المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1425 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-319-358-6
ص: 1
دلائل الصدق لنهج الحق
تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر
(1301 - 1375 ه)
الجزء الخامس
تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
ص: 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1438 ه - 2017 م
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2
تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34
البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb
www.al-albayt.com
ص: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 4
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من رواية أهل السنّة ، ولو صحّ دلّ على أنّه من أولياء اللّه تعالى ، فالوليّ : هو المحبّ المطيع ، وليس هو بنصّ في الإمامة.
* * *
ص: 6
قال ابن حجر في « الصواعق » ، في الآية الرابعة من الآيات النازلة في أهل البيت علیهم السلام : « أخرج الديلمي ، عن أبي سعيد ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ؛ عن ولاية عليّ.
وكأنّ هذا مراد الواحدي بقوله : روي في قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) أي عن ولاية عليّ وأهل البيت علیهم السلام » (1).
ونقل المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » حديث الديلمي ، وحديثا آخر مثله عن أبي نعيم بسنده عن ابن عبّاس (2).
ونقلهما معا في « ينابيع المودّة » (3).
ونقل أيضا في « الينابيع » ، عن « المناقب » ، عن ثمامة بن عبد اللّه بن أنس ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنّم ، لم يجز عليه إلّا من كان معه جواز فيه ولاية عليّ بن أبي طالب ، وذلك قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) عن ولاية عليّ » (4).
وفي « الينابيع » أيضا ، عن الحمويني ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « إذا نصب الصراط على جهنّم ، لم يجز عنه أحد إلّا
ص: 7
من كانت معه براءة بولاية عليّ بن أبي طالب » (1) ..
وفيها نحوه أيضا ، عن موفّق بن أحمد ، عن ابن مسعود ، من طريقين ، وعن ابن عبّاس من طريق ..
وأيضا عن ابن المغازلي ، عن ابن عبّاس ، من طريقين ..
وعن أبي سعيد ، من طريق ..
وعن أنس ، من طريق (2).
ويؤيّد هذه الأخبار ما في « ميزان الاعتدال » بترجمة إبراهيم بن عبد اللّه الصاعدي ، قال : « روى عن ذي النون ، عن مالك ، خبرا باطلا ومتنه : إذا نصب الصراط لم يجز أحد إلّا من كانت معه براءة بولاية عليّ ».
ثمّ قال : « ذكره ابن الجوزي في ( الموضوعات ) ، وقال : إبراهيم متروك الحديث » (3).
ولا سبب للحكم بوضعه وبطلانه ، إلّا التعصّب والاستبعاد ، وكيف يستبعد ذلك في حقّ أخ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونفسه ، وثقله في أمّته؟!
وذكر السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » هذا الحديث نقلا عن الحاكم بسنده عن عليّ علیه السلام ، وذكر كلام ابن الجوزي والذهبي ، وتعقّبهما بأنّ للحديث طريقا آخر ذكره أبو عليّ الحدّاد (4)
ص: 8
الطريق (1).
وحينئذ فلا بدّ للمنصف من الحكم بصدق مضمون الحديث ، بل تواتره ، ولا سيّما بضميمة أخبارنا (2) واقتضاء فضل أمير المؤمنين علیه السلام لمثله.
وكيف كان ؛ فهذه الآية - على ذلك المعنى - دالّة على إمامة عليّ علیه السلام ؛ لأنّ الإمامة أوّل ما يسأل عنه بعد الوحدانية والرسالة ، وأحقّ ما يحتاج إلى معرفته في الجواز على الصراط ؛ لأنّ من لا يعرف إمامة إمامه مات ميتة جاهلية ، كما سبق (3) ، بخلاف سائر الواجبات ، فإنّ من لا يقوم بها لا يخرج عن الدين ، إذ ليست من أصوله ، ولذلك جاءت الآية الكريمة في أثناء ذكر الكافرين.
وممّا بيّنّا يعلم ما في قول الفضل : « ولو صحّ دلّ على أنّه من أولياء اللّه تعالى ».
ص: 9
وأيّ عاقل يفهم هذا المعنى من تلك الرواية؟!
ولو سلّم ، فالسؤال عن ولايته علیه السلام بهذا المعنى دون سائر الأولياء دليل على تميّزه عليهم بالفضل ، والقرب إلى اللّه عزّ وجلّ ، وهو يستدعي الإمامة.
ويبعد أيضا أن يراد بالولاية في الأخبار : الحبّ ، وإن كان حبّه واجبا وأجرا للرسالة ، اللّهمّ إلّا بلحاظ الملازمة بين الحبّ الخالص له والإقرار بإمامته ، إذ لا ينكرها بعد وضوح أمرها إلّا من يميل عنه.
مع أنّ السؤال عن حبّه ، وتوقّف الجواز على الصراط على ودّه ، دليل على أنّ له - دون سائر الصحابة - منزلة عظمى ومرتبة توجب ذلك ؛ لفضله عليهم ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
وقد نقل في « الينابيع » القول بإرادة الحبّ من الولاية ، عن الحاكم ، والأعمش ، ومحمّد بن إسحاق صاحب كتاب « المغازي » (1).
ويشهد لهم الأخبار الكثيرة الدالّة على السؤال عن حبّ أهل البيت علیهم السلام (2).
منها : ما في « الينابيع » عن الثعلبي وابن المغازلي ، بسنديهما عن ابن عبّاس (3) ..
ص: 10
وعن الترمذي (1) وموفّق بن أحمد (2) ، بسنديهما عن أبي برزة الأسلمي ..
وعن موفّق أيضا ، بسنده عن أبي هريرة (3) ..
وعن الحاكم ، بسنده عن أبي سعيد (4) ..
وعن الحمويني ، بسنده عن عليّ أمير المؤمنين علیه السلام (5) ..
وعن « المناقب » ، بسنده عن الباقر علیه السلام (6) ..
قالوا : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : لا تزول قدم عبد عن قدم حتّى يسأل عن عمره ، فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ - وفي رواية : « وعن شبابه » بدل « جسده » - ، وعن ماله ممّا اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وعن حبّنا أهل البيت ».
وكلّ الروايات بهذا اللفظ أو بهذا المضمون ، إلى كثير من الأخبار التي يطول ذكرها ، وسبق بعضها في آية القربى (7).
ص: 11
وليت شعري أكان أبو بكر ، وعمر ، وعثمان أئمّة لأمير المؤمنين وهم لا يجوزون الصراط إلّا ويسألون عن ولايته ، ولا يمرّون عليه إلّا ببراءة منه وسند منه؟!
ما هذا إلّا عجب!!
* * *
ص: 12
وقال الفضل (1) :
ليس في تفسير أهل السنّة ، وإن صحّ دلّ على فضيلته لا نصّ على إمامته.
* * *
ص: 14
ذكره السيوطي في تفسيره « الدرّ المنثور » ، ونقله عن ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي سعيد (1).
ونقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن أبي سعيد أيضا (2).
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، قال : ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلّا ببغضهم عليّ بن أبي طالب (3).
أقول :
وروى الترمذي في فضائل عليّ علیه السلام ، عن أبي سعيد ، قال : « إنّا كنّا لنعرف المنافقين - نحن معاشر الأنصار - ببغضهم عليّ بن أبي طالب » (4).
وروى أيضا ، عن أمّ سلمة ، قالت : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « لا يحبّ عليّا منافق ، ولا يبغضه مؤمن » (5).
ص: 15
وروى مسلم ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، [ إنّه ] لعهد النبيّ الأمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق » (1).
ونحوه في « سنن النسائي » ، في علامة الإيمان من كتاب الإيمان (2).
ورواه بسند آخر في علامة النفاق (3).
وأيضا نحوه في « سنن الترمذي » ، في فضائل عليّ علیه السلام (4).
وكذا في « كنز العمّال » في فضائل عليّ (5) ، عن الحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، والعدني ، وابن ماجة ، وابن حبّان ، وأبي نعيم في « الحلية » ، وابن أبي عاصم في « السنّة » (6).
ص: 16
وروى الحاكم في « المستدرك » ، في مناقب أمير المؤمنين علیه السلام (1) ، عن أبي ذرّ ، قال : « ما كنّا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم اللّه ورسوله ، والتخلّف عن الصلوات ، والبغض لعليّ بن أبي طالب ».
ثمّ قال : « هذا حديث صحيح على شرط مسلم ».
ونقله في « كنز العمّال » في فضائل عليّ ، عن الخطيب في « المتّفق » (2).
ونقل ابن حجر في « الصواعق » ، في المقصد الثالث من المقاصد المتعلّقة بآية القربى ، عن أحمد والترمذي ، عن جابر : « ما كنّا نعرف المنافقين إلّا ببغضهم عليّا »(3).
والحصر في هذا الحديث ونحوه بلحاظ أنّ المنافق يتستّر بجميع علائم النفاق إلّا ببغض عليّ علیه السلام ؛ لكثرة مبغضيه ، حتّى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يعرفه منهم بلحن القول ، مع علمهم بحبّه له وشدّة اختصاصه به ، ولذا لمّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجدوا الفرصة ، فاتّفق عليه أكثر قريش وكثير من الأنصار.
وهذه الأحاديث وإن لم تذكر نزول الآية ، لكنّها تؤيّد رواية أبي سعيد التي أشار إليها المصنّف (4) ، ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ظاهرة ؛
ص: 17
لأنّ من كان حبّه إيمانا ، وبغضه نفاقا وكفرا ، لا بدّ أن يكون متّصفا بأصل من أصول الدين الذي يشترط في الإيمان الإقرار به ، إذ ليس المدار في الإيمان والنفاق على ذات الحبّ والبغض ، بل على ما يلزمهما عادة من الإقرار بخلافته المنصوصة وإنكارها ، فإنّ من أبغضه أنكر إمامته عادة ، فيكون بإظهار الإيمان منافقا ، ومن أحبّه قال بإمامته ، إذ لا داعي له لإنكارها بعد اتّضاح ثبوتها بالكتاب والسنّة.
ولا ينافي المدّعى ما رواه القوم من أنّ حبّ الأنصار إيمان وبغضهم نفاق (1) ، فإنّه لو صحّ كان مفاده أنّ حبّهم وبغضهم إيمان ونفاق لنصرتهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ الأنصار وصف ، وتعليق الحكم بالوصف مشعر بالحيثية ..
وهذا بخلاف تعليق الحكم بعليّ علیه السلام ، فإنّه ليس لوصف النصرة ، بل لذاته الشريفة ، ويلزمه أنّ المنشأ هو الإمامة لا النصرة ، وإلّا لعاد الأمر إلى الإيمان بالنبيّ وعدمه ، ولم يكن لعليّ دخل ، وهو خلاف ظاهر الحديث.
* * *
ص: 18
وقال الفضل (1) :
هذا الحديث جاء في رواية أهل السنّة ، ولكن بهذه العبارة : « سبّاق الأمم ثلاثة : مؤمن آل فرعون ، وحبيب ( بن ) (2) النجّار ، وعليّ بن أبي طالب » (3).
ولا شكّ في أنّ عليّا سابق في الإسلام ، وصاحب السابقة والفضائل التي لا تخفى ، ولكن لا تدلّ الآية على نصّ إمامته وذلك المدّعى.
* * *
ص: 20
إذا كان أمير المؤمنين علیه السلام سابق هذه الأمّة ، كان خيرهم وأفضلهم ؛ لأنّ السبق إلى الإسلام أمارة الأعرفية والأفضلية كما يشهد له قوله تعالى : ( أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ؛ لإفادته الحصر وأنّه المقرّب دون غيره من الصحابة ، لجعل قرب غيره كلا قرب بالنسبة إليه ، فيكون بينه وبينهم في المعرفة والفضل والتقوى بون (1) شاسع.
ولا ريب أنّ من كان كذلك فهو الإمام ، لا سيّما وهو أفضل السابقين الثلاثة ، كما يدلّ عليه ما ذكره السيوطي في تفسير الآية ..
قال : أخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) ، قال : « نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النّجار - الذي ذكر في ( يس ) (2) - ، وعليّ بن أبي طالب ، وكلّ رجل منهم سابق أمّته ، وعليّ أفضلهم سبقا » (3).
وفي رواية أخرى عبّر عنهم بالصدّيقين ، وذكر عليّا وقال : « وهو أفضلهم » ، نقلها السيوطي في تفسير سورة ( يس ) ، عن أبي داود وأبي نعيم والديلمي وابن عساكر (4) ، كما ستسمعها في الآية الثالثة والعشرين إن
ص: 21
شاء اللّه تعالى.
ولا ينافي ما ذكرنا أنّ حزقيل سابق أمّة موسى ولم يكن إمامهم ؛ وذلك لأنّه مات في حياة موسى ، ولو بقي بعده لكان هو الإمام لا يوشع ، على أنّ الموجود في بعض الأخبار « يوشع » بدل « حزقيل » ، ولعلّه الأصوب ، فيرتفع الإشكال ..
روى السيوطي في المقام ، عن ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، أنّهما أخرجا عن ابن عبّاس في قوله : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) ، قال : « يوشع ابن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى ، وعليّ بن أبي طالب سبق إلى رسول اللّه » (1).
وروى السيوطي في تفسير سورة ( يس ) ، عن الطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : « السّبّق ثلاثة ، فالسابق إلى موسى يوشع ابن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمّد عليّ بن أبي طالب » (2).
ص: 22
وحكى المصنّف في « منهاج الكرامة » ، عن ابن المغازلي ، عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ، قال : « سبق يوشع بن نون إلى موسى وهارون ، وسبق صاحب يس إلى عيسى ، وسبق عليّ إلى محمّد صلی اللّه علیه و آله » (1).
ويحتمل أن يكون يوشع وحزقيل سابقين معا إلى موسى ، وكلّ قسم من الأخبار خصّ واحدا بالذكر لخصوصية ، والإمام هو يوشع لأفضليّته بجهات أخر.
ثمّ إنّ الرواية التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه هنا قد نقلها بعبارتها في « منهاج الكرامة » عن أبي نعيم (2).
هذا ، وروى الزمخشري في تفسير سورة ( يس ) عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين : عليّ ابن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون » (3).
وهي دالّة على فضل آخر لأمير المؤمنين علیه السلام على غيره من الصحابة ، وهو أنّه لم يكفر باللّه طرفة عين ، مع صغر سنّه ونشأته بين عبدة الأصنام ، فيكون أحقّ بالإمامة ممّن عبدها في كثير من عمره لقصور عقله ووفور جهله!
* * *
ص: 23
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الرابعة عشرة : قوله تعالى : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ )
إلى قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2).
روى الجمهور في « الجمع بين الصحاح الستّة » (3) ، أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب لمّا افتخر طلحة بن شيبة (4) والعبّاس ، فقال طلحة : أنا أولى بالبيت ؛ لأنّ المفتاح بيدي.
وقال العبّاس : أنا أولى ، أنا صاحب السقاية ، والقائم عليها.
فقال عليّ : أنا أوّل الناس إيمانا ، وأكثرهم جهادا (5).
ص: 24
فأنزل اللّه هذه الآية لبيان أفضليّته.
* * *
ص: 25
وقال الفضل (1) :
هذا صحيح من رواية الجمهور من أهل السنّة ، وقد عدّها العلماء في فضائل أمير المؤمنين ، وفضائله أكثر من أن تحصى ، وليس هذا محلّ الخلاف كما مرّ حتّى يقيم عليه الدلائل ، بل الكلام في النصّ على إمامته ، وهذا لا يدلّ عليه.
* * *
ص: 26
دلالة الآية على المطلوب تتمّ بضميمة الرواية ؛ لأنّ أمير المؤمنين علیه السلام فضّل نفسه عليهما بما يقتضي الفضل على جميع الأمّة ، حيث قال : أنا أوّل الناس إيمانا ، وأكثرهم جهادا (1)
وأقرّه اللّه سبحانه على دعوى الفضل بذلك ، وأنكر على من لا يرى له الفضل به ، فيكون أفضل الأمّة وأولاها بالإمامة.
على أنّ الآيات متضمّنة للبشارة له بالرحمة والرضوان من اللّه تعالى ، والخلود بالجنّة.
وستعرف إن شاء اللّه في الآية الثانية والثلاثين اقتضاء البشارة لشخص بعينه ، وإعلامه بالجنّة ، كونه معصوما أو قريبا منه ، فيكون أولى من الخلفاء الثلاثة بالإمامة.
ثمّ إنّ الرواية المذكورة قد نقلها السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، وعبد الرزّاق ، وابن عساكر ، وأبي نعيم ، وابن جرير ، وأبي الشيخ ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وابن أبي شيبة ، عن ابن عبّاس ، وأنس ، والشعبي ، والحسن ، وابن كعب (2).
ونقله في « ينابيع المودّة » عن النسائي في سننه ، عن محمّد بن
ص: 27
كعب ، ونقله أيضا عن جماعة آخرين (1).
وقال الواحدي في « أسباب النزول » : « قال الحسن والشعبي والقرظي (2) : نزلت الآية في عليّ والعبّاس وطلحة بن شيبة ، وذلك أنّهم افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، بيدي مفتاحه ، وإليّ ثياب بيته.
وقال العبّاس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها.
وقال عليّ : ما أدري ما تقولان؟! لقد صلّيت ستّة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد.
فأنزل اللّه هذه الآية » (3).
ولا إشكال بأنّ نزولها في عليّ والعبّاس وطلحة بقصّة الافتخار بينهم من المشهورات ، فلا حاجة إلى الإطالة.
زاد اللّه فضل سيّد الوصيّين علیه السلام ، فقد أعلن الكتاب المجيد بتفضيله بشتّى الوجوه ، فأين القلوب الواعية؟!
* * *
ص: 28
وقال الفضل (1) :
هذا من روايات أهل السنّة ، وإنّ آية النجوى لم يعمل بها إلّا عليّ ، ولا كلام في أنّ هذا من فضائله التي عجزت الألسن عن الإحاطة بها ، ولكن لا يدلّ على النصّ على إمامته.
* * *
ص: 30
ينبغي أوّلا ذكر بعض الأخبار الواردة من طرق القوم في نزول هذه الآية الكريمة ، تيمّنا بذكر فضله علیه السلام .
روى الحاكم في « المستدرك » (1) ، في تفسير سورة المجادلة ، عن أمير المؤمنين علیه السلام ، قال : إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل بها أحد ( قبلي ) (2) ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، آية النجوى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ... ) (3) الآية.
قال : كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكنت كلّما ناجيت النبيّ قدّمت بين يدي نجواي درهما ، ثمّ نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... ) (4) الآية
ثمّ قال الحاكم : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرّجاه ».
ولم يتعقّبه الذهبي بشيء.
ونقله السيوطي في « الدرّ المنثور » عن الحاكم أيضا ، وعن سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ،
ص: 31
وابن أبي حاتم ، وابن مردويه (1).
ومثل هذا الحديث باختصار في تفسيري الزمخشري والرازي ، وفي « أسباب النزول » للواحدي ، وعن معالم البغوي ، وتفسير الثعلبي ، والطبري (2).
وقال السيوطي : « أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال : نهوا عن مناجاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى يقدّموا صدقة ، فلم يناجه إلّا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه قد قدّم دينارا فتصدّق به ، ثمّ ناجى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فسأله عن عشر خصال ، ثمّ نزلت الرخصة » (3).
وقال السيوطي (4) أيضا : « قال الكلبي : تصدّق به في عشر كلمات سألهنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (5).
ثمّ نقل عن ابن عمر ما نقله المصنّف رحمه اللّه (6).
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى من طرقهم فضلا عن
ص: 32
طرقنا (1).
حتّى إنّ ابن تيميّة مع شدّة نصبه قال في ردّ « منهاج الكرامة » : « ثبت أنّ عليّا تصدّق وناجى ، ثمّ نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره » (2) (3).
ص: 33
ولا يعارض ذلك ما حكاه السيوطي ، عن الطبراني ، وابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : « نزلت ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) ، فقدّمت شعيرة! فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّك لزهيد » ، فنزلت الآية الأخرى : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... ) » (1).
فإنّ خبر سعد إنّما يدلّ على شحّه ، وعدم قيامه بالصدقة المطلوبة ، لا على مناجاته ، لذا نزلت الآية الأخرى بعد قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله له : « إنّك لزهيد » ، فكان ممّن أشفق وتعلّق به اللوم والإنكار.
هذا ، ولا ريب بدلالة الآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام دون غيره ممّن يقدر على الصدقة من الصحابة ، كالخلفاء الثلاثة ؛ وذلك لدلالتها على فضله عليهم ، وعلى معصيتهم بما يقتضي عدم صلوحهم للإمامة ، حتّى لو لم نعتبر العصمة في الإمام.
أمّا دلالتها على فضله ، فلمسارعته للطاعة وعدم تساهله في طلب العلم ، بخلاف غيره.
وأمّا على معصية من يقدر على الصدقة ، فلقوله تعالى : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) ، فإنّه إنكار ولوم ، وهو يقتضي المعصية .. وقوله تعالى : ( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ... ) ، فإنّ التوبة تستدعي المعصية .. وقوله تعالى : ( فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
ص: 34
صَدَقَةً ) ، فإنّ الأمر بتقديم الصدقة ظاهر في وجوبها ، فتجب المناجاة أيضا ، وإلّا لم يحصل عصيان بترك الصدقة ؛ لأنّ وجوب الصدقة مشروط بالمناجاة ، فإذا تركا معا لم يثبت عصيان ، وهو خلاف ما يقتضيه الإنكار والتوبة ، فلا بدّ من الالتزام بوجوبهما معا وبالعصيان بتركهما.
ومن الواضح أنّ المعصية بترك الصدقة اليسيرة ، ذات المصلحة الكبيرة ، الحاصلة بمناجاة الرسول صلی اللّه علیه و آله لأكبر دليل على البخل والشحّ ، ولذا عبّر سبحانه بالإشفاق ؛ ، والبخيل لا يصلح للإمامة ، لا سيّما بهذا البخل.
وممّا صرّح ببخلهم ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس ، قال : « إنّ اللّه حرّم كلام رسول اللّه إلّا بتقديم الصدقة ، وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه ، وتصدّق عليّ ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره » (1).
وأجيب عن إشكال معصيتهم ، بضيق الوقت ..
وفيه : إنّه لو ضاق ، لم يكن معنىّ للنسخ ، ولا للتوبة والإنكار بالإشفاق ، على أنّ الوقت متّسع ، وهو عشر ليال أو نحوها ، بل الوقت الذي يتّسع لمناجاة أمير المؤمنين - ولو مرّة - وتقديم صدقته ، متّسع لمناجاة غيره معه وتقديم صدقته!
ومن ذلك يظهر كذب ما رووه من بذل أبي بكر لماله الكثير في سبيل اللّه ، وأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « ما نفعني مال مثل ماله » (2).
ص: 35
فإنّ من يشفق أن يتصدّق بالقليل في الفائدة الكثيرة ، لحريّ أن لا يبذل المال الكثير.
وكذا يظهر أنّ عثمان لم يبذل ما بذل في جيش العسرة - كما زعموه - إلّا للسمعة التي لم يكن يحسب أنّها تحصل في صدقة النجوى.
هذا ، وقد ذكر الرازي هنا ما يفيد العجب! قال :
« أقول : على تقدير أنّ أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك ، فهذا لم يجرّ إليهم طعنا ؛ لأنّ ذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق قلب الفقير ، فإنّه لا يقدر على فعله (1) [ فيضيق قلبه ] ، ويوحش قلب الغنيّ ، فإنّه لمّا لم يفعل الغنيّ ذلك وفعله غيره ، صار [ ذلك الفعل ] سببا للطعن في من لم يفعل ، فهذا الفعل لمّا كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير (2) مضرّة ؛ لأنّ الذي يكون سببا للألفة أولى ممّا يكون سببا للوحشة » (3).
وفيه :
أوّلا : إنّ هذا يستلزم تخطئة اللّه سبحانه في الإيجاب أو الندب ، وهو كفر.
ص: 36
وثانيا : إنّه يرفع فضل أبي بكر في بذل ماله ، وفضل عثمان في تجهيز جيش العسرة ، وهو خلاف رأي أصحابه.
وثالثا : إنّه يستلزم عذر الغني في ترك الحجّ والزكاة وجميع المطلوبات المالية ؛ لأنّ فعلها يضيق قلب الفقير ويوحش الغني.
ورابعا : إنّه لا ضيق على قلب الفقير ؛ لعلمه بأنّه معذور عند اللّه وعند الناس ، مع دخول فائدة عليه بالصدقة.
وخامسا : إنّ قوله : « لم يكن في تركه كبير مضرّة » إقرار بثبوت أصلها ، وهو مناف لباقي كلامه ، على أنّ إثبات أصلها إثبات للطعن!
ثمّ قال الرازي : « وأيضا : فهذه المناجاة ليست من الواجبات ، ولا من الطاعات المندوبة ، بل قد بيّنّا أنّهم إنّما كلّفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ، ولمّا كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن » (1).
وعليه : فالطعن على أمير المؤمنين علیه السلام بفعل المناجاة ؛ لأنّه خلاف الأولى.
وهذا لعمر اللّه هو النصب ، والجور ، والاستهزاء بآيات اللّه ، والتلاعب بكتابه وأحكامه!!
وأيّ مسلم ينكر رجحان المناجاة بعد الصدقة؟! ولم يدّع أحد أنّ الداعي لوجوب الصدقة ترك المناجاة بالكلّيّة!!
على أنّك عرفت دلالة الآية على وجوب المناجاة فضلا عن استحبابها.
ص: 37
وما كنت أحسب أن يبلغ هنا العناد بالرازي حتّى يجعل الفضيلة التي تمنّاها ابن عمر منقصة!
ثمّ قال الرازي : « وأمّا قوله : ( وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ) ، فليس في الآية أنّه تاب عليكم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنّكم إذا كنتم تائبين ، راجعين إلى اللّه سبحانه وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، فقد كفاكم هذا التكليف » (1).
وكأنّه يرى أنّ اللّه تعالى قد أوكل إليه معاني الكتاب العزيز ، وأن يحدث له معاني لا تنطبق على ألفاظه ، فإنّ الجملة الشرطية التي احتملها لا أثر لها في الآية أصلا ، ولا تدلّ عليها بإحدى الدلالات.
وظاهر الآية أو صريحها هو التوبة عليهم من عدم فعلهم للصدقة.
وإنّ المعنى : فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب اللّه عليكم فلا تخلّوا بالواجبات الأخر ، وهي : إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة اللّه ورسوله.
ومن تأمّل في الحقيقة ، وتدبّر في إيجاب عالم الغيب للصدقة على من يعلم أنّهم لم يعملوا مع نسخه عنهم قريبا بعد فعل أمير المؤمنين علیه السلام ، حتّى أنزل بذلك قرآنا يتلى على مرور الأيّام ، وأنكر على المسلمين إشفاقهم وبخلهم ، علم أنّ المقصود كشف أحوال المسلمين وبيان فضل أميرهم عليهم.
* * *
ص: 38
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السادسة عشرة : روى ابن عبد البرّ ، وغيره من السنّة ، في قوله تعالى : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) (2) ، قال :
إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليلة أسري به جمع اللّه بينه وبين الأنبياء ، ثمّ قال له : سلهم يا محمّد! على ماذا بعثتم؟
قالوا : بعثنا على شهادة أن لا إله إلّا اللّه ، وعلى الإقرار بنبوّتك ، والولاية لعليّ بن أبي طالب (3).
* * *
ص: 39
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من رواية أهل السنّة ، وظاهر الآية آب (2) عن هذا ؛ لأنّ تمام الآية : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ... ) (3).
والمراد : إنّ إجماع الأنبياء واقع على وجوب التوحيد ونفي الشرك.
هذا مفهوم الآية ، وهذا النقل من المناكير ، وإن صحّ فلا يثبت به النصّ الذي هو المدّعى ؛ لما علمت أنّ الولاية تطلق على معان كثيرة.
* * *
ص: 40
نقل المصنّف في « منهاج الكرامة » هذا الحديث عن ابن عبد البرّ ، وعن أبي نعيم (1).
ونقل جماعة نحوه عن الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أتاني ملك ، فقال : يا محمّد! واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بعثوا؟
قلت : على ما بعثوا؟
قال : على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب » (2).
وفي « ينابيع المودّة » ، في الباب الخامس عشر (3) ، عن أبي نعيم ، والحمويني ، وموفّق بن أحمد ، بأسانيدهم عن ابن مسعود ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لمّا عرج بي إلى السماء انتهى بي السير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة ، فرأيت بيتا من ياقوت أحمر ، فقال جبرئيل : هذا البيت المعمور ؛ قم يا محمّد فصلّ إليه.
قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : جمع اللّه النبيّين ، فصفّوا ورائي صفّا ، فصلّيت بهم ، فلمّا سلّمت أتاني آت من عند ربّي ، فقال : يا محمّد! ربّك
ص: 41
يقرئك السلام ويقول لك : سل الرسل على ما أرسلتهم من قبلك.
فقلت : معاشر الرسل! على ماذا بعثكم ربّكم قبلي؟
فقالت الرسل : على نبوّتك وولاية عليّ بن أبي طالب ..
وهو قوله : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ... ) (1)الآية.
ثمّ قال في « الينابيع » : رواه أيضا الديلمي ، عن ابن عبّاس (2).
ثمّ قال : عن طلحة بن زيد ، عن جعفر الصادق ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليّ ، قال : « قال رسول اللّه : ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره اللّه تعالى أن يوصي إلى أفضل عشيرته من عصبته ، وأمرني أن أوص إلى ابن عمّك عليّ ، أثبتّه في الكتب السالفة وكتبت فيها أنّه وصيّك ، وعلى ذلك أخذت مواثيق الخلائق ، وميثاق أنبيائي ورسلي ، وأخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة ، ولك يا محمّد بالنبوّة ، ولعليّ بالولاية والوصيّة » (3).
ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام واضحة ؛ فإنّ بعث الرسل وأخذ الميثاق عليهم في القديم بولاية عليّ علیه السلام ، وجعلها محلّ الاهتمام العظيم في قرن أصلي الدين : الربوبية ، والنبوّة ، لا يمكن أن يراد بها إلّا إمامة من له الفضل عليهم كفضل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولا سيّما مع عطف الوصية عليها في رواية طلحة ، فلا يضرّ حينئذ إطلاق الولاية على معان
ص: 42
كثيرة بعد هذه القرينة الصريحة في إرادة الإمامة.
فإن قلت : لم تذكر الآية الكريمة النبوّة والإمامة ، بل ولا الإرسال بشهادة أن لا إله إلّا اللّه ، فإنّها قالت : ( أَجَعَلْنا ) ، ولم تقل : أ أرسلناهم بالشهادة.
قلت : السؤال والاستفهام في الآية للتقرير ؛ بمعنى تقرير الرسل عن أمر استقرّ عندهم نفيه ، وهو جعل آلهة من دون الرحمن يعبدون.
لكن لمّا كان المناسب لتقرير الرسل - بما هم رسل - ، هو تقريرهم عمّا أرسلوا به ، كان الظاهر إرادة تقريرهم عن ذلك - بما هم رسل - بنفيه ، وهو راجع إلى الإرسال بالشهادة بالوحدانية ، فصحّ ما أفادته الروايات من أنّ المراد بالآية السؤال عمّا بعث به الرسل من الشهادة بالوحدانية.
ولمّا كان بعثهم بهذا معلوما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ألبتّة ، لم يحسن أن يراد أن يقرّرهم به خاصّة ، بل ينبغي أن يراد تقريرهم به بضميمة ما لا يعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إقرارهم به ؛ لعدم علمه بإرسالهم عليه ، وهو الذي ذكرته الروايات ؛ أعني إرسالهم على نبوّته وإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وإنّما لم تذكره الآية الشريفة ؛ للاكتفاء بذكر الأصل ؛ وهو البعث على الشهادة بالوحدانية.
كما إنّ بعض الروايات المذكورة اكتفت بذكر نبوّة نبيّنا وإمامة وليّنا ؛ لأنّهما الداعي إلى السؤال والتقرير ، مع وضوح بعثهم على الشهادة بالوحدانية ؛ لكونه الأصل ، ولذكر الآية له.
فما أعظم قدر نبيّنا الأطيب ، وأخيه الأطهر ، عند اللّه تبارك وتعالى! حتّى ميّزهما على جميع عباده ، وأكرمهما ببعث الرسل الأكرمين على الإقرار بفضلهما ، ورسالة محمّد ، وإمامة عليّ ، وأخذ الميثاق عليهم بهما
ص: 43
مع الشهادة بالوحدانية ، فحقّ لذرّيّتهما أن يفتخروا بما افتخر الشريف الرضي به ، وهو قول الفرزدق [ من الطويل ] :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع(1)
* * *
ص: 44
لم يدلّ على علمه وفضيلته فقط ، بل على أعلميّته وأفضليّته ؛ لدلالته على أنّ أذن عليّ علیه السلام هي الواعية دون غيرها.
نعم ، للمسلمين التذكرة فقط ، قال تعالى : ( لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (1) ، فيكون هو الأحقّ بالإمامة.
وفي بعض الأخبار الآتية : « وحقّ على اللّه أن تعي » ، وهو دالّ على وجوب أن يكون عليّ واعيا ، إشارة إلى وجوب نصب الإمام الواعي على اللّه تعالى ؛ ولذا أمر اللّه سبحانه نبيّه بتعليمه - كما في الأخبار الآتية - فيكون عليّ هو الإمام وغيره مأموما.
وكيف يكون من لا يعي واليا لأمور المسلمين ، وحاكما في أمور الدين ، وواجب الطاعة ، على من له الأذن الواعية؟!
( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلأَأَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2).
ويقرّب إرادة خصوص عليّ من الآية إفراد الأذن وتنكيرها ، فإنّه دالّ على الوحدة.
كما صرّحت بإرادة عليّ علیه السلام الأخبار الكثيرة ، فقد حكى السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن
ص: 47
عساكر ، وابن النجّار ، بأسانيدهم عن بريدة ، قال :
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « إنّ اللّه أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلّمك وتعي ، وحقّ لك أن تعي » (1) ، فنزلت الآية.
ومثله في « أسباب النزول » للواحدي ، إلّا أنّه قال : « وحقّ على اللّه أن تعي » (2).
وعن الثعلبي : « وحقّ على اللّه أن تسمع وتعي » (3).
وفي « كنز العمّال » (4) ، عن ابن عساكر : « وإنّ حقّا على اللّه أن تعي » ونزلت : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) ، قال : أذن عقلت عن اللّه (5).
وحكى السيوطي أيضا ، عن أبي نعيم في « الحلية » ، عن عليّ علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « [ يا عليّ! ] إنّ اللّه أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعي » ، فأنزلت هذه الآية : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) ، فأنت أذن واعية لعلمي » (6).
ومثله في « كنز العمّال » (7) ، عن أبي نعيم أيضاً.
ولا ينافي كون المراد بالأذن الواعية ، هي أذن عليّ علیه السلام ، أنّ أذن الحسن والحسين أيضا واعية ؛ وذلك لأنّهما منه وهو منهما ، أو لأنّهما أذن
ص: 48
واعية في رتبة الأخذ من أبيهما ، وهو أذن واعية في رتبة الأخذ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
* * *
ص: 49
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الثامنة عشرة : سورة ( هَلْ أَتى ... ) (2).
روى الجمهور أنّ الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعامّة العرب ، فنذر عليّ صوم ثلاثة أيّام - وكذا أمّهما فاطمة ، وخادمتهم فضّة - لئن برئا.
فبرئا وليس عند آل محمّد قليل ولا كثير ، فاستقرض أمير المؤمنين علیه السلام ثلاثة أصوع (3) من شعير ، وطحنت فاطمة منها صاعا ، فخبزته خمسة أقراص ، لكلّ واحد قرص.
وصلّى عليّ المغرب ، ثمّ أتى المنزل ، فوضع الطعام بين يديه للإفطار ، فأتاهم مسكين وسألهم ، فأعطاه كلّ منهم قوته ، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا.
ثمّ صاموا اليوم الثاني ، فخبزت فاطمة صاعا آخر ، فلمّا قدّمته بين أيديهم للإفطار ، أتاهم يتيم وسألهم القوت ، فتصدّق كلّ منهم بقوته.
فلمّا كان اليوم الثالث من صومهم وقدّم الطعام للإفطار ، أتاهم أسير
ص: 50
وسألهم القوت ، فأعطاه كلّ منهم قوته ، ولم يذوقوا في الأيّام الثلاثة سوى الماء.
فرآهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله في اليوم الرابع ، وهم يرتعشون من الجوع ، وفاطمة علیهاالسلام قد التصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع وغارت عيناها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : وا غوثاه! يا اللّه! أهل محمّد يموتون جوعا!
فهبط جبرئيل فقال : خذ ما هنّأك اللّه في أهل بيتك.
فقال : وما آخذ يا جبرئيل؟
* * *
ص: 51
وقال الفضل (1) :
ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول السورة ما ذكره ، ولكن أنكر على هذه الرواية كثير من المحدّثين وأهل التفسير ، وتكلّموا في أنّه هل يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدّ ، ويجوّع نفسه وأهله حتّى يشرف على الهلاك (2) ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (3)؟!
والعفو : ما كان فاضلا من نفقة العيال (4) ، وقال رسول اللّه : « خير الصدقة ما كان صنوا عفوا » (5) ..
وإن صحّ ، الرواية لا تدلّ على النصّ كما علمته.
* * *
ص: 52
روى جماعة من القوم ما ذكره المصنّف رحمه اللّه ، كالزمخشري في « الكشّاف » ، والبيضاوي ، وعن الواحدي في كتاب « البسيط » ، والبغوي في « معالم التنزيل » ، والثعلبي ، وأبي السعادات العمادي ، وغيرهم (1).
وروى الواحدي نحوه في « أسباب النزول » ، إلّا أنّه إنّما ذكر نزول قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ ... ) (2) الآية ، فيهم ، ولم يذكر النذر (3).
وحكى السيوطي في « الدرّ المنثور » عن بعض أصحابه نزول هذه الآية فيهم (4).
وذكر نظام الدين الحسن بن محمّد بن الحسين النيشابوري في تفسيره « غرائب القرآن ورغائب الفرقان » القصّة التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ونزول السورة فيهم ، ثمّ قال : « ويروى أنّ السائل لهم في الليالي الثلاث جبرئيل ، أراد بذلك ابتلاءهم بإذن اللّه سبحانه » (5).
ونقل الرازي في تفسيره عن الزمخشري والواحدي في « البسيط »
ص: 53
القصّة ونزول السورة بهم ، ثمّ أشكل عليه بأمرين :
الأوّل : إنّ السورة مشتملة على أمور أخر خارجة عن القصّة وغير متعلّقة بمدحهم ، كبيان خلق الإنسان وابتلائه ، وأنّه تعالى هداه السبيل ، وأنّه إمّا شاكر وإمّا كفور ، وكوعيد الكفّار .. إلى غير ذلك ممّا اشتملت عليه السورة (1).
وفيه : إنّ المقصود كونهم سببا لنزول السورة ، فلا يضرّ اشتمالها على أمور أخر ، على أنّ هذه الأمور المذكورة دخيلة في مدحهم ؛ لدلالتها عند بيان قصّتهم وإخلاصهم على فضلهم وامتيازهم على غيرهم.
الثاني : إنّ الممدوحين في الآيات ذكروا بصيغة الجمع ، كقوله تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... ) (2) و ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ ... * وَيُطْعِمُونَ ... ) (3) إلى آخر الآيات ، فتخصيصه بجمع معيّنين خلاف الظاهر ، ويدخل فيهم أتقياء الصحابة والتابعين ، ولا يبقى للتخصيص معنى ألبتّة ، اللّهمّ إلّا أنّ يقال : السورة إنّما نزلت عند صدور طاعة مخصوصة منهم (4).
ولكنّه قد ثبت في أصول الفقه أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (5).
وفيه : إنّ التخصيص وإن كان خلاف الظاهر ، لكن لا بدّ من
ص: 54
الالتزام به إذا وردت به الرواية ، وإلّا لم تصحّ دعوى نزول شيء من القرآن في مدح أحد.
وأمّا قوله : « العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب » ، فإنّما يسلّم في مقام التكليف والمدح والذمّ المطلقين ، لا المدح الناشئ من سبب خاصّ لم يتّفق صدوره من غيرهم ، لا سيّما في خصوصياته من الحبّ والحاجة لما أنفقوا ، ووقوعه على وجه الإخلاص التامّ لله تعالى والخوف منه ، حتّى وقاهم اللّه تعالى بسببه شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسرورا.
ولا أدري متى كان للصحابة في هذا الميدان أثر ، ولا سيّما الّذين عناهم الرازي؟!
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي(1)
وأمّا ما ذكره الفضل من إنكار كثير من المحدّثين وأهل التفسير على هذه الرواية ، وتكلّمهم في جواز مبالغة الإنسان في الصدقة إلى هذا الحدّ ، فلم أجده في كلامهم ، ولو كان له أصل لذكره شيخ المشكّكين الرازي ، ولا سيّما في ما يتعلّق بفضائل أمير المؤمنين علیه السلام .
على أنّه سبحانه قد مدح أولياءه بأنّهم : ( يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ )(2) ، فما لأهل البيت لا يجوز لهم ذلك؟!
وأمّا قوله تعالى : ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ )(3) ، فمعنى
ص: 55
العفو : أجلّ المال وأطيبه (1) ، لا الفضل ، كما زعمه الفضل ؛ لقوله تعالى : ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (2) (3).
كما إنّ المراد بالصنو في الحديث : الصدقة المكرّرة الموصولة بصدقة قبلها (4) ، وهي أجلّ المال وأطيبه ؛ لانتهاء التكرير إليه عادة ؛ ولذا وصف الصنو وبيّنه في الحديث بالعفو ، أي الأجلّ الأطيب.
ويحتمل أن يكون العفو في الحديث قيدا آخر ، فيكون المعنى : أنّ خير الصدقة ما جمع وصفين : أن تكون لا حقة لصدقة قبلها ، وأن تكون من أجلّ المال وأطيبه ، فلا تنافي هذه الآية والرواية ما فعله أمير المؤمنين علیه السلام .
ثمّ إنّه ليس المنفق لكلّ الطعام في تلك القصّة هو أمير المؤمنين وحده ، حتّى يكون أجاع أهله - كما زعم الفضل - ، بل كلّ منهم أنفق قوته كما صرّحت به الرواية.
وأمّا قوله : « وإن صحّ ، الرواية لا تدلّ على النصّ » ..
ص: 56
ففيه : إنّ القصّة دالّة على فضل الحسنين وبلوغهما في المعرفة إلى منتهى الغايات ؛ لصدورها عنهما حال صغرهما بنحو استحقّا من اللّه سبحانه الثناء عليهما في كتابه المجيد ، وشهد لهما فيه بأنّهما أطعما لوجهه ، وكانا يخافان منه.
ولا ريب في أنّ الصغير الذي يصدر منه ذلك أكبر من الكبير الذي لم يعرف اللّه تعالى أكثر عمره ، وعصاه في عظام الأمور ، كالفرار من الزحف (1) ، فيكون الحسنان أفضل من شيوخ الصحابة.
ولا شكّ أنّ أمير المؤمنين أفضل من الحسنين ، بالنصّ والإجماع ، فيكون أفضل من الصحابة جميعا ، فيكون هو الإمام.
هذا ، والعجب من تمالؤ هؤلاء القوم على محو فضائل آل الرسول صلی اللّه علیه و آله بالأوهام الكاسدة والخيالات الفاسدة ، دون ما يروونه في فضائل غيرهم ، وإن كان ظاهر الكذب والبهتان ، فقد رأيت الفضل كيف استشكل من جواز تلك الصدقة ، وهو قد ذكر في مبحث الحلول أنّ أبا يزيد البسطامي (2) ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه ، وعدّه منقبة له (3).
ص: 57
فليت شعري ، لم لا يجوز التصدّق لأهل البيت بعد السؤال منهم رغبة في الثواب ، بالإيثار على أنفسهم ، وجاز لأبي يزيد ترك شرب الماء سنة - وهو من المحالات - بلا سؤال أحد منه ولا إيثار ، ولا هو من أفعال سيّد المرسلين والأنبياء الأوّلين ، ولا ورد بنحوه الكتاب والسنّة؟!
وقال الغزّالي في « إحياء العلوم » ، في كسر شهوة البطن (1) : الوظيفة الثانية : في وقت الأكل ومقدار تأخيره ، وفيه [ أيضا ] أربع درجات :
الدرجة العليا : أن يطوي ثلاثة أيّام فما فوقها ، وفي المريدين من ردّ الرياضة إلى الطيّ لا إلى المقدار ، حتّى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوما وأربعين يوما ، وانتهى إليه جماعة من العلماء يكثر عددهم ، منهم : محمّد ابن عمرو القرني ... وذكر جماعة ، ثمّ قال :
وقد كان أبو بكر الصدّيق يطوي ستّة أيّام ، وكان عبد اللّه بن الزبير يطوي سبعة أيّام ، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عبّاس يطوي سبعا ، وروي أنّ الثوري وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثا ثلاثا ، كلّ ذلك [ كانوا ] يستعينون بالجوع على طريق الآخرة ... ثمّ نقل عن متصوّف أنّه طوى ستّين يوما (2).
فانظر إلى هذه الحكايات التي ما جاء بها الشرع ، وما كانت من فعل سيّد المرسلين ، يروونها في كتبهم ويصدّقون استمرار أوليائهم عليها ، ويكذّبون أن يتصدّق أهل البيت اتّفاقا بطعامهم ثلاثة أيّام لسؤال من سأل إيثارا على أنفسهم!
فهل الفرق إلّا اتّباع الهوى والجفاء لمن طهّرهم اللّه تعالى من الرجس
ص: 58
تطهيرا وأوجب على الأمّة التمسّك بهم؟!
ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه قد ذكر هذه القصّة في « منهاج الكرامة » نقلا عن الثعلبي (1) ، وردّه ابن تيميّة بكلّ ما تبلغه همّة النصب ، وذكر أمورا أشبه باللغو (2) ..
كالمطالبة بصحّة الحديث ؛ وقد مرّ مرارا جوابه ، ولا سيّما أنّ شهرته كافية في اعتباره ..
وكز عم أنّ الحسنين صغيران لا يشرع إبقاؤهما ثلاثة أيّام جياعا ، وقد عرفت أنّهما بنفسيهما آثرا بطعامهما ؛ لمعرفتهما وكمالهما ..
وكز عم عدم حاجة أيتام المسلمين وأسراهم إلى الصدقة والسؤال ؛ لأنّ اليتيم مكفيّ بالنبيّ ، والأسير بآسره ؛ وهو كما ترى تكذيب للآية الكريمة ..
وكز عم أنّه لم يكن في العقبة قتال ، فكيف يقول اليتيم - كما في حديث الثعلبي - : « استشهد والدي يوم العقبة » (3)؟!
وفيه : إنّ العقبات كثيرة ، والعقبة : هي المرقى الصعب من الجبال (4) ، كمرقى أحد ، لا خصوص عقبة مكّة التي بايع النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيها الأنصار قبل الهجرة.
وكز عم أنّ السورة مكّية بالاتّفاق ؛ والحال أنّ مجاهدا وقتادة قالا :
ص: 59
إنّها مدنيّة (1) ..
وكز عم أنّ النذر منهيّ عنه ؛ والحال أنّ الآية الكريمة نزلت في الثناء على الناذرين ، فيكون تخطئة للكتاب المجيد (2) ..
وكز عم أنّه ليس للزهراء علیهماالسلام جارية تسمّى فضّة (3) ..
وأنّ إنفاق أبي بكر أفضل من إنفاقهم (4) ..
ص: 60
حكى السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن أبي هريرة : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ( وَصَدَّقَ بِهِ ) عليّ بن أبي طالب علیه السلام (1).
ونحوه في « منهاج الكرامة » للمصنّف ، عن مجاهد ، من طريق ابن المغازلي (2).
وفيه أيضا عن مجاهد ، من طريق أبي نعيم ، مثل ما هنا (3)
فيكون الجميع متّحدا في المراد ، وأنّ المقصود بثاني الوصفين أمير المؤمنين علیه السلام ، لا أنّه مقصود بهما معا كما يتوهّم ممّا نقله أبو نعيم ، كما أنّه ليس المقصود بالوصفين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحده ؛ لقوله تعالى في تتمّة الآية بصيغة الجمع : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (4).
فإذا أريد بمن صدّق به أمير المؤمنين ، دلّ على إمامته ؛ لأنّ ذكره خاصّة بالتصديق مع كثرة المصدّقين يدلّ على أنّه الكامل في التصديق ، وأنّه الصدّيق الأكبر.
ولا ريب أنّ الكامل فيه دون غيره هو الأفضل ، والأفضل أحقّ بالإمامة ، ولا سيّما أنّ كامل التصديق أرعى لما صدّق به ، وأمسّ في حفظ
ص: 64
الدين والحوزة.
على أنّ اللّه سبحانه قد شهد لمن جاء بالصدق ، ولمن صدّق به ، بالتقوى على الإطلاق ، فقال في تتمّة الآية : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ، وهو يقتضي العصمة ، ولا معصوم مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله غير عليّ علیه السلام بالإجماع ، فيكون هو الإمام ؛ لما سبق من اشتراط العصمة بالإمام (1).
ولا ينافي دلالته على العصمة قوله تعالى بعد هذه الآية : ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَالَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) (2) ؛ إذ ليس المراد ب ( أَسْوَأَالَّذِي عَمِلُوا ) هو المحرّمات ؛ لعصمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله جزما ، بل المراد أسوأه عند قومهم ، فإنّ اللّه سبحانه يكفّره (3) ؛ أي يغطّيه عنهم بنصرهم على الكافرين ، وإحسانهم إليهم ، وإظهار شرفهم وفضلهم ؛ ولذا قال تعالى في الآية التي بعدها : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ... ) (4).
وأمّا ما نسبه الفضل إلى الجماهير ، فكذب عليهم ؛ ولذا لم يذكره الزمخشري في « الكشّاف » ، وهو حقيق بذكره لو كان قولا لجماهيرهم ، لا سيّما وهو في فضل أبي بكر ، ولم يذكره أيضا غيره ممّن اطّلعنا على تفسيره.
ص: 65
نعم ، نسبه الرازي إلى جماعة (1) ، وهو غير معنى الجماهير ، ولو سلّم فأيّ عبرة بقول جماهيرهم الناشئ من الهوى ، فإنّه كما ورد عندهم نزولها في أبي بكر ، ورد عندهم نزولها في أمير المؤمنين علیه السلام ، فلم اختار الجماهير أو الجماعة نزولها في أبي بكر ، مع عدم صحّة الرواية الدالّة عليه كما اطّلعنا على سندها؟!
فإنّ الطبري رواها في تفسيره « جامع البيان » ، عن عمر بن إبراهيم بن خالد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان (2).
وقد نقل الذهبي في « ميزان الاعتدال » عن الدارقطني ، أنّ عمر بن إبراهيم كذّاب ؛ وعن الخطيب ، أنّه غير ثقة ؛ ثمّ ذكر بترجمة عمر أنّ أسيدا مجهول (3).
ونقل بترجمة عبدالملك ، عن أحمد ، أنّه ضعّف عبد الملك جدّا ، وقال أيضا : ضعيف يغلط ، وقال ابن معين : مخلّط (4).
مضافا إلى أنّ لفظ الرواية ، كما صرّح به السيوطي في « الدرّ المنثور » ( الذي جاء بالحقّ ) محمّد ، ( وصدّق به ) أبو بكر (5) ، وهو غير لفظ الآية ؛ لأنّ لفظها : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ) .
هذا ، ومن المضحك ما ذكره الرازي في المقام ، قال : « أجمعوا على أنّ الأسبق الأفضل ؛ إمّا أبو بكر ، وإمّا عليّ ، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر
ص: 66
أولى ؛ لأنّ عليّا علیه السلام كان وقت البعثة صغيرا ، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت ، ومعلوم أنّ إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوّة وشوكة.
أمّا أبو بكر فإنّه كان رجلا كبيرا في السنّ ، كبيرا في المنصب ، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوّة وشوكة في الإسلام ، فكان حمل اللفظ على أبي بكر أولى » (1).
فإنّ مزيد الشوكة لا ربط له بالأولوية المذكورة ؛ لأنّ التصديق فرع المعرفة والتقى لا الشوكة ؛ ولذا مدح اللّه سبحانه من جاء بالصدق وصدّق به : بالتقوى (2) ، فقال : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (3).
ومن المعلوم أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أقرب إلى المعرفة والتقوى من أبي بكر ، فإنّه لم يعبد صنما قطّ ، خلافا لقومه ، وعبدها أبو بكر مدّة من عمره ؛ وطهّره اللّه سبحانه من الرجس ، ولم يطهّر أبا بكر ؛ وصلّى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبع سنين قبل أبي بكر وغيره (4).
ولا منافاة بين الصغر وبين المعرفة والكمال ؛ ولذا دعاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الإسلام وهو صبيّ ، فكان أخصّ الناس به وأطوعهم له ، وجعله خليفته ووزيره عند ما جمع عشيرته الأقربين في أوّل البعثة ودعاهم إلى الإسلام (5) ، كما سيجيء.
ص: 67
كما جعل اللّه يحيى نبيّا وآتاه الحكم صبيّا ، وكذلك عيسى ويوسف وسليمان ، وقد مدح اللّه الحسنين وهما طفلان بقوله سبحانه : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... * ... وَيَخافُونَ يَوْماً ... * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ... * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ ... ) (1) الآيات.
ولو سلّم دخل الشوكة والقوّة والمنصب بأولوية الوصف بالتصديق ، فأيّ قوّة وشوكة لأبي بكر ، وهو من أرذل بيت في قريش ، كما قاله أبو سفيان (2)؟!
وأيّ منصب له ، وهو كان خيّاطا ومعلّما للصبيان (3)؟!
فأين هو من أسد اللّه ورسوله ، وابن سيّد البطحاء ، الذي إن لم يزد الإسلام بنفسه قوّة فباتّصاله بأبيه وتعلّقه به؟!
بل قد عرفت أنّ شهادة اللّه سبحانه بالتقوى لمن صدّق بالصدق تدلّ على عصمته ، ولا معصوم غير عليّ بالإجماع ، فتتعيّن إرادته بالآية.
* * *
ص: 68
وقال الفضل (1) :
جاء في روايات أهل السنّة - ولا شكّ - أنّ عليّا من أفاضل المؤمنين ، ومن خلفائهم وأئمّتهم.
ولمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤيّدا بالمؤمنين ، كان تأييده بعليّ من باب الأولى ، ولكن لا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 70
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج ابن عساكر ، عن أبي هريرة : « مكتوب على العرش : لا إله إلّا أنا وحدي ، لا شريك لي ، محمّد عبدي ورسولي ، أيّدته بعليّ » (1).
ونقل في « كنز العمّال » نحوه ، عن ابن عساكر عن أبي الحمراء ، وعن الطبراني عن أبي الحمراء ، وعن العقيلي عن جابر (2).
ونقل المصنّف الحديث في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن أبي هريرة ، ثمّ قال أبو هريرة : وذلك قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) يعني بعليّ (3).
ونقل في « ينابيع المودّة » عن أبي نعيم ، بأسانيده عن أبي هريرة وابن عبّاس وإمامنا الصادق علیه السلام ، أنّهم قالوا : نزلت هذه الآية في عليّ علیه السلام ، وأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « رأيت مكتوبا على العرش .... » (4) الحديث بعينه.
وذكر في « الينابيع » أيضا ، أنّ أبا نعيم روى نحوه عن أنس بن
ص: 71
مالك(1).
فإذا كان أمير المؤمنين علیه السلام هو المراد ب ( بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الآية ، دلّ على أنّه بمنزلة جميع المؤمنين في الإيمان والتأييد للنبيّ ؛ للتعبير عنه بصيغة الجمع العامّة ، فيكون أفضلهم وإمامهم ، خصوصا مع كتابة اسمه الشريف وتأييده على العرش ..
فقول الفضل : « لا شكّ أنّ عليّا من أفاضل المؤمنين ... » إلى آخره ، ظلم لأمير المؤمنين بجعله من الأفاضل ، والآية والرواية تدلّان على الأفضلية.
كما إنّ قوله : « ولمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤيّدا بالمؤمنين ... » إلى آخره ، خلاف مقصود الآية والرواية ، من كونه بمنزلة جميع المؤمنين في التأييد ؛ لأنّه العمدة والمتّبع ؛ ولذا قرنه اللّه سبحانه بنصره ، وزيّن به عرشه.
ولا ينافي إرادة أمير المؤمنين من ( بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الآية ، قوله تعالى بعدها : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ... )(2) الآية ؛ وذلك لأنّ الاستخدام(3)
ص: 72
باب واسع.
* * *
ص: 73
وقال الفضل (1) :
ظاهر الآية أنّها في كافّة المؤمنين ، ولو صحّ نزوله في عليّ يكون من فضائله ، ولا دلالة لها على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 75
- مع أنّ الدليل مفسّر للمراد فيقدّم على الظهور - إنّا نمنع ظهورها بما ذكره ، بل ظاهرها الخصوص ؛ إذ ليس كلّ مؤمن متّبعا على الإطلاق ، فتكون « من » للتبعيض لا للبيان.
وحينئذ ، فينبغي إرادة أمير المؤمنين علیه السلام خاصّة ، حتّى لو لم ترد الرواية بإرادته ؛ إذ لا اتّباع على الإطلاق من غيره.
وحينئذ ، فتدلّ الآية على إمامته ؛ لأنّ الاتّباع المطلق يقتضي العصمة ، وهي شرط الإمامة ، ولا عصمة لغيره بالإجماع.
على أنّ اللّه سبحانه لمّا قرنه بنفسه المقدّسة ، وأخبر عنه - لا غيره من المسلمين - بأنّه حسبه ، دلّنا على فضله وامتيازه على كلّ أحد ، فيكون هو الإمام.
والمراد : حسبك اللّه ناصرا (1) ، وعليّ متّبعا ، فلا تذهب نفسك حسرات على من لم يتّبعك.
ويحتمل - كما هو الأقرب - أن يكون المراد : إنّهما حسبه في النصرة ، ولا يلزم الشرك كما زعم ابن تيميّة (2) ؛ لأنّه كقوله تعالى : ( فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ... ) (3) (4).
ص: 76
وليست نصرة غير اللّه عزّ وجلّ إلّا بإقداره ، وكون عليّ حسب النبيّ في النصرة ، لا ينافي حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى غيره ، ولا حاجة عليّ علیه السلام إلى الناصر بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، إذ هو ككون اللّه حسبه ، أريد به عدم الاعتداد بنصرة غيره ؛ لضعفها ، أو لعدم الخلوص التامّ بها ؛ ولذا فرّ المسلمون عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في عدّة مواطن (1) ، فلا يرد ما أشكله ابن تيميّة ، وقد أساء القول وجاهر بنصبه.
ثمّ إنّ الرواية التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه هنا قد نقلها هو في « منهاج الكرامة » عن أبي نعيم (2) ، ونقلها غيره ، كصاحب « كشف الغمّة » (3) ، عن عزّ الدين عبد الرزّاق المحدّث الحنبلي (4).
ص: 77
وقال الفضل (1) :
ذهب المفسّرون إلى أنّها نزلت في أهل اليمن (2).
وقيل : لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن هذا القوم ، فضرب بيده على ظهر سلمان فقال : « هذا وقومه » (3).
والظاهر أنّها كانت نازلة لقوم لم يؤمنوا بعد ؛ لدلالة : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ) على هذا ، وعليّ كان ممّن آتاه اللّه من أوّل الإسلام ، فكيف يصحّ نزوله فيه؟!
وإن سلّمنا ، فهو من فضائله ، ولا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 79
ينبغي هنا بيان أمرين :
الأوّل : معنى الارتداد ؛ والظاهر أنّ له معنيين :
حقيقيا : وهو الانقلاب عن الدين بمخالفة بعض أصوله ؛ كالشهادتين عند الجميع ، والإمامة عند الإماميّة.
ومجازيا : وهو مخالفة بعض أحكام الدين المهمّة.
ويحتمل أن يراد بالآية : الأوّل ؛ لأنّه الأصل في الاستعمال .. والثاني ؛ بدعوى القرينة ، بأن يراد بالارتداد تولّي الكافرين والتقاعد عن الجهاد ، بقرينة حكم الآية التي قبلها بأنّ من تولّاهم منهم.
الثاني : مورد نزولها ؛ وقد اختصّت أخبارنا في نزولها بأمير المؤمنين علیه السلام ، أو المهديّ عجّل اللّه فرجه (1) ، ولا يبعد إرادتهما معا.
وأمّا روايات القوم ، فقد جاءت بنزولها بعليّ ، كما نقله المصنّف رحمه اللّه عن الثعلبي (2) ، وبنزولها في أهل اليمن (3) ، ونزولها في الفرس (4) ، وقيل
ص: 80
بنزولها في الأنصار (1) ، وقيل بأبي بكر (2).
ولم يرو أحدّ التفسير بهذين القولين الأخيرين عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، واختار أوّلهما السّدّي ، كما ذكره الرازي ، بحجّة أنّ الأنصار هم الّذين نصروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (3).
وفيه : إنّ المراد بالآية : النصرة في المستقبل ، وهي لم تختصّ بالأنصار ، بل لم تختصّ بهم في أوّل الأمر ؛ لمشاركة المهاجرين لهم في النصرة.
وأمّا من زعم نزولها بأبي بكر ، فبحجّة أنّه حارب المرتدّين ؛ وستعرف ما فيه ..
والحقّ أنّها نازلة بأمير المؤمنين (4) ؛ لأمور :
الأوّل : ورود رواية الفريقين به ؛ فقد عرفت رواية الثعلبي له ، ولكنّ ابن تيميّة أنكرها (5) ، ولم يحضرني « تفسير الثعلبي » حتّى أظهر بطلان إنكاره ، إذ لا شكّ أنّ المصنّف رحمه اللّه لا يتعمّد الكذب بخلاف ابن تيميّة ؛ فإنّا سبرنا أحوالهما ، وعرفنا صحّة نقل المصنّف دونه ، كما ستعرف.
ويؤيّد صحّة رواية الثعلبي ما ورد عن أمير المؤمنين ، أنّه قال يوم
ص: 81
البصرة : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » ، ثمّ تلاها (1).
ومثله عن عمّار وابن عبّاس (2) ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
الثاني : انطباق أوصاف من يأتي به اللّه - المذكورة في الآية - على أمير المؤمنين علیه السلام دون غيره.
أمّا عدم انطباقها على أبي بكر ، فظاهر ؛ ولو لقوله تعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (3) ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال يوم خيبر بعد ما رجع أبو بكر وعمر منهزمين : « لأعطينّ الراية غدا إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله ، كرّار غير فرّار » (4)، وهو ظاهر ، بل صريح في التعريض بمن
ص: 82
فرّ ، وأنّه ليس على هذه الأوصاف.
وأمّا عدم انطباقها على الأنصار وأهل اليمن والفرس ، فلظهور الآية في أنّ من يأتي به اللّه ؛ إمام شجاع ، ذو حزم وتقوىّ وتواضع ؛ لأنّ قوله
ص: 83
تعالى : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (1) بمعنى أنّه متواضع للمؤمنين تواضع وال عليهم وإمام لهم ، إذ لا معنى لتعدية الأذلّة ب « على » المفيدة للعلوّ لو لا تضمّن الأذلّة معنى الولاية.
وهو أيضا عزيز على الكافرين ، أيّ ظاهر العزّة عليهم والعظمة في أعينهم ؛ لكونه ذا سلطان.
وهو أيضا يجاهد في سبيل اللّه ؛ لكونه مقداما شجاعا تقيّا.
ولا يخاف لومة لائم ؛ لحزمه ومقدرته.
وإذا ضممنا إلى ذلك قوله تعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) ، تعيّنت إرادة أمير المؤمنين.
ولا ينافي إرادته التعبير بالقوم وصيغ الجمع ؛ إمّا لصحّة القصد إلى تعظيمه بذلك ، كما هو في القرآن وغيره كثير ، كما تشهد له آية المباهلة ، أو للإشارة إلى أنّه ذو أتباع.
كما لا ينافيها التعبير ب « سوف » ، خلافا للفضل ؛ لما عرفت من دلالة الآية على أنّه سبحانه يأتي بذي ولاية وسلطان ، وعليّ علیه السلام إنّما صار كذلك في المستقبل ، فجاهد حينئذ.
وبنحوه أجاب الرازي عن إشكال إرادة أبي بكر من الآية ؛ لأنّ جهاده متأخّر (2).
الثالث : إنّ الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ
ص: 84
وَرَسُولُهُ ) (1) الآية ، نازلة بأمير المؤمنين علیه السلام (2) ، فينبغي أن تكون هذه الآية كذلك لترتبط الآيتان ، ولدخولهما في خطاب واحد منفرد عمّا قبله وبعده ، وهو : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) (3) الآيتان.
الرابع : الأخبار المقتضية لنزولها بعليّ علیه السلام ..
فمنها : المصرّحة بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».
قال أبو بكر وعمر : أنا هو؟
قال : « لا ، ولكنّه خاصف النعل » ؛ يعني عليّا.
أخرجه أحمد في « مسنده » ، عن أبي سعيد من طريقين (4).
وأخرجه الحاكم عنه أيضا من طريقين في « المستدرك » (5) ، وصحّحه على شرط الشيخين.
ونقله في « كنز العمّال » (6) ، عن أبي يعلى في « مسنده » ، وابن أبي شيبة ، وأبي نعيم في « الحلية » ، وابن حبّان في « صحيحه » ، والضياء في
ص: 85
« المختارة » ، كلّهم عن أبي سعيد (1).
ورواه النسائي في خصائصه (2).
وهو يستلزم أن يكون من يأتي به اللّه لحرب المرتدّين هو عليّ لا أبو بكر ؛ لأنّ حرب أمير المؤمنين على التأويل دون أبي بكر ، فلا بدّ أن يكون المنذر في الكتاب العزيز بحربه هو عليّ علیه السلام .
ومنها : الأخبار الكثيرة التي أنذر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيها الناس بعليّ خاصّة ، وقال : « لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللّه رجلا ... » ، يعني به عليّا ، فالأنسب أن يكون هو المنذر به في الآية.
نقل في « كنز العمّال » (3) ، عن أحمد وابن جرير ، قال : وصحّحه ، وعن سعيد بن منصور في « سننه » ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « جاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله أناس من قريش ، فقالوا : يا محمّد! إنّا جيرانك وحلفاؤك ، وإنّ ناسا من عبيدنا قد أتوك ، ليس بهم رغبة في الدين ، ولا رغبة في الفقه ، إنّما فرّوا من ضياعنا ، وأموالنا ، فارددهم إلينا.
فقال لأبي بكر : ما تقول؟
قال : صدقوا ، إنّهم لجيرانك وحلفاؤك.
فتغيّر وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
ثمّ قال لعمر : ما تقول؟
قال : صدقوا ، إنّهم لجيرانك وحلفاؤك.
ص: 86
فتغيّر وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
فقال : يا معشر قريش! واللّه ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا قد امتحن اللّه قلبه بالإيمان فيضربكم على الدين ، أو يضرب بعضكم.
فقال أبو بكر : أنا يا رسول اللّه؟
قال : لا.
قال عمر : أنا يا رسول اللّه؟
قال : لا ، ولكنّه الذي يخصف النعل ؛ وكان أعطى عليّا نعلا يخصفها (1).
ومثله في خصائص النسائي (2).
ونقل في « الكنز » نحوه ، عن الخطيب (3) ..
وعن الترمذي ، قال : وقال : حسن صحيح (4) ..
وعن ابن جرير ، قال : وصحّحه (5) ..
وعن الضياء في « المختارة » (6) ..
وعن ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والحاكم في « المستدرك » ،
ص: 87
وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعضها : « يا معشر قريش! لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن اللّه قلبه على الإيمان » ..
وفي بعضها : « لن تنتهوا يا معشر قريش حتّى يبعث اللّه عليكم رجلا امتحن اللّه قلبه بالإيمان ، يضرب أعناقكم وأنتم مجفلون عنه إجفال النعم » (3).
وروي في « الاستيعاب » ، بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن المطّلب بن عبد اللّه بن حنطب ، قال :
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لوفد ثقيف حين جاءه : « لتسلمنّ أو لأبعثنّ رجلا منّي - أو قال : مثل نفسي - فليضربنّ أعناقكم ، وليسبينّ ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم ».
قال عمر : فو اللّه ما تمنّيت الإمارة إلّا يومئذ ، وجعلت أنصب صدري له رجاء أن يقول : هو هذا.
ص: 88
[ قال : ] فالتفت إلى عليّ ، فأخذ بيده ، ثمّ قال : « هو هذا ، [ هو هذا ] » (1).
وفي « الصواعق » ، بعد الحديث الأربعين من أحاديث فضل عليّ ، عن ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : لمّا فتح رسول اللّه مكّة انصرف إلى الطائف ... - إلى أن قال : - ثمّ قام خطيبا وقال : « والذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزكاة أو لأبعثنّ إليكم رجلا منّي - أو : كنفسي - يضرب أعناقكم ».
ثمّ أخذ بيد عليّ علیه السلام ، ثمّ قال : « هو هذا » (2).
وعن « مسند أحمد » وغيره ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « لتنتهنّ يا بني وليعة (3) أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي ، يقتل المقاتلة ، ويسبي الذّرّيّة ».
فالتفت إلى عليّ فأخذ بيده ، وقال : « هو هذا » (4).
ص: 89
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي تفيد أنّ عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله الإنذار بعليّ (1) ، فتحمل عليه الآية ؛ لأنّ إنذاره من إنذار اللّه تعالى ، وما كان ينطق عن الهوى ، إن هو إلّا وحيّ يوحى (2) ..
ولو كان أبو بكر صالحا لذلك لما ردّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، مع أنّه يعلم من قول أبي بكر : « صدقوا ... إنّهم جيرانك وحلفاؤك » أنّه ليس ممّن لا يخاف لومة لائم ؛ فلا يكون مرادا بالآية هو وأشباهه.
كما إنّه يعلم من ردّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله له ، بعد وصفه لمن يبعثه بأنّه امتحن اللّه قلبه بالإيمان ، أنّه ليس على هذا الوصف ، وإلّا لما ردّه ، فلا يكون ممّن يحبّ اللّه ويحبّه اللّه ؛ إذ لا يكون كذلك إلّا صاحب الإيمان الكامل الممتحن قلبه به ؛ وحينئذ فلا يكون مرادا بالآية.
وأيضا : فقد جعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض هذه الأحاديث وغيرها عليّا منه أو كنفسه ، فيكون هو الأحقّ بالأوصاف المذكورة في الآية وبإرادته منها.
هذا ، وممّا يستوقف الفكر ويستثير العجب قول عمر : « صدقوا » بعد ما تغيّر وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قول أبي بكر!!
ولكنّه ليس بأعجب من قوله : « إنّ الرجل ليهجر » (3)! إلى كثير من أقواله وأفعاله معه.
ص: 90
وما أدري كيف استباح هو وصاحبه أن يجعلا للكافرين على المؤمنين سبيلا ، ويردّا من آمنوا باللّه ورسوله ، ملكا وخدما لمن كفر بهما؟!
وكيف مع هذا يكونان إمامين للناس ، ويؤمنان على الأمّة ونفوسها وأموالها؟!!
ثمّ إنّ حجّتهم على إرادة أبي بكر من الآية بحربه للمرتدّين ممنوعة ؛ لأنّ من حاربهم إمّا كافر بالأصل ، كأصحاب مسيلمة وسجاح ؛ أو مؤمن حقّا ، كبني حنيفة ، فإنّه حاربهم لامتناعهم من أداء الزكاة إليه إنكارا لخلافته ، وتمسّكا ببيعة أمير المؤمنين علیه السلام يوم الغدير ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
هذا ، وقد ناقش الرازي بإرادة أمير المؤمنين علیه السلام من الآية ، بل زعم دلالتها على فساد مذهب الشيعة!! ..
قال ما حاصله : إنّه لو كان المقصود بالآية عليّا - وكان هو الإمام - ، ومن لم يقل بإمامته ليس بمؤمن - كما يزعم الشيعة - ، لحارب أبا بكر ؛ لقوله تعالى : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ... ) (1) الآية.
فإنّ كلمة ( مَنْ ) في معرض الشرط ، فتفيد العموم ، فيقتضي أنّ كلّ من ارتدّ يأتي اللّه بقوم يردّونهم عن كفرهم ويبطلون شوكتهم ، ولم نجد الأمر كذلك ، فإنّ أبا بكر وأصحابه على شوكتهم ، بل وجدنا الأمر على الضدّ ، فإنّ الشيعة هم المقهورون(2).
ص: 91
وفيه : إنّ الإنذار إنّما هو بذي الولاية والسلطان - كما عرفت - ، فلا تلزم محاربة أمير المؤمنين علیه السلام لأبي بكر ، وأجاب به الرازي بنفسه عن إشكال إرادة أبي بكر من الآية ، حيث إنّه لم يحارب المرتدّين حين نزول الآية إلى أن تولّى الخلافة (1).
فالمراد : إتيان ذي سلطان لحرب كلّ من ارتدّ عن دينه في وقت سلطانه ؛ ولذا صحّ عندهم إرادة أبي بكر مع أنّه لم يحارب كلّ مرتدّ ، كالأسود العنسي (2) ؛ لأنّه قتل زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ وكغسّان (3) ، فإنّ عمر حاربهم في وقته كما قيل (4) ..
مضافا إلى إمكان أن يكون معنى الآية مجرّد تحذير من يرتدّ ، وإنذاره بالحرب أعمّ من أن يقع أو لا يقع.
واللّه العالم.
* * *
ص: 92
وقال الفضل (1) :
لا شكّ أنّ عليّا من الصدّيقين والشهداء ، والظاهر أنّ الآية نزلت في جماعة من الصدّيقين والشهداء ، ويمكن أن تكون نازلة في الخلفاء ؛ وإن صحّ نزولها في عليّ ، فهي من فضائله ، وليس دليلا على مدّعى النصّ.
* * *
ص: 94
لا شكّ أن ليس كلّ مؤمن صدّيقا ؛ لأنّ الصدّيق كثير التصديق وكامله ؛ ولا شهيدا ، وهو ظاهر ؛ فلا بدّ أن يراد الخصوص.
وقد علمنا من الأخبار أنّه ليس في هذه الأمّة صدّيق غير عليّ علیه السلام ، فلا بدّ أن يكون هو المراد بخصوصه من الآية ، أو الأعمّ منه ومن صدّيقي الأمم الثلاثة.
فقد نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » ، بتفسير سورة « يس » ، عن أبي داود ، وأبي نعيم ، وابن عساكر ، والديلمي ، بأسانيدهم عن أبي ليلى ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :
« الصدّيقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل يس ، الذي قال : ( يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) (1).
وحزقيل مؤمن آل فرعون ، الذي قال : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ ) (2).
وعليّ بن أبي طالب ، وهو أفضلهم » (3).
ص: 95
ورواه الرازي باختصار في تفسير سورة « المؤمن » عند قوله تعالى : ( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ) (1) (2).
وحكى السيوطي أيضا في تفسير سورة « يس » ، عن البخاري في تاريخه ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الصدّيقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار صاحب آل يس ، وعليّ بن أبي طالب » (3).
وحكاه في « كنز العمّال » (4) ، عن ابن النجّار ، عن ابن عبّاس.
ونقل المصنّف رحمه اللّه حديث أبي ليلى في « منهاج الكرامة » ، عن أحمد في مسنده ، والديلمي ، وابن المغازلي (5).
وأنكر ابن تيميّة كونه من أصل « المسند » ، وزعم أنّه من زيادات القطيعي ، أخرجه من طريقين ثمّ ناقش في سندهما (6).
وقد عرفت أنّ المناقشة في سند الأخبار الواردة في فضل أمير المؤمنين علیه السلام غير صحيحة ؛ لما أوضحناه في المقدّمة من أنّ الاعتبار يشهد بوثاقة رجالها في تلك الأخبار ؛ على أنّ الرواية إذا كثرت طرقها حكم
ص: 96
باعتبارها ، وإن لم تصحّ أسانيدها ، فقد سمعت من تعرّض لها (1).
ومرّ في الآية الثالثة عشرة ما هو بمعناها ، وهو كثير من الأخبار القائلة : إنّ سبّاق الأمم ثلاثة (2) ، فلا وجه للتشكيك بها.
ويشير إلى هذه الروايات الأخبار المصرّحة بأنّ الصدّيق الأكبر هو أمير المؤمنين علیه السلام ؛ كرواية الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عبّاد بن عبد اللّه الأسدي ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « إنّي عبد اللّه ، وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلّا كاذب ... » الحديث.
ثمّ قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين.
وتعقّبه الذهبي بقوله : « [ كذا قال ] ، ليس هو على شرط واحد منهما ، بل ولا [ هو ] بصحيح ، بل حديث باطل ، فتدبّره. وعبّاد ، قال ابن المديني : ضعيف ».
وفيه : إنّه لا اعتبار بتضعيف ابن المديني له مع توثيق غيره له ، كالحاكم (4) ، ولو التفتنا إلى هذه التضعيفات لم يصحّ لهم حديث ، ولا أدري ما الذي أنكره الذهبي من الحديث حتّى حكم ببطلانه مع شواهد صحّته الكثيرة؟!
ص: 97
وقد نقل في « كنز العمّال » هذا الحديث (1) ، عن ابن أبي شيبة ، والنسائي في « الخصائص » ، وابن أبي عاصم في « السنّة » ، والعقيلي ، وأبي نعيم في « المعرفة ».
ونقل أيضا (2) ، عن العقيلي ، ومحمّد بن أيّوب الرازي ، أنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال على منبر البصرة : « أنا الصدّيق الأكبر ».
ونقل في « الكنز » أيضا (3) ، عن الطبراني ، عن سلمان وأبي ذرّ معا ، وعن البيهقي وابن عديّ ، عن حذيفة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال في حقّ عليّ علیه السلام : « إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهو أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأمّة ، يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين ».
ونحوه ب « إصابة » ابن حجر ، بترجمة أبي ليلى الغفاري ، وزاد في أوّله : « ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان كذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه أوّل من آمن بي ... » .. الحديث (4).
ص: 98
فإذا ثبت أنّ عليّا علیه السلام هو أكمل الأمّة تصديقا ، وجب أن يكون أفضلهم ، ولا سيّما هو أفضل صدّيقي أمم الأنبياء ، والأفضل هو الإمام ، ولكنّ القوم سرقوا هذا الاسم ونحلوه إلى أبي بكر ، فسمّوه صدّيقا!
ولمّا علم اللّه سبحانه ذلك منهم ، أثبت دليلا واضحا على كذبهم ، وهو ما ألحقه بهذا الوصف من وصف الشهداء.
وهذه السرقة ليست بغريبة منهم ، فإنّهم سرقوا أيضا وصف الفاروق من أمير المؤمنين علیه السلام إلى عمر ، فقد صرّح بأنّ عليّا هو الفاروق ... الحديث المتقدّم وغيره ، كالذي نقله في « كنز العمّال » (1) ، عن أبي نعيم ، عن أبي ليلى ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه الفاروق بين الحقّ والباطل ».
وقال الطبري في « المنتخب من كتاب ذيل المذيّل » ، المطبوع في ذيل تاريخه ، ص 9 : « قال ابن سعد : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن صالح بن كيسان ، قال : قال ابن شهاب : بلغنا أنّ أهل الكتاب كانوا أوّل من قال لعمر : الفاروق ؛ وكان المسلمون يؤثرون ذلك من قولهم ، وما بلغنا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكر من ذلك شيئا » (2).
* * *
ص: 99
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) (2).
روى الجمهور ، أنّها نزلت في عليّ علیه السلام ، كانت معه أربعة دراهم ، أنفق في الليل درهما ، وبالنهار درهما ، وفي السرّ درهما ، وفي العلانية درهما (3).
* * *
ص: 100
وقال الفضل (1) :
ذكر المفسّرون من أهل السنّة أنّ الآية نزلت في عليّ ، وهو من فضائله ، ولا يثبت به مدّعى النصّ.
* * *
ص: 101
روى الواحدي في « أسباب النزول » ذلك عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والكلبي (1).
ونسب السيوطي في « الدرّ المنثور » روايته إلى ابن جرير ، وعبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن عساكر (2).
ونسبه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » إلى الثعلبي ، وأبي نعيم (3).
ورواه أيضا الزمخشري ، والرازي ، وغيرهم (4).
لكنّ ابن تيميّة - كعادته - زعم كذب الحديث ؛ بحجّة أنّ الإنفاق في السرّ والعلانية لا يخرج عن الإنفاق بالليل والنهار ، فكيف يكون مقابلا له (5)؟! وأظهر التبجّح بكلامه كعادته.
وفيه : إنّ المراد هو الإنفاق بالليل سرّا وعلانية ، وبالنهار كذلك ، أو أنّ المراد أنّه أنفق درهمين بالليل والنهار ، ثمّ أنفق درهمين سرّا وعلانية ، فلحظ أوّلا : خصوصيّة الوقت ، ولحظ ثانيا : خصوصيّة الوصف.
ص: 102
ووجه الدلالة على المطلوب ؛ أنّ ذكر اللّه سبحانه لهذه الصدقة الخاصّة ، وبشارته لأجلها - مع قلّتها وكثرة المتصدّقين بنحوها وأضعافها - ، أقوى دليل على فضله على غيره بالمعرفة والإخلاص ؛ فيكون أتقى الناس ، وأفضلهم ، وأولادهم بالإمامة.
هذا ، ونقل الزمخشري عن بعضهم ، أنّها نزلت في أبي بكر ، حيث تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السرّ ، وعشرة في العلانية (1)!
ولا أدري ، أ أعجب من تخيّل القائل أنّ مدار الفضل على الكثرة دون الإخلاص ، حتّى نسب لأبي بكر الصدقة بهذا المقدار ، ليعارض صدقة أمير المؤمنين علیه السلام ويفوقها؟!
أم أعجب من إرادته إثبات منقبة هي بالمنقصة أشبه ؛ إذ لا يجتمع هذا المال مع ضعف المسلمين إلّا من نهاية الإمساك؟!
أم أعجب من دعوى وجود هذا المال عند أبي بكر ، البالغ أربعمئة ألف درهم ، وهو كان معلّما للصبيان في الجاهلية ، وخيّاطا في الإسلام (2) ، ولم يكن قسمه من الغنائم إلّا كواحد من المسلمين ، وقد كان ماله عند الهجرة خمسة آلاف درهم أو ستّة آلاف ، كما رواه الحاكم عن ابنته أسماء (3) ، ورواه أحمد عنها في مسنده (4) ، فمن أين اجتمع له ذلك
ص: 103
المال؟!
أم أعجب من خفاء الصدقة بهذا المال على عامّة الناس حتّى أظهرها هذا الراوي ، وهي ممّا ينبغي أن تغني أكثر أهل المدينة في ذلك اليوم؟!
أم أعجب من سماحة نفسه بهذا المال ، وهو قد ضنّ (1) على أهله بالقليل؟!
فقد ذكرت أسماء في تتمّة الحديث المذكور ، أنّ أبا بكر انطلق بذلك المال لمّا هاجر ، ولم يترك لهم شيئا (2)!
ولو كان من أهل الصدقة بمثل ذلك المقدار ، فلم أشفق من تقديم الصدقة اليسيرة في النجوى (3)؟!
ولم أخذ من رسول اللّه حين الهجرة والضيق قيمة البعير الذي ابتاعه منه (4) ، وهم قد زعموا أنّه واسى النبيّ بماله؟!
فانظر واعتبر!!
* * *
ص: 104
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2).
في صحيح مسلم : قلت : يا رسول اللّه! أمّا السلام عليك فقد عرفناه ، وأمّا الصلاة عليك فكيف هي؟
فقال : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم (3).
ص: 105
وقال الفضل (1) :
كأنّه نسي المدّعى ، وهو إثبات النصّ ، وأخذ يذكر فضائل عليّ ، وهذا أمر مسلّم ، واتّفق العلماء على أنّه نزلت فيهم آيات كثيرة ، ومن يظنّ أنّه ينكر فضل محمّد وآله؟! فما ينكره إلّا من ينكر ضوء الشمس والقمر!!
* * *
ص: 106
جهل المعترض أو تجاهل في مقصود المصنّف رحمه اللّه ؛ فإنّه يستدلّ بالآيات والروايات على إمامة أمير المؤمنين ؛ إمّا لدلالتها عليها بالمطابقة ، أو بالالتزام ؛ لدلالتها على أفضليّته المستلزمة للإمامة (1).
وأنت تعلم دلالة هذه الآية على أفضليّة آل محمّد ؛ لأنّها أوجبت الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأرادت بها الصلاة عليه وعلى آله معا ، مشيرة بالاكتفاء بذكره إلى أنّه وإيّاهم كنفس واحدة ، وأنّه منهم وهم منه ، فلا بدّ أن يكونوا أفضل من سائر الأمّة.
على أنّ مجرّد وجوب الصلاة عليهم كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله دليل على أنّ لهم فضلا ومنزلة يستحقّون بها الصلاة وإيجابها على الأمّة كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكفى بذلك فضلا باذخا.
والمراد بآل محمّد : « عليّ وفاطمة والحسن والحسين » كما نطقت به الأخبار المتواترة ك « حديث الكساء » وغيره (2) ، ولا شكّ أنّ عليّا أفضلهم ، فيكون هو الإمام.
ص: 107
وإنّما قلنا : إنّ الآية أرادت الصلاة عليه وعلى آله معا ؛ لتصريح الأخبار المفسّرة لكيفية الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك ؛ كالرواية التي نقلها المصنّف رحمه اللّه عن مسلم ، فإنّه رواها من طرق في باب الصلاة على النبيّ بعد التشهّد ، من كتاب الصلاة (1).
ونحوها في « صحيح البخاري » ، في تفسير سورة الأحزاب (2).
ولا يبعد عن الصواب من ادّعى تواترها (3).
وأمّا قوله : « ومن يظنّ أنّه ينكر فضل محمّد وآله ... » إلى آخره.
ففيه : إنّه ليس الكلام في فضلهم ، بل أفضليّتهم وإمامتهم ، والقوم - كما ترى - قد اجتهدوا في إنكارهما مراغمة (4) للأدلّة الواضحة ، بل اجتهدوا في درس فضائلهم بكلّ ما تناله أوهامهم ، وجدّوا في الإزراء بهم والغضّ من شأنهم.
كما يشهد له أنّهم مع وجود هذه الآية الشريفة وتلك الأخبار المستفيضة - وهي بمرأى منهم ومسمع - تراهم إذا ذكروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفردوه عن آله بالصلاة ، وإذا ذكروا واحدا من آله الطاهرين لم يصلّوا أو لم يسلّموا عليه كما أمر اللّه ورسوله ، بل يترضّون عليه كسائر المسلمين ، مع أنّه قد ورد عندهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، نهى عن الصلاة البتراء ، فقيل له : وما الصلاة البتراء؟
ص: 108
قال : « تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد » ، كما ذكره ابن حجر في « الصواعق » ، في الآية الثانية من الآيات الواردة في أهل البيت (1).
نعم ، ربّما يصلّون على آله معه في أوائل مصنّفاتهم أو أواخرها ، ولكن يضيفون إليه صحبه ، كراهة لإفرادهم وتمييزهم على صحبه بالاقتران مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كما ميّزهم اللّه ورسوله.
ويشهد له أيضا ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية ، فإنّه بعد ما ذكر الخلاف في وجوبها ، كلّما يذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو في كلّ مجلس مرّة ، أو في العمر مرّة ، قال :
« القياس جواز الصلاة على سائر المؤمنين ؛ لقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) (2) وقوله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (3) وقوله صلی اللّه علیه و آله : اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى.
ولكنّ للعلماء تفصيلا في ذلك ، وهو : إنّها إن كانت على سبيل التّبع كقولك : صلّى اللّه على النبيّ وآله ، فلا كلام فيها.
وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ، فمكروه ؛ لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقفنّ
ص: 109
مواقف التهم » (1)
ويرد عليه :
أوّلا : إنّه إذا لم يكن لهم كلام في الصلاة عليهم على سبيل التبع ، فلم التزموا بتركها إذا ذكروه صلی اللّه علیه و آله - كما سبق -؟! فهل المنشأ غير الانحراف عن آل محمّد؟!
ثانيا : لا تصحّ كراهتها عند انفرادهم بالذكر ، وما ذكره من صيرورتها شعارا لذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهو لا يوجب الكراهة ؛ لأنّهم منه وهو منهم ، وتعظيمهم تعظيمه ، وما بالهم جعلوها شعارا لذكره صلی اللّه علیه و آله دونهم ، وهم شركاؤه في أمر اللّه بالصلاة عليهم؟!
وأمّا الاتّهام بالرفض ؛ فهو لو اقتضى كراهة الصلاة على آل محمّد ، وتغيير حكم اللّه تعالى ، لأدّى إلى كراهة حبّهم ، ولعلّه لهذا تظهر منهم آثار العداوة لآل محمّد.
على أنّ الاتّهام إنّما يقتضي الكراهة في مقام التهمة ، فما بالهم تركوا الصلاة على آل محمّد في كلّ مقام؟!
وأمّا الحديث ؛ فلو صحّ لم يمكن أن يفهم منه مسلم إرادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله النهي عن تعظيم آله الطاهرين ، الذي هو من علائم الإيمان ، ومأمور به في الكتاب العزيز.
* * *
ص: 110
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
السادسة والعشرون : قوله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) (2).
روى الجمهور ، قال ابن عبّاس : عليّ وفاطمة ، و ( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) (3) : النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (4) : الحسن والحسين (5).
ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة.
* * *
ص: 111
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ، ثمّ ما ذكره من أنّ النبيّ برزخ بين فاطمة وعليّ ، فلا وجه له ، وإن صحّ التفسير دلّ على فضيلته ، لا على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 112
ذكره السيوطي في تفسيره « الدرّ المنثور » ، نقلا عن ابن مردويه عن ابن عبّاس وأنس بن مالك ، إلّا أنّ أنسا لم يذكر تفسير البرزخ بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).
ونقله في « ينابيع المودّة » ، عن الثعلبي ، وأبي نعيم ؛ والمالكي عن أبي سعيد ، وابن عبّاس ، وأنس (2).
ثمّ نقله عن الصادق علیه السلام ، عن أبي ذرّ (3).
ونقله عن سفيان الثوري (4).
ونقله أيضا ابن تيميّة عن الثعلبي ، عن سفيان الثوري (5) ، وناقش في سنده بما سبق جوابه في مقدّمة الكتاب وغيرها (6) ، وأورد عليه بما شاء الجهل والنصب ؛ وفي نقله وردّه ضياع المداد والقرطاس!
وأمّا دلالته على المطلوب ، فظاهرة ؛ لأنّ اللّه سبحانه شبّه عليّا علیه السلام بالبحر لغزارة علمه ، ولا مبالغة في قول اللّه سبحانه وشهادته لعبده ، فيكون
ص: 113
أمير المؤمنين ظاهر الامتياز على من لم يعرف الأبّ والكلالة (1) ، ومن كانت المخدّرات أفقه منه (2) ؛ فيكون هو الإمام.
وأمّا تشبيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالبرزخ بينهما ؛ فلأنّه الهادي لهما ، ولا بدّ أن يتّبعاه ؛ لعصمتهما ، فلا يبغي أحدهما على الآخر.
ويقرّب إرادة عليّ وفاطمة علیهماالسلام من ( الْبَحْرَيْنِ ) ، أنّه لو أريد ظاهرهما ، احتاج الحكم بخروج اللؤلؤ والمرجان منهما إلى توسّع ؛ لأنّهما إنّما يخرجان من أحدهما كما قيل.
ص: 114
نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » عن الثعلبي (1).
ونقل فيه أيضا مثله عن أبي نعيم ، عن ابن الحنفيّة (2).
ونقله في « ينابيع المودّة » عن الثعلبي ، وأبي نعيم ، عن ابن الحنفيّة (3).
ونقل أيضا عن الثعلبي ، وابن المغازلي ، عن عبد اللّه بن عطاء ، قال : « كنت مع محمّد الباقر في المسجد فرأيت ابن عبد اللّه بن سلّام ...
فقلت : هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟
قال : إنّما ذلك عليّ بن أبي طالب علیه السلام » (4).
ثمّ ذكر في « الينابيع » أنّه روي أيضا عن أبي سعيد الخدري ، والإمام موسى بن جعفر علیه السلام ، وزيد بن عليّ ، وإسماعيل السّدّي ، أنّهم قالوا : هو عليّ بن أبي طالب (5).
.. إلى غير ذلك ممّا في « الينابيع » (6).
ص: 117
ويؤيّده الأخبار الكثيرة الآتية في الآية التاسعة والثلاثين ، الواردة في تفسير الشاهد بقوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (1) ؛ إذ فسّرته بعليّ (2) ، فإنّها تؤيّد أن يكون الذي عنده علم الكتاب ، المجعول شهيدا مع اللّه تعالى في قوله عزّ وجلّ : ( كَفى بِاللّهِ شَهِيداً ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (3) ، هو أمير المؤمنين.
ويشهد لإرادة عليّ علیه السلام في الآية ، التعبير عنه ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) ، الدالّ على إحاطة علمه بما في الكتاب - أعني القرآن - كما هو المنصرف ؛ إذ لا يحيط به علما غير قرينه الذي أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالتمسّك به معه.
كما يشهد لعدم إرادة ابن سلّام ، ما في « الدرّ المنثور » ، عن سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم ، أنّهم أخرجوا عن سعيد بن جبير ، أنّه سئل عن قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) أهو عبد اللّه ابن سلّام؟
قال : وكيف؟! وهذه السورة مكّيّة!! (4).
وفي « الدرّ المنثور » أيضا : عن ابن المنذر ، أنّه أخرج عن الشعبي ، قال : ما نزل في عبد اللّه بن سلّام شيء من القرآن (5).
ص: 118
وأمّا ما حكاه من قول بعضهم : إنّ المراد به هو اللّه سبحانه (1) ، فغير متّجه ؛ لأنّ ظاهر العطف التعدّد ، مع أنّه يبعد التعبير عن اللّه سبحانه ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) ، ولا سيّما مع عطفه على لفظ الجلالة ، فإنّه لا يحسن أو لا يصحّ عطف الصفة على الموصوف.
ولا إشكال بدلالة الآية الكريمة على إمامة أمير المؤمنين ؛ لاقتضائها فضله الظاهر على غيره ، وعصمته ؛ لجعل اللّه سبحانه شهادته كافية في ثبوت نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، من حيث ظهور فضله ومعرفته وفهمه وكماله وعصمته ، واجتنابه الكذب والنقائص ، حتّى عدّت شهادته بقرن (2) شهادة اللّه تعالى ، فلا بدّ أن يكون هو الإمام ، ولا سيّما أنّ عنده علم الكتاب.
ص: 119
قال المصنّف في « منهاج الكرامة » : روى أبو نعيم مرفوعا إلى ابن عبّاس ، قال : أوّل من يكسى من حلل الجنّة إبراهيم بخلّته ، ومحمّد ؛ لأنّه صفوة اللّه ، ثمّ عليّ ، يزفّ بينهما إلى الجنان.
ثمّ قرأ ابن عبّاس : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قال : عليّ وأصحابه (1).
وحكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه عن ابن عبّاس ، وحكى أيضا عن العزّ الحنبلي نزول الآية بعليّ وأصحابه (2).
فالمراد ب ( الَّذِينَ آمَنُوا ) فيها : عليّ وأصحابه ؛ والمراد بأصحابه : أتباعه - كما هو المنصرف - ؛ ولذا ذكر باسمه الشريف ، وهم بالصحبة ، فلا يدخل فيهم الخلفاء الثلاثة ؛ لأنّهم - على ما يزعم القوم - أئمّة لعليّ ، ومتبوعون له ، فلا تشملهم الآية!
فيتعيّن عليّ للفضل والإمامة ؛ إذ لا أقلّ من دلالة الرواية على أنّه رأس المؤمنين ورئيسهم.
وأمّا قوله : « ظاهر الآية يدلّ على أنّها في جماعة ... » إلى آخره ..
فصحيح ؛ وهو صريح الرواية ، فتشمل الآية النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّا علیه السلام وأصحابه ؛ وهم شيعته من خواصّ الصحابة وغيرهم.
ص: 122
ولا ينافي صحّة رواية أبي نعيم تصريحها بزفاف عليّ بين الرسولين الكريمين ، فإنّه لا يقتضي فضله على نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، بل هو لخصوصية ، كتقديم إبراهيم والنبيّ صلی اللّه علیه و آله معا بالكسوة ، لخصوصية الخلّة ، لا للمساواة بينهما.
ويعرف ذلك من جعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الحديث صفوة اللّه ، فإنّه ينفي احتمال مساواته لإبراهيم ، وفضل عليّ علیه السلام على النبيّ (1).
* * *
ص: 123
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
التاسعة والعشرون : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (2).
روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « هم أنت يا عليّ وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك راضين مرضيّين ، ويأتي أعداؤك غضابا مقمحين (3) » (4).
ص: 124
نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » نحو الحديث المذكور ، عن ابن عديّ ، عن ابن عبّاس (1).
ونقل مثله أيضا ابن حجر في « الصواعق » ، في الآية الحادية عشرة ، وهي الآية المذكورة عن الحافظ جمال الدين الزرندي ، عن ابن عبّاس أيضا (2).
كما نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس (3).
ونقل السيوطي أيضا ، عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن عليّ علیه السلام ، قال : « قال لي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، أنت وشيعتك موعدي وموعدكم الحوض ، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين » (4).
ونقل السيوطي أيضا ، عن ابن عساكر ، أنّه أخرج عن جابر بن عبد اللّه ، قال : « كنّا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأقبل عليّ علیه السلام ، فقال النبيّ : « والذي نفسي بيده! إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » ، ونزلت : ( إِنَّ
ص: 126
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا أقبل عليّ علیه السلام قالوا : جاء خير البريّة » (1).
ونقل أيضا ، عن ابن عديّ ، وابن عساكر ، عن أبي سعيد مرفوعا : « عليّ خير البريّة » (2).
.. إلى غير ذلك من الأخبار المعتبرة ، ولو لاعتضاد بعضها ببعض ، مع موافقتها لأخبارنا الدالّة على نزول الآية بعليّ وشيعته خاصّة (3).
فقول الفضل : « بل الظاهر العموم » .. لا وجه له ، ولا سيّما أنّ غير عليّ وشيعته هم مخالفوه وأعداؤه ، وهم شرّ البريّة ؛ لما استفاض من أنّ من عاداه عادى اللّه ورسوله.
ومن الغريب دعوى ابن حجر : « أنّ السنّة شيعته » (4)! فإنّها - مع مخالفتها لما يتبادر من لفظ الشيعة - مكابرة ؛ لما أكنّته ضمائرهم من الميل عنه.
وكيف يكونون من شيعته ، وهم لا يروون نصّا في إمامته ولا منقبة توجب أفضليّته ، إلّا واحتالوا لردّها بكلّ حيلة وتشكيك ، وإن خالفوا العدل والإنصاف؟!
ص: 127
واستشهد لدعوى أنّهم شيعته بأخبارهم ، وهو كما ترى!
على أنّه لا ريب أنّ المراد بشيعة عليّ علیه السلام : أتباعه ..
فإن كان الخلفاء الثلاثة أتباعه ، تمّ مطلوبنا.
وإن لم يكونوا أتباعه ، بل أئمّته - كما يزعم القوم - ، فلا يكونون شيعته ، ومن خير البريّة!
فلا يعقل أن يكونوا أئمّته! فالآية الشريفة تدلّ على إمامته أحسن دلالة!
هذا ، وقد أعرب ابن تيميّة هنا عمّا في ضميره ، وسوّد وجه صحيفتين (1) ، يغني في ردّ ما قد يحتاج منهما إلى الردّ ما ذكرناه ، ويكفي في فساد الباقي مجرّد النظر فيه!
* * *
ص: 128
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ؛ وإن صحّ دلّ على فضيلته ، وهي مسلّمة ، ولا تثبت النصّ.
* * *
ص: 130
نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » عن الثعلبي (1).
ونقله غيره عن ابن مردويه (2).
وقال في « ينابيع المودّة » : أبو نعيم الحافظ ، وابن المغازلي ، أخرجا بسنديهما عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : « نزلت هذه الآية في الخمسة أهل العبا »
ثمّ قال - أي ابن عبّاس - : « المراد من الماء : نور النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي كان قبل خلق الخلق ، ثمّ أودعه في صلب آدم ، ثمّ نقله من صلب إلى صلب إلى أن وصل إلى صلب عبد المطّلب ، فصار جزءين : جزء إلى صلب عبد اللّه ، فولد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وجزء إلى صلب أبي طالب ، فولد عليّا ، ثمّ ألّف (3) النكاح ، فزوّج عليّا بفاطمة ، فولد حسنا وحسينا ».
أيضا : الثعلبي ، وموفّق بن أحمد الخوارزمي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس.
أيضا : ابن مسعود ، وجابر ، والبراء ، وأنس ، وأمّ سلمة ، قالوا : « نزلت في الخمسة أهل العبا ».
انتهى ما في « الينابيع » (4).
ص: 131
ويؤيّد هذه الأخبار ما سيأتي في أوّل الأخبار من السنّة ، من أنّ نور محمّد وعليّ خلق قبل خلق آدم ، ثمّ أودع في صلبه (1).
وعلى ذلك : فحاصل معنى الآية الكريمة ، أنّه سبحانه خلق بشرا من الماء ، أي ما صار ماء ، وكان نورا مودعا في صلب آدم ، فجعل البشر نسبا ، وهو : محمّد ؛ لأنّه نسب لفاطمة والحسنين ، وجعله صهرا ، وهو : عليّ.
وحينئذ ، فدلالة الآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين ظاهرة ؛ لأنّ اتّحاد نورهما الذي سبق آدم دليل على امتياز عليّ بالفضل حتّى على الأنبياء ، ومن كان كذلك يتعيّن للإمامة ، لا سيّما وفي بعض أخبار النور الآتية أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « فأخرجني نبيّا ، وأخرج عليّا وصيّا » (2).
وفي بعضها : « ففيّ النبوّة ، وفي عليّ الإمامة » (3).
ولو سلّم أنّ المراد بالماء في الآية غير النور ، فلا ريب أنّ جعل الآية الشريفة محمّدا وعليّا خاصّة بشرا واحدا ، بأيّ جهة من جهات الوحدة ، منقسما في الخارج إلى نسب وصهر ، دليل على فضل عليّ ، وأنّه نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونظيره ، فيكون أفضل الخلق وأحقّهم بالإمامة (4).
ص: 132
وقال الفضل (1) :
نزلت (2) قوله تعالى : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) في الثلاثة الّذين تخلّفوا في غزوة تبوك (3) ، وأنّهم صدقوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأنجاهم اللّه ، وكذب المنافقون فهلكوا ، فأنزل اللّه تعالى : ( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، وخاطب المؤمنين حتّى لا يهلكوا بالكذب كالمنافقين ؛ وإن صحّ دلّ على الفضيلة لا على النصّ ، كسائر أخواته.
* * *
ص: 134
حكى المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ما ذكره هنا في شأن نزول الآيتين ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس (1).
ونقل السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، قال : مع عليّ بن أبي طالب (2).
ونقل مثله عن ابن عساكر ، بسنده إلى أبي جعفر الباقر علیه السلام (3)
والمراد بالكون معه ؛ ليس هو الحضور الخارجي بالضرورة ؛ بل المراد اتّباعه في كلّ ما يراد به الاتّباع والعمل شرعا ؛ لاقتضاء الإطلاق له ، لا سيّما مع عطفه على الأمر بالتقوى ، قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .
فتدلّ الآية على عصمة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لوصفها له بالصدق - أي في الأعمال والأقوال - كما يقتضيه الإطلاق ، ولقبح الأمر باتّباع من لا تؤمن عليه مخالفة أحكام اللّه عمدا أو خطأ ، وللزوم اجتماع الضدّين : وجوب الاتّباع (4) وحرمته لو فعل المعصية (5).
ص: 135
فإذا أفادت الآية عصمة أمير المؤمنين علیه السلام ، ثبتت إمامته ؛ لأنّ العصمة شرط الإمامة - كما سبق (1) - ، ولا عصمة لغيره من الصحابة بالإجماع ، مع أنّ الأمر باتّباع الأمّة لشخص على الإطلاق ، ظاهر في إمامته لهم.
وممّا ذكرنا يعلم بطلان حمل ( الصَّادِقِينَ ) على مطلق المهاجرين والأنصار ، أو خصوص الثلاثة الّذين تخلّفوا في غزوة تبوك ، كما ذهب إلى كلّ منهما بعض المفسّرين (2) ؛ وذلك لعدم عصمة هؤلاء.
هذا ، والظاهر أنّ المخاطب بالاتّباع في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (3) ، هو جميع المؤمنين بكلّ زمان ، لا خصوص الصحابة ؛ فيدلّ على وجود معصوم واجب الاتّباع بكلّ وقت ، فكان هو محمّدا صلی اللّه علیه و آله في وقته ، وعليّا في وقته ، والأئمّة الطاهرين من آلهما بعدهما ، كما يقتضيه - أيضا - كون ( الصَّادِقِينَ ) صيغة جمع.
وإنّما خصّت الروايات السابقة عليّا علیه السلام ؛ للفراغ عن وجوب اتّباع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولأنّ عليّا علیه السلام أوّل الأئمّة وأصلهم ، فوجوب اتّباعهم فرع وجوب اتّباعه.
ويشهد لذلك ما في « ينابيع المودّة » ، عن موفّق بن أحمد بسنده ، عن ابن عبّاس ، قال : « الصادقون [ في هذه الآية ] : محمّد وأهل بيته » (4).
وفيها نحوه ، عن أبي نعيم ، عن الصادق علیه السلام (5).
ص: 136
وفيها ، عن أبي نعيم وصاحب « المناقب » ، عن الباقر والرضا علیهماالسلام ، قالا : « الصادقون هم الأئمّة من أهل البيت علیهم السلام » (1)
وقد تنبّه الرازي لدلالة الآية الكريمة على وجود المعصوم بكلّ وقت ، إلّا أنّه زعم أنّ المعصوم هو مجموع الأمّة (2) - أي مجموع علمائها وأهل الحلّ والعقد - ، فتدلّ الآية على حجّيّة الإجماع.
وفيه - مع عدم تيسّر تحصيل الإجماع في كلّ وقت ، أو امتناعه فلا يوجد حتّى يأمر باتّباعه - :
إن المجموع بما هو مجموع لا يوصف بالصادق ؛ ولو سلّم ، فالمجموع من حيث هو مجموع ليس ممّن يعقل ، فلا يجمع وصفه جمع المذكّر السالم ؛ ولو سلّم جوازه - ولو مسامحة ، بلحاظ أنّ أجزاء المجموع ، وهي الأفراد ، ممّن يعقل - فلا ريب أنّ إرادة المجموعات خلاف الظاهر ؛ فإنّ المنصرف من ( الصَّادِقِينَ ) هو الأفراد لا المجموعات ، فتدلّ الآية على وجوب الكون مع الأفراد الصادقين المعصومين واتّباعهم في كلّ وقت ، وهو المطلوب.
ونحن متّبعون لإمام زماننا ، بالإقرار بإمامته ، والأخذ بأحكامه ، وإن لم نجتمع معه ونسعد بطلعته.
وقد أشكل الرازي على إرادة أئمّتنا من ( الصَّادِقِينَ ) بقوله : « إنّه تعالى أوجب على كلّ واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين ، وإنّما يمكنه ذلك لو كان عالما بأنّ ذلك الصادق من هو ، لا الجاهل بأنّه من هو ، فلو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق ، وأنّه لا يجوز ؛
ص: 137
لأنّا (1) لا نعلم إنسانا معيّنا موصوفا بوصف العصمة » (2).
وفيه : إنّه يمكن معرفته ، فيجب البحث عنه مقدّمة لاتّباعه ، وقد أوضح اللّه سبحانه السبيل إلى معرفته بقيام الأدلّة الكثيرة الواضحة ، ولم يجهلها إلّا معاند ، كما عرفت (3) ويأتي.
ثمّ إنّ ابن تيميّة قد سرد هنا من الخرافات والأغاليط ما يقبح بكلّ أحد نقله والتعرّض لردّه ، ولا أدري كيف يفوه بها وهو قد صوّر نفسه بصورة الفضلاء ، وقرن نفسه بالعلماء (4)؟!
واعلم أنّ الفضل لم يتعرّض للجواب عن قوله تعالى : ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (5) ، ولا يبعد أنّه اكتفى عنه بما ذكره في أخواته من أنّه إن صحّ لا يدلّ على النصّ ..
وفيه : إنّ الآية لمّا ساوت بين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّ في الأمر باتّباعهما ، فقد دلّت على أنّ عليّا بمنزلة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في وجوب اتّباعه ، فيكون أفضل من غيره ، ويكون هو الإمام.
على أنّ الآية لمّا عبّرت عن وجوب اتّباعهما بإيجاب الركوع مع الراكعين ، فقد دلّت على أنّهما أسبق من غيرهما في العبادة لله تعالى ، كما تقتضيه التبعيّة ، وصرّحت به الرواية ..
فإنّها - كما ذكرها المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » - هكذا من طريق أبي نعيم ، عن ابن عبّاس : « أنّها نزلت في رسول اللّه وعليّ خاصّة ، وهما
ص: 138
أوّل من صلّى وركع » (1).
ومن المعلوم أنّ السبق إلى العبادة والطاعة فرع الفضل ، والفضل يستدعي الإمامة.
* * *
ص: 139
وقال الفضل (1) :
صحّ الرواية عندنا أنّ أمير المؤمنين علیه السلام بعد وقعة الجمل كان يقول : وأنا أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير كما يقول اللّه تعالى : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (2) (3).
هكذا صحّ ، وإن صحّ ما رواه فهو من الفضائل المسلّمة ، ولا دليل به على النصّ.
* * *
ص: 141
ما صحّ عندهم سقيم عندنا وعند كلّ عاقل ، وإلّا لكان التكليف لغوا والدين لعبا!
أترى أنّ أحدا يخرج على إمام زمانه الذي يقول فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حربه حربي » (1)، وينهب بيت مال المسلمين ، ويلفّ الألوف بالألوف ، ويقتل ما لا يحصى منهم ، ثمّ يقتل في ميدان الحرب أو خارجه على عناده ، من دون إصلاح لما أفسد (2) ، ومع هذا يكون عند اللّه تعالى قرينا لذلك الإمام المصلح الأعظم؟! ما أظنّ عاقلا يرتضيه!
ثمّ إنّ الحديث الذي ذكره المصنّف هنا ، قد نقله في « منهاج الكرامة » مفصّلا(3).
ونقله سبط ابن الجوزي ، عن أحمد في « الفضائل » (4).
وكذا صاحب « كنز العمّال » (5).
ص: 142
ولنذكر منه ما تتمّ به الفائدة :
قال المصنّف رحمه اللّه : من مسند أحمد ، بإسناده إلى زيد بن [ أبي ] أوفى ، قال : دخلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مسجده - وذكر قصّة مؤاخاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... إلى أن قال : - فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :
« والذي بعثني بالحقّ! ما أخّرتك إلّا لنفسي ، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي ... وأنت معي في قصري في الجنّة ، ومع ابنتي فاطمة ، فأنت أخي ورفيقي ؛ ثمّ تلا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) »(1).
وزعم ابن تيميّة أنّه من زيادات القطيعي لا من نفس المسند ، وذكر أنّ للحديث تتمّة ، وهي : أنّ عليّا علیه السلام قال عند قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « وأنت أخي ووارثي » : وما أرث منك يا رسول اللّه؟
قال : ما ورّث الأنبياء من قبلي.
قال : وما ورّث الأنبياء من قبلك؟
قال : كتاب اللّه وسنّة نبيّهم (2).
وذكر السبط هذه التتمّة أيضا (3).
وكذا صاحب « كنز العمّال » (4).
وقد أطال ابن تيميّة القول هنا كعادته ، وذكر ما لا يحتجّ به عاقل
ص: 143
على خصمه ، وأدّى به النصب إلى إنكار مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام (1) ، مع أنّها من أصحّ الأخبار ، كما ستعرف ..
ولا يستحقّ أن يذكر من كلامه شيء إلّا إنكار صحّة الحديث لضعف سنده ، وقد عرفت جوابه مرارا في المقدّمة وبعدها (2).
على أنّ السبط قد وثّق رجال ما رواه أحمد في « الفضائل » ، وقال :
« هو من غير رواية عبد المؤمن ، والضعيف ما رواه عبد المؤمن » (3).
وسيأتي إنّ شاء اللّه تعالى في الآية الخامسة والسبعين ما يؤيّد هذا الحديث (4) ، وهو دالّ على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجوه ، والآية تدلّ عليها من بعضها :
الأوّل : مؤاخاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله له ؛ فإنّها تدلّ على فضله على سائر الصحابة بمناسبته للنبيّ دونهم ؛ والأفضل هو الإمام.
الثاني : قوله صلی اللّه علیه و آله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه
ص: 144
لا نبيّ بعدي » ؛ فإنّه أوضح دليل على إمامته ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.
الثالث : إنّه ورث منه ميراث الأنبياء لخلفائهم وأوصيائهم من الكتاب والسنّة.
الرابع : إنّه صلی اللّه علیه و آله أخبر أنّهما بقصر واحد ؛ وهو دليل الفضل والامتياز على الأمّة.
الخامس : إنّه صلی اللّه علیه و آله أخبر بأنّه من أهل الجنّة ، وبيّن نزول الآية فيهم.
ومن الواضح أنّه لا يصحّ إخبار شخص بعينه بأنّه من أهل الجنّة إلّا مع العلم بعصمته ، أو أنّ له ملكة تحجزه عن الذنوب إعظاما لله تعالى ، حتّى مع أمانه من ناره ، وإن أذنب نادرا - خطأ أو عمدا - مع التوبة ، وإلّا كان إخباره بأنّه من أهل الجنّة نقضا للغرض ، وهو تجنّب المحرّمات ، وكان تشجيعا له على الحرام ؛ لأنّه إذا كسب الأمان من العقاب لم يحجزه عن المعصية حاجز.
وبهذا يعلم كذب حديث تبشير العشرة بالجنّة الذي رواه القوم (1) ؛ لامتناع أن يبشّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجنّة من لا ملكة له تردعه عن الخروج على إمام زمانه ، وقتل النفوس المحترمة ، وغصب الأموال المحرّمة.
على أنّ راوي حديث تبشير العشرة هو منهم ، وهو موضع التهمة
ص: 145
عندنا ، وفوق ذلك ضعف رواته ، ولذا لم يروه البخاري ومسلم.
وقال البخاري : لم يصحّ ؛ كما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال » بترجمة عبد اللّه بن ظالم (1).
وقال العقيلي أيضا : لم يصحّ ؛ كما حكاه عنه ابن حجر في « تهذيب التهذيب » بترجمة عبد اللّه أيضا (2).
مضافا إلى القرائن الدالّة على كذبه ، كتحريض بعض العشرة على عثمان يوم الدار حتّى قتل (3) ، فإنّه لا يجتمع مع كون الجميع من أهل
ص: 146
الجنّة ، مستحقّين للبشارة بها على لسان الرسول صلی اللّه علیه و آله ..
وكاتّفاق جلّ المهاجرين والأنصار على خلع عثمان ، والحكم بأنّه أتى من المحرّمات ما يستحقّ به العزل ، فإنّه يمتنع مع ما زعمه أهل السنّة من عدالة الصحابة جميعا أن يفعلوا ذلك بمن بشّره النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجنّة ..
وكعدم احتجاج عثمان به يوم الدار ..
.. إلى غير ذلك من القرائن على كذبه.
وكيف كان! فإذا كانت بشارة الآية والرواية لأمير المؤمنين علیه السلام دليلا على عصمته أو ثبوت تلك الملكة له ، كان هو الأفضل والإمام ؛ لأنّ أوّل الخلفاء الثلاثة - وهو أعظمهم - لم يكن كذلك ، فضلا عن صاحبيه ؛ لأنّه كما قال في خطبته عن نفسه : « أطيعوني ما أطعت اللّه ورسوله ، فإذا عصيت اللّه ورسوله فلا طاعة لي عليكم ، ألا وإنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا أتاني فاجتنبوني لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم » (1).
ولا أدري كيف يبشّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجنّة من كان كذلك ، ويؤمنه من النار حتّى يكون ذلك سببا لأن تهون عليه المعصية وظلم الأمّة؟!
والكلام في عمر وعثمان أعظم!
* * *
ص: 147
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الثالثة والثلاثون : قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (2).
روى الجمهور ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو يعلم الناس متى سمّي عليّ ( أمير المؤمنين ) ما أنكروا فضله! سمّي ( أمير المؤمنين ) وآدم بين الروح والجسد ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) .
قالت الملائكة : بلى.
فقال تعالى : أنا ربّكم ، ومحمّد نبيّكم ، وعليّ أميركم » (3).
* * *
ص: 148
وقال الفضل (1) :
هذا من تفاسير الشيعة ، وليس من تفاسير المفسّرين ، والعجب أنّه لم يتابع المعتزلة في هذه المسألة ؛ فإنّهم ينكرون إخراج الذرّ من ظهر آدم ، ويقولون : هذا تمثيل وتخييل لا حقيقة له (2) ؛ لأنّه ينافي قواعدهم في نفي القضاء والقدر السابق.
وإن صحّ النقل ، فيدلّ على أنّ عليّا أمير المؤمنين ، وهذا مسلّم ؛ لأنّه كان من الخلفاء ، ولم يلزم منه نصّ على أنّه أمير المؤمنين بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى يثبت به مطلوبه.
* * *
ص: 149
إنّما نسبه المصنّف رحمه اللّه إلى رواية الجمهور ، لا إلى تفسيرهم حتّى ينفيه المعترض.
وقد ذكر المصنّف راويه في « منهاج الكرامة » ، وهو الديلمي في الفردوس (1) ، وهو ممّن أقرّ له ابن تيميّة بالعلم والدين ، ولم ينكر وجود الحديث في كتابه ، وإنّما ناقش بأمور أخر ، منها المطالبة بصحّة الحديث (2) ، وقد مرّ جوابه مرارا (3).
ومنها ما ستعرف جوابه في طيّ الكلام الآتي.
وينبغي قبل بيان المطلوب التعرّض للخلاف في أمر الذرّ ، فنقول :
ذهب الأشاعرة إلى وجوده وإخراجه من ظهر آدم علیه السلام وأخذ الميثاق عليه (4).
وأنكره الإماميّة والمعتزلة (5).
واستدلّ الأشاعرة برواية مسلم [ بن يسار الجهني ] ، أنّ عمر سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سئل عنها ، فقال : « إنّ اللّه
ص: 150
سبحانه خلق آدم ، ثمّ مسح ظهره فاستخرج منه ذرّيّة ، فقال : خلقت هؤلاء للجنّة ، وبعمل أهل الجنّة يعملون ؛ ثمّ مسح ظهره فاستخرج منه ذرّيّة ، فقال : خلق هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون » (1).
وبما عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمّا خلق اللّه آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كلّ نسمة من ذرّيّته إلى يوم القيامة » (2).
وبما عن مقاتل : إنّ اللّه تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى ، فخرج منه ذرّيّة بيضاء كهيئة الذرّ فتحرّك (3) ، ثمّ مسح صفحة ظهره اليسرى ، فخرج منه ذرّية سوداء كهيئة الذرّ ، فقال : يا آدم! هذه ذرّيّتك ؛ ثمّ قال : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) .
إلى أن قال : وقال تعالى في من نقض العهد الأوّل : ( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) (4) (5).
واستدلّ الإماميّة والمعتزلة على بطلانه بمخالفته للآية ؛ لأنّه تعالى يقول : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (6) ،
ص: 151
ولم يقل : أخذ من آدم من ظهره ذرّيّته (1) ..
وبمخالفته لظواهر آيات أخر ..
كقوله تعالى : ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) (2) (3) ؛ فإنّه لو صحّ أخذ الميثاق على الذرّ لكانت الموتات ثلاثا ؛ لأنّ أخذ الميثاق عليه يتوقّف على حياته ، ولا ريب بموته بعد ذلك ؛ إذ لا يمكن القول باستمرار حياته إلى هذا العالم الحاضر ؛ لشهادة الوجدان بعدم الحياة للنطفة والعلقة والمضغة ، فهذه موتة ..
والثانية : موتة الدنيا ، وقبلها حياة ..
والثالثة : موتة القبر ، وبعدها حياة.
وكقوله تعالى : ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) (4) ؛ فإنّه ظاهر في خلق بني آدم من الماء الحادث ، وإنّه أصلهم ، لا الذرّ (5) ، كما إنّ أصل آدم هو الطين ، الذي هو مبدأ خلق الإنسان (6).
واستدلّوا أيضا بمخالفته للعقل من وجوه :
منها : إنّ أخذ الميثاق إنّما يصحّ من العاقل ، ولو كان الذرّ ممّن يعقل لما نسيه الناس كلّهم ، وبهذا يبطل القول بالتناسخ ..
ص: 152
ودعوى الفرق - بأنّ التناسخ مبنيّ على دعوى نسيان ما مارسته كثيرا ، وبقيت فيه دهرا طويلا ، وهو محال جزما ، بخلاف أخذ الميثاق ، فإنّه لم يطل وقته ، ولا يمتنع عادة في مثله أن يتعلّق النسيان - باطلة ؛ لأنّ نسيان الناس كلّهم ما وقع منهم ، وإنّ لم يطل وقته أيضا محال عادة (1).
ومنها : إنّ أخذ الميثاق على الذرّ إن كان ليصير حجّة عليهم في ذلك الوقت ، فباطل ؛ لأنّه ليس وقت تكليف بالإجماع ، وإن كان ليصير عليهم حجّة بعد البلوغ ، أو يوم القيامة ، فالمفروض عدم تذكّر أحد له (2).
وأجاب الرازي : بأنّه يمكن أن يكون أخذ الميثاق ليميّز الملائكة في ذلك الوقت السعيد من الشقي (3).
ويردّه : إنّ الآية قالت : ( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (4) ، وهو يدلّ على أنّ الفائدة في أخذ الميثاق عليهم ، هو كونه حجّة عليهم ، لا تمييز الملائكة بين السعيد والشقي.
على أنّ التمييز إن كان بنقض العهد وحفظه ، فهما في هذه الحياة الفعلية لا حين أخذ الميثاق ، وإن كان بالبياض والسواد ، كان أخذ الميثاق لغوا ، فيبطل جعل التمييز فائدة لأخذ الميثاق.
اللّهمّ إلّا أن يقال : إنّ اللّه سبحانه كما أرى الملائكة أخذ الميثاق على الناس في عالم الذرّ ، يمكن أن يكون أراهم أيضا كيف ينقضون العهد أو يحفظونه في الحياة الدنيوية ، فيكون التمييز فائدة لأخذ الميثاق بما يقترن
ص: 153
به من إراءة نقض العهد وحفظه ، ولكن يشكل بإغناء البياض والسواد عنه في التمييز مع دلالة الآية ، كما عرفت.
على أنّ الفائدة في أخذ الميثاق كونه حجّة عليهم لا تمييز الملائكة ، فلا بدّ أن يكون معنى الآية : إنّ اللّه عزّ وجلّ أخرج ذرّيّة بني آدم من ظهورهم ؛ لكونهم نطفة في أصلابهم ، وأشهدهم على أنفسهم ، فقال لهم - بما أراهم من عجائب الصنع في أنفسهم - : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟ فقالوا : ( بَلى شَهِدْنا ) ، بلسان حالهم وحاجتهم إلى مدبّر لهم يخرج النطفة ، ثمّ يجعلها علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ بشرا سويّا (1).
ولهذا نظائر في الكتاب العزيز وغيره ..
قال تعالى : ( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (2) ؛ فإنّ قولهما : ( أَتَيْنا طائِعِينَ ) إنّما هو بلسان الحال.
وقال الشاعر [ من الرجز ] :
امتلأ الحوض وقال : قطني (3) *** مهلا رويدا قد ملأت بطني (4)
فإذا عرفت هذا ، فنقول :
استدلال المصنّف رحمه اللّه - بما ذكره - إمّا مبنيّ على إلزام الأشاعرة
ص: 154
بمقتضى مذهبهم ، من صحّة أخذ الميثاق على الذرّ ووقوعه ، فإذا دلّت رواية « الفردوس » (1) على أخذ الميثاق بإمرة عليّ علیه السلام ، كان لازما لهم وإن لم تذكره الآية الشريفة ؛ لجواز الاكتفاء عن ذكره بذكر أخذ الميثاق بالربوبيّة ؛ لأنّ الإمامة من توابع الربوبيّة ولوازمها لتكون بالإمام لله الحجّة على الناس.
لكن يبقى عليه سؤال ؛ إنّ الرواية تقول : « وآدم بين الروح والجسد » (2) ، وفي هذه الحال لا وجود للذرّ ، ولا يقول الأشاعرة بأخذ الميثاق فيه ، فإنّهم إنّما يقولون به بعد تعلّق الروح بآدم.
وقد يجاب عنه بأنّه مجاز في النسبة ، للمبالغة في تقدّم أخذ الميثاق.
وإمّا مبنيّ على ما يقوله الإماميّة من الإشهاد بلسان حال إبداء الصنع العجيب ، والشهادة بلسان حال الحاجة ، فإنّ البشر كما يحتاج إلى خالق ، يحتاج إلى حجّة من رسول أو إمام (3).
لكن يبقى عليه أيضا سؤال ؛ إنّ هذا إنّما يقتضي وجود حجّة بلا تعيين ، فمن أين يتعيّن محمّد وعليّ كما ذكرته الرواية؟!
وقد يجاب عنه بأنّ التعيين إنّما هو للتنصيص من اللّه تعالى الذي أظهره للملائكة.
وإنّما أضاف النبوّة والإمرة إلى ضمير خطاب الملائكة ، فقال :
ص: 155
« نبيّكم » و« أميركم » ؛ لأنّه يجب عليهم الإقرار بنبوّة محمّد وإمرة عليّ ، فأضاف إليهم بهذا اللحاظ ؛ أو لأنّ المراد بالضمير الأعمّ من الملائكة ، أمّة محمّد ، فغلبت الملائكة بجهة الخطاب ، والأمّة بجهة أنّ النبوّة والإمرة لهم.
ويبقى أيضا سؤال ؛ إنّ الرواية تريد تطبيق ما ذكرته على الآية ، وهو غير منطبق ؛ لأنّ الآية - بناء على تفسير الإمامية - إنّما ذكرت شهادة الذرّيّة بلسان الحال المتأخّر ، والرواية ذكرت شهادة الملائكة في القدم.
وقد يجاب عنه بجواز وقوع الشهادة منهما ، فالذرّيّة بلسان الحال المتأخّر ، والملائكة بلسان المقال المتقدّم ، فإنّهم يعلمون بإخراج ذرّيّة بني آدم من ظهورهم ، وصيرورتهم أناسيّ ، الدالّين على حاجتهم إلى الخالق ، فشهدوا بالربوبية في القدم.
وكيف كان! فالرواية قاضية بإمرة عليّ علیه السلام حتّى على الخلفاء الثلاثة ؛ لأنّهم ممّن أخذ عليه الميثاق ؛ ولأنّ أخذ الميثاق بإمرته مع نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله دليل على أنّه خليفته بلا فصل ، وإلّا فلا وجه لترك السابقين عليه!
* * *
ص: 156
وقال الفضل (1) :
هذه الآية في سورة التحريم ، وهي نازلة في شأن عائشة وحفصة ، واتّفق المفسّرون أنّ المراد من ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر ؛ لأنّ صدر الآية هكذا : ( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
يعني : إن تظاهر عائشة وحفصة على جنب (3) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من نسائه ، فإنّ ( اللّهِ ) مولاه ، وجِبْرِيلُ ، بأن يخبره عن صنيعهما ، و ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، المراد به : أبواهما (4) ؛ فإنّهما كانا ينصحانهما بترك الأفعال التي تكون للضرّات.
وإن صحّ نزوله في أمير المؤمنين ، فلا شكّ أنّه ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، ولكن لا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
ص: 158
أراد المصنّف رحمه اللّه بإجماع المفسّرين ، عدم اختصاص مفسّري الشيعة به ، وإن كان الموافق لهم بعض خصومهم ، فقد نقل القول به عن مجاهد (1).
وقال ابن تيميّة : « وقيل : هو - أي ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) - عليّ ، حكاه الماوردي » (2).
وقد استفاضت به رواية القوم ، فقد نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن أبي حاتم ، أنّه أخرج عن عليّ علیه السلام ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أنّ ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : عليّ (3).
ونقله أيضا ، عن ابن مردويه ، وابن عساكر ، بسنديهما عن ابن عبّاس (4).
ونقله أيضا ، عن ابن مردويه ، بسنده عن أسماء بنت عميس ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (5).
ونقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن
ص: 159
أسماء (1).
وحكاه محمّد بن طلحة الشافعي (2) في كتابه « مطالب السؤول » ، عن الثعلبي ، عن أسماء ، قالت : لمّا نزل قوله تعالى : ( وَإِنْ تَظاهَرا ... ) (3) الآية ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : ( صالح المؤمنين ) : عليّ علیه السلام (4).
وحكاه في « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم والثعلبي ، عن أسماء أيضا (5).
ونقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن السّدّي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وابن عبّاس (6).
ص: 160
... إلى غير ذلك من أخبارهم (1) ، وهي حجّة عليهم ؛ لكثرتها واعتضاد بعضها ببعض.
ولا يعارضها روايتهم عن ابن عبّاس أنّ ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر ؛ لأنّ الراوي لها هو عبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه ، كما بيّنه في « ميزان الاعتدال » بترجمة عبد الوهّاب (2) ، وقد سبق في المقدّمة بيان حاله وحال أبيه ، فراجع (3) ؛ ولا يمكن أن تعارض هذه الرواية البالغة منتهى الضعف تلك الروايات المستفيضة!
مع أنّ المنصرف من ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) هو الأوحد في الصلاح ، كما يعرف من نظائره ، يقال : شاعر القوم ، وعالمهم ، وشجاعهم ؛ ويراد به أوحدهم في الوصف ، ولا شكّ أن أمير المؤمنين علیه السلام هو الأحقّ بهذا الوصف ؛ لآية التطهير (4) وغيرها.
ولأنّ اللّه سبحانه جعل نصرة ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في قرن نصرته ونصرة جبرئيل.
وبالضرورة أنّ أظهر المؤمنين في نصرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو أمير المؤمنين علیه السلام .
على أنّ استعمال ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) في الاثنين خلاف الظاهر ؛ فإنّ « فاعلا » ليس ك « فعيل » في استعماله في الواحد والأكثر (5).
ص: 161
وبهذا يضعّف ما حكاه السيوطي عن ابن عساكر ، عن مقاتل بن سليمان ، أنّ ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر وعليّ (1).
وقد يستدلّ بقول مقاتل على أنّ المراد ب ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) هو عليّ خاصّة ؛ لما سبق من أنّ مقاتلا من أعداء أمير المؤمنين علیه السلام (2) ، فلا يكون ذكره له - وهو من أعدائه - إلّا لمعلوميّة إرادته ، وليروّج منه إدخال الشيخين ، فإنّه أدفع للتهمة!
فإذا عرفت أنّ المراد ب ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) أوحدهم صلاحا ، وأنّه عليّ علیه السلام ، عرفت أنّه الأحقّ بالإمامة ؛ لأنّها منزلة دينية لا يليق لها إلّا الأصلح الأقوى في النصرة.
وأمّا ما زعمه الفضل من اتّفاق مفسّريهم على أنّ المراد ب ( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أبو بكر وعمر ، فلا يعارض أخبارهم السابقة ، التي هي حجّة عليهم ، وأيّ عبرة بالقول الناشئ عن الهوى ، المتفرّع عن تلك الرواية الضعيفة ، لا سيّما وهو مخالف للّغة؟!
على أنّ دعوى اتّفاقهم كاذبة ؛ لاختلاف مفسّريهم في المراد به ، أهو الصحابة ، أو خيار المؤمنين ، أو الأنبياء ، أو الخلفاء ... إلى غير ذلك من أقوالهم ، كما ذكره الزمخشري والرازي وغيرهما (3)؟!
ص: 162
وأمّا ما احتجّ به الفضل لإرادتهما ، بأنّهما كانا يناصحانهما ، فغير نافع ؛ لأنّ اللّه سبحانه أراد بالآية تهديد المرأتين ، فأيّ دخل للمناصحة به؟!
كما أنّ حمله لنصرة جبرئيل على مجرّد الإخبار ، باطل ؛ فإنّ المراد بها ما فوق الإخبار ؛ لقوله تعالى : ( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) (1)!
فيا لله ما أشدّ إيذائهما لسيّد النبيّين صلی اللّه علیه و آله ، وأعظم مكرهما ، حتّى يحتاج ردعهما إلى التهديد بنصرة اللّه تعالى ، وجبرئيل ، وأمير المؤمنين ، الذي لا تأخذه في نصرة رسول اللّه لومة لائم!! فلو اتّكلتا على حلمهم فكلّ الملائكة بعد ذلك ظهير!
والإنسان لا يأمن عقوبة هذا الجمّ الغفير!
وما أكبر خيانتهما لنبيّه صلی اللّه علیه و آله حتّى ضرب لهما مثلا بامرأتي نوح ولوط (2)!!
فتدبّر واعجب!!
* * *
ص: 163
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
الخامسة والثلاثون : قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (2) .. الآية.
روى الجمهور ، عن أبي سعيد الخدري ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا الناس إلى عليّ علیه السلام في يوم غدير خمّ ، وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمّ (3) ، فدعا عليّا فأخذ بضبعيه (4) ، فرفعهما حتّى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزلت هذه الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) .
فقال رسول اللّه : « اللّه أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ بن أبي طالب من بعدي ».
ص: 164
ثمّ قال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » (1).
* * *
ص: 165
وقال الفضل (1) :
في صحيح البخاري ومسلم : إنّ هذه الآية نزلت في حجّة الوداع ، ليلة عرفة ، حين قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الموقف (2) ؛ ولا خلاف في هذا ، والذي ذكره من مفتريات الشيعة.
وإن صحّ ، فقد ذكرنا قبل هذا أنّ وصيّة غدير خمّ لم تكن نصّا ، بل توصية لأهله وأقاربه ، وتعريف عليّ بين العرب ، وليتّخذوه سيّد بني هاشم (3).
* * *
ص: 166
حكاه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم (1).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : « أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : لمّا نصب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا يوم الغدير فنادى له بالولاية ، هبط جبرئيل بهذه الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (2).
وقال أيضا : « أخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر ، عن أبي هريرة ، قال : لمّا كان يوم غدير خمّ ، وهو يوم ثماني عشر ذي الحجّة ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فأنزل اللّه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (3).
ونقل السيّد السعيد رحمه اللّه مثل ذلك عن ابن جرير الطبري ، وابن عقدة ، في ما جمعاه من طرق حديث الغدير (4).
وعن الثعلبي ، وابن المغازلي ، والحافظ محمّد الجزري الشافعي في رسالته المسمّاة ب « أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب » (5).
فظهر أنّ الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه من روايات القوم ، وهي كثيرة
ص: 167
متعاضدة ، فهي حجّة عليهم.
وأمّا ما نقله الفضل عن الصحيحين ، فهو من رواية عمر ، الذي هو أساس نقض عهد الغدير ، فكيف تعتبر روايته؟!
على أنّ رواية الفضل لا تقوم حجّة على خصمه ، فكيف يحتجّ علينا بهذه الرواية ، التي نعتقد أنّها من موضوعات عمر أو أوليائه؟!
ثمّ إنّ قوله تعالى : ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (1) ، أدلّ دليل على نصب إمام ؛ حيث إنّه أعظم النعم على الأمّة ، وبدونه لن تتمّ النعمة.
وكذا إكمال الدين ؛ فإنّه إنّما يحصل بنصب الإمام ، بناء على أنّ الإمامة من أصول الدين ، كما نقوله ، وسبق دليله (2).
وبالضرورة والإجماع إن كان ثمّة إمام منصوب ، فهو أمير المؤمنين علیه السلام .
وأمّا قوله : « فقد ذكرنا قبل هذا ... » إلى آخره ، فقد عرفت ما فيه (3).
ومن المضحك قوله : « وتعريف عليّ بين العرب » ، فإنّ عليّا علیه السلام أغنى الناس عن التعريف ، شخصا وشأنا ، فإن كان هناك تعريف فليس هو إلّا بالإمامة.
ولا أعرف وجها للتخصيص ببني هاشم في قوله : « وليتّخذوه سيّد بني هاشم » ، إلّا دفع سيادة أمير المؤمنين لخلفائهم ، خلافا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ يقول : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ».
ص: 168
فإنّ « المولى » هو : السيّد الأولى بالتصرّف بالمولّى عليه من نفسه ، كما يشهد له فهم الفضل لسيادته من الحديث ، وإن خصّها ببني هاشم.
والعجب منه حيث لم يقرّ بما أقرّ به إمامه عمر ؛ إذ قال لعليّ علیه السلام :
« بخ بخ! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (1).
وفي رواية قال له الشيخان ذلك ، كما سبق (2).
ثمّ لا أدري أيّ عاقل يتصوّر أن تكون غاية النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ما فعله بغدير خمّ مجرّد جعل عليّ علیه السلام سيّدا لبني هاشم؟!
وما الفائدة في اتّخاذ العرب له سيّدا لبني هاشم؟!
فانظر إلى هؤلاء كيف خالفوا الضرورة لجحد فضل سيّد المسلمين!!
* * *
ص: 169
قال المصنّف - طاب مرقده - (1) :
السادسة والثلاثون : قوله تعالى : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) (2).
روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : « كنت جالسا مع فئة (3) من بني هاشم عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذ انقضّ كوكب ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصيّ من بعدي ».
فقام فئة (4) من بني هاشم فنظروا ، فإذا الكوكب قد انقضّ في منزل عليّ بن أبي طالب ، فقالوا : يا رسول اللّه! لقد غويت في حبّ عليّ.
فأنزل اللّه : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (5) (6).
* * *
ص: 170
وقال الفضل (1) :
آثار الوضع والافتراء على هذا النقل ظاهر لا خفاء به ، فإنّ هذه السورة نزلت في أوائل بعثة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وابن عبّاس لم يولد ، فكيف روى هذا الحديث؟!
ثمّ نسبته الغواية إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حبّ عليّ ، وربط الآية بها ، في غاية الركاكة ، ولا يخفى هذا.
ولو صحّ ، دلّ على وصايته ، والوصاية غير الخلافة.
* * *
ص: 171
نقله المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » ، عن ابن المغازلي الشافعي ، عن ابن عبّاس (1).
ونقله السيّد السعيد رحمه اللّه ، عن أبي حامد الشافعي (2) (3).
وذكر ابن تيميّة روايتين أيضا ، إحداهما عن ابن عبّاس ، والأخرى عن أنس (4) ، زعم أبو الفرج أنّهما من الموضوعات ؛ لضعف سنديهما ، وكون الأولى مرويّة عن ابن عبّاس ، وهي مصرّحة بانقضاض النجم بأثر المعراج ، وابن عبّاس حينئذ ابن سنتين ، فكيف يشهد تلك الحالة - أي حالة الانقضاض - ويرويها؟!
ص: 172
وكون الثانية عن أنس ، وهو إنّما خدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمدينة ، والمعراج قبل الهجرة بسنة (1).
وفيه - مع ما عرفت مرارا من أنّ ضعف سند الرواية عندهم في فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، ولا سيّما المتعلّقة بخلافته ، غير ضائر في صحّتها (2) - :
إنّ الرواية إذا تعدّدت أسانيدها قوي اعتبارها ، ولا سيّما مع موافقتها للأخبار الكثيرة المصرّحة بخلافة عليّ علیه السلام ووصايته.
وأمّا قوله : « إنّ ابن عبّاس كان حين المعراج ابن سنتين » ، فغير مسلّم ..
ذكر في « الاستيعاب » بترجمة ابن عبّاس ، من طريق عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، بسنده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : « توفّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنا ابن خمس عشرة سنة » ..
قال عبد اللّه : قال أبي : وهذا هو الصواب » (3).
فيكون ابن عبّاس حين الهجرة ابن خمس سنين ، كما قال ابن تيميّة : « له نحو خمس سنين » (4) ، وقال به كثير منهم (5).
وحينئذ : فله عند المعراج أربع سنين ، ولا شكّ أنّ مثله في معرفته وذكائه يلتفت إلى مثل ذلك.
ص: 173
وكيف لا؟! وقد روى الروايات الكثيرة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله المتعلّقة بالأمور الخفيّة وهو صبيّ!
فكيف لا يحسن أن يروي وهو ابن أربع سنين ما شاهده من الأمر الغريب ، الذي يلتفت إليه سائر الصبيان؟!
وأمّا أنس ، فيمكن أن يكون جاء بصحبة أحد إلى مكّة قبل الهجرة بسنة فشاهد ما شاهد.
وأمّا ما زعمه الفضل وابن تيميّة ، من أنّ سورة النجم نزلت في أوائل البعثة (1) ، فممنوع ..
نعم ، قيل : إنّها مكّيّة (2) ، وهو لا يقتضي ما زعماه.
وقد ذكر ابن تيميّة هنا ما لا يستحقّ الجواب (3) ، وإن تكلّفنا بردّ بعضه في طيّ الكلام الآتي.
وأمّا ما زعمه الفضل من الركاكة في نسبة الغواية إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وربط الآية بها ..
ففيه : إنّ الكافرين والمنافقين إذا لم ينسبوا الغواية له في حبّ عليّ ، فمن ينسبها إليه؟! وليست هي بأعظم من نسبة الهجر له.
كما إنّ تلك النسبة ليست بغريبة من بني هاشم ، فإنّهم ليسوا بأعظم من أولاد يعقوب الّذين صاروا بزعم القوم أنبياء ، وقد نسبوا إلى أبيهم الضلال في حبّ يوسف علیه السلام .
ص: 174
وأمّا ربط الآية بنسبة الغواية إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هوى عليّ علیه السلام وبيان وصيّته ، فأوضح حالا من تجاهل الفضل.
وأمّا قوله : « إنّ الوصاية غير الخلافة » ، فباطل ؛ لأنّ غير الخلافة لا يحتاج إلى هذا البرهان العظيم ، ولا يوجب نسبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى الغواية.
مع أنّ روايتي ابن تيميّة مصرّحتان بالخلافة ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال في إحداهما : « في دار من وقع هذا النجم فهو خليفتي من بعدي » (1) ، وفي الأخرى : « من انقضّ في داره فهو الخليفة بعدي » (2).
ثمّ إنّ النجم الذي هوى يحتمل أن يكون من نجوم السماء ، أنزله اللّه تعالى بجرم صغير في دار عليّ علیه السلام معجزة ؛ ليجعله آية ظاهرة لإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، كما شقّ القمر وأنزله بجرم صغير إلى الأرض معجزة لرسالة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
ويحتمل أن يكون من غيرها ، فإنّ الآيات الإلهيّة لا يستبعد فيها شيء ممكن ، كما لا يستبعد بيان خلافة أمير المؤمنين علیه السلام بمكّة ، لتتضافر الحجج عليهم ، فإنّه يعلم عاقبة قريش مع عليّ علیه السلام ، كما لا يمنع من بيانها صغر سنّه ؛ ولذا نصّ له بالخلافة في أوّل رسالته عند ما أنزل اللّه سبحانه : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (3) ، وجمع بني هاشم ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
ثمّ إنّه لا ينافي وجه النزول - الذي ذكرته تلك الروايات - ما حكاه
ص: 175
السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن أبي الحمراء ، وحبّة العرني ، قالا :
« أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تسدّ الأبواب التي في المسجد ، فشقّ عليهم ... إلى أن قالا : فقال رجل : ما يألو يرفع ابن عمّه ، [ قال : ] فعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قد شقّ عليهم ، فدعا بالصلاة جامعة ، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر ، فلم يسمع لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطبة قطّ كان أبلغ منها تمجيدا وتوحيدا.
فلمّا فرغ قال : « أيّها الناس! ما أنا سددتها ، ولا أنا فتحتها ، ولا أنا أخرجتكم وأسكنته » ، ثمّ قرأ : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلأَوَحْيٌ يُوحى ) (1) » (2).
وإنّما قلنا : إنّه لا ينافيه ؛ لأنّ هذه الرواية لا تقتضي إلّا استشهاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالآيات ، إذ لم يهو نجم حينئذ ، فلا تنافي نزولها سابقا في أمر خلافة أمير المؤمنين علیه السلام .
* * *
ص: 176
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
السابعة والثلاثون : أقسم اللّه تعالى بخيل جهاده في « غزوة السلسلة » (2) لمّا جاء جماعة من العرب واجتمعوا على وادي الرملة ليبيّتوا (3) النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمدينة ، فقال النبيّ لأصحابه : من لهؤلاء؟
فقام جماعة من أهل الصفّة (4) ، فقالوا : نحن ؛ فولّ علينا من شئت!
فأقرع بينهم ، فخرجت القرعة على ثمانين رجلا منهم ومن غيرهم.
ص: 177
فأمر أبا بكر بأخذ اللواء والمضيّ إلى بني سليم (1) ، وهم ببطن الوادي ، فهزموهم وقتلوا جمعا من المسلمين ، وانهزم أبو بكر.
وعقد لعمر وبعثه ، فهزموه ، فساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول اللّه! فأنفذه ، فهزموه وقتلوا جماعة من أصحابه.
وبقي النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيّاما يدعو عليهم.
ثمّ طلب أمير المؤمنين علیه السلام وبعثه إليهم ، ودعا له وشيّعه إلى مسجد الأحزاب ، وأنفذ معه جماعة ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، وعمرو بن العاص.
فسار الليل وكمن النهار حتّى استقبل الوادي من فمه ، فلم يشكّ عمرو بن العاص أنّه يأخذهم ، فقال لأبي بكر : هذه أرض سباع وذئاب وهي أشدّ علينا من بني سليم ، والمصلحة أن نعلو الوادي ؛ وأراد إفساد الحال وقال : قل ذلك لأمير المؤمنين ؛ فقال له أبو بكر ، فلم يلتفت إليه.
ثمّ قال لعمر ، فلم يجبه أمير المؤمنين علیه السلام .
وكبس على القوم الفجر ، فأخذهم ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ... ) (2) السورة.
واستقبله النبيّ صلی اللّه علیه و آله فنزل أمير المؤمنين ، وقال له النبيّ :
ص: 178
« لو لا أن أشفق أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح ، لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملأ منهم إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك ، اركب فإنّ اللّه ورسوله عنك راضيان » (1).
* * *
ص: 179
وقال الفضل (1) :
قصّة غزوة ذات السلاسل منقولة في الصحاح ، وأنّها تصدّاها عمرو ابن العاص بتأمير رسول اللّه إيّاه ، وكان الفتح بيده (2).
وأمّا ما ذكره ، فليس بمنقول في الصحاح ، بل اشتمل على المناكير ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كيف يجوز أن يدّعي ألوهيّة عليّ؟!
والمفهوم من هذا الخبر أنّ النبيّ كان يريد أن يقول بألوهيّة عليّ ، ولكنّه خاف أن يعبده الناس.
وهذا كلام غلاة الرافضة ، ولا ينبغي نقل هذا لمسلم فضلا عن فاضل (3).
ص: 180
لم يذكر البخاري ولا غيره ممّن اطّلعت على ذكره لهذه الغزوة كالطبري ، وابن الأثير ، أنّ الفتح على يد عمرو (1) ، فلا يبعد أنّه من وضع الفضل.
وأمّا نفيه لوجود ما حكاه المصنّف رحمه اللّه في صحاحهم ، فلا يدلّ على عدم صحّته ؛ إذ ليس كلّ ما لم يكن فيها غير صحيح عندهم.
وأمّا قوله : « والمفهوم من هذا الخبر ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يريد ... » إلى آخره ..
فمنشأه اعوجاج فهمه ، أو تغيير الكلم عن مواضعه ؛ فإنّ صريح الخبر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أشفق من قولهم بإلهيّة عليّ علیه السلام ، التي لا يقولها إلّا مبطل ، كإلهيّة المسيح ..
وهو حقّ ؛ فإنّه صلی اللّه علیه و آله لو ذكر فضله الواقعي ، وأنّ اللّه أقدره على خوارق العادات ، حيث إنّه أظهر مصاديق قوله تعالى في الحديث القدسي : « عبدي أطعني تكن مثلي ، تقول للشيء : كن ، فيكون » (2) ، أو بيّن فضائله الفاضلة ، التي يفوق بها الأنبياء السابقين ، ويمتاز بها عن الأمّة أجمعين ، لخاف صلی اللّه علیه و آله من طوائف من أمّته أن يقولوا بربوبيّته ، كما وقع لكثير منهم لمّا رأوا منه بعض خوارق العادة.
ص: 181
وقد ورد مضمون هذا الخبر في جملة من أخبار القوم فضلا عن أخبارنا (1) ، فقد حكاه في « ينابيع المودّة » عن أحمد في مسنده من طريقين (2) ، وكذا عن موفّق بن أحمد (3).
وقال الشافعي في ما نسب إليه [ من الوافر ] :
لو أنّ المرتضى أبدى محلّه *** لصار الخلق طرّا سجّدا له
كفى في فضل مولانا عليّ *** وقوع الشكّ فيه أنّه اللّه (4)
* * *
ص: 182
وقال الفضل(1) :
جاء هذا في تفاسير أهل السنّة ، والآية نازلة في عليّ ، وهو من فضائله التي لا تحصر.
ص: 184
المراد بالفاسق في الآية : الكافر ، ولو في وقت سابق ، بقرينة المقابلة مع المؤمن.
وإنّما قلنا : ولو في وقت سابق ؛ لأنّ الوليد كان حين نزول الآية مسلما ، فإذا دلّت الآية على عدم استواء الكافر ولو في وقت ما مع المؤمن في جميع أوقاته ، على وجه تفيد قاعدة كلّيّة ، كما هو ظاهرها ، وإن نزلت في مورد خاصّ ، فقد دلّت على عدم استواء الخلفاء الثلاثة مع أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لثبوت الكفر في وقت ، فيتعيّن للإمامة.
فإن قلت : لعلّ المراد بالفاسق ، هو المسلم الذي لم يدخل الإيمان في قلبه ، بقرينة المقابلة مع المؤمن ، وهو الذي دخل الإيمان في قلبه ، قال تعالى : ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (1) ، وحينئذ فلا يقتضي عدم خلافة الثلاثة ؛ لأنّهم ليسوا كالوليد.
قلت : لو سلّم جميع ذلك ، أو قلنا : إنّ الوليد من المنافقين ، يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، كما تدلّ على كفره الآيات اللاحقة لهذه الآية ، حيث أثبتت له التكذيب بعذاب النار ، كما ستسمعها ، فقد لزم عدم صحّة خلافة عثمان ؛ لأنّه قد ولّى هذا الفاسق على المسلمين ، وكان يعظّمه كثيرا - بعد ما خالف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ردّه - ، حتّى كان لا يجلس معه على سريره غيره
ص: 185
وغير العبّاس وأبي سفيان والحكم (1) ، كما رواه القوم (2) ، وستعرفه إنّ شاء اللّه تعالى.
اللّهمّ إلّا أن يدّعى علمه بإيمان الوليد بعد فسقه ، وهو باطل ؛ فإنّ اللّه سبحانه لا يفضح على طول الدهر من يعلم بحسن عاقبته.
بل الآيات صريحة بأنّ الوليد مستمرّ على تكذيبه ، وأنّه من أهل النار ..
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : « نزلت بالمدينة في عليّ ، والوليد بن عقبة ، كان بين الوليد وبين عليّ كلام ..
فقال الوليد : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأردّ منك للكتيبة.
فقال عليّ : أسكت! فإنّك فاسق ؛ فأنزل تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (3) (4) .. الآيات كلّها ويعني بالآيات قوله تعالى :
ص: 186
( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (1).
وإذا بطلت إمامة عثمان ، بطلت إمامة صاحبيه ؛ لأنّها من باب واحد ، واختصّت بعليّ علیه السلام ، لا سيّما وقد بشّر بجنّة المأوى.
وقد سبق في الآية الثانية والثلاثين أنّ بشارة شخص بالجنّة وإعلامه بأنّه من أهلها يستدعي تفضيله وإمامته (2).
* * *
ص: 187
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
التاسعة والثلاثون : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (2).
روى الجمهور ، أنّ ( فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والشاهد : عليّ علیه السلام (3).
* * *
ص: 188
قال الرازي : ذكروا في تفسير « الشاهد » وجوها - إلى أن قال - :
« ثالثها : إنّ المراد : عليّ بن أبي طالب ، والمعنى : أنّه يتلو تلك البيّنة.
وقوله : ( مِنْهُ ) ، أي هذا الشاهد من محمّد وبعض منه ، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنّه بعض من محمّد صلی اللّه علیه و آله » (1).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : « أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في ( المعرفة ) ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : ما من رجل من قريش إلّا نزل فيه طائفة من القرآن.
فقال له رجل : ما نزل فيك؟
قال : أما تقرأ سورة هود : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (2)؟! رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وأنا : ( شاهِدٌ مِنْهُ ) » (3)
ونحوه في تفسير الطبري (4).
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن عليّ ، قال : « رسول اللّه : ( عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وأنا : ( شاهِدٌ مِنْهُ ) » (5).
ص: 190
وقال أيضا : أخرج ابن مردويه من وجه آخر ، عن عليّ ، قال : « قال رسول اللّه : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) ، قال : عليّ » (1).
.. إلى غير ذلك ممّا حكي عن الثعلبي وجماعة (2).
وحينئذ ، فالآية دالّة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجوه :
الأوّل : إنّها جعلت عليّا علیه السلام شاهدا ، والمراد به : الشاهد على الأمّة ، بقرينة جعله تاليا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو يعطي الولاية على أمورهم ، كما قال تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (3) ..
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) (4).
الثاني : إنّها جعلت عليّا بعضا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كما قال صلی اللّه علیه و آله : « عليّ منّي ، وأنا من عليّ » (5) ..
وهو دليل المشاركة في العصمة ، والفضل ، وسائر الصفات الحميدة ، فيكون الأحقّ بخلافته.
الثالث : إنّها جعلت عليّا تاليا للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ فإنّ ضمير المفعول في ( يَتْلُوهُ ) مذكّر ، وهو على الظاهر عائد إلى ( فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
ص: 191
رَبِّهِ ) ، لا إلى « البيّنة » ، وإن احتمل بعيدا رجوعه إليها باعتبار أنّها بمعنى البرهان.
والمراد من تلوّه له : تعقّبه إيّاه ، إمّا في القيام مقامه بصيرورته خليفة له ..
أو في كونه مثله على بيّنة من ربّه ..
أو في كونه ظهيرا له على دعوته ، كما ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه دعا ربّه أن يشدّ أزره بعليّ ، ويشركه في أمره ، فكان منه بمنزلة هارون من موسى (1).
وعلى جميع الاحتمالات ، فالآية تدلّ على المطلوب ..
أمّا على الأوّل ؛ فظاهر ..
وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ المراد بكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله على بيّنة من ربّه :
إمّا كونه ذا برهان على ما يدّعيه ؛ لثبوت المعجزة له من اللّه تعالى ..
أو كونه عالما بأنّ منزلته بجعل من اللّه تعالى.
وعلى الوجهين : فالتالي له - أي المماثل له في ذلك - لا بدّ أن يكون هو الإمام من عند اللّه تعالى ؛ لأنّ من يحتاج إلى البيّنة والإعجازهو النبيّ أو الإمام من اللّه تعالى ، ومن يعلم بأنّ منزلته من اللّه سبحانه لا بدّ أن يكون منصوصا عليه.
وأمّا على الثالث ؛ فلأنّ عليّا إذا كان هو الظهير لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في نشر دعوته كهارون من موسى ، كان أولى الناس بخلافته.
ص: 192
ثمّ إنّه على تقدير رجوع ضمير المفعول في ( يَتْلُوهُ ) إلى البيّنة ، بلحاظ معناها - وهو البرهان - ، فالدلالة على إمامة الشاهد - وهو عليّ أيضا - واضحة ؛ لأنّ تلوّه للبرهان بالشهادة للنبيّ بالنبوّة ظاهر في أنّه معتبر الشهادة بها ، كالمعجزات ، فهو من علائم النبوّة وشواهدها ، وكفاه بذلك فضلا على الأمّة ؛ فيكون إمامها.
فالآية - على هذا - نظير قوله تعالى : ( كَفى بِاللّهِ شَهِيداً ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (1).
وقد أوضحنا دلالته على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، في ما سبق (2).
* * *
ص: 193
وقال الفضل (1) :
جاء في التفسير ، أنّ هذه نزلت في الخلفاء الأربع : ( كَزَرْعٍ ) : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) : أبو بكر ، ( فَآزَرَهُ ) : عمر ، ( فَاسْتَغْلَظَ ) : عثمان ، ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) : عليّ (2).
وهو من فضائله الكبيرة ، ولا يدلّ على النصّ.
* * *
ص: 195
نعم ، قاله بعض مفسّريهم برأيه ، وذكر بعضهم قريبا منه (1).
ولعلّه أيضا مذكور في ما حكاه المصنّف رحمه اللّه عن الحسن ، وإن خلا عنه ما نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه عن الحسن (2).
لكن لعلم المصنّف رحمه اللّه بخطئه في حقّ الخلفاء الثلاثة ترك ذكره ، لا سيّما مع عدم مناسبته للترتيب والعطف بالفاء بالآية ؛ لأنّ الإسلام لم يكن استغلاظه بأيّام عثمان ، بل قبله ، خصوصا في أيّام عمر ، فلو قال : فاستغلظ : في أيّام عمر ، فآزره : عثمان ؛ كان له وجه ، لكنّه لا يناسب ترتيب الآية والعطف بالفاء.
كما أنّ الإسلام قد استوى بسيف عليّ في أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكذا الاستغلاظ وغيره.
وبالجملة : ما ذكره الحسن وغيره ، من استواء الإسلام بسيف عليّ علیه السلام ، حجّة عليهم بإقرارهم ، كما هو ضروريّ ، وهو دالّ على كبير جهاد أمير المؤمنين دون غيره.
ومن كثر جهاده ، وفاق غيره ، حتّى استوى الإسلام بسيفه ، كان
ص: 196
الأفضل عند اللّه تعالى ، والأحقّ بالإمامة ؛ لفضله ، ولكونه لمّا استوى الإسلام بسيفه أوّلا ، كان أولى بنصره أخيرا ، وأرعى له فروعا وأصولا.
* * *
ص: 197
وقال الفضل (1) :
قوله : ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ) نزل في بيان أنّ الفواكه تختلف طعومها ، مع أنّها تسقى بماء واحد ، هذا من غرائب صنع اللّه ، وما ذكره من الحديث لا ربط له بالآية.
والعجب أنّ كلام هذا الرجل في غاية التشويش ، وكأنّه يزعم أنّ أحدا لا ينظر في كتابه ، أو كان ضعيف الرأي لا يعرف ربط الدليل بالمدّعى.
* * *
ص: 199
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، عن جابر : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « يا عليّ! الناس من شجر شتّى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة » ، ثمّ قرأ النبيّ : ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ) (1) (2).
وفي « كنز العمّال » (3) ، عن الديلمي ، عن جابر ، نحوه.
والآية وإن استفيد من ظاهرها بيان قدرة اللّه تعالى حيث أخرج من الأرض بماء واحد أشجارا وزروعا مختلفة ، وفضّل بعضها على بعض في الأكل ، لكن لا ينافي أنّ اللّه سبحانه ضرب بها مثلا لفضل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين علیه السلام على الناس ، مع اتّفاقهم بأصل واحد.
أو أنّ للآية باطنا ، كما ورد أنّ للكتاب الشريف ظهرا وبطنا (4) ؛ ولذا كان فيه بيان كلّ شيء لا يعلمه إلّا اللّه والراسخون في العلم.
وكيف كان ، فالمراد أنّ النبيّ وعليّا مخلوقان من نور واحد ، متّفقان بالصفات الفاضلة والمنافع ، ومخالفان للناس ، كما أنّ الناس مختلفون في ما بينهم ، فهما صنوان ، أي كنخلتين أو نخيل على أصل واحد ، ومن
ص: 200
عداهم غير صنوان.
وليت شعري! إذا لم يرض الفضل بهذا ، بحجّة عدم ارتباطه بظاهر الآية ، فما باله رضي بتفسير الآية السابقة بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله والخلفاء ، مع أنّه مثله في مخالفة الظاهر؟!
بل يفترقان بأنّ تفسير الآية السابقة ، تفسير بالرأي من ذوي الأهواء ، وتفسير هذه الآية من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهو أعلم بمعناها!
نعم ، هذا مختصّ بفضل أمير المؤمنين ، فاستحقّ جحد الفضل ؛ وذاك يعمّ غيره ، فاستوجب القبول!
وأمّا ربط هذا الدليل بالمدّعى ، فغير خفيّ على عارف ؛ لأنّه إذا دلّ على مشاركة عليّ علیه السلام للنبيّ في الفضل ، والامتياز على الناس ، فقد صار الأفضل ، وأحقّ الناس بخلافته ومنصبه ، وأولاهم بالإمامة بعده ، كما هو المدّعى.
* * *
ص: 201
قال ابن حجر في « الصواعق » ، في الفصل الأخير من الباب التاسع : سئل أمير المؤمنين علیه السلام - وهو على المنبر بالكوفة - عن قوله تعالى : ( رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (1).
قال : « اللّهمّ غفرا! هذه الآية نزلت فيّ ، وفي عمّي حمزة ، وفي ابن عمّي عبيدة بن الحارث (2) ، فأمّا عبيدة فقضى نحبه شهيدا يوم بدر ، وحمزة قضى نحبه شهيدا يوم أحد ، وأمّا أنا فأنتظر أشقاها ، يخضّب هذه من هذا ؛ وأشار بيده إلى لحيته ورأسه » (3).
ونحوه في « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس وإمامنا
ص: 204
الصادق علیه السلام ، عن أمير المؤمنين علیه السلام (1).
وهو دالّ على إمامته ؛ لأنّ مقتضى مفهوم وصف الرجال بأنّهم صدقوا ، أنّ غيرهم لم يعاهد اللّه سبحانه أو لم يصدق العهد ؛ فهم خواصّ المؤمنين وخيرتهم ؛ لانفرادهم بهذه الفضيلة الكاشفة عن زيادة المعرفة والتفاني في ذات اللّه تعالى.
ولا شكّ أنّ عليّا علیه السلام خاصّة الخاصّة ، فيكون أحقّ الناس بالإمامة ؛ لأفضليّته ، ولا سيّما أنّ صدق العهد في وقته بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله مختصّ به ، فلا يصلح للإمامة سواه.
وأمّا ما زعمه من نزول الآية في قتلى أحد ، فيبطله أنّه سبحانه قسّم صادقي العهد إلى من قضى نحبه ومن ينتظر ، فلا يختصّ بالقتلى.
اللّهمّ إلّا أنّ يريد نزولها في بعض قتلى أحد وبعض الأحياء ، فهو مسلّم ، وهو الذي نقوله ، وبيّنته الرواية السابقة ، وقال به صاحب « الكشّاف » ، لكنّه عدّ جماعة زعم أنّهم من صادقي العهد ، حمله على ذكرهم حسن الظنّ بهم (2) ؛ ونحن لا نعترف لهم بذلك.
* * *
ص: 205
وقال الفضل (1) :
عليّ من جملة ورثة الكتاب ؛ لأنّه عالم بحقائق الكتاب ، فهذا يدلّ على علمه ووفور توغّله في معرفة الكتاب ، ولا يدلّ على النصّ.
* * *
ص: 207
سبق في الآية السابعة والعشرين ، أنّ المراد ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (1) هو : عليّ علیه السلام (2) ؛ فيتعيّن أن يكون هو المراد بمن أورثه اللّه الكتاب ، واصطفاه ، فإنّ الكتاب فيهما واحد ، وهو : القرآن ، كما هو المنصرف.
ويدلّ عليه الآية التي قبل الآية التي نحن فيها ، وهي قوله تعالى : ( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) (3) ؛ فإنّ إعادة المعرّف ب ( اللام ) تفيد الوحدة.
ويشهد أيضا لإرادة عليّ بمن أورثه الكتاب واصطفاه ، الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ عليّا مع القرآن والقرآن معه (4) ، فإنّ المعيّة تستدعي أن يكون علم القرآن عنده ، وإنّه وارثه.
فإذا أفادت الرواية التي أشار إليها المصنّف رحمه اللّه ، وحكاها السيّد السعيد رحمه اللّه عن ابن مردويه ، أنّ المراد بمن أورثه الكتاب هو عليّ علیه السلام (5) ،
ص: 208
كانت مؤكّدة لغيرها.
وحينئذ ، فلا معنى لقول الفضل : « عليّ من جملة ورثة الكتاب » ، ولا سيّما أنّه قد أراد أن يشرك معه من لا يعرف الأبّ والكلالة ومن كانت المخدّرات أفقه منه (1).
هذا كلّه مضافا إلى أنّ اصطفاء الشخص لميراث الكتاب يدلّ على أنّه حافظ له ، غير مضيّع لما فيه عمدا وسهوا ، فيكون معصوما ، وغير عليّ من الصحابة غير معصوم بالإجماع ، فيتعيّن أن يكون هو المراد بالآية وحده ، أو معه أبناؤه المعصومون بشهادة حديث الثقلين ، وإنّما تركت الرواية ذكرهم ؛ لأنّهم غير موجودين في وقته ، أو لأنّ ذكره أهمّ ، وهو الأصل وهم فرعه ، فإذا ثبت ثبتوا جميعا.
فإن قلت : لا يمكن أن يراد وحده أو مع الأئمّة خاصّة ؛ لأنّهم معصومون عندكم ، والآية قسّمت من أورثه اللّه الكتاب واصطفاه إلى الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات ، فيتعيّن أن يراد بالآية مطلق المؤمنين.
قلت : التقسيم راجع إلى العباد ، والضمير في قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) (2) عائد إلى قوله تعالى : ( عِبادِنا ) ، لا لمن أورثه الكتاب واصطفاه منهم ؛ إذ لا يصحّ تقسيم من اصطفاه إلى الظالم وغيره ، ولا شمول من أورثه الكتاب لكلّ مؤمن عالم وجاهل ، فهي نظير قوله تعالى في سورة الحديد : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
ص: 209
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) (1).
وأمّا قول آدم علیه السلام : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (2) ، مع أنّه من المصطفين ، فمتأوّل بإرادة فعل المكروه ؛ للأدلّة العقليّة والنقليّة بخلاف ذلك (3).
نعم ، يمكن أن يكون التقسيم راجعا إلى من أورثه الكتاب واصطفاه ، على أن تكون الوراثة والاصطفاء بلحاظ اشتماله على البعض الوارث المصطفى ، فيصحّ تقسيم الجنس إلى هذه الأقسام الثلاثة ، لكنّ المراد بالبعض الوارث المصطفى هو : عليّ وحده في وقته ، أو مع أبنائه بلحاظ جميع الأوقات ؛ للأدلّة السابقة ونحوها ، كما وردت بذلك الرواية عندنا (4) ؛ وحينئذ ، فتدلّ الآية على إمامته ؛ لدلالتها على العصمة ، التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيره من الصحابة بالضرورة والإجماع ..
ولأنّ وراثة الكتاب بالاصطفاء شأن خلفاء الأنبياء ؛ فيكون هو الخليفة والإمام.
ص: 210
وقال الفضل (1) :
إن أراد أنّه ما اتّبع النبيّ صلی اللّه علیه و آله غير عليّ ، فهو باطل كما لا يخفى.
وإن أراد أنّه من جملة التابعين ، فهو ظاهر لا يحتاج إلى دليل ، ولا نسبة له بالمدّعى.
* * *
ص: 212
أراد الأوّل ؛ على معنى أنّه لم يتّبع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الاتّباع الصحيح ، الكامل تسليما وعملا ، إلّا عليّ علیه السلام .
ولذا كان خلفاؤهم يخالفون النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الرأي والعمل ، كما في التخلّف عن جيش أسامة (1) ، والفرار في مقام الخوف عليه وعلى الدين (2).
وفي منع كتابه الهادي ، الذي سبّب منعه ضلال الأمّة إلى يوم الدين ، وقول عمر : « حسبنا كتاب اللّه » (3) ، مفيّلا (4) لرأي النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
.. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، وسيرد عليك بعضه (5) إن شاء اللّه
ص: 213
تعالى.
وكيف يكون هؤلاء وأشباههم أهل بصيرة حتّى يرادوا بقوله تعالى : ( أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (1) ، وهم لم يزالوا مخالفين له في آرائهم وأعمالهم؟!
ويدلّ على اختصاص أمير المؤمنين بهذه الآية ، ما سبق من نزول الآية الحادية والعشرين فيه (2) ، وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ
ص: 214
اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1).
وأنت تعلم أنّ الدعوة على بصيرة ، وكمال الاتّباع للنبيّ في أقواله وأفعاله ، موجبان لانتشار الدعوة إلى الدين كما يريده اللّه تعالى ، فيكون كامل الاتّباع ، الداعي على بصيرة ، أحقّ بمنصب النبيّ ، وأولى بخلافته.
ولا سيّما أنّ الاتّباع المطلق يقتضي ثبوت العصمة والاتّصاف بالأوصاف الحميدة ؛ كالعلم ، والحلم ، ونحوهما ممّا يراد في الإمام.
فيكون أمير المؤمنين هو الإمام.
* * *
ص: 215
وقال الفضل (1) :
هذا من تفاسير الشيعة ، لا من تفاسير أهل السنّة ، وإن صحّ يدلّ على علمه بحقيقة الكتاب ، لا على التنصيص بإمامته ، وهو المدّعى.
* * *
ص: 217
لم يحضرني من كتب القوم إلّا اليسير ، ولا ريب أنّ ما ذكره المصنّف رحمه اللّه موجود في بعضها ، ولا قيمة لإنكار الفضل ؛ لما عرّفناك من وجود ما أنكره سابقا (1) ، على قلّة اطّلاعي على كتبهم.
ويؤيّد إرادة أمير المؤمنين علیه السلام في الآية نزول أشباهها ، أو لازم معناها فيه ، كالآيات السابقة الدالّة على أنّه المصدّق بالصدق (2) ، ومن عنده علم الكتاب (3) ، ووارث الكتاب (4) ، ومن اصطفاه اللّه (5) .. إلى نحوها من الآيات.
فإذا كان هو المراد بالآية ، فلا بدّ أن يراد بعلمه - بأنّ ما أنزل إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله حقّ - هو العلم الذي لا تختلجه الشكوك ولا تخالطه الأوهام ؛ لأنّه هو الذي يصحّ أن يمتاز به ، ويصلح أن يمدح عليه.
ولا شكّ أنّ أشدّ الناس يقينا بحقّية شريعة النبيّ ، أولاهم بإمرتها وحفظها ، كما أنّ من ليس بمنزلته في اليقين أدنى منه عقلا وفضلا ؛ ولذا عدّه تعالى أعمى ، فقال سبحانه في هذه الآية : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
ص: 218
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (1).
وقد سبق أنّ الإمامة لا تصلح للمفضول مع وجود الفاضل ، بل لا يصحّ أن يكون الأعمى إماما بوجه (2).
والمراد بالأعمى : الأعمّ من عديم اليقين وناقصه ؛ فإنّ الناقص أعمى في الجملة.
* * *
ص: 219
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
السادسة والأربعون : قوله تعالى : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (2).
قال عليّ : يا رسول اللّه! ما هذه الفتنة؟
قال : يا عليّ بك ، وأنت مخاصم ، فاعتد (3) للخصومة (4).
ص: 220
وقال الفضل (1) :
أجمع المفسّرون على أنّ الآية نزلت في رجل وامرأة أسلما ، وكان لهما ولد يحبّانه حبّا شديدا ، فمات فافتتنا ، وكادا يرجعان عن الإسلام ، فأنزل اللّه هذه الآية.
وأمّا ما ذكره من الخبر ، فالظاهر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يجعل عليّا فتنة للمسلمين.
وهذه من القوادح لا من الفضائل على ما ذكره.
* * *
ص: 221
نقل الزمخشري والرازي في نزول الآية أقوالا ، ولم يذكرا ما ذكره الفضل ، فضلا عن أن يكون مجمعا عليه (1).
وأمّا « الفتنة » في الآية ، فالمراد بها : الامتحان ، كما في « الكشّاف » (2) ، أو الابتلاء ، كما في « تفسير الرازي » (3) ، والمقصود بهما واحد.
لكن ادّعى الزمخشري أنّ الممتحن به هو شدائد التكليف ، والفقر والقحط ، وأنواع المصائب بالنفس والأموال ، ومصابرة الكفّار على أذاهم وكيدهم (4).
وخصّ الرازي الابتلاء بالفرائض البدنيّة والماليّة (5).
وكيف كان! فلم يدّع أحد قدحا في ما به الفتنة ، كما زعم الفضل.
وبالجملة : الرواية دالّة على أنّ المقصود بالآية أنّ عليّا علیه السلام محنة للمؤمنين ، يميّز به ثابت الإيمان من غيره ، وصادقه من كاذبه.
فمن ثبت على الإيمان بإمامته كان مؤمنا حقّا ، ومن زال عنه كان
ص: 222
مستعار الإيمان كاذبه.
ويشهد لذلك قوله صلی اللّه علیه و آله في هذه الرواية : « أنت مخاصم فاعتد للخصومة » ..
فإنّ الخصومة الواقعة بينه وبين قومه إنّما هي في إمامته.
ويؤيّد هذا الحديث ، ويرشد إلى إرادة الامتحان في إمامته ، ما نقله السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن عمر ، قال :
« كفّوا عن عليّ! فلقد سمعت من رسول اللّه فيه خصالا لأن تكون واحدة منهنّ في آل الخطّاب أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ؛ كنت أنا [ وأبو بكر ] وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانتهينا إلى باب أمّ سلمة ، وعليّ قائم على الباب ، فقلنا :
أردنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ فقال : يخرج إليكم ؛ فخرج ، فثرنا (1) إليه ، فاتّكأ على عليّ بن أبي طالب ، ثمّ ضرب بيده على منكبه ، ثمّ قال :
« أنت مخاصم تخصم ، أنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأعلمهم بأيّام اللّه ، وأوفاهم بعهده ، وأقسمهم بالسويّة ، وأرفقهم بالرعيّة ، وأعظمهم مزيّة ، وأنت عاضدي ، وغاسلي ، ودافني ، والمتقدّم إلى كلّ كريهة وشديدة ، ولن ترجع بعدي كافرا ، وأنت تتقدّمني بلواء الحمد تذود عن حوضي » (2).
فإنّ هذه الصفات إنّما تكون بأفضل الأمّة وإمامها ، ولكن قال ابن الجوزي : « باطل ، عمله الأبزاري » (3) ، ويعني به الحسن بن عبيد اللّه
ص: 223
الأبزاري ، المذكور في سند هذا الحديث.
وسمّاه في « ميزان الاعتدال » : الحسين أيضا ، وقال : « قال أحمد بن كامل : كان كذّابا » (1).
والظاهر : إنّ سبب تكذيبه له أنّ له روايات في فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ذكر في « الميزان » بعضها.
والحقّ أنّ هذا الحديث من أصدق الحديث ؛ لأنّ مضامينه بين ضروريّ ومستفيض الرواية به ، مع أنّه روي بطريق آخر .. قال في « اللآلئ المصنوعة » نقلا عن ابن الجوزي : « وقد رواه أبو بكر ابن مردويه ، عن أبي بكر بن كامل ، عن عليّ بن المبارك الربيعي ، عن إبراهيم بن سعيد » (2) ، ثمّ قال : « ولعلّ ابن المبارك أخذه من الأبزاري » (3).
فيا عجبا! أيجوز تكذيب الحديث الضروري بالاحتمالات والخيالات ، مع أنّ ابن المبارك لم ينقل في « الميزان » عن أحد فيه قدحا.
نعم ، له عذر ظاهر في إبطال الحديث ، وهو أنّ راويه عمر!
ولكن ، ألم يعلم أنّ هذا من إلزام اللّه لهم بالحجّة؟!
* * *
ص: 224
وقال الفضل (1) :
هذا من رواياته ، وأثر النكر عليه ظاهر ، ولا دلالة له أصلا على ثبوت النصّ المدّعى.
* * *
ص: 226
رواه ابن مردويه على ما في « كشف الغمّة » (1).
ودعوى الفضل ظهور أثر النكر عليه لا منشأ لها إلّا صراحة الرواية ببطلان مذهبه ؛ إذ لا يفهم من أمر عليّ علیه السلام إلّا خلافته ، فإنّها أظهر أمر يعود إليه وقعت به المشاقّة في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبعده ..
فمرّة نسبوا إليه فيه : الغواية (2) ..
وأخرى : الهجر (3) ..
وثالثة : قول الحارث بن النعمان الفهري : اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء (4) ..
ورابعة : بيعة السقيفة (5) ..
ص: 227
وخامسة : قهره على البيعة (1) ..
.. إلى ما لا يحصى من المشاقّة في أمره للرسول في حياته وبعده.
ويؤيّد هذا الحديث ما سبق في الآية السابقة (2) ، وما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن عليّ علیه السلام - وصحّحه - ، قال : « إنّ ممّا عهد إليّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ الأمّة ستغدر بي بعده ».
.. إلى نحوه من الأخبار (4).
* * *
ص: 228
وقال الفضل (1) :
إن صحّ نزوله فيه فهو دالّ على فضله المتّفق عليه ، ولا دلالة له على النصّ.
* * *
ص: 230
رواه ابن مردويه على ما في « كشف الغمّة » (1).
ومراد الآية الشريفة إمّا بيان أنّ اللّه تعالى أنعم على الناس بإيتائهم الفضل والمعرفة ، وفضّل بعضهم على بعض ..
وإمّا بيان أنّه يؤتي كلّ ذي فضل جزاء فضله - أي جزاءه - بحسب ما يترتّب عليه من العمل ، كثرة وقلّة وإخلاصا (2).
وحينئذ : فمعنى نزولها في عليّ علیه السلام ، هو الإعلام بأنّه الفاضل ذاتا أو جزاء ، والفاضل في كلّ منهما أحقّ بالإمامة.
أمّا على الأوّل ، فظاهر ..
وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ زيادة الجزاء فرع كثرة العمل وقوّة الإخلاص الناشئين من الفضل الذاتي ، كما أشرنا إليه.
* * *
ص: 231
هذا أيضا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
والمراد من ردّ قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عليّ علیه السلام : ردّه في إمامته ؛ لأنّها هي التي ردّها من أعظم الظلم ، وفي عرض الكذب على اللّه عزّ وجلّ ، فإنّ الردّ لسائر فضله ليس كذلك ، على أنّه لو أريد فهو دليل أفضليّته ؛ إذ ليس مثله أحد من الأمّة يكون الردّ لفضائله كذلك.
والأفضل - لا سيّما بهذا الفضل المكشوف عنه بمثل ذلك - أعظم الأمّة ، وأحقّها بالإمامة.
* * *
ص: 234
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الخمسون : قوله تعالى : ( وَقالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (2).
قال أبو رافع (3) : وجّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّا [ في نفر معه ] في طلب أبي سفيان ، فلقيهم أعرابي من خزاعة ، فقال : إنّ القوم قد جمعوا لكم فاخشوهم.
فقالوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل (4).
* * *
ص: 235
وقال الفضل (1) :
الآية نزلت في بدر الصغرى (2) ؛ وذلك لأنّ أبا سفيان لمّا انقضى الحرب يوم أحد ، قال : « الموعد بيننا في بدر » ، فلمّا كان في وقت الموسم ، لم يستطع أبو سفيان أن يخرج ؛ لجدب السنة ، فأرسل نعيم بن مسعود (3) ليثبّط رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من القتال ، فجاء نعيم بن مسعود وخوّف رسول اللّه وأصحابه ، فقالوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل (4).
وتتمّة الآية يدلّ على ما ذكرنا ، فإنّه يقول : ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ) (5) وهو نعيم بن مسعود ، ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) أي :
ص: 236
أبو سفيان وقريش ، فقال المؤمنون : ( حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .
هذا رواية أهل السنّة ، وإن صحّ ما رواه فلا يدلّ على المقصود ، كما علمت.
* * *
ص: 237
هذا أيضا ممّا نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
ونقله عنه أيضا السيوطي في « لباب النقول في أسباب النزول » ، قال : أخرج ابن مردويه ، عن أبي رافع ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله وجّه عليّا علیه السلام في نفر معه [ في طلب أبي سفيان ] ، فلقيهم أعرابي من خزاعة ... وذكر تمام الحديث (2).
وهو كما ترى دالّ على شدّة توكّل أمير المؤمنين علیه السلام ومن معه على اللّه تعالى ، وحسن بصائرهم ، وأنّ التخويف لم يزدهم إلّا إيمانا ؛ ولذا مدحهم اللّه سبحانه في كتابه العزيز.
ومن المعلوم أنّ أفضلهم في ذلك عليّ علیه السلام ، بل هو المراد فيه ، وأصله ؛ لأنّه رئيسهم ، وقائدهم ، والمنظور إليه فيهم.
وأمّا تتمّة الآية الكريمة ، فلا أعرف كيف تدلّ على ما ذكره الفضل دون إرادة عليّ علیه السلام ومن معه ، والحديث الذي نقله ليس حجّة علينا حتّى يعارض خبر ابن مردويه.
ص: 238
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من القراءات المتواترة ، والشيعة يعدّونها من الشواذّ ، وإن صحّ ، دلّ على فضيلته لا على إمامته بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .
* * *
ص: 240
هذا وإن لم يكن من المتواترات ، إلّا أنّه ليس من الشواذّ - أعني قراءة التابعين - ، بل من الآحاد ، وهي القراءات الثلاث ، وقراءة الصحابي ، كما حكى هذا الاصطلاح السيّد السعيد رحمه اللّه عن « إتقان » السيوطي ، عن القاضي جلال الدين البلقيني (1).
ولا مستند للفضل في النقل عن الشيعة ، إلّا كونها ليست من القراءات السبع المدّعى تواترها ، وهو كما ترى.
وقد ذكر هذه القراءة السيوطي في « الدرّ المنثور » ، قال : أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن ابن مسعود ، أنّه كان يقرأ هذا الحرف : ( وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) بعليّ بن أبي طالب (2).
ويشهد لهذه القراءة ما رواه الحاكم (3) ، عن يحيى بن آدم ، قال : « ما شبّهت قتل عليّ عمرا إلّا بقول اللّه عزّ وجلّ : ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ ) (4).
ص: 241
وكيف كان! فلتفرض قراءة ابن مسعود رواية له ، بأن يكون قد روى أنّ اللّه سبحانه أنزل هذه الآية لبيان هذه الفضيلة لعليّ علیه السلام ، وأنّ اللّه تعالى كفى به المؤمنين القتال يوم الأحزاب ، حيث قتل عمرو بن عبدودّ ، وردّ الأحزاب خاسرين ، فيكون جهاده أفضل من جهاد المسلمين جميعا ؛ لأنّ به الفتح مع حفظ نفوسهم ، فمنه حياة الإسلام والمسلمين.
ولو لا أن يكفيهم اللّه تعالى القتال بعليّ لاندرست معالم الإسلام ؛ لضعف المسلمين ذلك اليوم وظهور الوهن عليهم ؛ ولذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لضربة عليّ خير - أو : أفضل - من عبادة الثقلين » ، كما رواه في « المواقف » وغيرها (1)
وفي رواية الحاكم في « المستدرك » (2) : « لمبارزة عليّ لعمرو [ بن ودّ يوم الخندق ] أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة ».
فلا محالة يكون أفضلهم وأولاهم بالإمامة ؛ لكشف ذلك عن زيادة علمه ومعرفته وتمام بصيرته ، حتّى استحقّ مدح اللّه تعالى له في كتابه المجيد ، وأنّى لغيره مثل ذلك؟!
ص: 242
وقال الفضل (1) :
مفهوم الآية : إنّ إبراهيم سأل من اللّه تعالى أن يجعل له ذكر جميل بعد وفاته ، وهو المراد من « لسان الصدق » ، وحمل « لسان الصدق » على عليّ بعيد بحسب المعنى.
والشيعة لا يبالون من مثل ذلك ، ويذكرون كلّ ما يسمعون ، ولا دليل لهم في ما يفترون.
* * *
ص: 244
إطلاق « لسان الصدق » على الذكر الجميل إنّما هو من باب الكناية أو المجاز ، فلا يبعد صدقه من هذه الباب على الولد الصالح الذي به الفخر والذكر الخالد ، ولا مرجّح للأوّل.
وقد حكى الرازي في أحد تأويلات « لسان الصدق » ، أنّ المراد به بعثة محمّد صلی اللّه علیه و آله (1) ، فليس هذا النحو من التفسير من خواصّ الشيعة ، بل زعم القوم ما هو أبعد منه ، كما نقله الفضل في الآية الأربعين (2).
وأمّا دلالتها - بناء على ذلك المعنى - على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام فمن وجهين:
الأوّل : إنّها صرّحت بعرض ولايته على إبراهيم علیه السلام ، وليس هو إلّا لكون ولايته مطلوبة لله سبحانه ، قديما وحديثا ، وهو أعظم دليل على فضله وإمامته.
ويعضده ما سبق في الآية السادسة عشرة ، وهي قوله تعالى : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ... ) (3) الآية ، من أنّ الأنبياء علیهم السلام بعثوا على الشهادتين وولاية عليّ علیه السلام (4) ..
وفي الآية الثالثة والثلاثين ، وهي قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
ص: 245
بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (1) الآية (2).
الثاني : دعاء إبراهيم علیه السلام أن يجعله اللّه من ذرّيّته ، فإنّه أظهر شيء في فضله وشدّة إيمانه وعظمته عند اللّه عزّ وجلّ ، حتّى كان فخرا وشرفا لإبراهيم علیه السلام ؛ ومن كان كذلك فلا بدّ أن يكون سيّد أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وإمامهم.
وهذه الرواية المفسّرة « لسان الصدق » بأمير المؤمنين علیه السلام نقلها في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه ، ورويت عن إمامنا الصادق علیه السلام (3).
* * *
ص: 246
وقال الفضل (1) :
هذا تفسير لا يصحّ أصلا ؛ لأنّ الإنسان إذا أريد به أبو جهل ، يكون الاستثناء منقطعا (2) ، ولم يقل به أحد ..
وإن كان الاستثناء متّصلا (3) ، لا يصحّ أن يراد بالإنسان أبو جهل ، فالمراد منه أفراد الإنسان على سبيل الاستغراق.
وعلى هذا : لا يصحّ تخصيص المؤمنين بعليّ وسلمان ؛ فإنّ غيرهم من المؤمنين ليسوا في خسر.
وهذا الرجل يعلف كلّ نبت ، ولا يفرّق بين السّمّ والحشيش!
* * *
ص: 248
وقال مقاتل : نزلت في أبي لهب ، وفي خبر مرفوع : إنّه أبو جهل » (1)
وحينئذ : يكون الاستثناء منقطعا بالضرورة ، كما صرّح به النيشابوري (2) ، فإنكار الفضل للقول به كما ترى.
وأمّا قوله : « لا يصحّ تخصيص المؤمنين بعليّ وسلمان ؛ فإنّ غيرهم من المؤمنين ليسوا في خسر » ، فمن قلّة التأمّل ..
قال الرازي : « ها هنا احتمالان :
الأوّل : في قوله تعالى : ( لَفِي خُسْرٍ ) (3) أي : في طريق الخسر ، وهذا كقوله في آكل أموال اليتامى : ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) (4) لمّا كانت عاقبته النار.
الاحتمال الثاني : إنّ الإنسان لا ينفكّ عن خسر ؛ لأنّ الخسر هو تضييع رأس المال ، ورأس ماله هو عمره ، وهو قلّما ينفكّ عن تضييع عمره ؛ وذلك لأنّ كلّ ساعة تمرّ بالإنسان ، فإن كانت مصروفة إلى المعصية
ص: 250
فلا شكّ في الخسران ..
وإن كانت مشغولة في المباحات ، فالخسران أيضا حاصل ؛ لأنّه كما ذهب لم يبق منه أثر ، مع أنّه كان متمكّنا من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائما ..
وإن كانت مشغولة في الطاعات ، فلا طاعة إلّا ويمكن الإتيان بها أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك ؛ لأنّ مراتب الخضوع والخشوع غير متناهية ، فإنّ مراتب جلال اللّه وقهره غير متناهية ، وكلّما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر ، فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتمّ وأكمل ، وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران » (1).
وحينئذ : فعلى الاحتمالين يكون استثناء عليّ وسلمان دليلا على فضلهما على من سواهما ، وعصمتهما دون غيرهما من الأمّة ، ولا ريب أنّ عليّا علیه السلام أفضل من سلمان ، فيتعيّن للإمامة.
* * *
ص: 251
وقال الفضل (1) :
أنت خبير بأنّ الصبر صفة من الصفات ، وليس هو من الأسامي حتّى يراد شخص ، وهذا قريب من السابق.
* * *
ص: 253
مراد ابن عبّاس : إنّ من تواصوا بالصبر عليّ علیه السلام ، لا أنّ نفس الصبر عليّ ، كما هو واضح.
وعبّر سبحانه عن عليّ بصيغة الجمع ، إعظاما له ، وبيانا لكمال صبره ، وأنّ صبره بمنزلة صبر جميع المؤمنين المتواصين به ؛ لشدّة ما يلزم نفسه به ، فلا يقع منه خلاف الصبر الذي هو صبران ؛ صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ؛ فيكون أفضل الأمّة ، ومعصومها ، وإمامها.
* * *
ص: 254
هذا أيضا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
ثمّ إنّه لا مانع من اختيار الشقّ الأوّل ؛ فإنّ سلمان كان مؤمنا باللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ، متطلّبا لمعرفة مبعث النبيّ قبل رؤياه كما هو مذكور في خبر إسلامه (2).
وقال ابن حجر في « الإصابة » بترجمة سلمان : « كان قد سمع بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سيبعث ، فخرج في طلب ذلك فأسر ، وبيع بالمدينة ، فاشتغل بالرقّ » (3).
وقال السيوطي في « لباب النقول » ، عند قوله تعالى من سورة الزمر : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ) (4) : « أخرج ابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم ، أنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهليّة يقولون : « لا إله إلّا اللّه » ؛ زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسي » (5).
ص: 257
روى الواحدي نحوه ، عن ابن زيد في سبب نزول الآية (1).
.. إلى غير ذلك ممّا هو مستفيض الرواية ، الدالّ على سبق إسلام سلمان ، أو إقراره بالوحدانية (2).
ولا ينافيه ما يروى أنّ إسلامه عند ما جاء إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بصدقة فلم يقبلها ، ثمّ أتاه بهديّة فقبلها ، ثمّ رأى خاتم النبوّة فأسلم ؛ لأنّ هذا إنّما هو لتعيين النبيّ صلی اللّه علیه و آله بشخصه ، لا لأنّه لم يؤمن به إلّا حينئذ ، فيكون من السابقين الأوّلين.
لكنّ أمير المؤمنين أفضل منه سبقا ، وأشدّ منه يقينا ، وأقدم منه في الصلاة ، كما هو معلوم بالضرورة ، ولما تقدّم من أنّ عليّا علیه السلام سابق هذه الأمّة وصدّيقها ؛ فيكون أفضلها ، وأولاها بالإمامة (3).
ولا مانع أيضا من اختيار الشقّ الثاني ؛ فإنّ سلمان من المعصومين السابقين في الأعمال الصالحة ، كما تدلّ عليه الآية الثالثة والخمسون (4).
ويؤيّده ما رواه القوم عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « إنّ الجنّة اشتاقت إلى ثلاثة : عليّ وعمّار وسلمان » .. رواه الترمذي وحسّنه ، والحاكم وصحّحه (5).
ص: 258
ويؤيّده أيضا ما رواه الترمذي وحسّنه ، وابن عبد البرّ في « الاستيعاب » ، وغيرهما ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال - كما في لفظ الترمذي - : « إنّ اللّه أمرني بحبّ أربعة ، وأخبرني أنّه يحبّهم.
قيل : يا رسول اللّه! سمّهم لنا.
قال : عليّ منهم - يقول ذلك ثلاثا - ، وأبو ذرّ ، والمقداد ، وسلمان » (1)
فإذا كان عليّ وسلمان سابقي الأمّة في صالح الأعمال ومعصوميها ، ولا شكّ أنّ عليّا أعظم من سلمان في الوصفين ، فقد تعيّن للإمامة ، وتعيّنت له (2).
ص: 259
بل يدلّ عليه ؛ لأنّ البشارة بكرامة الآخرة لشخص معيّن لا تصحّ إلّا مع عصمته أو نحوها ، وليس الخلفاء الثلاثة كذلك ، كما سبق في الآية الثانية والثلاثين ، وبيّنّا فيها لزوم إمامته علیه السلام دون الثلاثة ، بل ودون غيرهم ؛ لأنّه أفضل المخبتين (1).
* * *
ص: 262
تمام الآية وما بعدها : ( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) (1).
وتعرف دلالتها ممّا أشرنا إليه في الآية السابقة (2) ..
وأوضحناه في الآية الثانية والثلاثين من أنّ بشارة شخص معيّن بنيل الموعود ، والأمن من الوعيد ، تقتضي - مع علمه بالبشارة - عصمته ، أو قريبا منها ، وأوضحنا أنّ المشايخ الثلاثة وأشباههم ليسوا كذلك ، فيكون أمير المؤمنين علیه السلام هو المعصوم ، أو الفاضل على غيره ، ويكون هو الإمام (3).
وما رواه بعض القوم (4) من تفسير من سبقت لهم الحسنى بما يشمل غير أمير المؤمنين علیه السلام ، غير صحيح ، ولا حجّة لهم علينا في ما يروونه بحقّ غيره.
أترى أنّ اللّه سبحانه يبشّر مثلهم بالجنّة ، ويؤمّنهم من النار ، ليهون عليهم تغيير الأحكام ، وغصب حقوق الأطهار ، وسفك دماء المسلمين ،
ص: 265
والاستئثار ببيت المال ، والخروج على إمام الزمان ، ومحاربة اللّه ورسوله ، بحربه؟!
* * *
ص: 266
وقال الفضل (1) :
لا شكّ أنّ حبّ أهل بيت محمّد من الحسنات ، ولكن لا يثبت النصّ.
* * *
ص: 268
نقل في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه ما ذكره المصنّف رحمه اللّه بلفظه كلّه مرّة ، وإلى قوله : « والسيّئة بغضنا » مرّة أخرى ، وذلك في تفسير آيتين :
الأولى : قوله تعالى في أواخر سورة الأنعام : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلأَمِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (1).
الثانية : قوله تعالى في أواخر سورة النمل : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلأَما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (2) (3).
ونقل في « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم والثعلبي والحمويني ، في تفسير الثانية ، عن عليّ علیه السلام ، قال : « الحسنة حبّنا ، والسيّئة بغضنا » (4).
ويشهد لصحّة هذه الروايات ، ما عرفته من الأخبار في الآية الرابعة ، والآية الثانية عشرة ، كما عرفت هناك أيضا وجه الدلالة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فراجع (5).
ص: 269
ويؤيّد دلالتها عليها ما رواه الحاكم في « المستدرك » (1) وصحّحه ، عن عمّار [ بن ياسر رضی اللّه عنه ] ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعليّ : « طوبى لمن أحبّك وصدّق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذّب فيك » ؛ لأنّ المراد - ظاهرا - هو التصديق والتكذيب بإمامته ، أو فضله الموجب لها.
وما نقله في « كنز العمّال » (2) ، عن الطبراني ، عن ابن عبّاس ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ علیه السلام : « ألا من أحبّك حفّ بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته اللّه ميتة الجاهلية ».
ونقل بعده بقليل عن الطبراني ، عن ابن عمر ، مثل ذلك (3).
فإنّ الإيمان إنّما يتمّ بالإقرار بالإمام الحقّ المستلزم لحبّه ؛ لما سبق من أنّ الإمامة أصل من أصول الدين (4) ، كما أنّ ميتة الجاهلية إنّما هي بالإخلال بهذا الأصل الناشئ من البغض عادة.
ويؤيّد المطلوب أيضا ما دلّ على الملازمة بين حبّ عليّ وحبّ اللّه ورسوله ، والتلازم بين بغضه وبغضهم ؛ كالذي نقله في « الكنز » أيضا عن الطبراني وابن عساكر ، عن عمّار ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من أحبّه - يعني عليّا - فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه تعالى ، ومن
ص: 270
أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه تعالى » (1).
وكيف لا يراد بذلك بيان إمامة عليّ علیه السلام وقد اهتمّ الكتاب العزيز ببيان وجوب حبّه وحرمة بغضه ، حتّى نزل فيه مكرّرا ، وعبّر عن حبّه بالحسنة ، وعن بغضه بالسيّئة ، وكذلك استفاضت وتواترت بهما السنّة النبويّة؟!
* * *
ص: 271
وقال الفضل (1) :
هذا لم يثبت في الصحاح والتفاسير ، وإن صحّ لا يدلّ على النصّ.
* * *
ص: 273
نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
وقال في « ينابيع المودّة » : أخرج الحاكم الحسكاني ، عن محمّد بن الحنفيّة ، عن أبيه عليّ ، قال : « أنا ذلك المؤذّن » (2).
وقال أيضا : أخرج الحاكم ، عن ابن عبّاس ، قال عليّ : « في كتاب اللّه أسماء لي لا يعرفها الناس ، منها : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) يقول : ألا ( لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3) ، أي : الّذين كذّبوا بولايتي ، واستخفّوا بحقّي » (4).
ونقل أيضا نحوه ، عن « المناقب » ، عن الباقر علیه السلام (5).
وهذه الآية ظاهرة الدلالة على المطلوب ؛ لأنّ المراد بالظالمين :
إمّا مطلق العصاة ، فحينئذ لا بدّ أن يكون المؤذّن معصوما ؛ إذ لا يصحّ أن يكون عاصيا وهو ينادي بلعنة العصاة ؛ وإذا كان معصوما ولا معصوم غيره ، كان هو الإمام ؛ لأنّ العصمة شرط الإمامة - كما
ص: 274
سبق - (1) ؛ ولكن يبعد النداء بلعن كلّ عاص.
وإمّا أن يراد بالظالمين : العصاة بالكبائر ، لا سيّما الكفر والنفاق ، الذي منه بغض عليّ علیه السلام ، كما مرّ (2).
ولا شكّ أنّ من يستحقّ الناس اللعنة لبغضه ، مع النداء بها على رؤوس الخلائق يوم الحساب ، هو الإمام الحقّ ، بل كونه هو المنادي دليل على فضله على الأمّة ؛ والأفضل هو الإمام.
ويشهد لدلالة الآية على الإمامة ، الخبر الأخير ، فإنّ المراد فيه بالولاية : الإمامة ؛ لأنّ التكذيب إنّما يتعلّق بها لا بالحبّ.
وبمقتضى إطلاق الولاية في الحديث ، لا يفترق الحال بين من كذّب بإمامته مطلقا أو في وقت خاصّ.
* * *
ص: 275
نقله أيضا في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
والمراد فيه بالولاية : إمّا الإمامة ، كما هو المنصرف في مثل المقام ؛ أو الحبّ ؛ وعلى الاحتمالين يتمّ المدّعى.
أمّا على الأوّل ، فغنيّ عن البيان ..
وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ دعوة اللّه ورسوله إلى محبّة عليّ بخصوصه ، وجعلها حياة للناس ، دليل على أنّ له منزلة فوق منازل الناس ، وهي إمّا الإمامة ، وهي عين المطلوب ، أو الأفضليّة ، وهي تستلزمها.
* * *
ص: 278
لم يتعرّض الفضل للجواب عن هذه الآية الكريمة ؛ لسقوطها عن نسخته ، وقال : « لم يذكر هنا الأوّل ، وكأنّه في الحساب أيضا غالطا » (1).
والأولى بالغلط من ينصب خبر « كأنّ » ، ويطلق الأوّل ، ويريد : « الحادي » بلا نكتة تقتضيه.
ووجه الدلالة في ذلك على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، أنّه سبحانه عبّر عنه بصيغة الجمع فقال : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (2) ، فدلّ على أنّه علیه السلام بمنزلة جميع المتّقين ؛ لأنّه قوام التقوى وأساسها ، فهو أعظم الأمّة وأفضلها ؛ فيكون هو الإمام.
وأيضا : فقد بشّرت الآية عليّا علیه السلام بشخصه بالجنّة ، وهو عالم بذلك ؛ لأنّ عنده علم الكتاب ، وقد سبق أن هذا يقتضي عصمته أو أفضليّته على غيره ؛ فيكون هو الإمام (3).
وقد نقل في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه خبرا آخر ، رواه عن جابر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال في آخره : « أبشر يا عليّ! ما من عبد ينتحل مودّتنا إلّا بعثه اللّه معنا يوم القيامة » ثمّ قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (4).
ص: 280
ونقل أيضا عن موفّق بن أحمد الخوارزمي ، عن جابر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا عليّ! من أحبّك وتولّاك أسكنه اللّه معنا ».
ثمّ تلا رسول اللّه : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (1)
ويستفاد من أوّل هذين الحديثين ، أنّ مودّتي النبيّ وعليّ عليهما الصلاة والسلام متلازمتان ؛ ومن الحديثين ، أنّ مودّة عليّ توجب دخول الجنّة.
وذلك دليل الفضل على سائر الأمّة ، فيكون عليّ علیه السلام إمامها ، لا سيّما مع إعلامه بأنّه من أهل الجنّة ، وأنّه السبب في دخولها.
* * *
ص: 281
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الثانية والستّون : قوله تعالى : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) (2).
قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « إنّ فيك مثلا من عيسى ، أحبّه قوم فهلكوا فيه ، وأبغضه قوم فهلكوا فيه ».
فقال المنافقون : أما يرى له مثلا إلّا عيسى؟! فنزلت الآية (3).
* * *
ص: 282
وقال الفضل (1) :
نزلت في عبد اللّه بن الزّبعرى (2) ، حين نزل : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (3) ، فقال ابن الزبعرى : عيسى عبد ، فهو يدخل جهنّم!
فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما أجهلك بلغة قومك!
فإنّ « ما » لا يراد به ذوو العقول ، وعيسى من ذوي العقول.
فأنزل اللّه تعالى : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) (4).
وإن صحّ ، فهو في حكم أخواتها.
* * *
ص: 283
هذا ممّا رواه ابن مردويه كما في « كشف الغمّة » (1) ، ورواه أئمّتنا الأطهار عن أمير المؤمنين (2).
ونقل نحوه في « ينابيع المودّة » ، في الباب الرابع والأربعين ، عن « المناقب » (3).
وقد استفاض ضرب المثل لعليّ بعيسى في أخبارهم حتّى روي في « مسند أحمد » من طريقين (4) ، ورواه النسائي في « خصائصه » (5) ، والحاكم في « المستدرك » وصحّحه (6).
ونقله في « الصواعق » ، في الحديث العشرين من الأحاديث الواردة في فضل أمير المؤمنين علیه السلام ، عن البزّار وأبي يعلى (7).
ونقله في « كنز العمّال » (8) ، عن أبي نعيم وغيره.
ص: 284
ولا ريب في صحّة ذلك - حتّى لو لم ترد به رواية - ؛ لشهادة الوجدان به ، فإنّ الغلاة بأمير المؤمنين علیه السلام كثيرون ، وكذلك النصّاب له الّذين هلكوا ببغضه ، كالخوارج وبني أمّية وأشياعهم ، وأشباه الفضل ، ممّن ألزموا أنفسهم من دون برهان بتأخيره رتبة وفضلا عمّن لا يقاس به علما وعملا.
ولا يمكن أن تكون الإماميّة ممّن هلك بحبّه ؛ لأنّ الروايات المشار إليها جعلت الهالكين بحبّه من نحو الهالكين بحبّ عيسى ، ومن المعلوم أنّ من هلك بحبّ عيسى إنّما هو من قال بإلهيّته ، فكذا من هلك بحبّ عليّ.
وأمّا ما ذكره الفضل من قصّة ابن الزبعرى ؛ فلا مناسبة لها بجعل عيسى مثلا ؛ لأنّ ابن الزبعرى صيّر عيسى نقضا للآية لا مثلا.
على أنّ المفهوم من الآية أنّ الضارب للمثل بعيسى هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا قومه ، وإنّما هم صادّون عنه.
وممّا ذكر يعلم وجه الدلالة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فإنّ ضرب المثل له بعيسى دالّ على أنّه مثله في الفضل عند اللّه تعالى ، بحيث كان بغضه هلاكا ؛ فهو شبيه عيسى بالعظمة ، وفوق الأمّة ، وإمامها ؛ ولذا قال المنافقون : « لا يرى له مثلا إلّا عيسى » ..
مضافا إلى أنّ الداعي للغلوّ فيه كالداعي للغلوّ بعيسى ، وهو ما صدر عنه من المعجزات والكرامات الباهرة ، ولا شكّ أنّ صدورها من شخص دون غيره دليل على كرامته عند اللّه وفضله على قومه ، والأفضل محلّ الإمامة ، ودليل على أنّ إمامته من اللّه تعالى ؛ لاقتران معجزته بدعوى الإمامة.
ص: 285
ويكفيك من معجزاته إخباره بالمغيّبات (1) ، وردّ الشمس له في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبعده (2) ، ومخاطبة الثعبان له (3) ، وغيرها من كراماته الباهرة.
وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في الحديث الخامس عشر وجه آخر لبيان إمامته من الآية وهذا الحديث.
ص: 286
وقال الفضل (1) :
هذا من رواياته ومدّعياته ، واللّه أعلم ، وليس فيه دليل على المدّعى.
* * *
ص: 288
لا يخفى أنّه ورد في كثير من أخبار القوم أنّ المراد بالأمّة في الآية : أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله (1) ، وليس المراد : هو الأمّة بإطلاقها ؛ لما في تفسير الرازي ، قال : قرأ النبيّ صلی اللّه علیه و آله الآية ، وقال : « إنّ من أمّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى بن مريم » (2) ..
ولما استفاض في الأخبار من أنّ أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، وما سواها هالكة في النار (3).
فلا يمكن أن تكون كلّها هادية بالحقّ ، بل بعضها ، وهي الفرقة الناجية ، وقد فسّرتها الرواية - التي أشار إليها المصنّف - بعليّ وشيعته ، كما يشهد لها حديث الثقلين (4) ، وغيره (5).
ص: 289
قال عليّ علیه السلام في هذه الرواية - كما في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه - :
« تفترق هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنّة ، وهم الّذين قال اللّه تعالى : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (1) ، وهم أنا وشيعتي (2).
ومثله في الباب الخامس والثلاثين ، من « ينابيع المودّة » ، عن موفّق ابن أحمد ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، إلّا أنّه قال : « وهم أنا ومحبّيّ وأتباعي » (3).
فإذا كان عليّ علیه السلام وشيعته هم الفرقة الناجية ، الّذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون ، كان هو الإمام ألبتّة ؛ إذ لا يمكن أن يكون مأموما وتابعا لبعض شيعته ؛ لأنّ الشيعة هم الأتباع لا المتبوعون ..
ولذا لا يدخل في شيعته - على مذهب القوم - المشايخ الثلاثة ؛ لأنّهم - بزعم القوم - أئمّة عليّ علیه السلام ، ومتبوعون له لا تابعون.
كما لا يدخل في شيعته محاربوه وأعداؤه ، كالزبير وطلحة وأصحابهما من الناكثين ، ومعاوية وأتباعه من القاسطين.
وكذا لا يدخل فيهم جميع السنّة ، ضرورة أنّهم شيعة لأعدائه لا له!
* * *
ص: 290
هذا ممّا نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
والمراد في نزول الآية بعليّ : نزولها بتمامها به مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كما هو الأظهر ؛ لأنّ الآية هكذا :
( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ... ) (2) الآية.
وظاهرها : أنّ ( أَشِدَّاءُ ) وما بعده خبر ل- ( مُحَمَّدٌ ) وما عطف عليه ، لا للمعطوف فقط ، أعني ( الَّذِينَ مَعَهُ ) ، فيكون الركّع السجود محمّدا وعليّا.
وحينئذ : فتدلّ الآية على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لتعبيرها عنه بصيغة الجمع ، وهي : ( الَّذِينَ مَعَهُ ) ، مشيرا بها إلى أنّه بمنزلة جميع من مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، من حيث إنّه قوامهم.
فيثبت فضله عليهم بالجهاد والتقوى وجميع صفات الكمال ، لا سيّما بضميمة ما أخبر به عن محمّد والّذين معه من الأوصاف الجليلة ، التي لا تثبت بمجموعها لأكثر الصحابة ، بل ولا لبعضهم على وجه الكمال ، وإنّما تثبت كاملة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، فهو نظيره ونفسه.
ص: 293
ويؤيّد الرواية التي أشار إليها المصنّف نزول أبعاض الآية الأخر في عليّ علیه السلام أيضا ، كما عرفته في قوله تعالى : ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) (1) ، وما سيأتي في قوله تعالى : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) (2).
* * *
ص: 294
وقال الفضل (1) :
ظاهر الآية العموم ، وإن خصّ فلا دلالة له على النصّ المقصود.
* * *
ص: 296
هذا أيضا ممّا نقله في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه ، عن مقاتل (1).
ونقله عنه الواحدي في « أسباب النزول » ، إلّا أنّه قال : « يسمعونه » بدل « يكذبون عليه » (2).
وأشار إليه الزمخشري بقوله : « وقيل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليّا ويسمعونه (3) » (4).
ووجه الدلالة على المطلوب : إنّ قوله تعالى : ( بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) (5) شهادة ببراءة عليّ علیه السلام ممّا يقولون ، وإنّ قولهم بهتان ، كما قال سبحانه في تمام الآية : ( فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (6).
ومن المعلوم أنّ اهتمام الآية ببراءة عليّ علیه السلام ، وبيان أنّ من آذاه احتمل إثما مبينا - مع كثرة ما يصدر من الناس من قول البهتان والإيذاء للمؤمنين - ، دليل على عظمته عند اللّه تعالى وفضله على غيره ، ولا سيّما مع التعبير عنه بصيغة الجمع ، وذكر إيذائه مع إيذاء اللّه ورسوله ؛ والأفضل أحقّ بالإمامة.
ص: 297
ثمّ إنّه لا منافاة بين ذكر المؤمنات في الآية وبين نزولها في عليّ علیه السلام ومن يؤذيه ؛ إذ لا مانع من التعرّض لهنّ بالتّبع ، ولا سيّما أنّ المنصرف من المؤمنات عند إرادة عليّ بالمؤمنين هو فاطمة المظلومة ، فتزيد فائدة الآية في المطلوب.
* * *
ص: 298
وقال الفضل (1) :
ظاهر الآية العموم ، ولم يذكر المفسّرون تخصيصا بأحد ، ولو خصّ فلا دلالة له على النصّ ، والاستدلال بأنّه مؤمن مهاجر ذو رحم لا يوجب التخصيص ؛ لشمول الأوصاف المذكورة لغيره.
* * *
ص: 300
لا نسلّم شمول الأوصاف المذكورة لغيره ؛ فإنّ العبّاس ليس من المهاجرين ؛ إذ لا هجرة بعد الفتح ، فلا يستحقّ من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ميراثا ؛ لأنّه تعالى قيّد في الآية أولي الأرحام بكونهم من المؤمنين والمهاجرين.
ولو سلّم أنّ ( مِنْ ) في هذه الآية ليست بيانيّة ، بل هي الداخلة على المفضّل عليه ، كفى في الدلالة - على اعتبار الهجرة في الأولوية - قوله تعالى في آخر سورة الأنفال : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) (1) الآية.
بل يظهر من هذه الآية اعتبار الجهاد حين الهجرة أيضا في الأولوية ، ولا جهاد للعبّاس حينئذ ، كما لا هجرة له.
ولو تنازلنا عن ذلك ، فعليّ علیه السلام أقرب رحما من العبّاس ، وإن كان ابن عمّ للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ ابن العمّ للأبوين أقرب عندنا رحما وأولى بميراث ابن عمّه من العمّ للأب فقط (2).
ولو أعرضنا عن هذا وأخذنا بإطلاق ( أُولُوا الْأَرْحامِ ) في الآية ،
ص: 301
فغاية الأمر أن يستوي عليّ والعبّاس بميراث الإمامة ، بلحاظ إطلاق الآية ، إلّا أنّه لا بدّ من تقديم عليّ علیه السلام ؛ لأفضليّته ، وتسليم العبّاس لإمامته ، ولذا طلب مبايعته عند وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).
وممّا بيّنّا يعلم ما في قول الرازي والمنصور الدوانيقي في جواب محمّد بن عبد اللّه (2) ..
قال الرازي بتفسيره : « المسألة الثانية : تمسّك محمّد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب في كتابه إلى أبي جعفر المنصور بهذه الآية ، في أنّ الإمام بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو عليّ بن أبي طالب.
فقال : قوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (3) يدلّ على ثبوت الأولوية (4).
وليس في الآية شيء معيّن في ثبوت هذه الأولوية ، فوجب حمله على الكلّ ، إلّا ما خصّه الدليل ، وحينئذ يندرج فيه الإمامة.
ولا يجوز أن يقال : إنّ أبا بكر كان من أولي الأرحام ؛ لما نقل أنّه عليه الصلاة والسلام أعطاه سورة براءة ليبلّغها إلى القوم ، ثمّ بعث عليّا خلفه ، وأمر بأن يكون المبلّغ هو عليّ ، وقال : « لا يؤدّيها إلّا رجل منّي ».
ص: 302
وذلك يدلّ على أنّ أبا بكر ما كان منه ؛ فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية.
والجواب : إن صحّت هذه الدلالة كان العبّاس أولى بالإمامة ؛ لأنّه كان أقرب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عليّ ؛ وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه » (1).
وإنّما قلنا : إنّه يعلم الجواب عن هذا ممّا ذكر ؛ لما عرفت من أنّ العبّاس ليس من المهاجرين ، فلا ولاية بينه وبين النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ ولو سلّم ، فعليّ أقرب منه رحما.
ولو تمسّكنا بإطلاق ( أُولُوا الْأَرْحامِ ) فعليّ أفضل ، والأفضل أحقّ بالإمامة.
ولعلّه لهذه الأمور طلب العبّاس مبايعة أمير المؤمنين علیه السلام ، لكن الحقّ أنّ المنشأ في الطلب علمه ببيعة الغدير وغيرها.
ثمّ إنّ الأمر المهمّ هو أولويّة أمير المؤمنين علیه السلام من أبي بكر بميراث النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وهي حاصلة ؛ لعدم الرحميّة لأبي بكر ، كما يدلّ عليه حديث عزله عن أداء سورة براءة (2) ؛ فتكون خلافته باطلة ، وأنّ الحقّ لعليّ علیه السلام .
ص: 303
وقول الرازي : « إن صحّت هذه الدلالة » ، إن أراد به منع دلالة آية أولي الأرحام على أولويّة أرحام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالإمامة ، فظاهر البطلان ؛ لأنّ الآية أطلقت الأولوية ، والمطلق حجّة في الإطلاق بالإجماع.
وإن أراد به منع دلالة حديث عزل أبي بكر على أنّه ليس بذي رحم ، فالأمر أشنع!
ولو كان أبو بكر رحما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لكانت قريش كلّها أرحاما ، بل الناس كلّهم كذلك ؛ لاجتماعهم في آدم ونوح علیهماالسلام .
ولو سلّم ، فعليّ أقرب منه رحما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فيحجبه عن الميراث اتّفاقا ، وتكون الخلافة لعليّ علیه السلام .
* * *
ص: 304
حكاه في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه (1).
وعليه : فدلالة الآية على إمامة أمير المؤمنين واضحة ؛ لأنّ من تثبت قدم الصدق للمؤمنين بولايته ، ويبشّر اللّه تعالى بثبوتها في كتابه العزيز ، لا بدّ أن يكون أفضلهم وخيرهم جميعا ، فيكون إمامهم.
ولو أريد بالولاية في الحديث الإمامة ، كانت الآية نصّا فيها.
* * *
ص: 307
وقال الفضل (1) :
هذا يشمل سائر الخلفاء ، فإنّ كلّهم كانوا أولي الأمر ، ولا دليل على مدّعاه.
* * *
ص: 309
لا يمكن أن يشمل سائر الخلفاء ، سواء أراد بهم خصوص الأربعة ، أم الأعمّ منهم ، ومن معاوية ويزيد والوليد وأشباههم ؛ لدلالة الآية على عصمة أولي الأمر ، وهؤلاء ليسوا كذلك - كما سبق موضّحا في أوّل مباحث الإمامة - (1).
فيتعيّن أن يراد بأولي الأمر : عليّ وأبناؤه الأطهار ؛ لانتفاء العصمة عن غيرهم بالضرورة والإجماع.
* * *
ص: 310
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
التاسعة والستّون : ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (2).
في مسند أحمد : هو عليّ ، حين أذّن بالآيات من سورة « براءة » ، حين أنفذها النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أبي بكر ، وأتبعه بعليّ علیه السلام فردّه ، ومضى عليّ.
وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « قد أمرت أن لا يبلّغها إلّا أنا أو واحد منّي » (3).
* * *
ص: 311
وقال الفضل (1) :
سيرد عليك : إنّ إنفاذ عليّ بعد أبي بكر كان لأجل أنّ العرب في العهود لا يعتبرون إلّا قول صاحب العهد ، أو واحد من قومه ، ولأجل هذا أنفذ عليّا.
* * *
ص: 312
لو كان العرب على ما ذكره لما خفي على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في أوّل الأمر ، فلا بدّ أن يكون إرسال النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأبي بكر ليس مخالفا لقاعدة العرب ، بل هو مع عزله بعليّ للتنبيه من اللّه ورسوله على فضل عليّ ، وأنّه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دون سائر الناس ؛ وعلى أنّ أبا بكر ليس أهلا للقيام مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ذلك ، فكيف يقوم مقامه في الزعامة العظمى؟! ولو أرسل عليّا علیه السلام أوّلا لم يحصل هذا التنبيه!
ثمّ إنّ الضمير في قوله في الحديث : « هو عليّ » راجع إلى الأذان ، أو المؤذّن المستفاد من الكلام.
ويشهد للأوّل ما في « الدرّ المنثور » ، عن ابن أبي حاتم ، أنّه أخرج عن حكيم بن حميد ، قال : « قال لي عليّ بن الحسين علیه السلام : إنّ لعليّ علیه السلام في كتاب اللّه اسما ، ولكن لا يعرفونه.
قلت : ما هو؟
قال : ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) ؟! هو واللّه الأذان » (1)
أقول :
وأنت تعلم أنّ تسميته علیه السلام في كتاب اللّه تعالى بالأذان المنسوب إلى
ص: 313
اللّه عزّ وجلّ ، دليل على شرف محلّه ، وخطر مقامه ، فلا يقاس به من لم يصلح لتأدية الرسالة.
* * *
ص: 314
وقال الفضل (1) :
في الروايات المشهورة أنّها في بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا يبعد أنّ بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله والوليّ يكون متّحدا.
ولا بأس بهذه الرواية ، فإنّ كلّ هذه تدلّ على الفضائل المتّفق عليها ، ولا دلالة فيها على النصّ ، وهو المدّعى.
* * *
ص: 316
حكاه في « الدرّ المنثور » ، عن ابن أبي حاتم ، عن ابن سيرين (1).
وما ذكره الفضل أنّها في دار النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرويّ أيضا ، ومقتضى الجمع أنّ دارهما واحدة ، كما ورد من طرقنا تصريح النبيّ صلی اللّه علیه و آله به بعد أن قال مرّة : « إنّ طوبى شجرة في الجنّة ، أصلها في داري وفروعها في دور أهل الجنّة ».
وقال مرّة : « أصلها في دار عليّ علیه السلام » (2).
ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من وجهين :
الأوّل : إنّها أبانت أنّ عليّا علیه السلام من أهل الجنّة ؛ وقد سبق مرارا أنّ إعلامه بشخصه بأنّه من أهل الجنّة يستدعي عصمته ، أو فضله على غيره.
الثاني : إنّ اتّحاد دار النبيّ صلی اللّه علیه و آله والوليّ دليل على أنّهما كنفس واحدة ، وبمنزلة متّحدة ، فيكون عليّ علیه السلام أفضل الناس وخيرهم حتّى الأنبياء ، فيكون إمام الأمّة ألبتّة.
* * *
ص: 317
وقال الفضل (1) :
لا يظهر ربطه بعليّ ؛ إذ المراد من الّذين ينتقم منهم : هم الكفّار ، وعليّ لم يحارب الكفّار بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
وإن أراد البغاة ، فالآية ليست نازلة في شأنهم ، كما يدلّ السابق واللاحق من الآية على أنّها نزلت في شأن الكفّار ؛ وإن صحّ فلا يدلّ على المدّعى.
* * *
ص: 319
هذا ممّا نقله في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه ، عن ابن عبّاس (1).
ونقله أيضا في « ينابيع المودّة » ، في الباب السادس والعشرين ، عن أبي نعيم ، عن حذيفة بن اليمان (2).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج ابن مردويه ، عن جابر ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هذه الآية : « نزلت في عليّ بن أبي طالب ، أنّه ينتقم من الناكثين والقاسطين بعدي » (3)
فهذه الرواية صريحة في نزول الآية بانتقام عليّ علیه السلام من البغاة ، كما هو مقتضى الأخبار الأخر.
وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ المراد من الّذين ينتقم منهم : هم الكفّار ، بدعوى دلالة ما سبق على الآية وما لحقها على ذلك ، فممنوع ؛ لشمول هذه الآيات للكافرين والمنافقين ، قال تعالى في سورة « الزخرف » : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ
ص: 320
فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) (1).
فإذا كان لفظ الآيات شاملا للكافرين والمنافقين ، وكان صالحا لتخصيصه بالمنافقين لدليل خاصّ كسائر العمومات ، فقد صحّ لتلك الأخبار أن يراد بالآيات الخصوص ، وأن يكون المراد بضمير الغيبة في قوله تعالى : ( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) هو : المنافقون ، لا سيّما مع التصريح - في رواية جابر المذكورة - بالانتقام من الناكثين والقاسطين ، فإنّهم وسائر البغاة على عليّ علیه السلام أعداء مبغضون له ، وقد استفاضت الأخبار كما مرّ مرارا أنّ بغضه علامة النفاق (2).
فإذا كان عليّ علیه السلام هو الذي وعد اللّه سبحانه بالانتقام به بعد النبيّ بمقتضى تلك الأخبار ، كان هو الإمام ؛ لأنّ قيامه مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في ما هو أنسب بعمل الخلفاء والأئمّة ظاهر في إمامته بعده.
ولو سلّم أنّ الآيات نازلة بالكافرين ، فالبغاة على أمير المؤمنين علیه السلام منهم ؛ لإنكارهم لإمامته ، والإمامة من أصول الدين كما هو الحقّ ..
ولقوله صلی اللّه علیه و آله : « حربك حربي » (3) ..
وقوله سبحانه : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) (4) الآية ، فإنّها نازلة بعليّ علیه السلام ومن حاربه ، كما
ص: 321
وقال الفضل (1) :
لا شكّ أنّ عليّا كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، لكن لا يدلّ هذا على النصّ على إمامته.
* * *
ص: 324
هذا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه (1).
وأوّل الآية : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (2).
وهذا المثل - كما تدلّ عليه الآيات السابقة على هذه الآية - قد ضربه اللّه سبحانه لنفسه وللأصنام ، فمثّلها بالأبكم العاجز ، ومثّل نفسه المقدّسة بعليّ علیه السلام ، وقال سبحانه : ( لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ) (3).
فيكون عليّ علیه السلام أعلى وأفضل من سائر الأمّة وإمامها ..
وأيضا : قد دلّ على أنّه على الصراط المستقيم ، فيكون معصوما ..
وعلى أنّه يأمر بالعدل أيضا ، فيكون أفضل وأولى بالإمامة ممّن قال :
« أما واللّه ما أنا بخيركم ، أفتظنّون أنّي أعمل فيكم بسنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا لا أقوم بها ، إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعصم بالوحي ، وكان معه ملك ، وإنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني ، أن لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم » (4).
ص: 325
73 - آية : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ )
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :
الثالثة والسبعون : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) (2).
عن ابن عبّاس : آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (3).
* * *
ص: 326
وقال الفضل (1) :
صحّ هذا ، وآل يس آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وعليّ منهم ، والسلام عليهم.
ولكن أين هو دليل المدّعى؟!
* * *
ص: 327
فضّل اللّه سبحانه في هذه السورة ، أي سورة الصافّات ، جماعة مخصوصة من الأنبياء ، فقال تعالى : ( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) (1) ..
وقال تعالى : ( سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ) (2) ..
وقال سبحانه : ( سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ) (3).
ثمّ ختم السورة بالتعميم لجميع المرسلين.
وخصّ أيضا في أثناء ذلك آل محمّد بالسلام ، فقال : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) (4) ، وهو دليل على شرف منزلتهم ، وأنّهم في قرن الأنبياء والمرسلين ؛ فيكون دليلا على فضلهم وإمامتهم للأمّة.
قال الرازي في ما حكاه عنه ابن حجر في « الصواعق » (5) : « إنّ أهل بيته صلی اللّه علیه و آله يساوونه في خمسة أشياء :
في السلام ، قال : السلام عليك أيّها النبيّ ، وقال : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) ..
وفي الصلاة عليه وعليهم في التشهّد ..
ص: 328
وفي الطهارة ، قال تعالى : ( طه ) (1) أي : يا طاهر ، وقال : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) ..
وفي تحريم الصدقة ..
وفي المحبّة ، قال تعالى : ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (3) ، وقال : ( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلأَالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (4) » (5).
وأقول :
لقد ترك عمدة ما يساوونه فيه ، وهو أنّهم حجج اللّه مثله (6) ؛ لكونهم خلفاءه الاثني عشر من قريش ، ونسي المباهلة بهم معه وعصمتهم ، وكثيرا من الفضائل التي يشاركونه بها دون الأمّة ، كالعلم بما في الكتاب ونحوه.
* * *
ص: 329
قد علمت ممّا سبق كذب دعوى نزولها في ابن سلّام ، وأنّ الحقّ نزولها في عديل القرآن وقرينه ، وباب مدينة علم سيّد المرسلين ، وأوضحنا دلالتها على إمامته هناك في الآية السابعة والعشرين (1).
وأمّا الآية الثانية ، فتعرف دلالتها على إمامته علیه السلام ممّا سبق في الآية الثانية والثلاثين (2) وغيرها ؛ لبشارتها له وإعلامها له بأنّهيؤتى كتابه بيمينه ، وأنّه في عيشة راضية في جنّة عالية.
وإنّما أعاد المصنّف رحمه اللّه ذكر الآية الأولى من هاتين الآيتين ؛ لأنّه إنّما رواها سابقا من طريق الثعلبي عن عبد اللّه بن سلّام ، ومن طريق أبي نعيم ، عن محمّد بن الحنفيّة (3).
وأمّا روايتها هنا فمن طريق ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، فإنّه روى نزول الآيتين معا في رواية واحدة ، كما في « كشف الغمّة » ، فحسن لذلك إعادتها بتبع أختها (4).
* * *
ص: 332
قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :
الخامسة والسبعون : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (2).
عن أبي هريرة ، قال : « قال عليّ بن أبي طالب : يا رسول اللّه! أيّما أحبّ إليك ، أنا أم فاطمة؟
قال : فاطمة أحبّ إليّ منك ، وأنت أعزّ عليّ منها ، وكأنّي بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس ، وأنّ عليه الأباريق مثل عدد نجوم السماء ، [ وإنّي ] وأنت والحسن والحسين وفاطمة وعقيل وجعفر في الجنّة إخوانا على سرر متقابلين ، أنت معي وشيعتك في الجنّة.
ثمّ قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) ، لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه » (3).
* * *
ص: 333
وقال الفضل (1) :
إن صحّ هذا فهو من فضائله وذكر درجاته العلى في الجنّة ، ولا ريب لمؤمن في هذا ؛ والبحث في وجود النصّ ، فأيّ نفع لذاكر هذه الفضائل في ذكرها؟!
* * *
ص: 334
سبق ذكر هذه الآية ، وهي الآية الثانية والثلاثون ، وإنّما أعادها المصنّف رحمه اللّه ؛ لأنّه نقلها سابقا ، عن « مسند أحمد » ، وذكرنا هناك تمام حديثه وبيّنّا وجوه دلالته(1).
وأمّا ذكرها هنا ؛ فلأنّ الحديث المذكور في المقام من أحاديث ابن مردويه (2) ، وهو مشتمل على خصوصيّات أخر تقتضي الإمامة أيضا ..
منها : إنّ عليّا علیه السلام هو الساقي على حوض النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، يذود عنه الناس ، وهو بظاهره يقتضي الامتياز والفضل على جميع الناس ، ولا أقلّ من دلالته على الفضل على هذه الأمّة ، فيكون إمامها.
ومنها : إنّ شيعته في الجنّة ، فيكون ما يعتقدونه من إمامته دون غيره حقّ.
ومنها : بشارته بشخصه بالجنّة ، وهو كما سبق (3) دليل على عصمته ، أو فضله على مثل المشايخ الثلاثة ممّن لا يصحّ تبشيره بهذه البشارة ، فيتعيّن دونهم للإمامة.
فإن قلت : على هذا يكون عقيل مساويا لعليّ علیه السلام بالعصمة أو الفضل على غيره ؛ لبشارته بشخصه أيضا في الجنّة ، فيلزم جواز إمامته وأنتم لا تقولونه!
ص: 335
قلت : قد اعتبرنا في الدلالة على العصمة أو الفضل علم الشخص بدخوله الجنّة ، وليس في الحديث ما يدلّ على علم عقيل ، وليس هو - أيضا - كعليّ علیه السلام عنده علم الكتاب ، والعلم بكلّ آية في من نزلت ، فلا يلزم علوّ رتبته كعليّ علیه السلام .
على أنّ عقيلا ليس بمعصوم ، فلا تجوز إمامته ، وإن فرض جواز بشارته وإعلامه بدخول الجنّة.
هذا ، ونقل نحو هذا الحديث في الباب الرابع والأربعين من « ينابيع المودّة » عن أبي نعيم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : « أنت يا عليّ على حوضي ، تذود عنه المنافقين ، وأنّ أباريقه عدد نجوم السماء ، وأنت والحسن والحسين وحمزة وجعفر في الجنّة ، إخوانا على سرر متقابلين ، وأنت وأتباعك معي » ، ثمّ قرأ : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (1).
* * *
ص: 336
هذا ممّا حكاه في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه (1).
ويؤيّده ما ورد من نزول أبعاض أخر من الآية في أمير المؤمنين علیه السلام ، كما عرفته في الآية الأربعين ، والرابعة والستّين (2).
والظاهر نزولها جميعا في النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين ؛ لتصريح صدرها بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وورود نزول جملة من أبعاضها في عليّ علیه السلام .
قال تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) - يعني : عليّا - ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (3).
ثمّ بيّن سبحانه مثل النبيّ وعليّ لمؤازرته له في دعوته بالزرع الذي ( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) أي : فراخه وصغاره (4) ، وذلك بلحاظ ابتداء دعوة النبيّ ، ( فَآزَرَهُ ) من حيث مؤازرة عليّ علیه السلام له صلی اللّه علیه و آله ، ( فَاسْتَغْلَظَ ) بهما ، ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) باستمرار دعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسيف عليّ علیه السلام ، ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) أي : بالنبيّ وعليّ.
ولا ريب أنّ من امتاز بكونه غيظا للكافرين ، لا بدّ أن يكون أقوى
ص: 339
المسلمين عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، وأعلاهم حجّة وأثرا ، وأفضلهم فهما وعلما ، وليس ذلك إلّا النبيّ والإمام.
* * *
ص: 340
77 - آية : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ )
قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه -(1) :
السابعة والسبعون : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ )(2).
قال الباقر علیه السلام : نحن الناس(3).
* * *
ص: 341
قال ابن حجر في « الصواعق » (1) : أخرج أبو الحسن المغازلي ، عن الباقر علیه السلام ، أنّه قال في هذه الآية : « نحن الناس واللّه » (2).
ونحوه في « ينابيع المودّة » (3).
وزاد رواية أخرى عن ابن المغازلي ، عن ابن عبّاس ، قال : « هذه الآية في النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفي عليّ علیه السلام » (4).
ووجه الدلالة على المطلوب ظاهر ؛ فإنّ المراد ب : ( ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) هو العلم والهدى والفهم والحكمة ، ونحوها من الصفات والفضائل التي هي شأن محمّد صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، لا أمور الدنيا الدنيّة.
ومن المعلوم : أنّ إيتاء هذا الفضل لعليّ علیه السلام الذي حسده الناس عليه يستدعي الأفضليّة والإمامة ، وإلّا لما حسدوه عليه.
كما أنّ مشاركته علیه السلام للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في الفضل - على الرواية الثانية - ، دليل على أنّ فضله من نوع فضل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فيكون الأفضل والأحقّ بخلافته.
ص: 343
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :
الثامنة والسبعون : ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) (2).
عن الحسن البصري ، قال : « المشكاة : فاطمة ، والمصباح : الحسن والحسين.
و ( الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ ) ، قال : كانت فاطمة كوكبا درّيّا بين نساء العالمين.
( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) ، قال : الشجرة المباركة : إبراهيم.
( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) ، لا يهوديّة ولا نصرانيّة.
( يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ) ، قال : يكاد العلم ينطف (3) منها.
( وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ ) ، قال فيها : إمام بعد إمام.
( يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) (4) ، قال : يهدي اللّه لولائهم (5) من يشاء » (6).
ص: 344
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ، وإن صحّ فدلّ على فضائل أهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو متّفق عليه ، ولو ذكر أضعاف هذا فلا ينازع منازع.
* * *
ص: 345
هذا من روايات ابن المغازلي على ما حكاه السيّد السعيد عنه (1).
ويشهد لصحّته ما نقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، في تفسير ما بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) (2) ، عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن أنس بن مالك وبريدة ، قال :
قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الآية : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) .
فقام إليه رجل ، فقال : أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه؟
قال : بيوت الأنبياء.
فقام إليه أبو بكر ، فقال : يا رسول اللّه! هذا البيت منها؟ - لبيت عليّ وفاطمة -.
قال : نعم ، من أفاضلها » (3).
ونقل المصنّف رحمه اللّه نحوه في « منهاج الكرامة » ، عن الثعلبي ، عن أنس وبريدة (4)
فإنّ قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ ) مرتبط بقوله : ( كَمِشْكاةٍ ) كما هو
ص: 346
الظاهر ، ووافق عليه الأكثر (1).
ومن المعلوم أنّ تقييد « المشكاة » بكونها في بيوت الأنبياء ، لا دخل له بظاهر الآية من إرادة تعظيم المشكاة بزيادة النور الظاهري ، فينبغي أن يراد بالمشكاة : فاطمة ، كما في رواية ابن المغازلي ؛ ليكون التقييد بكونها في بيوت الأنبياء مفيدا ، لزيادة تعظيمها ونورها المعنوي.
فيكون حاصل المعنى : أنّ مثل نوره تعالى كفاطمة العالمة ، المنيرة بمصباح نور الحسن والحسين ، المتضاعف نورها بأنوار الأئمّة من ولدها.
وهذا أدلّ دليل على إمامة عليّ وولده الأطهار ؛ فإنّه ذكر أنّ من فاطمة علیهاالسلام الأئمّة ، إماما بعد إمام.
ولا ريب - على القول بإمامتهم - أنّ إمامتهم فرع إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فتثبت إمامته ، كما هو المطلوب.
مضافا إلى أنّ اللّه سبحانه أظهر لفاطمة وولدها - بضرب المثل بهم لنوره - فضلا لا يوازى ، وفخرا لا يماثل.
ولا شكّ أنّ فضلهم من فضل عليّ علیه السلام ودونه ، فيكون أفضل الأمّة ، والأفضل هو الإمام.
هذا ، وقد روي عندنا ، عن إمامنا أبي جعفر الباقر علیه السلام ما هو أظهر في المطلوب ، وأقرب إلى معنى الآية ..
قال علیه السلام ما حاصله : إنّ ( كَمِشْكاةٍ ) : صدر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..
و ( الْمِصْباحُ ) : نور علمه ..
و ( الزُّجاجَةُ ) : صدر أمير المؤمنين علیه السلام ..
ص: 347
( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) ، أي : من نور علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ علمه صار إلى عليّ علیه السلام ..
( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) : لا يهودية ولا نصرانية ..
( يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) ، قال : يكاد العالم من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله يتكلّم قبل أن يسأل ..
( نُورٌ عَلى نُورٍ ) ، أي : إمام مؤيّد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (1).
* * *
ص: 348
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ؛ وترك قتال أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله هل يحتاج إلى الاستدلال بالنصّ ، وهو على إقامة الدليل على إثبات نصّ الإمامة ، ويستدلّ بالقرآن على عدم جواز قتلهم؟!
وهذا من غرائب أطواره في البحث!
* * *
ص: 350
النظر في الاستدلال إنّما هو إلى جعل قتل الناس لهم كقتل الناس لأنفسهم ؛ لأنّ حسم مادّة الفتن وحفظ الأنفس على الوجه الشرعي موقوف على أئمّة معصومين ، فتكون الآية دليلا على إمامتهم وعصمتهم.
ويعضدها قوله تعالى في الآية الستّين : ( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) (1) ، أي : دعاكم إلى ولاية عليّ علیه السلام .
فالمراد بالأنفس في الآية معناها الحقيقي ، ولكن كنّى بالنهي عن قتلها عن النهي عن قتل أهل البيت علیهم السلام ؛ لتوقّف حفظ النفوس عليهم.
ويحتمل أن يكون تجوّزا في نسبة القتل إلى الأنفس عن نسبته إلى أهل البيت علیهم السلام .
كما يحتمل أن يراد التجوّز في المفرد ، بأن يكون قد أطلق الأنفس على أهل البيت مجازا ؛ إشارة إلى أنّهم بمنزلة الأنفس في وجوب حفظها ورعايتها على الناس كلّهم ؛ لأنّ حياتهم حياة الأنفس من كلّ وجه ..
أمّا في الآخرة ؛ فلأنّهم الهداة ، وبهم النجاة .. وأمّا في الدنيا ؛ فلحفظ النفوس بهم ، وبهم السعادة والبركات ؛ ولذا قال سلمان الفارسي رضی اللّه عنه : « لو أطعتم عليّا لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أرجلكم » (2).
ويحتمل أن يكون تجوّزا في المفرد ، على أن يراد بالأنفس : أهل
ص: 351
البيت علیهم السلام ، وبقتلهم : غصب خلافتهم ؛ لأنّه آيل إلى قتلهم ، كما شهد به الوجدان.
* * *
ص: 352
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الثمانون : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (2).
عن ابن عبّاس ، قال : « سأل قوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله : في من نزلت هذه الآية؟
قال : إذا كان يوم القيامة عقد لواء من نور أبيض ، ونادى مناد : ليقم سيّد المؤمنين ومعه الّذين آمنوا ببعث محمّد صلی اللّه علیه و آله .
فيقوم عليّ بن أبي طالب ، فيعطى اللواء من النور الأبيض ، وتحته جميع السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار لا يخالطهم غيرهم ، حتّى يجلس على منبر من نور ربّ العزّة ، ويعرض الجميع عليه رجلا رجلا ، فيعطى أجره ونوره.
فإذا أتى على آخرهم قيل لهم : قد عرفتم صفتكم ومنازلكم في الجنّة إنّ ربّكم يقول لكم : إنّ لكم عندي مغفرة وأجرا عظيما - يعني : الجنّة -.
فيقوم عليّ - والقوم تحت لوائه - معهم حتّى يدخل بهم الجنّة ، ثمّ يرجع إلى منبره ، فلا يزال حتّى يعرض عليه جميع المؤمنين فيأخذ نصيبه
ص: 353
منهم إلى الجنّة ويترك أقواما على النار ، وذلك قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) (1) ، يعني : السابقين الأوّلين وأهل الولاية.
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) (2) ، يعني : بالولاية بحقّ عليّ ، وحقّ عليّ الواجب على العالمين » (3).
[ ( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) ، وهم الّذين قاسم عليّ عليهم النار فاستحقّوا الجحيم ].
* * *
ص: 354
وأقول :
نقله السيّد السعيد عن « شواهد التنزيل » للحاكم أبي القاسم الحسكاني(1).
ويؤيّده ما دلّ على أنّ عليّا قسيم الجنّة والنار(2) ، وأنّه سيّد المسلمين(3) ، وأنّه لا يدخل الجنّة إلّا من بيده براءة منه وسند
ص: 356
بولايته (1).
ودلالتها على إمامته من وجوه :
كونه سيّد المسلمين ..
وأنّهم يدخلون الجنّة بزمرته وتحت لوائه ..
وأنّهم يعرضون عليه جميعا ؛ فإنّها تقتضي إمامته ، ولو لدلالتها على فضله ، والأفضل هو الإمام ، ولا سيّما مع التصريح في آخر الحديث بأنّ حقّه واجب على العالمين ، وتصريحه بأنّ أهل الولاية له هم الّذين آمنوا باللّه ورسله ، وأنّ المكذّبين بولايته في زمرة الكافرين.
بل هذا كما يدلّ على إمامته ، يدلّ على أنّها من أصول الدين ؛ إذ لا يكفر من كذّب بغير أصوله!
* * *
ص: 357
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :
الحادية والثمانون : ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2).
نزلت في عليّ علیه السلام لمّا وصل إليه قتل حمزة رضی اللّه عنه ، فقال : « ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) » ؛ فنزلت هذه الآية (3).
* * *
ص: 358
وقال الفضل (1) :
هذا ليس من تفاسير أهل السنّة ، وإن صحّ فهو كسائر أخواته في عدم دلالته على النصّ.
* * *
ص: 359
هذا أيضا نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن تفسيري الثعلبي والنقّاش (1).
والاستدلال به على المطلوب من وجهين :
الأوّل : إنزال اللّه سبحانه القرآن في صبر عليّ علیه السلام وتسليمه لأمر اللّه تعالى ، وجعل الصلوات العديدة والرحمة عليه.
ومن الواضح أنّ ذكره علیه السلام بذلك - مع كثرة الصابرين القائلين : « ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) » - دليل على تميّزه بالصبر والتسليم الكاشفين عن كماله الذاتي وفضله على غيره ، فيكون هو الإمام.
الثاني : تعبير الكتاب العزيز عنه بصيغ الجموع مع حصر الاهتداء به بقوله : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) ، الدالّ على أنّ اهتداء غيره بالنسبة إليه كلا اهتداء.
فإنّ ذلك من أعظم الدلائل على عظمته عند اللّه سبحانه ، وارتفاع شأنه لديه ، وكونه أهدى الأمّة وأفضلها ، فيكون هو الإمام (3).
* * *
ص: 360
قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :
الثانية والثمانون : في مسند أحمد بن حنبل : قال ابن عبّاس : « ما في القرآن آية [ يا ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ] إلّا وعليّ رأسها وقائدها وشريفها وأميرها ، ولقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله في القرآن ، وما ذكر عليّا إلّا بخير » (2).
وعنه : « ما نزل في أحد من كتاب اللّه ما نزل في عليّ » (3).
وعن مجاهد : « نزل في عليّ سبعون آية » (4).
ص: 361
وعن ابن عبّاس : « ما أنزل اللّه آية وفيها : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا وعليّ رأسها وأميرها » (1).
* * *
ص: 362
وقال الفضل (1) :
هذه أخبار لو صحّت دلّت على فضائل عليّ ، وكلّ ما ينقله من مسند أحمد بن حنبل ، فهو يدلّ على أنّ أهل السنّة لا يألون جهدا في ذكر فضائل أمير المؤمنين.
ولو كان النصّ موجودا في إمامته ، لكانوا يروونه وينقلونه ولا يكتمونه ، فعلم أن لا نصّ هناك!
* * *
ص: 363
نقل المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » حديث أحمد (1) ، فأنكر ابن تيميّة أن يكون من أصل « المسند » ، وزعم أنّه من زيادات القطيعي ، ثمّ ناقش في سنده (2).
ونحن لا يهمّنا إثبات كونه من أصل « المسند » ، فإنّ القطيعي أيضا معتبر النقل عندهم (3).
وأمّا ضعف سنده ب ( زكريّا بن يحيى الكسائي ) ، فقد سبق جوابه في المقدّمة ، لا سيّما ولا داعي لهم إلى الطعن ب ( زكريّا ) إلّا روايته فضائل أهل البيت ومثالب أعدائهم ، وهو كما سبق في المقدّمة دليل وثاقته (4).
على أنّ الحديث ونحوه مستفيض عن ابن عبّاس (5) ، وروي عن غيره (6) ..
ص: 364
فقد نقل في « كنز العمّال » (1) ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس ، قال : « ما أنزل اللّه آية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا وعليّ رأسها وأميرها ».
ونقل فيه (2) ، عن أبي نعيم أيضا ، عن ابن عبّاس ، قال : « ما أنزل اللّه سورة في القرآن إلّا وكان عليّ أميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله وما قال لعليّ إلّا خيرا ».
ونقل ابن حجر في « الصواعق » (3) ، عن الطبراني ، وابن أبي حاتم (4) ، عن ابن عبّاس ، قال : « ما أنزل اللّه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا وعليّ أميرها وشريفها ، ولقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله في غير مكان وما ذكر عليّا إلّا بخير ».
ونقل في « كشف الغمّة » ، عن ابن مردويه نحو ذلك من عدّة طرق ، عن ابن عبّاس وحذيفة (5).
وهو دالّ على إمامة أمير المؤمنين ؛ لأنّ المراد بكون عليّ علیه السلام رأسها
ص: 365
وأميرها : هو كونه رأس من خوطب بها ، وهم المؤمنون ، وأنّه أميرهم وإن لم يكن داخلا معهم في الخطاب في بعض الآيات ، كقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (1) ..
وقوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) (2) ..
.. إلى غير ذلك ممّا عاتب اللّه به المؤمنين (3).
ولو سلّم أنّ مراد ابن عبّاس : دخول أمير المؤمنين معهم في الخطاب بجميع تلك الآيات ، فلا بدّ من تخصيصه بغير هذا النحو من الآيات ؛ لقوله : « وما ذكر عليّا إلّا بخير ».
هذا ، وقد استنهضت ابن تيميّة حميّة النصب لمعارضة هذه الأخبار ، فمخض زبد الباطل ، وروى ما افتراه بعض أسلافه من النواصب ، من أنّ اللّه تعالى أنزل في عليّ علیه السلام : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) (4) ، بدعوى أنّه صلّى وهو سكران ، فقرأ وخلط (5)!
وكيف يصدّق حديث يكذّب خبر اللّه سبحانه بطهارة عليّ علیه السلام
ص: 366
وإذهاب الرجس عنه (1)؟! والخمر رجس كما صرّح به الكتاب العزيز (2) ، لكنّ القوم لم يبالوا بتكذيب اللّه ورسوله إذا صدّقوا هواهم (3)!!
وقد اجترأ هذا الناصب على إمام الحقّ وسيّد الخلق بما هو أعظم من ذلك (4) ، ضاعف اللّه تعالى له جزاء ما عمل ، إنّه خير الحاكمين.
وما أكثر ما لغا في المقام بنقل أخبار قومه التي لا تقوم حجّة على خصمه ، وبذكر الأمور الواهية التي لا يليق بنا نقلها وردّها.
ثمّ إنّ من جملة ما نقله المصنّف رحمه اللّه قول ابن عبّاس : « ما نزل في أحد من كتاب اللّه ما نزل في عليّ علیه السلام » ، وهو ممّا نقله ابن حجر في « الصواعق » (5) عن ابن عساكر (6).
ويشهد لصحّته وصحّة قول مجاهد - الذي ذكره المصنّف (7) - الأخبار المستفيضة الدالّة على نزول ما سبق من الآيات وغيرها فيه.
بل حكى ابن حجر أيضا ، عن ابن عساكر ، عن ابن عبّاس ، أنّه
ص: 367
قال : « نزل في عليّ ثلاثمئة آية » (1)
بل في « ينابيع المودّة » عن الطبراني ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : « نزل في عليّ أكثر من ثلاثمئة آية في مدحه » (2)
وأنت تعلم أنّ كثرة نزول الكتاب بمدح شخص - ولو لأدنى مناسبة - دليل على فضله على غيره ، وعظمته عند اللّه سبحانه ، والأفضل هو الإمام ، لا سيّما وقد كانت الآيات مختلفة البيان ، فبعضها يفيد تفضيله ، وبعضها يفيد عصمته ، وبعضها وجوب اتّباعه ، وبعضها أنّه المسؤول عن ولايته ، إلى غير ذلك ممّا سبق.
وأمّا قول الفضل : « إنّ ما ينقله المصنّف رحمه اللّه عن مسند أحمد يدلّ على أنّ أهل السنّة لا يألون جهدا في ذكر فضائل أمير المؤمنين ، وأنّه لو كان نصّ في إمامته لنقلوه » ..
فباطل ؛ إذ كيف يروون ما يرونه نصّا مع ما عرفت في المقدّمة من أحوال ملوكهم وعلمائهم وعوامّهم مع من يروي له فضيلة (3)؟!
فكيف بمن يروي ما يرونه نصّا عليه؟!
وقد عرفت أيضا في الآية الخامسة والعشرين ، أنّ الزمخشري حكم بكراهة الصلاة على آل محمّد صلی اللّه علیه و آله إذا أفردوا بالذكر ؛ لأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض ، مع اعترافه برجحان الصلاة عليهم بالكتاب والسنّة (4).
ص: 368
فكيف يروي أحدهم النصّ الصريح على إمامة عليّ علیه السلام ؟!
بل كيف يروون النصّ عليه وهو خلاف مذهبهم؟! كما يشهد له ما في « مسند أحمد » (1) ، حيث أخرج عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : يهلك أمّتي هذا الحيّ من قريش.
قالوا : فما تأمرنا يا رسول اللّه؟
قال : لو أنّ الناس اعتزلوهم.
قال عبد اللّه بن أحمد : قال أبي في مرضه : « إضرب على هذا الحديث ، فإنّه خلاف الأحاديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله » يعني قوله : « اسمعوا وأطيعوا واصبروا » (2).
فأنت ترى أنّ أحمد أمر بالضرب على هذا الحديث مع صحّة سنده عندهم ؛ لمخالفته للأحاديث الدالّة على السمع والطاعة لأئمّة الجور والضلالة ، فكيف يروي هو أو غيره ما يعتقدونه نصّا على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام وخلافته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، المستلزم لظلم الأوّلين له وبطلان خلافتهم؟!
وما روى أكثر الخصوم فضائل أهل البيت إلّا لتوهينها ، أو دفع وصمة النصب الخبيثة عنهم ، أو للفخر بالاطّلاع ، أو غير ذلك من الغايات الفاسدة.
ومع ذلك ترى جملة ممّن رواها ساقطا عندهم إذا توهّموا فيه حبّ أهل البيت علیهم السلام ، وإن كان من أعلامهم!
ص: 369
فكان من إتمام اللّه تعالى الحجّة عليهم أن أجراها على ألسنة أقلامهم ؛ لئلّا يقولوا يوم القيامة : ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (1).
ولا يضرّها الطعن بالسند ؛ لصحّة الكثير منها عندهم ، واستفاضة أكثرها - مع ما بيّنّاه في المقدّمة (2) -.
كما لا يضرّها توهين الدلالة ، فإنّ الكثير منها صريح الدلالة ، وما آفتها إلّا عناد المخاصمين ، كما عرفته في جملة ممّا سبق ، وتعرفه في حديث المنزلة والثقلين ونحوهما.
ولو نقلوا أحاديث فضائل أمير المؤمنين علیه السلام على وجهها ، لظهر لك كيف دلالتها على إمامته! حتّى إنّهم لم ينقلوا من نصّ الغدير إلّا اليسير ، وأخفوا أكثر ما فيه الصراحة الذي يقطع كلّ غافل بوجوده ؛ إذ لا يمكن أن يجمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله نحو مئة ألف من المسلمين ويقوم فيهم بحرّ الحجاز وقت الظهيرة على منبر يقام له من الأحداج (3) ، ويخطبهم لداعي حضور أجله وهو لا يقول إلّا : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » (4)، أو بزيادة قليلة عليه ، ومع ذلك لا يريد إلّا بيان أنّ عليّا ناصر لمن كنت ناصره أو نحوه ، ما أظنّ أنّ عاقلا يرتضيه!!
ص: 370
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :
الثالثة والثمانون : روى الحافظ محمّد بن موسى الشيرازي (2) من علماء الجمهور ، واستخرجه من التفاسير الاثني عشر ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) (3) ، قال : « هم : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، هم أهل الذكر والعلم والعقل والبيان ، وهم أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ؛ واللّه ما سمّي المؤمن مؤمنا إلّا كرامة لأمير المؤمنين (4).
ورواه سفيان الثوري ، عن السّدّي ، عن الحارث (5).
* * *
ص: 371
وقال الفضل (1) :
ليس هذا من روايات أهل السنّة ، وهي أشياء تدلّ على فضيلة آل العباء ، وهذا أمر لا ريب فيه ، ولا ينكره إلّا المنافق ، ولا يعتقده إلّا المؤمن الخالص ، ولكن لا يثبت به النصّ.
* * *
ص: 372
الحافظ المذكور هو من علماء القوم ، والتفاسير الاثنا عشر من أشهر تفاسير قدمائهم كما سيذكرها المصنّف رحمه اللّه في « مطاعن الصحابة ».
فإنكار الفضل لكونه من روايات تفاسيرهم إنكار بارد ، وظنّي أنّه لم ير كتاب الحافظ المذكور ، وأنكر رجما بالغيب.
ويعضد هذه الرواية ما نقله في « ينابيع المودّة » (1) ، عن تفسير الثعلبي (2) ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال : قال عليّ علیه السلام : نحن أهل الذكر.
و« الذكر » في القرآن قد أطلق على معنيين مناسبين للمقام ، نبّه عليهما إمامنا الصادق علیه السلام وقال : « نحن أهل الذكر » (3) بكلا المعنيين :
أحدهما : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى في سورة الطلاق : ( قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللّهِ ) (4) (5).
وثانيهما : القرآن ، وهو في الكتاب العزيز كثير ، كقوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (6) وقوله تعالى :
ص: 373
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (1) (2).
ومن الواضح أنّ أهل البيت : أهل الذكر ، بكلا المعنيين ، كما سبق عن إمامنا علیه السلام (3) ؛ لأنّهم أهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأهل القرآن ؛ لأنّ علم القرآن عندهم ، وهما الثقلان اللذان لا يفترقان.
والأظهر إرادة المعنى الثاني في قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) ، ولا ينافي إرادة الأوّل دخول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أهل الذكر على الرواية التي نقلها المصنّف رحمه اللّه ؛ لصحّة إطلاق أهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ما يشمله تغليبا (4).
وعلى كلا المعنيين ، فأمر اللّه سبحانه بسؤالهم ، دليل على أنّ لهم العلم الوافر ، والامتياز والفضل على الناس ، فتكون الإمامة فيهم ، مع أنّ قوله في الحديث : « واللّه ، ما سمّي المؤمن مؤمنا إلّا كرامة لأمير المؤمنين » ، قد تضمّن من بيان الفضل على غيره ما لا يوازيه بيان.
وقريب منه قوله : « هم أهل الذكر ، والعلم ، والعقل ، والبيان ... » إلى آخره.
* * *
ص: 374
قال المصنّف - قدس سره - (1) :
الرابعة والثمانون : وعن الحافظ في قوله تعالى : ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) (2) ، بإسناده إلى السّدّي ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ ولاية عليّ يتساءلون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميّت في شرق ولا غرب ، ولا في برّ ولا بحر ، إلّا ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين علیه السلام بعد الموت ، يقولون للميّت : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ ومن إمامك؟ (3)
وعنه : عن ابن مسعود ، قال : « وقعت الخلافة من اللّه تعالى لثلاثة نفر :
آدم ، في قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (4).
وداود : ( إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) (5).
وأمير المؤمنين : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
ص: 375
مِنْ قَبْلِهِمْ ) (1) ، داود وسليمان (2) ..
( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ) (3) ، يعني : الإسلام ..
( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ ) ، يعني : من أهل مكّة ..
( أَمْناً ) ، يعني : في المدينة ..
( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) ، يعني : يوحّدونني ..
( وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ ) ، بولاية عليّ ..
( فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (4) ، يعني : العاصين لله ولرسوله ».
وهذا كلّه نقله الجمهور واشتهر عنهم وتواتر (5).
* * *
ص: 376
وقال الفضل (1) :
ما ذكر أنّ المراد ب ( عَمَ ) : عليّ ، فلا يصحّ بحسب المعنى والتركيب ، ويكون هكذا : « عليّ يتساءلون ، عن النبأ العظيم » ، وأنت تعلم أن هذا تركيب فاسد.
وأمّا ما ذكر من السؤال في القبر عن ولاية عليّ ، فلم يثبت هذا في الكتاب ولا السنّة ، ولو كان من المسؤولات في القبر ، لكان ينبغي أن يعلمنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتواتر واشتهر كما اشتهر باقي أركان الإسلام.
وأمّا ما نقل عن ابن مسعود ، أنّه وقعت الخلافة من اللّه لثلاثة : آدم ، وداود ، وعليّ ؛ فآدم وداود قد صرّح باسمهما في الخلافة فيالقرآن.
وأمّا أن يكون المراد من قوله : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) عليّ فحسب ، فغير ظاهر ، ولا خبر صحيح يدلّ على هذا ، بل الظاهر يشمل الخلفاء الأربع وملوك العرب في الإسلام ..
فإنّ ظاهر الآية : أنّ اللّه وعد المؤمنين بأن يجعلهم خلفاء الأرض ، وينزع الملك من كسرى وقيصر ويؤتيه المؤمنين ، وهذا مضمون الآية ، وما فسّره في الآية فكلّه من باب التفسير بالرأي.
وما ذكر أنّ كلّ الأشياء التي ذكرها نقله الجمهور ، واشتهر عنهم ،
ص: 377
وتواتر ؛ فهذا كذب أظهر وأبين من كذب مسيلمة الكذّاب ؛ لأنّ مراده من الجمهور : أهل السنّة والجماعة ، وليس كلّ ما ذكر متواتر عند أهل السنّة ، وكأنّه لا يعلم معنى التواتر.
* * *
ص: 378
وأقول :
ما ذكره في صدر كلامه دليل الغفلة أو المغالطة ؛ إذ لا يتصوّر أحد أنّ الرواية ، أو ذكر المصنّف رحمه اللّه نزول الآية في عليّ علیه السلام يقتضي كون مجموع الجار والمجرور عليّا ، ضرورة أنّ صريح الرواية أنّ المراد بالمجرور ، وهو « ما » الاستفهامية : ولاية عليّ علیه السلام ، التي هي النبأ العظيم.
ويحتمل أن يكون النبأ العظيم عليّا نفسه ، وأنّه المسؤول عنه ، لكن لمّا كان السؤال عنه لأجل التقرير بولايته ، عبّرت الرواية بالسؤال عن ولايته ، وأشار الشاعر إلى أنّه المراد بالنبأ العظيم بقوله [ من الوافر ] :
هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب اللّه وانقطع الخطاب (1)
وأمّا ما زعمه من عدم ثبوت السؤال عن ولاية عليّ في القبر ، فيكفي في ثبوته هذه الرواية المؤيّدة بالأخبار السابقة في الآية الحادية عشرة(2) ، وهي قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )(3).
وأمّا قوله : « ولو كان من المسؤولات [ في القبر ] ، لكان ينبغي أن يعلمنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتواتر ... » ..
ص: 379
فيرد عليه : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أعلمهم به ، كما في هذه الرواية ونحوها ، وقد تواتر عندنا ، وإنّما لم يتواتر عندهم ؛ لأنّه على خلاف رأي ملوكهم.
وكيف لا يسأل عن ولاية عليّ وإمامته ، والإمامة كالنبوّة من أركان الإيمان وأصول الدين كما سبق (1)؟!
فإذا كان عليّ علیه السلام هو المسؤول عن إمامته ، فيقال للميّت : من إمامك؟ ، كان هو الإمام لا من قبله ، وإلّا لوقع السؤال عنه بالأولويّة.
وأمّا ما رواه المصنّف رحمه اللّه عن ابن مسعود ، فيؤيّده أنّ الاستخلاف المذكور في قوله تعالى : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) مسند إلى اللّه تعالى ، وهو مطابق بظاهره لمذهبنا في الإمامة ، لا لمذهب القوم فيها ؛ فإنّها عندهم إنّما تثبت بالاختيار لا باستخلاف اللّه سبحانه ، مع أنّ الآية صريحة بتمكين الخليفة من دين اللّه الذي ارتضاه ، وهو فرع العلم بالدين كلّه ، والخلفاء الثلاثة ليسوا كذلك.
وأظهر منهم بعدم الإرادة ، بقيّة ملوك العرب ، كمعاوية ويزيد والوليد وأشباههم ، بل الظاهر دخولهم في قوله تعالى بعد هذا القول : ( وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (2) كما بيّنه الزمخشري بقوله في تفسير الآية : « أنجز اللّه وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب ، ومزّقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا ، ثمّ خرج الّذين على خلاف سيرتهم ، فكفروا بتلك النعم ، وفسقوا ، وذلك قوله صلی اللّه علیه و آله : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ يملّك اللّه من يشاء ،
ص: 380
فتصير ملكا ، ثمّ تصير بزّيزى (1) قطع سبيل ، وسفك دماء ، وأخذ أموال بغير حقّها » (2).
فإنّ كلامه كما ترى دالّ على ما قلناه من كفر بقيّة ملوك العرب ، وإن أخطأ في دعوى إرادة الاستخلاف للخلفاء الأربعة جميعا ؛ لما عرفت من عدم تمكين الثلاثة من الدين الذي ارتضاه ؛ ولأنّ الاستخلاف من اللّه تعالى إنّما هو لعليّ ، وأمّا غيره فإمامته بالاختيار.
ولنذكر كلام الرازي هنا ؛ لأنّ به وبردّه تمام المطلوب ، قال :
« المسألة الثامنة : دلّت الآية على إمامة الأئمّة الأربعة ؛ وذلك لأنّه تعالى وعد الّذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وهو المراد بقوله : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (3) ، وأن يمكّن لهم دينهم المرضي ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا.
ومعلوم أنّ المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ؛ لأنّ استخلاف غيره لا يكون إلّا بعده ..
ومعلوم أنّه لا نبيّ بعده ؛ لأنّه خاتم النبيّين ..
فإذا المراد بهذا الاستخلاف : طريقة الإمامة.
ومعلوم أنّ بعد الرسول الاستخلاف الذي هذا وصفه إنّما كان في أيّام أبي بكر وعمر وعثمان ؛ لأنّ في أيّامهم كانت الفتوح العظيمة ، وحصل
ص: 381
التمكين ، وظهور الدين ، والأمن ، ولم يحصل في أيّام عليّ ؛ لأنّه لم يتفرّغ للجهاد ؛ لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة.
فثبت بهذا دلالة الآية على صحّة خلافة هؤلاء.
فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ؛ لأنّها تقتضي حصول الخلافة لكلّ من آمن وعمل صالحا ، ولم يكن الأمر كذلك.
نزلنا عنه ؛ لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) : هو أنّه تعالى يسكنهم في الأرض ويمكّنهم من التصرّف ، لا أنّ المراد منه : خلافة اللّه تعالى؟!
وممّا يدلّ عليه قوله : ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ، واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الإمامة ، فوجب أن يكون الأمر في حقّهم أيضا كذلك.
نزلنا عنه ؛ لكن هاهنا ما يدلّ على أنّه لا يجوز حمله على خلافة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ [ من ] مذهبكم أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يستخلف أحدا ، وروي عن عليّ أنّه قال : « أترككم كما ترككم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ».
نزلنا عنه ؛ لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه عليّا ، والواحد قد يعبّر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ، كقوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (1) ، وقال تعالى في حقّ عليّ : ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (2)؟!
نزلنا عنه ؛ ولكن نحمله على الأئمّة الاثني عشر.
ص: 382
والجواب عن الأوّل : إنّ كلمة « من » للتبعيض ، فقوله : ( مِنْكُمْ ) ، يدلّ على أنّ المراد بهذا الخطاب : بعضهم.
وعن الثاني : إنّ الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، فالمذكور هنا في معرض البشارة لا بدّ أن يكون مغايرا له.
وأمّا قوله : ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ، فالّذين كانوا قبلهم خلفاء تارة بسبب النبوّة ، وتارة بسبب الإمامة ، والخلافة حاصلة بالصورتين.
وعن الثالث : إنّه وإن كان من مذهبنا أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يستخلف أحدا بالتعيين ، ولكنّه قد استخلف بذكر الوصف والأمر بالاختيار ، فلا يمتنع في هؤلاء الأئمّة الأربعة أنّه تعالى يستخلفهم ، وأنّ الرسول استخلفهم.
وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر : يا خليفة رسول اللّه!
فالذي قيل : إنّه علیه السلام لم يستخلف ؛ أريد به على وجه التعيين ؛ وإذا قيل : استخلف ؛ فالمراد على طريقة الوصف والأمر.
وعن الرابع : إنّ حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز ، وهو خلاف الأصل.
وعن الخامس : إنّه باطل لوجهين :
أحدهما : قوله تعالى : ( مِنْكُمْ ) يدلّ على أنّ هذا الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمّة ما كانوا حاضرين.
الثاني : إنّه تعالى وعدهم القوّة والشوكة والنفاذ في العالم ، ولم يوجد ذلك فيهم.
فثبت بهذا صحّة إمامة الأئمّة الأربعة ، وبطل قول الرافضة الطاعنين
ص: 383
على أبي بكر وعمر وعثمان ، وبطلان قول الخوارج الطاعنين على عثمان وعليّ ».
انتهى كلام الرازي (1).
وأقول :
الكلام معه في هذه الآية الكريمة إنّما هو بالنظر إلى ما يستفاد من ظاهرها ، بلا نظر إلى ما ورد في تفسيرها ، فإنّها - عليه - نازلة في أمير المؤمنين علیه السلام كما عرفته في رواياتهم ، أو في الحجّة المنتظر ، كما ورد في أخبارنا (2) ، ويمكن الجمع بين الأخبار بإرادة الاستخلاف لهما معا.
وعليه : فبالنظر إلى ظاهرها يرد على كلامه أمور :
الأوّل : إنّ قوله : « إنّ المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ؛ لأنّ استخلاف غيره لا يكون إلّا بعده ... » إلى آخره ..
غير متّجه ؛ لأنّ المراد بقوله تعالى : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) بحسب ظاهره هو الاستخلاف عمّن قبلهم من الأمم لا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فيمكن أن يراد استخلاف المؤمنين ، وتمكينهم من الدين وتبديل خوفهم أمنا في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .
ولو سلّم أنّ المراد الاستخلاف عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا يتّجه حمله على الاستخلاف في أيّام الثلاثة ؛ إذ لم يحصل لهم التمكين من الدين الذي ارتضاه اللّه تعالى وأكمله ؛ لجهلهم بكثير منه.
ص: 384
بل قد يقال : إنّ ظاهر الآية لا يلائم الحمل على الاستخلاف في أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفي أيّام الثلاثة وأيّام أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لظهور الآية في وقوع الاستخلاف في الأرض كلّها ، أو أكثرها ، فينبغي حمله على الاستخلاف أيّام الحجّة المنتظر عجّل اللّه فرجه.
الثاني : إنّ قوله : « ولم يحصل ذلك في أيّام عليّ ... » إلى آخره ..
مناف لما زعمه في صدر كلامه من دلالة الآية على خلافة الأربعة جميعا!
على أنّ تعليله له بقوله : « لأنّه لم يتفرّغ لجهاد الكفّار » عليل ؛ إذ لم تشترط الآية في حصول الاستخلاف أن يكون بجهاد المستخلف نفسه للكفّار.
ولعلّه أشار بقوله : « لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة » إلى الطعن في حرب أمير المؤمنين بأنّه حارب المصلّين ، أو إلى تفضيل حرب من سبقه على حربه ؛ لأنّهم حاربوا الكفّار وهو حارب أهل الصلاة ، وكأنّه لم يعلم بما رواه أصحابه من أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».
فقام إليه أبو بكر ، ثمّ عمر ، وقال كلّ منهما : أنا هو؟
فقال صلی اللّه علیه و آله : « لا ، ولكنّه خاصف النعل - يعني عليّا - » (1)
فإنّه دالّ على أنّ حرب عليّ علیه السلام - كحربه صلی اللّه علیه و آله - مأمور به من اللّه سبحانه دون حرب الرجلين ، فلم يحارب أمير المؤمنين علیه السلام إلّا مهدور
ص: 385
الدم ، ومن لا تقبل صلاته ، ولم يحارب الرجلان حربا مشروعا واقعا على تنزيل القرآن أو تأويله ، فإنّهما عزلا من له المنصب والحرب الإلهيّة ، وحاربا بلا أمر منه ، فكانا كمن عزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحارب باستقلاله.
الثالث : إنّ جوابه عن الإشكال الثالث بدعوى ثبوت الاستخلاف بالوصف والأمر ، غير صحيح ؛ لأنّا لو لم نقل بالنصّ على أمير المؤمنين علیه السلام فلا دليل على الاستخلاف أصلا ، لا بالتعيين ولا بالوصف ، كما هو ظاهر ..
ولا بالأمر بالاختيار ؛ إذ غاية ما استدلّوا به على الأمر بالاختيار هو الإجماع ، وقد أوضحنا لك كذبه في أوائل مباحث الإمامة (1).
وقوله : « وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر : يا خليفة رسول اللّه »!! تخمين محض ، وفرية (2) أخرى ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في أوّل مآخذ أبي بكر.
الرابع : إنّ دعواه - في الجواب عن الرابع - مجازية حمل الجمع على الفرد مسلّمة ، لكن لا بدّ من المصير إلى هذا المجاز ؛ لقيام القرينة عليه ، كالرواية التي سمعتها ، الدالّة على النزول بأمير المؤمنين ، وكنسبة الاستخلاف إلى اللّه لا إلى الناس ، وكالقرينة العقليّة المانعة من النزول في الثلاثة ، كعدم تمكينهم من الدين ونحوه.
الخامس : إنّ ما ذكره من الوجهين لإبطال الخامس ليس في محلّه ..
أمّا الوجه الأوّل ؛ فلصحّة خطاب الجمع بحضور البعض ، تغليبا
ص: 386
للحاضرين على الغائبين ، فلا يكون عدم حضور أئمّتنا الاثني عشر مانعا من الوعد لهم ، لا سيّما وقد حضر عظماؤهم ، وهم أمير المؤمنين والحسنان علیهم السلام .
وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الوعد للأئمّة بالقوّة (1) لا يتوقّف على ثبوتها لكلّ فرد منهم ، بل يكفي ثبوتها لبعضهم ، كأمير المؤمنين والإمام المنتظر ؛ لأنّ قوّة البعض قوّة للجميع ، على أنّ القوّة حاصلة لكلّ منهم في الرجعة كما جاءت به أخبارنا (2).
واعلم ، أنّ الآية التي نحن فيها وما قبلها وما بعدها من الآيات مرتبطة ظاهرا بعموم المسلمين الحاضرين حال الخطاب ، ولكنّه تعالى خصّ الوعد ببعضهم ، وهم الّذين وصفهم اللّه سبحانه بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فينبغي أن يكون غير هذا البعض غير موصوفين بهذا الوصف ؛ إمّا لعدم عملهم بالصالحات ، أو لكونهم غير مؤمنين ، أي غير كاملي الإيمان ، أو غير ثابتي الإيمان ، لا أنّهم غير مسلمين ولا مؤمنين أصلا ؛
ص: 387
لفرض تعلّق الآيات بالمسلمين.
فالبعض الموعود بالاستخلاف ممتاز ، إمّا بعمل الصالحات ، أو كمال الإيمان ، أو ثباته ، وما هو إلّا أمير المؤمنين وأبناؤه الأطهار المعصومون ؛ لأنّ الخلفاء الثلاثة - فضلا عن غيرهم - ليسوا كذلك ؛ ولو لفرارهم من الزحف (1) ، وتخلّفهم عن جيش أسامة (2) ، وشكّ عمر يوم الحديبية (3) ، إلى كثير ممّا صدر عنهم ، ممّا ينافي كمال الإيمان وعمل الصالحات.
هذا ، وأمّا قول الفضل : « وليس كلّ ما ذكر متواترا عند أهل السنّة » ..
فمسلّم إذا أراد التواتر لفظا ، وأمّا معنى - بلحاظ الإمامة - ، فممنوع ؛ لأنّ كلّ واحد ممّا ذكر مفيد لإمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فإمامته متواترة معنى كما تواترت شجاعته.
بل قد يدّعى تواتر بعض ما ذكر بخصوصه ، معنى أو لفظا ، ولا سيّما مع ضمّ أخبارنا إلى أخبارهم!
* * *
ص: 388
قد عثرنا في أثناء الكلام في الآيات على آيات أخر ذكرها القوم مضافا إلى ما سبق من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه .
فمنها : ما سبق في بيان الآية الثانية ؛ وهو قوله تعالى : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) (1).
ومنها : ما سبق في الآية الرابعة ؛ وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) (2).
ومنها : ما سبق في أثناء بيان الآية الثامنة والخمسين ؛ وهو قوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) (3).
ومنها : ما تقدّم في الآية الثامنة والسبعين ؛ وهو قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) (4).
وقد أحببت أن أذكر أيضا ممّا عثرت عليه ما به تمام مئة ، وهو اثنتا عشرة آية :
ص: 389
( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (1).
قال ابن حجر في « الصواعق » عند كلامه في هذه الآية ؛ وهي الآية الخامسة من الآيات النازلة في أهل البيت :
أخرج الثعلبي في تفسيرها عن جعفر الصادق ، أنّه قال : « نحن حبل اللّه الذي قال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) » (2).
ومثله في « ينابيع المودّة » عن الثعلبي (3) ، وزاد عن « المناقب » : عن ابن عبّاس ، قال : « كنّا عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذ جاء أعرابيّ فقال : يا رسول اللّه! سمعتك تقول : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ ) ، فما حبل اللّه الذي نعتصم به؟
فضرب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يده في يد عليّ علیه السلام وقال : تمسّكوا بهذا ، هو حبل اللّه المتين » (4).
والمراد بحبل اللّه : السبب الواصل بين اللّه سبحانه وعباده ، وبالاعتصام به : اتّباعه والتمسّك به ، وبعدم التفرّق عنه : عدم مخالفة أحد له ؛ وهذا معنى اتّخاذ الأمّة له إماما.
ويؤيّده حديث الثقلين (5) ..
ص: 390
وما رواه الحاكم وصحّحه (1) ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (2).
والظاهر : أنّ المراد بكونهم أمانا من الاختلاف ؛ أنّهم بالنصّ عليهم يرتفع الخلاف في الإمامة ؛ لتعيين الإمام من اللّه تعالى ، وعدم إرجاع أمر الإمامة إلى اختيار الناس حتّى يحصل بسببه الاختلاف.
* * *
ص: 391
( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (1).
ففي « الصواعق » عند الكلام في هذه الآية ، وهي الآية الثامنة من الآيات النازلة في أهل البيت ، قال :
قال ثابت البناني : اهتدى إلى ولاية أهل بيت نبيّه ، وجاء ذلك عن أبي جعفر الباقر (2).
وفي « ينابيع المودّة » ، عن أبي نعيم ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، قال في هذه الآية : اهتدى إلى ولايتنا (3).
ثمّ نقل في « الينابيع » نحو هذا كثيرا (4).
والمراد بالولاية : الإمامة ؛ لأنّها هي التي تعتبر في الغفران ، ويناسب تعلّق الهداية بها ، ولو سلّم أنّ المراد بالولاية : المحبّة ، فهو دليل على فضلهم على الأمّة ؛ إذ لا تعتبر محبّة غيرهم في الغفران ، والأفضلية تقتضي الإمامة.
ص: 392
وإنّما عطف سبحانه الهداية ب ( ثمّ ) ، مع أنّه قد عطف ما قبلها بالواو ، للنظر إليها بعين الاستقلال الدالّ على تميّزها والاهتمام بها ، لا لانحطاط رتبتها عمّا قبلها ، ضرورة أنّ الاهتداء إلى الإمامة أو محبّتهم خير الأعمال الصالحة ، ومن لم يوالهم فهو منافق.
* * *
ص: 393
( أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (1).
قال الواحدي في « أسباب النزول » : « نزلت في حمزة وعليّ وأبي لهب وولده ؛ فعليّ وحمزة ممّن شرح اللّه صدره للإسلام ، وأبو لهب وأولاده الّذين قست قلوبهم عن ذكر اللّه » (2).
فقد شهد اللّه سبحانه بأنّه قد شرح صدر عليّ وحمزة للإسلام ، وأنّهما على نور من ربّهما.
ولا شكّ أنّ من هو كذلك يلتزم بكلّ أحكام الإسلام أصولا وفروعا ، فيكون معصوما أو بحكمه ، وأفضل الأمّة.
ولا ريب أنّ عليّا علیه السلام أكمل في ذلك من حمزة ، فيكون إمام الأمّة.
* * *
ص: 394
( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ) (1)
إلى قوله تعالى : 23 [ و 24 ] :
( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ ) (2).
روى الحاكم في تفسير سورة الحجّ من « المستدرك » (3) ، عن قيس ابن عبّاد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم لنزلت هذه الآية في هؤلاء الرهط
ص: 395
الستّة في يوم بدر : عليّ ، وحمزة ، وعبيدة ، وعتبة ، وشيبة ، والوليد ، ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ، إلى قوله تعالى : ( نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (1).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج عبد بن حميد ، عن لاحق ابن حميد ، قال : نزلت هذه الآية يوم بدر : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ... ) في عتبة وشيبة والوليد.
ونزلت : ( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلى قوله : ( وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ ) في عليّ وحمزة وعبيدة (2).
وقال السيوطي أيضا : أخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في « الدلائل » ، عن أبي ذرّ ، أنّه كان يقسم قسما أنّ هذه الآية : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) إلى قوله : ( إِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) (3) نزلت في الثلاثة الّذين تبارزوا يوم بدر ، وهم : حمزة ، وعبيدة ، وعليّ ، وعتبة ، وشيبة ، والوليد.
قال عليّ : أنا أوّل من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي اللّه يوم القيامة (4).
ص: 396
أقول :
جعله لنهاية هذه الآيات قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) خطأ ، بل هو نهاية لآية أخرى قبل الآيات المذكورة ، وهي قوله : ( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) (1).
فلعلّ بعض من نقل عنهم السيوطي قد ذكر نزول هذه الآية أيضا في عليّ وحمزة وعبيدة ، فغفل عن البيان.
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن جرير والبيهقي ، من طريق قيس بن عبّاد ، عن عليّ علیه السلام ، قال : أنا أوّل من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة.
قال قيس : فيهم نزلت : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال : هم الّذين بارزوا يوم بدر : عليّ ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد (2).
ص: 397
ودلالة الآيات على المطلوب ظاهرة ، لبشارتها لعليّ بالجنّة مع علمه بذلك ؛ لأنّ عنده علم الكتاب (1) ، وهو قرين له.
وقد مرّ مرارا دلالة مثل ذلك على إمامته علیه السلام ، كما أوضحناه في الآية الثانية والثلاثين (2).
* * *
ص: 398
( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) (1).
روى الواحدي في « أسباب النزول » ، عن مجاهد ، قال : نزلت في عليّ وحمزة علیهماالسلام وأبي جهل لعنه اللّه (2).
وهي كالآية التي قبلها في الدلالة على المدّعى ، وكذا الآية الآتية.
* * *
ص: 399
( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) (1).
قال في « الكشّاف » : نزلت في عليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر (2).
ولا يلزم من الدلالة المذكورة في هذه الآية والتي قبلها إمامة حمزة وعبيدة ؛ لعدم علمهما بالنزول فيهم بخلاف أمير المؤمنين علیه السلام ، مع أنّهما مفضولان له ، ولا تجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
مضافا إلى موتهما قبل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فلا مورد لإمامتهما حتّى لو قلنا بإمكانها.
* * *
ص: 400
( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) (1).
قال في « الصواعق » عند الكلام في هذه الآية ، وهي الثالثة عشرة من الآيات الواردة في أهل البيت : أخرج الثعلبي في تفسيرها عن ابن عبّاس ، قال : الأعراف : موضع عال من الصراط ، عليه العبّاس وحمزة وعليّ وجعفر ، يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ، ومبغضيهم بسواد الوجوه (2).
ومثله في « ينابيع المودّة » عن الثعلبي ، بزيادة روايات أخر عن غيره (3).
ونقل في « كشف الغمّة » في الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : ( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ ) (4) ، عن ابن مردويه ، بسنده عن عليّ علیه السلام ، قال : نحن أصحاب الأعراف ، من عرفناه بسيماه أدخلناه الجنّة (5).
ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين واضحة ، كما أشرنا إليها في الآيات الثلاث التي قبلها ، وأوضحناها في الآية الثانية والثلاثين وغيرها (6).
ص: 401
ولا ينافيها عدم صلوح العبّاس للإمامة - عندنا - مع بقائه بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ووضوح دلالة هذه الرواية على كونه من أهل الجنّة ؛ وذلك لعدم علمه بأنّه من أصحاب الأعراف.
ولو فرض علمه به ، فمفضوليّته مانعة من إمامته ، فضلا عن وضوح عدم عصمته.
* * *
ص: 402
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (1).
قال الرازي في تفسيره : قال الكلبي : « نزلت في عليّ وحمزة وعبيدة ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد » (2).
وقال سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » : قال السدّي ، عن ابن عبّاس : نزلت في عليّ يوم بدر (3).
دلّت الآية على عدم المساواة بين المطيع والعاصي ، ولا ريب أنّ غيره قد اجترح السيّئات ؛ إذ لا أقلّ من الفرار من الزحف (4) ، فلا يساوون عليّا علیه السلام ، فهو أحقّ منهم بالإمامة.
* * *
ص: 403
( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) (1).
قال في « الصواعق » عند الكلام في هذه الآية ، وهي العاشرة من الآيات الواردة بأهل البيت علیهم السلام : نقل القرطبي ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : رضى محمّد صلی اللّه علیه و آله أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار ؛ وقاله السّدّي (2).
ثمّ استشهد ابن حجر له بأخبار كثيرة (3).
وأقول :
هو غنيّ عن الاستشهاد له بالنسبة إلى عليّ علیه السلام ؛ ضرورة أنّ من رضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخول عليّ الجنّة وعدم دخوله النار ، وهو من أوضح ما تقتضيه الآية ويعلمه عليّ علیه السلام منها ، فيكون ممّا أعلمه اللّه به وبشّره ، فتثبت إمامته ، كما عرفت وجهه في الآيات السابقة وغيرها (4).
* * *
ص: 404
( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) (1).
ذكر الرازي في تفسيره ، أنّه جاء عليّ علیه السلام في نفر من المسلمين ، فسخر منه المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم ، فقالوا :
رأينا اليوم الأصلع ؛ فضحكوا منه ، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ علیه السلام إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).
ومثله في « الكشّاف » (3).
ودلالتها على المطلوب باعتبار تمام الآيات ، وهي قوله تعالى : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ) (4).
فإنّها دالّة على بشارة عليّ علیه السلام بالجنّة ، القاضية بإمامته ، كما سبق (5).
ولا ريب أنّ اهتمام الكتاب العزيز في ما يتعلّق بعليّ علیه السلام - حتّى نزل في مثل هذا الأمر اليسير في الظاهر - لأكبر دليل على عظمته عند اللّه عزّ وجلّ وفضله على الأمّة كلّها.
ص: 405
( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... ) (1)
الآيات من سورة الشمس.
حكى السيوطي في « اللآلئ المصنوعة » ، عن الخطيب في « السابق واللاحق » ، بسنده عن ابن عبّاس ، مرفوعا : « اسمي في القرآن : ( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ) ، واسم عليّ : ( وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها ) ، واسم الحسن والحسين : ( وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها ) ، واسم بني أميّة : ( وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها ) (2) ، إنّ اللّه بعثني رسولا إلى خلقه - إلى أن قال صلی اللّه علیه و آله : - فلواء اللّه فينا إلى يوم القيامة ، ولواء إبليس في بني أميّة إلى أن تقوم الساعة ، وهم أعداء لنا ، وشيعتهم أعداء لشيعتنا ».
ثمّ قال السيوطي : « قال الخطيب : منكر جدّا ، بل موضوع ، والحوضي وموسى وأبوه مجهولان (3) » (4).
أقول :
لا عبرة باستنكارهم ؛ فإنّهم لمّا جحدوا الحقّ استنكروه ، واشتمال
ص: 406
سنده على المجاهيل عندهم لا يقتضي الوضع ، وإلّا لزم الحكم بوضع الكثير من أخبار الصحاح الستّة ، فقد بيّنّا في المقدّمة جملة من المجاهيل الّذين رووا عنها في هذه الصحاح (1) ، كما حقّقنا فيها وثاقة من يروي فضيلة لآل محمّد صلی اللّه علیه و آله أو رذيلة لأعدائهم (2).
ومنه يعلم ما في تكذيب الذهبيّ للحديث ؛ لاشتمال سنده على مجاهيل ، حيث أشار إلى الحديث بترجمة محمّد بن عمرو الحوضي من « ميزان الاعتدال » (3).
ودلالتها على المطلوب من وجهين :
الأوّل : إنّها سمّت عليّا علیه السلام قمرا ، وهو أنور النيّرات بعد الشمس ، فيكون إشارة إلى فضله على الأمّة وعظم نفعه لهم ، والأفضل هو الإمام ، ولا سيّما قد قال تعالى : ( إِذا تَلاها ) مشيرا إلى أنّه تال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خلافته له وفضله وفائدته للأمّة ، وإلّا لخلا هذا الشرط عن كثير فائدة.
الثاني : إنّها عبّرت عن بني أميّة بالليل ، مشيرة إلى ظلمة أمرهم ، ومنهم عثمان.
* * *
ص: 407
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... ) (1) الآيات.
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر ، عن أسماء بنت عميس ، قالت : رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإزاء ثبير وهو يقول : أشرق ثبير! أشرق ثبير! اللّهمّ إنّي أسالك بما سألك أخي موسى ، أن تشرح لي صدري ، وأن تيسّر لي أمري ، وأن تحلّ عقدة من لساني ، ( يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ) (2) ، عليّا (3) أخي ، ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) (4) (5).
وقال السيوطي أيضا : وأخرج السّلفي في « الطيوريّات » بسند رواه (6) عن أبي جعفر محمّد بن عليّ علیه السلام ، قال : « لمّا نزلت : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (7) كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على جبل ، ثمّ دعا ربّه وقال : اللّهمّ أشدد أزري
ص: 408
بأخي عليّ! فأجابه إلى ذلك (1).
ونقل المصنّف رحمه اللّه نحوه في ما سيجيء عن أحمد في مسنده (2).
ونقل أيضا نحوه صاحب « ينابيع المودّة » في الباب السابع عشر ، عن أحمد في مسنده (3) ..
وفي الباب السادس والخمسين ، عن « ذخائر العقبى » للطبري ، عن أحمد في « الفضائل » (4).
وكذا نقله سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » عن أحمد في « الفضائل » (5).
وحكى المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » (6) ، عن أبي نعيم ، عن ابن عبّاس ، قال : « أخذ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيد عليّ وبيدي ونحن بمكّة ، وصلّى أربع ركعات ، ورفع يده إلى السماء فقال : اللّهمّ! موسى بن عمران سألك ، وأنا محمّد نبيّك أسألك ، أن تشرح لي صدري ، وتحلّ عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّ بن أبي
ص: 409
طالب أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري.
قال ابن عبّاس : سمعت مناديا ينادي : يا أحمد! قد أوتيت ما سألت » (1).
وقد سبق في أثناء كلامنا على الآية الأولى من الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا بمثل هذا الدعاء فنزل قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... ) (2) الآية ، وقد نقلناه عن الثعلبي والرازي ؛ فراجع (3) ، وهو مؤيّد لهذه الأخبار.
كما يؤيّدها حديث المنزلة ، الذي كاد أن يكون متواترا ، أو هو متواتر (4).
وأمّا دلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فلإفادتها ثبوت خصائص هارون له ، فيكون مثله في تحمّل العلوم ، ووجوب طاعة الأمّة له ، ورئاسته عليهم ؛ لأنّ هارون شريك موسى في أمره.
فعليّ علیه السلام مثله بالنسبة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، سوى أنّ عليّا ليس بنبيّ ، كما استثنى النبوّة حديث المنزلة ، ودلّ الكتاب العزيز على أنّ محمّدا صلی اللّه علیه و آله خاتم النبيّين ..
فتحمل تلك الأخبار المذكورة على إرادة المشاركة في ما عدا النبوّة ، فتثبت لعليّ علیه السلام الإمامة والرئاسة العامّة على الأمّة ، حتّى في أيّام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لكنّه ساكت في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا في ما قلّ ، كما
ص: 410
سبق بيانه في الآية الأولى (1).
وممّا ذكرنا يعلم ما في مطالبة ابن تيميّة بصحّة حديث ابن عبّاس ، وإشكاله عليه بلزوم نبوّة عليّ علیه السلام ، وأشكل عليه أيضا بصغر سنّ ابن عبّاس قبل الهجرة (2).
وفيه - مع أنّ صغر مثله غير ضائر - : إنّه يحتمل قريبا صدور ما رواه ابن عبّاس حين الفتح ، أو في حجّة الوداع.
وأشكل عليه أيضا بما حاصله : إنّكم قلتم : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا بهذا الدعاء عند تصدّق عليّ بخاتمه ، فنزل قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) الآية ، وذلك بالمدينة ، فإذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا به قبل ذلك بمكّة ، وقد استجيب له ، فأيّ حاجة إلى الدعاء به ثانيا بالمدينة؟! (3).
وفيه : إنّ تكرّر الدعاء إنّما وقع لإظهار فضل عليّ علیه السلام وبيان إمامته مكرّرا ؛ تأكيدا للحجّة.
على أنّ كلامه يقتضي أن لا يتكرّر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعاء بالغفران والرحمة والهداية ونحوها ، فلا يتكرّر منه في الصلوات قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (4) ، بل لا يقع منه الدعاء بمثل تلك الأمور أصلا ؛ لعلمه بتحقّقها.
ولو لا طلب الإحاطة في الجملة ، لقبح بنا التعرّض لكلام هذا ومثله.
واعلم ، أنّ هذه الآية الشريفة وإن لم يكن لنزولها دخل بأمير
ص: 411
المؤمنين علیه السلام ، لكن لمّا أمكن أخذ الدليل لإمامته منها بضميمة الأحاديث الحاكية لدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله له علیه السلام بمضمونها ، صحّ لنا ذكرها في طيّ الأدلّة القرآنية على إمامته.
وإن شئت استبدالها بآية أخرى لإكمال المئة ، فعليك بمراجعة آيات تعرّض لأكثرها في « ينابيع المودّة » (1) ، ولبعضها في « كشف الغمّة » ، كقوله تعالى في سورة الفاتحة : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .
فقد حكى في « كشف الغمّة » ، عن العزّ الحنبلي ، عن بريدة : « هو صراط محمّد وآله » (2) ..
وكقوله تعالى من سورة المؤمنين : ( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) (3) ، فقد نقل في « كشف الغمّة » ، عن العزّ الحنبلي ، أنّ المراد : صراط محمّد وآله (4) ..
ونقل في « ينابيع المودّة » ، عن الحمويني ، و« المناقب » ، عن أمير المؤمنين علیه السلام ، قال : « الصراط ولايتنا أهل البيت » (5) ..
وكقوله سبحانه من سورة المؤمنين أيضا : ( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (6) (7) ..
ص: 412
وكقوله تعالى من سورة الأنعام : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (1) (2) ..
وقوله تعالى من سورة البقرة : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (3) (4) ..
وقوله عزّ وجلّ من سورة الملك : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) (5) (6) ..
وقوله سبحانه من سورة الصفّ : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ) (7) (8) ..
وقوله تعالى في سورة لقمان : ( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) (9) (10) ..
وقوله تعالى في سورة الزخرف : ( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (11) (12) ..
ص: 413
وقوله تعالى من سورة البقرة : ( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ ... ) (1) (2) الآية ..
وقوله تعالى منها : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ) (3) (4) ..
وقوله تعالى من سورة النساء : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ... ) (5) الآية.
ونزولها محكيّ عن تفسير ابن الحجّام (6) من غير « الينابيع » و« كشف الغمّة » ..
فعن التفسير المذكور ، أنّ عليّا قال : يا رسول اللّه! هل نقدر أن نزورك في الجنّة كلّما أردنا؟ فنزلت ...
ص: 414
فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا علیه السلام فقال : إنّ اللّه قد أنزل بيان ما سألت ، فجعلك رفيقي ؛ لأنّك أوّل من أسلم ، وأنت الصدّيق الأكبر (1).
.. إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع.
ولو ذكرنا لك ما روته كتب الإمامية في نزول آيات أخر في أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين ، لأمكن بلوغ الآيات النازلة بهم ثلاثمئة أو تزيد ؛ فراجع وتدبّر تصب طريق الرشاد!
* * *
ص: 415
ص: 416
11 - آية : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )... 5
ردّ الفضل بن روزبهان... 6
ردّ الشيخ المظفّر... 7
12 - آية : ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )... 13
ردّ الفضل بن روزبهان... 14
ردّ الشيخ المظفّر... 15
13 - آية : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ )... 19
ردّ الفضل بن روزبهان... 20
ردّ الشيخ المظفّر... 21
14 - آية : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ )... 24
ردّ الفضل بن روزبهان... 26
ردّ الشيخ المظفّر... 27
15 - آية المناجاة... 29
ردّ الفضل بن روزبهان... 30
ردّ الشيخ المظفّر... 31
16 - آية : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا ... )... 39
ردّ الفضل بن روزبهان... 40
ردّ الشيخ المظفّر... 41
17 - آية : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ )... 45
ص: 417
ردّ الفضل بن روزبهان... 46
ردّ الشيخ المظفّر... 47
18 - سورة ( هَلْ أَتى ... )... 50
ردّ الفضل بن روزبهان... 52
ردّ الشيخ المظفّر... 53
19 - آية : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ... )... 62
ردّ الفضل بن روزبهان... 63
ردّ الشيخ المظفّر... 64
20 - آية : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ )... 69
ردّ الفضل بن روزبهان... 70
ردّ الشيخ المظفّر... 71
21 - آية : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ )... 74
ردّ الفضل بن روزبهان... 75
ردّ الشيخ المظفّر... 76
22 - آية : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ )... 78
ردّ الفضل بن روزبهان... 79
ردّ الشيخ المظفّر... 80
23 - آية : ( أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ )... 93
ردّ الفضل بن روزبهان... 94
ردّ الشيخ المظفّر... 95
24 - آية : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ... )... 100
ردّ الفضل بن روزبهان... 101
ردّ الشيخ المظفّر... 102
25 - آية الصلاة على النبيّ... 105
ردّ الفضل بن روزبهان... 106
ردّ الشيخ المظفّر... 107
ص: 418
26 - آية : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ )... 111
ردّ الفضل بن روزبهان... 112
ردّ الشيخ المظفّر... 113
27 - آية : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ )... 115
ردّ الفضل بن روزبهان... 116
ردّ الشيخ المظفّر... 117
28 - آية : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ ... )... 120
ردّ الفضل بن روزبهان... 121
ردّ الشيخ المظفّر... 122
29 - آية : ( أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )... 124
ردّ الفضل بن روزبهان... 125
ردّ الشيخ المظفّر... 126
30 - آية : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً )... 129
ردّ الفضل بن روزبهان... 130
ردّ الشيخ المظفّر... 131
31 - آية : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )... 133
ردّ الفضل بن روزبهان... 134
ردّ الشيخ المظفّر... 135
32 - آية : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ )... 140
ردّ الفضل بن روزبهان... 141
ردّ الشيخ المظفّر... 142
33 - آية : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ )... 148
ردّ الفضل بن روزبهان... 149
ردّ الشيخ المظفّر... 150
34 - آية : ( وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ )... 157
ردّ الفضل بن روزبهان... 158
ص: 419
ردّ الشيخ المظفّر... 159
35 - آية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )... 164
ردّ الفضل بن روزبهان... 166
ردّ الشيخ المظفّر... 167
36 - سورة النجم... 170
ردّ الفضل بن روزبهان... 171
ردّ الشيخ المظفّر... 172
37 - سورة العاديات... 177
ردّ الفضل بن روزبهان... 180
ردّ الشيخ المظفّر... 181
38 - آية : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً )... 183
ردّ الفضل بن روزبهان... 184
ردّ الشيخ المظفّر... 185
39 - آية : ( وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ )... 188
ردّ الفضل بن روزبهان... 189
ردّ الشيخ المظفّر... 190
40 - آية : ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ )... 194
ردّ الفضل بن روزبهان... 195
ردّ الشيخ المظفّر... 196
41 - آية : ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ )... 198
ردّ الفضل بن روزبهان... 199
ردّ الشيخ المظفّر... 200
42 - آية : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا )... 202
ردّ الفضل بن روزبهان... 203
ردّ الشيخ المظفّر... 204
43 - آية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ )... 206
ص: 420
ردّ الفضل بن روزبهان... 207
ردّ الشيخ المظفّر... 208
44 - آية : ( أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )... 211
ردّ الفضل بن روزبهان... 212
ردّ الشيخ المظفّر... 213
45 - آية : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... )... 216
ردّ الفضل بن روزبهان... 217
ردّ الشيخ المظفّر... 218
46 - آية : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا )... 220
ردّ الفضل بن روزبهان... 221
ردّ الشيخ المظفّر... 222
47 - آية : ( وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ... )... 225
ردّ الفضل بن روزبهان... 226
ردّ الشيخ المظفّر... 227
48 - آية : ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ )... 229
ردّ الفضل بن روزبهان... 230
ردّ الشيخ المظفّر... 231
49 - آية : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللّهِ )... 232
ردّ الفضل بن روزبهان... 233
ردّ الشيخ المظفّر... 234
50 - آية : ( وَقالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )... 235
ردّ الفضل بن روزبهان... 236
ردّ الشيخ المظفّر... 238
51 - آية : ( وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ )... 239
ردّ الفضل بن روزبهان... 240
ردّ الشيخ المظفّر... 241
ص: 421
52 - آية : ( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ )... 243
ردّ الفضل بن روزبهان... 244
ردّ الشيخ المظفّر... 245
53 - سورة العصر... 247
ردّ الفضل بن روزبهان... 248
ردّ الشيخ المظفّر... 249
54 - آية : ( وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ )... 252
ردّ الفضل بن روزبهان... 253
ردّ الشيخ المظفّر... 254
55 - آية : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ )... 255
ردّ الفضل بن روزبهان... 256
ردّ الشيخ المظفّر... 257
56 - آية : ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ )... 260
ردّ الفضل بن روزبهان... 261
ردّ الشيخ المظفّر... 262
57 - آية : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى )... 263
ردّ الفضل بن روزبهان... 264
ردّ الشيخ المظفّر... 265
58 - آية : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ )... 267
ردّ الفضل بن روزبهان... 268
ردّ الشيخ المظفّر... 269
59 - آية : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ )... 272
ردّ الفضل بن روزبهان... 273
ردّ الشيخ المظفّر... 274
60 - آية : ( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ )... 276
ردّ الفضل بن روزبهان... 277
ص: 422
ردّ الشيخ المظفّر... 278
61 - آية : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ )... 279
كلام الشيخ المظفّر... 280
62 - آية : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً )... 282
ردّ الفضل بن روزبهان... 283
ردّ الشيخ المظفّر... 284
63 - آية : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ )... 287
ردّ الفضل بن روزبهان... 288
ردّ الشيخ المظفّر... 289
64 - آية : ( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً )... 291
ردّ الفضل بن روزبهان... 292
ردّ الشيخ المظفّر... 293
65 - آية : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ )... 295
ردّ الفضل بن روزبهان... 296
ردّ الشيخ المظفّر... 297
66 - آية : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ )... 299
ردّ الفضل بن روزبهان... 300
ردّ الشيخ المظفّر... 301
67 - آية : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا )... 305
ردّ الفضل بن روزبهان... 306
ردّ الشيخ المظفّر... 307
68 - آية : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )... 308
ردّ الفضل بن روزبهان... 309
ردّ الشيخ المظفّر... 310
69 - آية : ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ )... 311
ردّ الفضل بن روزبهان... 312
ص: 423
ردّ الشيخ المظفّر... 313
70 - آية : ( طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ )... 315
ردّ الفضل بن روزبهان... 316
ردّ الشيخ المظفّر... 317
71 - آية : ( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )... 318
ردّ الفضل بن روزبهان... 319
ردّ الشيخ المظفّر... 320
72 - آية : ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ )... 323
ردّ الفضل بن روزبهان... 324
ردّ الشيخ المظفّر... 325
73 - آية : ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ )... 326
ردّ الفضل بن روزبهان... 327
ردّ الشيخ المظفّر... 328
74 - آية : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ )... 330
ردّ الفضل بن روزبهان... 331
ردّ الشيخ المظفّر... 332
75 - آية : ( إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ )... 333
ردّ الفضل بن روزبهان... 334
ردّ الشيخ المظفّر... 335
76 - آية : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ )... 337
ردّ الفضل بن روزبهان... 338
ردّ الشيخ المظفّر... 339
77 - آية : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ )... 341
ردّ الفضل بن روزبهان... 342
ردّ الشيخ المظفّر... 343
78 - آية : ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ )... 344
ص: 424
ردّ الفضل بن روزبهان... 345
ردّ الشيخ المظفّر... 346
79 - آية : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ )... 349
ردّ الفضل بن روزبهان... 350
ردّ الشيخ المظفّر... 351
80 - آية : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا )... 353
ردّ الفضل بن روزبهان... 355
ردّ الشيخ المظفّر... 356
81 - آية : ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ )... 358
ردّ الفضل بن روزبهان... 359
ردّ الشيخ المظفّر... 360
82 - ما في القرآن آية [( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )] إلّا وعليّ رأسها... 361
ردّ الفضل بن روزبهان... 363
ردّ الشيخ المظفّر... 364
83 - آية : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ )... 371
ردّ الفضل بن روزبهان... 372
ردّ الشيخ المظفّر... 373
84 - آية : ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ )... 375
ردّ الفضل بن روزبهان... 377
ردّ الشيخ المظفّر... 379
الخاتمة ، وفيها :... 389
1 - آية : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )... 390
2 - آية : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) ... 392
3 - آية : ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... ) ... 394
4 - آية : ( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ... ) ... 395
5 - آية : ( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ... ) ... 399
ص: 425
6 - آية : ( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ ... ) ... 400
7 - آية : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ ...) ... 401
8 - آية : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ... ) ... 403
9 - آية : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) ... 404
10 - الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ... ) ... 405
11 - آية : ( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... ) ... 406
12 - آية : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... )... 408
فهرس المحتويات... 417
* * *
ص: 426