المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1426 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-359-4
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الخامس
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :
وأمّا السنّة : فالأخبار المتواترة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، الدالّة على إمامته ، وهي أكثر من أن تحصى ، وقد صنّف الجمهور وأصحابنا في ذلك وأكثروا ، ولنقتصر هاهنا على القليل ، فإنّ الكثير غير متناه ؛ وهي أخبار :
الأوّل : ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده : قال صلی اللّه علیه و آله : « كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نورا بين يدي اللّه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق اللّه آدم قسّم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا ، وجزء عليّ » (2).
ص: 5
وفي حديث آخر رواه ابن المغازلي الشافعي : « فلمّا خلق اللّه آدم ركّب ذلك النور في صلبه ، فلم يزل في شيء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطّلب ، ففيّ النبوّة ، وفي عليّ الخلافة » (1)
وفي خبر آخر رواه ابن المغازلي ، عن جابر ، في آخره : « حتّى قسمه جزءين ، فجعل جزءا في صلب عبد اللّه ، وجزءا في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبيّا ، وأخرج عليّا وصيّا (2) » (3).
* * *
ص: 6
وقال الفضل (1) :
ذكر ابن الجوزي هذا الحديث في كتاب « الموضوعات » في طريقين ، وقال : هذا حديث موضوع على رسول اللّه ، والمتّهم به في الطريق الأوّل محمّد بن خلف المروزي ؛ قال يحيى بن معين : كذّاب ، وقال الدارقطني : متروك.
وفي الطريق الثاني : المتّهم به جعفر بن أحمد ، وكان رافضيّا (2).
وقال أبو سعيد بن يونس : كان رافضيّا كذّابا ، يضع الحديث في سبّ أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (3).
والنسبة إلى مسند أحمد باطل وزور.
وأمّا ما ذكر من أنّ الأخبار متواترة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله على إمامة عليّ علیه السلام ، فنسأله أوّلا عن معنى التواتر؟ فإن قال : أن يبلغ عدد الرواة حدّا لا يمكن للعقل أن يحكم بتواطئهم على الكذب.
فنقول : اتّفق جميع المحدّثين أنّه ليس لنا حديث متواتر إلّا قوله صلی اللّه علیه و آله : من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (4).
ص: 7
فهذا الحديث في كلّ عصر رواه جماعة يحكم العقل على امتناع تواطئهم على الكذب ، وبعضهم ألحق حديث : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بالمتواتر (1).
فكيف هذا الرجل الجاهل بالحديث والأخبار ، بل بكلّ شيء - حتّى إنّي ندمت من معارضة كتابه وخرافاته بالجواب ؛ لسقوطه عن مرتبة المعارضة ؛ لانحطاط درجته في سائر العلوم ، معقولها ومنقولها ، أصولها وفروعها (2) ، ولكن ابتليت بهذا مرّة فصبرت - يحكم بأنّ المنقول من « مسند أحمد » متواتر ، وأحمد بن حنبل قد جمع في مسنده الضعيف والمنكر ؛ لأنّه مسند لا صحيح ، وهو لا يعرف المسند إلّا الصحيح ، ولا يفرّق بين الغثّ والسمين؟!
والمغازلي رجل مجهول لا يعرفه أحد من العلماء من جملة المصنّفين والمحدّثين.
والعجب أنّ هذا الرجل لا ينقل حديثا إلّا من جماعة أهل السنّة ؛ لأنّ الشيعة ليس لهم كتاب ، ولا رواة ، ولا علماء مجتهدون مستخرجون للأخبار ، فهو في إثبات ما يدّعيه عيال على كتب أهل السنّة ؛ فإذا صار كذلك ، فلم لا يروي عن كتب الصحاح؟! فهو يترك المنقولات في الصحاح ، بل يطعن فيها ويذكر المناكير والضعفاء والمجهولات ، من جماعة مجهولة منكرة ، ويجعله سندا لمذهبه الباطل الفاسد ، وهذا عين التعصّب.
ص: 8
ثمّ ما ذكر من المتواتر ، فإن ادّعى أنّه متواتر عند أهل السنّة والجماعة ، فقد بيّنّا بطلانه ، وأنّه ليس حديث متواتر عندنا إلّا ما ذكرناه (1).
* * *
ص: 9
وإن ادّعى التواتر عند الشيعة والروافض ، فكلّ الناس يعلمون أنّ عدد الشيعة والروافض في كلّ عصر ، من العصر الأوّل إلى هذا العصر ، ما يبلغ حدّ الكثرة والاستفاضة ، فضلا عن حدّ التواتر ، فلا يمكن لهم دعوى التواتر في أيّ مدّعى كان.
وما ذكره من الأخبار في هذا الباب أكثرها ضعيف وموضوع ،
ص: 10
فلا يصحّ الاستدلال به ، ولكن نذكره على دأبنا ، ونتكلّم على كلّ خبر بما هو الحقّ فيه.
* * *
ص: 11
ذكر السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » - التي هي مختصر كتاب ابن الجوزي - حديثين آخرين حكاهما عن الخطيب ، لا عن أحمد وابن المغازلي ، وأوّلهما لا ربط له بما حكاه المصنّف رحمه اللّه هنا ، وثانيهما مخالف له لفظا وفي بعض الخصوصيات.
قال السيوطي نقلا عن ابن الجوزي : الخطيب ، أخبرني أبو القاسم عليّ بن الحسن بن محمّد بن أبي عثمان الدقّاق ، حدّثنا محمّد بن خلف المروزي ، حدّثنا موسى بن إبراهيم المروزي ، حدّثنا موسى بن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه مرفوعا : « خلقت أنا وهارون بن عمران ، ويحيى بن زكريّا ، وعليّ بن أبي طالب من طينة واحدة » ، موضوع ، آفته محمّد بن خلف.
جعفر بن أحمد بن عليّ بن بيان ، حدّثنا عمر الطائي ، حدّثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن الوليد بن عبد الرحمن ، عن نمير الحضرمي ، عن أبي ذرّ مرفوعا : « خلقت أنا وعليّ من نور ، وكنّا عن يمين العرش قبل أن يخلق اللّه آدم بألفي عام ، ثمّ خلق اللّه آدم فانقلبنا في أصلاب الرجال ، ثمّ جعلنا في صلب عبد المطّلب ، ثمّ شقّ أسماءنا من اسمه ، فاللّه محمود وأنا محمّد ، واللّه الأعلى وعليّ عليّ » ؛ وضعه جعفر ، وكان رافضيّا وضّاعا (1). انتهى.
ص: 12
فأنت ترى أنّ هذين الحديثين غير ما حكاه المصنّف رحمه اللّه ، وراويهما - وهو الخطيب - غير راوي أخبار المصنّف رحمه اللّه ؛ فخان الفضل في النقل عن ابن الجوزي!
ولو كان محمّد بن خلف هو الراوي لحديث النور وطعن فيه ابن الجوزي ، لذكره السيوطي مع حديثه الأوّل ؛ لاتّحاد وجه الطعن ، وهو رواية ابن خلف له.
ويشهد لذلك أنّ الذهبي في « ميزان الاعتدال » ذكر بترجمة محمّد بن خلف الحديث الأوّل مع طعن ابن الجوزي فيه (1).
ولو كان ابن خلف راويا لحديث النور ، وكان ابن الجوزي قائلا بوضعه ، لكان ذكر الذهبي له أولى ؛ لأنّه أدّل على فضل أمير المؤمنين وإمامته ، والذهبي أشدّ اهتماما بإنكار مثله.
ولو سلّم رواية محمّد بن خلف لحديث النور ، وطعن ابن الجوزي فيه ، فهو لا يستلزم كذب جميع رواة حديث النور ، بل يكون تعدّد طرقه دليلا على صدقه.
على أنّ ابن الجوزي أيضا طرف النزاع ، فكيف يعتبر قوله بوضع حديث النور ، مع أنّا نرى القوم أنفسهم لا يعتبرون كلامه؟!
قال السيوطي في ديباجة « اللآلئ المصنوعة » : « جمع الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي كتابا فأكثر فيه من إخراج الضعيف الذي لم ينحطّ إلى رتبة الوضع ، بل ومن الحسن ، ومن الصحيح ، كما نبّه على ذلك الأئمّة الحفّاظ ، ومنهم : ابن الصلاح في ( علوم الحديث ) ، وأتباعه » (2).
ص: 13
وأمّا ما قيل : إنّ جعفر بن أحمد كان رافضيا ؛ فلا منشأ له إلّا روايته ما يسمعه من فضائل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ومساوئ أعدائهم.
وهذه عادتهم في من روى فضيلة لأهل البيت أو رذيلة لأعدائهم ، يريدون بذلك إخفاء الحقّ وترويج الباطل ، كما عرفته في مقدّمة الكتاب (1) ؛ فلذا خفي جلّ فضائل آل الرسول صلی اللّه علیه و آله وأكثر مساوئ مخالفيهم ، كما لا منشأ لنسبة الوضع إلى جعفر إلّا إظهاره للحقّ!
وأمّا تكذيب الفضل نسبة الحديث إلى « مسند أحمد » ؛ فالظاهر أنّ سببه عدم نقل ابن الجوزي للحديث إلّا عن الخطيب ، وإلّا فهو أقصر باعا عن الاطّلاع على جميع « مسند أحمد » ، كما يشهد له إنكاره للحديث الآتي مع ثبوته في « المسند ».
وقد نقل ابن أبي الحديد (2) هذا الحديث بعينه ، عن أحمد في مسنده ، وفي « الفضائل » ، ثمّ قال : وذكره صاحب كتاب « الفردوس » وزاد فيه : « ثمّ انتقلنا حتّى صرنا في عبد المطّلب ، فكان لي النبوّة ، ولعليّ الوصيّة ».انتهى.
ولكنّي قد طلبت الحديث في « المسند » فلم أعثر عليه ، وجلّ ظنّي أنّه غير موجود في النسخة المطبوعة منه التي هي بأيدينا الآن ؛ لأنّهم إذا رأوا مثل هذه الفضيلة السنيّة حذفوها مهما أمكن ، كما سننبّهك على بعض ما عثرنا عليه ممّا نقله علماؤهم عن « المسند » ، ومع ذلك لم يوجد
ص: 14
فيه الآن.
ثمّ إنّ أوّل ما نقله المصنّف رحمه اللّه عن ابن المغازلي ، نقله أيضا في « ينابيع المودّة » (1) عن ابن المغازلي ، بسنده عن سلمان الفارسي.
ونقل عنه أيضا بسنده عن أبي ذرّ حديثا آخر مثل حديث أحمد (2).
كما إنّه نقل عن صاحب « الفردوس » بسنده عن سلمان ، ما نقله ابن أبي الحديد عنه (3).
وزاد حديثا آخر نحو حديث أحمد ، عن الحمويني ، وموفّق بن أحمد ، بسنديهما عن أمير المؤمنين علیه السلام (4).
ثمّ نقل عن الحمويني ، بسنده عن ابن عبّاس ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ : « خلقت أنا وأنت من نور اللّه عزّ وجلّ » (5).
فهذه الأخبار - كما ترى - معتبرة ، ولو لأجل اعتضاد أسانيدها بعضها ببعض ، وهي أدلّ دليل على فضل أمير المؤمنين على غيره ؛ فيكون هو الإمام ، مع تصريح بعضها بخلافته ووصايته.
وأمّا ما زعمه الفضل من انحصار المتواتر في خبر أو خبرين ، فمن
ص: 15
عدم معرفته بالاصطلاح ، فإنّ هذا إنّما هو في المتواتر لفظا لا معنى فقط.
كيف؟! والأخبار المتواترة معنىّ أكثر من أن تحصى ، وقد ادّعى نفسه في هذا الكتاب تواتر بعض الأخبار!
فمراد المصنّف رحمه اللّه : إنّ مجموع الأخبار متواترة معنىّ بإمامة أمير المؤمنين علیه السلام وإن لم يتواتر كلّ منها لفظا ولا معنى ، فلا يلزم أن يكون خصوص حديث النور متواترا ، وإن كان لو ادّعى أحد تواتره معنى بلحاظ أخبار الفريقين لم يبعد عن الصواب ، كحديث الغدير(1).
ومن الطريف نسبة الفضل للمصنّف رحمه اللّه دعوى تواتر المنقول من « مسند أحمد » ، فإنّ غاية ما يمكن أن يسند إلى المصنّف رحمه اللّه دعوى تواتر حديث « النور » معنى ؛ بسبب تعدّد رواته ومخرّجيه ، ومنهم أحمد ، فلا يلزم منه القول بصحّة ما في « مسند أحمد » ، فضلا عن تواتره.
وأطرف منه نقصه للمصنّف العلّامة رحمه اللّه وزعمه الندم من معارضته ، وأنّه ابتلي فصبر ، وهو كما تراه لا يعرف حتّى العبارات الواضحة ، فما أصدق المعرّي في أبياته المشهورة ، وكأنّه ينظر فيها إلى هذا المقام(2).
ص: 16
ويكفي المصنّف رحمه اللّه فضلا عجز علماء القوم في عصره عن معارضته ، حينما جمعهم السلطان السعيد محمّد خدا بنده حتّى تشيّع السلطان في الحال وجمع كثير ممّن شاهد الحال أو سمعها ، وتشيّعت إيران ببركة علم المصنّف ونيّر برهانه (1).
وأمّا ما زعمه من أنّ أحمد جمع الضعيف والمنكر ؛ معلّلا بأنّه « مسند » لا « صحيح » ، فمن عدم معرفته للمسمّيات إلّا بأسمائها ، فإنّ « مسند أحمد » كصحاحهم قد جمع أخبارا مسندة صحيحة عنده ، وإن سمّي ب « المسند ».
قال ابن تيميّة في ردّه ل « منهاج الكرامة » للمصنّف ، عند الكلام على « البرهان السابع » على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو آية « المودّة » : « شرط أحمد في المسند ، مثل أبي داود في سننه » (2).
وقال عند الكلام على « البرهان السادس (3) والعشرين » وهو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (4) : « وهي - أي أحاديث مسند أحمد - أجود من أحاديث سنن أبي داود » (5).
ص: 17
وقال المترجم لأحمد بمقدّمة مسنده ، المطبوع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 : « قال السبكي - أي في : الطبقات الكبرى - : قال الحافظ أبو موسى محمّد بن أبي بكر المديني (1) : هذا الكتاب - يعني : مسند أحمد - أصل كبير ، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث ... جعل إماما ومعتمدا ، وعند التنازع ملجأ ومسندا.
ثمّ روى عن حنبل بن إسحاق ، قال : جمعنا عمّي - يعني أحمد بن حنبل - لي ولصالح ولعبد اللّه ... وقال لنا : إنّ هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته (2) من أكثر من سبعمئة وخمسين ألفا ؛ فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فارجعوا إليه ، فإن كان [ فيه ] ، وإلّا فليس بحجّة.
ثمّ نقل عن عبد اللّه بن أحمد ، عن أبيه ، قال : عملت هذا الكتاب إماما ، إذا اختلف الناس في سنّة [ عن ] رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجع إليه.
ثمّ قال أبو موسى المديني : لم يخرّج - أي أحمد - إلّا عمّن ثبت
ص: 18
عنده صدقه وديانته ، دون من طعن في أمانته.
ثمّ روى عن عبد اللّه بن أحمد ، قال : سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان؟ قال : لم أخرّج عنه في ( المسند ) شيئا ، لمّا حدّث بحديث المواقيت تركته » (1).
وقد ذكر في ترجمة أحمد كثيرا من نحو هذا ما يدلّ على كون أحمد لم يرو في مسنده إلّا ما صحّ عنده ؛ فراجع!
ومجرّد جمع أحمد فيه الضعيف والمنكر عند غيره ، لا يقضي بعدم صحّته عنده ؛ إذ ليس مسنده بأحسن من صحاحهم وقد جمعت الضعيف والمنكر وما فيه الكفر ، كما سبق في مقدّمة الكتاب ومسألة النبوّة (2).
وأمّا قوله : « والمغازلي رجل مجهول ، لا يعرفه أحد من العلماء » ؛ فيكذّبه رواية ابن حجر في « الصواعق » عنه ، وكنّاه بأبي الحسن ، كما سبق في الآية السابعة والسبعين (3).
وكنّاه به أيضا في « ينابيع المودّة » في الباب الأوّل منها ، وسمّاه بعليّ بن محمّد (4) ، كما سمّاه به أيضا في أوّل الكتاب عند ذكر من
ص: 19
روى عنهم ، ووصفه بالفقيه الشافعي (1).
وغاية طعن ابن تيميّة فيه أن قال : ليس الحديث من صنعته ولا يعرف الحديث (2).
ولا منشأ للتجاهل به والطعن في معرفته ، إلّا لأنّه يروي ما ليس من هوى ابن تيميّة ، وأنّه ألّف في فضل أمير المؤمنين ؛ وهذا كما مرّ في المقدّمة أولى بالدلالة على اطّلاعه وحسن إنصافه (3) ، ولو ألّف في فضل الشيخين من مفتعلاتهم لحلّ عندهم بالمحلّ الأرفع والمنزل الأسنى!!
وأمّا قوله : « والعجب أنّ هذا الرجل لا ينقل حديثا إلّا من جماعة أهل السنّة ... » إلى آخره ..
فمن عدم تفرقته بين البحث الإلزامي وغيره ؛ فإنّ المصنّف رحمه اللّه إنّما
ص: 20
ينقل عن كتبهم ؛ لإلزامهم ، لا لحاجة به إليها ؛ لغناه عنها بالأدلّة القطعيّة ؛ العقليّة والنقليّة ، التي اشتملت عليها كتب أصحابه.
وقد تجاهل في معرفتها ومعرفة علماء الإمامية ورواتهم ظنّا منه أن يخدع الجهّال بذلك ، وهيهات أن تخفى الشمس على ذي عين!
نعم ، ما زالوا - وإلى الآن - يتغافلون عن كتب الشيعة ، ويتعامون عن النظر إليها ، كراهة لاتّضاح الحقّ ، ورغبة في ملّة الآباء!
وأمّا قوله : « فهو يترك المنقولات في الصحاح » ..
فكذب ظاهر ؛ لأنّ المصنّف رحمه اللّه ينقل عنها وعن غيرها ، كما ستعرف ، وكلّها عنده بمنزلة واحدة في الوهن ، لكنّه يروي عن الجميع ما يحتجّ به عليهم.
ولا يمكن أن نصحّح شيئا منها سوى ما يتعلّق بفضائل أهل البيت ونقائص أعدائهم ، كما سبق وجهه في المقدّمة ، وبيّنا فيها حال صحاحهم ، وأنّها بالسقم أحرى (1).
ومن الطرائف إنكاره بلوغ عدد الشيعة إلى عصره حدّ الكثرة ، فلو صدق فما باله فرّ من بلاده إلى ما وراء النهر ، ثمّ استغاث في آخر هذا الكتاب من استيلائهم على ما هنالك؟!
وإن جهل كثرتهم ، فليسأل عنهم أئمّته بني أميّة يوم الدار وصفّين ، ويوم استولى عليهم بنو العبّاس ، وليسأل عنهم بني العبّاس أيّام البويهيّين والحمدانيّين والفاطميّين!
وقد ذكر المؤرّخون أنّ بليّة معاوية على الكوفة أشدّ ؛ لكثرة من
ص: 21
فيها من الشيعة (1).
نعم ، ما زال أعداء آل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومخالفوهم أكثر ، كما قال عزّ اسمه : ( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (2).
* * *
ص: 22
قال المصنّف - قدس سره - (1) :
الثاني : من « مسند أحمد » : « لمّا نزل : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) جمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله من أهل بيته ثلاثين ، فأكلوا وشربوا ثلاثا ، ثمّ قال لهم : من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون خليفتي ، ويكون معي في الجنّة؟
فقال عليّ : أنا.
فقال : أنت » (3).
ورواه الثعلبي في تفسيره بعد ثلاث مرّات ، في كلّ مرّة سكت القوم غير عليّ علیه السلام (4).
ص: 23
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في « الموضوعات » في قصّة طويلة ، وليس فيه : « ويكون خليفتي » ، وهذا من وضعه ، أو من وضع مشايخه من شيوخ الرفض وأهل التهمة والافتراء (2).
وفي مسند أحمد بن حنبل : « ويكون خليفتي » غير موجود ، بل هو من إلحاقات الرفضة.
وهذان الكتابان اليوم موجودان ، وهم لا يبالون من خجلة الكذب والافتراء ، بل الرواية : « ويكون معي في الجنّة » (3).
ص: 24
وهو من فضائل أمير المؤمنين علیه السلام حيث أقبل إذ الناس أدبر ، وأقدم إذ الناس أحجم (1) ، وفضائله أكثر من أن تحصى ، عليه سلام اللّه يترى ، مرّة بعد أخرى.
* * *
ص: 25
من أعجب العجب أن يكذب هذا الرجل ، وينسب الكذب إلى آية اللّه المصنّف رحمه اللّه ، وشدّد النكير عليه وعلى علمائنا أهل الصدق والأمانة.
وإذا أردت أن تعرف كذبه ، فراجع « المسند » ، ص 111 من الجزء الأوّل ، تجد الحديث مشتملا على لفظ « خليفتي ».
وهكذا نقله في « كنز العمّال » (1) ، عن « المسند » ، وعن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، وعن الطحاوي ، والضياء في « المختارة » ، التي حكى في أوّل « الكنز » (2) صحّة جميع ما فيها عن السيوطي في ديباجة « جمع الجوامع ».
ونقل في « الكنز » أيضا (3) هذا الحديث بقصّة طويلة ، عن ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في آخره : « قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا؟
ص: 26
قال عليّ علیه السلام : فقلت : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبتي ، فقال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا!
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ ».
ونقل هذا الحديث الطبري في « تاريخه » (1) ، وابن الأثير في « الكامل » (2).
وحكى في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن جرير حديثا آخر ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه مثل قوله الأوّل : « هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».
وحكى ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (4) ، عن أبي جعفر الإسكافي ، أنّه قال : وروي في الخبر الصحيح أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كلّف عليّا علیه السلام في مبدأ الدعوة أن يصنع طعاما ويدعو له بني عبد المطّلب ، فصنع له طعاما ودعاهم له ..
ثمّ ضمن لمن يؤازره ، وينصره على قوله ، أن يجعله أخاه في الدين ، ووصيّه بعد موته ، وخليفته من بعده ؛ فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده ، فقال لهم : هذا أخي ووصيّي ، وخليفتي من بعدي.
ص: 27
فقاموا يضحكون ويقولون لأبي طالب : أطع ابنك! فقد أمّره عليك » ؛ انتهى ملخّصا.
وهذه الأخبار كلّها اشتملت على لفظ « الخليفة ».
ونقل في « الكنز » (1) ، عن ابن مردويه خبرا آخر ، اشتمل على لفظ « الولاية » ، قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومدّ يده : « من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليّكم من بعدي؟ ».
فمددت يدي ، وقلت : أنا أبايعك! فبايعني على ذلك.
وأنت تعلم أنّ المراد بالولاية - هنا - هو المراد بالخلافة ، بقرينة ما سبق ، وقوله : « من بعدي » ، فإنّ النصرة والحبّ لا يختصّان بما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإنّما تختصّ به الخلافة.
وأعجب من الفضل ابن تيمية! حيث أنكر وجود أصل الحديث في الصحاح والمسانيد (2) عند ذكر المصنّف رحمه اللّه له في « منهاج الكرامة » (3) ، مع ما عرفت من رواية أحمد بن حنبل له في « المسند » وغير أحمد ممّن عرفت (4).
نعم ، أقرّ بوجوده في تفسير ابن جرير والبغوي والثعلبي وابن أبي حاتم ، لكنّه ناقش في إسناد كلّ منهم (5) بما مرّ جوابه إجمالا في
ص: 28
مقدّمة الكتاب (1).
مع أنّه قد استفاضت الطرق وقوّى بعضها بعضا ، وحكموا بصحّة بعضها كما سمعت ، فلا محلّ للمناقشة.
على أنّ مناقشته في سند رواية الثعلبي إجماليّة مردودة عليه ، إلّا مع البيان.
ومناقشته في سند رواية ابن أبي حاتم (2) ، إنّما هي باشتماله على عبد اللّه بن عبد القدّوس ، وهو قد ضعّفه الدارقطني (3).
وقال النسائي : ليس بثقة (4).
وقال ابن معين : ليس بشيء ، رافضي خبيث (5).
وفيه :
إنّ تضعيف هؤلاء معارض بما في « تقريب » ابن حجر : إنّه صدوق (6).
ص: 29
وقال في « تهذيب التهذيب » : قال محمّد بن عيسى : ثقة (1).
وذكره ابن حبّان في « الثقات » (2).
وقال البخاري : وهو في الأصل صدوق ، إلّا أنّه يروي عن أقوام ضعاف (3).
مع أنّه أيضا من رجال « سنن الترمذي » (4).
ولا ريب أنّ مدح هؤلاء مقدّم على قدح أولئك ؛ لعدم العبرة بقدح أحد المتخالفين في الدين بالآخر من غير حجّة ، بخلاف مدحه له ؛ فإنّ الفضل ما شهدت به الأعداء.
وعبد اللّه هذا قد زعموه من الشيعة ، وإن كنّا لا نعرف الرجل في الشيعة! ولعلّه لمّا روى في فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله نسبوه إلى الرفض والخبث!!
وغمزه ابن عديّ بقوله : عامّة ما يرويه في فضائل أهل البيت (5).
وليت شعري ، أبهذا صار ضعيفا واستحقّ أن يوصف بالخبث؟!
ص: 30
كما لا يعتبر - أيضا - طعنهم في أبي مريم عبد الغفّار بن القاسم ، راوي حديث ابن جرير والبغوي ، على ما ذكره ابن تيميّة (1) ؛ لأنّه - كما في « ميزان الاعتدال » - من الشيعة ، ولا سيّما قد شهد بحقّه الذهبيّ أنّه كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال (2).
وأمّا ما نسبه الفضل إلى ابن الجوزي ، فلا يبعد أنّه من كذباته ، وإلّا لنسبه إليه في « كنز العمّال » بالنسبة إلى بعض الأحاديث التي نقلناها عنه ، فإنّ عادته أن يروي عن كتاب « الموضوعات » (3).
وأيضا لم يذكره السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » المأخوذة من كتاب « الموضوعات ».
ولو صحّت النسبة إلى ابن الجوزي ، فلا عبرة بكلامه ؛ لأنّه أيضا
ص: 31
طرف النزاع.
وأمّا ثناؤه على أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد تأبّط به شرّا ؛ لأنّ قصده به أن يروّج كذبه وإنكاره لما رواه المصنّف رحمه اللّه ، وترتفع عنه تهمة النصب ؛ وهيهات أن يخفى حاله وقد أنكر الواضحات!
أتراه يفعل ذلك لو كانت الرواية في ما يؤيّد طريقته؟!
ثمّ إنّ من جملة الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جمع بني عبد المطّلب وهم أربعون رجلا (1) ، فجعل ابن تيمية ذلك طريقا للطعن في الحديث ، بدعوى عدم بلوغهم في ذلك الوقت إلى هذا القدر (2).
وفيه : إنّه لو سلّم فلا يبعد أن المراد ببني عبد المطّلب : ما يشمل بني المطّلب ؛ لاختصاصهم بهم حتّى كأنّهم منهم ؛ ولذا كانوا معهم في حصار الشعب.
ويشهد له ما في « كامل » ابن الأثير ، حيث إنّه لمّا نقل الحديث قال : حضروا ومعهم نفر من بني المطّلب (3).
ولو سلّم أنّ المراد خصوص بني عبد المطّلب ، فغاية ما يلزم منه خطأ الراوي أو مبالغته في عددهم ، وهو لا ينافي صحّة أصل الواقعة المرويّة بطرق مستفيضة ، ولا تكاد تسلم واقعة مروية بطرق عن الخطأ في الخصوصيات.
ومنه أيضا يعلم ما في طعن ابن تيميّة في الحديث ، من حيث
ص: 32
اشتماله على أنّ الرجل منهم كان يأكل الجذعة (1) ، ويشرب الفرق (2) ، مدّعيا أنّهم لم يكونوا معروفين بمثل هذه الكثرة من الأكل والشرب (3) ؛ وذلك لأنّ غاية ما يلزم منه مبالغة الراوي ، أو الخطأ في ذلك ، وهو غير ضارّ في صحّة أصل الواقعة (4).
على أنّ عدم معروفيّتهم به لا تدلّ على العدم ، لا سيّما وقد كان الكثير من قريش كذلك ، كما تشهد به كتب التاريخ (5).
وقد أورد ابن تيميّة على الحديث بأنّه كيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله للجماعة : من يؤازرني على أمري يكن وصيّي وخليفتي من بعدي؟ والحال أنّ مجرّد الإجابة إلى مثل ذلك لا يوجب الخلافة ؛ فإنّ جميع
ص: 33
المسلمين وازروه ولم يكن منهم أحد خليفة ، ومن الجائز أيضا أن يجيبه جماعة منهم ، وحينئذ فمن الخليفة منهم؟! (1).
وفيه : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقل إنّ هذا علّة تامّة للخلافة بعده ، حتّى تلزم خلافة كلّ من فعل ذلك وإن لم يكن من عشيرته ، بل أراد بأمر اللّه إنذار عشيرته وترغيبهم ؛ لأنّهم أولى به وبنصرته ، فلم يجعل هذه المنزلة إلّا لهم ..
وليعلم من أوّل الأمر أنّ هذه المنزلة لعليّ علیه السلام خاصّة ؛ فإنّ اللّه سبحانه ورسوله صلی اللّه علیه و آله يعلمان أنّه لا يجيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويؤازره تماما إلّا عليّ علیه السلام ، فكان ذلك من باب تثبيت إمامته ، وإلقاء الحجّة على قومه.
وحينئذ ، فلا يصحّ فرض تعدّد المجيبين للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ ولو صحّ ووقع ، لعيّن النبيّ صلی اللّه علیه و آله الأولى والأحقّ.
هذا ، وقد صرّحت بالخلافة لعليّ علیه السلام أخبار أخر ..
منها : ما سبق في الآية السادسة والثلاثين في سبب نزول سورة النجم (2).
ومنها : ما سيأتي في بعض أحاديث الثّقلين.
ومنها : ما في المواقف » ، في مبحث الإمامة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال لعليّ : « أنت أخي ووصيّي ، وخليفتي من بعدي ، وقاضي ديني » (3) ، بكسر الدال (4).
ص: 34
وأجاب عنه هو والشارح بأمرين :
الأوّل : إنّه معارض بالنصوص الدالّة على إمامة أبي بكر (1).
وفيه : إنّه لو سلّم وجودها ودلالتها فليست حجّة علينا ؛ لأنّها من أخبارهم الخاصّة بهم (2) ، بل هي من الكذب المسلّم ؛ لإقرارهم بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يخلّفه (3).
الثاني : منع صحّة الحديث ؛ للدليل القاطع على عدم النصّ الجليّ ؛ لأنّه لو وجد لتواتر ، ولعارض عليّ أبا بكر في الإمامة ، ولصلابة الأصحاب في الدين ؛ فكيف لا يتّبعون النصّ المبين؟! (4).
ويرد على الأوّل : إنّ حصول التواتر مشروط بعدم الشبهة ، وهي ثابتة لهم ، بل الثابت أعظم منها ، وهو التعصّب ، الذي هو قذى البصائر.
وهل تبقى شبهة مع نصّ الكتاب العزيز بانحصار الولاية باللّه ورسوله وأمير المؤمنين ، ونصّ حديث الغدير والمنزلة والثقلين ، وغيرها ، فإنّها متواترة ، ونصّ في إمامته - ولو بمجموعها - لو أنصفوا؟!
ص: 35
ولو سلّم أنّها ليست نصّا جليّا ، ولا متواترة معنى بإمامته علیه السلام ، فالمطالبة بتواتر ما هو أجلى منها ليست في محلّها ؛ للصوارف عنه ، فإنّ عامّة قريش وكثيرا من الأنصار في الصدر الأوّل أعداء أمير المؤمنين ، فمنهم غاصب له ، ومنهم معين على غصبه ، ومنهم راض به ، والباقي رعاع وسوقة إلّا القليل ، والقليل لا يقدر على بيان النصّ الجليّ ، خوفا من الأمراء ، بل حتّى الكثير يخاف منهم!
ولذا خفي أمر الغدير ، فاحتاج أمير المؤمنين بعد زمن قريب إلى الاستشهاد بمن بقي من الصحابة ، مع أنّه لم يشهد له بعضهم ، عداوة له فأصابته دعوته ، كما سبق (1).
ولو فرض إمكان بيان النصّ الكامل في الصدر الأوّل ، فلا ريب بعدم إمكانه أيّام معاوية والشجرة الملعونة ؛ لأنّهم أوجبوا سبّ إمام المتّقين ، وتتبعوا بالقتل والحبس من روى له فضيلة ، أو رأى له فضلا (2)!
ص: 36
فكيف يمكن حينئذ أن تتواتر رواية النصّ الجليّ ، وكذا في الأيّام المتأخّرة ، كأيّام كثير من بني العبّاس ، الّذين هم مثل بني أميّة في تتبّع الشيعة وجحد حقّ أمير المؤمنين علیه السلام ؟!
ولا أعجب من طلب حصول التواتر بالنصّ الجليّ عند قوم يخالف مذهبهم ، مع اهتمام علمائهم لدنياهم في نقصه وإثبات مفضوليّته ، وأنّ تمام مناصب سلاطينهم وأمرائهم بإنكار النصّ عليه وعلى الأئمّة من ولده!
ويرد على دعوى معارضته لأبي بكر : إنّها ممنوعة وظاهرة المكابرة ؛ إذ أيّ معارضة تطلب في مقام الخوف على الإسلام أكبر من الامتناع عن بيعته وإظهار أنّه ظالم غاصب ، ولم يبايعه إلّا قهرا بعد ستّة أشهر أو أكثر (1).
ص: 37
.. إلى غير ذلك ممّا صدر من أمير المؤمنين علیه السلام ، كما عرفت بعضه في المبحث الرابع من مباحث الإمامة (1).
ويرد على دعوى صلابة الأصحاب في الدين : إنّها محلّ تأمّل ، ولا سيّما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولنسأل عنها قوله تعالى : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (2) ..
وسورة براءة ، المسمّاة بالفاضحة ؛ لأنّها فضحت أكثر الصحابة (3) ..
وقوله تعالى : ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ... ) (4) ، حيث تركوا الواجب ولم يبالوا بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وانفضّوا للهو والتجارة ، ولم يبق معه إلّا النادر (5) ..
.. إلى كثير من الآيات الكريمة (6).
ولنسأل أحاديث الحوض ، التي حكم بعضها بارتداد جلّ الصحابة ،
ص: 38
وأنّهم إلى النار ، ولم يسلم منهم إلّا مثل همل النّعم (1) ..
.. إلى غيرها من الأخبار التي لا تحصى ، وسيمرّ عليك بعضها إن شاء اللّه تعالى.
وقد أجاب القوشجي في « شرح التجريد » عن الخبر الذي حكيناه عن « المواقف » بعد ذكر نصير الدين رحمه اللّه له (2) ، فقال :
« وأجيب بأنّه خبر واحد في مقابلة الإجماع ، ولو صحّ لما خفي على الصحابة والتابعين ، والمهرة المتقنين من المحدّثين ، سيّما عليّ وأولاده الطاهرين ؛ ولو سلّم ، فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين » (3).
ويشكل بمنع الإجماع ، كما مرّ في المبحث الرابع ، وبيّنّا أنّه لم يخف على الصحابة (4) ، ولكن أخفوه عن عمد ، كحديث الغدير (5).
وكذا أخفاه من علم به من غير الصحابة ، عداوة لعليّ علیه السلام ، أو خوفا من معاوية وأشباهه (6).
وأمّا دعوى خفائه على أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين ؛ فمخالفة لما تواتر عنهم من حصول النصّ عليه بالخلافة ، ولما ظهر من أحوالهم في تضليل الأوّلين ، فكم صرّحوا ولوّحوا بالنصّ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله فما زاد مخالفيهم إلّا عداوة وإعراضا عن الحقّ!
ص: 39
وأمّا إنكار دلالته على نفي خلافة الآخرين ؛ فمكابرة للضرورة ؛ إذ أيّ دليل أصرح في نفيها من قوله صلی اللّه علیه و آله : « خليفتي من بعدي »؟!
ولو كان التقليد بقوله : « من بعدي » غير دالّ على ذلك ، لم تثبت خلافة أحد بلا فصل بالنصّ!
وليت شعري! ما بال وصيّة أبي بكر لعمر كانت نصّا في خلافته له بلا فصل دون وصيّة النبيّ لأمير المؤمنين ، وهي ليست بأصرح منها في الدلالة على عدم الفصل ، وكذا وصايا سائر السلاطين لولاة عهدهم ، كما سبق في الآية الثانية من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه (1)؟!
ومن جملة الأخبار المصرّحة بخلافة أمير المؤمنين علیه السلام ، ما في « ميزان الاعتدال » بترجمة عبد اللّه بن داهر ، حيث ذكر أنّه روى بسنده عن ابن عبّاس : « ستكون فتنة ، فمن أدركها فعليه بالقرآن وعليّ بن أبي طالب.
قال : فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ وهو آخذ بيد عليّ ] يقول : هذا أوّل من آمن بي ، وأوّل من يصافحني ، وهو فاروق هذه الأمّة ، ويعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظلمة ، وهو الصدّيق الأكبر ، وهو خليفتي من بعدي » (2).
قال في « الميزان » : قال ابن عديّ : عامّة ما يرويه في فضائل عليّ ،
ص: 40
وهو متّهم في ذلك (1).
وقال في « الميزان » أيضا : قال العقيلي : رافضي خبيث.
وقال أحمد ويحيى : ليس بشيء (2).
وأقول :
إذا كان جفاؤهم وقولهم في راوي ما ورد في أخي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه ، فكيف يطلبون أن يتواتر النصّ عليه بما هو أجلى من ذلك؟!
وليت شعري! لم كان عندهم من روى له فضيلة رافضيّا خبيثا متّهما ، ومن روى فضيلة لمشايخهم ثقة صادقا معتمدا في صحاحهم ، وصاحب سنّة ، وإن كفّره سيّد النبيّين صلی اللّه علیه و آله ، كالخوارج والنصّاب؟! وقال سبحانه : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... ) (3).
ص: 41
ومن جملة الأخبار المصرّحة بخلافته أيضا ، ما في « اللآلئ المصنوعة » ، عن ابن حبّان ، بسنده عن أنس مرفوعا : « إنّ أخي ووزيري وخليفتي من بعدي في أهلي ، وخير من أترك بعدي ، يقضي ديني ، وينجز موعدي ، عليّ علیه السلام » (1)
وما في « اللآلئ » أيضا ، عن الخطيب في « المتّفق والمفترق » ، عن الجوزقاني ، بسندهما عن سلمان ، قال : سألت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من وصيّه؟
فقال : « وصيّي ، وموضع سرّي ، وخليفتي في أهلي ، وخير من أخلف بعدي ، عليّ » (2).
وقد نقل في « اللآلئ » عن ابن الجوزي ، أنّه قال : « إنّ الحديث الأوّل موضوع ، آفته مطر بن ميمون الإسكافي ؛ وإنّ الحديث الثاني أكثر رواته مجهولون وضعفاء ، وإسماعيل بن زياد - وهو أحد رواته - متروك » (3).
وفيه : إنّه لو سلّم ذلك كلّه ، فهو إنّما يرفع الاعتماد ، لا أنّه يقتضي
ص: 42
الوضع ، على أنّ الأخبار الناطقة بخلافة أمير المؤمنين علیه السلام كثيرة ، فتعتبر لاعتضاد بعضها ببعض وإن ضعفت أسانيدها ، فكيف وقد صحّ بعضها عندهم كما عرفت (1)؟!
بل عرفت في مقدّمة الكتاب أنّ رواة فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ثقات في تلك الرواية (2) ، خصوصا مثل مطر الذي لم يضعّفوه إلّا لروايته كثيرا في فضل عليّ علیه السلام ، ولعلّه لذا لم يعتن ابن ماجة بتضعيفهم فأخرج له في صحيحه (3).
هذا ، وليس قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض تلك الأخبار : « فيكم » أو « في أهلي » مقصودا به تقييد الخلافة ؛ للإجماع على عدم الفرق بين عشيرته وغيرهم ، وللزوم اجتماع خليفتين : عامّ وخاصّ ، ولا يقوله أحد.
ولا يصحّ أن يراد بخلافته في أهله - في الحديثين الأخيرين - قيامه بأمور دنياهم ؛ لعدم قيام عليّ علیه السلام بأرحام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونسائه ، وعدم خلافته عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في القيام بفاطمة والحسنين ، بل هم عياله الّذين تجب نفقتهم عليه أصالة لا بالخلافة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
فالمقصود في هذه الأخبار هو : الخلافة العامّة والزعامة العظمى ، كما يشهد له ذكر الوصية مع الخلافة في الخبر الأخير ، وقوله : « خير من أخلف » أو « أترك بعدي » في الأخيرين ، مضافا إلى إطلاق الخلافة في بعض الأخبار السابقة (4).
ص: 43
والظاهر : أنّ تخصيص المخاطبين - وهم العشيرة - في أحاديث نزول قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (1) إنّما هو لكون الخطاب معهم ، أو أهمّيّتهم ، أو لأنّه لا أمّة له حينئذ.
كما لا يبعد أن يكون قيد « في أهلي » بالخبرين الأخيرين من زيادة بعض الرواة عمدا أو وهما.
واعلم ، أنّه قد ورد عند السنّة أيضا ما هو بمنزلة التعبير بالخلافة ، كالذي في ترجمة حكيم بن جبير من « ميزان الاعتدال » ، عن محمّد بن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن ابن سفيان ، عن عبد العزيز بن مروان ، عن أبي هريرة ، عن سلمان : قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا بيّن له من يلي بعده ، فهل بيّن لك؟
قال : نعم ، عليّ بن أبي طالب » (2)
قال في « الميزان » : « هذا حديث موضوع .. ثمّ كيف يروي مثل هذا عبد العزيز بن مروان وفيه انحراف عن عليّ؟! رواه ابن الجوزي في ( الموضوعات ) من طريق العقيلي ، عن أحمد بن الحسين ، عن ابن حميد ؛ وليس بثقة » (3).
وفيه - مع ما عرفت من وثاقة رواة فضائل أمير المؤمنين علیه السلام في ما يروونه في فضله - : إنّ حكيم بن جبير من رجال السنن الأربع (4) ،
ص: 44
فلا يصحّ لهم الحكم بوضعه لهذا الحديث ، وإلّا جاء الطعن إلى أخبار صحاحهم!
وكذا الحال في محمّد بن حميد ؛ لأنّه من رجال سنن الترمذي وأبي داود وابن ماجة ، مع أنّه قد ذكر في « الميزان » بترجمة ابن حميد ، أنّه حدّث عنه أبو بكر الصنعاني ، فقيل له : أتحدّث عنه؟
فقال : وما لي لا أحدّث عنه؟! وقد حدّث عنه أحمد بن حنبل ، وابن معين!
وقال أبو زرعة : من فاته محمّد بن حميد يحتاج أن يترك عشرة آلاف حديث.
ومن آخر أصحاب ابن حميد : أبو القاسم البغوي ، وابن جرير الطبري (1).
وحينئذ ، فلا يصحّ الحكم بوضع ابن جبير أو ابن حميد للحديث ، ولا سيّما على لسان عبد العزيز المنحرف عن أمير المؤمنين علیه السلام .
ولا يمنع انحرافه عند روايته لهذا الحديث ؛ لأنّ اللّه سبحانه إذا أراد إظهار الحقّ ألقى في نفوس القوم رواية ما علموه في حقّ أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لتلزمهم وغيرهم الحجّة ، ولذا رووا حديث الغدير ونحوه!
على أنّه قد قيل لعمر بن عبد العزيز : كيف خالفت من قبلك في منع السبّ عن عليّ؟!
فقال : عرفته من أبي ؛ لأنّه إذا خطب وجاء إلى سبّه تلجلج ، فسألته عن ذلك ، فقال : لو عرف الناس ما أعرفه من فضل هذا الرجل ما تبعنا
ص: 45
منهم أحد » (1).
فظهر أنّه لا عبرة بما زعمه الناصبان ، الذهبيّ وابن الجوزيّ ، من وضع هذا الحديث ، ولا سيّما مع كونهما طرف النزاع ، وإن كان لا لوم عليهما بعد مخالفته لمذهبهما ، لكنّ الكلام في الدليل من حيث هو!
* * *
ص: 46
وقال الفضل (1) :
الوصيّ ، قد يقال ويراد به : من أوصي له بالعلم ، والهداية ، وحفظ قوانين الشريعة ، وتبليغ العلم والمعرفة.
فإن أريد هذا من الوصي ، فمسلّم أنّه كان وصيّا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا خلاف في هذا.
وإن أريد الوصيّة بالخلافة ، فقد ذكرنا بالدلائل العقليّة والنقليّة عدم النصّ في خلافة عليّ.
ولو كان نصّا جليّا لم يخالفه الصحابة ، وإن خالفوا لم يطعهم العساكر وعامّة العرب ، سيّما الأنصار.
* * *
ص: 48
إنّ معنى الوصيّة : العهد ، يقال : أوصى إلى فلان ، بمعنى : عهد إليه (1) ..
فإن أطلق متعلّق الوصيّة حكم بشموله لجميع ما يصلح تعلّقها به ..
وإن قيّد ، كما لو قيل : أوصى إليه بأيتامه ، أو ثلث ماله ، أو نحوهما ، اختصّ به.
ومن الواضح أنّ الرواية من قبيل الأوّل ، فتشمل الوصيّة بالخلافة ، بل هي أظهر ما تشمله وتنصرف إليه ، بل معنى وصيّ النبيّ : خليفته.
كما يشهد له أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضرب لسلمان مثلا بوصيّ موسى ، وهو : « يوشع » الخليفة لموسى ..
وما رواه أحمد في مسنده (2) ، عن طلحة بن مصرف ، قال : « قال أبو الهذيل (3) [ بن شرحبيل ] : أبو بكر [ كان ] يتأمّر على وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ودّ أبو بكر أنّه وجد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهدا فخزم أنفه بخزام ».
ص: 49
فإنّه صريح في أنّ معنى وصيّ رسول اللّه : خليفته ، مضافا إلى أنّه عطف في ذلك الحديث الوارث على الوصيّ.
والمراد بالوارث : إمّا وارث المنزلة ، وهو المطلوب ؛ أو وارث العلم ، وهو يستدعي الخلافة ؛ لأنّ علم الأنبياء ميراث لمن هو أحقّ بالاتّباع والرئاسة ؛ لقوله سبحانه : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى ... ) (1) الآية.
ومنه يعلم تمام المطلوب لو أريد بالوصيّ من أوصي له بالعلم والهداية وحفظ قوانين الشريعة وتبليغ العلم ، ولا سيّما أنّ حفظ قوانين الشريعة يتوقّف على الخلافة ؛ لأنّ السوقة لا تقدر على حفظها تماما ؛ لاحتياجه إلى بسط اليد.
وقد اشتملت أخبار الوصيّة على قرائن أخر ، تقتضي إرادة الخليفة من الوصيّ ،
كقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعضها في وصف عليّ علیه السلام ، بأنّه « خير من أخلّف - أو : أترك - بعدي » ؛ كالخبرين السابقين عند الكلام في الحديث الثاني (2) ، وكالذي حكاه في « كنز العمّال » (3) ، عن الطبراني ، بسنده عن سلمان ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وأمّا قوله : « فقد ذكرنا بالدلائل العقليّة والنقليّة عدم النصّ » ..
فحوالة على العدم ..
ولعلّه يريد بالدليل ما أعاده هنا بقوله : « ولو كان نصّا جليّا ... »
ص: 50
إلى آخره ..
وفيه : ما عرفت في المبحث الثالث وغيره ممّا سبق (1).
ثمّ لا معنى لقوله : « لم يخالفه الصحابة ، ولو خالفوا لم يطعهم العساكر ... » إلى آخره ؛ لأنّ معناه : وإن خالف الصحابة ، لم تطعهم الصحابة ، إلّا أن يريد بالصحابة خصوص الشيخين وأنصارهما ، فيصحّ الكلام ، ولكن يكون الحكم بعدم مخالفتهم من أوّل المصادرات!
ثمّ إنّ أحاديث الوصيّة مستفيضة ، بل متواترة عند القوم ، فضلا عنّا.
وقد ذكر في « ينابيع المودّة » (2) أحاديث منها كثيرة.
وفيها ما حكاه المصنّف رحمه اللّه عن « مسند أحمد » (3).
وسطّر ابن أبي الحديد ثلاث صفحات ، أوائل الجزء الأوّل ، من الشعر المقول في صدر الإسلام لكثير من وجوههم ، تتضمّن بيان وصيّة عليّ علیه السلام (4).
ثمّ قال بعد انتهائها : « والأشعار التي تتضمّن هذه اللفظة كثيرة جدّا ، ولكنّا ذكرنا منها هاهنا [ بعض ] ما قيل في هذين الحربين - يعني حرب الجمل وصفّين - ، فأمّا ما عداهما فإنّه يجلّ عن الحصر ، ويعظم عن الإحصاء والعدّ ، ولو لا خوف الملالة [ والإضجار ] ، لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة » (5).
ص: 51
وقد ذكر هذا في شرح قوله علیه السلام من خطبة له : « لا يقاس بآل محمّد صلی اللّه علیه و آله من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله ، ونقل إلى منتقله » (1).
ولا يخفى لطف قوله علیه السلام : « رجع الحقّ إلى أهله » وما فيه من الدلالة على غصب الأوّلين له.
* * *
ص: 52
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الرابع : من كتاب « المناقب » لأبي بكر أحمد بن مردويه - وهو حجّة عند المذاهب الأربعة - ، رواه بإسناده إلى أبي ذرّ ، قال : دخلنا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلنا : من أحبّ أصحابك إليك؟ وإن كان أمر كنّا معه ، وإن كانت نائبة كنّا من دونه!
قال : « هذا عليّ أقدمكم سلما وإسلاما » (2).
* * *
ص: 53
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث إن صحّ يدلّ على فضيلة أمير المؤمنين ، وأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحبّه حبّا شديدا ، ولا يدلّ على النصّ بإمارته.
ولو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ناصّا على خلافته ، لكان هذا محلّ إظهاره ، وهو ظاهر ؛ فإنّه لمّا لم يقل : إنّه الأمير بعدي ؛ علم عدم النصّ ، فكيف يصحّ الاستدلال به؟!
* * *
ص: 54
المراد بسؤالهم المذكور : طلب تعيين الإمام بعده صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ أحبّ أصحاب الرئيس إليه هو الذي يرجى بعده للرئاسة وينبغي أن يقيمه مقامه ؛ ولذا قالوا : « وإن كان أمر كنّا معه ، وإن كانت نائبة كنّا دونه » ، فإنّ معناه : إن كان أمر اتّبعناه ، وإن كانت نائبة نصرناه وفديناه ، كما هو شأن الأتباع والأمير.
وقد فهم الفضل هذا المعنى ثمّ جحده ، فإنّ قوله : « لكان هذا محلّ إظهاره ... » إلى آخره ، دالّ على أنّ معنى السؤال طلب معرفة الإمام ، كما ذكرناه ، وإلّا فكيف كان المقام محلّ إظهار النصّ ، وكان عدم إظهاره موجبا للعلم بعدم النصّ؟!
فإذا كان المراد : هو السؤال عن الإمام والخليفة بعده ، كان قوله صلی اللّه علیه و آله : « هذا عليّ » كافيا في الجواب ، غنيّا عن أن يضيف قوله : الأمير بعدي.
نعم ، يحسن الإشارة إلى علّة تعيينه للأحبّيّة والإمامة فأشار إليها بقوله : « أقدمكم سلما وإسلاما » ، فإنّه موجب لأحبّيّته ، وكاشف عن زيادة معرفته على غيره ، وإنّه أسبقهم إلى الخير ، وأفضلهم عملا ؛ والأفضل علما وعملا أحقّ بالإمامة.
ثمّ إنّ كلام الفضل يدلّ على أنّه صلی اللّه علیه و آله لو قال : « عليّ خليفتي من بعدي ، ووليّكم بعدي » ، كان نصّا في خلافته ، مثبتا لمدّعانا عنده وعند أصحابه ، وهو كذب ؛ فإنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « هو خليفتي من بعدي ، ووليّكم
ص: 55
بعدي » ، وقالوا : لا يدلّ على عدم الفصل بينهما حتّى تنتفي خلافة غيره ، كما صنعه القوشجي في ما حكيناه عنه في الخبر الثاني (1).
وليس هذا الذي أقرّ الفضل بأنّه نصّ بأعظم نصوصيّة من قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) (2) الآية ، ولا من حديث الغدير (3) ، والمنزلة (4) ، والثّقلين (5) ، وأشباهها ، ومع ذلك كابروا الضرورة ، وعاندوا الحقيقة ؛ فليتدبّر من يريد لنفسه السلامة ، والقيام بالعذر والحجّة يوم القيامة.
* * *
ص: 56
وقال الفضل (1) :
قد ذكرنا معنى الوصاية وأنّه غير الخلافة ، فقد يقال : هذا وصيّ فلان على الصبي ، ويراد به أنّه القائم بعده بأمر الصبيّ ، وهو قريب من الوارث ، ولهذا قرنه في هذا الحديث بالوارث ؛ وليس هذا بنصّ في الخلافة إن صحّ الرواية.
* * *
ص: 58
رواه الذهبي في « ميزان الاعتدال » بترجمة شريك بن عبد اللّه ، من طريق عن بريدة (1).
وحكاه السيوطي في « اللآلئ » عن العقيلي والحاكم ، كلّ منهما بطريق آخر ، عن بريدة.
وطعنوا في أسانيدها جميعا (2) ؛ وقد مرّ مرارا ما فيه.
وحكاه في « ينابيع المودّة » ، في الباب الخامس عشر ، عن أخطب خوارزم ، عن بريدة ؛ ونحوه عن أمّ سلمة (3).
وحكاه في الباب السادس والخمسين ، عن « كنوز الدقائق » ، عن الديلمي (4).
فلا ريب باعتباره ؛ لكثرة طرقه ، واعتضادها ببقيّة أخبار الوصيّة المستفيضة (5).
كما لا ريب بدلالته على إمامة أمير المؤمنين ؛ لما سبق في الحديث
ص: 59
الثالث (1) ، مضافا إلى ظهوره بلزوم الوصيّ لكلّ نبيّ ، واللازم هو : الخليفة ؛ إذ لا بدّ للناس من إمام.
وأمّا قوله : « فقد يقال : هذا وصيّ فلان على الصبيّ ، ويراد به أنّه القائم بأمر الصبيّ » ..
فهو مثبت للمطلوب ، لا ناف له ؛ لأنّ وصيّ النبيّ هو خليفته القائم بأمر أمّته.
وأمّا قوله : « وهو قريب من الوارث ؛ ولهذا قرنه بالوارث » ..
فصحيح ؛ ولذا أفاد اللفظان الخلافة ؛ فإنّ المراد بالوارث : هو وارث العلم والمنزلة في الأمّة لا المال ، فيكون هو الإمام.
* * *
ص: 60
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
السادس : في « مسند أحمد » وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ما معناه ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث « براءة » مع أبي بكر إلى أهل مكّة ، فلمّا بلغ ذا الحليفة (2) بعث إليه عليّا فردّه ، فرجع أبو بكر إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : يا رسول اللّه! أنزل فيّ شيء؟!
قال : لا ، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال : لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك (3).
ص: 61
وقال الفضل (1) :
حقيقة هذا الخبر ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الثامنة من الهجرة بعث أبا بكر الصدّيق أميرا للحاجّ ، وأمره أن يقرأ أوائل سورة « براءة » على المشركين في الموسم (2) ، وكان بين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقبائل العرب عهود ، فأمر أبا بكر بأن ينبذ إليهم عهدهم إلى مدّة أربعة أشهر ، كما جاء في صدر سورة « براءة » عند قوله تعالى : ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (3).
وأمر أيضا أبا بكر بأن ينادي في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يحجّ بعد العام مشرك.
فلمّا خرج أبو بكر إلى الحجّ بدا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمر تبليغ
ص: 62
سورة براءة ؛ لأنّها كانت مشتملة على نبذ العهود وإرجاعها إلى أربعة أشهر ، وأنّ العرب كانوا لا يعتبرون نبذ العهد وعقده إلّا من صاحب العهد ومن أحد من قومه ، وأبو بكر كان من بني تيم ، فخاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن لا يعتبر العرب نبذ العهد وعقده إلى أربعة أشهر من أبي بكر ؛ لأنّه لم يكن من بني هاشم ، فبعث عليّا لقراءة سورة « براءة » ونبذ عهود المشركين ، وأبو بكر على أمره من إمارة الحجّ والنداء في الناس بأن لا يطوف في البيت عريان ، ولا يحجّ بعد العام مشرك.
فلمّا وصل عليّ إلى أبي بكر قال له أبو بكر : أمير؟
قال : لا ، بل مبلّغ لنبذ العهود.
فذهبا جميعا إلى أمرهم ، فلمّا حجّوا ورجعوا قال أبو بكر لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فداك أبي وأمّي يا رسول اللّه! أنزل فيّ شيء؟
قال : لا ، ولكن لا يبلّغ عنّي إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي
هذا حقيقة الخبر ، وليس فيه دلالة على نصّ ولا قدح في أبي بكر.
وأمّا ما ذكر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا ، ولكنّ جبرئيل أتاني » ، فهذا من ملحقاته ، وليس في أصل الحديث هذا الكلام.
* * *
ص: 63
آثار الوضع في ما زعمه حقيقة الخبر ظاهرة ، والأدلّة على وضعه كثيرة ..
أوّلها : إنّه لو كان العرب لا يعتبرون عقد العهد ونبذه إلّا بمباشرة من له الأمر أو أحد أقاربه ، لما خالف النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذه القاعدة!
فهل خالفها عمدا تساهلا بتنفيذ أمر اللّه تعالى ، أو جهلا بما يعرفه الناس؟!
وكلّ ذلك لا يصحّ!
ثانيها : إنّ أبا بكر أشفق من عزله حتّى خاف أن يكون نزل به شيء كما ستسمع ، ولو كان عزله بعليّ علیه السلام على مقتضى القاعدة لما أشفق ، ولا سيّما أنّه قد بقي بزعمهم على إمرة الحجّ والنداء بأن لا يطوف في البيت عريان ، وأن لا يحجّ بعد العام مشرك ، وخصوصا قد صار عليّ علیه السلام تحت إمرته في الحجّ كما زعموا!
فهل مع هذا كلّه محلّ لإشفاقه وبكائه لمجرّد العزل عن نبذ العهد إذا قضت به القاعدة؟!
ثالثها : إنّه لا وجه لهذه القاعدة المزعومة ؛ فإنّ العهد ونبذه إنّما يحتاجان إلى اليقين بحصولهما ممّن له الأمر ، فأيّ وجه لتخصيص قرابته دون خاصّته؟! لا سيّما والعهد المنبوذ في المقام هو الذي لم يف المشركون بشروطه ، فيكون منحلّا بنفسه ، وإنّما أجلهم اللّه ورسوله مع من لم يكن لهم عهد إلى أربعة اشهر إحسانا وتفضّلا.
ص: 64
فلا بدّ بعد توقّف أداء هذا الأمر على النبيّ أو من هو منه - كما نطقت به الأخبار - أن يكون هناك خصوصيّة خارجة عن العادات!
رابعها : الأخبار المصرّحة بأنّ ذلك من خواصّ (1) عليّ علیه السلام دون سائر أقاربه ، كما في « مسند أحمد » (2) ، عن يحيى بن آدم السلولي ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عليّ منّي وأنا منه ، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ » (3).
وفيه أيضا عن حبشي بن جنادة مثل ذلك ، من ثلاثة طرق (4).
ومثله أيضا في « سنن الترمذي » بفضائل عليّ علیه السلام ، وقال : حسن صحيح (5).
ص: 65
وفي « كنز العمّال » ، عن النسائي ، وابن ماجة (1).
ونحوه في بعض الأخبار الآتية.
خامسها : الأخبار الدالّة على رجوع أبي بكر عند وصول عليّ علیه السلام إليه ..
منها : ما رواه أحمد في مسنده (2) ، عن أبي بكر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعثه ب « براءة » لأهل مكّة : لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة ، من كان بينه وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مدّة فأجله إلى مدّته ، واللّه بريء من المشركين ورسوله.
قال : فسار بها ثلاثا ، ثمّ قال لعليّ : إلحقه! فردّ عليّ أبا بكر ، وبلّغها أنت! ففعل.
فلمّا قدم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبو بكر بكى ، قال : يا رسول اللّه! حدث فيّ شيء؟!
قال : ما حدث فيك إلّا خير ، ولكن أمرت أن لا يبلّغه إلّا أنا أو رجل منّي.
وحكاه في « كنز العمّال » بتفسير سورة التوبة (3) ، عن ابن خزيمة ، وأبي عوانة ، والدارقطني في « الأفراد ».
ومنها : ما رواه أحمد أيضا (4) ، عن عليّ علیه السلام ، قال : لمّا نزلت عشر
ص: 66
آيات من براءة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبا بكر فبعثه بها ، ثمّ دعاني النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال لي : أدرك أبا بكر! فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه ، فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم.
فلحقته بالجحفة (1) ، فأخذت الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال : يا رسول اللّه! نزل فيّ شيء؟!
قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك.
ونقله في « كنز العمّال » ، عن أبي الشيخ ، وابن مردويه (2).
ونحوه في « الكشّاف » أيضا (3).
وهذا مصدّق لما نقله المصنّف رحمه اللّه من قول جبرئيل.
ومنها : ما رواه أحمد في مسنده (4) ، عن أنس ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث ب « براءة » مع أبي بكر إلى أهل مكّة ، قال : ثمّ دعاه فبعث بها عليّا.
ونحوه في « سنن الترمذي » في تفسير سورة « التوبة » ، وقال : هذا حديث حسن (5).
ص: 67
وفي « كنز العمّال » ، نقلا عن ابن أبي شيبة (1).
ومنها : ما رواه الحاكم في « المستدرك » ، في كتاب المغازي (2) ، عن ابن عمر ، من حديث قال فيه : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر وعمر ب « براءة » إلى أهل مكّة فانطلقا ، فإذا هما براكب ، فقالا : من هذا؟!
قال : أنا عليّ يا أبا بكر! هات الكتاب الذي معك!
فأخذ عليّ الكتاب فذهب به ، ورجع أبو بكر وعمر إلى المدينة ، فقالا : ما لنا يا رسول اللّه؟!
قال : ما لكما إلّا خير ، ولكن قيل لي : [ إنّه ] لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجل منك
سادسها : الأخبار المصرّحة بأنّ عليّا بعث أيضا بأن لا يحجّ بعد العام مشرك ، وأن لا يطوف بالبيت عريان ؛ كالذي رواه الترمذي في سورة التوبة وصحّحه (3) ، عن زيد بن تبيع (4) ، قال : « سألنا عليّا بأيّ شيء بعثت
ص: 68
في الحجّة؟
قال : بعثت بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان ؛ ومن كان بينه وبين النبيّ صلی اللّه علیه و آله عهد فهو إلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ؛ ولا يدخل الجنّة إلّا نفس مؤمنة ؛ ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا » (1).
ونقله في « كنز العمّال » (2) ، عن الحميدي ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، والعدني ، وأبي داود ، وابن مردويه ، والدارقطني ، وجماعة (3).
وكالذي رواه الحاكم في « المستدرك » (4) ، وصحّحه ، عن أبي هريرة ، قال : « كنت في البعث الّذين بعثهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع عليّ ببراءة إلى مكّة ؛ فقال له ابنه أو رجل آخر : فبم كنتم تنادون؟
قال : كنّا نقول : لا يدخل الجنّة إلّا مؤمن ، ولا يحجّ بعد العام
ص: 69
مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهد فإنّ أجله أربعة أشهر ؛ فناديت حتّى صحل (1) صوتي ».
وروى الطبري في تفسيره نحو هذين الحديثين ، عن عليّ ، وابن عبّاس ، وأبي هريرة ، من عدّة طرق (2).
فثبت بما ذكرنا كذب ما زعمه الفضل حقيقة الخبر ، وظهر أنّ أبا بكر رجع قبل الحجّ معزولا ، لا لقضاء قواعد العرب بإرسال عليّ علیه السلام ، بل لتوقّف مثل هذا العمل عند اللّه سبحانه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو عليّ علیه السلام ؛ لأنّه منه ونفسه ..
فلا بدّ أن يكون نصب أبي بكر ، ثمّ عزله بعليّ علیه السلام في أثناء الطريق بعد اشتهار نصبه ، إنّما هو للتنبيه من اللّه تعالى ونبيّه صلی اللّه علیه و آله على أنّ أبا بكر غير صالح للقيام مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ذلك ، فلا يصلح - بالأولويّة - للزعامة العظمى بعده!
وللتنبيه أيضا على أنّ مثل هذا العمل إذا لم يصلح إلّا لمن هو من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه ، فالإمامة أولى! ..
ففيه إرشاد إلى فضل عليّ ، وأنّه هو المتعيّن للقيام مقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الإمامة والزعامة العامّة دون سائر الناس ، ولو أرسل النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمير المؤمنين علیه السلام من أوّل الأمر لم يحصل ذلك التنبيه والإرشاد (3).
ص: 70
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السابع : في الجمع بين الصحاح الستّة ، وتفسير الثعلبي ، ورواية ابن المغازلي الشافعي آية المناجاة ، واختصاص أمير المؤمنين علیه السلام بها ، « تصدّق بدينار حال المناجاة ، ولم يتصدّق أحد قبله ولا بعده ».
ثمّ قال عليّ علیه السلام : إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، وهي : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... ) (2) الآية.
وبي خفّف اللّه تعالى عن هذه الأمّة ، فلم تنزل في أحد بعدي (3).
ص: 71
وقال الفضل (1) :
قد ذكرنا أنّ هذا من فضائل أمير المؤمنين ، ولم يشاركه أحد في هذه الفضيلة ، وهي مذكورة في الصحاح ، ولكن لا تدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 72
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :
الثامن : آية المباهلة : في « الجمع بين الصحيحين » ، أنّه لمّا أراد المباهلة لنصارى نجران احتضن الحسين ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعليّ يمشي خلفها ، وهو يقول لهم : ذا دعوت فأمّنوا (2).
فأيّ فضل أعظم من هذا ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله يستسعد (3) بدعائه ، ويجعله واسطة بينه وبين ربّه تعالى؟!
* * *
ص: 74
وقال الفضل (1) :
قصّة المباهلة مشهورة ، وهي فضيلة عظيمة كما ذكرنا ، وليس فيه دلالة على النصّ.
وأمّا ما ذكره من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يستسعد بدعائه ، فهذا لا يدلّ على احتياج النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى دعاء أهل بيته وتأمينهم ، ولكن عادة المباهلة كما ذكر اللّه في القرآن أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده ؛ ليكون أهيب في أعين المباهلين ، ويشمل البهلة إيّاه وقومه وأتباعه ، وهذا سرّ طلب التأمين منهم ، لا أنّه استعان بهم وجعلهم واسطة بينه وبين ربّه ليلزم أنّهم كانوا أقرب إلى اللّه منه.
هذا يفهم من كلامه ومن معتقده الميشوم الباطل!
نعوذ باللّه من أن يعتقد أنّ في أمّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كان أقرب إلى اللّه منه.
* * *
ص: 75
لا ريب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكلّ صالح مقرّب ، لا يرى لنفسه استحقاقا في استجابة دعائه ، ولا يجعل الاعتماد على نفسه ، بل يتوسّل إلى الإجابة بأنواع الوسائل التي يقتضيها المقام ، كتعظيم اللّه سبحانه ، وتمجيده بأسمائه الحسنى ، والتملّق له بحمده وشكر نعمائه وإظهار المذلّة والخضوع لجنابه الأرفع قولا وفعلا ؛ بأن يجلس على الأرض ويعفّر وجهه بالتراب مثلا.
وربّما تقتضي أهمّيّة المطلوب أن يجمع معه المقرّبين ؛ لاحتمال أنّ للاجتماع مدخليّة في حصول الإجابة ، أو مبادرتها ، أو كونها تخصّ أحدهم لخصوصيّة هناك.
فحينئذ لا مانع من استسعاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بدعاء أهل بيته علیهم السلام ، واستعانته بهم في التأمين على دعائه ، وجعلهم واسطة بينه وبين ربّه ، وإن كان هو أقرب منهم إلى اللّه تعالى ، ولا سيّما إذا كان المراد - مع ذلك - إظهار فضلهم على سائر الأمّة من الأقارب والأباعد والأكابر والأصاغر.
فلا معنى لما زعمه الفضل من لزوم أنّهم أقرب إلى اللّه منه ، وليس هو معتقدا للمصنّف رحمه اللّه ، ولا يجوّزه أحد منّا ، ولكن يجوّزه بعض القوم كما عرفت (1) ، أنّ ابن حزم نقله عن الباقلّاني الأشعري ، وهو لازم مذهب الأشاعرة من نفي الحسن والقبح العقليّين.
ص: 76
وبالجملة : المباهلة إنّما تقع بين الخصمين ، ومن المعلوم أنّ خصم أهل نجران هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله خاصّة ، لكن لمّا كان إدخال عليّ وفاطمة والحسنين معه في المباهلة يشتمل على فوائد ، أدخلهم معه ..
الأولى : إظهار اعتماده على أنّه المحقّ ؛ فإنّ إدخال أعزّ الناس في محلّ الخطر دليل على ذلك ، وعلى اعتقاده بالنجاح والسلامة.
الثانية : الاستسعاد بهم والاستعانة بدعائهم ؛ ولذا أمرهم بالتأمين على دعائه ، ولا وجه لما قاله الفضل من أنّ سرّ طلب التأمين شمول البهلة لهم لا الاستعانة بدعائهم ؛ فإنّ خروجهم معه كاف في شمول البهلة لهم بلا حاجة إلى تأمينهم.
ولو كان التأمين هو السرّ في شمول البهلة لهم ، فمن أين علم شمولها لقوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأتباعه ، ولم يأخذهم معه ، وما أراد تأمينهم؟!
الثالثة : بيان فضلهم على الأمّة بإشراكهم معه كما أمر اللّه تعالى ، دون أقاربه وخاصّته ، في إثبات دعوى النبوّة بالمقام الشهير المشهود ؛ فإنّه منزلة عظمى ، لا سيّما لعليّ علیه السلام الذي عبّر اللّه سبحانه عنه بنفس النبيّ.
ودعوى أنّ عادة المباهلة أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده ، كاذبة - كما سبق في الآية السادسة (1) ، وإلّا لما خالفها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولاعترض عليه النصارى في المخالفة - ؛ كدعوى شمول البهلة للأتباع ، وإلّا لأدخل النبيّ صلی اللّه علیه و آله معه ولو واحدا منهم!
وكون وجوده هو الأصل والمدار فيستغني عن وجودهم ، وارد في المرأة والطفلين بالأولويّة ، فلم لا استغنى عنهم؟!
ص: 77
ومن المضحك قوله : « ليكون أهيب في عيون المباهلين » ، فإنّه لو كان الداعي لوجودهم هو الهيبة ، فلم خصّ شابّا وامرأة وطفلين ، وترك المشايخ الكبار ، والحفدة (1) ، والأنصار؟!
وقد مرّ في الآية السادسة ما يزيدك تحقيقا وبيانا للمطلوب (2).
ثمّ إنّ غاية ما قلنا هو استسعاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله واستعانته في الدعاء على المبطلين بمن طهّرهم اللّه عن الرجس تطهيرا ، وقد زعم القوم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بالدعاء لنفسه الشريفة بعمر بن الخطّاب ، وهو أعظم من الاستسعاد في الأوّل ، ولم يستنكره القوم ؛ لأنّه متعلّق بأوليائهم! ..
روى ابن حجر في « الصوّاعق » ، في فضائل عمر ، أنّ رسول اللّه قال له : « لا تنسنا يا أخي من دعائك ». (3)
وفي رواية أخرى قال له : « يا أخي أشركنا في صالح دعائك ، ولا تنسنا » (4).
بل رووا أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بأبي بكر وعمر وعثمان في حفظ نفسه المقدّسة ، وجعلهم واسطة لسلامته! ..
ص: 78
روى البخاري وغيره ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله صعد إلى أحد ومعه هؤلاء القوم ، فرجف بهم ، فضربه برجله وقال : « أثبت! فما عليك إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد » (1) ، فإنّه دالّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بهم ، وجعلهم واسطة لحفظ نفسه وأنفسهم كما استسعد بنفسه لذلك ؛ وهو بالضرورة أعظم من جعل آل محمّد واسطة إلى لعن أهل نجران ؛ فتدبّر!
* * *
ص: 79
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
التاسع : في مسند أحمد من عدّة طرق ، وفي صحيح البخاري ومسلم من عدّة طرق ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا خرج إلى تبوك (2) استخلف عليّا في المدينة وعلى أهله ، فقال عليّ : ما كنت أوثر أن تخرج في وجه إلّا وأنا معك.
فقال : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟! (3).
ص: 80
ص: 81
وقال الفضل (1) :
هذا من روايات الصحاح ، وهذا لا يدلّ على النصّ كما ذكره العلماء (2).
ووجه الاستدلال به أنّه نفى النبوّة من عليّ ، وأثبت له كلّ شيء سواه ، ومن جملته الخلافة.
والجواب : إنّ هارون لم يكن خليفة موسى ؛ لأنّه مات قبل موسى ، بل المراد : استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك ، كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطور ؛ لقوله تعالى : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (3).
وأيضا : يثبت به لأمير المؤمنين فضيلة الأخوّة والمؤازرة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تبليغ الرسالة وغيرها من الفضائل ، وهي مثبّتة يقينا لا شكّ فيه.
* * *
ص: 82
وأقول :
لا ريب أنّ الاستثناء دليل العموم (1) ، فتثبت لعليّ علیه السلام جميع منازل هارون الثابتة له في الآية سوى النبوّة.
ومن منازل هارون : الإمامة ؛ لأنّ المراد بالأمر في قوله تعالى : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (2) هو الأعمّ من النبوّة - التي هي التبليغ عن اللّه تعالى - ، ومن الإمامة - التي هي الرئاسة العامّة - ، فإنّهما أمران مختلفان ..
ولذا جعل اللّه سبحانه إبراهيم نبيّا وإماما بجعلين مستقلّين ، وكان كثير من الأنبياء غير أئمّة ، كمن كانوا بزمن إبراهيم وموسى ، فإنّهم أتباع لهما ، وخاضعون لسلطانهما.
ويشهد للحاظ الإمامة وإرادتها من الأمر في الآية ، الأخبار السابقة المتعلّقة بآخر الآيات التي ذكرناها في الخاتمة (3) ، المصرّحة - تلك - بأنّ
ص: 83
النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا فقال :
« اللّهمّ إنّي أسألك بما سألك أخي موسى ، أن تشرح لي صدري ، وأن تيسّر لي أمري ، وتحلّ عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري » (1).
فإنّ المراد هنا ب ( الإشراك في أمره ) هو : الإشراك بالإمامة ، لا الإشراك بالنبوّة ، كما هو ظاهر ، ولا المعاونة على تنفيذ ما بعث فيه ؛ لأنّه قد دعا له أوّلا بأن يكون وزيرا له.
وبالجملة : معنى الآية الكريمة : أشركه في أمانتي الشاملة لجهتي النبوّة والإمامة.
ولذا نقول : إن خلافة هارون لموسى لمّا ذهب إلى الطور ليست كخلافة سائر الناس ممّن لا حكم ولا رئاسة له ذاتا ، بل هي خلافة شريك لشريك أقوى ، ولذا لا يتصرّف بحضوره.
فكذا عليّ علیه السلام بحكم الحديث ؛ لدلالته على أنّ له جميع منازل هارون التي منها شركته لموسى في أمره سوى النبوّة ، فيكون عليّ إماما مع النبيّ في حياته ، كما أوضحناه عند الكلام على الأولى من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه (2) ، فلا بدّ أن تستمرّ إمامته إلى ما بعد وفاته ، ولا سيّما أنّ النظر في الحديث إلى ما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيضا ؛ ولذا قال :
ص: 84
« إلّا أنّه لا نبيّ بعدي »
ولو تنزّلنا عن ذلك فلا إشكال بأنّ من منازل هارون أن يكون خليفة لموسى لو بقي بعده ؛ لأنّ الشريك أولى الناس بخلافة شريكه ، فكذا يكون عليّ علیه السلام ، مع أنّ الآية الكريمة قاضية بفضل هارون على سائر قوم موسى ، فكذا عليّ بالنسبة إلى المسلمين ، فيكون إمامهم.
وقد علم على جميع الوجوه أنّه لا ينافي الاستدلال بالحديث على المدّعى موت هارون قبل موسى ، كما علم بطلان أن يكون المراد مجرّد استخلاف أمير المؤمنين في المدينة خاصّة ، فإنّ خصوص المورد لا يخصّص العموم الوارد ، ولا سيّما أنّ الاستخلاف بالمدينة ليس مختصّا بأمير المؤمنين علیه السلام ؛ لاستخلاف النبيّ صلی اللّه علیه و آله غيره بها في باقي الغزوات.
ومقتضى الحديث أنّ الاستخلاف منزلة خاصّة به ، كمنزلة هارون من موسى التي لم يستثن منها إلّا النبوّة ، فلا بدّ أن يكون المراد بالحديث إثبات تلك المنزلة العامّة له إلى ما بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
واستدلّ الفضل على إرادة الاستخلاف بالمدينة خاصّة حين ذهاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك بقوله تعالى : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (1) ، وهو خطأ ظاهر ؛ لأنّ مجرّد وقوع الاستخلاف الخاصّ من موسى لا يدلّ على اختصاص خلافة هارون في ذلك المورد دون غيره ، فكذا استخلاف النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام ، بل العبرة بعموم الحديث ، مع اقتضاء شركة هارون لموسى في أمره ثبوت الخلافة العامّة ، فكذا عليّ علیه السلام .
ص: 85
ويدلّ على عدم إرادة ذلك الاستخلاف الخاصّ بخصوصه ، ورود الحديث في موارد لا دخل له بها ..
فمنها : ما سيجيء إن شاء اللّه تعالى من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله علّل تحليل المسجد لعليّ جنبا بأنّه منه بمنزلة هارون من موسى (1).
ومنها : ما رواه في « كنز العمّال » (2) ، عن أمّ سليم (3) ، أنّ
ص: 86
النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لها : « يا أمّ سليم! إنّ عليّا لحمه من لحمي ، ودمه من دمي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى »
ومنها : ما رواه في « الكنز » أيضا (1) ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر قال : « كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول في عليّ ثلاث خصال ، لأن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ؛ كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة ونفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والنبيّ متّكئ على عليّ حتّى ضرب على منكبه ، ثمّ
ص: 87
قال : أنت يا عليّ أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما.
ثمّ قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب [ عليّ ] من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ».
ومنها : ما في « الكنز » أيضا (1) ، عن زيد بن أبي أوفى ، في قصّة المؤاخاة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « والذي بعثني بالحقّ! ما أخّرتك إلّا لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أنّه لا نبيّ بعدي ... » الحديث.
ومنها : ما رواه النسائي في « الخصائص » ، بالنسبة إلى ما يتعلّق ببنت حمزة ، حيث اختصم بتربيتها عليّ وجعفر وزيد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ! أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ... » (2) الحديث.
.. إلى غيرها من الموارد الكثيرة.
ويشهد أيضا لعموم المنزلة ما ورد أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سمّى الحسنين بالحسنين ، اقتفاء لهارون في تسمية ولديه بشبّر وشبير ، كما في « مسند أحمد » بموارد عديدة (3).
فإنّ ذلك ونحوه شاهد بأنّ عليّا علیه السلام شبيه بهارون بجميع المزايا ، وأنّ له خصائصه كلّها ، وأظهرها الإمامة ، بل يستفاد من حديث التسمية إمامة الحسنين أيضا ، كولدي هارون علیه السلام (4).
ص: 88
10 - حديث : إنّي دافع الراية غدا
قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :
العاشر : في مسند أحمد - من عدّة طرق - ، وصحيحي مسلم والبخاري - من طرق متعدّدة - ، وفي الجمع بين الصحاح الستّة أيضا ، عن عبد اللّه بن بريدة ، قال : سمعت أبي يقول : حاصرنا خيبر ، وأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له ، ثمّ أخذه عمر من الغد فرجع ولم يفتح له ، وأصاب الناس يومئذ شدّة وجهد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي دافع الراية غدا إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، كرّار غير فرّار ، لا يرجع حتّى يفتح اللّه له ».
فبات الناس يتداولون ليلتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كلّهم يرجو أن يعطاها.
فقال : أين عليّ بن أبي طالب؟
فقالوا : إنّه أرمد العين!
ص: 89
فأرسل إليه ، فأتى ، فبصق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عينيه ، ودعا له فبرئ ، فأعطاه الراية ، ومضى عليّ ، فلم يرجع حتّى فتح اللّه على يديه (1).
ص: 90
وقال الفضل (1) :
حديث خيبر صحيح ، وهذا من الفضائل العليّة لأمير المؤمنين ، لا يكاد يشاركه فيها أحد ، وكم له من فضائل مثل هذا!
العجب أنّ كلّ هذه الفضائل يرويه من كتب أصحابنا ، ويعلم أنّهم في غاية الاهتمام بنشر مناقب أمير المؤمنين وفضائله ، وما هم كالروافض والشيعة في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة.
فلو كان هناك نصّ كانوا مهتمّين لنقله ونشره كاهتمامهم في نشر فضائله ومناقبه ؛ لخلوّهم عن الأغراض والإعراض عن الحقّ.
* * *
ص: 91
إذا حكم بصحّة الحديث لزم أن يحكم بأنّه منقصة للشيخين ، كما هو كمال وفضيلة لأمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ مدحه بهذا المدح - بعد انصرافهما باللواء - صريح بالتعريض بهما ، وأنهما ليسا على ذلك الوصف ، فهما لا يحبّان اللّه ورسوله ، ولا يحبّهما اللّه ورسوله ، وهما فرّاران غير كرّارين ، كما لا يخفى على من لحظ النظائر ، فإنّ من أرسل رسولا بمهمّة له ولم يقض المهمّة فقال : لأبعثنّ رسولا حازما يقضي المهمّ ، أحبّه ويحبّني ؛ دلّ على أنّ الرسول الأوّل ليس على هذا الوصف.
على أنّ وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمن يدفع إليه اللواء بأنّه يحبّ اللّه ورسوله ويحبّانه ، غير مرتبط في المقام إلّا من حيث بيان أنّ من يحبّ اللّه ورسوله لا بدّ أن يبذل نفسه في سبيلهما ولا يجبن عند الجهاد ، وأنّ من يحبّه اللّه ورسوله لا يعصيهما بالفرار من الزحف ، الذي هو من أكبر الذنوب وأسوأ المعاصي ، فينبغي أن لا يكون الرجلان بهذا الوصف الجميل.
وحينئذ : فإذا اختصّ عليّ علیه السلام دونهما بحبّه لله ورسوله ، وحبّهما له ، تعيّن للإمامة ؛ إذ كيف يكون إمام الأمّة وزعيم الدين من لا يحبّ اللّه ورسوله ، ولا يحبّانه ، فرّارا جبانا؟!
واعلم أنّ أخذ الشيخين للّواء وانصرافهما به غير موجود في الروايات التي رواها البخاري في غزوة خيبر ، ورواها مسلم في باب فضائل
ص: 92
عليّ علیه السلام (1).
فلعلّ نسبة المصنّف رحمه اللّه الحديث إليهما وإلى غيرهما باعتبار مجموعه ، وإن لم يرويا إلّا محاربة عليّ علیه السلام وقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه.
ويمكن أن يكون تمام الحديث مرويّا في مقامات أخر من الصحيحين لم أطّلع عليها ، أو يكون ما يتعلّق بالشيخين مسقطا من الحديث حفظا لشأنهما!
وممّا وجدته من الأحاديث المشتملة عليه ، ما رواه أحمد في مسنده (2) ، عن بريدة ، قال : « حاصرنا خيبر ، فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له ، ثمّ أخذه عمر من الغد فخرج فرجع ولم يفتح له ، وأصاب الناس يومئذ شدّة وجهد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي دافع الراية غدا إلى رجل يحبّه اللّه ورسوله ، ويحبّ اللّه ورسوله ، لا يرجع حتّى يفتح له.
فبتنا طيّبة أنفسنا أنّ الفتح غدا ، فلمّا أن أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى الغداة ، ثمّ قام قائما فدعا باللواء والناس على مصافّهم ، فدعا عليّا وهو أرمد ، فتفل في عينه ودفع إليه اللواء وفتح له ».
ومنها : ما رواه أحمد أيضا (3) ، قال : « لمّا نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحصن أهل خيبر أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء عمر بن الخطّاب ، ونهض معه من نهض من المسلمين ، فلقوا أهل خيبر.
فقال رسول اللّه : لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ،
ص: 93
ويحبّه اللّه ورسوله.
فلمّا كان الغد دعا عليّا وهو أرمد ، فتفل في عينه وأعطاه اللواء ، ونهض الناس معه فلقي مرحب - إلى أن قال : - فضربه على هامته حتّى عضّ السيف منها بأضراسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته.
قال : وما تتامّ آخر الناس مع عليّ حتّى فتح له ».
ومنها : ما رواه الحاكم في كتاب المغازي من « المستدرك » (1) ، عن أبي ليلى ، عن عليّ علیه السلام ، أنّه قال : « يا أبا ليلى! أما كنت معنا بخيبر؟!
قال : بلى واللّه ، كنت معكم.
قال : فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر إلى خيبر فسار بالناس وانهزم حتّى رجع »
وروى الحاكم أيضا ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « سار النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر ، فلمّا أتاها بعث عمر وبعث معه الناس ... فقاتلوهم ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ، فجاؤوا يجبّنونه ويجبّنهم ... » (2) الحديث.
وروى الحاكم أيضا عن جابر نحو هذا (3) ، وصحّح الأحاديث كلّها ، وما تعقّب الذهبيّ إلّا الحديث الأخير بالمناقشة في سنده ، وهو غير ضائر كما مرّ مرارا ، لا سيّما مع ثبوت مضمونه بالصحاح الأخر.
ثمّ روى الحاكم ، عن جابر ، قال : لمّا كان يوم خيبر بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجلا فجبن ، فجاء محمّد بن مسلمة فقال : يا رسول اللّه! لم أر كاليوم قطّ!!
ص: 94
إلى أن قال : ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأبعثنّ غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّانه ، لا يولّي الدبر ، يفتح اللّه على يديه.
فتشوّف (1) لها الناس ، وعليّ يومئذ أرمد ..
فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : سر.
فقال : يا رسول اللّه! ما أبصر موضعا!
فتفل في عينيه ، وعقد له ودفع إليه الراية - إلى أن قال : - فلقيهم ففتح اللّه عليه (2).
أقول : المراد بالرجل الذي جبن هو أبو بكر ، أو عمر ، بدلالة الأخبار الأخر ، على أنّ الفارّ هو أحدهما لا غيرهما!
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » (3) في فضائل عليّ علیه السلام ، عن ابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة ، والبزّار ، وابن جرير ، قال : وصحّحه ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي ، والضياء المقدسي في « المختارة » ، بأسانيدهم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال :
ص: 95
« كان عليّ يخرج في الشتاء في إزار ورداء ، ثوبين خفيفين ، وفي الصيف في القباء المحشوّ والثوب الثقيل ، فقال الناس : لو قلت لأبيك فإنّه يسمر معه ، فسألت أبي - إلى أن قال : - فسمر معه (1) ، فقال : يا أمير المؤمنين! إنّ الناس قد تفقّدوا منك شيئا - إلى أن قال : - قال : أوما كنت معنا يا أبا ليلى بخيبر؟!
قال : بلى واللّه ، كنت معكم.
قال : فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر فسار بالناس ، فانهزم حتّى رجع عليه (2) ، وبعث عمر فانهزم بالناس حتّى انتهى إليه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، يفتح اللّه له ، ليس بفرّار.
فأرسل إليّ فدعاني فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئا ، فتفل في عيني وقال : اللّهمّ اكفه الحرّ والبرد ؛ فما آذاني بعده حرّ ولا برد ».
ونحوه في « خصائص » النسائي (3).
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » (4) في غزوة خيبر ، عن ابن أبي شيبة والبزّار - قال : وسنده حسن - ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « سار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر ، فلمّا أتاها بعث عمر ومعه الناس إلى مدينتهم [ والى قصرهم ] فقاتلوهم ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ، فجاء يجبّنهم ويجبّنونه ،
ص: 96
فساء ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : لأبعثنّ عليهم رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، يقاتلهم حتّى يفتح اللّه له ، ليس بفرّار .. » .. الحديث.
ونقل أيضا في المقام المذكور عن ابن جرير ، عن بريدة ، قال : « لمّا كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر فرجع ولم يفتح له ، فلمّا كان من الغد أخذ عمر اللواء ولم يفتح له ، وقتل ابن مسلمة ، ورجع الناس ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأدفعنّ لوائي هذا إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، لن يرجع حتّى يفتح عليه ... » (1) .. الحديث.
ونحوه في « خصائص » النسائي أيضا (2).
ونقل في « الكنز » أيضا ، عن ابن أبي شيبة ، عن بريدة ، قال : « لمّا نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحصن (3) خيبر فزع أهل خيبر ... فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمر بن الخطّاب بالناس ، فلقي أهل خيبر ، فردّوه وكشفوه هو وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأعطينّ اللواء غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله.
فلمّا كان الغد تصادر (4) لها أبو بكر وعمر ، فدعا عليّا وهو يومئذ
ص: 97
أرمد ، فتفل في عينه وأعطاه اللواء ، فانطلق بالناس فلقي أهل خيبر ولقي مرحبا - إلى أن قال : - فضربه عليّ ضربة على هامته بالسيف عضّ السيف منها بالأضراس ، وسمع صوت ضربته أهل العسكر ، فما تتام آخر الناس حتّى فتح لأوّلهم » (1).
ونحوه في « تاريخ الطبري » (2).
ومنها : ما أخرجه الطبري بعد الحديث المذكور ، عن بريدة ، قال : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ربّما أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، وإنّ أبا بكر أخذ راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ نهض فقاتل قتالا شديدا ، ثمّ رجع ؛ فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشدّ من القتال الأوّل ، ثمّ رجع.
فأخبر بذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أما واللّه لأعطينّها رجلا يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، يأخذها عنوة ».
... إلى أن قال : « وخرج مرحب ... فبدره عليّ فضربه ، فقدّ الحجر والمغفر ورأسه حتّى وقع في الأضراس ، وأخذ المدينة » (3).
ومثله في « كامل ابن الأثير » (4) ، إلّا أنّه قال في آخره : « فضربه فقدّ
ص: 98
الجحفة والمغفر ورأسه حتّى وقع في الأرض ، وأخذ المدينة ».
.... إلى غير ذلك من الأخبار التي يطول ذكرها (1).
وليت شعري ما هذا القتال الشديد من الشيخين الذي لم يصب فيه أحد بكلم ، ولم يهرق فيه دم؟!
وأمّا ما ذكره الفضل من أنّ المصنّف رحمه اللّه يروي هذه الفضائل من كتبهم ، فمسلّم ؛ لأنّ المطلوب إلزامهم بما هو حجّة عليهم.
وليس ذكرهم لهذه الفضائل دليلا على اهتمامهم بنقل ما يروونه نصّا لو اطّلعوا عليه ، كما سبق بيانه في الآية الثانية والثمانين (2) ، وما رووا تلك الفضائل إلّا لزعمهم عدم دلالتها على إمامته ، لا لخلوّهم عن الأغراض!
ولذا لمّا نبّههم الشيعة على دلالتها على إمامته حذف المتأخّرون منهم ما يمكن حذفه من كتب المتقدّمين ، كحديث النور ونحوه من مسند أحمد (3) ، وأوّلوا كثيرا منها بما هو أشبه يشبه السوفساطائية ، وناقشوا في أسانيد الكثير منها مع تعدّد طرقها الكافي في اعتبارها ، على أنّهم قلّ ما يروون فضائله على وجهها ، ويوافون بالحقائق على حالها.
وأمّا قوله : « وما هم كالروافض والشيعة ، في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة ».
فلعمري لقد أراد أن يفضح فافتضح ؛ لأنّه يطلب منّا أن نكذّب مثلهم
ص: 99
ونحدّث بما لا أصل له ، ممّا أحدثه حبّ الدنيا ، وحدا إليه الرجاء والخوف في أيّام معاوية وأشباهه ، كما سبق في المقدّمة (1) ..
ويطلب منّا أن نروي ما يخالف العقل والدين ، كالأخبار القائلة : « إنّ أبا بكر وعمر لا يحبّان الباطل » ؛ الدالّة على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحبّه ، حيث غنّى له المغنّون والمغنّيات كما يروون (2) ..
وكالأخبار القائلة : « لو لم أبعث لبعث عمر » و « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر » (3) ، المستلزمة لجواز بعثة من سبق منه الكفر ..
وكروايات تبشير العشرة بالجنّة ، التي عرفت حالها في الآية الثانية والثلاثين (4) ..
وكرواية أنّ أبا بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة (5) ؛ مع أنّه لا كهول فيها (6) ..
وكرواية دعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمعاوية أن يجعله اللّه هاديا مهديّا (7) ،
ص: 100
مع ظهور الضلال على صفحات أفعاله وأقواله ، من قتله النفوس البريئة ، وحربه لمن حربه حرب لله ورسوله ، وسبّه لمن سبّه سبّهما ، وإلحاقه العهار بالنسب مراغمة للشريعة الأحمدية ... إلى نحو ذلك من أخبار فضائلهم.
* * *
ص: 101
وقال الفضل (1) :
إنّه صحّ هذا أيضا في الخبر ، وهذا أيضا من مناقبه وفضائله التي لا ينكرها إلّا سقيم الرأي ، ضعيف الإيمان ، ولكنّ الكلام على النصّ ، وهذا لا يثبته.
* * *
ص: 103
لمّا جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا كلّ الإيمان ، دلّ على أنّه قوامه ، وأنّه أفضل إيمانا وأثرا من جميع المؤمنين ؛ إذ لم يقم لهم إيمان لولاه ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
ويشهد لفضله عليهم في الأثر ما جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لضربة عليّ أفضل من عبادة الثقلين ، أو : لمبارزة عليّ لعمرو أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة ، كما سبق في الآية الحادية والخمسين (1).
وهذا ممّا يؤيّده قوله صلی اللّه علیه و آله : الساعي بالخير كفاعله (2)، ويقضي به العقل ؛ إذ بقتل أمير المؤمنين علیه السلام لعمرو خمدت جمرة الكفر ، وانكسرت عزيمة الشرك ، فكان هو السبب في بقاء الإيمان واستمراره ، وهو السبب في تمكين المؤمنين من عبادتهم إلى يوم الدين.
لكن هذا ببركة النبيّ الحميد ودعوته وجهاده في الدين ، فإنّ عليّا حسنة من حسناته ، فلا أفضل من سيّد الوصيّين إلّا سيّد المرسلين ، زاد اللّه في شرفهما ، وصلّى عليهما وعلى آلهما الطاهرين.
* * *
ص: 104
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الثاني عشر : في مسند أحمد من عدّة طرق ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ ، فتكلّم الناس ، فخطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :
أمّا بعد ، فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب عليّ ، فقال فيه قائلكم ، [ وانّي ] واللّه ما سددت شيئا ولا فتحته ، وإنّما أمرت بشيء فاتّبعته (2).
* * *
ص: 105
وقال الفضل (1) :
كان المسجد في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله متّصلا ببيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان عليّ ساكن بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لمكان ابنته ، وكان الناس من أبوابهم في المسجد يتردّدون ويزاحمون المصلّين ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدّ الأبواب إلّا باب عليّ.
وقد صحّ في الصحيحين أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بسدّ كلّ خوخة في المسجد إلّا خوخة أبي بكر (2) ، والخوخة : الباب الصغير (3) ، فهذا فضيلة وقرب حصل لأبي بكر وعليّ.
* * *
ص: 106
لا يخفى أنّ حقيقة الفضل في هذه الفضيلة ليس لمجرّد الاختصاص بعدم سدّ الباب ، بل لما يكشف عنه من طهارة عليّ علیه السلام ، وأنّه يحلّ له أن يجنب في المسجد ويمكث فيه جنبا ، ولا يكره له النوم فيه كما كان ذلك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ فإنّ عمدة الغرض من سدّ الأبواب تنزيه المسجد عن الأدناس ، وتبعيده عن المكروهات والأمور البيتية.
وكان عليّ علیه السلام كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لا تؤثّر فيه الجنابة والنوم دنسا معنويا ، وكان بيت اللّه كبيته ؛ لكونه حبيبه القريب منه ، فاستثني كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لذلك ، كما ستعرفه.
وأمّا قوله : « كان عليّ ساكن بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... » إلى آخره.
فالظاهر أنّ غرضه به إنكار فضل أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ المستثنى حينئذ هو باب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ البيت له ؛ إذ لا يتعلّق في المقام بهذه المقدّمة فائدة سوى هذا الغرض السوء ، وإن ناقض نفسه بجعل الاستثناء فضيلة لعليّ علیه السلام يشارك بها أبا بكر ، فكان يلزمه أن يخصّ الفضيلة بأبي بكر وحده!
وفي كلا مقصديه ، من إنكار فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، وإثبات فضل أبي بكر نظر ..
أمّا الأوّل ؛ فلأنّ كون البيت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يمنع من اختصاص عليّ بباب منفرد ؛ كيف؟! وقد صرّحت الأخبار بأنّ الباب لعليّ ، حتّى تكلّم الناس في استثناء بابه ، ولو كان الباب للنبيّ صلی اللّه علیه و آله لما كان محلّ
ص: 107
لكلامهم فيه ، ولا لحسدهم لعليّ علیه السلام .
بل هذا ممّا يقرّب أنّ البيت - كالباب - مختصّ بعليّ علیه السلام ، إمّا ملكا كما هو الظاهر ، أو بالسكنى فقط والملكية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ وعليه ينبغي أن يقبضه أبو بكر كما قبض فدك ، فيتركهم بلا دار ولا عقار!
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الخوخة إذا كانت هي الباب الصغير ، كما يشهد له رواية البخاري للحديث في مناقب أبي بكر ، بلفظ : « الباب » بدل « الخوخة » (1) ، لزم كذب خبر استثناء باب أبي بكر ؛ لأنّه إذا أقرّ باستثناء باب عليّ علیه السلام وهو متقدّم زمانا - كما ستعرف - ، فلا بدّ من العمل بأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا يبقى باب مفتوح سوى باب عليّ علیه السلام ، وحينئذ لم يكن محلّ للأمر بسدّ الأبواب واستثناء باب أبي بكر.
مضافا إلى اشتمال خبر استثناء باب أبي بكر على أمور تشهد بكذبه ، كما ستعرفها إن شاء اللّه تعالى عند ذكر الفضل له في مقدّمة مآخذ أبي بكر.
فإن قلت : ما الدليل على تقدّم استثناء باب عليّ علیه السلام ؟ فلم لم يكونا في وقت واحد ، أو في وقتين متقاربين ، بحيث يكون الاستثناء الأخير قبل سدّ جميع الأبواب ، وحينئذ فلا يلزم التعارض والكذب؟
قلت : استثناء باب أبي بكر كان في وقت قرب موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله على ما زعموا (2) ، واستثناء باب عليّ علیه السلام في أيّام حمزة كما صرح به بعض أخبارهم (3) ، ودلّ باقي الأخبار الآتية وغيرها على تقدّم زمانه.
ص: 108
مع أنّه لو كان زمانهما واحدا لقال : « سدّوا الأبواب إلّا باب عليّ وأبي بكر » ، ولاعتذر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن فتح باب أبي بكر كما اعتذر عن فتح باب عليّ علیه السلام !
ويشهد لكون الاستثناء من خواصّ عليّ علیه السلام ما رواه أحمد في مسنده (1) ، عن ابن عمر ، وصحّحه ابن حجر في « الصواعق » (2) ، قال :
« كنّا نقول في زمن النبيّ : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خير الناس ، ثمّ أبو بكر ، ثمّ عمر ؛ ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال ، لأنّ تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم : زوّجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابنته وولدت له ، وسدّ الأبواب إلّا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر ».
فإنّه صريح بأنّ الاستثناء أحد خواصّه الثلاثة ، ولا سيّما بعد ذكر أبي بكر المتخيّر بينهم.
وقد تمنّى قبل ابن عمر أبوه إحدى هذه الخصال ، كما رواه الحاكم في « المستدرك » وصحّحه (3).
ونقله ابن حجر في « الصواعق » (4) ، عن أبي يعلى ، عن أبي هريرة ، عن عمر.
ص: 109
ونقله في « كنز العمّال » (1) ، عن ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر ، عن أبيه ، [ و ] (2) عن ابن أبي شيبة ، عن عليّ ، عن عمر ؛ قال فيه على الرواية الأخيرة : « وسكناه المسجد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، يحلّ له فيه ما يحلّ له » كما في لفظ رواية الحاكم أيضا (3) ، وقال في رواية أبي يعلى : « وسكناه المسجد ، لا يحلّ لي فيه ما يحلّ له » (4).
فلا ريب أنّ هذا من خواصّ أمير المؤمنين علیه السلام ؛ إذ لا يتصوّر أن يظهر من عمر وابنه اختصاص عليّ علیه السلام بهذا الأمر لو شاركه فيه أبو بكر ، الذي هو أساس شرفهم ، ومستند أمرهم ، والمتخيّر بينهم.
وقد تكلّف ابن عمر في تخيّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الناس ، حتّى على أبيه وصاحبه!
هذا ، مضافا إلى ضعف خبر استثناء خوخة أبي بكر ، لضعف سنده بجماعة ، منهم : فليح بن سليمان ، عدوّ آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، الذي سبقت ترجمته في مقدّمة الكتاب (5).
ونزيدك هنا بيانا لحاله بذكر ما في « ميزان الاعتدال » و « تهذيب التهذيب » مضافا إلى ما تقدّم في المقدّمة ..
قالا : قال ابن معين مرّة : لا يحتجّ به.
ومرّة : ضعيف ، ما أقربه من أبي أويس.
ص: 110
وقال مرّة ، والنسائي وأبو حاتم : ليس بالقويّ.
وفي « التهذيب » أيضا : قال النسائي مرّة : ضعيف.
وقال ابن المديني : فليح وأخوه عبد الحميد ضعيفان (1).
وقد روى البخاري هذا الحديث أيضا في أواخر الجزء الثاني ، في باب هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه إلى المدينة (2) ، وفي سنده إسماعيل بن عبد اللّه ، الكذّاب الوضّاع ، كما عرفت بعض ترجمته في المقدّمة (3).
فإذا كان خبر استثناء باب أبي بكر بهذا الحال من الضعف ، لم يصلح للاحتجاج به على استثنائه ، فضلا عن أن يعارض به أخبار استثناء باب أمير المؤمنين المستفيضة أو المتواترة.
وأعجب من القول بمعارضته لها دعوى ابن الجوزي وضعها لأجله ، لكنّه ذكر منها ثمانية ، كما ستعرف (4).
وذكر السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ما يزيد على ثلاثين حديثا منها هذه الثمانية (5).
ولنذكر منها ما يدلّ على أنّ استثناء باب عليّ علیه السلام ؛ لطهارته وجواز أن يجنب في المسجد أو يمرّ فيه جنبا ، ولكونه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمنزلة
ص: 111
هارون من موسى ؛ لتعرف عدم صحّة استثناء باب أبي بكر.
فمنها : ما حكاه عن ابن حجر في « القول المسدّد » ، عن أحمد والنسائي ، بسنديهما عن ابن عبّاس ، قال في حديث سدّ الأبواب إلّا باب عليّ : « فكان يدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق آخر ».
ثمّ قال ابن حجر : وأخرجه الكلاباذي في « معاني الأخبار » ، ثمّ ذكر له طريقا آخر.
وأخرجه ابن الجوزي في « الموضوعات » ، من طريق أبي نعيم ، ثمّ ذكر له طريقا آخر أيضا (1).
ومنها : ما حكاه عن ابن حجر أيضا ، عن الطبراني في « الكبير » ، بسنده عن جابر بن سمرة ، قال : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدّ الأبواب كلّها غير باب عليّ ، فقال العبّاس : يا رسول اللّه! قدر ما أدخل وحدي [ واخرج ]؟!
قال : ما أمرت بشيء من ذلك ؛ فسدّها [ كلّها ] غير باب عليّ.
قال : وربّما مرّ وهو جنب (2).
ومنها : ما حكاه عن أبي نعيم في « فضائل الصحابة » ، بسنده عن بريدة الأسلمي ، قال : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدّ الأبواب ، فشقّ ذلك على أصحابه ، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا الصلاة جامعة ، حتّى إذا
ص: 112
اجتمعوا صعد المنبر ، ولم نسمع لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحميدا وتعظيما في خطبة مثل يومئذ ، فقال :
أيّها الناس! ... ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها بل اللّه فتحها وسدّها.
ثمّ قرأ : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلأَوَحْيٌ يُوحى ) (1).
فقال رجل : دع لي كوّة تكون في المسجد؟
فأبى ، وترك باب عليّ مفتوحا ، فكان يدخل ويخرج منه وهو جنب (2).
ومنها : ما حكاه أيضا عن أبي نعيم في « الفضائل » ، بسنده عن ابن مسعود ، قال : « انتهى إلينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات ليلة ونحن في المسجد جماعة من الصحابة ، فينا أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وحمزة ، وطلحة ، والزبير ، وجماعة من الصحابة بعدما صلّيت العشاء ، فقال : ما هذه الجماعة؟!
قالوا : يا رسول اللّه قعدنا نتحدّث ، منّا من يريد الصلاة ، ومنّا من ينام.
فقال : إنّ مسجدي لا ينام فيه ، انصرفوا إلى منازلكم ، ومن أراد الصلاة فليصلّ في منزله راشدا ، ومن لم يستطع فلينم ، فإنّ صلاة السرّ تضعف على صلاة العلانية.
ص: 113
فقمنا فتفرّقنا وفينا عليّ بن أبي طالب ، فقام معنا ، فأخذ بيد عليّ وقال : أمّا أنت فإنّه يحلّ لك في مسجدي ما يحلّ لي ، ويحرم عليك ما يحرم عليّ.
فقال له حمزة بن عبد المطّلب : يا رسول اللّه! أنا عمّك ، وأنا أقرب إليك من عليّ.
قال : صدقت يا عمّ ، إنّه واللّه ما هو عنّي ، إنّما هو عن اللّه عزّ وجلّ » (1).
ومنها : ما حكاه عن ابن الجوزي في « الموضوعات » ، عن أبي نعيم (2) ، بسنده عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : إنّ موسى سأل ربّه أن يطهّر مسجده لهارون وذرّيّته ، وإنّي سألت اللّه أن يطهّر مسجدي لك ولذرّيّتك من بعدك.
ثمّ أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك ، فاسترجع ... وقال : سمعا وطاعة ؛ فسدّ بابه.
ثمّ [ أرسل ] إلى عمر ... كذلك.
ثمّ صعد المنبر فقال : ما أنا سددت أبوابكم ، ولا فتحت باب عليّ ، ولكنّ اللّه سدّ أبوابكم وفتح باب عليّ (3).
ص: 114
ومنها : ما حكاه أيضا عن ابن الجوزي ، عن ابن مردويه ، بسنده عن أبي سعيد ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : لا يحلّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك (1).
ثمّ حكاه السيوطي ، عن الترمذي ، وعن البيهقي في « سننه » من طريقين (2).
قال البيهقي (3) : وقد ورد من طرق.
ثمّ حكاه السيوطي ، عن البزّار ، بسنده عن سعد (4).
أقول : وقد وجدت الحديث في فضائل عليّ علیه السلام من سنن الترمذي وحسّنه (5).
ومنها : ما حكاه عن ابن منيع في « مسنده » ، عن جابر ، قال : جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونحن مضطجعون في المسجد ، فضربنا بعسيب (6) كان بيده رطبا وقال : ترقدون في المسجد؟! إنّه لا يرقد فيه!
ص: 115
فانجفلنا (1) وانجفل معنا عليّ ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا عليّ! إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي (2).
ومنها : ما حكاه عن ابن أبي شيبة ، بسنده عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها ، قالت : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ألا إنّ مسجدي حرام على كلّ حائض من النساء ، وكلّ جنب من الرجال ، إلّا على محمّد وأهل بيته : عليّ وفاطمة والحسن والحسين (3).
ويعضد هذه الأخبار ويفيد مفادها أخبار عديدة ، منها : حديث عمر السابق المروي بطرق كثيرة ، كما سمعت (4).
فظهر حلّيّة المسجد لعليّ علیه السلام جنابة ونوما ؛ وليس هو إلّا لطهارة نفسه القدسيّة طهارة لا يدنّسها ما يدنّس غيره ؛ فكيف يستثنى باب أبي بكر ، وهو من سائر الناس؟!
بل في بعض الأخبار أنّ عليّا علیه السلام مطهّر للمسجد ؛ ففي « كنز العمّال » (5) ، عن البزّار ، عن عليّ علیه السلام ، قال : أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدي فقال : إنّ موسى سأل ربّه أن يطهّر مسجده بهارون ، وإنّي سألت ربّي أن يطهّر مسجدي بك وبذريّتك.
ص: 116
ثمّ أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك ، فاسترجع ثمّ قال : سمعا وطاعة ؛ فسدّ بابه ، ثمّ أرسل إلى عمر ، ثمّ أرسل إلى العبّاس ، بمثل ذلك ، ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب عليّ ، ولكنّ اللّه فتح باب عليّ وسدّ أبوابكم.
وبالجملة ، لا وجه لاستثناء باب أبي بكر ، وهو ليس ممّن طهّرهم اللّه من الرجس حتّى يحسن دخوله المسجد جنبا ، ولا هو من النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمنزلة هارون من موسى حتّى يجمل إلحاقه به.
فيكون ما دلّ على استثناء بابه باطلا ، ولا سيّما مع ضعفه سندا ، ومعارضته بالأخبار المصرّحة بسدّ بابه وباب من هو أولى منه بالرعاية والكرامة ، وهو حمزة أسد اللّه وأسد رسوله ، والعبّاس عمّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، حتّى إنّ العبّاس طلب فتح بابه قدر ما يدخل وحده فمنعه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومنع حتّى الكوّة (1).
وبذلك علم فضل أمير المؤمنين علیه السلام على جميع الصحابة ، فيكون أولاها بالإمامة.
واعلم أنّه قد تضمّن كلام السيوطي في « اللآلئ » الجواب عن دعوى ابن الجوزي وضع الأحاديث الدالّة على استثناء باب عليّ علیه السلام ، وذكر في الأثناء ردّ ابن حجر لابن الجوزي ، فلنذكر ما بيّنه السيوطي ملخّصا ..
فإنّه نقل فيها عن ابن الجوزي في « الموضوعات » ثمانية أحاديث :
ص: 117
حديثان منها لأحمد في مسنده ، أحدهما عن سعد بن أبي وقّاص ، والآخر عن ابن عمر (1) ..
وحديثان للنسائي ، أحدهما عن سعد ، والآخر عن زيد بن أرقم (2) ..
وحديثان لأبي نعيم ، كلاهما عن ابن عبّاس (3) ..
وحديث للخطيب ، عن جابر بن عبد اللّه (4) ..
وحديث لابن مردويه ، عن أبي سعيد (5).
وقد زعم ابن الجوزي أنّ هذه الأحاديث جميعا باطلة موضوعة ، قال : « هي من وضع الرافضة ، قابلوا بها حديث أبي بكر في الصحيح » (6).
ثمّ نقل السيوطي عن ابن حجر في « القول المسدّد في الذبّ عن مسند أحمد » أنّه قال : « قول ابن الجوزي في الحديث إنّه باطل [ وانّه ] موضوع ، دعوى لم يستدل عليها إلّا بمخالفة الحديث الذي في الصحيحين ، وهذا إقدام على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجرّد التوهّم ».
ثمّ قال : « وهذا الحديث مشهور ، له طرق متعدّدة ، كلّ طريق منها
ص: 118
على انفراده لا يقصر عن رتبة الحسن ، ومجموعها ممّا يقطع بصحّته على طريقة كثير من أهل الحديث » (1).
ثمّ نقل ابن حجر عن البزّار أنّ الروايات فيه جاءت من وجوه بأسانيد حسان (2).
ثمّ ذكر ابن حجر جملة أخرى من طرق الحديث ، تزيد على الطرق التي ذكرها ابن الجوزي ، وقد صحّح هو بعضها (3) ، وصحّح الحاكم بعضها (4) ، وروى أحمد بعضها (5) ، والضياء في « المختارة » (6) ، وغيرهم من عظماء علمائهم (7).
وفي أثناء ذلك تعرّض للجواب عن طعن ابن الجوزي في أسانيد الأخبار التي ذكرها وخطّأه في ما أعلّها به ، وذكر أنّ بعضا من رجال هذه الأسانيد قد صحّح له الترمذي ، ووثقه غير واحد ، وبعضهم من رجال مسلم (8).
ثمّ قال : « فهذه الطرق المتضافرة بروايات الثقات تدلّ على أنّ
ص: 119
الحديث صحيح » (1).
إلى أن قال : « ولو فتح هذا الباب لردّ الأحاديث لأدّعى (2) في كثير من الأحاديث الصحيحة البطلان ، ولكن يأبى اللّه ذلك والمؤمنون » (3).
ثمّ ذكر السيوطي بعد انتهاء هذا الكلام من ابن حجر سبعة طرق أخر للحديث ، ثمّ نقل بعدها حديث ابن مردويه الذي ذكره ابن الجوزي في « الموضوعات » (4) الذي أشرنا إليه (5).
ثمّ أورد له ثمانية طرق أخر ، فكان جميع طرق الحديث في « اللآلئ المصنوعة » ما يناهز الأربعين طريقا ، مسندة إلى جماعة من الصحابة ، منهم : أمير المؤمنين علیه السلام ، وابن عبّاس ، وسعد بن أبي وقّاص ، وزيد بن أرقم ، وجابر بن عبد اللّه ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو سعيد ، وأنس ابن مالك ، وبريدة الأسلمي ، وجابر بن سمرة ، وأمّ سلمة ، وعائشة (6) ...
مضافا إلى البراء بن عازب ، وحذيفة بن أسيد ، على ما في حديث ابن المغازلي ، المشتمل سنده عليهما وعلى جماعة آخرين ممّن عرفت ، وقد ذكره في الباب السابع عشر من « ينابيع المودّة » مع عدّة أخبار ، ومضافا إلى عمر ، كما سمعته في رواية الحاكم وغيره من طرق مرويّة عنه (7).
ص: 120
ولنعيّن لك صفحات روايات أحمد في مسنده ؛ لترجع إليها عند الحاجة ، فإنّه روى :
حديث سعد ، صفحة 175 من الجزء الأوّل ..
وحديث ابن عبّاس ، صفحة 331 من الجزء الأوّل أيضا ...
وحديث ابن عمر ، صفحة 26 من الجزء الثاني ..
وحديث زيد بن أرقم ، صفحة 369 من الجزء الرابع ..
ولعلّه لأحمد أحاديث أخر.
فأنت ترى أنّ طرق الحديث مستفيضة أو متواترة ، ولا سيّما بضميمة أخبارنا ، وقد صحّح القوم جملة من أحاديثهم كما عرفت ، حتّى صحّح الحاكم في « المستدرك » طريقين منها (1) ، وأقرّه الذهبي - مع ما تعلمه من حاله - على صحّة حديث زيد بن أرقم ، الذي رواه مع حديث عمر ، صفحة 125 من الجزء الثالث (2).
فمع هذا كلّه ، كيف يجوز لابن الجوزي دعوى الوضع لمجرّد رواية الصحيحين لحديث استثناء باب أبي بكر ، وهو أقرب إلى الوضع ؛ لأنّه من حديث المتّهمين والنصّاب ، مع ضعف رجال سنده كما عرفت (3) ، وعدم تعدّد طرقه؟! ولكن لا حيلة مع التعصّب ومجانبة الإنصاف!!
* * *
ص: 121
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الثالث عشر : في مسند أحمد بن حنبل ، من عدّة طرق ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله آخى بين الناس وترك عليّا حتّى بقي آخرهم لا يرى له أخا ، فقال : يا رسول اللّه! آخيت بين أصحابك وتركتني؟!
فقال : « إنّما تركتك لنفسي ، أنت أخي وأنا أخوك ، فإن ذكرك أحد فقل : أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يدّعيها بعدك إلّا كذّاب.
والذي بعثني بالحقّ ، ما أخّرتك إلّا لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ، ووارثي » (2).
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « مكتوب على باب الجنّة : محمّد رسول اللّه ، عليّ أخو رسول اللّه ،
ص: 122
وقال الفضل (1) :
حديث المؤاخاة مشهور معتبر معوّل عليه ، ولا شكّ أنّ عليّا أخ (2) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومحبّه وحبيبه ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شديد الحبّ له ، وهذا كلّه يؤخذ من صحاحنا ومن مذهبنا ، ولكن لا يدلّ على النصّ ؛ لأنّ أبا بكر كان خليل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ووزيره وقرينه ، وله أيضا من الفضائل ما لا يعدّ ولا يحصى ، والكلام ليس في عدّ الفضائل وإثباتها ، بل وجود النصّ.
* * *
ص: 124
نقل في « ينابيع المودّة » ، في الباب التاسع ، حديث المؤاخاة عن أحمد في مسنده ، عن زيد بن أبي أوفى (1).
كما نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن « المسند » أيضا (2).
وقد سبق ذكره في الآية الثانية والثلاثين ، وأنّ ابن تيميّة زعم أنّه من زيادات القطيعي (3).
وسبق أنّه قد نقله في « كنز العمّال » و « تذكرة الخواصّ » ، عن أحمد في « الفضائل » (4).
ثمّ حكى في « الينابيع » أيضا ، عن أحمد في « مسنده » ، عن حذيفة ابن اليمان ، قال : « آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين المهاجرين والأنصار ، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، ثمّ أخذ بيد عليّ علیه السلام ، فقال : هذا أخي » (5).
وحكى أيضا عن عبد اللّه بن أحمد في « زوائد المسند » ثمانية أحاديث في مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام (6).
ص: 125
فيمكن أن يكون المصنّف رحمه اللّه أشار إلى هذه الأحاديث بقوله : « من عدّة طرق » ، وكأنّ القوم قد تعلّلوا لحذفها من « المسند » في الطبع ، بدعوى أنّها من الزيادات ، فإنّي لم أعثر على شيء منها!
وروى الترمذي حديث المؤاخاة في فضائل عليّ علیه السلام من « سننه » ، عن ابن عمر ، وحسّنه ، ثمّ قال : وفيه عن زيد بن أبي أوفى (1).
ورواه في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، عن أبي الطفيل ، قال : « لمّا احتضر عمر جعلها شورى بين عليّ ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن ، وسعد ، فقال لهم عليّ : أنشدكم اللّه هل فيكم أحد آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينه وبينه - إذ آخى بين المسلمين - غيري؟!
قالوا : اللّهمّ لا ».
ثمّ قال : « وروينا من وجوه عن عليّ أنّه كان يقول : أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يقولها أحد غيري إلّا كذّاب ».
ثمّ قال : « قال أبو عمر (2) : آخى رسول اللّه بين المهاجرين [ بمكّة ] ، ثمّ آخى بين المهاجرين والأنصار [ بالمدينة ] ، وقال في كلّ واحدة منهما لعليّ : أنت أخي في الدنيا والآخرة ؛ وآخى بينه وبين نفسه ؛ فلذلك كان هذا القول وما أشبهه من عليّ ».
انتهى ما في « الاستيعاب » (3).
ص: 126
وروى الحاكم حديث المؤاخاة في « المستدرك » ، في كتاب الهجرة ، من طرق ، عن ابن عمر (1)
وحكى في « كنز العمّال » (2) ، عن الخلعي ، والبيهقي في « سننه » (3) ، والضياء في « المختارة » ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين عمر وأبي بكر ، وبين حمزة بن عبد المطّلب وزيد بن حارثة - إلى أن قال : - وبيني وبين نفسه »
وحكى في « الكنز » أيضا (4) ، عن أبي يعلى في « مسنده » (5) ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين الناس وتركني - إلى أن قال : - قال : إنّما تركتك لنفسي ، أنت أخي وأنا أخوك ، فإن حاجّك أحد فقل : إنّي عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يدّعيها أحد بعدك إلّا كذّاب ».
وحكى في « الكنز » أيضا نحوه (6) ، عن ابن عديّ ، بسنده عن يعلى ابن مرّة.
وحكى فيه أيضا ، عن الطبراني ، عن ابن عبّاس : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام : « أغضبت [ عليّ ] حين واخيت بين المهاجرين والأنصار ، ولم أواخ بينك وبين أحد منهم؟!
ص: 127
أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟!
ألا من أحبّك حفّ بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته اللّه ميتة الجاهلية » (1).
وحكى أيضا حديث المؤاخاة بين النبيّ وعليّ ، عن ابن عساكر ، عن أبي رافع ، عن أبي أمامة (2).
ونقل سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » ثلاث روايات في المؤاخاة ، عن أحمد في « الفضائل » ، كما هي عادته في النقل عنها ، وأثبت وثاقتها ، ونقل أيضا عن أحمد ما نقله المصنّف رحمه اللّه عن « الجمع بين الصحاح » (3).
وحكى في « ينابيع المودّة » ، في الباب التاسع ، عن ابن المغازلي ، أنّه أخرج ستّة أحاديث في المؤاخاة ، وعن أخطب خوارزم اثني (4) عشر حديثا ، وعن الحمويني حديثين ، بأسانيدهم عن ابن عبّاس ، وابن عمر ، وحذيفة ، وأنس ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن أبي أوفى ، وأبي أمامة ، وغيرهم (5).
ص: 128
وقد مرّ في الآية الثالثة والعشرين الأحاديث في قول أمير المؤمنين : « أنا عبد اللّه وأخو رسوله » (1).
ونقل في « كنز العمّال » (2) ، عن العدني ، عن أبي يحيى ، قال : سمعت عليّا يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، لا يقولها أحد بعدي إلّا كاذب » ؛ فقالها رجل فأصابته جنّة
ويشهد لصحّة أخبار المؤاخاة بين المهاجرين ، ما رواه البخاري في باب « كيف يكتب : هذا ما صالح فلان بن فلان » ، من كتاب « الصلح » (3).
وفي باب « عمرة القضاء » ، من كتاب « المغازي » ، أنّه اختصم عليّ وجعفر وزيد بن حارثة في كفالة ابنة حمزة لمّا تبعت النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتناولها عليّ علیه السلام ؛ فقال عليّ علیه السلام : أنا أخذتها ، وهي بنت عمّي.
وقال جعفر : هي ابنة عمّي ، وخالتها تحتي.
وقال زيد : ابنة أخي (4).
ومثله في « مستدرك » الحاكم (5).
إذ لا معنى لقول زيد : « ابنة أخي » ومنازعته لأمير المؤمنين وجعفر ،
ص: 129
وهما هما مع رحمهما الماسّة بابنة عمّهما لو لا المؤاخاة التي عقدها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين حمزة وزيد ، وهما مهاجريّان (1).
لكنّ ابن تيميّة أنكر المؤاخاة بين المهاجرين ، وبين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين (2) ، قال : لأنّ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لإرفاق بعضهم ببعض ، ولتأليف قلوب بعضهم ببعض ، فلا معنى لمؤاخاة مهاجريّ لمهاجريّ (3).
وفيه : إنّ الإرفاق والتأليف أيضا مطلوبان بين المهاجرين بعضهم مع بعض ، مع اشتمال المؤاخاة على حكم كثيرة أخر.
قال في « السيرة » (4) : « قال الحافظ ابن حجر : وهذا ردّ للنصّ بالقياس ، وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة ، فآخى بين الأعلى والأدنى ، ليرتفق الأدنى بالأعلى ، وليستعين الأعلى بالأدنى.
ولهذا تظهر مؤاخاته صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام ؛ لأنّه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة (5).
وفي ( الصحيح ) ، في عمرة القضاء ، أنّ زيد بن حارثة قال : ( إنّ بنت حمزة بنت أخي ) ؛ أي بسبب المؤاخاة (6) » ؛ انتهى.
ص: 130
وهو كلام حسن ، سوى إنّ مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ ليست للارتزاق ؛ لغنى عليّ علیه السلام حينئذ بالغنائم وغيرها ، وبلوغه منزلة يعول بها ولا يعال به.
وإنّما الغرض من مؤاخاته لعليّ تعريف منزلته ، وبيان فضله على غيره ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يؤاخي بين الرجل ونظيره ، كما دلّ عليه بعض الأخبار (1) ؛ لأنّ ذلك أقرب إلى التعاون والتعاضد ، وأوجب للتأليف ، فيكون أمير المؤمنين علیه السلام هو النظير لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
كما جعلته آية المباهلة نفسه ؛ وذلك رمز لإمامته ؛ ولذا احتجّ به أمير المؤمنين يوم الشورى (2).
كما أشار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - أيضا - إلى ذلك بقوله في كثير من هذه الأحاديث : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ».
وقوله : أنت أخي ووارثي ؛ فقال عليّ : وما أرث منك؟ قال : ما ورّث الأنبياء قبلي ؛ قال : وما ورّثوا؟ قال : كتاب اللّه وسنن أنبيائه ؛ كما سبق في الآية الثانية والثلاثين (3).
فإنّ عليّا علیه السلام إذا ورث مواريث الأنبياء كان من خلفائهم وإمام الأمّة ؛ إذ ليس الإمام إلّا من كان كذلك.
ويشهد لذلك وصف عليّ علیه السلام بالأخوّة في عرض وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالرسالة ، في ما هو مكتوب على باب الجنّة ، كما في الخبر
ص: 131
الذي نقله المصنّف رحمه اللّه عن « الجمع بين الصحاح » (1) ، ونقلناه عن « تذكرة الخواصّ » (2) ، ونقله في « كنز العمّال » عن الطبراني والخطيب (3) ، وعن ابن عساكر (4) ، بأسانيدهم عن جابر (5).
وأمّا مناظرة الفضل للحديث بأنّ أبا بكر خليل رسول اللّه ووزيره وقرينه ، فمن مقاومة حجّتنا عليهم بما ليس حجّة علينا.
والظاهر ، أنّه أشار بقوله : « خليل رسول اللّه » إلى ما رووه من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا » (6).
وأنت ترى أنّه نفي للخلّة (7) لا إثبات لها.
نعم ، فيه خلّة فرضية لا تساوي الأخوّة الفعليّة ، مع أنّ الأخوّة فوق الخلّة.
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ما على هذا الخبر من دلائل أنّه من الموضوعات.
ص: 132
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الرابع عشر : من مسند أحمد بن حنبل ، وفي الصحاح الستّة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، من عدّة طرق : « إنّ عليّا منّي وأنا من عليّ ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ، لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ » (2).
وفيه أيضا : لمّا قتل عليّ أصحاب الألوية يوم أحد قال جبرئيل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ هذه [ لهي ] (3) المواساة.
ص: 133
فقال : النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّ عليّا منّي وأنا منه ».
فقال جبرئيل : وأنا منكما يا رسول اللّه (1).
* * *
ص: 134
وقال الفضل (1) :
إتّصال النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعليّ في النسب ، وأخوّة الإسلام ، والنصرة ، والمؤازرة ، غير خفيّ على أحد ، ولا دلالة على النصّ بخلافته ؛ لأنّ مثل هذا الكلام قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لغير عليّ ، كما ذكر أنّه قال : « الأشعريّون إذا قحطوا أرملوا (2) ، أنا منهم وهم منّي » (3).
ولا شكّ أنّ الأشعريّين بهذا الكلام لم يصيروا خلفاء ، فلا يكون هذا نصّا.
* * *
ص: 135
روى البخاري والحاكم في « المستدرك » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « أنت منّي وأنا منك » (1)، وذلك في قصّة مخاصمة أمير المؤمنين وجعفر وزيد في ابنة حمزة ، كما أشرنا إليها في المبحث السابق (2).
وروى الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عمران بن حصين - وصحّحه على شرط مسلم - ، قال عمران ما حاصله : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استعمل عليّا على سريّة ، فأصاب جارية ، فأنكروا عليه ، فتعاقد أربعة أن يخبروا النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأخبره أحدهم ، فأعرض عنه ، وكذلك الثاني والثالث.
ثمّ قام الرابع فأخبره ، فأقبل عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والغضب في وجهه فقال : « ما تريدون من عليّ؟! إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن ».
ونحوه في « سنن الترمذي » ، في مناقب عليّ علیه السلام (4).
وفي « مسند أحمد » (5) و « كنز العمّال » (6) ، نقلا عن ابن أبي شيبة ،
ص: 136
جميعا عن عمران (1).
وفي رواية أخرى لأحمد (2) ، ولابن أبي شيبة ، كما في « الكنز » (3) ، كلاهما عن بريدة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لا تقع في عليّ علیه السلام ، فإنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي ».
وفي حديث آخر لابن أبي شيبة ، كما في « الكنز » (4) ، عن عمران ، - وقال : صحيح - : « عليّ منّي وأنا من عليّ ، وعليّ وليّ كلّ مؤمن بعدي ».
وقد سبق في الحديث السادس أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « عليّ منّي وأنا منه ، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ » (5).
رواه أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة (6).
ودلالة الجميع على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ظاهرة ؛ لأنّ جعل كلّ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام بعضا من الآخر دليل على اتّحادهما بالمزايا والفضل والإمامة.
كما يشهد له مضيّ فعل عليّ علیه السلام في اصطفاء الجارية من السبي ، كما مرّ في رواية عمران وبريدة.
ص: 137
وبهذا يعلم أنّه أراد الإمامة بقوله : « هو وليّ كلّ مؤمن » ؛ إذ لا يصلح إرادة غيرها في المقام.
وبالجملة ، قد دلّت هذه الروايات على صحّة اصطفاء أمير المؤمنين للجارية ، ومضيّ فعله ؛ لأنّه من رسول اللّه ورسول اللّه منه ، فيفهم منها أنّه إمام فعلا.
بل يفهم من مجرّد قوله : « هو منّي وأنا منه » ، أنّه بمنزلته فعلا ، فيكون إماما فعليّا.
ولا ينافيه التقييد بالبعديّة في بعض الأخبار المذكورة ؛ لأنّ المراد بها التأخّر في الرتبة ، والإشارة إلى قيامه بعده بتمام شؤون الإمامة ، كما سبق تحقيقه في الآية الأولى من الآيات التي استدلّ بها المصنّف رحمه اللّه على الإمامة (1).
وأمّا معارضة الفضل بما ورد عندهم في شأن الأشعريّين ، ففي غير محلّها ؛ لأنّه من حديث المخالفين ، وهو ليس حجّة علينا ..
مع أنّه من رواية أبي موسى الأشعري ، وهو محلّ التهمة ، ومنافق ؛ لبغضه عليّا (2) ، والمنافق أعظم الفاسقين ، فلا تقبل روايته لو صحّ السند
ص: 138
إليه.
ولو سلّم قبولها ، فاستعمال التبعيض في حديث الأشعريّين - بغير الإمامة ، بقرينة المقام وغيره - لا يستلزم مثله في ما نحن فيه ، الذي عرفت ظهوره في الاتّحاد بالفضل والمنزلة ؛ ولذا اقتضى قوله صلی اللّه علیه و آله في قصّة براءة : « لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي » انعزال أبي بكر ، والحال أنّه ليس دون الأشعريّين عند القوم.
وممّا بيّنّا يعلم وجه الاستدلال بقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله لجبرئيل : « إنّ
ص: 139
عليّا منّي وأنا منه » ؛ لدلالته على أنّه نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فله منزلته وفضله ، وقد كرّم جبرئيل نفسه يجعلها بعضا منهما.
وقد روى هذا الحديث المصنّف رحمه اللّه عن « مسند أحمد » في ظاهر كلامه (1).
وحكاه في « كنز العمّال » (2) ، عن الطبراني ، عن رافع بن خديج.
ورواه الطبري في « تاريخه » (3) ، وذكر فيه قتل عليّ علیه السلام لأصحاب الألوية ، وتفريقه لمن أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من جماعات المشركين ، وقتله لبعضهم.
ومثله في « كامل » ابن الأثير (4).
ونحوه في « شرح النهج » لابن أبي الحديد (5) ، نقلا عن غلام ثعلب (6) ، ومحمّد بن حبيب في « أماليه » ، وجماعة من المحدّثين ، وقال :
ص: 140
« هو من الأخبار المشهورة ».
* * *
ص: 141
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الخامس عشر : في مسند أحمد بن حنبل ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « إنّ فيك مثلا من عيسى ، أبغضه اليهود حتّى اتّهموا أمّه ، وأحبّه النصارى حتّى أنزلوه المنزل الذي ليس له بأهل » (2)
وقد صدق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ الخوارج أبغضوا عليّا علیه السلام ، والنصيريّة (3) اعتقدوا فيه الربوبيّة.
ص: 142
وقال الفضل (1) :
الحمد لله الذي جعل أهل السنّة معتدلين بين الفريقين ؛ من المفرطة في حبّ عليّ ، كالنصيرية التي يدّعون ربوبيته ، وكالإماميّة التي يدّعون أنّ أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله كفروا كلّهم لمخالفة النصّ في شأنه ؛ ومن المفرطة في بغضه كالخوارج المبغضة.
وأمّا أهل السنّة والجماعة - بحمد اللّه - فيحبّونه حبّا شديدا ، وينزلونه في منزلته التي هو أهل لها ، من كونه وصيّا ، وخليفة من الخلفاء الأربع ، وصاحب ودائع العلم والمعرفة.
* * *
ص: 143
هذا الحديث كما هو مذكور في مسند أحمد ، مذكور في مستدرك الحاكم ، وخصائص النسائي ، وغيرها ، كما سبق في الآية الثانية والستّين (1).
وبمعناه ما في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، أنّه قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « تفترق فيك أمّتي كما افترقت بنو إسرائيل في عيسى » (2).
ولا ريب أنّ إنزال النصارى لعيسى بغير منزلته إنّما هو لاتّخاذهم له إلها.
وبمقتضى التمثيل يكون إنزال عليّ علیه السلام بغير منزلته هو اتّخاذه إلها كعيسى ، كما فعل النصيرية وغيرهم من الغلاة ، فلا يدخل الإماميّة في من أنزله بغير منزلته ؛ لأنّهم يقولون : إنّه عبد من عبيد اللّه تعالى ، أكرمه بالخلافة بالنصّ عليه.
وحينئذ ، فينحصر أمر الإماميّة بين أن يكونوا ممّن أبغضه ، ولا سبيل إليه بالضرورة ؛ وبين أن يكونوا من النمط الأوسط والمحقّ ، وهو المطلوب.
ص: 144
كما ينحصر أهل السنّة بين هذين ، والمتعيّن فيهم الأوّل ؛ لأنّ النمط الأوسط لا يمكن أن يجمع الفريقين المتباينين ، ولأنّ أهل السنّة اجتهدوا في تأخيره عمّن لا يقاس به علما وعملا ، ولا يلتفتون إلى آية تدلّهم على منزلته ، ولا إلى سنّة ترشدهم إلى فضله وعلوّ محلّه ، بل يحتالون إلى نفي النصوصيّة بالأوهام والشبه البعيدة ، ويتناولون الأسانيد القويّة الكثيرة بالتضعيف بكلّ وسيلة ، بعكس ما يرد عندهم في حقّ مشايخهم!
فلا بدّ أن يكون من قال : « إنّ عليّا هو الخليفة الأوّل » محقّا ناجيا ، ومن قال : « إنّه رعيّة لغيره » مبطلا هالكا ؛ وبه يتمّ إثبات إمامته وخلافته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا فصل.
وقد سبق في الآية الثانية والستّين دلالة ذلك على إمامته بوجوه أخر ؛ فراجع (1).
وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ الإماميّة يكفّرون أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله ..
فإن أراد به أنّهم يقولون بشركهم أو إنكارهم الرسالة ، فباطل ..
وإن أراد أنّهم يقولون : إنّ أكثر الصحابة خالفوا نصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله على عليّ ، وألغوا أمر اللّه تعالى وأمر رسوله صلی اللّه علیه و آله في حقّه ، فصحيح ؛ لأنّ الإمامة عندنا أصل من أصول الدين ، ومن لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية ، كما مرّ تحقيقه في أوّل مباحث الإمامة (2) ..
ص: 145
وقد أشار اللّه تعالى إلى ذلك بقوله : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (1) ، وصرّحت به السنّة المستفيضة ، كأخبار الحوض ، التي منها ما رواه البخاري في « باب الحوض » ، من أنّ الأصحاب ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النّعم (2) ، كما مرّ (3) ويأتي إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا ما زعمه من أنّ أهل السنّة يحبّون عليّا حبّا شديدا ، فلا نعرف منه إلّا الدعوى ، ولو كشف اللّه سبحانه حجاب ضمائرهم لعرفت أنّهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ..
بل الوجدان يشهد بخلافه ، فهذه أقلامهم عند تلاوة آيات فضله ، وهذه أرقامهم (4) عند سماع نصوص إمامته ، وهذا ولاؤهم لأظهر مبغضيه وأعدائه ، كمعاوية وأشباهه ..
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني
صديقك إنّ الرأي عنك لعازب (5)
ص: 146
إذا عرف صحّة هذا الحديث ، وصدّق بحمد اللّه على حبّه ، فما باله والى أشدّ أعدائه وأكبر مبغضيه ، كمعاوية وابن العاص ومروان ، وأشباههم ، ولم يحكم عليهم بالنفاق ، مع اتّضاح حالهم في بغض أمير المؤمنين واستمرارهم على عداوته وسبّه؟!
بل يلزمه أن لا يوالي عائشة ، بل يصفها بالنفاق ، لعلمه بعداوتها له ، واستدامتها على بغضه! ..
ففي « مسند أحمد » (1) عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن عائشة ، قالت :
لمّا مرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بيت ميمونة ، فاستأذن نساءه أن يمرّض في بيتي ، فأذنّ له ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معتمدا على العبّاس وعلى رجل آخر ، ورجلاه تخطّان في الأرض.
وقال عبيد اللّه : فقال ابن عبّاس : أتدري من ذلك الرجل؟! هو عليّ ابن أبي طالب ، ولكنّ عائشة لا تطيب لها نفسا.
ورواه أيضا في مقام آخر (2).
ص: 149
فهل ترى أشدّ في البغض من أن لا تطيب نفس الشخص أن يتلفّظ باسم عدوّه؟!
ورواه الطبري في « تاريخه » (1) ، وفيه : « ولكنّها لا تقدر على أن تذكره بخير ، وهي تستطيع »!
وهو أصرح في الدلالة على بغضها لإمام المتّقين ونفس النبيّ الأمين.
ورواه البخاري في « باب الغسل والوضوء في المخضب » من كتاب الوضوء (2) ..
وفي « باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة » من كتاب الأذان (3) ..
وفي « باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها » من كتاب الهبة (4) ..
وفي « باب مرض النبيّ صلی اللّه علیه و آله » في أواخر كتاب المغازي (5).
وفي كلّها لم تسمّ الرجل الآخر ، وإنّما سمّاه ابن عبّاس.
ولم يرو البخاري تتمّة كلام ابن عبّاس ؛ رعاية لشأن عائشة! ولم يدر أنّ تركها لاسم أمير المؤمنين مع ذكر اسم عديله كاف في الدلالة على بغضها له!!
وروى أحمد أيضا (6) ، عن عطاء بن يسار ، قال : جاء رجل فوقع في
ص: 150
عليّ وعمّار عند عائشة ، فقالت : أمّا عليّ فلست قائلة لك فيه شيئا! وأمّا عمّار ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا يخيّر بين أمرين إلّا اختار أرشدهما.
.. إلى غير ذلك من الأخبار الكاشفة عن بغضها له ، وإن كان لا حاجة في بيان عداوتها وبغضها له إلى دليل.
وأعظم من ذلك حربها له ، وهي تعلم أنّ حربه حرب لرسول اللّه (1) ، مقدمة على قتله لو قدرت ، وهي تدري أنّه أخو رسول اللّه ونفسه.
وعلى هذه فقس ما سواها ، إذ لم تأت ذلك عنوة بل ورثته عن أسلافها!
وأمّا وجه الدلالة في الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه ونحوه على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد تقدّم في أوّل مباحث الإمامة ، وفي الآية الثانية عشرة (2).
* * *
ص: 151
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
السابع عشر : في مسند أحمد بن حنبل ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.
فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول اللّه؟
قال : لا.
قال عمر : أنا هو يا رسول اللّه؟
قال : لا ، ولكنّه خاصف النعل.
وكان عليّ يخصف نعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحجرة عند فاطمة علیهاالسلام (2).
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لتنتهنّ
ص: 152
معشر قريش أو ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا منّي امتحن اللّه قلبه للإيمان ، يضرب أعناقكم على الدين.
قيل : يا رسول اللّه! أبو بكر؟
قال : لا.
قيل : عمر؟
قال : لا ، ولكن خاصف النعل في الحجرة (1).
* * *
ص: 153
وقال الفضل (1) :
صحّ الحديث ، وهذا يدلّ على أنّه يقاتل البغاة والخوارج ، وكان مقاتلة البغاة والخوارج على تأويل القرآن ، حيث كانوا يؤوّلون القرآن ، ويدّعون الخلافة لأنفسهم ، فقاتلهم أمير المؤمنين ، وعلّم الناس قتال الخوارج والبغاة ، كما قال الشافعي : إنّه لو لم يقاتل أمير المؤمنين البغاة ما كنّا نعلم كيفيّة القتال معهم (2).
وهذا لا يدلّ على النصّ بخلافته ، بل إخبار عن مقاتلته في سبيل اللّه مع العصاة والبغاة.
* * *
ص: 154
ذكر المصنّف رحمه اللّه هنا حديثين تقدّم بيان رواتهما في الآية الثانية والعشرين (1) ، وكلّ منهما دالّ على المقصود ..
أمّا الأوّل ، فلأنّ المراد - بالقتال على تأويل القرآن - : إمّا القتال على وفق ما أدّى إليه القرآن باجتهاد المقاتل ..
أو ما أدّى إليه في الواقع ؛ لعلم المقاتل به ..
فيكون المشبّه به على الوجهين هو : قتال النبيّ صلی اللّه علیه و آله على حسب ما أنزل إليه.
وإمّا أن يكون المراد : القتال على مؤوّل القرآن يعملوا به ، كما قاتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للإقرار بأنّه منزل من اللّه تعالى.
والأظهر أحد الوجهين الأخيرين ؛ لأنّهما أمكن في التشبيه.
ومن المعلوم أنّ القتال على أيّ الوجوه الثلاثة شأن خليفة الرسول ، وزعيم الأمّة ، فتثبت إمامة أمير المؤمنين علیه السلام .
ولمّا نفى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذلك عن الشيخين مع صدور القتال منهما علم أنّهما ليسا بإمامين.
وليت شعري ، إذا لم يكن قتالهما على وفق القرآن ، ولا لأجل العمل به ، فكيف وليا أمر القتال والأمّة؟! وكيف اتّخذهم الناس أئمّة؟!
فإن قلت : لعلّ المراد بقتال عليّ علیه السلام على التأويل : قتاله لمن تأوّل
ص: 155
القرآن وادّعى الخلافة لنفسه ، فلا يكون نفي النبيّ صلی اللّه علیه و آله لهذا القتال عن الشيخين منافيا لإمامتهما ؛ لأنّ هذا النفي مطابق للواقع ، إذ لم يقاتلا إلّا المشركين وإن كانا إمامين.
ولعلّه إلى هذا أشار الفضل بقوله : « وكان مقاتلة البغاة والخوارج على تأويل القرآن حيث كانوا يؤوّلون القرآن ويدّعون الخلافة لأنفسهم ».
قلت : لو أريد ذلك ، كان قوله صلی اللّه علیه و آله : « كما قاتلت على تنزيله » - بمقتضى المشابهة - أن يكون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قاتل من تنزّل عليه القرآن ؛ وهو كما ترى.
ولا أدري أيّة آية تأوّلها البغاة والخوارج حتّى استباحوا بها قتال أمير المؤمنين ، والخروج على إمام زمانهم؟!
ومتى قاتله الخوارج مدّعين للخلافة؟! وكذا معاوية وعائشة وأنصارها؟! فإنّهم إنّما قاتلوا - في ظاهر أمرهم - أمير المؤمنين علیه السلام طلبا بدم عثمان ، واتّخذوه - واقعا - وسيلة لبلوغ الرئاسة أو للانتقام من عليّ علیه السلام ، عداوة له ، كما في عائشة.
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ، فأبو بكر عندهم أيضا حارب المتأوّلين ، فلو كان إماما وحربه حقّا لما أجابه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقوله : « لا ».
ونعني بالمتأوّلين : مانعي الزكاة ؛ لأنّهم قالوا كما في « شرح النهج » لابن أبي الحديد (1) : « إنّ اللّه قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (2).
فوصف الصدقة بأنّها من شأنها أن يطهّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس
ص: 156
بأخذها ، وبيّن أنّ صلاته سكن لهم ، وهذه الصفات لا تتحقّق في غير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ».
وأمّا الحديث الثاني : فهو - أيضا - دالّ على المدّعى ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله وصف فيه الرجل الذي يبعثه اللّه تعالى بأنّه قد امتحن اللّه قلبه ، أي ابتلاه بأنواع المحن ، فوجده خالص الإيمان ، لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، ولا يصانع أحدا في دينه.
وهذا يفيد بمفهومه أنّ غير هذا الرجل ليس كذلك ، لا سيّما الشيخان ؛ للتصريح بهما ، ولأنّهما أشارا بردّ المؤمنين إلى بلاد الكفر ، وجعل السبيل للكافرين عليهم خلافا لحكم اللّه ورسوله ، ووفاقا لرغبة الكافرين ، لا سيّما عمر ، فإنّه وافق أبا بكر على قوله : « صدقوا » ، ولم يبال باستياء النبيّ صلی اللّه علیه و آله من أبي بكر وتغيّر وجهه الشريف من قوله ، كما سبق في بعض الأخبار المصحّحة عندهم ، المذكورة في الآية الثانية والعشرين (1).
ولو كانا ممّن امتحن اللّه قلبه للإيمان وخالصي الإيمان لما فعلا ذلك.
بل يستفاد من وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله للرجل الذي يبعثه اللّه بأنّه امتحن اللّه قلبه للإيمان ، ويضرب أعناقهم على الدين ، بعد موافقة الشيخين لقريش ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أراد التعريض بهما بأنّهما ليسا بهذا الوصف.
وبالضرورة أنّ من ليس كذلك ، ولم يبال بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله مواجهة في حياته ، ولا بكتاب اللّه وحكمه ، أحقّ وأولى بعدم المبالاة بأحكام اللّه ودينه
ص: 157
ونبيّه بعد وفاته ، فلا يصلح للإمامة ، وإنّما الصالح لها من ثبت له ذلك الوصف الجميل الجليل.
وقد أشار النبيّ صلی اللّه علیه و آله - مع ذلك - إلى عصمة عليّ علیه السلام وفضله ، بجعله منه أو مثل نفسه ، كما في رواية « الجمع بين الصحاح » وغيرها ممّا سبق في الآية المذكورة (1) ، فيتعيّن للإمامة.
* * *
ص: 158
ومنه ، أنّه لمّا حضرت ابن عبّاس الوفاة قال : اللّهمّ إنّي أتقرّب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب (1).
* * *
ص: 160
وقال الفضل (1) :
حديث الطير مشهور وهو فضيلة عظيمة ، ومنقبة جسيمة ، ولكن لا يدلّ على النصّ ، وليس الكلام في عدّ الفضائل.
وأمّا التوسّل بولاية عليّ ، فهو حقّ ومن أقرب الوسائل.
* * *
ص: 161
روى الترمذي حديث الطائر بسنده عن السّدي ، عن أنس ، ثمّ قال : وقد روي من غير وجه عن أنس (1).
ورواه النسائي في « الخصائص » ، عن أنس - بهذا اللفظ - ، أنّه أتى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعنده طائر فقال : اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير ؛ فجاء أبو بكر فردّه ، ثمّ جاء عمر فردّه ، ثمّ جاء عليّ فأذن له (2).
ورواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن أنس أيضا ، وذكر فيه أنّه جاء عليّ مرّتين فقال له : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على حاجة ؛ ثمّ جاء فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : إفتح ؛ فدخل.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما حبسك عليّ؟!
قال : إنّ هذه آخر ثلاث كرّات يردّني أنس ، يزعم أنّك على حاجة ؛ الحديث.
ثمّ قال الحاكم : هذا حديث [ صحيح ] على شرط الشيخين.
وقال : وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفسا ، ثمّ صحّت الرواية عن عليّ ، وأبي سعيد الخدري ، وسفينة.
ص: 162
ثمّ رواه الحاكم أيضا من طريقين ، عن إبراهيم بن ثابت البصري القصّار ، عن ثابت البناني ، عن أنس ؛ وتعقّبه الذهبي : بأنّ إبراهيم بن ثابت ساقط (1).
ويشكل بأنّ هذا مناقض لما ذكره هو في « ميزان الاعتدال » ، فإنّه قال فيه : « لا أعرف حاله جيّدا » (2).
كما أنّه تعقّب الحديث الأوّل بأنّ في سنده محمّد بن أحمد بن عياض ، عن أبيه ؛ فقال : « ابن عياض لا أعرفه » (3).
وقال في « الميزان » بترجمة محمّد المذكور ، بعد ما ذكر روايته لحديث الطير بالسند الذي ذكره الحاكم : « قال الحاكم : هذا على شرط البخاريّ ومسلم ».
ثمّ قال الذهبي : « الكلّ ثقات إلّا هذا - يعني محمّدا - ، فأنا أتهمه به ، ثمّ ظهر لي أنّه صدوق - إلى أن قال : - فأمّا أبوه فلا أعرفه » (4).
وعليه : فالأمر هيّن ؛ لأنّ عدم معرفته له لا تضرّ فيه بعدما عرفه الحاكم وصحّح حديثه على شرط الشيخين.
وقد روى الذهبيّ حديث الطير بترجمة جعفر بن سليمان الضّبعي من « الميزان » ، وسنده صحيح ؛ لأنّه رواه عن قطن بن نسير - وهو من رجال مسلم (5) - ، عن جعفر المذكور - وهو من رجاله أيضا (6) - ، عن
ص: 163
عبد اللّه بن المثنّى بن عبد اللّه بن أنس - وهو من رجال البخاري (1) - ، عن أنس (2).
وحكاه في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن عساكر من ثلاثة طرق ، وعن ابن النجّار من طريق (4).
ونقله سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » ، عن أحمد في « الفضائل » ، بسنده عن سفينة (5).
ونقله في « ينابيع المودّة » في الباب الثامن ، عن أحمد في مسنده ، عن سفينة (6).
كما نقله المصنّف رحمه اللّه هنا عن مسند أحمد ، عن أنس (7)
والظاهر أنّ القوم أسقطوا الحديثين الأخيرين من « المسند » الموجود بأيدينا اليوم ، طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 هجرية ، كما هي عادتهم في إسقاط كثير من الأحاديث المتعلّقة بفضل أمير المؤمنين!!
فمع ما ذكرناه - الذي هو قليل من كثير - كيف يزعم ابن تيميّة أنّه لم يرو حديث الطير أحد من أصحاب الصحاح ، ولا صحّحه أئمّة
ص: 164
الحديث (1)؟!
والحال أنّه قد رواه : الترمذي ، والنسائي ، وصحّحه الحاكم (2).
ورواه الذهبي بترجمة جعفر بطريق لا شبهة في صحّته عندهم كما سمعت.
بل زعم ابن تيميّة - كعادته في فضائل إمام المتّقين - أنّ الحديث عند أهل المعرفة والعلم من المكذوبات والموضوعات (3) ، والحال أنّه حكى عن أبي موسى المديني ، أنّه قال : جمع غير واحد من الحفّاظ طرق أحاديثه (4).
ص: 165
وقال في « ينابيع المودّة » : ولابن المغازلي حديث الطير من عشرين طريقا (1).
وقد سمعت قول الحاكم : رواه عن أنس زيادة على ثلاثين نفسا (2).
وليت شعري ، أيّ أهل المعرفة يدّعي وضعه؟! فإنّا لا نعرف أحدا من سائر الناس ادّعاه فضلا عن أهل المعرفة!!
ص: 166
ولو سلّم ، فما زعمهم أهل المعرفة إنّما هم الخصوم والنواصب أمثاله ، الّذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم وأن يتّبع الحقّ أهواءهم!
وأمّا دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام فمن أظهر الأمور ؛ لأنّ أحبّ الناس إلى اللّه تعالى إنّما هو أفضلهم وأتقاهم وأعملهم بطاعته ، فلا بدّ أن يكون أحقّهم بالإمامة ، لا سيّما من أبي بكر وعمر ؛ إذ مع دخولهما بعموم الناس صرّح حديث النسائي باسمهما بالخصوص كما سمعت (1).
وأشكل في « المواقف » وشرحها على الحديث : « بأنّه لا يفيد أنّه أحبّ إليه في كلّ شيء ؛ لصحّة التقسيم ، وإدخال لفظ الكلّ والبعض ؛ ألا ترى أنّه يصحّ أن يستفسر ويقال : أحبّ إليه في كلّ الأشياء أو في بعض الأشياء؟ ... فلا يدلّ على الأفضليّة مطلقا » (2).
والجواب : إنّ الإطلاق مع عدم القرينة على الخصوص يفيد العموم في مثل المقام ، ألا ترى أنّ كلمة الشهادة تدلّ على التوحيد؟! وبمقتضى ما ذكراه ينبغي أن لا تدلّ عليه ؛ لإمكان الاستفسار بأنّه لا إله إلّا هو في كلّ شيء ، أو في السماء ، أو في الأرض؟ إلى غير ذلك ؛ فلا تفيد نفي الشريك مطلقا ؛ وهذا لا يقوله عارف.
والعجب منهما أن يقولا ذلك ، وهما يستدلّان على فضل أبي بكر بقوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) (3) ، زاعمين أنّ المراد بالأتقى : أبو
ص: 167
بكر ، فيكون أفضل (1) ، والحال أنّه يمكن الاستفسار بأنّه الأتقى في كلّ شيء أو بعض الأشياء؟!
مضافا إلى أنّه لا يصحّ حمل الحديث على إرادة الأحبّ في بعض الأمور ، وإلّا لجاء مع عليّ علیه السلام كلّ من هو أحبّ منه بزعمهم في بعض الأمور كالشيخين ؛ لاستجابة دعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والحال أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد ردّهما كما في حديث النسائي (2).
ونحن نمنع أن يكون أحد أحبّ إلى اللّه سبحانه بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من عليّ علیه السلام في شيء من الأشياء ؛ لما سبق في المبحث الثاني من مباحث الإمامة أنّ الإمام أفضل الناس في كلّ شيء ، فيكون أحبّهم إلى اللّه تعالى في كلّ شيء (3).
وقد زاد ابن تيميّة في الطنبور نغمة ، فأورد على الحديث بأمور تشهد بجهله أو نصبه ..
منها : إنّ أكل الطير ليس فيه أمر عظيم هنا ، يناسب أن يجيء أحبّ الخلق إلى اللّه ليأكل معه ، فإنّ إطعام الطعام مشروع للبرّ والفاجر ، وليس في ذلك زيادة وقربة عند اللّه لهذا الآكل ، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا ، فأيّ أمر عظيم يناسب أن يجيء أحبّ الخلق إلى اللّه يفعله (4)؟!
والجواب : إنّ الأمر العظيم تعريف الأحبّ إلى اللّه تعالى للناس
ص: 168
بدليل وجداني ، فإنّه آكد من اللفظ ، وأقوى في الحجّة ، كما عرّفهم نبيّ الهدى صلی اللّه علیه و آله أنّ عليّا حبيب اللّه في قصّة خيبر ، بإخبارهم أنّه يعطي الراية من يحبّه اللّه ورسوله ، ويحبّ اللّه ورسوله ، وأنّ الفتح على يده (1).
على أنّه يكفي في المناسبة رغبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن يأكل مع أحبّ الخلق إلى اللّه وإليه.
ومنها : إنّ هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة ؛ فإنّهم يقولون : إنّ النبيّ كان يعلم أنّ عليّا أحبّ الخلق إلى اللّه ، وأنّه جعله خليفة من بعده ، وهذا الحديث يدلّ على أنّه ما كان يعرف أحبّ الخلق إلى اللّه (2).
الجواب : إنّا لا نعرف وجه الدلالة على أنّه لا يعرفه ، أتراه لو قال : « ائتني بعليّ » يدلّ على عدم معرفته له؟! وكيف لا يعرفه وقد قال كما في بعض الأخبار : « اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ » (3)؟! ..
وقال لعليّ في بعض آخر : « ما حبسك عليّ؟! » (4) ..
وقال له في بعضها : « ما الذي أبطأ بك؟! » (5) ..
فالنبيّ صلی اللّه علیه و آله كان عارفا به ، لكنّه أبهم ولم يقل : « ائتني بعليّ » ؛ ليحصل التعيين من اللّه سبحانه ، فيعرف الناس أنّ عليّا هو الأحبّ إلى اللّه تعالى بنحو الاستدلال.
ومنها : ما حاصله أنّه مناقض للأحاديث الثابتة في الصحاح ، القاضية
ص: 169
بأنّ أبا بكر هو الأحبّ ، كما في الصحيحين من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا » (1).
ومناقض لقوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) ، فإنّ أئمّة التفسير يقولون : إنّه أبو بكر (2) ؛ والأتقى هو الأحبّ لله ورسوله (3).
والجواب : إنّ روايتهم لا تقوم حجّة علينا ، وكذا قول أهل تفسيرهم ؛ لأنّه من التفسير بالرأي التابع للهوى ، ولمقدّمات باطلة!
على أنّه ليس مجمعا عليه بينهم ، وسيأتي الكلام في الآية إن شاء اللّه تعالى ، كما أنّ روايته غير تامّة الدلالة على مدّعاه.
* * *
ص: 170
معنى كونه باب مدينة علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه الواسطة للناس في وصولهم إلى علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا واسطة غيره ، والآخذ من غيره كالسارق ، فيكون أخذ العلم منه واجبا ومن غيره حراما ، فهو الإمام دون غيره ؛ لعدم اجتماع إمامة الشخص وحرمة الأخذ عنه واتّباعه في ما يحكم به.
كما أنّ وجوب الأخذ عنه للوصول إلى علم الرسول صلی اللّه علیه و آله لا يتمّ إلّا بعصمته ، فيتعينّ للإمامة.
وكذا جعله الباب لعلمه دالّ على إحاطته بجميع ما يصدر عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله من العلوم ، وذلك شأن الإمام.
ويشهد لانحصار طريق علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعليّ علیه السلام ، جهل الأمّة بأكثر الأحكام لمّا أعرضوا عنه ، والحال أنّ اللّه سبحانه قد أكمل دينه ، فما زالت آراؤهم مضطربة ، وأحكامهم مختلفة ، حتّى كأنّ اللّه تعالى قد أوكل إلى أهوائهم أحكامه.
ولمّا رجع الأمر إلى أمير المؤمنين علیه السلام لم يقدر على إمضاء ما علم ولا على نشره ؛ لأنّ الناس قد ألفوا خلافه ..
فقد نهى عن صلاة التراويح ، فصاح الناس : وا سنّة عمراه! (1) ..
ص: 173
ونهى عن أكل الجرّي والمارماهي (1) ، فلم يتّبعوه (2) ..
وأمر بالمتعتين ، فخالفوه (3) ..
.. إلى غير ذلك من الأحكام.
ولذا قال علیه السلام - كما رواه البخاري في باب مناقبه - : « أقضوا كما كنتم تقضون ، فإنّي أكره الخلاف حتّى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي » (4).
فإنّه صريح في أنّ قضاء من كان قبله ليس حقّا ، لكنّه لا يتمكّن من الخلاف ما لم يتمّ له الأمر.
ولو سلّم عدم دلالة الحديث على انحصار طريق علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعليّ علیه السلام ، فلا إشكال بدلالته على أعلميّته ، كما أقرّ به الفضل في ظاهر كلامه ، فيقبح تقديم المفضول عليه .. ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (5).
وقوله : « لا يجب أن يكون الأعلم خليفة ، بل الأحفظ للحوزة ، والأصلح للأمّة » .. ظاهر البطلان كما أوضحناه في المبحث الثاني من مباحث الإمامة (6).
ص: 174
وقد أوضحنا أيضا في المبحث الثالث فساد قوله : « ولو لم يكن أبو بكر أصلح للأمامة ، لما اختاروه » .. فإنّ الاختيار لا يصلح أن يكون طريقا للإمامة ، على أنّ من اختاروه إنّما هم نفر محدود ، كما سبق (1).
ثمّ إنّ هذا الحديث - أعني : حديث الباب - قد رواه الحاكم في « المستدرك » (2) من طرق ، عن ابن عبّاس ، وصحّحها ، وذكر في بعض طرقه أبا الصلت ، وقال : « ثقة مأمون » ، ونقل توثيقه عن ابن معين وأنّه قيل له : « أليس قد حدّث بهذا الحديث عن أبي معاوية؟! فقال : قد حدّث به جعفر بن محمّد الفيدي ، وهو ثقة مأمون ».
ومع ذلك زعم الذهبيّ أنّه موضوع ؛ لزعمه أنّ أبا الصلت ليس بثقة ولا مأمون (3)!
وفيه : إنّه مناف لوصفه له في « ميزان الاعتدال » ب « الرجل الصالح » ، وقال : « إلّا أنّه شيعيّ جلد » (4).
ولو سلّم أنّ أبا الصلت ليس ثقة ، فلا معنى للحكم بوضع الحديث مع رواية الفيدي الثقة له عن أبي معاوية.
وإذا صحّت الرواية إلى أبي معاوية فقد صحّ الحديث ؛ لأنّ أبا معاوية رواه عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ؛ وكلّهم ثقات عندهم.
ص: 175
ورواه الحاكم أيضا عن جابر وصحّحه (1) ..
وتعقّبه الذهبيّ بأنّ في سنده أحمد بن عبد اللّه بن يزيد الحرّاني ، وهو دجّال كذّاب (2).
وقد تبع فيه ابن عديّ ؛ لقوله في حقّه كما في « ميزان الاعتدال » : « كان سامرا (3) يضع الحديث » (4).
والظاهر أن لا منشأ لنسبة الوضع والكذب إليه عندهما إلّا روايته لهذا الحديث ، فكان مؤاخذا بالرواية في فضل أمير المؤمنين ، وله أسوة بأبي الصلت!
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن ابن الجوزي ، أنّه نقل هذا الحديث بلفظه أو ما يشبهه من خمسة عشر طريقا ، أخرجها ابن عديّ ، وأبو نعيم ، وابن مردويه ، والطبراني ، والخطيب ، والعقيلي ، وابن حبّان ، عن عليّ ، وابن عبّاس ، وجابر (5).
ولفظ حديث جابر هكذا : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الحديبية
ص: 176
وهو آخذ بيد عليّ يقول : « هذا أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله - يمدّ بها صوته - ، أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب » (1).
وهذا الذي رواه الحاكم عن جابر ، لكنّه ذكر صدر الحديث في مقام متأخّر (2) ، وقد زعم ابن الجوزي أنّها كلّها موضوعة ؛ مستندا إلى اضطراب إسناد بعضها ، وجهل بعض الرواة في بعضها ، وأنّ بعضهم لا يجوز الاحتجاج به ، وبعضهم متّهم بسرقة هذا الحديث ، وبعضهم كذّاب (3).
وأنت تعلم أنّ هذا لو تمّ لا يستوجب الحكم بوضع الحديث مع استفاضة طرقه ؛ وغاية ما يقتضيه - على نظر - عدم الاعتماد عليها.
على أنّ السيوطي في « اللآلئ » قد تعقّبه فقال : « حديث عليّ أخرجه الترمذي ، وحديث ابن عبّاس أخرجه الحاكم في ( المستدرك ) » ؛ ثمّ نقل كلام الحاكم الذي أشرنا إليه (4).
ونقل عن الخطيب ، أنّه روى عن ابن معين توثيق أبي الصلت ، وأنّ القاسم بن عبد الرحمن الأنباري سأل ابن معين عن الحديث ، فقال : صحيح ..
قال الخطيب : أراد أنّه صحيح من حديث أبي معاوية (5).
أقول : وفيه الكفاية في مطلوبنا.
ص: 177
ثمّ نقل السيوطي عن الحافظ صلاح الدين العلائي ، أنّه قال في جملة جوابه عن دعوى الوضع : « أيّ استحالة في أن يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله مثل هذا في حقّ عليّ؟! ولم يأت كلّ من تكلّم في هذا الحديث وحكم بوضعه بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن ابن معين! ومع ذلك فله شاهد » (1) .. وذكر رواية الترمذي وغيره له ، عن شريك ، عن سلمة ، عن سويد ..
ثمّ قال : « وشريك .. احتجّ به مسلم ، وعلّق له البخاري ، ووثّقه ابن معين.
وقال العجلي : ثقة ، حسن الحديث.
وقال عيسى بن يونس : ما رأيت أحدا قطّ أورع في علمه من شريك.
فعلى هذا يكون تفرّده حسنا ، فكيف إذا انضمّ إلى حديث أبي معاوية؟! » (2) ..
إلى أن قال العلائي : « ولم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلّة [ قادحة ] في حديث شريك سوى دعوى الوضع ، دفعا بالصدر » (3).
ثمّ نقل السيوطي عن أبي الفضل ابن حجر ، أنّه قال : « هذا الحديث من قسم الحسن » (4).
ثمّ قال السيوطي : « وبقي للحديث طرق » ، وذكر منها طريقين
ص: 178
للخطيب ، عن عليّ علیه السلام (1) ..
وطريقا لابن النجّار ، عنه علیه السلام أيضا ..
وطريقا لأبي الحسن عليّ بن عمر الحربي ، في « أماليه » ، عنه علیه السلام أيضا ، ولفظه : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وأنت بابها يا عليّ ، كذب من زعم أنّه يدخلها من غير بابها » ..
وطريقا لأبي الحسن شاذان الفضلي ، في « خصائص عليّ علیه السلام » ، عن جابر بن عبد اللّه ..
وطريقا للديلمي ، بسنده عن أبي ذرّ ، ولفظه : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليّ باب علمي ، ومبيّن لأمّتي ما أرسلت به من بعدي ، حبّه إيمان ، وبغضه نفاق ، والنظر إليه رأفة » (2).
وحكى في « كنز العمّال » (3) كلاما للسيوطي نحو ما هنا ، وذكر في طيّه أنّ ابن جرير روى في « تهذيب الآثار » الحديث الذي رواه الترمذي وصحّحه.
ثمّ ذكر في « الكنز » أنّ السيوطي قال أخيرا بصحّة هذا الحديث بعدما كان يرى حسنه (4).
ص: 179
أقول : ولا ريب لمصنف في صحّته ؛ لاستفاضة طرقه ، بل تواترها ، لا سيّما بضميمة أخبارنا (1) ، وله شواهد من الكتاب والسنّة
ص: 180
لا تحصى (1).
هذا ، وأمّا ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في صدر كلامه عن « مسند أحمد » فقد رواه في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام عن سعيد بن المسيّب ، قال : ما كان أحد من الناس يقول : « سلوني » غير عليّ بن أبي طالب (2) (3).
ص: 181
لم أجد فعلا في « مسند أحمد » تمام الحديث ، وإنّما وجدت فيه صدره (1)عن عمرو بن شاش (2) ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من آذى عليّا فقد آذاني ».
ورواه الحاكم عنه أيضا في « المستدرك » وصحّحه (3).
ورواه البخاريّ في « تاريخه » ، كما حكاه عنه في « كنز العمّال » (4).
ورواه أيضا في « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين ، وزاد فيه : « ومن آذاني فقد آذى اللّه تعالى » (5) ، وهو يقتضي وجوب طاعة عليّ علیه السلام ؛ لأنّ عصيانه يؤذيه بالضرورة ، ووجوب طاعته على الإطلاق يقتضي عصمته وإمامته.
وإذا ضممت إلى الحديث قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) (6) علمت حال الناكثين والقاسطين.
ص: 184
أمّا بقيّة الحديث ، وهي : « من آذى عليّا بعث يهوديا أو نصرانيا » ، فيشهد لصحّتها ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أخطب خوارزم ، بسنده عن معاوية بن حيدة القشيري ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ علیه السلام : « من مات وهو يبغضك مات يهوديّا أو نصرانيّا » (1).
وما حكاه السيوطي في « اللآلئ » ، عن العقيلي ، بسنده عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جدّه ، مرفوعا : « من مات وفي قلبه بغض لعليّ فليمت يهوديّا أو نصرانيّا » (2).
وزعم ابن الجوزي أنّه موضوع ؛ لأنّ في سنده الجارود بن يزيد وعليّ بن قرين (3) ..
ولكنّ السيوطي تعقّبه بذكر رواية للديلمي أخرجها عن بهز بسندين خليّين ، عن الجارود وابن قرين ، قال فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ! ما كنت أبالي من مات من أمّتي وهو يبغضك مات يهوديّا أو نصرانيّا » (4).
فهذه الأخبار متّفقة في المعنى مع ذيل الرواية التي حكاها المصنّف رحمه اللّه عن « مسند أحمد » ؛ لأنّ بغض عليّ إيذاء له.
ولا ريب بصحّة هذه الروايات ؛ لما تقدّم من أنّ بغض عليّ علیه السلام
ص: 185
علامة النفاق (1) ، ومن الواضح أنّ المنافق بمنزلة اليهود والنصارى (2).
ومن الغريب مسارعة ابن الجوزي للحكم بوضع الأخبار ، بمجرّد اشتمال سندها على ضعيف أو متّهم عنده ؛ فإنّه على هذا ينبغي أن يحكم بوضع رواياتهم جميعا ، حتّى أخبار الصحاح الستّة ؛ إذ لا يخلو خبر عندهم - إلّا النادر - من اشتمال سنده على ضعيف ، كما أشرنا إليه في المقدّمة (3) ، وهذا ممّا لا يرتضيه أصحابه.
ولعلّه إنّما يفعل ذلك في خصوص أخبار فضائل إمام الهدى انحرافا عنه ، وهو غير بعيد!
وأمّا الحديث الذي ذكره الفضل ، وهو : « من آذى لي وليّا فقد آذنته بحرب » ، فليس بمنزلة قوله صلی اللّه علیه و آله : « من آذى عليّا فقد آذاني ... » إلى آخره ؛ لأنّ معنى الحديث الذي ذكره : من آذى لي وليّا فليستعدّ للعقوبة ، وهذا ليس بمنزلة إيذاء عليّ علیه السلام ، الذي هو إيذاء لله ورسوله ، وموجب للعنة اللّه في الدنيا والآخرة والعذاب المهين ، والبعث على اليهوديّة أو النصرانيّة ؛ فإنّ هذا لا يكون إلّا في إيذاء من هو بمنزلة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإمام الوقت.
* * *
ص: 186
وقال الفضل (1) :
صحّ في الأخبار أنّ أبا بكر وعمر خطبا فاطمة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي أنتظر أمر اللّه فيها » (2)
، ولم يقل : « إنّها صغيرة » (3).
وهذا افتراء على أحمد بن حنبل ، وكلّ من قال هذا فهو مفتر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وناسبا (4) للكذب إليه ، فإنّ فاطمة كانت وقت الخطبة كبيرة ؛ لأنّها ولدت عام عمارة الكعبة.
والعجب من هذا الرجل أنّه يبالغ في احتراز الأنبياء عن الكذب وينسب الكذب الصراح إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !
نعوذ باللّه من هذا ، وإنّه خبّاط خبط عشواء (5).
* * *
ص: 188
ما نقله المصنّف رحمه اللّه عن « المسند » قد رواه بعينه النسائيّ في أوائل « كتاب النكاح » من سننه ، في باب « تزوّج المرأة مثلها في السنّ » (1).
ورواه الحاكم في « المستدرك » في كتاب النكاح (2) ، وصحّحه على شرط الشيخين ، ولم يتعقّبه الذهبي (3).
والحقّ أنّها تزوّجت وهي صغيرة ؛ لأنّها ولدت بعد البعثة بإجماعنا (4).
واختاره الحاكم في « المستدرك » ، فإنّه عنون (5) بقوله : « ذكر ما ثبت عندنا من أعقاب فاطمة وولادتها » ، ثمّ روى أنّها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولم يتعقّبه الذهبي.
وروى أيضا (6) أنّها ماتت وهي ابنة إحدى وعشرين سنة ، وولدت على رأس إحدى وأربعين من مولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وروى في « الاستيعاب » - بترجمة فاطمة علیهاالسلام - أنّها ولدت سنة
ص: 189
إحدى وأربعين من مولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنكح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاطمة عليّا بعد وقعة أحد (1).
فعلى هذا كلّه تكون حين تزويجها صغيرة ابنة اثنتي عشرة سنة تقريبا.
ويروى عندنا أنّها تزوّجت وهي ابنة تسع (2) ، وقد يوافقه ما في « الاستيعاب » بترجمة خديجة علیهاالسلام ، قال : « قال الزبير : ولد لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله القاسم ، وهو أكبر ولده ، ثمّ زينب ، ثم عبد اللّه ، وكان يقال له : الطيّب ، ويقال له : الطاهر ، ولد بعد النبوّة ، ثمّ أمّ كلثوم ، ثمّ فاطمة » (3).
فإنّ فاطمة علیهاالسلام إذا ولدت بعد الطاهر وأمّ كلثوم ، وكلاهما بعد النبوّة ، لم يبعد أن يكون تزويجها وهي ابنة تسع.
وزعم بعضهم أنّ سنّها يوم تزوّجت خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف ، كما ذكره في « الاستيعاب » بترجمتها (4).
واختاره ابن حجر في « الصواعق » ، قال في أوّل الباب الحادي عشر : « تزويج النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة من عليّ أواخر السنة الثانية من الهجرة على الأصحّ ، وكان سنّها خمس عشرة سنة ونحو نصف سنة » (5).
وكيف كان ، فهي صغيرة ، إمّا حقيقة ، أو بالإضافة إلى الشيخين ،
ص: 190
فلا يكذّب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّها صغيرة ».
نعم ، هو عذر إقناعي ، والعذر الحقيقي أنّهما ليسا أهلا لها ، ولذا زوّجها من عليّ علیه السلام بأثر هذا العذر.
ويشهد له ( ما في ) « الصواعق » ، في الفصل الأوّل من الباب المذكور ، في أثناء الكلام على الآية الحادية عشرة (1) ، عن أبي داود السجستاني ، قال : « إنّ أبا بكر خطبها فأعرض صلی اللّه علیه و آله عنه ، ثمّ عمر فأعرض عنه ، فأتيا عليّا فنبّهاه إلى خطبتها ، فجاء فخطبها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ما معك؟ ... » الحديث ، ثمّ قال : « وأخرج أحمد وأبو حاتم نحوه » (2).
وحكى في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن جرير ، عن أنس ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعرض عن أبي بكر ، فرجع إلى عمر وقال : هلكت ؛ وأعرض عن عمر ، فرجع إلى أبي بكر وقال : إنّه ينتظر أمر اللّه فيها.
فإنّ إعراض النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنهما دليل على عدم أهليّتهما لها ، وإنّه من سخط عليهما ، لطلبهما ما لا يليق بهما ، ولذا قال أبو بكر : « هلكت ».
وفي « الكنز » أيضا (4) ، عن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، والدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » ، عن عليّ علیه السلام ، قال : خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأبى عليهما ، فقال عمر : أنت لها ... » الحديث.
ص: 191
وفي « الصواعق » ، في أوّل الباب المذكور ، عن أحمد وابن أبي حاتم ، عن أنس ، قال : « جاء أبو بكر وعمر يخطبان فاطمة إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فسكت ولم يرجع إليهما شيئا ، فانطلقا إلى عليّ يأمرانه بطلب ذلك ... » الحديث (1).
ثمّ قال : « وفي رواية أخرى عن أنس أيضا ، عند أبي الخير القزويني الحاكمي : خطبها بعد أن خطبها أبو بكر ثمّ عمر ، فقال : قد أمرني ربّي بذلك ... » الحديث (2).
وفي هذا دلالة أخرى على عدم أهليّتهما للتزويج بسيّدة النساء ؛ فإنّ منعهما - دون عليّ علیه السلام بأمر اللّه - كاشف عن أنّ النظر في أمرها راجع إلى اللّه سبحانه مع وجود أبيها سيّد النبيّين ، الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
كما عرفه عمر حيث قال في رواية ابن جرير المذكورة : « إنّه ينتظر أمر اللّه فيها » ، وليس ذلك إلّا لعظم شأنها عند اللّه تعالى وكرامتها عليه ، فلا يزوّجها إلّا بمن هو أهل لها ويليق بقدرها الرفيع ، فزوّجها في السماء بسيّد أوليائه ؛ وهو أدلّ دليل على فضله على الشيخين عند اللّه عزّ وجلّ وعند رسوله صلی اللّه علیه و آله ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
ويا هل ترى أنّ اللّه تعالى يصون عنهما تزويج فاطمة ، ولا يعقبه ضرر ظاهرا ، وهو يرضى أن تزف إليهما إمامة الأمّة والحكم في الدين والدنيا ، والنفس والنفيس؟!
وأعظم من هذه الأحاديث في الدلالة على عدم أهليّتهما للزهراء
ص: 192
وللإمامة ، ما في « اللآلئ المصنوعة » ، عن العقيلي والطبراني معا ، عن عليّ ابن عبد العزيز ، عن أبي نعيم ، عن موسى بن قيس الحضرمي ، عن حجر ابن عنبس ، قال : « خطب أبو بكر وعمر فاطمة ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : هي لك يا عليّ ، لست بدجّال » (1)
فإنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « لست بدجّال » تعريض بالشيخين بأنّهما دجّالان لا يصلحان لتزويج فاطمة ، ولا للإمامة بالضرورة ؛ ولذا هاجت حميّة ابن الجوزي فقال : « موضوع ، موسى من الغلاة في الرفض » (2).
وتعقّبه السيوطي بقوله : « روى له أبو داود ، ووثّقه ابن معين ، وقال أبو حاتم : لا بأس به ».
ثمّ قال السيوطي : « والحديث أخرجه البزّار » ، وذكر أيضا في سنده موسى بن قيس ، ثمّ حكى عن الهيثمي في « زوائده » أنّه قال : « رجاله ثقات ، إلّا أنّ حجرا لم يسمع من النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (3).
وفيه : إنّه لو سلّم أنّ حجر بن عنبس لم يسمع من النبيّ صلی اللّه علیه و آله فهو ممّن أسلم في أيامه صلی اللّه علیه و آله ، فيكون راويا عن الصحابة ، ولا يضرّ إرساله (4).
ص: 193
قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :
الثاني والعشرون : في « الجمع بين الصحيحين » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخل على ابنته فاطمة فقبّل رأسها ونحرها ، وقال : أين ابن عمّك؟
قالت : في المسجد.
فوجد رداءه قد سقط عن ظهره ، وخلص التراب إلى ظهره ، فجعل يمسح عن ظهره التراب ويقول : « إجلس يا أبا تراب » مرّتين (2).
* * *
ص: 194
وقال الفضل (1) :
هذا حديث صحيح ، وهو من تلطّفات النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأمير المؤمنين علیه السلام وإظهار المحبّة له ، ولا يثبت به النصّ.
* * *
ص: 195
نعم ، هو من تلطّفاته صلی اللّه علیه و آله وحبّه لأمير المؤمنين علیه السلام ، ولكن تلطّفه به حال نومه في المسجد من دون إشعار بالكراهة ، دليل على عدم كراهة النوم له فيه ، وعلى مساواته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في الحكم والطهارة ، كما يفيده حديث سدّ الأبواب إلّا بابه (1) ، وقد سبق وجه دلالته على إمامته علیه السلام (2).
مضافا إلى دلالة هذا الحديث على شدّة زهده البالغ أقصى الغايات ، الذي يمتاز به على سائر أهل الدرجات ؛ لأنّه من بيت النعمة والشرف ، وابن شيخ البطحاء (3) ،
ص: 196
ص: 197
وبيضة البلد(1) ، مع ما هو عليه من علوّ النفس وعزّتها ، وما هو فيه من الشجاعة وريعان الشباب.
فيكون ذلك الزهد منه دليلا على فضل إيمانه ومعرفته ، وزيادة تقواه ويقينه.
ص: 198
وأنّه ردّت له الشمس بعدما غابت ، حيث كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله نائما على حجره ودعا له بردّها ليصلّي عليّ العصر ، فردّت له (1).
وأنّه نزل إليه سطل (2) عليه منديل ، وفيه ماء ، فتوضّأ للصلاة ، ولحق بصلاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3).
وأنّ مناديا من السماء نادى يوم أحد :
ص: 200
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ (1)
ص: 201
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من الأشياء بعضه منكر ، منها :
إنّ النداء يوم بدر بأنّ « لا سيف إلّا ذو الفقار » من المنكرات ؛ لأنّ « ذو الفقار » كان سيفا لمنبّه بن الحجّاج (2) ، من أشراف قريش ، وهو قتل يوم بدر ، وصار سيفه المشهور بذي الفقار لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فكان ذو الفقار يوم بدر في يد الكفّار ، وكانوا يقتلون به المؤمنين ، فكيف يجوز أن ينادي مناديها أن : لا سيف إلّا ذو الفقار؟!.
نعم ، هو مطابق لمذهبه ، فإنّه يدّعي أنّ قتل أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله واجب ، فلا يبعد أن يدّعي أنّ المنادي يوم بدر نادى بذكر منقبة ذي الفقار وهو في يد الكفّار.
وهذا السفيه ما كان يعلم الحديث ولا التاريخ ، ومدار أمره ذكر المنكرات والمجهولات ، ولا يبالي التناقض والمخالفة بين الروايات.
* * *
ص: 203
ما بيّنه في وجه الإنكار خطأ ؛ لاحتمال أن يكون لأمير المؤمنين علیه السلام سيف ذو فقار حارب به يوم بدر ، أو أنّ سيف منبّه أو ابنه العاص - على الخلاف الذي ذكره ابن أبي الحديد (1) - صار إلى عليّ علیه السلام ، وقاتل به لمّا قتلهما وقتل نبيها أخا منبّه ، كما في « شرح النهج » أيضا (2).
فعلى أحد هذين الاحتمالين لا يمتنع أن ينادي المنادي يوم بدر : « لا سيف إلّا ذو الفقار ».
وقد حكى السيوطي في « اللآلئ » رواية النداء يوم بدر ، عن ابن عديّ ، وذكر أنّ ابن الجوزي زعم أنّها موضوعة ؛ لأنّ في سندها عمّار ابن أخت سفيان ، وهو متروك (3).
فتعقّبه السيوطي بقوله : « كلّا ، بل هو ثقة ثبت ، من رجال مسلم ، وأحد الأولياء الأبدال (4) ، والمصنّف تبع ابن حبّان في تجريحه ، وقد ردّ عليه » (5).
ثمّ إنّه ينبغي التعرّض لثبوت الأخبار التي ذكرها المصنّف بطرقهم ، وبيان وجه الاستدلال بها ..
ص: 204
أمّا الخبر الأوّل ؛ وهو خبر كسر الأصنام ..
فقد أخرجه الحاكم في « المستدرك » (1) ، عن عليّ علیه السلام ، وصحّحه ، قال : « لمّا كان الليلة التي أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أبيت على فراشه وخرج من مكّة مهاجرا ، انطلق بي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الأصنام ، فقال : اجلس.
فجلست إلى جانب الكعبة ، ثمّ صعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على منكبي ، ثمّ قال : انهض.
فنهضت به ، فلمّا رأى ضعفي تحته ، قال : « اجلس ».
فجلست ، فأنزلته عنّي ، وجلس لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ قال لي : يا عليّ! اصعد!
فصعدت على منكبيه ، ثمّ نهض بي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وخيّل لي أنّي لو شئت نلت السماء ، وصعدت إلى الكعبة .. » الحديث.
ونحوه في « مسند أحمد » (2) لكن من دون تعيين الليلة ، وكذا في « كنز العمّال » (3) ، نقلا عن ابن أبي شيبة ، وأبي يعلى في مسنده ، وابن جرير ، والخطيب (4).
ص: 205
ووجه الدلالة فيه على المطلوب ، أنّ اختصاص أمير المؤمنين علیه السلام بمشاركة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هذه الواقعة الجليلة الخطيرة - بطلب من النبيّ صلی اللّه علیه و آله - دليل على فضله على غيره ، لا سيّما وقد رقى على منكب دونه العيّوق (1) ، وهام الملائكة والملوك.
وقد أشار الشافعي إلى هذه الواقعة مادحا لأمير المؤمنين علیه السلام ، كما حكاه في « ينابيع المودّة » (2) ، فقال [ من الرّمل ] :
قيل لي : قل في عليّ مدحا *** ذكره يخمد نارا موصده
قلت : لا أقدم في مدح امرئ *** ضلّ ذو اللّبّ إلى أن عبده
والنبيّ المصطفى قال لنا *** ليلة المعراج لمّا صعده :
وضع اللّه بظهري يده *** فأحسّ القلب أن قد برّده
وعليّ واضع أقدامه *** في محلّ وضع اللّه يده
بل قد يقال بدلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجه آخر ؛ وهو أنّ ضعفه عن حمل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا كان مخالفا لما هو عليه من القوّة العظيمة ، دلّ على أنّ المنشأ في ضعفه هو رعاية جهة النبوّة ؛ ولذا خيّل له أن لو شاء أن ينال السماء نالها ، فلا يرفع النبيّ على منكبيه - بما هو نبيّ ملحوظ به جهة النبوّة - إلّا من هو شريك له في أمره ، ومن هو كنفسه ، وخليفته في أمّته.
ص: 206
وأمّا الحديث الثاني ؛ وهو أنّه لا يجوز على الصراط إلّا من كان معه كتاب بولاية عليّ علیه السلام ..
فقد سبق مع دلالته على المطلوب في الآية الحادية عشرة (1).
وأمّا الحديث الثالث ؛ وهو حديث ردّ الشمس ..
فقد أخرجه كثير بطرق كثيرة ، وصحّحه جماعة ..
قال ابن حجر في « الصواعق » (2) : حديث ردّها صحّحه الطحاوي والقاضي في « الشفاء » ، وحسّنه شيخ الإسلام أبو زرعة وتبعه غيره » (3).
لكنّ ابن الجوزي على عادته في إنكار ما صحّ في فضائل أمير المؤمنين علیه السلام زعم وضع الحديث ، وذكر بعض طرقه فوهّنها ، كما حكاه عنه السيوطي في « اللآلئ » (4).
ولنذكر مجمل كلام ابن الجوزي ..
قال بعد ذكر حديث العقيلي عن أسماء بنت عميس : موضوع ،
ص: 207
اضطربت فيه الروايات ، رواه سعيد بن مسعود ، عن أسماء بنت عميس ، بسند فيه فضيل بن مرزوق ، ضعّفه يحيى ، وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات ، ويخطئ على الثقات (1).
وذكر حديثا آخر ، عن ابن شاهين ، عن أسماء ، وفي سنده عبد الرّحمن بن شريك ؛ قال أبو حاتم : واهي الحديث ، وشيخ ابن شاهين ابن عقدة رافضيّ ، رمي بالكذب ، وهو المتّهم به (2).
وذكر أيضا حديثا عن ابن مردويه ، عن أبي هريرة ، وفي سنده داوود ابن فراهيج ، ضعّفه شعبة (3).
انتهى ما عن ابن الجوزي.
وتعقّبه السيوطي بقوله : « فضيل ، الذي أعلّ به الطريق الأوّل ، ثقة صدوق ، احتجّ به مسلم في صحيحه ، وأخرج له الأربعة (4).
وعبد الرحمن بن شريك ، وإن وهاه أبو حاتم فقد وثّقه
ص: 208
غيره (1) ، وروى عنه البخاريّ في ( الأدب ) (2).
وابن عقدة ، من كبار الحفّاظ ، والناس مختلفون في مدحه وذمّه ؛ قال الدارقطني : كذب من اتّهمه بالوضع ؛ وقال حمزة السهمي : ما يتّهمه بالوضع إلّا ذو الأباطيل ؛ وقال أبو علي الحافظ : أبو العبّاس إمام حافظ ، محلّه محلّ من يسأل عن التابعين وأتباعهم (3) (4).
ص: 209
ص: 210
وداوود ، وثّقه قوم وضعّفه آخرون (1) » .
ثمّ الحديث ، صرّح جماعة من الأئمّة والحفّاظ بأنّه صحيح ..
قال القاضي عياض في ( الشفاء ) : أخرج الطحاوي في ( مشكل الحديث ) ، عن أسماء بنت عميس من طريقين ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ ؛ فذكر هذا الحديث.
قال الطحاوي : وهذان الحديثان ثابتان ، ورواتهما ثقات.
وحكى الطحاوي أنّ أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلّف عن حفظ حديث أسماء ؛ لأنّه من علامات النبوّة (2) (3).
ثمّ ذكر السيوطي للحديث الأوّل طريقا للطبراني ، وآخر للعقيلي ، وثالثا للخطيب في « تلخيص المتشابه » ، ورابعا لأبي بشر الدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » (4).
ثمّ قال : « ثمّ وقفت على جزء مستقلّ في جمع طرق هذا الحديث ، تخريج أبي الحسن شاذان الفضلي » ، ثمّ ساق له اثني عشر طريقا ، عن عليّ ، وأسماء ، وأبي هريرة ، وجابر بن عبد اللّه ، وأبي ذرّ ؛ لكنّ حديث
ص: 211
أبي ذرّ هكذا :
« قال عليّ يوم الشورى : أنشدكم باللّه ، هل فيكم من ردّت عليه الشمس غيري حين نام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجعل رأسه في حجري حتّى غابت الشمس ، فانتبه فقال : يا عليّ! ... صلّيت العصر؟
قلت : اللّهمّ لا.
فقال : اللّهم ارددها عليه ، فإنّه كان في طاعتك وطاعة رسولك ».
ثمّ قال السيوطي : « وروى ابن أبي شيبة طرقا من حديث أسماء ».
ثمّ قال : « وممّا يشهد بصحّة ذلك قول الإمام الشافعي وغيره : ما أوتي نبيّ معجزة إلّا أوتي نبيّنا نظيرها أو أبلغ منها.
وقد صحّ أنّ الشمس حبست على يوشع ليالي قاتل الجبّارين ، فلا بدّ أن يكون لنبيّنا نظير ذلك ، فكانت هذه القصّة نظير تلك ».
انتهى ما في « اللآلئ » (1).
وقد نسج ابن تيميّة على منوال ابن الجوزي ، فحكم بوضع الحديث (2).
قال المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » : « التاسع : رجوع الشمس له مرّتين ، إحداهما : في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والثانية : بعده.
أمّا الأولى : فروى جابر وأبو سعيد الخدري ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نزل عليه جبرئيل يوما يناجيه من عند اللّه ، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين علیه السلام ، فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشمس ، فصلّى عليّ
ص: 212
العصر بالإيماء ، فلمّا استيقظ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : سل اللّه يرد عليك الشمس لتصلّي العصر قائما ؛ فدعا ، فردّت الشمس ، فصلّى العصر قائما.
وأمّا الثانية : فلمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل ، استعمل كثير من أصحابه دوابّهم ، وصلّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر ، وفاتت كثيرا ، فتكلّموا في ذلك ، فسأل اللّه ردّ الشمس فردّت ، ونظمه الحميري فقال [ من الكامل ] :
ردّت عليه الشمس لمّا فاته *** وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتّى تبلّج نورها في وقتها *** للعصر ثمّ هوت هويّ الكوكب
وعليه قد ردّت ببابل مرّة *** أخرى وما ردت لخلق مغرب »(1)
وأجاب ابن تيميّة بإنكار الحديثين ، واستشهد بكلام ابن الجوزي ، ثمّ نقل عن أبي القاسم الحسكاني ، أنّه جمع طرق حديث ردّها في أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مصنّف سمّاه : « مسألة في تصحيح ردّ الشّمس وترغيب النواصب الشّمس »(2) ، ثمّ ذكر ابن تيميّةطرقه ، وهي أكثر ممّا سبق ،
ص: 213
أخرجها عن أمير المؤمنين ، وأسماء ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأورد عليه بأمور ، ولنذكرها مفصّلة وإن كانت مشوّشة في كلامه ..
الأمر الأوّل : عدم صحّة طرقه ، وبالغ في النقد عليها ، حتّى ضعّف جملة من رجالها ، وهم ممّن احتجّ بهم مسلم ، والبخاري في الصحيحين (1).
فليت شعري ، كيف يجتمع هذا مع قولهم بصحّة أخبار الصحيحين أجمع؟!
وهل يسلم لهم خبر من نقد بعض رجاله بمثل تلك النقود ، حتّى يصحّ القول بصحّته؟!
وكيف كان! فنحن لا نضيّع الوقت بردّ نقوده بعدما صحّح جملة من
ص: 214
طرق الحديث : الطحاوي ، والقاضي عياض ، والحافظ السيوطي ، والحاكم الحسكاني ، وسبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » ، وحسّنها أبو زرعة وغيره (1).
ولا سيّما أنّ المطلوب الوثوق ، ولا ريب بحصوله من الطرق المستفيضة ، بل هو أشدّ وأقوى من الوثوق من خبر صحيح أو أخبار صحاح.
وإذا ضممت إلى تلك الأحاديث أخبارنا (2) علمت أنّ ردّها لأمير المؤمنين متواتر.
الأمر الثاني : إنّه لو كان للواقعة أصل ، لكانت من أعظم عجائب العالم التي تتوفّر الدواعي إلى نقلها ، ولم يختصّ نقلها بالقليل (3).
ويرد عليه :
أوّلا : إنّ الدواعي إلى عدم نقلها أكثر ؛ لأنّ الناس في أيّام الأمويّين وكثير من الأوقات أعداء لأمير المؤمنين علیه السلام ، ومجتهدون في نقصه ،
ص: 215
فكيف يستفيض بينهم نقل هذه الفضيلة العظيمة؟!
وثانيا : إنّه منقوض بانشقاق القمر ، الذي هو معجزة لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله (1) ، ولا يشاركه فيها عليّ حتّى تتوفّر الدواعي إلى إخفائها ، ومع ذلك لم يروها أكثر من رواة ردّ الشمس.
ودعوى ابن تيميّة الفرق بأنّ انشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس (2) ، باطلة ؛ لما في « صحيح البخاري » في تفسير : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (3) ، عن أنس ، قال : سأل أهل مكّة أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر (4).
وفي « سنن الترمذي » ، في تفسير هذه السورة ، عن جبير بن مطعم ، قال : انشقّ القمر على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى صار فرقتين ، على هذا الجبل ، وعلى هذا الجبل ؛ فقالوا : سحرنا محمّد! فقال بعضهم : لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلّهم (5).
وثالثا : إنّ السبب في عدم تواتر نقل مثل هذه الوقائع في الكتب ، هو أنّ عامّة الناس كانوا أمّيّين ، وما كان التاريخ والتأليف مألوفا بين من يعرف الكتابة منهم ، بلا فرق بين المسلمين وغيرهم ؛ ولذا لم يعرف مؤلّف في تلك العصور ، ولم يصل إلينا من معجزات النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا القليل ،
ص: 216
ولا سيّما من طرق السنّة.
وإنّما وقع التأليف نادرا في التابعين ، وكثر في تبع التابعين ، على حين لم يبق من ذكر الحوادث السالفة إلّا ما ندر ، وتناسى الناس فضائل أمير المؤمنين ؛ خوفا أو عنادا ، لا سيّما ما هو صريح في إمامته.
الأمر الثالث : إنّ خصوصيّات الروايات متنافية من وجوه ، وهو يكشف عن كذب الواقعة.
الأوّل : دلالة بعضها على طلوع الشمس حتّى وقعت على الجبال وعلى الأرض ، وبعضها حتّى توسّطت السماء ، وبعضها حتّى بلغت نصف المسجد.
وهذا دالّ على أنّ ذلك بالمدينة ؛ لأنّ المقصود مسجدها ، وكثير من الأخبار يدلّ على أنّه بالصهباء (1) في غزوة خيبر (2).
الثاني : إنّ بعضها يدلّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يوحى إليه ، وبعضها كان نائما ثمّ استيقظ.
الثالث : دلالة بعضها على أنّ عليّا كان مشغولا بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وبعضها على أنّه كان مشغولا بقسم الغنائم.
.. إلى غير ذلك من الخصوصيّات المتنافية (3).
ص: 217
والجواب : إنّ تنافي الخصوصيّات لا يوجب كذب أصل الواقعة ، وإنّما يقتضي الخطأ في الخصوصيّات ؛ إذ لا ترى واقعة تكثّرت طرقها إلّا واختلف النقل في خصوصيّاتها ، حتى إنّ قصّة انشقاق القمر قد وردت - في الرواية التي تقدّمت عن الترمذي (1) - بأنّ القمر صار فرقتين على جبلين.
وفي رواية أخرى للترمذي : إنشقّ فلقتين ، فلقة من وراء الجبل ، وفلقة دونه (2).
وفي « صحيح البخاري » : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه (3).
على أنّه لا تنافي بين تلك الخصوصيّات ؛ لأنّ المراد بجميع الخصوصيّات في الوجه الأوّل : هو رجوع الشمس إلى وقت صلاة العصر ، كما صرّح به بعض الأخبار (4).
لكن وقعت المبالغة في بعضها بأنّها توسّطت السماء (5) ، والمبالغة غير عزيزة في الكلام.
كما أنّ وقوع ردّ الشمس في غزوة خيبر ، لا ينافي بلوغها نصف
ص: 218
المسجد.
وأمّا الخصوصيّات في الوجه الثاني ، فلا تنافي بينها أيضا ؛ لصحّة حمل نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله على غشية الوحي والاستيقاظ على تسرّيه ؛ ولذا عبّر بعض الأخبار بالاستيقاظ بعد ذكر نزول جبرئيل وتغشّي الوحي للنبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).
وأمّا الخصوصيّات في الوجه الثالث ، فهي أظهر بعدم التنافي بينها ؛ إذ لا يبعد أنّ قسم الغنائم هو الحاجة التي وقعت قبل شغل عليّ علیه السلام بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لا في عرضه.
وعلى هذا القياس في سائر الخصوصيّات التي يتوهّم تنافيها.
الأمر الرابع : اشتمال الأحاديث على المنكرات :
منها : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « يا ربّ! إنّ عليّا في طاعتك وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس ».
قال أبو سعيد : فو اللّه لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتّى رجعت بيضاء نقيّة.
ومنها : إنّها لمّا غابت سمع لها صرير كصرير المنشار.
ومنها : إنّها أقبلت ولها صرير كصرير الرحى.
وإنّما قلنا : إنّ هذه منكرات ؛ لأنّ الشمس لا تلاقي من الأجسام ما يوجب هذه الأصوات التي تصل من فلك الشمس إلى الأرض (2).
والجواب : إنّ اللّه سبحانه لا يعجز عن إحداث الصوت ليكون
ص: 219
للسمع حظّ من هذه الفضيلة كما للبصر ، فيزيد التيقّن بها ، والالتفات إليها.
ولو تسرّبنا (1) إلى هذه المناقشات منعنا انشقاق القمر ، وسقوط شقّيه على الجبلين أو الجبل وما دونه ، فإنّه أكبر من ذلك.
فإذا أجيب هاهنا بأنّ اللّه شقّه وصغّر جرمه وأنزله إلى الأرض إيضاحا للحجّة ، فليجب بمثله في المقام.
وممّا اشتملت عليه من المنكرات - بزعم ابن تيميّة - نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد صلاة العصر ، وهو مكروه ، ولا يفعله النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهو أيضا تنام عيناه ولا ينام قلبه (2) ؛ فكيف يفوّت على عليّ صلاته؟!
ثمّ إنّ تفويت الصلاة إن كان جائزا لم يكن على عليّ إثم إذا صلّى العصر بعد الغروب ، وليس عليّ أفضل من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والنبيّ قد فاتته العصر يوم الخندق ، ولم ترد عليه الشمس.
وقد نام ومعه عليّ وسائر الصحابة عن الفجر حتّى طلعت الشمس ، ولم ترجع إلى الشرق.
وإن كان التفويت محرّما فهو من الكبائر ، ومن فعل هذا كان من
ص: 220
مثالبه ، لا من مناقبه.
ثمّ إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس (1).
والجواب : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم ينم - كما عرفت - وإنّما تغشّاه الوحي (2).
وما ذكره من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله تنام عيناه ولا ينام قلبه ، يجب أن يجعله دليلا على كذب رواية نومه صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح ، وكذب رواية نسيانه الصلاة يوم الخندق ، كما أوضحناه في مباحث النبوّة (3).
فحينئذ يبطل نقضه بعدم ردّ الشمس للنبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا فاتته الصلاة في الوقتين ، وهو أفضل من عليّ علیه السلام .
على أنّ فضل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يستلزم أولويّة ردّها له ؛ لجواز أن يكون ردّها لعليّ علیه السلام دفعا لطعن أهل النفاق فيه بتركه الصلاة ، فردّت له ؛ ليعلم أنّه في طاعة اللّه تعالى بشاهد جليّ ؛ أو لغير ذلك من الحكم المقتضية لتخصيصه دون النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
على أنّ عليّا علیه السلام لم يترك أصل الصلاة ، فإنّه صلّاها إيماء ، كما صرّح به بعض الأخبار (4) ، وإنّما ردّها اللّه سبحانه له لينال فضل الصلاة قائما في وقتها ، ويظهر فضله وكمال طاعته ، وليقطع ألسنة المنافقين.
وبهذا يعلم ما في قوله : « إن كان جائزا لم يكن على عليّ إثم إذا
ص: 221
صلّى العصر بعد الغروب » ، فإنّ الداعي لردّها ليس رفع الإثم ، بل تلك الحكم المذكورة ، فقد ظهر أنّ المناقشة في الحديث إنّما هي من السفاسف.
وأمّا دلالته على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام فأجلى من الشمس ؛ لأنّه من أعظم الأدلّة على الاهتمام بشأنه وفضله على جميع الأصحاب بما لا يحلم أن يناله أحد منهم.
هذا كلّه في ردّها له في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..
ويروى ردّها له بعد وفاته صلی اللّه علیه و آله كما ذكره المصنّف رحمه اللّه (1) ، وحكاه ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (2) ، عن نصر بن مزاحم ، بسنده عن عبد خير ، قال : « كنت مع عليّ في أرض بابل وحضرت صلاة العصر ، فجعلنا لا نأتي مكانا إلّا رأيناه أقبح من الآخر ، حتّى أتينا على مكان أحسن ما رأينا ، وقد كادت الشمس أن تغيب ..
قال : فنزل عليّ فنزلت معه ، فدعا اللّه فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، فصلّيت العصر ثمّ غابت ».
ونقل في « ينابيع المودّة » (3) ، عن « المناقب » ، عن الحسين علیه السلام ، قال : « لمّا رجع أبي من قتال النهروان سار في أرض بابل ، وحضرت صلاة العصر ، فقال : هذه أرض مخسوفة ، وقد خسفها اللّه ثلاثا ، ولا يحلّ لوصيّ نبيّ أن يصلّي فيها.
ص: 222
قال جويرية بن مسهر العبدي (1) : صلّى الناس هنا ، وتبعت بمئة فارس أمير المؤمنين إلى أن قطعنا أرض بابل ، والشمس قد غربت ، فنزل وقال : آتني الماء ؛ فآتيته الماء ، فتوضّأ وقال : يا جويرية! أذّن للعصر.
فقلت في نفسي : كيف يصلّي العصر وقد غربت الشمس؟!
فأذّنت ، وقال لي : أقم ؛ فأقمت ، وإذا أنا في الإقامة تحرّكت شفتاه ، وإذا رجعت الشمس وصلّينا وراءه.
فلمّا فرغنا من الصلاة غابت الشمس بسرعة كأنّها سراج وقعت في طشت ماء واشتبكت النجوم ، والتفت إليّ وقال : أذّن للمغرب يا ضعيف اليقين! ».
ونقل في « الينابيع » أيضا ، عن أخطب خوارزم ، بسنده عن مجاهد ، أنّ ابن عبّاس أثنى على أمير المؤمنين علیه السلام في كلام قال فيه : « وردّت عليه الشمس مرّتين » (2).
وأمّا الحديث الرابع ؛ وهو حديث السطل والماء والمنديل ..
ص: 223
فقد حكاه أيضا في « الينابيع » (1) ، عن ابن المغازلي ، وصاحب « المناقب » ، وأخطب خوارزم ، بأسانيدهم عن أنس.
وأمّا الحديث الخامس ؛ وهو حديث النداء يوم أحد ..
فقد رواه الطبري في « تاريخه » (2) ..
وابن الأثير في « كامله » (3) ..
وكذا ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (4) ، ناقلا له عن غلام ثعلب ، ومحمّد بن حبيب في « أماليه » ، وجماعة من المحدّثين ..
ثمّ قال : « وهو من الأخبار المشهورة ، ووقفت عليه في بعض نسخ ( مغازي محمّد بن إسحاق ) ، ورأيت بعضها خاليا عنه.
ص: 224
وسألت شيخي عبد الوهّاب بن سكينة (1) عن هذا الخبر ، فقال : صحيح ».
أقول : ويكفي في صحّته استفاضته ، لا سيّما بضميمة أخبارنا (2).
وأمّا صدور النداء يوم بدر فقد تقدّمت روايته في أوّل المبحث (3) ، وأشار إليها سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » (4).
ونقل أيضا عن أحمد في « الفضائل » ، وصحّحه ، وقوع النداء يوم خيبر ، وأنّهم سمعوا تكبيرا من السماء في ذلك اليوم ، وقائلا يقول :
لا سيف إلّا ذو الفقا
ر ولا فتى إلّا علي
فاستأذن حسّان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن ينشد شعرا ، فأذن له فقال [ من مجزوء الكامل ] :
جبريل نادى معلنا
والنّقع (5) ليس ينجلي
ص: 225
والمسلمون أحدقوا *** حول النبيّ المرسل
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ولا فتى إلّا علي (1)
فلا ريب بصدور النداء بذلك من جبرئيل ولو في أحد هذه المواطن الثلاثة ، وهو صريح في نفي الفتوّة - أي : السخاء بالنفس - عن غير عليّ علیه السلام ، فيدلّ على أنّه أسخى الناس بنفسه وأطوعهم له ، والفضل في الطاعة فرع الفضل الذاتي ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
ويشهد لفضله الذاتي قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الحديث : « هو منّي وأنا منه » ، وقول جبرئيل : وأنا منكما (2).
* * *
ص: 226
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
الرابع والعشرون : في « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « رحم اللّه عليّا ، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار » (2).
وروى الجمهور : قال صلی اللّه علیه و آله لعمّار : « ستكون في أمّتي بعدي هناة واختلاف حتّى يختلف السيف بينهم ، حتّى يقتل بعضهم بعضا ، ويتبرّأ بعضهم من بعض.
يا عمّار! تقتلك الفئة الباغية ، وأنت إذ ذاك مع الحقّ والحقّ معك ، إنّ عليّا لن يدنيك من ردى ، ولن يخرجك من هدى.
يا عمّار! من تقلّد سيفا أعان به عليّا على عدوّه قلّده اللّه يوم القيامة وشاحين من درّ ، ومن تقلّد سيفا أعان به عدوّه قلّده اللّه وشاحين من نار.
ص: 227
فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني - يعني : عليّا - ، وإن سلك الناس كلّهم واديا وسلك عليّ واديا ، فاسلك واديا سلكه عليّ ، وخلّ الناس طرّا.
يا عمّار! إنّ عليّا لا يزال على الهدى.
يا عمّار! إنّ طاعة عليّ من طاعتي ، وطاعتي من طاعة اللّه تعالى » (1).
وروى أحمد بن موسى بن مردويه ، من الجمهور ، من عدّة طرق ، عن عائشة ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « الحقّ مع عليّ ، وعليّ مع الحقّ ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (2).
* * *
ص: 228
وقال الفضل (1) :
صحّ في الصحاح أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعمّار : ويح عمّار! تقتله الفئة الباغية (2).
وباقي ما ذكر إن صحّ دلّ على أنّ عليّا كان مع الحقّ أينما دار ، وهذا شيء لا يرتاب فيه حتّى يحتاج إلى دليل ، بل هذا دليل على حقّية الخلفاء ؛ لأنّ الحقّ كان مع عليّ ، وعليّ كان معهم ، حيث تابعهم وناصحهم ، فثبت من هذا خلافة الخلفاء ، وأنّها كانت حقّا صريحا.
ص: 229
وأمّا من خالف عليّا من البغاة ، فمذهب أهل السنّة والجماعة أنّ الحقّ كان مع عليّ ، وهم كانوا على الباطل ، ولا شكّ في هذا.
* * *
ص: 230
روى لفظ الحديث الأوّل الترمذي في فضائل عليّ علیه السلام (1).
والحاكم أيضا في فضائله من « المستدرك » (2).
ونقل في « الصواعق » (3) ، عن الذهبي أنّه صحّح طرقا كثيرة لدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ في غدير خمّ ؛ المشتمل على قوله : « وأدر الحقّ معه حيث دار ».
وحكى ابن أبي الحديد (4) ، عن أبي القاسم البجلي (5) وتلامذته من المعتزلة ، قالوا : لو نازع عليّ عقيب وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسلّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه وتقدّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه - إلى أن قالوا : - وحكمه حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنّه قال : « عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ ، يدور حيثما دار ».
ص: 231
وحكم ابن أبي الحديد أيضا بثبوت هذا الحديث (1) في شرح الخطبة التي يقول فيها : إنّ الأئمّة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم.
ونقل في « كنز العمّال » (2) ، عن أبي يعلى وسعيد بن منصور ، بسندهما عن أبي سعيد ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « الحقّ مع ذا ، الحقّ مع ذا - يعني : عليّا - ».
وحكى في « الكنز » أيضا (3) ، عن الديلمي ، عن عمّار وأبي أيّوب ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « يا عمّار! إن رأيت عليّا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره ، فاسلك مع عليّ ودع الناس ، إنّه لن يدلّك على ردى ، ولن يخرجك من هدى ».
وهذا بعض الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه ، وذكره بتمامه إلّا القليل في « كشف الغمّة » ، نقلا عن الخوارزمي ، عن أبي أيّوب (4).
والأخبار الدالّة على أنّ الحقّ مع عليّ - والحقّ معه - ، إمّا بلفظه أو بمعناه ، أكثر من أن تحصى ، وهي متواترة معنى ، وقد تقدّم منها ما صرّح بأنّه فاروق هذه الأمّة يفرق بين الحقّ والباطل (5) ..
ومنها أحاديث التمسّك بالثّقلين (6) ..
ص: 232
وأنّ أهل البيت سفينة النجاة (1).
فإذا كان عليّ مع الحقّ ، والحقّ معه ، يدور حيث دار ، وجب أن يكون معصوما ، والعصمة شرط الإمامة ، ولا معصوم غيره من الصحابة اتّفاقا.
وأيضا : يلزم منه بطلان خلافة أبي بكر ، ولا سيّما في الستّة أشهر التي امتنع فيها عن بيعة أبي بكر ، كما رواه البخاري في غزاة خيبر (2) ، وغيره (3).
وأمّا مبايعته بعد ذلك فلم تقع إلّا قهرا ، كما أنّ مناصحته لهم - بعد مشاورتهم له في بعض الأمور - إنّما هي لإصلاح الدين لا لترويج إمرتهم ؛ ولذا ما زال يتظلّم منهم ، ووقع بينهم وبينه من النفورة والعداوة ما هو جليّ لكلّ أحد (4).
وأمّا ما ذكره في شأن البغاة ، فهو إقرار بأنّ صاحبة الجمل وأصحابها ومعاوية وأنصاره ، كانوا مبطلين ، ومطالبين عند اللّه تعالى بأمر عظيم ، وهو إلقاح الفتنة إلى يوم الدين ، وإزهاق نفوس الآلاف من المسلمين ، الذي لا تنجي منه التوبة بالقول - لو صدرت - ما لم يعطوا النّصف من أنفسهم ويخرجوا عن المظالم إلى أهلها.
والإقرار بذلك لا يناسب تعظيمهم لهم ، وجعل تفضيل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام (5) ، وجعل الزبير حواريّ
ص: 233
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الخامس والعشرون : روى أحمد بن حنبل في « مسنده » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخذ بيد الحسن والحسين وقال : « من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (2).
وفيه : عن جابر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم بعرفات وعليّ تجاهه : « ادن منّي يا عليّ! خلقت أنا وأنت من شجرة ، فأنا أصلها وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمن تعلّق بغصن منها أدخله اللّه الجنّة » (3).
ص: 235
وفيه : عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ؛ الثّقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر ؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ».
ورواه أحمد من عدّة طرق (1).
وفي « صحيح مسلم » ، في موضعين ، عن زيد بن أرقم ، قال : خطبنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بماء يدعى « خمّا » بين مكّة والمدينة ، ثمّ قال بعد الوعظ :
« أيّها الناس! إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وإنّي تارك فيكم الثّقلين ؛ أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به - فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه ، ثمّ قال : - وأهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي » (2).
وروى الزمخشري - وكان من أشدّ الناس عنادا لأهل البيت ، وهو الثقة المأمون عند الجمهور - ، قال بإسناده : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فاطمة مهجة (3) قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ،
ص: 236
والأئمّة من ولدها أمناء ربّي ، وحبل ممدود بينه وبين خلقه ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلّف عنهم هوى » (1).
وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) ، بأسانيد متعدّدة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « أيّها الناس! قد تركت فيكم الثّقلين خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر ؛ كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض ؛ وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (3).
وفي « الجمع بين الصحيحين » : « إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثّقلين ؛ أوّلهما كتاب اللّه ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به ؛ وأهل بيتي ، أذكّركم اللّه في أهل بيتي خيرا » (4).
ص: 237
وقال الفضل (1) :
هذه الأخبار بعضها في الصحاح ، وبعضها قريب المعنى منها ، وحاصلها : التوصية بحفظ أحكام الكتاب ، وأخذ العلم منه ومن أهل البيت ، وتعظيم أهل البيت ومحبّتهم وموالاتهم ، وكلّ هذه الأمور فريضة على المسلمين ، ولا قائل بعدم وجوبه على كلّ مسلم.
ولكن ليس في ما ذكر نصّ على خلافة عليّ بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛
ص: 238
لأنّ هذا هو الوصيّة بالحفظ ، وأخذ العلم منهم.
وجعلهم قرناء للقرآن ، يدلّ على وجوب التعظيم ، وأخذ العلم عنهم ، والاقتداء بهم في الأعمال والأقوال ، وأخذ طريق السنّة والمتابعة من أعمالهم ، ولا يلزم من هذا خلافتهم ، وليس هو بالنصّ في خلافتهم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ومراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله : توصية الأمّة بحفظ القرآن ، ومتابعة أهل البيت ، وتعظيمهم ؛ وهذا ما لا نزاع فيه.
* * *
ص: 239
حديث الثّقلين مستفيض أو متواتر ، وقد رواه أحمد في « مسنده » من طرق كثيرة جدّا عن جماعة (1).
ورواه الترمذي في مناقب أهل البيت من « سننه » ، عن خمسة من الصحابة (2).
ورواه مسلم في فضائل عليّ علیه السلام ، من عدّة طرق ، عن زيد بن أرقم (3).
ورواه الحاكم في « المستدرك » (4) ، عن زيد - أيضا - من طريقين.
وقال ابن حجر في « الصواعق » - عند تعرّضه لحديث الثّقلين (5) - : « الحاصل : إنّ الحثّ وقع على التمسّك بالكتاب ، وبالسنّة ، وبالعلماء بهما من أهل البيت ؛ ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة ».
ثمّ قال : « إعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّا ».
ص: 240
ودلالته على إمامة عليّ وولده ظاهرة من وجوه :
الأوّل : إنّ تصريحه بأنّ الكتاب والعترة لا يفترقان ، دالّ على علمهم بما في الكتاب ، وأنّهم لا يخالفونه قولا وعملا.
والأوّل دليل الفضل على غيرهم ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
والثاني دليل العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم.
الثاني : إنّه جعلهم عديلا (1) للقرآن ، فيجب التمسّك بهم مثله ، واتّباعهم في كلّ أمر ونهي ، ولا يجب اتّباع شخص على الإطلاق إلّا النبيّ أو الإمام المعصوم.
الثالث : إنّه عبّر عن الكتاب والعترة ب « خليفتين » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه (2) ..
وحديث أحمد في « مسنده » (3) ، عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم خليفتين ، كتاب اللّه ، وأهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ».
ومن الواضح أنّ خلافة كلّ شيء بحسبه ، فخلافة القرآن بتحمّله أحكام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومواعظه ، وإنذاره ، وسائر تعاليمه ؛ وخلافة الشخص بإمامته ، وقيامه بما تحتاج إليه الأمّة ، ونشر الدعوة ، وجهاد المعاندين.
الرابع : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر في مفتتح الحديث قرب موته ، كقوله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب » (4) ..
ص: 241
أو قوله : « كأنّي قد دعيت فأجبت » (1) ..
أو نحو ذلك كما في أحاديث مسلم (2) ، وأحد حديثي الحاكم (3) ، وحديث أحمد عن زيد بن أرقم (4) ، وحديثه عن أبي سعيد (5).
ثمّ قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ ومن المعلوم أن ذا السلطان والولاية ، الذي له نظام يلزم العمل به بعده ، إذا ذكر موته وقال : « إنّي تارك فيكم فلانا ، وكتابا حافظا لنظامي » ، لم يفهم منه إلّا إرادة العهد إلى ذلك الشخص بالإمرة بعده ؛ خصوصا وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ، أو : « من كنت وليّه فعليّ وليّه » ، كما في حديثي الحاكم وغيرهما (6).
ولا يبعد أنّ وصيّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالثّقلين كانت في غدير خمّ ، أو أنّه أحد مواردها (7) ؛ لقوله في حديث مسلم : « خطبنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله
ص: 242
بماء يدعى خمّا » (1)، ولقوله صلی اللّه علیه و آله في بعض الأحاديث : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » (2) ، فإنّه صادر بالغدير ، فيكون قد عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله في خمّ بالخلافة إلى أهل البيت عموما ، وإلى عليّ خصوصا ، فكان الخليفة بعده أمير المؤمنين ، ثمّ الحسنان.
وقد بيّنّا في الآية الثالثة أنّ أهل البيت لا يشمل بقيّة أقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3).
الخامس : قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتّبعتموهما » ، كما في أحد حديثي الحاكم ، وصحّحه على شرط الشيخين (4) ..
ونحوه ما في « الصواعق » (5) وصحّحه ..
وقوله صلی اللّه علیه و آله : « قد تركت فيكم الثّقلين خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه (6) ..
وقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي » ، كما في حديث الترمذي عن زيد بن أرقم (7) ..
وقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا » ، كما
ص: 243
في حديث الترمذي عن جابر (1) ، وحديث أحمد عن أبي سعيد (2).
فإنّ كلّ واحد من هذه الأقوال صريح في بطلان خلافة المشايخ الثلاثة ؛ لأنّه صلی اللّه علیه و آله رتّب عدم ضلال أمّته دائما وأبدا على التمسّك بالثقلين.
وبالضرورة ، أنّ الضلال واقع ولو أخيرا ؛ لاختلاف الأديان وفساد الأعمال ، فيعلم أنّهم لم يتمسّكوا في أوّل الأمر بالعترة والكتاب ، وأنّ خلافة الثلاثة خلاف التمسّك بهما ، ولذا وقع الضلال.
ولا يرد النقض بأنّ الأمّة تمسّكت بالعترة - حين بايعت عليّا علیه السلام - ومع ذلك وقع الضلال المذكور ؛ وذلك لأنّ المراد هو التمسّك بالعترة كالكتاب بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا فصل.
على أنّ الأمّة لم تتمسّك بعليّ علیه السلام بعد مبايعته ؛ لمخالفة الكثير منهم له حتّى انقضت أيّامه بحرب الأمّة.
فأين تمسّكها بالعترة؟! وأين تمسّكها بالكتاب ، وهو قد قاتلهم على تأويله؟!(3).
فإن قلت : لعلّ المراد : أنّكم إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ما دمتم متمسّكين بهما ، فلا يدلّ ضلالهم أخيرا على عدم تمسّكهم أوّلا.
قلت : هذا احتمال خارج عن الظاهر ، حتّى بلحاظ قوله - في خبري الترمذي المذكورين - : « ما إن تمسّكتم به » و « ما إن أخذتم به » ؛ لأنّ « ما » فيهما مفعول به ل « تركت » و « تارك » ، لا ظرفية زمانية.
ص: 244
فقد ظهر من هذه الوجوه الخمسة دلالة الحديث على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ، لا على مجرّد الوصيّة بأخذ العلم منهم.
ولو سلّم ، فمن الواضح دلالة الحديث على وجوب أخذ العلم منهم ، وعدم جواز مخالفتهم ، كالقرآن ، وحينئذ فيجب اتّباع قولهم في الإمامة ، وفي صحّة إمامة شخص وعدمها ؛ لأنّه من أخذ العلم منهم.
ومن المعلوم أنّ عليّا خالف في إمامة أبي بكر - ولو في بعض الأوقات - ، فتبطل ولو في الجملة ، وهذا خلاف مذهب القوم.
فكيف وقد ادّعى أنّ الحقّ له من يوم وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى حين موته هو علیه السلام ، وتظلّم منهم مدّة حياته - كما سبق (1) -؟!
وأيضا : لم تتّبع الأمّة عترة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أمر الخمس والمتعتين وكثير من الأحكام ، فيكونون ضلّالا!
وما أدري متى تمسّكت الأمّة بالعترة؟!
أفي زمن أمير المؤمنين؟! أو في زمن أبنائه الطاهرين؟! وقد تركوا كلّا منهم حبيس بيته لا يسمع له قول ، ولا يتّبع له أمر ، ولا يؤخذ منه حكم.
بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة والشام والكوفة ، وسبوا نساءهم سبي الترك والديلم!
فهل تراهم مع هذا قد تمسّكوا بهم ، أو نبذوهم وراء ظهورهم وانقلبوا على الأعقاب ، كما ذكره سبحانه في عزيز الكتاب (2)؟!
ص: 245
هذا ، ولا يخفى أنّ الحديث دالّ على بقاء العترة إلى يوم القيامة لأمور :
الأوّل : قوله صلی اللّه علیه و آله فيه : « إنّي تارك فيكم الثّقلين » ؛ فإنّه دالّ على أنّه ترك فيهم ما يحتاجون إليه ، وما هو كاف في حصول حاجتهم.
وبالضرورة ، أنّه لو لم يدل الثقلان لم يكفيا ؛ لأنّ الأمّة محتاجة مدى الدهر إلى الأحكام والحكّام.
الثاني : قوله صلی اللّه علیه و آله : « إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا » ؛ فإنّ تأبيد عدم الضلال موقوف على تأبيد ما يتمسّك به.
الثالث : قوله صلی اللّه علیه و آله : « لن يفترقا » ؛ فإنّه لو لم يكن في وقت من الأوقات من هو قرين الكتاب من العترة ، لافترق الكتاب عنهم.
وقد أقرّ ابن حجر في عبارته السابقة بإفادة الحديث بقاء العترة إلى يوم القيامة (1) ..
وقال بعد ذلك : « وفي أحاديث التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : ( في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ) ... » (2)إلى آخره.
ص: 246
أقول :
أراد بالخبر السابق ، ما نقله قبل هذا الكلام عن الملّاء في « سيرته » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإن أئمّتكم وفدكم إلى اللّه عزّ وجلّ ، فانظروا من توفدون » (1).
وليت شعري ، إذا علم ابن حجر ذلك ، فما باله أنكر إمامة العترة ، ودان بإمامة أضدادهم ، وتمسّك بالشجرة الملعونة في القرآن؟!
وكيف حلّ له أن يترك الأخذ ممّن ينفون عن الدين تحريف الضالّين ، ويرجع في أحكامه إلى من حرّفوا الدين ، بشهادة مخالفتهم لمن ينفون عنه التحريف؟!
بل لم يكتف ابن حجر وأصحابه حتّى عيّنوا لأخذ الأحكام أئمّتهم الأربعة ، وحرّموا الرجوع إلى أهل البيت!
فهل هذا من التمسّك بالكتاب والعترة اللذين لا يفترقان إلى يوم القيامة؟!
هذا كلّه في حديث الثّقلين (2).
ص: 247
وأمّا غيره ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه :
فالخبر الأوّل قد رواه أحمد (1) ، ورواه الترمذي في مناقب عليّ من « سننه » وحسّنه (2).
ودلالته على أنّ الإمامة في العترة الطاهرة ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ساواهم معه دون من سواهم ، في أنّ من أحبّهم نال تلك المنزلة الرفيعة والمرتبة السامية ، الدالّة على الفضل عند اللّه سبحانه والقرب منه.
فيثبت لهم الفضل على غيرهم ، وتكون الإمامة بهم.
ومثله في الدلالة على المطلوب الخبر الثاني ، الذي حكاه المصنّف عن أحمد ، عن جابر ؛ ولم أجده في « مسنده » ، ولا يبعد أنّه ممّا نالته يد الإسقاط كما هو العادة (3)!
وقد تقدّم في الآية الحادية والأربعين ما يصدّق هذا الحديث (4).
ص: 248
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ما هو قريب منه ، عن ابن مردويه ، بسند فيه عبّاد بن يعقوب ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « مثلي مثل شجرة ، أنا أصلها ، وعليّ فرعها ، والحسن والحسين ثمرتها ، والشيعة ورقها ، فأيّ شيء يخرج من الطيّب إلّا الطيّب » (1).
قال ابن الجوزي : « عبّاد ، رافضي ، يروي المناكير » (2).
أقول :
لا وجه لذكر حديثه في « الموضوعات » ، وإلّا لجرّ الطعن إلى صحاحهم ؛ لأنّه ممّن روى له البخاري في « صحيحه » ، وروى له الترمذي ، وابن ماجة ، ووثّقه جماعة (3).
ص: 249
وليست مناكيره عندهم إلّا رواياته في فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله !
قال ابن عديّ : « روى أحاديث في الفضائل أنكرت عليه » كما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال » (1).
وأظهر من الحديثين المذكورين في الدلالة على مذهب الإماميّة حديث الزمخشري (2) ؛ فتبصّر واعتبر!
* * *
ص: 250
26 - حديث الكساء
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السادس والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، من عدّة طرق ، وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بيتي ، فأتت فاطمة فقال : ادعي زوجك وابنيك.
فجاء عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وكان تحته كساء خيبري ، فأنزل اللّه : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ ) يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).
فأخذ فضل الكساء وكساهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء وقال : هؤلاء أهل بيتي.
فأدخلت رأسي البيت وقلت : وأنا معهم يا رسول اللّه.
قال : إنّك إلى خير (3).
ص: 251
وقد روي نحو هذا المعنى من « صحيح أبي داود » (1) ..
و « موطّأ مالك » (2) ..
و « صحيح مسلم » في عدّة مواضع وعدّة طرق (3).
* * *
ص: 252
وقال الفضل (1) :
إنّ الأمّة اختلفت فيها أنّها في من نزلت؟ وظاهر القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وإن صدق في النقل عن « الصحاح » فكانت نازلة في آل العباء ، وهي من فضائلهم ، ولا تدلّ على النصّ بالإمامة.
* * *
ص: 253
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
السابع والعشرون : في « مسند أحمد بن حنبل » ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ، ذهب أهل الأرض » (2).
ورواه صدر الأئمّة موفّق بن أحمد المكّي (3).
وفي « مسند أحمد » : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى : [ اللّهمّ ] ( اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) (4) ، عليّا
ص: 255
وقال الفضل (1) :
هذا موافق في المعنى للحديث المذكور قبل ، وهو أنّه صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » (2).
ومراد موسى في قوله : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ، الإشراك في أمر النبوّة ، ودعوة فرعون.
وهذا لا يصحّ هناك ؛ لقوله : « إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » ، اللّهمّ إلّا أن يراد المشاركة في دفع الكفّار بالحرب وتبليغ العلم.
* * *
ص: 257
سبق دلالة هذا الحديث ورواته في آخر آية من الآيات التي ذكرناها في الخاتمة ؛ فراجع (1).
وما زعمه من إرادة المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ظاهر البطلان ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما سأل عين ما سأله موسى علیه السلام بقوله : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .
ومن الواضح أنّ موسى لم يرد المشاركة في دفع الكفّار ؛ لأنّه قد طلب دفعهم بطلب جعله وزيرا ، فإنّ دفع الأعداء أظهر فوائد الوزارة ، فلا حاجة لإعادة هذا الطلب بقوله : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .
فينبغي أن يريد المشاركة في النبوّة ، والرئاسة على الأمّة ، وتحمّل العلوم .. إلى نحو ذلك.
فإذا دعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله بما دعا به موسى علیه السلام ، ثبتت لعليّ المشاركة في كلّ ذلك سوى النبوّة ؛ للدليل المخرج لها.
على أنّ ظاهر الأخبار كون المشاركة من خواصّ أمير المؤمنين علیه السلام ، فلا يراد بها المشاركة في دفع الكفّار وتبليغ العلم ؛ لأنّها لا تخصّ عليّا علیه السلام ، إلّا أن يراد بها أعلى مراتب المشاركة في الدفع والتبليغ ، بحيث لا يعدّ غيره مشاركا بالنسبة إليه ، فله وجه.
ولكنّه - أيضا - مثبت للمطلوب ؛ لأنّه فرع الفضل العظيم على غيره ،
ص: 258
والأفضل أحقّ بالإمامة.
وقد تقدّم في الحديث التاسع ما ينفعك ؛ فراجع (1).
واعلم أنّ الحديث الأوّل - الذي حكاه المصنّف رحمه اللّه عن أحمد وموفّق بن أحمد (2) - لم يتعرّض الفضل لجوابه غفلة أو تغافلا ، وقد حكاه غير المصنّف عن « المسند » ، كصاحب « ينابيع المودّة » (3) ، وابن حجر في « الصواعق » (4) ، كما ستعرف.
وأنا لم أجده في « المسند » بعد التتبّع ، والظاهر أنّ أيدي التلاعب لعبت في إسقاطه!
ولعلّ الحديث الآخر كذلك (5) ، ولا ريب أنّه من أدلّ الأمور على إمامة أهل البيت علیهم السلام ؛ إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على اللّه تعالى ، وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة ، مع كونه معصوما ، فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه ، فضلا عن أن يكون أمانا لغيره ، ولا سيّما إذا كان عظيما ، فإنّ المعصية من العظيم أعظم ، والحجّة عليه ألزم.
فإذا كانوا أفضل الناس ومعصومين ، فقد تعيّنت الإمامة لهم ، وهو دليل على بقائهم ما دامت الأرض ، كما هو مذهبنا.
وقد جعل اللّه تعالى هذه الكرامة العظيمة لنبيّه صلی اللّه علیه و آله قبل أهل بيته ،
ص: 259
فقال سبحانه : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ... ) (1).
وأشار إلى ذلك ابن حجر في « صواعقه » (2) ، فقال : « السابعة : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، أشار صلی اللّه علیه و آله إلى وجود هذا المعنى في أهل بيته ، وأنّهم أمان لأهل الأرض كما كان هو صلی اللّه علیه و آله أمانا لهم ، وفي ذلك أحاديث كثيرة ».
ثمّ ذكر أخبارا من جملتها رواية أحمد التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه أوّلا (3).
وحكى في « كنز العمّال » في فضائل أهل البيت (4) ، عن ابن أبي شيبة ، ومسدّد ، والحكيم ، وأبي يعلى ، والطبراني ، وابن عساكر ، أنّهم رووا عن سلمة بن الأكوع ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ».
وروى الحاكم في « المستدرك » ، وصحّحه (5) ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا
ص: 260
فصاروا حزب إبليس ».
وهو كالأوّل في الدلالة على إمامتهم ؛ إذ شأن الإمام أن يكون أمانا من الاختلاف ؛ لعلمه وعصمته ، فلا يختلف في الدين من اتّبعه ، ولا في الدنيا ؛ لمنعه الناس عن ظلم بعضهم بعضا لو بسطت يده.
وقريب من هذه الأخبار ما استفاض عن رسول اللّه : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح » (1) و « إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل » (2).
قال ابن حجر بعد كلامه السابق : « جاء من طرق عديدة يقوّي بعضها بعضا : إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا.
وفي رواية مسلم : ومن تخلّف عنها غرق.
ص: 261
وفي رواية : هلك.
و: إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له.
وفي رواية : غفر له الذنوب » (1).
وروى الحاكم في « المستدرك » (2) عن أبي ذرّ ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ».
وحكى مثله في « كنز العمّال » (3) ، عن البزّار ، عن ابن عبّاس.
وحكى مثله أيضا بإبدال « غرق » ب « هلك » ، عن ابن جرير والحاكم ، عن أبي ذرّ (4).
وكذا عن الطبراني ، عن أبي ذرّ ، مع زيادة قوله : « ومثل باب حطّة في بني إسرائيل » (5).
وهذه الأخبار كالتي قبلها في الدلالة على المطلوب ؛ لأنّه صريحة في أنّ أهل البيت علیهم السلام محلّ الاتّباع ووجوب الطاعة ، وأنّه باتّباعهم تحصل
ص: 262
النجاة والغفران ، وبالتخلّف عنهم يكون الهلاك ؛ وهو مقتضى الإمامة ..
ولذا جاء في الخبر : « عليّ باب حطّة ، من دخل منه كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان كافرا ».
ونقله في « الكنز » (1) ، عن الدارقطني ، عن ابن عبّاس.
* * *
ص: 263
قال المصنّف - طاب مرقده - (1) :
الثامن والعشرون : في « صحيح البخاري » ، في موضعين بطريقين ، عن جابر وابن عيينة ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (2).
وفي رواية عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لا يزال أمر الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (3).
وفي « صحيح مسلم » أيضا : « لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (4).
ص: 264
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » في موضعين ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (1).
وكذا في « صحيح أبي داود » (2) و « الجمع بين الصحيحين » (3).
وقد ذكر السّدّي في تفسيره - وهو من علماء الجمهور وثقاتهم (4) - ،
ص: 265
قال : « لمّا كرهت سارة مكان هاجر ، أوحى اللّه إلى إبراهيم فقال : انطلق بإسماعيل وأمّه حتّى تنزله بيت النبيّ التهاميّ - يعني : مكّة - ، فإنّي ناشر ذرّيّتك وجاعلهم ثقلا على من كفر بي ، وجاعل منهم نبيّا عظيما ، ومظهره على الأديان ، وجاعل من ذرّيّته اثني عشر عظيما ، وجاعل ذرّيّته عدد نجوم السماء » (1).
ص: 266
وقد دلّت هذه الأخبار على إمامة اثني عشر إماما من ذرّيّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولا قائل بالحصر إلّا الإمامية في المعصومين ، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (1).
* * *
ص: 267
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من الأحاديث الواردة في شأن اثني عشر خليفة ، فهو صحيح ثابت في « الصحاح » من رواية جابر بن سمرة.
وأمّا ابن عيينة فهو ليس بصحابيّ ولا تابعيّ ، بل يمكن أن يكون أحدا من سلسلة الرواة ؛ وهو من عدم معرفته بالحديث وعلم الإسناد يزعم أنّ ابن عيينة وجابر متقابلان في الرواية.
ثمّ ما ذكر من عدد اثني عشر خليفة ، فقد اختلف العلماء في معناه ..
فقال بعضهم : هم الخلفاء بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان اثنا عشر منهم ولاة الأمر إلى ثلاثمئة سنة ، وبعدها وقع الفتن والحوادث ، فيكون المعنى : أنّ أمر الدين عزيز في مدّة خلافة اثني عشر ، كلّهم من قريش.
وقال بعضهم : إنّ عدد صلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر ، وهم :
الخلفاء الراشدون - وهم خمسة - ، وعبد اللّه بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وخمسة أخر من خلفاء بني العبّاس ، فيكون هذا إشارة إلى الصلحاء من الخلفاء القرشية (2).
ص: 268
وأمّا حمله على الأئمّة الاثني عشر ؛ فإن أريد بالخلافة : وراثة العلم والمعرفة ، وإيضاح الحجّة ، والقيام بإتمام منصب النبوّة ، فلا مانع من الصحّة ، ويجوز هذا الحمل.
وإن أريد به الزعامة الكبرى ، والإيالة العظمى ، هذا أمر لا يصحّ ؛ لأنّ من اثني عشر اثنين كان صاحب الزعامة الكبرى ؛ وهما : عليّ وحسن ، والباقون لم يتصدّوا للزعامة الكبرى.
ولو قال الخصم : إنّهم كانوا خلفاء لكن منعهم الناس عن حقّهم.
قلنا : سلّمت إنّهم لم يكونوا خلفاء بالفعل ، بل بالقوّة والاستحقاق.
وظاهر أنّ مراد الحديث : أن يكونوا خلفاء قائمين بالزعامة والولاية ، وإلّا فما الفائدة في خلافتهم في إقامة الدين؟! وهذا ظاهر ، واللّه أعلم.
ص: 269
ثمّ إنّ كلّ ما ذكره من الآيات والأحاديث وأراد بها الاستدلال على وجود النصّ بالخلافة في شأن عليّ ، قد علمت أنّ أكثرها كان بعيدا عن المدّعى ، ولم يكن بينها وبين المدّعى نسبة أصلا.
وما كان مناسبا فقد علمت أنّه لا يدلّ على النصّ ، فلم يثبت بسائر ما أورده مدّعاه ، فأيّ فائدة في قوله : « والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى »؟!
* * *
ص: 270
لا يخفى أنّ التقابل بين جابر وابن عيينة لا يتوقّف على كونهما صحابيّين ، بل يتوقّف على انتهاء السلسلة إليهما ؛ غاية الأمر أن تكون رواية ابن عيينة مرسلة ، وهو كثير في أخبار صحاحهم!
ولم أعثر في مراجعتي ل « صحيح البخاري » إلّا على رواية واحدة في آخر « كتاب الأحكام » ، عن جابر ، قال : سمعت النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول : يكون اثنا عشر أميرا ؛ فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه قال : كلّهم من قريش (1).
وحكى في « ينابيع المودّة » (2) عن كتاب « العمدة » ، أنّ البخاري روى الحديث من ثلاثة طرق.
ولا ريب أنّ المراد به : أئمّتنا ؛ لأمور :
الأوّل : إنّه لو لا إرادتهم ، لكان الخبر كاذبا إن أراد جميع أمراء قريش ، وغير مفيد بظاهره إن أراد البعض.
الثاني : إنّ بعض أحاديث المقام يفيد بظاهره وجود الاثني عشر في تمام الأوقات بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى قيام الساعة ، وهو لا يتمّ إلّا على إرادة أئمّتنا ؛ كخبر مسلم في أول « كتاب الإمارة » ، عن جابر ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ، أو
ص: 271
يكون عليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش » (1).
ومثله في « مسند أحمد » (2).
وكخبر مسلم - أيضا - ، عن جابر : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » (3).
الثالث : ما رواه مسلم في المقام المذكور ، عن عبد اللّه ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان » (4).
ورواه البخاري في أوّل « كتاب الأحكام » ، في « باب الأمراء من قريش » (5).
ورواه أحمد ، عن ابن عمر (6).
فإنّ المراد به : حصر الإمامة الشرعيّة في قريش ما دام الناس ، لا السلطة الظاهريّة ، ضرورة حصولها لغير قريش في أكثر الأوقات ، فيكون قرينة على أنّ المراد من الحديث الأوّل : حصر الخلفاء الشرعيّين في اثني عشر ، وهو لا يتمّ إلّا على مذهبنا.
الرابع : ما رواه أحمد (7) ، عن مسروق ، قال : كنّا جلوسا عند
ص: 272
عبد اللّه بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن! هل سألتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كم يملك هذه الأمّة من خليفة؟
فقال عبد اللّه : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك.
ثمّ قال : نعم ، ولقد سألنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل ».
وروى نحوه أيضا بعد قليل (1).
وذكره ابن حجر وحسّنه في « الصواعق » (2).
فإنّه دالّ على انحصار الخلافة في اثني عشر ، وإنّهم خلفاء بالنصّ ؛ لقوله صلی اللّه علیه و آله : « كعدّة نقباء بني إسرائيل » ، فإنّ نقباءهم خلفاء بالنصّ ، لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) (3).
مع أنّ سؤال الصحابة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما هو عن خلفائه بالنصّ ، لا بتأمير الناس أو بالتغلّب ؛ إذ لا يهمّ الصحابة السؤال عن ذلك ؛ لأنّ تأمير الناس وتغلّب السلاطين لا يبتني عادة على الدين حتّى يهمّ الصحابة السؤال عنه ؛ ولأنّ السلاطين بلا نصّ لا يحتاج إلى السؤال عنهم وعن عددهم ؛ لأنّ العادة جرت على وجود مثلهم وأنّهم لا ينحصرون بعدد.
فظهر أنّ السؤال إنّما هو عن الخلفاء بالنصّ ، وعنهم أجاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
ص: 273
ولا قائل بأنّ الخلفاء اثنا عشر بالنصّ غير أئمّتنا علیهم السلام ، فيكونون هم المراد بالاثني عشر في هذا الحديث ، فكذا في الحديث السابق (1).
الخامس : إنّ المنصرف من الخليفة من استخلفه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، خصوصا قبل حدوث دعوى حصول الخلافة بلا نصّ ، بل لا يتصوّر الصحابة وكلّ العقلاء أن يتركهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا إمام منصوب منهم ، حتّى يسألوا عن غيره أو الأعمّ منه ، أو يفهموا من إخباره إرادة الغير أو الأعمّ.
فلا بدّ أن يراد بالاثني عشر في الحديثين ، أئمّتنا ، فهم أئمّة الأمّة بالفعل ، ولهم الزعامة العظمى الإلهيّة عليها.
ولا يضرّ في إمامتهم الفعليّة عدم نفوذ كلمتهم ؛ لأنّ معنى إمامتهم وولايتهم أنّهم يملكون التصرّف وإن منعهم الناس ، كالأنبياء المقهورين ، فإنّهم ولاة الأمر وإن تغلّب عليهم الظالمون.
وكما أنّه لا يصحّ أن يقال : لا فائدة في نبوّة النبيّ الممنوع عن التصرّف ؛ لا يصحّ أن يقال : لا فائدة في إمامة الإمام الممنوع عنه.
فإنّ الفائدة لا تنحصر بالتصرّف ؛ لكفاية أن يكون بهم إيضاح الحجّة وإنارة المحجّة ونشر العلم.
بل لو لم يتمكّنوا حتّى من هذا لحبس أو نحوه ، ففائدتهم أنّ وجودهم حجّة لله على عباده ، ودافع لعذرهم ، كما قال سبحانه في شأن الرسل : ( لِئَلأَيَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (2).
ص: 274
فكما أنّ النبيّ حجّة لم تبطل نبوّته بحبسه أو غيبته ؛ كما غاب نبيّنا في الغار ، وغاب موسى عن قومه ، فكذا الإمام ، ولا أثر لطول الغيبة أو قصرها في الفرق.
وأمّا الحملان اللذان ذكرهما الفضل - أعني : إرادة من لم تقع الفتن في أيّامهم ، أو الخلفاء الصلحاء - ، فيرد عليهما :
أوّلا : إنّ المراد بهذه الأخبار ، دوام الإسلام وعزّته إلى آخر الدنيا الذي تنتهي به الأئمّة الاثنا عشر - كما سبق - ، لا أنّ المراد : انتهاء عزّة الإسلام في قليل من السنين ويسير من الخلفاء.
وثانيا : إنّ ظاهر هذه الأخبار اتّصال عزّة الإسلام في مدّة خلافة الاثني عشر ، فلا يتّجه حمله على المتفرّقين.
ودعوى إرادة المجتمعين باطلة ؛ فإنّها لا تجامع أحد الحملين ..
أمّا الأوّل ؛ فلكثرة الفتن في أيّام الاثني عشر بمبدإ الإسلام.
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ من الخلفاء - في مبدإ الإسلام - يزيد بن معاوية وعبد الملك وأشباههما ، ممّن هم غير صلحاء بالاتّفاق.
وكيف يصحّ أن يقال : إنّ الدين قائم في أيّام معاوية ؛ وهو قد ألحق العهار بالنسب علانية (1) ، وحارب الحقّ جهرة (2) ، وقتل خيار عباد اللّه
ص: 275
وفي أيّام يزيد وعبد الملك ؛ وقد هدما الكعبة (1) ، وهتكا حرمة اللّه ورسوله ، ولم يتركا لله محرّما إلّا فعلاه ، ولا حرمة إلّا أضاعاها (2) ، والناس
ص: 277
لهما أعوان ، وبهم قام لهما السلطان؟!
فأين الإسلام وعزّته؟! وأين الدين وقيامه؟!
وثالثا : إنّ الحمل الأوّل لا يناسب عدد الاثني عشر ؛ لأنّ من لم تقع الفتن في أيّامهم أضعاف هذا العدد.
والحمل الثاني مناف لأخبارهم ؛ لإفادتها أنّ خلافة الصلحاء منحصرة في ثلاثين سنة ..
روى الحاكم في « المستدرك » (1) ، عن سفينة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « خلافة النبوّة ثلاثون سنة ».
وقال ابن حجر في « الصواعق » (2) : « الحادي عشر : أخرج أحمد ، عن سفينة ، وأخرجه أيضا أصحاب السنن ، وصحّحه ابن حبّان وغيره ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : الخلافة ثلاثون عاما ، ثمّ يكون بعد ذلك الملك.
وفي رواية : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ تصير ملكا عضوضا ».
ص: 278
فكيف يصحّ عندهم حمل الخلفاء الاثني عشر على الصلحاء؟!
على أنّ الحكم بصلاح من زعمهم من الصلحاء باطل ؛ لما ستعرف في الجزء الثالث (1).
وأمّا ابن عبد العزيز (2) ؛ فيكفيه أنّه من الشجرة الملعونة في القرآن (3) ، الّذين رآهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينزون على منبره نزو القردة ،
ص: 279
فساءه ذلك ولم ير ضاحكا بعدها (1).
وأمّا ابن الزبير ؛ فهو من أبعد الناس عن الخلافة والصلاح ..
روى مسلم في باب ذكر كذّاب ثقيف ومبيرها من « كتاب الفضائل » ، أنّ ابن عمر لمّا مرّ على ابن الزبير وهو مقتول قال : « أما واللّه لأمّة أنت أشرّها لأمّة خير » (2).
وهذه شهادة من ابن عمر أنّ ابن الزبير شرّ الأمّة.
وروى البخاري في « كتاب الفتن » ، في باب « إذا قال عند قوم شيئا ثمّ خرج فقال بخلافه » ، عن أبي برزة الأسلمي ، أنّه حلف باللّه إنّ ابن الزبير إن يقاتل إلّا على الدنيا (3).
وروى أحمد في « مسنده » (4) ، أنّ عثمان بن عفّان لمّا قال له عبد اللّه ابن الزبير : هل لك أن تتحوّل إلى مكّة؟! قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يلحد بمكّة كبش من قريش اسمه عبد اللّه ، عليه مثل نصف أوزار الناس ».
وروى أحمد أيضا (5) : عن سعيد بن عمرو ، قال : أتى عبد اللّه بن عمر ابن الزبير وهو جالس في الحجر ، فقال : يا بن الزبير! إيّاك والإلحاد
ص: 280
في حرم اللّه! فإنّي أشهد لسمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يحلّها ويحلّ به رجل من قريش ، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثّقلين لوزنها ».
وروى البخاري في تفسير سورة « براءة » (1) ، عن ابن عبّاس ، قال : إنّ اللّه كتب ابن الزبير وبني أميّة محلّين.
أقول :
هو من أكبر الذنوب ؛ فقد روى البخاري في « كتاب البيوع » (2) ، عن ابن عبّاس ، أنّ رسول اللّه قال : « إنّ اللّه حرّم مكّة ، ولم تحلّ لأحد قبلي ، ولا لأحد بعدي ، وإنّما حلّت لي ساعة من نهار ».
ورواه أيضا في « كتاب المغازلي » وغيره (3).
وقال في « الاستيعاب » بترجمة ابن الزبير : كان فيه خلال لا تصلح معها الخلافة ؛ فإنّه كان بخيلا ، ضيّق العطن (4) ، سيّئ الخلق ، حسودا ، كثير الخلاف (5).
وقال ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (6) : « كان شديد البخل ، يطعم الجند تمرا ويأمرهم بالحرب ، فإذا فرّوا من وقع السيوف لامهم
ص: 281
وقال : أكلتم تمري وعصيتم أمري ».
وذكر المؤرّخون أشياء كثيرة تشهد بفسقه وسوء ذاته ، كتركه الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أربعين جمعة قائلا : إنّ له أهيل سوء (1)!
وكفاك من فسقه حربه لمن حربه حرب لله ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، ومن نفاقه بغضه الشديد له ، وقد مرّ مرارا أنّ بغض عليّ علامة النفاق (2).
هذا في ما انتخبه من خلفائهم وزعم أنّهم من أهل الصلاح ، فكيف حال غيرهم؟!
ولا أفسد من مذهب يلتزم أهله بعدم صلاح من تجب طاعتهم طول الدهر سوى اثني عشر ، فتدبّر!
* * *
ص: 282
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
المبحث الخامس : في ذكر بعض الفضائل التي تقتضي وجوب إمامة أمير المؤمنين علیه السلام .
هذا باب لا يحصى كثرة.
روى أخطب خوارزم من الجمهور ، بإسناده إلى ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو أنّ الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب » (2).
فمن يقول عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل هذا ، كيف يمكن ذكر فضائله؟!
لكن لا بدّ من ذكر بعضها ؛ لما رواه أخطب خوارزم أيضا ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه جعل لأخي عليّ فضائل لا تحصى كثرة ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّا بها ، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه
ص: 283
وما تأخّر.
ومن كتب فضيلة من فضائله ، لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم.
ومن استمع إلى فضيلة من فضائله ، غفر اللّه له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع.
ومن نظر إلى كتاب من فضائله ، غفر اللّه له الذنوب التي اكتسبها بالنظر.
ثمّ قال : النظر إلى عليّ عبادة ، وذكره عبادة ، ولا يقبل اللّه إيمان عبد إلّا بولايته والبراءة من أعدائه » (1).
* * *
وقد ذكرت في كتاب « كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين » ، أنّ الفضائل ..
إمّا قبل ولادته : مثل ما روى أخطب خوارزم - من علماء الجمهور - ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمّا خلق اللّه آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم ، فقال : الحمد لله ؛ فأوحى اللّه تعالى إليه : حمدني عبدي ، وعزّتي وجلالي لو لا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدّنيا ما خلقتك.
ص: 284
قال : إلهي فيكونان منّي؟
قال : نعم يا آدم ، ارفع رأسك وانظر!
فرفع رأسه فإذا مكتوب على العرش : لا إله إلّا اللّه ، محمّد نبيّ الرحمة ، وعليّ مقيم الحجّة ، من عرف حقّ عليّ زكا وطاب ، ومن أنكر حقّه لعن وخاب.
أقسمت بعزّتي وجلالي ، أن أدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني ، وأقسمت بعزّتي ، أن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني » (1).
والأخبار في ذلك كثيرة (2).
* * *
ص: 285
وقال الفضل (1) :
لا يشكّ مؤمن في فضائل عليّ بن أبي طالب ، ولا في فضائل أكابر الصحابة ، كالخلفاء ؛ فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد خصّ كلّ واحد منهم بالفضائل التي كانت فيه ، وهي مذكورة في كتب الصحاح.
وكما إنّ هذا الرجل يذكر فضائل أمير المؤمنين من كتب أصحابنا ، كذلك كلّ على حسب مرادهم يذكرون فضائل من يريدون من الخلفاء الراشدين.
ولكن يشترط في ذكر الفضائل ، أن يروى من الصحاح المعتبرة ، ومن العلماء الّذين اعتمدهم الناس ، ويكونوا (2) صاحب قول مقبول ، ويعرفون سقيم الأخبار من صحيحها ، وجيّدها من رديئها ، ومقبولها من مردودها.
فإنّ الممارس لفنّ الحديث ، المبالغ في التتبّع والاقتفاء ، لا يخفى عليه صحّة الحديث ، وضعفه ، ووضعه ؛ فإنّ المنكر (3) والشاذّ (4) معلومان موسومان بوسم الشذوذ ؛ لأنّها غير المألوفة مثل هذه الأحاديث.
ص: 286
والأخبار التي يرويها عن أخطب خوارزم أثر النكر والوضع ظاهر عليها ، بحيث لا يخفى على المتدرّب في فنّ الحديث.
فإنّ هذه المبالغة التي نسبها للنبيّ في فضائل عليّ بقوله : « لو أنّ الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب » لا يخفى على الماهر في فنّ الحديث أنّ هذا ليس من كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ولينصف المنصف المتدرّب في معرفة الأخبار ، أنّ من شأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبالغ مثل هذه المبالغة في مدح أحد من المخلوقين ، وهذا من أوصاف الخالق ، ( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ) (1)؟!
ثمّ إنّ لفظ « الفضائل » لا يوجد في كلمات النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومحال أن يحكم المحدّث أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله تكلّم بلفظ « الفضائل » ، فإنّ هذا من ألفاظ المحدثين المولّدين وليس من كلام العرب.
والمحدّث لا يخفى عليه أنّ هذا موضوع ، وأكثر ما ذكر من مناقب الخوارزمي موضوعات.
وأمّا الحديث الذي رواه الخوارزمي عن ابن مسعود ، وهو أنّ اللّه خلق آدم لأجل محمّد وعليّ ، وأنّ العاصي لله إن أطاع عليّا فهو من أهل النجاة ، والمطيع بعد أن عصى عليّا فهو من أهل النار (2) ، فقد تحتّم الحكم بأنّه من الموضوعات ؛ لأنّه مخالف لحكم الشرع ، فإنّ عليّا عبد من عباد
ص: 287
اللّه تعالى ، وهو ليس بأكرم على اللّه من محمّد ، ومن اعتقد أنّ عليّا أكرم على اللّه من محمّد فهو كافر باللّه العظيم ، ولا يرتاب في هذا أحد من المؤمنين.
ومحمّد لا يمكن أن يدّعى فيه أنّ من أطاعه وعصى اللّه فهو من أهل النجاة ؛ لأنّ طاعة اللّه وطاعة رسوله واحد ، فكيف يمكن الدعوى أنّ من أطاع عليّا وإن عصى اللّه فهو من أهل النجاة؟!
وهذا من موضوعات غلاة الرفضة ، ذكره هذا الرجل الرافضي ، ولا اعتداد بهذا النقل ولا اعتبار.
ثمّ إنّ كلّ ما يذكره من هذه الفضائل - وإن صحّ - لا يدلّ على وجوب إمامته ، كما لا يخفى.
* * *
ص: 288
يرد عليه أمور :
الأوّل : إنّ قوله : « كلّ على حسب مرادهم يذكرون فضائل من يريدون ... » إلى آخره ..
خطأ ظاهر ؛ لأنّ ذكرنا لفضائل أمير المؤمنين علیه السلام من كتبهم يفيدنا حجّة عليهم ، بخلاف ذكرهم لفضائل أصحابهم من كتبهم ؛ فإنّه لا يفيدهم حجّة علينا ، لا سيّما مع معارضتها بما في كتبهم من مطاعنهم.
الثاني : إنّ قوله : « ولكن يشترط في ذكر الفضائل أن يروى من الصحاح ... » إلى آخره ..
مخالف لما ذكره ابن حجر في أوائل الفصل الأوّل من كتابه المسمّى ب « تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوّه بثلب معاوية بن أبي سفيان » ، قال بعد نقل حديث في فضل معاوية : « فإن قلت : هذا الحديث المذكور سنده ضعيف ، فكيف يحتج به؟!
قلت : الذي أطبق عليه أئمّتنا الفقهاء والأصوليّون والحفّاظ أنّ الحديث الضعيف حجّة في المناقب » (1).
ثمّ إنّه إن أراد بالصحاح : صحاحهم الستّة ، فهو ظاهر البطلان ؛ إذ ليست الرواية عنها شرطا في الأحكام فضلا عن الفضائل.
وإن أراد بها الأخبار الصحيحة - وإن لم توجد في صحاحهم الستّة ،
ص: 289
كالأخبار التي استدركها الحاكم في « المستدرك » ، ورواها الضياء في « المختارة » - فهو أيضا باطل ؛ إذ ليست الفضائل بأعظم من الأحكام.
وقد اكتفوا في ثبوتها بغير الأخبار الصحيحة ؛ لعدم انحصار الحجّة بها ؛ فإنّ الخبر الحسن كاف في الثبوت ، وكذا الخبر الكثير الطرق ؛ فإنّ الأخبار إذا كثرت في معنى واحد ، قوّى بعضها بعضا ، وصارت حجّة وإن كان سند كلّ منها ضعيفا.
ونحن كما رأيت نذكر كثيرا من أخبار الصحاح الستّة ، ومستدرك الحاكم ، ومسند أحمد ، ونحوها من كتبهم المعتبرة عندهم ، ونذكر غيرها ممّا يؤيّد بعضها بعضا ، أو قامت قرينة على قوّتها ، والجميع حجّة عليهم.
الثالث : إنّ ما جعله أمارة للوضع - من المبالغة الواقعة في ما حكى عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله - لا محلّ له ؛ إذ لا مبالغة فيه ، ولا سيّما إذا أريد عدم إحصاء الثواب على فضائله ، لا عدم إحصاء أنفسها ، فإنّ من كان عبارة عن الإيمان كلّه وله ضربة واحدة تعدل عبادة الثّقلين ، لا يكون ذلك مبالغة في حقّه.
وهل يكون ذلك مبالغة في من هو نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأخوه ، وعديل القرآن؟!
على أنّهم رووا نحو ذلك في حقّ الشيخين ، وما حكموا بوضعه! فقد نقل ابن حجر في « الصواعق » (1) ، عن أبي يعلى ، عن عمّار بن ياسر ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أتاني جبرئيل آنفا فقلت : يا جبرئيل! حدّثني بفضائل عمر بن الخطّاب.
ص: 290
فقال : لو حدّثتك بفضائل عمر منذ لبث نوح في قومه ما نفدت فضائل عمر ، وإنّ عمر حسنة من حسنات أبي بكر ».
ومن أعجب العجب روايتهم لهذا الحديث عن عمّار ، وهم يعلمون انحرافه عن خلفائهم وسوء رأيه فيهم ، فلو رووه عن غيره لكان أولى لهم!
ومن هذا الحديث ونحوه ، يعلم وجود لفظ « الفضائل » عندهم في ما نسبوه إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وقد روى أحمد في « مسنده » (1) ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله حديثا قال في آخره : « وركعتا الفجر حافظوا عليهما ، فإنّهما من الفضائل » (2).
ص: 291
الرابع : إنّ قوله : « هذا من أوصاف الخالق » ..
لا يعرف له معنى ، ولعلّه يريد أنّ اللّه جلّ وعلا يوصف بأنّه متكلّم بكلمات لا تنفد بنفاد البحر ، فكيف يقال : إنّ عليّا متّصف بفضائل لا تحصى وإن كان البحر مدادا؟!
وفيه ما لا يخفى.
الخامس : إنّ قوله : « أكثر ما ذكر من ( مناقب الخوارزمي ) موضوعات » ..
دعوى بلا دليل ، وطعن مجمل غير مقبول.
السادس : إنّ حكمه بوضع حديث ابن مسعود خطأ ، ويعلم وجهه بعد بيان مقدّمة ، فنقول :
لا شكّ أنّ الإقرار باللّه وبنبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله شرط للإيمان ، وكذا الإقرار بإمامة عليّ علیه السلام ؛ بناء على أنّ إمامته بنصّ اللّه ورسوله ، وأنّها كالنبوّة ، أصل من أصول الدين ، لكنّ الإقرار بها فرع الإقرار باللّه ورسوله ، ومن أقرّ بها تمّ إيمانه ، ومن لم يقرّ بها كان ناقص الإيمان وإن أقرّ باللّه ورسوله.
فإذا عرفت هذا ، عرفت أنّ من أطاع عليّا عارفا بحقّه - كما هو المراد بالحديث - كان مؤمنا مطيعا لله ورسوله بطاعة عليّ علیه السلام ؛ لأنّ طاعته له - بما هو إمام من اللّه تعالى - مستلزمة للإيمان بهما وطاعتهما ، فيكون صالحا لدخول الجنّة وإن عصى اللّه في بعض الأحكام ، وعصى بها عليّا
ص: 292
أيضا ؛ لأنّ عصيانه - حينئذ - عصيان مؤمن أهل للغفران.
كما أنّ من عصى عليّا جاحدا لإمامته ، عاص لله ورسوله ، ومحلّ لدخول النار وإن أطاعهما في الظاهر (1) ؛ لأنّ طاعته لهما ليست طاعة مؤمن حتّى تكون مقبولة ، كمن أطاع اللّه في الظاهر وعصى رسول اللّه جاحدا لرسالته ، كأهل الكتاب.
فصحّ ما في الحديث من قوله سبحانه : « أقسمت أن أدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني ، وأن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني » (2) أي في الظاهر.
كما يصحّ القول بأنّ من أطاع عليّا كان من أهل النجاة والجنّة ، وإن عصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنّ من عصى عليّا كان من أهل النار وإن أطاع رسول اللّه في الظاهر.
وذلك كلّه لا ينافي أكرميّة محمّد صلی اللّه علیه و آله من عليّ علیه السلام ، كما هو ظاهر.
وبالجملة : المراد بالحديث : أنّ من أطاع اللّه في الظاهر ، وعصى عليّا منكرا لحقّه ، فهو من أهل النار ؛ لعدم إيمانه.
وأنّ من أطاع عليّا عارفا بحقّه ، فهو من أهل الجنّة ، وإن عصى اللّه في بعض الفروع ؛ لأنّ عصيانه عصيان مؤمن ، فيكون أهلا للمغفرة والرحمة.
فذلك إشارة إلى إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وأنّ الإقرار بها شرط للإيمان ، وأنّه لا عبرة بطاعة المسلمين ظاهرا الّذين لم يقرّوا بالنصّ
ص: 293
على عليّ علیه السلام واتّبعوا غيره وعصوه ، وإن كانت طاعة اللّه ورسوله وخليفته في الواقع واحدة ، ومعصيتهم الواقعيّة معصية واحدة.
ويشهد لإرادة الإمامة من الحديث ، وصفه لعليّ في ما كتب على العرش ، بأنّه مقيم الحجّة في عرض وصف اللّه تعالى بالوحدانية ، ومحمّد بالنبوّة (1) ، فإنّه من أوضح ما يدلّ على الإمامة!
مضافا إلى تصريحه بأنّ محمّدا وعليّا علّة لخلق ادم ؛ فإنّه دليل الفضل على آدم ، فضلا عن الأمّة.
فلا بدّ أن يكون عليّ سيّدها وإمامها ، بل علّة خلقها بالأولويّة ، كما قال علیه السلام في « نهج البلاغة » بكتابه إلى معاوية : « نحن صنائع اللّه ، والناس بعد صنائع لنا » (2).
ثمّ إنّ الخبرين الأوّلين ظاهران أيضا في إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لاقتضائهما فضله على غيره ، مع تصريح ثانيهما بأنّ اللّه تعالى لا يقبل إيمان عبد إلّا بولايته والبراءة من أعدائه ، كما هو شأنّ الإمام ؛ ولذا كان بغضه علامة النفاق.
هذا ، وقد نقل الذهبيّ هذين الخبرين في « ميزان الاعتدال » بترجمة محمّد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان ، عن نور الهدى أبي طالب الزيني ، ثمّ قال بعد الخبر الثاني : « هذا من أفظع ما وضع ، ولقد ساق خطيب خوارزم من طريق هذا الدجّال ابن شاذان أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب عليّ ؛ من ذلك بإسناد مظلم ، عن مالك ، عن
ص: 294
نافع ، عن ابن عمر ، مرفوعا : من أحبّ عليّا أعطاه اللّه بكلّ عرق في بدنه مدينة في الجنّة » (1).
وهذه المؤاخذة لابن شاذان ، إنّما هي لروايته في فضل أمير المؤمنين ما لا يتحمّله اعتقاد الذهبيّ فيه ، وإلّا فالرجل لا ذنب له سواه.
وقد عرفت في مقدّمة الكتاب ، أنّ رواية الشخص لفضائل أمير المؤمنين دليل على وثاقته ، ولا فظاعة ولا ركاكة في هذه المناقب التي يسطع من خلالها نور إمامة المرتضى عند من عرف بعض حقّه (2).
وقد نقل سبط ابن الجوزي في أوائل « تذكرة الخواصّ » نحو أوّل الحديثين ، عن ابن عبّاس (3).
ونقله في « ينابيع المودّة » ، في الباب السادس والخمسين ، آخر المناقب السبعين (4) ، التي حكاها عن كتاب إمام الحرم الشريف بمكّة أبي جعفر أحمد بن عبد اللّه الطبري الآملي الشافعي (5) ، رواه عن الديلمي
ص: 295
في « الفردوس » (1).
وأمّا الحديث الثاني ، فأكثر مضامينه قد وردت من عدّة طرق ، ولا سيّما قوله : « النظر إلى عليّ عبادة » ، فإنّه ورد مستفيضا بلفظه ، أو بلفظ : « النظر إلى وجه عليّ عبادة » (2).
وقد أخرجه الحاكم في « المستدرك » (3) ، بطريق عن عمران بن حصين ، وطريقين عن ابن مسعود ، وصحّحها جميعا ، وتعقّبه الذهبي بعد حديث عمران ، وأحد حديثي ابن مسعود بقوله : « ذا موضوع » ، ولم يذكر له علّة!
وغاية ما يوجّه به : دعوى أنّ بعض رجال الحديثين ضعيف ، وهو لا يستوجب الوضع ، ولا سيّما مع الإقرار بصحّة الحديث الثالث.
ص: 296
وقد سبقه إلى دعوى الوضع إمامه في النصب ابن الجوزي (1) ،
ص: 297
كما ذكره السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، مع أنّ ابن الجوزي ذكر له سبعة عشر طريقا ، عن أبي بكر ، وعثمان ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وابن عبّاس ، وجابر ، وأبي هريرة ، وأنس وثوبان ، وعمران ، وعائشة ؛ واحتجّ للوضع بضعف بعض رواة بعضها ، والجهل بآخرين.
وتعقّبه السيوطي بالجواب عن بعض من طعن بهم ، وبإخراج عشرة طرق أخرى عن كثير من هؤلاء الصحابة ، منها روايات الحاكم الثلاث (1).
وليت شعري ، كيف يكون الحديث موضوعا مع استفاضة طرقه وصحّة بعضها؟!
ص: 298
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
وإمّا حال ولادته ..
فإنّه ولد يوم الجمعة ، الثالث عشر من شهر رجب ، بعد عام الفيل بثلاثين سنة ، في الكعبة ، ولم يولد فيها أحد سواه قبله ولا بعده (2).
وكان عمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثين سنة (3) ، فأحبّه وربّاه ، وكان يطهّره وقت غسله ، ويوجره (4) اللبن عند شربه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ، ويقول : هذا أخي ، ووليّي ، وناصري ، وصفيّي ، وذخري ، وكهفي ، وصهري ، وزوج كريمتي ، وأميني على وصيّتي ، وخليفتي.
وكان يحمله دائما ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها.
رواه صاحب كتاب « بشائر المصطفى » من الجمهور (5).
ص: 300
وقال الفضل (1) :
المشهور بين الشيعة أنّ أمير المؤمنين ولد في الكعبة ، ولم يصحّحه علماء التواريخ ، بل عند أهل التواريخ أنّ حكيم بن حزام ولد في الكعبة ، ولم يولد فيها غيره.
وأمّا ما ذكره من أحوال النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالنسبة إليه في صغره ، فلا يصحّ به نقل إلّا ما ذكره.
ولا ردّ عليه إلّا في قوله : « وخليفتي » إن أريد به الخلافة بعده ..
وإن أريد أنّه من الخلفاء ، فهذا صحيح لا شكّ فيه.
* * *
ص: 301
يكفي في الجزم بولادة أمير المؤمنين علیه السلام بالكعبة ، موافقة بعض الجمهور فيها ، وروايتهم لها (1) ، فإنّها منقبة تنكرها أسماع أعداء فضله ، وتتداعى لدرسها نفوس حسّاد مجده ؛ إذ بها الشرف الأعلى ، والدلالة على أنّه محلّ عناية اللّه سبحانه من يوم ولادته ، وأنّه قد طهّره بطهارته ، حتّى جعل مولده أعظم بيوت عبادته.
فإذا رواه واحد منهم كانت حجّة عليهم ، فكيف وقد ادّعى الحاكم في « المستدرك » تواترها؟! ..
فإنّه روى (2) في مناقب حكيم ، عن مصعب بن عبد اللّه ، أنّ أمّ حكيم ولدته في الكعبة ، ضربها المخاض وهي في جوفها فولدته فيها ، وحملت في نطع (3).
قال مصعب : ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد.
فقال الحاكم : « وهم مصعب في الحرف الأخير ، فقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه
ص: 302
في جوف الكعبة ».
وأقول :
الحقّ أنّ حكيما لم يولد في الكعبة ، لكنّ المنحرفين عن الإمام المطهّر ذكروا ذلك لينقضوا فضله!
فعن ابن الصبّاغ المالكي ، في كتابه « الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة » ، ص 14 ، قال : « لم يولد أحد قبله في البيت سواه » (1).
ونحوه عن الكنجي الشافعي ، في كتابه « كفاية الطالب » ، ص 361 (2).
ص: 303
وعن الشّبلنجي ، في « نور الأبصار » ، ص 76 (1).
ومحمّد بن طلحة الشافعي ، في كتابه « مطالب السؤول » ، ص 11 (2).
ص: 304
ولو سلّم ولادة حكيم بالكعبة ، فهي من باب الاتّفاق ، كما يدلّ عليه خبر ولادته ، لا لكرامة له ، فإنّه من مسلمة الفتح ، ومن المؤلّفة قلوبهم ، كما ذكره في « الاستيعاب » (1).
وهذا بخلاف ولادة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فإنّها كجنابته في المسجد ، من طهارته وعناية اللّه به ، كما يشهد له ما رواه صاحب كتاب « بشائر المصطفى » على ما حكاه عنه في « كشف الغمّة » ، قال :
ومن « بشائر المصطفى » ، مرفوعا إلى يزيد بن قعنب ، قال : كنت جالسا مع العبّاس بن عبد المطّلب وفريق من بني عبد العزّى بإزاء بيت اللّه الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين علیه السلام ، وكانت حاملا به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق ، فقالت : يا ربّ! إنّي مؤمنة بك ، وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل ، وإنّه بنى بيتك العتيق ، فبحقّ الذي بنى هذا البيت ، والمولود الذي في بطني ، إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي.
قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشقّ من ظهره ، ودخلت فاطمة فيه ، وغابت عن أبصارنا ، وعاد إلى حاله ، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أنّ ذلك من أمر اللّه تعالى.
ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
ثمّ قالت : إنّي فضّلت على من تقدّمني من النساء ؛ لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت اللّه سرّا في موضع لا يحبّ اللّه أن يعبد فيه إلّا اضطرارا.
ص: 305
وإنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطبا جنيّا.
وإنّي دخلت بيت اللّه الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها ، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف : يا فاطمة! سمّيه عليّا ، فهو عليّ ، واللّه العليّ الأعلى يقول : شققت اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذّن فوق ظهر بيتي ، ويقدّسني ، ويمجّدني ، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه ، وويل لمن أبغضه وعصاه (1).
ثمّ ذكر فعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله معه وقوله فيه ، كما ذكره المصنّف رحمه اللّه (2).
ونقل أيضا في « كشف الغمّة » خبر ولادته علیه السلام في الكعبة عن ابن المغازلي (3).
ورواه سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » (4).
ص: 306
وقال عبد الباقي العمري (1) مادحا لأمير المؤمنين علیه السلام [ من البسيط ] :
أنت العليّ الذي فوق العلى رفعا
ببطن مكّة وسط البيت إذ وضعا (2)
وقال الحميري (3) في مدحه علیه السلام ومدح والدته الطاهرة [ من
ص: 307
الكامل ] :
ولدته في حرم الإله وأمنه *** والبيت حيث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة *** طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غابت نحوس نجومها *** وبدت مع القمر المنير الأسعد
ما لفّ في خرق القوابل مثله *** إلّا ابن آمنة النبيّ محمّد (1)
وهذا كاشف عن معلومية ولادته بالكعبة في الصدر الأوّل ، كما هو كذلك في جميع الأوقات (2).
* * *
ص: 308
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه -(1) :
وإمّا بعد ولادته :
فأقسامها ثلاثة : نفسانية ، وبدنية ، وخارجية.
أمّا النفسانية : فينظمها مطالب :
لم يشرك باللّه طرفة عين ، ولم يسجد لصنم ، بل هو الذي كسر الأصنام لمّا صعد على كتف النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1) ..
( وهو أوّل الناس إسلاما ) (2) ؛ روى أحمد بن حنبل ، أنّه أوّل من أسلم ، وأوّل من صلّى مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3).
وفي « مسنده » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة : « أما ترضين أنّي
ص: 310
زوّجتك أقدم أمّتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما » (1).
وحديث الدار يدلّ عليه أيضا (2).
* * *
ص: 311
وقال الفضل (1) :
ما ذكر أنّ عليّا أوّل الناس إسلاما ، فهذا أمر مختلف فيه ، وأكثر العلماء على أنّ أوّل الناس إسلاما هو خديجة.
وقال بعضهم : أبو بكر.
وقال بعضهم : زيد بن حارثة.
وحاكم بعضهم فقال : أوّل الناس إسلاما من الرجال أبو بكر ، ومن الصبيان عليّ ، ومن النساء خديجة ، ومن العبيد زيد بن حارثة (2).
وقد حقّقنا هذا في « تلخيص كتاب كشف الغمّة ».
* * *
ص: 312
تعرّضه لتقدّم الإسلام خاصّة ، ظاهر في تسليمه ما عداه - ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه - ، وهو كاف في المطلوب ، ومن رام المناقشة في شيء من ذلك فقد كشف عن قصوره.
وأمّا ما ذكره من الخلاف في تقدّم إسلام أيّ الجماعة فلا يضرّنا ؛ لأنّا نحتجّ على الخصوم برواياتهم بلا حجّة لهم علينا.
بل يظهر من بعضهم الإجماع على تقدّم إسلام أمير المؤمنين علیه السلام ، كما ذكره ابن حجر في « الصواعق » (1) ، قال : « قال ابن عبّاس ، وأنس ، وزيد بن أرقم ، وسلمان الفارسي ، وجماعة : إنّه أوّل من أسلم ؛ ونقل بعضهم الإجماع عليه (2) ».
ويظهر من نفس الحاكم في « المستدرك » (3) دعوى الإجماع عليه ، فإنّه روى عن زيد بن أرقم : « إنّ أوّل من أسلم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّ ».
ص: 313
ثمّ قال : « هذا حديث صحيح الإسناد ، وإنّما الخلاف في هذا الحرف أنّ أبا بكر الصدّيق كان أوّل الرجال البالغين إسلاما ، وعليّ بن أبي طالب تقدّم إسلامه قبل البلوغ ».
فإنّ معنى هذا الكلام ، أنّ عليّا علیه السلام تقدّم إسلامه قبل البلوغ على الناس جميعا بلا خلاف ، وإنّما الخلاف في تقدّم إسلام أبي بكر على البالغين لا على عليّ علیه السلام (1).
وأمّا ما زعمه الفضل من المحاكمة ، فخطأ ؛ لأنّ حمل الأخبار المستفيضة في تقدّم إسلام عليّ على تقدّمه على الصبيان من المضاحك ، ولا يتفوّه به ذو رأي ؛ إذ أيّ صبيان أسلموا في ذلك الوقت حتّى يكون إسلام عليّ علیه السلام متقدّما لهم؟!
مع أنّ من جملة ما ورد في تقدّم إسلامه ، ما دلّ على تفضيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله له به على الأمّة ، كما في خطابه لفاطمة علیهاالسلام ، وما اشتمل على افتخار عليّ علیه السلام به على الناس (2) ، فإنّ التفضيل والافتخار إنّما يناسبان تقدّم إسلامه على جميع الأمّة ، لا على الصبيان لو فرض إسلامهم.
كما أنّ أكثر الأخبار صريح في سبق إسلامه على المسلمين جميعا (3).
ص: 314
على أنّ تلك المحاكمة لو صحّت في نفسها لم تمنع من تقدّم إسلام أمير المؤمنين علیه السلام على أبي بكر وخديجة وزيد ؛ لأنّ تقدّم إسلامهم على أمثالهم لا ينافي تقدّم إسلام صبيّ على إسلامهم ، كما صرّح بعض الأخبار بتقدّم إسلامه على إسلام أبي بكر (1).
والحقّ أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ولد مسلما مقرّا بشهادة : أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كالنبيّ ، فإنّهما معصومان طاهران من حين ولادتهما.
أترى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان غير مؤمن بربّه ، ولا عارفا بنبوّته ، كما يتخيّله الجاهلون ، حتّى زعموا أنّ خديجة وورقة علّماه نبوّته ، كما سبق في آخر « مباحث النبوّة » (2)؟!
كيف لا؟! وقد خلقهما اللّه سبحانه نورا واحدا قبل أن يخلق آدم كما مرّ (3) ..
وهما خيرة اللّه من أرضه ؛ روى الحاكم في « المستدرك » (4) ، عن أبي هريرة ، وصحّحه على شرط الشيخين ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أما ترضين أنّ اللّه اطّلع إلى أهل الأرض فاختار رجلين ، أحدهما أبوك ، والآخر بعلك ».
ص: 315
وحكاه في « كنز العمّال » (1) عن الحاكم ، عن أبي هريرة ؛ وعن الطبراني ، والحاكم ، والخطيب ، عن ابن عبّاس.
وحكى في « الكنز » أيضا - قبل هذا بحديث - ، عن الطبراني ، عن أبي أيّوب ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة : « أمّا علمت أنّ اللّه عزّ وجلّ اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلك ، فأوحى إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّا » (2).
وحكى في « الكنز » الحديث الأوّل أيضا (3) ، عن الخطيب ، وقال : « سنده حسن ».
ونقله ابن أبي الحديد (4) ، عن أحمد في « مسنده » (5).
فكيف يتصوّر في من اختاره اللّه تعالى من جميع بريّته - حتّى الأنبياء - أن لا يكون مؤمنا عالما بالحقّ حين ولادته ، وقد كان عيسى - وهما مختاران عليه - مؤمنا عالما بأنّه رسول اللّه ساعة الولادة؟!
وحينئذ ، فهل يمكن أن يسبق عليّا في الإسلام غيره ممّن نشأ على عبادة الأوثان؟!
وكيف يتصوّر أن يكون مسبوقا وقد امتاز على الناس بالصلاة قبلهم
ص: 316
بسبع سنين؟! ..
روى الحاكم في « المستدرك » (1) ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « إنّي عبد اللّه وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها أحد بعدي إلّا كاذب ، صلّيت قبل الناس بسبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة ».
ونقله في « الكنز » (2) ، عن ابن أبي شيبة ، والنسائي في « الخصائص » ، وأبي نعيم ، وغيرهم.
وروى الحاكم - بعد الحديث المذكور - ، أنّ عليّا علیه السلام قال : « عبدت اللّه مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة » (3).
ونقله في « الكنز » ، عن الحاكم وابن مردويه (4).
ونقل أيضا عن الطبراني ، وأحمد وأبي يعلى في « مسنديهما » ، والحاكم في « المستدرك » ، أنّ عليّا قال : « اللّهمّ ما أعرف أنّ عبدا لك من هذه الأمّة عبدك قبلي غير نبيّك - ثلاث مرّات - ، لقد صلّيت قبل
ص: 317
أن يصلّي الناس سبعا » (1).
... إلى غيرها من الأخبار (2).
وليت شعري ، كيف يدّعى أنّ أحدا أسبق من أمير المؤمنين علیه السلام في الإسلام ، وهو كان من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمنزلة هارون من موسى؟!
* * *
ص: 318
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
والناس كلّهم - بلا خلاف - عيال عليه في المعارف الحقيقية ، والعلوم اليقينيّة ، والأحكام الشرعيّة ، والقضايا النقليّة (2) ؛ لأنّه علیه السلام كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم ، وملازمته لرسول اللّه - وهو أشفق الناس عليه - ، لا ينفكّ عنه ليلا ولا نهارا ؛ فيكون بالضرورة أعلم من غيره.
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حقّه : « أقضاكم عليّ » (3)، والقضاء يستلزم العلم والدين.
وروى الترمذي في « صحيحه » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » (4).
ص: 319
وذكر البغوي في « الصحاح » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » (1).
* * *
ص: 320
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من علم أمير المؤمنين ، فلا شكّ أنّه من علماء الأمّة والناس محتاجون إليه فيه ، وكيف لا؟! وهو وصيّ النبيّ في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف ، فلا نزاع لأحد فيه.
وأمّا ما ذكره من صحيح الترمذي ، فصحيح.
وأمّا ما ذكره من صحاح البغوي ، فإنّه قال : « الحديث غريب ، لا يعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك ، وإسناده مضطرب » (2).
فكان ينبغي أن يذكر ما ذكروه من معائب الحديث ؛ ليكون أمينا في النقل.
* * *
ص: 321
لا يخفى ما في كلامه من التنافي ؛ لأنّ قوله : « إنّه من علماء الأمّة » يدلّ على أنّه فرد من جماعة لا فضل له عليهم ؛ وقوله : « كيف لا؟! وهو وصيّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف » يدلّ على فضله على غيره!
وقد استدلّ المصنّف رحمه اللّه على أعلميّة أمير المؤمنين بأمور :
الأوّل : « إنّه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم ... » إلى آخره.
وهو دليل إقناعي ، ذكره تقريبا إلى أذهان السامعين ، وإلّا فعلم أمير المؤمنين علیه السلام كعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله رشحة من الفيض الإلهي ، سوى إنّ علم عليّ علیه السلام بواسطة النبيّ ، وعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بواسطة جبرئيل.
فكما إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يحتاج في علمه إلى ملازمة جبرئيل ، فكذا عليّ لا يحتاج إلى ملازمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
كيف؟! وقد علّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مقام واحد ألف باب من العلم ، يفتح له من كلّ باب ألف باب (1)!
الثاني : إنّه قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أقضاكم عليّ » كما في
ص: 322
« الاستيعاب » بترجمة عليّ (1) ..
وفي « الصواعق » (2) ، نقلا عن الطبراني ، وأبي يعلى ، والعقيلي ، وابن عساكر ..
ورواه الحاكم في « المستدرك » (3).
وروى البخاري في تفسير قوله تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) من سورة البقرة (4) ، أنّ عمر قال : أقرأنا أبيّ ، وأقضانا عليّ (5).
ونحوه في « الاستيعاب » (6).
ووجه الاستدلال به ظاهر من كلام المصنّف رحمه اللّه .
الثالث : ما رواه الترمذي وذكره البغوي ، وقد سبق الكلام في سنده ودلالته في الحديث التاسع عشر (7).
ولا يفترق الحال بين الحديثين ، حيث قال في أحدهما : « أنا مدينة العلم » ، وفي الآخر : « أنا دار الحكمة » ؛ وذلك للتلازم بينهما ؛ فإنّ من يكون بابا لعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا بدّ أن تنكشف له وجوه الحكمة ، فيكون بابا لحكمته.
ص: 323
وإنّما لم يذكر المصنّف رحمه اللّه قول البغوي : « وإسناده مضطرب » ؛ لأنّ الاضطراب الذي أراده ، هو رواية بعضهم للحديث عن سويد (1) ، عن عليّ علیه السلام ؛ ورواية بعض آخر له عن سويد ، عن الصنابحي (2) ، عن عليّ علیه السلام ؛ وهو ليس بعيب في الحديث بعد اعتبار الصنابحي.
على أنّه لو كان عيبا ، لم يلزم التعرّض لمثله بعد استفاضة طرق الحديث ، وتصحيح جماعة من علمائهم لبعضها (3).
تنبيه :
لفظ الحديث في النسخة التي عندنا من صحيح الترمذي : « أنا دار الحكمة وعليّ بابها » (4) ، والمصنّف رحمه اللّه نقله بلفظ : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » ، وصحّح الفضل نقله (5) ، وقد نقله ابن حجر عن الترمذي باللفظين معا (6) ، فلعلّه رواه باللفظين في مقامين!
كما إنّ البغوي ذكر الحديث في « الحسان » لا في « الصحاح » ،
ص: 324
بحسب نسخة « المصابيح » (1) التي عندنا ، فيحتمل خطأها ، ويحتمل خطأ المصنّف رحمه اللّه ، والفضل - أيضا - بإقراره للمصنّف على نقله!
* * *
ص: 325
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
وفيه (2) : عن أبي الحمراء ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريّا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (3).
وروى البيهقي ، بإسناده إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (4).
* * *
ص: 326
وقال الفضل (1) :
خان في هذا النقل ؛ لأنّه ذكر أنّ في « صحاح البغوي » هذا الحديث ، وهذا كذب باطل ؛ فإنّ الحديث لم يذكره البغوي أصلا ، لا في « صحاحه » ولا في « حسانه » ، وأثر الوضع على هذا الحديث ظاهر.
ولا شكّ أنّه منكر - مع ما نسبه إلى البيهقي - ؛ لأنّه يوهم أنّ عليّ بن أبي طالب أفضل من هؤلاء الأنبياء ، وهذا باطل ؛ فإنّ غير النبيّ لا يكون أفضل من النبيّ.
وأمّا أنّه موهم لهذا المعنى ؛ لأنّه جمع فيه من الفضائل ما تفرّق في الأنبياء ، والجامع للفضائل أفضل ممّن تفرّق فيه الفضائل ، وأمثال هذا من موضوعات الغلاة ، وإن صحّ فيمكن حمله على أنّ له كمال هذه الفضائل.
* * *
ص: 327
لم يفهم الفضل مراد المصنّف رحمه اللّه ؛ فإنّ الضمير في قوله : « فيه » لو رجع إلى « صحاح البغوي » لقال : « وفيها ».
كما إنّه لا يرجع إلى « صحيح الترمذي » ؛ لعدم ذكره للحديث في مناقب عليّ علیه السلام ، ويبعد ذكره له في محلّ آخر.
فالظاهر أنّه راجع إلى « حقّه » في قول المصنّف سابقا : « وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حقّه » (1) ، وما أبعد الخيانة عن المصنّف رحمه اللّه !
ويحتمل سقوط حديث آخر نقله المصنّف من كتاب آخر ، فيعود الضمير إلى ذلك الكتاب ، ولا يبعد - على هذا - أنّه « مسند أحمد » ؛ فإنّ المصنّف رحمه اللّه ينقل عنه كثيرا ، وهو موجود فيه بحسب ما ذكره ابن أبي الحديد (2) ، وصاحب « ينابيع المودّة » (3) ، كما نقلاه أيضا عن البيهقي.
لكنّي لم أجده في « المسند » ، ولا يبعد أنّه من يد التصرّف!
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الحاكم ، أنّه أخرج عن أبي الحمراء مرفوعا : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، ونوح في فهمه ، وإبراهيم في حلمه ، ويحيى في زهده ، وموسى في بطشه ، فلينظر إلى عليّ » (4).
ص: 328
ونقل عن ابن الجوزي ، أنّه قال : « موضوع » ؛ متعلّلا باشتمال سنده على أبي عمر الأزدي ، وهو متروك (1).
وتعقّبه السيوطي بأنّ له طريقا آخر عن أبي سعيد ، أخرجه ابن شاهين في « السنّة » عنه ، قال : كنّا حول النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأقبل عليّ ، فأدام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله النظر إليه ، ثمّ قال : « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في حكمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، فلينظر إلى هذا » (2).
ونقل السيوطي طريقا آخر لابن شاهين عن أبي الحمراء (3).
فعليه يكون الحديث كثير الطرق ومعتبرا ، وإن فرض ضعف كلّ من أسانيده (4) ، مع أنّه قد رواه صاحب « المواقف » وما أعلّ سنده هو ولا الشارح (5).
ولا يضرّ اختلاف خصوصيّاته بحذف بعض الأنبياء وتبديل صفاتهم ؛ لجواز تعدّد أقوال النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو خطأ بعض الرواة.
ولا ريب بدلالة الحديث على فضل أمير المؤمنين علیه السلام على الأمّة
ص: 329
وإمامته لهم ؛ لدلالته على فضله على هؤلاء الأنبياء العظام ، فكيف بآحاد الأمم؟!
وذلك لأنّه صرّح بأنّ عليّا علیه السلام جمع ما تفرّق في أعاظم الأنبياء من الأوصاف ، التي كلّ واحدة منها أعظم الأفراد من نوعها.
ودعوى أنّ غير النبيّ لا يكون أفضل منه ، دعوى بلا حجّة.
نعم ، لا يجوز أن يكون النبيّ مفضولا لواحد من أمّته ، كما يحكم به العقل ، وإن خالف به بعض القوم كما سبق في « مباحث النبوّة » لله (1).
وقد بيّنّا في آية « المباهلة » وغيرها ، أنّ عليّا أفضل من جميع النبيّين سوى ابن عمّه سيّد المرسلين (2).
وقد تواتر عندنا أنّ عليّا سيّد الوصيّين (3) ، ومن جملتهم الأنبياء ، كيوشع بن نون وصيّ موسى علیه السلام .
* * *
ص: 330
قال المصنّف - قدس سره - (1) :
وأيضا : جميع العلوم مستندة إليه ..
أمّا الكلام وأصول الفقه ؛ فظاهر ، وكلامه في « النهج » يدلّ على كمال معرفته في التوحيد والعدل ، وجميع جزئيات علم الكلام والأصول.
وأمّا الفقه ؛ فالفقهاء كلّهم يرجعون إليه ..
أمّا الإمامية ؛ فظاهر (2) ..
وأمّا الحنفية ؛ فإنّ أصحاب أبي حنيفة أخذوا عن أبي حنيفة (3) ، وهو تلميذ الصادق علیه السلام (4) ..
وأمّا الشافعية ؛ فأخذوا عن محمّد بن إدريس الشافعي (5) ، وهو
ص: 331
قرأ على محمّد بن الحسن (1) تلميذ أبي حنيفة ، وعلى مالك ؛ فرجع فقهه إليهما (2) ..
وأمّا أحمد بن حنبل (3) ؛ فقرأ على الشافعي ؛ فرجع فقهه إليه (4).
وأمّا مالك (5) ؛ فقرأ على اثنين :
ص: 332
أحدهما : ربيعة الرأي (1) ، وهو تلميذ عكرمة ، وهو تلميذ عبد اللّه ابن عبّاس ، وهو تلميذ عليّ علیه السلام (2).
والثاني : مولانا جعفر بن محمّد الصادق ..
وكان الخوارج تلامذة له (3).
وأمّا النحو ؛ فهو واضعه (4).
وكذا علم التفسير (5) ..
قال ابن عبّاس : حدّثني أمير المؤمنين علیه السلام في باء ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) من أوّل الليل إلى الفجر ولم يتمّ (6).
* * *
ص: 333
وقال الفضل (1) :
ذكر أنّ أبا حنيفة قرأ على الصادق ، ثمّ ذكر أنّ الشافعي قرأ على محمّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة ، وعلى مالك ، فرجع فقهه إليهما.
ويفهم من هذا أنّ كلّ من قرأ على أحد يرجع فقهه إليه ، فيرجع فقه جميع الأئمّة على هذا التقدير إلى الصادق.
وفقه الصادق عنده لا شكّ أنّه حقّ وصدق ، فلم يبق له بعد هذا الكلام اعتراض على الأئمّة الأربعة.
وأمّا قوله : إنّ الشافعي قرأ على محمّد بن الحسن ؛ فهو كذب وباطل.
وأمّا قوله : إنّ جميع العلوم من الفقه والأصول والكلام يرجع إلى أمير المؤمنين ..
فإن أراد أنّ أصحاب هذه العلوم ما استفادوا في تدوين هذه العلوم من غير كلام أمير المؤمنين ؛ فهو ممنوع.
وإن أراد أنّهم استفادوا من كلامه أيضا كما استفادوا من كلام باقي علماء الصحابة ؛ فهو حقّ لا شكّ فيه.
* * *
ص: 334
ما فهمه من كلام المصنّف رحمه اللّه ، وزعم أنّه لا يبقى بعده اعتراض على أئمّتهم ، خطأ ظاهر ؛ إذ ليس معنى الرجوع إليه اتّفاق فتاويهم معه ، بل معناه أنّه أساس تحصيلهم ومنشأ قوّتهم ، وإن خالفوه في أمور خطيرة وأحكام كثيرة استحسنوها بآرائهم ، وقاسوها بمقاييسهم! (1).
ومنه يعلم أنّ ترديده في معنى رجوع العلوم إلى أمير المؤمنين علیه السلام غير حاصر.
فإنّ مراد المصنّف رحمه اللّه : أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أساس تلك العلوم ،
ص: 335
ومنشأ قوّة البحث والاجتهاد فيها ، وإن استفاد العلماء رواية بعض الأحكام أو رواية تفسير بعض الآيات من غيره ؛ وهو غير ما أراده في شقّي الترديد.
ولا يمكن أن ينكر أنّ أمير المؤمنين علیه السلام منشأ التحصيل وسبب قوّة البحث والاستنباط والاجتهاد في علم الكلام ، والأصول ، والنحو ، بل والفقه والتفسير ، فإنّ أعظم من ينظر إليه فيهما هو ابن عبّاس ، وهو تلميذ أمير المؤمنين علیه السلام ، لا في عرضه(1).
وأمّا ابن مسعود ؛ فعلمه بالنسبة إلى علم أمير المؤمنين به كقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط ؛ إذ ليس هو بأعظم من ابن عبّاس ، وهو قد كان كذلك (2).
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « شرح نهج البلاغة » : « ومن العلوم :
علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ومنه تفرّع ، وإذ رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك ؛ لأنّ أكثره عنه وعن عبد اللّه بن عبّاس.
وقد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنّه تلميذه وخرّيجه ، وقيل له : أين علمك من علم ابن عمّك؟
فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط » (3).
بل علمه وعلم جميع الصحابة بالنسبة إلى علم أمير المؤمنين علیه السلام
ص: 336
كذلك ..
فأين هم ممّن عنده علم الكتاب (1) ، وباب مدينة علم الرسول (2) ، ومن يقول : « سلوني قبل أن تفقدوني » (3)؟!
وهل يتصوّر منصف أن يكون أصلا في الكلام والتفسير والفقه من لا يعرف أنّ اللّه سبحانه لا يحويه مكان؟! ويقول : هو في السماء على العرش!! في جواب السائل : أين هو؟ (4) ..
ومن لا يعرف مفردات الكتاب - كالأبّ (5) ، والكلالة (6) - فضلا عن مركنباته المتشابهة؟! ..
ويضرب السائل عن تفسير : ( وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ) (7) ، فرارا عن
ص: 337
جوابه (1)؟! ..
ويقرّ بأنّ المخدّرات أفقه منه (2)؟!.
وأمّا تكذيبه للمصنّف رحمه اللّه في دعوى قراءة الشافعي على محمّد بن الحسن ، فمن الجهل! ..
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « شرح النهج » : « ومن العلوم : علم الفقه ، وهو علیه السلام أصله وأساسه ، وكلّ فقيه في الإسلام عيال عليه ومستفيد من فقهه.
أمّا أصحاب أبي حنيفة ؛ كأبي يوسف (3) ، ومحمّد (4) ، وغيرهما (5) ، فأخذوا عن أبي حنيفة.
ص: 338
وأمّا الشافعي ؛ فقرأ على محمّد بن الحسن (1) ، فيرجع فقهه - أيضا - إلى أبي حنيفة.
وأمّا أحمد بن حنبل ؛ فقرأ على الشافعي ، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ؛ وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمّد ، وقرأ جعفر على أبيه ، وينتهي الأمر إلى عليّ علیه السلام .
وأمّا مالك بن أنس ؛ فقرأ على ربيعة الرأي ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبد اللّه بن عبّاس ، وقرأ عبد اللّه بن عبّاس على عليّ (2).
وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك ، كان لك ذلك » (3) (4).
* * *
ص: 339
قال المصنّف - طاب مرقده - (1) :
وعلم الفصاحة إليه منسوب ، حتّى قيل في كلامه : « إنّه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق » (2) ، ومن كلامه تعلّم الفصحاء.
قال ابن نباتة (3) : « حفظت من كلامه ألف خطبة ، ففاضت ثمّ فاضت » (4).
وأمّا المتكلّمون ، فأربعة ؛ معتزلة ، وأشاعرة ، وشيعة ، وخوارج .. وانتساب الشيعة معلوم ..
والخوارج كذلك ؛ فإنّ فضلاءهم رجعوا إليه (5).
وأمّا المعتزلة ؛ فإنّهم انتسبوا إلى واصل بن عطاء (6) ، وهو تلميذ أبي
ص: 340
هاشم عبد اللّه (1) ، وهو تلميذ أبيه محمّد بن الحنفية ، وهو تلميذ أبيه عليّ علیه السلام .
وأمّا الأشاعرة ؛ فإنّهم تلاميذ أبي الحسن عليّ بن أبي بشر الأشعري (2) ، وهو تلميذ أبي عليّ الجبّائي (3) ، وهو من مشايخ
ص: 341
وقال الفضل (1) :
لا شكّ في توغّل أمير المؤمنين في العلم ، والفصاحة ، والأسرار المكنونة ، التي لم يطّلع عليها أحد غيره.
وأمّا ما ذكره من رجوع طوائف أهل الكلام إليه ؛ فإن أراد به أنّ أصول كلامهم مأخوذ منه ، فهذا يوجب أن يكون أصول عقائد الخوارج ، والمعتزلة ، والأشاعرة ، مأخوذا من أمير المؤمنين ، وما كان مأخوذا منه يكون حقّا ؛ وهذا لا يوافق مذهبه.
وإن أراد به أنّهم ينتسبون إليه بلا أخذ العلم والعقيدة ؛ فإثبات هذا لا يفيده في ما يدّعيه.
* * *
ص: 343
ظهر لك - ممّا سبق (1) - أنّ معنى رجوع هذه الطوائف ، هو أنّه المؤسّس لهم علم الكلام وطريقة الاستدلال على مسائله ، فلا ينافي مخالفتهم له في كثير من العقائد الحقّة.
ويكفيك من تعاليمه ما تضمّنه « نهج البلاغة » ، الذي هو سنا النور الإلهي ، ومصباح العلم الأحمدي.
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « شرح النهج » : « ما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة ، وتنتهي إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة ، فهو رئيس الفضائل ، وينبوعها ، وأبو عذرها (2) ، وسابق مضمارها ، ومجلّي (3) حلبتها ؛ كلّ من برع فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى؟!
وقد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي ؛ لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم.
ومن كلامه اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ!
فإنّ المعتزلة الّذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم
ص: 344
تعلّم الناس هذا الفنّ (1) ، تلامذته وأصحابه ؛ لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء ، تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمّد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه علیه السلام .
وأمّا الأشاعرة ؛ فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري ، وهو تلميذ أبي عليّ الجبّائي ، وأبو عليّ أحد مشايخ المعتزلة.
فالأشعرية ينتهون بالآخرة الى أستاذ المعتزلة ومعلّمهم : عليّ بن أبي طالب.
وأمّا الإمامية والزيدية ؛ فانتماؤهم إليه ظاهر » (2).
* * *
ص: 345
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
وأمّا علم الطريقة ؛ فإنّ جميع الصوفيّة وأرباب الإشارات والحقيقة ، يسندون الخرقة إليه (2).
وأصحاب الفتوّة يرجعون إليه ، وهو الذي نزل جبرئيل ينادي عليه يوم بدر :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ (3)
وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أنا الفتى ، ابن الفتى ، أخو الفتى » (4).
أمّا أنّه الفتى ؛ فلأنّه سيّد العرب ..
وأمّا أنّه ابن الفتى ؛ فلأنّه ابن إبراهيم ، الذي قال اللّه تعالى فيه : ( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) (5) ..
وأمّا أنّه أخو الفتى ؛ فلأنّه أخو عليّ ، الذي قال جبرئيل فيه : لا فتى إلّا عليّ.
* * *
ص: 346
وقال الفضل (1) :
ما ذكره أنّ الصوفية يرجعون إليه ، ينافي ما ادّعى في صدر الكتاب ، أنّ الصوفية هم تاركو الصلاة ، والمعتقدون للحلول والاتّحاد (2).
وكيف يجوز نسبتهم إلى أمير المؤمنين وهذا علمهم وعقيدتهم؟!
ثمّ إنّ انتساب الخرقة لا يوجب أخذ العلم ، وأخذ العلم هو المدّعى.
وفي الجملة : هذا الرجل لا يعرف ما يقول ، وهو كالناقة العشواء يرتعي كلّ حشيش.
* * *
ص: 347
قد عرفت أنّ معنى الرجوع إليه ، هو أنّه الأصل لهم ، والأساس لأمرهم (1) ، وهو لا يستدعي الموافقة في كلّ شيء ..
فإنّ الملّيّين جميعا ينتسبون إلى أنبيائهم ، مع أنّ الضلال قد غلب عليهم ، فغيّروا وبدّلوا.
ومنهم المسلمون بطوائفهم ؛ فإنّهم ينتسبون إلى دين النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ويرجعون في علومهم إليه ، وأكثر فرقهم ضلّال.
ومنهم الصوفيّة ، فإنّهم من المسلمين ، وينتسبون إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالإسلام ، كما ينتسبون إلى أمير المؤمنين علیه السلام بعلم الطريقة ، وهما بريئان من عقائدهم وأعمالهم.
ويشهد لانتسابهم إلى أمير المؤمنين علیه السلام إسنادهم الخرقة إليه - التي هي شعارهم - سواء أرادوا بها - كما قيل - : سرّ الولاية ، فاستعاروا له الخرقة كلباس التقوى ؛ أم أرادوا بها : الخرقة الظاهريّة ، التي يزعم جهّالهم أنّها الخرقة التي أخذوها عن أسلافهم ، عن أهل البيت ، عن أمير المؤمنين علیه السلام (2).
ص: 348
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة الشرح : « ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف.
وقد عرفت أنّ أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون ، وعنده يقفون.
وقد صرّح بذلك : الشّبلي (1) ، والجنيد (2) ، وسريّ (3) ، وأبو يزيد البسطامي (4) ، وأبو محفوظ معروف الكرخي (5) ، وغيرهم.
ص: 349
ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متّصل إليه علیه السلام » (1).
فقد ظهر أنّ مراد المصنّف رحمه اللّه بذكر الخرقة هو الاستشهاد بها على رجوعهم إليه ، لا أنّ إسنادها إليه موجب بذاته لأخذ العلم منه ، كما تخيّله الفضل.
ص: 350
وقال الفضل (1) :
رجوع الصحابة إليه في الفتوى غير بعيد (2) ؛ لأنّه كان مفتي الصحابة ، والرجوع إلى المفتي من شأنّ المستفتين ، وإنّ رجوع عمر إليه كرجوع الأئمّة وولاة العدل إلى علماء الأمّة.
وما ذكره من قوله : « لو لا عليّ لهلك عمر » ، فهو من فضائل عمر في عدله وصدقه وإنصافه وتواضعه.
* * *
ص: 352
لا شكّ في رجوعهم إليه واستفتائهم منه ، لا سيّما في غوامض المسائل التي لا يهتدون إليها سبيلا ، ولا يعرفون لها عند أحد مخرجا ، وما هو إلّا لظهور فضله عليهم ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
وأمّا قوله : « إنّ رجوع عمر إليه كرجوع الأئمّة وولاة العدل إلى علماء الأمّة » ..
فهو تجهيل لعمر ؛ إذ اعتبره كسائر الولاة الّذين يحتاجون إلى علم العلماء ، وقد سبق موضّحا أنّ الإمام أجلّ قدرا ، وأعلى شأنا ، من أن يحتاج إلى علم الرعيّة (1).
وأمّا ما زعمه من صدق عمر وتواضعه ، فمتنافيان ظاهرا ؛ لأنّ الحقّ إن كان مع أمير المؤمنين علیه السلام ، وكان عمر صادقا في قوله ، لزم أن لا يكون ذلك تواضعا ، بل إقرارا بالحقّ.
وإن كان الحقّ مع عمر ، فلا وجه لإقراره بعدم علمه وعمله بغير الحقّ تواضعا ، بل لزم أن يكون كاذبا في قوله.
* * *
ص: 353
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
وفي مسند أحمد بن حنبل : « لم يكن أحد من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول : سلوني ؛ إلّا عليّ بن أبي طالب » (2)
وفي صحيح مسلم ، أنّ عليّا قال على المنبر : « سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فما من آية إلّا وأعلم حيث نزلت ، بحضيض جبل ، أو سهل أرض.
سلوني عن الفتن ، فما من فتنة إلّا وقد علمت كبشها ، ومن يقتل فيها » (3).
وكان يقول : « سلوني عن طرق السماء فإنّي أعرف بها من طرق الأرض » (4).
وقال عليّ : « علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم ، في كلّ باب ألف باب » (5).
وقضاياه العجيبة أكثر من أن تحصى ؛ كقسمة الدراهم على صاحبي
ص: 354
الأرغفة (1) ..
وبسط الدّية على القامصة (2) ، والناسخة (3) (4) ..
وإلحاق الولد بالقرعة ، وصوّبه النبيّ صلی اللّه علیه و آله (5) ..
والأمر بشقّ الولد نصفين ، حتّى رجعت المتداعيتان إلى الحقّ (6) ..
ص: 355
والأمر بضرب عنق العبد حتّى رجع إلى الحقّ (1) ..
وحكمه في ذي الرأسين بإيقاظ أحدهما (2) ..
واستخراج حكم الخنثى (3) ..
وأحكام البغاة ؛ قال الشافعي : عرفنا أحكام البغاة من عليّ (4).
وغير ذلك من الأحكام الغريبة ، التي يستحيل أن يهتدي إليها من سئل عن الكلالة (5) والأبّ (6) فلم يعرفهما (7) ، وحكم في الجدّ بمئة قضيّة (8).
* * *
ص: 356
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من الأقضية والأحكام التي قضى فيها أمير المؤمنين ، فهو حقّ لا يرتاب فيه ، وهذا شأنه وهو مشتهر به.
وأمّا قوله : « سلوني » ، فهذا من وفور علمه ، كالبحر الزاخر الذي يتموّج بما فيه ويريد إلقاء الدرّ على الساحل ، وليس هذا من باب النزاع حتّى يقيم فيه الدلائل.
وأمّا قوله : « من سئل عن الكلالة والأبّ فلم يعرفهما » ، فهو من المطاعن ، وستعرف جوابه في محلّه إن شاء اللّه.
* * *
ص: 357
مقصود المصنّف رحمه اللّه بيان فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، وأنّه لا نسبة بينه وبين من تقدّم عليه ، فكيف يكون رعيّة لهم وهم أئمّته ، واللّه سبحانه يقول : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) ..
ويقول : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2)؟!
وليس مراده مجرّد بيان علم أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لئلّا يكون محلّ النزاع ، ولا مجرّد الطعن في غيره ليحيل جوابه على ما يأتي.
* * *
ص: 358
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
المطلب الثالث : الإخبار بالغيب
وقد حصل منه في عدّة مواطن ..
فمنها : إنّه قال في خطبة : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فو اللّه لا تسألونني عن فئة تضلّ مئة وتهدي مئة ، إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة.
فقام إليه رجل فقال له : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟
فقال علیه السلام : واللّه لقد حدّثني خليلي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما سألت ، وإنّ على كلّ طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك ، وإنّ على كلّ طاقة شعر من لحيتك شيطانا يستفزّك ، وإنّ في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولو لا أنّ الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرت به ، ولكن آية ذلك ما نبأت به من لعنك وسخلك الملعون ».
وكان ابنه في ذلك الوقت صغيرا ، وهو الذي تولّى قتل الحسين علیه السلام (2).
ص: 359
وأخبر بقتل ذي الثديّة من الخوارج (1).
وعدم عبور الخوارج النهر ، بعد أن قيل له : قد عبروا (2).
وعن قتله نفسه (3).
وبقطع يدي جويرية بن مسهر ، وصلبه ؛ فوقع في أيّام معاوية (4).
وبصلب ميثم التمّار ، وطعنه بحربة عاشر عشرة ، وأراه النخلة
ص: 360
التي يصلب على جذعها ؛ ففعل به ذلك عبيد اللّه بن زياد عليهما اللعنة (1).
وبقطع يدي رشيد الهجري ورجليه ، وصلبه ؛ ففعل ذلك به (2).
وقتل قنبر ؛ فقتله الحجّاج (3).
وبأفعال الحجّاج التي صدرت عنه (4).
وجاء رجل إليه فقال : إنّ خالد بن عرفطة (5) قد مات.
ص: 361
فقال علیه السلام : إنّه لم يمت ، ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة ، صاحب لوائه حبيب بن حماز (1).
فقام رجل من تحت المنبر فقال : يا أمير المؤمنين! إنّي لك شيعة ومحبّ.
فقال : من أنت؟
فقال : أنا حبيب بن حماز.
قال : إيّاك أن تحملها! ولتحملنّها وتدخل بها من هذا الباب ؛ وأومأ بيده إلى باب الفيل.
فلما كان زمان الحسين علیه السلام ، جعل ابن زياد خالد بن عرفطة على مقدّمة عمر بن سعد ، وحبيب بن حماز صاحب رايته ، فسار بها حتّى دخل من باب الفيل (2).
ص: 362
وقال للبراء بن عازب (1) : يقتل ابني الحسين وأنت حيّ لا تنصره ؛ فقتل الحسين وهو حيّ لم ينصره (2).
ولمّا اجتاز بكربلاء في وقعة « صفّين » بكى وقال : هذا واللّه مناخ ركابهم ، وموضع قتلهم ؛ وأشار إلى ولده الحسين وأصحابه (3).
وأخبر بعمارة بغداد (4) ..
وملك بني العبّاس وأحوالهم (5) ..
ص: 363
وأخذ المغول الملك منهم (1).
وبواسطة هذا الخبر سلمت الحلّة والكوفة والمشهدان من القتل في وقعة هلاكو ؛ لأنّه لمّا ورد بغداد كاتبه والدي (2) والسيّد ابن طاووس (3) والفقيه ابن أبي المعزّ (4) ، وسألوا الأمان قبل فتح بغداد ،
ص: 364
فطلبهم ، فخافوا ، فمضى والدي إليه خاصّة ، فقال : كيف أقدمت على المكاتبة قبل الظفر؟!
فقال له والدي : لأنّ أمير المؤمنين علیه السلام أخبر بك وقال : « إنّه يرد الترك على الأخير من بني العبّاس ، يقدمهم ملك يأتي من حيث بدأ ملكهم ، جهوري الصوت ، لا يمرّ بمدينة إلّا فتحها ، ولا ترفع له راية إلّا نكسها ، الويل الويل لمن ناوأه ، فلا يزال كذلك حتّى يظفر » (1).
والأخبار بذلك كثيرة (2).
* * *
ص: 365
وقال الفضل (1) :
من ضروريات الدين أنّ علم الغيب مخصوص باللّه ، والنصوص في ذلك كثيرة ..
( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلأَهُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ ... ) (2)الآية ..
( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... ) (3) الآية ..
فلا يصحّ لغير اللّه أن يقال : إنّه يعلم الغيب.
ولهذا لمّا قيل عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الرجز :
وفينا نبيّ يعلم ما في الغد
أنكر على قائله وقال : دع هذا! وقل غير هذا! (4)
وبالجملة ، لا يجوز أن يقال لأحد : فلان يعلم الغيب.
نعم ، الإخبار بالغيب بتعليم اللّه جائز ، وطريق هذا التعليم إمّا الوحي ، أو الإلهام عند من يجعله طريقا إلى علم الغيب.
فإن صحّ أنّ أمير المؤمنين أخبر بالمغيّبات ، فلا بدّ أن يقال :
ص: 366
إنّه كان بتعليم اللّه ؛ إمّا بالإلهام كما يكون للأولياء ، أو بالسماع من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
وبعض الناس على أنّه كان يعلم بالعلم الموسوم بالجفر والجامعة(1) ، وهو - أيضا - من تعليم اللّه.
فكان ينبغي له أن يبيّن حقيقة هذا ، ولا يطلق القول بالإخبار بالغيب ، فإنّه يوهم أنّ البشر يمكن له الإخبار بالغيب.
وأمّا ما ذكر من الإخبار بوقائع خروج الترك وخراب بغداد ، فقد
ص: 367
جاء في بعض الأحاديث الإخبار عنه (1) ، وهو بتعليم اللّه ، كما يقتضيه نصوص الكتاب وضرورة الدين.
* * *
ص: 368
من نظر إلى مفتتح كلامه تخيّل أنّ المصنّف رحمه اللّه جاء بذنب لا يغفر! وما برح بعد القعقعة (1) حتّى كانت نتيجة كلامة أنّه ينبغي للمصنّف رحمه اللّه أن يبيّن الحقيقة ، ولا يطلق القول بالإخبار بالغيب.
وليت شعري ، أيّ جواب في هذا عن كون أمير المؤمنين علیه السلام ذا الفضيلة على غيره بالإخبار بالمغيّبات ، القاضي بامتيازه على غيره وبإمامته دون من سواه؟!
ثمّ أيّ ضرر في الإطلاق ، وهو ممّا لا إيهام فيه ؛ لمعلوميّة المراد منه عند الجاهل فضلا عن الفاضل؟!
على أنّ المصنّف رحمه اللّه ذكر من الأحاديث ما يدلّ على أنّ إخبار أمير المؤمنين علیه السلام بالغيب كان من حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فيرتفع الإيهام لو وجد.
وقد نقل ابن أبي الحديد كثيرا ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه ، ومن غيره ، في عدّة صحائف (2).
ص: 369
ويشهد لعلمه بالغيب إيصاؤه بدفنه خفية (1) ، مع كون السلطان لهم بالفعل ، فإنّه لم يقع مثله عادة ، ولا يحسن أن يفعله بنوه لو لا علمه وعلمهم باستيلاء معاوية وبني أميّة على البلاد ، وهم غير مأمونين من إهانة قبره الشريف بنبش أو نحوه.
وكذا يعلم بكثرة الخوارج بعد ، وعداوتهم له ، فخاف منهم ما خافه من بني أميّة ، أو علمه منهم جميعا ، فأوصى سيّدي شباب أهل الجنّة - العالمين بما يعلم - أن يدفناه ليلا ولا يظهرا قبره ، فأخفياه حتّى قام الرشيد ببنائه وإظهاره ؛ لكرامة ذكرها المؤرّخون (2).
* * *
ص: 370
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه وأجره - (1) :
المطلب الرابع : في الشجاعة
وقد أجمع الناس كافّة على أنّ عليّا علیه السلام كان أشجع الناس بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وتعجّبت الملائكة من حملاته (2) ، وفضّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله قتله لعمرو بن عبد ودّ على عبادة الثقلين (3).
ونادى جبرئيل :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ (4)
وروى الجمهور أنّ المشركين كانوا إذا أبصروا عليّا في الحرب ، عهد بعضهم إلى بعض (5).
* * *
ص: 371
سبق أنّ الشجاعة شرط في الإمام ، فإذا ثبتت أشجعيّة أمير المؤمنين كان أولى بالإمامة.
وقول الفضل : « شجاعة أمير المؤمنين ... » إلى آخره ، دون أن يقول : أشجعيّته ؛ غفلة أو تغافل ، إلّا أن يرى أن لا شجاعة لغيره - ولو بالنسبة إليه - ، فيكون حسنا.
* * *
ص: 373
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
لا خلاف في أنّه أزهد أهل زمانه ، طلّق الدنيا ثلاثا (2).
قال قبيصة بن جابر : « ما رأيت في الدنيا أزهد من عليّ بن أبي طالب ، كان قوته الشعير غير المأدوم ، ولم يشبع من البرّ ثلاثة أيّام » (3).
قال عمر بن عبد العزيز : « ما علمنا أنّ أحدا كان في هذه الأمّة بعد النبيّ أزهد من عليّ بن أبي طالب » (4).
وروى أخطب خوارزم ، عن عمّار بن ياسر ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يا عليّ! إنّ اللّه تعالى زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة هي أحبّ إليه منها ، زهّدك في الدنيا ، وبغضها إليك ، وحبّب إليك الفقراء ، فرضيت بهم أتباعا ، ورضوا بك إماما.
يا عليّ! طوبى لمن أحبّك وصدّق عليك (5) ، والويل لمن
ص: 374
أبغضك وكذب عليك.
أمّا من أحبّك وصدق عليك فإخوانك في دينك ، وشركاؤك في جنّتك.
وأمّا من أبغضك وكذّب عليك ، فحقيق على اللّه أن يقيمه يوم القيامة مقام الكاذبين » (1).
* * *
ص: 375
وقال الفضل (1) :
أمّا زهد أمير المؤمنين فهو مسلّم عند الجمهور ، ولو أخذنا في الحكايات الدالّة على زهده ممّا رواه جمهور أصحابنا لطال الكتاب.
وهذا الرجل يزعم أنّ أهل السنّة والجماعة ينكرون فضائل أمير المؤمنين - حاشاهم عن ذلك - ، إنّما ينكر فضائل الشمس الخفافيش.
* * *
ص: 376
ليس الغرض بيان زهد أمير المؤمنين علیه السلام ، فإنّه أشهر وأظهر من أن يذكر ، وإنّما الغرض أزهديّته الكاشفة عن فضله الذاتي على من سواه ، وقربه الأقرب إلى اللّه تعالى ؛ فإن أقرّ القوم بذلك ، فنعم الوفاق ، وإلّا فليأتوا بسورة من مثله.
وتنزيه الفضل لأصحابه لا حقيقة له ؛ فإنّهم أنكروا أعظم فضائله وأجمعها للمزايا ، وهي خلافته بنصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنكروا عصمته وفضله على من سواه ، الذي هو من أظهر الضروريّات.
والفضل بنفسه لم يستطع أن يقرّ لأمير المؤمنين ، وإمام المتّقين ، بالأفضلية في العلم ، والشجاعة ، والزهد ؛ بل أثبت له - كما رأيت - أصل هذه الأمور فقط.
فهل يرى أنّ إنكار فضائله إنّما هو بإنكار علمه ، وشجاعته ، وزهده؟! فهذا لا يقدر عليه حتّى الخوارج!!
ثمّ إنّ الحديث الذي حكاه المصنّف رحمه اللّه عن أخطب خوارزم قد حكاه في « كنز العمّال » (1) ، ونقله ابن أبي الحديد في « شرح النهج » (2) ، كلاهما عن أبي نعيم في « الحلية » ، بسنده عن عمّار ، ولفظه هكذا :
« يا عليّ! إنّ اللّه قد زيّنك بزينة ، لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إليه
ص: 377
منها ، هي زينة الأبرار عند اللّه ، الزهد في الدنيا ، فجعلك لا ترزأ (1) من الدنيا شيئا ، ولا ترزأ الدنيا منك شيئا ، ووهب لك حبّ المساكين ، فجعلك ترضى بهم أتباعا ، ويرضون بك إماما » (2).
ثمّ قال ابن أبي الحديد : « وزاد فيه أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل في ( المسند ) : فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذّب فيك » (3).
وروى الحاكم هذه الزيادة فقط (4) ، وقال : « هذا حديث صحيح الإسناد ».
ونقلها أيضا في « الكنز » ، عن الطبراني ، والخطيب ، مع الحاكم (5).
* * *
ص: 378
قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :
قد عرفت أنّ الكلام - في هذا ونحوه - في الأفضليّة ، فإن أقرّ به الفضل ، فهو المراد ، وإلّا فليأت بشبهة.
وكيف يقاس بمن جاد بنفسه في جميع مواقف الزحام ، من بخل بها في كلّ مقام ، وفرّ مرارا عن سيّد الأنام (1)؟!
أو يقاس بمن سخا بجميع ماله على الأباعد ، من ضنّ ببعضه على الأقارب ، وحمل يوم الهجرة ماله كلّه وترك بلا قوت أهله (2)؟!
وهل يلحق من آثر على نفسه ولم يعزّ عليه قوته ، من كانت في أموال المسلمين نهمته حتّى كبت به بطنته (3).
* * *
ص: 381
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد استسعد به (2) وطلب تأمينه على دعائه يوم المباهلة ، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة (3).
ودعا على أنس بن مالك لمّا استشهده على قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ؛ فاعتذر بالنسيان ..
فقال : اللّهمّ إن كان كاذبا فاضربه ببياض لا تواريه العمامة ؛ فبرص (4).
ص: 382
وردّت عليه الشمس مرّتين لمّا دعا به (1).
ودعا في زيادة الماء لأهل الكوفة حتّى خافوا الغرق ، فنقص حتّى ظهرت الحيتان ، فكلّمته إلّا الجرّي والمارماهي والزمّار (2) ، فتعجّب الناس من ذلك (3).
وأمّا حسن الخلق ؛ فبلغ فيه الغاية ، حتّى نسبه أعداؤه إلى الدعابة (4).
وكذا الحلم ؛ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لفاطمة علیهاالسلام : « إنّي زوّجتك من أقدم الناس سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما » (5).
* * *
ص: 384
وقال الفضل (1) :
ما ذكره في هذا المطلب من استجابة دعاء أمير المؤمنين ؛ فهذا أمر لا ينبغي أن يرتاب فيه ، وإذا لم يكن دعاء سيّد الأولياء مستجابا ، فمن يستجاب له الدعاء؟!
وأمّا ما ذكر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله استسعد بدعائه ؛ فقد ذكرنا سرّ هذا الاستسعاد والاشتراك في الدعاء في المباهلة ، أنّ هذا من عادات أهل المباهلة ، أن يشاركوا القوم والنساء والأولاد في الدعاء (2).
ويفهم منه أنّ النبيّ استسعد بدعائه لاحتياجه إلى ذلك الاستسعاد ، وهذا باطل عقلا ونقلا.
أمّا عقلا ؛ لأنّ النبيّ لا شكّ أنّه كان مستجاب الدعوة ، ومن كان مستجاب الدعوة فلا يحتاج إلى استسعاد الغير.
وأمّا نقلا ؛ فلأنّ الاشتراك في الدعاء في المباهلة لم يكن للاستسعاد ، بل لما ذكرنا.
وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين استشهد من أنس بن مالك ، فاعتذر بالنسيان ، فدعا عليه ؛ فالظاهر أنّ هذا من موضوعات الروافض ؛ لأنّ خبر « من كنت مولاه فعليّ مولاه » كان في غدير خمّ.
ص: 385
وكان لكثرة سماع السامعين كالمستفاض (1) ، فأيّ حاجة إلى الاستشهاد من أنس؟!
ولو فرض أنّه استشهد ولم يشهد أنس ، لم يكن من أخلاق أمير المؤمنين أن يدعو على صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن خدمه عشر سنين ، بالبرص ؛ ووضع الحديث ظاهر.
* * *
ص: 386
استجابة الدعاء في مثل هذه الأمور الخارقة للعادة لا تقع إلّا لنبيّ أو وصيّ نبيّ ؛ لاشتمالها على المعجز ، وليس مثلها لغير أمير المؤمنين علیه السلام ، فيكون هو الإمام.
وأمّا ما ذكره من سرّ الاستسعاد ، فهو من الأسرار الخاصّة بضمائر المخالفين لأهل البيت ؛ إذ لم يظهر علمه لغيرهم ، كما عرفته في الآية السادسة (1) ، والحديث الثامن (2).
كما إنّ الاستسعاد لا يتوقّف على الحاجة الواقعيّة ، بل هو من أمر اللّه تعالى ؛ لبيان شرف آل محمّد صلی اللّه علیه و آله عنده وعنايته بهم ..
ومن كمال الرسول ، حيث لا يظهر منه الاعتماد على نفسه ، وأنّ له حقّا على اللّه في الإجابة ، كما سبق موضّحا (3).
وأمّا تكذيبه للدعاء على أنس بحجّة أنّ حديث الغدير مستفيض لا يحتاج إلى الاستشهاد ؛ ففيه :
إنّ أمير المؤمنين علیه السلام إنّما أراد بيان استفاضته ، وكثرة المطّلعين عليه ؛ لتظهر إمامته بالنصّ ، وهذا ممّا يحتاج إلى أعظم الشواهد عند من نشأوا على موالاة الأوّلين ، ولو لا هذا ونحوه لم يكثر الشيعة بالكوفة ،
ص: 387
فيكون كتمان الشهادة فيه كتمانا لما أنزل اللّه تعالى ، فيستحقّ كاتمها العقوبة في الدنيا ، وأشدّ العذاب في الآخرة.
ولا ريب برجحان الدعاء بمثل البرص ؛ ليكون شاهدا عيانيّا مستمرّا على صدق حديث الغدير ، وإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وظلم السابقين له.
ولا يستبعد منه الدعاء على خادم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ فإنّ ضرر كتمانه في مثل المقام أشدّ من غيره ، وهو أولى بالعقوبة ، ولذا كان عذاب العاصية من أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضعفين (1).
وليس هذا أوّل سيّئة من أنس مع أمير المؤمنين علیه السلام ، بل له نحوها في قصّة الطائر (2) ، وغيرها (3) ، وهو من المنحرفين عنه.
قال ابن أبي الحديد (4) : « ذكر جماعة من شيوخنا البغداديّين أنّ عدّة من الصحابة والتابعين والمحدّثين كانوا منحرفين عن عليّ علیه السلام ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ؛ ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة ، فمنهم : أنس بن مالك ، ناشد عليّ الناس في رحبة القصر - أو قالوا : برحبة الجامع - بالكوفة : أيّكم سمع رسول اللّه يقول : « من كنت مولاه فعليّ
ص: 388
مولاه »؟
فقام اثنا عشر رجلا ، فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم.
فقال له : يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها؟!
فقال : يا أمير المؤمنين! كبرت ونسيت.
فقال : اللّهمّ إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.
قال طلحة بن عمير : فو اللّه لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه
وروى عثمان بن مطرّف : إنّ رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن عليّ بن أبي طالب ، فقال : إنّي آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في عليّ بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتّقين يوم القيامة ، سمعته واللّه من نبيّكم
وروى أبو إسرائيل ، عن الحكم ، عن أبي سليمان المؤذّن ، أنّ عليّا نشد الناس : من سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من كنت مولاه فعليّ مولاه؟
فشهد له قوم ، وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها ، فدعا عليّ عليه بذهاب البصر ، فعمي ، فكان يحدّث الناس بالحديث بعدما كفّ بصره ».
وذكر فيه أمر البرص بمحلّ آخر (1) ، ثمّ قال : « ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة في كتاب ( المعارف ) في باب البرص من أعيان
ص: 389
الرجال ، وابن قتيبة غير متّهم في حقّ عليّ على المشهور من انحرافه عنه ».
وقد روى أحمد في مسنده من عدّة طرق استشهاد أمير المؤمنين علیه السلام بالرحبة ، وقيام من قام للشهادة ، وفي بعضها : « فقام إلّا ثلاثة ، ودعا عليهم فأصابتهم دعوته » ، كما سبق في الآية الثانية (1).
هذا ، وقد أغفل الفضل ما ذكره المصنّف رحمه اللّه من فضل أمير المؤمنين علیه السلام بالحلم وحسن الأخلاق المطلوبين في الأئمّة ، ولا ريب بامتيازه على غيره بهما (2).
وأمّا الحديث الذي نقله المصنّف رحمه اللّه في تفضيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لحلم أمير المؤمنين علیه السلام ، فقد رواه أحمد في مسنده (3).
ص: 390
ونقله في « كنز العمّال » (1) ، عن ابن جرير ، قال : « وصحّحه » ، وعن الدولابي في « الذرّيّة الطاهرة » ، من حديث ذكر فيه خطبة أبي بكر وعمر لفاطمة علیهاالسلام ، وإباه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وتزويجها من عليّ علیه السلام ، وقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله لفاطمة : « واللّه لقد أنكحتك أكثرهم علما ، وأفضلهم حلما ، وأقدمهم سلما » قال : « وفي لفظ : أوّلهم سلما ».
ونقله أيضا في « الكنز » (2) ، عن الطبراني ، بلفظ : « إنّه لأوّل أصحابي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما ».
ولو لا خوف الإطالة والملال ، لذكرت في حلمه من الأخبار والآثار ما كثر ..
وقد ذكر ابن أبي الحديد - في « مقدّمة الشرح » ، وفي أثنائه - نبذا من حلم أمير المؤمنين علیه السلام ، وصفحه ، وحسن أخلاقه ؛ فراجع (3).
* * *
ص: 391
قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - (1) :
القسم الثاني : في الفضائل البدنية ، وينظمها مطلبان :
الأوّل : في العبادة
لا خلاف أنّه علیه السلام كان أعبد الناس ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، والأدعية المأثورة ، والمناجاة في الأوقات الشريفة ، والأماكن المقدّسة (2).
وبلغ في العبادة إلى أنّه كان يؤخذ النشّاب من جسده عند الصلاة ؛ لانقطاع نظره عن غير اللّه تعالى بالكلّيّة (3).
وكان مولانا زين العابدين علیه السلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، ويدعو بصحيفته ، ثمّ يرمي بها كالمتضجّر ويقول : أنّى لي بعبادة عليّ علیه السلام (4).
قال الكاظم علیه السلام : إنّ قوله تعالى : ( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (5)
ص: 392
نزلت في أمير المؤمنين علیه السلام (1).
وكان يوما في صفّين مشتغلا بالحرب ، وهو بين الصفّين يراقب الشمس ، فقال ابن عبّاس : ليس هذا وقت صلاة ، إنّ عندنا لشغلا!
فقال عليّ علیه السلام : فعلام نقاتلهم؟! إنّما نقاتلهم على الصلاة (2)!
وهو الذي عبد اللّه حقّ عبادته حيث قال : ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنّتك ، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك (3).
* * *
ص: 393
وقال الفضل (1) :
عبادة أمير المؤمنين ، لا يقاربه العابدون ، ولا يدانيه الزاهدون ، الملائكة عاجزون عن تحمّل أعبائها ، وأهل القدس مغترفون من بحار صفائها.
وكيف لا؟! وهو أعرف الناس بجلال القدس ، وجمال الملكوت ، وأعشق النفوس إلى وصال الجبروت.
وأمّا ما ذكر أنّه عبد اللّه حقّ عبادته ، فهو لا يصحّ ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال - مع كمال العبادة - : « ما عبدناك حقّ عبادتك » (2).
واتّفق العارفون أنّ اللّه لا يقدر أحد أن يعبده حقّ عبادته ، والدلائل على هذا مذكورة في محالّه.
* * *
ص: 394
إنّما الممتنع هو العبادة بحقّها من جميع الوجوه ، كمّا وكيفا ، وأمّا من جهة خاصّة فلا ، كعبادته سبحانه لذاته لا خوفا ولا طمعا ، وهي التي أرادها المصنّف رحمه اللّه ؛ ولذا جعل قوله علیه السلام : « ما عبدتك خوفا من نارك ... » إلى آخره ، تعليلا لكونه عبد اللّه حقّ عبادته ؛ وهي عبادة الأحرار ، لا عبادة العبيد والتجّار.
قال ابن أبي الحديد في مقدّمة « الشرح » : « كان أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.
وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده (1) ، أن يبسط له نطع (2) بين الصّفّين ليلة الهرير (3) ، فيصلّي عليه ورده ، والسهام تقع بين
ص: 395
يديه ، وتمرّ على صماخيه (1) يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته؟!
وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير (2) ، لطول سجوده؟!
وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم اللّه سبحانه وإجلاله ، وما تتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته ، والاستحذاء له (3) ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أيّ قلب خرجت ، وعلى أيّ لسان جرت!
وقيل لعليّ بن الحسين علیه السلام - وكان الغاية في العبادة - : أين عبادتك من عبادة جدّك؟
قال : عبادتي عند عبادة جدّي ، كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (4).
ولا غرو فقد وحّد اللّه قبل الناس طفلا ، وعبده صبيّا مع النبيّ سبع سنين ، في محلّ لم يعبده فيه عابد ، ولم يسجد له من الملأ ساجد.
ص: 396
وهذا بالضرورة لم يكن إلّا من كمال النفس ، وصفاء الذات ، وتمام العلم والمعرفة ، التي امتاز بها على من لم يعرف ضعة الحجارة في أكثر أعوامه ، ولم يتّصف بأدنى مراتب تلك العبادة في باقي أيّامه.
روى البخاري في : « باب يفكّر الرجل الشيء في صلاته » - قبل أبواب السهو - ، عن عمر ، قال : « إنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة » (1).
وروى في « كنز العمّال » (2) ، أنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شيئا ، فلمّا فرغ قيل له ، فاعتذر بأنّي جهّزت عيرا إلى الشام ، وجعلت أنقلها منقلة منقلة ، حتّى قدمت الشام فبعتها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها.
فكيف يقاس هذا بصاحب تلك العبادة والمعرفة؟!
وهل يحسن بشريعة العقل أن يكون هذا رئيسا دينيّا ، وإماما مذهبيّا ، وذاك مأموما؟!
ما هذا بحكم عدل ، ولا قول فصل!!
* * *
ص: 397
قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :
المطلب الثاني : في الجهاد
وإنّما تشيّدت مباني الدين ، وثبتت قواعده ، وظهرت معالمه ، بسيف مولانا أمير المؤمنين ، وتعجّبت الملائكة من شدّة بلائه في الحرب (2).
ففي غزاة بدر - وهي الداهية العظمى على المسلمين ، وأوّل حرب ابتلوا بها - قتل صناديد قريش الّذين طلبوا المبارزة ، كالوليد بن عتبة ، والعاص (3) بن سعيد بن العاص - الذي أحجم المسلمون عنه - ،
ص: 398
ونوفل بن خويلد - الذي قرن أبا بكر وطلحة بمكّة قبل الهجرة ، وأوثقهما بحبل وعذّبهما (1) -.
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا عرف حضوره في الحرب : « اللّهمّ اكفني نوفلا » (2).
ولمّا قتله عليّ علیه السلام ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه » (3).
ولم يزل يقتل في ذلك اليوم واحدا بعد واحد ، حتّى قتل نصف المقتولين ، وكانوا سبعين.
وقتل المسلمون كافّة ، وثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين النصف الآخر (4).
ص: 399
وفي غزاة أحد انهزم المسلمون عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ورمي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وضربه المشركون بالسيوف والرماح ، وعليّ يدافع عنه ، فنظر إليه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد إفاقته من غشيته ، وقال : ما فعل المسلمون؟
فقال : نقضوا العهد وولّوا الدّبر.
فقال : اكفني هؤلاء ؛ فكشفهم عنه.
وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! فانخلعت القلوب ، ونزل جبرئيل قائلا :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ، ولا فتى إلّا عليّ
وقال للنبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه! لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه.
فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ما يمنعه من ذلك وهو منّي وأنا منه؟! (1).
ورجع بعض الناس لثبات عليّ علیه السلام ، ورجع عثمان بعد ثلاثة أيّام ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : لقد ذهبت بها عريضا! (2)
وفي غزاة الخندق أحدق المشركون بالمدينة كما قال اللّه تعالى : ( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) (3) ، ونادى المشركون بالبراز ، فلم يخرج سوى عليّ ، وفيه قتل أمير المؤمنين علیه السلام عمرو بن
ص: 400
عبدِ ودّ (1).
قال ربيعة السعدي : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد اللّه! إنّا لنتحدّث عن عليّ ومناقبه ، فيقول أهل البصرة : إنّكم لتفرطون في عليّ ؛ فهل تحدّثني بحديث؟
فقال حذيفة : والذي نفسي بيده ، لو وضع جميع أعمال أمّة محمّد في كفّة ميزان منذ بعث اللّه محمّدا إلى يوم القيامة ، ووضع عمل عليّ في الكفّة الأخرى ، لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم.
فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد [ ولا يحمل ] (2)!
فقال حذيفة : يا لكع (3)! وكيف لا يحمل؟!
وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم عمرو بن عبد ودّ وقد دعا إلى المبارزة ، فأحجم الناس كلّهم ما خلا عليّا ، فإنّه نزل إليه فقتله.
والذي نفس حذيفة بيده ، لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمّد إلى يوم القيامة (4).
ص: 401
وفي يوم الأحزاب (1) تولّى أمير المؤمنين قتل الجماعة (2).
وفي غزاة بني المصطلق قتل أمير المؤمنين مالكا وابنه ، وسبى جويرية بنت الحارث (3) فاصطفاها النبيّ صلی اللّه علیه و آله (4).
وفي غزاة خيبر كان الفتح فيها لأمير المؤمنين علیه السلام ، قتل مرحبا ، وانهزم الجيش بقتله ، وأغلقوا باب الحصن ، فعالجه أمير المؤمنين علیه السلام ،
ص: 402
ورمى به ، وجعله جسرا على الخندق للمسلمين ، وظفروا بالحصن ، وأخذوا الغنائم ، وكان يقلّه (1) سبعون رجلا (2).
وقال علیه السلام : واللّه ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة ، بل بقوّة ربانيّة (3).
وفي غزاة الفتح قتل أمير المؤمنين علیه السلام الحويرث بن نفيل بن كعب (4) - وكان يؤذي النبيّ صلی اللّه علیه و آله - ، وقتل جماعة ، وكان الفتح على يده (5).
وفي غزاة حنين حين استظهر (6) النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالكثرة ، فخرج بعشرة آلاف من المسلمين ، فعانهم (7) أبو بكر ، وقال : لن نغلب اليوم من
ص: 403
قلّة (1) ؛ فانهزموا بأجمعهم ، ولم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله سوى تسعة من بني هاشم ، فأنزل اللّه تعالى : ( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، يريد عليّا ومن ثبت معه.
وكان عليّ يضرب بالسيف بين يديه ، والعبّاس عن يمينه ، والفضل عن يساره ، وأبو سفيان بن الحارث يمسك سرجه ، ونوفل وربيعة ابنا الحارث ، وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطّلب ، وعتبة ومعتّب ابنا أبي لهب.
وقتل أمير المؤمنين جمعا كثيرا ، فانهزم المشركون وحصل الأسر (3).
وابتلي بجميع الغزوات ، وقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (4).
ص: 404
وروى أبو بكر الأنباري في « أماليه » ، أنّ عليّا علیه السلام جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس ، فلمّا قام عرض واحد بذكره ، ونسبه إلى التّيه والعجب.
فقال عمر : حقّ لمثله أن يتيه ، واللّه لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام ، وهو بعد أقضى الأمّة ، وذو سبقها (1) ، وذو شرفها.
فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟!
فقال : كرهناه على حداثة السنّ ، وحبّه بني عبد المطّلب (2).
وحمله سورة براءة إلى مكّة ، وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنفذ بها أبا بكر ، فنزل عليه جبرئيل وقال : إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك : لا يؤدّيها إلّا أنت أو واحد منك (3).
وفي هذه القصّة وحدها كفاية في شرف عليّ وعلوّ مرتبته ، بأضعاف كثيرة على من لا يوثق على أدائها ولم يؤتمن عليها.
وهذه الشجاعة ، مع خشونة مأكله ؛ فإنّه لم يطعم البر ثلاثة أيّام ، وكان يأكل الشعير بغير إدام ، ويختم جريشه لئلّا يؤدمه الحسنان علیهماالسلام (4).
وكان كثير الصوم ، كثير الصلاة (5) ، مع شدّة قوّته حتّى قلع باب
ص: 405
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من بلاء أمير المؤمنين في الحروب مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهذا أمر لا شبهة فيه ، وكان في أكثر الحروب صاحب الظفر ، وهذا مشهور مسلّم لا كلام لأحد فيه.
وما ذكر من بلائه يوم بدر ، وأنّه قتل الرجال من صناديد قريش ، فهو صحيح ؛ وهو أوّل من بارز الصفّ يوم بدر حين خرج عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة ، وطلبوا المبارزة ، فخرج إليهم فئة من الأنصار ، فقالوا :
نحن لا نبارزكم ؛ ثمّ نادوا : يا محمّد! فلتخرج إلينا أكفاءنا من قريش.
فقال رسول اللّه : يا عبيدة! يا حمزة! يا عليّ! اخرجوا ..
فخرجوا ، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة ، وحمزة شيبة ، وعلي الوليد.
فقتل عليّ الوليد ، وحمزة شيبة ، واختلف الضرب بين عتبة وعبيدة ، فعاونه عليّ وحمزة وقتلوا عتبة (2).
وهذا أوّل مبارزة وقع في الإسلام ، وكان أمير المؤمنين فارسه.
وأمّا ما ذكر من بلائه يوم أحد ، فهو صحيح ؛ ولكن كان الصحابة ذلك اليوم صاحبي بلاء ، وكان طلحة بن عبيد اللّه صاحب البلاء ذلك
ص: 407
اليوم ، وكذا سعد بن أبي وقاص ، وأبي دجانة (1) ، وجماعة من الأنصار.
وأمّا ما ذكر من أمر حنين ، وأنّ أبا بكر عانهم ، فهذا من أكاذيبه.
وكيف يعين أبو بكر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان هو ذلك اليوم شيخ المهاجرين وصاحب رايتهم؟! ولكن رجل من المسلمين أعجبه الكثرة فأنزل اللّه تلك الآية (2).
وأمّا ما ذكر من أنّ عتبة ومعتّب ابني أبي لهب وقفوا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم حنين ، فهذا من عدم علمه بالتاريخ!
ألم يعلم أنّ عتبة دعا عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يسلّط اللّه عليه كلبا من كلابه ، فافترسه الأسد - وذلك قبل الهجرة - ومات في الكفر ؛ فكيف حضر مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة حنين؟!
وهذا من جهله بأحوال السابقين!
وأمّا قصّة سورة براءة فقد ذكرنا حقيقته قبل هذا ؛ وأنّه كان لأجل أن يعتبر العرب على نبذ العهود ، لا لأنّه لم يكن أبو بكر موثوقا به في أداء
ص: 408
سورة براءة (1).
وهذا كلام لا يرتضيه أحد من المسلمين أنّ مثل أبي بكر - وكان شيخ المهاجرين ، وأمين رسول اللّه - لا يثق عليه رسول اللّه في نبذ العهد وقراءة سورة براءة ؛ وهذا من غاية تعصّبه وجهله بأحوال الصحابة!
* * *
ص: 409
لا نعرف بلاء لأحد يوم أحد إلّا لأمير المؤمنين علیه السلام ، وأبي دجانة ، والمستشهدين.
وما قيل من بلاء طلحة وسعد فمحلّ نظر ؛ لأنّهما ممّن فرّوا.
روى الطبري في « تاريخه » (1) ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال :
« انتهى أنس بن النضر - عمّ أنس بن مالك - إلى عمر بن الخطّاب وطلحة ابن عبيد اللّه في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال :
ما يجلسكم؟
قالوا : قتل محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !
قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه.
ثمّ استقبل القوم حتّى قتل ».
ومثله في « كامل » ابن الأثير (2) ، وفي « الدرّ المنثور » للسيوطي ، عن ابن جرير (3).
ص: 410
هذا ممّا دلّ على فرار طلحة وعدم بلائه.
وأمّا ما دلّ على فرار سعد ..
فمنه : ما رواه الطبري ، عن السدّي ، قال : « لم يقف إلّا طلحة ، وسهل بن حنيف (1) » (2).
ومنه : ما رواه الحاكم ، في كتاب المغازي من « المستدرك » (3) ، عن سعد ، قال : « لمّا جال (4) الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك الجولة [ يوم أحد ] ، تنحّيت فقلت : أذود عن نفسي ، فإمّا أن أستشهد ، وإمّا أن أنجو » الحديث.
ومنه : ما نقله ابن أبي الحديد (5) ، عن الواقدي ، قال : « بايعه يومئذ على الموت ثمانية ؛ ثلاثة من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار.
ص: 411
فأمّا المهاجرون : فعليّ ، وطلحة ، والزبير - إلى أن قال : - وأمّا باقي المسلمين ففرّوا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدعوهم في أخراهم (1) ، حتّى انتهى منهم إلى قريب من المهراس(2) ».
وروى القوشجي في « شرح التجريد » ما يدلّ على فرار طلحة وسعد - عند ذكر نصير الدين رحمه اللّه لغزاة أحد - ، قال : « جمع له - أي : لعليّ - الرسول صلی اللّه علیه و آله بين اللواء والراية ، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة - وكان يسمّى كبش الكتيبة - فقتله عليّ.
فأخذ الراية غيره فقتله عليّ ، ولم يزل يقتل واحدا بعد واحد ، حتّى قتل تسعة نفر ؛ فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم.
فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتّى غشي عليه ، فانهزم الناس عنه سوى عليّ.
فنظر إليه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد إفاقته وقال له : اكفني هؤلاء ؛ فهزمهم عليّ عنه ، وكان أكثر المقتولين منه »(3).
ص: 412
وبهذا جاءت أخبارنا ، لكن مع ذكرها لثبات أبي دجانة (1).
ولو سلّم أنّ طلحة وسعدا ثبتا ، فلا نعرف لهما بلاء يذكر.
ودعوى أنّ طلحة أصابه شلل وقاية لوجه النبيّ صلی اللّه علیه و آله محلّ نظر ، ولذا نسبه الشعبي إلى الزعم.
فقد حكى في « كنز العمّال » (2) ، في كتاب الغزوات ، عن ابن أبي شيبة ، عن الشعبي ، قال : « أصيب يوم أحد أنف النبيّ صلی اللّه علیه و آله ورباعيّته ، وزعم أنّ طلحة وقى رسول اللّه بيده ، فضرب فشلّت يده (3) ».
ولعلّ الشلل كان حينما فرّ!!
على أنّ عمدة المستند في ثباتهما وبلائهما هو نفسهما ، وهما محلّ التهمة ، لا سيّما مع العلم بكذبهما في بعض ما ادّعياه!
روى البخاري في غزاة أحد ، وفي مناقب المهاجرين ، عن أبي عثمان ، قال : « لم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض تلك الأيّام التي قاتل فيهنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غير طلحة وسعد ، عن حديثهما » (4).
إذ لا ريب - على تقدير ثباتهما في أحد - قد ثبت معهما غيرهما
ص: 413
كأمير المؤمنين علیه السلام ، فكيف يقولون : لم يبق غيرهما ؛ وليس هناك مقام آخر فرّ فيه المسلمون وثبتا فيه وحدهما؟!
فإذا علم كذبهما في ذلك ، كانا محلّ التهمة في كلّ ما أخبرا به ، ومنه دعوى سعد أنّ رسول اللّه جمع له أبويه وفداه بهما (1)!
ولو سلّم أنّهما لم يفرّا ، وأنّ لهما بلاء في أحد ، فلا يقاسان بأمير المؤمنين علیه السلام ، الذي عجبت الملائكة من حسن مواساته ، وصاح بمدحه جبرئيل ، حتّى يجعلهما الفضل في عرضه!
ولو أعرضنا عن هذا كلّه ؛ فعمدة المقصود : تفضيل أمير المؤمنين علیه السلام على المشايخ الثلاثة في الشجاعة والجهاد ، كسائر الصفات الحميدة ، والآثار الجميلة ، فلا ينفع الفضل إثبات شجاعة طلحة وسعد وبلائهما في أحد وحدهما دون المشايخ!
فكيف يستحقّون التقدّم على يعسوب الدين ، وليث العالمين ، وزين العلماء العاملين ، ونفس النبيّ الأمين؟!
لا سيّما عثمان! الذي اتّفقت الكلمة والأخبار على فراره بأحد ، وأنّه إنّما رجع بعد ثلاثة أيّام ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لقد ذهبت بها عريضا! » (2).
وكذا عمر ؛ فإنّ أكثر أخبارهم تدلّ على فراره ..
منها : جميع ما سبق.
ومنها : ما ذكره السيوطي في « الدرّ المنثور » ، بتفسير قوله سبحانه :
ص: 414
( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ ... ) (1) الآية ، قال : أخرج ابن المنذر (2) ، عن كليب ، قال : خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر « آل عمران » ويقول : إنّها أحدية.
ثمّ قال : تفرّقنا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم أحد ، فصعدت الجبل ، فسمعت يهوديّا يقول : قتل محمّد!
فقلت : لا أسمع أحدا يقول قتل محمّد إلّا ضربت عنقه ؛ فنظرت فإذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والناس يتراجعون إليه ، فنزلت هذه الآية : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (3).
وليت شعري من أين جاء اليهودي هناك؟!
وأين كانت هذه الحماسة عن قريش؟!
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » ، في تفسير سورة آل عمران - بعدما ذكر حديث ابن المنذر المذكور (4) - ، عن ابن جرير ، عن كليب ، قال :
ص: 415
خطبنا عمر فقرأ آل عمران ، فلمّا انتهى إلى قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ... ) (1) قال : لمّا كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتّى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنّني أروى (2) ... » (3) .. الحديث.
ومنها : ما ذكره ابن أبي الحديد (4) ، نقلا عن الواقدي ، قال : « لمّا صاح إبليس : إنّ محمّدا قد قتل ؛ تفرّق الناس - إلى أن قال : - وممّن فرّ عمر وعثمان ».
ومنها : ما حكاه أيضا عن الواقدي ، في قصّة الحديبية ، قال : « قال عمر : ألم تكن حدّثتنا أنّك ستدخل المسجد الحرام؟! - إلى أن قال : - ثمّ أقبل على عمر فقال : أنسيتم يوم أحد ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ) (5) وأنا أدعوكم في أخراكم؟! » (6) .. الحديث.
.. إلى غير ذلك من الأخبار (7).
ص: 416
وأمّا أبو بكر ؛ فيدلّ على فراره أيضا أخبار ..
منها : بعض ما قدّمناه في أدلّة فرار سعد وطلحة (1).
ومنها : ما رواه الحاكم في « المستدرك » (2) ، وصحّحه ، عن عائشة ، قالت : قال أبو بكر : لمّا جال الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم أحد كنت أوّل من فاء.
ومنها : ما نقله في « كنز العمّال » (3) ، في غزاة أحد ، عن أبي داود الطيالسي ، وابن سعد ، والبزّار ، والدارقطني ، وابن حبّان ، وأبي نعيم ، والضياء في « المختارة » ، وغيرهم ، بأسانيدهم عن عائشة ، قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ، ثمّ قال : ذاك كان كلّه يوم طلحة!
ثمّ أنشأ يحدّث ، قال : كنت أوّل من فاء يوم أحد ، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ دونه ] ، فقلت : كن طلحة حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحبّ إليّ » .. الحديث.
ص: 417
ومنها : ما رواه مسلم ، في أوّل غزوة أحد ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش (1).
ومن المعلوم أنّ أحد الرجلين عليّ ، والآخر ليس أبا بكر ؛ إذ لا رواية ولا قائل في ثباته ، وفرار سعد أو طلحة.
ومنها : ما رواه الحاكم في فضائل أبي بكر من « المستدرك » (2) ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (3) ، قال : « أبو بكر وعمر » ؛ ثم قال الحاكم : « صحيح على شرط الشيخين ».
ونقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن الحاكم ، قال : « وصحّحه » ، وعن البيهقي في « سننه » ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت هذه الآية في : أبي بكر وعمر (4).
ونقل الرازي في « تفسيره » ، عن الواحدي في « الوسيط » ، عن عمرو ابن دينار ، أنّه قال : الذي أمر اللّه (5) بمشاورته في هذه الآية : أبو بكر وعمر (6).
ووجه الدلالة في ذلك على فرار أبي بكر وكذا عمر ، أنّ من أمر اللّه سبحانه بمشاورته هم المنهزمون في أحد ، الّذين أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالعفو عنهم.
ص: 418
ولذا استشكل الرازي في رواية الواحدي فقال : « وعندي فيه إشكال ؛ لأنّ الّذين أمر اللّه رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الّذين أمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ، وهم المنهزمون.
فهب أنّ عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلّا أنّ أبا بكر ما كان منهم ، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟! واللّه أعلم » (1) انتهى.
وفيه : إنّ الإشكال موقوف على تقدير ثبات أبي بكر ، وهو خلاف الحقيقة!
هذا ، والآية ظاهرة في الأمر بمشاورتهم للتأليف ، كما يظهر من كثير من أخبارهم (2).
ومثله الأمر بالعفو عنهم والاستغفار لهم ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
وقال ابن أبي الحديد (3) : « قال الجاحظ : وقد ثبت أبو بكر مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم أحد كما ثبت عليّ ، فلا فخر لأحدهما على صاحبه.
قال شيخنا أبو جعفر : أمّا ثباته يوم أحد فأكثر المؤرّخين وأرباب السير ينكرونه ، وجمهورهم يروي أنّه لم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا عليّ وطلحة والزبير وأبو دجانة.
وقد روى عن ابن عبّاس أنّه قال : ولهم خامس ، وهو عبد اللّه بن
ص: 419
مسعود ؛ ومنهم من أثبت سادسا ، وهو المقداد بن عمرو.
وروى يحيى بن سلمة بن كهيل ، قال : قلت [ لأبي ] : كم ثبت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم أحد؟
فقال : اثنان.
قلت : من هما؟
قال : عليّ وأبو دجانة.
وهب أنّ أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدّعيه الجاحظ ، أيجوز له أن يقول : ( ثبت كما ثبت عليّ ، فلا فخر لأحدهما على الآخر )؟! وهو يعلم آثار عليّ ذلك اليوم ، وأنّه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار ، منهم : طلحة بن أبي طلحة ، الذي رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في منامه أنّه مردف كبشا ، فأوّله وقال : كبش الكتيبة نقتله ؛ فلمّا قتله عليّ مبارزة - وهو أوّل قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم - كبّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : هذا كبش الكتيبة!
وما كان [ منه ] من المحاماة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد فرّ المسلمون وأسلموه ، فتصمد له كتيبة من قريش ، فيقول : يا عليّ! اكفني هذه ؛ فيحمل عليها فيهزمها ، ويقتل عميدها ، حتّى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء :
لا سيف إلّا ذو الفقا *** ر ولا فتى إلّا علي
وحتّى قال النبيّ عن جبرئيل ما قال!
أتكون هذه آثاره وأفعاله ثمّ يقول الجاحظ : لا فخر لأحدهما على صاحبه؟!
ص: 420
( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) (1) ».
وليت شعري ، كيف يتصوّر ثبات أبي بكر في ذلك اليوم الهائل وحومة الحرب الطاحنة وما أصاب ولا أصيب؟!
أتراهم ينعون شلل أصبع طلحة ، ولا ينعون جرح أبي بكر لو أصيب؟!
وكيف يسلم وهو قد ثبت للحرب ومحاماة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهو يرى ما جنى عليه الكافرون؟! ولا سيّما قد زعم أولياؤه أنّه قرين النبيّ صلی اللّه علیه و آله في طلب قريش له ، حتّى بذلوا في قتله ما بذلوا في قتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله (2)!
وأمّا تكذيب الفضل للمصنّف رحمه اللّه في دعوى أنّ أبا بكر عانهم يوم حنين ، فمن الجهل ؛ لأنّ الرازي والزمخشري ذكرا من الأقوال : إنّ أبا بكر هو القائل : « لن نغلب اليوم عن (3) قلّة » (4).
وروى القوشجي في « شرح التجريد » ، عند تعرّض المصنّف لغزاة حنين ، قال : « سار النبيّ صلی اللّه علیه و آله في عشرة آلاف ، فتعجّب أبو بكر من كثرتهم وقال : ( لن نغلب اليوم لقلّة ) ، فانهزموا بأجمعهم ، ولم يبق مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله سوى تسعة نفر : عليّ ، والعبّاس ، وابنه الفضل ، وأبو سفيان
ص: 421
ابن الحارث ، ونوفل بن الحارث (1) ، وربيعة بن الحارث (2) ، وعبد اللّه بن الزبير (3) ، وعتبة ومعتّب (4) ابنا أبي لهب.
ص: 422
فخرج أبو جرول وقتله عليّ ، فانهزم المشركون ، وأقبل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسار نحو العدوّ ، فقتل عليّ منهم أربعين وانهزم الباقون وغنمهم المسلمون » (1).
ومن المعلوم أنّ الإصابة بالعين تحصل من نحو هذا التعجّب ؛ ولذا ساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « لن نغلب اليوم عن قلّة ».
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج البيهقي في « الدلائل » ، عن الربيع ، أنّ رجلا قال يوم حنين : « لن نغلب اليوم عن قلّة » ، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأنزل اللّه : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) (2) (3).
ونحوه في « حاشية صحيح البخاري » للسندي (4).
والظاهر أنّ الراوي أراد بالرجل أبا بكر ، وعبّر عنه برجل احتشاما له في مثل المقام ، كما يشهد له التصريح باسمه في بعض الروايات!
وقول الفضل : « كيف يعين أبو بكر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان ذلك اليوم شيخ المهاجرين؟! ... » إلى آخره ..
خطأ ؛ إذ لا يستبعد ذلك ممّن لم ينشأ على الحروب ومقارعة الجيوش ، ولا تتوقّف إصابة العين على العداوة ، بل تنشأ من أمور نفسيّة في العائن!
ص: 423
راجع شرح ابن أبي الحديد لقوله علیه السلام : « العين حقّ » (1) (2).
وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ أبا بكر كان صاحب رايتهم يوم حنين ، فلم أجد أحدا قاله أو رواه ، وإنّما صاحبها عليّ علیه السلام .
روى الحاكم (3) ، عن ابن عبّاس ، قال : « لعليّ أربع خصال ليست لأحد : هو أوّل عربي وأعجمي صلّى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو الذي كان لواؤه معه في كلّ زحف ، والذي صبر معه يوم المهراس (4) ، وهو الذي غسّله وأدخله قبره ».
وروى الحاكم أيضا (5) ، عن مالك بن دينار ، قال : « سألت سعيد بن جبير : من كان حامل راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! - إلى أن قال : - فقال : كان حاملها عليّ ، هكذا سمعت من عبد اللّه بن عبّاس ».
ثمّ قال الحاكم : « هذا صحيح الإسناد ، وله شاهد من حديث زنفل
ص: 424
العرفي ، وفيه طول فلم أخرجه » (1).
ونقل في « كنز العمّال » (2) ، عن ابن عساكر ، عن ابن عبادة ، قال : كانت راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المواطن كلّها - راية المهاجرين - مع عليّ ابن أبي طالب علیه السلام .
وأمّا ما أنكره على المصنّف رحمه اللّه من حضور عتبة بن أبي لهب في حنين ، فيبطله رواية القوشجي له كما سبق (3).
وما ذكره في « الاستيعاب » بترجمة معتّب وعتبة ، من أنّهما ما شهدا مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله حنينا (4) ، وما زعمه من أنّ عتبة افترسه الأسد بدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فباطل ؛ لأنّ ذلك هو لهب بن أبي لهب كما رواه الحاكم في « المستدرك » بتفسير سورة ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ) (5) (6).
واعلم أنّه لا خلاف في فرار عثمان يوم حنين ، ويظهر من « الاستيعاب » أنّه لا إشكال أيضا في فرار أبي بكر! وإنّما الكلام في فرار عمر ..
قال في ترجمة العبّاس بن عبد المطّلب : « انهزم الناس [ عن رسول
ص: 425
اللّه صلی اللّه علیه و آله ] يوم حنين ، غيره (1) ، وغير عمر ، وعليّ ، وأبي سفيان ابن الحارث ، وقد قيل : غير سبعة من أهل بيته ..
وذلك مذكور في شعر العبّاس ، الذي يقول فيه [ من الطويل ] :
ألا هل أتى عرسي مكرّي ومقدمي
بوادي حنين والأسنّة تشرع »
إلى أن قال في « الاستيعاب » : « وهو شعر مذكور في ( السيرة ) لابن إسحاق ، وفيه:
نصرنا رسول اللّه في الحرب سبعة *** وقد فرّ من قد فرّ عنه وأقشعوا (2)
وثامننا لاقى الحمام بسيفه *** بما مسه في اللّه لا يتوجّع
وقال ابن إسحاق : السبعة : عليّ ، والعبّاس ، والفضل بن العبّاس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وابنه جعفر ، وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد ، والثامن أيمن بن عبيد (3).
وجعل غير ابن إسحاق في موضع أبي سفيان : عمر بن الخطّاب.
والصحيح أنّ أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معه ، لم يختلف فيه ،
ص: 426
واختلف في عمر » (1).
ويؤيّد ما صحّحه ما ذكره البخاري في غزاة حنين ؛ فإنّه روى خبرين عن البراء صريحين في ثبات أبي سفيان (2) ، وخبرين عن أبي قتادة صريحين في فرار عمر ، قال أبو قتادة في أحدهما : « انهزم المسلمون وانهزمت معهم ، فإذا عمر بن الخطّاب في الناس ، فقلت له : ما شأن الناس؟!
قال : أمر اللّه!!
ثمّ تراجع الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (3).
وقال في الآخر : « لمّا التقينا كانت للمسلمين جولة - إلى أن قال : - فلحقت عمر فقلت : ما بال الناس؟!
قال : أمر اللّه!! ثمّ رجعوا » (4) .. الحديث.
ونحوه في كتاب « الجهاد » من صحيح مسلم ، في « باب استحقاق القاتل سلب المقتول » (5).
وذكر في « كنز العمّال » - في كتاب الغزوات (6) - حديثين يتضمّنان أنّ الثابتين هم : عليّ ، والعبّاس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب ، وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطّلب ، والزبير بن العوّام ، وأسامة بن
ص: 427
زيد.
وقد روى في « كشف الغمّة » بيتي العبّاس الأخيرين كما في « الاستيعاب » ، إلّا أنّه أبدل لفظ « سبعة » ب « تسعة » ، ولفظ « ثامن » ب « عاشر » ، وسمّى التسعة كما سمّاهم المصنّف والقوشجي (1).
وروى أيضا عن مالك بن عبادة الغافقي أنّه قال [ من الخفيف ] :
لم يواس النبيّ غير بني ها *** شم عند السيوف يوم حنين
هرب الناس غير تسعة رهط *** فهم يهتفون بالناس : أين (2)؟!
ثمّ قاموا مع النبيّ على المو *** ت فآبوا زينا لنا غير شين
وثوى أيمن الأمين من القو *** م شهيدا فاعتاض قرّة عين (3)
وأمّا ما زعمه من حقيقة قصّة براءة ، فقد سبق في الخبر السادس أنّها لا حقيقة لها ، اختلقوها لتسديد حال أبي بكر ، وبيّنّا أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يبعثه أوّلا إلّا ليعزله ثانيا ؛ تنبيها على فضل عليّ وعدم كفاية أبي بكر ؛ ليعتبر الناس أنّ من ليست له أهليّة القيام بتأدية « براءة » مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يصلح للقيام مقامه في الإمامة والزعامة العظمى بالأولويّة (4)!
* * *
ص: 428
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
القسم الثالث : في الفضائل الخارجيّة ، وفيه مطالب :
لم يلحق أحد أمير المؤمنين علیه السلام في شرف النسب ، كما قال علیه السلام : « نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد » (2).
قال الجاحظ - وهو من أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين علیه السلام - :
« صدق عليّ في قوله : نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد.
كيف يقاس بقوم منهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والأطيبان : عليّ وفاطمة ، والسبطان : الحسن والحسين ، والشهيدان : أسد اللّه حمزة وذو الجناحين جعفر ، وسيّد الوادي عبد المطّلب ، وساقي الحجيج عبّاس ، وحليم البطحاء أبو طالب.
والنجدة والخيرة فيهم ، والأنصار من نصرهم ، والمهاجرون من هاجر إليهم ومعهم ، والصدّيق من صدّقهم ، والفاروق من فرق بين الحقّ والباطل فيهم ، والحواريّ حواريّهم ، وذو الشهادتين ؛ لأنّه شهد لهم ، ولا خير إلّا فيهم ولهم ومنهم؟!
ص: 429
وأبان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أهل بيته بقوله : إنّي تارك فيكم الخليفتين ؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (1).
ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر لمّا طلب مصاهرة عليّ : إنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي (2).
فأمّا عليّ ، فلو أوردنا لأيّامه الشريفة ، ومقاماته الكريمة ، ومناقبه السنيّة ، لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال .. العرق صحيح ، والمنشأ كريم ، والشأن عظيم ، والعمل جسيم ، والعلم كثير ، والبيان عجيب ، واللسان خطيب ، والصدر رحيب ، وأخلاقه وفق أعراقه ، وحديثه يشهد لقديمه ».
هذا قول عدوّه (3).
* * *
ص: 430
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من كلام الجاحظ صحيح لا شكّ فيه ، وفضائل أمير المؤمنين أكثر من أن تحصى ، ولو أنّي تصدّيت لبعضها لأغرقت فيه الطوامير.
وأمّا ما ذكر أنّ الجاحظ كان من أعدائه ، فهذا كذب ؛ لأنّ محبّة السلف لا تفهم إلّا من ذكر فضائلهم ، وليس هذه المحبّة أمرا مشتهيا للطبع.
وكلّ من ذكر فضائل أحد من السلف ، فنحن نستدلّ من ذلك الذكر على وفور محبّته إيّاه.
وقد ذكر الجاحظ أمير المؤمنين بالمناقب المنقولة ، وكذا ذكره في غير هذا من رسائله ، فكيف يحكم بأنّه عدوّ لأمير المؤمنين؟!
وهذا يصحّ على رأي الروافض ؛ فإنّ الروافض لا يحكمون بالمحبّة إلّا بذكر مثالب الغير.
فعندهم محبّ عليّ من كان مبغض الصحابة ، وبهذا المعنى يمكن أن يكون الجاحظ عدوّا.
* * *
ص: 431
لا يصحّ الاستدلال على حبّ أمير المؤمنين علیه السلام بمجرّد ذكر فضائله ؛ إذ لا يسع أحدا أن يعد فضلا لسواه ويدعه ، ويثني على غيره ويعدوه.
وقد علم اللّه ما في طيّات قلوبهم من بغضه ، وإن اختلف قوّة وضعفا ؛ إذ لا يجتمع حبّه الصادق مع موالاة مبغضيه ، لا سيّما أظهر أعدائه وأكبر حسّاده وأشدّ محاربيه ، كمعاوية ، وابن العاص ، ومروان ، والمغيرة ، وأشباههم! بل كيف يوالي النبيّ من والاهم؟! وكيف يؤمن به من نصرهم وأطراهم؟!
أليس هو القائل لعليّ علیه السلام : « حربك حربي » (1) و « من أبغضك أبغضني » (2) و « من سبّك سبّني » (3)؟!
ص: 432
وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1).
فإذا رأيت أحدا ممّن يوالي هؤلاء يذكر فضلا لأمير المؤمنين علیه السلام ؛ فليس إلّا لأنّه لا يسعه - كما عرفت - ، أو لأنّه يريد أن يدفع عنه وصمة النصب (2) ، أو يريد بيان اطّلاعه وسعة باعه ، لا حبّا له ووفاء
ص: 433
بحقّه (1)!
ولذا لا يروون له فضيلة إلّا وطعنوا - مهما أمكن - بسندها أو دلالتها ، ولا تنشرح نفوسهم لها ، بخلاف ما إذا رووا فضيلة لغيره!
ولا بدّ أن يظهر اللّه مخفيّات سرائرهم على صفحات أرقامهم وطفحات أقلامهم ، كما رأيته من هذا الرجل في كثير من كلماته ، وظهر على الجاحظ في رسالته التي تحامل فيها على أمير المؤمنين علیه السلام كلّ التحامل ، وظهر فيها مظهر العداء له ، التي نقضها أبو جعفر الإسكافي (2).
ص: 434
ونقلنا كلمة منها في المبحث السابق (1).
هيهات لا تتكلّفنّ لي الهوى
فضح التطبّع شيمة المطبوع(2)
وممّا ذكرنا يعلم أنّه يشترط في حبّ عليّ علیه السلام الحقيقي بغض أعدائه.
* * *
ص: 435
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
كانت فاطمة سيّدة نساء العالمين زوجته ..
قال ابن عبّاس : « لمّا زفّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة علیهاالسلام كان قدّامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من ورائها ، يسبّحون اللّه ويقدّسونه حتّى طلع الفجر » (2).
فانظر - أيّها العاقل! - كيف يروي الجمهور هذه الروايات ، ويظلمونها ، ويأخذون حقّها (3) ، ويكسرون ضلعها ، ويجهضون ولدها من
ص: 436
وقال الفضل (1) :
ما ذكره من فضائل فاطمة معلوم ، محقّق ، ثابت ..
وما ذكر أنّ الجمهور يروون فضائلها ويظلمونها ، فكلام باطل ؛ لأنّه على تقدير صحّة الظلم عليها ، فإنّ الظالمين عليها (2) كانوا جماعة غير الراوين لفضائلها ، فكلامه هذا غير مربوط ولا معقول ، كأكثر كلامه في هذا الكتاب.
* * *
ص: 438
أراد المصنّف رحمه اللّه بالجمهور : من خالفوا أمير المؤمنين علیه السلام ، سواء كانوا من الصحابة أم من غيرهم ، فتصحّ نسبة الظلم إليهم باعتبار بعضهم ، ونسبة الرواية إليهم باعتبار بعض آخر.
على أنّ الراوين لفضلها - إن لم يكونوا من الظالمين لها حقيقة - فهم منهم ببعض الوجوه والاعتبارات ؛ كمؤازرتهم لهم ، وتعظيمهم ، ونصرتهم لهم بالقلم واللسان!
ولنذكر من روى حديث سيادتها لنساء العالمين ، أو : المؤمنين ، أو : أهل الجنّة ، على اختلاف في ألفاظ الأحاديث ، ليعلم استفاضته عندهم أو تواتره.
فممّن رواه : البخاري ، في باب « مناقب فاطمة » ، وأواخر باب « علامات النبوّة » قبل أبواب فضائل أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقليل (1).
ومنهم : مسلم ، في باب « فضائل فاطمة » ، من طريقين عن عائشة ، عن فاطمة (2).
ومنهم : الحاكم ، في « المستدرك » ، من طريقين عن حذيفة (3) ،
ص: 439
ومن طريق عن أبي سعيد (1) ، ومن طريق عن عائشة (2).
ومنهم : الترمذي في باب « مناقب الحسنين » من طريق عن حذيفة ، وفي باب « فضل أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله » من طريق عن أمّ سلمة (3).
ومنهم : ابن عبد البرّ في « الاستيعاب » من عدّة طرق ، عن عائشة ، وأبي سعيد ، وعمران بن حصين ، وأنس ، وأبي هريرة (4).
ومنهم : أحمد في « مسنده » ، عن أبي سعيد (5) ، وحذيفة (6) ، وعائشة عن فاطمة (7).
وأخرجه النسائي في « الخصائص » من عدّة طرق ، عن عائشة ، وأمّ سلمة ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة (8).
وحكاه في « كنز العمّال » في فضائل فاطمة ، عن ابن جرير عن حذيفة (9) ، وعن البزّار عن عليّ علیه السلام (10) ، وابن أبي شيبة عن حذيفة (11).
ص: 440
وحكاه أيضا (1) ، عن البيهقي ، وابن ماجة ، والعقيلي ، عن فاطمة علیهاالسلام ..
وابن عساكر (2) ..
وابن حبّان في « صحيحه » ، عن حذيفة (3) ..
وابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (4) ..
وأبي يعلى والطبراني ، عن أبي سعيد (5) ..
وابن النجّار والطبراني ، عن أبي هريرة (6) ..
وفي أكثر هذه الروايات ذكر أنّ « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ».
وروى الحاكم في « المستدرك » (7) ، عن ابن عبّاس : أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة ، وفاطمة ، ومريم وآسية.
ومثله في « مسند أحمد » عن ابن عبّاس (8).
ص: 441
وفي رواية أخرى للحاكم ، عن عائشة : سيّدات نساء أهل الجنّة : مريم ، وفاطمة ، وخديجة ، وآسية (1).
وروى حديثه الأوّل بسند آخر عن ابن عبّاس (2).
وروى الحديث عن أنس - أيضا - من طريقين ، بلفظ : « حسبك من نساء العالمين ، مريم ، وخديجة ، وفاطمة ، وآسية » (3).
ومثله في « صحيح الترمذي » ، في فضائل خديجة (4).
وفي « مسند أحمد » ، عن أنس (5).
وروي في « الاستيعاب » بترجمة خديجة ، حديث تفضيل الأربع ، من أربعة طرق ، عن ابن عبّاس (6) ..
وثلاثة طرق ، عن أنس (7) ..
وطريق ، عن أبي هريرة (8) ..
ورواه بترجمة فاطمة بطرق أخر عن هؤلاء (9).
ورواه جماعة آخرون يطول ذكرهم (10).
ص: 442
وفي جملة هذه الروايات : « خير نساء العالمين أربع : مريم ، وآسية ، وخديجة ، وفاطمة علیهاالسلام ».
وذكر الحاكم (1) ، أنّ مسلما أخرج حديث أبي موسى ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « خير نساء العالمين أربع » ، ولم أجده في « صحيح مسلم » ، لا في فضائل خديجة! ولا في فضائل فاطمة علیهاالسلام !!
نعم ، روى في فضائل خديجة ، عن أبي موسى : « لم يكمل من النساء غير مريم وآسية ، وإنّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » (2).
فلعلّ النّساخ حرّفوا الحديث ، إيثارا لعائشة بالفضل ، كما يشهد له أنّ هذا الحديث لم يشتمل على ذكر خديجة ، فكيف أخرجه مسلم في فضائلها؟! (3).
ولو لم يكن أصل لما ذكره الحاكم ، لتعقّبه الذهبيّ في « تلخيصه »! وكيف كان! فلا ريب عندنا أنّ فاطمة علیهاالسلام أفضل الأربع ، وسيّدة نساء العالمين أجمع ، كما قضت به أخبارنا (4) ، وكذا أكثر أخبار القوم ؛
ص: 443
وقد رغب بعض القوم أن يعارض حديث سيادة الزهراء علیهاالسلام بما وضعه على لسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » (1) ..
وهو ظاهر الوضع ؛ إذ لا يحسن نسبة هذا التشبيه الواهي إلى من أعطي جوامع الكلم ، وكان أفصح من نطق بالضاد.
وكيف لا يجزم بكذبه من عرف طريقة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في لطف كلامه ، وحسن بيانه ، وبديع تشبيهاته؟!
وأين هو من قوله صلی اللّه علیه و آله : « فاطمة سيّدة نساء العالمين » (2)؟!
وليت شعري ، أيكون الفضل جزافا ، وقد خالفت أمر اللّه في كتابه بقرارها في بيتها (3) ، وخرجت على إمام زمانها الذي قال فيه رسول اللّه : « حربك حربي » (4)؟!
ص: 445
وجاهرت بعداوته (1) ، وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه : « من عاداك عاداني ، ومن عاداني عادى اللّه » (2).
واستمرّت على بغضه (3) ، وقد جعل الرسول بغضه دليل
ص: 446
النفاق(1) ، وقال فيه : « من أبغضك أبغضني ، ومن أبغضني أبغض اللّه »(2).
وكيف تكون أفضل النساء وقد ضرب اللّه سبحانه مثلها وصاحبتها في كتابه المجيد بقوله تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ) ادْخُلَا ( النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (3)؟!
ثمّ إنّه بعد ثبوت حديث سيادتها الجامع لأصناف الفضل ، لا نحتاج إلى إثبات الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه في زفافها ؛ فإنّه من بعض ما يقتضيه سيادتها وشرفها ، ولا سيّما بعدما زوّجها اللّه تعالى في السماء من
ص: 447
عليّ سيّد الأولياء ، ولكنّي رأيته مصادفة في « ميزان الاعتدال » بترجمة توبة بن عبد اللّه (1) ، وقال عداوة ودفعا بالصدر : « هذا كذب [ صراح ] » (2).
ولنذكر عوضه ما هو أعظم منه ، بل أعظم من حديث سيادتها ، وهو ما رواه الحاكم (3) ، وصحّحه على شرط الشيخين ، عن عائشة ، قالت : « ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من فاطمة.
وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبّلها ورحّب بها ، وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه.
وكانت هي إذا دخل عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قامت إليه مستقبلة وقبّلت يده ».
ورواه أيضا (4) إلى قوله : « فأجلسها في مجلسه » ، وصحّحه أيضا على شرط الشيخين ، وأقرّ الذهبيّ بصحّته لكن لا على شرطهما.
وروى الترمذي نحو الأوّل ، في فضل فاطمة ، وحسّنه ، ثمّ قال : « وروي [ هذا الحديث ] من غير وجه عن عائشة » (5).
ص: 448
وروي أيضا في « الاستيعاب » نحوه (1).
فانظر إلى ما فيه من الدلالة على الفضل الباذخ والشرف الشامخ ؛ إذ ليس من شأن البنت أن يقوم لها أبوها ويتنحّى عنها ويجلسها في مجلسه ، لا سيّما وهو سيّد النبيّين وخير الأوّلين والآخرين.
ولعلّه يريد بذلك من أمّته تعظيمها بعده ، ورعاية حرمتها ، علما منه بما تلقاه منهم من التقصير بحقّها ، وغصبها ميراثها ، والهجوم على بيتها ، إلى أن ماتت غضبى عليهم.
وقد كان من تعظيمه لها أنّه إذا جاء من سفر أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين ، ثمّ ثنّى بفاطمة علیهاالسلام ، كما رواه في « المستدرك » عن أبي ثعلبة (2).
وروى أيضا (3) ، عن ابن عمر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان إذا سافر كان آخر الناس عهدا به فاطمة ، وإذ قدم من سفر كان أوّل الناس به عهدا فاطمة.
* * *
ص: 449
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
وكان سبطاه الحسنان أشرف الناس بعده ..
روى أخطب خوارزم ، بإسناده إلى ابن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة » (2).
وعن البراء ، قال : رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حامل الحسن وهو يقول : « اللّهمّ إنّي أحبّه فأحبّه » (3).
وقال أبو هريرة : « رأيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله يمصّ لعاب الحسن والحسين كما يمصّ الرجل التمر » (4).
ص: 450
وعن أسامة بن زيد ، قال : « قلت : يا رسول اللّه! ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فإذا هو حسن وحسين على ركبتيه.
فقال : هذان ابناي وابنا بنتي ، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي أحبّهما فأحبّهما » ثلاث مرّات (1).
وعن جابر ، قال : دخلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلى ظهره الحسن والحسين وهو يقول : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما » (2).
وروى صاحب كتاب « [ نهاية ] الطلب وغاية السؤول » الحنبلي (3) ، بإسناده إلى ابن عبّاس ، قال : « كنت عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلى فخذه الأيسر
ص: 451
ابنه إبراهيم ، وعلى فخذه الأيمن الحسين ، وهو يقبّل هذا تارة ، وهذا أخرى ، إذ هبط جبرئيل فقال : يا محمّد! إنّ اللّه يقرأ عليك السلام ، وهو يقول : لست أجمعهما لك ، فافد أحدهما بصاحبه.
فنظر إلى ولده إبراهيم وبكى ، ونظر إلى الحسين وبكى ، ثمّ قال : إنّ إبراهيم أمّه أمة ، إذا مات لم يحزن عليه غيري ، وأمّ الحسين فاطمة ، وأبوه عليّ ابن عمّي ، لحمه لحمي ، ودمه دمي ، ومتى مات حزنت عليه ابنتي ، وحزن ابن عمّي ، وحزنت ، أنا أوثر حزني على حزنهما ؛ يقبض إبراهيم ، فقد فديت الحسين به ؛ فقبض إبراهيم بعد ثلاث.
وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا رأى الحسين مقبلا قبّله ، وضمّه إلى صدره ، ورشف ثناياه ، وقال : فديت من فديته بابني إبراهيم » (1).
وفي « صحيح مسلم » ، في تفسير قوله تعالى : ( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ) (2) ، قال : « لمّا قتل الحسين بن عليّ بكت السماء ، وبكاؤها حمرتها » (3).
ص: 452
وفي مسند أحمد بن حنبل ، أنّ من دمعت عيناه لقتل الحسين دمعة ، أو قطرت قطرة ، بوّأه اللّه عزّ وجلّ الجنّة (1).
وفي تفسير الثعلبي ، بإسناده قال : « مطرنا دما أيّام قتل الحسين علیه السلام » (2).
وكان مولانا زين العابدين عليّ بن الحسين أعبد أهل زمانه وأزهدهم ، يحجّ ماشيا والمحامل تساق معه (3).
وولده الباقر ؛ سلّم عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ قال لجابر : أنت تدرك ولدي محمّد الباقر ، إنّه يبقر العلم بقرا ، فإذا رأيته فأقرئه عنّي السلام (4).
والصادق ؛ أعلم أهل زمانه وأزهدهم ، وكان يخبر بالغيب ، ولا أخبر
ص: 453
بشيء إلّا وقع ؛ فلهذا سمّوه الصادق (1).
وكان الكاظم أزهد أهل زمانه وأعلمهم (2) ، وكذا ولده الرضا (3) ، والجواد (4) ، والهادي (5) ، والعسكري (6) ، والمهدي (7).
فهؤلاء الأئمّة الاثنا عشر لم يسبقهم سابق ، ولم يلحقهم لاحق ،
ص: 454
اشتهر فضلهم وزهدهم بين المخالف والمؤالف ، وأقرّوا لهم بالعلم ، ولم يؤخذ عليهم في شيء ألبتّة كما أخذ على غيرهم!
فلينظر العاقل بعين البصيرة ، هل ينسب هؤلاء الزهّاد المعصومون العلماء إلى من لا يتوقّى المحارم ، ولا يفعل الطاعات؟!
* * *
ص: 455
وقال الفضل (1) :
ما ذكر من فضائل فاطمة صلوات اللّه على أبيها وعليها وعلى سائر آل محمّد والسلام ، أمر لا ينكر ؛ فإنّ الإنكار على البحر برحمته ، وعلى البرّ بسعته ، وعلى الشمس بنورها ، وعلى الأنوار بظهورها ، وعلى السحاب بجوده ، وعلى الملك بسجوده ، إنكار لا يزيد المنكر إلّا الاستهزاء به.
ومن هو قادر على أن ينكر على جماعة ، هم أهل السداد ، وخزّان معدن النبوّة ، وحفّاظ آداب الفتوّة ، صلوات اللّه وسلامه عليهم؟!
ونعم ما قلت فيهم منظوما [ من المتقارب ] :
سلام على المصطفى المجتبى *** سلام على السيّد المرتضى
سلام على ستّنا فاطمة *** من اختارها اللّه خير النّسا
سلام على المسك أنفاسه *** على الحسن الألمعيّ الرضا
سلام على الأروعيّ الحسين *** شهيد برى جسمه كربلا
سلام على سيّد العابدين *** عليّ بن الحسين المجتبى
سلام على الباقر المهتدي *** سلام على الصادق المقتدى
سلام على الكاظم الممتحن *** رضيّ السجايا إمام التّقى
سلام على الثامن المؤتمن *** عليّ الرضا سيّد الأصفيا
سلام على المتّقي التقي *** محمّد الطيّب المرتجى
ص: 456
سلام على الأريحيّ النقي *** عليّ المكرّم هادي الورى
سلام على السيّد العسكري *** إمام يجهّز جيش الصفا
سلام على القائم المنتظر *** أبي القاسم القرم نور الهدى
سيطلع كالشمس في غاسق *** ينجّيه من سيفه المنتضى
يرى يملأ الأرض من عدله *** كما ملئت جور أهل الهوى
سلام عليه وآبائه *** وأنصاره ما تدور السّما
* * *
ص: 457
إنّ سيّد المرسلين وآله خيرة اللّه من العالمين ، لغنيّون بمدح اللّه لهم في كتابه العزيز (1) ، عن مدحهم بمثل هذا الذي سمّاه منظوما ، لكنّا نشكره عليه ، فإنّه غاية مقدوره ، ومبلغ علمه.
وينبغي التعرّض لهذه الأخبار التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ، لكنّها كثيرة يطول المقام ببيان من رواها ، فإن شئت أن تعرفها فارجع إلى « كنز العمّال » ، و « جامع الترمذي » ، و « صواعق » ابن حجر ، ونحوها ، تجدها وأضعافها (2).
نعم ، لا يجمل الإخلال بذكرها أصلا ، فالأولى أن نتعرّض لبعضها بنحو الإشارة إلى من رواها من الصحابة ، ومن أخرجها ، كحديث أنّ الحسنين علیهماالسلام سيّدا شباب أهل الجنّة ، « وكلّ الصّيد في جوف الفرا » (3).
ص: 458
فنقول : رواه من الصحابة عليّ علیه السلام ، وعمر ، وابنه ، وابن مسعود ، وأبو سعيد ، وجابر ، وحذيفة ، والبراء ، وأسامة ، وأنس ، وأبو هريرة ، وقرّة ، ومالك بن الحويرث ، وابن أبي رمثة ، وغيرهم (1) ..
وأخرجه الترمذي في « صحيحه » (2) ..
والنسائي في « الخصائص » (3).
والحاكم في « المستدرك » (4) ..
وأحمد في « المسند » (5) ..
والضياء في « المختارة » (6) ..
وابن عبد البرّ في « الاستيعاب » (7) ..
والطبراني في « الكبير » و « الأوسط » (8) ..
ص: 459
وأبو يعلى ، والبزّار ، وأبو نعيم ، وابن النجّار ، وابن مندة ، وابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وابن شاهين ، والديلمي ، وابن عساكر ، وغيرهم (1).
وربّما أخرجه الواحد منهم من نحو عشرة طرق عن جماعة من الصحابة (2).
ويعلم الكثير من هذا من مراجعة ما أشرنا إليه من محالّ روايات سيادة أمّهما فاطمة علیهاالسلام ؛ فإنّ كثيرا ممّن يروي سيادتها يروي سيادة
ص: 460
ولديها (1).
وقد وجدت حديث سيادتهما وحدهما ، أو مع أمّهما ، في « مسند أحمد » ، عن أبي سعيد ، من عدّة طرق (2) ..
وعن حذيفة من طريقين (3) ..
واعلم أنّه جاء في بعض ما أشرنا إليه من الأخبار أنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة إلّا ابني الخالة عيسى ويحيى (4).
والظاهر أنّه من قلم التصرّف ؛ لأنّ المراد بالشباب : إمّا الشباب في الدنيا أو في الآخرة ..
لا شكّ أنّه لا يراد الأوّل ؛ لأنّ الحسنين في أيّام كلام جدّهما صلی اللّه علیه و آله كانا طفلين ، وبلحاظ ما بلغاه من السنّ ، كان الحسن كهلا والحسين شيخا ..
كما أنّ عيسى حينما رفعه اللّه تعالى قد بلغ سنّ الكهولة أو تجاوزه ؛ لقوله تعالى : ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (5) ، وحينما ينزله يوم خروج المهديّ عجّل اللّه فرجه يكون من أكبر الأنبياء سنّا ..
ص: 461
فكيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة » ثمّ يستثني عيسى؟!
فلا بدّ أن يكون المراد : هو الشباب في الآخرة.
وحينئذ فلا وجه لاستثناء عيسى ويحيى وحدهما ، والناس كلّهم شباب في الجنّة ، ومنهم من هو أفضل من يحيى ، كنوح وإبراهيم وموسى.
فلا بدّ أن يكون الاستثناء باطلا ، ويكون الحسنان سيّدي شباب أهل الجنّة من دون استثناء ، كما تواترت به أخبارنا (1) ، واستفاضت به بقيّة أخبارهم (2).
ص: 462
ولم يخرج من العموم إلّا جدّهما صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه المتكلّم ، مع كون خروجه ضروريّا ..
وأبوهما ؛ لقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في كثير من هذه الأخبار : « وأبوهما خير منهما » ، كما رواه الحاكم في « المستدرك » (1) ، من طريق عن ابن مسعود ، وطريق عن ابن عمر ، واتّفق هو والذهبي على صحّة حديث ابن مسعود.
ونقله في « كنز العمّال » (2) بلفظه ، أو بلفظ : « وأبوهما أفضل منهما » ، عن ابن عساكر ، عن عليّ علیه السلام ..
وعن النسائي وابن عساكر ، عن ابن عمر ؛ وعن الطبراني ، عن قرّة ومالك بن الحويرث (3) ..
ونقله أيضا بعد ذلك (4) ، عن الديلمي ، عن أنس ؛ وعن الطبراني ،
ص: 463
عن حذيفة.
ولو سلّم صحّة الاستثناء المذكور ، فهو كالنصّ في سيادة الحسنين لبقيّة الأنبياء ، وهو الشرف الذي لا يوازى ، ودليل فضلهما على بقيّة الأنبياء ، فكيف بآحاد أمّتنا وغيرها؟!
وإنّما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « سيّدا شباب أهل الجنّة » ولم يقل : « [ سيّدا ] (1) أهل الجنّة » ؛ للإشارة إلى أنّ أهل الجنّة شباب كلّهم.
وفي بعض أخبارنا أنّ جميع أهل الجنّة شباب إلّا محمّدا وعليّا وآدم ونوحا وإبراهيم ، فإنّهم شيب.
وعليه : فيتّجه التقييد بالشباب ، ويرتفع الإشكال عن خروج محمّد صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام .
هذا ، ولمّا أراد بعض القوم أن يناظر الحسنين بالشيخين ، وضع على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّهما سيّدا كهول أهل الجنّة (2) ، وما تصوّر أنّهما في الدنيا بلغا سنّ الشيخوخة حتّى في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنّ أهل الجنّة شباب لا كهل فيهم.
وقد ذكر في « ميزان الاعتدال » حديث أنّهما سيّدا كهول أهل الجنّة ، بترجمة محمّد بن كثير الصنعاني ، كما ذكرناه بترجمته في مقدّمة الكتاب ، وذكرنا أنّ ابن المديني بعدما سمع روايته لهذا الحديث قال : « لا أحبّ
ص: 464
أن أراه » (1).
وينبغي التعرّض - أيضا - لما رواه المصنّف رحمه اللّه ، عن جابر ، من ركوب الحسنين علیهماالسلام على ظهر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وقوله : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما » (2) ..
فنقول : نقله في « كنز العمّال » ، في فضائل الحسنين (3) ، عن ابن عديّ ، والرامهرمزي في « الأمثال » ، وعن ابن عساكر من ثلاثة طرق ، وكلّهم عن جابر ، إلّا أنّه قال في إحدى روايات ابن عساكر : دخلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو يمشي بينهما (4) ، فقلت : نعم الجمل جملكما ؛ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ونعم الراكبان هما » (5).
ونقله أيضا عن الطبراني ، عن سلمان - بقصّة طويلة أخرى - ، قال : « كنّا حول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فجاءت أمّ أيمن ، فقالت : يا رسول اللّه! لقد ضلّ الحسن والحسين ، وذلك رأد (6) النهار.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قوموا فاطلبوا ابنيّ!
ص: 465
وأخذ كلّ رجل تجاه وجهه ، وأخذت نحو النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، [ فلم يزل حتّى أتى سطح جبل ] ، وإذا الحسن والحسين يلتزق كلّ واحد منهما صاحبه ، وإذا شجاع (1) قائم على ذنبه يخرج من فيه شبه النار ، فأسرع إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فالتفت مخاطبا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ انساب فدخل بعض الأحجرة ، ثمّ أتاهما فأفرق بينهما ومسح وجوههما ، وقال : « بأبي وأمّي أنتما! ما أكرمكما على اللّه! » ، ثمّ حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر على عاتقه الأيسر.
فقلت : طوبى لكما! نعم المطيّة مطيّتكما.
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ونعم الراكبان هما ، وأبوهما خير منهما » (2).
وروى الترمذي ، في مناقب الحسنين ، عن ابن عبّاس ، قال : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حامل الحسن (3) على عاتقه ، فقال رجل : نعم المركب ركبت يا غلام!
فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ونعم الراكب هو (4).
ورواه الحاكم في فضائل الحسن (5).
ص: 466
وقريب من ذلك ما رواه الحاكم (1) في « المستدرك » أيضا ، في فضائل الحسنين علیهماالسلام ، وصحّحه ، عن أبي هريرة ، قال : « كنّا نصلّي مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العشاء ، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره ، وإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا ، فإذا عاد عادا ، فلمّا صلّى جعل واحدا هاهنا ، وواحدا هاهنا.
فقلت : يا رسول اللّه! ألا أذهب بهما إلى أمّهما؟
قال : لا.
فبرقت برقة ، فقال : إلحقا بأمّكما.
فما زالا يمشيان في ضوئها حتّى دخلا ».
ومثله في « مسند أحمد » من طريقين ، عن أبي هريرة (2).
ونقله في « كنز العمّال » (3) ، عن ابن عساكر ، من طريقين ، عن أبي هريرة.
وأمّا أحاديث حبّ النبيّ للحسنين فمتواترة ، ومن أحسنها ما رواه الحاكم (4) وصحّحه ، عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : من أحبّهما فقد أحبّني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني.
ونقله في « كنز العمّال » (5) ، عن أحمد في « مسنده » ، وابن ماجة.
ص: 467
وروى الحاكم - أيضا - قبل الحديث المذكور ، وصحّحه على شرط الشيخين ، عن سلمان ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : الحسن والحسين ابناي ، من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبني أحبّ (1) اللّه ، ومن أحبّ (2) اللّه أدخله الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه اللّه ، ومن أبغضه اللّه أدخله النار.
وتعقّبه الذهبيّ بقوله : « هذا حديث منكر ، وإنّما رواه بقيّ بن خالد (3) بإسناد آخر واه ، عن زاذان ، عن سلمان » (4).
حقّا له أن يستنكره ؛ لأنّه يستوجب دخول أكثر أوليائه النار ، ومجرّد روايته بإسناد آخر واه لا يمنع من روايته بإسناد صحيح على شرط الشيخين ، ولذا لم يناقش الذهبيّ في هذا الإسناد!
ص: 468
وحكى نحوه في « كنز العمّال » (1) ، عن أبي نعيم وابن عساكر ، عن سلمان ؛ وعن أبي نعيم ، عن أبي هريرة ؛ لكن بهذا اللفظ : « من أحبّهما أحببته ، ومن أحببته أحبّه اللّه ، ومن أحبّه اللّه أدخله جنّات النّعم ، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه اللّه ، ومن أبغضه اللّه أدخله جهنّم ، وله عذاب مقيم ».
وأمّا حديث فداء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ابنه إبراهيم للحسين علیه السلام ، فقد وردت به أخبارنا أيضا (2).
وحكاه السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الخطيب ، وقال : « زعم ابن الجوزي أنّه موضوع ، آفته محمّد بن الحسن النقّاش » (3).
وفيه - مع ما عرفت في مقدّمة الكتاب من أنّ من روى فضيلة لأهل البيت ثقة فيها (4) - : إنّ النقّاش ممّن أثنى عليه أبو عمرو الداني (5) ، وكان شيخ المقرئين في عصره ، ورحل إلى عدّة مدائن في طلب
ص: 469
العلم ، واحتيج إليه ، كما ذكره في « ميزان الاعتدال » (1) ، فأيّ داع له - وهو من أهل السنّة - إلى وضع هذا الحديث ، ويسقط نفسه بين قومه؟!
* * *
ص: 470
قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما في « مسند أحمد بن حنبل » ، وقد أخذ بيد حسن وحسين - : « من أحبّني وأحبّ هذين وأحبّ أباهما وأمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (2).
وعن حذيفة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ أن يتمسّك بقصبة الياقوت التي خلقها اللّه تعالى ، ثمّ قال لها : كوني ، فكانت ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب من بعدي » (3).
وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو اجتمع الناس على حبّ عليّ لم يخلق اللّه النار » (4).
وقال صلی اللّه علیه و آله : « حبّ عليّ حسنة لا يضرّ معها سيئة ، وبغض عليّ
ص: 471
سيّئة لا ينفع معها حسنة » (1).
وقال رجل لسلمان : ما أشدّ حبّك لعليّ علیه السلام !
قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « من أحبّ عليّا فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني » (2).
ومن « المناقب » لخطيب خوارزم ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ عليّا قبل اللّه منه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه.
ألا ومن أحبّ عليّا أعطاه بكلّ عرق في بدنه مدينة في الجنّة.
ألا ومن أحبّ آل محمّد أمن الحساب والميزان والصراط.
ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فأنا كفيله بالجنّة مع الأنبياء.
ألا ومن أبغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة اللّه » (3).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (4) ..
ص: 472
وآيات القرآن دالّة عليه ..
قال اللّه تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلأَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) ، جعل مودّة عليّ وآله أجرا لرسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).
وفي « الجمع بين الصحاح الستّة » ، عن ابن عبّاس ، قال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « أحبّوا اللّه لما يغذوكم به من نعمة ، ولما هو أهله ، وأحبّوني لحبّ اللّه ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي » (3).
ومن « مناقب » الخوارزمي : عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من ناصب عليّا الخلافة بعدي فهو كافر ، وقد حارب اللّه ورسوله » (4).
ومنه : عن معاوية بن حيدة القشيري (5) ، قال : سمعت
ص: 473
النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ : « يا عليّ! لا يبالي من مات وهو يبغضك مات يهوديّا أو نصرانيّا » (1).
ومنه : عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « كذب من زعم أنّه يبغضك ويحبّني » (2).
وعن أبي هريرة ، قال : أبصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّا وحسنا وحسينا وفاطمة ، فقال : « أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم » (3).
ومنه : عن ابن عبّاس ، قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « أنت سيّد في الدنيا ، وسيّد في الآخرة ، من أحبّك فقد أحبّني ، ومن أحبّني
ص: 474
وقال الفضل (1) :
ما ذكر في هذا المطلب من وجوب محبّة أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، سيّما عليّ بن أبي طالب ، فهو أمر لا منازع فيه ، والأخبار والآثار والدلائل على هذا المقصود عند أهل السنّة والجماعة كثيرة.
ولكن ذكر في هذا المطلب أخبارا منكرة موضوعة ، ظاهر عليها أثر الوضع والنّكارة (2) والمجهولية.
ولكن ما يتعلّق بذكر الفضائل لا يتعرّض لكونه موضوعا أو مجهولا ؛ لأنّ ذكر الفضائل مقصود ، ولا يتعلّق بالمذهب ولا يتوجّه إليه ردّ.
وأمّا ما ذكره من « مناقب الخوارزمي » نقلا عن أبي ذرّ ، أنّه قال : « من ناصب عليّا الخلافة بعدي فهو كافر » ، فهذا حديث موضوع ، منكر ، لا يرتضيه العلماء ، وأكثر ما ذكر من « مناقب الخوارزمي » ، فكذلك.
وهذا الخوارزمي رجل كأنّه شيعيّ مجهول ، لا يعرف بحال ، ولا يعدّه العلماء من أهل العلم ، بل لا يعرفه أحد ، ولا اعتداد برواياته وأخباره!
ص: 476
وأقول :
قد سبق كثير ممّا ذكره المصنّف رحمه اللّه هنا وبيّنّا ثبوته (1) ، ولو احتجنا إلى إثبات الباقي لذكرناه ، وفي « المستدرك » و « الكنز » أكثره (2) ، لكن لا حاجة إليه بعد قوله سبحانه : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلأَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (3) ، وغيرها من الآيات (4) ..
وبعد استفاضة الروايات في وجوب حبّهم وفضله ، وأنّ حبّهم علامة الإيمان ، وبغضهم علامة النفاق ، وأنّ من أحبّهم أحبّ اللّه ورسوله ، ومن أبغضهم أبغض اللّه ورسوله.
والإنسان في غنى عن البحث في سند الأحاديث المتعلّقة بحبّهم وبغضهم ؛ لاشتهارها ، بل تواترها معنى.
وإذا تأمّلت كثرة ما ورد في الترغيب بحبّهم ، والتحذير من بغضهم ، والوصيّة فيهم بالكيفيّات المختلفة ، والوجوه المتعدّدة ، لعلمت أنّ ذلك لم يكن إلّا لأمر في الأصحاب ، وإلّا لو كانوا كما يظنّ الظانّون ، لما احتاجوا إلى ذلك ؛ لقضاء العادة بحبّهم لأهل البيت علیهم السلام ، واحترامهم لهم ؛ لقربهم
ص: 477
من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فضلا عن أهليّتهم في أنفسهم وكثرة آثار عليّ علیه السلام في الإسلام ..
فلا بدّ أن يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد علم ما نقوله ، من بغض غالب الأصحاب لهم ، وظلمهم إيّاهم ، وأنّ النفاق قد فشا فيهم وانقلبوا على الأعقاب!
بل لو تأمّل المنصف أخبار حبّهم وبغضهم لم يفهم منها إلّا إرادة وجوب التمسّك بهم ، فهي بيان لإمامتهم ، ولسان في وجوب اتّباعهم وحرمة مخالفتهم ، وإلّا فالحبّ والبغض من حيث هما ليسا بتلك الأهميّة التي اشتمل عليها الكتاب والسنّة.
وبهذا يعلم صحّة ما رواه أبو ذرّ رحمه اللّه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « من ناصب عليّا الخلافة [ بعدي ] فهو كافر » ..
وما زعمه - من كونه منكرا موضوعا - تامّ على مذهبه ، وإلّا فبالنظر إلى الخبر بنفسه لا نكارة فيه ، وهو وأشباهه حجّة عليهم.
ويؤيّده ما في « كنز العمّال » (1) ، عن الدارقطني في « الأفراد » ، عن ابن عبّاس : « عليّ باب حطّة ، من دخل منه كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان كافرا ».
وما في « الكنز » أيضا ، عن عليّ ، وجابر ، وابن مسعود ، بطرق : « عليّ خير البشر ، فمن أبى فقد كفر » (2).
ورواه السيوطي في « اللآلئ » ، عن ابن عديّ ، بسنده عن أبي سعيد ؛
ص: 478
وعن أبي الحسن بن شاذان الفضلي ، بسنده عن حذيفة (1).
فهو كثير الطرق ، حقيق بالاعتبار ..
.. إلى نحوها من الأخبار (2).
ولا يخفى أنّ قول الفضل : « ولكن ما يتعلّق بذكر الفضائل لا يتعرّض لكونه موضوعا ... » إلى آخره (3) ..
مناف لما ذكره في أوّل المبحث الخامس ، حيث قال : « يشترط في ذكر الفضائل أن يروى من الصحاح المعتبرة ، ومن العلماء الّذين اعتمدهم الناس ... » إلى آخره (4).
والظاهر أنّ السبب في هذا العدول إرادته رواية فضائل أوليائه قريبا ، لتقبل على علّاتها ولا يلتفت إلى وضعها!
وأمّا ما طعن به الخوارزمي ، فليس إلّا لرواياته في فضائل أهل البيت ، والحال أنّه قد استفاض أكثرها بطرق أخر عن غيره ، بل كلّها بلحاظ شواهدها ومناسباتها.
وهو ممّن لا يجهل عند القوم ، فقد روى عنه ابن حجر ، وكنّاه ب « أبي بكر » في « الصواعق » ، في المقصد الثاني من المقاصد المتعلّقة بالآية الرابعة عشرة ، من الآيات الواردة في أهل البيت علیهم السلام (5).
وقد ذكره الذهبيّ في « الميزان » ، بترجمة « محمّد بن عبد اللّه بن
ص: 479
محمّد البلوي » ، فقال - بعد ما ذكر حديثا في فضل عليّ علیه السلام - : « رواه أخطب خوارزم » (1).
وذكره أيضا بترجمة « محمّد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان » ، فإنّه ذكر في ترجمته أحاديث له في فضائل عليّ علیه السلام ، ثمّ قال :
« ولقد ساق خطيب خوارزم من طريق هذا الدجّال ابن شاذان أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب السيّد عليّ » (2).
ولو لا أنّ الرجل كبير المنزلة عندهم ، مسلّم الوثاقة بينهم ، لعرفت كيف رمته سهام ألسنتهم ، وطعنت فيه أسنّة أقلامهم!
فهذا ابن شاذان قد سمعت ما قال الذهبيّ فيه ، وهو لم يرو إلّا اليسير من فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ، فكيف بالخوارزمي وقد روى الكثير لو لا فضله الكبير بينهم؟!
وغاية ما طعن به ابن تيميّة على خبث لسانه أن قال : « ليس الحديث من صنعته » (3) ، ذكر هذا في ردّه ل « منهاج الكرامة ».
فكأنّه لا يكون من أهل صنعة الحديث إلّا أن يترك رواية فضائل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، أو يروي ما يتحمّله رأي ابن تيميّة خاصّة (4).
ص: 480
إنّه صاحب الحوض ، واللواء ، والصراط ، والإذن
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
المطلب الرابع : في أنّه صاحب الحوض ، واللواء ، والصراط ، والإذن.
روى الخوارزمي ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عليّ يوم القيامة على الحوض ، لا يدخل الجنّة إلّا من جاء بجواز من عليّ » (2).
وعنه ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا كان يوم القيامة أمر اللّه تعالى جبرئيل أن يجلس على باب الجنّة ، فلا يدخلها إلّا من معه براءة من عليّ علیه السلام » (3).
ص: 481
وعن جابر بن سمرة ، قال : قيل : يا رسول اللّه! من صاحب لوائك في الآخرة؟
قال : « صاحب لوائي في الآخرة ، صاحب لوائي في الدنيا ، عليّ ابن أبي طالب » (1).
وعن عبد اللّه بن أنس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنّم ، لم يجز عليه إلّا من معه كتاب بولاية عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (2).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.
فلينظر العاقل إذا كانت مثل هذه وأضعافها أضعافا مضاعفة يرويها السنّة في صحاح الأخبار عندهم ، والآيات - أيضا - موافقة لها ثمّ يتركونها ، هل يجوز له تقليدهم؟!
ومع ذلك لم ينقلوا عن أئمّة الشيعة منقصة ولا رذيلة ولا معصية ألبتّة ، والتجأوا في التقليد إلى قوم رووا عنهم كلّ رذيلة ، ونسبوهم إلى مخالفة الشريعة في قضايا كثيرة! ولنذكر هنا بعضها في مطالب ..
* * *
ص: 482
وقال الفضل (1) :
من ضروريّات الدين أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله صاحب الحوض المورود ، والشفاعة العظمى ، والمقام المحمود يوم القيامة.
وأمّا أنّ عليّا صاحب الحوض ، فهو من مخترعات الشيعة ولم يرد به نقل صحيح.
وهذا الرجل ، الذي ينقل كلّ مطالبه من كتب أصحابنا ، لم ينقل هذا منهم ؛ وذلك لأنّه لم يصحّ فيه نقل عندنا.
ولكن ما ذكره لمّا كان من الفضائل والمناقب لمولانا عليّ بن أبي طالب ، فنحن لا ننكره ؛ لأنّ كلّ ما نقل من فضائله وفضائل أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ما لم يكن سببا إلى الطعن في أفاضل الصحابة ، فنتسلّمه ونوافقه فيه ؛ لأنّ فضائلهم لا تحصى ، ولا ينكره إلّا منكر نور الشمس والقمر.
وأمّا ما ذكره ، أنّ أمثال هذه الأخبار يرويها السنّة ، وهي في صحاح الأخبار عندهم ، والآيات أيضا موافقة لها ، ثمّ يتركونها ، هل يجوز لهم تقليدهم؟!
فإنّ أهل السنّة يعملون بكلّ حديث وخبر صحيح بشرائطها.
ولكن كما صحّ عندهم الأحاديث الدالّة على فضل عليّ بن أبي طالب وأهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كذلك صحّ عندهم الأحاديث الدالّة على
ص: 483
فضائل الخلفاء الراشدين ، فهم يجمعون بين الأحاديث الصحاح ، وينزلون كلّا منزله الذي أنزله اللّه ، ولا ينقصون أحدا ممّن صحّ فيه هذا الحديث ..
والشيعة ينقلون الأحاديث من كتب أصحابنا ممّا يتعلّق بفضائل أهل البيت ، ويسكتون عن فضائل الخلفاء وأكابر الصحابة ؛ ليتمشّى لهم الطعن والقدح ، وهذا غاية الخيانة في الدين.
وأيّة خيانة أعظم من أنّ رجلا ذكر بعض كلام أحد ممّا يتعلّق بشيء ، وترك البعض الآخر بما يتعلّق بعين ذلك الشيء ، ليتمشّى به مذهبه ومعتقده؟!
ونعوذ باللّه من هذه العقائد الفاسدة.
ثمّ ما ذكره ، أنّ أهل السنّة « لم ينقلوا عن أئمّة الشيعة منقصة ولا رذيلة ولا معصية ألبتّة ».
فجوابه أن نقول :
أيّها الجاهل العاميّ ، الضالّ العاصي! الشيعة ينسبون أنفسهم إلى الأئمّة الاثني عشر ..
أترى أئمّة أهل السنّة والجماعة يقدحون في أهل بيت النبوّة والولاية؟!
أتراهم - يا أعمى القلب! - أنّهم يفترون مثلك ومثل أضرابك على الأئمّة ، ويفترون المطاعن والمثالب ممّا لم يصحّ به خبر ، بل ظاهر عليه آثار الوضع والبطلان ، ولا كظهور البدر ليلة الأضحيان؟!
ثمّ ذكر أنّهم « التجأوا في التقليد إلى قوم رووا عنهم كلّ رذيلة ، ونسبوهم إلى مخالفة الشريعة ».
فجوابه : إنّهم لم يرووا عمّن يقلّدونه رذيلة أصلا ، بل هو يفتري
ص: 484
الكذب عليهم ، ومن هاهنا يريد أن يشرع في مطاعن الخلفاء ، ويبدأ بأبي بكر الصدّيق ..
ونحن نقول له : أنت لا تروي شيئا يعتدّ به إلّا من صحاحنا ، وها نحن قبل شروعك في مطاعن أبي بكر الصدّيق ، نذكر شيئا يسيرا من فضائله المذكورة في صحاحنا.
وصحاحنا ليس ككتب الشيعة التي اشتهر عند السنّة أنّها من موضوعات يهودي كان يريد تخريب بناء الإسلام ، فعملّها وجعلها وديعة عند الإمام جعفر الصادق ، فلمّا توفّي حسب الناس أنّه من كلامه (1) ..
واللّه أعلم بحقيقة هذا الكلام ، وهذا من المشهورات ..
مع هذا ، لا ثقة لأهل السنّة بالمشهورات ، بل لا بدّ من الإسناد الصحيح حتّى يصحّ الرواية.
وأمّا صحاحنا ، فقد اتّفق العلماء أنّ كلّ ما عدّ من الصحاح - سوى التعليقات في الصحاح الستّة - لو حلف بالطلاق أنّه من قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو من فعله وتقريره ، لم يقع الطلاق ، ولم يحنث (2).
وها نحن نشرع في بعض فضائل الصدّيق ؛ إظهارا للحقّ ، الحقيق
ص: 485
بالتحقيق ، فنقول :
أوّل خلفاء الإسلام : أبو بكر عبد اللّه بن أبي قحافة ، من أولاد تيم ابن مرّة ، ونسبه يتّصل برسول اللّه في مرّة ، كان له ولدان : تيم وكلاب ، فكلاب هو أبو قصيّ ، وقصيّ جدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتيم هو جدّ أبي بكر الصدّيق.
وكان أبو بكر الصدّيق قبل البعثة من أكابر قريش وأشرافها ، وصناديدها ، وكان قاضيا حكما بينهم ، وكان صاحب أموال كثيرة ، حتّى اتّفق جميع أرباب التواريخ ، أنّه لم يبلغ مال قريش مبلغ مال أبي بكر.
وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصادقه ويحبّه ، ويجلس في دكّانه ، وهو كان يحبّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله محبّة شديدة ، لا يفارقه ليلا ولا نهارا ، وكان يعين رسول اللّه بماله وأسبابه.
فلمّا بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان لا يظهر حال نبوّته في أوّل الأمر على الناس ، فذكر لأبي بكر فصدّقه ، وقال رسول اللّه : « ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلّا وأظهر تردّدا ما خلا أبي (1) بكر » (2) ( كما قال ) (3).
فأخذ أبو بكر يدعو الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فآخر ذلك اليوم الذي أسلم أتى بعيون قبائل قريش ممّا (4) كانوا يصادقونه في مكّة ، وهم :
عثمان بن عفّان - من عيون بني أميّة - ، وسعد بن أبي وقّاص - من
ص: 486
أشراف بني زهرة - ، وطلحة بن عبيد اللّه - من أشراف تيم - ، والزبير بن العوّام - من أشراف بني أسد بن عبد العزّى - ، وغيرهم من الأشراف ، فبايعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الإسلام (1).
ثمّ أخذ في الدعوة ، ولا يقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أمر إلّا بمشاورته وهو يدعو الناس!
وكان عاقلا لبيبا مدبّرا ، مقبول القول ، وكان يبذل ماله في إعانة المسلمين وفي تشهير الإسلام.
وروي في الصحيح ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متّخذا خليلا من أمّتي لاتّخذت أبا بكر ، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته ، لا تبقينّ في المسجد خوخة إلّا خوخة أبي بكر » (2).
وفيه - أيضا - : عن عبد اللّه بن مسعود ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا ، ولكنّه أخي وصاحبي ، وقد اتّخذ اللّه صاحبكم خليلا » (3).
وفي الصحاح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ما لأحد عندنا يد إلّا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر ، فإنّ له عندنا يدا يكافئه اللّه يوم القيامة ، وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر ، ولو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإنّ صاحبكم خليل اللّه » (4).
ص: 487
ثمّ لمّا أخذ الكفّار في إيذاء المسلمين وتعذيبهم ، قام أبو بكر بأعباء أذيّة قريش وإعانة المعذّبين ، والذبّ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما هو مشتهر معلوم لا يحتاج إلى بيانه.
وكان يشتري المعذّبين من الكفّار ، واشترى بلال بن رباح ، وفدى غيره من الصحابة ، وابتلي بلاء حسنا لا يكون فوقها مرتبة حتّى جاء وقت الهجرة فصاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار ، وأنزل اللّه فيه : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ ) (1).
وأثنى اللّه عليه في كتابه العزيز في مواضع عديدة ممّا يطول ذكرها ، ولو لا أنّ الكتاب غير موضوع لذكر التفاصيل ، لفصّلنا مناقبه في عشر مجلّدات!
ثمّ بعد الهجرة أقام يحفظ الدين والجهاد ، ولم يقدر أحد من الشيعة أن يدّعي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غزا غزوة وتخلّف عنه أبو بكر حتّى توفّي.
وإجماع الأمّة على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يقدّمه على أصحابه ويفضّله عليهم ، وهو لم يفارق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطّ في غزاة ، ولا سفر ، ولا فرّ في غزوة ، ومن ادّعى خلاف ذلك فهو مفتر كذّاب ، مخالف لضرورات الدين.
ذكر في « صحيح البخاري » ، عن محمّد بن الحنفيّة ، قال : قلت لأبي : أيّ الناس خير بعد النبيّ؟
قال : أبو بكر.
قلت : ثمّ من؟
ص: 488
قال : عمر.
قال : [ و ] خشيت أن يقول : عثمان ، قلت : ثمّ أنت؟
قال : ما أنا إلّا رجل من المسلمين (1).
انظروا معاشر العقلاء! إنّ أمير المؤمنين عليّ هكذا يذكر الخلفاء ، ثمّ جاء ابن المطهّر الأعرابي ، البوّال على عقبيه ، ويضع لهم المطاعن ، قاتله اللّه من رجل سوء بطّاط (2).
وأيضا : عن عبد اللّه بن عمر ، قال : كنّا في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا نعدل بأبي بكر أحدا ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ نترك أصحاب النبيّ لا نفاضل بينهم (3).
وفي رواية : كنّا نحن نقول - ورسول اللّه حيّ - : أفضل أمّة النبيّ بعده أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان (4).
وفي الصحاح : عن ابن عمر ، عن رسول اللّه ، أنّه قال لأبي بكر : « أنت صاحبي في الغار ، وصاحبي في الحوض » (5).
وفيها : عنه ، قال : قال رسول اللّه : « أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض ، ثمّ أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ يأتي أهل البقيع فيحشرون معي ، ثمّ ينتظر أهل
ص: 489
مكّة حتّى تحشر بين الحرمين » (1).
وفي الصحاح : عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أتاني جبرئيل فأخذ بيدي فأراني باب الجنّة الذي يدخل منه أمّتي.
فقال أبو بكر : يا رسول اللّه! وددت أنّي كنت معك حتّى أنظر إليه.
فقال رسول اللّه : أما إنّك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي » (2).
والأخبار في هذا أكثر من أن تحصى ..
ثمّ لمّا قرب وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعله في مرضه إماما للناس ؛ ليكون تلويحا إلى خلافته ، وهذا كالمتواتر عند المسلمين ، ولم يتردّد واحد في أنّ أبا بكر في أيّام مرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يؤمّ الناس.
وفي الصحاح : عن عائشة ، قالت : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مرضه : « ادعي لي أبا بكر أباك ، وأخاك ، حتّى أكتب كتابا ، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ ، ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى اللّه والمؤمنون إلّا أبا بكر » (3).
وفي الصحاح : عن جبير بن مطعم ، قال : أتت النبيّ امرأة فكلّمته في شيء ، فأمرها أن ترجع إليه ، قالت ، يا رسول اللّه! أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ - كأنّها تريد الموت -.
قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (4).
ص: 490
والأخبار الدالّة على الإشارة بخلافته كثيرة ، وهي تعارض الأخبار الدالّة على خلافة عليّ.
والإجماع فضل زائد ودليل تامّ على صحّة خلافته.
ثمّ إنّ الرجل السوء يذكر لمثل هذا الرجل المطاعن ، لعن اللّه كلّ مخالف طاعن.
وكنت حين بلغت باب المطاعن أردت أن أطوي عنه كشحا ، ولا أذكر منه شيئا ؛ لأنّها تؤلم خاطر المؤمن ، ويفرح بها المنافق الفاسد الدين ؛ لأنّ من المعلوم أنّ الدين قام في خلافة هؤلاء الخلفاء الراشدين.
ولمّا سمع المنافق أنّ هؤلاء مطعونون ، فرح بأنّ الدين المحمّدي لا اعتداد به ؛ لأنّ هؤلاء المطعونين - حاشاهم - كانوا مؤسّسي هذا الدين ، وهذا ثلمة عظيمة في الإسلام ، وتقوية كاملة للكفر ، أقدم به الروافض ، لا أفلحوا!
ولكن رأيت لو أنّي أترك هذا الباب ولم أجاوبه ، يظنّ الناس أنّ ما أورده من الأباطيل كان كلاما متينا ، ونقلا صحيحا لا يقدر على مجاوبته ، فعزمت أن أجري على وفق ما جريت في هذا الكتاب ، من ذكر كلامه والردّ عليه ، واللّه الموفّق.
* * *
ص: 491
لا ريب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو صاحب الحوض ، ولكنّ عليّا هو المتولّي عليه ، فهو صاحبه أيضا ، كما أنّ لواء النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الآخرة - وهو لواء الحمد - بيد عليّ علیه السلام أيضا ، كما صرّحت بهذا كلّه أخبار القوم (1) ، فضلا عن أخبارنا (2).
فمنها : ما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عليّ بن أبي طلحة ،
ص: 492
وصحّحه ، أنّ الحسن علیه السلام ، قال لمعاوية بن حديج : أنت السابّ لعليّ ... واللّه إن لقيته - وما أحسبك تلقاه - يوم القيامة ، لتجده قائما على حوض رسول اللّه يذود عنه رايات المنافقين.
ونحوه في « الصواعق » ، عن الطبراني (1).
ومنها : ما في « الصواعق » - أيضا - ، عن الطبراني : يا عليّ! معك يوم القيامة عصا من عصيّ الجنّة تذود بها المنافقين عن الحوض (2).
ومنها : ما في « الصواعق » ، عن أحمد : أعطيت في عليّ خمسا - إلى أن قال : - وأمّا الثانية : فلواء الحمد بيده ، آدم ومن ولده تحته.
وأمّا الثالثة : فواقف على حوضي ، يسقي من عرف من أمّتي (3).
ونحوه في « كنز العمّال » (4).
وروى في « الكنز » - أيضا - ، عن الطبراني ، عن عليّ علیه السلام : إنّي أذود عن حوض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيديّ هاتين القصيرتين ؛ الكفّار
ص: 493
والمنافقين (1).
وروى فيه - أيضا (2) - ، عن عمر - من حديث طويل - ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال فيه : وأنت تتقدّمني بلواء الحمد ، وتذود عن حوضي.
وفيه - أيضا (3) - : عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : أنت أمامي يوم القيامة ، فيدفع إليّ لواء الحمد ، فأدفعه إليك ، وأنت تذود الناس عن حوضي.
وقد ذكر كثير من أخبارهم أمر اللواء فقط ، كخبر « الكنز » (4) ، عن الديلمي ، عن أبي سعيد : يا عليّ! أنت صاحب لوائي في الدنيا والآخرة.
وخبره الآخر (5) ، عن الخطيب ، والرافعي ، عن عليّ علیه السلام ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : سألت اللّه يا عليّ فيك خمسا - إلى أن قال : - أعطاني فيك أنّ أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة أنا ، وأنت معي ، معك لواء الحمد ، وأنت تحمله بين يديّ تسبق به الأوّلين والآخرين.
ص: 494
وروى نحوه في محلّ آخر (1).
وحكى (2) عن الطبراني ، عن بريدة ، قالوا : يا رسول اللّه! من يحمل رايتك يوم القيامة؟
قال : من يحسن أن يحملها إلّا من حملها في الدنيا ؛ عليّ بن أبي طالب.
.. إلى غيرها من الأخبار المصرّحة بأنّ عليّا صاحب حوض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولوائه في الآخرة (3) ، وقد ذكر قسما منها في « ينابيع المودّة » (4).
وأمّا روايات الإذن ، التي ذكر قسما منها المصنّف رحمه اللّه (5) ، الدالّة على أنّه لا يدخل الجنّة ، ولا يجوز الصراط ، إلّا من بيده جواز وبراءة من عليّ علیه السلام ، فمستفيضة.
وقد تقدّم بعضها في الآية الحادية عشرة ، وهي قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) (6) ، فراجع (7)!
وأمّا ما زعمه الفضل من الخيانة في نقل فضائل أهل البيت علیهم السلام من كتبهم والسكوت عن فضائل خلفائهم ، فخطأ ؛ لأنّا ننقل فضائل
ص: 495
أهل البيت من كتبهم للاحتجاج بها عليهم ، مع علمنا بصحّتها ؛ لورودها في أخبارنا ، وإن كانت أخبارهم متلجلجة البيان.
وأمّا ما رووه في فضائل من خالف أهل البيت ، فنحن نعتقد كذبه ، وأنّه ممّا حدث في أيّام معاوية وبعده طلبا للدراهم البيض ، والدنانير الصفر ، ومراغمة لآل محمّد ، وتقرّبا لأهل الخلاف ، كما سبق في المقدّمة (1).
وليت شعري ، كيف يطلب منّا أن نعتمد ما ليس حجّة عندنا؟! بل تواتر لدينا عكسه ، وظهر لنا ضدّه ، حتّى علمنا - كما دلّت عليه أخبارهم - أنّ كلّ ضلال وقع إنّما أساسه من رووا لهم الفضائل من يوم منعوا نبيّ الرحمة عن كتابة كتاب لا يضلّ المسلمون بعده أبدا (2).
وأمّا ما نال به كرامة الإمام العلّامة المصنّف رحمه اللّه لقوله : « لم ينقلوا عن أئمّة الشيعة منقصة ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّه أيّ مانع لهم عن القدح بهم لو وجدوا إليه سبيلا ، وليسوا عندهم بأعظم وأحبّ من خلفائهم ، وقد نقلوا عنهم ما نقلوا؟! كما ستعرفه (3).
وأمّا قوله : « أنت لا تروي شيئا يعتدّ به إلّا من صحاحنا » ..
ففيه : إنّه إن أراد أنّ صحاحهم ممّا يعتدّ بها حتّى عندنا ، فليس بصحيح ، وليس ما نرويه منها إلّا للاحتجاج به عليهم ؛ لأنّه حجّة عندهم.
وإن أراد أنّها ممّا يعتدّ بها عندهم خاصّة ، فذكره لما فيها من
ص: 496
فضائل أوليائهم لا فائدة فيه ؛ لعدم حاجة أصحابه إلى نقلها ، وعدم صلوحها للاحتجاج بها علينا ؛ وهذا غير خفيّ عليه.
ولكن ، وما حيلة المضطرّ إلّا ركوبها(1) ..
أو لأنّه يريد أن يخدع السذّج بها وبما لفّقه ، ممّا لا يخفى حتّى على أهل المعرفة من قومه.
وأمّا قوله : « وصحاحنا ليس ككتب الشيعة التي اشتهر عند السنّة ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّه لو صحّ نقله للشهرة عند أصحابه ، فهي ليست أوّل شهرة كاذبة أريد بها تشييد الباطل ، فقد اشتهر عندهم إدخال - من زعموه - ربّهم رجله في نار جهنّم حتّى تقول : قط قط(2).
واشتهر بينهم إلقاء الشيطان على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى(3).
واشتهر عندهم رقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأكمامه واستماعه للغناء الباطل دون عمر وأبي بكر(4) .
ص: 497
.. إلى غير ذلك من المشهورات الباطلة قطعا.
ولو كان لهذا الرجل معرفة ، لما روى هذه الشهرة عن أصحابه ؛ لأنّها تكشف عن كون شهراتهم من هذا القبيل ، مخالفة للضرورة والوجدان ، فإنّ كتب الشيعة مملوءة بالنقل عن إمامهم الصادق علیه السلام ، وما أحد نقل عن كتاب له ، وإنّما يروون عن لسانه وألسنة الأئمّة الميامين ومراسلاتهم ، وها هي ذي كتب الشيعة بمنظر لمن أراد الاطّلاع عليها.
وأمّا ما زعمه ، من اتّفاق علمائهم على أنّ كلّ ما في الصحاح لو حلف بالطلاق .. إلى آخره ..
ففيه : إنّ من حلف كذلك حانث جزما ؛ لأمور :
الأوّل : إنّ كثيرا ممّا فيها متناف ، فكيف تصدق كلّها؟!
الثاني : اشتمالها على ما فيه نقص لله ورسوله - كما سبق في مباحث النبوّة (1) - وهما منزّهان عن النقص.
الثالث : إنّ الكثير من رواتها كذبة فسقة - كما تقدّم في المقدّمة (2) - ، فكيف يحلف الحالف على صدقهم ولا يحنث؟!
الرابع : إنّ بعض أخبارها واضحة الكذب ؛ كالذي رواه البخاري في أواخر الجزء الثاني ، في باب مقدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه المدينة ، عن عثمان ، قال : « أمّا بعد ، فإنّ اللّه بعث محمّدا صلی اللّه علیه و آله بالحقّ ، وكنت ممّن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث به محمّد ، ثمّ هاجرت هجرتين ،
ص: 498
ونلت صهر رسول اللّه ، وبايعته ، فو اللّه ما عصيته ولا غششته حتّى توفّاه اللّه » (1) ، فإنّه قد ثبت عصيانه لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولو بفراره في الغزوات ، كفراره في أحد ثلاثة أيّام (2).
فإذا وقع مثل هذا الكذب في الرواية ، فكيف لا يحنث الحالف؟!
ونحوه - في ظهور الكذب - ما رواه البخاري - أيضا - ، في باب هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ونبيّ اللّه شابّ لا يعرف ... (3) الحديث.
فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان أكبر سنّا ، وشأنا ، وبيتا ، وأثرا ، وشهرة ، بدعوته التي تستدعي القصد إليه ورؤيته ومعرفته ، فكيف كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله شابّا لا يعرف ، وأبو بكر شيخا يعرف؟!
ونحوهما كثير!!
وإذا أردت أن تعرف حقيقة صحاحهم ، فعليك بمراجعة مقدّمة الكتاب (4) ، وكفاك أنّ عمدة أحاديثها تنتهي إلى عائشة ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وهم ليسوا محلّ الاعتماد ، فضلا عن السند الذي ينتهي إليهم.
ص: 499
أمّا عائشة ؛ فلما سبق من بغضها لأمير المؤمنين (1) ، وما سيأتي في المآخذ ، من صدور الكبائر عنها (2).
على أنّها قد روت كثيرا من النقص للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، الذي يعلم الإنسان بكذبه (3) ، ونسبت إليه جهله بنبوّته في أوّل البعثة حتّى عرّفته خديجة وورقة نبوّته ، وهو مخالف لضرورة الدين ، كما مرّ بيانه في مباحث النبوّة (4).
وأمّا ابن عمر ؛ فيعلم حاله من عدّة وقائع ..
منها : ما نقله الفضل عنه ، من تفضيل الصحابة لأبي بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، على وجه كان مفروغا عنه عندهم ، وأنّهم يتركون بعد الثلاثة سائر الصحابة بلا تفضيل بينهم ، فيكون عليّ من سائر المسلمين لا يرون له فضلا على غيره (5).
وقد تعقّبه صاحب « الاستيعاب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، فإنّه بعد ما روى حديث ابن عمر المذكور ، قال : « وهو الذي أنكر [ ه ] (6) ابن معين ، وتكلّم فيه بكلام غليظ ؛ لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر ، أنّ عليّا أفضل الناس بعد عثمان ، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه ..
وإنّما اختلفوا في تفضيل عليّ وعثمان ..
ص: 500
واختلف السلف - أيضا - في تفضيل عليّ وأبي بكر ..
وفي إجماع الجميع - الذي وصفناه - دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط ، وأنّه لا يصحّ معناه » (1).
ومنها : ما كذّبته فيه عائشة في اعتمار النبيّ صلی اللّه علیه و آله في رجب ..
روى مسلم في « باب عدد عمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وزمانهنّ » ، من « كتاب الحجّ » ، عن عروة بن الزبير ، قال : كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة ، وإنّا لنسمع ضربها بالسواك تستنّ.
قال : فقلت : يا أبا عبد الرحمن! اعتمر النبيّ في رجب؟
قال : نعم.
فقلت لعائشة : يا أمّتاه! ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟!
قالت : وما يقول؟
قلت : يقول : اعتمر النبيّ في رجب.
فقالت : لعمري ما اعتمر في رجب ، وما اعتمر من عمرة إلّا وإنّه لمعه.
قال : وابن عمر يسمع ، فما قال « لا » ، ولا « نعم » ؛ سكت (2)!
وأخرج مسلم أيضا نحوه ، عن مجاهد ، قال : دخلت أنا وعروة المسجد ، فإذا عبد اللّه بن عمر جالس إلى حجرة عائشة ، والناس يصلّون الضّحى في المسجد ، فسألناه عن صلاتهم؟
فقال : بدعة!
ص: 501
فقال له عروة : [ يا أبا عبد الرحمن! ] كم اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
فقال : أربع عمر ، إحداهنّ في رجب ...
ثمّ ذكر نحو الحديث السابق (1).
وروى البخاري مثله في باب « كم اعتمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله » ، من « كتاب الحجّ » (2).
وكذا أحمد في « مسنده » ، في مقامات عديدة (3).
ومنها : ما كذّبته فيه - أيضا - عائشة ، وهو عدد عمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
أخرج أحمد في « مسنده » (4) ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : سئل كم اعتمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : مرّتين.
فقالت عائشة : لقد علم ابن عمر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد اعتمر ثلاثة سوى العمرة التي قرنها بحجّة الوداع.
وروى نحوه في مقام آخر (5) ، غير إنّ ابن عمر قال فيه : اعتمر رسول اللّه مرّتين قبل أن يحجّ.
ومنها : ما كذّبته هي أيضا فيه ، وهو روايته عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله.
ص: 502
روى البخاري ومسلم في « كتاب الجنائز » ، ما ملخّصه : أنّ ابنة لعثمان ماتت وحضرها ابن عبّاس وابن عمر ، فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان : ألا تنهى عن البكاء ، فإنّ النبيّ قال : « إنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه ».
فقال ابن عبّاس : قد كان عمر يقول بعض ذلك.
وذكر ذلك لعائشة ، فقالت : واللّه ما حدّث رسول اللّه أنّ اللّه يعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه ... فو اللّه ما قال ابن عمر شيئا (1).
وروى مسلم نحوه كثيرا (2).
وكذا أحمد (3).
ومنها : ما كذّبته هي أيضا فيه ، وهو ما رواه من كلام النبيّ لمّا وقف على قليب (4) بدر.
أخرج مسلم في كتاب الجنائز ، في « باب الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه » ، عن عروة ، قال : ذكر عند عائشة أنّ ابن عمر يرفع إلى النبيّ أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه.
فقالت : إنّما قال رسول اللّه يعذّب بخطيئته أو بذنبه ، وإنّ أهله ليبكون عليه ، وذلك مثل قوله : إنّ رسول اللّه قام على القليب يوم بدر
ص: 503
وفيه قتلى بدر من المشركين ، فقال لهم ؛ ما قال : إنّهم ليسمعون ما أقول ، إنّما قال : إنّهم ليعلمون أنّ ما كنت أقول حقّ (1).
وروى أحمد ما تضمّنه عجز الحديث (2).
ومنها : ما كذّبته هي أيضا فيه ، وهو عدد أيّام الشهر ..
أخرج أحمد (3) ، عن ابن عمر ، عن النبيّ ، قال : الشهر تسع وعشرون.
فذكروا ذلك لعائشة ، فقالت : إنّما قال : الشهر يكون تسعا وعشرين.
ومنها : ما كذّبه فيه معاوية ..
روى البخاري في أوّل كتاب الأحكام ، في « باب الأمراء من قريش » ، عن الزهري ، عن جبير بن مطعم ، أنّه بلغ معاوية أنّ عبد اللّه بن عمر يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان.
فغضب ، فقام فأثنى على اللّه بما هو أهله ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّ رجالا منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب اللّه ، ولا تؤثر عن رسول اللّه ، وأولئك جهّالكم ، فإيّاكم والأمانيّ التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنّ هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم أحد إلّا كبّه اللّه على وجهه ما أقاموا الدّين » (4).
ومنها : ما كذّبه فيه بعض أهله ..
ص: 504
روى البخاري ، في « باب ما جاء في البناء » ، آخر « كتاب الاستئذان » ، عن سفيان ، قال ابن عمر : « واللّه ما وضعت لبنة على لبنة ، ولا غرست نخلة منذ قبض النبيّ.
قال سفيان : فذكرته لبعض أهله ، قال : واللّه لقد بنى!
لكنّ سفيان حمله على الصحّة ، فقال : لعلّه قال قبل أن يبني » (1).
أقول :
أهله أعرف به ، ولو لم يعرفه هذا البعض منهم بالكذب لما تسرّع لتكذيبه.
ولو سلّم ، فلا تتّجه بقيّة الروايات ؛ إذ لا وجه لها إلّا الحمل على الخطأ ، وهو ممتنع عادة في كثير منها.
ولو سلّم ، فمن أخطأ في هذه الأمور المحسوسة الظاهرة ، لا يمكن الحلف على صدق ما يرويه.
وبالجملة : الكذب - عمدا أو خطأ - في ما اختلف فيه ابن عمر وغيره ، لا بدّ أن يكون صادرا من أحدهما ، فيمتنع معه صحّة الحلف المذكور.
وقد وقع لأنس من ابن عمر ، مثل ما وقع لابن عمر من عائشة.
أخرج أحمد (2) ، عن بكر ، قال : قلت لابن عمر : إنّ أنسا حدّثه أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لبّى بالعمرة والحجّ.
فقال ابن عمر : هل خرجنا مع رسول اللّه إلّا حجّاجا؟! فلمّا قدمنا
ص: 505
أمرنا أن نجعلها عمرة إلّا من كان معه هدي.
قال : فحدّثت أنسا بذلك ، فغضب وقال : لا تعدّونا إلّا صبيانا!
ثمّ إنّ ابن عمر قد صدرت منه الكبائر ، فلا يعتدّ بروايته ..
منها : إنّه ترك صلاة الجمعة ..
روى البخاري في أوائل كتاب المغازي ، عن نافع ، أنّ ابن عمر ذكر له أنّ سعيد بن زيد ... مرض في يوم جمعة ، فركب إليه بعد أن تعالى النهار ، واقتربت الجمعة وترك الجمعة (1).
ومنها : وهو أعظمها ، تخلّفه عن بيعة أمير المؤمنين علیه السلام ، وقد بايعه أهل الحلّ والعقد (2) ، وعندهم أنّ الخلافة تنعقد بهم ، بل ببيعة الواحد والاثنين ، كما سبق (3).
مع أنّه قد روى مسلم في « باب الأمر بلزوم الجماعة » ، من « كتاب الإمارة » ، عن نافع ، قال : « جاء عبد اللّه بن عمر إلى عبد اللّه بن مطيع حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد ، فقال : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة.
فقال : إنّي لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثا ؛ سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية » (4).
ص: 506
وروى أحمد نحوه من طرق (1).
فيا عجبا من ابن عمر! يروي هذا ويرى أنّ من ليس في عنقه بيعة ليزيد المارد يموت ميتة جاهلية ، ويترك بيعة أخي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه عامدا مصرّا على الترك أكثر من أربع سنين!!
فهل تراه كاذبا في حديثه ، أو صادقا فيه غير مبال بالميتة الجاهلية بغضا لوليّ المؤمنين ومولاهم ، وهضما لحقّه ، والبغض له أعظم الفسق ، ودليل النفاق؟!
فكيف يكون مع هذا مقبول الرواية ، محلّ الاطمئنان برواياته؟!
فتدبّر واعتبر!!
وأمّا أبو هريرة ، فهو أولى بعدم الاعتماد عليه ؛ لكثرة خرافاته التي لا يقبلها عقل عاقل ، وظهور كذبه في كثير ممّا رواه ، واتّهام الصحابة والتابعين ، بل تكذيبهم له أفرادا ونوعا (2).
أمّا خرافاته وكذباته ، فلا يمكن إحصاؤها ، ولكنّا نذكر منها اليسير ..
فمنها : أخباره السابقة في « مبحث النبوّة » (3) ، التي وصم بها جلال اللّه سبحانه وشرف أنبيائه المعصومين.
ص: 507
ومنها : ما سنذكره من سبب حفظه العلم (1).
ومنها : ما رواه البخاري ، عنه (2) ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لن يدخل أحدا عمله الجنّة.
قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه؟!
قال : [ لا ، ] ولا أنا! ». الحديث ..
فإنّه مخالف لقوله تعالى : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) ..
وقوله سبحانه : ( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (4).
.. إلى كثير من الآيات الكريمة ، والسنّة المستفيضة (5).
ص: 508
ولكنّ أبا هريرة ينسج على منوال القصّاصين ، ويمسخ معالم اللّه سبحانه بما يقتضيه عقله وتحكم به مخيّلته ، فيلقي على أسماع القوم هذه السخافات والكذب الظاهر ، فيقبلونها من دون التفات ؛ لاعتمادهم على كلّ صحابيّ وإن ظهرت منه الكبائر بأنواعها ، وجاز في حديثه حدّ العقل.
ومنها : ما أخرجه البخاري (1) ، عنه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق ، فقال له : أسرقت؟!
قال : كلّا والذي لا إله إلّا هو.
فقال عيسى : آمنت باللّه ، وكذّبت عيني » ..
فإنّ الإيمان باللّه لا ينافي صدق عينه ، وأيّ عقل يقتضي تكذيب العين ووجدانها ، وتصديق الحالف باللّه كذبا المستحقّ للعقاب من جهة السرقة والحلف باللّه كذبا؟!
ولكنّ وساوس أبي هريرة وخياليّاته لم تقنع إلّا بالكذب على نبيّ في نسبة نبيّ آخر إلى الحمق والجهل!
ص: 509
ومنها : ما أخرجه البخاري (1) ، ومسلم (2) ، وأحمد (3) ، عنه ، قال : « كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما.
فقالت صاحبتها : إنّما ذهب بابنك.
وقالت الأخرى : إنّما ذهب بابنك.
فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى.
فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكّين أشقّه بينهما.
فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك اللّه ، هو ابنها.
فقضى به للصغرى.
قال أبو هريرة : واللّه إن سمعت بالسكّين إلّا يومئذ ، وما كنّا نقول إلّا : المدية ».
فإنّ داود علیه السلام إن حكم بلا دليل ، فقد حكم بغير الحقّ الذي أمدّه اللّه تعالى به ، وهو منزّه عن ذلك.
وإن كان بدليل ، فكيف نقض سليمان حكم اللّه بمجرّد إشفاق الأخرى؟!
فالحديث طعن من أبي هريرة بأحد النبيّين الأكرمين.
ومن المضحك قوله : « واللّه إن سمعت بالسكّين إلّا يومئذ » ..
ص: 510
فإنّ لفظ السكّين كثير الدوران في كلام العرب ، ولا يجهله أحد منهم ، وقد نطق به الكتاب العزيز ، فقال تعالى في سورة « يوسف » : ( وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ) (1) ، وهي مكّيّة ، نزلت قبل إسلام أبي هريرة بعدّة سنين ؛ لأنّه أسلم سنة سبع للهجرة (2) ، فما باله لم يسمع هذه الآية التي عمّ علمها المسلمين لقدمها؟!
ولم لم يعلمها وقد زعم أنّه حفظ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعاءين ، بثّ أحدهما ، ولو بثّ الآخر لقطع منه البلعوم ، كما رواه البخاري عنه (3)؟!
وليت شعري ، ما هذه الأسرار الغريبة التي خصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بها أبا هريرة ، وأخفاها عن المسلمين ، فضاعت عنّا؟!
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!
ومنها : ما رواه البخاري (4) ، عنه ، قال : « وكّلني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : واللّه لأرفعنّك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : إنّي محتاج ، وعليّ عيال ، ولي حاجة شديدة.
فخلّيت عنه ، فأصبحت ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت : يا رسول اللّه! شكا حاجة شديدة [ وعيالا ] ، فرحمته ، فخلّيت
ص: 511
سبيله.
قال : [ أمّا ] إنّه قد كذبك وسيعود.
فعرفت أنّه سيعود ؛ لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّه سيعود.
فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنّك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
قال : دعني! فإنّي محتاج ، وعليّ عيال ، لا أعود.
فرحمته ، فخلّيت سبيله.
فأصبحت ، فقال لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت : يا رسول اللّه! شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته فخلّيت سبيله.
قال : أمّا إنّه قد كذبك وسيعود.
فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنّك إلى رسول اللّه ، وهذا آخر ثلاث مرّات ، إنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود.
قال : دعني أعلّمك كلمات ينفعك اللّه بها.
قلت : ما هو؟
قال : إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( اللّهُ لا إِلهَ إِلأَهُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... ) (1) حتّى تختم الآية ، فإنّك لا يزال عليك من اللّه حافظ ، ولا يقربك شيطان حتّى تصبح.
فخلّيت سبيله.
ص: 512
فأصبحت ، فقال لي رسول اللّه : ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت : يا رسول اللّه! زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني اللّه بها ، فخلّيت سبيله.
إلى أن قال : تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟!
قال : لا.
قال : ذاك شيطان ».
فليت شعري ، أيّ حاجة للشيطان في هذه السرقة الخاصّة؟!
ولم لم يسرق من حيث لا يراه أبو هريرة؟!
وكيف قدر أبو هريرة أن يأسره ، وهو جسم شفّاف؟!
وكيف ساغ لأبي هريرة أن يرحمه وهو أمين في الحفظ؟!
وكيف لم يصدّق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قوله : « قد كذبك » ، وصدّق السارق في الدعوى التي كذّبه النبيّ فيها ، ولا سيّما بعد التكرار؟!
وكيف صدّق النبيّ صلی اللّه علیه و آله في قوله : « سيعود » ، ولم يصدّقه في قوله : « كذبك » ، وكلّ منهما خبر للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في كلام واحد؟!
وهل محلّ لرحمته لو صدّق النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تكذيبه؟!
وكيف جاز لأبي هريرة أن يحنث في يمينه ثلاث مرّات بعدما حلف ثلاثا أن يرفعه إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
بل كيف صحّ للنبيّ - مع علمه بأنّه شيطان - أن يسكت بعد المرّة الأولى ، ولا ينهى أبا هريرة عن مسامحته بعدها ، والمال للفقراء ، وهو صلی اللّه علیه و آله أمينهم في الجمع والحفظ؟!
فهل يشكّ عاقل - بعد هذه الأمور - في أنّ ذلك من كذبات أبي
ص: 513
هريرة وسخافاته؟!
ومنها : ما رواه الحاكم (1) ، عنه ، وصحّحه ، قال : [ لمّا ] خلق اللّه آدم فمسح على ظهره ، فسقط من ظهره كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذّرّ ، ثمّ جعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصا - أي : بريقا (2) - من نور ، ثمّ عرضهم على آدم ، فقال آدم : من هؤلاء يا ربّ؟
قال : ذرّيّتك.
فرأى آدم رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه.
فقال : يا ربّ! من هذا؟
قال : هذا ابنك داود.
قال آدم : كم جعلت له من العمر؟
قال : ستّين سنة.
قال : يا ربّ! زده من عمري أربعين سنة حتّى يكون عمره مئة سنة.
فقال اللّه عزّ وجلّ : إذا يكتب ويختم فلا يبدّل.
فلمّا انقضى عمر آدم جاء ملك الموت لقبض روحه ، قال آدم : أولم يبق من عمري أربعون سنة؟!
قال له ملك الموت : أولم تجعلها لابنك داود؟!
[ قال : ] فجحد ، فجحدت ذرّيّته » .. الحديث.
ص: 514
فانظر إلى هذه القصّة الخيالية ، واعتبر في آخرها كيف نسب أبو هريرة نبيّ اللّه إلى الكذب ، وجحود ما فعل ، وكتب عليه وختم ، كراهة للموت الذي بعده الكرامة التي رآها قبل الهبوط إلى الدنيا الدنية وبكى شوقا إليها!!
ولو فرض نسيان آدم ، فما معنى جحوده ، وقد ذكّره ملك الموت ، وهو الصادق الأمين؟!
ولكنّ أبا هريرة لا يبالي بنقص الأنبياء حتّى جعل جحود آدم علیه السلام سببا لجحود ذرّيّته الباطل!
وليت شعري ، لم دخل في خيال أبي هريرة أنّ وبيص ما بين عيني داود أعجب إلى آدم من وبيص ما بين عيون الأنبياء ، حتّى سيّدهم محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأحدهم يوسف ، ومن زاده اللّه بسطة في العلم والجسم (1)؟!
ومنها : ما رواه البخاري (2) ، عنه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « بينا أيّوب يغتسل عريانا ، فخرّ عليه جراد من ذهب ، فجعل أيّوب يحثي في ثوبه ، فناداه ربّه : يا أيّوب! ألم أكن أغنيتك عمّا ترى؟!
قال : بلى وعزّتك ، ولكن لا غنى بي عن بركتك ».
فإنّ جمعه للمال ؛ إن كان رغبة في الدنيا ، فالأنبياء أجلّ قدرا من ذلك.
وإن كان للآخرة - ولو بإظهار الحاجة إلى كرمه تعالى وتلقّي النعمة
ص: 515
بإعظامها - ، فما وجه عتاب اللّه تعالى له؟!
واحتمال أنّ العتاب للاختبار ، ليس في محلّه ؛ لأنّه إنّ أريد الاختبار حقيقة ، فاللّه ، عالم بما في نفسه من دون اختبار.
وإن أريد كشف ما في نفسه للناس ، إظهارا لفضله ، فهو قد اغتسل وحده عريانا.
وقصص أبي هريرة الخرافية لا تنتهي حتّى ينتهي عنها!
وأمّا تكذيب الصحابة والتابعين له ، عموما أو خصوصا ، فالأخبار به مستفيضة ، وقد كان أمير المؤمنين علیه السلام بالخصوص ، وعمر وابنه ، وعائشة ، وأفراد أخر من الصحابة يكذّبونه ، أو يتّهمونه بالكذب (1).
نقل ابن أبي الحديد (2) ، عن أبي جعفر الإسكافي ، وابن قتيبة في كتاب « المعارف » ، أنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال : ألا إنّ أكذب الناس - أو قال : أكذب الأحياء - على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبو هريرة الدوسي.
وإنّ عمر بن الخطّاب ضرب أبا هريرة بالدّرّة (3) ، وقال : « قد
ص: 516
أكثرت من الرواية ، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (1).
وحكى في « كنز العمّال » (2) ، عن ابن عساكر ، أنّ عمر قال له : « لتتركنّ الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو لألحقنّك بأرض دوس!
[ وقال لكعب : لتتركنّ الحديث ، ] أو [ لألحقنّك ] بأرض القردة! ».
وروى مسلم (3) ، عن ابن عمر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر بقتل الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية ؛ فقيل لابن عمر : إنّ أبا هريرة يقول : أو كلب زرع.
فقال ابن عمر : إنّ لأبي هريرة زرعا!
ثمّ روى مسلم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من اتّخذ كلبا إلّا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، نقص من أجره قيراط.
قال الزهري : فذكر لابن عمر قول أبي هريرة ، فقال : يرحم اللّه أبا هريرة ، كان صاحب زرع (4).
وروى أيضا ، عن سالم ، عن أبيه ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « من اقتنى كلبا إلّا كلب ضار ، أو ماشية ، نقص من عمله كلّ يوم قيراطان.
ص: 517
قال سالم : وكان أبو هريرة يقول : أو كلب حرث ؛ وكان صاحب حرث » (1).
وروى أحمد (2) ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « من اتّخذ [ أو قال : اقتنى ] كلبا ليس بضار ، ولا كلب ماشية ، نقص من أجره كلّ يوم قيراطان.
فقيل له : إنّ أبا هريرة يقول : وكلب حرث ، فقال : أنّى لأبي هريرة حرث! ».
وروى أحمد أيضا (3) ، عن عبد الرحمن بن عتاب ، ما حاصله أنّ أبا هريرة أفتى بشيء ، فأرسل مروان إلى أمّ سلمة وعائشة ، فذكرتا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلافه ، فقيل لأبي هريرة في ذلك ، فقال : كذا كنت أحسب ، وكذا كنت أظنّ.
فقال له مروان : بأظنّ وأحسب تفتي الناس؟!
وروى أحمد أيضا (4) ، عن أبي حسّان الأعرج ، أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا : إنّ أبا هريرة يحدّث أنّ نبيّ اللّه كان يقول : إنّما الطيرة في المرأة ، والدابّة ، والدار.
قال : فطارت شقّة منها في السماء وشقّة في الأرض (5) ، فقالت :
ص: 518
والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلی اللّه علیه و آله ما هكذا كان يقول ، ولكنّ نبيّ اللّه كان يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في المرأة ، والدار ، والدابّة » (1).
وروى مسلم (2) ، أنّ أبا هريرة يقول : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر.
فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة!
نعم ، ذكر في ذيل الحديث أنّ ابن عمر أرسل إلى عائشة يسألها فصدّقت أبا هريرة ، لكنّه لا يخرج أبا هريرة عن كونه متّهما بالكذب.
وروى مسلم أيضا (3) ، عن ابن شهاب ، أنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن حدّثه ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا عدوى ».
ويحدّث أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا يورد ممرض على مصحّ ».
قال أبو سلمة : كان أبو هريرة يحدّثهما - كلتيهما - عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ صمت بعد ذلك أبو هريرة عن قوله : « لا عدوى » ، وأقام على أن « لا يورد ممرض على مصحّ » ، قال : فقال الحارث : قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدّثنا مع هذا الحديث حديثا آخر قد سكتّ عنه ،
ص: 519
كنت تقول : « قال رسول اللّه : لا عدوى ».
فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك ، [ وقال : لا يورد ممرض على مصحّ ].
فماراه (1) الحارث في ذلك حتّى غضب أبو هريرة ، فرطن (2) بالحبشيّة ، فقال للحارث : أتدري ماذا قلت؟!
قال : لا.
قال أبو هريرة : قلت : أبيت.
قال أبو سلمة : ولعمري ، لقد كان أبو هريرة يحدّثنا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لا عدوى » ؛ فلا أدري أنسي أبو هريرة ، أم نسخ أحد القولين الآخر؟!
أقول :
كلا العذرين باطل! ..
أمّا النسخ ؛ فلأنّه إنّما يدخل الأحكام ، مع أنّ النسخ لو دعا أبا هريرة إلى الترك لاعتذر به عند الحارث ، أو لم يروهما أوّلا.
ص: 520
وأمّا النسيان ؛ فيبطله عندهم ما رواه البخاري (1) ، عن أبي هريرة ، قال : « قلت : يا رسول اللّه! إنّي أسمع منك حديثا كثيرا أنساه.
قال : ابسط رداءك!
فبسطته ؛ قال : فغرف بيديه ، ثمّ قال : ضمّه ؛ فضممته ؛ فما نسيت شيئا بعده ».
وأقول :
هذا أيضا من حديث خرافة (2) ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لو كان مريدا له الحفظ ، كفاه أن يدعو له به ، كما فعل مع أمير المؤمنين لمّا بعثه قاضيا إلى اليمن (3) ، ولمّا نزل قوله : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (4).
ص: 521
فلم يحتج إلى هذا الفضول ، من البسط والاغتراف من الهواء والضمّ ، اللواتي لا تشبه أفعال العقلاء ، بل المشعبذين والخرافيّين ، فكيف ينسب إلى نبيّ الهدى؟!
وأمّا تكذيب الصحابة والتابعين له عموما ، أو اتّهامهم له ، فيدلّ عليه ما أقرّ به هو بنفسه في ما رواه مسلم (1) ، عن أبي رزين ، قال : « خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته ، فقال : إنّكم تحدّثون أنّي أكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتهتدوا وأضلّ » .. الحديث.
وما رواه البخاري (2) ، عن أبي هريرة ، قال : « يقولون : إنّ أبا هريرة يكثر الحديث! واللّه الموعد ؛ ويقولون : ما للمهاجرين والأنصار لا يحدّثون مثل أحاديثه؟!
وإنّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإنّ إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم ، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللّه على ملء بطني ، فأحضر حين يغيبون ، وأعي حين ينسون ... » .. الحديث.
فهذا الحديث صريح باتّهامهم له ، كما إنّ الحديث الذي قبله صريح في تكذيبهم له!
فالعجب من السنّة! كيف يعتبرون حديثه ، وهم يطعنون في الراوي باتّهام بعض علمائهم له ، فضلا عن التكذيب له؟!
فكيف ، وقد اتّهمه الصحابة والتابعون ، وكذّبوه عموما وخصوصا؟!
ص: 522
مع أنّ السنّة رأوه في هذا الحديث قد كذب كذبا ظاهرا ؛ إذ نسب إلى جميع المهاجرين الصفق بالأسواق ، وإلى عامّة الأنصار العمل بأموالهم (1) - أي : بساتينهم - ، والحال أنّ الّذين كانوا كذلك إنّما هم القليل.
ونسب إلى نفسه ملازمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأن يملأ بطنه ؛ وهذا أمر - لو تمّ - زاد عليه فيه أنس ، وشاركه فيه جماعة من أهل الصّفة!
وما أدري كيف زاد حضوره على سائر المهاجرين والأنصار ، والحال أنّ أيّام إسلامه ثلاث سنين قبل وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (2) ، وهم حضروا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله من مبدإ الهجرة ، وبعضهم قبلها؟!
ولو سلّم ، فليس هذا جوابا عن إشكال عدم تحديث المهاجرين والأنصار مثل حديثه في الغرابة ؛ فإنّ زيادة حضوره عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يقتضي أن يختصّ بالغرائب دون بطانة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهله وأكابر الصحابة!
وليت شعري ، كيف يرتضون عذره ، وهم يزعمون أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يصنع شيئا إلّا بمشاورة أبي بكر ، وأنّ أبا بكر لا يفارق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليلا ولا نهارا طول أيّام إسلامه ، بل قبل البعثة ، وهو لم يرو إلّا أقلّ القليل بالنسبة إلى روايات أبي هريرة؟!
فهل يرون أنّ أبا هريرة أوعى منه للعلم وأحفظ؟!
ص: 523
وكذا الحال في عظماء الصحابة ، ولا سيّما أمير المؤمنين ، عديل القرآن ، وصاحب الأذن الواعية ، الذي لم يفارق النبيّ صلی اللّه علیه و آله من طفوليّته إلى ساعة وفاته ، وهو لم تكن له من الرواية عندهم إلّا القليل بالنسبة إلى ما رواه أبو هريرة!
ثمّ إنّ عدم الاعتداد بأبي هريرة لا يختصّ بالصحابة والتابعين ، بل يعمّ غيرهم ..
فقد حكى ابن أبي الحديد (1) ، عن أبي جعفر ، وابن قتيبة ، أنّ أبا يوسف ذكر عن أبي حنيفة أنّه قال : « الصحابة كلّهم عدول ما عدا رجالا ، ثمّ عدّ منهم أبا هريرة ، وأنس بن مالك!
وأنّ أبا أسامة روى عن الأعمش ، قال : كان إبراهيم صحيح الحديث ، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه ، فأتيته يوما بأحاديث عن أبي هريرة ، فقال : دعني من أبي هريرة! إنّهم يتركون كثيرا من حديثه ».
ويؤيّد ما عن أبي حنيفة ، ما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه ، عن فخر الدين الرازي ، في مسألة التّصرية (2) ، من رسالته المعمولة لتفضيل مذهب
ص: 524
الشافعي ، أنّ الحنفيّة طعنوا في أبي هريرة وقالوا : إنّه كان متساهلا في الرواية (1).
هذا ، ولو أعرضنا عن طعن من سبق ذكرهم ، فلا ريب أنّ أبا هريرة كان من أعداء أمير المؤمنين علیه السلام ، وأنصار محاربيه ، ومن مبغضيه ، وقد عرفت أنّ بغضه علامة النفاق (2) ، والنفاق أكبر الفسق المانع من قبول الرواية.
وما زال أبو هريرة من المهاجرين بعداوة إمام الهدى وخذلانه ونصرة أعدائه ، حتّى إنّه كان يضع الحديث على رسول اللّه في نقصه!
نقل ابن أبي الحديد (3) ، عن أبي جعفر الإسكافي ، أنّ معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين ، على رواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : عروة بن الزبير.
ثمّ ذكر ما اختلفوه ، وذكر عن أبي هريرة ما استحقّ به عند معاوية أن يولّيه إمارة المدينة (4).
ثمّ نقل عن أبي جعفر ، وابن قتيبة ، أنّ سفيان الثوري روى عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن عمر بن عبد الغفّار ، أنّ أبا هريرة لمّا قدم
ص: 525
الكوفة مع معاوية ، كان يجلس بالعشيّات بباب كندة ، ويجلس الناس إليه ، فجاء شابّ من الكوفة فجلس إليه ، فقال : يا أبا هريرة! أنشدك اللّه أسمعت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ بن أبي طالب علیه السلام : « اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه »؟!
فقال : اللّهمّ نعم.
قال : فأشهد باللّه! لقد واليت عدوّه وعاديت وليّه!
ثمّ قام عنه (1).
هذا كلّه مضافا إلى شهادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّ أبا هريرة من أهل النار!
روى صاحبا « الإصابة » و « الاستيعاب » ، وغيرهما ، في ترجمة فرات ، أنّ أبا هريرة ، والرحّال بن عنفدة (2) ، والفرات بن حبّان (3) ، خرجوا من مجلس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال مشيرا إليهم : لضرس أحدكم في النار أعظم من أحد ، وإنّ معه لقفا غادر.
ص: 526
فكان أبو هريرة والفرات يقولان بعدها : ما أمنّا بعد هذا حتّى ارتدّ الرحّال وقتل مع مسيلمة (1).
مرادهما : تأويل الحديث بحمل لفظ « أحدكم » على الواحد لا الجميع ، وهو خلاف الظاهر والاستعمال المستفيض.
قال تعالى : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ) (2) ..
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (3) ..
( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) (4) ..
( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) (5) ..
( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) (6) ..
( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (7).
ص: 527
.. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من الآيات (1) ، وغيرها (2).
مضافا إلى أنّ النبيّ لا يمكن أن يسقط شأن جماعة من أمّته بالإجمال ، وهو يريد واحدا خاصّا (3).
ص: 528
ولو لا خوف الملال لزدنا في بيان أحوال هذا الرجل ، وفي ما ذكرناه تبصرة ومعتبر (1)!
فإذا كان هذا حال أبي هريرة - وهو أكثر رواتهم رواية - ، فكيف يحلف المنصف على صدور جميع ما في صحاحهم؟!
وأمّا ما ذكره الفضل من اتّصال نسب أبي بكر برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الأب الثامن ، فغير نافع ما لم تحصل التقوى وطاعة المولى ، وقد كان أبو لهب أقرب منه نسبا!
على أنّ أبناء تيم من أرذل بيت في قريش (2) ، فلا يفيدهم شرف
ص: 529
الأصل ، وكلّ الناس من آدم ونوح.
وأمّا قوله : « كان أبو بكر قبل البعثة من أكابر قريش وأشرافها وصناديدها ... » إلى آخره ..
فيكذّبه ما رواه الجاحظ مفاخرا به - كما في « شرح النهج » (1) - ، من أنّ أبا بكر كان من المعذّبين بمكّة قبل الهجرة ، وأنّ نوفل بن خويلد ، المعروف بابن العدويّة (2) ، ضربه مرّتين حتّى أدماه ، وشدّه مع طلحة بن عبيد اللّه (3) في قرن (4) ، وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان (5) ، ولذلك كانا يدعيان القرينين.
فإنّ مثل ذلك لم يفعلوه إلّا بأذلّائهم وعبيدهم ، لا بأشرافهم وصناديدهم (6).
ص: 530
وأمّا قوله : « كان صاحب أموال كثيرة ، حتّى اتّفق جميع أرباب التواريخ أنّه لم يبلغ مال قريش مبلغ مال أبي بكر ».
فلا أدري من هؤلاء أرباب التواريخ؟! فإنّي لم أجد أحدا ذكره!!
وغاية ما ادّعاه الجاحظ في مقام المفاخرة - كما ذكره ابن أبي الحديد في « الشرح » (1) - ، أنّ ماله كان أربعين ألف درهم.
وهذا لا يعدّ مالا في قريش ، لو سلّمنا أنّ أبا بكر يملكه (2).
ص: 531
وأمّا قوله : « كان يعين رسول اللّه بماله وأسبابه » ..
فكغيره من دعاواه الكاذبة ؛ إذ كيف يصحّ ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يرض أن يأخذ من أبي بكر بعيرا إلّا بالثمن عند الهجرة في تلك الحال الشديدة ، كما رواه البخاري (1) ، وأحمد (2) ، عن عائشة ؛ وذكره ابن الأثير في « الكامل » (3) ، والطبري في « تاريخه » (4)؟! ..
وكيف يمكن أن يدّعي لأبي بكر بذل المال (5) ، وقد أشفق أن يقدّم بين يدي نجواه صدقة يسيرة (6) ، وترك أهله المحاويج بلا شيء يوم الهجرة وأخذ ماله معه ، وكان خمسة آلاف أو ستّة آلاف درهم ، كما رواه أحمد ، عن أسماء بنت أبي بكر (7) ، ورواه الحاكم ، وصحّحه على شرط
ص: 532
مسلم (1)؟!
وأيضا : قد تزوّجت ابنته أسماء الزبير وهو فقير لا يملك سوى فرسه ، فكانت تخدم البيت وتسوس الفرس وتدقّ النوى لناضحه وتعلفه وتستقي الماء ، وكانت تنقل النوى على رأسها من أرض الزبير التي أقطعها إيّاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي على ثلثي فرسخ من منزلها ، كما رواه البخاري (2) ، ومسلم (3) ، وأحمد (4).
فلو كان أبو بكر من أهل البذل ، فأين هو عن ابنته وهي بتلك الحال؟!
نعم ، ادّعت أسماء أنّ أباها أرسل إليها بعد ذلك خادما كفتها سياسة الفرس ، قالت : فكأنّما أعتقني (5).
وأمّا ما نقله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلّا أظهر تردّدا ما خلا أبا بكر » ..
فكذب ظاهر ؛ فإنّ عليّا وخديجة أظهر منه سلما وتسليما.
وكيف يدّعي التردّد لأبي ذرّ وأشباهه ممّن جاءوا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله قاصدين الإسلام رغبة فيه (6)؟!
ص: 533
والحقّ أنّ أبا بكر إنّما أسلم لما سمعه من بحيرا الراهب وغيره ، في ارتفاع أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وبعد صيته ، وانتشار حكمه ؛ وكذلك عمر (1).
ص: 534
وأمّا قوله : « فأخذ أبو بكر يدعو الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فآخر ذلك اليوم الذي أسلم ، أتى بعيون أشراف قبائل قريش ... » إلى آخره ..
ففيه نظر ؛ قال ابن أبي الحديد (1) ، في « شرح الخطبة التي مدح أمير المؤمنين علیه السلام في بعضها النبيّ صلی اللّه علیه و آله » بقوله : « لم يسهم فيه عاهر ،
ص: 535
ولا ضرب فيه فاجر » ..
قال : « في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن ، كما يقال : إنّ آل سعد بن أبي وقّاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب ، وإنّهم من بني عذرة من قحطان.
وكما قالوا : إنّ آل الزبير بن العوّام من أرض مصر ، من القبط.
وقال الهيثم بن عديّ في كتاب ( مثالب العرب ) : إنّ خويلد بن أسد ابن عبد العزّى ، كان أتى مصرا ، ثمّ انصرف منه بالعوّام فتبنّاه.
فقال حسّان يهجو آل العوّام [ من الطويل ] :
بني أسد! ما بال آل خويلد *** يحنّون شوقا كلّ يوم إلى القبط؟!
إلى أن قال :
لعمر أبي العوّام إنّ خويلدا *** غداة تبنّاه ليوثق في الشّرط (1) »
ولو سامحنا الفضل في أنّ هؤلاء من عيون الرجال ، وأنّ كلّ قبائلهم من أشراف القبائل ، فلا نسلّم أنّ إسلامهم بدعوة أبي بكر ، كما يشهد له
ص: 536
ما ذكره عليّ بن برهان الدين الحلبي في « السيرة الحلبية » ، وأحمد زيني - المشهور ب « دحلان » - في « السيرة النبويّة » ، حيث ذكرا أنّ السبب في إسلام طلحة وعبد الرحمن إخبار الرهبان لهما بنبوّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ غاية الأمر ، أنّهما أخبرا أبا بكر بقصّة الرهبان قبل إسلامهما ، ثمّ أسلما على يد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).
كما أنّ إسلام هؤلاء لم يكن في أوّل يوم.
ولو كان أبو بكر بهذه المنزلة من لطف الدعوة بحيث أسلم بسببه هؤلاء الجماعة في أوّل إسلامه ، لظهر له الأثر الكثير الكبير بعد ذلك بحيث تسلم مكّة عامّتها في أقلّ من مدّة سنة ، وما رأيناهم نقلوا إسلام أحد بسببه غير هؤلاء الّذين سمّاهم مع عبد الرحمن بن عوف!
وقد كشف عن كذب هذه الدعوى أبو جعفر الإسكافي ، في ردّه على رسالة الجاحظ ، كما حكاه ابن أبي الحديد (2) عنه ، قال :
« ما أعجب هذا القول ؛ إذ تدّعي العثمانية لأبي بكر الرفتي في الدعاء وحسن الاحتجاج ، وقد أسلم ومعه ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا برفقه ولطف احتجاجه ، ولا كرها بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه عليه ، ولا كان له عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه في ما يأمره به » ..
إلى أن قال : « وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيّئ الحال ، وأبو بكر عندهم مثريا فائض المال ، فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة والإحسان ، وقد كانت امرأة أبي بكر أمّ عبد اللّه ابنه ... لم تسلم ، وأقامت
ص: 537
على شركها بمكّة ، وهاجر أبو بكر وهي كافرة ، فلمّا نزل قوله تعالى : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (1) ، طلّقها أبو بكر ، فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز ».
ثمّ قال أبو جعفر : « وكيف أسلم سعد ، والزبير ، وعبد الرحمن ، بدعاء أبي بكر ، وليسوا من رهطه ، ولا من أترابه ، ولا من جلسائه ، ولا كانت بينهم صداقة متقدّمة [ ولا أنس وكيد ]؟! ...
وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، لم يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه ، وقد زعمتم أنّهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه (2)؟!
وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام ، وقد ذكرتم أنّه أدّبه وخرّجه ، ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها (3)؟!
فكيف عجز عن هؤلاء الّذين عددناهم ، وهم منه بالحال التي وصفنا ، ودعا من لم يكن بينه وبينه أنس ولا معرفة إلّا معرفة عيان؟!
وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطّاب ، وقد كان شكله (4) ، وأقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه؟!
ولئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أنّ هؤلاء لم يكن إسلامهم إلّا بدعاء الرسول [ لهم ] وعلى يديه ».
وأمّا قوله : « ولا يقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ على أمر ] إلّا
ص: 538
بمشاورته » ..
فإن أراد به المشاورة عن حاجة ، فهو ظاهر البطلان ؛ لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعظم قدرا وأجلّ شأنا من ذلك ؛ كيف؟! وهو مؤيّد بالوحي ، مسدّد بالعصمة.
وإن أراد به المشاورة لا عن حاجة ، فوقوعها في الجملة مسلّم كما أمره عزّ وجلّ بقوله : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) .
ولا ريب أنّ هذه المشاورة المنزّهة عن الحاجة إنّما هي للتأليف ، كما يدلّ عليه نفس الآية الكريمة ، قال تعالى : ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ ) لَانْفَضُّوا ( مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (1).
فإنّ قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ... لَانْفَضُّوا ) دليل على ضعف إيمانهم ، وأنّه غير ثابت عن صميم القلب.
فلا بدّ أن يكون الأمر بمشاورتهم للتأليف ، مضافا إلى أنّها نازلة في العصاة المنهزمين في أحد (2) ، ومثلهم يحتاج إلى التأليف.
وقد أخذ الفضل قوله : « لا يقدم ... إلّا بمشاورته » ممّا ورد عندهم من نزول قوله تعالى : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) بأبي بكر وعمر ، كما سبقت روايته قريبا عن الحاكم ، والبيهقي ، والواحدي ، في جهاد أمير المؤمنين علیه السلام ، من القسم الثاني المتعلّق بالفضائل البدنيّة (3).
ص: 539
وأمّا قوله : « كان يبذل ماله في إعانة المسلمين » ..
فيظهر لك ما فيه ممّا ذكرنا.
وقال أبو جعفر ردّا على زعم الجاحظ ، أنّ مال أبي بكر كان أربعين ألف درهم ، فأنفقه في نوائب الإسلام ، كما في « شرح النهج » (1).
قال أبو جعفر : « أخبرونا على أيّ نوائب الإسلام أنفق هذا المال؟! وفي أيّ وجه وضعه؟! فإنّه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتّى يفوت حفظه ، وينسى ذكره ، وأنتم لم تقفوا على شيء أكثر من عتقه - بزعمكم - ستّ رقاب ، لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مئة درهم ».
وأمّا ما رواه من قوله صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله ، أبو بكر ».
فهو بالهزل أشبه! لأنّه إن أريد المنّة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالإنفاق عليه ، فيبطله روايتهم السابقة امتناع النبيّ صلی اللّه علیه و آله من أخذ البعير منه إلّا بالثمن (2).
على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله غنيّ عنه وعن أمثاله ، وقد تكفّل عليّا علیه السلام في حياة عمّة شيخ البطحاء ، وطما (3) فضله على المسلمين عامّة بعد الهجرة (4).
ص: 540
فكيف يحتاج إلى منّ أبي بكر؟!
وإن أريد المنّة عليه بالإنفاق في سبيل اللّه ، فهو ممّا لوجه له ، بل المنّة لله ورسوله عليه ، كما أنّ أعظم المنّة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليه بالصحبة لا له ، ( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ... ) (1) (2).
وليت شعري ، لم لم يتّخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خليلا؟! أبخلا منه بالخلّة على من هو - بزعمهم - أهل لها؟!
أم لمانع منها؟! وهو خلّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لله تعالى ، كما يظهر من أخبارهم ..
ففي حديث البخاري ، في آخر باب قول النبيّ : « سدّوا الأبواب إلّا باب أبي بكر » ، قال فيه : « لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلا » (3).
وهذا ليس بمانع ؛ لأنّ خلّة المؤمنين ممّا يزيد في القرب إلى اللّه ، والخلّة له ، مع أنّ وصف الخليل مختصّ بإبراهيم علیه السلام ، وليس من أوصاف نبيّنا المعروفة ، وإنّما يوصف بأنّه حبيب اللّه.
ومن المشتبه ما رواه البخاري أيضا : « لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذته خليلا ، ولكن أخوّة الإسلام أفضل » (4).
فإنّ أخوّة الإسلام نفس الخلّة الإسلامية ، فما وجه الاختلاف
ص: 541
الحقيقي بينهما والأفضليّة؟!
ولو كانت الأخوّة أفضل من ذات الخلّة ، لكانت أخوّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأبي بكر أفضل من خلّته لله سبحانه! (1).
وأمّا قوله : « ثمّ لمّا أخذ المشركون في إيذاء المسلمين وتعذيبهم ، قام أبو بكر بأعباء أذيّة قريش ».
فهو كسابقه في الكذب والهزل ؛ لأنّ من لم يقدر على دفع الأذى عن نفسه حتّى أدموه وأوثقوه مع طلحة في حبل واحد ، كيف يقدر على دفع الأذى عن غيره؟! (2).
وهل كان أعظم من شيخ البطحاء (3) ، وأسدي اللّه ورسوله ، حمزة وأمير المؤمنين ، وهم لم يقدروا على دفع الأذى عن المسلمين؟!
فكيف قدر عليه أبو بكر ، وهو من أرذل بيت في قريش ، كما ترويه (4)؟!
ومن هذا الباب - أو أكبر - ، دعوى ذبّه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لكن غرّه ما رواه البخاري ، عن عروة بن الزبير (5) ، قال : سألت ابن عمرو بن
ص: 542
العاص (1) : أخبرني بأشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟
ص: 543
قال : بينا النبيّ صلی اللّه علیه و آله يصلّي في حجر الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فوضع ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر حتّى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ ) (1)؟! (2).
وما أدري أأنظر إلى متن الحديث ودلالته على أنّ هذا أشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والحال أنّهم صنعوا معه أشدّ منه أضعافا كثيرة ؛ كحصاره وأهله وقومه بالشعب سنين (3) ، وتشريده من مكّة مرارا (4) ، ورميه بالحجارة حتّى أدموا جبهته الشريفة وساقيه (5) ، وكسروا رباعيّته (6) ، وأدخلوا حلق المغفر في وجهه الشريف (7).
... إلى غير ذلك من أفعالهم الشنيعة (8).
ص: 544
ودلالته أيضا على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا حراك به ولا قوّة حتّى يخنقه عقبة خنقا شديدا ولا يقدر على تخليص نفسه ، وأنّ أبا بكر شجاع قويّ القلب والبدن والجانب ، حتّى أخذ بمنكب عقبة ودفعه من دون أن يلاقيه بالمثل؟!
أم أنظر إلى سنده ورجاله وهم من أسوأ الرجال؟!
فإنّ منهم : عروة (1) ، وابن أبي العاص (2) ، الخارجيّين (3).
ومنهم من تقدّمت ترجمته في مقدّمة الكتاب ، وهما :
يحيى بن أبي كثير ، المدلّس (4) ..
والوليد بن مسلم ، مولى بني أميّة ، الكذّاب ، المدلّس عن الكذّابين ، ولا سيّما في روايته عن الأوزاعي (5) ، كهذه الرواية.
ص: 545
ومنهم : محمّد بن إبراهيم التيمي ، راوي المناكير ، كما قاله أحمد بن حنبل (1) ؛ مع أنّه متّهم في حقّ أبي بكر ، كعروة.
وأمّا قوله : « كان يشتري المعذّبين من الكفّار .. » إلى آخره ..
فقد أجاب عنه أبو جعفر ، كما حكاه عنه ابن أبي الحديد (2) ، بعد قول الجاحظ : « أعتق أبو بكر جماعة من المعذّبين في اللّه ، وهم ستّ رقاب ، منهم : بلال (3) ، وعامر بن فهيرة (4) ، وزبيرة
ص: 546
النهديّة (1) ، وابنتها ، ومرّ بجارية يعذّبها عمر بن الخطّاب ، فابتاعها منه ، وأعتقها ، وأعتق أبا عيسى (2) ».
قال أبو جعفر : « أمّا بلال وعامر فإنّما أعتقهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، روى ذلك الواقدي ، وابن إسحاق ، وغيرهما.
وأمّا باقي مواليهم الأربع ، فإن سامحناكم في دعواكم ، لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال - لشدّة بغض مواليهم لهم - إلّا مئة درهم أو نحوها ، فأيّ
ص: 547
فخر في هذا؟! ».
وأمّا قوله : « فأنزل اللّه فيه : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ ... ) (1) ... » إلى آخره ..
فيرد عليه : إنّ الاستدلال على فضله بهذه الآية بأمور كلّها باطلة :
الأوّل : قوله تعالى : ( ثانِيَ اثْنَيْنِ ) بدعوى دلالته على أنّ أبا بكر أحد اثنين في الفضل والشرف ، ولا فضل أعظم من كون أبي بكر قرينا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في الفضل.
وفيه : إنّه لو أريد الاثنينيّة في الفضل والشرف ، لكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله - بلحاظ أنّه المراد بالثاني - متأخّرا رتبة عن أبي بكر في الفضل والشرف ؛ وهو كفر!
فليس المراد ب ( ثانِيَ اثْنَيْنِ ) إلّا ما هو ظاهر اللفظ ؛ أعني مجرّد الإخبار عن العدد ، وهو لا يدلّ على الفضل بالضرورة!
الثاني : إنّه جعله صاحبا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، والصحبة في هذا المقام العظيم منزلة عظمى.
وفيه : إنّ الصحبة - بما هي صحبة - لا تدلّ على أكثر من المرافقة والاصطحاب ، وهو قد يكون بين المؤمن وغيره ، كما قال تعالى : ( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ... ) (2).
وأمّا خصوصيّة المقام ، فلا أثر لها إلّا إذا كانت لحاجة ورغبة في أبي بكر لذاته ، فيكون الدالّ على الفضل هو الرغبة في صحبة أبي بكر لذاته ، وهو ممنوع ؛ إذ لا إشارة في الآية الكريمة إليه ، وأخبارهم
ص: 548
مدخولة!
على أنّ رواية البخاري وغيره ، الواردة في هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، مصرّحة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب الصحبة لمّا قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « قد أذن بالخروج إلى المدينة » (1).
ولا شكّ عندنا أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يصحبه إلّا خشية أن يطلع عليه أحدا حيث أحسّ بخروجه ، وجاءت به بعض روايات القوم ، كما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن أبي القاسم الصبّاغ (2) ، من علماء الجمهور ، في كتابه « النور والبرهان » (3).
وكيف يكون في صحبة أبي بكر خير للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وقد ابتلي به فوق بلائه ، واحتاج إلى مداراته في دفع الخوف عنه؟!
ولو كان لأبي بكر فضل لعبّر اللّه سبحانه عنه ببعض ألفاظ التعظيم والإكرام ، ك « الأخ » و « النفس » ، ونحوهما ، لا ب « الصاحب » ، كما عبّر
ص: 549
عن عليّ ب « الأنفس » (1) و « الّذين آمنوا » (2).
الثالث : إنّه قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا ) (3) ، أي : معنا بلحاظ نصرته ورعايته لنا ، ومن كان شريكا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في نصرة اللّه له كان من أعظم الناس.
وفيه : إنّ المقصود بالنصرة والرعاية واقعا هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأمّا أبو بكر فتابع محض ؛ ولذا خصّه اللّه تعالى بقوله : ( فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ ) (4) .. الآية.
والتبعيّة في النصرة - لأجل الاجتماع - لا تدلّ على فضل بالضرورة.
الرابع : قوله تعالى : ( فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) (5) ، فإنّ كثيرا من الناس قالوا : إنّ السكينة مخصوصة بأبي بكر ؛ لأنّه المحتاج إليها لما تداخله من الحزن والهلع ، بخلاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه عالم بأنّه محروس من اللّه تعالى (6).
وفيه : إنّه لا يتّجه إرجاع السكينة إلى أبي بكر ؛ لأنّ بعدها ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ) (7)..
ص: 550
ودعوى عدم حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله الى السكينة ، باطلة ؛ إذ لا يستغني أحد عن لطف اللّه وتأييده وتثبيت قلبه ، كما قال تعالى في قصّة حنين : ( وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1).
فلمّا خصّ اللّه نبيّه بالسكينة في آية الغار ، ولم يجر أبا بكر مجرى المؤمنين في ثبوت السكينة له معه ، كشف عمّا لا خفاء به عليك!
كما إنّ ظهور الحزن منه في موطن لا ينبغي للمؤمن حقّا أن يحزن فيه ، دليل على نقصانه ؛ فإنّه قد ظهر على يد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الآيات البيّنة والكرامات الظاهرة ما يشهد لكلّ مؤمن بالحفظ والسلامة ؛ كإنبات الشجرة ، ونسج العنكبوت ، وتعشيش الطائر ، وخروج النبيّ صلی اللّه علیه و آله من بين القوم في حال لا يرجى لغيره الخروج فيها .. إلى غير ذلك (2).
فالآية من أوضح الأدلّة على ذمّ أبي بكر ؛ لعدم إدخالها له بالسكينة ؛ ودلالتها على حزنه في مقام لا يحزن فيه كامل الإيمان ، بل المؤمن ؛ وإعراضها عن مدحه أصلا ؛ ودلالتها على حزنه المحرّم ، كما يقتضيه النهي ..
فكيف يقاس من يحزن ويهلع - مع هذه الآيات الواضحة - بمن شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه ، وبات على زيّ (3) النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين من
ص: 551
يطلبون سفك دمه ، ولا يرجى منهم الخروج؟!
فإن قلت : يرد النقض على بعض ما ذكرته بما جاء في الأنبياء ، قال تعالى : ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى * قُلْنا لا تَخَفْ ) (1) ، فإنّ موسى - مع نبوّته ، وعظيم شأنّه ، وثبات إيمانه ، ووعد اللّه له ولأخيه بأن يجعل لهما سلطانا ، وأنّهم لا يصلون إليهما ، وأنّهما ومن اتّبعهما الغالبون - أوجس في نفسه خيفة ، حتّى نهاه اللّه تعالى ؛ فكيف ينكر على أبي بكر حزنه عند ظهور الآيات له؟!
وأيضا : فقد نهى اللّه سيّد رسله فقال : ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) (2) ..
وقال تعالى : ( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ) (3) ...
وقال تعالى : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ) (4) ..
[ وقال تعالى : ] (5) ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) (6) ..
فكيف يلام أبو بكر وينكر عليه ، وهو من أمّته؟!
قلت : أمّا موسى فلم يحزن خوفا على نفسه ، أو من عدم غلبته ، بل خاف إيقاع السحرة في أوهام البسطاء إمكان معارضة آياته تشبّثا في مقام الجدال بالأمور الصورية الكاذبة ، فيعسر عليه الانتصار والغلبة سريعا ؛
ص: 552
ولذا قال سبحانه : ( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ... * إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) (1).
فليس نهيه نهي تحريم ، بل للتطمين بالنصر السريع بإلقاء عصاه.
ومنه يعلم الوجه في قوله تعالى : ( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ... ) (3).
وأمّا نهي اللّه تعالى له عن الحزن على الكافرين وكفرهم ، فالمراد به التنبيه على عدم الاعتناء بهم ، وعدم استحقاقهم للحزن والأسف عليهم بإهلاكهم أنفسهم ، كما قال تعالى : ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ) (4).
وهذا هو ظاهر الآيات بلا حاجة إلى تكلّف ، بخلاف نهي أبي بكر!
على أنّ تلك الآيات لو لم تكن ظاهرة بما قلنا ، فلا بدّ من حملها عليه ؛ للعلم بكمال الأنبياء وعصمتهم ، بخلاف أبي بكر ، ولا سيّما مع سهولة الحمل في تلك الآيات دون ما يتعلّق بأبي بكر ، بل هو متّضح الحال ، وأنّ حزنه لإشفاقه من القتل ، كما تدلّ عليه الأخبار.
وأمّا قوله : « وأثنى عليه في كتابه العزيز في مواضع عديدة » ..
فهو كذب مفترى ، بدليل ما رواه البخاري في سورة الأحقاف من
ص: 553
« كتاب التفسير » ، عن يوسف بن ماهك ، أنّ مروان قال : « إنّ هذا - يعني عبد الرحمن بن أبي بكر - الذي أنزل اللّه فيه : ( وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي ) (1) ، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل اللّه فينا شيئا من القرآن ، إلّا أنّ اللّه أنزل عذري » (2).
إذ لو نزلت آية في مدح أبيها لاستثنتها أيضا ، فمن أين جاؤوا بالآيات العديدة؟!
ولا ينافي هذا العموم آية الغار ؛ لنزولها في رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكنّها دلّت على خطابه لأبي بكر ، وهو ليس نزولا فيه!
وأشهر ما زعموا نزوله في أبي بكر قوله تعالى : ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى * وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) (3).
رووا ذلك عن عروة وعبد اللّه ، ابني الزبير (4) ، وهو - مع كونه عن رأيهما قول - محلّ التهمة ، وأعدى عدوّ لعليّ ، وممّن حاربه يوم الجمل.
وقد مرّ أنّ بغضه - فضلا عن حربه - علامة النفاق (5) ، والمنافق فاسق لا يقبل رأيه في التفسير وروايته ، ولا كرامة!
ص: 554
على أنّه معارض برواية أخرى ؛ فقد رووا نزولها في عليّ علیه السلام ، أو أبي الدحداح (1) ، أو غيرهم (2).
وقال ابن حجر في « الصواعق » (3) : « ولا يمكن حملها على عليّ خلافا لما افتراه بعض الجهلة ؛ لأنّ قوله : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) (4) يصرفه عن حمله على عليّ ؛ لأنّ النبيّ ربّاه فله عليه نعمة ، أي نعمة تجزى ، وإذا خرج عليّ تعيّن أبو بكر ؛ للإجماع على أنّ ذلك ( الْأَتْقَى ) أحدهما لا غير ».
ص: 555
تكرّر هذا الكلام بينهم وتشدّقوا به ، وهو جهل وتعصّب ؛ إذ ليس المراد بقوله تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) هو الثناء على الأتقى بأنّه لا يد لأحد عنده ؛ إذ لا يوجد أحد من بني آدم إلّا ولأحد نعمة عليه ، إذ لا أقلّ من أحد أبويه ، أو غيرهما من المربّين والكافلين ، سواء في ذلك عليّ ، أم أبو بكر ، أم غيرهما!
بل المراد : هو الثناء عليه بأنّه لم ينفق ماله لأجل مكافأة أحد بنعمة له عليه ، بل أنفق ماله ابتغاء وجه ربّه الأعلى.
ولذا صحّ الاستثناء في الآية ، فإنّه لا معنى لاستثناء قوله : ( إِلأَابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (1) من مجرّد مدح الشخص بأن لا يد لأحد عليه.
ثمّ كيف جاز لهم أن ينفوا نعمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أبي بكر؟!
ألم ينعم عليه بدعوته إلى الإسلام ورفع شأنه؟!
ألم ينعم عليه بالغنائم وغيرها؟!
( وَما نَقَمُوا إِلأَأَنْ أَغْناهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ... ) (2).
وأمّا قوله : « ولم يقدر أحد من الشيعة أن يدّعي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غزا غزوة وتخلّف عنه أبو بكر » ..
فلو صحّ ، فهم يقدرون على إثبات تخلّفه عن أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله في
ص: 556
الخروج تحت لواء أسامة (1).
ويقدرون على إثبات أنّه ما قاتل ولا همّ بقتال إلّا مرّة واحدة - كما رواه القوم - لمّا تقدّم ابنه عبد الرحمن في غزاة أحد ، وطلب المبارزة ، فقام إليه أبو بكر ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « شم (2) سيفك وأمتعنا بنفسك » (3) - مشيرا إلى جبنه - مع حنو (4) الولد على أبيه.
ويقدرون على إثبات أنّه فرّ في مقامات الزحام ، كخيبر وأحد وحنين - كما سبق نقله من أخبارهم (5) - ، وتستّر بالعريش في بدر (6).
فأيّ فائدة في عدم تخلّفه؟!
وأمّا قوله : « وإجماع الأمّة على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يقدّمه
ص: 557
على أصحابه ويفضّله عليهم » ..
فهو من مخيّلات أمّة أبي بكر وتسويلاتهم!
وأمّا ما نقله عن محمّد بن الحنفيّة (1) ، فهو ممّا رقمه (2) قلم الأهواء ، ولا حجّة لهم - بنقلهم - على خصومهم ، وكيف يفضّله أمير المؤمنين علیه السلام ، وهو مولى المؤمنين والمؤمنات؟!
وقال في « خطبته الشقشقية » : « لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وهو يعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السّيل ، ولا يرقى إليّ الطير » (3).
وما زال يتظلّم منه ومن أصحابه (4).
وأمّا ما حكاه عن ابن عمر (5) ، فقد سبق أنّه من موارد الطعن عليه ، ومن كذباته الواضحة (6).
فهل ترى أعجب من ابن عمر ، يسمع نداء آية المباهلة بأنّه نفس سيّد النبيّين ، وآية التصدّق بأنّه مع اللّه ورسوله وليّ المؤمنين .. إلى أمثالهما من الكتاب والسنّة ، ثمّ يجعله من سائر المسلمين ، ويجعل فضل
ص: 558
أبيه وصاحبيه مفروغا عنه؟!
ما هذا إلّا الغيّ والحمق!!
وبما ذكرنا من بيان حال صحاحهم في المقدّمة وغيرها (1) ، تستغني عن التعرّض لبقيّة ما ذكره الفضل من الأحاديث والتكلّم في أسانيدها ومتونها ومعارضاتها.
وأمّا ما زعمه من جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأبي بكر إماما في الصلاة تلويحا إلى خلافته ، وأنّه صلّى بهم أيّام مرضه (2) ..
فهو من كذباتهم ..
والحقّ أنّه لم يصلّ بالناس إلّا في صلاة واحدة ، وهي صلاة الصبح ، تلبّس بها بأمر ابنته ، فعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج يتهادى بين عليّ والعبّاس - أو ابنه الفضل - ، ورجلاه تخطّان في الأرض من المرض (3) ، وممّا لحقه من تقدّم أبي بكر ، ومخالفة أمره بالخروج في جيش أسامة ، فنحّاه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وصلّى ، ثمّ خطب ، وحذّر الفتنة ، ثمّ توفّي من يومه ، وهو يوم الاثنين.
وقد صرّحت بذلك أخبارنا (4) ..
ودلّت عليه أخبارهم ؛ لإفادتها أنّ الصلاة التي تقدّم فيها هي التي عزله النبيّ عنها ، وأنّها صبح الاثنين ، وهو الذي توفّى فيه ..
ص: 559
أمّا الأوّل (1) ؛ فلما رواه مسلم (2) ، عن عائشة ، قالت : « لمّا ثقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس.
قالت : فقلت : يا رسول اللّه! إنّ أبا بكر رجل أسيف (3) ، وإنّه متى يقم مقامك لم يسمع الناس ، فلو أمرت عمر؟
فقال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس!
قالت : فقلت لحفصة : قولي له : إنّ أبا بكر رجل أسيف ، وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر؟
فقالت له ؛ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف! مروا أبا بكر فليصلّ بالناس!
قالت : فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس.
[ قالت : ] فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من نفسه خفّة ، فقام يهادى بين رجلين (4) ، ورجلاه تخطّان في الأرض.
فلمّا دخل المسجد سمع أبو بكر حسّه ، فذهب يتأخّر ، فأومأ إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله [ قم مكانك ] ، فجاء رسول اللّه حتّى جلس عن يسار أبي بكر.
ص: 560
فكان أبو بكر يصلّي قائما ، وكان رسول اللّه يصلّي قاعدا ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول اللّه ، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ».
وهو - كما تراه - صريح في أنّ أوّل صلاة صلّاها أبو بكر هي التي عزله النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنها.
وتدلّ عليه أخبار أخر أيضا (3).
وأمّا الثاني ؛ وهو أنّها صبح يوم الاثنين ؛ فلما رواه الطبري (4) ، عن عبد اللّه بن أبي مليكة ، قال : « لمّا كان يوم الاثنين خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاصبا رأسه إلى الصبح ، وأبو بكر يصلّي بالناس.
فلمّا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تفرّج الناس ، فعرف أبو بكر أنّ الناس لم يفعلوا ذلك إلّا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فنكص عن مصلّاه فدفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ظهره ، وقال : صلّ بالناس ؛ وجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى جنبه ، فصلّى قاعدا عن يمين أبي بكر.
فلمّا فرغ من الصلاة ، أقبل على الناس وكلّمهم رافعا صوته ، حتّى خرج صوته من باب المسجد ، يقول : يا أيّها الناس! سعّرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإنّي واللّه لا تمسكون عليّ شيئا ، إنّي لم
ص: 561
أحلّ لكم إلّا ما أحلّ لكم القرآن ، ولم أحرّم عليكم إلّا ما حرّم عليكم القرآن ... » .. الحديث.
وأمّا الثالث ؛ هو أنّها في يوم وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ فلما حكاه في « كنز العمّال » (1) ، عن ابن جرير ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، قال : « صلّى - أي : النبيّ صلی اللّه علیه و آله - في اليوم الذي مات فيه صلاة الصبح في المسجد ».
وما في « الكنز » أيضا (2) ، عن أبي يعلى في « مسنده » ، وابن عساكر ، عن أنس ، قال : « لمّا مرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مرضه الذي مات فيه ، أتاه بلال فآذنه بالصلاة ، فقال : يا بلال! قد بلّغت ، فمن شاء فليصلّ ، ومن شاء فليدع.
قال : يا رسول اللّه! فمن يصلّي بالناس؟
قال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس.
فلمّا تقدّم أبو بكر رفعت الستور عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فنظرنا إليه كأنّه ورقة بيضاء عليه خميصة (3) سوداء ، فظنّ أبو بكر أنّه يريد الخروج ، فتأخّر ، فأشار إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن صلّ مكانك ، فصلّى أبو بكر ، فما رأينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى مات من يومه ».
ص: 562
ومنه ما في « الكنز » أيضا (1) ، عن أبي الشيخ في الأذان ، عن عائشة ، قالت : « ما مرّ عليّ ليلة مثل ليلة مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، يقول : يا عائشة! هل طلع الفجر؟
فأقول : لا يا رسول اللّه ؛ حتّى أذّن بلال بالصبح.
ثمّ جاء بلال ، فقال : السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته!
الصلاة يرحمك اللّه.
فقال النبيّ : ما هذا؟
فقلت : بلال.
فقال : مري أباك أن يصلّي بالناس »
فقد ثبت من جميع ما ذكرنا ، أنّ أوّل صلاة تقدّم فيها أبو بكر هي التي عزله النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنها ، وأنّها صبح يوم الاثنين الذي توفّي فيه ، ولم يتقدّم في غيرها.
فما في بعض أخبار عائشة ، من أنّ الصلاة التي تأخّر فيها أبو بكر عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله هي الظهر ، وأنّه صلّى بالناس في مرض النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيّاما (2) ، مردودة بالأخبار المذكورة.
مع أنّها ليست حجّة علينا ، ولا سيّما أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد نبز عائشة وصاحبتها بأنّهما صواحب يوسف (3) ، وهي أيضا محلّ التهمة في حقّ
ص: 563
أبيها.
وأقرّت بكذبها في المقام بما أظهرته من سبب الاستعفاء ؛ فإنّها تقول في كثير من أخبارهم : « ما حملني على كثرة مراجعتي إلّا أنّي كنت أرى أنّه لن يقوم أحد مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا تشاءم الناس به » (1).
فمع هذا ونحوه ، كيف تعتبر روايتها وتقدّم على ما يخالفها؟!
كما لا نعتبر خبرها بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو الآمر بتقديم أبي بكر ، بل إنّما أمر أن يصلّي بالناس بعضهم ، فانتهزت عائشة الفرصة فأمرت بتقديم أبي بكر ؛ كما يشهد له خبر عائشة السابق في رواية أبي الشيخ ، حيث أخبرت في آخره بأنّ النبيّ قال : « مري أباك أن يصلّي بالناس » (2)، فإنّه كاشف عن أنّ الأمر بتقديم أبيها قد صدر منها ، لكن ادّعت أنّه عن أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله !
ويشهد لعدم تعيين النبيّ صلی اللّه علیه و آله للمصلّي ، ما في « الاستيعاب » بترجمة أبي بكر ، عن عبد اللّه بن زمعة (3) ، قال : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « مروا
ص: 564
من يصلّي بالناس ».
لكن زعم ابن زمعة أنّه أمر عمر بالصلاة ، فلمّا كبّر سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صوته ، قال : « فأين أبو بكر؟! يأبى اللّه ذلك والمسلمون! » (1).
وهو غير مقبول منه ؛ لأنّه يقتضي قطع صلاة عمر ، وتأخيره ، وتقديم أبي بكر ؛ وهو حادث كبير ، لو صحّ لشاع.
ويشهد أيضا لعدم تعيين النبيّ صلی اللّه علیه و آله للمصلّي بالناس ، ما أخبر به أنس في الرواية المذكورة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « يا بلال! قد بلّغت ، فمن شاء فليصلّ ، ومن شاء فليدع » (2).
فإنّ مراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو التخيير في أمر الجماعة والإمامة ، لا أصل الصلاة بالضرورة ، وحينئذ فيكون خبر الراوي في تتمّة الحديث بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « مروا أبا بكر فليصلّ بالناس » (3) من الإضافات التي قضت بها السياسة!
وكيف يجتمع زعمهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو الآمر بتقديم أبي بكر ، وأنّه صلّى بالناس أيّاما ، مع جعله من جيش أسامة ، ولعن من تخلّف عنه؟! (4).
وأيضا : لو كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو الآمر المصرّ على تقديم أبي بكر ، وقد قصد التلويح إلى خلافته ، فما معنى خروجه صلی اللّه علیه و آله بأوّل صلاة صلّاها
ص: 565
أبو بكر وعزله عن الجماعة ، وهو بتلك الحال الشديدة المشجية ، تخطّ رجلاه في الأرض ، ويتهادى بين رجلين ، حتّى صلّى بالناس من جلوس صلاة المضطرّين؟!
فلا بدّ أن يكون مريدا بخروجه المستغرب رفع ما لبسوه على الناس ، من أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو الآمر بتقديمه.
وأيضا : لو كانت صلاته بأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وصلّى بالناس أيّاما ، لا صلاة الصبح فقط ، فلم لم يحضر صلاة النهار يوم وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، بل كان بمنزله في السّنح (1)؟!
وأيضا : لو كانت صلاته بأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ومرغوبة له ، ومريدا بها التلويح إلى خلافته التي يعلم بوقوعها ، وأنّهاعلى الهدى كما زعموا ، فما الذي حدث حتّى خرج على تلك الحال ، وخطب تلك الخطبة العالية ، وقال : « سعّرت النار ، وأقبلت الفتن » (2)؟!
فالمنصف يعلم من هذا أنّ صلاة أبي بكر لم تكن عن أمره ، بل كانت فتنة اتّخذها أولياؤه حجّة ، وكانت أوّل نار سعّرت على الحقّ ، وفتنة مظلمة!
ولذا لم يعتدّ بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وصلّى مبتدئا ؛ فإنّه لو صلّى إماما لهم من حيث وصل إليه أبو بكر ، لخلت صلاته - على الأقل - من
ص: 566
تكبيرة الافتتاح ، فتبطل!
فإذا كان مبتدئا تعيّن أن يكون الناس قد ابتدأوا معه غير معتدّين بصلاة أبي بكر ، وإلّا كانوا سابقين على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض أفعال الصلاة ، وهو غير جائز في الجماعة (1).
ومن الواضح أنّ عدم اعتداد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بصلاة أبي بكر ، دليل على أنّها ليست بأمره ، وأنّها أوّل فتنة أصابت الإسلام.
هذا ، ومن الأوهام والخيالات زعمهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قدّمه في الصلاة تلويحا إلى خلافته (2) ..
والحال أنّ إمامة الصلاة عندهم لا يعتبر فيها العدالة ، فضلا عن الاجتهاد ونحوه من شروط الإمامة العامّة (3) ، فكيف تكون تلويحا إلى الزعامة العظمى والرياسة الكبرى؟!
وأعجب من ذلك ، ما كذبوا فيه على أمير المؤمنين علیه السلام ، أنّه قال - كما في « الاستيعاب » - : « رضينا لدنيانا من رضي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لديننا » (4) ..
إذ مع معلوميّة تظلّم أمير المؤمنين منهم وسخطه عليهم إلى حين وفاته ، كيف يجعل الخلافة من أمر الدنيا ، ويجعل الرضا بها تابعا للرضا
ص: 567
بإمامة الصلاة التي تجوز حتّى للفاجر بزعم القوم؟!
وأعجب من الجميع ، زعم الفضل معارضة ما دلّ على خلافة أمير المؤمنين بما أشير فيه إلى خلافة أبي بكر ..
فإنّ هذا من أخبارهم ، فلا يكون حجّة على خصومهم حتّى يوجب المعارضة ، ولا سيّما أنّهم أقرّوا بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يخلّف أبا بكر ، ورووه عن عمر مستفيضا (1) ، فيلزم تكذيب ذلك أو تأويله ، ويبقى ما دلّ على خلافة أمير المؤمنين بلا معارض!
مع أنّ ما زعموا الإشارة فيه إلى خلافة أبي بكر نادر لا يصلح للمعارضة ، وغير دالّ على مرادهم أصلا ؛ إذ لا دلالة أصلا في خبر جبير ابن مطعم (2) على أنّ الشيء الذي كلّمت المرأة فيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الأشياء التي مرجعها السلطان.
كما لا دلالة بقولها : « لم أجدك » على إرادة الموت ، وقول جبير : « كأنّها تريد الموت » ، ظنّ أو احتمال ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.
وأمّا ما رواه عن عائشة ، من قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مرضه : « ادعي لي
ص: 568
أباك وأخاك ... » (1) إلى آخره ..
فقد كفانا أمره عمر بقوله : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وحاشاه - يهجر » (2).
مع احتمال أن يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يعطيه مالا ويكتب له فيه ، أو يكتب له في الصلاة بالناس التي زعموا أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بها ، أو نحو ذلك.
على أنّ هذا الحديث مقطوع الكذب ؛ إذ كيف يتصوّر أن يأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عائشة بدعوة أبيها - وتحتمل أن يكتب له بالخلافة - فلا تحضره ، والحال أنّها تدعوه بلا دعوة!
أخرج الطبري في « تاريخه » (3) ، عن الأرقم بن شرحبيل ، قال : « سألت ابن عبّاس : أوصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟
قال : لا.
قلت : فكيف ذلك؟!
قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ابعثوا إلى عليّ فادعوه!
فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر؟
وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر؟
فاجتمعوا عنده جميعا ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : انصرفوا! فإن تك لي حاجة أبعث إليكم ؛ فانصرفوا ».
ص: 569
ونقل السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الدارقطني ، أنّه أخرج عن عائشة ، قالت : « لمّا حضر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الموت قال : ادعوا لي حبيبي!
فدعوت له أبا بكر ، فنظر ، ثمّ وضع رأسه ، فقال : ادعوا لي حبيبي!
فدعوا له عمر ، فنظر إليه ، ثمّ وضع رأسه ، وقال : ادعوا لي حبيبي!
فقلت : ويلكم! ادعوا له عليّ بن أبي طالب ، فو اللّه ما يريد غيره.
فلمّا رآه أفرد الثوب الذي كان عليه ، ثمّ أدخله فيه ، فلم يزل محتضنه حتّى قبض ويده عليه » (1).
ثمّ نقل السيوطي ، عن ابن الجوزي ، أنّه قال : « موضوع » (2).
ولم يذكر له دليلا!
ثمّ نقل عن الدارقطني ، أنّه قال : « غريب ، تفرّد به مسلم بن كيسان الأعور ، وتفرّد به عن ابنه (3) إسماعيل بن أبان الورّاق » (4).
ثمّ قال السيوطي : « مسلم : روى له الترمذي ، وابن ماجة ، وهو متروك ، وإسماعيل بن أبان من شيوخ البخاري » (5).
ثمّ قال : « وله طريق آخر » وأنهاه إلى عبد اللّه بن عمرو ، قال : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال في مرضه : ادعوا لي أخي! فدعوا له أبا بكر ، فأعرض عنه!
ص: 570
ثمّ قال : ادعوا لي أخي! فدعوا له عمر ، فأعرض عنه!
ثمّ قال : ادعوا لي أخي! فدعوا له عثمان ، فأعرض عنه!
ثمّ قال : ادعوا لي أخي! فدعوا له عليّ بن أبي طالب ، فستره بثوب وأكبّ عليه.
فلمّا خرج من عنده قيل له : ما قال؟
قال : علّمني ألف باب ، يفتح لي من كلّ باب ألف باب » (1).
أقول :
مضمون الحديث معتبر ؛ لاعتضاد طرقه بعضها ببعض ، ولا سيّما أنّ مناقشة الدارقطني بإسماعيل ليست في محلّها ؛ لأنّه ممّن احتجّ به البخاري في صحيحه ، ووثّقه عامّة علمائهم حتّى الدارقطني في إحدى الروايتين عنه ، كما في « تهذيب التهذيب » (2).
وأمّا مسلم بن كيسان ، فدعوى أنّه متروك ، غير مسموعة ..
كيف؟! وقد أخرج له الترمذي وابن ماجة في صحيحيهما (3) ، وروى عنه عدّة عديدة وفيهم أكابر رواتهم ، كشعبة ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وعليّ بن مسهر ، والأعمش ، وسفيان بن عيينة ، وابن فضيل ، وإسرائيل ، وشريك ، وورقاء ، ومحمّد بن جحادة ، وزياد ، وعليّ بن
ص: 571
عابس ، وجرير بن عبد الحميد ، وغيرهم ، كما في « تهذيب التهذيب » (1) (2).
وأمّا قوله : « والإجماع فضل زائد ... » إلى آخره ..
فقد سبق ما في دعوى الإجماع ، في أوائل مباحث الإمامة (3).
وأمّا قوله : « ولمّا سمع المنافق أنّ هؤلاء مطعونون فرح ... » إلى آخره ..
ففيه : إنّ المنافق يعلم أنّ صاحب الدّين ومؤسّسة هو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاصّة ، فلا طعن في الدّين إلّا بالطعن به نفسه ، دون آحاد أمّته أو جميعها ؛ ولذا طعن اللّه سبحانه بالأمّة فما كان منه نقصا في نبيّه الكريم ، قال سبحانه : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ... ) (4) الآية ؛ ونحن ما زدنا على هذا الطعن!
على أنّ المنافق لا يرى فرقا بين المشايخ الثلاثة ، وعبد الملك ، والمنصور والرشيد ، وأشباههم ممّن فتحوا الفتوح ، ومصّروا الأمصار ، واتّخذهم القوم أئمّة وأمراء للمؤمنين.
ص: 572
فكما لا يجوز منّا ترك القول بالحقّ في الآخرين لأجل أن لا يفرح المنافق ، لا يجوز منّا تركه في الأوّلين ، ولو أنصف المنافق لرأى أنّ من دلائل صحّة الإسلام فساد أمرائه ، وهو لا يزداد إلّا رفعة وسناء.
ثمّ إنّ الطعن لو صحّ لم يختصّ بأمّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، بل هو جار في الأمم السالفة ، كما في أمر السامري (1) ، وبلعم (2) ، وغيرهما (3).
وكلّ ما جرى في أمّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله جرى في الأمم السابقة ، حذو
ص: 573
النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة (1) ، كما صرّحت به أخبارنا (2) وأخبارهم (3) ..
فهل يحسن من الخصم ترك القول في السامريّ وأمثاله ، لئلّا يفرح المنافق حتّى يحسن منّا ترك القول بأشباههم؟!
ثمّ ما باله لم يوجّه الاعتراض أوّلا إلى إمامه معاوية ، حيث نسب إلى أخي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ونفسه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، كلّ مكروه ، وسبّه على المنائر والمنابر؟!
فكان اللازم عليه أن يدعو أوّلا بعدم الفلاح على معاوية ، وسائر بني أميّة وأشياعهم ، ولو دعا لأمّنّا وحمدنا اللّه على ذلك!
* * *
تمّ الجزء الثاني ،
ويليه الجزء الثالث (4).
* * *
ص: 574
تعيين إمامة عليّ علیه السلام بالسّنّة
1 - حديث النور... 5
رد الفضل بن روزبهان... 7
ردّ الشيخ المظفّر... 12
2 - حديث : ويكون خليفتي ، ويكون معي في الجنّة... 23
رد الفضل بن روزبهان... 24
ردّ الشيخ المظفّر... 26
3 - حديث الوصيّة... 47
رد الفضل بن روزبهان... 48
ردّ الشيخ المظفّر... 49
4 - حديث : من أحبّ أصحابك؟ وإن كان أمرٌ كنّا معه... 53
رد الفضل بن روزبهان... 54
ردّ الشيخ المظفّر... 55
5 - حديث : لكلّ نبيّ وصيّ ووارث... 57
رد الفضل بن روزبهان... 58
ردّ الشيخ المظفّر... 59
6 - حديث : لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك... 61
رد الفضل بن روزبهان... 62
ردّ الشيخ المظفّر... 64
7 - حديث اختصاص المناجاة بعليّ علیه السلام ... 71
رد الفضل بن روزبهان... 72
ص: 575
ردّ الشيخ المظفّر... 73
8 - حديث المباهلة... 74
رد الفضل بن روزبهان... 75
ردّ الشيخ المظفّر... 76
9 - حديث المنزلة... 80
رد الفضل بن روزبهان... 82
ردّ الشيخ المظفّر... 83
10 - حديث : إنّي دافع الراية غدا... 89
رد الفضل بن روزبهان... 91
ردّ الشيخ المظفّر... 92
11 - حديث : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه... 102
رد الفضل بن روزبهان... 103
ردّ الشيخ المظفّر... 104
12 - حديث سدّ الأبواب عدا باب عليّ... 105
رد الفضل بن روزبهان... 106
ردّ الشيخ المظفّر... 107
13 - حديث المؤاخاة... 122
رد الفضل بن روزبهان... 124
ردّ الشيخ المظفّر... 125
14 - حديث : إنّ عليّا منّي وأنا من عليّ... 133
رد الفضل بن روزبهان... 135
ردّ الشيخ المظفّر... 136
15 - حديث : إنّ فيك مثلا من عيسى... 142
رد الفضل بن روزبهان... 143
ردّ الشيخ المظفّر... 144
16 - حديث : لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق... 147
ص: 576
رد الفضل بن روزبهان... 148
ردّ الشيخ المظفّر... 149
17 - حديث : ... ولكنّه خاصف النعل... 152
رد الفضل بن روزبهان... 154
ردّ الشيخ المظفّر... 155
18 - حديث الطائر... 159
رد الفضل بن روزبهان... 161
ردّ الشيخ المظفّر... 162
19 - حديث : أنا مدينة العلم وعليّ بابها... 171
رد الفضل بن روزبهان... 172
ردّ الشيخ المظفّر... 173
20 - حديث : من آذى عليّا فقد آذاني... 182
رد الفضل بن روزبهان... 183
ردّ الشيخ المظفّر... 184
21 - حديث تزويج عليّ من فاطمة الزهراء علیهماالسلام ... 187
رد الفضل بن روزبهان... 188
ردّ الشيخ المظفّر... 189
22 - حديث : إجلس يا أبا تراب... 194
رد الفضل بن روزبهان... 195
ردّ الشيخ المظفّر... 196
23 - أحاديث : كسر الأصنام ، وصكّ الولاية ، وردّ الشمس ،... 199
رد الفضل بن روزبهان... 203
ردّ الشيخ المظفّر... 204
24 - حديث : الحقّ مع عليّ... 227
رد الفضل بن روزبهان... 229
ردّ الشيخ المظفّر... 231
ص: 577
25 - حديث الثّقلين وما بمعناه... 235
رد الفضل بن روزبهان... 238
ردّ الشيخ المظفّر... 240
26 - حديث الكساء... 251
رد الفضل بن روزبهان... 253
ردّ الشيخ المظفّر... 254
27 - حديث : أهل بيتي أمان لأهل الأرض... 255
رد الفضل بن روزبهان... 257
ردّ الشيخ المظفّر... 258
28 - حديث : اثنا عشر خليفة... 264
رد الفضل بن روزبهان... 268
ردّ الشيخ المظفّر... 271
المبحث الخامس
في بعض فضائل عليّ علیه السلام قبل الولادة... 283
رد الفضل بن روزبهان... 286
ردّ الشيخ المظفّر... 289
فضائله حال الولادة... 300
رد الفضل بن روزبهان... 301
ردّ الشيخ المظفّر... 302
فضائله بعد الولادة...
من فضائله النفسانية :...
المطلب الأوّل : الإيمانه علیه السلام ... 309
رد الفضل بن روزبهان... 312
ردّ الشيخ المظفّر... 313
المطلب الثاني : علمه علیه السلام ... 319
رد الفضل بن روزبهان... 321
ص: 578
ردّ الشيخ المظفّر... 322
كلام العلامة الحلّي... 326
رد الفضل بن روزبهان... 327
ردّ الشيخ المظفّر... 328
العلوم كلّها مستندة إليه علیه السلام ... 331
رد الفضل بن روزبهان... 334
ردّ الشيخ المظفّر... 335
كلام العلامة الحلّي... 340
رد الفضل بن روزبهان... 343
ردّ الشيخ المظفّر... 344
كلام العلامة الحلّي... 346
رد الفضل بن روزبهان... 347
ردّ الشيخ المظفّر... 348
كلام العلامة الحلّي... 351
رد الفضل بن روزبهان... 352
ردّ الشيخ المظفّر... 353
كلام العلامة الحلّي... 354
رد الفضل بن روزبهان... 357
ردّ الشيخ المظفّر... 358
إخباره علیه السلام بالمغيّبات...
المطلب الثالث : الإخبار بالغيب... 359
رد الفضل بن روزبهان... 366
ردّ الشيخ المظفّر... 369
المطلب الرابع : الشجاعة علیه السلام ... 371
رد الفضل بن روزبهان... 372
ردّ الشيخ المظفّر... 373
ص: 579
المطلب الخامس : في الزهد علیه السلام ... 374
رد الفضل بن روزبهان... 376
ردّ الشيخ المظفّر... 377
المطلب السادس : كرمه... 379
رد الفضل بن روزبهان... 380
ردّ الشيخ المظفّر... 381
المطلب السابع : في استجابة دعائه علیه السلام ... 382
رد الفضل بن روزبهان... 385
ردّ الشيخ المظفّر... 387
من فضائله البدنية...
المطلب الأوّل : عبادته علیه السلام ... 392
رد الفضل بن روزبهان... 394
ردّ الشيخ المظفّر... 395
المطلب الثاني : جهاده علیه السلام ... 398
رد الفضل بن روزبهان... 407
ردّ الشيخ المظفّر... 410
من فضائله الخارجية...
المطلب الأوّل : في نسبه علیه السلام ... 429
رد الفضل بن روزبهان... 431
ردّ الشيخ المظفّر... 432
المطلب الثاني : في زوجته وأولاده علیهم السلام ... 436
رد الفضل بن روزبهان... 438
ردّ الشيخ المظفّر... 439
كلام العلامة الحلّي... 450
رد الفضل بن روزبهان... 456
ردّ الشيخ المظفّر... 458
ص: 580
المطلب الثالث : في محبّته علیه السلام ... 471
رد الفضل بن روزبهان... 476
ردّ الشيخ المظفّر... 477
المطلب الرابع : في أنّه صاحب الحوض ، واللواء و... 481
رد الفضل بن روزبهان... 483
ردّ الشيخ المظفّر... 492
فهرس المحتويات... 575
* * *
ص: 581