الدين ، والله أعلم بحقيقته .

ص: 498


1- احياء علوم الدين 100/2 وليس فيه : فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم دعها.

وأقول :

روى البخاري الحديث الأول في باب تزويج النبي صلی الله علیه و اله و سلم خديجة ،أواخر الجزء الثاني(1).

وروى في هذا الباب أحاديث كثيرة في غَيْرة عائشة من خديجة ، منها : ما أخرجه عن عائشة قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك .

فقال : اللهم ! هالة

قالت : فغرتُ ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيراً منها »((2))؟ !

ومثله في صحيح مسلم في باب فضائل خديجة ((3)).

وروی أحمد فی مسنده ((4)) عن عائشة قالت : «كان النبي صلی الله علیه و اله و سلم إذا ذکر خديجة أثنى عليها أحسن الثناء ، فغرتُ يوماً ، فقلت : ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق ، قد أبدلك الله بها خيراً منها ؟

قال : ما أبدلني الله عزّ وجلّ خيراً منها ، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني إذ حرمني الناس ، ورزقني الله تعالى ولدها إذ حرمني أولاد الناس» ((5)).

ص: 499


1- صحيح البخاري 121/5 - 122 ح 306 .
2- صحيح البخاري 125/5 ضمن ح 308 .
3- صحيح مسلم 134/7 وفيه أختلاف في بعض الفاظه.
4- ص : 117 ج 6 . منه قدس سرة.
5- مسند أحمد 117/6 - 118.

وروى مسلم في الباب المذكور أحاديث كثيرة - أيضاً - في غيرة عائشة من خديجة.

ومنها : عن عائشة قالت : ما غرتُ على نساء النبي صلی الله علیه و اله و سلم إلا على خديجة ، وإنّي لم أدركها .

قالت : وكان رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إذا ذبح الشاة يقول : أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة .

قالت : فأغضبته يوماً ، فقلت : خديجة !

فقال : إنّي رُزقت حُبّها ((1)).

وهذه الأخبار ونحوها دلّت على مطاعن في عائشة.

منها : أنّها أغضبت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم ((2)).

ومنها : أنّها ذمّت خديجة وشتمتها بقولها : حمراء الشدقين ((3)).

جَدَ اللهُ عَل وقد روى البخاري ومسلم في كتاب الإيمان عن النبي صلی الله علیه و اله و سلم، قال :

«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ((4)).

ورويا أيضاً : أنه صلی الله علیه و اله و سلم قال : «سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر»((5)).

وعائشة قد اختارت للسبّ خير النساء ، وللقتال خير الأوصياء .

ومنها : أنّها اغتابت خديجة علیها السلام بذلك اللفظ إن صدقت فيه ، وبَهَتَتْها إن كذبت فيه ، وكلاهما حرام .

ص: 500


1- صحیح مسلم 134/7.
2- صحیح مسلم 134/7 بسند آخر .
3- صحيح البخاري 122/5 ضمن ح 308 ، 308 ، صحیح مسلم 134/7.
4- صحيح البخاري122/5 ضمن ح 9و10،صحیح مسلم 48/1 .
5- صحيح البخاري 33/1ح47، صحیح مسلم 57/1 - 58.

روى مسلم ((1)) عن أبي هريرة أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : أتدرون ما الغیبة؟

قالوا : الله ورسوله أعلم .

قال : ذكرك أخاك بما يكره .

قيل ، أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟

قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ ، وإن لم يكن فيه فقد بهته (2).

ومنها : إنّها حسدت خديجة ، والحسد حرام .

قال رسول الله : « لا تحاسدوا » ، كما رواه البخاري ((3)) ومسلم ((4)) .

وقد وصف الله به الكافرين ، قال:«سبحانه كفاراً حسداً»((5)).

وأثبت فيه الشرّ فقال :«ومن شر حاسد إذا حسد»((6)) ، فإنّ غيرة النساء من حسد بعضهن البعض.

قال في القاموس : حسده تمنّى أن تتحوّل إليه نعمته وفضيلته ، أو يسلبهما ((7)).

وعائشة قد غارت من خديجة وحسدتها على ثناء النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليها وحبه لها ، ففعلت حراماً .

ص: 501


1- في باب تحريم الغيبة من كتاب البر والصلة والآداب . منه قدس سرة.
2- صحیح مسلم 21/8
3- في كتاب الآداب . منه قدس سرة، صحيح البخاري 35/8 ح 92 - 94 .
4- في الكتاب المذكور الكتاب المذكور . منه قدس سرة، صحيح مسلم 9/8.
5- سورة البقرة 109/2 .
6- سورة الفلق 113 : 5 .
7- القاموس المحيط 298/1.

وقد صرّحت رواية الترمذي بلفظ الحسد، فإنّه روى في فضل خديجة عن عائشة قالت : ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة وما تزوجني رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلا بعد ما ماتت وذلك أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بشرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ، ثمّ قال هذا حدیث حسن صحيح ((1)) ، وهو دالّ على حسدها لها لبشارة النبي صلی الله علیه و اله و سلم إيَّاها بالجنّة وهو أقبح من سابقه وأسوء أصناف الحسد وقد غارت عائشة من صفيّة أيضاً بما يدل على النقصان الكامل .

روى أحمد في مسنده ((2)) عن عن عائشة قالت : بعثت صفية إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بطعام صنعته له وهو عندي، فلما رأيت الجارية أخذتني رِعْدَةٌ حتى استقلّني أفكل ، فضربت القصعة فرميت بها .

قالت : فنظر إلى رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، فعرفت الغضب في وجهه.

فقلت : أعوذ برسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أن يلعنني اليوم ، قال : أولى ...»

الحديث ((3)).

وروى نحوه البخاري ((4)) ، لكنّه لم يصرّح باسم عائشة احتشاماً لها، وهو مشتمل على منكرات أُخر غير الغيرة ، كإتلاف الإناء بما فيه وهو حرام في نفسه مع كونه مال الغير، وفيه إهانة نعمة الله تعالى ، وكإغضاب النبي صلی الله علیه و اله و سلم، وعدم المبالاة به إذ فعلت الحرام بمرأى منه ، وذلك دال على انحطاط رتبتها عن أداني النساء ، فكيف تقاس بخديجة إحدى أفاضل

ص: 502


1- سنن الترمذي 659/5 ح 3876.
2- ص 277 :ج 6 . منه قدس سرة.
3- مسند أحمد 277/6.
4- في باب الغيرة من أواخر كتاب النكاح . منه قدس سرة.صحيح البخاري 64/7 ح154.

النساء وسيداتهنّ الأربع ؟

وقوله : « وليس لنا ولأمثالنا أن ندخل في الفرق بين أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم».

خطاً وتقشف بارد ؛ إذ لسن أفضل من الأنبياء والملائكة ، وقد وقع البحث في أنّ أيّهم أفضل ، ووقع البحث في أفضلية أي الخلفاء .

كما أن قوله : «وما لنا أن نتكلم في شأنهن بما يشبه طعناً أو قدحاً». خطأ آخر ، فإنّ هداية الناس أفضل الطاعات.

وأولى منه بالخطأ قوله : فإنّ هذا يرجع إلى عرض رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم،والتعرّض لحرمه ، وهتك سترهن بعد السنين المتطاولة ... إلى آخره .

فإنّه لو تمّ كانوا هم المتعرّضين لذلك ، لروايتهم له في كتبهم المعتبرة عندهم ، مع أنه سبحانه قال :«لا تزر وازرة وزر أخرى»((1))

وليس العمل غير الصالح من رسول الله ، ولا يلحق به ، قال تعالى :

«إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح»(2).

وقد تعرّض الله سبحانه لامرأة نوح وامرأة لوط ((3))، وضرب بهما المثل ، وهتك سترهما بعد السنين المتطاولة ، وأبقاه ثابتاً على ممر الأيام .

كما فعل ذلك بالتي نحن في الكلام بها ، وبيّن عدم أمانتها وصاحبتها بقوله سبحانه :« وإذ أسرّ النبي ... » الآية ((4)).

ص: 503


1- سورة الأنعام 6 : 164 ، الاسراء 17 : 15 ، فاطر 35 : 18 ، الزمر 39 : 7 .
2- سورة هود 11 : 46.
3- قوله تعالى :«ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط»سورة التحريم 10 : 66.
4- سورة التحريم 66: 3.

وهتك سترهما ببيان عصيانهما ؛ إذ قال :«إن تتوبا»((1)).

وببيان تظاهرهما على وجه أفصح به عن عظم كيدهما ، حيث قال :«وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه ...»((2)) الآية .

إذ لولا أنّ كيدهما ممّا تنشق الأرض منه ، وتخرّ الجبال هداً ، لما هدّدهما بهؤلاء الأنصار ، الذين لا يقوم لهم أحد .

وما اكتفى سبحانه بهذا الهتك لهما، حتّى ضرب لأجلهما المثل بأمرأتي نوح ولوط ، فأبان أنهما من أهل النار ، فقال تعالى :«ضرب الله مثلاً .. »إلى قوله عزّ من قائل :«فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين»((3)).

وأما ما زعمه من عدم الخلاف بين المفسرين والمحدثين في أن التي أفشت سرّ رسول الله حفصة .

فممنوع ، لما في الدرّ المنثور في تفسير سورة التحريم عن ابن مردويه عن ابن عباس أنه صلی الله علیه و اله و سلم أسر إلى عائشة في أمر الخلافة بعده ، فحدثت به حفصة ((4)).

وهو غير بعيد ؛ إذ كما أخبر النبي صلی الله علیه و اله و سلم عليا بأن الأمة تغدر به ويغصبه الثلاثة ، يمكن أن يخبر به عائشة.

وأما ما ادعاه من الإجماع على أنّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم دخل بيت حفصة ...إلى آخره .

ص: 504


1- سورة التحريم 66 : 4
2- سورة التحريم 66 : 4
3- سورة التحريم 66 : 10
4- الدر المنثور 219/8.

فباطل ، للخلاف بينهم في أنّ الذي حرمه النبي صلی الله علیه و اله و سلم هو مارية أو شرب العسل ، وكثير من أخبارهم على الثاني .

وسيذكر المصنف في البحث الآتي حديثاً به عن الجمع بين الصحيحين ، وهو ما رواه البخاري في كتاب الطلاق ((1)) ، والنسائي - أيضاً - في كتاب الطلاق بتأويل الآية ، ومسلم في كتاب الرضاع ((2)) عن عائشة،قالت : « إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً ، فتواصیت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل عليها النبي صلی الله علیه و اله و سلم فلتقل : إني لأجد منك مغافیر(3)»(4)

الحديث الآتي في كلام المصنف رحمه الله ، ورواه البخاري في تفسير سورة التحريم ،وفي كتاب الأيمان والنذور في باب : إذا حرم طعامه ((5)).

وهو صريح في كذبهما ، والكذب كبيرة ، لا سيما على النبي صلی الله علیه و اله و سلم حتى حرمتا عليه ما يحبّه.

وما أعجب من هاتين المرأتين ، كيف لم تتأدبا بآداب الله ورسوله ، مع طول الصحبة ، ولم يرعيا لرسول الله صلی الله علیه و اله و سلم حرمة حتى آذتاه وتظاهرتا عليه ، فاعتزل نساءه وطلق حفصة كما في مسند أحمد» ((6)) ؟!

ص: 505


1- في باب لِمَ تُحرّم ما أحل الله لك . منه قدس سرة.
2- في باب وجوب الكفارة على من حرّم امرأته ولم ينو الطلاق . منه قدس سرة.
3- ریح مغافیر : مغافیر : ريح كريهة منكرة ، وقيل : هو صمغ يسيل من شجر العرفط غير أن رائحته ليست بطيبة ، لسان العرب 10 / 94 مادة «غفر»
4- صحيح البخاري 78/7 ح14،سنن النسائي 14 ، سنن النسائي 151/6 ، صحیح مسلم 184/4 كتاب الطلاق.
5- صحيح البخاري 274/6ح405،وج 252/8-253 ح65.
6- ص : 478 :ج 3 . منه فدس سرة.

وأما ما ذكره من أن عائشة كانت من أعلم الناس بأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم لم يقل إلا حقاً ، فدعوى بلا دليل ، وظاهر كلامها دليل الخلاف.

وأما قول النبي صلی الله علیه و اله و سلم: «دعها » ، فلا شاهد به للخصم ، لجواز كونه من باب:«وأعرض عن الجاهلين»((1)) مع أنها لو كانت عالمة لكانت أحق بالضرب ، لا أن يمنع النبي صلی الله علیه و اله و سلم عن ضربها ، فإن العالم العامد أولى بالعقوبة ، ولا سيّما نساء النبي صلی الله علیه و اله و سلم اللاتي جعل عذاب المذنبة منهنّ ضعفين .

فباجترائها على رسول الله ، وإظهارها الشك في أمره ، مع علمها بأنّه لا يقول إلا حقاً تكون من أسوأ العالمين المخالفين، بل تدخل ظاهراً في زمرة غير المؤمنين.

ص: 506


1- سورة الأعراف 7 : 199

الأخبار التي تدلّ على مخالفات عائشة

قال المصنّف - قدس الله نفسه - ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين : أن ابن الزبير دخل على عائشة في مرضها ، فقالت له : «إنّي قاتلت فلاناً - وسمت المقاتل برجل قاتلته عليه - وقالت : لوددت أني كنت نسياً منسياً»(2).

ومنه عن عائشة :«أنّ النبي كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً ، فاليت أنا وحفصة أن أيّتنا متى دخل عليها رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير .

فدخل على إحداهما ، فقالت له ذلك .

فقال : بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له ، فنزلت :«يا أيها النبي لِمَ تحرّم ما أحل الله لك»((3)) إلى قوله «إن تتوبا إلى الله»- لعائشة وحفصة -«فقد صغت قلوبكما»((4))«وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً»((5))لقوله : «بل شربت عسلاً»(6).

ص: 507


1- نهج الحق : 370 .
2- انظر : الجمع بين الصحيحين 2 / 74 ح 1077 ، صحيح البخاري 193/6 ح274و 275 ، بلاغات النساء : 48 .
3- سورة التحريم 1/66
4- سورة التحريم 4/66 .
5- سورة التحريم 3/66 .
6- الجمع بين الصحيحين 133/4 ذيل ح 3245 ، وأنظر : صحيح البخاري 78/7 ح14وج 252/8-253ح65، صحیح مسلم 184/4 - 185 .

وقال البخاري في صحيحه : وقال إبراهيم بن موسى عن هشام :«ولن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً »((1)) .

وهذا يدل على نقصها في الغاية

وفيه : أن عائشة حدثت : أنّ عبد الله بن الزبير قال في بيع أو أو عطاء أعطته : والله ، لتنتهينّ عائشة أو لأحجرنّ عليها ((2)).

ولم ينكر عليه أحد ، وهو يدلّ على ارتكابها ما ليس بسائغ .

وفيه عن ابن عباس : قال : لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهنی ((3)).

وهذا يدلّ على استحقاقها الهجران .

وفيه : عن نافع عن ابن عمر قال : قام النبي صلی الله علیه و اله و سلم خطيباً فأشار إلى مسكن عائشة وقال: «هاهنا الفتنة ثلاثاً من حيث يطلع قرن الشيطان »((4)).

وفيه : قال : خرج النبي من بيت عائشة فقال : رأس الكفر من هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان»(5).

ص: 508


1- صحيح البخاري 274/6 - 275 ح 405 و ج 252/8 - 243 ح 65.
2- الجمع بين الصحيحين 383/3 ح 2863 ، وأنظر : صحيح البخاري 37/8 - 38 ح100.
3- الجمع بين الصحيحين 218/4 ذيل ح 3417 ، وأنظر : صحیح مسلم 170/2
4- الجمع بين الصحيحين 2 / 165 1270 ، وأنظر : صحيح البخاري 183/4 ح 13 ، 9 /96ح 40 ، صحیح مسلم 181/8
5- الجمع بين الصحيحين 166/2 ذيل ح 1270 ، وأنظر : صحیح مسلم 181/8

وقال الفضل ((1)) :

ماروى عن عائشة أنّها قالت : إنّي قاتلت فلاناً ، فهذا اعتراف منها وندامة على الخروج، وهذا يدل على منقبتها ، وأنّها رجعت وندمت في حياتها عن الخروج.

فإن كان الخروج ذنباً ، فقد صحت توبتها عنه ، وإلا فلا عليها شيء من الخروج ؛ لأنها عملت بالاجتهاد .

وأما ماذكره من حديث العسل ، فكان هذا من باب غيرة النساء بعضهنّ على بعض ، وهل يؤاخَذْنَ بها ؟!

وأمّا حمل السرّ الذي أفشاه النساء على شرب العسل ؛ فبعيد ولم يذكره المفسّرون ، نعم ، ذكروا ذلك الحديث في هذا المبحث ، بل حملوه على وقوع رسول الله على مارية في بيت حفصة ، كما ذكرنا.

وأما قوله : فهذا يدل على بغضها في الغاية ، فهذا مخالفة لما علم بالضرورة من الدين ، وهو أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يحبّ عائشة حبّاً شديداً ، ولا يحبّ أحداً من النساء مثل حبّها ، وهذا معلوم من ضروريات الأخبار الدينية ، فكيف يثبت أنّه يبغضها ؟

وأما قول ابن الزبير : لأحجرنّ عليها ، فهذا يدلّ على غاية كرمها وعطائها حتى إن ابن الزبير فقد حجرها، لكثرة عطائها ، وبسط يدها في العطية ، وقد أنكرت عائشة على قوله حتى هجرته .

ص: 509


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 701 ( حجري ) .

وأما قوله إن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أشار إلى حجرة عائشة ، وقال : «هاهنا الفتنة».

فما أجهله بمعاني الأحاديث، وما أردأ فهمه في تلقي معاني الأخبار كانت حجرة عائشة في جانب الشرق من المنبر، وأشار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إلى الشرق ، كما يفسره باقي الأحاديث ، وهو أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أشار إلى الشرق ، وقد فسره رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بقوله : «حيث يطلع قرن الشيطان» ؛ والمراد منه : الشرق ، لأنه جاء في حديث آخر : إن الشمس حين تطلع بين قرني الشيطان .

فبهذا فسّر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، إشارته ، وأنه يريد جانب الشرق ولو كان المراد : حجرة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم التي كانت لعائشة ، فكيف يقال : إن قرن الشيطان يطلع من حجرته المقدّسة ؟

والحال أن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يطلع من الحجرة، وهذا غاية الجرأة الموجبة لصحة تكفير ابن المطهر النجس ، وأنّى لابن المطهر إساءة الأدب لأهل حرم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والتكلم فيهم ؟ !

فهل هذا إلا جرأة على الله ورسوله ، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يوم الإفك : «من يعذرني فيمن آذاني في أهل بيتي »((1))؟!

وهذا الرجل يؤذي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، وقد قال رسول الله في شأن عائشة ذلك اليوم على المنبر :«وما علمت على أهلى إلا خيرا»(2).

ثمّ إنّ ابن المطهر جاء في آخر الزمان وأثبت في أهل بيت رسول الله

ص: 510


1- احقاق الحق للشهيد نورالله التستري : 308 ، ونحوه في سنن النسائي الكبرى 10 :277.
2- صحيح البخاري 5/4، 25/5 - 254 ، 6/ 189 - 190 ، صحیح مسلم 115/8.

صلی الله علیه و اله و سلم الشر والفساد ، وسمّى بيت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم و محل قبره المكرّم :

مطلع قرن الشيطان .

وجزاء هذا أنّ أحداً من ملوك الإسلام يعمد إلى قبر ابن المطهر ،فيخرجه من حفرته ويحرقه، فهناك قرن الشيطان ومغرب لعنة الرحمن .

ص: 511

وأقول :

لا دليل في قول عائشة : «لوددت أني كنت نسياً منسيّاً» على توبتها ، لاحتمال إرادتها الأسف من أنّها لم تشف فؤادها ، ولم تبرد غليلها من أمير المؤمنين علیه السلام بقرينة خطابها مع ابن الزبير، إذ يبعد أن تظهر التوبة في خطابه عن أمر يكون طعناً فيه وفي أبيه ، مع إقامته على العداوة الشديدة لولي المؤمنين علیه السلام.

ولو سلّم ، فهذا القول وحده لا يكفي في التوبة مالم تخرج عمّا أراقته من دماء المسلمين وما نهبته من أموالهم، فإن السبب هنا أقوى من المباشر ، والتوبة من ظلم الناس لا تحصل بدون أداء الحقوق لأهلها.

واحتمال معذوريتها وعملها بالاجتهاد مخالف لحالها، من يوم استعدادها لحرب أمير المؤمنين إلى انتهائه، كما مرّ بيانه ، على أن الاجتهاد لا يسقط حقوق الناس ، لا سيما بعد ظهور الخطأ .

وأما ما زعمه في قصة العسل من : أنّ النساء لا يؤاخذن على الغيرة ، فمن الجهل الواضح ؛ إذ لو فرض أنهن لا يؤاخَذْنَ على نفس الغيرة، فكيف لا يؤاخذن على ما أدّت إليه من المحرمات ، كإيذاء رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والكذب عليه ، والتظاهر على الكيد به ؟!

وأما استبعاده لحمل السرّ على شرب العسل أو تحريمه، فقوي جداً ، لكن لا يضرّ في طعن المصنف رحمه الله على عائشة بما أقرت به على نفسها من التواصي على النبي صلی الله علیه و اله و سلم والكذب عليه ، وتسبيب أن على نفسه ما يحبّه أي أمر كان .

ص: 512

على أنّ قوله «لم يذكره المفسّرون ، خطأ، لأن بيان سبب نزول الآي إنّما يؤخذ من الأخبار، فكل ما يذكرونه من الروايات يكون بياناً لسبب النزول .

ولذا نقل السيوطي في لباب النقول بعد ذكر طائفتي الأخبار في سورة التحريم عن ابن حجر أنّه قال : يحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معاً ((1)).

وأما ما نقله عن المصنف رحمه الله من قوله : وهذا يدلّ على بغضها في الغاية .

فخطأ ؛ لأنّ النسخة الصحيحة هي : «نقصها» بدل «بغضها»، وبالضرورة أن من تغار لذلك الأمر اليسير حتى ترتكب الحرام، وتكيد سيد المرسلين عمّا يحبّه لأشدّ النساء نقصاً وأقلهن شأناً .

على أنه بناء على نسخته فالمقصود بغضها للنبي صلی الله علیه و اله و سلم لمنعها له عما يحبّ ، إذ ليس هو من شأن المحبّ ، وليس المقصود بغض النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها ، إذ لا ربط له بالحديث .

ودعوى : « أنّه صلی الله علیه و اله و سلم يحبها حباً شديداً ولا يحبّ من النساء مثلها»كاذبة بشهادة عدم مكثه عندها كما يمكث عند زينب وأم سلمة ، وغيرتها من خديجة لإكثار ذكرها .

والأخبار التي استدلوا بها على حبّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها أكثرها من حديثها ، حتى إن مسلماً لم يرو عند ذكر فضائلها حديثاً في حبّ النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها إلا عنها .

ص: 513


1- لباب النقول : 217 ، وأنظر : فتح الباري 848/8.

وأكثر الأخبار التي استفادوا حب النبي صلی الله علیه و اله و سلم لها إنما كانت من قبيل ما أخبرت به من لعبها بالبنات في دار النبي صلی الله علیه و اله و سلم بعلمه ، واستماعه إلى لعب الجواري لها في بيته، وإيناسه لها بالنظر إلى لعب الحبشة في المسجد وخدها على خده ((1)) إلى غيرها من الأمور المنكرة المنافية للشرع والغيرة وشرف الرسالة .

وهل يحسن من عاقل أن يصدّق امرأة تخبر بملء فمها بلا حياء : أنّها دخلت بها أمها على النبي صلی الله علیه و اله و سلم عند زواجه بها ، فإذا رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم جالس على سرير وعنده رجال ونساء ، فأجلستها في حجره فوثب الرجال والنساء ، كما رواه أحمد في مسنده ((2)).

وأما ما أجاب به عن إرادة ابن الزبير للتحجير عليها، فلا يرفع الإشكال ؛ لأن بسط يدها في العطية لو سلّم لا تستحق به التحجير إذا كان على النحو السائغ ، فينبغي أن تكون ارتكبت ما لا يجوز ، أو أمراً سفيهاً سواء كان بيعاً أم عطاء ، ولذا هدّدها ابن الزبير بالتحجير، ولم ينكر عليه أحد ، وإنكار عائشة نفسها لا يرفع الإشكال .

على أن المرأة لا تمدح على الكرم ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام خيار خصال الرجال شرار خصال النساء ؛ الشجاعة ، والكرم ((3)).

فإن المرأة إذا كانت شجاعة غررت بنفسها كما فعلته عائشة يوم الجمل، وإذا كانت كريمة خانت بيت وليّها .

وظنّي أنّ عائشة لم تفعل ما تستحق به هذا القول من ابن الزبير،

ص: 514


1- راجع 64/4 و 74 من هذا الكتاب
2- ص : 210 ج 6 . منه قدس سرة.
3- انظر : نهج البلاغة : 509 قصار الحكم رقم 234 نحوه.

ولكن بخله الشديد دعاه إلى هذه المقالة ؛ إذ لم تكن خازنة وممسكة لكلّ ما في يدها ليبقى إرثاً له .

فالأولى الإيراد على عائشة بأمور أخر يشتمل عليها الحديث ،فلنذكره بتمامه ، لتعرف صحة ماقلنا ، فنقول :

روى البخاري في كتاب الأدب ((1)): «أنّ عائشة حدثت عن عبد الله بن الزبير قال : - في بيع أو عطاء أعطته عائشة - والله ، لتنتهين عائشة أو لأحجرنّ عليها .

فقالت : أهو قال هذا ؟

قالوا : نعم .

قالت : هو الله عليّ نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً .

فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة .

فقالت : لا والله ! لا أشفع فيه أبداً ، ولا أتحنّث إلى نذري .

فلما طال ذلك على ابن الزبير كلّم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن ابن الأسود ، وقال لهما : أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة ، فإنّها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي.

فأقبل به المسوّر وعبد الرحمن حتى استأذنا على عائشة ، قالت :ادخلوا .

قالوا : كلّنا ؟

قالت : نعم .... ولم تعلم أنّ معهما ابن الزبير ، فلما دخلوا دخل ابن الزبير عليها الحجاب ، فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق

ص: 515


1- في باب الهجرة وقول رسول الله : لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث . منه قدس سرة.

المسوّر وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلّمته وقبلت منه ، ويقولان : إن النبي صلی الله علیه و اله و سلم نهى عما قد عملت من الهجرة ، فإنّه لا يحل لمسلم أن يهجر تر أخاه فوق ثلاث ليال.

فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول : إنّي نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلّمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة ، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل خمارها»((1)).

ففي هذا الحديث جهات من الطعن :

الأولى : ما أشار إليه المسوّر وعبد الرحمن ؛ وهو أنها هجرت ابن الزبير فوق ثلاث ، وقد صرّحت أخبارهم بحرمته ، كما رواه المسوّر وعبد الرحمن في هذا الحديث .

ورواه البخاري ((2)) عن أنس وأبي أيوب ((3)).

ورواه مسلم من طرق ((4)) .

الثانية : أنّها قطعت الرحم ، وهو حرام آخر بلا خلاف ، وقد روى مسلم ((5)) أن رسول الله قال: «لا يدخل الجنّة قاطع رحم»((6)).

ص: 516


1- صحيح البخاري 37/9 - 39 ح 100
2- في الباب المذكور . منه قدس سرة.
3- صحيح البخاري 39/8 ح 101 و 102.
4- في باب تحريم الهجر فوق ثلاث من كتاب البر والصلة والآداب . منه قدس سرة.صحيح مسلم 8/8 - 10.
5- في باب صلة الرحم وتحريم قطعها من الكتاب المذكور . منه قدس سرة.
6- صحيح مسلم 8/8

وروی نحوه البخاري أيضاً ((1)).

الثالثة : أنّها نذرت المعصية وأصرت على إمضائه ، وهو خلاف الشريعة بروايتها ، فقد أخرج البخاري عنها ((2)) أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»(3).

ومثله في مسند أحمد ((4)).

وروی مسلم ((5)) : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : « لا نذر في معصية الله»((6)).

وفي رواية أخرى قال صلی الله علیه و اله و سلم«لا وفاء لنذر في معصية »((7)).

وهذا هو الذي أشار إليه ابن الزبير في قوله السابق : لا يحل لها أن تنذر قطيعتي»، ولا يصح حملها على التأديب ؛ إذ لا يصح التأديب بنذر المعصية وهجران الدهر وقطيعة الرحم ، ولا سيّما أنّه لم يعلم ارتكابه حراماً ، وإنّما اجترأ عليها وأساء الأدب فقط.

أن التأديب لا يناسب قولها بعد أن استشفع إليها : «لا والله ، لا أشفع فيه أبداً ، ولا أتحنّث إلى نذري».

فإنّ هذا القول أنسب بالغل والحقد لا التأديب ، كما أن إرادة التأديب المباح لا تقتضي أن تذكر نذرها وتبكي حتى تبل خمارها .

والظاهر أنّ بعض خصوصيات هذا الحديث من كذبات بعض الرواة ،

ص: 517


1- في باب إثم القاطع من كتاب الأدب . منه قدس سرة، صحيح البخاري 8/8 ح13.
2- في باب النذر فيما يملك وفي معصيته من كتاب الأيمان والنذور . منه قدس سرة.
3- صحيح البخاري 255/8ح74.
4- ص : 36 و 41 و 208 و 224 ج 6 . منه قدس سرة.
5- في باب لا وفاء لنذر في معصية من كتاب النذور . منه قدس سرة .
6- صحيح مسلم 79/5
7- صحيح مسلم 79/5.

كزعم عتقها أربعين رقبة ، فإنّه ليس كفارة لحلف النذر ولا تعلّق له بها أصلاً، على أنّه نذر باطل في نفسه ، لكونه في معصية ، ولو بكت ذلك البكاء ليوم الجمل ، لكان أولى لها .

هذا ، واعلم أنّ الفضل لم يتعرّض لحديث ابن عباس الدال على استحقاقها الهجران ، فلعله غفل عنه ، وإلا فهم لا يعجزون عن المكابرة والتأويلات السوفسطائية .

وأما ما أجاب به عن حديثي : «قرن الشيطان» ، بقوله : أشار رسول الله إلى الشرق ، كما يفسره باقي الأحاديث.

ففيه ، إنّه لا موجب للحمل ؛ إذ ربّما أشار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في باقي الأحاديث إلى الشرق ، وفي هذين الحديثين إلى مسكن عائشة كما ه-و ظاهر الطائفتين ، وفهمه البخاري من أوّل الحديثين المشتمل على لفظ : مسكن عائشة ، فإنّه رواه بعينه في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم من كتاب الجهاد ((1)).

فيقتضي أن يكون فهم منه الإشارة إلى بيت عائشة لتحسن روايته في هذا الباب .

وأيضاً لو أراد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم الإشارة إلى الشرق ، لما قال الراوي : فأشار إلى نحو مسكن عائشة ؛ إذ لم يقع وحده في الشرق من بيوت أزواج النبي صلی الله علیه و اله و سلم وغيرها .

ولما أشار النبي صلی الله علیه و اله و سلم بلفظ : «هاهنا» التي هي للإشارة إلى القريب ، بل يلزم أن يقول : هناك ، كما في حديث البخاري في كتاب الفتن الذي

ص: 518


1- صحيح البخاري 183/4.

أشار فيه إلى نجد ، فقال صلی الله علیه و اله و سلم: هناك الزلازل والفتن»(1).

هذا تعلم الكلام في ثاني الحديثين ، فإن النبي صلی الله علیه و اله و سلم أشار فيه بإشارة القريب ، فيقتضي أن يريد به بيت عائشة ، مع أن السَّوْق يقتضيه .

وقوله : كيف يقال : إن قرن الشيطان يطلع من حجرته المقدّسة».

طريف ؛ اذ أيُّ مانع منه إذا أراد به النبي صلی الله علیه و اله و سلم الكناية عن عائشة ؟ !

ولا ينافي شأنه صلی الله علیه و اله و سلم طلوعه من الحجرة التي تطلع منها عائشة ، كما في نوح ولوط وزوجتيهما .

ولا أدري أي جرأة من المصنف رحمه الله وأي إساءة أدب منه ، وهو إنما نقل كلام رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم المروي في كتبهم ؟!

أيرى الخصم أنّ التنبيه على الموجود فيها ، وإظهاره لطالب معرفة الحق جرأة وإساءة أدب ، فعليه لا يجوز للإنسان أن يقرأ قوله تعالى :«إن تتوبا»وقوله :«وإن تظاهرا عليه»((2)) ؟ !

ولو كان مثل هذا جرأة على الله ورسوله لما ضرب الله تعالى لكشف حال عائشة وحفصة مثلاً بامرأتي نوح ولوط ، فإنّه جرأة على ثلاثة من الأنبياء بفضيحة أربع من نسائهم.

وأما ما ذكره من أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال يوم الإفك : «من يعذرني فيمن آذاني في أهل بيتي وقال : ما علمت على أهلى إلا خيراً»

ففيه : - مع أنه من رواية عائشة وهي متهمة في إرادة جلب الفضل لنفسها - أن ظاهره إرادة الإيذاء بنسبة الفاحشة إليها ، وأنه ما علم منها إلا أنّها ليست محلّ الفاحشة ، وهو حق لكنه لا ينافي كونها ذات فتنة ، كما دلّ عليه

ص: 519


1- صحيح البخاري 97/9 ذيل ح42.
2- سورة التحريم 66 : 5 .

الحديث ، وصدّقه الوجدان .

وأما ما أفتى به ودعا إليه قومه من نبش قبر المصنف رحمه الله وحرق جثته الزكيّة ؛ فهو من قبيل اجتهاد عائشة وصاحبيها في نتف لحية عثمان بن حنيف ، وقتل النفوس البريئة .

وكيف يستحق المصنّف رحمه الله ذلك ، وهو إنّما طعن بها بعصيان أمر الكتاب العزيز بالقرار في بيتها وطعن بأنّها صاحبة فتنة ، كما دلّت عليه الأخبار، وشهد به الوجدان ؟ !

فإن أصاب أو أخطأ فهو مثاب لاجتهاده، ولا يوجب ذلك نقصاً رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم، كما لا يوجب النقص فيه قوله تعالى :«تبَّتْ يدا أبي لهب ...»((1)) ولا سيّما أنّ الزوجة أجنبية ، وكم من زوجة لنبي عاصية ذمّها الله وأولياؤه .

فيا عجباً ! يرون عائشة قد آذت حبيب الله وسيّد النبيين وتظاهرت مع صاحبتها عليه ودعت إلى قتل عثمان ، وسبّبت ذبحه وهتكه ، وحاربت إمام ،زمانها، وشقت عصى المسلمين ولفت الصفوف بالصفوف ، وقتلت الألوف والألوف ، ومع ذلك يعظمونها، ولا يرون عذراً لمن عرف منها ذلك وطعن فيها بسببه ، بل يستبيحون قتله ونبش قبره !

فالله هو الحكم بيننا وبينهم ، وهو أحكم الحاكمين .

ص: 520


1- سورة المسد 111 : 1.

تهجين مذهب المجبرة

قال المصنّف - أعلى الله درجته - ((1)) :

أفلا ينظر العاقل بعين الإنصاف ويجتنب التقليد واتباع الهوى ، والاستناد إلى أتباع الدنيا ، ويطلب الخلاص من الله تعالى ، ويعلم أنه محاسب غداً على القليل والكثير والفتيل والنقير ((2)) ؟ !

فكيف يترك اعتقاده ويتوهم أنه يترك سدى ، أو يعتقد بأن الله تعالى قدر علي هذه المعصية وقضاها فلا أتمكن من دفعها عني فيبريء نفسه قولاً لا فعلاً ؟! فإنّه لا ينكر صدور الفعل من الإنسان إلا مكابر جاحد للحق ، أو مريض العقل بحيث لا يقدر على تحصيل شيء البتة .

ولو كان الأمر كما توهموه ، لكان الله تعالى قد أرسل الرسل إلى نفسه وأنزل الكتب على نفسه، فكل وعد ووعيد جاء به يكون متوجهاً إلى نفسه ؛ لأنه إذا لم يكن فاعل سوى الله تعالى فإلى من أرسل الأنبياء ، وعلى أنزل الكتب ، ولمن تهدّد ووعد وتوعد ؟ ! ولمن أمر ونهى ؟!

أعجب الأشياء وأغربها أنّهم يعجزون عن إدراك استناد أفعالهم أنه إليهم، مع معلوم للصبيان والمجانين والبهائم، ويقدرون على تصديق الأنبياء والعلم بصحة نبوّة كلّ مرسل ، مع استناد الفساد والضلال والتلبيس

ص: 521


1- نهج الحق : 372 .
2- الفتيل : ما كان في شقّ النواة ، والنقير : النكتة في ظهر النواة ، يضرب بها مثلاً للشيء التافه الحقير القليل . تاج العروس 564/15

وتصديق الكذابين ، وإظهار المعجزات على أيدي المبطلين ، إلى الله تعالى .

وحينئذ لا يبقى علم ولا ظن بشيء من الاعتقادات ألبتة ، ويرتفع الجزم بالشرائع والثواب والعقاب ، وهذا كفر محض.

قال الخوارزمي : حكى قاضي القضاة عن أبي علي الجبائي أن المجبّر كافر، ومن في كفره فهو كافر، ومن في كفر من شك في كفره فهو كافر ((1))

وكيف لا يكون كذلك ، والحال عندهم ما تقدم، وأنه يجوز أن يجمع الله الأنبياء والرسل وعباده الصالحين في أسفل درك الجحيم ليعذبهم دائماً ، ويخلّد الكفار والمنافقين وإبليس وجنوده في الجنة والنعيم أبد الآبدين ؟ !((2))

وقد كان لهم في ذمّ غير الله متّسع ، وفي من عداه مقنع .

وهلا حكى الله اعتذار الكفار في الآخرة ؛ بأنك خلقت فينا الكفر

والعصيان ، بل اعترفوا بصدور الذنب عنهم ؟! وقالوا :

«ربنا أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل»(3).

«ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون»(4).

«وحتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت»(5).

ص: 522


1- الطرائف : 313 نقلاً عن كتاب الفائق في الأصول -للخوارزمي (الزمخشري) .
2- راجع 58/3 وص232 من هذا الكتاب .
3- سورة فاطر 35 : 37
4- سوره المؤمنون 23: 107
5- سورة المؤمنون 99/23 و 100 .

«أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله»(1).

«ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً»(2).

«ربّنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا»(3).

«وما أضلنا إلا المجرمون»(4)

ثمّ إنّ الشيطان اعترف بأنه استغواهم، وشهد الله تعالى بذلك ، فحكى عن الشيطان :

«إنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم»(5).

وقال تعالى :«الشيطان سوّل لهم وأملى لهم»(6).

فردوا شهادة الله تعالى واعتراف الشيطان ، ونزّهوه وأوقعوا الله في اللوم والذم .

ص: 523


1- سورة الزمر 39 56.
2- سورة الأحزاب 33 : 67 و 68.
3- سورة فصلت 41 : 29.
4- سورة الشعراء 26 : 99 .
5- سورة إبراهيم 14 : 22 .
6- سورة محمد 47 : 25 .

وقال الفضل ((1)) :

كرّر في هذا الفصل إجمالاً ما ذكره تفصيلاً ، فهو يكرّر الكلام إجمالاً وتفصيلاً.

وقد أجبنا عن كل ماذكره فيما سبق من الكلام ((2)) ، ولمّا كرّر الكلام ألجأنا إلى التكرار في الجواب .

فنقول : ما ذكر أنّه لا ينكر صدور الفعل عن الإنسان إلا مكابر جاحد .

فالجواب : إنّا نقول أيضاً هذا ، فإنّ إنكار صدور الفعل عن الإنسان مكابرة ، وليس هذا محل النزاع ، بل محل النزاع أن الخلق والتأثير غير المباشرة والكسب، أو هما شيء واحد ، وليس هذا من الضروريات .

وأما قوله :«ولو كان كما توهموه لكان الله تعالى أرسل الرسل إلى نفسه».

فالجواب عنه : إن نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالى لا توجب أن يكون مرسلاً إلى نفسه ؛ لأنّ إرسال الرسل إلى مباشر الأعمال السيئة والحسنة ، لا إلى خالق الأعمال، فإنّ خلق الشيء ليس بقبيح بالنسبة إلى الخالق ، وإن كان قبيحاً بالنسبة إلى المباشر والمخلوق ، فلا يلزم ماذكر .

وأما قوله :«من أعجب الأشياء أنّهم يعجزون عن إدراك استناد أفعالهم إليهم، مع أنه معلوم للصبيان والمجانين والبهائم، ويقدرون على تصديق الأنبياء والعلم بصحة نبوّة كل نبي مرسل ...»إلى آخر كلامه.

ص: 524


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 707 ( حجري ) .
2- راجع 59/3 و 233 من هذا الكتاب

فحاصله : أن قول الأشاعرة أنّ الأفعال مخلوقة لله تعالى يوجب إسناد الضلال إلى الله تعالى .

والجواب عنه ما ذكرناه مراراً : أن هذا الإيجاب ممنوع ؛ لأنّ الفساد والضلال مستند إلى مباشر الفعل وكاسبه ؛ لأنّه محلّ الفساد والضلال ، لا إلى الخالق ، والفرق بينهما ظاهر.

وقوله : «وحينئذ لا يبقى علم ولاظن بشيء من الاعتقادات».

قلنا : إذا أسند الفساد والضلال إلى الله تعالى ؛ بمعنى أنّه - حاشاه تعالى عن ذلك - فاسد ضال،لارتفع الجزم بالشرائع والثواب ، ولا كلّ من خلق ما يعد فساداً وضلالاً بالنسبة إلى المخلوق لا بالنسبة إليه فهوفاسد.

وهذا الفرق ظاهر ، فكيف يصح أن يقال : إن قائل هذا كافر، وهذا كفر محض ، وقد قال الله تعالى في مواضع عديدة من كتابه :«يضل من يشاء ويهدي من يشاء»(1) «وأضل الله أعمالهم»(2) «وأضله الله على علم»(3) «ليضل الله من يشاء»(4)؟!

فصرائح الآيات تدلّ على نسبة الإضلال إلى ذاته ، فكيف من قال بصرائح القرآن يكون قوله كفراً ؟ !

ولولا أن مذهب الشيخ الأشعري عدم تكفير أحد من أهل القبلة ((5)) ،لكان يجب تكفير ابن المطهر بهذا التكفير !

ص: 525


1- سورة النحل 16 : 93 ، وسورة فاطر 35 : 8.
2- سورة محمد 47 : 1 و 8.
3- سورة الجاثية 45: 23 .
4- سورة المدثر 74 : 31
5- بل كفّر من قال بخلق القرآن كما في الإبانة : 47 .

ولكن ذهب الفقهاء إلى أنّ من جعل جهة الإسلام كفراً فهو كافر ((1)).

وهذا الرجل جعل جهة الإسلام، وهو نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالى - لدلالة صرايح النصوص عليه - كفراً ، فهو مكفّر بهذا التكفير.

ثمّ ما نقل عن الجبّائي أنّ المجبّر كافر ، إن أراد بالمجبّر : أهل السنّة والجماعة من الأشاعرة ، فيجب تكفير الجبائي ، لأنه ذهب كثير من أصحابنا إلى أنّ من يكفّرنا فنحن نكفّره .

وأما قوله :«ومن شك في كفره فهو كافر، يدلّ على غاية تعصب هذا القائل ، وأنّه لم يكفّر لأجل الخطأ في الاعتقاد ، بل يكفّر لأجل التعصب المفرط ، لأنّ الشك في كفر من لم يصرّح الله تعالى بكفره بالخصوص ليس بكفر ، سيما من كان من أهل القبلة ومن المصلين ، كيف يكون الشاك في كفره كافراً ؟ وهذا غاية الجهل والتعصب.

ولا يبعد من المعتزلة المنسوبة إلى المجوس، من كل عابد نار منحوص، أن يكفّروا من شك في كفر أهل القبلة ، ولنعم ما قلت فيهم قبل هذا شعراً :

العصابة تركوا الجماعة وارتموا *** في الإعتزال لهم نفوس بالهة

في خلق أعمال الورى قد أشركوا *** مثل المجوس تفوّهوا بالآلهة

وأما قوله : إنّه يجوز على مذهبهم أن يجمع الله تعالى الأنبياء والرسل في الجحيم، ويجمع الكفّار والشياطين في النعيم .

فالجواب : إنّه لا يلزم من القول بعدم وجوب شيء على الله تعالى أن يفعل هذا، فإنّه جرى عادة الله على إثابة المطيع وعقوبة العاصي بعد أداء

ص: 526


1- انظر : حاشية ردّ المختارة 450/4 .

الأعمال ، ولم يجب عليه شيء، وهذا لا يوجب أن يكون العاصي منعماً والمطيع معذباً ، كما يجوز أن لا يخلق الله الشبع عقيب الأكل ، وإن جرى عادة الله تعالى على خلقه، وهي لا تتخلّف .

وبئس المذهب مذهباً يجعل فيه الأشياء واجبة لازمة على الله تعالى ، كما يجب الأشياء للعبيد وينصب الإنسان يوم القيامة نفسه خصماً الله تعالى ويقول : إنّي عملت كذا وكذا ، ويجب عليك أن تعطيني كذا وكذا ، وإلا كنت آئماً خائناً ، لأنك ما أديت حقي ، ولا تفضّل لك عليَّ ، بل كل ما أناله فهو

من عملي وسعيي !

ولو أنّ جميع أعمال الإنسان العابد ألف سنة تقابل نعمة بصره ، لا توازيها ولا تعادلها ، فكيف يجوز رفع التفضّل والقول بوجوب الجزاء ؟

وأما قوله : هلا حكى الله تعالى اعتذار الكفار في الآخرة بأنك خلقت فينا الكفر والعصيان ؟ !

فنقول في جوابه : هذا دليل على أن خلق الأعمال لا يوجب العذر، وإلا اعتذروا به ، فلم يذكر عذرهم ، وبهذا علم أنه ليس يصح أن يكون عذراً ، فإنّ الآخرة منزل انكشاف الأشياء ، ولو كان يصح بوجه لاعتذروا به بل الملامة والعذاب في الآخرة لمباشرة العمل ، وبهذا اعتذروا بذنوبهم ، كما ذكره في الآيات.

ص: 527

وأقول :

الإجمال بعد التفصيل ربّما يكون حسناً في الكلام الواحد لاشتماله على فائدة ، فكيف إذا كان في في المقام ظاهرة ، وهي كلامين ، وفائدته زيادة التنبيه على الحق ، وتأكيد الحجّة ؟ !

وقد عرفت أنّ كلّ مدرك يعلم ببديهته أنّه موجد لفعله ومؤثر فيه ، لا أنه محل لفعل غيره ، كما يزعم القوم ((1)) ، وعرفت - أيضاً - أن الكسب الأشعري خال عن المعنى ((2)) ، على أنه إن كان للعبد تأثير في الكسب فقد وقع الأشاعرة فيما فروا منه ، وإلا فلا فائدة في إثباته ، كما أنه لا معنى لإرسال الرسل إلى المباشر والمحل الذي لا تصرّف له في العمل ، وإنّما يتصوّر إرسالهم إلى من له الأثر في الأعمال ، ولا معنى - أيضاً - لعدم قبح الفعل ممّن أوجده ، وقبحه ممن لم يوجده ، ولم يؤثر فيه أصلاً وإنما كان محلاً صرفاً .

وأمّا جوابه عن تعجّب المصنف رحمه الله فتكرير لمورد التعجب ؛ إذ كيف يستند الضلال إلى من لا أثر له فيه لمحض كونه محلاً له ، ولا يستند إلى موجده ومؤثره ، وهل هذا إلا سفسطة ؟!

وأما قوله : « ولا كلّ من خلق ما يعد فساداً وضلالاً فهو فاسد»، فصحيح ، لكنه لا بد أن يكون مفسداً ومضلاً، فلا يبقى وثوق بشرائعه ، ولا علم ولاظنّ بشيء من الاعتقادات، وهذا محض الكفر وليس من جهة

ص: 528


1- راجع 117/3 وما بعدها من هذا الكتاب .
2- راجع 310/3 وما بعدها من هذا الكتاب

الإسلام ، ولذا ورد أن القدرية مجوس هذه الأُمّة(1).

والآيات التي ذكرها الخصم لا يراد بها ظاهر معناها ، بقرينة حكم العقل ببطلانه ، وقيام الأدلة على خلافه ، كقوله تعالى :

«الرحمن على العرش استوى»(2) «وخلقتُ بيدي»(3) «وجاء ربِّك والملك»(4)، إلى كثير من الآيات.

فلا بد من حمل الآيات التي ذكرها على إرادة فعل المقدمات التي لا يزول معها الاختيار والقدرة ، مضافاً إلى أن لفظ «الإضلال» مشترك لفظاً معان كثيرة ، منها الإهلاك ، والتدمير ، والتعذيب ، والخذلان .

وأما قوله : «ولو لا أن مذهب الشيخ الأشعري عدم تكفير ...» إلى آخره، فهو كلام من يرى أنّ مرتبة الأشعري فوق مرتبة الأنبياء، فإنّهم أجازوا لعمر أن يخالف النبي صلی الله علیه و اله وسلم بالاجتهاد ، ولم يجيزوا لأحد مخالفة الأشعري بالاجتهاد.

وأما تعليله لوجوب تكفير الجبائي بذهاب الكثير من أصحابهم إلى تكفير من يكفرهم ، فمضحك ؛ لأن الاعتبار بالدليل لا بقولهم كلاً أو بعضاً ، ونسبة الجبائي في المقام إلى التعصب خطأ ؛ لأنّه بعد فرض أن القول بالجبر مخالف لضرورة العقل والدين، وأنّ القول بما يخالف ضرورة الدين كفر

ص: 529


1- أنظر : سنن أبي داود 221/4 ح 4691 ، المعجم الأوسط 127/3 4691 ح 2515 ، وج ح 4205 ، تاريخ البخاري الكبير 341/2 رقم 2681 ، تاريخ البخاري الصغير 271/2 ، السنة - لابن أبي عاصم - 149/1 ح 338 ، الشريعة - للآجري - :204 ح 394 و 395 ، مستدرك الحاكم 1/ 159 ح 286.
2- سورة طه 20 : 5 .
3- سورة ص 38: 75
4- سورة الفجر 89: 22 .

بضرورة الدين، يكون الشاك في كفر من حكمت ضرورة الدين بكفره كافر، وهكذا الكلام في كفر الشاك بكفر الشاك.

وأما ما أشار إليه في كلامه وشعره من إشراك المعتزلة ، فغير بعيد لأنهم فوضوا الأفعال إلى العبد وجعلوه مستقلاً تاماً في إيجادها بمقدّماتها كما يستقل الله سبحانه في أفعاله.

وأما نحن فنقول - كما قال إمامنا الصادق علیه السلام - :«لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين »(1).

كما سبق في مسألة خلق الأفعال في الجزء الأول(2).

ولو كان مجرد تأثير العبد في شيء شركاً ، لكان القول بالكسب - أيضاً - شركاً ، إن كان للعبد أثر فيه، وإلا كان تطويلاً لمسافة الجبر بلا فائدة .

وأمّا قوله : «فالجواب إنّه لا يلزم من القول بعدم وجوب شيء على الله تعالى أن يفعل هذا».

ففيه : إن المصنف رحمه الله لم يدّع لزوم أن يفعل ، وإنّما ادّعى لزوم تجويز أن يفعل ، وبالضرورة أن القول بجواز أن يخلّد الله في النار أنبياءه وعباده الصالحين ، ويخلّد في الجنّة أعداءه من الكفرة والشياطين ، مخالف للدين .

ودعوى العادة من الله على خلاف ذلك غير نافعة ، بعد عدم وجوب الالتزام بعادة على الله سبحانه ، إذ لا يجب عليه شيء عندهم، بل غير مسموعة أصلاً ممن لم يشاهد يوم القيامة ، ولم يعرف عادة الله تعالى فيه

ص: 530


1- اصول الكافى : 179 و 406 .
2- راجع : 124/3 من هذا الكتاب

ودعوى العلم بها من وعد الله ووعيده باطلة ، إذ لا يجب عليه الوفاء بما وعد وتوعد ، لأنّه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء .

وأما قوله : «بئس المذهب مذهباً يجعل فيه الأشياء واجبة على الله تعالى ، كما يجب الأشياء للعبد...»إلى آخره .

ففيه : ماسبق من الفرق بين الوجوبين، بإنّما الوجوب على العبد إنّما هو من مولاه ، والوجوب على الله تعالى إنّما هو من عدله ونفسه ، فيجب عليه بعدله جزاء ما كلّف عبده به ، والعادل لا يتخلف عما يجب عليه ، ولا يحتاج العبد إلى أن ينصب نفسه خصماً الله تعالى ، ولا إلى أن يخاطبه بذلك الخطاب الذي تشدّق به الفضل ، ولا يخاطب به إلا الجائرون الظالمون .

ولو امتنع أن يجب على الله تعالى شيء ، فكيف كتب على نفسه الرحمة ، وقال :«وكان حقاً علينا نصر المؤمنين»(1) ؟ !«وعلى الله قصد السبيل»((2)) ؟ !

وقوله : « ولو أنّ جميع أعمال الإنسان العابد ...» إلى آخره .

مسلّم لا ريب فيه ، وكيف يقدر العبد على جزاء أقل نعم ربّه ، وكلّ شيء من بدنه وماله نعمة من نعم الله تعالى ؟ !

ولو قام العبد عمر الدنيا بالعبادة لما أدى شكر أقل القليل من نعمه سبحانه ، إذ كيف يؤدي العبد الذليل شكر عناية المولى الجليل به ولو بأدنى النعم ؟ !

ولكنه تعالى جلّت آلاؤه لما ابتدأنا بالنعم تفضّلاً، ورحمة - والجواد أجل من أن يطلب من عبده جزاء ما تفضّل به عليه ، بل يقبح منه ذلك

ص: 531


1- سورة الروم 30 : 47 .
2- سورة النحل 16 : 9.

لغناه - كان تكليفه لنا وإلحاقه المشقة بنا خارجاً عن جزاء نعمه ، فكأنه تعالى كلّفنا ولم يسبق له حق علينا، فلا بد أن نستحق بما كلّفنا به جزاء ، وإلا قبح تكليفه لنا وإدخاله المشقة علينا .

وهو مع ذلك يزيدنا من فضله، فما يسديه إلينا بعضه عدل ، لأنه جزاء ،عملنا وبعضه فضل ، بل كلّه فضل ؛ لأنّ تكليفه لنا بأمر نستحق، بالطاعة فيه الجزاء ، لطف منه وفضل ، فما أظهره الخصم من استلزام قولنا إنكار التفضّل من الله عزّ وجلّ كذب ظاهر .

ومجرد وجوب شكر النعم - عقلاً - بطاعته وعبادته لا ينافي استحقاق الأجر من حيث التكليف منه .

وأما قوله : «هذا دليل على أن خلق الأعمال لا يوجب العذر ...» إلى آخره .

فمن العجائب ، ومكابرة العقل والضرورة ؛ لأنّ خلق العمل في العبد قهراً عليه إذا لم يكن صالحاً للعذر له، فكيف يمكنه أن يعتذر بإضلال السادات والكبراء والشياطين له ؟! والحال أن إضلالهم له ليس بفعلهم وتأثيرهم ، فيترك الإنسان - وهو أكثر شيء جدلاً - العذر القوي الواضح ،ويعتذر بالعذر الضعيف الساقط .

وكيف يتصوّر أن يطلبوا الرجوع لأن يعملوا صالحاً ويقولون : إن عدنا فإنا ظالمون ، وهم يعلمون أنّه لا أثر لهم في العودة، كما في السابق ؟ ! أو كيف يتحسّرون على تفريطهم وهم يعرفون أن الأثر لغيرهم؟!

ص: 532

قال المصنف - طاب ثراه - ((1)) :

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين قال : قدم على رسول الله فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبياً في السبي ، فأخذته فالزقته ببطنها فأرضعته.

فقال رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم: أتَرَوْنَ هذه المرأة طارحةً ولدها في النار ؟

قلنا : لا والله !

قال : الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها(2).

وفيه : أن النبي صلی الله علیه و اله و سلم قال : إن الله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها يعطف الوحش على ولدها ، فأخّر الله تسعاً وتسعين رحمة ، يرحم بها عباده يوم القيامة ((3)) .

وفيه : عن رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم قال : « إن الله يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني .

قال : ياربِّ ! كيف أعودك وأنت ربّ العالمين ؟

قال : أما علمت أنّ فلاناً مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟

ص: 533


1- نهج الحق : 374
2- الجمع بين الصحيحين 1 / 116 ح 39 ، وأنظر : صحيح البخاري 13/8 ح 28 ،صحیح مسلم 97/8
3- الجمع بين الصحيحين 3 / 17 ح 2183 ، وأنظر : صحيح مسلم 96/8 .

يا ابن آدم ! استطعمتك فلم تطعمني.

قال : يا ربّ! كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين ؟

قال : إنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟!

يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني

قال ياربِّ ! كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين ؟

قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ؟»((1))

وفيه : عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم يقول : الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوّية مهلكة ففقد راحلته فطلبها ، حتى اشتدّ عليه الحر والعطش ما شاء الله تعالى . قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه ، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ((2)) .

وقد صرّح الله تعالى في كتابه في عدة مواضع برحمته وإحسانه وتفضّله ، وكيف يتحقق ذلك ممّن يخلق الكفر في العبد ويعذبه عليه ويخلق الطاعة في العبد ويعاقبه - أيضاً - عليها ؟

فهذه أصولهم الدينية التي يدينون الله تعالى بها.

فيجب على العاقل أن ينظر لنفسه هل يجوز المصير إلى شيء منها ؟ !

ص: 534


1- الجمع بين الصحيحين 303/3 ح 2711 ، وأنظر : صحیح مسلم 13/8
2- الجمع بين الصحيحين 222/1 ذيل ح 255 ، وأنظر : صحيح البخاري 122/8 255 ذيل ح 4 ، صحیح مسلم 92/8 92/8 .

وهل يحل له القول ببعضها ؟

ص: 535

وقال الفضل ((1)) :

ما ذكره في هذا الفصل أن الأحاديث دلّت على فضل الله تعالى ورحمته وترحمه على عباده ، وهذا لا يجتمع مع خلق الكفر فيهم والعقوبة عليه.

والجواب : إنّ الله تعالى كما هو رحيم على عباده المؤمنين ، قهار منتقم من عباده الكافرين، فالرحمة واللطف لمن خلقه مؤمناً في الأزل ، والقهر والانتقام لمن خلقه كافراً في الأزل ، والذي خلق فيه الكفر جعله من أهل القهر والذي خلق فيه الإيمان جعله من أهل اللطف ، وهذه الأشياء جرت في الأزل ،«لا تبديل لكلمات الله»(2).

ألم تسمع ما ورد في الحديث : «إنّ الله خلق الجنّة ، وخلق النار،فخلق لهذه أهلاً ، ولهذه أهلاً وهم في أصلاب آبائهم»((3)

فما ورد من أخبار الرحمة والشفقة فهي للمؤمنين ، وليس للكافر الذي خلق للنار من هذا نصيب.

وأما خلق الكفر والعقوبة عليه ، فقد مرّ جواب هذا ((4)) ، وهو أنّه تعالى ليس بظالم في هذا التصرف لأنه ملكه وله أن يتصرّف في ملكه ما يشاء ، يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد،«ولا يسأل عما يفعل وهم

ص: 536


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 714 ( حجري ) .
2- سورة يونس 64 : 10 .
3- انظر : صحيح مسلم 54/8 - 55 ، مسند الحميدي 129/1 ح 265.
4- راجع : 3/3 من هذا الكتاب.

يسألون»(1).

هذا مذهب أهل الحق ، وما ذهب إليه هذا الرجل وأمثاله ، بدعة باطلة ناشئة من أُصول فاسدة، كما علمت فسادها بحمد الله في هذا الكتاب مفصلاً .

ص: 537


1- سورة الأنبياء 21 : 23

وأقول :

حاصل جوابه : أنّ الله سبحانه رحيم ببعض العباد ، غير رحيم ببعض آخر ، فإنّه خلق الكافر وليس له من الرحمة نصيب.

وعليه فلا تكون رحمة الله سبحانه ذاتية وثابتة له من حيث هو ، بل يرحم من يشاء لمحض الرغبة والتشهي، وهي على هذا صورة رحمة لا حقيقة لها، وهذا هو الكفر المحض المخالف للكتاب والسُنّة وضرورة الدين .

وأما قوله : إنه تعالى ليس بظالم في هذا التصرّف لأنه ملكه .... إلى آخره .

فَلَغو آخر تقدّم جوابه ((1)) ، وهو أنّه ليس من شأن الملكية التصرّف فى المملوك كيف كان ، وإن أضر به وعذبه بلا سبب ، بل هذا مخالف لشأن الملكية ، فإنّ شأنّها رعاية المملوك ورحمته ، فمن عذب مملوكه بلا ،موجب ، وأضرّ به بلا داع، فقد خالف مقتضى الملكية ، وأساء بالضرورة ، وما يدري الإنسان بم يكلّم هؤلاء وقد بنوا مذهبهم على خلاف الضرورة؟!

ص: 538


1- راجع : 342/2 و 95/3من هذا الكتاب.

المسألة السادسة في المعاد

قال المصنّف - أعلى الله درجته - ((1)) :

المسألة السادسة في المعاد :

هذا أصل عظيم وإثباته من أركان الدين، وجاحده كافر بالإجماع ، ومن لا يثبت المعاد البدني ولا الثواب والعقاب وأحوال الآخرة فإنّه كافر إجماعاً ، ولا خلاف بين أهل الملل في إمكانه ؛ لأنه تعالى قادر على ك-لّ مقدور ، ولاشك في أن إيجاد الجسم بعد عدمه ممكن ، وقد نص الله تعالى عليه في قوله:

«أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى ..»(2).

وقال تعالى :«من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكل خلق عليم»(3).

والقرآن مملوء من ذكر المعاد وإن اختلفوا في كيفية الإعادة والإعدام،وتفاصيل ذلك ذكرناها في كتبنا الكلامية ((4)) ، لكن البحث هاهنا عن شيء

ص: 539


1- نهج الحق : 376
2- سورة يس 36 : 81
3- سورة يس36: 78-79.
4- راج مناهج اليقين : 335 وما بعدها ، كشف المراد : 425 وما بعدها.

واحد ، وهو أن القول بإثبات المعاد البدني الذي هو أصل الدين وركنه ، إنّما يتم على مذهب الإمامية، أما على مذهب أهل السنة فلا؛ لأن الطريق إلى إثباته ليس إلا السمع ((1)) ، فإنّ العقل إنّما يدلّ على إمكانه ، لا على وقوعه .

وقد بيّنا أن العلم بصحة السمع وصدقه إنّما يتم على قواعد الإمامية القائلين بامتناع وقوع القبيح من الله تعالى ((2)) ؛ لأنّه إذا جاز أن يخبرنا بالكذب ، أو يخبر بما لايريده ولا يقصده، فحينئذ يمتنع الاستدلال بإخباره تعالى على إثبات المعاد البدني ، والشك في ذلك كفر فلا يمكنهم حينئذ الجزم بالإسلام ألبتة .

نعوذ بالله من هذه المقالات التي توجب الشك في الإسلام .

ص: 540


1- انظر م: الرسالة الوافية - للداني - : 107 ، شرح المقاصد 5/5، شرح المواقف 218/8
2- راجع : مناهج اليقين : 37 - 39 .

وقال الفضل ((1)) :

قد سمعت فيما مرّ مراراً أن إجماع جميع واقع على امتناع وقوع القبيح من الله تعالى ، وامتناع الكذب عليه تعالى عن ذلك.

لكن المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة وغيرهم أسندوا امتناع القبح والكذب عليه ، بالحسن والقبح العقليين .

والأشاعرة أسندوهما إلى لزوم النقص في صفاته، ولا نزاع في المدعى ، إنّما النزاع في طريق إثباتها.

فالأشاعرة يثبتون من طريق لزوم النقص وهو محال ، والمعتزلة والشيعة يثبتون من طريق الحسن و القبح العقليّين ((2)).

وقد عرفت - أيضاً - أنّ كلّ الدلائل التي أقام هذا الرجل على امتناع فعل القبيح من الله تعالى ، كلها من باب إقامة الدليل على غير محل النزاع ، ثمّ يكرّر في هذا المقام ويأتي بكلامه المفترى ويرتب عليه المفاسد .

ص: 541


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق : 716 ( حجري ) .
2- راجع : 2592 و 330 و 5/3 - 7 من هذا الكتاب

وأقول :

نعم ، قال الأشاعرة : إن الله سبحانه لا يفعل القبيح ((1)) ، لكن من حيث إنه لا يقبح منه شيء ، فهو - سبحانه - موجد عندهم للقبائح : من الكفر والفساد ، والزنا، واللواط والسرقة ، ونحوها ، ولكن لا تكون قبيحةً منه ،وهو غير معقول(2).

وأما ما زعمه من أنّهم يقولون : بامتناع الكذب عليه للزوم النقص في صفاته.

ففيه : إنّه لو تمّ فإنّما يتم في إثبات امتناع الكذب في كلامه النفسي الذي يقولون به ؛ لأنّه من الصفات(3).

وأما بالنسبة إلى كلامه اللفظي الذي يخلقه في شجرة أو على ألسنة رسله من الملائكة والأنبياء فلا يوجب هذا الدليل امتناع الكذب فيه ؛ لأنّه من الأفعال لا من الصفات(4).

والمدار في إثبات المعاد الجسماني على لزوم صدق هذا الكلام اللفظي ؛ لأن الإخبار عن المعاد إنما وقع بهذا الكلام.

وقد تقدّم تمام الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب ، فراجع(5).

ص: 542


1- المواقف : 328 ، شرح المواقف 195/8.
2- راجع : 6/3 من هذا الكتاب
3- أنظر : الاقتصاد في الاعتقاد - للغزالي - : 73 - 75 ، شرح العقائد النسفية : 108 -109.
4- شرح المقاصد 144/4 ، شرح المواقف 93/8 - 90 .
5- راجع : 2 / 261 - 265 .

وما زعمه أنّ الدلائل التي أقامها المصنف رحمه الله كلها من إقامة الدليل على غير محل النزاع ، باطل .

ويكفي في معرفة بطلانه أن يعير العاقل تلك الأدلة أذناً واعية ، وينظرها بنظرة من نظرات الإنصاف ، والله ولي التوفيق .

ص: 543

قال المصنّف - شرف الله خاتمته - ((1)) :

ومنعت الأشاعرة من استحقاق الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ((2)) ، وخالفوا في ذلك نص القرآن ، وهو قوله تعالى :«فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره»(3).

وقال تعالى:«اليوم تجزى كل نفس بما كسبت»(4) «اليوم تجزون ما كنتم تعملون»(5) «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»(6).

والقرآن مملوء من ذلك .

وخالفوا - أيضاً - المعقول ، وهو قبح التكليف المشتمل على المشقة من غير عوض ((7)) ؛ لأنّه تعالى غني عن ذلك ، ولولا العقاب لزم الإغراء بالقبيح ؛ لأن لنا ميلاً إليه ، فلولا الزجر بالعقاب لزم الإغراء به ، والإغراء بالقبيح قبيح ، ولأنّه لطف ، إذ مع العلم يرتدع المكلف من فعل المعصية ،وقد ثبت وجوب اللطف(8).

فلينظر العاقل وينصف من نفسه، ويعتبر هذه المقالات التي هي

ص: 544


1- نهج الحق : 377.
2- راجع : 58/3 من هذا الكتاب
3- سورة الزلزلة 99 : 7 و 8 .
4- سورة غافر 4 : 17 .
5- سورة الجاثية 45: 28
6- سورة الرحمن 55 : 60.
7- راجع : 97/30 من هذا الكتاب
8- انظر : الذخيرة : 190 وما بعدها ، شرح جمل العلم والعمل : 107 ، الاقتصاد فيمايتعلق بالاعتقاد : 135 ، المنقذ من التقليد 297/1 ، مناهج اليقين : 252 - 254.

أصول الدين، وعليها تبتني القواعد الإسلامية ، هل يجوز المصير إليها والاعتماد عليها ؟

وهل يرضى العاقل لقاء الله سبحانه باعتقاد أنه ظالم خالق للشر، مكلف بما لا يطاق ، قاهر للعبد ، مكذب لما ورد في القرآن العزيز من قوله تعالى :«لا يكلف الله نفساً إلا وسعها»(1) «ولا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها»(2) «وما ربّك بظلام للعبيد»(3)، إلى غير ذلك من الآيات ! ! ؟

وما وجه اعتذاره عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وغيره من الأنبياء المتقدّمين اعتقاد أنّهم غير معصومين ، وأنه يجوز عليهم الخطأ والغلط والسهو والمعصية ((4)) ؟ !

وأن النبي صلی الله علیه و اله و سلم وقع منه في صلاته حيث قال :

تلك الغرانيق العُلا *** منها الشفاعة ترتجى ((5))

وأنّه بال قائماً ((6)) ، وأنّه قال : إن إبراهيم كذب ثلاث مرات ((7)) ؟ !

فإن ارتضى لنفسه ذلك كفاه خزياً وعاراً .

والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطنا.

ص: 545


1- سورة البقرة 2 : 286 .
2- سورة الطلاق 65 : 7 .
3- سورة فصلت 41: 46 .
4- راجع : 17/4 من هذا الكتاب
5- راجع : 18/4 من هذا الكتاب
6- راجع : 129/4 من هذا الكتاب
7- راجع : 964 من هذا الكتاب

وقال الفضل ((1)) :

قد سمعت في ما سبق تفاصيل أجوبة ما ذكر هنا ((2)) ، وكرّر الكلام على دأبه ونقول - متجسّسمين زحمة التكرار -:

إن قوله : منعت الأشاعرة من استحقاق الثواب والعقاب ، مجاب بما ذكر سابقاً ، إنّ القول : بعدم الوجوب على الله تعالى لا يوجب القول : بمنع استحقاق الثواب والعقاب.

فإنّ قول الأشاعرة : إنّه لا يجب عليه شيء، بل كل ما يعطي من الثواب فبفضله، وما يعمل من العقاب فتصرف في ملكه بعدله في عباده ، لكن جرت عادته تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح، والعقاب عقيب العمل السيىء ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، ولا يجب عليه الإعطاء ، لكن جرت عادته بهذا،«ولن تجد لسنة الله تبديلا»(3) ،«ولن تجد لسُنّة الله تحويلا»(4).

فعلى هذا كيف يخالف مذهبهم نصوص القرآن على ما ادعاه هذا الجاهل ؟ !

فإن سائر النصوص المذكورة مثل قوله تعالى :«فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره»((5))«واليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت»(6) يدلّ على

ص: 546


1- إبطال نهج الباطل المطبوع ضمن إحقاق الحق ( حجري ) .
2- راجع : 20/4 وما بعدها ، و ص 97 وص 130 من هذا الکتاب.
3- سورة الأحزاب 33 : 62 .
4- سورة الفاطر 35: 43 .
5- سورة الزلزلة 99 :7.
6- سورة غافر 40 : 17 .

وجود الجزاء وتحققه في الآخرة، وهذا عين مذهب أهل السنّة ، ولا تدلّ النصوص على وجوب الجزاء على الله تعالى .

وأما ما ذكر أنّهم «خالفوا المعقول ، وهو قبح التكليف المشتمل على المشقة من غير عوض فكلام غير معقول ؛ لأنّ العوض إذا كان مفقوداً يلزم هذا القبح ، إلا أن العوض كان غير واجب ، والكلام في عدم الوجوب . وأيضاً لا يلزم الإغراء على من قال : كل الخبز تشبع ، مع أن وجود الشبع عقيب أكل الخبز ليس بواجب .

وأما وجوب اللطف ، فهو ممنوع ، كما علمت أنه لا يجب عليه شيء.

ثمّ ما ذكر من الطامات ، وجرى على دأبه في ميدان المزخرفات ،فنقول مجيباً له على طرزه :

فلينظر العاقل المتبصر هل يرضى العاقل لنفسه لقاء الله تعالى باعتقاد أنه يجب عليه حقوق العباد ، وهو مديون لهم ، وله شركاء في الخلق ، مغلول اليد، ليس له التكليف ، إلا بما يرضى به العبد ، كاذب في قوله :«وعصى آدم ربَّه»((1)) ، وكاذب في قوله :«إنّه لا يخاف لديّ المرسلون *إلا من ظلم ثمّ بدّل من بعد سوء حسناً»((2)) ؟ !

وما عذره عند الله في نسبة الكذب إليه في كلامه ، وأن محمداً صلی الله علیه و اله و سلم جاء للهداية ولم يهد إلا سبعة عشر رجلاً ، وشرذمة قليلة في كل عهد ؟!

وما عذره عند رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم إذ يشتم أزواجه ، ويشتم أصحابه ،

ص: 547


1- سورة طه 20 : 121 .
2- كذا ، والصحيح : إنّي لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظَلم ثُمّ بدّل حُسنا بعدسوء ) سورة النمل 27 : 10 و 11.

ويكفرهم ، ويقول لبيت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم : إنه مطلع قرن الشيطان ، وغيره من المزخرفات والعقائد الباطلة التي ذهب إليها الرافضة المتسمية بالإمامية ؟ !

والحمد لله الذي فضحهم وأهرق دماءهم بسنان قلمنا في آخر الزمان ، وأبقى ذلّهم وبطلان مذهبهم على صحائف الملوان .

وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وأصحابه وعترته أجمعين ،والحمد لله ربّ العالمين .

وقع الفراغ من ذبّ هذا الشيطان المبتدع من العقائد الإسلامية الأصولية المسماة : بعلم الكلام .

والآن نشرع في إبداء أباطيله في علم أصول الفقه ، وليعلم أن ما ذكره الأئمّة أُصول الفقه مما هو محل خلاف الأئمة ، إن وافق كلام أحد في الأربعة ، فلا نتكلّم عليه إلا إذا أساء الأدب ، ونسبهم إلى مخالفة النصوص ؛لأن جميع المذاهب الأربعة في هذا الأمر واحد ؛ لأنّ كلّها مذهب أهل السنة ، فإن وافق واحداً منهم ، فلا علينا أن نعارضه فيه ، فإنّ السنة ق-د قامت ، وليس لنا عند معارضة خصم أهل السنة أن نرجح بعض أقاويل علمائها على بعض ، بل علينا قطع رقبة ابن المطهر بالمقضاب المشهر، وهذا يحصل إذا وافق أحداً من أهل السنّة.

وأما الترجيح في أقوالهم ومذاهبهم ، فليطلب من مصنفاتنا في أصول الفقه ، وإن خالفت المذاهب الأربعة فنقطع رقبته إن شاء الله بالبرهان القاطع ، والبيان الساطع .

ونسأل الله التوفيق في كل حال وهو الموفق والمعين .

ص: 548

وأقول :

قد سبق وجه التكرار ((1)) ، واعلم أنه متى قيل : باستحقاق الإنسان الثواب على عمله ، لزم القول بوجوبه ، وإلا لم يكن حقاً على العمل ، فلا وجه لقوله : «إنّ القول بعدم الوجوب على الله تعالى لا يوجب القول بمنع استحقاق الثواب . . . » .

والظاهر أن غرض الأشاعرة إنكار أصل الاستحقاق في الثواب والعقاب، مدعين أنّ الثواب تفضّل محض ، وأنّ العقاب من باب التصرّف ملكه ، ولكن جرت عادة الله تعالى بهما .

وفيه : ما عرفت من أن دعوى العادة في المغيبات غير صحيحة ؛ لعدم الإطلاع على الغيب ((2)).

ودعوى استفادتها من الوعد والوعيد ، ونحوهما غير سديدة ؛ لأنّ الله - سبحانه - يمحو ما يشاء ويثبت، مع أنه لا أنّه لا يجب عندهم الوفاء بوعده ووعيده ، إذ لا يجب عليه شيء ((3)) .

ولا يلزم بمقتضى قواعدهم صدق كلامه اللفظي، كما أن تصرف المولى بملكه بالعذاب بلا ذنب مناف لشؤون الملكية والعدل، كما سبق ((4)).

ص: 549


1- راجع الصفحة 511 من هذا الجزء .
2- راجع : 350/2 من هذا الكتاب
3- راجع : 352/2 من هذا الكتاب
4- راجع : 3/ 18 و 95 من هذا الكتاب

وأما ما زعمه من أنّ الآيات تدلّ على وجود الجزاء ، لا على وجوبه .

ففيه : إنها إذا دلّت على وجوده ، فقد دلّت على وجوبه إذا كان ثواباً .

وعلى كونه حقاً جائز الاستيفاء إذا كان عقاباً ؛ لأن عنوان الجزاء للشخص إنّما يكون على الحق ، له أو عليه ، وإلا كان في الثواب تفضلاً محضاً لا جزاء ، وفي العقاب ظلماً صرفاً لا جزاء .

وإذا ثبت الحقِّ للعبد على المولى في الثواب ، وجب جزاؤه وكان تركه ظلماً.

وإذا ثبت الحق للمولى على العبد في العقاب كان له استيفاؤه منه والعفو عنه ، وتكون الزيادة عليه ظلماً.

قال سبحانه :«من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلّا مثلها وهم لا يظلمون»(1).

وقال تعالى :«ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون»((2)).

وقال تعالى :«فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون»(3).

وقال تبارك وتعالى :«وتوفّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون»((4)

وقال سبحانه:«وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون»((5))

ص: 550


1- سورة الأنعام 6 : 160 .
2- سورة الجاثية 45: 22 .
3- سورة آل عمران 3 : 25
4- سورة النحل 16 : 111 .
5- سورة البقرة 2 : 272 .

إلى كثير من الآيات الكريمة .

وبالجملة : قد دلّت الآيات التي ذكرها المصنف رحمه الله على ان الثواب جزاء للعبد عمّا عمل من الخير فيكون حقاً له.

والعقاب جزاء له على ماعمل من الشرّ فيكون حقاً عليه، فيثبت استحقاق العبد للثواب والعقاب.

ودلّت الآيات الأخر التي أشرنا إليها على أنه لو لم يوف العبد ثوابه بمنعه أو نقصه ، كان ظلماً له ، وأنه لو زيد في عقابه على ما يستحقه ، كان ظلماً له .

وقد خالف الأشاعرة نصوص الكتاب، فأنكروا استحقاق الثواب والعقاب ، كما خالفوا العقل أيضاً((1)).

أما بالنسبة إلى الثواب ، فلحكم العقل بقبح التكليف المشتمل على المشقة من غير عوض ؛ لأنّ المولى لا يكلّف عبده عوضاً عمّا أنعم عليه ، لقبح طلب الجواد الغني جزاء نعمه من عبده .

وحينئذ فلو كلّفه ، لزم أن يجعل له عوضاً، وإلا فقد أدخل عليه المشقة بلا عوض ، وهو قبيح وظلم ، كما نطقت به الآيات.

وأجاب الفضل بما حاصله : أنّه يكفي في رفع القبح وجود العوض وإن لم يجب .

وهو خطأ ؛ لأنه إذا سُلّم توقف ارتفاع القبح على وجود العوض ، فقد لزمه القول بوجوبه ؛ لأن ما يتوقف عليه زوال قبح التكليف يكون واجباً مع التكليف لا محالة .

ص: 551


1- انظر : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين : 283 - 284 ، وراجع 161/3 -162من هذا الكتاب.

وأمّا بالنسبة إلى العقاب ؛ فلأن المولى إذا لم يجعل العقاب على المعاصي ، يلزم الإغراء بالقبيح - وهو المعاصي؛ لأن لنا ميلاً إليها ، فلو آمننا المولى من العقاب عليها فقد أغرانا بالقبيح ، ولأن جعل العقاب لطف ،إذ مع العلم به يرتدع المكلّف المعصية ، واللطف واجب.

وأجاب الفضل عن الأوّل : بمنع الإغراء ، مستدلاً بأنه لا إغراء في قولنا : كل الخبز تشبع مع عدم وجوب الشبع .

وفيه : إنّه غير مرتبط بالمدعى فإنّ المدعى حصول الإغراء مع عدم جعل العقاب على المعصية، والفضل يجيب بعدم الإغراء مع حصول الثواب بدون وجوبه ، وهو خبط.

وأجاب عن الثاني : بمنع وجوب اللطف ، إذ لا يجب على الله شيء ،وقد أبطلناه مراراً ((1)) .

وأما ما زعمه من معارضة المصنف رحمه الله ببيان معتقدات الإمامية فكذب ، أو تهويل بالألفاظ المجردة .

أمّا قوله :«يجب عليه حقوق العباد وهو مديون لهم» فهو بمنزلة التعبير عن قوله تعالى :«كتب ربِّكم على نفسه الرحمة»((2)) بأن للعباد عليه حق الرحمة، وهو مديون لهم ، وأي بأس فيه ، لو لا التهويل الصوري ؟ ! والوجوب عليه سبحانه كما يكون بكتابة الشيء على نفسه يكون بمقتضى عدله.

وأما قوله : « وله شركاء في الخلق» ، فكذب ظاهر ؛ إذ لو لزم الشرك بمجرّد نسبة الفعل إلى العبد ، لزم - أيضاً - بالقول : بالكسب ، بناءً على أن

ص: 552


1- راجع : 353/2 ومواضع أخرى من هذا الكتاب
2- سورة الأنعام 6 : 54 .

للعبد أثراً فيه وللزم بنسبة العلم والقدرة إلى العبد بالأولية ؛ لأن دعوى انصاف العبد بنحو صفات الله سبحانه ، أقرب إلى الشرك من نسبة الفعل إلى العبد .

وأما قوله : «مغلول اليد»، فكذب قبيح نشأ من عدم مبالاة الخصم بالله تعالى في سبيل أغراضه ؛ إذ أي ربط لغل اليد بقولنا : يمتنع على الله سبحانه فعل القبيح وعقاب عبده بلا جرم ، لأنّه منزّه عن القبح والظلم ، وإن كان قادراً عليهما ؟ !

وأما قوله : «ليس له التكليف بما لا يرضى به العبد» فطريف ؛ لأنّ قولنا : لا يكلف إلا بالحسن لقبح التكليف بالقبيح لا يجعل التكليف منوطاً برضى العبد ، كيف وأكثر العبيد لا يرضون إلا بالقبيح ؛ كالكفر ، والزنا ، واللواط ، ونحوها .

وأما قوله : كاذب في قوله :«وعصى آدم ربه»((1))...» إلى آخره ، فأطرف من سابقه ؛ لأنّ إرادة خلاف الظاهر في الكتاب العزيز كثير ، وهي لا تستلزم الكذب .

كيف وهم قد خالفوا في آرائهم ما لا يحصى من الآيات ، كالآيات الدالة على أنّ العبد هو الفاعل ؟ ! على أن (إلا) في قوله تعالى :«إلّا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء»((2)) للاستدراك ؛ بمعنى لكن ، كما في «الكشاف» وغيره ((3)).

ص: 553


1- سورة طه 20 : 121
2- سورة النمل 27 : 10 و 11.
3- الكشاف 3/ 138 ، تفسير الثعلبي 192/7 ، تفسير البغوي 349/3 ، تفسير الرزاي 185/24 .

والمعنى ؛ - والله أعلم - : لا يخاف لديّ المرسلون لعدم الظلم منهم ، لكن من ظلم من غيرهم ثمّ بدّل حُسناً بعد سوء يكون محل الخوف ورجاء المغفرة .

واعلم أن الآية من سورة النمل ، وهي هكذا :«ثم بدل حسناً بعد سوء».

وقد أخطأ الفضل فيها فذكرها هكذا«ثم بدل من بعد سوء حسناً ».

فإن قلت : على ما ذكرته يكون الصدق والكذب عبارة عن موافقة المراد للواقع ومخالفته له ، لا عن موافقة الظاهر للواقع ومخالفته.

وحينئذ فلا يصح من المصنف رحمه الله نسبة القوم إلى تكذيب الله سبحانه في قوله :« لا يكلف الله نفساً إلا وسعها»((1)).

قلت : إنّما صحت النسبة من المصنف رحمه الله ؛ لأنه لم يدع أحد أن المراد بالآية غير ظاهرها ، فهما واحد ، ولا شك أنّ ظاهرها كذب بمقتضى مذهب الأشاعرة ؛ لأنّ كلّ ما كلّف الله تعالى به عباده إنما هو من فعله عندهم ((2)) ولا وسع للعبد فيه فعلاً وتركاً، فيلزم تكذيبهم لهذه الآية ونحوها .

وأما قوله : إن محمداً جاء للهداية ، فمسلّم ، لكن لا يستلزم هداية الكل أو الأكثر ، كما هو كذلك في الأنبياء السابقين ، ولذا قال تعالى :«وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين»((3)).

ص: 554


1- سورة البقرة 2 : 286
2- راجع : 117/3 وما بعدها من هذا الكتاب
3- سورة يوسف 12 : 103 .

على أنه صلی الله علیه و اله و سلم قد اهتدى به الكثير ، واستشهد منهم الجم الغفير ، ثمّ بقي بعده قوم قال الله تعالى وأخبر في كتابه العزيز أنهم ينقلبون على أعقابهم(1).

وأخبر رسول الله بأنّهم يرتدون على أدبارهم القهقرى، ويدخلون النار إلا مثل همل النعم ، كما سبق في رواية البخاري ((2)).

وأخبر - أيضاً - بأنّهم يتبعون سنن من كان قبلهم حذو النعل بالنعل ((3)) فانقلبوا كما انقلب قوم موسى وصالح وقد جاءا للهداية .

وأما قوله : « يشتم أزواجه وأصحابه» .

ففيه : إن المصنف رحمه الله ما شتمهم ولكن شتمهم الكتاب العظيم وأخبارهم ، فقد روى القوم أنفسهم أن بيت عائشة مطلع قرن الشيطان ، ومنه الفتنة ((4)) ، فما ذنب المصنف رحمه الله إذا نقله إذا نقله عنهم ؟ !

وأما قوله : «فإن وافق واحداً منهم فلا علينا أن نعارضه فيه».

فخطأ ؛ لأنّ المصنف رحمه الله إذا بين مخالفة كلّ واحد منهم للكتاب والسُنّة والعقل، بحيث يعلم منه أنّهم لا يقفون على دليل ، ولا يبنون مذهبهم على أساس ، فكيف يحسن السكوت عن جوابه ؟ !

وأمّا بقيّة كلماته فنحن نمرّ عليها كراماً .

ص: 555


1- دليل قوله تعالى : (وما محمد إلا روسل قد خلت من قبله الرسل أفاين مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين»سورة آل عمران 3 : 144 .
2- راجع : 4 / و 7/ 19 و 116 من هذا الكتاب
3- راجع : 281/1 و 2122/7 من هذا الكتاب
4- راجع الصفحة 491 من هذا الجزء

والحمد لله الذي وفقنا لجعل ما زخرفه كرماد اشتدت به الريح في یوم عاصف ، وله الشكر على أن جعلنا من شيعة آل محمد صلی الله علیه و اله و سلم، وهداناللتمسك بهم اتِّباعاً لأمر نبيّه ، والصلاة والسلام عليه وعليهم، وعلى جميع النبيين والصالحين إلى يوم الدين .

وليقف إلى هنا جواد القلم ، فإن أصول الدين هي الأصل فإن وفق الله تعالى الناظر في هذا الكتاب لاتباع الحق فهو في غنى عن الكلام في أصول الفقه وفروعه ، وإلا فهو بعيد عن الهداية ، وعسانا إذا سنحت الفرصة تتم الكتاب والله الموفق .

وقد وقع الفراغ من تأليفه في اليوم التاسع والعشرين من شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1350 ه- خمسين بعد الثلاثمئة والألف هجرية بيد مؤلفه محمد حسن بن الشيخ محمّد مظفر غفر الله تعالى له ولوالديه وللمؤمنين إنّه أرحم الراحيم.

ص: 556

ص: 557

فهرس الموضوعات

المطلب الرابع :

ما رواه الجمهور في مطاعن معاوية...5

ردّ الفضل بن روزبهان ...7

ردّ الشيخ المظفر ...10

نسب معاوية واستلحقاقه لزياد...23

ردّ الفضل بن روزبهان ...25

ردّ الشيخ المظفّر ...29

دعاء النبي صلی الله علیه و اله و سلم على معاوية...35

ردّ الفضل بن روزبهان ...38

ردّ الشيخ المظفر ...40

مخاصمة معاوية لعلي علیه السلام ...43

طعن معاوية في خلافة عمر ...46

ردّ الفضل بن روزبهان ...48

ص: 558

رد الشيخ المظفر ...49

قول النبي صلی الله علیه و اله و سلم: إنه يموت على غير سنتي ولعنه إياه...64

ردّ الفضل بن روزبهان ...65

ردّ الشيخ المظفر ...66

لعن النبي صلی الله علیه و اله و سلم معاوية ...67

ردّ الفضل بن روزبهان ...68

رد الشيخ المظفر ...69

سب معاوية لسيّد الكونين ...70

ردّ الفضل بن روزبهان ...71

رد الشيخ المظفر ...72

سم معاوية للحسن علیه السلام وجنايات ابنه وأبيه وأمه...75

ردّ الفضل بن روزبهان ...76

ردّ الشيخ المظفر ...77

الشجرة الملعونة في القرآن...80

ردّ الفضل بن روزبهان ...81

رد الشيخ المظفر...82

نسب معاوية أيضاً ...85

ردّ الفضل بن روزبهان...86

ردّ الشيخ المظفر...87

قتل معاوية للمهاجرين والأنصار ونسب ابن العاص...88

ردّ الفضل بن روزبهان ...91

ص: 559

ردّ الشيخ المظفر...92

ما رواه الجمهور في حق الصحابة...95

ردّ الفضل بن روزبهان ...96

ردّ الشيخ المظفر ...100

إحداث الصحابة بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...113

ردّ الفضل بن روزبهان ...112

رد الشيخ المظفر ...113

ارتداد الصحابة بعد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...117

رد الفضل بن روزبهان ...122

رد الشيخ المظفر ...123

قرار الصحابة من الزحف وذم القرآن لهم صلی الله علیه و اله و سلم...125

ردّ الفضل بن روزبهان ...126

ردّ الشيخ المظفر ...123

ترك الصحابة الصلاة مع رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم وذم القرآن لهم...125

ردّ الفضل بن روزبهان ...134

ردّ الشيخ المظفر ...135

لمز الصحابة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم في الصدقات وذم القرآن لهم...142

رد الفضل بن روزبهان ...144

ردّ الشيخ المظفّر ...146

قصة الافك ...152

ردّ الفضل بن روزبهان...154

ص: 560

ردّ الشيخ المظفر...155

اتهام الأنصار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم عند فتح مكة...160

رد الفضل بن روزبهان ...162

رد الشيخ المظفر ...163

ذم رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم لبعض أصحابه...166

ردّ الفضل بن روزبهان ...166

ردّ الشيخ المظفر ...167

مخالفة الصحابي للنبي صلی الله علیه و اله و سلم فيما لا يضره...169

ردّ الفضل بن روزبهان ...170

رد الشيخ المظفر...171

ذم النبي صلی الله علیه و اله و سلم لجماعة من أصحابه ...173

ردّ الفضل بن روزبهان...174

ردّ الشيخ المظفر ...175

تهاون الصحابة في أمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم والإعراض عن مطالبه...178

ردّ الفضل بن روزبهان ...180

ردّ الشيخ المظفر

براءة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم من فعل خالد...182

ردّ الفضل بن روزبهان ...183

رد الشيخ المظفر ...184

عدم صلاحية أبو بكر لتبليغ سورة براءة...187

ردّ الفضل بن روزبهان ...189

ص: 561

ردّ الشيخ المظفر...190

اظهار النبي صلی الله علیه و اله و سلم لفضل علي علیه السلام يوم خيبر...193

ردّ الفضل بن روزبهان ...194

رد الشيخ المظفر ...195

تألم أمير المؤمنين علیه السلام من الصحابة والشقشقية...198

ردّ الفضل بن روزبهان...201

رد الشيخ المظفر...202

منازعة على علیه السلام لطلحة والزبير ...209

ردّ الفضل بن روزبهان ....211

رد الشيخ المظفر...212

اخبار رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم بغدر الأمة بعلي علیه السلام من بعده..215

ردّ الفضل بن روزبهان...216

ر الشيخ المظفر...217

مخالفة أبي بكر وعمر لأمر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...220

ردّ الفضل بن روزبهان...223

رد الشيخ المظفر ...224

قول : عمر إن النبي ليهجر...228

ردّ الفضل بن روزبهان...231

ردّ الشيخ المظفر...233

اعتراضات عمر على النبي صلی الله علیه و اله و سلم...236

ردّ الفضل بن روزبهان...241

ص: 562

ردّ الشيخ المظفر...244

رفع عمر صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم...255

ردّ الفضل بن روزبهان...256

رد الشيخ المظفر...257

رد عمر على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...258

ردّ الفضل بن روزبهان...259

ردّ الشيخ المظفر ...260

سوء أدب عمر مع أزواج رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...264

ردّ الفضل بن روزبهان...265

رد الشيخ المظفر...266

النبي صلی الله علیه و اله و سلم شيء الرأي في عمر..271

ردّ الفضل بن روزبهان...272

رد الشيخ المظفر...266

عدم مشاورة رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم أبا بكر وعمر في غزوة بدر...274

ردّ الفضل بن روزبهان...276

ردّ الشيخ المظفر ...278

اعتقاد عمر جواز وقوع الفاحشة من النبي صلی الله علیه و اله و سلم في الجنة ...284

ردّ الفضل بن روزبهان...285

رد الشيخ المظفر ...286

قول عمر ما مات محمد ولا يموت...287

ردّ الفضل بن روزبهان...289

ص: 563

ردّ الشيخ المظفر...290

استحسان عمر لما ابتدع من البدع...290

ردّ الفضل بن روزبهان...295

ردّ الشيخ المظفر...296

منع عمر لمتعة النساء...297

رد الفضل بن روزبهان...299

ردّ الشيخ المظفر ...300

تخطئة النبي صلی الله علیه و اله و سلم لعمر...301

ردّ الفضل بن روزبهان...302

رد الشيخ المظفر...303

انحطاط منزلة عمر عند عمرو بن العاص...305

ردّ الفضل بن روزبهان...306

رد الشيخ المظفر...307

أمر النساء عمر بالتقوى والخوف من الله...308

ردّ الفضل بن روزبهان...309

رد الشيخ المظفر ...310

رواية العامة القدح في نسب عمر...311

ردّ الفضل بن روزبهان...312

ردّ الشيخ المظفر ...313

قول عمر : كلّ أحد أعلم من عمر حتى النساء...314

رد الفضل بن روزبهان...315

ص: 564

ردّ الشيخ المظفر...316

اقدام عمر على قتل النفس المحترمة...317

ردّ الفضل بن روزبهان ...318

ردّ الشيخ المظفر ...319

تعوذ عمر من معضلة ليس لها أبو الحسن علیه السلام...320

ردّ الفضل بن روزبهان ...321

ردّ الشيخ المظفر ...322

مخالفة عمر للنبي صلی الله علیه و اله و سلم في مسألة الطلاق...323

ردّ الفضل بن روزبهان ...324

رد الشيخ المظفر ...325

جهل عمر بوجوب التيمم لفاقد الماء...331

رد الفضل بن روزبهان ...333

رد الشيخ المظفر...334

اعتراض عمر على رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...338

ردّ الفضل بن روزبهان ...339

رد الشيخ المظفر ...340

جهل عمر بحد شارب الخمر...343

ردّ الفضل بن روزبهان ...344

رد الشيخ المظفر ...345

جهل عمر بما كان يقرأ للنبي صلی الله علیه و اله و سلم في صلاة العيد...347

ردّ الفضل بن روزبهان ...348

ص: 565

ردّ الشيخ المظفر...349

خفاء الواضحات من الأحكام على عمر...350

ردّ الفضل بن روزبهان ...351

ردّ الشيخ المظفر ...352

زيادة عمر في الأذان...355

ردّ الفضل بن روزبهان ...357

رد الشيخ المظفر ...358

اعتراف عمر حال احتضاره بصدور ما يوجب المؤاخذة منه...364

ردّ الفضل بن روزبهان ...366

رد الشيخ المظفر ...367

اعتراف عبدالله بن عمر بلزوم الاستخلاف...369

ردّ الفضل بن روزبهان...371

رد الشيخ المظفر ...372

اعتراف معاوية بأنّ الشورى شتت أمر المسلمين...374

ردّ الفضل بن روزبهان ...375

رد الشيخ المظفر...376

مناقضة عمر لنفسه...378

ردّ الفضل بن روزبهان...379

رد الشيخ المظفر ...380

مثالب المخاصمين لعلي علیه السلام...384

ردّ الفضل بن روزبهان ...386

ص: 566

ردّ الشيخ المظفر...388

عمر أوّل من استأثر بالحق على أهله...392

ردّ الفضل بن روزبهان ...393

ردّ الشيخ المظفر...394

غصب فدك وسخط فاطمة علیهاالسلام أبي بكر وعمر...396

ردّ الفضل بن روزبهان ...399

ردّ الشيخ المظفر ...400

تجويز بعضهم الكذب على فاطمة الزهراء علیهاالسلام...401

ردّ الفضل بن روزبهان ...402

ردّ الشيخ المظفر ...403

رد دعوى فاطمة علیهاالسلام وقبول دعوى بني صهيب...406

ردّ الفضل بن روزبهان ...408

ردّ الشيخ المظفر...409

دعوى مخالفة النبي صلی الله علیه و اله و سلم لأمر الله تعالى...411

ردّ الفضل بن روزبهان ...412

ردّ الشيخ المظفر ...413

نسبة قلة المعرفة بالأحكام إلى أهل البيت علیهاالسلام...415

رد الفضل بن روزبهان ...416

رد الشيخ المظفر...417

دعوى عدم شفقة النبي صلی الله علیه و اله و سلم على أهل بيته علیهاالسلام...419

ردّ الفضل بن روزبهان...420

ص: 567

ردّ الشيخ المظفر...421

تغيير أبي بكر لما كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...422

ردّ الفضل بن روزبهان ...423

ردّ الشيخ المظفر ...424

غضب فاطمة علیها السلام أبي بكر وعمر...426

رد الفضل بن روزبهان ...428

ردّ الشيخ المظفر ...430

دعوى أبي بكر أنه ولي رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...433

ردّ الفضل بن روزبهان ...436

رد الشيخ المظفر ...439

ادعاء عائشة حجرتها...445

ردّ الفضل بن روزبهان ...446

ردّ الشيخ المظفر ...448

خروج عائشة على أمير المؤمنين علیه السلام...452

ردّ الفضل بن روزبهان...454

ردّ الشيخ المظفر ...456

جعل عائشة بيت رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم مقبرة لأبيها...490

ردّ الفضل بن روزبهان ...491

ردّ الشيخ المظفّر ...493

افشاء عائشة لسر رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم...494

ردّ الفضل بن روزبهان ...496

ص: 568

ردّ الشيخ المظفر...498

الأخبار التي تدل على مخالفات عائشة...506

ردّ الفضل بن روزبهان ...508

ردّ الشيخ المظفر ...511

تهجين مذهب المجبرة...520

رد الفضل بن روزبهان ...523

رد الشيخ المظفر ...527

خلق الله الكفر فى العبد وتعذيبه عليه...532

رد الفضل بن روزبهان ...535

ردّ الشيخ المظفر ...537

المسألة السادسة في المعاد ...538

ردّ الفضل بن روزبهان ...540

ردّ الشيخ المظفر ...541

مذهب الأشاعرة في استحقاق الثواب والعقاب...543

ردّ الفضل بن روزبهان ...545

ردّ الشيخ المظفر ...548

فهرست الموضوعات...557

ص: 569

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.