دلائل الصدق لنهج الحق المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر

المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم

الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1423 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-319-357-8

ص: 1

اشارة

دلائل الصدق لنهج الحق

تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر

(1301 - 1375 ه)

الجزء الرابع

تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2

تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34

البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb

www.al-albayt.com

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

مباحث النبوّة

اشارة

ص: 5

ص: 6

نبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم

اشارة

قال المصنّف - طيّب اللّه مرقده - (1) :

المسألة الرابعة : في النّبوّة

اشارة

وفيها مباحث :

المبحث الأوّل : في نبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم
اشارة

إعلم أنّ هذا أصل عظيم في الدين ، وبه يقع الفرق بين المسلم والكافر ، فيجب الاعتناء به ، وإقامة البرهان عليه ، ولا طريق في إثبات النبوّة على العموم وعلى الخصوص إلّا بمقدّمتين :

إحداهما : إنّ النبيّ ادّعى رسالة ربّ العالمين له إلى الخلق ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له.

ص: 7


1- نهج الحقّ : 139.

والثانية : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق (1).

وهاتان المقدّمتان لا يقول بهما الأشاعرة.

أمّا الأولى : فلأنّه يمتنع أن يفعل اللّه لغرض من الأغراض ، أو لغاية من الغايات ، فلا يجوز أن يقال : إنّه تعالى فعل المعجزة على يد مدّعي الرسالة لغرض تصديقه ، ولا لأجل تصحيح دعواه ، بل فعلها مجّانا.

ومثل هذا لا يمكن أن يكون حجّة للنبيّ ؛ لأنّا لو شككنا في أنّ اللّه فعله لغرض التصديق أو لغيره ، لم يمكن الاستدلال على صدق مدّعي النبوّة مع هذا الشكّ ، فكيف يحصل الجزم بصدقه مع الجزم بأنّه لم يفعله لغرض التصديق؟!

وأمّا الثانية : فلأنّها لا تتمّ على مذهبهم ؛ لأنّهم يسندون القبائح كلّها إلى اللّه تعالى ، ويقولون : كلّ من ادّعى النبوّة - سواء كان محقّا أم مبطلا - فإنّ دعواه من فعل اللّه وأثره ، وجميع أنواع الشرك والمعاصي والضلال في العالم من عند اللّه تعالى ، فكيف يصحّ مع هذا أن يعرف أنّ هذا الذي صدّقه صادق في دعواه؟! فجاز أن يكذب في دعواه ، ويكون هذا الإضلال من اللّه سبحانه كغيره من الأضاليل التي فعلها! (2).

فلينظر العاقل : هل يجوز له أن يصير إلى مذهب لا يمكن إثبات نبوّة نبيّ من الأنبياء به ألبتّة ، ولا يمكن الجزم بشريعة من الشرائع؟! واللّه تعالى قد قطع أعذار المكلّفين بإرسال الرسل ، فقال : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ

ص: 8


1- انظر : الذخيرة في علم الكلام : 328 - 330 ، تقريب المعارف : 154 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 250.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 2 / 101 - 102 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 305 - 306 ، المواقف : 341 - 342.

عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (1).

وأيّ حجّة أعظم من هذه الحجّة عليه تعالى؟! وأيّ عذر أعظم من أن يقول العبد لربّه : إنّك أضللت العالم ، وخلقت فيهم الشرور والقبائح ، وظهر جماعة خلقت فيهم كذب ادّعاء النبوّة ، وآخرون ادّعوا النبوّة ، ولم تجعل لنا طريقا إلى العلم بصدقهم ، ولا سبيل لنا إلى معرفة صحّة الشرائع التي أتوا بها ؛ فيلزم انقطاع حجّة اللّه تعالى؟!

وهل يجوز لمسلم يخشى اللّه وعقابه ، أو يطلب الخلاص من العذاب ، المصير إلى هذا القول؟!

نعوذ باللّه من الدخول في الشبهات.

* * *

ص: 9


1- سورة النساء 4 : 165.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذا الكلام المموّه الخارج عن طريق المعقول قد ذكره قبل هذا بعينه في مسألة خلق الأعمال (2) ، وقد أجبناه هناك (3) ، ولمّا أعاده في هذا المقام لزمنا مؤنة الإعادة في الجواب ، فنقول :

أمّا المقدّمة الأولى من المقدّمتين اللتين ادّعى توقّف ثبوت النبوّة عليهما ، وهي : « إنّ النبيّ ادّعى الرسالة ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض التصديق له » ..

فقد بيّنّا قبل هذا أنّ غاية إظهار المعجزة والحكمة والمصلحة فيه :

تصديق اللّه تعالى النبيّ في ما ادّعاه.

وهذا يتوقّف على كون إظهار اللّه ( المعجزة مشتملا ) (4) على الحكمة والمصلحة والغاية (5) ، لا على إثبات الغرض والعلّة الغائية الموجبة للنقص والاحتياج ، فثبت المقدّمة الأولى على رأي الأشاعرة وبطل ما أورده عليهم.

وأمّا المقدّمة الثانية ، وهي : « إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو

ص: 10


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 191.
2- راجع ج 3 / 44.
3- تقدّم في ج 3 / 47.
4- كان في الأصل : « معجزة مشتمل » ، وهو غلط نحوي ، والصواب ما أثبتناه في المتن من إحقاق الحقّ.
5- بناء على ما ذهب إليه الأشاعرة من أنّ أفعال اللّه تعالى غير معلّلة بالأغراض والمقاصد.

صادق » ..

فهذا شيء تثبته الأشاعرة ويستدلّون عليه بالدلائل الحقّة الصريحة ، ولا يلزم من خلق اللّه القبائح - التي ليست بقبيحة بالنسبة إليه - أن يكون كلّ مدّع للنبوّة - سواء كان محقّا أو مبطلا - دعواه من اللّه.

وماذا يريد من أنّ دعوى المحقّ والمبطل من اللّه؟!

إن أراد أنّه من خلق اللّه ، فلا كلام في هذا ؛ لأنّ كلّ فعل يخلقه اللّه.

وإن أراد أنّه مرضيّ من اللّه ، واللّه يرسل المحقّ والمبطل ، فهذا باطل صريح ، فإنّ اللّه لا يرضى لعباده الكفر والضلال وإن كان بخلقه وتقديره كما سمعت مرارا.

وكلّ من يدّعي النبوّة ، وهو مبعوث من اللّه ، فقد جرت عادة اللّه على إظهار المعجزة بيده لتصديقه ، ولم تتخلّف عادة اللّه عن هذا ، وجرت عادته - التي خلافها جار مجرى المحال العادي - بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب.

والحاصل : إنّ الأشاعرة يقولون بعدم وجوب شيء على اللّه ؛ لأنّه المالك المطلق ولا يجب عليه شيء (1).

وما ذكره من أنّه كيف يعرف أنّ هذا الذي صدّقه صادق في دعواه؟

فنقول : بتصديق المعجزة يعرف هذا.

قوله : « يجوز أن يظهر المعجزة على يد الكاذب ».

قلنا : ماذا تريدون من هذا الجواز؟! الإمكان العقليّ ، فنقول : يمكن

ص: 11


1- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 295 ، شرح المقاصد 4 / 294 ، شرح المواقف 8 / 195 - 196.

هذا عقلا ؛ أم تريدون أنّه يجوّزه العقل بحسب العادة ، فنقول : هذا ممتنع عادة ، ويفيدنا العلم العادي بأنّ هذا لا يجري في عادة اللّه ، كالجزم بأنّ الجبل الفلاني لم يصر الآن ذهبا ، فلا يلزم ما ذكر.

وأمّا ما أطال من الطامّات والترّهات ، فنعمل بقوله تعالى : ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (1).

* * *

ص: 12


1- سورة الأعراف 7 : 199.
وأقول :

يرد على ما أجاب به عن المقدّمة الأولى : إنّه لا يلزم على مذهبهم ثبوت المصلحة والفائدة للمعجزة ، إذ لا يجب عليه تعالى شيء ، ولا يقبح منه شيء ، فيجوز أن يفعل اللّه سبحانه المعجزة بلا فائدة أصلا!

على أنّ الفائدة والحكمة في خلق المعجزة على يد الكاذب يمكن أن تكون من جنس الحكمة والفائدة في خلق الكفر وسبّه تعالى وسبّ رسله ، بأن يكون خلق المعجزة على يد الكاذب دخيلا في النظام الكلّي ، كخلق الكفر وسبّه تعالى بزعمهم ، فلا يلزم أن تكون المصلحة في خلق المعجزة تصديق النبيّ في ما ادّعاه.

وبالجملة : الالتزام بأنّ التصديق هو مصلحة المعجزة ، موقوف على إثبات الغرض لله تعالى ، أو وجوب مثل هذه المصلحة عليه ، فإذا أنكروهما لم يمكن الالتزام بأنّ التصديق هو المصلحة.

على أنّا لا نعرف من كون المصلحة مرعيّة لله تعالى إلّا أنّها غرض وغاية له.

وما أشار إليه من أنّ العلّة الغائية توجب النقص والحاجة ، قد عرفت بطلانه ، وأنّ المصلحة تعود إلى العبد ، فلا يلزم النقص في حقّه سبحانه ، ولا الحاجة له ، كما سبق موضّحا في المطلب الرابع (1).

وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى المقدّمة الثانية ، من أنّ هذا يثبته الأشاعرة

ص: 13


1- تقدّم في ج 3 / 49.

ويستدلّون عليه بالدلائل الحقّة ...

ففيه : إنّا لا ننكر إثباتهم له ، لكنّا نقول : إنّه ليس لازما على مذهبهم ؛ لقولهم : بأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء ، وأنّه خلق جميع أضاليل الكون.

وليته ذكر لنا بعض تلك الدلائل الحقّة لهم ، فإنّا لا نعرف دليلا لهم غير دعوى العادة التي ستعرف ما فيها.

وما ذكره من الترديد في مراد المصنّف : نختار منه الشقّ الأوّل ، وهو : إنّ اللّه تعالى خلق دعوى المحقّ والمبطل.

ونقول : إذا كان اللّه خالقا لدعواهما ولم يقبح عليه ، فما المانع من أن يخلق لكلّ منهما معجزة ، ويضلّ الناس بمعجزة الكاذب ، كما خلق سائر الأضاليل وكفرهم به وبالأنبياء الصادقين؟!

ويمكن أن نختار الشقّ الثاني ونقول : قد حقّقنا أنّ خالق الشيء وموجده لا بدّ أن يكون مريدا له ، راضيا به ، فيلزم من خلق اللّه تعالى لدعوى المبطل رضاه بها ، وإلّا فما الذي ألجأه إلى خلقها؟!

كما يلزم من خلقه للكفر رضاه به ، وعليه يكون قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ ... لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) (1) كاذبا على مذهبهم.

وأمّا ما ذكره من حديث العادة ، فباطل ؛ لجواز كذب كلّ ذي معجزة فضلا عن بعضهم ، ولا علم لنا بعادة اللّه في الأنبياء ، فإنّها غيب ، ولا طريق غيرها بزعمهم إلى العلم بصدق ذي المعجزة.

ولو سلّم تحقّق العادة ، فإنّما هو عند من يعرف الشرائع ، وأمّا من

ص: 14


1- سورة الزمر 39 : 7.

لا يعرفها ولم يقرّ بنبيّ قطّ ، فلا معنى لتحقّق العادة عندهم ، وحينئذ فكيف تثبت عندهم على رأي الأشاعرة نبوّة ذي المعجزة؟!

على أنّ خرق العادة جائز وواقع كما في ذات المعجزة ، ففي حين تخلّف (1) العادة بالمعجزة ، كيف يقطع بعدم تخلّفها في النبوّة؟!

وبالجملة : إذا كان تعالى لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء ، وجوّزنا عقلا إظهار المعجزة على يد الكاذب ، لم يمكن إحراز العادة والعلم بصدق واحد من الأنبياء - فضلا عن الجميع - ولا سيّما مع زعم الأشاعرة صدور جميع الأضاليل عن اللّه سبحانه!

فظهر لك أيّ الكلامين هو المموّه الخارج عن طريق المعقول!

* * *

ص: 15


1- تخلّف ، أي : تتخلّف ؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفا ، وهو جائز كثير في كلام العرب.

ص: 16

عصمة الأنبياء

اشارة

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :

المبحث الثاني : في أنّ الأنبياء معصومون

اشارة

ذهبت الإمامية كافّة إلى أنّ الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر ، منزّهون عن المعاصي ، قبل النبوّة وبعدها ، على سبيل العمد والنسيان ، وعن كلّ رذيلة ومنقصة ، وما يدلّ على الخسّة والضعة (2).

وخالفت أهل السنّة كافّة في ذلك ، وجوّزوا عليهم المعاصي (3)..

وبعضهم : جوّزوا الكفر عليهم قبل النبوّة وبعدها (4) ..

وجوّزوا عليهم السهو والغلط (5) ..

ص: 17


1- نهج الحقّ : 142.
2- أوائل المقالات : 62 ، تنزيه الأنبياء : 15 ، الذخيرة في علم الكلام : 337 - 338 ، المنقذ من التقليد 1 / 424 ، تجريد الاعتقاد : 213.
3- انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284 ، الإرشاد - للجويني - : 298 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 279 و 2 / 116 ، المواقف : 358 ، شرح المقاصد 5 / 49 ، إرشاد الفحول : 70.
4- انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284 ، الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 1 / 145 - 146.
5- انظر مثلا : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 2 / 117 و 167 ، المواقف : 359 ، شرح المقاصد 5 / 50 ، وسيأتي مزيد تفصيل في محلّه.

ونسبوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى السهو في القرآن بما يوجب الكفر .. فقالوا : إنّه صلّى يوما وقرأ في سورة النجم عند قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (1) « تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » (2).

وهذا اعتراف منه صلی اللّه علیه و آله بأنّ تلك الأصنام ترتجى الشفاعة منها.

نعوذ باللّه من هذه المقالة التي نسب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إليها ، وهي توجب الشرك.

فما عذرهم عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد قتل جماعة كثيرة من أهله وأقاربه على عبادة الأصنام ، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم ، وينسب إليه هذا القول الموجب للكفر والشرك وهو في مقام إرشاد العالم؟!

وهل هذا إلّا أبلغ أنواع الضلال؟!

وكيف يجامع هذا قوله تعالى : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (3)؟!

وهل أبلغ من هذه الحجّة ، وهي أن يقول العبد : إنّك أرسلت رسولا

ص: 18


1- سورة النجم 53 : 19 و 20.
2- انظر مثلا : الطبقات الكبرى - لابن سعد - 1 / 160 ، المعجم الكبير 9 / 34 ح 8316 وج 12 / 42 ح 12450 ، تأويل مختلف الحديث - لابن قتيبة - : 167 ، تاريخ الطبري 1 / 551 - 552 ، تفسير الطبري 9 / 174 - 177 ح 25327 - 25335 ، أحكام القرآن - للجصّاص - 3 / 363 - 364 ، تفسير الماوردي 5 / 398 ، دلائل النبوّة - للبيهقي - 2 / 286 ، أسباب النزول : 172 - 173 ، زاد المسير 5 / 322 ، شرح المقاصد 5 / 59 ، مجمع الزوائد 7 / 71 و 115 ، شرح المواقف 8 / 276 - 277 ، الدرّ المنثور 6 / 65 - 69 عن عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والبزّار ، وابن مردويه ، والضياء في « المختارة » ، وسعيد بن منصور.
3- سورة النساء 4 : 165.

يدعو إلى الشرك والكفر ، وتعظيم الأصنام وعبادتها؟!

ولا ريب أنّ القائلين بهذه المقالة صدق عليهم قوله تعالى : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (1).

* * *

ص: 19


1- سورة الأنعام 6 : 91.
وقال الفضل :
اشارة

وقال الفضل (1) :

إنّ أهل الملل والشرائع بأجمعهم أجمعوا على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة في ما يبلّغونه عن اللّه تعالى إلى الخلائق ، إذ لو جاز عليهم التقوّل والافتراء في ذلك عقلا لأدّى إلى إبطال دلالة المعجزة ، وهو محال.

وفي جواز صدور الكذب عنهم في ما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف ، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق (2) وكثير من الأئمّة الأعلام ، لدلالة المعجزة على صدقهم في الأحكام ، فلو جاز الخلف في ذلك لكان نقضا ؛ لدلالة المعجزة ، وهو ممتنع.

وأمّا سائر الذنوب فهي إمّا كفر أو غيره ..

أمّا الكفر فأجمعت الأمّة على عصمتهم منه قبل النبوّة وبعدها ، ولا خلاف لأحد منهم في ذلك.

وجوّز الشيعة للأنبياء إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك ، وذلك باطل قطعا ؛ لأنّه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلّية وترك تبليغ الرسالة ، إذ أولى الأوقات بالتقيّة وقت الدعوة ؛ للضعف وكثرة المخالفين (3).

انظر إلى هؤلاء المتصلّفين يجوّزون إظهار الكفر على الأنبياء للتقيّة ،

ص: 20


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 199.
2- هو : إبراهيم بن محمّد الإسفراييني ، المتوفّى سنة 418 ه ، وقد مرّت ترجمته في ج 2 / 59.
3- انظر : شرح المواقف 8 / 264.

وحفظ أرواحهم ، وترك حقوق اللّه ، ثمّ يشنّعون على أهل السنّة أنّهم يجوّزون السهو على الأنبياء!

وأمّا الصغائر والكبائر ، كلّ منهما إمّا أن يصدر عمدا ، وإمّا أن يصدر سهوا ..

أمّا الكبائر ، فمنعه الجمهور من المحقّقين ، والأكثر على أنّه ممتنع سمعا.

قال القاضي والمحقّقون من الأشاعرة : إنّ العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ، إذ لا دلالة للمعجزة عليه ، فامتناع الكبائر منهم عمدا مستفاد من السمع وإجماع الأمّة قبل ظهور المخالفين في ذلك.

وأمّا صدورها سهوا ، أو على سبيل الخطأ في التأويل ، فالمختار عدم جوازه.

وأمّا الصغائر عمدا ، فجوّزه الجمهور.

وأمّا سهوا ، فهو جائز اتّفاقا بين أصحابنا وأكثر المعتزلة ، إلّا الصغائر الخسيسة كسرقة حبّة أو لقمة ، ممّا ينسب فاعله إلى الدناءة والخسّة والرذالة.

وقالت الشيعة : لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة ، لا عمدا ولا سهوا ، ولا خطأ في التأويل ، وهم مبرّأون عنها قبل الوحي ، فكيف بعد الوحي؟! (1).

ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر سهوا وعمدا من وجوه ، ونحن نذكر بعض الأدلّة ، لا للاحتجاج بها على الخصم ؛ لأنّه

ص: 21


1- انظر : شرح المواقف 8 / 264 - 265.

موافق في هذه المسألة ، بل لرفع افترائه على الأشاعرة في تجويز الكبائر على الأنبياء :

الأوّل : لو صدر عنهم ذنب لحرم اتّباعهم في ما صدر عنهم ، ضرورة أنّه يحرم ارتكاب الذنب ، واتّباعهم واجب ؛ للإجماع ، ولقوله تعالى : ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (1).

وهذا الدليل يوجب وجوب عصمتهم عن الصغائر والكبائر ، ذكره الأشاعرة ، وفيه موافقة للشيعة.

فعلم أنّ الأشاعرة يوافقون في وجوب عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر ، لكن في الصغائر تجويز عقلي ؛ لدليل آخر ، كما سيأتي في تحقيق العصمة.

الثاني : لو أذنبوا لردّت شهادتهم ، إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ، واللازم باطل بالإجماع ؛ لأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيّم إلى يوم القيامة؟!

وهذا الدليل يدلّ على وجوب عصمتهم عن الكبائر والإصرار على الصغائر ؛ لأنّها توجب الردّ ، لا نفس صدور الصغيرة.

الثالث : إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم ، لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... وإيذاؤهم حرام إجماعا (2).

وأيضا : لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (3) ...

ص: 22


1- سورة آل عمران 3 : 31.
2- انظر : شرح المقاصد 5 / 49 - 51 ، شرح المواقف 8 / 265.
3- سورة الجنّ 72 : 23.

وتحت قوله تعالى : ( أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (1) ..

وتحت قوله تعالى لوما ومذمّة : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (2) ..

وقوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (3).

فيلزم كونهم موعدين بعذاب جهنّم وملعونين ومذمومين ، وكلّ ذلك باطل إجماعا.

وهذا الدليل - أيضا - يدلّ على عصمتهم من كلّ الذنوب ، وغيرها من الدلائل التي ذكرها الإمام الرازي (4).

والغرض : إنّ كلّ ما ذكره هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب الأنبياء ، من لزوم إبطال حجّة اللّه ، فمذهب الأشاعرة بريء عنه ، وهم ذكروا هذه الدلائل.

وأمّا تجويز الصغائر التي لا تدلّ على الخسّة ؛ فلأنّ الصغيرة النادرة عمدا معفوّة عن مجتنب الكبائر (5) ، والنبيّ بشر ، ولا يبعد من البشر وقوع هذا.

ثمّ اعلم أنّ تحقيق هذا المبحث يرجع إلى تحقيق معنى العصمة ،

ص: 23


1- سورة هود 11 : 18.
2- سورة الصفّ 61 : 2.
3- سورة البقرة 2 : 44.
4- الأربعين في أصول الدين 2 / 117 - 122. نقول : إلا أن الفخر الرازي جوز فيه على الأنبياء ارتكاب الكبائر والصغائر سهواً في زمان النبوة ! فقد قال : «والذي نقوله : إنّ الأنبياء عليهم السلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد ، أما على سبيل السهو فجائز» !
5- شرح المواقف 8 / 267.

وهو عند الأشاعرة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الفاعل المختار ابتداء أن لا يخلق اللّه فيهم ذنبا (1).

فعلى هذا يكون الأنبياء معصومين من الكفر والكبائر والصغائر الدالّة على الخسّة والرذالة ، وأمّا غيرها من الصغائر فإنّهم يقولون : لا يجب عصمتهم عنها ؛ لأنّها معفوّ عنها - بنصّ الكتاب - من تارك الكبيرة أنّ : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) (2).

دلّت الآية على أنّ مجتنب الكبيرة والفاحشة معفوّ عنه ما صدر من الصغائر عنه ، وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خلق من الأرض ونشأ منها فلا يخلو عن الكدورات الترابية التي تقتضي الذنب والغفلة ، فكانت بعض الذنوب تصدر عنهم بحسب مقتضى الطبع ، ولمّا لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به.

وأمّا العصمة عند الحكماء ، فهي ملكة تمنع عن الفجور ، وتحصل هذه ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات ، وتتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر الداعية إلى ما ينبغي ، والنواهي الزاجرة عمّا لا ينبغي ، ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهوا أو عمدا عند من يجوّز تعمّدها ، ومن ترك الأولى والأفضل فإنّها لا تمنع العصمة التي هي الملكة ، فإنّ الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا ثمّ

ص: 24


1- راجع : حاشية الدواني على العقائد العضدية : 203 ، حاشية السيالكوتي : 203 ، شرح مطالع الأنظار : 211 ، شرح المواقف 8 / 280 و 281.
2- سورة النجم 53 : 32.

تصير ملكات بالتدريج (1).

ثمّ إنّ الأنبياء مكلّفون بترك الذنوب ، مثابون به ، ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك ، إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه.

وأيضا : فقوله : ( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ ) (2) ، يدلّ على مماثلتهم لسائر الناس في ما يرجع إلى البشرية ، والامتياز بالوحي لا غير ، فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر (3).

هذا حقيقة مذهب الأشاعرة ، ومن تأمّل فيه علم أنّه الحقّ الصريح المطابق للعقل والنقل ، وكلّ ما ذكره هذا الرجل على سبيل التشنيع فلا يأتي عليهم ، كما علمته مجملا ، وستعلمه مفصّلا عند أقواله.

وما ذكره من قصّة سورة النجم وقراءة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما لم يكن من القرآن ، فهذا أمر لم يذكر في الصحاح ، بل هو مذكور في بعض التفاسير ..

وذكروا : أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا اشتدّ عليه إعراض قومه عن دينه ، تمنّى أن يأتيه من اللّه ما يقرّبه إليهم ويستميل قلوبهم ، فأنزل اللّه عليه سورة النجم ، ولمّا اشتغل بقراءتها قرأ بعد قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (4) « تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » ، فلمّا سمعه قريش فرحوا به وقالوا : قد ذكر آلهتنا بأحسن الذكر ؛ فأتاه جبرئيل بعد ما أمسى وقال له : تلوت ما لم أتله عليك! فحزن النبيّ

ص: 25


1- راجع : حاشية الدواني على العقائد العضدية : 203 ، حاشية السيالكوتي : 203 ، شرح مطالع الأنظار : 211 ، شرح المواقف 8 / 280 و 281.
2- سورة الكهف 18 : 110.
3- شرح المواقف 8 / 281.
4- سورة النجم 53 : 19 و 20.

لذلك حزنا شديدا ، وخاف من اللّه خوفا عظيما ، فنزل لتسليته : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ... ) الآية (1) (2).

هذا ما ذكره بعض المفسّرين ، واستدلّ به من جوّز الكبائر على الأنبياء.

والأشاعرة أجابوا عن هذا بأنّه - على تقدير حمل التمنّي على القراءة - هو من إلقاء الشيطان ، يعني أنّ الشيطان قرأ هذه الآية المنقولة ، وخلط صوته بصوت النبيّ حتّى ظنّ أنّه قرأها.

قالت الأشاعرة : وإن لم يكن من إلقاء الشيطان ، بل كان النبيّ قارئا لها ، كان ذلك كفرا صادرا عنه ، وليس بجائز إجماعا.

وأيضا : ربّما كان ما ذكر من العبارة قرآنا ، ويكون الإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة ، فنسخ تلاوته للإيهام (3).

ومن قرأ سورة النجم وتأمّل في تتابع آياتها علم أنّ هذه الكلمات لا يلتئم وقوعها بعد ذكر الأصنام ولا في أثنائها ، ولا يمكن ( للبليغ أن ) (4) يتفوّه به في مدح الأصنام عند ذكر مذمّتها.

نعم ، يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة ، وهو قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) (5).

ص: 26


1- سورة الحجّ 22 : 52.
2- انظر : هامش رقم 2 الصفحة 18 ، شرح المواقف 8 / 276 - 277.
3- تفسير الفخر الرازي 23 / 50 - 55 ، شرح المواقف 8 / 277.
4- كان في الأصل : « أنّ البليغ » ، وما أثبتناه من إحقاق الحقّ.
5- سورة النجم 53 : 26.

فها هنا يناسب أن يقرأ : « تلك الغرانيق العلى * وإنّ شفاعتهنّ لترتجى » ، فعلم أنّه لو صحّ هذا لكان في وصف الملائكة ، ثمّ نسخ للإيهام أو لغيره ، واللّه أعلم.

هذه أجوبة الأشاعرة ، فعلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته.

وأمّا المغاربة (1) فهم يمنعون صحّة هذا عن أصله.

وذكر الشيخ الإمام القاضي أبو الفضل موسى بن عياض اليحصبي المغربي في كتاب « الشفا بتعريف حقوق المصطفى » أنّ هذا من مفتريات الملاحدة ، ولا أصل له ، وبالغ في هذا كلّ المبالغة (2).

* * *

ص: 27


1- يعني بهم علماء الأندلس والمغرب العربي.
2- الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 125.
وأقول :

إعلم أنّ ما ذكره في نقل الإجماع والأقوال إنّما هو من كلام « المواقف » وشرحها (1) ، وقد ذكره بلفظه ، سوى إنّه حذف بعض ما يضرّه كما سننبّه عليه إن شاء اللّه تعالى.

فبحثنا حقيقة مع صاحب « المواقف » وشارحها ، فنقول : يرد عليهما أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إنّ ما زعماه من إجماع أهل الملل على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذّب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة ... إلى آخره ، خطأ ظاهر ؛ لجهات :

[ الجهة ] الأولى : إنّ الإجماع المذكور ممنوع لما حكاه ابن حزم عن بعض الكرّامية : إنّهم يجوّزون على الأنبياء الكذب في التبليغ (2) كما ستعرفه في كلامه الآتي إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثانية : إنّ ما ذكراه من الكذب في دعوى الرسالة ، إن أرادا به الكذب في دعواها حين الرسالة ، فهو غير معقول ؛ لأنّه بعد فرض الرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم عنه.

وإن أرادا به الكذب في دعوى الرسالة قبل الرسالة ، فغير صحيح ؛ لأنّ المعجزة اللاحقة لا تدلّ على عصمتهم عنه حينئذ ، إذ لا يلزم من وقوع الكذب - في ذلك منهم قبل الرسالة - إبطال دلالة المعجزة على ثبوت

ص: 28


1- انظر : المواقف : 358 ، شرح المواقف 8 / 263.
2- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284.

الرسالة في وقتها ، اللّهمّ إلّا أن يريدا العصمة حين الرسالة عن الكذب في دعوى عدمها ، فله وجه لكنّه خلاف ظاهر كلامهما.

الجهة الثالثة : إنّ دعوى أنّ المعجزة تدلّ عقلا على عصمتهم عن الكذب في ما يبلّغونه عن اللّه تعالى ممنوعة على مذهبهم ، إذ يجوز عقلا بناء على قولهم : « لا يجب على اللّه شيء ، ولا يقبح منه شيء » (1) ، أن يرسل رسولا بالافتراء عليه ، مضافا إلى أنّه يمكن عقلا أن يظهر اللّه المعجزة على يد الكاذب في دعوى الرسالة ، فلا محالية عقلا في إبطال دلالة المعجزة على الرسالة.

ودعوى القطع العادي (2) بعدم ظهورها على يد الكاذب ، وبعدم إرسال رسول بالافتراء على اللّه تعالى ، غير نافعة ؛ لأنّ الكلام في تجويز العقل!

على أنّك عرفت أنّ هذه العادة غيب لا يمكن العلم بها ، إذ لعلّ كلّ من أظهر المعجزة كاذب في دعوى الرسالة ، أو أنّه مرسل بالافتراء ، فما لم نقل بأنّ ذلك قبيح على اللّه تعالى لم يمكن القطع بنبوّة صاحب المعجزة وبعدم كونه مرسلا بالافتراء.

واعلم أنّه قد وقع الخلاف بين الأشاعرة في جواز الكذب سهوا على الأنبياء في دعوى الرسالة والتبليغ.

فجوّزه القاضي أبو بكر ، الذي هو من أعاظم الأشاعرة (3) ، كما

ص: 29


1- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 116 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 295 ، المواقف : 328 ، شرح المقاصد 4 / 294 ، شرح المواقف 8 / 195.
2- أي قولهم : « جرت عادة اللّه ... ».
3- انظر : التقريب والإرشاد 1 / 438.

صرّح بنسبته إليه في « المواقف » (1) ، لكنّ الخصم أسقط ذكره سترا على قومه!!

الأمر الثاني : إنّ ما زعماه من إجماع الأمّة على عصمة الأنبياء عن الكفر قبل النبوّة وبعدها خطأ ، لما ذكراه بأنفسهما من أنّ الأزارقة (2) أجازوا على الأنبياء الذنب ، وكلّ ذنب عندهم كفر (3).

وقال الشارح : ويحكى عنهم أنّهم قالوا بجواز بعثة نبيّ علم اللّه أنّه يكفر بعد نبوّته (4)!

ولو فرض أنّ مرادهما بالكفر الذي ادّعيا الإجماع على العصمة عنه هو الشرك ونحوه ، لا ما يعمّ كلّ ذنب على قول من يجعله كفرا ، فكثير من أهل السنّة قالوا بعدم عصمة الأنبياء عن هذا الكفر الخاصّ ..

منهم : الغزّالي ، في بحث أفعال الرسول من كتابه الموسوم ب-

ص: 30


1- المواقف : 358 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 263 ، حاشية الدواني على العقائد العضدية : 203.
2- الأزارقة : ويقال لهم : الأزارقة النافعية ، وهم جماعة من الخوارج ، من أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق الحروري ، من رؤوس الخوارج ، الّذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز ، فغلبوا عليها وعلى كورها وما ورائها من بلدان فارس وكرمان في أواخر دولة يزيد بن معاوية ، أيّام عبد اللّه بن الزبير ، وقتلوا عمّاله بهذه النواحي .. وكان نافع أوّل من أحدث الخلاف بين الخوارج ؛ وذلك أنّه أظهر البراءة من القعدة عن اللحوق بعسكره وإن كان موافقا له على دينه ، وأكفر من لم يهاجر إليه! وكان يعترض الناس حتّى النساء والأطفال بما يحيّر العقول ، واشتدّت شوكته إلى أن كان قتله في جمادى الآخرة سنة خمس وستّين من الهجرة. أنظر : الملل والنحل 111/1 ، الأنساب - للسمعاني - 122/1 (الأزرقي) لسان الميزان 144/6 رقم 506.
3- الملل والنحل 1 / 115 البدعة السابعة ، المواقف : 358.
4- شرح المواقف 8 / 264.

« المنخول في الأصول » (1) ، على ما نقله عنه السيّد السعيد (2).

قال الغزّالي : « والمختار ما ذكره القاضي ، وهو : إنّه لا يجب عقلا عصمتهم ، إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظره ، وليس هو مناقضا لمدلول المعجزة ، فإنّ مدلولها صدق اللّهجة في ما يخبر عن اللّه تعالى [ فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب في ما يخبر به عن الربّ تعالى ] (3) لا عمدا ولا سهوا ، ومعنى التنفير باطل ، فإنّا نجوّز أن ينبّئ اللّه تعالى كافرا ويؤيّده بالمعجزة » (4).

ومنهم : ابن تيميّة ، كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى في الآية الثامنة من الآيات التي استدلّ بها المصنّف على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام (5).

ومنهم : قوم من الحشوية (6) ، والكرّامية (7) ، وابن فورك (8) ،

ص: 31


1- المنخول من تعليقات الأصول : 224.
2- انظر : إحقاق الحقّ 2 / 210.
3- أضافة من المصدر.
4- المنخول من تعليقات الأصول : 224 ، وانظر مؤدّاه في التقريب والإرشاد 1 / 438 - 439.
5- وانظر : منهاج السنّة 7 / 135.
6- سمّيت الحشوية حشوية لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .. وجميع الحشوية يقولون بالجبر والتجسيم والتشبيه وقدم ما بين الدفّتين من القرآن ، وأنكرت ردّ المتشابه إلى المحكم ، وقالوا : إنّ كلّ حديث يأتي به الثقة من العلماء فهو حجّة أيّا كانت الواسطة. أنظر : المنية والأمل في شرح الملل والنحل : 114 ، موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي 490/1 ، معجم الألفاظ التاريخية : 62.
7- مرّت ترجمتهم في ج 2 / 183 ه 2.
8- (8) ابن فورك - بضمّ الفاء وفتح الراء - ، هو : محمّد بن الحسن بن فورك الأصبهاني ، أبو بكر الأنصاري الأشعري الشافعي ، أقام بالعراق مدّة يدرّس ، ثمّ توجّه إلى الريّ ، فسمعت به المبتدعة فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجّه إليهم ، ففعل وورد نيسابور ، ثمّ دعي إلى مدينة غزنة في الهند وجرت له مناظرات ، فلمّا رجع إلى نيسابور سمّ في الطريق ، فمات سنة 406 ه. ونقل عن ابن حزم أن السلطان محمود بن سبكتكين قتله لقوله : «إنّ نبينا صلی اللّه عليه وآله وسلم ليس هو رسول اللّه اليوم ، لكنّه كان رسول اللّه» ! ومن تصانيفه : تفسير القرآن ، دقائق الإسراء ، طبقات المتكلمين . أنظر : طبقات الشافعية - للأسنوي - 126/2 رقم 879 ، وفيات الأعيان 272/4 رقم 610 ، شذرات الذهب 3/ 181 ، هديّة العارفين 6 / 60 ، تبيين كذب المفتري : 230.

والباقلّاني ، وبرغوث (1) ، والسدّي (2) ..

قال ابن حزم في أوّل الجزء الرابع من الملل والنحل : « اختلف الناس هل تعصي الأنبياء أم لا؟

فذهب طائفة إلى أنّ رسل اللّه يعصون اللّه في جميع الكبائر والصغائر [ عمدا ] ، حاشا الكذب في التبليغ فقط ، وهذا قول الكرّامية من المرجئة ،

ص: 32


1- هو : أبو عبد اللّه محمّد بن عيسى الجهمي الكاتب ، الملقّب ب : برغوث ، وهو رأس الفرقة التي تنسب إليه ، وكان على مذهب الحسين بن محمّد النجّار ، صاحب نظرية الكسب - التي تبنّاها أبو الحسن الأشعري وأتباعه - في أكثر ما ذهب إليه ، وخالفه في تسمية المكتسب فاعلا فامتنع منه ، وخالفه أيضا في المتوالدات فزعم أنّها فعل لله تعالى بإيجاب الطبع لا بالاختيار ، وهو ممّن كان يناظر أحمد بن حنبل أيّام ما يسمّى بمحنة القول بخلق القرآن ، له عدّة كتب ، منها : الاستطاعة ، المقالات ، المضاهاة ، وغيرها ؛ توفّي سنة 240 أو 241 ه. أنظر : الفرق بين الفرق : 197 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 54/2 و 86 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 75/1 و 77 ، سير أعلام النبلاء 554/10 رقم 189 .
2- السدّي - بضمّ السين وتشديد الدال المهملتين - ، هو : إسماعيل بن عبد الرحمن ابن أبي ذؤيب السدّي الأعور ، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة ، حجازي الأصل ، سكن الكوفة ، ومات فيها سنة 127 ه ، من تصانيفه : تفسير القرآن. أنظر : مشاهير علماء الأمصار : 178 رقم 846 ، هدية العارفين 206/5 .

وقول ابن (1) الطيّب الباقلّاني من الأشعرية ومن اتّبعه ، وهو قول اليهود والنصارى.

وسمعت من يحكي عن بعض الكرّامية أنّهم يجوّزون على الرسل الكذب في التبليغ أيضا.

وأمّا هذا الباقلّاني ، فإنّا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السّمناني قاضي الموصل (2) ، أنّه كان يقول : إنّ كلّ ذنب ، دقّ أو جلّ ، فإنّه جائز على الرسل ، حاشا الكذب في التبليغ فقط!

قال : وجائز عليهم أن يكفروا!

قال : وإذا نهى النبيّ عن شيء ثمّ فعله ، فليس دليلا على أنّ ذلك النهي قد نسخ ؛ لأنّه قد يفعله عاصيا لله تعالى! .. قال : وليس لأصحابه أن ينكروا عليه!

وجوّز أن يكون في أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله من هو أفضل من محمّد صلی اللّه علیه و آله مذ بعث إلى أن مات » (3).

ص: 33


1- كان في الأصل : « أبي » ، وهو تصحيف ، والصحيح ما أثبتناه من المصدر.
2- هو : أبو جعفر محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد السمناني الحنفي الأشعري ، قاضي الموصل ، ولد سنة 361 ه ، لازم الباقلّاني حتّى برع في علم الكلام ، وصار من أكبر أصحابه ، ومقدّم الأشعرية في وقته ، وذكر عنه تجويز الردّة على الرسول بعد أداء الرسالة! له عدّة مصنّفات ، منها : البيان عن أصول الإيمان ، الكشف عن تمويهات أهل الطغيان في العقائد ؛ توفّي بالموصل سنة 444 ه. أنظر: تاریخ بغداد 355/1 رقم 284 ، الأنساب - للسمعاني - 306/3 ( السمناني ) ، سير أعلام النبلاء 651/17 رقم 441 ، هدية العارفين 69/6 ، معجم المؤلفين 97/3 رقم 11962 .
3- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284.

وقال ابن أبي الحديد (1) : « وقال قوم من الخوارج : يجوز أن يبعث اللّه تعالى من كان كافرا قبل الرسالة ، وهو قول ابن فورك من الأشاعرة ، لكنّه زعم أنّ هذا الجائز لم يقع.

وقال قوم من الحشوية : قد كان محمّد صلی اللّه علیه و آله كافرا قبل البعثة ، واحتجّوا بقوله تعالى : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) (2).

وقال برغوث المتكلّم - وهو أحد النجّارية (3) - : لم يكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مؤمنا باللّه تعالى قبل أن يبعثه ؛ لأنّه تعالى قال له : ( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ ) (4).

وروي عن السدّي في قوله تعالى : ( وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) (5) ، قال وزره : الشرك ، فإنّه كان على دين قومه أربعين سنة.

وقال بعض الكرّامية في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : ( قالَ

ص: 34


1- شرح النهج ج 2 ص 162. منه قدس سره .
2- سورة الضحى 93 : 7.
3- النجّاريّة : جماعة بالريّ ينتسبون إلى الحسين بن محمّد بن عبد اللّه البغدادي الرازي ، المعروف بالنجّار ، من متكلّمي المجبّرة ، ومن أهل المناظرة. كان حائكاً في طراز العباس بن محمد الهاشمي ، من جل-ة المجبّرة ومتكلميهم ، وقد قيل : إنّه كان يعمل الموازين من أهل قُم ، وقيل : إنّ سبب وفاته أنه حدثت مناظرة بينه وبين إبراهيم النظام حول «خلق اللّه» فرفسه إبراهيم وقال له : قم أخزى اللّه من ينسبك إلى شيء من العلم والفهم ، وأنصرف محموماً ، وكان ذلك سبب علته التي مات فيها ، وتوفي في حدود سنة 220 ه- ، له تصانيف . أنظر : الفهرست - للنديم - : 313 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 75 ، الأنساب - للسمعاني - 460/5 ، هدية العارفين 303/5 .
4- سورة الشورى 42 : 52.
5- سورة الشرح 94 : 2 و 3.

أَسْلَمْتُ ) (1) ، أنّه أسلم يومئذ ولم يكن قبل ذلك مسلما.

ومثل ذلك قال اليمان بن رباب (2) متكلّم الخوارج » (3).

والظاهر أنّ كلّ من قال بعدم عصمتهم عن الكبائر عقلا فقط ، أو عقلا وسمعا ، قائل بعدم عصمتهم عن الكفر ، فإنّه من الكبائر وأظهرها ، ويشهد لهذا أمران :

الأوّل : تعبير القائل بعدم عصمتهم عن الكبائر عقلا بأنّ العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ، كما نقله نفس صاحب « المواقف » وشارحها ، في كلامهما المذكور عن القاضي ومحقّقي الأشاعرة (4).

الثاني : استدلال من قال بعدم عصمتهم عن الكبائر بما يوجب كفر الأنبياء ، كرواية الغرانيق ..

وقصّة يونس حيث ظنّ أن لن يقدر عليه اللّه ، والشكّ في قدرة اللّه كفر (5) ..

وقول إبراهيم : ( هذا رَبِّي ) (6) لمّا رأى الشمس والقمر بازغين ..

وقوله : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) (7) حيث شكّ في قدرة

ص: 35


1- سورة البقرة 2 : 131.
2- قيل فيه : ضعيف ، يرى رأي الخوارج. أنظر : الضعفاء والمتروكين - للدارقطني - : 183 رقم 611 ، الضعفاء والمتروكين - لابن الجوزي - 3/ 218 رقم 3837 ، میزان الاعتدال 289/7 رقم 9855 ، لسان الميزان 316/6 رقم 1134 ، وفي المصادر الثلاثة الأول : «رِئاب » بدل «رباب» .
3- شرح نهج البلاغة 7 / 9 و 10.
4- المواقف : 358 - 359 ، شرح المواقف 8 / 264.
5- شرح المواقف 8 / 276.
6- سورة الأنعام 6 : 78.
7- سورة البقرة 2 : 260.

اللّه تعالى (1).

بل يلزم جميع الجمهور القول بعدم عصمة الأنبياء عن الكفر ؛ لما رووه في صحاحهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر » (2) ، فإنّ مقتضى هذا الخبر صلوح عمر للنبوّة وقد كان كافرا في أكثر عمره!

وفي رواية أخرى لهم : « لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر » (3).

ومن الغريب أنّ صاحب « المواقف » وشارحها ، مع قولهما بعصمة الأنبياء عن الكفر قبل النبوّة وبعدها أجابا عن الاستدلال بقول إبراهيم : ( هذا رَبِّي ) (4) ، بقولهما : « إنّه صدر عنه قبل تمام النظر في معرفة اللّه تعالى ، وكم بينه وبين النبوّة ، فلا إشكال إذ يختار أنّه لم يعتقده فيكون كذبا صادرا قبل البعثة » (5)!!

فإنّ هذا الكلام يقتضي أنّه كان شاكّا في ربّه ؛ لأنّه قال : ( هذا رَبِّي ) قبل تمام النظر ، ومن المعلوم أنّ الشكّ في اللّه كفر.

وليت شعري مع هذا كيف يقولان بعصمة الأنبياء عن الكفر قبل

ص: 36


1- شرح المواقف 8 / 271.
2- انظر مثلا : سنن الترمذي 5 / 578 ح 3686 ، مسند أحمد 4 / 154 ، فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 1 / 424 ح 498 وص 436 ح 519 وص 533 ح 694 ، مسند الروياني 1 / 95 ح 214 ، المعجم الكبير 17 / 180 ح 475 وص 298 ح 822 وص 310 ح 857 ، الكامل في الضعفاء 3 / 155 و 216 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 92 ح 4495.
3- الكامل في الضعفاء 3 / 155 و 216 ، إحياء علوم الدين 3 / 313 ، فردوس الأخبار 2 / 202 ح 5167 ، تاريخ دمشق 44 / 114.
4- سورة الأنعام 6 : 78.
5- المواقف : 362 ، شرح المواقف 8 / 270.

النبوّة؟!

وكيف يدّعيان الإجماع على هذه العصمة حتّى غرّا الخصم بدعوى الإجماع عليها ، إذ جاء بكلامهما بعينه؟!

وهذا كلّه ممّا يدلّ على أنّ كلامهم لم يصدر عن يقين في النقل ، ولا اعتقاد للحقّ ؛ ولذا ناقضا نفسيهما في عصمة الأنبياء عن الكبائر بعد النبوّة ، فإنّهما قالا بها أوّلا ، ثمّ بعد ذلك في مقام نفي أهليّة أبي بكر للخلافة ؛ لأنّه منع فاطمة إرثها وقد ادّعته ، وهي معصومة

لقول النبيّ : « فاطمة بضعة منّي » (1)، قالا : « وأيضا عصمة النبيّ قد تقدّم ما فيها » (2).

الأمر الثالث : إنّ ما نسباه إلى الشيعة من جواز إظهار الكفر تقية (3) ، كذب صريح ، فإنّا لم نسمع ذاهبا منهم إلى ذلك ، وهذه كتبهم بين أيدينا فليروه أصحابهم عن أحدها ، ولعلّهما أخذاه من قول الشيعة بجواز التقية لأتباع الأنبياء ، فقاسوا عليه جوازها في إظهار الكفر من الأنبياء ؛ وهو باطل.

ص: 37


1- صحيح البخاري 5 / 92 ح 209 وص 105 ح 255 وج 7 / 65 ح 159 ، صحيح مسلم 7 / 141 ، سنن أبي داود 2 / 233 ح 2071 ، سنن الترمذي 5 / 655 - 656 ح 3867 و 3869 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 147 - 148 ح 8519 و 8520 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 526 ب 33 ح 1 ، مسند أحمد 4 / 5 و 323 و 328 ، فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 2 / 946 ح 1327 وص 950 ح 1333 ، المعجم الكبير 22 / 404 ح 1010 - 1012 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 172 - 173 ح 4747 و 4751 ، حلية الأولياء 2 / 40 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 7 / 64 وج 10 / 201 ، مصابيح السنّة 4 / 185 ح 4799.
2- المواقف : 402 ، شرح المواقف 8 / 356.
3- المواقف : 359 ، شرح المواقف 8 / 264.

نعم ، هو مذهب بعض أهل السنّة كما هو صريح ابن حزم (1) عند كلامه على الآيات المنافية لعصمة إبراهيم علیه السلام ، قال : « وأبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية » (2).

ولا ريب أنّ من يروي خبر الغرانيق حقيق بهذا الاعتقاد ؛ لأنّ إظهار الكفر للتقية أهون من إظهاره لهوى قومه.

وكذا من يروي سائر الروايات المكفّرة ويحمل الآيات على الكفر أحقّ بهذا الاعتقاد.

واعلم أنّ ما ذكراه بالنسبة إلى صدور الكبائر عن الأنبياء عمدا - حيث قالا : « فمنعه الجمهور من المحقّقين » (3) - إنّما هو مخصوص بحال النبوّة ؛ ولذا قالا بعد ذلك : « هذا كلّه بعد الوحي والاتّصاف بالنبوّة ، وأمّا قبله فقال الجمهور : لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة » (4) ، فاللازم على الخصم التقييد!

كما إنّهما بالنسبة إلى صدورها سهوا قالا : « وأمّا صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوّزه الأكثرون » (5) ..

وقال الشارح : « والمختار خلافه » (6) ..

فترك الخصم نسبة التجويز إلى الأكثر ليخفي كذبه بقوله : « ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر سهوا وعمدا » ، وليروّج

ص: 38


1- الملل والنحل 4 / 6. منه قدس سره .
2- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 290.
3- المواقف : 359 ، شرح المواقف 8 / 264.
4- المواقف : 359 ، شرح المواقف 8 / 265.
5- المواقف : 359 ، شرح المواقف 8 / 265.
6- شرح المواقف 8 / 265.

كذبه بدعوى الموافقة لنا في قوله : « لا للاحتجاج على الخصم ؛ لأنّه موافق ».

ثمّ اعلم أنّ قولهما : « فمنعه الجمهور من المحقّقين » وقول الشارح :

« قبل ظهور المخالفين » (1) دليل على وجود القائل منهم بعدم عصمة الأنبياء عن الكبائر عمدا حال النبوّة.

كما صرّح الشارح بنسبة الخلاف إلى الحشوية ..

وصرّح ابن حزم في كلامه السابق بنسبته إلى الكرّامية والباقلّاني وأتباعه (2) ..

واختاره الغزّالي في كلامه المتقدّم تبعا للقاضي (3) ..

فعلم أنّ كثيرا من أهل السنّة قائلون بعدم عصمة الأنبياء حال النبوّة عن الكبائر عمدا ، فضلا عن السهو وعمّا قبل النبوّة ، فلا معنى لنسبة الخصم الأدلّة التي ذكرها إلى الأشاعرة على الإطلاق مع دعوى أنّهم استدلّوا بها على وجوب عصمة الأنبياء عن الكبائر سهوا وعمدا ، ولا سيّما وقد ذكرها في « المواقف » وشرحها إلى تمام تسعة أدلّة ، نسبها الشارح إلى الرازي (4).

ثمّ أوردا عليها بقولهما : « وأنت تعلم أنّ دلالتها في محلّ النزاع ، وهي عصمة الأنبياء عن الكبيرة سهوا ، وعن الصغيرة عمدا ، ليست

ص: 39


1- شرح المواقف 8 / 264.
2- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284.
3- تقدّم في الصفحة 30 - 31 عن المنخول من تعليقات الأصول : 224.
4- المواقف : 359 ، شرح المواقف 8 / 265 - 267 ، وانظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 2 / 117 - 122.

بالقويّة » (1).

فظهر أنّه لا وفاق بيننا وبين الأشاعرة في عصمة الأنبياء ؛ لأنّا نقول بعصمتهم عن الذنوب مطلقا ، صغيرة وكبيرة ، عمدا وسهوا ، قبل النبوّة وبعدها ؛ وجمهورهم لا يثبتون لهم عصمة عن الذنوب مطلقا قبل النبوّة ، وعن الصغائر مطلقا والكبائر سهوا بعد النبوّة ، وبعضهم لا يثبت لهم عصمة عن الكبائر عمدا بعد النبوّة!

بل عرفت أنّ بعضهم أجاز عليهم الكفر حتّى بعد النبوّة (2) ، فكيف يكون بيننا وبينهم وفاق ، لا سيّما والقائل منهم بعصمة الأنبياء في الجملة إنّما يقول بها سمعا لا عقلا ، كما عرفته في الكلام الذي أخذه الخصم من « المواقف » وشرحها (3).

وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق هذه الأدلّة وغيرها عند ذكر المصنّف لها.

وقد أقرّ الخصم باقتضاء ما عدا الدليل الثاني لعصمتهم عن كلّ الذنوب حتّى الصغائر ، لكنّه أراد مطابقة مذهبه فزعم وجود دليل آخر على عدم عصمتهم عن الصغائر ، وهو كما يستفاد من كلامه أمور :

الأوّل : العفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر.

الثاني : إنّ الأنبياء بشر ، والبشر بمقتضى طباعهم عدم خلوّهم من الذنوب.

الثالث : إنّ الصغائر لا تخالف ملكة العصمة ، فلا مؤاخذة فيها.

ص: 40


1- المواقف : 361 ، شرح المواقف 8 / 267.
2- انظر الصفحتين 30 و 33 من هذا الجزء.
3- راجع : الصفحة 35 ، وانظر : المواقف : 358 - 359 ، شرح المواقف 8 / 264.

ويردّ على الأوّلين : إنّه لا شيء منهما يستوجب تخصيص تلك الأدلّة الموجبة لعصمتهم عن جميع الذنوب ..

أمّا الأوّل : فلأنّ العفو عن الصغيرة لا يخرجها عن كونها ذنبا يحرّم الاتّباع فيه ويجب النهي عنه ، ولا يمنع العفو عنها أيضا من دخول النبيّ لو فعلها تحت اللوم والمذمّة بنحو قوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (1)!

وأمّا الثاني : فالأمر فيه أظهر ؛ لأنّ البشرية لا تستوجب الوقوع في الذنب حتّى يلزم تخصيص أدلّة العصمة (2) ، وإلّا لما تمّت عصمتهم عن الكبائر أيضا!

وقوله : « وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خلق من الأرض ... » إلى آخره ...

إن أراد به أنّ خلق الإنسان من الأرض علّة تامّة لصدور الذنب عنهم (3) ، فهو باطل ، إذ لم يقل أحد بوجوب عدم العصمة حتّى عن الصغائر (4) ، على أنّه يلزم عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة!

وإن أراد به أنّه مقتض ، ففيه : إنّه لو سلّمت الإشارة في الآية إليه لم يصلح لتخصيص الأدلّة الموجبة لعصمتهم عن الذنوب مطلقا ، وإلّا انتفت عصمتهم حتّى عن الكبائر.

وأمّا الثالث : ففساده أظهر من الأوّلين ، ضرورة أنّ دعوى عدم

ص: 41


1- سورة الصفّ 61 : 2.
2- بناء على القول بأنّ الصغائر لا تخالف ملكة العصمة.
3- لما في تراب الأرض من كدورات وما شابه.
4- لأنّهم قائلون بجواز ارتكاب الصغيرة ، والعلّة التامّة تستلزم وجوب عدم العصمة ، ولم يقل به أحد.

مخالفة الصغيرة لملكة العصمة إن كانت ناشئة من جهة صغر المعصية ، فهي خالية عن دليل ، فلا بدّ من الأخذ بعموم الأدلّة المانعة من صدور كلّ ذنب عنهم حتّى الصغائر!

وإن كانت ناشئة من وقوعها نادرا ، فالكبيرة مساوية لها لو ندرت ، فلا تلزم عصمتهم عن الكبيرة النادرة أيضا ولا خصوصية للصغيرة!

هذا ، وقد خلط الخصم هنا بأمور :

منها : قوله : « والغرض أنّ كلّ ما ذكره هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب الأنبياء من إبطال حجّة اللّه تعالى ... » إلى آخره.

فإنّ المصنّف لم يرتّب إبطال حجّة اللّه سبحانه على ذنوب الأنبياء ، بل على رواية الغرانيق المستلزمة للشرك والدعوة إلى عبادة الأصنام ، اللّهمّ إلّا أن يريد الخصم بذنوب الأنبياء ما يعمّ ذلك.

ومنها : إنّه في ذيل كلامه في معنى العصمة عندهم قال : « ولمّا لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به » ..

فإنّ هذا لا ربط له بتفسير هم للعصمة بأن لا يخلق اللّه فيهم ذنبا ؛ لأنّ هذا التفسير مقابل للقول بالملكة.

ومنها : قوله : « فإنّ الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا » ..

فإنّه ظاهر في إرادة أنّ صدور الصغائر عن الأنبياء إنّما هو حين كون الصفة حالا لا ملكة ، وهو خارج عن محلّ كلامه في صدور الذنب عنهم حين الملكة ، على أنّ فرض كون صفات الأنبياء في أوّل حصولها أحوالا لا يجامع القول بثبوت ملكة العصمة من أوّل النبوّة ، ولكنّ المؤاخذ بهذا الخلط هو صاحب « المواقف » وشارحها ؛ لأنّ الخصم أخذ منهما قوله :

ص: 42

« وأمّا العصمة عند الحكماء ... - إلى قوله : - فإنّ الصفات النفسانية » (1).

كما إنّه أخذ منهما قوله : « إنّ الأنبياء مكلّفون بترك الذنوب ... - إلى قوله : - فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر » (2).

وقد ذكرا هذا الكلام ردّا على من زعم أنّ العصمة خاصّية في نفس الشخص أو في بدنه ، يمتنع بسببها صدور الذنب عنهم ، لكنّ الخصم سرق هذا الكلام ووضعه في غير محلّه ؛ لأنّا لا ندّعي امتناع صدور الذنب عن الأنبياء ، بل ندّعي أنّهم لا يذنبون أصلا مع وجود القدرة لهم على الذنب.

وأمّا ما ذكره من أنّ قصّة سورة النجم لم تذكر في الصحاح ، فلا يبعد صدقه فيه ، لكنّهم صحّحوا طريقين أو ثلاثة لها (3) ، واستفاضت طرقهم لها ، وذكرها عامّة مفسّريهم ومؤرّخيهم ، واعتبرها الكثير من علمائهم (4) ..

قال السيوطي في « لباب النقول » عند قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ ) الآية من سورة الحجّ (5) :

« أخرج ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق بسند صحيح ، عن سعيد بن جبير ، قال : قرأ النبيّ بمكّة النجم ، فلمّا بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (6) ألقى الشيطان على

ص: 43


1- المواقف : 366 ، شرح المواقف 8 / 281.
2- المواقف : 366 ، شرح المواقف 8 / 281.
3- رواه البزّار والطبراني ، ورجالهما رجال الصحيح ، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 115 ، وأخرجه ابن مردويه والضياء في « المختارة » بسند رجاله ثقات ، كما في الدرّ المنثور 6 / 65 وصحّح ثلاث طرق أخرى من ص 65 - 68.
4- راجع في ذلك الصفحة 18 ه 2 من هذا الجزء.
5- سورة الحجّ 22 : 52.
6- سورة النجم 53 : 19 و 20.

لسانه : « تلك الغرانيق العلى * وإنّ شفاعتهنّ لترتجى » ، فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فنزلت : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ ) الآية.

وأخرجه البزّار وابن مردويه من وجه آخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس في ما أحسبه.

وقال البزّار : لا يروى متّصلا إلّا بهذا الإسناد.

وتفرّد بوصله أميّة بن خالد (1) ، وهو ثقة مشهور.

وأخرجه البخاري عن ابن عبّاس بسند فيه الواقدي (2) ..

وابن مردويه من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس ..

وأورده ابن إسحاق في « السيرة » عن محمّد بن كعب وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب (3) ..

وابن جرير ، عن محمّد بن كعب ، ومحمّد بن قيس ، وابن أبي حاتم ، عن السدّي.

كلّهم بمعنى واحد ، وكلّها [ إمّا ] ضعيفة أو منقطعة ، سوى طريق سعيد بن جبير الأولى.

قال الحافظ ابن حجر (4) : لكن كثرة الطرق تدلّ على أنّ للقصّة

ص: 44


1- كان في الأصل : « خلاد » ، وهو تصحيف ، والصواب ما أثبتناه من المصدر ، وهو : أميّة بن خالد بن الأسود بن هدبة الأزدي الثّوباني القيسي البصري ؛ انظر : الضعفاء الكبير - للعقيلي - 1 / 128 رقم 158 ، الثقات 8 / 123 ، ميزان الاعتدال 1 / 442 رقم 1031 ، تهذيب التهذيب 1 / 383 رقم 594.
2- (2) لم نجده في « صحيح البخاري » المطبوع الموجود بين أيدينا!
3- (3) لم نجده في « السيرة » لابن إسحاق ، المطبوع الموجود بين أيدينا!
4- انظر : فتح الباري 8 / 561 تفسير سورة الحجّ.

أصلا ، مع أنّ لها طريقين صحيحين مرسلين أخرجهما ابن جرير :

أحدهما : من طريق الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ..

والآخر : من طريق داود بن [ أبي ] (1) هند ، عن أبي العالية ..

ولا عبرة بقول ابن العربي وعياض : إنّ هذه الروايات باطلة لا أصل لها » (2).

ونقل السيّد السعيد نحوه (3) عن شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني ، في كتابه الموسوم ب « المواهب اللدنّيّة » ، وقال في آخر كلامه :

« إنّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أنّ لها أصلا ، وقد ذكرنا أنّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح مراسيل ، يحتجّ بمثلها من يحتجّ بالمرسل ، وكذا من لا يحتجّ به ؛ لاعتضاد بعضها ببعض » (4).

وأمّا ما نسبه إلى الأشاعرة من الجواب بأنّه من إلقاء الشيطان ، أو أنّه قرآن منسوخ ، والإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة ، فمن أوّله إلى قوله :

ص: 45


1- أضفناه من تهذيب الكمال 6 / 53 رقم 1773 ، سير أعلام النبلاء 6 / 376 رقم 158 ، تهذيب التهذيب 3 / 25 رقم 1879 ، فتح الباري 8 / 561.
2- لباب النقول في أسباب النزول : 150 نقلا عن ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبزّار ، وابن مردويه ، والبخاري ، وابن إسحاق. وأنظر : الدر المنثور 66/6 - 69 نقلاً عن عبد بن حميد ، وأبن جرير ، وأبن مردويه ، والبیهقي في «الدلائل» ، والطبري ، وسعيد بن منصور ، وأبن المنذر ، وأبن أبي حاتم. وراجع ما تقدّم في الصفحة 18 ه 2 من هذا الجزء.
3- إحقاق الحقّ 2 / 214 - 223.
4- شرح الزرقاني على المواهب اللدنّيّة 2 / 26.

« ومن قرأ سورة النجم » من لفظ « المواقف » وشرحها (1).

ويرد على الأوّل : إنّه لا يجامع قول جبرئيل : « تلوت ما لم أتله عليك » ، ولا حزن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وخوفه العظيم ، إلّا أن يكون الشيطان قد خلط صوته بصوت النبيّ صلی اللّه علیه و آله على وجه لم يشعر به هو ولا جبرئيل ولا من أرسله إلى النبيّ بهذا اللوم.

فتأمّل ، فإنّ شأن القوم عجيب!

على أنّه لو أمكن إلقاء الشيطان وخلط صوته بصوت النبيّ صلی اللّه علیه و آله لفسدت الشرائع ، وما صحّ لهم أيضا أن يحتجّوا بما رووه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في فضل أوليائهم ؛ لجواز كونه من إلقاء الشيطان.

ويرد على الثاني : إنّه - أيضا - لا يجامع قول جبرئيل : « تلوت ما لم أتله عليك » ، ولا حزن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه بحسب الفرض لم يتل إلّا قرآنا تلاه جبرئيل عليه.

وأمّا قول الخصم : « ومن قرأ سورة النجم وتأمّل في تتابع آياتها ، علم أنّ هذه الكلمات .. » ..

فمتّجه ؛ ولكنّه دليل على كذب الواقعة ، وأنّ رواتها الكذبة أناس لا يعقلون.

وأمّا قوله : « نعم ، يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة ، وهو قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) (2) ... » إلى آخره ..

فخطأ ؛ لأنّ قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) إنّما هو بمعنى الكثير ، فيكون مذكّرا ؛ ولذا قال : ( لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ) (3) ، فلا يلائم البلاغة أن

ص: 46


1- المواقف : 364 ، شرح المواقف 8 / 277.
2- سورة النجم 53 : 26.
3- سورة النجم 53 : 26.

يشير إليه بما يشار به إلى المؤنّث ، وهو لفظ « تلك » ، لا سيّما بعد أن أعاد عليه ضمير المذكّر ، فقد فرّ عمّا لا يلائم البلاغة إلى ما لا يلائمها!!

ولو سلّم حسن هذه الإشارة للتعبير عن ذلك الكثير بالغرانيق - وهو مؤنّث - فلا معنى لحكمه بالنسخ للإيهام ، إذ لو وقع بعد قوله تعالى : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) لم يحتمل رجوعه إلى مدح الأصنام ؛ للفصل الكثير ، ولعدم المناسبة التي ذكرها ، فمن أين يحصل الإيهام الموجب للنسخ؟!

على أنّ المرويّ عندهم هو أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وحاشاه - قرأ تلك العبارة بعد قوله : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) ومدار الكلام على ذلك ، فكيف يسوغ فرض وقوعها بعد قوله : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ... ) الآية؟!

ومن الظريف قوله : « فعلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته »!!

إذ كيف يكون مفتريا عليهم وهم قد رووا هذه الرواية المشؤومة ، واعتبرها الغالب منهم ، واستدلّ بها من قال منهم بعدم عصمة الأنبياء عن الكبائر؟!

ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه لم يزد على أنّ نقل عنهم سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله في القرآن بما يوجب الكفر ، وظاهر الرواية التي ذكرها الخصم تعمّد النبيّ صلی اللّه علیه و آله لذلك ؛ لأنّه قرأه بعد ما تمنّى إنزال ما يقرّبه إلى قومه الذي هو من نوع مدح الأصنام ألبتّة ، فيكون متمنّيا للكفر وفاعلا له ، وهذا أسوأ حالا ، فقبّح اللّه ما جنوه على سيّد النبيّين.

ص: 47

وأمّا ما نسبه إلى القاضي عياض في كتاب « الشفا » فافتراء عليه (1) ؛ لأنّه إنّما قال : « صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي (2) حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، وتعلّق بذلك الملحدون » (3).

ولو سلّم أنّ ذلك من مفتريات الملاحدة لا أهل السنّة ، فكفاهم نقصا أن يتّبعوا في أخبارهم الملاحدة ويعتبرها علماؤهم.

هذا ، ومن العجب أنّهم يروون ذلك عن النبيّ الذي طهّره اللّه من الرجس ، ويروون في فضل عمر أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له : « والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك » (4) ..

ص: 48


1- راجع الصفحة 27 من هذا الجزء.
2- هو : أبو الفضل بكر بن محمّد بن العلاء بن محمّد القشيري ، من أهل البصرة أوّلا ، وانتقل بعدها إلى مصر ، فغدا من كبار فقهاء المالكيّين فيها ، تقلّد أعمالا للقضاء في بعض نواحي العراق قبل انتقاله إلى مصر لأمر قد اضطرّه ، وكان راوية للحديث ، حدّث عنه كثير من المصريّين والأندلسيّين والقرويّين ، توفّي في مصر سنة 344 ه وقد جاوز عمره الثمانين ، ودفن بالمقطّم منها ؛ له مصنّفات عديدة ، منها : كتاب أصول الفقه ، كتاب في مسائل الخلاف ، كتاب الردّ على المزني ، كتاب الردّ على الشافعي ، كتاب الردّ على القدرية ، كتاب الردّ على من غلط في التفسير ، تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أنظر : ترتيب المدارك 290/2 ، سير أعلام النبلاء 537/15 رقم 316 ، العبر 67/2 ، شذرات الذهب 366/2.
3- الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 125 ، وانظر : شرح الشفا - للقاري - 2 / 226 ، نسيم الرياض 4 / 96 وفيه : « أبو بكر » بدلا من « بكر » ، وهو تصحيف ، راجع الهامش السابق.
4- صحيح البخاري 4 / 255 - 256 ح 102 وج 5 / 76 ح 180 ، صحيح مسلم 7 / 115 ، مسند أحمد 1 / 171 و 182 ، فضائل الصحابة 1 / 300 ح 301 وص 314 ح 326 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 482 باب 16 ح 32 ، الطبقات الكبرى - لابن سعد - 8 / 147 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 568 - 569 ح 1253 و 1254 و 1260 ، مسند أبي يعلى 2 / 132 - 133 ح 810.

وقال : « إنّ الشيطان يفرّ من حسّ عمر » (1) ..

وقال : « إنّ الشيطان يفرق من عمر » (2) ..

وقال كما في « الصواعق » : « إنّ الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلّا خرّ لوجهه » (3) ..

.. إلى غير ذلك.

فليت شعري هلّا كان عندهم بعض هذه المنزلة لسيّد النبيّين وخيرة اللّه من خلقه أجمعين؟!

* * *

ص: 49


1- تاريخ دمشق 44 / 81 ، كنز العمّال 11 / 581 ح 32765.
2- مسند أحمد 5 / 353 ، تاريخ دمشق 44 / 82 ، كنز العمّال 11 / 574 ح 33720.
3- الصواعق المحرقة : 148 ، وانظر : المعجم الكبير 24 / 305 ح 774 ، المعجم الأوسط 4 / 368 ح 3943 ، فردوس الأخبار 2 / 17 ح 3509 ، تاريخ دمشق 44 / 86.
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه -

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

ورووا عنه صلی اللّه علیه و آله أنّه صلّى الظهر ركعتين ، ( فقال أصحابه : أقصرت الصلاة ، أم نسيت يا رسول اللّه؟! فقال : كيف ذلك؟! فقالوا : إنّك صلّيت ركعتين ؛ فاستشهد على ذلك رجلين ، فلمّا شهدا بذلك قام فأتمّ الصلاة ) (2) (3).

ورووا في الصحيحين أنّه صلّى بالناس صلاة العصر ركعتين ودخل حجرته ، ثمّ خرج لبعض حوائجه فذكّره بعض أصحابه فأتمّها (4).

وأيّ نسبة أنقص من هذا وأبلغ في الدناءة؟! فإنّها تدلّ على إعراض النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن عبادة ربّه ، وإهمالها والاشتغال عنها بغيرها ، والتكلّم في الصلاة ، وعدم تدارك السهو من نفسه لو كان ، نعوذ باللّه من هذه الآراء الفاسدة.

ص: 50


1- نهج الحقّ : 146.
2- في المصدر بدل ما بين القوسين هكذا : فقال له ذو اليد : أقصرت الصلاة ، أم نسيت يا رسول اللّه؟! فقال : أصدق ذو اليد؟ فقال الناس : نعم ؛ فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فصلّى اثنتين أخريين ثمّ سلّم.
3- انظر : صحيح البخاري 1 / 206 ح 139 وص 288 ح 104 وج 2 / 150 - 151 ح 250 - 253 وج 8 / 29 ح 79 ، صحيح مسلم 2 / 86 و 87 ، سنن أبي داود 1 / 263 ح 1008 وص 265 ح 1014 و 1015 ، سنن الترمذي 2 / 247 ح 399 ، سنن النسائي 3 / 23 - 24 ، سنن ابن ماجة 1 / 383 ح 1213 و 1214 ، الموطّأ : 80 - 81 ح 65 و 66 ، مسند أحمد 2 / 234 - 235 و 423.
4- صحيح البخاري 1 / 288 ح 103 ، صحيح مسلم 2 / 87 ، وانظر : سنن النسائي 3 / 24 ، سنن الدارمي 1 / 251 ح 1500 ، الموطّأ : 80 ح 64 ، مسند أحمد 2 / 459 - 460 ، زوائد عبد اللّه في المسند : 181 ح 30 وص 184 ح 31.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ما رووا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الصلاة (2) حتّى قال له ذو اليدين :

أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللّه؟! فلمّا علم وقوع السهو منه تدارك (3).

وأيّ نقص ودناءة في السهو وقد قال تعالى في القرآن : ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ ) (4)؟! وهذا تصريح بجواز السهو والنسيان ، والحكمة فيه أن يصير هذا تشريعا للسهو في الصلاة.

وإنّ الكلام القليل الذي يتعلّق بأمر الصلاة لا يضرّ ، وكذا الحركة المتعلّقة بالصلاة ، فيمكن أنّ اللّه تعالى أوقع عليه هذا السهو وأنساه الصلاة لتشريع هذه الأمور التي ذكرناها ، ولا يقدح السهو الذي ذكرنا فوائده في العصمة.

وأيّ دناءة ونقص في هذا؟! فإنّ اللّه تعالى أنساه لوقوع التشريع وقد قال تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (5) ، فإنّ الإنساء في أحد المعنيين هو إيقاع النسيان عليه.

وقد قال تعالى في حقّ يوسف وهو من الأنبياء المرسلين : ( فَأَنْساهُ

ص: 51


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 226.
2- كذا وردت العبارة في الأصل و « إحقاق الحقّ » ونسخه المخطوطة.
3- انظر الهامش رقم 3 من الصفحة السابقة.
4- سورة الأنعام 6 : 68.
5- سورة البقرة 2 : 106.

الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) (1).

وكما إنّه يجب أن يقدّر اللّه حقّ قدره لقوله : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) (2) ، كذلك يجب أن يقدّر الأنبياء حقّ قدرهم ، ويعلم ما يجوز عليهم وما لا يجوز ، وقد قال تعالى : ( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (3).

وقد عاب اللّه الكفّار بالمبالغة في تنزيه الأنبياء عن أوصاف البشر بقوله : ( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) (4) ..

وقال تعالى : ( سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (5).

* * *

ص: 52


1- سورة يوسف 12 : 42.
2- سورة الأنعام 6 : 91.
3- سورة فصّلت 41 : 6.
4- سورة الفرقان 25 : 7.
5- سورة الإسراء 17 : 93.
وأقول :

لا ريب في عصمة الأنبياء عن السهو في العبادة لأمور :

* الأوّل : قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) (1) ، فإنّه سبحانه جعل السهو صفة نقص ودخيلا في استحقاق الويل ، بلا فرق بين ما يوجب ترك أصل الصلاة أو أجزائها ؛ لأنّهما معا ناشئان من السهو عنها ، فكيف يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الساهين؟! بل لو سها كان أولى الناس بالويل ، اللّهمّ إلّا أن تخصّ الآية بالسهو عن أصل الصلاة ، ولكنّهم رووا أيضا سهوه عن أصلها كما ستعرف!

* الثاني : إنّه لو سها دخل باللوم في قوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (2) ، وقوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (3) .. فإنّه صلی اللّه علیه و آله هو القائل : « ركعتان مقتصدتان خير من قيام ليلة والقلب ساه » (4) ..

وهو القائل : « من توضّأ فأسبغ الوضوء ، ثمّ قام يصلّي صلاة يعلم ما يقول فيها حتّى يفرغ من صلاته ، كان كهيئة يوم ولدته أمّه » (5) ..

ص: 53


1- سورة الماعون 107 : 4 و 5.
2- سورة الصفّ 61 : 2.
3- سورة البقرة 2 : 44.
4- الزهد - لابن المبارك - : 118 ح 288 وص 329 ح 1147 ، العظمة - لأبي الشيخ الأصبهاني - : 33 ح 45 ، إحياء علوم الدين 1 / 201 ، تفسير ابن كثير 1 / 414.
5- المصنّف - لعبد الرزّاق - 1 / 46 ح 142 ، المعجم الكبير 17 / 339 ح 937 نحوه ، المستدرك على الصحيحين 2 / 433 ح 3508 وصحّحه وأقرّه الذهبي.

والقائل : « لا صلاة لمن لا يتخشّع في صلاته » (1) ..

والقائل : « إذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع » (2) (3) ..

وهو القائل : « إيّاكم وأن يتلعّب بكم الشيطان » (4) لمّا قال له رجل : يا رسول اللّه! إنّي صلّيت فلم أدر أشفعت أم أوترت؟ ..

.. إلى نحو ذلك ممّا روي عنه صلی اللّه علیه و آله .

فكيف والحال هذه أن يصلّي جماعة ساهيا حتّى ينقص من أربع ركعات ركعتين؟!

* الثالث : إنّه استفاض أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله تنام عيناه ولا ينام قلبه ، حتّى عقد له البخاري بابا في كتاب « بدء الخلق » وروى فيه ثلاثة أحاديث ، وفي أحدها : « وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم » (5).

فكيف من لا ينام قلبه حال النوم ينام قلبه حال اليقظة عن عبادة ربّه التي روحها الإقبال على اللّه تعالى؟!

ص: 54


1- كنز العمّال 7 / 526 ح 20088 عن الديلمي.
2- سنن ابن ماجة 2 / 1396 ح 4171 ، مسند أحمد 5 / 412 ، المعجم الكبير 4 / 155 ح 3987 ، حلية الأولياء 1 / 362 ، إحياء علوم الدين 1 / 200 ، كنز العمّال 7 / 528 ح 20095.
3- راجع عن هذه الأحاديث : كنز العمّال 4 / 230 و 112 وما بعدها. منه قدس سره .
4- مسند أحمد 1 / 63. منه قدس سره . وأنظر : مجمع الزوائد 150/2 ، كنز العمال 134/8 ح 22259 ، وفي المصادر الثلاثة هذه : «إياي» بدل «إياكم»!!
5- صحيح البخاري 5 / 33 - 34 ح 77 كتاب المناقب / باب كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله تنام عينه ولا ينام قلبه ، وانظر : سنن أبي داود 1 / 51 ح 202 ، مسند أحمد 1 / 274 ، المعجم الكبير 12 / 36 ح 12429 ، المصنّف - لعبد الرزّاق - 2 / 405 ح 3863 و 3864 ، صحيح ابن خزيمة 1 / 29 - 30 ح 48 و 49 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 101 ح 6351 و 6352 ، حلية الأولياء 4 / 305.

* الرابع : إنّ وقوع السهو من الأنبياء في العبادة مناف لحكمة البعثة ، فإنّ الحكمة فيها إرشاد الخلق وتقريبهم إلى ما هو الأحبّ إلى اللّه تعالى والأصلح لهم.

ومن المعلوم أنّ الإقبال على عبادة اللّه تعالى أحبّ الأمور إلى اللّه تعالى وأصلحها للعبد ، وأنّ السهو مناف للإقبال ، فإذا لم يقبل النبيّ على عبادة ربّه وصدر منه السهو كانت الأمّة أولى بذلك وأحقّ بالمسامحة في العبادة!

وهذا من أكبر المنافيات لمنصب الدعوة إلى اللّه تعالى والقرب منه.

وأمّا ما احتمله الخصم من الإسهاء ، فخلاف ظاهر أخبارهم التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه وغيرها ، بل خلاف صريح بعضها ..

فقد ذكر في « كنز العمّال » (1) حديثين من أخبار المقام ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيهما : « إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون » ، أحدهما : عن البيهقي وسنن النسائي وأبي داود وابن ماجة (2) ..

والآخر : عن سنن ابن ماجة ومسند أحمد (3).

وذكر في « الكنز » (4) أيضا حديثا آخر عن سنن أبي داود ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه : « إن نسّاني [ الشيطان ] شيئا من صلاتي فليسبّح القوم

ص: 55


1- ج 4 ص 101 [ 7 / 470 ح 19824 ]. منه قدس سره .
2- انظر : السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 335 ، سنن النسائي 3 / 28 و 29 و 33 ، سنن أبي داود 1 / 267 ح 1020 و 1022 ، سنن ابن ماجة 1 / 380 ح 1203.
3- كنز العمّال 7 / 472 ح 19833 ، وانظر : سنن ابن ماجة 1 / 382 ح 1211 ، مسند أحمد 1 / 379.
4- ج 4 ص 101 [ 7 / 472 ح 19837 ]. منه قدس سره .

ولتصفّق النساء » (1) ..

.. إلى غير ذلك ممّا رووه ..

فكيف مع هذا يحتمل الخصم الإسهاء؟!

على أنّ الإسهاء بما ظاهره السهو محال ؛ لأنّه يجعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله عرضة للدخول تحت قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ... ) الآية (2) ، وللّوم والمذمّة بأنّه يقول ما لا يفعل ، ويأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه ، وعرضة لتكذيبه بدعوى أنّه تنام عيناه ولا ينام قلبه ، كما أنّه مناف لحكمة البعثة وللطف اللّه بعباده ، حيث أسهى نبيّه صلی اللّه علیه و آله وأبعد الناس عن قربه بسبب إسهاء مقتداهم.

وتلك مفاسد لا تتلافى بحكمة التشريع الذي يمكن فيه البيان اللفظي ، بل لمّا استفاض البيان اللفظي من النبيّ لم يبق موضوع لحكمة التشريع.

ثمّ إنّا نسأل من يزعم الإسهاء عن الأمر الذي يشرّع بالإسهاء ، هل هو جواز السهو أو هو ما يترتّب على السهو من سجود السهو ونحوه؟!

فإن كان هو الثاني كان وقوع الإسهاء لغوا ؛ لأنّ بيان سجدتي السهو والركعات المنسية لا يتوقّف على الإسهاء.

وإن كان هو الأوّل كان الأمر أشنع ؛ لأنّ الإسهاء غير اختياري للعبد فلا حكم له ، فكيف يشرّع به جواز السهو الذي هو اختياري له لإمكان تحفّظه عنه؟!

ولو سلّم أنّه غير اختياري أيضا فهو لا حكم له أيضا ، ولا معنى

ص: 56


1- وانظر : سنن أبي داود 2 / 259 - 260 ح 2174.
2- سورة الماعون 107 : 4.

لتشريع ما لا حكم له بما لا حكم له!

على أنّ الإسهاء فعل اللّه تعالى ، والسهو فعل المكلّف ، فكيف يشرّع حكم أحدهما بوقوع الآخر؟!

وأيضا : يكفي في تشريع السهو وقوعه مرّة أو مرّتين ، فما بالهم أسندوه إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرارا كثيرة حتّى عقد البخاري أبوابا عديدة متّصلة ذكر فيها سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1)؟!

فمرّة نسبوا إليه أنّه سها عن الجلوس (2) ..

ومرّة صلّى الظهر خمسا (3) ..

وأخرى صلّى إحدى الظهرين اثنتين (4) ..

وتارة صلّى المغرب اثنتين (5) ..

.. إلى غير ذلك ممّا نقّصوا به عظيم مقامه!!

ص: 57


1- صحيح البخاري 2 / 149 - 152 ح 247 - 254.
2- صحيح البخاري 2 / 149 - 150 ح 247 و 248 ، صحيح مسلم 2 / 83 ، سنن أبي داود 1 / 270 ح 1034 و 1035 ، سنن الترمذي 2 / 235 ح 391 ، سنن ابن ماجة 1 / 381 ح 1206 و 1207 ، سنن النسائي 3 / 34.
3- صحيح البخاري 2 / 150 ح 249 ، صحيح مسلم 2 / 85 ، سنن أبي داود 1 / 266 ح 1019 و 1022 ، سنن الترمذي 2 / 238 ح 392 ، سنن ابن ماجة 1 / 380 ح 1205 ، سنن النسائي 3 / 31 - 32 ، مسند الشاشي 1 / 333 - 334 ح 308 و 309.
4- صحيح البخاري 2 / 150 ح 250 و 251 ، صحيح مسلم 2 / 86 ، سنن أبي داود 1 / 263 ح 1008 ، سنن الترمذي 2 / 247 ح 399 ، سنن ابن ماجة 1 / 383 ح 1213 ، السنن الكبرى - للنسائي - 1 / 365 ح 1150.
5- صحيح البخاري 2 / 150 ذ ح 250 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 469 ح 1206.

وكيف يشكّ عاقل في أنّه نقص ، لا سيّما وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض ما رواه البخاري : « لم أنس ولم أقصّر » (1) ..

وفي رواية مسلم : « كذلك لم يكن » (2)

فكان منه صلی اللّه علیه و آله على فرض الوقوع سهوا في سهو ، وكذبا في غلط ، فتضاعف النقص ، وهو لا يناسب منصب النبوّة والدعوة!

وسيأتي الكلام إن شاء اللّه تعالى في ما زعمه الخصم من تشريع الكلام والحركة المتعلّقة بالصلاة.

وأمّا ما استدلّ به ممّا يدلّ على وقوع السهو من الأنبياء ، فلا ربط له بما نحن فيه من السهو في العبادة ، على أنّ قوله تعالى : ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3) يمكن أن يكون من قبيل : مهما نسيت شيئا فلا تقعد مع زيد ناسيا ، فحذف من جزاء الآية لفظ ناسيا ، والمعنى - واللّه أعلم - : مهما نسيت شيئا فلا تنس عدم القعود معهم بعد ما ذكرت لك حرمته وبيّنتها لك.

ومثل هذا يقال لبيان أهمّية الجزاء بلا نظر إلى وقوع الطرفين أو جوازه ، فلا تكون الآية دليلا على وقوع النسيان من النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى في غير الصلاة.

وأمّا قوله تعالى : ( فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) (4) فيعلم المراد منه بعد سماع الآية ..

ص: 58


1- صحيح البخاري 2 / 151 ح 253.
2- صحيح مسلم 2 / 87 وفيه : « كلّ ذلك » بدلا من « كذلك ».
3- سورة الأنعام 6 : 68.
4- سورة يوسف 12 : 42.

قال تعالى : ( وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) .

ولا شكّ أنّه بمقتضى ظاهر الآية يراد بضمير فَأَنْساهُ : مظنون النجاة لا يوسف علیه السلام ، وبالربّ في المقامين : الصاحب الخاصّ ، فلا ربط لها بالمدّعى.

وأمّا قوله تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (1) فليس المقصود به إنساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كيف؟! وقد قال تعالى : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) (2).

هذا إذا أريد بالآية آية القرآن.

وأمّا إذا أريد بها سائر المعجزات ودلائل النبوّة ، فالمراد - واللّه أعلم - : إنّا إذا أعرضنا عن إحدى دلائل النبوّة أو أنسيناها جئنا بخير منها وأعظم دليلا على النبوّة ، وهذا بالضرورة إنّما يتعلّق بأمم الأنبياء.

وأمّا ما زعمه من مساواة الأنبياء للناس بالبشرية مستدلّا عليه بالكتاب العزيز ..

ففيه : إنّ المساواة بالبشرية لا تقتضي المساواة في كلّ شيء ، وإلّا لجاز أن تقع منهم كلّ المعاصي ، حتّى الكفر ، والخصم لا يقول به ، وليس زائدا على قدرهم منع الرذائل والنقائص عنهم ، كالسهو في العبادة وصدور المعاصي عنهم.

هذا ، وممّا يشهد بكذب نسبة السهو إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في العبادة أنّ

ص: 59


1- سورة البقرة 2 : 106.
2- سورة الأعلى 87 : 6.

أبا هريرة الراوي لواقعة ذي اليدين ، قد أسلم عام خيبر (1) ، وأنّ ذا اليدين وهو ذو الشمالين عمير بن عبد عمرو قتل يوم بدر قبل إسلام أبي هريرة بسنين.

قال في « الاستيعاب » بترجمة ذي الشمالين : « اسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن غبشان بن سليم ...

وقال ابن إسحاق : هو خزاعي ، يكنّى أبا محمّد ، حليف لبني زهرة ، كان أبوه عبد عمرو (2) بن نضلة قدم فحالف عبد الحارث بن زهرة ، وزوّجه ابنته نعمى ، فولدت له عميرا ذا الشمالين ، كان يعمل بيديه جميعا ، شهد بدرا ، وقتل يوم بدر شهيدا ، قتله أسامة الجهمي (3) » (4).

وإنّما قلنا : إنّ ذا اليدين هو ذو الشمالين لما روي عن إمامنا الصادق علیه السلام أنّه هو (5) ..

ولأخبار القوم أنفسهم ..

ففي مسند أحمد (6) ، بسند رجاله من رجال الصحيحين ، قال : « حدّثنا عبد الرزّاق ، حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، عن أبي هريرة ، قال :

ص: 60


1- انظر : سير أعلام النبلاء 2 / 586 رقم 126 ، تهذيب التهذيب 10 / 296 رقم 8708 ، الإصابة في تمييز الصحابة 7 / 434 رقم 10674.
2- كان في الأصل : « عبد بن عمرو » ، وكلمة « بن » هنا من سبق القلم ، والتصويب ممّا أثبته الشيخ المظفّر قدس سره آنفا ومن المصدر.
3- في المصدر : الجشمي.
4- الاستيعاب 2 / 469 رقم 716.
5- تهذيب الأحكام 2 / 345 ح 1433.
6- ج 2 ص 271. منه قدس سره .

صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الظهر أو العصر فسلّم في ركعتين ، فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو - وكان حليفا لبني زهرة - : أخفّفت الصلاة أم نسيت؟!

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ما يقول ذو اليدين؟!

قالوا : صدق يا نبيّ اللّه ؛ فأتمّ بهم الركعتين اللتين نقص ».

فهذه الرواية الصحيحة عندهم قد جمعت بين اللقبين ، وصرّحت بأنّه ابن عبد عمرو ، وأنّه حليف بني زهرة ، وما هو إلّا قتيل بدر.

وفي « كنز العمّال » (1) عن عبد الرزّاق مثلها ، سوى إنّه لم يذكر حلفه لبني زهرة (2).

وقد جمعت رواية أخرى لأحمد (3) بين اللقبين أيضا (4).

وكذا رواية أخرى لعبد الرزّاق وابن أبي شيبة (5) ، نقلها في « كنز العمّال » (6).

وروى مالك في موطّئه (7) رواية اشتملت على وصفه بذي الشمالين فقط ، ذكرها تحت عنوان ما يفعل من سلّم من ركعتين ساهيا.

ص: 61


1- ج 4 ص 215 [ 8 / 141 ح 22291 ]. منه قدس سره .
2- وانظر : المصنّف - لعبد الرزّاق - 2 / 296 ح 3441.
3- ج 2 ص 284. منه قدس سره .
4- وانظر : السنن الكبرى - للنسائي - 1 / 200 - 201 ح 564 ، سنن الدارمي 1 / 251 ح 1500.
5- المصنّف - لعبد الرزّاق - 2 / 297 ح 3442 وص 299 ح 3447 ، المصنّف - لابن أبي شيبة - 1 / 488 ب 252 ح 2.
6- ج 4 ص 214 [ 8 / 136 ح 22268 ]. منه قدس سره .
7- ص 49 في حاشية الجزء الأوّل لمصابيح البغوي ، المطبوع بمصر 1318 ه [ الموطّأ : 80 - 81 ح 65 ]. منه قدس سره .

وهي كغيرها في الدلالة على وحدة ذي اليدين وذي الشمالين.

وأمّا رواية عمران بن حصين ، الدالّة على أنّ ذا اليدين هو ( الخرباق ) (1) ، فلا تدلّ على التعدّد لجواز كون ( الخرباق ) لقبا لعمير بن عبد عمرو ، ويقرّبه أنّهم لم يعرفوا للخرباق أبا ، وإنّما يقول علماء رجالهم ( الخرباق السلمي ) (2).

وقد عرفت أنّ عميرا أيضا منسوب إلى سليم ؛ لأنّه أحد أجداده ، كما سبق في كلام « الاستيعاب » (3).

وبالجملة : لا تصلح هذه الرواية لإثبات التعدّد في مقابلة تلك الروايات ، فظهر أنّ الصحيح وحدتهما وفاقا للزهري ..

قال في « الاستيعاب » بترجمة ذي اليدين : « وقد كان الزهري مع علمه بالمغازي يقول : إنّه ذو الشمالين المقتول ببدر ، وإنّ قصّة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر ثمّ أحكمت الأمور بعد » (4).

ثمّ قال في « الاستيعاب » : « وذلك وهم عند أكثر العلماء » (5).

ووجه الوهم - كما يظهر من أوّل كلامه - أنّه صحّ عن أبي هريرة أنّ ذا اليدين راجع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أمر الصلاة ، فلا بدّ أن يكون ذو اليدين

ص: 62


1- صحيح مسلم 2 / 87 ، المصنّف - لابن أبي شيبة - 1 / 489 ب 252 ح 5 ، مسند أبي عوانة 1 / 514 ح 1922 ، المعجم الكبير 18 / 194 - 195 ح 464 و 465 و 467 و 470.
2- الإصابة 2 / 271 رقم 2240.
3- تقدّم قبل صفحتين في الهامش رقم 4 عن الاستيعاب 2 / 469 رقم 716.
4- الاستيعاب 2 / 476 ضمن رقم 724.
5- الاستيعاب 2 / 476 ضمن رقم 724.

غير ذي الشمالين ؛ لأنّ أبا هريرة أسلم عام خيبر ، وذا الشمالين قتل ببدر.

وفيه : إنّه بعد ما عرفت من صراحة الروايات بالاتّحاد لم يبق وجه للحكم بالتعدّد ، غاية الأمر أنّه يلزم من الاتّحاد كذب رواية أبي هريرة ، وهو غير مستغرب!

فإن قلت : لم يدّع أبو هريرة حضور الواقعة حتّى يكون كاذبا في الحكاية ، فلعلّه روى عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو عمّن حضر من الصحابة؟!

قلت : قد صرّح أبو هريرة بحضوره بنفسه في بعض هذه الأخبار التي حكى فيها الواقعة ..

فقد روى البخاري عنه في الباب الثالث من أبواب ما جاء في السهو أنّه قال : « صلّى بنا النبيّ صلی اللّه علیه و آله الظهر أو العصر .. » (1) الحديث.

ونحوه في « صحيح مسلم » في باب السهو في الصلاة والسجود له (2).

وروى مسلم في هذا الباب ما هو أصرح في ذلك ، قال : « بينا أنا أصلّي مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلاة الظهر سلّم في الركعتين .. » (3) وساق الحديث.

* * *

ص: 63


1- صحيح البخاري 2 / 150 ح 250.
2- صحيح مسلم 2 / 86 و 87.
3- صحيح مسلم 2 / 87.
قال المصنّف - رفع اللّه في الجنّة مقامه - :

قال المصنّف - رفع اللّه في الجنّة مقامه - (1) :

ونسبوا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله كثيرا من النقص ..

روى الحميدي في « الجمع بين الصحيحين » عن عائشة ، قالت :

كنت ألعب بالبنات عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكانت لي صواحب يلعبن معي ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا دخل تقمّعن (2) منه ، فيشير إليهنّ فيلعبن معي (3).

وفي حديث الحميدي أيضا : كنت ألعب بالبنات في بيته - وهي اللعب - (4).

مع أنّهم رووا عنه صلی اللّه علیه و آله في صحاح الأحاديث أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور مجسّمة أو تماثيل ، وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصور والتماثيل (5) ..

ص: 64


1- نهج الحقّ : 147.
2- أي : تغيّبن ودخلن في بيت أو من وراء ستر ؛ انظر : لسان العرب 11 / 304 مادّة « قمع ».
3- الجمع بين الصحيحين 4 / 113 ح 3225 ، وانظر : صحيح البخاري 8 / 56 ح 154 ، صحيح مسلم 7 / 135 ، سنن أبي داود 4 / 284 ح 4931 ، سنن ابن ماجة 1 / 637 ح 1982 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 305 ح 8946.
4- الجمع بين الصحيحين 4 / 113 ح 3225 ، وانظر : صحيح مسلم 7 / 135 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 306 ح 8948.
5- (5) انظر : صحيح البخاري 4 / 235 ح 34 - 37 وص 263 ح 126 وج 7 / 307 ح 160 وص 309 ح 167 و 168 وص 310 ح 171 ، صحيح مسلم 6 / 156 - 162 ، سنن أبي داود 4 / 71 - 73 ح 4152 - 4158 ، سنن الترمذي 4 / 202 - 203 ح 1749 - 1751 وج 5 / 106 ح 2804 - 2806 ، سنن ابن ماجة 2 / 1203 - 1204 ح 3649 - 3653 ، سنن النسائي 1 / 141 وج 7 / 185 وج 8 / 212 ، مسند أحمد 4 / 28 و 29.

فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإلى زوجته ، من عمل الصور في بيته الذي أسّس للعبادة ، وهو محلّ هبوط الملائكة والروح الأمين في كلّ وقت؟!

ولمّا رأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله الصور في الكعبة لم يدخلها حتّى محيت (1) ، مع أنّ الكعبة بيت اللّه تعالى ، فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلوّ مرتبته ، فكيف يتّخذ في بيته - وهو أدون من الكعبة - صورا ، ويجعله محلّا له؟!

* * *

ص: 65


1- انظر : صحيح البخاري 4 / 278 ح 154 ، سنن أبي داود 4 / 72 ح 4156 ، مسند أحمد 1 / 365.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد صحّ أنّ عائشة كانت تلعب باللعب ، وكان هذا لكونها صغيرة غير مكلّفة .. فقد صحّ أنّه دخل عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي بنت تسع سنين ، وهذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان ، بل كانت على صورة الفرس ، لما روي أنّه صلی اللّه علیه و آله رأى عند عائشة أفراسا لها أجنحة .. فقال : الفرس يكون له جناحان؟! قالت عائشة : أما سمعت أنّ خيل سليمان كانت لها أجنحة؟! فتبسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2)

وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ؛ لأنّ الأطفال لا يقدرون على تصوير الصورة ، وإنّما يكون مشابها للصورة ، ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل ، بل هذا في الإنسان ، وقيل : في ما عبد من الحيوانات والملائكة والإنسان.

وأيضا : يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور ، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح على ما ثبت (3) ، ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة (4).

ص: 66


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 235.
2- انظر : سنن أبي داود 4 / 284 - 285 ح 4932 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 306 ح 8950.
3- لم نجد لادّعائه هذا ما يثبته ، بل الثابت خلاف ذلك ، فإنّ تحريم التماثيل جاء في الآية 52 من سورة الأنبياء ، وهي سورة مكّيّة بلا خلاف ؛ انظر مثلا : الإتقان في علوم القرآن 1 / 45.
4- (4) بل صريح الرواية السابقة المخرّجة عن سنن أبي داود والسنن الكبرى للنسائي ورواية البغوي في « مصابيح السنّة » الآتية بعد صفحتين أنّ لعب عائشة باللّعب كان بعد إحدى غزوات الرسول صلی اللّه علیه و آله في تبوك أو خيبر أو حنين ؛ وسيأتي ما يخصّ هذا المطلب في ردّ الشيخ المظفّر قدس سره ، فراجع!

وللصور شرائط إنّما تحرم عند وجودها ، وربّما لم يكن شرط من الشرائط موجودا ، ولمّا صحّ الأخبار وجب التأويل والجمع.

وليس أخبار الصحاح الستّة مثل أخبار الروافض ، فقد وقع إجماع الأئمّة على صحّتها.

* * *

ص: 67

وأقول :

من الغريب استدلاله على صغرها وعدم تكليفها حين اللعب بدخول النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليها وهي بنت تسع ، فإنّ بناءه بها وهي بهذا السنّ - كما يزعمون (1) - لا يقتضي أن يكون لعبها في أوّل زمن الدخول ، بل أخبارهم تدلّ على لعبها في أواخر أيّام النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

ففي مصابيح البغوي من الحسان ، في باب عشرة النساء ، من كتاب النكاح ، عن عائشة قالت : « قدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من غزوة تبوك أو حنين ، وفي بهوتها (2) ستر ، فهبّت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب بها.

فقال : ما هذه يا عائشة؟!

قالت : بناتي.

ص: 68


1- (1) ربّ مشهور لا أصل له ، ومن ذلك القول بأنّ سنّ عائشة عند زواجها من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان تسع سنين ؛ إذ إنّها تصغر أختها أسماء بعشر سنين - كما في : البداية والنهاية 8 / 276 - ، وقد كانت ولادة أختها أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة - كما في : معرفة الصحابة لأبي نعيم 6 / 3253 رقم 3769 ، وأسد الغابة 6 / 9 رقم 6698 ، والإصابة 7 / 488 رقم 10798 ، فتكون ولادة عائشة قبل الهجرة بسبعة عشرة سنة ، وهذا عمرها عند زواجها من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ فلاحظ!
2- البهو : البيت المقدّم أمام البيوت ؛ انظر : لسان العرب 1 / 528 مادّة « بها ». وفي المصدر : «سهوتها» وفي نسخة منه كما في المتن ، والسَهْوَة : حائط صغير يبنى بين حائطي البيت ويُجعل السقف على الجميع ، فما كان وسط البيت فهو سَهوة ، وما كان داخله فهو المُخْدَع ، وقيل : هي صفة بين بيتين ، وقيل غير ذلك ؛ أنظر : لسان العرب 415/6 مادة «سها».

ورأى بينهنّ فرسا له جناحان من رقاع ، فقال : وما هذا الذي أرى وسطهنّ؟!

قالت : فرس.

قال : وما هذا الذي عليه؟!

قالت : جناحان.

قال : الفرس يكون له جناحان؟!

قالت : أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة؟!

قالت : فضحك حتّى رأيت نواجذه » (1) ..

فإنّها صريحة في لعبها بعد إحدى الغزاتين ، وهما كانتا بعد فتح مكّة ، ومنه يعلم ما في قوله أخيرا : « ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة ».

ولو سلّم أنّ لعبها كان في أوّل بناء النبيّ صلی اللّه علیه و آله بها ، وأنّها بنت تسع ، فبنت التسع التي تصلح للتزويج ولأحكامه مكلّفة على الأحقّ.

ولو سلّم أنّها غير مكلّفة ، فإشكال المصنّف رحمه اللّه ليس في لعبها حتّى يجاب بأنّها غير مكلّفة ، بل في إبقاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله الصور في بيته وهو محلّ هبوط الملائكة التي لا تدخل بيتا فيه صور ، وفي عدم إنكاره على عمل الصور ، وقد تواتر عنه النهي عنه.

وأمّا قوله : « وهذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان » ..

فمناف لما تضافرت به أخبارهم من لعبها بالبنات ، التي هي عبارة

ص: 69


1- مصابيح السنّة 2 / 452 ح 2442 ، وقد تقدّم تخريجه في الصفحة 66 ه 2 عن أبي داود والنسائي.

عمّا كان بصورة البنات من الناس ، وقد جمعت رواية البغوي السابقة بين ذكر البنات والفرس ، وهي التي ذكرها الخصم على الظاهر ، لكنّه تصرّف فيها بإسقاط لفظ البنات ليروّج مطلبه في الجملة!

وأمّا قوله : « وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ؛ لأنّ الأطفال ... » إلى آخره ..

ففيه : إنّ الصورة هي : الشكل ، كما في القاموس (1) ، فتكون الهيئة منها ، وتعليله لا وجه له ؛ لأنّ عائشة لم تكن صغيرة حين اللعب بالأفراس ، بل كانت بنت سبع عشرة تقريبا على رأيهم ، لما سبق من تصريح رواية البغوي بلعبها بها بعد إحدى الغزاتين.

ولو سلّم أنّها كانت - حينئذ - صغيرة ، فمن الإزراء بحقّها أن ينسب إليها العجز عن تصوير الصورة ؛ لما زعموا أنّها في غاية الذكاء ، ومن تقدر في كبرها على قيادة الحرب العظيمة لا تعجز في صغرها عن تصوير الصورة!!

ولو سلّم عجزها ، فهو لا يقتضي عدم كمال هيئة الفرس ، بحيث لا تسمّى صورة ؛ لجواز أن يكون غيرها قد صنعها لها.

ولا تخفى ظرافة تسميته لها طفلا وقد تزوّجت وبلغت سنّ النساء!

وأمّا قوله : « ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل » ..

فباطل ؛ لإطلاق أخبارهم المستفيضة (2) في حرمة تصوير ذوات

ص: 70


1- القاموس المحيط 2 / 75 مادّة « صور ».
2- (2) وعدم وجود ما يصلح أن يكون مخصّصا أو مقيّدا لتلك الأخبار ، سوى ما ورد في رواية أبي طلحة - المروية في صحاحهم ، وقد تقدّم تخريجها في الصفحة 64 ه 5 - من استثناء الرّقم ، وهي لا تصلح لتخصيص أو تقييد محلّ البحث والنزاع! والرقم هو الصورة والرسم علی الثوب والستر ، ورقم الثوب رقماً: وشاه وخططه وعلمه؛ أنظر: تاج العروس 297/16 مادة «رقم».

الأرواح (1) ..

وقد رواها البخاري في مقامات لا تحصى ، منها في آخر صحيحه ، ومنها في أواخر كتاب البيع ..

وقد قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعضها : « من صوّر صورة فإنّ اللّه معذّبه بها حتّى ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ فيها أبدا » (2) ..

وقال صلی اللّه علیه و آله في بعضها : « إنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة ، ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم » (3).

وروى مسلم طرفا منها في كتاب « اللباس والزينة » من صحيحه ، في باب : « لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة » (4) ، وبعضها صريح في صور الخيل ذوات الأجنحة ..

فقد أخرج عن عائشة ، قالت : « قدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من سفر وقد سترت على بابي درنوكا (5) فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني

ص: 71


1- راجع ه 5 من الصفحة 64.
2- صحيح البخاري 3 / 169 ح 168.
3- صحيح البخاري 7 / 310 ح 171.
4- انظر : صحيح مسلم 6 / 155 - 162.
5- الدرنوك : ضرب من الثياب أو البسط ، له خمل قصير كخمل المناديل ، وبه تشبّه فروة البعير والأسد ، وجمعه : درانك. أنظر مادة «درنك» في : الصحاح 1583/4 ، لسان العرب 340/4 ، تاج العروس 557/13.

فنزعته » (1)

ويا هل ترى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لا يرضى بصورة الخيل على الدرنوك ويرضى بصورها المجسّمة ويبقيها في بيته؟!

وأمّا قوله : « وأيضا يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور ، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح - على ما ثبت - ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة » ..

ففيه : إنّ رواية البغوي السابقة (2) صريحة في لعبها بعد الفتح ، فلا يصحّ هذا الاحتمال ، ولا أعلم من أين ثبت عنده أنّ التحريم عام الفتح؟! والظاهر أنّه مستند إلى الهوى ونصرة المذهب!

وأمّا قوله : « وللصور شرائط إنّما تحرّم عند وجودها » ..

ففيه : إنّه إن أراد أنّ لتحريم الصور شرائط ، فباطل ؛ إذ لا يعتبر فيه أكثر من صدق تصوير الحيوان كما تدلّ عليه الأخبار السابقة وغيرها.

وإن أراد أنّ لتحريم اللعب بالصور شرائط ، فممنوع حتّى بمذهبه ..

فقد نقل هو في آخر الكتاب - في القضاء وتوابعه - عن الشافعي أنّ عدم حرمة اللعب بالشطرنج مشروط بأربعة شروط ، رابعها : أن لا تكون أسبابه مصوّرة بصورة الحيوانات (3) ؛ ولم يقيّد هناك الصور بقيد ، ولم يعتبر فيها شروطا.

ص: 72


1- صحيح مسلم 6 / 158.
2- تقدّمت في الصفحة 68 - 69.
3- راجع : إحقاق الحقّ : 1176 الطبعة الحجرية.

وذكر الخصم ثمّة أنّ أمير المؤمنين علیه السلام مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) (1) (2) ، ورواه المصنّف هناك عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3)

وهو دالّ على أنّ اللعب بصور الخيل كالعكوف على الأصنام فيحرم ، فكيف تلعب بها عائشة ولم يمنعها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو لم تظهر منه الكراهة حتّى يرتدع الغير؟!

ولا يخفى أنّ أجوبة الخصم كلّها لا تصلح جوابا عمّا ذكره المصنّف من إشكال إبقاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله للصور في بيته ، والحال أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور ، إلّا ما زعمه من عجز الأطفال عن تصوير الصور ، فإنّه يمكن جعله جوابا ولكن قد عرفت ما فيه.

وأمّا قوله : « وليس أخبار الصحاح الستّة مثل أخبار الروافض » ..

فقد صدق فيه ؛ لأنّ من يرفض الباطل لا يروي مثل تلك الخرافات ، ولا يعتمد على روايات من عرفت بعض أحوالهم في المقدّمة وأشباههم! (4).

* * *

ص: 73


1- سورة الأنبياء 21 : 52.
2- انظر : السنن الكبرى - للبيهقي - 10 / 212 ، الحاوي الكبير 21 / 192.
3- نهج الحقّ : 568.
4- راجع الجزء الأوّل من هذا الكتاب.
قال المصنّف - أسبغ اللّه عليه رحمته - :

قال المصنّف - أسبغ اللّه عليه رحمته - (1) :

وروى الحميدي في « الجمع بين الصحيحين » : قالت عائشة : « رأيت النبيّ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم عمر » (2).

وروى الحميدي ، عن عائشة ، قالت : « دخل عليّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث (3) ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأقبل عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : دعها ؛ فلمّا غفل غمزتهما ، فخرجتا » (4).

وكيف يجوز للنبيّ صلی اللّه علیه و آله الصبر على هذا مع أنّه صلی اللّه علیه و آله نصّ على تحريم اللعب واللّهو (5) ، والقرآن مملوء منه (6) وبالخصوص مع زوجته؟!

ص: 74


1- نهج الحقّ : 149.
2- الجمع بين الصحيحين 4 / 52 ح 3168.
3- بعاث : هو اسم حصن للأوس ، وبه سمّي يوم كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية ؛ انظر : لسان العرب 1 / 439 مادّة « بعث ».
4- الجمع بين الصحيحين 4 / 53 ح 3168 وفيه : « دعهما » بدل « دعها ».
5- انظر : سنن ابن ماجة 2 / 733 ح 2168 ، سنن الترمذي 3 / 579 ح 1282 ، الأدب المفرد : 216 ح 805 - 809 باب الغناء واللّهو ، المعجم الكبير 19 / 343 - 344 ح 794 ، مسند أبي يعلى 1 / 402 ح 527 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 10 / 221 ، مجمع الزوائد 3 / 13 عن مسند البزّار.
6- كقوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) سورة لقمان 31 : 6.

وهلّا دخلته الحميّة والغيرة مع أنّه صلی اللّه علیه و آله أغير الناس؟!

وكيف أنكر أبو بكر وعمر ومنعهما؟! فهل كانا أفضل منه؟!

وقد رووا عنه علیه السلام ، أنّه لمّا قدم المدينة من سفر خرجن إليه نساء المدينة يلعبن بالدفّ فرحا بقدومه ، وهو يرقّص بأكمامه! (1).

هل يصدر [ مثل ] هذا عن رئيس أو من له أدنى وقار؟!

نعوذ باللّه من هذه السقطات ..

مع أنّه لو نسب أحدهم إلى مثل هذا قابله بالسبّ والشتم وتبرّأ منه ، فكيف يجوز نسبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى مثل هذه الأشياء التي يتبرّأ منها؟!

* * *

ص: 75


1- انظر مؤدّاه في : سنن الترمذي 5 / 579 ح 3690 ، مسند أحمد 5 / 353 ، مسند أبي يعلى 6 / 134 ح 3409 ، المعجم الصغير 1 / 32 - 33.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ضرب الدفّ ليس بحرام مطلقا ، وكذا اللّهو كما ذكر في موضعه ..

وما ذكر من ضرب الجاريتين بالدفّ عند عائشة كان يوم عيد ، واتّفق العلماء على جواز اللّهو وضرب الدفّ في أوقات السرور ، كالأعياد والختان والإملاك.

وأمّا منع أبي بكر عنه ، فإنّه كان لا يعلم جوازه في أيّام العيد.

وتتمّة الحديث أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لأبي بكر : « دعهما ، فإنّها أيّام عيد » ، فلذلك منعه أبو بكر ، فعلّمه رسول اللّه أنّ ضرب الدفّ والغناء ليس بحرام في أيّام العيد.

وما ذكر أنّ نساء المدينة خرجن إليه من عوده من السفر ، فذلك كان من خصال نساء المدينة ، ولم يمنعهنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّها كانت قبل نزول الحجاب ، ولأنّهنّ كنّ يظهرنّ السرور بمقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو عبادة ..

وإنّ ترك المروءة في أمثال هذه الأمور - التي توجب الألفة ، والموافقة ، وتطييب الخاطر ، وتشريع المسائل - جائز ..

ولكنّه نعم ما قيل شعرا :

ص: 76


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 240.

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة *** ولكنّ عين السخط تبدي المساويا (1)

* * *

ص: 77


1- البيت من شعر عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه الجعفري ، قاله في صديق له يقال له : قصيّ بن ذكوان ، وكان قد عتب عليه ، وهو من أبيات مطلعها : رأيت قصيّا كان شيئا ملفّفا *** فكشّفه التمحيص حتّى بدا ليا انظر : الأغاني 12 / 250.
وأقول :

ما استدلّوا به لإباحة اللّهو غير صالح له ؛ لأمور :

الأوّل : إنّ كثيرا منها أدلّ على الحرمة ، كرواية الغزّالي التي سينقلها المصنّف (1) ، ورواية أحمد التي سنذكرها بعدها إن شاء اللّه تعالى (2) ، فإنّهما أطلقتا الباطل على اللعب والغناء.

وكرواية الترمذي في مناقب عمر ، عن عائشة ، قالت : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالسا في المسجد ، فسمعنا لغطا وصوت صبيان ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإذا حبشيّة تزفن (3) والصبيان حولها.

فقال : يا عائشة! تعالي وانظري.

فجئت فوضعت لحييّ على منكب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه ..

فقال : أما شبعت؟! [ أما شبعت؟! ].

فجعلت أقول : لا ؛ لأنظر منزلتي عنده ، إذ طلع عمر ، فارفضّ (4) الناس عنها ..

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا

ص: 78


1- ستأتي في الصفحة 111 ه 3 من هذا الجزء.
2- ستأتي في الصفحة 115 ه 1 من هذا الجزء.
3- الزّفن : الرّقص ؛ انظر : لسان العرب 6 / 58 مادّة « زفن ».
4- ارفضّ : تفرّق ؛ انظر مادّة « رفض » في : لسان العرب 5 / 266 ، تاج العروس 10 / 62.

من عمر بن الخطّاب » (1).

فإنّ تعبير النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالشياطين دليل على حرمة عملها وعملهم ، وإنّ ذلك اللّهو مجمع للشياطين فيحرم.

وكرواية الترمذي أيضا عن بريدة ، وصحّحها - كالرواية الأولى - هو والبغوي في ( مصابيحه ) ..

قال بريدة : « خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض مغازيه ، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء ، فقالت : يا رسول اللّه! إنّي كنت نذرت إن ردّك اللّه صالحا أن أضرب بين يديك بالدفّ وأتغنّى.

فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن كنت نذرت فاضربي ، وإلّا فلا.

فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت إستها ، ثمّ قعدت عليه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إنّي كنت جالسا وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، فلمّا دخلت أنت [ يا عمر ] ألقت الدفّ » (2).

فإنّ تعبير النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنها بالشيطان دليل على حرمة فعلها ، إذ لو

ص: 79


1- سنن الترمذي 5 / 580 ح 3691 ، وانظر : السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 309 ح 8957 ، الكامل في الضعفاء 3 / 51 رقم 608 ، مصابيح السنّة 4 / 159 ح 4737 ، تاريخ دمشق 44 / 82 و 84.
2- سنن الترمذي 5 / 579 - 580 ح 3690 ، مصابيح السنّة 4 / 158 - 159 ح 4736 ، وانظر : مسند أحمد 5 / 353 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 10 / 77.

كان طاعة أو مباحا لم يصحّ ذمّها وتهجين عملها ، لا سيّما وقد كان وفاء للنذر.

كما إنّه لو كان مباحا لم يصحّ نهيها عنه بلا قرينة على إرادة الإباحة من النهي ، لو فرض أنّها لم تكن قد نذرت ؛ لظهور النهي في الحرمة وهي في وقت الحاجة والعمل.

الثاني : إنّ أخبار حلّيّة اللّهو قد اشتملت جملة منها على إرادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله من عائشة أن تنظر إلى اللعب وأهله ، وعلى أنّه يسترها وهي تنظر إلى الحبشة ، وهذا كذب صريح ؛ لأنّه مناف لسنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ..

روى البغوي في ( مصابيحه ) ، من الحسان ، في باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات ، من كتاب النكاح ، عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها : « أنّها كانت عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وميمونة ، إذ أقبل ابن أمّ مكتوم فدخل عليه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : احتجبا عنه!

فقلت : يا رسول اللّه! أليس هو أعمى لا يبصرنا؟!

فقال صلی اللّه علیه و آله : أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟! » (1)

ونحوه في الجزء السادس من مسند أحمد ، ص 296 (2).

فإذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يأبى من نظر أزواجه إلى الأعمى ، فكيف يرضى لعائشة أن تنظر إلى أهل اللّهو حال اللعب والخلاعة؟!

الثالث : إنّها منافية للغيرة والحياء ، بل بعضها مشتمل على التهتّك

ص: 80


1- مصابيح السنّة 2 / 408 ح 2316 ، وانظر : السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 393 - 394 ح 9242.
2- وانظر : سنن أبي داود 4 / 62 ح 4112 ، سنن الترمذي 5 / 94 ح 2778 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 393 ح 9241.

الذي لا يصدر إلّا من الأنذال وأسافل الناس وأدناهم حياء وغيرة! ..

كرواية البخاري في الباب الثاني من كتاب العيدين (1) ..

وفي باب الدرق ، من كتاب الجهاد والسير ، عن عائشة ، قالت : « كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب ، فإمّا سألت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإمّا قال : تشتهين تنظرين؟

فقلت : نعم!

فأقامني وراءه ، خدّي على خدّه ، وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة (2).

حتّى إذا مللت قال : حسبك؟

قلت : نعم.

قال : فاذهبي » (3).

فليت شعري كيف حال من يجعل نفسه وزوجته منظرا لأهل الفساد واللّهو ، وهو يحثّهم على اللعب ، ويحرّكهم إلى النظر إليهما ملتصقي الخدّين ، وخدّها على خدّه؟!

فهل ترى فوق هذا خلاعة؟!

لعمر اللّه ما من أحد يؤمن باللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله يرضى بهذه النسبة إلى سيّد المرسلين ، الذي كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها (4) ، وقال :

ص: 81


1- صحيح البخاري 2 / 54 ح 2 وص 68 ح 34.
2- جنس من الحبشة ، أو لقب لهم ، أو اسم أبيهم الأكبر ؛ انظر : تاج العروس 4 / 460 مادّة « رفد ».
3- صحيح البخاري 4 / 108 ح 118 ، وانظر : صحيح مسلم 3 / 22.
4- (4) انظر : صحيح البخاري 5 / 31 ح 69 و 70 وج 8 / 48 ح 126 ، صحيح مسلم 7 / 78. سنن ابن ماجة 2 / 1399 ح 4180 ، مسند أحمد 3 / 71 و 79 و 88 و 91 و 92 ، المعجم الكبير 18 / 206 ح 508 ، مصنّف ابن أبي شيبة 6 / 92 ح 8.

« الحياء من الإيمان » (1) ..

وكان أشدّ الخلق غيرة ومروءة ، وقال : « من لا مروءة له لا إيمان له » (2) ..

وكان أعظم الناس وقارا ، حتّى إنّ ضحكه التبسّم (3) ..

فكيف ينقاد إلى هوى عائشة هذا الانقياد ولا يلتفت إلى ما فيه من النقص والهوان؟!

ويا عجبا! كيف يجتمع هذا التهتّك من عائشة مع ما رواه أحمد (4) عنها؟! ..

ص: 82


1- صحيح البخاري 1 / 21 ح 23 ، صحيح مسلم 1 / 46 ، سنن ابن ماجة 2 / 1400 ح 4184 ، سنن أبي داود 4 / 253 ح 4795 ، سنن الترمذي 4 / 321 ح 2009 ، سنن النسائي 8 / 121 ، الموطّأ : 790 ح 10 ، مسند أحمد 2 / 56 و 147 ، مسند أبي يعلى 9 / 302 ح 5424 وج 13 / 488 ح 7501 ، المعجم الكبير 10 / 196 ح 10442 وج 18 / 178 ح 409 وج 22 / 413 ح 1024 ، المصنّف - لعبد الرزّاق - 11 / 142 ح 20146 ، المصنّف - لابن أبي شيبة - 6 / 92 ح 13.
2- لم نعثر عليه بهذا اللفظ عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وقد روي عنه صلی اللّه علیه و آله بلفظ : « كرم المرء تقواه ، ومروءته خلقه ، وحسبه دينه » و « كرم المرء دينه ، ومروءته عقله ، وحسبه خلقه » وما يؤدّي هذا المعنى. أنظر : كتاب المروءة - لابن المرزبان -: 23 - 34 ح 1 - 11. هذا ، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام حديث بلفظين قريبين ممّا في المتن ، هما : «من لا دين له لا مروءة له» و «من لا مروءة له لا همّة له» ؛ أنظر : غرر الحكم ودرر الكلم - للآمدي - 163/2 رقم 285 و 286.
3- انظر : سنن الترمذي 5 / 561 - 562 ح 3642 و 3645 ، مسند أحمد 5 / 97 و 105 ، مسند أبي يعلى 13 / 450 ح 7455 وص 453 ح 7458 ، المعجم الكبير 2 / 244 ح 2024 ، شرح السنّة 7 / 425 ح 3642.
4- مسند أحمد 6 / 202. منه قدس سره .

قالت : « كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأبي ، فأضع ثوبي فأقول : إنّما هو زوجي وأبي ، فلمّا دفن عمر معهم فو اللّه ما دخلت إلّا وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياء من عمر ».

ولا أدري أين ذهب هذا الحياء من الأموات عنها يوم الجمل ، وهي تلفّ الألوف بالألوف من الأحياء؟!

الرابع : إنّ اللّهو والصياح منافيان لحرمة المساجد ووضعها ، فكيف يرضى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بهما ، ويمكّن منهما فيها أهل اللّهو والطرب؟! قال اللّه تعالى : ( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (1).

فهل كان من عمرانها اللعب والغناء؟!

وروى القوم في صحاحهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل : لا ردّها اللّه عليك ؛ فإنّ المساجد لم تبن لهذا » (2) ..

وإنّه صلی اللّه علیه و آله نهى عن تناشد الأشعار في المسجد (3) ، وأن تقام فيه الحدود (4) ، وأن ترفع فيه الأصوات ، فكيف يرضى بإعلان اللّهو والغناء في

ص: 83


1- سورة التوبة 9 : 18.
2- صحيح مسلم 2 / 82 ، سنن ابن ماجة 1 / 252 ح 767 ، سنن أبي داود 1 / 125 ح 473 ، مسند أحمد 2 / 349 ، صحيح ابن خزيمة 2 / 273 ح 1302 ، مسند أبي عوانة 1 / 339 ح 1212 و 1213 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 447 وج 6 / 196 وج 10 / 102.
3- انظر : سنن الترمذي 2 / 139 ح 322 ، سنن ابن ماجة 1 / 247 ح 749 ، سنن النسائي 2 / 48 ، السنن الكبرى - للنسائي - 1 / 262 ح 794 ، صحيح ابن خزيمة 2 / 274 ح 1304.
4- (4) انظر : سنن الترمذي 4 / 12 ح 1401 ، سنن ابن ماجة 2 / 867 ح 2599 و 2600، مسند أحمد 3 / 434 ، المعجم الكبير 2 / 139 - 140 ح 1590 وج 3 / 204 ح 3131.

المسجد الأعظم؟!

والعجب أنّهم يروون أنّه يحثّ على اللّهو في مسجده!! ..

ويروي البخاري في باب رفع الصوت في المساجد ، من كتاب الصلاة ، عن السائب ، قال : « كنت قائما في المسجد فحصبني رجل ، فإذا عمر بن الخطّاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين ؛ فجئته بهما.

قال : من أنتما؟ - أو : من أين أنتما؟ -.

قالا : من أهل الطائف.

قال : لو كنتما من أهل هذا البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! » (1).

ولكن لا عجب ، فإنّهم ينسبون تلك الخلاعة القبيحة إلى صفوة اللّه من خلقه ، ويزعمون أنّ عمر في منتهى الغيرة ، حتّى إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يدخل في المنام قصر عمر في الجنّة رعاية منه لغيرة عمر (2)!

وذلك كلّه ممّا يكشف عن حال رجالهم وأخبارهم .. فانظر وتبصّر!

الخامس : إنّ راوي تلك الأخبار - التي زعموا دلالتها على إباحة اللّهو - هو : عائشة ، إلّا ما قلّ عن غيرها ، ومن الواضح أنّها متّهمة بإرادة

ص: 84


1- صحيح البخاري 1 / 203 ح 129 ، وانظر : السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 447 - 448.
2- صحيح البخاري 5 / 75 ذ ح 176 وج 7 / 64 ح 155 و 156 وج 9 / 70 - 71 ح 40 و 41 ، صحيح مسلم 7 / 114 ، مسند أحمد 3 / 372 وص 389 - 390 ، مسند أبي يعلى 3 / 467 ح 1976 وج 4 / 13 ح 2014 وص 51 ح 2063 ، مسند الطيالسي : 238 ح 1715 ، المصنّف - لابن أبي شيبة - 7 / 481 ح 25 و 26.

الافتخار وإظهار حبّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لها ، وبيان فضل أبيها وخليله ، كما هو ظاهر على صفحات تلك الروايات!

وما اكتفت بذلك حتّى جعلت تحرّض الناس على إعطاء بناتهم زمام اللّهو واللعب ، وما خصّته بوقت ، فقالت - كما في كثير من روايات البخاري وغيره - : « فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ ، الحريصة على اللّهو » (1).

ولعلّ هذه التتمّة تشهد بأنّ تلك الأخبار من وضع الكذّابين الّذين يريدون التقرّب إلى ملوك الجهل والفساد ، من الأمويّين والعبّاسيّين وأمرائهم!

فإذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك أنّه لا يستبيح ذو عقل وذو دين الاستدلال بتلك الأخبار على إباحة اللّهو في شيء من الأوقات ، لا سيّما والكتاب العزيز ناطق بحرمته (2).

وأيّ عاقل يشكّ بكذب تلك الأخبار التي تحطّ من قدر النبيّ والنبوّة؟!

وبذلك يظهر لك حال من نسب إليهم الخصم الاتّفاق على جواز اللّهو استنادا إليها!

وأمّا ما ذكره من تتمّة الحديث ، فمن إضافاته ، على أنّها لا تنفعه بالنظر إلى تلك الأمور السابقة ..

ومن أحبّ الاطّلاع على كذبه في هذه الإضافة - أعني قوله صلی اللّه علیه و آله :

ص: 85


1- صحيح البخاري 7 / 50 ح 120 ، صحيح مسلم 3 / 22 ، سنن النسائي 3 / 195 - 196 ، مسند أحمد 6 / 84 و 85 و 166 و 270.
2- في قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) سورة لقمان 31 : 6.

« فإنّها أيّام عيد » تعليلا لقوله لأبي بكر : « دعها » - فليراجع الباب الثاني من كتاب العيدين من صحيح البخاري (1) ، وآخر كتاب العيدين من صحيح مسلم (2) (3).

وأمّا ما ذكره من أنّ ذلك من خصال نساء المدينة ، فمحلّ تأمّل ؛ لأنّه مستفاد من روايات عائشة ، وفيها ما سبق.

وأمّا ما ذكره من إظهار هنّ السرور ، وأنّه عبادة ؛ ففيه : إنّ إظهار السرور وإن كان عبادة ، لكن إذا لم يكن باللّهو ، فإنّه يحرّم حينئذ كما لو أظهر بشرب الخمر ونحوه.

وأمّا ما أجاب به عن رقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأكمامه - وحاشاه - ، فمن قول الهجر ؛ لأنّ الرقص سفه ظاهر وخلاعة بيّنة ، ومن أكبر النقص بالرئيس ، وأعظم منافيات الحياء والمروءة في تلك الأوقات ، وأشدّ المباينات للرسالة لإرشاد الخلق بتهذيبهم عن السفه والنقائص وتذكيرهم بمقرّبات الآخرة ، لا سيّما بالملأ العامّ مع حضور النقّاد والأضداد ، فلا يمكن أن يلتزم بتسويغه لطلب الألفة وتطييب الخواطر ؛ لأنّ حفظ شرف الرسالة وفخامتها ودفع نقد النقّاد والمشكّكين أهمّ ، بل لا يحسن

ص: 86


1- صحيح البخاري 2 / 54 ح 2.
2- صحيح مسلم 3 / 22.
3- إنّ جملة « فإنّها أيّام عيد » التي زعم ابن روزبهان أنّها تتمّة للحديث الذي استدلّ به العلّامة الحلّي قدس سره غير موجودة فيه! ولذلك تمسّك الشيخ المظفّر قدس سره بتكذيبه .. إلّا أنّ هذه الجملة مذكورة بعينها في حديث آخر من صحيح البخاري ، وإنّما ألحقها الفضل منه ، وهو غير محلّ النزاس. فلم يك أمينا في ما نقله! .. فانظر : صحيح البخاري 2 / 68 ح 34! وأنظر : صحیح البخاري 54/2 ح 2 ، صحيح مسلم 22/3 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 53/4 ح 3168.

لذلك أقلّ منافيات المروءة فضلا عن مثل الرقص مع النساء!

وأمّا التشريع ، فلا يصلح أن يكون داعيا لفعل المنافي مع إمكان البيان اللفظي ، كما لا يصلح أن يكون داعيا له إرادة إيمان الناس ؛ لأنّ فعل المنافي مبعّد عنه لا مقرّب له ، حتّى لو أوجب الألفة ، فإنّ الألفة لا توجب الاعتقاد ، ولو سلّم إيجابها له في الجملة فخطر المنافي للمروءة أعظم.

وأمّا استشهاده بالبيت ، ففي محلّه ؛ لأنّا سخطنا على أخبارهم لكذب رواتها واشتمالها على المناكير والأضاليل فأبدينا بعض مساويها ، وأمّا هم فرضوا بها على علّاتها ، فعميت عيون قلوبهم عن معايبها وإن أوهنت مقام النبوّة ، بل ومقام الربوبية! كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

* * *

ص: 87

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

وفي الصحيحين : إنّ ملك الموت لمّا جاء لقبض روح موسى لطمه موسى ففقأ عينه (2).

فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى - مع عظمته ، وشرف منزلته ، وطلب قربه من اللّه تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس - إلى هذه الكراهة؟!

وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت ذلك ، وهو مأمور من قبل اللّه تعالى؟!

* * *

ص: 88


1- نهج الحقّ : 152.
2- صحيح البخاري 2 / 191 ح 95 وج 4 / 306 ح 207 ، صحيح مسلم 7 / 100 ؛ وانظر : سنن النسائي 4 / 118 - 119 ، مسند أحمد 2 / 269 و 315 و 351 ، المصنّف - لعبد الرزّاق - 11 / 274 ح 20530 ، السنّة - لابن أبي عاصم - 1 / 266 ذ ح 599 ، مسند أبي عوانة 1 / 160 ح 464 ، مصابيح السنّة 4 / 23 - 24 ح 4440.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الموت بالطبع مكروه للإنسان ، وكان موسى رجلا حادّا كما جاء في الأخبار والآثار ، فلمّا صحّ الحديث وجب أن يحمل على كراهته للموت ، وبعثته الحدّة على أن لطم ملك الموت ، كما أنّه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وهذا الاعتراض وارد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه اللّه إيّاها هدى ورحمة ، ويمكن أن يقال : كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح ، وطرح كتاب اللّه ، وكسر لوحه ، إهانة لكتاب اللّه؟! وكيف يجوز له أن يضرب هارون وهو نبيّ مرسل؟!

وكلّ هذه عند أهل الحقّ محمول على ما يعرض البشر من صفات البشرية ، وليس فيه قدح في ملكة عصمة الأنبياء.

وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء ..

ولو لم يكن القرآن متواترا ، ونقل لابن المطهّر الحلّي أنّ موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه الاعتراضات ، فلو أنّه أنصف من نفسه يعلم ما نقوله في تعصّبه حقّ.

* * *

ص: 89


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 243.
وأقول :

كان موسى علیه السلام شديد الغضب لله تعالى ، ولم يكن حادّا تخرجه الحدّة إلى غضب اللّه عليه.

وقوله : « فلمّا صحّ الحديث ... » إلى آخره ، باطل ..

إذ كيف يصحّ حديث يرويه الكذبة عن أبي هريرة الخرافي الكذوب ، وهو يشتمل على ما يحيله العقل؟! فإنّ الأنبياء علیهم السلام معصومون عن الذنوب ، لا سيّما الكبائر بإقرار الخصم ، ولا سيّما مثل هذه الجناية الكبرى على أحد عظماء الملائكة ، ورسول اللّه العامل بأمره ، إن صحّ عقلا أن يقع مثلها على الملائكة الروحانيّين.

ولو سلّم جواز وقوع مثل هذه الكبيرة منهم ، فأيّ عاقل يجوّز على موسى - مع عظم شأنه - أن يكره الانتقال إلى عالم الكرامة والرحمة ، وهو الهادي والداعي إليه ، والعالم بما أعدّ اللّه فيه لأوليائه؟!

ولو سلّم خوفه من الموت وكراهته له ، فأيّ عاقل يجوّز قلع عين ملك الموت مع روحانيّته وشفافيّته بلطمة بشر؟!

ولو سلّم أنّه تصوّر له بصورة شخص تؤثّر فيه اللطمة ، فكيف يقدر موسى عليه وهو على شفا جرف الموت ، وملك الموت بقوّته العظمى مؤيّدا بالقدرة الربّانية التي يتسلّط بها على نفوس العالمين بلا كلفة ومقاومة؟!

ويا للعجب! كيف ضيّع اللّه حقّ الملك المرسل بأمره ولم يقاصّه من

ص: 90

موسى ، والقصاص حقّ ثابت في القرآن والتوراة ، بل لم يعاقبه أصلا ، وأكرمه حيث خيّره بين الموت والحياة؟! فهل عند اللّه هوادة ، أو يختلف حكمه في بريّته؟!

هذا ، وقد حمل بعضهم الحديث على المدافعة عن نفسه ، بدعوى أنّ الملك تصوّر له بصورة إنسان معتد عليه يريد إهلاكه ، فلا معصية منه! (1) ..

وفيه : إنّه لا يلائم ما في تمام الحديث : فقال : « أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني » (2) ، فإنّه يدلّ على شكايته منه والتعريض بذمّه بعدم إرادته للموت ، وهو لا يصحّ إذا كان مدافعا عن نفسه ؛ لوجوب المدافعة وإن أحبّ الموت.

على أنّه لا وجه لتصوّر ملك الموت بصورة معتد ، فإنّه من الحمق والجهل.

ودعوى الامتحان لا وجه لها (3) ؛ لأنّه إن أريد الامتحان في حبّه للموت فهو لا يناسب تصوّره بصورة من تجب مدافعته ، وإن أريد الامتحان في مخالفة الواجب من المدافعة فهو لا يجامع القول بعصمته ، بل لا معنى لهذا الامتحان ؛ لأنّ كلّ إنسان يدافع بمقتضى طبعه عن نفسه حيث يمكن ، وإن لم تجب عليه المدافعة ، على أنّه لا يلائم التعبير بكراهة الموت إلى تمام الحديث ..

ويدلّ على معرفة موسى بملك الموت ، فلا يصحّ الحمل المذكور ،

ص: 91


1- انظر : فتح الباري 6 / 546 ، إرشاد الساري 7 / 396.
2- تقدّم تخريج الحديث عن صحاح القوم ، فراجع الصفحة 88 ه 2.
3- فتح الباري 6 / 546 - 547.

ما رواه مسلم بإحدى روايتيه عن أبي هريرة ، قال :

« جاء ملك الموت إلى موسى علیه السلام فقال : أجب ربّك.

فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها!

قال : فرجع الملك إلى اللّه عزّ وجلّ ، فقال : إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني.

قال : فردّ اللّه إليه عينه وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟

فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما توارت يدك من شعره فإنّك تعيش بها سنة.

قال : ثمّ مه؟

قال : ثمّ الموت.

قال : فالآن يا ربّ من قريب » (1).

فإنّ قوله : « أجب ربّك » دالّ على معرفة موسى بملك الموت ، وإنّه ليس من المعتدين.

وأصرح من هذه الرواية ما رواه أحمد عن أبي هريرة (2) ، قال :

« كان ملك الموت يأتي الناس عيانا ، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه ، فأتى ربّه فقال : يا ربّ! عبدك موسى فقأ عيني ، ولو لا كرامته عليك

ص: 92


1- ونحوه في مسند أحمد 2 / 269 و 315 و 351. منه قدس سره . وأنظر : صحيح مسلم 100/7 ، وقد تقدّم تخريجه مفصلاً في الصفحة 88 ه 2 ، فراجع.
2- مسند أحمد 2 / 533. منه قدس سره . وأنظر : مجمع الزوائد 204/8 - 205 عن أحمد والبزار.

لعنفت به (1) » .. الحديث.

ثمّ إنّهم ذكروا في توجيه الحديث أمورا أخر تشبه الخرافة ..

منها : إنّ موسى أراد إظهار وجاهته عند الملائكة ؛ فإنّ فعل الحرام مناف لدعوى الوجاهة عند اللّه تعالى ، وهذه الإرادة بهذا الفعل الخاسر أولى أن تقع من الحمقاء السافلين ، لا من الأنبياء والمرسلين!

ومنها : إنّه وقع من غير اختياره ؛ لأنّ للموت سكرات ؛ وكأنّ هذا التوجيه مأخوذ من قول عمر : « إنّ النبيّ ليهجر » (2)!

ص: 93


1- عنف به وعليه : إذا لم يكن رفيقا في أمره ؛ انظر : لسان العرب 9 / 429 مادّة « عنف ».
2- روى الجمهور هذا القول بألفاظ متعدّدة ، وعمّوا على اسم قائله في بعضها ، والهدف من ذلك غير خاف .. * فقد روي بلفظ : «قالوا : هَجَرَ رسول اللّه ! كما في صحيح البخاري 162/4 ح 251.. * وبلفظ : « وقالوا : ما شأنه ؟ ! أَهَجَر ؟ ! » و « فقالوا : إنّ رسول اللّه ! كما يهجر في : صحيح مسلم 5 / 75 - 76 ، مسند أحمد 222/1 و 355 ، مصنف عبد الرزاق 57/6 ح 9992 ، الطبقات الكبرى - لابن سعد - 187/2 - 188 ، تاريخ الطبري 228/2.. * وبلفظ : «قال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم » كما في شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 51/6 . . * وبلفظ : «قال عمر : إنّ النبي غلبه الوجع» و «فقال عمر : إنّ النبي قد غلب عليه الوجع كما في صحيح البخاري 1/ 65 - 66 ح 55 و ج 7/ 219 ح 30 ، صحیح مسلم 76/5 ، مسند أحمد 1 / 324 - 325 ، الطبقات الكبرى - لابن سعد - 2 / 188 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 201/8 ح 6563 ، الملل والنحل -للشهرستاني - 1 / 12 . . * وبلفظ : «قال عمر : دعوا الرجل فإنّه ليهجر» كما في سرّ العالمين - المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزالي - : 453 . وسيأتي تفصيل ذلك في محله.

وكيف يناسب ذلك تمام الحديث وشكاية ملك الموت منه؟!

وهل هذا الموجّه أعرف بحال موسى من ملك الموت؟!

ومنها : إنّ المراد صكّه بالحجّة وفقأ عين حجّته (1) ؛ ولا أعلم أيّ مباحثة وقعت بينهما ضلّ فيها ملك الموت؟!

وكيف يجتمع هذا مع قوله : « فردّ اللّه عليه عينه » (2) ... إلى آخر الفقرات؟!

وأمّا ما ذكره من النقض بقصّة الألواح ؛ فهو وارد عليه أيضا ؛ لأنّ إلقاءها وكسرها إهانة لكتاب اللّه [ و ] كفر لا يقوله الخصم ، بل لو لم يقصد به الإهانة كان كبيرة كضرب النبيّ ، وهو يقول بعصمتهم عن الكبائر!

وأمّا ما حمله عليه ؛ فإن أراد به ما يعرض البشر من دون شعور ، فهو من أعظم النقص ، وتجويزه على الأنبياء رافع للثقة بهم ، وهل هذا إلّا كما ذمّ اللّه عليه الكافرين إذ قالوا : ( إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (3)؟! فإنّ سلب الشعور إن لم يكن جنونا فهو بمنزلته ، ولو جاز ، لجاز الجنون عليهم ؛ لأنّه ممّا يعرض البشر أيضا!

وإن أراد به ما لا يسلب معه الشعور ، فتلك الأفعال كبيرة ، والأنبياء معصومون عنها ، بل إذا كان الإلقاء بقصد الإهانة يكون كفرا!

ومن الغريب أنّ الخصم بظاهر كلامه خصّ الحمل عند أصحابه بذلك ، مع أنّه في كلّ ما سبق من المباحث عيال على « المواقف » وشرحها ، وهما لم يذكرا هذا! وإنّما ذكرا وجوها أخر :

ص: 94


1- فتح الباري 6 / 547.
2- انظر : صحيح مسلم 7 / 100.
3- سورة الحجر 15 : 6.

منها : ما اختاره صاحب « المواقف » ، وهو أنّ فعل موسى بأخيه لم يكن على سبيل الإيذاء ، بل أراد أن يدنيه لنفسه ليتفحّص منه عن حقيقة الحال ، فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه (1) ، فقال : ( تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ... ) (2) .. الآية.

وهذا الحمل منقول عن السيّد المرتضى (3) وأنّ الرازي استحسنه (4).

ومنها : إنّ موسى لمّا رأى جزع أخيه واضطرابه من قومه أخذه ليسكّن من قلقه(5).

ومنها : إنّ موسى لمّا غلب عليه الهمّ [ واستيلاء الفكر ] أخذ برأس أخيه لا على طريق الإيذاء ، بل كما يفعل الإنسان بنفسه من عضّ يده وشفته وقبض لحيته ، إلّا أنّه نزّل أخاه منزلة نفسه ، لأنّه شريكه في ما يناله من خير أو شرّ (6).

ثمّ قال الشارح : « قال الآمدي : لا يخفى بعد هذه التأويلات وخروجها عن مذاق العقل » (7).

ولم يذكر الشارح لنفسه شيئا وكأنّه على مذاق الآمدي ، وهو في محلّه لبعد هذه الوجوه جدّا ، مع أنّها لا ترفع إشكال إلقاء الألواح ..

ص: 95


1- المواقف : 363 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 272.
2- سورة طه 20 : 94.
3- تنزيه الأنبياء : 117.
4- تفسير الفخر الرازي 22 / 109 ، الأربعين في أصول الدين 2 / 146 ، عصمة الأنبياء : 84.
5- شرح المواقف 8 / 272 ، وانظر : تنزيه الأنبياء - للمرتضى - : 117.
6- شرح المواقف 8 / 272 ، وانظر : تنزيه الأنبياء - للمرتضى - : 116.
7- شرح المواقف 8 / 272.

والأولى في الجواب أنّ بني إسرائيل لمّا كفروا واتّخذوا العجل ، أراد موسى علیه السلام أن يبيّن لهم عظيم جرمهم وشديد سخطه عليهم ، فألقى الألواح الكريمة إظهارا للضجر من فعلهم ، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه مع علمه ببراءة ساحته ، تفظيعا لعملهم ، وتنبيها لهم على سوء ما أتوا به ، وعلى مساءته منهم من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة (1) ، كما هو في القرآن كثير ، قال تعالى : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (2) ، مع علمه سبحانه بأنّه معصوم عن الشرك .. وقال تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ... ) (3) الآية ..

فيكون فعل موسى لمصلحة انزجارهم عن الكفر حتّى أظهر لأخيه أنّه ينبغي مفارقتهم واتّباعه له لعظيم ما جاءوا به ، فيكون فعله راجحا لا حراما ، بخلاف فقء عين ملك الموت ، فإنّه لا مصلحة فيه البتّة!

واعلم أنّه ليس في الآية الكريمة أنّ موسى كسر الألواح وضرب أخاه كما ادّعاه الخصم ، ولكن حمله على ذلك هضم الحقّ والتهويل على الغافلين.

وأمّا قوله : « وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء » ..

ففيه : إنّ الطاهر ابن المطهّر لا ينكر إلّا ما هو صريح بالذنب والجهل ، كرواية فقء عين ملك الموت ، لا على ما يقرّب فيه التوجيه ويتّضح فيه الحمل كالآية الشريفة ، فتدبّر واستقم!

ص: 96


1- مجمع الأمثال 1 / 80 رقم 187.
2- سورة الزمر 39 : 65.
3- سورة الحاقّة 69 : 44.

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال في صفة الخلق يوم القيامة : « وإنّهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم ، فيأتون نوحا فيعتذر إليهم ، فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم! أنت نبيّ اللّه وخليله ، اشفع لنا إلى ربّك ، أما ترى ما نحن فيه؟! فيقول لهم : إنّ ربّي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولم يغضب بعده مثله ، وإنّي قد كذبت ثلاث كذبات ، نفسي .. نفسي ، إذهبوا إلى غيري » (2).

وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « لم يكذب إبراهيم النبيّ إلّا ثلاث كذبات » (3).

كيف يحلّ لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء؟!

وكيف الوثوق بشرائعهم مع الاعتراف بتعمّد كذبهم؟!

ص: 97


1- نهج الحقّ : 152.
2- الجمع بين الصحيحين 3 / 164 - 166 ح 2388 ؛ وانظر : صحيح البخاري 4 / 270 ح 143 وص 281 ح 164 وج 6 / 157 - 159 ح 233 ، صحيح مسلم 1 / 127 - 128 ، سنن الترمذي 5 / 288 ح 3148 ، مسند أحمد 2 / 435 - 436 وج 3 / 244 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 415 ح 36 ، السنّة - لابن أبي عاصم _ : 365 - 366 ح 811 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 242 - 243 ، مسند أبي عوانة 1 / 147 - 150 ح 437 - 440.
3- الجمع بين الصحيحين 3 / 184 ح 2415 ؛ وانظر : صحيح البخاري 4 / 280 ح 161 وج 7 / 9 ح 22 ، صحيح مسلم 7 / 98 ، سنن أبي داود 2 / 272 ح 2212 ، سنن الترمذي 5 / 300 - 301 ح 3166 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 98 ح 8374 و 8375 ، مسند أحمد 2 / 403 ، مسند أبي يعلى 10 / 426 - 428 ح 6039 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 7 / 366.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت في ما مضى أنّ الإجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب(2).

وأمّا الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم لما صحّ الحديث ، فالمراد منه صورة الكذب لا حقيقته ، كما قال : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (3) ..

وكان مراده إلزامهم ونسبة الفعل إلى كبيرهم ؛ لأنّ الفأس الذي كسّر به الأصنام وضعه على رقبة كبير الأصنام ، فالكذب المؤوّل ليس كذبا في الحقيقة ، بل هو صورة الكذب إذا كان التأويل ظاهرا ، وهذا لا بأس به عند وقوع الضرورة.

* * *

ص: 98


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 248.
2- تقدّم في الصفحة 20 من هذا الجزء.
3- سورة الأنبياء 21 : 63.
وأقول :

سبق أنّ أكثرهم أجازوا صدور الكبائر عن الأنبياء سهوا قبل النبوّة وبعدها ، وعمدا قبلها ، وأنّ بعضهم أجاز صدورها عمدا بعدها ، ومنها الكذب في غير التبليغ ، بل أجاز بعضهم صدور الكفر عنهم لله (1) ..

وقد نقل الخصم هناك بعض ذلك (2) ، فكيف يزعم هنا الإجماع على عصمتهم عن الكذب؟!

وأمّا ما زعمه من أنّ المراد صورة الكذب ، فلا يلائم الحديث ، ولنذكره لتتّضح الحال ..

روى البخاري في كتاب تفسير القرآن ، في سورة بني إسرائيل ، عن أبي هريرة ما ملخّصه :

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « أنا سيّد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممّ ذلك؟! يجمع اللّه الناس الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ، فيقول الناس : ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع إلى ربّكم؟!

فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم ؛ فيأتونه ، فيعتذر بأنّ اللّه سبحانه نهاه عن الشجرة فعصاه ..

ويأتون نوحا بأمر آدم ، فيعتذر بأنّ له دعوة على قومه ..

ص: 99


1- ( لله ) راجع الصفحتين 17 و 30 من هذا الجزء.
2- راجع الصفحتين 20 - 21.

ويأتون إبراهيم بأمر نوح ، فيعتذر بأنّه كذب ثلاث كذبات ..

ويأتون موسى بأمر إبراهيم ، فيعتذر بأنّه قتل نفسا لم يؤمر بقتلها ..

ويأتون عيسى بأمر موسى ، فيعتذر ..

ثمّ قال : ولم يذكر ذنبا » (1).

وهذا صريح بأنّ تلك الأمور الواقعة من الأنبياء الأوّل ذنوب ، وبعضها من الكبائر ، كالكذب وقتل النفس.

ومن المعلوم أنّ صورة الكذب ليست ذنبا إذا أدّت إليها الضرورة الدينية ، بل هي طاعة عظمى.

وقد صرّح أيضا بأنّ إبراهيم صاحب خطيئة حديث آخر رواه البخاري عن أنس في أواخر « كتاب الرقاق » ، وحديث رواه عنه أيضا في « كتاب التوحيد » في باب قول اللّه تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (2) .. قال فيهما ما حاصله :

« يجمع اللّه الناس يوم القيامة فيقولون : لو استشفعنا إلى ربّنا؟ ..

فيأتون آدم ، ثمّ نوحا ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ موسى ، فيقول كلّ منهم : لست هناك ؛ ويذكر خطيئته » (3).

ص: 100


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 97 ه 2 و 3.
2- سورة القيامة 75 : 22 و 23.
3- صحيح البخاري 8 / 209 ح 149 وج 9 / 217 ح 39 باب قول اللّه تعالى : ( لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) ، صحيح مسلم 1 / 124 - 126 ، مسند أحمد 3 / 116 و 244 و 247 ، مسند أبي يعلى 5 / 396 - 398 ح 3064 ، المصنّف - لابن أبي شيبة - 7 / 416 - 418 ح 37 و 39 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 360 - 365 ح 804 - 810 وص 367 - 374 ح 812 - 817 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 248 - 250 و 253 - 254 ، مسند أبي عوانة 1 / 151 - 154 ح 443 - 447 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 2 / 545 ح 1902.

وما أدري كيف تتصوّر الخطيئة من نوح في دعائه ، وهو إنّما دعا على الكافرين الّذين لا يلدون إلّا فاجرا كفّارا؟!

ودعوى أنّ خطيئته لنسبته ذلك إليهم كذبا ، باطلة ، إذ لو سلّم عدم إضلالهم وأنّهم يلدون مؤمنا ، فنسبة ذلك إن صدرت منه خطأ فلا خطيئة له ، وإن صدرت عمدا كانت له خطيئتان : الكذب والدعوة على من لا يستحقّ ، لا خطيئة واحدة كما يظهر من الأخبار هذه!

وممّا ينكره العقل على هذه الأحاديث :

أوّلا : إعراض المسلمين عن طلب الشفاعة من نبيّهم وهم يعتقدون أنّه سيّد الأنبياء ، وعدول من عدا عيسى من هؤلاء الأنبياء عن نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وهم يعلمون أنّه أولى بالشفاعة.

كما ينكر العقل عليها ثانيا : مخاطبة الناس بعضهم بعضا ، وطلبهم الرأي وهم في حال الشدّة وقد دنت الشمس منهم ، واللّه سبحانه يقول : ( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللّهِ شَدِيدٌ ) (1).

وأيضا فقد نسب في حديثي أنس إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله رؤية اللّه (2) ، وقد عرفت امتناعها (3).

ونسب إليه في حديث أنس بكتاب التوحيد ، أنّه قال : « فأستأذن

ص: 101


1- سورة الحجّ 22 : 2.
2- انظر الهامش رقم 3 من الصفحة السابقة ، عن البخاري وغيره.
3- راجع ج 2 / 47 و 110 فما بعدها من هذا الكتاب.

على ربّي في داره » (1) فأثبت له المكان ، وهو يوجب الإمكان.

واعلم أنّا نعتقد أنّ إبراهيم علیه السلام لم يكذب قطّ حتّى بقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (2) ..

إمّا لكونه ليس من باب الإخبار الحقيقي ، بل من باب التبكيت والإلزام لهم بالحجّة على بطلان مذهبهم وعبادتهم لما لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرّا ، كما يشهد له قوله : ( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (3).

وإمّا للاشتراط بقوله : ( إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) ؛ لدلالته على أنّ إخباره مقيّد به بناء على كونه شرطا لقوله : ( فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) .

ولكنّ الكلام في أحاديث القوم الدالّة على الكذب الحقيقي من إبراهيم علیه السلام ، وأنّ خطيئته تمنعه من الشفاعة.

نعم ، للبخاري في « كتاب بدء الخلق » ، ولمسلم في « باب فضائل إبراهيم » ، رواية تدلّ على أنّ كذبتين من الثلاث حقيقيّتان ، إلّا أنّهما في ذات اللّه! والثالثة بصورة الكذب لمصلحة شرعية (4)! ..

وهذه الرواية لا توجب صرف روايات الشفاعة عن ظاهرها من الخطيئة ، بل تنافيها وتضادّها ، وإلّا فما معنى اعتذار إبراهيم عن الشفاعة بالكذب والخطيئة إذا كان كذبه في ذات اللّه ، أو صوريّا لمصلحة شرعية؟!

ص: 102


1- الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 2 / 548 ذ ح 1902 ، وانظر : صحيح البخاري 9 / 217 - 218 ح 39 ، مسند أحمد 3 / 244 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 360 ح 804 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 248.
2- سورة الأنبياء 21 : 63.
3- سورة الأنبياء 21 : 63.
4- صحيح البخاري 4 / 280 ح 161 كتاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، صحيح مسلم 7 / 98 ؛ وقد تقدّم ذلك عنهما وعن غيرهما في الصفحة 97 من هذا الجزء.
قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (2) ، ويرحم اللّه لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » (3).

كيف يجوز لهؤلاء الاجتراء على النبيّ بالشكّ في العقيدة؟!

* * *

ص: 103


1- نهج الحقّ : 153.
2- سورة البقرة 2 : 260.
3- الجمع بين الصحيحين 3 / 45 ح 2225 ، وانظر : صحيح البخاري 4 / 290 ح 174 وج 6 / 67 ح 60 ، صحيح مسلم 1 / 92 وج 7 / 98 ، سنن ابن ماجة 2 / 1335 ح 4026 ، مسند أحمد 2 / 326 ، مسند أبي عوانة 1 / 77 - 78 ح 230 - 232 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 30 ح 6175.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

كان من عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله التواضع مع الأنبياء كما قال : « لا تفضّلوني على يونس بن متّى » (2) ..

وقال : « لا تفضّلوني على موسى » (3).

وقد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء ، فذكر ثبات إبراهيم في الإيمان ، والمراد بالحديث أنّ إبراهيم مع ثباته في الإيمان وكمال استقامته في إثبات الصانع ، كان يريد الاطمئنان ويقول : ( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (4) ، فغيره أحقّ بهذا التردّد الذي يوجب الاطمئنان.

وأمّا الترحّم على لوط فهو أمر واقع ، فإنّ لوطا كان يأوي إلى ركن شديد كما قال : ( آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (5) ، فترحّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله له لكونه كان ضعيفا ، وليس فيه الدلالة على أنّه صلی اللّه علیه و آله عاب لوطا في إيوائه إلى ركن شديد.

وأمّا قوله : « لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » ..

ففيه : وصف يوسف بالصبر والتثبّت في الأمور ، وأنّه صبر مع طول

ص: 104


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 251.
2- انظر : الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 226 ، البداية والنهاية 1 / 213 ، إتحاف السادة المتّقين 2 / 105.
3- صحيح البخاري 3 / 243 ح 2 ، صحيح مسلم 7 / 101.
4- سورة البقرة 2 : 260.
5- سورة هود 11 : 80.

السجن حتّى تبيّن أمره.

فانظروا معاشر الناظرين : هل في هذه الأمور يرجع عيب وشين إلى الأنبياء ، مع أنّ الحديث صحّ وهو يطعن في قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!

نعوذ باللّه من رأيه الفاسد.

* * *

ص: 105

وأقول :

لا ريب بتواضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع المؤمنين فضلا عن النبيّين ، لكن لا وجه للتواضع المدّعى مع إبراهيم ويوسف ، إذ لا يصحّ تواضع الشخص بإثباته لنفسه أمرا قبيحا ، كقول الشخص : أنا فاسق ، أو نحوه.

وقول النبيّ : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم » فإنّ الشكّ في الصانع والحشر أعظم الأمور نقصا ومباينة لمن هو في محلّ الدعوة إلى الإقرار بالصانع والحشر.

وقريب منه قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » ، فإنّه دالّ على قلّة صبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وحكمته بالنسبة إلى يوسف ، وهو لا يلائم دعوته إلى مكارم الأخلاق والصبر الكامل والتسليم ..

فإنّه صلی اللّه علیه و آله إذا جعل نفسه أدنى صبرا من يوسف الذي توسّل غفلة إلى خلاصه من السجن بمخلوق ، فقال : ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) (1) ، لما ناسب طلبه من الناس الصبر الأعلى ، والتسليم لأمر اللّه في كلّ شيء ، والاستعانة باللّه لا بغيره في كلّ أمر.

كما إنّ تواضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي ذكره الخصم مع موسى ويونس كاذب ، وإلّا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله متناقض القول ؛ لأنّه يقول في مقامات أخر :

ص: 106


1- سورة يوسف 12 : 42.

« أنا سيّد ولد آدم » (1)

ويقول : « إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين ، وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر » (2) ..

ويقول : « أنا سيّد الناس يوم القيامة » (3).

وكذا في الحديث السابق الذي ذكر فيه اعتذار أعاظم الأنبياء عن الشفاعة.

وهذا الذي زعم الخصم تواضع النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه مع موسى قد رواه القوم بقصّة ظاهرة الكذب ؛ لأنّهم زعموا فيها أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنكر على من فضّله على موسى ، وأنّه أظهر بمحضر اليهودي الشكّ في فضله على موسى ، مستندا إلى أنّه ينفخ في الصور وأنّه أوّل من يبعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا يدري النبيّ صلی اللّه علیه و آله أحوسب موسى بصعقته في الطور ، أم بعث قبله؟!

ص: 107


1- صحيح مسلم [ 7 / 59 ] كتاب الفضائل / باب تفضيل نبيّنا صلی اللّه علیه و آله . منه قدس سره . وأنظر : سنن أبي داود 217/4 - 218 ح 4673 ، سنن الترمذي 288/5 ح 3148 و ص 548 ح 3615 ، مسند أحمد 281/1 و 295 و ج 540/2 و ج 2/3، التاريخ الكبير - للبخاري - 400/7 رقم 1748 .
2- مسند أحمد 5 / 137 و 138. منه قدس سره . وأنظر : سنن الترمذي 547/5 ذح 3613 ، سنن ابن ماجة 1443/2 ح 4314 ، الكامل في الضعفاء 129/4 ضمن الرقم 969 ، المستدرك على الصحيحين 143/1 ح 240 و 241 و ج 4 / 88 ح 6969 .
3- مسند أحمد 5 / 388. منه قدس سره . وأنظر كذلك : مسند أحمد 281/1 و 295 و ج 435/2 و ج 2/3 و 144 ، صحيح البخاري 157/6 ح 223 ، صحیح مسلم 127/1 و 129 ، سنن الترمذي 4 / 538 ح 2434 ، مسند أبي عوانة 147/1 - 149 ح 437 - 440 ، المستدرك على الصحيحين 12 / 83 ح 82 و ج 14 / 617 - 618 ح 8712 .

وهذا إغراء لليهودي بالجهل! حيث ادّعى أنّ اللّه اصطفى موسى على البشر ، فلا يمكن أن يصدر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله !

روى ذلك مسلم في باب فضائل موسى ، والبخاري في أوّل أبواب الخصومات بعد كتاب المساقاة ، وفي تفسير سورة الأعراف ، وفي كتاب بدء الخلق (1).

وأمّا قوله : « وقد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء » ..

ففيه : إنّا لا نعرف فضيلة ذكرت فيه لإبراهيم ولوط ..

أمّا لإبراهيم ؛ فلأنّه لم يشتمل بالنسبة إليه إلّا على إثبات الشكّ له في الحشر ، ولا أقلّ من دلالته على أنّه ضعيف اليقين ، وذلك مباين للنبوّة ، ومناف لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) (2) .. وقوله تعالى : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (3).

والحقّ أنّ إبراهيم علیه السلام لم يطلب الاطمئنان بالحشر ، بل بغيره (4) ، أو

ص: 108


1- صحيح مسلم 7 / 101 ، صحيح البخاري 3 / 243 ح 2 و 3 وج 4 / 307 ح 208 وج 6 / 114 - 115 ح 160.
2- سورة الأنبياء 21 : 51.
3- سورة الأنعام 6 : 75.
4- ذكر في ذلك عدّة وجوه ، نذكر منها أنسبها بمقام خليل الرحمن إبراهيم علیه السلام ونبوّته : 1 - سكون القلب إلى المشاهدة والمعاينة ، ليصير علم اليقين عين اليقين ، كما يحب المؤمن أن يرى الجنّة وهو مؤمن بها من قبل ، وذلك من دون تطرق الشك أو الوساوس والخطرات أساساً كما ورد عن بعض المفسرين ، فهذا ينافي العصمة . 2 - الاطمئنان من القتل وخوف انقطاع التبليغ بسبب ذلك بعد أن هدده نمرود بذلك في المحاججة التي جرت بينهما في الإحياء والإماتة. أنظر مثلاً : تفسير الثعلبي 251/2 - 252 ، تنزيه الأنبياء - للمرتضى -:51 ، مجمع البيان 2 / 177 - 178 الوجهين الأول والثالث ، تفسير الفخر الرازي 42/7 الوجهين الثاني والرابع ، عصمة الأنبياء - للفخر الرازي - : 54 الوجه السادس .

طلب الاطمئنان بالحشر لقومه بأن يكون خطابه مع اللّه مجاراة لهم لطلبهم له كقول موسى : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) (1) (2).

وأمّا عدم اشتماله على فضيلة للوط ؛ فلأنّ قول النبيّ : « ويرحم اللّه لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد » (3) ، ظاهر في التعريض بلوط ، حيث قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (4).

فإنّ قول لوط يدلّ على أنّه لم يأو إلى ركن شديد لمكان « لو » ، فعرّض به النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّه كاذب ، لأنّه آوى ، أو بأنّه ضعيف القلب لا يرى الركن الشديد ركنا شديدا ، وكلاهما ذمّ لا فضيلة!

ومن المضحك أنّ الخصم استدلّ على إيوائه إلى ركن شديد بقوله في الآية : ( آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) ، مع أنّ معناها : « لو آوي »!

وأيّ عيب يريد الخصم أن يشتمل عليه الحديث أكثر من الضعف الذي زعمه ، وهو مناف للإمامة فضلا عن النبوّة؟! حتّى إنّ الخصم بنفسه حكم في مبحث الإمامة بأنّه يشترط في الإمام أن يكون شجاعا قويّ القلب ، فكيف يجوز إثبات الضعف للنبيّ؟! وكيف يصحّ الحديث الدالّ على ذلك؟!

ص: 109


1- انظر مثلا : تنزيه الأنبياء - للمرتضى - : 51.
2- سورة الأعراف 7 : 143.
3- تقدّم تخريجه في الصفحة 103 ه 3.
4- سورة هود 11 : 80.

والحقّ أنّ ذلك القول من لوط علیه السلام لم يكن عن ضعف منه ، وإنّما قاله لأنّ نظر الناس إلى القوّة التي يشاهدونها لا إلى اللّه تعالى ، فخاطبهم على حسب عقولهم ، أو لأنّه قال ذلك استفزازا لعشيرته واستنصارا بهم على الحقّ.

* * *

ص: 110

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

وفي الصحيحين ، قال : « بينما الحبشة يلعبون عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحرابهم ، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء ، فحصبهم بها ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعهم يا عمر » (2).

وروى الغزّالي في « إحياء علوم الدين » : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان جالسا وعنده جوار يغنّين ويلعبن ، فجاء عمر فاستأذن ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله للجوار [ ي ] : اسكتن! فسكتن ، فدخل عمر وقضى حاجته ، ثمّ خرج ..

فقال لهنّ : عدن ؛ فعدن إلى الغناء.

فقلن : يا رسول اللّه! من هذا الذي كلّما دخل قلت : اسكتن ؛ وكلّما خرج قلت : عدن إلى الغناء؟!

قال : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل » (3).

كيف يحلّ لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!

أيرى عمر أشرف من النبيّ صلی اللّه علیه و آله حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبيّ صلی اللّه علیه و آله يؤثره؟!!

ص: 111


1- نهج الحقّ : 153.
2- صحيح البخاري 4 / 106 ح 113 ، صحيح مسلم 3 / 23 ، وانظر : الجمع بين الصحيحين 3 / 33 ح 2211 ، مسند أحمد 2 / 308 ، المصنّف - لعبد الرزّاق - 10 / 466 ح 19724 ، مسند أبي عوانة 2 / 157 - 158 ح 2655 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 7 / 544 ح 5837 ، شرح السنّة 3 / 179 ح 1112.
3- لم نجده في إحياء علوم الدين - المطبوع الموجود بين أيدينا - بهذا اللفظ ، ونقله عنه السيّد ابن طاووس في الطرائف : 364.
وقال الفضل:

وقال الفضل (1) :

أمّا لعب الحبشة بالحراب فإنّه كان يوم عيد ، وقد ذكرنا أنّه يجوز اللّهو يوم العيد بالاتّفاق (2).

ويمكن أن يكون تجويز ذلك اللعب بالحراب ؛ لأنّه ينفع في الحرب ، وفيه المهارة من طعن الحربة وكيفية تعليمه وإلقائه في الحرب ، وكلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس به.

ويمكن أن يكون عمر لم يعلم جوازه فعلّمه النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وأمّا ما روي عن الغزّالي ، فإن صحّ يمكن حمله على جواز اللعب مطلقا ، أو في أيّام الأعياد ، وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يسمعه لضرورة التشريع حتّى يعلم أنّ اللّهو ليس بحرام ، وربّما كان عمر يمتنع منه ومكّنه على عدم السماع ، ليعلم أنّ الأولى تركه ، وسمع هو - كما ذكرنا - لضرورة التشريع ، فهل يلزم من هذا أن يكون عمر أشرف من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعمر من أمّته وممّن يتعلّم منه الشريعة؟!

* * *

ص: 112


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 257.
2- تقدّم في الصفحة 76 من هذا الجزء.
وأقول :

دعواه أنّ ذلك اللعب كان يوم عيد ، رجم بالغيب ، ومجرّد ورود بعض أخبارهم في وقوع لعب يوم عيد لا يقتضي أن يكون هذا اللعب كذلك.

ومن نظر إلى أخبارهم الكثيرة في وقوع اللعب عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع عدم تعيين وقت (1) ، علم أنّه لم يختصّ بوقت ، على أنّك عرفت حال ما استدلّوا به لحلّيّة اللّهو في العيد (2).

وأمّا تعليله لحلّيّة اللعب في الحراب بنفعه في الحرب ، وأنّ كلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس به ، فدعوى مجرّدة عن دليل.

وأمّا عذره بأنّ عمر لا يعلم ، فمستلزم لأن يكون عمر - بحصبه للحبشة بمحضر النبيّ صلی اللّه علیه و آله - مقدّما بين يدي اللّه ورسوله ، وهو ممّا نهى اللّه عنه في كتابه العزيز (3).

ومن أظرف الأمور أنّه كلّما وردت رواية تتضمّن مثل ذلك يكون محلّها عند الخصم جهل عمر وتعليم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إيّاه ، فهلّا علم جواز

ص: 113


1- انظر : صحيح البخاري 2 / 54 ح 2 ، صحيح مسلم 3 / 22 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 4 / 53 ح 3168 ، سنن الترمذي 5 / 580 ح 3690 و 3691 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 309 ح 8957 ، الكامل في الضعفاء 3 / 51 رقم 608 ، مصابيح السنّة 4 / 159 ح 4737 ، تاريخ دمشق 44 / 82 و 84.
2- راجع ما مرّ في الصفحة 78 وما بعدها من هذا الجزء.
3- وذلك قوله تعالى : ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) سورة الحجرات 49 : 1.

اللّهو في العيد من أوّل مرّة؟!

وأمّا جوابه عن رواية الغزّالي بأنّه يمكن حملها على جواز اللعب مطلقا ..

ففيه : إنّه لا يصحّ معارضة السنّة للكتاب المجيد بنحو المباينة (1) ، فكيف يحلّل اللّهو بها مطلقا وقد حرّمه الكتاب كذلك؟!

وأمّا دعوى السماع لضرورة التشريع ، فقد عرفت ما فيها من منع الضرورة ؛ لعدم انحصار طريق التشريع بالسماع (2) ، وكيف يسمعه النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأولى ترك السماع بإقرار الخصم؟!

أيحتمل أن يمتنع عمر منه ويمكّنه النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الامتناع ، ولا يمتنع عنه بنفسه الطاهرة وله عنه مندوحة بالتشريع القولي؟!

ولو توقّف تشريع جواز المكروهات على فعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لها ، للزم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يأتي بكلّ مكروه ، كما يلزم أن يأتي بكلّ محرّم أبيح للضرورة ، كشرب الخمر ، فيضطرّه اللّه سبحانه إليه فيشربه تشريعا له ؛ ولم يقل به مسلم!

ولو سلّم حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى السماع للتشريع كفى سماعه أوّل مرّة ، فما باله يقول : « عدن » إذا خرج عمر؟! وما باله تكرّرت منه الوقائع الكثيرة كما تفيده أخبارهم؟!

ثمّ إنّ تعبير النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن اللّهو ب « الباطل » دليل على أنّه حرام لا مكروه ، فإنّ المكروه لا يسمّى باطلا ، فيلزم أن يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله عند

ص: 114


1- وذلك لصدق المخالفة للكتاب إذا كان التعارض مستقرّا ولم يكن هناك ما يصلح لأن يكون قرينة على التخصيص أو التقييد ، فيجب طرحه.
2- راجع الصفحة 87 من هذا الجزء.

القوم مرتكبا للحرام والباطل دون عمر ، وكذا عند عمر نفسه ، فيكون أفضل من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلى الإسلام السلام!!

وقريب من رواية الغزّالي ما رواه أحمد ، عن الأسود بن سريع (1) ، قال : « أتيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقلت : يا رسول اللّه! إنّي قد حمدت ربّي بمحامد ومدح وإيّاك.

قال : هات ما حمدت به ربّك.

قال : فجعلت أنشده ، فجاء رجل أدلم (2) فاستأذن ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : بين بين.

قال : فتكلّم ساعة ثمّ خرج ، فجعلت أنشده ، ثمّ جاء فاستأذن ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : بين بين ؛ ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثا.

فقلت : يا رسول اللّه! من هذا الذي استنصتّني له؟!

قال : عمر بن الخطّاب ، هذا رجل لا يحبّ الباطل ».

* * *

ص: 115


1- مسند أحمد 3 / 435. منه قدس سره . وأنظر : فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 318/1 - 320 ح 334 - 336 ، المعجم الكبير 1 / 287 - 288 ح 844 ، المستدرك على الصحيحين 712/3 - 713 ح 6576 ، حلية الأولياء 46/1 . والأسود بن سريع بن حمير بن عُبادة التميمي السعدي ، كان شاعراً قاصاً ، وكان أول من قص في مسجد البصرة ، مات سنة 42 ه- في زمان معاوية ، وقيل : فقد أيام الجمل ، وقيل : لمّا قُتل عثمان ركب الأسود سفينة وحمل معه أهله وعياله ، فانطلق فما رئي بعد . أنظر : الاستيعاب 89/1 رقم 44 ، أُسد الغابة 103/1 - 104 رقم 144 ، الإصابة 74/1 - 75 رقم 161 .
2- الأدلم : الطويل الشديد السواد من الرجال ؛ انظر : لسان العرب 4 / 395 مادّة « دلم ».
قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

وفي « الجمع بين الصحيحين » عن أبي هريرة ، قال : « أقيمت الصلاة وعدّلت الصفوف قياما قبل أن يخرج إلينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج إلينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلمّا قام في مصلّاه ذكر أنّه جنب ، فقال لنا : مكانكم! فلبثنا على هيئتنا قياما ، فاغتسل ثمّ خرج إلينا ورأسه يقطر ، فكبّر وصلّينا » (2).

فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى الناس بأنّه يحضر الصلاة ويقوم في الصفّ وهو جنب؟!

وهل هذا إلّا من التقصير في عبادة ربّه وعدم المسارعة إليها؟! وقد قال تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (3) .. ( فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (4) ..

فأيّ مكلّف أجدر بقبول هذا الأمر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!

وفي « الجمع بين الصحيحين » عن أبي هريرة ، قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إحدى صلاتي العشيّ - وأكثر ظنّي أنّها العصر - ركعتين ،

ص: 116


1- نهج الحقّ : 154.
2- الجمع بين الصحيحين 3 / 56 ح 2237 ، وانظر : صحيح البخاري 1 / 128 ح 27 وص 260 - 261 ح 35 و 36 ، صحيح مسلم 2 / 101 ، سنن أبي داود 1 / 59 ح 235 ، سنن النسائي 2 / 81 - 82 و 89 ، سنن ابن ماجة 1 / 385 ح 1220 ، مسند أحمد 2 / 518.
3- سورة آل عمران 3 : 133.
4- سورة البقرة 2 : 148 ، سورة المائدة 5 : 48.

ثمّ سلّم ، ثمّ قام إلى خشبة في مقدّمة المسجد فوضع يده عليها ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يكلّماه.

وخرج سرعان الناس فضجّ الناس وقالوا : أقصرت الصلاة؟! ورجل يدعى ذو اليدين قال : يا نبيّ اللّه! أنسيت أم قصرت الصلاة؟!

فقال : لم أنس ولم تقصر.

قال : بلى نسيت.

قال : صدق ذو اليدين.

فقام فصلّى ركعتين ، ثمّ سلّم » (1).

فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا الفعل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!

وكيف يجوز منه أن يقول : « ما نسيت »؟! فإنّ هذا سهو في سهو!

ومن يعلم أنّ أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع أنّهما لم يذكرا ذلك للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!

* * *

ص: 117


1- الجمع بين الصحيحين 3 / 182 ح 2412 ، وانظر : صحيح البخاري 1 / 206 ح 139 وج 2 / 151 - 152 ح 253 وج 8 / 29 ح 79 ، صحيح مسلم 2 / 86 ، سنن أبي داود 1 / 263 ح 1008 ، سنن النسائي 3 / 20 - 21 ، سنن ابن ماجة 1 / 383 ح 1214 ، سنن الدارمي 1 / 251 ب 175 ح 1499 ، مسند أحمد 2 / 234 - 235 و 248 و 284.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد مرّ في ما سبق جواز السهو والنسيان على الأنبياء ؛ لأنّهم بشر ، سيّما إذا كان السهو موجبا للتشريع (2) ، فإنّ التشريع في الأعمالالفعلية آكد وأثبت من الأقوال ، فما ذكر من حديث تذكّر الجنابة فمن باب النسيان ، وفيه تشريع العمل بعد النسيان إذا تذكّر.

ولهذا ترجم البخاري الباب الذي ذكر فيه هذا الحديث بقوله : « باب من تذكّر أنّه جنب رجع فاغتسل » (3) ، ولا يلزم من هذا نقص.

وما ذكر من سهو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الصلاة ، فهو سهو يتضمّن التشريع ؛ لأنّه شرّع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة ، وكذا الكلام القليل.

والعجب أنّه قال : « كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر ما نسي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! » ..

وأيّ عجب في هذا؟! فإنّ الإمام كثيرا ما يسهو ، والمأمومون لا يسهون ، فلا يلزم من هذا تفضيل المأموم على الإمام ، وهل هذه الكلمات إلّا ترّهات ومزخرفات؟!

* * *

ص: 118


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 259.
2- تقدّم في الصفحتين 21 و 51 من هذا الجزء.
3- صحيح البخاري 1 / 128 ح 27.
وأقول :

بيّنّا في ما سبق امتناع وقوع السهو من النبيّ في العبادة ، وبطلان التشريع بالأفعال الموجبة لنقصه كما في المقام (1) ، فإنّ سهوه عن الغسل حتّى يشارف على الدخول في الصلاة أو يدخل فيها نقص ظاهر ، إذ هو خلاف المحافظة على العبادة والسبق إلى الخير ، ومناف لما حثّ به على كثرة تلاوة القرآن التي تكره من الجنب ، بل تحرّم إذا كان من العزائم (2).

على أنّه معرّض لنزول الملائكة عليه ، والملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب كما استفاض في أخبارهم (3) ، فكيف يؤخّر غسله هذا التأخير حتّى ينسى؟!

وأيضا : قد تضافرت الأخبار - كما سبق - بأنّه تنام عيناه ولا ينام قلبه (4) ، فكيف ينام عن عبادة ربّه وهو يقظان؟!

ولا يمكن أن يسهيه اللّه طلبا للتشريع ؛ فإنّ نبيّه أشرف عنده من أن يجعله عرضة للنقص ومحلّا للانتقاد بأمر عنه مندوحة ، وهي التشريع بالقول.

ص: 119


1- تقدّم في الصفحة 53 وما بعدها من هذا الجزء.
2- انظر : مسند البزّار 2 / 284 ح 706 ، مجمع الزوائد 1 / 276 وج 2 / 85 ، كنز العمّال 1 / 621 ح 2873.
3- سنن أبي داود 1 / 57 ح 227 ، سنن النسائي 1 / 141 ، سنن الدارمي 2 / 196 ح 2659 ، مسند أحمد 1 / 83 و 107 و 139 و 150 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 278 ح 611 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 1 / 201.
4- راجع الصفحة 54 ه 4 من هذا الجزء.

ودعوى أنّ التشريع بالأعمال الفعلية آكد لا نعرف وجهها ، بل الأمر بالعكس ؛ لأنّ الفعل يحتمل خصوصية النبيّ بخلاف القول العامّ.

ولو تنزّلنا عن هذا كلّه ، فلا نتصوّر حاجة للتشريع في أمر الغسل ؛ لأنّ الواجب المؤقّت الذي لم يفت وقته ، أو غير المؤقّت ، لا يحتاج إلى التشريع بعد النسيان ، لكفاية الأمر الأوّل في لزوم الإتيان به.

هذا ، ولا يخفى أنّ حديث الجنابة الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه لم يصرّح بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر الجنابة بعد الدخول في الصلاة ، ولكنّ حديث أحمد (1) عن أبي هريرة صرّح به ، قال : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله خرج إلى الصلاة ، فلمّا كبّر انصرف ، وأومأ إليهم - أي : كما أنتم - ، ثمّ خرج فاغتسل ، ثمّ جاء ورأسه يقطر فصلّى بهم ، فلمّا صلّى قال : إنّي كنت جنبا فنسيت أن أغتسل ».

وكذا حديث أحمد عن عليّ علیه السلام (2) ، قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوما ، فانصرف ثمّ جاء ورأسه يقطر ماء ، فصلّى بنا ، ثمّ قال : إنّي صلّيت بكم آنفا وأنا جنب ، فمن أصابه مثل الذي أصابني ، أو وجد رزّا (3) في بطنه ، فليصنع مثل ما صنعت ».

ومثله في كنز العمّال ، عن الطبراني (4).

ص: 120


1- مسند أحمد 2 / 448. منه قدس سره .
2- مسند أحمد 1 / 99. منه قدس سره .
3- الرّزّ : غمز الحدث وحركته في البطن للخروج حتّى يحتاج صاحبه إلى دخول الخلاء ، كان بقرقرة أو بغير قرقرة ، وأصل الرّزّ الوجع يجده المرء في بطنه. أنظر : لسان العرب 202/5 مادّة «رزز».
4- كنز العمّال 4 / 223 [ 8 / 171 ح 22426 ]. منه قدس سره . وأنظر : المعجم الأوسط 349/6 ح 6390.

ونقل في ( الكنز ) أيضا في صفحة قبل الصفحة المذكورة ، عن ابن عساكر ، عن أبي بكرة : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كبّر في صلاة الفجر ، ثمّ أومأ إليهم ، ثمّ انطلق فاغتسل ، فجاء ورأسه يقطر فصلّى بهم » (1).

ونحوه في موطّأ مالك ، تحت عنوان : إعادة الجنب الصلاة وغسله إذا صلّى ولم يذكر (2).

.. إلى غير ذلك من أخبارهم (3) ..

وهي بظاهرها باطلة ؛ لإفادتها أنّهم لم ينقضوا صلاتهم ، وأتمّوها مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد ما اغتسل وصلّى ، وهذا ضروريّ البطلان ؛ للفصل الطويل الواقع في أثناء صلاتهم ؛ ولأنّ الجماعة لا تنعقد مع سبق المأمومين بتكبيرة الافتتاح ، فتزيد أحاديث نسيان النبيّ صلی اللّه علیه و آله للجنابة إشكالا فوق إشكال ، فاتّضح أنّها كاذبة على سيّد المرسلين!

كما كذبت بمثله على سيّد الوصيّين ..

روي في ( الكنز ) (4) : « أنّ أمير المؤمنين علیه السلام صلّى بالناس جنبا فأمرهم بالإعادة ».

وكيف لا يكذّب هذا الخبر ومن المعلوم من مذهب أهل البيت علیهم السلام عدم إعادة المأمومين إذا كان الإمام جنبا؟! (5).

ص: 121


1- كنز العمّال 8 / 169 ح 22414 ، وانظر : تاريخ دمشق 37 / 391 ضمن الرقم 4413 ، مسند أحمد 5 / 41 نحوه ، السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 397.
2- الموطّأ : 46 ح 82.
3- انظر ذلك في ما مرّ في الهامش 2 من الصفحة 116 من هذا الجزء.
4- كنز العمّال 4 / 243 [ 8 / 172 ح 22428 ]. منه قدس سره .
5- (5) الكافي 3 / 378 ح 1 ، كتاب من لا يحضره الفقيه 1 / 262 ح 1197 وص 264 ح 1207، تهذيب الأحكام 3 / 39 ح 137 وص 269 ح 772 ، الاستبصار 1 / 440 ح 1695 ، وانظر : تفصيل وسائل الشيعة 8 / 371 - 373 ب 36 ح 10932 - 10939.

ولعلّ الداعي إلى كذب القوم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله ووصيّه علیه السلام هو المحافظة على شؤون أشياخهم.

فقد روي في ( الكنز ) قبل الحديث الأخير بقليل : « إنّ عمر صلّى بالناس الصبح جنبا ، وأنّه صلّى بهم ركعتين بغير طهارة » (1).

وروى أيضا : « إنّ عثمان صلّى بالناس جنبا » (2) ، لكن زعم عثمان أنّه لم يعلم بالجنابة!

ثمّ إنّه بما ذكرنا هنا وفي ما سبق تعلم النظر في ما أجاب به الخصم عن حديث سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الصلاة ، وعن السهو في السهو ، وليس الداعي لهم - أيضا - إلى هذا الكذب على النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلّا دفع النقص عن أوليائهم حيث تكرّر منهم ذلك! ..

حتّى روي في ( الكنز ) (3) : « إنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شيئا حتّى سلّم ، فلمّا فرغ قيل له : [ إنّك لم تقرأ شيئا؟! ] فاعتذر بأنّي جهّزت عيرا إلى الشام ، وجعلت أنقلها منقلة منقلة حتّى قدمت الشام فبعتها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها ؛ [ فأعاد عمر وأعادوا ] ».

فليت شعري أيّ عبادة هذه؟! وأيّ إقبال على اللّه تعالى مع هذه

ص: 122


1- كنز العمّال 8 / 166 ح 22401 - 22403 ، وانظر : السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 399.
2- كنز العمّال 8 / 167 ح 22406. وأنظر : سنن الدارقطني 286/1 ح 1357 ، السنن الكبری - للبيهقي - 400/2.
3- كنز العمّال 4 / 213 [ 8 / 133 ح 22257 ]. منه قدس سره . وأنظر : السنن الكبری - للبيهقي - 382/2.

التمنّيات والوساوس الشيطانية؟!

وروي في ( الكنز ) أيضا بعد الحديث المذكور : « إنّ عمر صلّى بالناس العشاء الآخرة ، فلم يقرأ بها ... فاعتذر بأنّي سهوت ، جهّزت عيرا من الشام حتّى قدمت المدينة ، فأمر المؤذّن فأقام الصلاة ، ثمّ عاد وصلّى بالناس العشاء » (1).

وهذا من الجهل ؛ لأنّ نسيان القراءة لا يوجب الإعادة! ..

.. إلى غير ذلك ممّا رووه عن أشياخهم ، من السهو والإعراض عن الصلاة ، حتّى روى البخاري في : « باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة » ، عن عمر أنّه قال : « إنّي لأجهّز جيشي وأنا في الصلاة » (2).

وأمّا قوله : « شرّع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة » ..

ففيه : إنّ المشي إلى الخشبة ليس ممّا يتعلّق بها ، وكذا الدخول إلى الحجرة والخروج منها كما في حديث مسلم (3) ، بل الدخول والخروج مستلزمان للانحراف عن القبلة ، ولو إلى المغرب والمشرق ؛ لأنّ بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله في يسار المسجد ، ومثل هذا الانحراف مبطل للصلاة وإن وقع سهوا ..

على أنّ تلك الأفعال كثيرة عرفا ، والكثير مبطل للصلاة عند

ص: 123


1- كنز العمّال 8 / 133 - 134 ح 22258 ، وانظر : مصنّف عبد الرزّاق 2 / 123 - 124 ح 2752.
2- صحيح البخاري 2 / 148 ، مصنّف ابن أبي شيبة 2 / 314 ب 261 ح 2 ، كنز العمّال 8 / 216 ح 22629.
3- صحيح مسلم 2 / 88.

جمهورهم كما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن كتاب « الينابيع » (1) وشرحها ، ونقل عنهما : إنّ الخطوات الثلاث المتوالية من الكثير (2).

هذا ، مضافا إلى أنّ عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله المكث بعد الصلاة إلى أن تنصرف النساء ويدخلن بيوتهنّ ، كما رواه البخاري في أواخر كتاب الأذان ، في باب مكث الإمام في مصلّاه بعد الصلاة (3) ، وهذا موجب للفصل الطويل بين أجزاء الصلاة مضافا إلى الفصل الحاصل من الكلام والدخول والخروج وغيرها ، فتتغيّر هيئة الصلاة ، فتبطل.

وأمّا ما زعمه من تشريع النبيّ صلی اللّه علیه و آله للكلام القليل في أثناء الصلاة ..

ففيه : إنّ السلام الواقع على الركعتين مع الكلام المتكرّر من النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الكثير عرفا ، فيبطل الصلاة وإن وقع سهوا عنها.

على أنّ بعض ما رووه من كلامه صلی اللّه علیه و آله كان من الكلام العمدي ، فيبطل الصلاة وإن قلّ!

ص: 124


1- كتاب « ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام » فقه على المذاهب الأربعة ، لا يزال مخطوطا ، وهو لصدر الدين أبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن زنكي الشعيبي الساوي الأسفراييني الشافعي ( 677 - 747 ه ). أنظر : كشف الظنون 2/ 2050 ، هديّة العارفين 153/2 ، معجم المؤلفين 679/3 رقم 15790. هذا ، ولم نهتد إلى اسم الشرح المشار إليه في المتن !
2- إحقاق الحقّ 2 / 262. وأنظر : المهذب 1 / 88 ، المجموع شرح المهذب 92/4 - 94 ، فتح العزيز - حاشية المجموع - 4 / 118 ، فتح العلّام 447/2 - 448 ، حاشية رد المحتار 677/1.
3- صحيح البخاري 2 / 19 ح 231.

روى الحاكم (1) : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سها في المغرب فسلّم في ركعتين ، فأمر بلالا فأقام الصلاة ، ثمّ أتمّ تلك الركعة ».

ونحوه في كنز العمّال (2) ، عن ابن أبي شيبة.

فإنّ أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله لبلال بالإقامة بعد ما تبيّن له السهو ، كلام عمدي.

وروي في ( الكنز ) قبل الحديث المذكور بقليل ، عن الدارقطني وعبد الرزّاق : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد ما قال : أصدق ذو اليدين؟! وقال الناس : نعم ؛ قال : حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، ثمّ صلّى بهم ... » (3).

فإنّ إقامة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد انكشاف السهو له ، كلام عمدي ، وهو مبطل للصلاة بالسنّة والإجماع.

كما إنّه بمقتضى أخبارهم أنّ الناس أيضا سلّموا على ركعتين ، وصدرت منهم الأفعال والأقوال الكثيرة عمدا ، فكان اللازم عليهم إعادة الصلاة لمجرّد السلام فضلا عن غيره!

وكان اللازم أيضا على النبيّ صلی اللّه علیه و آله البيان ، ولم ينقل شيء من ذلك ، بل نقلوا في بعض أخبارهم أنّه صلی اللّه علیه و آله أتمّ بهم الناقص فقط ، حتّى إنّهم لم ينقلوا أنّه أمرهم بسجود السهو مثله ، أو أنّ أحدا منهم سجد ، وهذا من شواهد الكذب ..

ص: 125


1- المستدرك على الصحيحين 1 / 261 [ 1 / 469 ح 1206 ]. منه قدس سره .
2- كنز العمّال 4 / 215 [ 8 / 139 - 140 ح 22286 ]. منه قدس سره . وأنظر : المصنف - لابن أبي شيبة - 488/1 ب 252 ح 1.
3- كنز العمّال 8 / 138 ح 22280 ، وانظر : سنن الدارقطني 1 / 287 - 288 ح 1363 و 1364 ، المصنّف - لعبد الرزّاق - 2 / 298 ح 3444.

وإنّ قصد الرواة مجرّد نسبة السهو إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله دفعا للطعن عن أنفسهم وأوليائهم ، وإرضاء لأئمّة جماعاتهم ، كما يعرفه من سبر أحوالهم.

وأمّا قوله : « والعجب أنّه قال : كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر » ..

ففيه : إنّ المصنّف لم ينكر على حفظهما ، بل على من روى حفظهما وأثبته لهما ، والحال أنّهما لم يذكرا ذلك للنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فإنّ قول الراوي : « فهاباه أن يكلّماه » دالّ على أنّهما حافظان لما نسيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومنعتهما هيبته عن بيان سهوه له ، وهذا أمر تشهد الضرورة بكذبه ، إذ كيف يترك عمر بيانه له - لو كان حافظا - وهو خلاف ما يروونه من أحواله معه وجرأته عليه؟!

وكفاك ما رووه من حصبه للحبشة بحضرته (1) ..

ومعارضته له في الصلاة على ابن أبيّ (2) ..

وجرأته عليه يوم الحديبية (3) ..

وقوله في وجهه المبارك : « إنّ النبيّ ليهجر » (4) ..

فإنّ من يواجهه بالهجر لا يهاب من مواجهته بالسهو!

ص: 126


1- راجع الصفحة 111 ه 2.
2- انظر : صحيح البخاري 6 / 129 - 130 ح 190 - 192 وج 7 / 262 ح 15 ، صحيح مسلم 8 / 120 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 1 / 124 ح 52 ، سنن الترمذي 5 / 260 - 261 ح 3097 و 3098 ، السنن الكبرى - للنسائي - 6 / 357 ح 11224 و 11225 ، مسند أحمد 1 / 16.
3- انظر : صحيح البخاري 4 / 36 - 43 ح 18 ، صحيح مسلم 5 / 175 ، مسند أحمد 4 / 330.
4- راجع الصفحة 93 ه 2.

وكذلك أبو بكر ، فإنّه قد مارى عمر في تأمير الأقرع بن حابس حتّى ارتفعت أصواتهما بحضرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1) ..

وقد زعموا أنّه أخذ بيد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وقال له : حسبك! فقد ألححت على ربّك! لمّا ناشد النبيّ ربّه عهده يوم بدر (2).

ولعمري لو كان لقصّة سهو النبيّ صلی اللّه علیه و آله أصل ، لكان أبو بكر وعمر أوّل من يلاقيه بها كما هو ظاهر لكلّ منصف.

* * *

ص: 127


1- انظر : صحيح البخاري 5 / 333 ح 364 وج 6 / 243 ح 339 ، سنن الترمذي 5 / 361 ح 3266 ، سنن النسائي 8 / 226 ، السنن الكبرى - للنسائي - 6 / 466 ح 11514 ، الاستيعاب 3 / 1284 رقم 2122 ، تفسير ابن كثير 4 / 207.
2- انظر : صحيح البخاري 4 / 111 ح 126 وج 5 / 180 ح 5 وج 6 / 254 - 255 ح 369 و 371 ، مسند أحمد 1 / 329 ، دلائل النبوّة - للبيهقي - 3 / 50.
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

وفي الصحيحين ، عن عبد اللّه بن عمر أنّه كان يحدّث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنّه دعا زيد بن عمرو بن نفيل (2) ، وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقدّم إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثمّ قال : إنّي لا آكل ما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه » (3).

فلينظر العاقل ، هل يجوز له أن ينسب نبيّه إلى عبادة الأصنام والذبح على الأنصاب ويأكل منه ، وأنّ زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف باللّه منه ، وأتمّ حفظا ورعاية لجانب اللّه تعالى؟!

نعوذ باللّه من هذه الاعتقادات الفاسدة!

* * *

ص: 128


1- نهج الحقّ : 155.
2- هو : زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، والد سعيد بن زيد ، وابن عمّ عمر بن الخطّاب ، قيل : كان يتعبّد في الجاهلية ، ومات قبل مبعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله . أنظر : أسد الغابة 143/2 رقم 1860 ، الإصابة 613/2 رقم 2925.
3- صحيح البخاري 5 / 124 ح 312 وج 7 / 165 ح 31 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 2 / 275 ح 1424 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 55 ح 8189 ، مسند أحمد 2 / 69 و 89 و 127 ، دلائل النبوّة - للبيهقي - 2 / 121 - 122.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل ، وعدم الاعتماد والوثوق على نقله ، رواية هذا الحديث ..

فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه ، وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه!

وتمام الحديث : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام ، قال : وأنا أيضا لا آكل من ذبيحتهم وممّا لم يذكر اسم اللّه عليه ، فأكلا معا » (2).

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية ، نسأل اللّه العصمة من التعصّب ، فإنّه بئس الضجيع.

* * *

ص: 129


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 263.
2- لو نظرت إلى صحاحهم لبطل ادّعاء الفضل هذا ، إذ لا توجد تتمّة للحديث ، انظر : صحيح البخاري 7 / 165 ح 31 ، كتاب الذبائح والصيد ، باب ما ذبح على النصب والأصنام.
وأقول :

قد راجعنا صحيح البخاري فوجدنا الحديث إثر أبواب المناقب ، وفي باب ما ذبح على النصب والأصنام من كتاب الذبائح ، وما رأينا لهذه التتمّة أثرا! (1).

وقد رواه أحمد في مسنده (2) ، ولم يذكر ما أضافه الخصم!

وليست هذه أوّل كلمة وضعها ، بل سبق له مثلها قريبا في روايات اللّهو (3) ، وسيأتي له أمثالها!

ولا عجب فإنّها سنّة لهم في غالب أخبارهم ، ومنها أصل هذا الحديث ، ولكنّي أعجب من إرعاده وإبراقه وسؤاله العصمة عن التعصّب ونسبته إلى المصنّف عدم الأمانة! وكأنّه يريد بذلك أن يدعو قومه إلى إضافة هذه التتمّة!!

* * *

ص: 130


1- انظر : صحيح البخاري 7 / 165 ح 31.
2- مسند أحمد 2 / 69 و 89 و 127. منه قدس سره .
3- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في الصفحة 78 وما بعدها.
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

وفي الصحيحين ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : « كنت مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما ، فتنحّيت ، فقال : ادنه ؛ فدنوت حتّى قمت عند عقبيه ، فتوضّأ ومسح على خفّيه » (2).

فكيف يجوز أن ينسب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله البول قائما ، مع أنّ أرذل الناس لو نسب هذا إليه تبرّأ منه؟!

ثمّ المسح على الخفّين واللّه تعالى يقول : ( وَأَرْجُلَكُمْ ) (3)؟!

فانظروا إلى هؤلاء القوم كيف جوّزوا الخطأ والغلط على الأنبياء ، وأنّ النبيّ يجوز أن يسرق درهما (4) ، ويكذب في أخسّ الأشياء وأحقرها (5)!

ص: 131


1- نهج الحقّ : 156.
2- صحيح البخاري 1 / 110 ح 87 و 88 وج 3 / 270 ح 44 ، صحيح مسلم 1 / 157 ؛ وانظر : سنن أبي داود 1 / 6 ح 23 ، سنن الترمذي 1 / 19 ح 13 ، سنن النسائي 1 / 19 و 25 ، سنن ابن ماجة 1 / 111 ح 305 و 306 ، سنن الدارمي 1 / 123 ب 9 ح 671 ، مسند أحمد 4 / 246 وج 5 / 382 و 394 و 402.
3- سورة المائدة 5 : 6.
4- وقد اتّهموه صلی اللّه علیه و آله بسلّ قطيفة من مغانم بدر! انظر : سنن الترمذي 5 / 214 ح 3009 وقال : « حديث حسن غريب » ، سنن أبي داود 4 / 30 ح 3971 ، مسند أبي يعلى 4 / 327 ح 2438 وج 5 / 60 ح 2651 ، المعجم الكبير 11 / 288 ح 12028 و 12029 ، أحكام القرآن - للجصّاص - 2 / 62 - 63 ، أسباب النزول - للواحدي - : 70 ، تفسير الطبري 3 / 498 و 500 ، شرح نهج البلاغة 14 / 168.
5- بناء على قولهم بعدم عصمته صلی اللّه علیه و آله في غير التبليغ.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اختلف في جواز البول قائما ، فالذي يجوّزه يستدلّ بهذا الحديث ، وعن الأطبّاء : إنّ البول قائما ينفع الكلية والمخصر ؛ فالنبيّ صلی اللّه علیه و آله عمل هكذا ليشرّع جواز البول قائما.

وأيّ منقصة يتصوّر من البول قائما ، سيّما إذا كان متضمّنا للتشريع؟!

وطلب الدنوّ من حذيفة ربّما يكون لتشريع جواز البول قائما بقرب من الناس ، بخلاف الغائط ، لغلظته ، ولهذا كان يبعد من الناس في الغائط دون البول.

وأمّا المسح على الخفّ ، فهو جائز بالإجماع من أهل السنّة ، كما سيأتي في مباحث الفقه ، واللّه أعلم.

ثمّ ما ذكر أنّهم جوّزوا الخطأ والغلط على الأنبياء ، والنبيّ يجوز أن يسرق درهما ، فقد ذكرنا أنّ هذا افتراء محض ، ووجب تنزيه الأنبياء من الصغيرة الدالّة على الخسّة (2).

* * *

ص: 132


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 265.
2- انظر الصفحة 20 وما بعدها من هذا الجزء.
وأقول :

يدلّ على كذب الحديث أمور :

الأوّل : ما رواه أحمد في مسنده ، عن عائشة (1) ، قالت : « من حدّثك أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بال قائما فلا تصدّقه ، ما بال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائما منذ أنزل عليه القرآن ».

ونحوه في كتاب الطهارة من مستدرك الحاكم (2) ، وصحّحه هو والذهبي في ( التلخيص ) على شرط البخاري ومسلم

الثاني : ما نقله البغوي في باب أدب الخلاء ، من ( مصابيحه ) ، من الحسان ، عن عمر ، قال : « رآني النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبول قائما ، فقال : يا عمر! لا تبل قائما » (3)

الثالث : إنّ البول قائما يستلزم بحسب العادة وصوله إلى البائل ، ولا سيّما عند قرب انقطاعه ، ولا ريب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أولى بتجنّب موارد احتمال الإصابة ، فضلا عن موارد القطع العادي ..

ص: 133


1- مسند أحمد 6 / 136 و 192 و 213. منه قدس سره . وأنظر : سنن الترمذي 17/1 ح 12 وقال : «حديث عائشة أحسن شيء في الباب و أصحّ» ، سنن النسائي 26/1 ، سنن ابن ماجة 112/1 ح 307 ، السنن الكبری - للبيهقي - 120/1.
2- المستدرك على الصحيحين 1 / 181 [ 1 / 290 ح 644 ]. منه قدس سره .
3- مصابيح السنّة 1 / 200 ح 255 ، وانظر : سنن الترمذي 1 / 17 ح 12 ، سنن ابن ماجة 1 / 112 ح 308 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 1 / 102.

كيف؟! وقد روى مسلم في آخر كتاب الطهارة : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرّ بقبرين ، فقال : أما إنّهما يعذّبان وما يعذّبان في كبير ، أمّا أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وكان الآخر لا يستنزه عن البول » (1)

ونحوه في موارد كثيرة من صحيح البخاري (2).

ونقل البغوي في باب أدب الخلاء من الحسان : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أراد أن يبول ، فأتى دمثا (3) في أصل جدار فبال ، ثمّ قال : إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله » (4)

فمع هذه الأخبار ، وأضعافها من أخبارنا (5) ، كيف نصدّقهم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه بال قائما؟! ولا سيّما مع دعوى طلب دنوّ حذيفة منه ، وهو مناف للحياء وسنّته ، فإنّه كان يبعد المذهب ، ولم ير على بول أو غائط.

ودعوى التشريع واضحة البطلان ، إذ ليس لإباحة البول قائما بقرب الناس من الأهمّية ما يحتاج إلى التشريع بالفعل ، وقد كان التشريع بالقول ممكنا ، وأظهر بيانا!

ص: 134


1- صحيح مسلم 1 / 166.
2- صحيح البخاري 1 / 107 ح 79 وص 108 ح 81 وج 8 / 31 ح 83 ، وانظر : سنن أبي داود 1 / 5 ح 20 ، سنن ابن ماجة 1 / 125 ح 349.
3- الدمث : المكان الليّن ذو رمل ، والأرض الليّنة السهلة الرّخوة ؛ انظر : الصحاح 1 / 282 ، لسان العرب 4 / 400 ، مادّة « دمث ».
4- مصابيح السنّة 1 / 194 ح 237 ، وانظر : سنن أبي داود 1 / 1 ح 3 ، مسند أحمد 4 / 396 و 414.
5- انظر مثلا : كتاب من لا يحضره الفقيه 1 / 16 ح 36 وج 2 / 195 ح 884 ، تهذيب الأحكام 1 / 33 ح 87 ، وراجع : تفصيل وسائل الشيعة 1 / 305 - 306 ح 800 - 804 وص 338 - 340 ح 889 - 895.

وليس البول قائما في الجواز إلّا كالتغوّط قائما ، وإرسال الريح جالسا بين الناس ، فهل ترى يحسن فعلهما للتشريع؟!

وأمّا قوله : « وأيّ منقصة تتصوّر من البول قائما؟! » ..

فمن مكابرة الضرورة ، ولكن يحقّ له نفي المنقصة ، فقد كان إمامهم عمر يفعل ذلك كما عرفت ، وكذلك ابنه عبد اللّه!

روى مالك في موطّئه تحت عنوان : « ما جاء في البول قائما » ، عن عبد اللّه بن دينار ، قال : « رأيت عبد اللّه بن عمر يبول قائما » (1).

وعن النووي : « إنّ عمر كان يقول : البول قائما أحصن للدبر » (2).

ولعلّه لهذه الحكمة كان يفعله ويفعله أصحابه!

وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة تجويز الخطأ والغلط افتراء عليهم ؛ فمكابرة ظاهرة ؛ لأنّه بنفسه في ما سبق ذكر الخلاف بينهم في عصمة الأنبياء عن الكذب سهوا في ما يبلّغونه عن اللّه تعالى (3) ، فإذا جاز الخطأ في التبليغ ، ففي العمل أولى ..

ولذا أجازوا سهو النبيّ في الصلاة ، فكما يجوز أن يصلّي الظهر ركعتين سهوا وخطأ ، فليجز أن يخطأ في مسح الخفّ والمطلوب المسح على الرجل.

وأمّا إنكاره لتجويز سرقة الدرهم على الأنبياء ؛ فمبنيّ على أنّها من

ص: 135


1- الموطّأ : 58 ح 115.
2- شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 135 ح 273 ، وانظر : كنز العمّال 9 / 520 ح 27244.
3- انظر الصفحة 20 وما بعدها من هذا الجزء.

الصغائر الدالّة على الخسّة ، وهو من محدثات بعض المتأخّرين منهم ، كصاحب « المواقف » (1) ، وقد ذهبوا إليه - مع مخالفته لقواعدهم - فرارا من بعض الشناعات!

* * *

ص: 136


1- المواقف : 359.

تتمّة : الأحاديث الموضوعة في توهين الأنبياء والخالق

اشارة

تشتمل على أخبار لهم معتبرة عندهم ، نسبوا فيها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى ما لا يليق! ..

[ 1 - حديث بدء الوحي ]

فمنها : ما رواه البخاري في أوّل صحيحه ، ومسلم في باب بدء الوحي من كتاب الإيمان ، عن عائشة ، قالت في أثناء حديثها :

« حتّى فاجأه الوحي وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : إقرأ!

قال : ما أنا بقارئ.

قال : فأخذني فغطّني (1) حتّى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : إقرأ!

فقلت : ما أنا بقارئ.

فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : إقرأ!

فقلت : ما أنا بقارئ.

فأخذني فغطّني الثالثة ، ثمّ أرسلني فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) (2).

ص: 137


1- الغطّ : العصر الشديد والكبس ؛ انظر : لسان العرب 10 / 88 مادّة « غطط ».
2- سورة العلق 96 : 1 - 3.

فرجع بها رسول اللّه يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة ، فقال : زمّلوني زمّلوني (1) ، فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي.

فقالت خديجة : كلّا! ما يخزيك اللّه أبدا ، إنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ.

فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ، ابن عمّ خديجة ، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، وكان شيخا كبيرا قد عمي.

فقالت له خديجة : يا بن عمّ! اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة : يا بن أخي! ماذا ترى؟

فأخبره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر ما رأى.

فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزّل اللّه على موسى » (2) .. الحديث.

ورواه البخاري أيضا في باب التعبير بعد أبواب كتاب الحيل ، وزاد فيه قوله :

« وفتر الوحي فترة حتّى حزن النبيّ صلی اللّه علیه و آله - في ما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلّما أوفى بذروة جبل

ص: 138


1- تزمّل فلان : إذا تلفّف بثيابه وتدثّر ؛ انظر : لسان العرب 6 / 83 مادّة « زمل ».
2- صحيح البخاري 1 / 4 - 5 ح 3 وج 6 / 300 - 302 ح 450 ، صحيح مسلم 1 / 97 - 98 ، وانظر : المصنّف - لعبد الرزّاق - 5 / 321 - 323 ح 9719 ، مسند أبي عوانة 1 / 102 ح 328 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 7 / 51 وج 9 / 6 ، مصابيح السنّة 4 / 63 - 66 ح 4556.

لكي يلقي منه نفسه تبدّى له جبرئيل فقال : يا محمّد! إنّك رسول اللّه حقّا ؛ فيسكن لذلك جأشه ، وتقرّ نفسه.

فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرئيل فقال له مثل ذلك » (1).

ورواه أحمد في ( مسنده ) في مقامات عديدة ، وفي بعضها أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لخديجة : « خشيت أن يكون بي جنن » (2).

وروى ابن الأثير في ( كامله ) نحو ما سبق (3) ، وزاد فيه :

« وقالت خديجة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيما تثبّته في ما أكرمه اللّه به من نبوّته : يا بن عمّ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟

قال : نعم.

فجاءه جبرئيل ، فأعلمها ، فقالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى.

فقام فجلس عليها ، فقالت : هل تراه؟

قال : نعم.

قالت : فتحوّل فاقعد على فخذي اليمنى.

فجلس عليها ، فقالت : هل تراه؟

قال : نعم.

فتحسّرت ، فألقت خمارها ورسول اللّه في حجرها ، ثمّ قالت : هل تراه؟

ص: 139


1- صحيح البخاري 9 / 54 ح 1.
2- مسند أحمد 1 / 312 وج 6 / 223 و 232 - 233.
3- الكامل في التاريخ 2 / 21 [ 1 / 576 ]. منه قدس سره .

قال : لا.

قالت : يا بن عمّ! اثبت وأبشر ، فو اللّه إنّه ملك وما هو بشيطان ».

ورواه الطبري أيضا في تاريخه مع هذر كثير (1).

ورواه في « الاستيعاب » بترجمة خديجة (2).

وهذا الحديث أحقّ بأن يجعل مسخرة للناظرين لا رواية للراوين! وذلك لأمور :

الأوّل : إنّه كيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرارا : « ما أنا بقارئ » ويتحمّل المشاقّ ، ولم يسأل جبرئيل عمّا يراد قراءته؟! وهل هو من كتاب أو غيره؟! فلعلّ له بأحد الوجوه علما أو عذرا!

ثمّ كيف يجوز لجبرئيل إيذاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله وترويعه وهو يراه عاجزا عن إتيان ما أمره به ، فهل جاء معنّفا أو معلّما؟!

وليت شعري ما لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يستسلم بين يديه مرارا ويرجف فؤاده؟! ألم تكن له عند القوم شجاعة موسى فيلطم جبرئيل كما لطم موسى ملك الموت؟!

الثاني : إنّه لا يمكن أن يجهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه رسول اللّه وقد علم برسالته قبل وقتها الكهّان والرهبان ، ولو جهل بها لكان غيره أولى بالجهل بها في تلك الحال ، فيلغو فيها إرساله.

أيجوز أن يبعث اللّه من لا يدري برسالة نفسه ولا يعلم ما هو؟! وهو سبحانه قد بعث عيسى وهو في المهد وعرّفه أنّه نبيّه وأنطقه برسالته!

ص: 140


1- تاريخ الطبري 1 / 533.
2- الاستيعاب 4 / 1820 رقم 3311.

ولا أدري أيّ نبوّة لمن يخشى على نفسه من رسول اللّه إليه؟! ..

وأيّ رسالة لمن يحقّقها بقول نصراني ، ويتعرّفها بقول امرأة ، حتّى تثبّته عليها بذلك الطريق الوحشي؟!

ولعمري إنّ امرأة تثبّت نبيّا نبوّته وتعلّمه بها لأحقّ منه بالنبوّة! وعلى ذلك يكون ورقة وخديجة أوّل الناس إسلاما والسابقين فيه حتّى على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهذا بالخرافات والكفر أشبه!

الثالث : إنّه كيف يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلقاء نفسه من شواهق الجبال وهو فعل من لا عقل له ، وقد حرّمه الشرع كتابا وسنّة! حتّى روى أحمد (1) ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يردى في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها ».

فيا حسرة لسيّد النبيّين صلی اللّه علیه و آله ! ويا أسفا على شأنه من شانئيه! مرّة ينسبونه إلى الهجر في القول ، ومرّة إلى الهجر في العمل ، لعمر اللّه لقد فضحنا هؤلاء المتّسمون بالمسلمين عند الملل الخارجة!

فيا هل ترى إذا جاء الرجل منهم وفتح أصحّ كتاب بعد كتاب اللّه بزعم جمهور من يدّعي الإسلام ، ونظر إلى أوّل صفحة منه ، ورأى فيها هذه الخرافة والشناعة ، كيف يقع في ذهنه الإسلام؟! وفي أيّ محلّ يجعل النبيّ الأطيب من الصدق والمعرفة والعقل؟!

وممّا يكذّب هذا الحديث ما رواه البخاري في تفسير سورة المدّثّر ، عن أبي سلمة ، قال : سألت جابر بن عبد اللّه : أيّ القرآن أنزل أوّل؟

فقال : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) (2).

ص: 141


1- مسند أحمد 2 / 254 و 435 و 478 و 488. منه قدس سره .
2- سورة المدّثّر 74 : 1.

فقلت : أنبئت أنّه : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (1).

فقال : لا أخبرك إلّا بما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ..

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كنت في حراء ، فلمّا قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي ، فنوديت ، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ، فأتيت خديجة فقلت : دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا ، وأنزل [ عليّ ] : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (2) (3).

فإنّه صريح في تكذيب الحديث السابق المبنيّ على أنّ أوّل آية نزلت قوله تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) وقد يقال : إنّ الحديثين متكاذبان فيلغيان ، وهما باللغو متشابهان!

[ 2 - حديث تأبير النخل ]

ومن الأخبار التي نسبوا الأنبياء فيها إلى ما لا يليق ، ما رواه مسلم في كتاب الفضائل ، في باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي (4).

ورواه أحمد (5) ، عن عائشة ، قالت : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سمع أصواتا

ص: 142


1- سورة العلق 96 : 1.
2- سورة المدّثّر 74 : 1 - 3.
3- صحيح البخاري 6 / 283 ح 417 ، وانظر : صحيح مسلم 1 / 99 ، مسند أحمد 3 / 306 و 392.
4- صحيح مسلم 7 / 95.
5- مسند أحمد 6 / 123. منه قدس سره . وأنظر : سنن ابن ماجة 825/2 ح 2471.

فقال : ما هذه الأصوات؟!

قالوا : النخل يؤبّرونه (1).

فقال : لو لم يفعلوا لصلح - وفي رواية : كان خيرا -!

فلم يؤبّروا عامئذ ، فصار شيصا (2) ، فذكروا ذلك للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال : إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به ، وإذا كان شيئا من أمر دينكم فإليّ ».

فليت شعري كيف لا يعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ النخل لا يصلح بغير تأبير وهو في محلّ النخل فعلا ، وفي قربه سابقا ، وقد قارب عمره الستّين أو تجاوز؟!.

ولو فرض أنّه لا يعلم ، كيف يقول : « لو لم يؤبّروا لصلح - أو : كان خيرا - »؟! فيكذب - حاشاه - من غير رويّة ، ويرسل من غير سدد!

وهل يوثق به بعد هذا أو يسترشد برأيه في الأمور العامة ومصادر الزعامة؟!

ولو نسب هذا إلى أحد لكان مسخرة لمن سمع ، وأعجوبة لمن عقل ، فكيف ينسب إلى سيّد النبيّين ، العالم بأسرار الأشياء ، المعلّم من ربّ الأرض والسماء ، الذي لا ينطق إلّا عن وحي ، ولم يعط مثله أحد جوامع الكلم؟!

ص: 143


1- أبر وأبّر النخل : لقّحه ، ونخلة مؤبّرة ومأبورة ؛ انظر : لسان العرب 1 / 42 مادّة « أبر ».
2- الشّيص : رديء التمر ، والتمر الذي لا يشتدّ نواه ويقوى وقد لا يكون له نوى أصلا ، وإنما يشيّص إذا لم يلقح ؛ انظر : لسان العرب 7 / 256 مادّة « شيص ».

[ 3 - حديث إسقاط النبيّ صلی اللّه علیه و آله آيات من القرآن ]

ومنها : ما رواه البخاري في كتاب الدعوات ، في باب قول اللّه تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ... ) (1) ، عن عائشة ، قالت : « سمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجلا يقرأ في المسجد ، فقال : رحمه اللّه! لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها في سورة كذا وكذا » (2).

ورواه مسلم بهذا اللفظ ، وبلفظ « أنسيتها » بدل « أسقطتها » في باب الأمر بتعهّد القرآن ، من أبواب فضائل القرآن (3).

ورواه أبو داود ، في أوّل كتاب الحروف والقراءة ، من سننه ، عن عائشة أيضا ، بلفظ : « كأيّن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها » (4).

وهذا من أكذب الأحاديث ؛ لقوله سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) (5) ، ولأنّه أبلغ الأمور نقصا بالنبيّ ؛ لأنّ من ينسى ما أرسل به ، وما هو معجزة له ، لم يكن محلّ الوثوق والاعتماد في التبليغ ، فلا يصلح للرسالة.

ص: 144


1- سورة التوبة 9 : 103.
2- صحيح البخاري 8 / 132 ح 31 ، وانظر : ج 3 / 339 ح 21 وج 6 / 334 ح 63 ، مسند أحمد 6 / 62 و 138 ، مسند أبي عوانة 2 / 459 ح 3828 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 3 / 12 ، الجمع بين الصحيحين 4 / 98 ح 3212 ، شرح السنّة 3 / 272.
3- صحيح مسلم 2 / 190 ، وانظر : صحيح البخاري 6 / 332 - 333 ح 57 - 59 ، مسند أبي عوانة 2 / 459 ح 3827.
4- سنن أبي داود 4 / 30 ح 3970 ، وانظر : ج 2 / 38 ح 1331 ، مصنّف عبد الرزّاق 3 / 361 ح 5975 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 3 / 12.
5- سورة الأعلى 87 : 6.

وروى مسلم في الباب المذكور ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : بئسما لأحدهم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت ؛ وقال : بئسما للرجل أن يقول :

نسيت سورة كيت وكيت ، وأنسيت آية كيت وكيت (1).

فكيف يذمّ غيره على ذلك وهو يتّصف به؟!

[ 4 - حديث نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح ]

ومنها : ما رواه مسلم في باب قضاء الصلاة ، آخر كتاب المساجد ، من الأخبار الكثيرة المتضمّنة لنوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح حتّى أيقظه وأصحابه حرّ الشمس ، وفي بعضها كان أبو بكر أوّل من استيقظ ، ثمّ استيقظ عمر ، فقام عند نبيّ اللّه فجعل يكبّر ويرفع صوته بالتكبير حتّى استيقظ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2)!

وروى البخاري نحو ذلك في كتاب التيمّم ، في باب الصعيد الطيّب وضوء المسلم ، وفي كتاب الصلاة ، في باب الأذان بعد ذهاب الوقت (3).

فما أدري أأصدّق نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن عبادة ربّه الواجبة ، وقد كان

ص: 145


1- صحيح مسلم 2 / 191 ، وانظر : صحيح البخاري 6 / 331 ح 51 وص 333 ح 60 ، سنن الترمذي 5 / 177 ح 2942 ، سنن النسائي 2 / 154 - 155 ، سنن الدارمي 2 / 297 ح 3342 ، مسند أحمد 1 / 417 و 423 و 429 و 438 و 449 و 463 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 2 / 70 ح 759 و 760 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 395 ، شرح السنّة 3 / 271 ح 1222.
2- صحيح مسلم 2 / 138 - 142.
3- صحيح البخاري 1 / 152 ح 10 وص 244 ح 71 ، وانظر : سنن أبي داود 1 / 116 - 117 ح 435 - 437 ، سنن ابن ماجة 1 / 227 - 228 ح 697 ، سنن النسائي 1 / 297 - 299 ، مسند أحمد 4 / 434 و 441 ، صحيح ابن خزيمة 2 / 94 ح 987 ، مسند أبي عوانة 1 / 563 - 566 ح 2098 - 2101.

تنام عيناه ولا ينام قلبه؟! أم أصدّق ثقل نومه حتّى يحتاج إلى أن يرفع عمر صوته بالتكبير عنده؟! أم أصدّق نوم الجيش كلّه بلا حارس ، وهو ممّا لم يتّفق؟!!

وروى البخاري في أثناء أبواب التقصير ، في باب إذا نام ولم يصلّ بال الشيطان في أذنه ، وفي كتاب بدء الخلق ، في باب صفة إبليس وجنوده ، أنّه ذكر عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجل نام ليله حتّى أصبح ، فقال : « ذلك رجل بال الشيطان في أذنه » (1).

ورواه مسلم في باب الحثّ على صلاة الوقت ، من كتاب صلاة المسافرين (2).

فهل يجوز عند القوم أن يفعل الشيطان ذلك بنبيّهم؟! قبّح اللّه آراءهم!

[ 5 - حديث ترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله صلاة العصر ]

ومنها : ما رواه البخاري في بابين من أواخر كتاب المواقيت ، وفي باب قول الرجل : ما صلّينا ، من كتاب الأذان ، وفي أواخر كتاب الجمعة :

« إنّ عمر بن الخطّاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسبّ كفّار قريش ، قال : يا رسول اللّه! ما كدت أصلّي العصر حتّى كادت الشمس تغرب.

ص: 146


1- صحيح البخاري 2 / 121 ح 174 وج 4 / 249 ح 79.
2- صحيح مسلم 2 / 187 ، وانظر ، سنن النسائي 3 / 204 ، سنن ابن ماجة 1 / 422 ح 1330 ، مسند أحمد 1 / 375 و 427 وج 2 / 260 و 427 ، مصنّف ابن أبي شيبة 2 / 173 ب 100 ح 7 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 3 / 15.

قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ما صلّيتها!

فقمنا إلى ضجنان (1) فتوضّأ للصلاة وتوضّأنا لها ، فصلّى العصر بعد ما غربت ، ثمّ صلّى بعدها المغرب » (2).

ورواه مسلم في باب الدليل لمن قال : الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، من كتاب المساجد (3).

وهذا الحديث أسوأ من الحديث الذي قبله ؛ لأنّ ترك الصلاة في اليقظة أعظم من تركها للنوم!

فلو فرض صدق هذا الخبر كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله مصداقا لقوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) (4)! ..

وكذلك المسلمون جميعا سوى عمر! وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله مخالفا لأمر اللّه بالسبق إلى الخيرات والمسارعة إلى المغفرة ، ولما حثّ عليه هو بنفسه من الصلاة في أوّل وقتها!

ص: 147


1- كذا في الأصل ، والظاهر أنّه تصحيف ، والصواب كما في المصدر وفتح الباري 2 / 87 - 88 ح 596 : « بطحان » ؛ إذ إنّ وقعة الخندق كانت في المدينة ، وبطحان - أو : بطحان - : واد في المدينة ، وهو أحد أوديتها الثلاثة ، وهي : العقيق وبطحان وقناة ؛ انظر : معجم البلدان 1 / 529 رقم 1966. أمّا ضجنان : فهو جبل بناحية تهامة ، وقيل : جُبيل علی بريدة من مكة ، وقيل : بينة وبين مكة 25 ميلاً ، وقيل غير ذلك ؛ أنظر : معجم البلدان 514/3 رقم 7739.
2- صحيح البخاري 1 / 245 ح 72 وص 261 ح 37 وج 2 / 52 ح 68 وج 5 / 241 ح 148.
3- صحيح مسلم 2 / 113 ، وانظر : سنن الترمذي 1 / 338 ح 180 ، سنن النسائي 3 / 84 - 85 ، صحيح ابن خزيمة 2 / 98 ح 995 ، السنن الكبرى - للبيهقي 2 / 219 ، شرح السنّة 2 / 51 ح 396.
4- سورة الماعون 107 : 4 و 5.

وليت شعري كيف نسيها يوم الخندق ولا حرب ، وهو لم ينسها في سائر المشاهد عند تقابل الصفوف وتلاقي السيوف؟!

ولا أدري كيف عمّ النسيان المسلمين جميعا غير عمر؟!

فلا ريب أنّ استثناء عمر هو الداعي لوضع هذا الحديث وتوهين مقام الرسالة .. كما أنّ ذكره وذكر صاحبه بطرف فضيلة هو الداعي لوضع الحديث الذي قبله.

[ 6 - حديث إذا لعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أحدا فهو له زكاة ]

ومنها : ما رواه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، في باب من لعنه النبيّ أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا ورحمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ إنّما أنا بشر ، فأيّما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته ، فاجعلها له زكاة ورحمة » (1).

وفي رواية : « اللّهمّ إنّما محمّد بشر يغضب كما يغضب البشر » (2).

وروى نحو ذلك عن عائشة وغيرها (3).

وكذا رواه البخاري في باب قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من آذيته فاجعل ذلك له قربة إليك » ، من كتاب الدعوات (4).

ص: 148


1- صحيح مسلم 8 / 25.
2- صحيح مسلم 8 / 26.
3- صحيح مسلم 8 / 24.
4- صحيح البخاري 8 / 139 ح 54.

وأخرجه أحمد (1).

وهو كذب صريح ، ونقص في النبيّ صلی اللّه علیه و آله كبير ؛ لأنّه مستلزم - وحاشا النبيّ - لفسقه ، لما رواه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (2)

وكيف يلعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مسلما وهو يقول : « لعن المؤمن كقتله » كما رواه مسلم في باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ، من كتاب الإيمان (3)

ويقول : « لا يكون اللعّانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة » ..

ويقول : « لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّانا » ..

كما رواهما مسلم ، في باب النهي عن لعن الدوابّ ، من كتاب البرّ والصلة (4)

ص: 149


1- مسند أحمد 2 / 243. منه قدس سره .
2- صحيح البخاري 1 / 33 ح 47 وج 8 / 27 ح 72 وج 9 / 90 ح 25 ، صحيح مسلم 1 / 58 ، وانظر : سنن الترمذي 4 / 311 ح 1983 وج 5 / 22 ح 2635 ، سنن النسائي 7 / 121 ، سنن ابن ماجة 1 / 27 ح 69 وج 2 / 1299 - 1300 ح 3939 - 3941 ، مسند أحمد 1 / 176 و 178 و 385 و 411 و 433 و 439 و 454.
3- صحيح مسلم 1 / 73 ، وانظر : صحيح البخاري 8 / 27 - 28 ح 75 ، مسند أحمد 4 / 33 ، المعجم الكبير 2 / 72 ح 1326 ، مسند أبي عوانة 1 / 50 ح 129.
4- صحيح مسلم 8 / 23 - 24 ، وانظر : سنن الترمذي 4 / 326 ح 2019 ، سنن أبي داود 4 / 279 ح 4907 ، مسند أحمد 2 / 337 و 366 وج 6 / 448 ، الأدب المفرد : 100 ح 319 و 320 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 111 ح 149 ، حلية الأولياء 3 / 259 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 10 / 193 ، شرح السنّة 7 / 365 ح 3554.

وروى مسلم في هذا الباب ، عن أبي هريرة : « أنّه قيل : يا رسول اللّه! ادع على المشركين؟ قال : إنّي لم أبعث لعّانا ، وإنّما بعثت رحمة » (1)

وروى فيه أيضا : « أنّه سمع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض أسفاره امرأة لعنت ناقتها ، فقال : خذوا ما عليها ودعوها ، فإنّها ملعونة (2).

وفي رواية : « لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة » (3)

مع أنّ ذلك ليس من أخلاقه صلی اللّه علیه و آله ، فقد كان كما وصفه اللّه تعالى : ( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (4) ، فكيف يكون سيّئ الخلق لعّانا؟!

وروى البخاري في كتاب الآداب ، في باب لم يكن النبيّ فاحشا ولا متفحّشا ، عن أنس ، قال : « لم يكن [ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ] سبّابا ، ولا فحّاشا ، ولا لعّانا ، كان يقول لأحدنا عند المعتبة ما له ترب جبينه » (5)

وروى في الباب عن عائشة : « أنّ يهودا أتوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقالوا : السام عليكم.

ص: 150


1- صحيح مسلم 8 / 24 ، وانظر : الأدب المفرد 101 ب 149 ح 324 ، مسند أبي يعلى 11 / 35 ح 6174 ، مصابيح السنّة 4 / 56 ح 4531.
2- صحيح مسلم 8 / 23 ، وانظر : سنن أبي داود 3 / 26 ح 2561 ، سنن الدارمي 2 / 199 ح 2673 ، مسند أحمد 4 / 429 و 431 ، المعجم الكبير 18 / 190 ح 452 ، مصنّف ابن أبي شيبة 6 / 162 ب 97 ح 1.
3- صحيح مسلم 8 / 23 ، وانظر : مسند أحمد 4 / 420 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 5 / 254.
4- سورة القلم 68 : 4.
5- صحيح البخاري 8 / 23 ح 59 وص 27 ح 74 ، وانظر : الأدب المفرد : 127 ح 435 ، مسند أحمد 3 / 126 و 144 و 158 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 10 / 193.

فقالت عائشة : عليكم ، ولعنة اللّه وغضب اللّه عليكم.

قال : مهلا يا عائشة! عليك بالرفق ، وإيّاك والعنف والفحش » (1) .. الحديث

فكيف يكون سبّابا للمؤمنين كأقلّ البشر؟!

أو كيف يجلد أحدا جورا وهو يقول : « المسلم من سلم الناس من يده ولسانه » كما في أوائل صحيح البخاري (2)؟!

نعم ، ربّما يلعن بعض المنافقين وفراعنة الأمّة ، الّذين ينزون على منبره نزو القردة (3) ؛ لكشف حقائقهم ، إذ يعلم بابتلاء الأمّة بهم ، كبني أميّة ، الشجرة الملعونة في القرآن (4) ، لكنّ أتباعهم

ص: 151


1- صحيح البخاري 8 / 22 ح 58 ، وانظر : ج 4 / 117 ح 146 وج 8 / 21 ح 53 وص 103 ح 29 ، صحيح مسلم 7 / 4 - 5 ، سنن الترمذي 5 / 57 - 58 ح 2701 ، مسند أحمد 6 / 37 و 134 - 135 و 199 ، مسند أبي يعلى 7 / 394 ح 4421.
2- صحيح البخاري 1 / 16 ح 9 ، وانظر : ج 8 / 183 ح 71 ، صحيح مسلم 1 / 48 ، سنن أبي داود 3 / 4 ح 2481 ، سنن الترمذي 5 / 18 ح 2627 ، سنن النسائي 8 / 105 و 107 ، سنن الدارمي 2 / 207 ح 2712 ، مسند أحمد 2 / 163 و 192 و 205 و 209.
3- إشارة إلى ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه رأى في المنام أنّ بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة ؛ انظر : مسند أبي يعلى 11 / 348 ح 6461 ، تفسير الطبري 8 / 103 ح 22433 ، المستدرك على الصحيحين 4 / 527 ح 8481 وصحّحه على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي في « التلخيص » على شرط مسلم ، دلائل النبوّة - للبيهقي - 6 / 511 ، تاريخ بغداد 9 / 44 ، تفسير القرطبي 10 / 183 - 184 ، مجمع الزوائد 5 / 243 - 244 وقال : « رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح غير مصعب بن عبد اللّه بن الزبير وهو ثقة » ، الدرّ المنثور 5 / 309 - 310 ، كنز العمّال 11 / 167 ح 31064 وص 358 ح 31736.
4- تقدّم تخريج ذلك عن أمّهات مصادر القوم في ج 1 / 168 ه 4 ، فراجع.

وضعوا الحديث الذي صيّروا فيه اللعنة زكاة ليعمّوا على الناس أمرهم ، ويجعلوا لعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لهم لغوا ، ودعاءه على معاوية بأن « لا يشبع اللّه بطنه » (1)باطلا ، فجزاهم اللّه تعالى عن نبيّهم ما يحقّ بشأنهم!

[ 7 - حديث نفي النبيّ صلی اللّه علیه و آله عذاب القبر ]

ومنها : ما رواه أحمد (2) ، عن عائشة ، أنّ يهودية قالت لها : « وقاك اللّه عذاب القبر.

قالت : فدخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّ ، فقلت : هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟

قال : لا ، وعمّ ذلك؟!

قالت : هذه يهودية قالت : وقاك اللّه عذاب القبر.

قال : كذبت يهود ، وهم على اللّه أكذب ، لا عذاب دون يوم القيامة.

ثمّ مكث بعد ذلك ما شاء اللّه أن يمكث ، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه ، محمرّة عيناه ، وهو ينادي بأعلى صوته : أيّها الناس! ستعيذوا باللّه من عذاب القبر ، فإنّ عذاب القبر حقّ ».

وروى أيضا عن عائشة (3) ، قالت : « سألتها امرأة يهودية فأعطتها ، فقالت لها : أعاذك اللّه من عذاب القبر ؛ فأنكرت عائشة ذلك ، فلمّا رأت النبيّ صلی اللّه علیه و آله قالت له ، فقال : لا.

ص: 152


1- انظر : أنساب الأشراف 5 / 133 - 134 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 2 / 135 ح 1240 ؛ وراجع ج 1 / 10 - 11 ه 1 فقد فصّلنا تخريج الحديث هناك.
2- مسند أحمد 6 / 81. منه قدس سره .
3- مسند أحمد 6 / 238. منه قدس سره .

قالت عائشة : ثمّ قال لنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد ذلك : إنّه أوحي إليّ أنّكم تفتنون في قبوركم ».

فهذا الحديث لو صدق لا قتضى أن يكون نفي النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعذاب القبر كذبا وقولا بغير علم! بل تقوّلا على اللّه تعالى ؛ لأنّه يخبر بما هو نبيّ ، واللّه سبحانه يقول : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1).

واقتضى أن يكون قوله : « كذبت يهود » ظلما لهم وحيفا عليهم ، حمله عليه الهوى ، واللّه سبحانه يقول : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (2).

فكيف جاز لهؤلاء القوم أن ينسبوا ذلك إلى سيّد النبيّين؟!

[ 8 - حديث حبّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعائشة ]

ومنها : ما رواه أحمد (3) ، عن عائشة ، قالت : « أرسلت أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة [ بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ] فاستأذنت والنبيّ مع عائشة في مرطها (4) ، فأذن لها ، فدخلت عليه فقالت : يا رسول اللّه! إنّ أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة.

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : أي بنيّة! ألست تحبّين ما أحبّ؟!

ص: 153


1- سورة الحاقّة 69 : 44 - 46.
2- سورة النجم 53 : 3 و 4.
3- مسند أحمد 6 / 88. منه قدس سره .
4- المرط ، وجمعه مروط : كساء من خزّ أو صوف أو كتّان ؛ انظر : لسان العرب 13 / 83 مادّة « مرط ».

فقالت : بلى.

فقال : أحبّي هذه لعائشة.

فقامت فاطمة وخرجت ، فجاءت أزواج النبيّ فحدّثتهنّ بما قالت وبما قال لها ..

فقلن لها : ما أغنيت عنّا من شيء ، فارجعي إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فقالت فاطمة : واللّه لا أكلّمه فيها أبدا.

فأرسل أزواج النبيّ زينب بنت جحش ، فاستأذنت ، فأذن لها ، فدخلت فقالت : يا رسول اللّه! أرسلنني إليك أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة.

قالت [ عائشة ] : ثمّ وقعت بي زينب » .. الحديث.

وروى أيضا نحوه (1).

ورواه مسلم في باب فضل عائشة (2).

وهو دالّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يعدل بين أزواجه ، وكان يقدّم عائشة عليهنّ حبّا لها ، وهو خلاف ما أمر اللّه تعالى به ، مع أنّه

قد روى أحمد (3) ، عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى ، جاء يوم القيامة وأحد شقّيه ساقط ».

ومثله في مسند أحمد (4).

ونحوه في سنن أبي داود ، في باب القسم بين النساء ، من كتاب

ص: 154


1- مسند أحمد 6 / 150. منه قدس سره .
2- صحيح مسلم 7 / 135 ، وانظر : صحيح البخاري 3 / 310 ح 16 ، سنن النسائي 7 / 65 - 67.
3- مسند أحمد 2 / 347. منه قدس سره .
4- مسند أحمد 2 / 471. منه قدس سره .

النكاح (1)

وروى البغوي في باب القسم ، من كتاب النكاح ، من ( مصابيحه ) ، من الحسان : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما ، جاء يوم القيامة وشقّه ساقط » (2)

وليت شعري إذا عجز عدل رسول اللّه عن المساواة بين أزواجه اتّباعا لهواه في عائشة ، فكيف يعدل بين الناس والدواعي لخلاف العدل فيهم أكثر وأعظم؟!

وما باله لم يتّبع أمر اللّه تعالى - حاشاه - إذ يقول : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) (3) ، فلا يتزوّج غير عائشة ، أو يطلّق من عداها ويقيم معها في مرطها؟!

ولست أعجب من عائشة في رواية مثل ذلك ، وهي لا تبالي بنقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله لإظهار حبّه لها! ولكنّ العجب ممّن يروي عنها ذلك ونحوه ولا يرعى حرمة سيّد الرسل!!

فكم رووا عنها من خرافات كثيرة متشدّقين بها ، مثل ما رواه أحمد (4) ، عن عائشة ، قالت : « كانت عندنا أمّ سلمة ، فجاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله

ص: 155


1- سنن أبي داود 2 / 249 ح 2133.
2- مصابيح السنّة 2 / 441 ح 2414 ، وانظر : سنن الترمذي 3 / 447 ح 1141 ، سنن النسائي 7 / 63 ، سنن ابن ماجة 1 / 633 ح 1969 ، سنن الدارمي 2 / 100 ح 2202 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 6 / 204 ح 4194 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 7 / 297.
3- سورة النساء 4 : 3.
4- مسند أحمد 6 / 130. منه قدس سره . وأنظر : سنن أبي داود 276/4 ح 4898 وفيه : «زينب بنت جحش» بدل «أم سلمة».

عند جنح الليل ، قالت : فذكرت شيئا صنعه بيده ، وجعل لا يفطن لأمّ سلمة ، وجعلت أومئ إليه حتّى فطن ..

قالت أمّ سلمة : أهكذا [ الآن ]؟! أما كانت واحدة منّا عندك إلّا في خلابة (1) كما أرى ، - وسبّت عائشة -!

وجعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ينهاها فتأبى ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : سبّيها! فسببتها [ حتّى غلبتها ].

فانطلقت أمّ سلمة إلى عليّ وفاطمة ، فقالت : إنّ عائشة سبّتها ، وقالت لكم وقالت لكم.

فقال عليّ لفاطمة : إذهبي فقولي : إنّ عائشة قالت لنا وقالت لنا.

[ فأتته ] فذكرت ذلك له ، فقال لها النبيّ صلی اللّه علیه و آله : إنّها حبّة (2) أبيك وربّ الكعبة.

فرجعت إلى عليّ فذكرت له الذي قال لها.

فقال : أما كفاك إلّا أن قالت لنا عائشة وقالت لنا حتّى أتتك فاطمة فقلت لها : إنّها حبّة أبيك وربّ الكعبة ».

فأنت ترى أنّ عائشة قد رمت أمّ سلمة الطاهرة بأنّها سبّتها ظلما ، ولم تنته بنهي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولم تراع حرمته ، وأنّها أرادت الفتنة بينها وبين أمير المؤمنين والزهراء علیهماالسلام ، وأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يجب بضعته إلّا بأنّ عائشة حبّته!

ص: 156


1- الخلابة : المخادعة ، وقيل : الخديعة باللسان ؛ انظر : لسان العرب 4 / 165 مادّة « خلب ».
2- الحبّ - والأنثى بالهاء - : الحبيب والمحبوب ؛ انظر : لسان العرب 3 / 7 - 8 مادّة « حبب ».

فإن كانت أمّ سلمة صادقة في ما نسبته إلى عائشة بالنسبة إلى أمير المؤمنين والزهراء ، فلم لم ينتصف من عائشة لأخيه وبضعته؟!

وإن كانت كاذبة ، فلم لم يطيّب قلبيهما بتكذيب أمّ سلمة؟!

فهل أغفله عشقه لعائشة عن ذلك كما أغفله عن العدل بين نسائه وطاعة اللّه تعالى ، وعن فعل ما لا يليق بشرفه وشأنه؟!

وليس هذا الخبر إلّا من وضع القصّاصين المخنّثين .. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وروى البخاري في باب قبول الهدية ، من كتاب الهبة ، عن عائشة :

« إنّ الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (1).

ورواه مسلم عن عائشة ، في باب فضلها (2).

وهو أشبه بالخرافات ، إذ كيف يجمل برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك الإنصاف بين أزواجه - تبعا لهواه - حتّى أظهره للناس وعرّفه العامّة فطلبوا مرضاته في مراعاة جانب عائشة؟! فأشبه العشّاق الوالهين لا رسل اللّه ربّ العالمين!!

فاللّه حسيب من ينسب إليه هذه الأباطيل الكاذبة!

وروى أحمد (3) ، عن عائشة : « قالت : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا كنّا بالحرّ انصرفنا وأنا على جمل ، وكان آخر العهد منهم وأنا أسمع صوت

ص: 157


1- صحيح البخاري 3 / 308 ح 9.
2- صحيح مسلم 7 / 135.
3- مسند أحمد 6 / 248. منه قدس سره . وأنظر : مجمع الزوائد 228/9 ، مسند عائشة : 268 ح 712.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو بين ظهري ذلك السمر وهو يقول : وا عروساه! » .. الحديث.

وروى عنها أيضا (1) ، قالت : « خرجت مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن ، فقال للناس : تقدّموا! فتقدّموا.

ثمّ قال لي : تعالي حتّى أسابقك ؛ فسابقته ، فسبقته.

فسكت عنّي حتّى إذا حملت اللحم وبدنت ، ونسيت ، خرجت معه في بعض أسفاره ، فقال للناس : تقدّموا! فتقدّموا.

ثمّ قال : تعالي أسابقك ؛ فسابقته ، فسبقني.

فجعل يضحك وهو يقول : هذه بتلك ».

فيا عجبا كيف يصنع رسول اللّه ذلك وهو الوقور الذي ضحكه التبسّم ، وهو الحييّ الذي كان أشد حياء من العذراء في خدرها؟!

فهلّا غلبه الحياء أو خاف أن يستخفّه الناس إذ يأمرهم بالتقدّم وهو أميرهم ، وينفرد بزوجته ، ثمّ يسابقها ولا يخشى من ناظر ينظر؟!

وأعظم من ذلك ما رواه أحمد عنها (2) ، قالت في حديث تزويجها بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ثمّ دخلت بي [ أمّي ] (3) فإذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس على

ص: 158


1- مسند أحمد 6 / 264. منه قدس سره . وأنظر : السنن الكبری - للنسائي - 303/5 - 305 ح 8942 - 8945 ، مصنّف ابن أبي شيبة 719/7 ب 169 ح 1 ، السنن الكبری -للبيهقي - 18/10.
2- مسند أحمد 6 / 211. منه قدس سره . وأنظر: مجمع الزوائد 225/9 - 227 عن الطبراني وأحمد ، أزواج النبي : 81 - 83 عن الطبراني وأحمد والبيهقي.
3- إضافة توضيحه منه قدس سره .

سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار ، فأجلستني في حجره ... فوثب الرجال والنساء [ فخرجوا ] وبنى بي » .. الحديث.

وهذا من أعجب الأحاديث وأفظعها! إذ كيف لا يستنكر النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا الفعل الخاسر الوحشي ولا تحمله الغيرة على إباء هذا الفعل الشنيع؟!

لعمر سيّد المرسلين لو كان له عند القوم حرمة وشأن لما استمعوا إلى عائشة في نقل هذه الأمور وتناقلتها أفواههم وأقلامهم!

ولا يسع المقام استيفاء هذه الكذبات والشناعات ، وربّما تسمع بعضها في ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

[ 9 - حديث فرار الحجر من النبيّ موسى علیه السلام ]

ومن أخبارهم التي ذكرت في الأنبياء ما لا يليق ، ما رواه البخاري في باب من اغتسل عريانا وحده ، من كتاب الغسل ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر (1).

فذهب مرّة يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فخرج موسى في أثره يقول : ثوبي يا حجر! ثوبي يا حجر! حتّى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى ، فقالوا : واللّه ما بموسى من بأس.

وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضربا!

ص: 159


1- الأدرة : نفخة في الخصية ، ويقال : رجل آدر ؛ انظر : لسان العرب 1 / 94 مادّة « أدر ».

فقال أبو هريرة : واللّه إنّه لندب بالحجر ستّة أو سبعة ضرب بالحجر » (1).

وروى نحوه أيضا في كتاب بدء الخلق ، بعد حديث الخضر مع موسى (2).

وروى نحوه مسلم ، في فضائل موسى ، وفي باب تحريم النظر إلى العورات ، وقال فيه : « حتّى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى » (3).

ولا أدري من أيّ شيء أعجب؟! ..

أمن هتك اللّه نبيّه المقرّب وإيذائه إيّاه لمجرّد دفع وهم الجاهلين في ما لا يضرّ؟!

أم من انحصار طرق التبرئة على اللّه بإخراجه إلى الملأ عاريا عاديا؟!

أم من خروج موسى لقومه بادي العورة وارتكابه الحرام؟!

أم من تأديبه لما لا يعقل؟!

أم من عدم تصوّر موسى علیه السلام أنّ عدو الحجر إنّما هو من أمر اللّه وفعله فلا يستحقّ الضرب؟!

انظر وتبصّر! ولا أعدّ هذه الخرافة من مختصّات أبي هريرة ، بل

ص: 160


1- صحيح البخاري 1 / 129 ح 30.
2- صحيح البخاري 4 / 305 ح 204.
3- صحيح مسلم 1 / 183 وج 7 / 99 ، وانظر : سنن الترمذي 5 / 335 ح 3221 ، السنن الكبرى - للنسائي - 6 / 437 ح 11424 ، مسند أحمد 2 / 315 ، تفسير الطبري 10 / 337 ح 28673 - 28675 ، تفسير البغوي 3 / 470 ، تفسير القرطبي 14 / 161.

يشاركه فيها كلّ راو لها ومصدّق بها!

[ 10 - حديث طواف النبيّ سليمان علیه السلام بمئة امرأة ]

ومنها : ما رواه البخاري في باب طلب الولد للجهاد ، من كتاب الجهاد والسير ، عن أبي هريرة ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : « قال سليمان ابن داود : لأطوفنّ الليلة على مئة امرأة أو تسع وتسعين ، كلّهنّ يأتي بفارس مجاهد في سبيل اللّه.

فقال له صاحبه : قل إن شاء اللّه.

فلم يقل ( إن شاء اللّه ) ، فلم يحمل منهنّ إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل » (1) .. الحديث.

وروى أيضا نحوه في آخر ورقة من كتاب النكاح (2).

وفي كتاب بدء الخلق ، في باب قول اللّه : ( وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (3) (4).

وفي كتاب الأيمان والنذور ، في باب الاستثناء في الأيمان (5).

وروى نحوه مسلم أيضا ، في باب الاستثناء ، من كتاب النذور (6).

ص: 161


1- صحيح البخاري 4 / 79 ح 35.
2- صحيح البخاري 7 / 69 ح 171.
3- سورة ص 38 : 30.
4- صحيح البخاري 4 / 314 ح 223.
5- صحيح البخاري 8 / 262 ح 13 ، وانظر : ج 9 / 247 ح 95.
6- صحيح مسلم 5 / 87.

وأحمد في مسنده (1).

وهو من أسخف الحكايات! فإنّ من يقول هذا القول ينبغي أن يكون قد اغترّ بكثرة الأولاد ، وأنّه ولد له قبل ذلك آلاف من البنين ، وهو غير واقع.

وكيف يحلف نبيّ اللّه على فعل اللّه وحده ، أو يتهاون بقول « إن شاء اللّه » ، لا سيّما بعد تنبيه صاحبه له ، المعبّر عنه بالملك في بعض هذه الأحاديث ، وهو من أعظم الدعاة إلى اللّه ، الموصوف في الكتاب العزيز : ب : ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ؟!

وكيف يستطيع بشر أن يواقع في ليلة واحدة مائة امرأة ، أو تسعا وتسعين ، أو تسعين ، أو سبعين ، على اختلاف أقوال أبي هريرة أو أشباهه من الرواة عنه؟!

[ 11 - حديث حرق نبيّ قرية للنمل ]

ومنها : ما رواه البخاري في أواخر كتاب الجهاد ، عن أبي هريرة ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : قرصت نملة نبيّا من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى اللّه إليه : أفي (2) إن قرصتك نملة أحرقت

ص: 162


1- مسند أحمد 2 / 229 و 275. منه قدس سره . وأنظر : سنن الترمذي 4 / 92 ح 1532 ، سنن النسائي 25/7 ، مسند أبي عوانة 52/4 - 53 ح 5999 - 6001 ، مشكل الآثار 2 / 258 ح 2058 ، حلية الأولياء 2/ 279 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 44/10 ، مصابيح السنة 27/4 ح 4448.
2- كذا في الأصل وصحيح مسلم ، وفي سنن أبي داود : « في » ، ولم ترد في صحيح البخاري.

أمّة من الأمم تسبّح اللّه؟! » (1).

ورواه ونحوه مسلم ، في باب النهي عن قتل النمل ، من كتاب قتل الحيّات (2).

ليت شعري كيف يصحّ أن ينسب مثل ذلك إلى نبيّ من الأنبياء؟!

.. إلى غير ذلك من أخبارهم المعتبرة عندهم التي نسبت الأنبياء إلى ما لا يليق!

وليتهم اكتفوا بها ولم يمسّوا قدس جلال اللّه تعالى بخرافاتهم ..

[ 12 - حديث وضع الربّ رجله في جهنّم ]

فمنها : ما رواه البخاري في تفسير سورة « ق » ، عن أبي هريرة :

« يقال لجهنّم : هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد ، فيضع الربّ تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط » (3).

وفي رواية أخرى : « فأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع رجله ، فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا » (4).

ص: 163


1- صحيح البخاري 4 / 148 ح 222.
2- صحيح مسلم 7 / 43 ، وانظر : سنن أبي داود 4 / 368 ح 5266 ، سنن النسائي 7 / 210 - 211 ، سنن ابن ماجة 2 / 1075 ح 3225 ، مسند أحمد 2 / 403 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 5 / 213.
3- صحيح البخاري 6 / 245 - 246 ح 343.
4- صحيح البخاري 6 / 246 ح 344.

وروى نحو ذلك ، عن أنس ، في كتاب التوحيد ، في باب قول اللّه تعالى ، وهو العزيز الحكيم : ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (1) ، قال : حتّى يضع فيها ربّ العالمين قدمه ، فيزوى بعضها إلى بعض ، ثمّ تقول : قد قد بعزّتك وكرمك » (2).

وكذا عن أبي هريرة ، في باب ما جاء في قول اللّه تعالى : ( إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (3) من الكتاب المذكور ، قال : « فتقول :

هل من مزيد ؛ ثلاثا ، حتّى يضع فيها قدمه فتمتلئ ، ويردّ بعضها إلى بعض وتقول : قط قط قط » (4).

وروى أيضا نحو ذلك عن أنس ، في باب الحلف بعزّة اللّه وصفاته ، من كتاب الأيمان والنذور ، وقال : « لا تزال تقول : هل من مزيد ، حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه ، فتقول : قط قط وعزّتك » (5).

وروى مسلم أخبارا كثيرة من هذا النحو ، في باب النار يدخلها الجبّارون والجنّة يدخلها الضعفاء ، من كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها (6).

ص: 164


1- سورة الصافّات 37 : 180.
2- صحيح البخاري 9 / 209 ح 13.
3- سورة الأعراف 7 : 56.
4- صحيح البخاري 9 / 239 - 240 ح 75.
5- صحيح البخاري 8 / 241 - 242 ح 37.
6- صحيح مسلم 8 / 151 - 152. وأنظر : سنن الترمذي 364/5 ح 3272 ، مسند أحمد 276/2 و 314 و 507 و ج 3 / 134 و 141 و 230 و 234 ، سنن الدارمي 2 / 233 ح 2844 ، السنة - لابن أبي عاصم - : 231 - 236 ح 525 - 535 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 97 - 98 ، الاسماء والصفات - للبيهقي - 2 / 84 - 86 .

وهي كما ترى كفر صريح ؛ لاقتضائها الجسمية والحلول بالمكان ، وفيها تكذيب لله سبحانه حيث يقول في سورة الأعراف : ( اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ) (1).

وقال تعالى في سورة ص : ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ ) (2).

وقال تعالى في سورة ألم السجدة : ( وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (3).

فإنّ هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّها تمتلئ بإبليس وأتباعه ، فكيف يقال : لا تمتلئ حتّى يضع قدمه؟!

ولعلّ الذي أوهم أبا هريرة وأنسا ، أو الرواة عنهما ، هو قوله تعالى :

( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) (4) ، حيث تخيّلوا منه أنّها لا تزال تقول : « هل من مزيد » ولم تمتلئ بالعصاة أصلا ، لا في حين سؤال اللّه تعالى لها عن امتلائها!

وغفلوا عن بقية الآيات المذكورة ، فأحدثوا رواية خيالية ، وكذبوا على حسب ما تقتضيه عقولهم ، وأخذ عنهم الخرافيّون والقصصيّون من دون معرفة أيضا.

ولا يخفى أن قول أبي هريرة : « ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا » (5) دالّ على أنّه سبحانه لو ألقى فيها أحد غير من فيها كان ظالما له ، وهو خلاف

ص: 165


1- سورة الأعراف 7 : 18. منه قدس سره .
2- سورة ص 38 : 85. منه قدس سره .
3- سورة السجدة 32 : 13. منه قدس سره .
4- سورة ق 50 : 30.
5- صحيح البخاري 6 / 246 ح 344 وج 9 / 239 - 240 ح 75.

مذهب الأشاعرة (1)!

كما لا يخفى سخافة هذا ؛ لأنّ معناه أنّ اللّه سبحانه يعذّب نفسه إجابة لطلب النار ولا يظلم من خلقه أحدا!

ولا أدري أتحترق رجل ربّهم المدّعى فتطلب من اللّه المزيد ، أم تبقى تحت آلام النار بالتخليد؟!!

[ 13 - حديث خلق اللّه آدم على صورته ]

ومنها : ما رواه مسلم ، في باب النهي عن ضرب الوجه ، من كتاب البرّ والصلة والآداب ، عن أبي هريرة ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا قاتل أحدكم (2) أخاه فليجتنب الوجه ، فإنّ اللّه خلق آدم على صورته » (3).

ونحوه في مسند أحمد (4).

ص: 166


1- إذ يقولون : إنّه لا يقبح من اللّه شيء ، ولا يجب عليه شيء ، وله أن يعذّب المؤمنين بالنار ، ويدخل الكافرين الجنّة ، وله أن يؤلم الأطفال في الآخرة ، وكلّ هذا عدل منه ، لأنّه في ملكه ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون. انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 115 - 116 ، المسائل الخمسون : 61 ، تفسير الفخر الرازي 144/7 ، شرح المواقف 8/ 200.
2- كان في الأصل : « أحدهم » ، وما أثبتناه من المصدر.
3- صحيح مسلم 8 / 32.
4- مسند أحمد 2 / 244 و 463. منه قدس سره . وأنظر : مصنف عبد الرزاق 444/9 ح 17950 ، مسند الحميدي 476/2 ح 1121 ، مسند عبد بن حمید : 283 ح 900 ، السُنّة - لابن أبي عاصم - : 228 ح 516 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 36 - 37 ، الشريعة - للآجري - : 319 ح 734 و 736 ، الأسماء والصفات - للبيهقي - 17/2 .

وروى فيه (1) ، عن أبي هريرة أيضا ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ، ولا يقل : قبّح اللّه وجهك ، ووجه من أشبه وجهك ، فإنّ اللّه خلق آدم على صورته ».

فهذه الأخبار قد أثبتت لله صورة مثل صورة الإنسان ، وشبّهته بخلقه ، وهو تجسيم وكفر ولا يمكن تأويلها ، فقبّح اللّه وجه من زوّرها! وكم لهم مثلها!

روى البخاري في تفسير سورة ( ن * وَالْقَلَمِ ) ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « يكشف ربّنا عن ساقه ، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة » (2).

وروى أيضا في تفسير سورة الزمر : « إنّ حبرا جاء إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمّد! إنّا نجد أنّ اللّه يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر [ على إصبع ] ، والماء [ والثرى ] على إصبع ، وسائر الخلائق على إصبع ، فيقول : أنا الملك.

فضحك النبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثمّ قرأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (3) » (4).

ص: 167


1- مسند أحمد 2 / 251 و 434. منه قدس سره . وأنظر : مصنف عبد الرزاق 445/9 ح 17952 ، مسند الحميدي 476/2 ح 1120 ، الأدب المفرد : 67 ح 173 ، السنة - لابن أبي عاصم - : 229 - 230 ح 519 و 520 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 36 ، الشريعة - للآجري - : 319 ح 737 ، الأسماء والصفات - للبيهقي - 17/2 .
2- صحيح البخاري 6 / 279 ح 412 ، وانظر : مسند أبي عوانة 1 / 146 ح 433 ، مصابيح السنّة 3 / 529 ح 4294 ، مشكاة المصابيح 3 / 200 ح 5542 وقال : « متّفق عليه ».
3- سورة الأنعام 6 : 91.
4- صحيح البخاري 6 / 225 ح 306.

وروى نحوه في آخر صحيحه ، في كتاب التوحيد ، في باب قوله : ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (1) (2).

وفي باب كلام الربّ يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (3).

وروى مسلم نحو ذلك في باب صفة القيامة والجنّة والنار ، من كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4).

وروى فيه أيضا : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله [ قال : ] يأخذ اللّه سماواته وأرضيه بيده فيقول : أنا اللّه ؛ ويقبض أصابعه ويبسطها ويقول : أنا الملك » (5).

وروى البخاري ، في باب قول اللّه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (6) ، من كتاب التوحيد ، في حديث طويل عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال فيه : « وتبقى هذه الأمّة ... ، فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم.

فيقولون : أنت ربّنا ؛ فيتبعونه - إلى أن قال : - ثمّ يفرغ اللّه من القضاء

ص: 168


1- سورة فاطر 35 : 41.
2- صحيح البخاري 9 / 240 ح 77.
3- صحيح البخاري 9 / 264 ح 139.
4- صحيح مسلم 8 / 125 - 126 ، وانظر : سنن الترمذي 5 / 345 - 346 ح 3238 و 3239 ، مسند أحمد 1 / 429 و 457 ، مسند أبي يعلى 9 / 93 ح 5160 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 238 - 239 ح 541 - 543 ، تفسير الطبري 11 / 25 ح 30217 - 30222 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 76 - 77 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 213 ح 1 / 728 و 7282 ، الشريعة - للآجري - : 324 - 325 ح 750 - 753 ، الأسماء والصفات - للبيهقي - 2 / 67 - 69 ، مصابيح السنّة 3 / 523 ح 4279.
5- صحيح مسلم 8 / 126 - 127 ، وراجع الهامش السابق.
6- سورة القيامة 75 : 22 و 23.

بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ، هو آخر أهل النار دخولا إلى الجنّة ، فيقول : أي ربّ! اصرف وجهي عن النار؟ فيدعو بما يشاء أن يدعوه ، ثمّ يقول اللّه : هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره.

فيقول : لا وعزّتك ، لا أسألك غيره ؛ ويعطي ربّه من عهود ومواثيق ما شاء ، فيصرف اللّه وجهه عن النار ».

ثمّ ذكر ما حاصله : « إنّه يسأل أيضا القرب من الجنّة ، فيقول اللّه : ما أغدرك! فيدعو اللّه ويعطيه المواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقدّمه إلى باب الجنّة ، ثمّ يقول : أي ربّ! أدخلني الجنّة؟

فيقول اللّه : ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت. ويقول : يابن آدم! ما أغدرك!

فلا يزال يدعو حتّى يضحك اللّه منه ، فإذا ضحك منه قال له : ادخل الجنّة » (1).

وروى مسلم نحوه في باب رؤية المؤمنين في الآخرة لربّهم ، من كتاب الإيمان ، وقال فيه : « فيأتيهم اللّه في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربّكم.

فيقولون : نعوذ باللّه منك ، هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا ، فإذا جاء ربّنا عرفناه ؛ فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون » (2).

ص: 169


1- صحيح البخاري 9 / 228 - 231 ح 65 ، وانظر : ج 2 / 2 - 4 ح 193 وج 8 / 211 - 214 ح 156.
2- (2) صحيح مسلم 1 / 113 ، وانظر : مسند أحمد 1 / 391 - 392 و 410 - 411 وج 2 / 293 - 294 ، المعجم الكبير 10 / 9 - 10 ح 9775 ، السنّة - لابن أبي عاصم _ : 206 - 209 ح 475 - 479 ، التوحيد - لابن خزيمة - : 323 - 324 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 258 - 261 ح 7386 - 7388 ، الشريعة - للآجري _ : 288 - 289 ح 658 ، الإيمان - لابن مندة - 2 / 784 - 790 ح 803 - 807 ، الأسماء والصفات - للبيهقي - 2 / 222 - 223 ، مصابيح السنّة 3 / 544 - 547 ح 4324 - 4326.

.. إلى غير ذلك من خرافاتهم التي ينكر القلم نشرها لولا إرادة التنبيه على سقطاتهم ، ولولا نسبتها إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله لما ضرّنا روايتهم لها ، وإنّا لنعلم أنّ الخرافيّين والقصّاصين منهم ، كأبي هريرة وأضرابه ، إنّما أخذوا رواية خلق آدم على صورته - ونحوها من الهزليّات - عن اليهود والنصارى (1) ، فلولا نسبتها إلى النبيّ لهان أمرها!

* * *

ص: 170


1- الكتاب المقدّس : سفر التكوين / الأصحاح 5 الفقرة 1.

لزوم المحالات من إنكار عصمة الأنبياء

قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - :

قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - (1) :

فيلزمهم من ذلك محالات :

منها : جواز الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها ، فإنّ المبلّغ إذا جوّزوا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا أو نسيانا ، أو يترك شيئا ممّا أوحي إليه ، أو يأمر من عنده ، فكيف يبقى اعتماد على أقواله؟!

* * *

ص: 171


1- نهج الحقّ : 157.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد علمت في ما سبق مذهب الأشاعرة ، وأنّهم لا يجوّزون الكذب عمدا على الأنبياء ولا سهوا (2) ، وهذا مذهبهم.

وأمّا السهو في غير الكذب فيجوّزونه ولا بأس فيه ؛ لأنّ اللّه هو الذي يوقع عليه السهو ليجعله سببا للتشريع (3).

* * *

ص: 172


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 269.
2- انظر الصفحة 20 من هذا الجزء.
3- التبصرة في أصول الفقه : 524 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 2 / 116 - 117 ، شرح المقاصد 5 / 49 - 51 ، شرح المواقف 8 / 263 و 265.

وأقول :

لا وجه لإنكار تجويزهم الكذب على الأنبياء سهوا ، فإنّ الخصم نفسه قد نقل سابقا عنهم الخلاف في تجويز الكذب في التبليغ سهوا (1).

ونحن نقلنا عن « المواقف » أنّ أكثرهم أجازوا صدور الكبائر عنهم سهوا ومنها الكذب في غير التبليغ (2).

ومعلوم أنّه يكفي في لزوم المحال تجويزهم الكذب سهوا في التبليغ وغيره فضلا عن العمد ، فيجوز أن يكذب النبيّ ويأمر من عنده سهوا ، بل يترك للسهو شيئا ممّا أوحي إليه ، إذ ليس هو من موارد العصمة ولا يقتضيها مذهبهم ، ولذا رووا - كما سبق - أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله نسي بعض آيات الكتاب العزيز (3) ، بل عرفت أنّ كثيرا منهم قالوا بعدم عصمتهم عن الكبائر عمدا (4) ، فيجوز أن يترك ما أوحي إليه عمدا ، ويكذب في غير التبليغ عمدا وقصدا ، بل وفي التبليغ كما تقتضيه رواية الغرانيق (5) ، بل مقتضى هذه الرواية وقوع الكفر عنهم عمدا كما تساعد عليه رواية شكّ إبراهيم علیه السلام ونحوها (6).

ومن نظر إلى الأدلّة التي استدلّ بها بعضهم على ذنوب الأنبياء كما في

ص: 173


1- انظر الصفحة 20 من هذا الجزء.
2- راجع الصفحة 28 من هذا الجزء ، وانظر : المواقف : 358.
3- انظر الصفحة 144 - 145 من هذا الجزء.
4- انظر الصفحتين 32 و 33 من هذا الجزء.
5- انظر الصفحات 18 و 25 و 35 فما بعدها من هذا الجزء.
6- انظر الصفحة 103 من هذا الجزء.

« المواقف » (1) ، عرف أنّهم أجازوا عليهم كلّ ذنب ، وهو الذي تقتضيه الروايات التي ذكرها المصنّف وغيرها ، فمع هذا كيف يعتمد على الأنبياء ، إذ لا أقلّ من احتمال السهو فيهم والنسيان؟!

وأمّا ما ذكره من التشريع فقد عرفت ما فيه (2).

* * *

ص: 174


1- المواقف : 361 - 365.
2- انظر الصفحة 55 وما بعدها من هذا الجزء.

قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - :

قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :

ومنها : إنّه إذا فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا اتّباعه فيها ، فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه واجتمع الضدّان ، وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة.

* * *

ص: 175


1- نهج الحقّ : 157.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد ذكرنا هذا الدليل في ما مضى من قبل الأشاعرة (2) ، وهو حجّة على من يجوّز المعاصي على الأنبياء ، وهذا ليس مذهب الأشاعرة ، والصغائر التي يجوّزونها ما يقع على سبيل الندرة ، ولا يقدح هذا في ملكة العصمة كما قدّمنا (3) ، ويجب أن يكون في محلّ يعلم أنّها واقعة منهم على سبيل الندرة ، والنبيّ يبيّن أنّ هذا ليس محلّ المتابعة.

وبالجملة : قد قدّمنا أنّ تجويز المعصية على الأنبياء مطلقا محلّ تأمّل (4) ؛ لهذا البرهان ، واللّه أعلم.

* * *

ص: 176


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 270.
2- انظر الصفحتين 21 و 22 من هذا الجزء.
3- انظر الصفحة 23 - 25 من هذا الجزء.
4- لا محلّ لهذا التأمّل ، إذ لا يمكن الفصل بين مفردات المعصية ؛ للملازمة بينها بناء على وحدة الملاك.

وأقول :

هذا الدليل جار في الصغائر والكبائر بلا فرق ، فالتفصيل بينهما لا وجه له وإن وقعت الصغيرة على وجه الندرة ، كما لا فرق في جريانه بين العمد والسهو ، لكنّ الأشاعرة أجازوا الكبائر عليهم سهوا وأجازها بعضهم عمدا كما سبق (1).

وأيضا : لم يقيّدوا وقوع الصغيرة بالندرة ، وبيان أنّها ليست محلّ الاتّباع كما زعمه الخصم لضيق الخناق ، على أنّه لا نفع فيه ، إذ لو بيّن النبيّ أنّ ذلك ليس محلّ الاتّباع لم يعتمد عليه ، لأنّه في محلّ المعصية والإقرار بها فتنتفي فائدة البعثة ، ولعلّه في هذا البيان كان ساهيا أو موهما وليس ذلك بمحال عندهم!

ولو سلّم ، فهو مصحّح أيضا لوقوع الكبيرة ، والخصم لا يقول به.

وأجاب القوشجي عن الدليل بأنّه لا يجب الاتّباع إلّا في ما يتعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، لا في ما يصدر عن بذلة وطبع (2).

وفيه : إنّ فعل النبيّ كلّه ممّا يتعلّق بالشريعة ، ولذا عدّوا فعله من

ص: 177


1- انظر الصفحة 28 وما بعدها من هذا الجزء.
2- شرح التجريد : 464. والبذلة : الثوبُ الخَلَقُ ، وكلُّ ما لا يُصان من الثياب ، على الاستعارة هنا تشبيه للفعل الخسيس الساقط به ؛ أنظر : تاج العروس 48/14 مادة «بذل » . والطَّبَعُ : الوسخ الشديد من الصدأ، ومجازاً : هو الشين والعيب في دين أو دنيا ؛ أنظر : تاج العروس 31/11 مادة «طبع » . والمراد منهما هنا : هو الكلام الصادر على عواهنه من غير روية وحساب دقيق .

السنّة كقوله وتقريره ، ولو لم يجب اتّباع فعله لما صحّ الاستدلال بالأخبار الناقلة له ، وهو خلاف الضرورة ، وكلّ عاقل إذا رأى المشرّع فاعلا لشيء يستدلّ به على جوازه.

فظهر أنّ ذكرهم لهذا الدليل قول بلا عمل ، بل بلا قول في الكبائر سهوا والصغائر مطلقا ، وهو إنّما ذكره بعضهم تبعا للإمامية ، ولذا لم يلتزموا بلوازمه.

* * *

ص: 178

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

ومنها : إنّه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبرّي منه ؛ لأنّه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن اللّه تعالى قد نصّ على تحريم إيذاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (2).

* * *

ص: 179


1- نهج الحقّ : 157.
2- سورة الأحزاب 33 : 57.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد ذكرنا هذا الدليل من قبل الأشاعرة (2) ، وهو حجّة على من يجوّز الكبائر ..

وأمّا الصغائر ، فمن لم يباشر الكبيرة ، فهو معفوّ عنه ، فلا زجر ولا تعنيف ولا إيذاء.

* * *

ص: 180


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 270.
2- انظر الصفحة 21 - 22 من هذا الجزء.

وأقول :

أدلّة النهي عن المنكر عامّة للكبائر والصغائر بلا فرق ، ومجرّد العفو عن الصغيرة مع اجتناب الكبائر لا يخرجها عن كونها منكرا يجب النهي عنه ، ولا يجعلها بحكم المباح ، كما يجب نهي فاعل الكبيرة وإن علمنا أنّه يتوب بالأثر.

فإن قلت : النبيّ لا يتأذّى بشيء يعود إلى النهي عن المنكر.

قلت : كيف لا يتأذّى وقد منع عمّا رغب فيه ولا سيّما بالقسر ، وإن كان ربّما يرتفع الأذى في ما بعد لكنّه لا يجدي بعد أن كان الناهي فاعلا للإيذاء.

ثمّ إنّهم أجازوا على الأنبياء فعل الكبائر سهوا ، وهذا الدليل يبطله ، إذ إنّ المنكرات لا يراد وقوعها حتّى سهوا ، غاية الأمر أنّ الساهي غير معاقب في الآخرة ، وهو أمر آخر ، مع أنّه لا يعلم السهو غالبا إلّا بعد أن يعتذر الساهي به.

* * *

ص: 181

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

ومنها : سقوط محلّه ورتبته عند العوامّ فلا ينقادون إلى طاعته ، فتنتفي فائدة البعثة.

ومنها : إنّه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأمّة ؛ لأنّ درجات الأنبياء في غاية الشرف ، وكلّ من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ، كما قال تعالى : ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) (2) ، والمحصن يرجم وغيره يحدّ ، وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ.

والأصل فيه أنّ علمهم باللّه أكثر وأتمّ ، وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته ، ومن المعلوم أنّ كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع فينا في صدور الذنب ، لكنّ الإجماع دلّ على أنّ النبيّ لا يجوز أن يكون أقلّ حالا من آحاد الأمّة.

ومنها : إنّه يلزم أن يكون مردود الشهادة ؛ لقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (3) ، فكيف تقبل شهادته في الوحي؟!

ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأمّة ، وهو باطل بالإجماع!

ومنها : إنّه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به ؛ لقوله تعالى :

ص: 182


1- نهج الحقّ : 157.
2- سورة الأحزاب 33 : 30.
3- سورة الحجرات 49 : 6.

( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (1) .. ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) .. ( فَاتَّبِعُونِي ) (3) ، والتالي باطل بالإجماع ، وإلّا اجتمع الوجوب والحرمة.

* * *

ص: 183


1- سورة المائدة 5 : 92.
2- سورة الأحزاب 33 : 21.
3- سورة آل عمران 3 : 31 ، وسورة طه 20 : 90.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق أنّ هذه الدلائل حجّة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم ، والإكثار من الصغائر حتّى يصير سببا لحطّ منزلتهم عند الناس ، وموجبا للإيذاء والتعنيف ، وترجيح الأمّة عليه (2).

وأمّا صدور الصغائر التي عفا اللّه عنها إذا كان على سبيل الندرة فغير ممتنع ، ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ، وكلّ هذه الدلائل قد ذكرناها في ما سلف (3) ، وأنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال على من يقول بجواز الكبائر ، وقد قدّمنا أنّ بعض تلك الأدلّة يدلّ على وجوب نفي الذنب عن الأنبياء مطلقا ؛ واللّه أعلم.

* * *

ص: 184


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 271.
2- انظر الصفحتين 21 و 22 من هذا الجزء.
3- انظر الصفحة 22 وما بعدها من هذا الجزء.

وأقول :

لا ريب أنّ الدليل الأوّل يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر ، حال النبوّة وقبلها ، عمدا وسهوا ؛ لأنّ الذنب وإن قلّ وصغر يسقط محلّ المذنب ولو في الجملة ، ويمنع من الوثوق التامّ به والانقياد الكامل إليه حتّى مع العلم بسهوه ؛ لأنّ السهو يقع غالبا من التساهل ويجهل الناس سببه فتنتفي فائدة البعثة.

وبالجملة : النبيّ منار الدعوة إلى اللّه تعالى ، وباب طاعته ، فيجب أن يكون بريئا من كلّ عيب يمسّ مقام الدعوة ، ونقيّا من كلّ حزونة (1) لا تسهّل سبيل الطاعة ، فلا يجوز أن يصدر عنه ذنب أصلا.

وأمّا الدليل الثاني : فهو أيضا يثبت عصمتهم عن الذنوب مطلقا حتّى قبل النبوّة ؛ لأنّ معصية الكبير أكبر ، فلو عصوا كانوا أدون حالا من أداني الأمم ؛ لأنّ أصغر الصغائر من أعلى المكلّفين أكبر الكبائر من أدناهم حتّى مع السهو ؛ لأنّ التمييز بالمعرفة يستدعي المحافظة التامّة ، وبدونها يكون أدنى من الأداني ولو في الجملة ، وهو خلاف ضرورة العقل والملّيّين.

وأمّا الدليل الثالث : فهو يثبت عصمتهم عمّا ينافي العدالة حال النبوّة وقبلها عمدا وسهوا ، مع عدم العلم بسهوه ؛ لأنّ صدورها حينئذ

ص: 185


1- الحزونة : الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « حزن » في : لسان العرب 3 / 159 ، تاج العروس 18 / 137.

يثبت فسقه ، والفاسق مردود الشهادة ، فكيف تقبل شهادته (1) بالوحي؟! ويلزم أن يكون أدون حالا من عدول الأمم إذا صدرت عمدا.

وأمّا الدليل الرابع : فهو يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر عمدا وسهوا ، لكن حال النبوّة ، وإنّما جعل المصنّف هذا الدليل مستقلّا مع أنّه أحد شقّي الترديد في الدليل الذي ذكره سابقا بقوله : « ومنها : إنّه إذا فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا اتّباعه » ؛ لأنّ الكتاب العزيز يقتضي تعيينه ، فذكره هنا معيّنا لذلك ، وذكره سابقا بنحو الترديد ؛ لأنّ المراد هناك بيان وجوه الاحتمال.

فثبتت من الأدلّة المذكورة عصمتهم عن الذنوب مطلقا ، وفي جميع الأحوال حتّى قبل النبوّة وإن اختصّ بعض تلك الأدلّة ببعض الذنوب ، وحينئذ فيبطل ما زعمه القوم جميعا من أنّه يجوز عقلا صدور الصغائر والكبائر عنهم عمدا وسهوا ، حال النبوّة وقبلها سوى الكذب في دعوى النبوّة وفي التبليغ كما سبق.

غاية الأمر أنّ أكثر الأشاعرة - على ما ادّعاه في « المواقف » - قالوا بعدم جواز تعمّدهم الكبائر للدليل السمعي في حال النبوّة خاصّة وإن جاز وقوعها عقلا (2).

هذا ، ولا نحتاج في مطلوبنا بعد هذه الأدلّة إلى دلالة المعجزة حتّى يقول الخصم : « ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ».

وأمّا قوله : « إنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال » ..

ص: 186


1- المراد هنا هو إخباره بالوحي ، فلن يقبل إخباره بالوحي مثلما لم تقبل شهادة الفاسق.
2- المواقف : 359.

فمسلّم ؛ لذكر بعضهم لها تبعا لغيرهم ، لكن ما بالهم لم يتّبعوا دلالتها على وجوب العصمة عن الذنوب مطلقا كما عرفت؟!

والظاهر أنّ منشأه عدم التدبّر من وجه ؛ لأنّهم إنّما ذكروها تبعا ، والتعصّب لمذهب الأسلاف من وجه آخر ، كما يشهد له إقرار الخصم بدلالة بعضها على العصمة عن الذنوب مطلقا ومخالفته له في باقي كلماته.

ثمّ إنّه يدلّ على المطلوب أمور أخر ، يغني عن تطويل الكلام فيها ما عرفت ، وسيأتي بعضها في عصمة الإمام إن شاء اللّه تعالى ، كقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) ، وقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2).

* * *

ص: 187


1- سورة البقرة 2 : 124.
2- سورة النساء 4 : 59.

ص: 188

نزاهة النبيّ عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

المبحث الثالث : في أنّه يجب أن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات

اشارة

ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يجب أن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات ، بريئا من الرذائل والأفعال الدالّة على الخسّة ، كالاستهزاء به والسخرية والضحك عليه (2) ؛ لأنّ ذلك يسقط محلّه من القلوب ، وينفّر الناس عن الانقياد إليه ، فإنّه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشكّ والارتياب.

وخالفت السنّة فيه ..

أمّا الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح (3) ، فلزمهم أن يذهبوا إلى

ص: 189


1- نهج الحقّ : 158.
2- تجريد الاعتقاد : 213 - 214 ، قواعد المرام : 127.
3- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 293 ، شرح المقاصد 4 / 282 و 283.

جواز بعثة ولد الزنا المعلوم لكلّ أحد ..

وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك ، وهو ممّن يسخر به ويضحك عليه ويصفع في الأسواق ويستهزأ به ، ويكون قد ليط به دائما لأبنة فيه ، قوّادا.

وتكون أمّه في غاية الزنا والقيادة والافتضاح بذلك ، لا تردّ يد لامس ..

ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة ممّن قد ليط به طول عمره ، حال النبوّة وقبلها ، ويصفع في الأسواق ، ويعتمد المناكير ، ويكون قوّادا بصّاصا (1).

فهؤلاء يلزمهم القول بذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليّين ، وأنّ ذلك ممكن ، فيجوز من اللّه وقوعه ، وليس هذا بأبلغ من تعذيب اللّه من لا يستحقّ العذاب ، بل يستحقّ الثواب طول الأبد (2)!

* * *

ص: 190


1- البصّاصة : العين ، واستعيرت هنا لمن لا يغضّ بصره عن الحرمات ؛ انظر : لسان العرب 1 / 421 مادّة « بصص ».
2- انظر ج 2 / 356 من هذا الكتاب.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

نعوذ باللّه من هذه الخرافات والهذيانات وذكر الفواحش عند ذكر الأنبياء ، والدخول في زمرة : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (2).

وكفى به إساءة الأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء أمثال هذه الترّهات ، ثمّ يفتري على مشايخ السنّة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منه.

وقد علمت أنّ الحسن والقبح يكون بمعان ثلاثة :

أحدها : وصف النقص والكمال.

والثاني : الملاءمة والمنافرة.

وهذان المعنيان عقليّان لا شكّ فيه ، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنّهما عقليّان ، فأيّ نقص أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحّاش ، وكأنّه حسب أنّ الأنبياء أمثاله من رعاع الحلّة ، الّذين يفسدون على شاطئ الفرات بكلّ ما ذكره!

نعوذ باللّه من التعصّب ، فإنّه أورده النار!

* * *

ص: 191


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 278.
2- سورة النور 24 : 19.
وأقول :

لا يخفى أنّ كون المعنى الأوّل عقليّا عندهم لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الكلام في جواز بعث اللّه سبحانه لصاحب الصفات المذكورة ، والبعث من أفعال اللّه تعالى لا صفاته حتّى يكون وصف نقص أو كمال ، وكون تلك الأمور نقصا في صاحب الدعوة مسلّم ، إلّا أنّ الكلام في جواز بعث اللّه للناقص ، الذي هو من أفعال اللّه تعالى التي لا تتّصف عندهم بالقبح أصلا كخلقه لسائر القبائح والفواحش.

وأمّا المعنى الثاني ، فهو وإن ثبت في الأفعال إلّا أنّ أفعال اللّه تعالى عندهم لا تعلّل بالأغراض ، فلا ملاءمة ولا منافرة فيها مع ما عرفت من الكلام في كونه عقليّا ، فراجع (1).

وبالجملة : لو سلّم قولهم بالحسن والقبح العقليّين بهذين المعنيين لم يلزم عدم جواز بعث اللّه تعالى صاحب الأوصاف المذكورة ، بل يجوز عندهم بعث مثله ، إذ لا يقبح عندهم من اللّه سبحانه شيء وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وقد سبق أنّهم جوّزوا بعض المعاصي على الأنبياء ، بحجّة عدم دلالة المعجزة على امتناعه (2) ، وهو آت في المنفّرات المذكورة.

ويدلّ على تجويزهم إرسال صاحب هذه الأوصاف أنّ صاحب

ص: 192


1- راجع ج 2 / 413 من هذا الكتاب.
2- انظر الصفحات 17 و 28 وما بعدها من هذا الجزء.

« المواقف » وشارحها قالا : « ولا يشترط في الإرسال شرط من الأغراض (1) والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدة في الخلوات والانقطاعات ، ولا استعداد ذاتي ، من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء ، بل اللّه يختصّ برحمته من يشاء من عباده ، فالنبوّة رحمة وموهبة متعلّقة بمشيئته فقط » (2) ..

فإنّ قولهما : « بل اللّه يختصّ ... » إلى آخره ، دالّ على جواز بعث أيّ شخص كان ، فيجوز أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف إذا تعلّقت بإرساله المشيئة.

ومن العجب استدلال صاحب « المواقف » على عدم اشتراط الإرسال بشرط بقوله تعالى : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) (3) ، فإنّ الآية ظاهرة الدلالة أو صريحتها في أنّ صاحب الدعوة أهل في نفسه فيبعثه اللّه تعالى ؛ لعلمه بأهليّته وأنّه مستعدّ الذات.

ولذا أورد عليه الشارح بقوله : « وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفاء » (4).

ويدلّ أيضا على تجويزهم إرسال صاحب النقائص المذكورة قول صاحب « المواقف » ، وشارحها أيضا ، في مقام عصمة الأنبياء ، قال :

« وأمّا قبله - أي قبل الوحي - فقال الجمهور - أي أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة - : لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة ، إذ لا دلالة للمعجزة

ص: 193


1- كذا في المطبوع ، وفي المخطوط والمصدر : الأعراض.
2- المواقف : 337 ، شرح المواقف 8 / 218.
3- سورة الأنعام 6 : 124.
4- شرح المواقف 8 / 218.

عليه ، ولا حكم للعقل بامتناعها ، ولا دلالة سمعية عليه أيضا.

وقال أكثر المعتزلة : تمتنع الكبيرة وإن تاب عنها ؛ لأنّه - أي صدور الكبيرة - يوجب النفرة ، وهي تمنع عن اتّباعه فتفوت مصلحة البعثة ، ومنهم من منع عمّا ينفّر مطلقا ، أي سواء لم يكن ذنبا [ لهم ، أو كان ] (1) كعهر الأمهات والفجور في الآباء ودناءتهم واسترذالهم » (2).

فإنّ هذا الكلام دالّ على اختصاص بعض المعتزلة بمنع المنفّرات المذكورة ، فيكون الأشاعرة وبعض المعتزلة مجوّزين لها.

فتحقّق أنّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ وصدق ، وأنّ القوم أولى بحبّ إشاعة الفاحشة في الّذين آمنوا ؛ لأنّهم أجازوا أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف رحمه اللّه تعالى ، بل نسبوا إليهم فواحش الأعمال وأشاعوها في كتبهم على ممرّ الأيام ، كرقص النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأكمامه ، وحضوره مجالس المغنّين والمغنّيات ، وضرب الدفوف (3) ، وقوله في مدح الأصنام : تلك الغرانيق العلا (4) .. إلى غير ذلك من المخزيات.

وأمّا المصنّف قدس سره فلم يقصد بذكر تلك الأوصاف الشنيعة إلّا الإنكار على القوم واستفظاع آرائهم ، ليرتدع من له قلب ، وناقل الكفر ليس بكافر ، فإساءة الأدب مع الأنبياء إنّما هي ممّن يجوّز فيهم أن يكونوا على تلك الفضائح ، لا ممّن يريد الردع عنه والإنكار عليه!

لكن الخصم لعجزه وحيرته يلوذ بهذه التهمة للمصنّف ، ويشهد

ص: 194


1- أثبتناه من شرح المواقف.
2- شرح الأصول الخمسة : 573 ، المواقف : 359 ، شرح المواقف 8 / 265.
3- انظر الصفحتين 74 و 75 من هذا الجزء.
4- انظر الصفحة 18 من هذا الجزء.

لتحلّيه في هذا التنزّه المصطنع في إجلال مقام الأنبياء قوله سابقا في حقّ اللّه سبحانه ما هو أعظم وأشنع ، وهو أنّه مغلول اليد (1) ، معبّرا به عن تنزيه الإمامية لله تعالى عن فعل القبائح وعقاب من لا ذنب له وإن كان قادرا عليهما.

* * *

ص: 195


1- انظر ج 2 / 391 من هذا الكتاب.
قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - :

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :

وأمّا المعتزلة ، فلأنّهم حيث جوّزوا صدور الذنب عنهم (2) ، لزمهم القول بجواز ذلك أيضا ، واتّفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصّة إخوة يوسف (3).

فلينظر العاقل بعين الإنصاف ، هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة والآراء الرديئة؟!

وهل يبقى مكلّف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوّته ، وأنّه يصفع ويستهزأ به حال النبوّة؟!

وهل يثبت بقول هذا حجّة على الخلق؟!

واعلم أنّ البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط ، وأنّهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول ؛ لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلّف على أنّه لم يفعل ما أمره اللّه تعالى به من غير أن يعلم ما أمر به ، ولا أرسل إليه رسولا ألبتّة ، بل وعلى امتثال ما أمره به ..

وأنّ جميع القبائح من عنده تعالى ، وأنّ كلّ ما وقع في الوجود فإنّه فعله تعالى وهو حسن ؛ لأنّ الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع.

ص: 196


1- نهج الحقّ : 162.
2- شرح المواقف 8 / 265.
3- شرح الأصول الخمسة : 573 ، وانظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 2 / 116 - 117 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 320 - 321 ، شرح المواقف 8 / 265.

فهذه الصفات الخسيسة في النبيّ وأبويه تكون حسنة ؛ لوقوعها من اللّه تعالى ، فأيّ مانع من البعثة باعتبارها؟!

فكيف يمكن الأشاعرة منع كفر النبيّ وهو من اللّه تعالى ، وكلّ ما يفعله فهو حسن؟! وكذا أنواع المعاصي!

وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟!

نعوذ باللّه من مذهب يؤدّي إلى تحسين الكفر وتقبيح الإيمان وجواز بعثة من اجتمع فيه كلّ الرذائل والسقطات!

وقد عرفت من هذا أنّ الأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا الضروريات.

* * *

ص: 197

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

استدلال المعتزلة على وقوع الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف استدلال قويّ ؛ لأنّ الإجماع واقع على أنّ إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء يوسف في الجبّ ، وغيره من الذنوب التي لا شكّ أنّها كبائر.

وهذا الرجل ما تعرّض بجوابه إلّا بالفحش والخز عبلية (2) واللّوذعية (3) كالرعاع والأجلاف السوقية ، والمعتزلة يثبتون الوقوع (4) ، وهو لا يقدر على الدفع ويبحث معهم في الجواز ، وهذا من غرائب أطواره في البحث.

ثمّ ما ذكر أنّ البحث مع الأشاعرة ساقط لأنّهم يجوّزون تعذيب الكفّار (5) وغيره من الطامّات .. قد عرفت في ما سبق جواب كلّ ما ذكر ، وأنّ الحسن والقبح شرعيّان بمعنى ، وعقليّان بمعنيين (6) ..

وعلمت أنّ كلّ ما ذكره ليس من مذهبهم ولا يرد عليهم شيء ، وأنّهم لا يخالفون ضرورة العقل.

ص: 198


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 282.
2- الخزعبل : الباطل ، والخزعبل : الأحاديث المستطرفة التي يضحك منها ؛ انظر مادّة « خزعبل » في : لسان العرب 4 / 83 ، تاج العروس 14 / 198.
3- اللّوذعي : الحديد الفؤاد والنفس واللسان ، اللسن الفصيح ، الظريف الذهن ، الذكيّ ، كأنّه يلذع من ذكائه ؛ انظر مادّة « لذع » في : لسان العرب 12 / 268 - 269 ، تاج العروس 11 / 432.
4- أثبته الجبّائي ومنعه القاضي عبد الجبّار ؛ انظر : شرح الأصول الخمسة : 573.
5- كذا في الأصل ، وفي « إحقاق الحقّ » : « المكلّف » ، وهو المناسب.
6- انظر ج 2 / 330 و 411 من هذا الكتاب.
وأقول :

لمّا كان الاستدلال على صدور الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف ساقط جدّا ، اكتفى المصنّف رحمه اللّه في الجواب عنه بإثبات المحاليّة ، ولم يتعرّض لكلمة القائلين بنبوّتهم ودليلهم ، إذ لم يقل بها إلّا من لا عبرة به وبرأيه.

لكنّ الخصم على عادته وعادة أصحابه في التسامح بدعاوي الإجماعات ، قال : الإجماع على نبوّتهم واقع.

ويشهد لعدم الإجماع ما ذكره ابن حزم (1) إذ قال : « إنّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قطّ في أنّهم أنبياء نصّ ، لا من قرآن ولا من سنّة صحيحة ، ولا من إجماع ، ولا من قول أحد من الصحابة ».

وقال القاضي عياض في « الشفاء » : « وأمّا قصّة يوسف وإخوته فليس على يوسف منها تعقّب ، وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم » (2).

ونقل ابن أبي الحديد (3) عن المعتزلة : « إنّهم قالوا : يجب أن ينزّه النبيّ قبل البعثة عن الكفر والفسق ».

ثمّ نقل عن أبي محمّد بن متّويه (4) أنّه قال : في كتاب « الكفاية » :

ص: 199


1- الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 9 [ 2 / 294 ]. منه قدس سره .
2- الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 164.
3- شرح النهج 2 / 162 [ 7 / 8 - 10 ]. منه قدس سره .
4- (4) هو أبو محمّد الحسن بن أحمد بن متّويه ، أخذ عن القاضي عبد الجبّار ، وله كتب ، منها : المحيط في أصول الدين ، التذكرة في لطيف الكلام. أنظر : طبقات المعتزلة - لابن المرتضی -: 119.

« إنّ أهل العدل كلّهم منعوا من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل النبوّة » (1).

ثمّ قال : « وقال قوم من الأشعرية ومن أهل الظاهر وأرباب الحديث :

إنّ ذلك جائز واقع ، واستدلّوا بأحوال إخوة يوسف ، ومنع المانعون من ذلك من ثبوت نبوّة إخوة يوسف » (2).

ويشهد لذلك أيضا كلام صاحب « المواقف » المتقدّم في المبحث السابق ؛ لنقله فيه عن أكثر المعتزلة المنع من صدور الكبيرة على الأنبياء قبل الوحي (3).

ونقله القوشجي عن كثير منهم ، وهو يستلزم القول بعدم نبوّة إخوة يوسف (4).

فأين الإجماع الذي ادّعاه الخصم؟!

على أنّ سادة الأمّة وأئمّتها الّذين أمرنا بالتمسّك بهم قد أنكروا نبوّة إخوة يوسف علیه السلام (5) ، وكذلك شيعتهم.

وأعلم أنّ ظاهر كلام « المواقف » السابق أنّ بعض المعتزلة قائلون بجواز عهر أمهات الأنبياء ، وفجور آبائهم ودناءتهم واسترذالهم ، فيكون شاهدا لما قاله المصنّف رحمه اللّه من تجويز المعتزلة لذلك.

ص: 200


1- شرح نهج البلاغة 7 / 10.
2- شرح نهج البلاغة 7 / 10.
3- تقدّم في الصفحتين 193 و 194.
4- شرح التجريد : 464.
5- الغيبة - للنعماني - : 163 ح 4 ، إكمال الدين : 144 ح 11 وص 341 ح 21 ، علل الشرائع 1 / 285 ب 179 ح 3 ، دلائل الإمامة : 290 ، تفسير العيّاشي 2 / 206 ح 74 - 77 ، مجمع البيان 5 / 328 ، إعلام الورى 2 / 236.

هذا ، وقد استدلّ بعضهم على نبوّة إخوة يوسف علیه السلام بقوله تعالى : ( وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ... ) (1) الآية.

قال الرازي في تفسيرها : « اختلفوا في الاجتباء ، فقال الحسن : يجتبيك ربّك بالنبوّة ، وقال آخرون : المراد به إعلاء الدرجة وتعظيم الرتبة ».

.. إلى أنّ قال : « واعلم أنّا لمّا فسّرنا الآية بالنبوّة لزم الحكم بأنّ أولاد يعقوب كلّهم كانوا أنبياء ؛ وذلك لأنّه قال : ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ) ، وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب ، فلمّا كان المراد من تمام النعمة النبوّة لزم حصولها لآل يعقوب وترك العمل به في حقّ من عدا أبنائه ، فوجب أن يبقى معمولا به في حقّ أولاده » (2) ..

وفيه نظر ظاهر ؛ حتّى إذا أريد بالاجتباء الاصطفاء للنبوّة ، كما هو الأقرب ؛ لأنّ عطف إتمام النعمة على الاجتباء دليل على المغايرة بينهما ، ولهذا خصّ يوسف علیه السلام بالاجتباء ، وعمّه وغيره من آل يعقوب بإتمام النعمة.

على أنّه لو أريد بإتمام النعمة النبوّة ، فلا بدّ أن يكون إتمامها عليهم بلحاظ ثبوتها لبعضهم لا لمطلق آل يعقوب ، وإلّا لزم خروج الأكثر ، وهو غير صحيح في العربية ، فكيف يثبت بالآية نبوّة إخوة يوسف علیه السلام ؟!

هذا ، وأمّا ما أشار إليه الخصم من أجوبته السابقة ، فقد عرفت أنّها

ص: 201


1- سورة يوسف 12 : 6.
2- تفسير الفخر الرازي 18 / 91 - 92.

لا تستحقّ أن توسم بالجواب.

وقد عرفت أنّ كلّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ بلا ارتياب ..

وأنّ القول بالحسن والقبح العقليّين بالمعنيين المذكورين لا ينفع في منع بعثة من يوصف بتلك القبائح (1) ، فلاحظ واستقم!

* * *

واللّه هو الموفّق ،

وله الحمد حمدا دائما ،

ونسأله العصمة عن الخلل في القول والعمل ،

إنّه أكرم المسؤولين ، وأجود المعطين.

والصلاة والسلام على محمّد وآله المعصومين.

تمّ بقلم مصنّفه محمّد حسن بن الشيخ محمّد مظفّر قدس سره .

* * *

ص: 202


1- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في ج 2 / 413 من هذا الكتاب.

مباحث الإمامة

اشارة

ص: 203

ص: 204

بسم اللّه الرّحمن الرحيم

الحمد ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على سيّد النبيّين وآله المعصومين ، الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

المسألة الخامسة في الإمامة : وجوب عصمة الإمام

اشارة

وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : في أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما

اشارة

ذهبت الإمامية إلى أنّ الأئمّة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت ، عمدا وسهوا.

لأنّهم حفظة الشرع والقوّامون به ، حالهم في ذلك كحال النبيّ ، ولأنّ الحاجة إلى الإمام إنّما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم ، ورفع الفساد ،

ص: 205


1- نهج الحقّ : 164.

وحسم مادّة الفتن ، وأنّ الإمام لطف يمنع القاهر من التعدّي ، ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرّمات ، ويقيم الحدود والفرائض ، ويؤاخذ الفسّاق ، ويعزّر من يستحقّ التعزير ، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه ، انتفت هذه الفوائد وافتقر إلى إمام آخر ، وتسلسل (1).

وخالفت السنّة في ذلك ، وذهبوا إلى جواز إمامة الفسّاق والعصاة والسرّاق (2) ، كما قال الزمخشري - وهو من أفضل علمائهم _ :

« لا كالدوانيقي المتلصّص » (3)! يشير به إلى المنصور (4).

فأيّ عاقل يرضى لنفسه الانقياد الديني والتقرّب إلى اللّه تعالى بامتثال أوامر من كان يفسق طول وقته وهو غائص في القيادة وأنواع الفواحش ، ويعرض عن المطيعين المبالغين في الزهد والعبادة؟! وقد أنكر اللّه تعالى بقوله : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ

ص: 206


1- الذخيرة في علم الكلام : 429 - 431 ، شرح جمل العلم والعمل : 192 ، المنقذ من التقليد 2 / 278 ، تجريد الاعتقاد : 221 - 222.
2- انظر : أصول السنّة - لأحمد بن حنبل - : 80 ، الأحكام السلطانية - للفرّاء _ : 24 ، الإرشاد - للجويني - : 358 ، شرح المقاصد 5 / 257 ، شرح العقائد النسفية : 239 - 241 ، إتحاف السادة المتّقين 2 / 233.
3- تفسير الكشّاف 1 / 309.
4- هو : أبو جعفر عبد اللّه بن محمّد بن علي بن العبّاس ، الملقّب بالمنصور ، ولد سنة 95 ه ، وكان يلقّب في صغره بمدرك التراب وبالطويل كذلك ، ثمّ لقّب في أيّام حكومته بأبي الدوانيق والدوانيقي ، لبخله ومحاسبته الصّنّاع على الدوانيق والحبّات .. وأمّه سلّامة البربريّة ؛ أباد جماعة كبارا حتّى توطّد له الملك ودانت له الأمم على ظلمه ، توفّي سنة 158 ه. أنظر: مروج الذهب 281/3 ، تاريخ بغداد 53/10 رقم 5179 ، سير أعلام النبلاء 83/7 رقم 37 ، تاريخ الخميس 324/2.

أُولُوا الْأَلْبابِ ) (1).

فالأشاعرة لا يتمشّى هذا على قواعدهم ، حيث جوّزوا صدور القبائح عنه تعالى ومن جملتها الكذب ، فجاز الكذب في هذا القول ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا الباقون فإنّهم جوّزوا تقديم المفضول على الفاضل (2) ، فلا يتمشّى هذا الإنكار على قولهم أيضا ..

فقد ظهر أنّ الفريقين خالفوا الكتاب العزيز!

* * *

ص: 207


1- سورة الزمر 39 : 9.
2- المغني - للقاضي عبد الجبّار - 20 ق 1 / 215 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 1 / 3. وقد قال جمع من متكلمي الأشاعرة وعلمائهم بذلك أيضاً وإن اشتهر أنه . مختصات المعتزلة ، فانظر : غياث الأمم : 140 ، تفسير القرطبي 187/1 المسألة 12 من الآية الكريمة ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) سورة البقرة 2 : 30 ، شرح المقاصد 246/5 - 247 ، شرح العقائد النسفية : 238 ، شرح المواقف 372/8 - 373 .
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليست من أصول الديانات والعقائد ، بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين (2).

والإمامة عند الأشاعرة : هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة ، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة (3).

وشروط الإمام الذي هو أهل للإمامة ومستحقّها أن يكون :

مجتهدا في الأصول والفروع ؛ ليقوم بأمر الدين ..

ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش ..

شجاعا قويّ القلب ؛ ليقوى على الذبّ عن الحوزة ..

عدلا ؛ لئلّا يجور ، فإنّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه ، والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم يصرّ على الصغائر ..

عاقلا ؛ ليصلح للتصرّفات الشرعية ..

بالغا ؛ لقصور عقل الصبي ..

ذكرا ؛ إذ النساء ناقصات العقل والدين ..

حرّا ..

قرشيّا.

ص: 208


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 294.
2- الإرشاد - للجويني - : 345 ، المواقف : 395 ، شرح المواقف 8 / 344.
3- غياث الأمم في التياث الظلم : 55 و 59 ، المواقف : 395 ، شرح المواقف 8 / 345.

فمن جمع هذه الصفات فهو أهل للإمامة والزعامة الكبرى (1).

وأمّا العصمة فقد شرطها الشيعة الإمامية والإسماعيلية ، واستدلّ عليها هذا الرجل بأنّ الحاجة إلى الإمام بالأمور المذكورة ، ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه ، انتفت هذه الفوائد.

ونقول : ماذا يريد من العصمة؟! إن أراد وجوب الاجتناب في جميع أحواله عن الصغائر والكبائر ، فلا نسلّم لزوم ذلك ؛ لأنّ صدور بعض الصغائر المعفوّ عنها لاجتنابه عن الكبائر لا يوجب أن لا يكون منتصفا من الظالم للمظلوم وباقي الأمور المذكورة.

وإن أراد وجود ملكة مانعة من الفجور ، فنحن أيضا نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام ؛ لأنّا شرطنا أن يكون عدلا ، والعدل من له ملكة العصمة المانعة من الفجور ..

وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة ؛ لأنّ الملكة كيفية راسخة في النفس ، متى يراد صدور الفعل عنهصدر بلا مشقّة ورويّة وكلفة ، وصدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفي وجود الملكة لعوارض لا يخلو الإنسان عنها ، كصاحب الملكة الخلقيّة من العفّة والشجاعة قد يعرض له ما يعرّضه إلى إصدار خلاف الملكة ومع ذلك لا تزول عنه الملكة.

فالعصمة بمعنى الملكة حاصلة للمجتنب عن الكبائر المصرّ في تركها وإن صدر عنه نادرا بعض الصغائر ، فاندفع الإشكال ، ولم يلزم التسلسل ، كما ذكره.

ص: 209


1- انظر : تمهيد الأوائل : 471 ، أصول الإيمان - للبغدادي - : 220 - 221 ، الإرشاد - للجويني - : 358 - 359 ، المواقف : 398 ، شرح المواقف 8 / 349.

وأمّا ما قال : « إنّ أهل السنّة خالفوا ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة السرّاق والفسّاق » ..

فأنت تعلم أنّ هذا من مفترياته ؛ لأنّ كتب أهل السنّة مشحونة بالقول بوجوب عدالة الأئمّة ، فالفاسق كيف يجوز أن يكون عندهم إماما؟! والحال أنّه ضدّ العدل ، فعلم أنّه مفتر كذّاب ، ونعم ما قلت فيه شعرا [ من المتقارب ] :

إذا ما رأى طيّبا في الكلام *** بقاذورة الكذب قد دنّسه

يخلّط بالطهر أنجاسه *** فابن المطهّر ما أنجسه

* * *

ص: 210

وأقول :

لا يخفى أنّ أصل الشيء أساسه وما يبتنى عليه ، فأصول الدين هي التي يبتنى عليها الدين ، وبالضرورة أنّ الشهادتين كذلك ، إذ لا يكون الشخص مسلما إلّا بهما ، وكذلك الاعتراف بالإمام ؛ للكتاب والسنّة ..

* أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (1) ..

فإنّ الاستفهام فيه ليس على حقيقته ؛ لاستلزامه الجهل ، فلا بدّ أن يراد به الإنكار أو التوبيخ ، وكلّ منهما لا يكون إلّا على أمر محقّق بالضرورة ، فيكون انقلابهم بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله محقّقا ، ولذا قال : ( انْقَلَبْتُمْ ) بصيغة الماضي تنبيها على تحقّقه.

ومن المعلوم أنّ الصحابة بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يعدلوا عن الشهادتين ، فيتعيّن أن يراد به أمر آخر ، وما هو إلّا إنكار إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، إذ لم يصدر منهم ما يكون وجها لا نقلابهم عموما غيره بالإجماع.

فإذا كان إنكار إمامته علیه السلام انقلابا عن الدين ، كانت الإمامة أصلا من أصوله ..

ولا ينافيه أنّ الآية نزلت يوم أحد ، حيث أراد بعض المسلمين الارتداد ، فإنّ سببية نزولها في ذلك لا تمنع صراحتها في وقوع الانقلاب

ص: 211


1- سورة آل عمران 3 : 144.

بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما يقتضيه الترديد في الآية بين الموت والقتل ، فإنّ ما وقع يوم أحد إنّما هو لزعم القتل.

وقد فهم ذلك أمير المؤمنين علیه السلام في ما رواه الحاكم (1) ، عن ابن عبّاس ، قال :

« كان عليّ علیه السلام يقول في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه تعالى يقول :

( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) واللّه لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه ، واللّه لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت ، واللّه إنّي لأخوه ، ووليّه ، وابن عمّه ، ووارث علمه ؛ فمن أحقّ به منّي؟! »

* وأمّا السنّة ، فنحن لا نذكر منها إلّا أخبار القوم كعادتنا ؛ لتكون حجّة عليهم.

فمنها : ما هو كالآية الشريفة في الدلالة على ارتداد الأمّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، كروايات الحوض ، ولنذكر منها ما هو صريح بارتداد الأمّة إلّا النادر ،

كرواية البخاري في ( كتاب الحوض ) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال :

« بينما أنا قائم ، فإذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ!

فقلت : أين؟!

قال : إلى النار واللّه!

ص: 212


1- المستدرك على الصحيحين 3 / 126 كتاب معرفة الصحابة [ 3 / 136 ح 4635 ]. منه قدس سره . وأنظر : فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 2 / 810 ح 1110 ، المعجم الكبير 1 / 107 ح 176 ، ذخائر العقبى : 178 ، الرياض النضرة 206/3 ، مجمع الزوائد 134/9 ، الدر المنثور 2/ 338 .

قلت : وما شأنهم؟!

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

ثمّ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال :

هلمّ!

فقلت : أين؟!

قال : إلى النار واللّه!

قلت : ما شأنهم؟!

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم » (1)

فهذه الرواية قد دلّت على ارتداد الصحابة إلّا القليل الذي هو في القلّة كالنعم المهملة المتروكة سدى (2).

وقد عرفت أنّ الصحابة لم يرتكبوا ما يمكن أن يكون سببا للارتداد غير إنكار إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فلا بدّ أن تكون الإمامة أصلا من أصول الدين.

ومنها : الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ من مات بلا إمام مات ميتة جاهليّة ، ونحو ذلك ، فتكون أصلا للدين ألبتّة ، كرواية مسلم في باب : ( الأمر بلزوم الجماعة ، من كتاب الإمارة ) ، عن ابن عمر ، قال :

ص: 213


1- صحيح البخاري 8 / 217 ح 166 باب في الحوض ، وانظر : الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 3 / 194 ح 2434 ، الترغيب والترهيب 4 / 192 ح 75 وقال : « رواه البخاري ومسلم » ، فتح الباري 11 / 568 ح 6587 ، كنز العمّال 11 / 132 ح 30918.
2- السّدى والسّدى : المهمل ، الواحد والجمع فيه سواء ؛ انظر مادّة « سدا » في : النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 356 ، لسان العرب 6 / 223.

وسمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة » (1)

وكرواية مسلم أيضا في الباب المذكور ، والبخاري في ثاني أبواب ( كتاب الفتن ) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « من كره من أميره شيئا فليصبر عليه ، فإنّه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهليّة » (2)

وكرواية أحمد (3) ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة ».

.. إلى نحو ذلك ممّا لا يحصى (4).

ومنها : الأخبار الكثيرة التي ناطت الإيمان بحبّ آل محمّد صلی اللّه علیه و آله

ص: 214


1- صحيح مسلم 6 / 22 ، وانظر : مسند أبي عوانة 4 / 416 ح 7153 - 7157 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 8 / 156 ، مصابيح السنّة 3 / 9 ح 2765.
2- صحيح مسلم 6 / 21 ، صحيح البخاري 9 / 84 ح 5 و 6 وص 113 ح 7 ، وانظر : سنن الدارمي 2 / 166 - 167 ح 2515 ، مسند أحمد 1 / 275 و 297 و 310 ، المعجم الكبير 12 / 124 ح 12759 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 8 / 157 ، شرح السنّة 6 / 38 ح 2458.
3- مسند أحمد 4 / 96. منه قدس سره . وانظر : مسند أبي يعلى 13 / 366 - 7375 ، المعجم الكبير 19 / 388 ح 910 ، المعجم الأوسط 128/6 ح 5820 ، مسند الشاميين - للطبراني - 2 / 437 - 438 ح 1654 ، مسند الطيالسي : 259 ح 1913 ، السنة - لابن أبي عاصم - : 489 ح 1057 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 7/ 49 ح 4554 ، حلية الأولياء 224/3 وقال : «هذا حديث صحيح ثابت » .
4- وقد مرّ تخريج حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » ، الذي هو موضع البحث هنا ، وبألفاظه المختلفة ، مفصّلا ، في مقدّمة السيّد عليّ الحسيني الميلاني - حفظه اللّه - لهذا الكتاب ، أجلى البرهان في نقد كتاب ابن روزبهان : 31 ه 1 - 4 ؛ فراجع!

والكفر ببغضهم ، فإنّها كناية عن الاعتراف بإمامتهم وإنكارها ؛ للملازمة عادة بين حبّهم الحقيقي والاعتراف بفضلهم وبغضهم وإنكاره ، ولا يراد الحبّ والبغض بنفسيهما ، إذ لا دخل لهما بماهيّة الإيمان والكفر ، فلا بدّ أن يكونا كناية عن ذلك ، فلا بدّ أن تكون أصلا.

فمن هذه الأخبار ما رواه في « الكشّاف » في تفسير قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حديث طويل قال فيه :

« ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا ، ... ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ... ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا » (2).

ومثله عن تفسير الثعلبي (3).

وروى في « كنز العمّال » (4) ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « أساس الإسلام : حبّي وحبّ أهل بيتي »

وروى أيضا (5) ، عن ابن عبّاس : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ يوم

ص: 215


1- سورة الشورى 42 : 23.
2- تفسير الكشّاف 3 / 467.
3- تفسير الثعلبي 8 / 314. وأنظر : تفسير الفخر الرازي 167/27 ، تفسير القرطبي 16/16 ، فرائد السمطين 2 / 255 ح 524 ، الفصول المهمة - لابن الصبّاغ - : 128 ، نزهة المجالس - للصفوري - 2/ 222 ، الصواعق المحرقة : 348 .
4- كنز العمّال 7 / 103 [ 12 / 105 ح 34206 وج 13 / 645 ح 37631 ]. منه قدس سره .
5- كنز العمّال 6 / 154 [ 11 / 607 ح 32935 ] ، ونحوه عن ابن عمر 6 / 155 [ 11 / 610 - 611 ح 32955 ]. منه قدس سره . وانظر : المعجم الكبير 11 /1. 63 ح 11092 ، المعجم الأوسط 8 / 73 - 74 ، مجمع الزوائد 9 / 111.

المؤاخاة : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس بعدي نبيّ؟! ألا من أحبّك حقّ (1) بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته اللّه ميتة جاهليّة ».

وروى أيضا (2) عن الطبراني والحاكم في « المستدرك » (3) وأبي نعيم ، عن زيد بن أرقم ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة »

وروى بعده نحوه عن جماعة ، إلّا أنّه صلی اللّه علیه و آله قال : « فليتولّ عليّا وذرّيّته من بعده ، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (4)

ويحتمل أن يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه بتولّي عليّ الالتزام بولايته ، أي : إمامته ، فيكون دالّا على المطلوب بالصراحة ، ومثله تولّي أولاده في الحديث الأخير.

.. إلى غير ذلك من الأحاديث المستفيضة.

ص: 216


1- نسخة بدل : حفّ. منه قدس سره .
2- كنز العمّال 6 / 155 [ 11 / 611 ح 32959 ]. منه قدس سره .
3- المستدرك على الصحيحين 3 / 128 [ 3 / 139 ح 4642 ]. منه قدس سره . وأنظر : المعجم الكبير 194/5 ح 5067 ، فضائل الصحابة - لأبي نعيم - : 91 ح 88.
4- كنز العمّال 11 / 611 - 612 ح 32960 ، وانظر : حلية الأولياء 1 / 86 وج 4 / 349 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 75 ح 55 ، مجمع الزوائد 9 / 108.

ويشهد لكون الإمامة من أصول الدين ، أنّ منزلة الإمام كالنبيّ في حفظ الشرع ، ووجوب اتّباعه ، والحاجة إليه ، ورئاسته العامّة ، بلا فرق.

وقد وافقنا على أنّها أصل من أصول الدين جماعة من مخالفينا ، كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار (1) ، وجمع من شارحي كلامه ، كما حكاه عنهم السيّد السعيد رحمه اللّه (2).

واعلم أنّ العصمة ملكة تقتضي عدم مخالفة التكاليف اللزومية عمدا وخطأ مع القدرة على الخلاف ، وهي واجبة الثبوت للإمام لأمور :

* الأوّل : ما أشار إليه المصنّف بقوله : « لأنّهم حفظة الشرع ... » إلى آخره ..

وحاصله : إنّ الإمام حافظ للشرع كالنبيّ ؛ لأنّ حفظه من أظهر فوائد إمامته ، فتجب عصمته لذلك ؛ لأنّ المراد حفظه علما وعملا ، وبالضرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلّا معصوم ، إذ لا أقلّ من خطأ غيره ، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر ملغى بنظر الشارع ، وهو خلاف الضرورة ، فإنّ النبيّ قد جاء لتعليم الأحكام كلّها وعمل الناس بها على مرور الأيّام ، وهذا الأمر لم يتعرّض الخصم لجوابه.

* الثاني : ما ذكره المصنّف بقوله : « إنّ الحاجة ... » إلى آخره ..

وتوضيحه : إنّ الحاجة إلى الإمام في تلك الفوائد توجب عصمته ، وإلّا لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل ؛ لأنّ غير المعصوم إمّا فاسق أو عادل ، وبالضرورة أنّ الفاسق لا تحصل منه تلك الفوائد ولو بالنسبة إلى نفسه ،

ص: 217


1- منهاج الوصول في معرفة علم الأصول - المطبوع بهامش الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج - : 167.
2- إحقاق الحقّ 2 / 307.

فيحتاج إلى غيره ، والعادل كذلك ؛ لأنّ الصغائر قد تحصل منه لأنّها لا تنافي العدالة ، والكبائر ربّما تقع منه أيضا ، ولو لا أنّه قد يفسق فيحتاج إلى إمام آخر يمنعه عن الصغائر والكبائر لو وقعت ، أو يحترز به عن وقوعها.

كما إنّ الخطأ غير مأمون عليه ، فيحتاج إلى إمام آخر يمنعه عمّا يخطأ به وإن كان معذورا ، فإنّ معذوريّته لا تصحّح تفويت تلك الفوائد ، وإلّا لما كانت موجبة للحاجة إلى الإمام.

فإن قلت : الصغائر مع ترك الكبائر معفوّ عنها ، فلا يلزم المنع عنها ، والكبائر لا تقع من العادل عمدا حتّى يجب منعه ، ولو فرض وقوعها عمدا وجب عزله ونصب غيره ، وأمّا وقوعها خطأ ، فهو وإن لم يكن مأمونا منه لكن ربّما لا يوجد فلا يلزم نصب آخر ، ولو وقعت نبّهه من يرفع خطأه وإن لم يكن إماما.

قلت : العفو عن الصغائر لا يرفع حرمتها ، وإلّا لما احتاجت إلى العفو ، كما إنّ السهو عن الكبائر إنّما يرفع العقاب ، فلا بدّ من الحاجة إلى من يردّ فاعلهما.

وأمّا الكبائر مع العمد ، فلا يمتنع وقوعها من العادل ، إذ ربّما تعرض له الكبيرة نادرا من دون أن تزول ملكته ، كما إنّه قد يفسق ، وهو كثير ، والالتزام بوجوب عزله حينئذ غير متّجه ؛ للأخبار الكثيرة الآتية ، ولإمكان أن لا يثبت فسقه عند كلّ أهل الحلّ والعقد ، أو يثبت ولكنّهم مثله في الفسق ، أو لا يمكنهم عزله ، أو يحصل من عزله ضرر أعظم ، فتبتلي الأمّة بإمام فاسق لا يحصل منه محلّ الحاجة إلى الإمام ، وهو ناشئ من عدم اعتبار العصمة والاكتفاء بالعدالة ، ولا سيّما مع كون العدالة الواقعية عسرة الإحراز ، وإنّما تثبت ظاهرا ، إذ ربّما كان العادل في الظاهر فاسقا في الواقع ، فتبتلي

ص: 218

الأمّة من أوّل الأمر بإمام فاسق ، فلا يحصل محلّ الحاجة إلى الإمام ولو بالنسبة إلى نفسه ، فيجب نصب إمام آخر على جميع الوجوه ، لئلّا تفوت الفوائد المطلوبة ويتسلسل.

وأمّا دعوى أنّ الخطأ ربّما لا يقع ، فخلاف المقطوع به عادة ، ولا ينكر المخالفون خطأ أئمّتهم الثلاثة الأول ، فضلا عن غيرهم ، ولو سلّم عدم القطع به ، فمع فرض إمكانه عادة يجب نصب إمام آخر يحترز به عن الخطأ المتوقّع ، لئلّا تفوت تلك الفوائد التي لا تتدارك مع الخطأ ، ولو تسامحنا فيها لما وجب نصب الإمام لأجلها.

قولكم : ولو وقع نبّهه من يرفع خطأه.

قلنا : إذا فات محلّ التدارك لم يبق محلّ للتنبيه ، وكذا لو لم يحضر من يصلح للتنبيه أو لم يصوّب الإمام رأيه ، فلا بدّ من إمام آخر ويتسلسل.

* الثالث : إنّ الإمام لو عصى لوجب الإنكار عليه والإيذاء له من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مفوّت للغرض من نصبه ، ومضادّ لوجوب طاعته وتعظيمه على الإطلاق المستفاد من قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) كما ستعرف.

* الرابع : إنّه لو صدرت المعصية منه لسقط محلّه من القلوب ، فلا تنقاد لطاعته ، فتنتفي فائدة النصب.

* الخامس : إنّه لو عصى لكان أدون حالا من أقلّ آحاد الأمّة ؛ لأنّ أصغر الصغائر من أعلى الأمّة وأولاها بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب المعاصي ، أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الأمّة.

ص: 219


1- سورة النساء 4 : 59.

* السادس : قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) ، فإنّه دالّ على كون الإمامة من عهد اللّه تعالى ، وعلى اعتبار عصمة الإمام حين الإمامة وقبلها ؛ لأنّ كلّ عاص ظالم ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2).

وروى السيوطي في « الدرّ المنثور » بتفسير هذه الآية ، عن ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عبّاس ، قال :

« معناها : إنّه كائن لا ينال عهده من هو في رتبة ظالم ، ولا ينبغي أن يولّيه شيئا من أمره » (3).

وروى أيضا ، عن وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد ، قال : « المعنى : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به » (4).

فإن قلت : إنّما تدلّ الآية على العصمة حين تولّي العهد ، وأمّا قبله - كما ادّعيتموه أيضا - فلا ؛ لأنّ الظالم مشتقّ ، والمشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ بالحال.

قلت : المراد بالحال حال ثبوت مبدأ المشتقّ للذات وتلبّسها به ، والمبدأ هو الظلم لا نيل العهد ، فيكون الظالم عبارة عن الذات في حين الظلم وإن كان زمانه ماضيا ، وهذا لا دخل له بحال ثبوت العهد.

* السابع : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

ص: 220


1- سورة البقرة 2 : 124.
2- سورة البقرة 2 : 229.
3- الدرّ المنثور 1 / 288.
4- الدرّ المنثور 1 / 288.

مِنْكُمْ ) (1) ، فإنّه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على الإطلاق كطاعته وطاعة الرسول ، وهو لا يتمّ إلّا بعصمة أولي الأمر ، فإنّ غير المعصوم قد يأمر بمعصية وتحرم طاعته فيها ، فلو وجبت أيضا اجتمع الضدّان ، وجوب طاعته وحرمتها.

ولا يصحّ حمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات ، إذ - مع منافاته لإطلاقها - لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأولي الأمر بمساواتهم لله تعالى في وجوب الطاعة ، إذ يقبح تعظيم العاصي ، ولا سيّما المنغمس بأنواع الفواحش.

على أنّ وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خوّاص الرسول وأولي الأمر ، بل تجب طاعة كلّ آمر بالمعروف ، فلا بدّ أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأولي الأمر ، وأنّهم لا يأمرون ولا ينهون إلّا بحقّ.

وقد أقرّ الرازي في تفسيره بدلالة الآية على عصمة أولي الأمر ، لكنّه زعم أنّ المراد بهم أهل الإجماع (2)!

وفيه - مع أنّ المنصرف من أولي الأمر من له الزعامة - : إنّ ظاهر الآية إفادة عصمة كلّ واحد منهم لا مجموعهم ؛ لأنّ ظاهرها إيجاب طاعة كلّ واحد منهم ، على أنّ العمل بمقتضى الإجماع ليس من باب الطاعة لهم ؛ لأنّ الإجماع من قبيل الخبر الحاكي.

وأشكل الرازي على إرادة أئمّتنا الأطهار من أولي الأمر بأمور :

* [ الأمر ] الأوّل : إنّ طاعة الأئمّة المعصومين مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو وجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا

ص: 221


1- سورة النساء 4 : 59.
2- تفسير الفخر الرازي 10 / 149.

تكليف ما لا يطاق ، ولو وجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) يقتضي الإطلاق (1).

وفيه أوّلا : النقض بطاعة اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وطاعة أهل الإجماع ، بناء على أنّهم المراد من أولي الأمر.

وثانيا : الحلّ بأن نقول : إنّ وجوب طاعة الأئمّة ليس مشروطا بمعرفتهم ، وقدرة الوصول إليهم ، بل مطلقا كطاعة اللّه ورسوله ، فيجب تحصيل معرفتهم ومذهبهم ، مقدّمة لطاعتهم ، فلا يلزم ما ذكره من تكليف ما لا يطاق ولا صيرورة الإيجاب مشروطا.

ومعرفة الأئمّة ممكنة لوجود الأدلّة على إمامتهم ، كما يمكن أخذ الأحكام عنهم كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لوجود الرواة عنهم وإن لم يصل المكلّف إلى شخص الإمام والنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

* الأمر الثاني : إنّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع ، وعندهم لا يكون في الزمان إلّا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر (2).

وفيه : إنّ المراد هو الجمع ولكن بلحاظ التوزيع في الأزمنة ، ولا منافاة فيه للظاهر.

* [ الأمر ] الثالث : إنّه تعالى قال : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (3) ، ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم ، لوجب

ص: 222


1- تفسير الفخر الرازي 10 / 151.
2- تفسير الفخر الرازي 10 / 151.
3- سورة النساء 4 : 59.

أن يقال : فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام (1).

وفيه : إنّ الردّ إلى أولي الأمر أيضا مأمور به ، لكن اكتفى عن ذكرهم في آخر الآية بما ذكره في أوّلها من مساواة طاعتهم لطاعة اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .

فإذا عرفت معنى العصمة وأدلّة وجوبها ، عرفت أنّ الفضل قد خلط في معناها ، وأخطأ في تجويز الصغائر على الإمام حتّى بلحاظ خصوص الدليل الثاني الذي اختصّ كلامه فيه ، إذ من جملة فوائد الإمام وجهات الحاجة إليه منع المحرّمات ، فلو فعلها هو احتاج إلى إمام آخر يمنعه ويتسلسل وإن فرض حصول الفوائد الأخر منه ، من الانتصاف للمظلوم ونحوه.

على أنّ خلاف الانتصاف ربّما يكون من الصغائر ، فلا تحصل هذه الفائدة ، وكذا جملة من غيرها من الفوائد.

ودعوى أنّ ترك الصغائر ليس من محلّ الحاجة إلى الإمام ، باطلة ، ضرورة أنّ تركها مطلوب للشارع ، ومن نظامه الشرعي المطلوب تنفيذه كما عرفت.

بقي الكلام في ما ذكره الخصم من شروط الإمام ، فنقول :

إشترطها جماعة منهم وخالف آخرون ، كما يدلّ عليه ما ذكره صاحب « المواقف » وشارحها ، فإنّهما بعد ما ذكرا اشتراط الاجتهاد في الأصول والفروع ، والشجاعة ، والبصارة بتدبير الحرب والسلم ، قالا :

« وقيل : لا يشترط هذه [ الصفات ] الثلاثة ؛ لأنّها لا توجد الآن

ص: 223


1- تفسير الفخر الرازي 10 / 151.

مجتمعة ، وإذا لم توجد كذلك ، فإمّا أن يجب نصب فاقدها ، فيكون اشتراطها عبثا ، أو يجب نصب واجدها ، فيكون تكليفا بما لا يطاق ، أو لا يجب هذا ولا ذاك ، فيكون اشتراطها مستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها » (1) انتهى ملخّصا.

وبمقتضى سكوت صاحب « المواقف » عن الردّ على هذا الكلام يستفاد موافقته عليه ، وأنّه ممّن لا يشترط هذه الثلاثة.

نعم ، أجاب عنه الشارح ب : « أنّا نختار عدم الوجوب مطلقا ، لكن للأمّة أن ينصبوا فاقدها دفعا للمفاسد » (2).

وفيه : إنّهم إذا نصبوه فإمّا أن يجب ترتيب آثار الإمامة عليه ، فحينئذ لم يكن وجه لا شتراطها ، وإن لم يجب فلا فائدة فيه.

هذا ، ويمكن إجراء نحو هذا الكلام في جميع الشروط فتنتفي شرطيّتها جميعا.

ونقل السيّد السعيد رحمه اللّه عن الإسفراييني الشافعي ، في كتاب « الجنايات » ، أنّه قال : « وتنعقد الإمامة بيعة أهل الحلّ والعقد - إلى أن قال : - وبالقهر والاستيلاء ولو كان فاسقا أو جاهلا أو أعجميا » (3).

ونقل أيضا عن صاحب « الوقاية في فقه الحنفية » (4) ، أنّه قال :

ص: 224


1- المواقف : 398 ، شرح المواقف 8 / 349.
2- شرح المواقف 8 / 350.
3- إحقاق الحقّ 2 / 316.
4- لم نظفر بنسخة من « الوقاية » أو شرحه أو مختصره. وكتاب « وقاية الرواية في مسائل الهداية ، لبرهان الشريعة - أو : تاج الشريعة - محمود بن عبيد اللّه بن إبراهيم المحبوبي البخاري الحنفي ، المتوفى في شرع آباد ببخارى نحو سنة 673 ه. وهو متن مشهور في فروع الفقه الحنفي ، وقد عُني العلماء بشأنه قراءة وتدريساً وحفظاً ، وعليه شروح كثيرة ، أشهرها شرح حفيده صدر الشريعة عبيد اللّه بن مسعود بن محمود ، المتوفى سنة 747 ه- ، وللكتاب مختصر لحفيده هذا اسمه «النقاية » . طبع الكتاب في قازان سنة 1888 م ، وطبع شرح حفيده في لكهنو سنة 1290 ه- طبعة حجرية ، وكذا في مطبعة الإمبراطورية القازانية سنة 1318 ه- . أنظر : كشف الظنون 2/ 2020 ، هدية العارفين 406/2 ، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع : 144 ، معجم المطبوعات العربية والمعربة 1199/2 - 1200 : معجم المؤلفين 818/3 رقم 16641 .

« لا يحدّ الإمام حدّ الشرب ؛ لأنّه نائب من اللّه تعالى » (1).

ونقل عن شارح « العقائد النسفية » ، أنّه قال : « لا ينعزل الإمام بالفسق والجور ؛ لأنّه قد ظهر الفسق والجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء والسلف ، وكانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم » (2).

فظهر من هذه الكلمات ونحوها أنّه لا يشترط عند كثير منهم تلك الشروط ، بل يظهر من كلام شارح « العقائد النسفية » دعوى الإجماع على عدم اعتبار العدالة في الإمام دواما (3).

والظاهر أنّه لا خصوصيّة للعدالة ولا للدوام ، بل كلّ الشرائط كذلك ابتداء ودواما ؛ لأنّهم ينقادون لمن فقد أيّ شرط كان ، ويخاطبونه بإمرة المؤمنين ، ويحرّمون الخروج عليه ، ويقتلون النفوس بأمره ، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنه ، فلا بدّ أن تكون الشروط التي اشترطوها شروطا صناعية جدلية لا عملية.

ص: 225


1- إحقاق الحقّ 2 / 318.
2- إحقاق الحقّ 2 / 317 ، وانظر : شرح العقائد النسفية : 239.
3- شرح العقائد النسفية : 241.

فما نسبه المصنّف إليهم من جواز إمامة السرّاق والفسّاق صحيح ألبتّة ، ولا سيّما انعقاد البيعة ، وهو الذي يقتضيه إنكار الحسن والقبح العقليّين ، كما اقتضى أيضا نفي وجوب أن يكون الإمام أفضل من رعيّته ، كما ستعرف.

ويصدّق ذلك - بحيث لا يبقى به ريب أصلا - أخبارهم الصحيحة عندهم ، التي عليها المعوّل بينهم ، الآمرة بالسماع والطاعة لسلاطين الجور والضلالة ، وقد سبق بعضها في صدر المبحث (1) ..

التي منها : ما رواه مسلم ، عن ابن عمر ، أنّه قال بعد حادثة الحرّة ، وفعل يزيد فيها الأفعال الشنيعة :

سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة » (2).

ومنها : ما رواه البخاري ، في الباب الثاني من ( كتاب الفتن ) ، ومسلم ، في باب وجوب طاعة الأمراء من ( كتاب الإمارة ) ، عن عبادة بن الصامت ، قال : « دعانا النبيّ صلی اللّه علیه و آله فبايعناه ، فكان في ما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة ، ولا ننازع الأمر أهله ، إلّا أن تروا كفرا بواحا عندكم من اللّه فيه برهان » (3).

ص: 226


1- راجع الصفحتين 213 - 214.
2- صحيح مسلم 6 / 22.
3- (3) صحيح البخاري 9 / 85 ح 7 ، صحيح مسلم 6 / 17 ، وانظر : سنن النسائي 7 / 138 - 139 ، السنن الكبرى - للنسائي - 4 / 421 - 422 ح 7770 - 7776 ، سنن ابن ماجة 2 / 957 ح 2866 ، الموطّأ : 392 ح 5 ، مسند أحمد 5 / 314 و 319، مسند الحميدي 1 / 192 ح 389 ، مصنّف ابن أبي شيبة 8 / 614 ح 149 و 150 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 480 ح 1029 وص 482 ح 1035 ، مسند أبي عوانة 4 / 406 - 407 ح 7119 - 7123 ، مسند الشاشي 3 / 119 - 123 ح 1180 - 1190 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 7 / 39 - 40 ح 4530.

ومنها : ما رواه مسلم ، في باب الأمر بلزوم الجماعة من ( كتاب الإمارة ) ، عن حذيفة ، من حديث قال فيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

« يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس ».

قال : قلت : كيف أصنع يا رسول اللّه [ إن أدركت ذلك ]؟

قال : « تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وبطنك (1) وأخذ مالك » (2)

ومنها : ما رواه مسلم ، في باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء ، الأوّل فالأوّل ، من ( كتاب الإمارة ) ، عن عبد الرحمن ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، من حديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال فيه :

« من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر »

.. إلى أن قال عبد الرحمن : فقلت له : هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا ، واللّه تعالى يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ

ص: 227


1- لم ترد في المصدر.
2- صحيح مسلم 6 / 20 ، وانظر : السنن الكبرى - للبيهقي - 8 / 157 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 1 / 283 ح 398.

تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (1)؟!

قال : فسكت ساعة ، ثمّ قال : أطعه في طاعة اللّه واعصه في معصية اللّه » (2).

.. إلى غير ذلك من أخبارهم المستفيضة المصرّحة بأنّ من الأئمّة أئمّة جور ، وتجب طاعتهم وإقرارهم على إمرتهم ، ومن خرج عن طاعتهم شبرا مات ميتة جاهليّة.

وما ألطف ما شهد به عبد الرحمن ، وأقرّ به عبد اللّه ، في حقّ معاوية ، وهو خيرة أئمّتهم بعد الثلاثة ، فيا بشراهم به وبابنه يزيد!!

فمع هذه الأخبار ونحوها من الأخبار المعتبرة المعمول بها عندهم ، كيف تصحّ دعوى أنّهم يشترطون واقعا تلك الشروط في الإمام؟!

فالظاهر أنّ من يشترطها إنّما يريد بها دفع الاستبشاع والمحافظة على الخلفاء الثلاثة ، ببيان أنّهم ممّن جمع هذه الشروط ، وإلّا فما فائدة شروط لا يتّبعونها في سلاطينهم ، ولا تنطبق عندهم على خليفة سوى الثلاثة ، إلّا النزر الأندر؟!

ولذا عجزوا عن تطبيق حديث الاثني عشر خليفة على سلاطينهم (3).

ص: 228


1- سورة النساء 4 : 29.
2- صحيح مسلم 6 / 18 ، وانظر : سنن أبي داود 4 / 94 ح 4248 ، سنن النسائي 7 / 152 - 153 ، سنن ابن ماجة 2 / 1306 ح 3956 ، مسند أحمد 2 / 161 و 191 ، مسند أبي عوانة 4 / 413 - 414 ح 7147 و 7148 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 8 / 169.
3- انظر : تفسير ابن كثير 2 / 31 - 32 ، الحاوي للفتاوي 2 / 85 ، عون المعبود شرح سنن أبي داود 11 / 362 - 364.

ورووا أنّ ما بعد الثلاثين سنة ملك عضوض لا خلافة (1).

ولو سلّم أنّهم يشترطونها واقعا ، فأكثرها لاغ ، إمّا لعدم اعتباره ، أو لعدم كفايته في الإمام.

فمن الأوّل : البلوغ ، فإنّ الحقّ عدم اعتباره ، إذ ليست الإمامة بأعظم من النبوّة ، وقد أرسل اللّه عيسى ونبّأ يحيى طفلين ، لكن لمّا جعلوا الإمامة بالاختيار كان لاشتراطهم البلوغ وجه.

ومن الثاني : العدالة ، لما عرفت من عدم كفايتها عن العصمة ، وكذا الشجاعة ، والعقل ، والبصارة في تدبير الحرب والسلم ، لما سيأتي في المبحث الآتي من اعتبار أفضليّة الإمام في جميع صفات الكمال ، فلا بدّ أن يكون أشجع الناس وأعقلهم وأبصرهم في الأمور ، ولا يكفي ثبوت أصل الشجاعة والعقل والبصارة فقط.

وكذا الاجتهاد ، ضرورة أنّه لا يكفي في النيابة عن الرسول ، بل لا بدّ أن يكون عالما بجميع أحكام الشريعة علما يقينيّا ؛ لأنّ اللّه سبحانه قد بلّغ نبيّه صلی اللّه علیه و آله أحكاما أتمّها وأجراها على أمّته إلى يوم الدين ، ولا شكّ أنّ الاجتهاد لا يوصل إليها دائما ، لوقوع الخطأ فيه ..

فلا يمكن أن لا يجعل اللّه لنا إماما عالما بجميع الأحكام ويحيلنا على من لا طريق له إلّا الظنّ ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

ص: 229


1- انظر : سنن أبي داود 4 / 210 ح 4646 و 4647 ، سنن الترمذي 4 / 436 ح 2226 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 47 ح 8155 ، مسند أحمد 5 / 221 ، مسند أبي يعلى 2 / 177 ح 873 ، المعجم الكبير 1 / 55 ح 13 وص 89 ح 136 وج 7 / 83 - 84 ح 6442 - 6444 ، مشكل الآثار 4 / 215 ح 3657 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 75 ح 4438 وص 156 ح 4697 ، تخريج أحاديث العقائد النسفية - للسيوطي - : 231.

على أنّه إذا أخطأ الإمام في حكم أو موضوع ، فإمّا أن يلزم الناس السكوت عن خطئه ، فيلزم الإغضاء على القبيح ، وربّما يجتهد في تحليل الحرام وما يوجب الضرر والفساد ، فلا تحصل به الفائدة المطلوبة في الإمام .. وإمّا أن يلزم ردّه ، وهو ربّما يوقع في الشقاق.

نعم ، بقيّة الشروط التي ذكرها صحيحة..

أمّا الحرّية ؛ فلأنّ المملوكية نقص في الشأن والتصرّف.

وأمّا القرشية ؛ فلأنّها وإن لم يحكم بها العقل إلّا أنّه لمّا اتّفق أنّ الأئمّة من قريش ومن آل رسول اللّه ، صحّ جعلها شرطا بهذا الاعتبار ، كما أخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّه لا يزال هذا الأمر في قريش ، وأنّ الأئمّة اثنا عشر (1) ، وأوجب التمسّك بعترته كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

وقد خالف عمر هذا الشرط وقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ قال : « لو كان سالم حيّا ما جعلتها شورى » (2) ..

ونحوه في حقّ معاذ ، كما سيأتي في مطاعن الصحابة.

وأمّا الذكورة ؛ فلأنّ النفوس لا تنقاد غالبا إلى المرأة فلا يحصل منها

ص: 230


1- انظر : صحيح البخاري 9 / 147 ح 79 ، صحيح مسلم 6 / 3 - 4 ، سنن أبي داود 4 / 103 ح 4279 4280 ، سنن الترمذي 4 / 434 ح 2223 ، مسند أحمد 1 / 398 وج 5 / 86 ، مسند أبي يعلى 13 / 456 ح 7463 ، المعجم الكبير 2 / 223 ح 1923 ، مسند الطيالسي : 105 ح 767 وص 180 ح 1278 ، الفتن - لنعيم بن حمّاد - : 52 - 53 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 518 ح 1123 وص 534 ح 1152 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 230 ح 6626 - 6628 ، المستدرك على الصحيحين 4 / 496 ح 8388 ، مصابيح السنّة 4 / 137 ح 4680.
2- أنساب الأشراف 10 / 421 ، تاريخ الطبري 2 / 580 ، الاستيعاب 2 / 568 ، أسد الغابة 2 / 156 ، الكامل في التاريخ 2 / 459.

الغرض من الإمامة ، لكنّ بعض القوم - كابن حزم (1) - اختار نبوّة أمّ موسى ومريم وأمّ إسحاق! فيلزمه عدم اشتراط الذكورية في الإمام للأولوية.

وتعليل الفضل بأنّ النساء ناقصات العقل والدين ، باطل ؛ إذ كم امرأة أعقل من أكثر الرجال ، بل بعضهنّ بالغات مرتبة العصمة والكمال كما ورد في أخبارنا في حقّ الزهراء وخديجة ومريم وآسية (2).

وروى مسلم في فضائل خديجة ، عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون » (3)

والظاهر أنّه قد سقط ذكر خديجة من الحديث ، وإلّا فلا معنى لروايته في فضائلها ، ولا بدّ أن تكون الزهراء أكمل من هذه الثلاث ؛ لما رواه البخاري وغيره أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة (4) كما ستعرف ، بل لا يبعد سقوط ذكر الزهراء كخديجة من الحديث (5).

ص: 231


1- الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 11 [ 2 / 296 ]. منه قدس سره . وقال القرطبي بنبوة مريم عليهاالسلام في تفسيره الجامع لأحكام القرآن 153/4 ! كما نقل العسقلاني في فتح الباري 553/6 أنّ الأشعري قال بنبوة ست من النساء ، هنّ : حوّاء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم ، والضابط عنده ان جاءه الملك عن اللّه بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي !! ونقل كذلك ما مرّ آنفاً - في المتن والهامش - عن ابن حزم والقرطبي .
2- انظر : الخصال : 205 - 206 ح 22 و 23 ، إعلام الورى 1 / 295 - 296.
3- صحيح مسلم 7 / 133.
4- صحيح البخاري 5 / 91 و 105 ، سنن الترمذي 5 / 619 ح 3781 ، وسيأتي مزيد تفصيل له في محلّه.
5- والحقّ مع الشيخ المظفّر قدس سره ، إذ لو استقصينا موارد الحديث بألفاظه المختلفة في مصادر الجمهور المعتمدة ، فسنجد كيف تلاعبت يد التحريف والخيانة بنصّ الحديث ، فتارة نجده كاملا مشتملا على اسمي السيّدتين الزهراء وخديجة علیهماالسلام ، كما في : سنن الترمذي 5 / 660 ح 1. مسند أحمد 1 / 316 وج 3 / 135 ، مسند أبي يعلى 5 / 110 ح 2722 وص 380 ح 3039 ، المعجم الكبير 11 / 266 ح 11928 وج 22 / 402 ح 1003 وص 407 ح 1019 وج 23 / 7 ح 1 - 3 ، مصنّف عبد الرزّاق 11 / 430 ح 20919 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 530 ب 35 ح 5 ، تفسير الطبري 3 / 262 ح 7023 و 7025 و 7026 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 71 ح 6964 ، المستدرك على الصحيحين 2 / 650 ح 4160 وج 3 / 172 ح 4746 وص 174 ح 4754 وص 205 ح 4852 و 4853 ووافقه الذهبي عليها كلّها ، تاريخ بغداد 7 / 185 رقم 3636 وج 9 / 404 رقم 5008 ، مصابيح السنّة 4 / 202 ح 4850 ، تاريخ دمشق 70 / 107 - 112 ، كنز العمّال 12 / 143 ح 34402 - 34404 وص 144 ح 34406و ص 145 ح 34409 و 34411. وتارة أسقطت اسم الزهراء البتول عليهاالسلام فقط ! فانظر : صحيح البخاري 318/4 ح 230 ، صحيح مسلم 132/7 ، سنن الترمذي 659/5 - 660 ح 3877، مسند أحمد 1 / 84 و 132 و 143 ، مسند أبي يعلى 399/1 ح 522 و ص 450 ح 612 ، تفسير الطبري 3 / 262 ح 7021 و 7022 و ص 263 ح 7028 ، المستدرك على الصحيحين 203/3 ح 4847 ، تاریخ دمشق 70 / 101 - 106 و 114. وتارة اسم السيدة خديجة عليهاالسلام فقط ! أنظر مثلاً : تاريخ دمشق 113/70 .وأسقطت اسميهما عليهماالسلام تارة أخرى !! فانظر مثلاً : صحيح مسلم 133/7 ، تاریخ دمشق 116/70 - 117.

وإنّما جعلت شهادة المرأتين عن شهادة رجل واحد جريا على الغالب من نقصان عقل المرأة.

وأمّا ما ذكره من أنّهنّ ناقصات الدين ، فلا ينافي إمامتهنّ ؛ لأنّه مفسّر في الأخبار بقعودهنّ عن الصلاة والصوم أيّام المحيض والنفاس ، كما رواه البخاري في ( كتاب الحيض ) ، في باب ترك الحائض الصوم (1).

فقد ظهر أنّ جملة من كلمات القوم وصحاح أخبارهم تقتضي جواز إمامة الفسّاق والسرّاق كما ذكره المصنّف رحمه اللّه .

ص: 232


1- صحيح البخاري 1 / 136 - 137 ح 9.

الإمام أفضل من رعيّته

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المبحث الثاني : في أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته

اشارة

اتّفقت الإمامية على ذلك ، وخالف فيه الجمهور فجوّزوا تقديم المفضول على الفاضل (2) ، وخالفوا مقتضى العقل ونصّ الكتاب (3) ، فإنّ العقل يقبّح تقديم المفضول وإهانة الفاضل ، ورفع مرتبة المفضول وخفض

ص: 233


1- نهج الحقّ : 168.
2- هذا القول من معتقدات الجمهور من المعتزلة والأشاعرة ، وإن اشتهر به المعتزلة دون الأشاعرة .. فانظر للمعتزلة : المغني - للقاضي عبد الجبار - 20 ق 215/1 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 3/1 . وأنظر للأشاعرة في ذلك أيضاً : غياث الأمم : 140 ، تفسير القرطبي 187/1 المسألة 12 من الآية الكريمة ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) سورة البقرة 2 : 30 ، شرح المقاصد 246/5 - 247 ، شرح العقائد النسفية : 238 ، شرح المواقف 372/8 - 373 . وأنظر الصفحة 207 من هذا الجزء .
3- انظر مثلا : تفسير القرطبي 1 / 182 في تفسير آية ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) سورة البقرة 2 : 30 ؛ وانظر كذلك تفسير قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) سورة البقرة 2 : 124 ، وقوله تعالى : ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) سورة ص 38 : 26.

مرتبة الفاضل ، والقرآن نصّ على إنكار ذلك فقال تعالى :

( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ..

وقال تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (2).

وكيف ينقاد الأعلم الأزهد ، الأشرف حسبا ونسبا ، للأدون في ذلك كلّه؟!

* * *

ص: 234


1- سورة يونس 10 : 35.
2- سورة الزمر 39 : 9.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

المراد من كون الإمام أفضل من الرعيّة : إن كان كونه أحسب ، وأنسب ، وأشرف ، وأعرف ، وأعفّ ، وأشجع ، وأعلم ؛ فلا يلزم وجوبه عقلا - كما ادّعاه - على تقدير القول بالوجوب العقلي ؛ لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الإمامة على حفظ الحوزة والعلم بالرئاسة وطريق التعيّش مع الرعيّة ، بحيث لا يكون فظّا غليظا منفّرا ، ولا سهلا ضعيفا يستولي عليه الرعيّة ، ويكون حامي الذمار ..

ويكفيه من العلم ما يشترط القوم من الاجتهاد ، وكذا الشجاعة والقرشية في الحسب والنسب ..

وإن وجد في رعيّته من كان في هذه الخصال أتمّ ولا يكون مثله في حفظ الحوزة ، فالذي يكون أعلم بتدبير حفظ الحوزة ، فالعقل يحكم بأنّه هو الأولى بالإمامة.

وكثير من المفضولين يكونون أصلح للإمامة من الفاضلين ، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر والقيام به معرفة مصالحه ومفاسده وقوّة القيام بلوازمه ، وربّ مفضول في علمه وعمله وهو بالزعامة والرئاسة أعرف ، وبشرائطها أقوم ، وعلى تحمّل أعبائها أقدر.

وإن أراد بالأفضل أن يكون أكثر ثوابا عند اللّه تعالى ، فهذا أمر يحصل له الشرف والسعادة ، ولا تعلّق له بالزعامة والرئاسة.

ص: 235


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 320.

وإن أراد بالأفضل الأصلح للإمامة ؛ لكونه أعلم بحفظ الحوزة وتدبير المملكة ، فلا شكّ أنّه أولى ، ولا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون ، بل الأولى والأنسب تقديم هذا إذا لم يسبق عقد بيعة ، فإن سبق وكان في تغييره مظنّة فتنة فلا يجوز التغيير.

هذا جواب ما استدلّ به على هذا المطلب من لزوم القبح العقلي ، مع إنّا غير قائلين به.

وأمّا ما استدّل به من الآية ، فهو يدلّ على عدم استواء العالم والجاهل ، وعدم استواء الهادي والمضلّ والمهتدي والضالّ ، وهذا أمر مسلّم ، فذاك الفاضل الذي لم يصر إماما وصار المفضول إماما يترجّح على المفضول بالعلم والشرف ، ولكن المفضول إذا كان أحفظ لمصالح الحوزة وأصلح للإمامة فهو أحقّ بالإمامة ، والفاضل على فضله وشرفه ، ولا محذور في هذا.

ومن الأشاعرة من فصّل في هذه المسألة وقال : نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب ، كما إذا فرض أنّ العسكر والرعايا لا ينقادون للفاضل بل للمفضول ، وإلّا وجب (1).

* * *

ص: 236


1- غياث الأمم : 140 ، تفسير القرطبي 1 / 187 ، المواقف : 413 ، شرح المواقف 8 / 373.
وأقول :

لا يخفى أنّ رئاسة الإمام رئاسة دينية ، وزعامة إلهيّة ، ونيابة عن الرسول في أداء وظائفه ، فلا تكون الغاية منها مجرّد حفظ الحوزة وتحصيل الأمن في الرعية ، وإلّا لجاز أن يكون الإمام كافرا ، أو منافقا ، أو أفسق الفاسقين إذا حصلت به هذه الغاية.

بل لا بدّ أن تكون الغاية منها تحصيل ما به سعادة الدارين كالغاية من رسالة الرسول ، وهي لا تتمّ إلّا أن يكون الإمام كالنبيّ معصوما ، وأحرص الناس على الهداية ، وأقربهم للاتّباع والانتفاع به في أمور الشريعة والآخرة ، وأحفظهم للحوزة وحقوق الرعية وسياستها على النهج الشرعي.

فلا بدّ أن يكون فاضلا في صفات الكمال كلّها ، من الفهم ، والرأي ، والعلم ، والحزم ، والكرم ، والشجاعة ، وحسن الخلق ، والعفّة ، والزهد ، والعدل ، والتقوى ، والسياسة الشرعية ، ونحوها ؛ ليكون أقرب للاتّباع ، وتسليم النفوس له ، والاقتفاء لآثاره ، فيحصل لهم - مع حفظ الحوزة - السعادة بكمال الإيمان وشرف الفضائل ، وخير الدارين ، وهي الغاية من رسالة الرسول.

فاتّضح أنّه يجب أن يكون الإمام أفضل من الرعية في جميع المحامد كما هو مراد المصنّف رحمه اللّه ولعلّه مراد الفضل بالوجه الأوّل ، وحينئذ فلا يصحّ ردّه على المصنّف بقوله : « لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الإمامة على حفظ الحوزة ... » إلى آخره.

ص: 237

فإنّ هذا وحده لا يكفي في نيابة الرسول ، ولا سيّما إذا رأى الأمير ارتفاع ملكه ونفوذ أمره بسحق الدين وقتل المؤمنين وإخافتهم وتقريب الطالحين ، كما وقع في العصر الأوّل ، وعلى نحوه توالت العصور.

ومنه يعلم أنّ فرض كون المفضول في العلم والعمل أحفظ للحوزة خطأ ؛ لأنّ المطلوب هو الأحفظية على الوجه الشرعي ، وهي فرع الأعلمية والأعملية بوجوه الحفظ الشرعية.

هذا ، والأولى أن لا يذكر الفضل شرط أن لا يكون فظّا غليظا ، ولا شرط أن لا يكون سهلا ضعيفا يستولي عليه الرعية ، فإنّ الأوّل مضرّ بإمامة عمر (1) ، والثاني بإمامة عثمان (2).

وبما ذكرنا من وجوب كون الإمام فاضلا في جميع صفات الكمال ، يعلم أنّه لا يصحّ فرض كونه فاضلا في صفة دون أخرى حتّى تتصوّر المعارضة ويقال بتقديم صاحب الصفة التي هي أمسّ بالإمامة ، كما فعل الفضل.

ص: 238


1- (1) فإنّه كان يوصف بأنّه فظّ ، غليظ شديد الغلظة ، وعر الجانب ، خشن الملمس ، دائم العبوس ، سريع إلى المساءة ، كثير الجبه والشتم والسبّ ، وكان الناس يقولون لأبي بكر : ماذا تقول لربّك إذا لقيته وقد ولّيت علينا فظّا غليظا؟! أنظر : تاريخ المدينة المنوّرة - لابن شبّة - 671/2 ، غياث الأمم : 125 ، الكامل في التاريخ 272/2 - 273 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 164/1.
2- كان عثمان في أيّامه الأخيرة كثيرا ما يعطي العهود والمواثيق من نفسه ويعلن توبته ، ولكنّ مروان وغيره من بني أميّة يحيدونه عن رأيه وينقاد حسب هواهم .. وقد روي أنّ زوجته نائلة بنت الفرافصة قالت له : قد أطعت مروان يقودك حيث شاء! أنظر : أنساب الأشراف 180/6 - 181 ، تاريخ الطبري 659/2.

وأعلم أنّ الإمام إذا كان فاضلا في صفات الكمال ، يلزم أن يكون أطوع لله وأكثر عملا بالبرّ والخير ، فلا بدّ أن يكون أكثر ثوابا.

فحينئذ لو أريد بالأفضل الأكثر ثوابا من حيث لزومه للأفضل في صفات الكمال ، كان متّجها.

ولم يرد عليه ما ذكره الفضل ، على أنّه غير مراد المصنّف.

كما لا يريد ما احتمله الفضل ثالثا ؛ لما عرفت من أنّ الصلوح للإمامة عند المصنّف إنّما يكون بالعصمة والفضل بسائر الصفات الحميدة ، لا بالأعلمية بحفظ الحوزة فقط.

على أنّ قوله : « لا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون » ..

ظاهر البطلان ؛ لأنّ العقل يقبّح تقديم المفضول بالصلوح للإمامة على الأفضل فيه ، فلا يصحّ حينئذ سبق العقد للمفضول حتّى يكون في تغييره مظنّة فتنة.

لكنّ القوم أنكروا الحسن والقبح العقليّين ، وعليه : فما معنى اشتراطهم اجتهاد الإمام ، وعدالته ، إلى غيرهما من الشروط المتقدّمة سوى القرشية التي قالوا بورود الشرع بها.

وأمّا ما أجاب به عن الآيتين .. فخطأ ظاهر ؛ إذ لا يراد بهما مجرّد نفي المساواة بين العالم والجاهل ، أو بين الهادي وغيره ، كما تخيّله الفضل ، فإنّ نفي المساواة بينها ضروري غير محتاج إلى البيان ، ولا يمكن أن يقول عاقل بالمساواة حتّى ينكر عليه ، بل المراد هو الإنكار على عدم ترتيب أثر الفرق بينها وعدم اتّباع الأفضل كما هو صريح الآية الأولى ، إذ أنكرت على من لا يقول بأنّ الهادي أحقّ بالاتّباع ممّن لا يهتدي إلّا أن يهدى.

ص: 239

ولا يخفى أنّ القوم لم يوجبوا تقديم الأعلم مع المساواة في الحفظ ، وكفاهم فيه مخالفة للكتاب العزيز!

هذا ، ولا يعتبر أن يكون الإمام أشرف الناس في الجهات الدنيوية ، من الجاه والمال والسلطان وإن كانت مقرّبة للأتباع ؛ لأنّ المطلوب هو الاتّباع والإيمان الحقيقي ، لا مجرّد الطاعة الظاهرية.

كما لا يعتبر أن لا يساويه أحد في صحّة النسب ، وإنّما يعتبر أن لا يفضله فيه أحد ؛ إذ لا تنافي المساواة فيه حسن التبعة إذا كان أشرف حسبا ، ولذا جاز أن يكون للإمام إخوة من أمّه وأبيه!

فتدبّر! وعلى اللّه التوفيق.

* * *

ص: 240

طريق تعيين الإمام

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

المبحث الثالث : في طريق تعيين الإمام

اشارة

ذهبت الإمامية كافّة إلى أنّ الطريق إلى تعيين الإمام أمران :

الأوّل : النصّ من اللّه تعالى ، أو نبيّه ، أو إمام ثبتت إمامته بالنصّ عليه ..

أو (2) : ظهور المعجزة على يده ؛ لأنّ شرط الإمامة العصمة ، وهي من الأمور الخفيّة الباطنة التي لا يعلمها إلّا اللّه تعالى (3).

وخالفت السنّة في ذلك ، وأوجبوا إطاعة أبي بكر على جميع الخلق في شرق الأرض وغربها ، باعتبار مبايعة عمر بن الخطّاب له برضا أربعة : أبي عبيدة بن الجرّاح (4) ، وسالم مولى أبي

ص: 241


1- نهج الحقّ : 168.
2- هذا هو الأمر الثاني من طريق تعيين الإمام.
3- انظر : أوائل المقالات : 65 ، الذخيرة في علم الكلام : 436 - 437 ، شرح جمل العلم والعمل : 199 ، المقنع في الإمامة : 145 ، المنقذ من التقليد 2 / 296 ، تجريد الاعتقاد : 221 - 223.
4- هو : عامر بن عبد اللّه الجرّاح بن هلال بن أهيب الفهري القرشي ، كان يعمل حفّارا للقبور ، استخلفه عمر على الشام بعد تولّيه الخلافة ، وعزل خالد بن الوليد عنها ، توفّي بالطاعون سنة 18 ه وله 58 عاما. أنظر : الطبقات الكبری - لابن سعد - 228/2 ، تاريخ الطبري 239/2 ، الاستيعاب 792/2 رقم 1332 ، أسد الغابة 24/3 رقم 2705 ، سير أعلام النبلاء 5/1 رقم 1.

حذيفة (1) ، وبشير بن سعد (2) ، وأسيد بن حضير (3) ، لا غير (4).

فكيف [ يحلّ ] لمن يؤمن باللّه واليوم الآخر إيجاب اتّباع من لم ينصّ اللّه عليه ولا رسوله ، ولا اجتمعت الأمّة عليه ، على جميع الخلق لأجل مبايعة أربعة نفر؟!

بل ذهب الجويني ، وكان من أكثرهم علما وأشدّهم عنادا لأهل

ص: 242


1- هو : سالم بن عتبة ، وقيل : عبيد بن ربيعة ، وقيل : ابن معقل ، أصله من إصطخر فارس ، كان مولى لامرأة من الأنصار ، اختلف في اسمها ، قتل في اليمامة. أنظر : أسد الغابة 2 / 155 رقم 1892 ، سیر أعلام النبلاء 167/1 رقم 14 ، الإصابة 13/3 رقم 3054 .
2- هو : بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس ، وقيل : جلاس - بضمّ الجيم - ، الأنصاري الخزرجي ، يكنّى أبا النعمان ، هو أوّل أنصاري بايع أبا بكر في السقيفة ، قتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة عام 12 أو 13 ه. أنظر : الطبقات الكبرى - لابن سعد - 402/3 رقم 211 ، معرفة الصحابة - لأبي نعيم - 397/1 رقم 294 ، اسد الغابة 231/1 رقم 459 ، الكامل في التاريخ 247/2 حوادث سنة 12 ، تهذيب الكمال 3/ 108 رقم 706 ، الإصابة 311/1 رقم 694 .
3- هو : أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن نافع بن امرئ القيس ، الأنصاري الأوسي الأشهلي ، أسلم بعد العقبة الأولى ، وقيل : الثانية ، ولم يشهد بدرا ، كان أبوه يلفّ حصير الكتائب ؛ توفّي سنة 20 أو 21 ه. أنظر : الطبقات الكبرى - لابن سعد - 453/3 رقم 326 ، معرفة الصحابة - لأبي نعيم - 1 / 258 رقم 116 ، الاستيعاب 92/1 رقم 54 ، أسد الغابة 111/1 رقم 170، سير أعلام النبلاء 340/1 رقم 74 ، الإصابة 83/1 رقم 185 .
4- انظر : تمهيد الأوائل : 480 - 481 ، الأحكام السلطانية - للماوردي - : 7 ، المواقف : 400 ، شرح العقائد النسفية : 229.

البيت علیهم السلام إلى أنّ البيعة تنعقد لشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير (1).

فهل يرضى العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب ، وأن يجب على نفسه الانقياد وبذل الطاعة لمن لا يعرف عدالته ، ولا يدري حاله من الإيمان وعدمه ، ولا عاشره ليعرف جيّده من رديّه ، وحقّه من باطله ، لأجل أنّ شخصا لا يعرف عدالته بايعه؟!

وهل هذا إلّا محض الجهل والحمق والضلال عن سبيل الرشاد؟!

نعوذ باللّه من اتّباع الهوى وغلبة حبّ الدنيا.

ومن أغرب الأشياء وأعجبها : بحث الأشاعرة عن الإمامة وفروعها وعن الفقه وتفاصيله ، مع تجويز أن يكون جميع الخلق على الخطأ والزلل ، وأن يكون اللّه تعالى قد قصد إضلال العبيد بهذه الشرائع والأديان ، فإنّهم غير جازمين بصدقها ولا ظانّين.

فإنّه مع غلبة الضلال والكفر وأنواع العصيان الصادرة منه تعالى ، كيف يظنّ العاقل أو يشكّ في صحّة الشرائع؟! بل يظنّ بطلانها عندهم حملا على الغالب ، إذ الصلاح في العالم أقلّ القليل.

ثمّ مع تجويزهم أن يحرّم اللّه علينا التنفّس في الهواء مع الضرورة والحاجة إليه وعدم الغناء عنه من كلّ وجه ، ويحرّم علينا شرب الماء السائغ مع شدّة العطش والانتفاع بذلك الماء وعدم التضرّر به وانتفاء المفاسد كلّها .. كيف يحصل الجزم بأنّه يفعل اللطف بالعبد والمصلحة في إيجاب اتّباع هذا الإمام؟!

ص: 243


1- انظر : غياث الأمم : 88.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ الشخص بمجرّد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما ، بل لا بدّ مع ذلك من أمر آخر ، وإنّما تثبت بالنصّ من الرسول ، ومن الإمام السابق بالإجماع.

وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد عند أهل السنّة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية (2) ، خلافا للإمامية من الشيعة ، فإنّهم قالوا : لا طريق إلّا النصّ (3).

لنا : ثبوت إمامة أبي بكر ببيعة أهل الحلّ والعقد ، كما سيأتي بعد هذا مفصّلا في محالّه.

وأمّا ما ذكر : أنّ خلافة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة ..

فهذا أمر باطل ، يكذّبه النقول المتواترة وإجماع الأمّة ، فإنّ خلافة أبي بكر انعقدت يوم السقيفة بمحضر من أرباب الحلّ والعقد ، وهم كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار سيّما (4) الخزرج ؛ لأنّ المراد من أهل الحلّ والعقد أمراء العساكر ومن لم يتمّ أمر الإمارة والخلافة بغير رضاهم ، وكانوا في ذلك الوقت جماعة الأنصار أهل الحلّ والعقد بهذا المعنى.

ص: 244


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 336.
2- شرح المواقف 8 / 351.
3- راجع ما مرّ آنفا في الصفحة 241.
4- سيّ : اسم بمنزلة « مثل » وزنا ومعنى ، وتثنيته سيّان ، ومن الخطأ استخدامها بدون تقدّم « لا » عليها ، والغالب تقدّم « الواو » أيضا ، هكذا : « ولا سيّما ». أنظر : مغني اللبيب : 186.

وهل اختلف رجل واحد من زمان الصحابة إلى اليوم من أرباب التواريخ أنّ أبا بكر لم يفارق السقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار ، إلّا سعد بن عبادة (1) ، وهو كان مريضا ، ومات بعد سبعة أيّام (2)؟! فكيف يقول : إنّ خلافته انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة من الصحابة؟!

وهل هذا إلّا افتراء باطل يكذّبه جميع التواريخ المثبّتة في الإسلام؟!

نعم ، البادئ بالبيعة كان عمر بن الخطّاب ، وتتابع الأنصار وبايعوه بعد تلجلج وتردّد ومباحثة.

ولو كان الأنصار سمعوا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله النصّ على خلافة عليّ ، فلم لم يجعلوه حجّة على أبي بكر ، ولم لم يدفعوا خلافته بهذه الحجّة؟!

أكانوا يخافون من أبي بكر وعمر وهم كانوا في عقر دارهم وقد اجتمعوا لنصب الإمام من قومهم وكانوا زهاء ألف أو زيادة؟! ..

ص: 245


1- هذا ادّعاء باطل ، فهناك عدد كبير من أكابر الصحابة لم يبايعوا أبا بكر ، منهم : إبي بن كعب ، فروة بن عمرو بن ودقة الأنصاري البياضي - وكان ممن جاهد مع رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم وشهد العقبة وبدراً وما بعدها من المشاهد - ، أبان وخالد وعمرو أبناء سعيد بن العاص ، البراء بن عازب ، أبو ذر الغفاري ، سلمان الفارسي ، عمار ابن ياسر ، المقداد بن عمرو ، الزبير بن العوام ، بريدة الأسلمي ، خزيمة بن ثابت ، ابن التيهان ، سهل وعثمان ابنا حنيف ، حذيفة بن اليمان ، أبو أيوب الأنصاري ، أبو سفيان بن حرب الأموي ، مالك ومتمّم ابنا نويرة وقومهما ، علاوة على سعد بن عبادة ورهطه ، وطائفة من الخزرج ، وفرقة من قريش ؛ أنظر : الاستيعاب 973/3 ، روضة المناظر - لابن الشحنة - 11 / 112 - 113 . وقبل كل هؤلاء الإمام علي عليه السلام والعباس وبنو هاشم ؛ أنظر : تاريخ اليعقوبي 9/2 ، الأخبار الموفّقيّات : 471 .
2- بل اتّفاق أهل العلم والمؤرّخين على أنّه قتل في إمارة عمر ، بحوران من أعمال دمشق ، وسيأتي بيان المصنّف قدس سره بصدد ذلك في الصفحة 265 منهذا الجزء.

وقالوا بعد المباحثة : « منّا أمير ومنكم أمير » فلم لم يقولوا : يا أبا بكر! يا عمر! إنّ العهد لم يطل ، وإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غدير خمّ نصّ بخلافة عليّ ، فلم تبطلون قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! ولم لا تنقادون بقوله؟!

وكان أقلّ فائدة هذه المباحثة دفع البيعة عن أنفسهم؟!

ولم يجترئ أحد من الإمامية أن يدّعي أنّ الأنصار قالوا يوم السقيفة هذا القول (1).

فيا معشر العقلاء! هل يمكن وجود النصّ في محضر جميع الناس ولم يحضر الأنصار؟!

وهل يمكن أنّ الأنصار ، الّذين نصروا اللّه ورسوله وتبوّأوا الدار والإيمان ، وارتكبوا عداوة العرب وقتل الأشراف في نصرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كانوا ساكتين في وقت المعارضة ولم يذكروا النصّ أصلا ، مع أنّ عمر وأبا عبيدة ألزموهم بقوله : « الأئمّة من قريش » (2)؟!

فلم لم يقولوا : الإمامة لعليّ بنصّ من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خمّ؟!

ص: 246


1- سيأتي عن الطبري وابن الأثير ، أنّ الأنصار - أو بعض الأنصار - قالوا : لا نبايع إلّا عليّا.
2- تاريخ دمشق 30 / 286. وأنظر : مسند أحمد 183/3 ، مسند أبي يعلى 321/6 ح 3644 و ج 7 / 94 ح 4032 و 4033 ، مسند أبي داود الطيالسي : 125 ح 926 و ص 284 ح 2133، الفتن - لنعيم بن حماد - : 67 ، السُنّة - لابن أبي عاصم - : 517 ح 1120 و 1125 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 143/8 - 144 ، تاریخ دمشق 205/20 و ج 11/61 - 14.

والعاقل المسلم المنصف لو تأمّل في ما قلنا من سكوت الأنصار ، وعدم الاستدلال في دفع بيعة أبي بكر بالنصّ على عليّ ، لجزم بعدم النصّ من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أحد ، ويعلم أنّ خلافة أبي بكر ثبتت ببيعة أرباب الحلّ والعقد.

ثمّ ما ذكر هذا الرجل من أنّ الأشاعرة لا يقدرون على هذا المبحث ، وتعجّب من بحثهم في الإمامة لقولهم : « بأنّ اللّه خالق كلّ شيء » (1) ، فهذا شيء ذكره مرارا ، وهو لا يعرف غير هذا وتصوير المحالات على رأيه الباطل الفاسد.

وقد بيّنّا لك أنّ شيئا ممّا ذكره لا يلزم الأشاعرة ، وكثرة التكرار من شأن الكوزيّين (2) وأمثاله.

* * *

ص: 247


1- المواقف : 320 - 321.
2- الكوز : إناء للشرب ، وجمعه : أكواز وكيزان وكوزة ؛ انظر : لسان العرب 12 / 186 مادّة « كوز ». ومراد الفضل هنا أنّ العلامة الحلّي مَثَلُه مَثَلُ صانع الكيزان ، الذي من دأبه أن يكون عمله مكرَّراً على شاكلة واحدة ، من الصباح إلى المساء وعلى مدار الأيام ، فلا يأتي بجديد ، ولما كان هذا العمل من الصنائع الدنيئة في المجتمع ، أراد ابن روزبهان إهانة العلّامة فمثله بهذا المثل !
وأقول :

ينبغي هنا بسط المقال لتتّضح الحال ، فنقول : استمرّ النزاع في أنّ تعيين الإمام من اللّه تعالى أو باختيار الناس؟ ذهبت الإمامية إلى الأوّل ، وأهل السنّة إلى الثاني ، والحقّ هو الأوّل ؛ لأمور :

الأوّل : قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ... ) (1).

الثاني : إنّ الرجوع إلى الاختيار مفسد للإمامة والأمّة والدين ، ولا سيّما إذا اكتفينا باختيار الواحد كما هو مذهب القوم (2) ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى ؛ لأنّ الاختيار ربّما يؤدّي إلى اختيار فاسق فعلا أو استقبالا فتفسد الإمامة ، وتفسد الأمّة والدين بفساد الإمام ، ولو من أجل أنّ الناس على دين ملوكهم وتبع لأهوائهم كما هو المشاهد.

الثالث : إنّ الأمّة قد تختلف باختيار الإمام ولو لزعم كلّ طائفة أنّ إمامة صاحبهم متعيّنة لاختلال شروطها في الغير ، أو لعدم معرفتهم به ولو لبعد الأماكن وكثرة المسلمين ، فيؤدّي إلى إمامة إمامين أو أكثر ، وإلى الحرب وفساد البلاد وضعف الإسلام.

ودعوى تعيّن المتقدّم كما زعمه في « المواقف » (3) ، باطلة إذا فرض قول كلّ طائفة بعدم صلوح غير صاحبهم للإمامة ، مع أنّه قد يقع الاختلاف

ص: 248


1- سورة القصص 28 : 68.
2- تمهيد الأوائل : 467 ، غياث الأمم : 86 - 89.
3- المواقف : 400 ، شرح المواقف 8 / 353.

في المتقدّم.

كما إنّ دعوى وجوب الانتظار إلى الاتّفاق باطلة أيضا ؛ لأنّ الانتظار يوجب إهمال أمر الأمّة زمانا أو أزمنة طويلة أو دائما.

على أنّ إيجاب الانتظار مناف لاختيار عمر وأصحابه لأبي بكر ، وبيعتهم له قبل اتّفاق من في السقيفة فضلا عن غيرهم ، بل مع تصريح الكثير أو الأكثر من أهل السقيفة بالخلاف (1).

الرابع : إنّ تعيين الإمام باختيار واحد - إماما كان أو غيره - ، أو باختيار جماعة - وإن كانوا جميع أهل الحلّ والعقد - ، حيف بحقوق بقيّة المسلمين بلا سلطان جعله اللّه لأولئك عليهم.

ودعوى الإجماع ساقطة ؛ لأنّها ناشئة من فعل عمر ومن وافقه ، وهم - مع عدم تحقّق الإجماع بهم - محلّ الكلام.

وكيف يمكن دعوى الإجماع على اعتبار اختيار الناس وقد خالف أمير المؤمنين ، الذي يدور معه الحقّ حيث دار (2) ، وجماعة من الصحابة في بيعة أبي بكر ، وما حفلوا باختيار من اختاره إلى أن بايعوا بعد مدّة طويلة بالاضطرار ، وبقي بعضهم على المخالفة حتّى لحق بالملك القهّار؟!

ص: 249


1- السيرة النبوية - لابن هشام - 6 / 77 ، تاريخ الطبري 2 / 234 وما بعدها ، الكامل في التاريخ 2 / 189 وما بعدها ، تاريخ ابن خلدون 2 / 467 و 468.
2- انظر : مسند أبي يعلى 1 / 419 ح 550 ، المعجم الكبير 23 / 329 ح 758 وص 395 ح 946 ، الإمامة والسياسة 1 / 98 ، الكنى والأسماء - للدولابي - 2 / 89 ، المحاسن والمساوئ - للبيهقي - : 41 ، المستصفى من علم الأصول 1 / 270 ، فردوس الأخبار 1 / 410 ح 3050 ، ربيع الأبرار 1 / 828 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 494. هذا، وقد تقدم تخريج الحديث مفصّلاً في ج 164/1 - 165 ه 1 ؛ فراجع!

الخامس : إنّه يمتنع أن يترك اللّه سبحانه اختياره للإمام ويأمر الناس بأن يختاروه وهو أنظر لهم وأخبر ، إذ يقبح بالحكيم أن يترك أسهل الطريقين وأوصلهما إلى المطلوب ، ويأمر بسلوك الطريق الصعب الذي لا يوصل إلى المطلوب أحيانا أو غالبا.

السادس : إنّ التكليف بالاختيار ، إن تعلّق بالناس جميعا على نحو الاتّفاق منهم فهو تكليف بما لا يطاق.

وإن تعلّق بهم على نحو يكفي البعض ، ويجب على الباقي القبول بشرط العلم بجامعيّة الإمام للشرائط ، فهو ظاهر البطلان ، إذ يمتنع عادة معرفة الناس جميعا بجامعيّته حتّى من حيث شهادة المختار أو المختارين له بها ؛ لأنّهم إن لم يكونوا فسّاقا فالعادة تقضي بالجهل في عدالتهم عند الناس إلّا النادر ، فيبقى الناس في هرج بلا إمام أزمانا طويلة ، أو إلى أن يموت ذلك الإمام ..

وربّما تكون شهادتهم معارضة بشهادة آخرين بعدم جامعيّته ، فيزيد الهرج ، وكذا إن كان المختار له واحدا.

وأمّا لو أوجبنا القبول مطلقا ، فالأمر أظهر بطلانا ، إذ يلزم تديّن الشخص بإمامة إمام لا يعرف جامعيّته بمجرّد اختيار واحد أو جماعة لا يعرف عدالتهم ، أو يعرف فسقهم ، وهذا لا يقوله من يؤمن باللّه وحكمته.

السابع : إنّ الإمام لا بدّ أن يكون معصوما وأفضل الأمّة وأكملهم صفات - كما سبق - ، ولا يعلمه الناس إلّا بطريق النصّ من اللّه تعالى بلسان نبيّه ، أو إمام آخر معصوم حاك عن اللّه ورسوله ، أو بإظهار المعجزة على

ص: 250

يده (1).

ولو لم يكن الإمام السابق معصوما حاكيا عن اللّه تعالى لم ينفع نصّه ؛ لاحتمال خطئه أو عمده إلى من لم يكن أهلا للإمامة اتّباعا للهوى أو حبّا للرحم.

ففي الحقيقة لم يوافقنا السنّة على ثبوت الإمامة بنصّ الإمام السابق ؛ لأنّا نريد بالسابق إماما خاصّا وهم يريدون غيره.

الثامن : إنّ نصب الإمام واجب على اللّه تعالى ، فلا بدّ أن يكون الاختيار والتعيين منه تعالى ، ويدلّ على وجوبه عليه الكتاب والعقل ..

* أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (2) ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام رحمة.

وقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (3) ، ولا ريب أنّ نصب الإمام من الهدى ، أو مقدّمته ، فيجب.

وقوله تعالى : ( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (4) ، ومن الواضح أنّ نصب الإمام من قصد السبيل.

* وأمّا العقل ، فأمران :

الأوّل : إنّه لا إشكال بأنّ الناس في كلّ وقت محتاجون إلى عالم بكلّ ما كلّف اللّه تعالى به عباده وجاء به الرسول من عنده ، من حلال أو حرام ، فإنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة (5).

ص: 251


1- راجع الصفحة 217 وما بعدها من هذا الجزء.
2- سورة الأنعام 6 : 54.
3- سورة الليل 92 : 12.
4- سورة النحل 16 : 9.
5- الكافي 1 / 79 ح 175 ، وانظر : سنن الدارمي 1 / 85 ح 436.

ولا يعلم بهذا العالم إلّا اللّه تعالى ، فلا بدّ من نصبه له ، ولا يغني الاجتهاد عن العلم الواقعي ؛ لوقوع الخطأ فيه.

وكذلك هم محتاجون إلى عالم بكلّ حجّة ودليل يثبت به الإسلام ليحتجّ به على كلّ بحسب فهمه وحاله.

ولو احتاج الثبوت إلى معجزة لزم أن يكون الإمام محلّا لإظهار اللّه لها على يده ، وإلّا لا نقطعت حجج اللّه وبيّناته ، لعدم كفاية معجزات النبيّ في الحجّيّة بالنسبة إلى أكثر الناس المتأخّرين ؛ لجهلهم بها أو بإعجازها.

فيجب على اللّه تعالى نصب الإمام ، العالم ببيّناته ، القادر على إثبات دينه ولو بالمعجزة ، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام : « اللّهمّ بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لك بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا ، أو خائفا مغمورا ، لئلّا تبطل حججك وبيّناتك » (1)

فلولا نصب هذا الإمام لكان لأكثر الكافرين والضالّين الحجّة على اللّه تعالى ؛ إذ يصحّ عذرهم بالجهل والغفلة الآتية بسبب عدم نصب الحجّة عليهم ، فيقولون : ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (2).

ولا يضرّ في حجّيّته استتاره ؛ لأنّه بسببهم ، حيث أخافوه ، ففوّتوا الخير عن أنفسهم كمن يخيفون الأنبياء ويشرّدونهم ، فلا تبطل حجج اللّه بذلك.

وأمّا قوله سبحانه : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ

ص: 252


1- الغارات : 91 ، الفصول المختارة : 325 ، غرر الحكم ودرر الكلم - للآمدي - 2 / 362 رقم 384.
2- سورة الأعراف 7 : 172.

الرُّسُلِ ) (1) ، فلا يدلّ على عدم الحاجة إلى الإمام ؛ لأنّ المراد البعديّة بلحاظ ما جاؤوا به ، وممّا جاؤوا به نصب الإمام.

الثاني : إنّ نصب الإمام لطف ، واللطف واجب على اللّه عزّ وجلّ.

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ اللطف هو ما يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ولو بالإعداد ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام كذلك ، لما به من تنفيذ الأحكام ورفع الظلم والفساد ونحوها.

ولا ينافي اللطف في نصبه سلب العباد سلطانه أو غيبته ؛ لأنّ اللّه سبحانه قد لطف بهم بنصب المعدّ لهم ، وهم فوّتوا أثر اللطف عن أنفسهم.

وعورض هذا اللطف بلطف آخر حاصل بعدم الإمام ، فإنّ فاعل الواجب وتارك الحرام مع عدم الإمام أقرب إلى الإخلاص ؛ لانتفاء الخوف منه ، فيكون أكثر ثوابا ، ويكون عدم الإمام لطفا.

بل قيل : إنّ تفويت هذا الثواب مفسدة مانعة من وجوب نصب الإمام.

وفيه : إنّ هذا اللطف لا يصلح للمعارضة ؛ لأنّه لطف خاصّ بقليل من الناس ، ونصب الإمام لطف عامّ.

على أنّا نمنع كونه لطفا ؛ لعدم إحاطة غير الإمام بجهات الإخلاص ، فلا يحصل الإخلاص التامّ بدون الإمام ، للحاجة إلى تعليمه وإرشاده.

مع أنّ من لا يخالف الأوامر والنواهي مع عدم الإمام ، لا يتفاوت حاله

ص: 253


1- سورة النساء 4 : 165.

في الإخلاص بين وجود الإمام وعدمه ، ضرورة أنّه يوافق التكاليف بالطبع والطوع ، لا بالخوف ألبتّة ، بلا فرق بين حالتي وجود الإمام وعدمه ، بل هو مع الإمام أقرب إلى الإخلاص اقتداء به وسلوكا لنهجه.

وأمّا كون فوات المصلحة مفسدة ، فظاهر البطلان لو سلّم فواتها ، على أنّ مقتضاه عدم جواز نصب الإمام ، لا عدم وجوبه فقط ، لما في نصبه من المفسدة فرضا.

وأمّا الكبرى ؛ فلأنّ ترك هذا اللطف من المولى إخلال بغرضه ومطلوبه ، وهو طاعة العباد له وترك معصيته ، فيجب نصب الإمام على المولى لئلّا يخلّ بمطلوبه ؛ لأنّ الناس غير معصومين ، والمفاسد بنصب المعدّ للطاعة منتفية بالضرورة ، وإلّا لما جاز نصبه ، وهو خلاف الإجماع والضرورة.

على أنّه سبحانه أخبر بأنّه لطيف ، فيلزمه نصب الإمام تصديقا لإخباره.

وهو - سبحانه - لم يخلق جوارح الإنسان إلّا وجعل لها إماما يهديها إلى أفعالها ، وأميرا يحكم في مشتبهاتها ، وهو القلب ، كما أقرّ به عمرو بن عبيد لمّا سأله هشام بن الحكم رحمه اللّه (1) ، فكيف يترك الناس في حيرة

ص: 254


1- راجع ما جرى بين هشام بن الحكم وبين عمرو بن عبيد في : رجال الكشّي 2 / 549 - 551 رقم 490 ، الكافي 1 / 190 ح 429 ، إكمال الدين 1 / 207 - 209 ح 23 ، علل الشرائع 1 / 228 ح 2 ، الأمالي - للصدوق - : 685 - 687 ح 942 ، الاحتجاج 2 / 283 ح 242. وأما عمرو فهو: أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب - وقيل : ابن ثوبان - البصري ، شيخ المعتزلة في عصره ، كان جدّه من سبي فارس ، وأبوه نسّاجاً ثم شرطيّا للحجّاج في البصرة ، وكان محظيّا عند أبي جعفر المنصور ، وكان المنصور يحبّه ويعظّمه ، له من الكتب : تفسير القرآن عن الحسن البصري ، وخطب ، ورسائل ، وديوان شعر ، قيل : ولد هو وواصل بن عطاء سنة 80 ه ، وتوفّي سنة 144 ه ، وقيل : 143 و 142 ه ، وهو في طريقه إلى مكّة. أنظر : تاريخ بغداد 166/12 رقم 6652 ، وفيات الأعيان 460/3 رقم 503 ، تهذيب الكمال 276/14 رقم 4990 ، سير أعلام النبلاء 104/6 رقم 27 ، البداية والنهاية 10 / 64 حوادث سنة 142 ، شذرات الذهب 1 / 210 و 211 حوادث سنة 142 ه- ، هدية العارفين 802/5 . وأما هشام فهو : أبو محمد هشام بن الحكم الشيباني ، من أهل الكوفة ، سكن بغداد ، من كبار متكلمي الإمامية ، له تصانيف كثيرة في علم الكلام ، وكان من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وبعده الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام ، توفي سنة 179 ه- بالكوفة في أيام الرشيد ، وقيل سنة 199 ه- . أنظر : رجال الكشي 526/2 رقم 475 ، الفهرست - للنديم - : 307 ، سير أعلام النبلاء 543/10 رقم 174 ، لسان الميزان 194/6 رقم 691 .

الضلالة بلا إمام يهديهم سواء السبيل ، ويرفع مشتبهاتهم وخلافهم ، مع انتشارهم في أطراف الأرض ، واختلافهم بالطباع والأهواء ، وتباينهم بالمقاصد والآراء؟!

ويمكن إرجاع الدليلين العقليّين (1) إلى دليل واحد ، وهو كون الإمامة لطفا من جهتين :

جهة العلم ؛ وهي الأمر الأوّل ..

وجهة السياسة ؛ وهو الأمر الثاني ..

واللطف واجب.

فإذا عرفت أنّه لا يجوز الرجوع إلى اختيار الناس في تعيين الإمام ، وأنّه يجب على اللّه سبحانه نصبه ، ظهر لك بطلان القول بثبوت الإمامة

ص: 255


1- وهما : إنّ الناس في كلّ وقت محتاجون إلى عالم ، وإنّ نصب الإمام لطف.

ببيعة أهل الحلّ والعقد ، وبطلان القول بوجوب النصب شرعا على الأمّة.

ومن طريف ما قيل في بطلان دعوى أنّ الإمامة بالاختيار ، قول الشاعر العبدي (1) [ من الطويل ] :

وقالوا : رسول اللّه ما اختار بعده *** إماما ، ولكنّا لأنفسنا اخترنا

أقمنا إماما إن أقام على الهدى *** أطعنا وإن ضلّ الهداية قوّمنا

فقلنا : إذن أنتم إمام إمامكم *** بحمد من الرحمن تهتم وما تهنا

ولكنّنا اخترنا الذي اختار ربّنا *** لنا يوم خمّ ما اعتدينا ولا حلنا

سيجمعنا يوم القيامة ربّنا *** فتجزون ما قلتم ونجزى الذي قلنا

ونحن على نور من اللّه واضح *** فيا ربّ زدنا منك نورا وثبّتنا (2)

واستدلّ الأشاعرة على وجوب النصب على الأمر شرعا بثلاثة وجوه ، ذكر صاحب « المواقف » وشارحها منها اثنين ، قالا :

« الأوّل : إنّه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأوّل بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله على امتناع خلوّ الوقت من خليفة وإمام ، حتّى قال أبو بكر في خطبته المشهورة حين وفاته صلی اللّه علیه و آله : ألا إنّ محمّدا قد مات ، ولا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به.

ص: 256


1- (1) هو : أبو محمّد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي ، من شعراء أهل البيت علیهم السلام والمنقطعين إليهم ، وكان الإمام الصادق عليه السلام يسمع شعره ويقول : « يا معشر الشيعة ! علموا أولادكم شعر العبدي، فإنّه على دين اللّه ، وكان معاصراً للسيد الحميري ، المتوفى سنة 173 ه- ، وله معه موقف ينم عن تضلّعه و معرفته بمواضع الكلام ، فقال السيد : «أنا أشعر الناس إلا العبدي» . أنظر : الكافي 216/8 ح 263 ، رجال الكشي 704/2 رقم 748 ، 1، الأغاني 293/7 .
2- مناقب آل أبي طالب 1 / 318.

فبادر الكلّ إلى قبول قوله ، ولم يقل أحد : لا حاجة إلى ذلك ؛ بل اتّفقوا عليه ، وقالوا : ننظر في هذا الأمر ؛ وبكّروا إلى سقيفة بني ساعدة ، وتركوا أهمّ الأشياء ، وهو دفن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك [ الاتّفاق ] - ولم يزل الناس [ بعدهم ] على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متّبع » (1) انتهى.

وفيه - مع ما عرفت من وجوب النصب على اللّه تعالى ، فلا محلّ لوجوبه على الأمّة شرعا - : إنّ دعوى امتناع خلوّ الوقت عن إمام ، أعمّ من وجوبه على اللّه سبحانه ، وعلى الأمّة ، شرعا أو عقلا.

نعم ، لو صحّ ما نقلاه عن أبي بكر وقبول الصحابة له ، وقولهم :

« ننظر في هذا الأمر » ، كان ظاهرا في وجوبه على الأمّة ، لكنّه - مع كونه أعمّ من الوجوب شرعا وعقلا - كذب صريح ؛ إذ لم يقل أبو بكر : « لا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به » في خطبته التي رأيناها في كتبهم ، كتاريخي الطبري وابن الأثير وصحيح البخاري ، عند ذكر مناقب أبي بكر (2) ، ومستدرك الحاكم ، حيث ذكر خطبة أبي بكر (3) ، وغيرها من كتبهم (4).

وما قال أحد بعد خطبة أبي بكر : « ننظر في هذا الأمر » ، ولا راحوا إلى السقيفة وفاء بالوعد وقياما بواجب النصب شرعا ..

ص: 257


1- المواقف : 395 ، شرح المواقف 8 / 345 - 346 ، وانظر : شرح تجريد الاعتقاد - للقوشجي - : 472.
2- تاريخ الطبري 2 / 232 - 233 ، الكامل في التاريخ 2 / 187 حوادث سنة 11 ه ، صحيح البخاري 5 / 70 ح 167.
3- المستدرك على الصحيحين 2 / 323 ح 3162.
4- راجع : السيرة النبوية - لابن هشام - 6 / 75 - 76 ، السيرة النبوية - لابن حبّان _ : 401 ، السيرة النبوية - لابن كثير - 4 / 480 - 483.

فإنّ رواياتهم متضافرة في أنّ الأنصار اجتمعوا في السقيفة لبيعة سعد ساعة موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فعلم أبو بكر وأصحابه ، فذهبوا ينافسونهم في الإمرة ، كما يدلّ عليه خطبة عمر التي بيّن فيها أنّ بيعة أبي بكر فلتة ، ورواها القوم ، منهم البخاري في « باب رجم الحبلى إذا أحصنت » من كتاب المحاربين (1).

وكيف يمكن أن تكون مبادرتهم إلى السقيفة أداء للوظيفة الشرعية؟! والحال أنّ تجهيز النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومراعاة حرمته أهمّ الواجبات ، وتأخير دفنه تلك المدّة أكبر الوهن به وبالإسلام! ولا يضرّ تقديم تجهيزه بأمر الإمامة ، ولا سيّما بناء على حسن ظنّ القوم بالصحابة وحكمهم بعدالتهم أجمع ، وصلابتهم في الدين كما تسمع!

فلا ريب أنّهم لم يؤخّروا دفن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مبادرة لواجب البيعة ، وإنّما أخّروه منافسة في الدنيا ، وانتهازا لفرصة مشغولية أمير المؤمنين علیه السلام بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله وعلمهم بأنّه لا يترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا دفن ويأتي لمزاحمتهم!

ولو كانوا بذلك الاهتمام في أداء واجب البيعة فما بال عمر أباح تأخير البيعة في الشورى ثلاثة أيّام ، والنفر الّذين اختارهم للشورى ستّة ، ويمكنهم بتّ الأمر في يوم واحد أو ساعة واحدة ، ولا سيّما مع علمهم بالحال قبل موته؟!

ولو كانوا بذلك الاهتمام في أمر الإمامة الإلهيّة فلم لم يسألوا

ص: 258


1- صحيح البخاري 8 / 300 - 304 ح 25 ، وانظر : مسند أحمد 1 / 55 ، مصنّف عبد الرزّاق 5 / 439 - 445 ح 9758 ، مصنّف ابن أبي شيبة 8 / 570 ح 2 ، المعيار والموازنة : 38 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 1 / 320 - 321 ح 415 ، الثقات - لابن حبّان - 2 / 152 - 154 ، تاريخ دمشق 30 / 281 - 283.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله نصب إمام لمّا أخبرهم بموته مرارا عديدة تصريحا وتلويحا فيريحهم عن تكلّف ذلك المهمّ؟!

ولم نسبوه إلى الهجر ومنعوه من كتابة ما لا يضلّون بعده؟! (1) ألم يحتملوا أنّه يريد نصب إمام فيريحهم عن ذلك الاهتمام؟!

ولم لم يعطها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعض اهتمامهم وينصب لهم خليفة أو يشرّع جواز ترك الاستخلاف بالقول ويحفظ حرمته وحرمة الإسلام؟!

ولم لم يكن عند أمير المؤمنين ذلك الاهتمام فيشاركهم في أداء الواجب فيحصل لدفن النبيّ صلی اللّه علیه و آله تعجيل؟!

وأمّا قولهما : « ولم يزل الناس على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا .. »

إلى آخره (2) ..

فغريب ؛ لأنّا لم نر ولم نسمع أنّهم اهتمّوا لنصب إمام قياما بالواجب ، ولذا لم يطلبوا إماما جامعا للشرائط التي ذكراها ، من العدالة والاجتهاد والقرشية ونحوها ، وإنّما رأينا وسمعنا قيامهم برئاسة من انتفت عنه الشرائط ، طلبا لأن ينالوا به شيئا من الدنيا الدنيّة!

الدليل الثاني الذي ذكراه لمختار الأشاعرة : إنّ في نصب الإمام دفع ضرر مظنون ، ودفعه واجب إجماعا (3).

وفيه : إنّ الدفع به إنّما يجب على الناس إذا لم يجب على اللّه تعالى ، أو أهمل أمر الأمّة ، وكلاهما باطل ..

ولو سلّمنا ، فلا مخرج للنبيّ صلی اللّه علیه و آله عن وجوب دفع الضرر

ص: 259


1- راجع الصفحة 93 ه 2 من هذا الجزء.
2- راجع الصفحة 257 من هذا الجزء.
3- المواقف : 396 ، شرح المواقف 8 / 346.

بالنصب ، فلا بدّ أن يكون قد نصب وإلّا أخلّ بالواجب.

على أنّ نصبهم للإمام وإن دفع ضررا ، إلّا أنّ نصب غير المعصوم يوجب ضررا آخر ناشئا من عمده أو خطئه ، فيضرّ بالدين والأمّة ، فيحرم ، فلا مناص من نصب اللّه سبحانه لمن يعلم عصمته.

وقد ذكر القوشجي دليلا ثالثا ، وهو : إنّ الشارع أمر بإقامة الحدود وتجهيز الجيوش وسدّ الثغور ونحوها ممّا لا يتمّ إلّا بإمام ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب » (1).

وفيه - مع توقّفه على عدم الوجوب على اللّه سبحانه ، وتركه لنصب الإمام ، وكلاهما باطل - : إنّ تلك الواجبات إنّما تجب بشرط وجود الإمام ، ومقدّمة الواجب المشروط غير واجبة ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، ولا سيّما أنّ الأوّل - وهو إقامة الحدود - إنّما يجب على الإمام ، بل وكذا الأخيران ، فكيف تجب مقدّمتها ، وهي نصب الإمام على غيره؟! اللّهمّ إلّا إذا خيف على بيضة الإسلام ، فإنّه يجب الأخيران على الناس أيضا ، فيجب عليهم النصب هنا خاصّة.

ولو سلّم وجوب تلك الأمور على الناس ، وأنّ النصب مقدّمة وجود لها ، فكثير من الجمهور لا يقولون بوجوب مقدّمة الواجب كما سيذكره المصنّف رحمه اللّه في مسألة أصول الفقه.

فاتّضح بما بيّنّا بطلان الرجوع إلى اختيار الأمّة ، كلّا أو بعضا ، وبطلان إيجاب النصب عليهم.

لكنّ القوم مع اختيارهم لذلك ، اكتفوا ببيعة الواحد والاثنين في عقد

ص: 260


1- شرح تجريد الاعتقاد : 472.

الإمامة وإيجاب اتّباعه على الأمّة (1)! قال في « المواقف » وشرحها - وهما عنوان مذهبهم _ :

« وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة ، فاعلم أنّ ذلك [ الحصول ] لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحلّ والعقد ، إذ لم يتمّ عليه [ أي : على هذا الافتقار ] دليل من العقل والسمع ، بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف في ثبوت الإمامة ، ووجوب اتّباع الإمام على أهل الإسلام ؛ وذلك لعلمنا أنّ الصحابة - مع صلابتهم في الدين وشدّة محافظتهم على أمور الشرع كما هو حقّها - اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين ، كعقد عمر لأبي بكر ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان.

ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من بالمدينة من أهل الحلّ والعقد ، فضلا عن إجماع الأمّة من علماء أمصار الإسلام ومجتهدي جميع أقطارها ، هذا [ كما مضى ] ولم ينكر عليه أحد.

وعليه - أي : على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة - انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا » (2).

وأنت إذا نظرت بعين الإنصاف ، وسمعت بأذن واعية ، وتدبّرت في ما ذكرنا ، عرفت بطلان هذا الكلام.

ومن العجب دعواهما اكتفاء الصحابة في عقد الإمامة ببيعة الواحد والاثنين! ..

ألم يعلما امتناع أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وجماعة من الصحابة

ص: 261


1- انظر : تمهيد الأوائل : 467 - 468 ، غياث الأمم : 85 - 89.
2- المواقف : 400 ، شرح المواقف 8 / 352 - 353.

عن بيعة أبي بكر ، وتخلّفهم عنها زمنا طويلا ، ولم يكتفوا ببيعة من بايعه من أهل السقيفة فضلا عن عمر وحده؟!

ألم يسمعا تخلّف سعد وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمّد بن مسلمة وأبي مسعود الأنصاري وغيرهم عن بيعة أمير المؤمنين علیه السلام مع مشاهدتهم بيعة أهل الحلّ والعقد له (1)؟!

ألم يدريا أنّ بيعة الأوس لأبي بكر كانت حسدا للخزرج ، لا للاكتفاء المذكور ، كما تشهد به مراجعة تأريخي الطبري وابن الأثير (2) في كيفية بيعة السقيفة ؛ وكذا بيعة المهاجرين ، إنّما كانت حسدا وعداوة لأمير المؤمنين علیه السلام ؟! كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

وأعجب من ذلك دعواهما انطواء الأعصار على ذلك ، فإنّا لم نسمع أنّه اتّفق في زمان اكتفاء الناس ببيعة الواحد والاثنين ، وأنّ التكليف دعاهم إلى التسليم!

نعم ، سمعنا عهد الملوك الخونة لأبنائهم الجهلة الفسقة ، ولكنّه من نصّ الإمام عندهم لا من محلّ الكلام!

ومن المضحك أنّهم يصفون الصحابة بالصلابة في الدين في مثل المقام ، ممّا يحتاجون فيه إلى إثبات صلابتهم ومحافظتهم على أمور الشرع ، ويدّعون في مقام آخر أنّ مبادرتهم إلى البيعة وإعراضهم عن دفن سيّد المرسلين ، خوفا من الفتنة وزوال أمر الإسلام ، فإنّهم إذا كانوا بتلك

ص: 262


1- راجع : تاريخ الطبري 2 / 697 - 698 ، السيرة النبوية - لابن حبّان - : 524 ، الكامل في التاريخ 3 / 82 ، البداية والنهاية 7 / 182.
2- تاريخ الطبري 2 / 243 ، الكامل في التاريخ 2 / 194 حوادث سنة 11 ه ، وانظر : شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6 / 10.

الصلابة ، فأيّ خوف يخشى على الإسلام إذا بادروا لدفن نبيّهم صلی اللّه علیه و آله وأخّروا البيعة ساعة ، وتذاكروا في أثناء هذا الوقت بتعيين الأولى؟!

وإذا كانوا بتلك الصلابة ، فكيف خاف عمر من وجوه الصحابة أن يفسدوا إذا خرجوا في الجهاد وإمرة البلاد؟! .. روى الحاكم في « المستدرك » في مناقب أمير المؤمنين علیه السلام ، من كتاب معرفة الصحابة (1) ، وصحّحه الذهبي في « تلخيصه » ، عن قيس بن أبي حازم ، قال :

جاء الزبير إلى عمر بن الخطّاب يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : اجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : فردّد ذلك عليه ، فقال له عمر في الثالثة أو التي تليها : اقعد في بيتك! فو اللّه إنّي لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا عليّ أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله .

فقد ظهر من كلام « المواقف » وشرحها أنّ إمامة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ، فوجب اتّباعه على أهل الإسلام قاطبة.

فكان ما نسبه المصنّف إليهم صدقا ، وإنّما الفضل جاهل بمذهبه وبمراد المصنّف.

فالمصنّف لم يرد إنكار بيعة الأنصار يوم السقيفة ، بل أراد نفي كون إمامة أبي بكر عن مشورة أهل الحلّ والعقد واجتماع رأيهم ، وإنّما كان أصل انعقادها ببيعة عمر ورضا أربعة ، ولذا كانت فلتة كما قاله عمر (2) ،

ص: 263


1- ص 12 من الجزء الثالث [ 3 / 129 ح 4612 ]. منه قدس سره . وأنظر : مسند البزار 466/1 ح 332 ، مجمع الزوائد 152/9 ، كنز العمال 267/11 ح 31476 ، عون المعبود 366/11.
2- راجع الصفحة 258 ه 1 من هذا الجزء.

ومع ذلك أوجبوا طاعته على جميع الخلق! وهذا لا يستحلّ القول به من يؤمن باللّه وعدله وحكمته.

على أنّ ما ادّعاه الفضل من اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ أبا بكر لم يفارق السقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار إلّا سعدا ، كذب صريح ..

قال ابن الأثير (1) : « لمّا توفّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر ، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجرّاح ، فقال : ما هذا؟!

فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير.

فقال أبو بكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء.

ثمّ قال أبو بكر : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمّة.

فقال عمر : أيّكم يطيب نفسا أن يخلّف قدمين قدّمهما النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟

فبايعه عمر وبايعه الناس.

فقالت الأنصار - أو : بعض الأنصار - : لا نبايع إلّا عليّا » ؛ انتهى.

ونحوه في « تاريخ الطبري » (2).

وقال ابن عبد البرّ في « الاستيعاب » بترجمة أبي بكر : « بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سقيفة بني ساعدة ، ثمّ بويع له البيعة العامّة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم ، وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش » (3).

ص: 264


1- في كامله ص 156 من الجزء الثاني [ 2 / 189 ، حوادث 11 ه ]. منه قدس سره .
2- ص 198 من الجزء الثالث [ 2 / 233 حوادث سنة 11 ه ]. منه قدس سره .
3- الاستيعاب 3 / 973 رقم 1633.

وأمّا ما زعمه من أنّ أهل الحلّ والعقد كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار ، فازدراء بحقّ المهاجرين على كثرتهم وكثرة العلماء والأمراء منهم.

ومن طريف الكذب ما قاله من موت سعد بعد سبعة أيّام ، فإنّه لا يجامع اتّفاق العلماء والمؤرّخين على أنّه مات بحوران (1) ، وقال أكثرهم :

مات في إمارة عمر (2).

وقال ابن حجر في « الإصابة » ، في ترجمة سعد : « وقصّته في تخلّفه عن بيعة أبي بكر مشهورة ، وخرج إلى الشام فمات بحوران سنة 15 وقيل :

سنة 16 » (3).

وقال الحاكم (4) : إنّه توفّي بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر وذلك سنة 15 ، وروى أيضا أنّه مات بحوران سنة 16.

وقال الطبري في « تاريخه » (5) : كان سعد لا يصلّي بصلاتهم ، ولا يجمّع معهم ، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم ، فلم يزل كذلك حتّى هلك أبو بكر.

ص: 265


1- حوران : كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة ، ذات قرى كثيرة ومزارع وغير هما ، وفتحت قبل دمشق ؛ انظر : معجم البلدان 2 / 364 رقم 3989.
2- انظر : الاستيعاب 2 / 599 رقم 944 ، الكامل في التاريخ 2 / 337 حوادث سنة 14 ه ، سير أعلام النبلاء 1 / 277 رقم 55 ، البداية والنهاية 7 / 27 - 28 حوادث سنة 13 ه ، تهذيب التهذيب 3 / 286 رقم 2317.
3- الإصابة 3 / 67 رقم 3175.
4- في المستدرك على الصحيحين ص 292 من الجزء الثالث [ 3 / 282 رقم 5098 و 5099 ]. منه قدس سره .
5- ص 210 من الجزء الثالث [ 2 / 244 حوادث سنة 11 ه ]. منه قدس سره .

وقال في « الاستيعاب » ، بترجمة سعد : « وتخلّف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ، وخرج من المدينة ، ولم ينصرف إليها إلى أن مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مضتا من خلافة عمر ، وذلك سنة 15 ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : بل مات بخلافة أبي بكر سنة 11 » (1).

وقال ابن الأثير في « كامله » في تاريخ سنة 14 : « وفيها مات سعد بن عبادة ، وقيل : سنة 11 ، وقيل : سنة 15 » (2).

وقد ذكر ابن أبي الحديد نحو ذلك في عدّة مواطن من « شرح النهج » (3).

وذكره جماعة كثيرون لا يسع المقام استقصاءهم (4) ..

وذكر ابن أبي الحديد (5) : إنّ أبا بكر - وقال بعضهم : عمر - كتب إلى خالد بن الوليد بالشام أن يقتل سعدا ، فكمن له هو وآخر معه - وقيل : هو محمّد بن مسلمة (6) - ليلا ، فرمياه فقتلاه وألقياه في بئر هناك فيها ماء ،

ص: 266


1- الاستيعاب 2 / 599 رقم 944.
2- الكامل في التاريخ 2 / 337 حوادث سنة 14 ه.
3- انظر : شرح نهج البلاغة 6 / 10 - 11 وج 10 / 111.
4- راجع الصفحة السابقة ه 2.
5- ص 190 من المجلّد الرابع [ 17 / 223 ]. منه قدس سره .
6- هو : محمّد بن مسلمة بن سلمة بن خالد الأنصاري ، يقال : إنّه أسلم على يد مصعب بن عمير ؛ شهد بدرا ، وكان ممّن اعتزل في الجمل وصفّين ، اختلف في سنة وفاته ، فقيل : توفّي سنة 42 ، وقيل : سنة 43 ، وقيل غير ذلك ، وكان عمره آنذاك 77 سنة. أنظر : الطبقات الكبرى - لابن سعد - 338/3 رقم 96 ، المستدرك على الصحيحين 490/3 - 494 ح 5833 - 5844 ، الاستيعاب 1377/3 رقم 2344 ، سير أعلام النبلاء 369/2 رقم 77 ، تهذيب التهذيب 427/7 رقم 6552 . وقيل : إنّ صاحب خالد هو المغيرة بن شعبة ، كما في مناقب آل أبي طالب 331/1 ، الاحتجاج 314/2.

فهتف صاحب خالد في ظلام الليل ببيتين [ من مجزوء الرمل ] :

نحن قتلنا سيّد الخزر *** ج سعد بن عباده

ورميناه بسهمين *** فلم نخطئ فؤاده

يريهم أنّ ذلك من شعر الجنّ!

وأمّا قوله : « ولو كان الأنصار سمعوا من رسول اللّه النصّ على خلافة عليّ ، فلم لم يجعلوه حجّة على أبي بكر » ..

ففيه : إنّهم إنّما لم يجعلوه حجّة عليه ؛ لأنّه حجّة عليهم ، فإنّهم مثله كانوا يطلبون الإمرة ، وقد اجتمعوا لنصب إمام منهم كما ذكره الفضل ، وهم أوّل من أبطل قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونصّه يوم الغدير ، لكن بعد ما علموا أنّ قريشا تمالأت على أمير المؤمنين وغصب حقّه ، لما صدر منهم من الصحيفة الجائرة بمكّة ، التي جعلوا أبا عبيدة أمينها ، فسمّوه أمينا لذلك (1) ، ولما وقع منهم من القول البذيء في بعض خيامهم يوم الغدير (2) ، ومن الفعل الفظيع ليلة الدباب في العقبة إذ همّوا بقتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله (3) ، ولنسبتهم الهجر إليه (4) فمنعوه من تأكيد النصّ على أمير المؤمنين علیه السلام ، مضافا إلى تصريح النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّ عليّا لا يزال مظلوما

ص: 267


1- انظر : تفسير القمّي 2 / 336 ، الكافي 4 / 545 ، الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 3 / 153 - 155.
2- انظر : تفسير العيّاشي 2 / 103 - 105 ح 89 و 90.
3- راجع : مسند أحمد 5 / 453 ، الكشّاف 2 / 203 ، الخصال 2 / 499 ح 6 ، الاحتجاج 1 / 127 - 132.
4- راجع الصفحة 93 ه 2 من هذا الجزء.

مقهورا ، وأنّ الأمّة تغدر به (1) ..

فخاف الأنصار من ولاية أعداء أمير المؤمنين ، فأرادوا الاستقلال أو المشاركة.

ولا يبعد أنّ كثيرا من الأنصار احتجّوا على أبي بكر بالنصّ على عليّ علیه السلام ، فلم يبال أبو بكر وأعوانه به ، كما يشهد له ما سبق عن الطبري وابن الأثير أنّ الأنصار أو بعضهم قالوا : « لا نبايع إلّا عليّا! » (2).

وأمّا قوله : « وهل يمكن أنّ الأنصار الّذين نصروا اللّه ورسوله ... » إلى آخره ..

فلو سلّم أنّهم سكتوا ولم يذكروا النصّ على أمير المؤمنين علیه السلام ، فهو غير عجيب ؛ لانقلابهم كغيرهم بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كما دلّت عليه الآية (3) ، وأخبار الحوض (4) ..

وما رواه البخاري وغيره ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لتتّبعنّ سنن (5) من

ص: 268


1- انظر : التاريخ الكبير - للبخاري - 2 / 174 رقم 2103 ، الكنى والأسماء - للدولابي - : 104 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 150 ح 4676 ووافقه الذهبي ، دلائل النبوّة - للبيهقي - 6 / 440 ، تاريخ بغداد 11 / 216 رقم 5928 ، تاريخ دمشق 42 / 447 - 448 ، كنز العمّال 11 / 297 ح 31561.
2- تقدّم في الصفحة 264 ه 1 و 2.
3- وهي قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ... ) سورة آل عمران 3 : 144.
4- تقدّم تخريج ذلك مفصّلا في ج 2 / 27 - 28 ه 1 ، وانظر : الصفحة 212 - 213 من هذا الجزء.
5- السّنّة : الطريقة ، وسنن الطريق وسننه وسننه - ثلاث لغات - ، وقيل كذلك : سننه : هي نهجه وجهته ومحجّته ؛ والسّنّة - كذلك - : السّيرة أو الطريقة ، حسنة كانت أو قبيحة. أنظر مادّة «سنن» في : الصحاح 2138/5 - 2139 ، لسان العرب 399/6 - 400 ، تاج العروس 300/18 و 306.

كان قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم.

قلنا : يا رسول اللّه! اليهود والنصارى؟

قال : فمن؟! » (1)

ونحوه كثير جدّا (2).

قال الأزري رحمه اللّه [ من الطويل ] :

أتعجب من أصحاب أحمد إذ رضوا *** بتأخير ذي فضل وتقديم ذي جهل

فأصحاب موسى في زمان حياته *** رضوا بدلا عن بارئ الخلق بالعجل

وأمّا قوله : « مع أنّ عمر وأبا عبيدة ألزموهم بقوله صلی اللّه علیه و آله : الأئمّة من قريش » ..

ففيه : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وإن قاله ، لكن لم يلزموهم به كراهيّة للتعرّض حينئذ لما فيه نصّ في الجملة ، وإنّما ألزموهم بقولهم : « لن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا » ،

ص: 269


1- صحيح البخاري 4 / 326 ح 249 وج 9 / 184 ح 89 و 90 ، صحيح مسلم 8 / 57 - 58 ، الجمع بين الصحيحين - للحميدي - 2 / 437 ح 1753.
2- انظر مثلا : سنن ابن ماجة 2 / 1322 ح 3994 ، سنن الترمذي 4 / 412 - 413 ح 2180 ، مسند أحمد 2 / 327 وج 3 / 94 ، المعجم الكبير - للطبراني - 6 / 186 ح 5943 ، مصنّف عبد الرزّاق 11 / 369 ح 20764 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 25 ح 45 وص 36 - 37 ح 72 - 75 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 93 ح 106.

كما ذكره عمر في خطبته التي رواها البخاري في باب رجم الحبلى ، من كتاب المحاربين (1) ، أو نحو هذا القول.

ولم أعرف أحدا روى أنّهم ألزموهم بقوله صلی اللّه علیه و آله : « الأئمّة من قريش ».

وقد أنكره السيّد المرتضى - قدّس اللّه روحه - غاية الإنكار ، كما نقله عنه ابن أبي الحديد (2).

نعم ، ورد في بعض روايات القوم أنّ عكرمة بن أبي جهل وابن العاص روياه بعد السقيفة وانقضاء البيعة وندم بعض الأنصار ، كما ذكره ابن أبي الحديد في أوائل المجلّد الثاني ، في منازعة جرت بين المهاجرين والأنصار (3).

وأمّا ما أحال الفضل عليه من الجواب عن تعجّب المصنّف من بحث الأشاعرة عن الإمامة وفروعها ، فهو كإحالة الظمآن على السراب ، كما أوضحناه في ما مرّ.

* * *

ص: 270


1- صحيح البخاري 8 / 300 - 304 ح 25.
2- ص 17 من المجلّد الرابع [ شرح نهج البلاغة 17 / 167 ]. منه قدس سره . وأنظر : الشافي في الإمامة 124/1.
3- شرح نهج البلاغة 6 / 23 - 24.

تعيين إمامة عليّ بدليل العقل

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المبحث الرابع : في تعيين الإمام

اشارة

ذهبت الإمامية كافّة إلى أنّ الإمام بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو عليّ ابن أبي طالب علیه السلام (2).

وقالت السنّة : إنّه أبو بكر بن أبي قحافة ، ثمّ عمر بن الخطّاب ، ثمّ عثمان بن عفّان ، ثمّ عليّ بن أبي طالب (3) ، وخالفوا المعقول والمنقول.

ص: 271


1- نهج الحقّ : 171.
2- هذا من ضروريات المذهب ، ونحن في غنى عن إثباته ، فهو من أوضح الواضحات ، ولكنّنا نذكر عدّة مصادر لذلك على سبيل المثال ، عملا بقواعد المناظرة ، فانظر مثلا : أوائل المقالات : 40 ، الذخيرة في علم الكلام : 437 ، شرح جمل العلم والعمل : 201 ، المنقذ من التقليد 2 / 299 ، تجريد الاعتقاد : 223.
3- وهذا من الثوابت عندهم ، وفق التسلسل التاريخي لما يسمّى ب « الخلفاء الراشدين » ، ولأحاديث وضعت في ترتيب الخلافة من أجل ذلك ، ولأدلّة استدلّوا بها ، سيأتي الكلام عليها في محالّها ؛ وانظر لما قالوه مثلا : أصول السنّة - لأحمد ابن حنبل - : 77 ، السنّة - لعبد اللّه بن أحمد بن حنبل - 2 / 590 رقم 1400 و 1401 ، العقيدة الطحاوية : 91 ، الإبانة عن أصول الديانة : 168 - 179 ، الإنصاف - للباقلّاني - : 64 - 67 ، أصول الإيمان - لابن طاهر البغدادي - : 223 - 227 ، تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة - لأبي نعيم - : 46 ، الإرشاد - للجويني _ : 363 ، شرح العقائد النسفية : 227 - 229.
أمّا المعقول :

فهي الأدلّة الدالّة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام من حيث العقل ، وهي من وجوه :

الأوّل : الإمام يجب أن يكون معصوما ، وغير عليّ لم يكن معصوما بالإجماع ، فتعيّن أن يكون هو الإمام.

الثاني : شرط الإمام أن لا يسبق منه معصية ، على ما تقدّم ، والمشايخ قبل الإسلام كانوا يعبدون الأصنام ، فلا يكونون أئمّة ، فتعيّن عليّ علیه السلام للعدم الفارق.

الثالث : يجب أن يكون منصوصا عليه ، وغير عليّ من الثلاثة ليس منصوصا عليه ، فلا يكون إماما.

الرابع : الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته ، وغير عليّ لم يكن كذلك ، فتعيّن علیه السلام .

الخامس : الإمامة رئاسة عامّة ، وإنّما تستحقّ بالزهد والعلم والعبادة والشجاعة والإيمان ، وسيأتي أنّ عليّا علیه السلام هو الجامع لهذه الصفات على الوجه الأكمل الذي لم يلحقه غيره ، فيكون هو الإمام.

* * *

ص: 272

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب أهل السنّة والجماعة أنّ الإمام بالحقّ بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبو بكر الصدّيق ، وعند الشيعة : عليّ المرتضى.

ودليل أهل السنّة وجهان :

الأوّل : إنّ طريق ثبوت الإمامة إمّا النصّ ، أو الإجماع بالبيعة ..

أمّا النصّ فلم يوجد ؛ لما ذكرنا (2) ولما سنذكر ونفصّل بعد هذا.

وأمّا الإجماع فلم يوجد في غير أبي بكر اتّفاقا من الأمّة.

الوجه الثاني : إنّ الإجماع منعقد على حقّيّة أحد الثلاثة : أبي بكر وعليّ والعبّاس ، ثمّ إنّهما لم ينازعا أبا بكر ، ولو لم يكن على الحقّ لنازعاه كما نازع عليّ معاوية ؛ لأنّ العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك ، ولأنّ ترك المنازعة مع الإمكان مخلّ بالعصمة ؛ لأنّه هو معصية كبيرة توجب انثلام العصمة ، وأنتم توجبونها في الإمامة وتجعلونها شرطا لصحّة الإمامة.

فإن قيل : لا نسلّم الإمكان - أي إمكان منازعتهما أبا بكر -.

قلنا : قد ذهبتم وسلّمتم أنّ عليّا كان أشجع من أبي بكر ، وأصلب في الدين ، وأكثر منه قبيلة وأعوانا ، وأشرف منه نسبا ، وأتمّ منه حسبا ..

والنصّ الذي تدّعونه لا شكّ أنّه بمرأى من الناس وبمسمع منهم ،

ص: 273


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 356.
2- راجع الصفحة 244 - 246 من هذا الجزء.

والأنصار لم يكونوا يرجّحون أبا بكر على عليّ ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر في آخر عمره على المنبر ، وقال : « إنّ الأنصار كرشي وعيبتي » (1) ، وهم كانوا الجند الغالب والعسكر.

وكان ينبغي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أوصى الأنصار بإمداد عليّ في أمر الخلافة ، وأن يحاربوا من يخالف نصّه في خلافة عليّ.

ثمّ إنّ فاطمة - مع علوّ منصبها - زوجته ، والحسن والحسين - مع كونهما سبطي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - ولداه ..

والعبّاس - مع علوّ منصبه - معه ، فإنّه روي أنّه قال لعليّ : أمدد يدك أبايعك حتّى يقول الناس : بايع عمّ رسول اللّه ابن عمّه ، فلا يختلف فيك اثنان (2).

والزبير - مع شجاعته - كان معه ، قيل : إنّه سلّ السيف وقال : لا أرضى بخلافة أبي بكر (3).

وقال أبو سفيان : أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيميّ؟! واللّه لأملأنّ الوادي خيلا ورجلا (4)!

وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر ، فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير ؛ كما

ص: 274


1- انظر : صحيح البخاري 5 / 115 - 116 ح 287 و 289 ، صحيح مسلم 7 / 174 ، سنن الترمذي 5 / 672 ح 3907 ، مسند أحمد 3 / 156 و 176 ، الطبقات الكبرى - لابن سعد - 2 / 193.
2- الإمامة والسياسة 1 / 21 ، المغني - للقاضي عبد الجبّار - 20 ق 1 / 121 ، الأحكام السلطانية - للماوردي - : 7.
3- تاريخ الطبري 2 / 234 ، المغني - للقاضي عبد الجبّار - 20 ق 2 / 268.
4- تاريخ اليعقوبي 2 / 10 ، تاريخ الطبري 2 / 237 ، المغني - للقاضي عبد الجبّار - 20 ق 1 / 121 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 83 ح 4462 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 2 / 45 ، الكامل في التاريخ 2 / 189.

ذكرنا (1).

ولو كان على إمامة عليّ نصّ جليّ ، لأظهروه قطعا ، ولأمكنهم المنازعة جزما.

كيف لا؟! وأبو بكر شيخ ضعيف جبان ، لا مال له ولا رجال ولا شوكة ، فأنّى يتصوّر امتناع المنازعة معه؟!

وكلّ هذه الأمور تدلّ على أنّ الإجماع وقع على خلافة أبي بكر ، ولم يكن نصّ على خلافة غيره.

وبايعه عليّ حيث رآه أهلا للخلافة ، عاقلا ، صبورا ، مداريا ، شيخا للإسلام.

ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة ، بل غرضهم كان إقامة الحقّ وتقويم الشريعة ليدخل الناس كافّة في دين الإسلام.

وقد كان هذا يحصل من خلافة أبي بكر ، فسلّموا إليه الأمر ، وكانوا أعوانا له في إقامة الحقّ.

هذا هو المذهب الصحيح ، والحقّ الصريح ، الذي عليه السواد الأعظم من الأمّة ،

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « عليكم بالسواد الأعظم » (2).

ص: 275


1- تقدّم قريبا في الصفحة 264. وأنظر : تاريخ اليعقوبي 7/2 ، تاريخ الطبري 242/2 حوادث سنة 11 ه- ، الكامل في التاريخ 2/ 189 حوادث سنة 11 ه- ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6 / 39 ، البداية والنهاية 5/187 حوادث سنة 11 ه- .
2- مسند أحمد 4 / 383 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 39 ح 80 ، تفسير القرطبي 14 / 39.

وأمّا ما استدلّ به من الوجوه العقلية على خلافة عليّ :

فالأوّل : وجوب كون الإمام معصوما ، وقد قدّمنا عدم وجوبه ، لا عقلا ولا شرعا (1).

وجواب الثاني : عدم اشتراط أن لا تسبق منه معصية كما قدّمنا (2).

وجواب الثالث : عدم وجوب النصّ ؛ لأنّ الإجماع في هذا كالنصّ.

وجواب الرابع : عدم وجوب كون الإمام أفضل من الرعيّة - كما ذكر - إذا ثبت أفضليّة عليّ كرّم اللّه وجهه.

وجواب الخامس : إنّ أوصاف الزهد والعلم والشجاعة والإيمان كانت موجودة في المشايخ الثلاثة ، وأمّا الأكمليّة في هذه الأوصاف ، فهي غير لازمة إذا كانوا أحفظ للحوزة.

* * *

ص: 276


1- راجع الصفحة 21 وما بعدها من هذا الجزء.
2- راجع الصفحة 21 وما بعدها من هذا الجزء.
وأقول :

يرد على دليلهم الأوّل : إنّ النصّ على خلافة عليّ واقع كما ستعرف ..

وإنّ الإجماع على بيعة أبي بكر لم يقع ؛ كيف؟! ولم يبايعه زعيم الخزرج وسيّدهم سعد بن عبادة ولا ذووه ، إلى أن مات أبو بكر ..

ولم يبايعه سيّد المسلمين ومولاهم ومن يدور معه الحقّ حيث دار (1) إلّا بعد ما هجموا عليه داره وهمّوا بإحراق بيته (2) ، كما ستعرفه في مطاعن أبي بكر.

وكذلك الزبير ، لم يبايع إلّا بعد أن كسروا سيفه وأخذوه قهرا (3).

ولا المقداد ، إلّا بعد ما دفعوا في صدره وضربوه (4).

وكذلك جملة من خيار المسلمين ، لم يبايعوا إلّا بعد الغلبة والقهر ، كسلمان وأبي ذرّ وعمّار وحذيفة وبريدة وأشباههم ، وكذا كثير من سائر

ص: 277


1- راجع الصفحة 249 ه 2 من هذا الجزء.
2- مصنّف ابن أبي شيبة 8 / 572 ب 43 ح 4 ، الإمامة والسياسة 1 / 30 ، أنساب الأشراف 2 / 268 ، تاريخ الطبري 2 / 233 حوادث سنة 11 ه ، العقد الفريد 3 / 273 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 51 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6 / 48 ، المختصر في أخبار البشر 1 / 156 ، كنز العمّال 5 / 651 ح 14138.
3- الإمامة والسياسة 1 / 28 ، تاريخ الطبري 2 / 233 و 234 ، البداية والنهاية 6 / 226 حوادث سنة 11 ه ، الكامل في التاريخ 2 / 189 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6 / 48.
4- شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 1 / 174.

المسلمين (1).

ففي شرح النهج (2) ، عن البراء بن عازب ، قال :

« لم أزل محبّا لبني هاشم ، فلمّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج الأمر عنهم ...

إلى أن قال : فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية ، لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه وقدّموه ، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى » .. الحديث.

.. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ بيعة أبي بكر لم تتمّ إلّا بالقهر والغلبة ؛ ولذا أخّروا دفن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثة أيّام (3)!

فهل ترى مع هذا يصحّ لمسلم دعوى الإجماع ، ويجزم بوقوعه ، ولا يعتريه الريب فيه ، حتّى يجعله مستندا لدينه الذي يلقى اللّه عزّ وجلّ به؟!

هذا ، وقد يوجّه الاستدلال بالإجماع بأمرين :

الأوّل : عدم الاعتداد بخلاف البعض إذا حصل اتّفاق الغالب ..

وفيه : إنّ اتّفاق الغالب ليس بإجماع حقيقة ، ولا حجّة أصلا ؛ لعدم الدليل ، وإلّا لزمهم القول بانعزال عثمان لاتّفاق أكثر أهل الحلّ والعقد على عزله ، فقتل لا متناعه.

ص: 278


1- راجع الصفحة 245 ه 1 من هذا الجزء.
2- ص 73 من المجلّد الأوّل [ شرح نهج البلاغة 1 / 219 ]. منه قدس سره .
3- تاريخ الطبري 2 / 238 ، السيرة النبوية - لابن كثير - 4 / 505.

الثاني : ما ذكره ابن أبي الحديد (1) ، قال : « احتجّ أصحابنا بالإجماع ، فاعتراض حجّتهم بخلاف سعد وولده وأهله اعتراض جيّد .. وليس يقول أصحابنا : هؤلاء شذّاذ ، فلا نحفل بخلافهم ؛ وإنّما المعتبر الكثرة التي بإزائهم ، وكيف يقولون هذا وحجّتهم الإجماع ، ولا إجماع؟!

ولكنّهم يجيبون عن ذلك بأنّ سعدا مات في خلافة عمر ، فلم يبق من يخالف في خلافته ، فانعقد الإجماع عليها وبايع ولد سعد وأهله من قبل.

وإذا صحّت خلافة عمر صحّت خلافة أبي بكر ؛ لأنّها فرع عنها ، ومحال أن يصحّ الفرع ويكون الأصل فاسدا ».

وفيه : إنّه لو سلّم الإجماع على خلافة عمر ورضى جميع الأمّة ، فإمامته إنّما تصحّ حين تحقّق الإجماع لا قبله ، فتكون أصلا برأسها لا فرعا.

كيف؟! ودعوى الفرعيّة منافية لاستناد صحّة إمامة عمر إلى الإجماع الحادث عليها!

نعم ، كانت فرعا عنها حيث كان الأصل والفرع فاسدين.

وأمّا دليلهم الثاني ؛ ففيه : إنّهم إن أرادوا ثبوت الإجماع على حقّيّة أحد الثلاثة بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقبل بيعة أبي بكر ، فهو ممنوع ؛ لأنّ المسلمين ، أو أهل الحلّ والعقد منهم ، لم يجتمعوا حتّى تعرف آراؤهم ، ومن اجتمع منهم في السقيفة كان بعضهم يرى أنّ سعدا حقيق بها ، فكيف يدّعى الإجماع حينئذ على حقّيّة أحد الثلاثة بالخصوص؟!

على أنّا لم نسمع أنّ أحدا ذكر العبّاس حينئذ!

ص: 279


1- ص 224 من المجلّد الأوّل [ 3 / 6 ]. منه قدس سره .

وأيضا : فمذهب القوم أنّ كلّ من جمع العدالة والاجتهاد وغيرهما من الصفات السابقة حقيق بالخلافة ، فما معنى الاختصاص بالثلاثة حتّى يجمع عليه الصحابة؟!

ومجرّد الترجيح لهم ، لا يقتضي الاختصاص بهم وعدم صلوح غيرهم للخلافة.

وإن أرادوا ثبوت الإجماع بعد بيعة أبي بكر ، فهو ينافي ما زعموه من الإجماع على أبي بكر خاصّة إن اتّفق زمن الإجماعين ، وإلّا بطل الإجماع على حقّيّة أحد الثلاثة ، سواء تقدّم أم تأخّر ؛ لأنّ الإجماع على تعيين واحد هو الذي يجب اتّباعه ، فيكون الحقّ مختصّا بأبي بكر ، ولم يصحّ جعل الإجماع على حقّيّة أحد الثلاثة دليلا ثانيا.

ويحتمل بطلان الإجماع المتقدّم وصحّة المتأخّر مطلقا ؛ وهو الأقرب.

وأمّا ما زعمه من إمكان منازعة أمير المؤمنين علیه السلام ، فممنوع ؛ إذ لا ناصر له إلّا أقلّ القليل ، ولذا قال علیه السلام في خطبته الشقشقية :

« فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء » (1).

.. إلى غير ذلك من متواتر كلامه (2).

ص: 280


1- نهج البلاغة : 48 الخطبة 3.
2- فقد ثبت في الأحاديث أنّ الأمّة ستغدر بأمير المؤمنين علیه السلام بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا تبدي ضغائنها وبغضها وحسدها له إلّا بعد ذلك - كما سيأتي قريبا - ، وقد شكا علیه السلام قريشا وعداوتها له إلى اللّه في غير موضع ، وأستعدى اللّه تعالى عليها .. أنظر في ذلك مثلاً: نهج البلاغة : 472 رقم 22 و ص 506 رقم 209 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 151/16 و ج 298/20 رقم 413.

فإنّ قريشا أجمعت على إخراج الأمر من يده عداوة وحسدا له وطلبا بالتّرات (1).

ألا ترى أنّه لم يكن معه في صفّين من قريش إلّا خمسة أو نحوهم ، ومع معاوية ثلاث عشرة قبيلة (2) ، مع علمهم ببغي معاوية وعدم مشاهدتهم لما فعله أمير المؤمنين علیه السلام بأسلافهم ، إلّا القليل ، فكيف بمن شاهدوا؟!

ولا يستبعد من قريش بغضه وعداوته ، فإنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع طهارته وعصمته وقداسة نفسه ، لم يطق رؤية وحشيّ قاتل حمزة علیه السلام ، وقد أسلم ، حتّى قال له : « ما تستطيع أن تغيّب وجهك عنّي؟! » كما في « الاستيعاب » (3) و « المسند » (4) ..

فكيف بمن أفنوا أعمارهم بالكفر ، وربّوا على عادات الجاهلية ، أن يروا صاحب تراتهم أميرا عليهم ، وحاكما مطاعا فيهم وفي غيرهم ، ولهم طريق إلى صرف الأمر عنه؟!

مضافا إلى أنّ كلّ دم أراقه أخوه وابن عمّه إنّما يعصبونه به على قواعد العرب ، وكلّ أمر صنعه بهم إنّما يطلبونه منه ؛ لأنّه أقرب الناس إليه وأخصّهم به ، وأشدّهم مؤازرة له ، وأعظمهم اجتهادا في نصرته من يوم

ص: 281


1- التّرة ، وجمعها : أوتار وترات : الثأر ، يقال : وتره يتره وترا وترة ، والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ؛ انظر مادّة « وتر » في : الصحاح 2 / 843 ، لسان العرب 15 / 205.
2- رجال الكشّي 1 / 281 ح 111.
3- الاستيعاب 4 / 1564 - 1565 رقم 2739.
4- مسند أحمد ص 501 من الجزء الثالث. منه قدس سره . وأأنظر : السنن الكبری - للبيهقي - 98/9.

مبعثه إلى يوم وفاته.

مضافا إلى حسدهم ؛ لعلوّ مقامه وظهور فضله ، وتعظيم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إيّاه ، وتقريبه إليه بالأخوّة والمصاهرة على بضعته سيّدة النساء ، وتخصيصه له بالمنازل العظمى ، كالمباهلة به وبآله ، وجعله مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

.. إلى غير ذلك ممّا يظهر به مكانته السامية وشرفه الباهر عند اللّه وعند رسوله والناس.

هذا ، مع رجاء كثير منهم للإمرة بعد أبي بكر ، فإنّه إذا وليها أبو بكر وهو أدناهم شرفا ، كانوا إليها أقرب ، وبها أطمع ، بخلاف ما لو وليها أمير المؤمنين علیه السلام ، فإنّها تستقرّ في بيته ، كما يشهد له قول المغيرة لأبي بكر وعمر عند موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « وسّعوها في قريش تتّسع! .. فقاما إلى السقيفة » ، حكاه في ( شرح النهج ) (1) ، عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري.

وما في كتاب « الإمامة والسياسة » في باب إمامة أبي بكر وإباء عليّ علیه السلام من بيعته ، من حديث قال فيه عليّ لعمر : « احلب حلبا لك شطره ، [ و ] اشدد له اليوم أمره ليردّه عليك غدا » (2).

ومثله في ( شرح النهج ) نقلا عن الجوهري (3).

هذا حال قريش ..

وأمّا الخزرج ، فقد كانوا أوّل الحال يطلبونها لأنفسهم ، وبعد أن

ص: 282


1- ص 18 من المجلّد الثاني [ 6 / 43 ]. منه قدس سره .
2- الإمامة والسياسة 1 / 29.
3- ص 5 من المجلّد الثاني [ 6 / 11 ]. منه قدس سره .

صرفت عنهم وكبا (1) جدّهم (2) ونبا (3) حدّهم ، لم تبق لهم قوّة وهمّة على العدول إلى أمير المؤمنين ، لا سيّما مع صيرورتهم محلّ التهمة.

وأمّا الأوس ، فقد كان همّهم صرف الأمر عن الخزرج ، مع أنّ كثيرا منهم ومن الخزرج مبغضون لأمير المؤمنين علیه السلام ، كأسيد بن حضير (4) ، وبشير بن سعد (5).

وفوق ذلك كلّه قد سمعت إعلام اللّه سبحانه انقلاب الأمّة على أعقابها (6) ، وإخبار النبيّ بأنّهم يتّبعون سنن بني إسرائيل حذو النعل بالنعل (7) ..

وبأنّهم يرتدّون على أدبارهم القهقرى ، ويصيرون إلى النار ،

ص: 283


1- كبا كبوا وكبوّا : عثر وانكبّ على وجهه ؛ انظر : لسان العرب 12 / 20 مادّة « كبا ».
2- الجدّ : البخت والحظوة والحظّ ؛ انظر : لسان العرب 2 / 198 - 199 مادّة « جدد ».
3- نبا حدّ السيف : إذا لم يقطع ، ونبا الشيء عنّي أي تجافى وتباعد ؛ انظر : لسان العرب 14 / 29 - 30 مادّة « نبا ». والمعنی هنا أنّهم لم یعد لهم قوّة أو شوكة يطلبون بها الإمارة.
4- تقدّمت ترجمته في الصفحة 242 ه 3 من هذا الجزء.
5- تقدّمت ترجمته في الصفحة 242 ه 2 من هذا الجزء.
6- في قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) سورة آل عمران 3 : 144.
7- انظر : المصنّف - لابن أبي شيبة - 8 / 636 ح 279 ، الثقات - لابن حبّان - 6 / 161 ترجمة حميد بن زياد اليمامي ، تاريخ دمشق 13 / 98 رقم 1338 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 9 / 286 ، الدرّ المنثور 2 / 290 ، كنز العمّال 1 / 183 ح 928. وتقدّمت بقية تخريجاته في ج 202/3 ه 1 ؛ فراجع ! وأنظر الصفحتين 268 و 269 من هذا الجزء.

ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم (1) ..

وبأنّ الأمّة ستغدر بأمير المؤمنين (2) ..

.. إلى غير ذلك.

فكيف مع هذا كلّه يمكن لأمير المؤمنين علیه السلام منازعة القوم ، وإن كان أحسب وأنسب وأكثر قبيلة وقائم الدين؟! إذ ليس هو بأعظم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا ترك الحرب بمكّة وفي أوائل الهجرة ويوم صلح الحديبية ، وقد كان أكثر ناصرا من أمير المؤمنين علیه السلام !

على أنّ أمير المؤمنين قد نازعهم لكن بغير الحرب ، فقد امتنع مدّة من بيعتهم حتّى قهروه وأرادوا حرق بيته ، وجمع أعوانا في داره حتّى تهدّدهم عمر (3).

وحمل الزهراء والحسنين ليلا مستنصرا بوجوه المسلمين فلم ينصروه ، كما رواه ابن قتيبة (4).

ص: 284


1- تقدّم تخريج ذلك مفصّلا في ج 2 / 27 ه 1 ، وانظر : الصفحة 212 - 213 ه 1 من هذا الجزء.
2- كما رواه الحاكم في المستدرك ص 140 من الجزء الثالث وصحّحه [ 3 / 150 ح 4676 ، وانظر : ص 151 ح 4677 وص 153 ح 4686 ووافقه الذهبي عليها كلّها ]. منه قدس سره . وأنظر : التاريخ الكبير - للبخاري - 2 / 174 رقم 2103 ، الغارات - للثقفي - : 335 ، الكنى والأسماء - للدولابي - 1 / 104 ، المستدرك على الصحيحين 150/3 ح 4673 ، تاریخ بغداد 216/11 رقم 5928 ، مجمع الزوائد 118/9 ، كنز العمال 11 / 617 ح 32997 .
3- مصنّف ابن أبي شيبة 8 / 572 ح 4 ، الإمامة والسياسة 1 / 30 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 11 ، تاريخ الطبري 2 / 233 ، العقد الفريد 3 / 273 ، المغني - للقاضي عبد الجبّار - 20 ق 2 / 269 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6 / 48.
4- في كتابه : الإمامة والسياسة ص 13 [ 1 / 29 و 30 ]. منه قدس سره .

ونقله ابن أبي الحديد عن الجوهري (1).

وذكره معاوية في كتابه المشهور إلى أمير المؤمنين ، قال :

« وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، ويداك في يد ابنيك الحسن والحسين ، يوم بويع أبو بكر الصدّيق ، فلم تدع من أهل بدر والسوابق إلّا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ... فلم يجبك منهم إلّا أربعة أو خمسة » (2).

وما زال أمير المؤمنين علیه السلام يقول : « لو وجدت أربعين رجلا ذوي عزم منهم لناهضت القوم » ، كما ذكره معاوية في كتابه المذكور ، قال : « ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لنا هضت القوم » (3).

وروى ابن أبي الحديد نحوه عن نصر (4) ، قال نصر ما حاصله :

« لمّا استولى معاوية على الماء يوم صفّين ، قال له ابن العاص : خلّ بينهم وبين الماء ، فإنّ عليّا لم يكن ليظمأ وأنت ريّان ، وفي يده أعنّة الخيل ... وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق ... وقد سمعته مرارا وهو يقول : ( لو استمكنت من أربعين ) يعني في الأمر الأوّل ».

وممّا بيّنّا من أحوال قريش والأنصار يعلم ما في قول الفضل : « ثمّ إنّ فاطمة - مع علوّ منصبها - زوجته ».

ومن العجب أنّه يرجو أن يكون وجود الزهراء والحسنين علیهم السلام

ص: 285


1- ص 5 من المجلّد الثاني [ 2 / 47 وج 6 / 13 ]. منه قدس سره .
2- شرح نهج البلاغة 2 / 47.
3- شرح نهج البلاغة 2 / 47 و 22.
4- ص 327 من المجلّد الأوّل [ 3 / 320 ]. منه قدس سره . وأنظر: وقعه صفّين : 163.

مؤثّرا في قوّة أمير المؤمنين علیه السلام وتمكّنه من أخذ الزعامة العظمى والإمامة الكبرى ، وهي سلام اللّه عليها لم تقدر على أخذ فدك وهي مال يسير ، مع شأنها العظيم ، ومكانتها الرفيعة ، وحججها الرصينة ، وخطبها البليغة ، واستنصارها بمن يدّعون الإسلام!!

ولو كانت فدك لهم ، وحقّا من حقوقهم ، لكان حقّا عليهم أن يعطوها إيّاها بمجرّد إرادتها ، حفظا لنبيّهم في بضعته التي لم يخلّف فيهم غيرها مع قرب وفاته.

فكيف يمكن أن يكون وجودها بنفسه سببا لقدرة أمير المؤمنين على إعادة الزعامة العظمى؟!

وأمّا اتّفاق العبّاس والزبير معه ، فلا يغني عنه شيئا في مقابلة جمهور قريش ، كيف؟! وقد كسروا سيف الزبير لمّا همّ بهم فلم يدفع عن نفسه ضيما (1)!!

وكذلك اتّفاق أبي سفيان معه ، لا سيّما وهو منافق لم يرد إلّا الفتنة ..

روى الطبري (2) وابن الأثير (3) : « أنّ أمير المؤمنين علیه السلام زجر أبا سفيان وقال : واللّه ما أردت إلّا الفتنة ، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شرّا ؛ لا حاجة لنا في نصيحتك ».

ويدلّ على نفاقه أنّه لمّا رشوه صار تابعا لهم (4).

روى الطبري (5) : « أنّه لمّا استخلف أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا

ص: 286


1- الكامل في التاريخ 2 / 189 ، وراجع الصفحة 277 ه 3 من هذا الجزء.
2- في تاريخه ص 203 من الجزء الثالث [ 2 / 237 ]. منه قدس سره .
3- في كامله ص 157 من الجزء الثاني [ 2 / 189 حوادث سنة 11 ه ]. منه قدس سره .
4- انظر : شرح نهج البلاغة 2 / 44.
5- ص 202 من الجزء المذكور [ 2 / 237 حوادث سنة 11 ه ]. منه قدس سره .

ولأبي فصيل (1)؟! إنّما هي بنو عبد مناف!

فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك.

قال : وصلته رحم ».

ونقل ابن أبي الحديد (2) ، عن الجوهري : « أنّ النبيّ [ قد ] بعث أبا سفيان ساعيا ، فرجع من سعايته وقد مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلقيه قوم فسألهم ، فقالوا : مات رسول اللّه.

فقال : من ولّي بعده؟

قيل : أبو بكر.

قال : أبو فصيل؟!

قالوا : نعم.

.. إلى أن قال : فكلّم عمر أبا بكر فقال : إنّ أبا سفيان قد قدم وإنّا لا نأمن شرّه ؛ فدفع له ما في يده ، فتركه فرضي ».

وأمّا قوله : « وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر ، فقالوا : منّا أمير ... » إلى آخره ..

فصحيح بالنسبة إلى أكثر الخزرج ، لكن كراهتهم لخلافته ؛ لأنّهم يريدونها لأنفسهم لا نصرة لأمير المؤمنين ؛ ولذا قالوا : « منّا أمير ومنكم أمير ».

ص: 287


1- قالها أبو سفيان استصغارا وانتقاصا واستنكارا .. فالبَكْرُ : الفتي من الإبل ، بمنزلة الغلام من الناس ؛ أنظر : لسان العرب 472/1 مادة «بكر » . والفَصِيلُ : وَلَدُ الناقة إذا فُصِلَ عن أُمّه ، أي فطم عن الرضاعة ؛ أنظر مادة «فصل» في : لسان العرب 273/10 ، تاج العروس 15 / 574 .
2- ص 130 من المجلّد الأوّل [ 2 / 44 ]. منه قدس سره .

ومنه يعلم ما في قوله : « ولو كان على إمامته نصّ لأظهروه » ..

فإنّ إظهارهم مناف لطلبهم الإمرة كما سبق (1) ، ولم يبق بعد هذا الطلب مجال لإظهار النصّ ؛ لتسرّع عمر إلى بيعة أبي بكر ، حتّى وصفها عمر بأنّها فلتة (2).

على أنّه لا يبعد أنّ كثيرا من الأنصار أظهروه وأخفاه رواة القوم ، كما يرشد إليه ما نقلناه سابقا عن الطبري وابن الأثير من أنّهما رويا أنّ الأنصار أو بعضهم قالوا : « لا نبايع إلّا عليّا ».

مع أنّ النصّ لمّا كان بمرأى من الناس ومسمع لا يحتاج إلى الإظهار ؛ لقرب عهد الغدير ونزول قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (3) .. الآية ، لكنّ الناس خالفوه على عمد ، انقلابا منهم عن الدين ، وغدرا بوليّهم ومولاهم ، واقتفاء لسنّة بني إسرائيل.

فقد اتّضح ممّا بيّنّا أنّ ما لفّقه الفضل تبعا للمواقف لإثبات إمكان المنازعة ، إنّما هو أمور خيالية وأوهام كاذبة صوّرها الهوى والتعصّب ، وإلّا فالوجدان والأحاديث شاهدان بخلافه ، حتّى

روى أحمد في مسنده (4) ، عن أمّ الفضل ، قالت :

« أتيت النبيّ في مرضه فجعلت أبكي ، فرفع رأسه فقال : ما يبكيك؟!

قلت : خفنا عليك ، وما ندري ما نلقى من الناس بعدك يا رسول اللّه!

ص: 288


1- انظر الصفحة 267 من هذا الجزء.
2- انظر الصفحة 258 ه 1 من هذا الجزء.
3- سورة المائدة 5 : 55.
4- ص 339 من الجزء السادس. منه قدس سره . وأنظر : المعجم الكبير - للطبراني - 23/25 ح 32 ، مجمع الزوائد 34/9.

قال : أنتم المستضعفون بعدي »

انظر إلى هذه الحرّة كيف أدركت من الناس الشحناء والبغضاء لهم ، وطلب الترات منهم ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله حيّ بينهم حتّى بكت ، وقال لها النبيّ : « أنتم المستضعفون بعدي »

وأهل السنّة رأوا ما رأوا من اتّفاق الكلمة على أهل البيت علیهم السلام ، وهجوم من هجم على دارهم وإرادتهم إحراقها عليهم ، وغصب بضعة الرسول حقّها حتّى ماتت غضبى (1) .. ومع ذلك يزعمون أنّ أمير المؤمنين قويّ الجانب بالمسلمين ، وكان يمكنه منازعة أبي بكر ، وما بايعه إلّا طوعا!

ولا ينافي ما قلنا جبن أبي بكر وضعفه وذلّته في نفسه وبيته ، حتّى عبّر عنه أبو سفيان بأبي فصيل وقال : « إنّه من أرذل بيت في قريش » كما في « الاستيعاب » وغيره (2) ..

فإنّه إنّما قوي على أمير المؤمنين بقريش وبعض الأنصار ، وما مكّنهم اللّه سبحانه من ذلك إلّا فتنة لهم ولغيرهم كما قال سبحانه : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (3).

ص: 289


1- انظر : صحيح البخاري 4 / 177 - 178 ح 2 وج 5 / 288 ح 256 ، صحيح مسلم 5 / 153 - 154 ، مسند أحمد 1 / 6 و 9 ، تاريخ الطبري 2 / 236 ، مشكل الآثار 1 / 34 ح 94 ، السيرة النبوية - لابن حبّان - : 429 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 6 / 300.
2- انظر : الاستيعاب 3 / 974 رقم 1633 وج 4 / 1679 رقم 3005 ، المصنّف - لعبد الرزّاق - 5 / 451 ح 9767 ، أنساب الأشراف 2 / 271 ، شرح نهج البلاغة 2 / 45 وج 6 / 40.
3- سورة العنكبوت 29 : 2.

ثمّ إنّ أكثر هذه الأمور التي قرّب بها وقوع الإجماع على أبي بكر بالاختيار أدلّ على خلافه ، كعدم ترجيح الأنصار لأبي بكر على عليّ علیه السلام ، وكون العبّاس معه ، وسلّ الزبير سيفه في نصرته ، وتظاهر أبي سفيان بخلاف أبي بكر وذمّه له ..

فإنّ هذه الأمور ونحوها مقرّبة لكون بيعة أبي بكر لم تكن عن رغبة ، بل لأمور تسخط اللّه ورسوله.

وممّا ذكرنا يعلم ما في قوله : « وبايعه حيث رآه أهلا للخلافة » ، وقد أشرنا إلى كيفية البيعة مجملا (1) وستعرفها مفصّلا.

وكيف يقال : إنّه بايعه طوعا حيث رآه أهلا للخلافة ، وآثار العداوة ظاهرة بينهما وبين أتباعهما إلى يومنا هذا؟!

وهو علیه السلام لم يزل يتظلّم منهم إلى حين وفاته ، حتّى قال في بعض كلامه :

« اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ، ثم قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تتركه » (2).

قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام (3) : « إعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه علیه السلام بنحو من هذا القول ، نحو قوله : وما زلت مظلوما منذ قبض اللّه رسوله صلی اللّه علیه و آله حتّى يوم الناس هذا.

ص: 290


1- راجع الصفحة 277 وما بعدها من هذا الجزء.
2- نهج البلاغة : 246 الخطبة 172.
3- ص 495 من المجلّد الثاني [ 9 / 305 ]. منه قدس سره .

وقوله : اللّهمّ اجز (1) قريشا ، فإنّها منعتني حقّي ، وغصبتني أمري.

وقوله : فجزى قريشا عنّي الجوازي ، فإنّهم ظلموني حقّي ، واغتصبوني سلطان ابن أمّي.

وقوله - وقد سمع صارخا ينادي : أنا مظلوم! - فقال : هلمّ فلنصرخ معا ، فإنّي ما زلت مظلوما.

وقوله : وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى.

وقوله : أرى تراثي نهبا.

وقوله : أصغيا بإنائنا (2) ، وحملا الناس على رقابنا.

وقوله : إنّ لنا حقّا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.

وقوله : ما زلت مستأثرا عليّ مدفوعا عمّا أستحقّه وأستوجبه » (3).

وأمّا قوله : « ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة ، بل عزمهم كان إقامة الحقّ وتقويم الشريعة » ..

فبعيد عن الصواب ؛ لأنّ من يقصد إقامة الحقّ وتقويم الشريعة لا يصدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن كتابة ما لا يضلّون بعده أبدا ، حتّى نسبه إلى

ص: 291


1- في شرح نهج البلاغة : « أخز ».
2- أصغى الإناء : أماله وحرفه على جنبه ليجتمع ما فيه ، وأصغاه نقصه ، ويقال : فلان مصغى إناؤه إذا نقص حقّه ، وأصغى فلان إناء فلان إذا أماله ونقصه من حظّه ؛ انظر : لسان العرب 7 / 353 مادّة « صغا ».
3- شرح نهج البلاغة 9 / 306 - 307 ، وانظر : نهج البلاغة : 53 الخطبة 6 وص 48 الخطبة 3 وص 472 الحكمة 22 ، تاريخ دمشق 42 / 429 ، الفائق في غريب الحديث 2 / 397.

الهجر ، فقابل إحسانه بأعظم إساءة ، ونصيحته بأكبر غشّ ، وهدايته بأضلّ ضلالة!

وكيف يريدون إقامة الحقّ وتقويم الشريعة ، ووليّهم بنصّ الكتاب المجيد ، ومولاهم ، وأخو نبيّهم ، وباب علمه ، ووارثه بين أظهرهم (1) ، لا يلتفتون إليه بوجه ، بل ينتهزون فرصة اشتغاله بتجهيز النبيّ ويتنازعون الإمرة بينهم في السقيفة ، ويستعملون في نيلها الحيل والتزويرات؟!

وكيف يقصدون إقامة الحقّ وقد انتهكوا حرّمة نبيّهم صلی اللّه علیه و آله بترك دفنه وغصب بضعته ولمّا يطل العهد حتّى ماتت مقهورة غضبى؟!

وكيف يقال في حقّهم ذلك وقد ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، وكلّهم إلى النار ، ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم؟!

وقد روى الطبري (2) ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر قال : أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟!

فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أدر فأمير المؤمنين يدريني.

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتبجّحوا على قومكم بجحا بجحا (3) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب تكلّمت.

فقال : تكلّم [ يا بن عبّاس ]!

ص: 292


1- سيأتي ذكر مصادر الفقرات المتقدّمة في محالّها مفصّلة.
2- في تاريخه ص 31 من الجزء الخامس [ 2 / 578 حوادث سنة 23 ه ]. منه قدس سره .
3- البجح : الفرح ، والتّبجّح : الفخر ، والمعنى هنا أنّهم سيفخرون بالخلافة على قومهم فرحا وعجبا ؛ انظر : لسان العرب 1 / 316 مادّة « بجح ».

فقلت : أمّا قولك : « اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت » ، فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار اللّه عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.

وأمّا قولك : « إنّهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة » ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ وصف قوما بالكراهيّة فقال : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) (1).

فقال عمر : هيهات! واللّه يا بن عبّاس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرّك (2) عنها فتزيل منزلتك منّي.

فقلت : وما هي؟! فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقال عمر : بلغني أنّك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسدا وظلما.

فقلت : أمّا قولك : « ظلما » فقد تبيّن للجاهل والحليم ؛ وأمّا قولك :

« حسدا » فإنّ إبليس حسد آدم ، فنحن ولده المحسودون.

فقال عمر : هيهات! أبت واللّه قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسدا ما يحول ، وضغنا وغشّا ما يزول.

فقلت : مهلا! لا تصف قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا بالحسد والغشّ ، فإنّ قلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قلوب بني هاشم.

فقال عمر : إليك عنّي .. الحديث.

ومثله في ( كامل ) ابن الأثير (3).

ص: 293


1- سورة محمّد 47 : 9.
2- فارك الرجل صاحبه : تاركه وفارقه وأبغضه ، والمفرّك : المتروك المبغض ؛ انظر : لسان العرب 10 / 250 مادّة « فرك ».
3- ص 31 من الجزء الثالث [ 2 / 458 حوادث سنة 23 ه ]. منه قدس سره .

ونحوه في ( شرح النهج ) (1).

وأمّا قوله : « وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليكم بالسواد الأعظم » ..

فلا يعرف معناه حتّى يعرف المقام الذي ورد فيه ، فإنّه قد يرد في مقام محاربة الجمع الكثير ، فيفيد الأمر بقتالهم ، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام في بعض أيّام صفّين : « عليكم بهذا السواد الأعظم [ والرواق المطنّب ] فاضربوا ثبجه (2) » (3).

وقد يرد في مقام ترجيح الاجتماع والسكنى في البلاد الكبيرة لا ستحبابه شرعا ؛ لأنّها أجمع للمعارف ما لم تكن بلاد كفر.

ولو سلّم أنّ المراد به الأمر باتّباع السواد الأعظم في الدين ، فليس المراد فيه بالسواد : الجمهور ، فإنّ أكثر الناس غير مؤمنين ، بل المراد به جماعة المؤمنين الخلّص وإن قلّوا ، فإنّهم السواد الأعظم ، أي محلّ النظر والالتفات والعناية.

قال الزمخشري والرازي في تفسير قوله تعالى : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (4) :

« فإن قيل : لم قال : ( أُذُنٌ واعِيَةٌ ) على التوحيد والتنكير؟!

قلنا : للإيذان بأنّ الوعاة فيهم قلّة ، وتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم ، والدلالة على أنّ الأذن الواعية (5) إذا وعت فهي السواد الأعظم ، وأنّ

ص: 294


1- ص 18 من المجلّد الثاني [ 12 / 53 - 54 ]. منه قدس سره .
2- ثبج كلّ شيء : معظمه ووسطه وأعلاه ؛ انظر : لسان العرب 2 / 80 مادّة « ثبج ».
3- انظر : نهج البلاغة : 97 الخطبة 66 ، تاريخ دمشق 42 / 460 ، كنز العمّال 11 / 347 ح 31705.
4- سورة الحاقّة 69 : 12.
5- في المصدرين : الواحدة.

ما سواها لا يلتفت إليه وإن امتلأ العالم منهم » (1).

وأمّا ما أجاب به عن أدلّة المصنّف العقلية ، فقد تبيّن لك ما فيه ممّا سبق (2) ، ودعوى العلم والزهد الحقيقي والشجاعة للمشايخ الثلاثة محلّ نظر.

هذا ، ويمكن أن يستدلّ على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام بوجه آخر عقلي ، وهو :

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يفارق المدينة قطّ إلّا وخلّف فيها من يخلفه ، ولا أرسل جيشا إلّا وأمّر عليهم كما تقتضيه الرئاسة والسياسة ، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة معرضا للفتن ، وغرضا لسهام الخلاف ، على قرب عهدهم بالكفر ، وتوقّع الانقلاب منهم ، ووجود من مردوا على النفاق ، وتربّص الكفرة بهم الدوائر ، كما نطقت به آيات الكتاب العزيز؟!

وكيف يمكن أن لا يطالبه المسلمون - على كثرتهم - بنصب إمام لهم ، مع طول مرضه وإعلامه مرارا لهم بموته؟!

فلمّا لم يقع الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام ، علم أنّه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب ، وليس هو إلّا نصّ الغدير ونحوه ، فيكون أمير المؤمنين علیه السلام هو الإمام.

ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سببا لترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله للنصّ كما زعموا ؛ لأنّ فائدة التشريع اتّباع الناس له في فعله.

وبالضرورة أنّه لم يتّفق ترك ملك أو خليفة للنصّ على من بعده عملا بالسنّة.

ص: 295


1- الكشّاف 4 / 151 ، التفسير الكبير 30 / 108.
2- راجع الصفحة 192 وما بعدها من هذا الجزء.

ويمكن أن يستدلّ على إمامته بوجه سابع عقلي ، وهو :

إنّه لا ريب بأنّ من يعرف طرفا من التاريخ رأى أنّ بين أمير المؤمنين علیه السلام والمشايخ الثلاثة مباينة بعيدة ، ومناوأة شديدة ، حتّى لم يشهد التاريخ بحرب له في نصرتهم ، مع أنّه أبو الحرب وابن بجدتها (1) وما قام الإسلام إلّا بسيفه ، وما تخلّف عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في موقف (2) سوى تبوك ، وقام بأعباء الحروب الثقيلة في أيّام تولّيه الخلافة.

وقد امتلأت كتب التاريخ بما وقع بينه وبينهم ، لا سيّما الثالث (3).

وذلك لا يجتمع مع البناء على أنّهم جميعا أركان الدين ، وأقطاب الحقّ ، وإخوة الصدق ، وهمّهم نصر الإسلام لا الزعامة الدنيوية ، فلا بدّ من وقوع خلل هناك ، إمّا لكونهم جميعا على باطل - ولا يقوله مسلم - ، أو لكون أحد الطرفين على الحقّ والآخر على الباطل ، وهو المتعيّن ، ولا قائل من أهل الإسلام بأنّ عليّا علیه السلام إذ ذاك : مبطل ، حتّى الخوارج ..

فيتعيّن أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام هو المحقّ ، وغيره المبطل ، فلا بدّ أن يكون هو الإمام.

* * *

ص: 296


1- بجد : بجد بالمكان : أقام به ، وعنده بجدة ذلك : أي علمه ، ومنه يقال : هو ابن بجدتها للعالم بالشيء المتقن له ، وكذلك يقال للدليل والهادي ؛ انظر : لسان العرب 1 / 316 مادّة « بجد ».
2- انظر : صحيح البخاري 6 / 18 ح 408 ، صحيح مسلم 7 / 120 ، السيرة النبوية - لابن هشام - 5 / 199 ، تاريخ الطبري 2 / 183 ، الاستيعاب 3 / 1090 رقم 1855 ، الكامل في التاريخ 2 / 150 ، الإصابة 4 / 564 رقم 5692.
3- انظر : تاريخ اليعقوبي 2 / 68 - 69 ، مروج الذهب 2 / 341 - 342 ، شرح نهج البلاغة 9 / 14 - 24.

تعيين إمامة عليّ بالقرآن

1 - آية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... )

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

وأمّا المنقول : فالقرآن ، والسنّة المتواترة ..

أمّا القرآن ، فآيات :

الأولى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (2).

أجمعوا على نزولها في عليّ علیه السلام (3) ، وهو مذكور في [ الجمع بين ] (4)

ص: 297


1- نهج الحقّ : 172.
2- سورة المائدة 5 : 55.
3- انظر التصريح بإجماع المفسّرين واتّفاقهم على ذلك في : المواقف : 405 ، شرح المقاصد 5 / 270 ، شرح المواقف 8 / 360 ، شرح تجريد الاعتقاد - للقوشجي _ : 476.
4- أثبتناه من نسخة « نهج الحقّ » في إحقاق الحقّ 2 / 399. وكتاب «التجريد في الجمع بين الصحاح الستة» للمحدّث أبي الحسن رزين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي السَّرَقُسطي المالكي ، المجاور بمكة ، المتوفى سنة 535 ه . أنظر : سير أعلام النبلاء 204/20 رقم 129 ، العبر في خبر من غبر 447/2 ، تذكرة الحفاظ 4 / 1281 ، مرآة الجنان 3/ 201 ، كشف الظنون 345/1 ، شذرات الذهب 106/4 .

الصحاح الستّة ، لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة (1).

والوليّ : هو المتصرّف (2).

وقد أثبت اللّه تعالى الولاية لذاته وشرك معه الرسول وأمير المؤمنين.

وولاية اللّه عامّة ، فكذا النبيّ والوليّ.

* * *

ص: 298


1- انظر : جامع الأصول 8 / 664 ح 6515 عن رزين العبدري ، المعجم الأوسط 6 / 294 ح 6232 ، تفسير السدّي : 231 ، المعيار والموازنة : 228 ، أنساب الأشراف 2 / 381 ، تفسير الطبري 4 / 628 - 629 ح 12215 - 12219 ، أحكام القرآن - للجصّاص - 2 / 625 - 626 ، معرفة علوم الحديث : 102 ، تفسير الماوردي 2 / 49 ، المتّفق والمفترق - للخطيب البغدادي - 1 / 258 ح 106 ، أسباب النزول - للواحدي - : 110 - 111 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي _ : 260 - 261 ح 354 - 357 ، شواهد التنزيل 1 / 161 - 184 ح 216 - 240 ، تفسير البغوي 2 / 38 ، الكشّاف 1 / 624 ، تفسير القرطبي 6 / 143 - 144 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 264 ح 246 ، تاريخ دمشق 42 / 357 ، تفسير الفخر الرازي 12 / 28 ، تفسير البيضاوي 1 / 272 ، شرح المقاصد 5 / 269 ، مجمع الزوائد 7 / 17 ، شرح المواقف 8 / 359 - 360 ، الدرّ المنثور 3 / 105.
2- انظر مادّة « ولي » في : لسان العرب 15 / 401 ، تاج العروس 20 / 311 و 315.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّ المراد من الوليّ : الناصر ، فإنّ الوليّ لفظ مشترك ، يقال للمتصرّف ، والناصر ، والمحبّ ، والأولى بالتصرّف ، كوليّ الصبيّ والمرأة.

والمشترك إذا تردّد بين معانيه ، يلزم وجود القرينة للمعنى المطلوب منه ، وهاهنا كذلك ، فلا يكون هذا نصّا على إمامة عليّ ، فبطل الاستدلال به.

وأمّا القرائن على أنّ المراد بالوليّ : الناصر - في الآية - لا الأولى والأحقّ بالتصرّف ؛ لأنّه لو حمل على هذا لكان غير مناسب لما قبلها ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (2) ، فإنّ الأولياء هاهنا : الأنصار ، لا بمعنى الأحقّين بالتصرّف ..

وغير مناسب لما بعدها ، وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (3) ، فإنّ التولّي هاهنا بمعنى المحبّة والنصرة.

فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة أيضا ؛ ليتلاءم أجزاء الكلام.

* * *

ص: 299


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 408.
2- سورة المائدة 5 : 51.
3- سورة المائدة 5 : 56.
وأقول :

لا يبعد أنّ الوليّ مشترك معنى ، موضوع للقائم بالأمر ، أي الذي له سلطان على المولّى عليه - ولو في الجملة - ، فيكون مشتقّا من الولاية ، بمعنى السلطان.

ومنه : وليّ المرأة والصبي والرعيّة ، أي القائم بأمورهم وله سلطان عليهم في الجملة.

ومنه أيضا : الوليّ : بمعنى الصديق والمحبّ ، فإنّ للصديق ولاية وسلطانا في الجملة على صديقه وقياما بأموره.

وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور ، والحليف بالنسبة إلى حليفه ، والجار بالنسبة إلى جاره .. إلى غير ذلك (1).

فيحنئذ يكون معنى الآية : إنّما القائم بأموركم هو اللّه ورسوله وأمير المؤمنين ، ولا شكّ أنّ ولاية اللّه تعالى عامّة في ذاتها ، مع أنّ الآية مطلقة فتفيد العموم بقرينة الحكمة (2) ، فكذا ولاية النبيّ والوصيّ ..

فيكون عليّ علیه السلام هو القائم بأمور المؤمنين ، والسلطان عليهم ، والإمام

ص: 300


1- انظر مادّة « ولي » في : لسان العرب 15 / 401 - 403 ، تاج العروس 20 / 310 - 316.
2- قرينة الحكمة : هي أنّه إذا كان المتكلّم الحكيم في مقام بيان مراده الجدّي ، وكان ملتفتا إلى انقسامات موضوع حكمه ، ولم يقم قرينة على إرادة خصوصية منها ، كان كلامه ظاهرا في الإطلاق بحكم العقل ، ويعمّ كلّ الانقسامات ؛ لأنّه لو أراد شيئا منها بخصوصه كان مقتضى الحكمة إقامة القرينة على ذلك. أنظر مثلاً : أصول الفقه : 184 - 186.

لهم.

ولو سلّم تعدّد المعاني واشتراك الوليّ بينها لفظا ، فلا ريب أنّ المناسب لإنزال اللّه الآية في مقام التصدّق أن يكون المراد بالوليّ : هو القائم بالأمور ، لا الناصر.

إذ أيّ عاقل يتصوّر أنّ إسراع اللّه سبحانه بذكر فضيلة التصدّق واهتمامه في بيانها بهذا البيان العجيب لا يفيد إلّا مجرّد بيان أمر ضروري ، وهو نصرة عليّ علیه السلام للمؤمنين؟!

ولو سلّم أنّ المراد : الناصر ، فحصر ( الناصر ) باللّه ورسوله وعليّ ، لا يصحّ إلّا بلحاظ إحدى جهتين :

الأولى : إنّ نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرّف بأمورهم ، وحينئذ يرجع إلى المعنى المطلوب.

الثانية : أن تكون نصرة غيرهم للمؤمنين ، ك لا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم ، وحينئذ يتمّ المطلوب أيضا ، إذ من أظهر لوازم الإمامة النصرة الكاملة للمؤمنين ، ولا سيّما قد حكم اللّه عزّ وجلّ بأنّها في قرن نصرته ونصرة رسوله.

وبالجملة : قد دلّت الآية الكريمة على انحصار الولاية - بأيّ معنى فسّرت - باللّه ورسوله وأمير المؤمنين ، وأنّ ولايتهم من سنخ واحد.

فلا بدّ أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام ممتازا على الناس جميعا ، بما لا يحيط به وصف الواصفين ، فلا يليق إلّا أن يكون إماما لهم ، ونائبا من اللّه تعالى عليهم جميعا.

ويشهد لإرادة الإمامة من هذه الآية : الآية التي قبلها ، الداخلة معها في

ص: 301

خطاب واحد ، وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (1) الآية ..

فإنّها ظاهرة في أنّ من يأتي بهم اللّه تعالى ، من أهل الولاية على الناس والقيام بأمورهم ؛ لأنّ معناها : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ ) مخصوصين معه بالمحبّة بينه وبينهم ، ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) أي : متواضعين لهم تواضع ولاة عليهم ، للتعبير ب « على » التي تفيد العلوّ والارتفاع ، ( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) أي : ظاهري العزّة عليهم والعظمة عندهم ، ومن شأنهم الجهاد فيسبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم.

ومن المعلوم أنّ هذه الأوصاف إنّما تناسب ذا الولاية والحكم والإمامة ، فيكون تعقّبها بقوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ... ) الآية ، دليلا على أنّ المراد بوليّ المؤمنين إمامهم القائم بأمورهم ؛ للارتباط بين الآيتين.

وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ إرادة الأولى بالتصرّف لا تناسب ما قبل الآية ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ) (2) الآية ؛ لأنّ المراد بالأولياء : الأنصار لا الأحقّين بالتصرّف ..

فخطأ ؛ لأنّ هذه الآية مفصولة عن آية المقام بآيات عديدة أجنبية

ص: 302


1- سورة المائدة 5 : 54 - 55.
2- سورة المائدة 5 : 51.

عن آية المقام ، ولذا صدّر آية المقام مع الآية التي قبلها المتّصلة بها بخطاب مستقلّ ، فلا تصلح تلك الآية المفصولة بآيات عديدة للقرينية.

ولنتل عليك الآيات لتتّضح الحال :

قال تعالى بعد الآية التي ذكرها الفضل : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... ) (1) الآية.

ثمّ قال بعدها : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) (2) الآية.

فأنت ترى أنّه انتقل في قوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ ... ) إلى تمام الآيتين ، إلى مطلب آخر مستقلّ بخطاب ، فكيف تكون إرادة الأنصار من الأولياء في الآية الأولى البعيدة ، موجبة لعدم إرادة الأولى بالتصرّف من الوليّ في الآية الأخيرة؟!

ولو سلّم أنّ الآيات كلّها مرتبطة بعضها ببعض فلا ينافي المطلوب ؛ لأنّ المراد أيضا بالأولياء في الآية الأولى هو : القائمون بالأمور في الجملة ، ولو بالنسبة إلى النصرة والمحافظة ؛ لما بيّنّاه في معنى ( الوليّ ) ، وأنّه مشترك معنى.

فيتمّ المطلوب من كلّ وجه ، ولا سيّما بضميمة قوله تعالى : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) الآية ؛ لاشتمالها كما عرفت على الأوصاف

ص: 303


1- سورة المائدة 5 : 52 - 54.
2- سورة المائدة 5 : 55.

المناسبة للقائم بالأمور.

وأمّا قوله : « وغير مناسب لما بعدها وهو قوله : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (1) » ..

فظاهر البطلان ؛ لأنّ المراد بتولّي اللّه ورسوله والّذين آمنوا هو اتّخاذهم أولياء ، وتسليم الولاية لهم بالمعنى الذي أريد من ( الوليّ ) في قوله تعالى قبله : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) الآية .. فكيف لا تحصل المناسبة؟!

هذا ، وقد اعترض القوم على الاستدلال بالآية بأمور أخر :

الأوّل : إنّ الحصر إنّما ينفي ما فيه تردّد ، ولا نزاع ولا خفاء في أنّه لا نزاع في إمامة الثلاثة عند نزول الآية (2).

وفيه - مع النقض بالنسبة إلى اللّه ورسوله ، فإنّه لا نزاع للمخاطبين في ولاية ما يضادّهما - : إنّه لو سلّم اعتبار التردّد والنزاع فإنّما هو في القصر الإضافي لا الحقيقي.

ولو سلّم ، كفى النزاع في علم اللّه تعالى ، فإنّه سبحانه عالم بوقوع النزاع في إمامة الثلاثة في المستقبل.

الثاني : إنّ ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل ، ولا شبهة في أنّ إمامة عليّ علیه السلام إنّما كانت بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وصرف الآية إلى ما يكون في المآل دون الحال لا يستقيم في حقّ اللّه ورسوله (3).

وفيه : إنّ ولاية كلّ منهم بحسبه ، فولاية الوصيّ في طول ولاية النبيّ وبعدها ، فإذا دلّت الآية على ولاية أمير المؤمنين علیه السلام وإمامته ،

ص: 304


1- سورة المائدة 5 : 56.
2- انظر : شرح المقاصد 5 / 271 ، شرح التجريد - للقوشجي - : 476 - 477.
3- انظر : شرح المقاصد 5 / 271 ، شرح التجريد - للقوشجي - : 476 - 477.

فقد دلّت على أنّها بعد رسول اللّه.

على أنّ الحقّ ثبوت الولاية لأمير المؤمنين علیه السلام في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله برتبة ثانية ، فتجب طاعته وتمضي تصرّفاته ، لكنّه ساكت غالبا كما هو شأن الإمام في حياة الإمام الذي قبله ، كالحسن علیه السلام في زمن أبيه ، والحسين في زمن أخيه علیه السلام .

ويدلّ على ذلك حديث المنزلة (1) ، فإنّه دالّ على أنّ منزلة أمير

ص: 305


1- (1) انظر : صحيح البخاري 5 / 89 - 90 ح 202 وج 6 / 18 ح 408 ، صحيح مسلم 7 / 120 - 121 ، سنن الترمذي 5 / 599 ح 3730 و 3731 ، سنن ابن ماجة 1 / 42 - 43 ح 115 وص 45 ح 121 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 44 ح 8138 - 8143 وص 108 ح 8399 وص 113 ح 8409 وص 119 - 125 ح 8429 - 8449 ، مسند أحمد 1 / 170 و 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 184 و 185 وج 3 / 32 وج 6 / 369 و 438 ، مسند الطيالسي : 29 ح 209 ، مسند الحميدي 1 / 38 ح 71 ، مصنّف عبد الرزّاق 5 / 406 ح 9745 وج 11 / 226 ح 20390 ، الطبقات الكبرى - لابن سعد - 3 / 17 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 496 ح 11 - 15 ، مسند سعد بن أبي وقّاص - للدورقي - : 51 ح 19 وص 103 ح 49 وص 136 ح 75 و 76 وص 174 - 177 ح 100 - 102 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 551 ح 1188 وص 586 - 588 ح 1331 - 1350 وص 595 - 596 ح 1384 - 1387 ، مسند البزّار 3 / 276 - 278 ح 1065 - 1068 وص 283 - 284 ح 1074 - 1076 وص 324 ح 1120 وص 368 ح 1170 ، مسند أبي يعلى 1 / 286 ح 344 وج 2 / 57 ح 698 وص 66 ح 709 وص 73 ح 718 وص 86 - 87 ح 738 - 739 وص 99 ح 755 وص 132 ح 809 ، الجعديات 2 / 77 ح 2058 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 221 ح 6609 وج 9 / 41 ح 6887 و 6888 ، المعجم الكبير - للطبراني - 1 / 146 ح 328 وص 148 ح 333 و 334 وج 2 / 247 ح 2035 وج 4 / 17 ح 3515 وص 184 ح 4087 وج 5 / 203 ح 5094 و 5095 وج 11 / 61 - 63 ح 11087 و 11092 وج 12 / 78 ح 12593 وج 19 / 291 ح 647 وج 23 / 377 ح 892 وج 24 / 146 - 147 ح 384 - 389 ، المعجم الأوسط 3 / 211 ح 2749 وج 4 / 484 ح 4248 وج 5 / 439 ح 5335 وج 6 / 32 ح 5569 وص 138 ح 5845 وص 146 ح 5866 وج 7 / 361 ح 7592 وج 8 /1. 74 ح 7894 ، المعجم الصغير 2 / 53 - 54 ، المستدرك على الصحيحين 2 / 367 ح 3294 وج 3 / 117 ح 4575 وص 143 - 144 ح 4652 ، حلية الأولياء 4 / 345 وج 7 / 194 - 197 وج 8 / 307 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 9 / 40 ، مصابيح السنّة 4 / 170 ح 4762.

المؤمنين علیه السلام من النبيّ صلی اللّه علیه و آله كمنزلة هارون من موسى.

ومن المعلوم ثبوت الولاية لهارون مع موسى ؛ لأنّه شريكه ، فكذا أمير المؤمنين له الولاية الفعلية أيضا وإن سكت ؛ إذ لم يستثن إلّا النبوّة.

ويدلّ - أيضا - على ذلك حديث الغدير ، ولذا قال له عمر :

« أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » كما رواه أحمد في مسنده ، عن البراء بن عازب (1).

ومثله عن الثعلبي في تفسيره (2).

ورواه الرازي في تفسير قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... ) (3) الآية ، ولكن بلفظ : « أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (4).

ورواه ابن حجر في أوائل « الصواعق » ، في الشبهة الحادية عشر [ ة ] ، عن الطبراني ، عن عمر وأبي بكر ، بلفط : « أمسيت [ يا بن أبي طالب ] مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (5).

ص: 306


1- ص 281 من الجزء الرابع. منه قدس سره .
2- تفسير الثعلبي 4 / 92.
3- سورة المائدة 5 : 67.
4- تفسير الفخر الرازي 12 / 53.
5- الصواعق المحرقة : 67 وقال : « أخرجه الدارقطني » ؛ وانظر : مسند أحمد 281/4 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 503 ح 55 ، فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 2 / 738 - 739 ح 1016 ، تمهيد الأوائل : 453 ، الاعتقاد على مذهب السلف - للبيهقي - : 204 ، تاريخ بغداد 8 / 290 رقم 4392 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 69 ح 24 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 164 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 156 ح 184 ، تاريخ دمشق 42 / 220 - 222.

ويدلّ على ذلك أيضا ما رواه الترمذي في فضائل أمير المؤمنين علیه السلام ، المصرّح بأنّ أمير المؤمنين علیه السلام أصاب جارية من سبيّ ، فتعاقد عليه أربعة فوشوا به عند النبيّ ، فغضب وقال :

« ما تريدون من عليّ؟! ما تريدون من عليّ؟! [ ما تريدون من عليّ؟! ] إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي » (1).

فإنّه دالّ على مضيّ فعل عليّ في ذلك الوقت ، وأنّ له الاصطفاء من الغنيمة كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لولايته مثله ؛ لأنّه منه - أي أنّه كنفسه - ، ففعله كفعله.

وعليه : فالبعديّة في هذه الرواية بلحاظ الرتبة لا الزمان ، كما يقرّبه خلوّ الحديث في بعض الروايات عن لفظ « بعدي » كما رواه الحاكم في « المستدرك » بفضائل أمير المؤمنين علیه السلام (2).

وقد جاء أيضا في أحاديث كثيرة أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « من كنت

ص: 307


1- سنن الترمذي 5 / 590 ح 3712 ؛ وانظر : السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 132 - 133 ح 8474 ، مسند أحمد 4 / 437 ، مسند أبي يعلى 1 / 293 ح 355 ، المعجم الكبير 18 / 128 ح 265 ، مسند الطيالسي : 111 ح 829 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 504 ح 58 ، مسند الروياني 1 / 62 ح 119 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 41 - 42 ح 6890 ، حلية الأولياء 6 / 294 ، كنز العمّال 13 / 142 ح 36444.
2- ص 110 من الجزء الثالث [ 3 / 119 ح 4579 ]. منه قدس سره . وأنظر : مصابيح السنة 172/4 ح 4766.

وليّه فعليّ وليّه » ، كما في مسند أحمد ، عن بريدة (1)

الأمر الثالث : إنّ ( الَّذِينَ آمَنُوا ) صيغة جمع فلا تصرف إلى الواحد إلّا بدليل ، وقول المفسّرين : « نزلت في عليّ » لا يقتضي الاختصاص ، ودعوى انحصار الأوصاف فيه مبنية على جعل ( وَهُمْ راكِعُونَ ) حالا من ضمير ( يُؤْتُونَ ) وليس بلازم ، بل يحتمل العطف ، بمعنى أنّهم يركعون في صلاتهم ، لا كصلاة اليهود خالية من الركوع ، أو بمعنى أنّهم خاضعون (2).

وفيه : إنّ الحاليّة متعيّنة لوجهين :

[ الوجه ] الأوّل : بعد الاحتمالين المذكورين ؛ لا ستلزام أوّلهما التأكيد المخالف للأصل ؛ لأنّ لفظ ( الصلاة ) مغن عن بيان أنّهم يركعون في صلاتهم ، لتبادر ذات الركوع منها ، كما يتبادر من الركوع ما هو المعروف ، فيبطل الاحتمال الثاني أيضا.

الوجه الثاني : إنّ روايات النزول صريحة بالحاليّة وإرادة الركوع المعروف ..

فمنها : ما في « الدرّ المنثور » للسيوطي ، عن ابن مردويه ، من حديث طويل قال في آخره :

ص: 308


1- ص 350 و 358 من الجزء الخامس. منه قدس سره . نقول : ويضاف إلى ردّ الشيخ المظفّر قدس سره بأنه يمكن أن يجاب عن إشكال الفضل هذا ، بأنه غير صحيح أصلاً ؛ لأنه مبتن على كون «الولاية» بمعنى «الحكومة» ؛ في حين أن «الحكومة» شأن من شؤون «الولاية» ، فيندفع الإشكال كبروياً وصغروياً ، فإنّ اجتماع «الحكومتين» في زمان واحد غير ممكن لا اجتماع «الولايتين » ؛ فلاحظ !
2- شرح المقاصد 5 / 272 ، شرح التجريد - للقوشجي - : 477.

« وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أعطاك أحد شيئا؟

قال : نعم.

قال : من؟

قال : ذلك الرجل القائم.

قال : على أيّ حال أعطاكه؟

قال : وهو راكع.

قال : وذلك عليّ بن أبي طالب.

فكبّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ذلك وهو يقول : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (1) (2).

ومثله في « أسباب النزول » للواحدي (3).

ومنها : ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، عن الخطيب في « المتّفق » ، عن ابن عبّاس ، قال : تصدّق عليّ بخاتمه وهو راكع ، فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : من أعطاك هذا الخاتم؟

قال : ذاك الراكع.

فأنزل اللّه : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) (4) .. الآية (5).

ومنها : ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، عن الطبراني وابن مردويه ، عن عمّار بن ياسر ، قال : وقف بعليّ سائل وهو راكع في صلاة تطوّع ،

ص: 309


1- سورة المائدة 5 : 56.
2- الدرّ المنثور 3 / 105 - 106.
3- أسباب النزول : 111 ؛ وانظر : معرفة علوم الحديث : 102 ، زاد المسير 2 / 227 ، تفسير ابن كثير 2 / 68.
4- سورة المائدة 5 : 55.
5- الدرّ المنثور 3 / 104 و 105 ، وانظر : المتّفق والمفترق 1 / 258 ح 79.

فنزع خاتمه فأعطاه السائل ، فأتى رسول اللّه فأعلمه ذلك ، فنزلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله [ هذه الآية ] : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... ) الآية (1).

ونحوه في التقييد بقوله : « وهو راكع » ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، عن ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن عساكر ، عن سلمة بن كهيل (2).

ونحوه أيضا فيه ، عن ابن جرير ، عن السدّي وعتبة بن [ أبي ] (3) حكيم (4).

ومنها : ما عن الثعلبي ؛ وفي تفسير الرازي ، عن أبي ذرّ رحمه اللّه ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهاتين وإلّا صمّتا ، ورأيته بهاتين وإلّا عميتا ، يقول : عليّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله.

أمّا إنّي صلّيت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد شيئا ، وكان عليّ راكعا ، فأومأ بخنصره إليه وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، فتضرّع النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى اللّه عزّ وجلّ فقال :

اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : اللّهمّ ( اشْرَحْ لِي صَدْرِي *

ص: 310


1- الدرّ المنثور 3 / 105 ؛ وانظر : المعجم الأوسط - للطبراني - 6 / 294 ح 6232.
2- الدرّ المنثور 3 / 105 ؛ وانظر : تفسير ابن كثير 2 / 68 ، لباب النقول : 93.
3- أثبتناه من تفسير الطبري ؛ وهو : عتبة بن أبي حكيم الهمداني الشعباني الأردني ، روى له الأربعة - أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة - والبخاري في « خلق أفعال العباد » ووقع في كتاب العلم من صحيحه ضمنا. أنظر : تهذيب الكمال 359/12 رقم 4355 ، ميزان الاعتدال 37/5 رقم 5475 ، تهذيب التهذيب 456/5 رقم 4561.
4- الدرّ المنثور 3 / 105 ؛ وانظر : تفسير السدّي : 231 ، تفسير الطبري 4 / 628 ح 12215 وص 629 ح 12218 و 12219.

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فأنزلت عليه : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً ) (2).

اللّهمّ وأنا محمّد عبدك ونبيّك ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا اشدد به ظهري.

قال أبو ذرّ رحمه اللّه : فو اللّه ما استتمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكلمة حتّى هبط جبرئيل بهذه الآية » (3).

ومنها : ما في تفسير الرازي ، عن عبد اللّه بن سلّام ، قال : « لمّا نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول اللّه! أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه [ على محتاج ] وهو راكع ، فنحن نتولّاه » (4).

.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى ، الصريحة في الحاليّة ، وإرادة الركوع المعروف ، الدالّة على أنّ المراد تعيين أمير المؤمنين علیه السلام بهذه الأوصاف (5).

كما لا ريب بإرادة المفسّرين اختصاص الآية بأمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ تفسيرهم مأخوذ من هذه الروايات ونحوها (6).

ص: 311


1- سورة طه 20 : 25 - 32.
2- سورة القصص 28 : 35.
3- تفسير الثعلبي 4 / 80 - 81 ، تفسير الفخر الرازي 12 / 28.
4- تفسير الفخر الرازي 12 / 28.
5- راجع الصفحة 297 من هذا الجزء.
6- انظر : تفسير الطبري 4 / 629 ح 12219 ، تفسير البغوي 2 / 38 ، تفسير القرطبي 6 /143 - 144 ، تفسير الدرّ المنثور 3 / 104 و 105 ، روح المعاني 6 / 244 - 245.

ولعمري لو فتحنا باب تلك التأويلات السوفسطائية ، لا سيّما مع مخالفتها للأخبار ، لما كانت آية حجّة على أمر ألبتّة ، بل لم يثبت بكلمة الشهادة إسلام أحد!

وذلك غير خفيّ على القوم ، ولكنّ البغض والعداوة داء لا دواء له!

فيا هل ترى لو نزلت هذه الآية في حقّ أبي بكر أو عمر أكانوا يجرون فيها هذه التأويلات ، أو يجعلونها أدلّ النصوص على الإمامة؟!

وأنت تعلم أنّهم يزعمون أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر أبا بكر بالصلاة في الناس (1) ، ومن مذهبهم جواز إمامة الفاسق في الصلاة (2) ، ومع ذلك قالوا إنّه دليل على إمامته!! فيا بعد ما بين المقامين ، ولا أمر كأمر أبي بكر وأبي حسن وحسين!!

ثمّ إنّ الفائدة في التعبير عن أمير المؤمنين علیه السلام - وهو فرد - بصيغة الجمع ، هي تعظيمه (3) ، والإشارة إلى أنّه بمنزلة جميع المؤمنين المصلّين المزكّين ؛ لأنّه عميدهم ، ومن أقوى الأسباب في إيمانهم ومبرّاتهم ، كما أشار إلى ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله يوم الخندق : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » (4).

ص: 312


1- سيأتي تفصيله في محلّه من الجزء السابع من هذا الكتاب.
2- انظر الصفحة 206 ه 2 من هذا الجزء.
3- انظر : تفسير الفخر الرازي 12 / 30 ، مجمع البيان 3 / 348.
4- انظر : شرح نهج البلاغة 13 / 261 و 285 ، حياة الحيوان الكبرى - للدميري - 1 / 274 ، ينابيع المودّة 1 / 281 ح 2 و 284 ح 7 ، مناقب آل أبي طالب 3 / 161 ، الطرائف : 16.

وجعل الزمخشري الفائدة فيه ترغيب الناس في مثل فعله ، لينبّه [ على ] أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان (1) (2).

* * *

ص: 313


1- الكشّاف 1 / 624.
2- (2) وللعلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين 1 بيان آخر لهذه المسألة ، فبعد أن أورد قولي الطبرسي والزمخشري ، قال ما نصّه : « قلت : عندي في ذلك نكتة ألطف وأدقّ ، هي : إنّه إنّما أتى بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بقيا منه تعالى على كثير من الناس ، فإنّ شانئي عليّ وأعداء بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس ، لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد ؛ إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في تمويه ، ولا ملتمس في التضليل ، فيكون منهم - بسبب يأسهم - حينئذ ما تخشى عواقبه على الإسلام ، فجاءت الآية بصيغة الجمع - مع كونها للمفرد - اتّقاء من معرّتهم ، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ، ومقامات متعدّدة ، وبثّ فيهم أمر الولاية تدريجا تدريجا حتّى أكمل الدين وأتمّ النعمة ، جريا منه صلی اللّه علیه و آله على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشقّ عليهم ، ولو كانت الآية بالعبارة المختصّة بالمفرد ، لجعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم ، وأصرّوا واستكبروا استكبارا! وهذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفی ...». أنظر : المراجعات : 263 رقم 5.

2 - آية : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ... )

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

الثانية : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... ) (2).

نقل الجمهور أنّها نزلت في بيان فضل عليّ علیه السلام يوم الغدير ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيد عليّ علیه السلام وقال : « أيّها الناس! ألست أولى منكم بأنفسكم ».

قالوا : بلى يا رسول اللّه.

قال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه كيفما دار » (3).

المولى يراد به : الأولى بالتصرّف ؛ لتقدّم « ألست أولى » ، ولعدم صلاحيّة غيره هاهنا.

ص: 314


1- نهج الحقّ : 172.
2- سورة المائدة : 5 : 67.
3- انظر : تفسير الحبري : 262 ح 24 وص 285 - 287 ح 41 ، تفسير الثعلبي 4 / 92 ، أسباب النزول - للواحدي - : 112 ، شواهد التنزيل 1 / 187 - 192 ح 243 - 250 ، تاريخ دمشق 42 / 237 ، تفسير الفخر الرازي 12 / 53 ، مطالب السؤول : 79 ، فرائد السمطين 1 / 158 ح 120 ، الفصول المهمّة - لابن الصبّاغ المالكي - : 42 ، الدرّ المنثور 3 / 117 ، ينابيع المودّة 1 / 359.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

أمّا ما ذكره من إجماع المفسّرين على أنّ الآية نزلت في عليّ ، فهو باطل ؛ فإنّ المفسّرين لم يجمعوا على هذا.

وأمّا ما روي من أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكره يوم غدير خمّ حين أخذ بيد عليّ وقال : « ألست أولى ... » ، فقد ثبت هذا في الصحاح (2).

وقد ذكرنا سرّ هذا في ترجمة كتاب « كشف الغمّة في معرفة الأئمّة » (3) ..

ومجمله : إنّ واقعة غدير خمّ كانت في مرجع رسول اللّه عام حجّة الوداع ، وغدير خمّ : محلّ افتراق قبائل العرب ، وكان رسول اللّه يعلم أنّه آخر عمره ، وأنّه لا يجتمع العرب بعد هذا عنده مثل هذا الاجتماع ، فأراد أن يوصي العرب بحفظ محبّة أهل بيته وقبيلته ..

ولا شكّ أنّ عليّا كان بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيّد بني هاشم وأكبر أهل البيت ، فذكر فضائله ، وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرة والمحبّة معه ، ليتّخذه العرب سيّدا ويعرفوا فضله وكماله.

ص: 315


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 482.
2- انظر : سنن ابن ماجة 1 / 43 ح 116 ، سنن الترمذي 5 / 591 ح 3713 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 134 ح 8478 ، مسند أحمد 1 / 119 وج 4 / 372 وج 5 / 347 ، المعجم الكبير 5 / 194 - 195 ح 5066 و 5068 - 5071 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 42 ح 6892 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576.
3- راجع ج 2 / 20 - 21 من هذا الكتاب.

ولينصف المنصف من نفسه ، لو كان يوم غدير خمّ صرّح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخلافة عليّ نصّا جليّا لا يحتمل خلاف المقصود ، ألا ترى العرب مع جلافتهم وكفرهم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وجعلهم الأنبياء فيهم مثل مسيلمة الكذّاب (1) ، وسجاح (2) ، وطليحة (3) ، كانوا يسكتون على خلافة أبي بكر ، وكانوا لا يتكلّمون بنباس (4) في أمر خلافة عليّ ، مع أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نصّ على المنبر بمحضر جميع قبائل العرب؟!

إن أنصف المتأمّل العاقل ، علم أن لا نصّ هناك!

* * *

ص: 316


1- هو : مسيلمة بن حبيب من بني تميم ، متنبّئ ، وقد وضع عن قومه الصلاة ، وأحلّ لهم الخمر والزنا ، وجعل يسجع لهم السجعات مضاهاة للقرآن ، كان من المعمّرين ، ولد باليمامة قبل ولادة والد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، تلقّب بالجاهلية بالرحمن ، وعرف برحمن اليمامة ، قالوا في وصفه : كان رويجلا ، أصيغر ، أخينس ، كان اسمه مسلمة ، وسمّاه المسلمون مسيلمة تصغيرا له ، قتل في غزوة اليمامة عام 12 ه وكان عمره آنذاك 150 سنة. أنظر : تاريخ الطبري 199/2 - 200 ، تاريخ الخلفاء - للسيوطي - : 89 ، شذرات الذهب 23/1.
2- تقدّمت ترجمتها في ج 1 / 142 ه 1 من هذا الكتاب.
3- هو : طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر الأسدي ، كان ممّن شهد الخندق مع الأحزاب ، وأسلم سنة 9 ه ، ثمّ ارتدّ وأدّعى النبوّة في عهد أبي بكر ، ثمّ كانت له وقائع كثيرة مع المسلمين ، ثمّ خذله اللّه وهرب حتّى لحق بأعمال دمشق ، ونزل على آل جفنّة ، ثمّ أسلم وقدم مكّة معتمرا ، ثمّ خرج إلى الشام مجاهدا ، وشهد اليرموك ، وشهد بعض حروب الفرس ، وقتل بنهاوند سنة 21 ه. أنظر: الاستيعاب 773/2 رقم 773 ، أسد الغابة 477/2 رقم 2639 ، تاريخ دمشق 149/25 - 172 رقم 2992.
4- النّبس : هو أقلّ الكلام ، وما نبس : أي ما تحرّكت شفتاه بشيء ، وما نبس بكلمة : أي ما تكلّم ؛ انظر : لسان العرب 14 / 20 مادّة « نبس ».
وأقول :
اشارة

لم يذكر المصنّف رحمه اللّه المفسّرين في كلامه هنا ، فضلا عن أنّه ادّعى إجماعهم ، وإنّما نقل رواية الجمهور لنزول الآية في فضل عليّ علیه السلام ، وهو حقّ ، فإنّه قد رواه الكثير منهم.

فقد نقل السيوطي في « الدرّ المنثور » بتفسير الآية ، عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر بأسانيدهم ، عن أبي سعيد ، قال : « نزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خمّ في عليّ » (1)

ونقل أيضا عن ابن مردويه ، بإسناده عن ابن مسعود ، قال : « كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (2) أنّ عليّا مولى المؤمنين ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (3) (4).

وروى الواحدي في « أسباب النزول » ، عن أبي سعيد ، قال : « نزلت يوم غدير خمّ في عليّ » (5).

ونقل المصنّف رحمه اللّه نحو هذا في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن عطيّة (6).

ص: 317


1- الدرّ المنثور 3 / 117 ، وانظر : تاريخ دمشق 42 / 237.
2- سورة المائدة 5 : 67.
3- سورة المائدة 5 : 67.
4- الدرّ المنثور 3 / 117.
5- أسباب النزول : 112.
6- منهاج الكرامة : 117 ، وانظر : ما نزل من القرآن في عليّ : 86.

ونقل أيضا نحو ما ذكره هنا عن الثعلبي (1).

وقال الرازي في أحد وجوه نزولها : « ولمّا نزلت أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه.

فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وهو قول ابن عبّاس ، والبراء بن عازب ، ومحمّد بن علي ».

ثمّ قال : « وأعلم أنّ هذه الروايات وإن كثرت ، إلّا أنّ الأولى حمله على أنه آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ؛ وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية [ بكثير ] وما بعدها بكثير ، لمّا كان كلاما مع اليهود والنصارى ، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها وما بعدها » (2).

وفيه : مع أنّه هذا اجتهاد في مقابلة النصّ ، وهو غير مقبول : إنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن ، كما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، ورواه غيره أيضا (4) ، وكان نزولها بحجّة الوداع.

ومن المعلوم أنّه حينئذ لم تكن لليهود والنصارى شوكة يخشى منها النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يبلّغ ما أنزل إليه ، فالمناسب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله خاف منافقي قومه.

ص: 318


1- منهاج الكرامة : 117 ، وانظر : تفسير الثعلبي 4 / 92.
2- تفسير الفخر الرازي 12 / 53.
3- المستدرك على الصحيحين 2 / 340 ح 3210 و 3211.
4- سنن الترمذي 5 / 243 ح 3063 ، السنن الكبرى - للنسائي - 6 / 333 ح 11138 ، مسند أحمد 6 / 188 ، تفسير النسائي 1 / 427 ح 158 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 7 / 172 ، تفسير القرطبي 6 / 22 - 23 ، الدرّ المنثور 3 / 3.

ومن الواضح أنّه لا يخشاهم من تبليغ شيء جاء به إلّا نصب عليّ علیه السلام إماما ، عداوة وحسدا له.

وقد ورد عندنا أنّ جبرئيل علیه السلام نزل على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في حجّة الوداع بأن ينصب عليّا خليفة له ، فضاق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، وقال لجبرئيل : إنّ قومي لم يقرّوا لي بالنبوّة إلّا بعد أن جاهدت ، فكيف يقرّون لعليّ بالإمامة في كلمة واحدة؟! وعزم على نصبه بالمدينة.

فلمّا وصل إلى غدير خمّ نزل عليه قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ) (1) الآية (2).

ولمّا سار بعد نصبه ووصل العقبة دحرجوا له الدّباب (3) لينفّروا ناقته ويقتلوه فينقضوا فعله ، فعصمه اللّه سبحانه منهم (4).

ثمّ أراد أن يؤكّد عليه النصّ في كتاب لا يضلّون بعده ، فنسبوه إلى الهجر! (5) ؛ وأراد تسييرهم بجيش أسامة ، فعصوه! (6).

ص: 319


1- سورة المائدة 5 : 67.
2- انظر : أصول الكافي 1 / 320 - 322 ح 755 و 757 ، الاحتجاج 1 / 137 - 138.
3- الدّبّة : ظرف يجعل فيه الزيت والبزر والدّهن ، والجمع : دباب ؛ انظر مادّة « دبب » في : لسان العرب 4 / 278 ، تاج العروس 1 / 479.
4- انظر : مسند أحمد 5 / 453 ، الكشّاف 2 / 203 ، الخصال 2 / 499 ح 6 ، الاحتجاج 1 / 127 - 132.
5- (5) مرّ تخريج ذلك مفصّلا في الصفحة 93 ه 2 من هذا الجزء ؛ فراجع!
6- (6) انظر : صحيح البخاري 5 / 96 ح 223 وص 290 ح 262 وج 6 / 40 ح 450 و 451 وج 8 / 230 ح 6 وج 9 / 132 ح 47 ، صحيح مسلم 7 / 131 ، سنن الترمذي 5 / 635 ح 1. السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 53 ح 8185 و 8186 ، مسند أحمد 2 / 20 و 106 و 110 ، فضائل الصحابة - لأحمد - 2 / 1052 ح 1525 وص 1054 ح 1529 ، مسند أبي يعلى 9 / 352 ح 5462 وص 390 ح 5518 ، مصنّف عبد الرزّاق 11 / 234 ح 20413 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 532 ح 3 ، الطبقات الكبرى - لابن سعد - 2 / 146 ، المغازي - للواقدي - 3 / 1119 ، السيرة النبوية - لابن هشام - 6 / 65 ، تاريخ الطبري 2 / 224 - 225 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 94 ح 7004 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 12 ، تاريخ دمشق 8 / 58 - 62.

وأمّا توسّط هذه الآية بين الآيات المتعلّقة باليهود والنصارى ، فللإشارة إلى أنّ المنافقين بمنزلتهم ، ومن سنخهم في الضلال والكفر ؛ ولذا حكم بارتدادهم في أخبار الحوض (1).

ولو كان المقصود هو : العصمة عن اليهود والنصارى ، لكان الأولى هو الإضمار لا التعبير عنهم بالناس.

ثمّ إنّه لا بدّ من تحقيق حديث الغدير (2) في الجملة سندا ودلالة ،

ص: 320


1- تقدّم تخريج ذلك مفصّلا في ج 2 / 27 - 28 ه 1 ، وانظر : الصفحة 212 - 213 ه 1 من هذا الجزء.
2- روى حديث الغدير أغلب أعلام وحفّاظ ومحدّثي الجمهور ، في صحاحهم وسننهم ومسانيدهم ، وقد مرّ تخريج الحديث مفصّلا في ج 1 / 19 - 21 ه 1 ، ونورد في ما يلي مجموعة أخرى من أمّهات مصادرهم من التي روت الحديث زيادة عمّا مرّ : السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 130 ح 8464 وص 131 - 132 ح 8468 - 8473 وص 134 - 135 ح 8478 - 8481 وص 136 ح 8483 و 8484 ، فضائل الصحابة - لأحمد - 2 / 849 ح 1167 وص 878 ح 1206 ، التاريخ الكبير - للبخاري - 1 / 375 رقم 1191 ، مصنّف عبد الرزّاق 11 / 225 ح 20388 ، مسند أبي يعلى 1 / 428 - 429 ح 567 وج 11 / 307 ح 6423 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 42 ح 6892 ، مسند الإمام زيد : 457 ، الإمامة والسياسة 1 / 129 ، تأويل مختلف الحديث : 17 و 1. السنّة - لابن أبي عاصم - : 590 - 593 ح 1354 - 1376 ، زوائد عبد اللّه بن أحمد بن حنبل : 413 - 419 ح 197 - 201 ، فضائل الصحابة - للنسائي - : 15 ح 45 ، مسند الروياني 1 / 36 ح 62 ، الكنى والأسماء - للدولابي - 2 / 61 و 88 ، الذرّية الطاهرة : 168 ح 228 ، نوادر الأصول - للحكيم الترمذي - 2 / 155 - 156 ، مشكل الآثار 2 / 211 - 212 ح 1900 - 1902 ، العقد الفريد 3 / 312 ، الغيلانيات 1 / 157 - 158 ح 118 وص 168 ح 126 ، الكامل - لابن عديّ - 3 / 80 رقم 623 وص 256 رقم 735 وج 4 / 12 رقم 888 وج 5 / 33 رقم 1204 وص 122 رقم 1286 وج 6 / 82 رقم 1615 وص 216 رقم 1686 وص 381 رقم 1865 وص 413 رقم 1895 ، العلل - للدارقطني - 3 / 224 رقم 375 وج 4 / 91 رقم 446 ، تمهيد الأوائل : 545 ، المغني - للقاضي عبد الجبّار - 20 ق 1 / 144 - 145 ، شرح الأصول الخمسة : 766 ، معرفة الصحابة - لأبي نعيم - 3 / 1170 ح 2966 وج 5 / 2885 ح 6779 وج 6 / 3155 ح 7263 ، تثبيت الإمامة : 54 ح 5 ، حلية الأولياء 4 / 23 و 5 / 364 ، الاستيعاب 3 / 1099 ، المتّفق والمفترق - للخطيب البغدادي - 3 / 1739 ح 1277 ، موضح أوهام الجمع والتفريق 1 / 185 ، الفصل للوصل 1 / 555 - 556 ح 58 ، أسباب النزول - للواحدي - : 112 ، شواهد التنزيل 1 / 187 - 193 ح 243 - 250 ، زين الفتى 1 / 493 - 495 ح 293 - 295 ، سرّ العالمين : 453 ، ربيع الأبرار 1 / 84 - 85 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 493 - 494 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 161 - 162 ، كنز العمّال 11 / 608 - 610 ح 32945 - 32951 وج 13 / 131 ح 36417 و 36418.

فهنا مطلبان :

الأوّل : في صحّته :

وهي لا ريب فيها لأحد إلّا لبعض النصّاب كما ستعرف.

قال ابن حجر : « إنّه حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، وطرقه كثيرة جدّا ، ومن ثمّ رواه ستّة عشر صحابيا ..

ص: 321

وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعليّ لمّا نوزع أيّام خلافته ، كما مرّ وسيأتي » (1).

أقول :

وهذا صريح في دلالة الحديث على الخلافة ، ثمّ في « الصواعق » :

« وكثير من أسانيده صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحّته ، ولا لمن ردّه بأنّ عليّا كان باليمن ؛ لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحجّ مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..

وقول بعضهم : إنّ زيادة : ( اللّهمّ وال من والاه ... ) إلى آخره موضوعة ، مردود ، فقد ورد ذلك من طرق ، صحّح الذهبيّ كثيرا منها » (2).

والدعاء الذي أشار إليه هنا قد ذكره قبل هذا الكلام بلفظ : اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأنصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار (3).

بل الحقّ أنّ هذا الحديث من المتواترات حتّى عند القوم ، فقد نقل السيّد السعيد رحمه اللّه عن الجزري الشافعي ، أنّه أثبت في رسالته « أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب » تواتره من طرق كثيرة ، ونسب منكره إلى الجهل والعصبيّة (4).

ص: 322


1- الصواعق المحرقة 64 الشبهة الحادية عشرة ، وانظر : مسند أحمد 4 / 370.
2- الصواعق المحرقة : 64 الشبهة الحادية عشرة ، وقد جمع الذهبي طرقه في مصنّف كما في تذكرة الحفّاظ 3 / 1043.
3- الصواعق المحرقة : 64 ، الشبهة الحادية عشرة.
4- إحقاق الحقّ 2 / 487 ، وانظر : أسنى المطالب : 3 - 4.

واعترف الحافظ السيوطي - كما نقل عنه - بتواتره (1) ..

وكيف لا يكون متواترا ، وقد زادت طرقه على مائة عندهم ، ورواه سبعون صحابيا أو أكثر؟!

نقل جماعة عن الطبري ، صاحب التاريخ المشهور ، أنّه أخرج هذا الحديث من خمسة وسبعين طريقا ، وأفرد له كتابا سمّاه « الولاية » (2).

ونقلوا عن ابن عقدة أنّه أخرجه من مائة وخمسة طرق ، وأفرد له كتابا سمّاه « الموالاة » (3).

وأشار إلى الكتابين ابن حجر العسقلاني في « تهذيب التهذيب » بترجمة أمير المؤمنين علیه السلام ، قال : « صحّ حديث الموالاة ، واعتنى بجمع طرقه أبو العبّاس ابن عقدة فأخرجه من حديث سبعين صحابيا أو أكثر ، وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلّف »(4).

ص: 323


1- نقله عنه المناوي في فيض القدير 6 / 282 ح 9000.
2- انظر : معجم الأدباء 5 / 266 و 269 ، سير أعلام النبلاء 14 / 274 و 277 ، البداية والنهاية 11 / 125 ، تهذيب التهذيب 5 / 701 رقم 4898. وأنظر : العمدة - لابن بطريق -: 157 ح 167 ، مناقب آل أبي طالب 34/3 ، أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربية : 661 - 664 رقم 852.
3- انظر : جواهر العقدين : 237 ، فيض القدير 6 / 282 ح 9000 ، كفاية الطالب : 60 ، العمدة - لابن بطريق - : 157 ح 167 ، مناقب آل أبي طالب 3 / 34 ، إقبال الأعمال 2 / 239 - 240 وقال فيه : « وجدت هذا الكتاب بنسخة قد كتبت في زمان أبي العبّاس ابن عقدة مصنّفه ، تاريخها سنة ثلاثين وثلاثمائة ، صحيح النقل ، عليه خطّ الطوسي وجماعة من شيوخ الإسلام ، لا يخفى صحّة ما تضمّنه على أهل الأفهام ، وقد روى فيه نصّ النبيّ صلوات اللّه عليه على مولانا عليّ 7 بالولاية من مائة وخمس طرق ».
4- تهذيب التهذيب 5 / 701 رقم 4898.

وقال ابن حجر في « الإصابة » بترجمة أبي قدامة الأنصاري : « ذكره أبو العبّاس ابن عقدة في كتاب ( الموالاة ) ، الذي جمع فيه طرق حديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فأخرج فيه من طريق محمّد بن كثير ، عن فطر ، عن أبي الطفيل ، قال : كنّا عند عليّ علیه السلام فقال : أنشدكم اللّه من شهد يوم غدير خمّ؟ فقام سبعة عشر رجلا ، منهم أبو قدامة الأنصاري ، فشهدوا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال ذلك » (1) (2)

ولنذكر بعض ما عثرنا عليه من أخبار القوم الذي ينفعنا في الدلالة على المطلوب ؛ لاشتماله على قرائن وخصوصيات لا تناسب غير الاهتمام بالإمامة ، وإن لم يرووا من الحقيقة إلّا أقلّها!

فمن ذلك البعض الذي أردناه ما رواه الحاكم في « المستدرك » (3) ، عن زيد بن أرقم ، وقال : « صحيح على شرط الشيخين » ولم يتعقّبه الذهبي

ص: 324


1- الإصابة 7 / 330 رقم 10410.
2- نقول : ومضافا إلى ما ذكره الشيخ المظفّر 1 في المتن ، فقد صحّحه الترمذي في « السنن » ، والطحاوي في « مشكل الآثار » ، والمحاملي في « الأمالي » كما في كنز العمّال 13 / 140 ح 36441 ، والحاكم في « المستدرك على الصحيحين » كما سيأتي بعد قليل ، والعاصمي في « زين الفتى » وقال : « وهذا حديث تلقّته الأمّة بالقبول ، وهو موافق بالأصول » ، وابن عبد البرّ في « الاستيعاب » وقال بعد ذكر أحاديث المؤاخاة والراية والغدير : « هذه كلّها آثار ثابتة » ، وأبن المغازلي في « مناقب الإمام عليّ 7 » وقال : « هذا حديث صحيح عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد رواه نحو مئة نفس ، منهم العشرة المبشّرة ، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة » ، وابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » ، والذهبي في « تلخيص المستدرك » ، والهيثمي في « مجمع الزوائد » ، وغيرهم. راجع ما تقدّم في الصفحة 321 وما بعدها.
3- ص 109 من الجزء الثالث [ 3 / 118 ح 4576 ]. منه قدس سره .

في تلخيصه ..

« قال زيد : لمّا رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حجّة الوداع ونزل غدير خمّ أمر بدوحات فقممن فقال : كأنّي قد دعيت فأجبت ، إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه ، وعترتي ؛ فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

ثمّ قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ مولاي ، وأنا مولى كلّ مؤمن ، ثمّ أخذ بيد عليّ ، فقال : من كنت مولاه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ».

ومثله في « كنز العمّال » (1) نقلا عن ابن جرير في « تهذيب الآثار » ، بسنده عن أبي الطفيل ، وفي آخره : « فقلت لزيد أنت سمعته من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!

فقال : ما كان في الدوحات أحد إلّا قد رآه بعينيه وسمعه بأذنيه ».

ثمّ قال في ( الكنز ) أيضا : ابن جرير ، عن عطيّة العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، مثل ذلك (2).

ومن ذلك البعض أيضا ما رواه الحاكم بعد الحديث المذكور ، عن زيد بن أرقم ، وصحّحه على شرط الشيخين : « قال زيد : نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين مكّة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام ، فكنس الناس ما تحت الشجرات ، ثمّ راح رسول اللّه عشيّة فصلّى ، ثمّ قام خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وذكّر ووعظ فقال ما شاء اللّه أن يقول ..

ص: 325


1- ص 390 من الجزء السادس [ 13 / 104 ح 36340 ]. منه قدس سره .
2- كنز العمّال 13 / 104 ح 36341.

ثمّ قال : أيّها الناس! إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتّبعتموهما ، وهما : كتاب اللّه ، وأهل بيتي عترتي.

ثمّ قال : أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم - ثلاث مرّات -؟!

قالوا : نعم.

فقال رسول اللّه : من كنت مولاه فعليّ مولاه » (1)

ومنه أيضا : ما رواه أحمد في مسنده ، عن البراء بن عازب (2) ، من طريقين رجالهما رجال صحيح مسلم ، وأكثرهم أيضا من رجال صحيح البخاري ..

قال : « كنّا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سفر فنزلنا بغدير خمّ ، فنودي فينا : الصلاة جامعة ، وكسح لرسول اللّه تحت شجرتين فصلّى الظهر ، وأخذ بيد عليّ ، فقال : ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

قالوا : بلى.

قال : ألستم تعلمون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟!

قالوا : بلى.

قال : فأخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه.

قال : فلقيه عمر بعد ذلك ، فقال له : هنيئا يا بن أبي طالب! أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة ».

ص: 326


1- المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4577.
2- ص 281 من الجزء الرابع. منه قدس سره .

ومنه أيضا : ما رواه أحمد (1) ، عن زيد بن أرقم ، قال : « نزلنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بواد يقال له : وادي خمّ ، فأمر بالصلاة فصلّاها بهجير.

قال : فخطبنا وظلّل لرسول اللّه بثوب على شجرة سمرة ، من الشمس ..

فقال : ألستم تعلمون - أو : ألستم تشهدون - أنّي أولى بكلّ مؤمن ومؤمنة من نفسه؟!

قالوا : بلى.

قال : فمن كنت مولاه فإنّ عليّا مولاه ، اللّهمّ عاد من عاداه ، ووال من والاه »

وروى نحوه بعده بقليل (2).

ومنه أيضا : ما رواه أحمد أيضا (3) ، عن حسين بن محمّد وأبي نعيم ، قالا : حدّثنا فطر ، عن أبي الطفيل ، قال : جمع عليّ الناس في الرحبة ، ثمّ قال لهم :

أنشد اللّه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّه يقول يوم غدير خمّ ما سمع لمّا قام ؛ فقام ثلاثون من الناس.

وقال أبو نعيم : فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس :

أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

قالوا : نعم يا رسول اللّه.

قال : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من

ص: 327


1- ص 372 من الجزء المذكور. منه قدس سره .
2- مسند أحمد 4 / 372 - 373.
3- ص 370 من الجزء السابق. منه قدس سره .

عاداه.

قال : فخرجت وكأنّ في نفسي شيئا ، فلقيت زيد بن أرقم ، فقلت له : إنّي سمعت عليّا يقول كذا وكذا.

قال : فما تنكر؟! قد سمعت رسول اللّه يقول ذلك له »

وروى أحمد في مسند عليّ علیه السلام حديث المناشدة من عدّة طرق ،

اثنان منها (1) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال في أحدهما : « فقام اثنا عشر بدريّا ».

وفي الآخر : « فقام اثنا عشر رجلا ... فقام إلّا ثلاثة لم يقوموا ...

فأصابتهم دعوته » (2)

ونقل في « كنز العمّال » نحو الأخير (3) ، عن الخطيب في الأفراد ، عن عبد الرحمن ، قال فيه : « فقام بضعة عشر رجلا فشهدوا ، وكتم قوم ، فما فنوا من الدنيا إلّا عموا وبرصوا »

ونقل أيضا في ( الكنز ) حديث المناشدة (4) ، عن ابن أبي عاصم ،

ص: 328


1- ص 119 من الجزء الأوّل. منه قدس سره .
2- والثلاثة الّذين امتنعوا عن الشهادة ، ودعا عليهم أمير المؤمنين الإمام عليّ علیه السلام هم : أنس بن مالك ، والبراء بن عازب ، وجرير بن عبد اللّه ؛ فأصاب البرص أنسا ، وعمي البراء ، ورجع جرير أعرابيا بعد هجرته فأتى السراة فمات في بيت أمة - ونقل : أمّه - هناك. أنظر : جمهرة النسب 2 / 395 ، المعارف - لابن قتيبة - : 320 ، أنساب الأشراف 386/2 ، حلية الأولياء 26/5 - 27 ، مناقب الإمام علي عليه السلام - لابن المغازلي 74 ح 33 ، شرح نهج البلاغة 74/4 وج 19 / 217 - 218 .
3- ص 397 من الجزء السادس [ 13 / 131 ح 36417 ]. منه قدس سره . وأنظر : المتفق والمفترق - للخطيب البغدادي - 1739/3 ح 1277.
4- ص 407 من الجزء المذكور [ 13 / 170 ح 36515 ]. منه قدس سره . وانظر : السنّة - لابن أبي عاصم - : 593 ح1. 1374 ، مسند أبي يعلى 1 / 428 ح 567 ، تاريخ بغداد 14 / 236 رقم 7545.

وابن جرير ، والخطيب ، وسعيد بن منصور ، وأبي يعلى ، وغيرهم.

ونقله أيضا قبل ذلك (1) ، عن الطبراني ، عن عمير [ ة ] (2) بن سعد بروايتين.

وعن البزّار ، وأبن جرير ، والخلعي [ في « الخلعيات » ] ، عن عمرو ذي مرّ (3) ، وسعيد بن وهب ، وزيد بن يثيع (4) ، قالوا :

« سمعنا عليّا يقول : نشدت اللّه رجلا سمع رسول اللّه يقول يوم غدير خمّ ما قال لمّا قام؟

فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

قالوا : بلى يا رسول اللّه.

فأخذ بيد عليّ ، فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من

ص: 329


1- ص 403 [ 13 / 154 ح 36480 وص 157 ح 36486 ]. منه قدس سره . وأنظر : المعجم الأوسط 386/2 ح 2131 وج 36/3 ح 2275 ، المعجم الصغير 64/1.
2- كان في الأصل والمصدر : « عمير » ، وهو تصحيف ؛ وما أثبتناه هو الصواب من المعجمين الأوسط والصغير وتهذيب الكمال 14 / 424 رقم 5111.
3- كان في الأصل : « عمر ذي مرّة » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه هو الصحيح ، انظر : تهذيب الكمال 14 / 371 رقم 5062 ، ميزان الاعتدال 5 / 354 رقم 6487 ، تهذيب التهذيب 6 / 228 رقم 5327.
4- كان في الأصل : « سبع » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه هو الصحيح ؛ انظر : تهذيب الكمال 6 / 490 رقم 2114 ، ميزان الاعتدال 3 / 158 رقم 3035 ، تهذيب التهذيب 3 / 239 رقم 2234.

والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأنصر من نصره ، وأخذل من خذله » (1)

ثمّ قال في ( الكنز ) : « قال الهيثمي (2) : رجال سنده ثقات ، قال ابن حجر : ولكنّهم شيعة! » (3).

أقول :

هل مع توثيقهم ، وشهرة حديث المناشدة تلك الشهرة ، وثبوت صحته وصحّة أصل حديث الغدير ، محلّ لتهمة الرواة لتشيّعهم ، لو صح كونهم شيعة؟!

ولكنّ ابن حجر وأشباهه أبوا أن يسمعوا فضيلة لإمام المتّقين إلّا أن يقولوا فيها شيئا ؛ ليكونوا محلّا

لدعاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقوله : « وأخذل من خذله »

ومنه : ما رواه النسائي في « الخصائص » ، بسنده عن سعد ، قال : « كنّا مع رسول اللّه بطريق مكّة [ وهو متوجّه إليها ] ، فلمّا بلغ غدير خمّ وقّف الناسّ ، ثمّ ردّ من سبقه (4) ، ولحقه من تخلّف ، فلمّا اجتمع الناس إليه قال : [ أيّها الناس! ] من وليّكم؟!

قالوا : اللّه ورسوله - ثلاثا -.

[ ثمّ أخذ بيد عليّ ] ثمّ قال : من كان اللّه ورسوله وليّه فهذا

ص: 330


1- كنز العمّال 13 / 158 ح 36487 ؛ وانظر : مسند البزّار 3 / 34 - 35 ح 786.
2- كان في الأصل : « البيهقي » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه هو الصحيح.
3- كنز العمّال 13 / 158 ذ ح 36487 ، وانظر : مجمع الزوائد 9 / 104 - 105 وفيه : « رواه البزّار ، ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ».
4- في المصدر : « تبعه » بدل « سبقه ».

وليّه » (1).

وأخرجه أيضا بطريق آخر عن سعد ، وقال في أوّله : « ألم تعلموا أنّي أولى بكم من أنفسكم؟! » (2)

ومنه : ما ذكره ابن حجر في « الصواعق » ، في المقام السابق ، قال : « ولفظه عند الطبراني وغيره بسند صحيح ، أنّه صلی اللّه علیه و آله خطب بغدير خمّ تحت شجرات فقال :

أيّها الناس! إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلّا نصف عمر النبيّ الذي يليه من قبله ، وإنّي لأظنّ أنّي يوشك أن أدعى فأجيب ، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون؟!

قالوا : نشهد أنّك [ قد ] بلّغت وجهدت ونصحت ، فجزاك اللّه خيرا.

فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلّا اللّه ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وأنّ ناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور؟!

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال : اللّهمّ اشهد!

ثمّ قال : أيّها الناس! إنّ اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا مولاه - يعني عليّا - ،

ص: 331


1- خصائص الإمام عليّ علیه السلام : 80 ح 91 ، وانظر : السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 135 ح 8481.
2- خصائص الإمام عليّ علیه السلام : 79 ح 90 ، وانظر : السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 134 - 135 ح 8480.

اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه.

ثمّ قال : أيّها الناس! إنّي فرطكم ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، حوض أعرض ممّا بين بصرى إلى صنعاء ، فيه عدد النجوم قد حان من فضّة ، وإنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟!

الثقل الأكبر : كتاب اللّه عزّ وجلّ ، سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا.

وعترتي أهل بيتي ، فإنّه [ قد ] نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا (1) حتّى يردا عليّ الحوض » (2).

ومنه : ما رواه صاحب « المواقف » وشارحها ، والقوشجي في « شرح التجريد » : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أحضر القوم [ بعد رجوعه من حجّة الوداع بغدير خمّ [ وهو موضع بين مكّة والمدينة ، بالجحفة ] ، وأمر بجمع الرحال ، فصعد عليها وقال لهم :

ألست أولى بكم من أنفسكم؟!

قالوا : بلى.

قال : فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » (3).

ولنكتف بهذا القدر ، فإنّ فيه الكفاية لمن طلب الحقّ.

ص: 332


1- في المصدر : « ينقضيا ».
2- الصواعق المحرقة : 65 - 66 ، وانظر : المعجم الكبير - للطبراني - 3 / 180 ح 3052 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 67 - 69 ح 23 ، تاريخ دمشق 42 / 219.
3- المواقف : 405 ، شرح المواقف 8 / 360 ، شرح التجريد : 477.
المطلب الثاني : في دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام :
اشارة

فنقول : ذكروا للمولى معاني عديدة ، منها : المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، والابن ، والعمّ ، وابن العمّ ، والمحبّ ، والناصر ، والمالك للأمر الذي هو عبارة أخرى عن الأولى بالتصرّف (1).

ولا شكّ أنّه لا يصحّ في المقام إلّا المعنى الأخير ؛ لأمرين :

الأوّل : عدم صلاحية إرادة تلك المعاني الباقية ، إمّا في أنفسها ، ك : المعتق ، والعمّ ، والابن ، ونحوها ..

أو لكونها من توضيح الواضحات ، الغنيّة عن الاهتمام ببيانها ، ك : المحبّ ، والناصر.

الثاني : وجود القرائن المعيّنة لإرادة المعنى الأخير ، فمنها :

سبق أمر اللّه سبحانه نبيّه بهذا التبليغ وقوله : ( إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (2).

فإنّه لا يصحّ حمله على الأمر بتبليغ أنّ عليّا محبّ ، أو ناصر لمن أحبّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو نصره.

فإنّ الذي يليق بهذا التهديد هو أن يكون المبلّغ به أمرا دينيا يلزم الأمّة الأخذ به ، كالإمامة ، لا مثل الحبّ والنصرة من عليّ علیه السلام لهم ، التي لا دخل لها بتكليفهم.

ص: 333


1- انظر : لسان العرب 15 / 402 و 403 مادّة « ولي ».
2- سورة المائدة 5 : 67.

فهل ترى أنّ اللّه ورسوله يريدان تسجيل الأمر على عليّ علیه السلام والإشهاد عليه ، لئلّا يفعل ما ينافي الحبّ والنصرة ، أو يريدان توضيح الواضحات والإخبار بالبديهيّات؟!

على أنّ نصرة عليّ علیه السلام لكلّ مؤمن ومؤمنة موقوفة على إمامته وزعامته العامّة ، إذ لا تتمّ منه وهو رعيّة ومحكوم لغيره في جلّ أيّامه.

ولذا لم يقدر على نصر أخصّ الناس به ، وهو : سيّدة النساء ، مع علمه بأنّها محقّة في دعواها (1).

فلا بدّ إمّا أن يكون كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقوله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » كذبا ، وحاشاه.

أو بيانا لإمامة عليّ ، وهو المطلوب.

ومنها : تقرير النبيّ صلی اللّه علیه و آله لهم بأنّه أولى بهم من أنفسهم ، فإنّه دالّ على أنّه مقدّمة لإثبات أمر عليهم يحتاج إلى مثل هذا التقرير ..

فإذا قال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » علم أنّ الغرض إثبات تلك المنزلة لعليّ علیه السلام عليهم ، وإيجاب إمامته عليهم ، لا الإخبار بأنّه محبّ لمن أحبّه ، أو ناصر لمن نصره.

ومنها : إنّه صلی اللّه علیه و آله بيّن قرب موته ، كما في رواية الحاكم الأولى ورواية الصواعق (2) وغيرهما (3) ، وهو مقتض للعهد بالخلافة ومناسب له.

فلا بدّ من حمل قوله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » على العهد

ص: 334


1- في مطالبتها بما تملّكته علیهاالسلام من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، نحلة في حياته ، أو إرثا بعد وفاته.
2- المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576 ، الصواعق المحرقة : 65.
3- المعجم الكبير 3 / 180 ح 3052 ، مجمع الزوائد 9 / 164 - 165.

لأمير المؤمنين بالخلافة ، لا على بيان الحبّ والنصرة ، ولا سيّما مع قوله في رواية الحاكم : « إنّي [ قد ] تركت ... » إلى آخره ، الدالّ على الحاجة إلى عترته وكفايتهم مع الكتاب في ما تحتاج إليه الأمّة.

وقوله في رواية « الصواعق » : « إنّي سائلكم عنهما » وقوله : « لن يفترقا » بعد أمره بالتمسّك بالكتاب ، فإنّ هذا يقتضي وجوب التمسّك بهم واتّباعهم ، فيسأل عنهم ، وذلك لا يناسب إلّا الإمامة.

ومنها : إنّه صلی اللّه علیه و آله دعا لعليّ بما يناسب الدعاء لولاة العهد بعد نصبهم للزعامة العامة ، فقال :

« اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار » أو نحو ذلك.

فكيف يصحّ حمل المولى على المحبّ أو الناصر؟!

ومنها : قرائن الحال الدالّة على أنّ ما أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيانه هو أهمّ الأمور وأعظمها ، كأمره بالصلاة جامعة في السفر بالمنزل الوعر بحرّ الحجاز وقت الظهيرة ، مع إقامة منبر من الأحداج (1) له ، وقيامه خطيبا بين جماهير المسلمين ، الّذين يبلغ عددهم مائة ألف أو يزيدون.

فلا بدّ مع هذا كلّه أن يكون مراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيان إمامة أمير المؤمنين علیه السلام التي يلزم إيضاح حالها ، والاهتمام بشأنها ، وإعلام كلّ مسلم بها ، لا مجرّد بيان أنّ عليّا محبّ لمن أحببته ، وناصر لمن نصرته ، وهو لا أمر ولا إمرة له!

ص: 335


1- الحدج : الحمل ، وهو أيضا مركب من مراكب النساء نحو الهودج والمحفّة ، والجمع : أحداج وحدوج ؛ انظر : لسان العرب 3 / 77 مادّة « حدج ».

وعلى هذا : فبالنظر إلى خصوص كلّ واحدة من تلك القرائن الحاليّة والمقاليّة ، فضلا عن مجموعها ، لا ينبغي أن يشكّ ذو إدراك في إرادة النصّ على عليّ علیه السلام بالإمامة ، وإلّا فكيف تستفاد المعاني من الألفاظ؟!

وكيف يدلّ الكتاب العزيز أو غيره على معنى من المعاني؟!

وهل يمكن أن لا تراد الإمامة وقد طلب أمير المؤمنين علیه السلام من الصحابة بمجمع الناس بيان الحديث ، ودعا على من كتمه؟!

إذ لو أريد به مجرّد الحبّ والنصرة لما كان محلّا لهذا الاهتمام ، ولا كان مقتض لأن يبقى في نفس أبي الطفيل منه شيء ، وهو أمر ظاهر ، ليس به عظيم فضل ، حتّى قال له زيد بن أرقم : « ما تنكر؟! قد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول ذلك له » كما سبق (1) ..

ولا كان مستوجبا لتهنئة أبي بكر وعمر لأمير المؤمنين علیه السلام بقولهما :

« أصبحت [ وامسيت ] مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (2) ، فإنّ التهنئة لأمير المؤمنين ، الذي لم يزل محلّا لذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالفضائل العظيمة ، والخصائص الجليلة ، والمحامد الجسيمة ، إنّما تصحّ على أمر حادث ، تقصر عنه سائر الفضائل ، وتتقاصر له نفوس الأفاضل ، وتتشوّق إليه القلوب ، وتتشوّف له العيون.

فهل يمكن أن يكون هو غير الإمامة ، من النصرة ونحوها ، ممّا هو أيسر فضائله وأظهرها وأقدمها؟!

ولكن كما قال الغزّالي في « سرّ العالمين » : « ثمّ بعد ذلك غلب الهوى

ص: 336


1- انظر الصفحة 328 من هذا الجزء ، وراجع : مسند أحمد 4 / 370.
2- انظر الصفحتين 306 و 326 من هذا الجزء ، وراجع : مسند أحمد 4 / 281.

وحبّ الرئاسة ، [ وحمل عمود الخلافة ] وعقود النبوّة (1) ، وخفقان [ الهوى في قعقعة ] الرايات ، و [ اشتباك ] ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار ، والأمر والنهي ، فحملهم على الخلاف ، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا » (2) .. فبئس ما يشترون!

وقد ذكر جماعة من القوم أنّ « سرّ العالمين » للغزّالي (3) ، كالذهبي في « ميزان الاعتدال » بترجمة الحسن بن الصباح الإسماعيلي (4).

هذا ، ويشهد لإرادة الإمامة من الحديث : فهم الناس لها منه ، كما سبق في الرواية التي نقلناها في أوّل المطلب الأوّل ، عن ابن حجر في « الصواعق » ، عن أحمد ، حيث قال :

« وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعليّ علیه السلام لمّا نوزع في أيّام خلافته » (5).

فإنّ قوله : « لمّا نوزع » دالّ على أنّ استشهاد أمير المؤمنين إنّما كان للاستدلال على خلافته وصحّتها ، وأنّها من النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فهو علیه السلام وشهوده وراوي ذلك قد فهموا من الحديث الإمامة.

وعن تفسير الثعلبي ، أنّه لمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بغدير خمّ نادى

ص: 337


1- كان في الأصل : « البنود » ، وما أثبتناه من المصدر هو الصحيح.
2- سرّ العالمين : 453 باب ترتيب الخلافة.
3- انظر : لسان الميزان 2 / 215 رقم 950 ، إيضاح المكنون 2 / 11.
4- هو : الحسن بن صباح الإسماعيلي ، الملقّب ب : الكيا ، صاحب الدعوة النزارية ، وجدّ صاحب قلعة ألموت ، كان من كبار الزنادقة ومن دهاة العالم ، أصله من مرو ، كان له باع في الهندسة والفلسفة والسحر والنجوم وغيرها ، مات سنة 518 ه. أنظر : ميزان الاعتدال 248/2 رقم 1875.
5- الصواعق المحرقة : 64 ، وانظر : مسند أحمد 4 / 370.

الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ؛ فشاع ذلك وطار بالبلاد ، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى نحو النبيّ صلی اللّه علیه و آله على ناقته إلى الأبطح ، فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها ، ثمّ أتى النبيّ في ملأ من أصحابه فقال : يا محمّد! أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه ففعلناه ، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه ، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه ، وأمرتنا أن نحجّ البيت فقبلناه ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك وفضّلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ؛ أهذا شيء منك أم من اللّه؟!

فقال النبيّ : واللّه الذي لا إله إلّا هو إنّه من اللّه.

فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم!

فما وصل إليها حتّى رماه اللّه بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله ، وأنزل اللّه تعالى : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) (1) (2)

وروى نحوه في « مجمع البيان » عن إمامنا الصادق علیه السلام ، وقال فيه : « لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام » (3)؛ وهو بمعنى قوله في حديث الثعلبي : « وفضّلته علينا » ، فيكون دالّا على فهم الفهري من قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « فعليّ مولاه » نصب عليّ للزعامة العامّة.

ص: 338


1- سورة المعارج 69 : 1 و 2.
2- تفسير الثعلبي 10 / 35 ، وانظر : شواهد التنزيل 2 / 286 - 289 ح 1030 - 1034 ، تفسير القرطبي 18 / 181 ، تذكرة الخواصّ : 37 ، فرائد السمطين 1 / 82 ح 63 ، جواهر العقدين : 247 ، فيض القدير 6 / 282 ، السيرة الحلبية 3 / 337.
3- مجمع البيان 10 / 107.

ويشهد أيضا لإرادتها منه ، إكثار الشعراء وأهتمامهم في ذكر هذا الحديث وفهمهم منه الإمامة.

قال سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » : أكثرت الشعراء في يوم غدير خمّ ، فقال حسّان بن ثابت [ من الطويل ] :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ فأسمع بالرسول مناديا

وقال : فمن مولاكم ووليّكم *** فقالوا - ولم يبدوا هناك التعاميا _ :

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** وما لك منّا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنّني *** رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا : اللّهمّ وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّا معاديا (1)

قال : وروي أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا سمعه ينشد هذه الأبيات قال له :

يا حسّان لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا - أو : نافحت عنّا - بلسانك (2).

وقال قيس بن سعد بن عبادة (3) - وأنشدها بين يدي عليّ بصفّين _

ص: 339


1- تذكرة الخواصّ : 39 ، وانظر : مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 136 ، كفاية الطالب : 64 ، فرائد السمطين 1 / 73 ذ ح 39 وص 74 - 75 ذ ح 40.
2- تذكرة الخواصّ : 39 ؛ وراجع : كفاية الطالب : 64.
3- هو : أبو عبد اللّه قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة الأنصاري الخزرجي الساعدي ، وقيل : إنّ كنيته هي : أبو عبد الملك. وأمّه : فكيهة بنت عبيد بن دليم بن حارثة. كان من فضلاء الصحابة ، وأحد دهاة العرب وكرمائهم ، وكان من ذوي الرأي الصائب والمكيدة في الحرب. صحب أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام لمّا بويع له بالخلافة ، وشهد معه حروبة، وكان له في صفين موقفاً مشهوداً ملأ معاوية رعباً ، وأستعمله الإمام علي عليه السلام على مصر. توفي في سنة 59 ه- ، وقيل : سنة 60 ه- . أنظر : أسد الغابة 124/4 رقم 4348 ، الاستيعاب 3 / 1289 رقم 2134 ، سير أعلام النبلاء 102/3 رقم 21 .

[ من الخفيف ] :

قلت لمّا بغى العدوّ علينا : *** حسبنا ربّنا ونعم الوكيل

وعليّ إمامنا وإمام *** لسوانا به أتى التنزيل

يوم قال النبيّ : من كنت مولا *** ه فهذا مولاه ، خطب جليل

إنّ ما قاله النبيّ على الأ *** مّة نصّ (1) ما فيه قال وقيل (2)

ثمّ ذكر السبط أبياتا للكميت (3) ، منها [ من الوافر ] :

ص: 340


1- وفي نسخة : « حتم » بدل « نصّ ». منه قدس سره .
2- تذكرة الخواصّ : 39 ؛ وانظر : رسالة في أقسام المولى في اللسان : 37 ، الفصول المختارة : 291 ، خصائص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام - للرضي - : 7 ، كنز الفوائد 2 / 98.
3- هو : الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن وهيب الأسدي الكوفي ، شاعر مقدّم ، عالم بلغات العرب ، خبير بأيّامها ، من شعراء مضر وألسنتها ، والمتعصّبين على القحطانية. شاعر أهل البيت عليهم السلام ، وخطيب بني أسد ، وفقيه الشيعة ، وحافظ القرآن ، وكان ثبت الجنان ، كاتباً حسن الخط ، نسابة ، جدلياً ، وهو أول من ناظر في التشيع ، مجاهراً بذلك، وله في أهل البيت عليهم السلام القصائد المشهورة ، وهي أجود شعره. ولد الكميت أيام مقتل الإمام الحسين عليه السلام سنة 60 ه- ، وتوفي سنة 126 ه- حكومة مروان بن محمد ، وكان مبلغ شعره حين وفاته خمسة آلاف ومئتين وتسعة وثمانين بيتاً . أنظر : الأغاني 3/17 - 44 ، سير أعلام النبلاء 5/388 رقم 177 ، خزانة الأدب 153/1 - 154 .

ويوم الدوح دوح غدير خمّ *** أبان له الولاية لو أطيعا

ولكنّ الرجال تبايعوها (1) *** فلم أر مثله خطرا (2) مبيعا (3)

قال السبط : ولهذه الأبيات قصّة عجيبة حدّثنا بها شيخنا عمرو بن صافي الموصلي ، قال : أنشد بعضهم هذه الأبيات فبات مفكّرا ، فرأى عليّا علیه السلام في المنام فقال له : أعد عليّ أبيات الكميت.

فأنشده إيّاها حتّى بلغ قوله : « خطرا مبيعا » فأنشده عليّ علیه السلام بيتا آخر من قوله زيادة فيها :

فلم أر مثل ذلك اليوم يوما *** ولم أر مثله حقّا أضيعا (4)

ثمّ ذكر السبط أبياتا من نحو هذا (5) للسيّد الحميري (6) وبديع الزمان

ص: 341


1- وفي نسخة : « تدافعوها ». منه قدس سره .
2- الخطر : ارتفاع القدر والمال والشرف والمنزلة ، ورجل خطير : أي له قدر وخطر ؛ انظر : لسان العرب 4 / 137 مادّة « خطر ».
3- تذكرة الخواصّ : 39 ؛ وانظر : رسالة في أقسام المولى في اللسان : 41 ، كنز الفوائد 1 / 333.
4- تذكرة الخواصّ : 40.
5- راجع الأبيات في تذكرة الخواصّ : 40.
6- هو : إسماعيل بن محمّد بن يزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ ، يلقّب بالسيّد ، ويكنّى أبا هاشم ، توفّي سنة 173 ه. أمّه امرأة من الأزد ، ثمّ من بني الحُدّان ، وجده يزيد بن ربيعة شاعر مشهور ، وهو الذي هجا زياد ابن أبيه وبنيه ، ونفاهم عن آل حرب ، وحبسه عبيداللّه بن زیاد لذلك وعذبه ، ثمّ أطلقه معاوية . كان شاعراً متقدماً مطبوعاً ، يقال : إنّ أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام ثلاثة : بشار ، وأبو العتاهية ، والسيد. وإذا سئل عن التشيع من أين وقع له ؟ قال : غاصت عليَّ الرحمة غوصاً . أنظر ترجمته في : الأغاني 248/7 - 250 .

الهمداني (1).

ولا يمكن استيفاء ما قاله الشعراء ، فإنّه ممّا يمتنع حصره.

هذا ، وقد أورد القوم على الحديث بأمور حقيقة بالإعراض عنها لو لا إرادتنا استيفاء ما عندهم ..

الأوّل : منع صحّته :

قال في « المواقف » وشرحها : « ودعوى الضرورة في العلم بصحّته لكونه متواترا ، مكابرة! كيف؟! ولم ينقله أكثر أصحاب الحديث ، كالبخاري ومسلم وأضرابهما ، وقد طعن بعضهم فيه ، ك [ ابن ] (2) أبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي ، وغيرهما من أئمّة الحديث! » (3).

ص: 342


1- هو : أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى الهمذاني ، أحد أئمّة الكتاب ، له : « المقامات » ، أخذ الحريري أسلوب مقاماته عنها ، وكان شاعرا ، وطبقته في الشعر دون طبقته في النثر ، ولد في همذان سنة 358 ه ، وأنتقل إلى هراة سنة 380 ، فسكنها ، ثمّ ورد نيسابور سنة 382 ه فلقي أبا بكر الخوارزمي فشجر بينهما ما دعاهما إلى المساجلة ، فطار ذكر الهمذاني في الآفاق ، كان قويّ الحافظة يضرب المثل بحفظه ، ويذكر أنّ أكثر مقامته ارتجال ، وله ديوان شعر ، ورسائل عدّتها 233 رسالة ، ووفاته في هراة مسموما سنة 398 ه. أنظر : يتيمة الدهر 293/4 رقم 64 ، وفيات الأعيان 127/1 رقم 52.
2- أثبتناه من « شرح المواقف » ، وهي إضافة يقتضيها المقام ؛ انظر الهامش التالي.
3- المواقف : 405 ، شرح المواقف 8 / 361. هذا ، وقد قال الشريف المرتضى في معرض رده على القاضي عبد الجبار ما نصه : فإن قال : أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني دفع الخبر ، وحكي مثله عن الخوارج ، وطعن الجاحظ في كتاب « العثمانية» فيه ؟ ! قيل له : أوّل ما نقوله إنه لا معتبر في باب الإجماع بشذوذ كلّ شان عنه ، بل الواجب أن يعلم أنّ الذي خرج عنه ممّن يعتبر قول مثله في الإجمار. ثمّ يعلم أنّ الإجماع لم يتقدّم خلافه ، فابن أبي داود والجاحظ لو صرّحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الإجماع ، خصوصا بالذي لا شبهة فيه من تقدّم الإجماع ، وفقد الخلاف ، وقد سبقهما ثمّ تأخّر عنهما. على أنه قد قيل : إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر ، وإنما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدماً ، وقد حكي عنه التنصل من القدح في الخبر ، والتبري مما قذفه به محمد بن جرير الطبري . والجاحظ أيضاً لم يتجاسر على التصريح بدفع الخبر ، وإنما طعن في بعض رواته ، وأدعى اختلاف ما نقل من لفظه ، ولو صرّحا وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحاً ؛ لما قدمناه . أنظر : الشافي 263/2 - 264. ويضاف إلى ذلك أنّ ما طعن به ابن أبي داود - لو ثبت - معارض برواية أبيه - صاحب السنن » - للحديث كما في السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 130 ح 8467 و ص 132 ح 8473 و ص 134 ح 8478. كما إن ابن أبي داود كان منحرفاً عن الإمام علي عليه السلام ، واشتهر ببغضه له عليه السلام، وتكلم فيه جمع من كبار الأئمة والأعلام وفي مقدمتهم أبوه ، فقد قال : «ابني عبد اللّه يكذب»، حتى قال ابن صاعد : «كفانا ما قال فيه أبوه » . أنظر : سیر أعلام النبلاء 13 / 228 - 229 . أما طعن أبي حاتم في الحديث فلا يُعبأ به ؛ لتعنته وتسرعه في الطعن بغير دليل وبدون تورّع ، فقد قال الذهبي فيه : «إذا لين رجلاً ، أو قال فيه : لا يُحتج به ، فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه ، فإن وثقه أحدٌ ، فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنه متعنت في الرجال» ، وقد نسب كتاباً للبخاري إلى نفسه ، وما صنعه من أقبح الأشياء وأشنعها ! راجع : سير أعلام النبلاء 13 / 260 ، طبقات الشافعية الكبرى - للسبكي - 2 / 225 - 226. ثمّ إنّ طعن أبي حاتم معارض برواية ابنه للحديث كما في الدر المنثور 117/3 ، والمعروف عند أهل الفنّ أنّ ابنه عبد الرحمن أشهر من أبيه وأوثق وأعرف بالرواية والحديث والجرح والتعديل ، ومن راجع مصنّفات ابنه ك « الجرح والتعديل » و « علل الحديث » تبيّن له ذلك.

ص: 343

أقول :

إن أريد بمنع صحّته ، أنّه لم يرو بسند صحيح ، كذّبهم تصحيح الحاكم (1) وغيره له ، حتّى إنّ الذهبي على نصبه ، وابن حجر على تعصّبه ، اعترفا بصحّة كثير من طرقه كما سبق (2).

وإن أريد عدم إفادته اليقين بالصدور ، لعدم كونه متواترا عندهم ، فمتّجه في الجملة من حيث حصول الشبهة في الإمامة عندهم.

ولكن الحقّ أنّه لا محلّ لمنع تواتره ، لاستفاضة طرقه بينهم - فضلا عنّا - استفاضة توجب أعلى مراتب التواتر عند من أنصف.

وقد اعترف السيوطي - كما عرفت - بتواتره ، وكذلك ابن الجزري ، حتّى نسب منكر تواتره إلى الجهل والتعصّب (3).

وأمّا عدم ذكر البخاري ومسلم له فغير عجيب ؛ إذ كم أهملا أخبارا صحيحة عندهم واستدركها أصحابهما.

ولست ألومهما على إهمالهما لهذا الحديث الصحيح المتواتر ، لا لمجرّد عدم موافقته لمذهبهما ، بل لرعاية ملوك زمانهما وهوى قومهما ، والناس على دين ملوكهم!

وبهذا تعلم عذر السجستاني وأبي حاتم!

ص: 344


1- انظر : المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576 و 4577.
2- راجع الصفحة 321 وما بعدها من هذا الجزء.
3- راجع الصفحة 321 من هذا الجزء.

قال سنّيّ لشيعيّ : ما لكم تنوحون على الحسين في كلّ وقت وقد مضت على قتله السنون؟!

فقال : نخاف أن تنكروا قتله ومظلوميّته كما أنكرتم بيعة الغدير!

الثاني : إنّ عليّا لم يكن يوم الغدير مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه كان باليمن.

ويرد عليه : إنّ رجوعه من اليمن وحضوره الحجّ مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ممّا تضافرت به الأخبار ، كما ستعرف بعضها في تحريم عمر للمتعتين ، وقد عرفت إقرار ابن حجر بثبوت ذلك (1).

الثالث : إنّ أكثر رواته لم يرووا مقدّمة الحديث ، وهي : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟! ».

وفيه : إنّه لو سلّم عدم ذكر الأكثر لها ، كفانا وجودها في الصحاح الكثيرة والأخبار المتضافرة ، وقد نصّ ابن حجر والذهبي والحاكم وغيرهم على صحّتها كما سبق (2).

الرابع : إنّ « مفعل » بمعنى « أفعل » لم يذكره أحد من أئمّة العربية ، مع أنّ الاستعمال على خلافه ؛ لجواز أن يقال : هو أولى من كذا ، دون : مولى من كذا ؛ ولو سلّم ، فأين الدليل على أنّ المراد : الأولى بالتصرّف والتدبير؟!

بل يجوز أن يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال تعالى : ( إِنَّ

ص: 345


1- انظر الصفحة 321 من هذا الجزء ، وراجع : الصواعق المحرقة : 64 الشبهة 11.
2- انظر الصفحة 321 وما بعدها من هذا الجزء ، وراجع : الصواعق المحرقة : 64 - 66 ، تذكرة الحفّاظ 3 / 1043 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576.

أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ... ) (1) (2) ، وأراد الأولويّة في الاتّباع والاختصاص به والقرب منه ، لا في التصرّف به.

ولصحّة الاستفسار ؛ إذ يجوز أن يقال : في أي شيء هو أولى؟ أفي نصرته أو محبّته أو التصرّف فيه؟

ولصحّة التقسيم ؛ بأن يقال : كونه أولى به ، إمّا في نصرته ، وإمّا في ضبط أمواله ، وإمّا في تدبيره والتصرّف فيه.

وحينئذ لا يدلّ الحديث على إمامته.

هذا ما ذكره في « المواقف » وشرحها (3).

وفيه أوّلا : إنّ أبا عبيدة فسّر « المولى » في قوله تعالى : ( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) (4) بالأولى بكم ، كما حكاه عنه في « شرح التجريد » للقوشجي (5).

وثانيا : إنّ من يفسّر « المولى » في الحديث ب « الأولى بالتصرّف » لم

ص: 346


1- سورة آل عمران 3 : 68.
2- القول بأنّ « مفعل » بمعنى « أفعل » لم يذكره أحد من أئمّة العربية مجازفة شنيعة ، وتغافل بيّن ، فقد قال به جمع كبير من الأعلام ، كابن عبّاس ، وزيد بن عليّ ، ومحمّد بن السائب الكلبي ، والفرّاء ، وأبي عبيدة معمر بن المثنّى ، وابن قتيبة ، والمبرّد ، وأبي العبّاس ثعلب النحوي ، والزجّاج ، وغيرهم. أنظر : تفسير تنوير المقباس : 577 ، تفسير غريب القرآن : 408 ، العمدة - لابن بطريق - : 158 - 159 ، تفسير الفخر الرازي 29/ 228 ، رسالة في معنى المولى : 37 ، صحيح البخاري 259/6 ، شرح المعلقات - للزوزني - : 148 ، تفسير الطبري 11 / 680 ، معالم التنزيل - للبغوي - 4 / 270 ، الكشاف 64/4 .
3- المواقف : 405 ، شرح المواقف 8 / 361.
4- سورة الحديد 57 : 15.
5- شرح تجريد الاعتقاد : 477.

يرد أنّه اسم تفضيل مثله ، حتّى يرد عليه أنّه يقال : هو أولى من كذا ، ولا يقال : مولى من كذا.

بل أراد التفسير بحاصل المعنى ، بقرينة مقدّمة الحديث ، وهي قوله : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟! ».

فإنّ هذه المقدّمة تدلّ على أنّ المراد بمولاهم : الأولى بهم من أنفسهم ، وهو عبارة أخرى عن الأولى بالتصرّف.

وإن شئت أن تفسّر المولى بمالك الأمر ، كما هو معناه الحقيقي ، كان أحسن ، فيكون معنى الحديث : من كنت مالك أمره لكوني أولى به من نفسه ، فعليّ مثلي مالك أمره ، كقوله : « أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها » (1) أي مالك أمرها.

وكيف كان ، فالنتيجة واحدة ، وهي أنّ عليّا علیه السلام مالك أمر الأمّة ، وإمامها ، وأولى بها من أنفسها في التصرّف ، كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وأمّا ما زعماه من جواز أن يراد الأولى في أمر من الأمور غير التصرّف ، وما زعماه من صحّة الاستفسار والتقسيم ، فخطأ ظاهر ؛ لابتناء ذلك على إجمال الحديث.

وقد عرفت أنّ مقدّمته وغيرها من القرائن تدلّ على أنّ المراد

ص: 347


1- انظر : سنن أبي داود 2 / 235 - 236 ح 2083 ، سنن الترمذي 3 / 407 - 408 ح 1102 ، سنن الدارمي 2 / 96 ح 2180 ، مسند أحمد 6 / 47 و 66 و 166 ، مسند الحميدي 1 / 112 ح 228 ، سنن سعيد بن منصور 1 / 148 - 149 ح 528 و 529 ، مختصر المزني على كتاب الأمّ 9 / 176 ، المعجم الأوسط 1 / 360 ح 877 وج 6 / 337 ح 6352 ، المستدرك على الصحيحين 2 / 182 ح 2706 ، مجمع الزوائد 4 / 285.

بالمولى : الأولى بهم من أنفسهم في التصرّف ، ومالك أمرهم ، وإمامهم.

كيف؟! ولو كان الحديث مجملا مع تلك القرائن ، حتّى يدخله الاحتمال المذكور ، ويجوز فيه الاستفسار والتقسيم ، لكانت كلمة الشهادة أولى بالإجمال ؛ لإمكان الاستفسار فيها بأنّ المراد هل هو : لا إله إلّا اللّه في السماء أو في الأرض ، أو : لا إله إلّا اللّه في آسيا أو أوربّا أو غيرهما .. إلى غير ذلك ؛ ولإمكان التقسيم أيضا بنحو ذلك ، وهذا لا يقوله ذو معرفة.

الخامس : إنّه لو سلّم دلالة الحديث على إمامة عليّ علیه السلام فلا نسلّم دلالته على كونها بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بلا فصل ، حتّى تنتفي إمامة الثلاثة.

وفيه : إنّ هذا مكابرة ظاهرة ، إذ كيف يترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله - في حال نصب إمام للمسلمين لحضور أجله - ذكر ثلاثة وينصّ على من بعدهم ، الذي يكون إماما بعد خمس وعشرين سنة من وفاته؟!

ولو جاز ذلك ، لكان جميع ولاة العهد محلّ كلام ، إذ لا يقول السلطان : هذا وليّ عهدي بلا فصل ؛ بل على احتمالات القوم لو قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليّ مولاه بعدي ؛ لقالوا : لا منافاة بين البعديّة والفصل بغيره ، كما صنع القوشجي في

قوله صلی اللّه علیه و آله : أنت وصيّي وخليفتي من بعدي (1).

بل لو قال : فعليّ مولاه بعدي بلا فصل ؛ لقالوا : يحتمل أن يكون المعنى بلا فصل من غير الثلاثة.

ولا عجب ممّن نشأ على التعصّب وحبّ العاجلة ، وقال : إنّا وجدنا آباءنا على ملّة!

ص: 348


1- راجع : شرح تجريد الاعتقاد : 478 - 479.

بقي شيء : وهو ما ذكره الفضل في تأويل الحديث ..

فنقول : يظهر منه أنّ المراد ب « المولى » في الحديث : المحبوب والمنصور ؛ لأنّه قال : « أراد أن يوصي العرب بحفظ محبّة أهل بيته وقبيلته » إلى أن قال : « وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرّة والمحبّة معه ؛ ليتّخذه العرب سيّدا ... » إلى آخره.

فإنّ هذا يقتضي أن يكون معنى قوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، من كنت محبوبه أو منصورا له ، فعليّ كذلك.

وفيه - مع أنّ « المولى » لم يستعمل بمعنى المحبوب والمنصور _ :

إنّك عرفت أنّ القرائن الحالية والمقالية تقتضي إرادة مالك الأمر كما هو واضح ، حتّى ظهر الحقّ على لسان قلمه من حيث يريد إخفاءه ، فإنّ مساواة عليّ بنفس النبيّ في وجوب محبّته ونصرته على الإطلاق ، لا تتمّ إلّا بثبوت منزلته له من الرئاسة العامّة والعصمة.

ولذا كانت النتيجة كما ذكرها الفضل أن يتّخذه العرب سيّدا.

وأمّا ما عرّض به من الإنصاف ، فيا حبّذا لو سلك سبيله ، فإنّه إذا أقرّ بجلافة أولئك العرب وكفرهم بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأتّخاذهم الأنبياء فيهم كمسيلمة وسجاح ، فقد كان الأنسب بهم مخالفة النصّ الصريح وأتّخاذ خليفة غير الخليفة الحقّ ، ولا سيّما أنّ أبا بكر كان مستعينا بظاهر الصحبة وتمويه الأقران.

وما أدري من أين فهم الفضل إرادة النبيّ الوصيّة بحفظ محبّة مطلق قبيلته ، لو لا عدم الإنصاف وكراهة تخصيص أمير المؤمنين علیه السلام بالفضل والنصّ؟!

ص: 349

ولو رأيت ما ذكره ابن حجر في « الصواعق » بالنسبة إلى الجواب عن الحديث ، من الخرافات والآراء السخيفة وأخبارهم الكاذبة ، لعرفت إلى أين يبلغ عنادهم للحقّ وتعصّبهم للهوى! (1).

* * *

ص: 350


1- انظر : الصواعق المحرقة : 63 - 72.

3 - آية التطهير

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

الثالثة : قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).

أجمع المفسّرون (3) ، وروى الجمهور ، كأحمد بن حنبل وغيره ، أنّها نزلت في [ رسول اللّه و ] عليّ وفاطمة والحسن والحسين (4).

ص: 351


1- نهج الحقّ : 173.
2- سورة الأحزاب 33 : 33.
3- انظر مثلا : تفسير الطبري 10 / 296 - 298 ح 28485 - 28502 ، تفسير الحبري : 297 - 311 ح 50 - 59 ، أحكام القرآن - للجصّاص - 3 / 529 ، تفسير الثعلبي 8 / 42 - 43 ، تفسير الماوردي 4 / 401 ، أسباب النزول - للواحدي _ : 198 ، شواهد التنزيل 2 / 10 - 92 ح 637 - 774. وسيأتي ذكر غير هذه المصادر في محالها من البحث في رد الشيخ المظفر قدس سره.
4- (4) مسند أحمد 1 / 331 وج 3 / 259 وص 285 وج 4 / 107 وج 6 / 292 و 304 و 323 ، فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 2 / 727 - 728 ح 994 - 996 ، وانظر : صحيح مسلم 7 / 130 ، سنن الترمذي 5 / 327 - 328 ح 3205 وص 621 ح 3787 وص 656 - 657 ح 3871 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 107 - 108 ح 8399 ، مسند البزّار 3 / 324 ح 1120 ، مسند أبي يعلى 7 / 59 - 60 ح 1223 - 1224 وج 12 / 313 ح 6888 وص 344 ح 6912 وص 451 ح 7021 وص 456 ح 7026 ، المعجم الكبير 3 / 52 - 56 ح 2662 - 2673 وج 9 / 25 - 26 ح 8295 وج 23 / 333 - 334 ح 768 - 771 و 773 وص 337 ح 783 ، المعجم الأوسط 3 / 39 ح 2281 وج 7 / 369 ح 7614 ، المعجم الصغير 1 / 65 و 135 ، مسند الطيالسي : 274 ح 2059 مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 501 ح 39 - 40 وص 527 ح 4 ، مسند عبد بن حميد : 173 ح 475 وص 367 - 378 ح 1223 ، التاريخ الكبير 8 / 25 رقم 205 كتاب الكنى ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 589 ح 1351 ، 2 لإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 61 ح 6937 ، الكنب والأسماء - للدولابي - 2 / 121 ، الذرّيّة الطاهرة : 149 - 150 ح 192 - 194 ، نوادر الأصول - للحكيم الترمذي - 2 / 108 ، مشكل الآثار 1 / 227 - 231 ح 770 - 785 ، الغيلانيات 1 / 264 - 265 ح 259 ، أخلاق النبيّ - لأبي الشيخ - : 115 ح 279 ، المستدرك على الصحيحين 2 / 451 ح 3558 - 3559 وج 3 / 160 ح 4709 ، تاريخ أصبهان 1 / 143 رقم 95 وج 2 / 223 رقم 1520 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 149 وج 7 / 63 ، الاستيعاب 3 / 1100 رقم 1855 ، موضّح أوهام الجمع والتفريق - للخطيب البغدادي - 2 / 312 - 313 رقم 357 ، تاريخ بغداد 10 / 278 رقم 5396 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 254 - 257 ح 345 - 351 ، مصابيح السنّة 4 / 183 ح 4796 ، الشفا - للقاضي عياض - 2 / 48 ، تاريخ دمشق 13 / 202 - 207 وص 268 - 270 وج 14 / 137 - 148.

وروى أبو عبد اللّه محمّد بن عمران المرزباني ، عن أبي الحمراء ، قال : خدمت النبيّ صلی اللّه علیه و آله تسعة أشهر أو عشرة ، وكان عند كلّ فجر لا يخرج من بيته حتّى يأخذ بعضادتي باب عليّ فيقول : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

فيقول علي وفاطمة والحسن والحسين : عليك السلام يا نبيّ اللّه ورحمه اللّه وبركاته.

ثمّ يقول : الصلاة رحمكم اللّه ، إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا ؛ ثمّ ينصرف إلى مصلّاه (1).

ص: 352


1- انظر : التاريخ الكبير - للبخاري - 8 / 25 - 26 رقم 205 كتاب الكنى ، المعجم الكبير - للطبراني - 3 / 56 ح 2672 ، مسند عبد بن حميد : 173 ح 475 ، تفسير الحبري : 308 - 309 ح 57 ، تفسير الطبري 10 / 296 - 297 ح 28491 ، تفسير الثعلبي 8 / 44 ، شواهد التنزيل 2 / 47 - 52 ح 694 - 702 ، مجمع الزوائد 9 / 121 و 168.

والكذب من الرجس ، ولا خلاف في أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ادّعى الخلافة لنفسه ، فيكون صادقا.

* * *

ص: 353

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

أمّا إجماع المفسّرين على أنّ الآية نزلت في عليّ فخلاف الواقع ، ولم يجمعوا على ذلك ، بل أكثر المفسّرين على أنّ الآية نزلت في شأن الأزواج ، وهو المناسب لنظم القرآن ..

قوله تعالى : ( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).

هذا نصّ القرآن يدلّ على أنّها نزلت في أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّه مذكور في قرن حكاياتهنّ والمخاطبة معهنّ.

ولكن لمّا عدل عن صيغة خطاب الإناث إلى خطاب الذكور ، فلا يبعد أن تكون نازلة في شأن كلّ أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الرجال والنساء ، فشملت عليّا وفاطمة والحسن والحسين وأزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وعلى هذا فليس الرجس هاهنا محمولا على الطهارة من كلّ الذنوب ، بل المراد من الرجس : الشرك وكبائر الفواحش كالزنا ، كما يدلّ عليه سابق الآية ، وهو قوله تعالى : ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (3).

ص: 354


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 2 / 563.
2- سورة الأحزاب 33 : 32 و 33.
3- سورة الأحزاب 33 : 32.

ولو سلّمنا هذا فلا نسلّم أنّ عليّا ادّعى الإمامة لنفسه ، ولو كان يدّعيها لما كان يدّعيها بالعجز والخفية ؛ لوجود القوّة والشجاعة والأعوان ، وكثرة القبائل والعشائر وشرف القوم وغيرها من الفضائل.

ثمّ لو كان الرجس محمولا على الذنب لما كانت عائشة مؤاخذة بذنبها في وقعة الجمل ؛ لأنّ الآية نزلت فيها وفي أزواج النبيّ غيرها على قول أكثر المفسّرين ، فلا يتمّ له الاستدلال بهذه الآية.

* * *

ص: 355

وأقول :

لم يبعد أن يكون مراد المصنّف بإجماع المفسّرين على ذلك هو اجتماع الشيعة والسنّة على القول به ، أي أنّه من مقول الطرفين معا وإن لم يجمع عليه السنّة.

أو يكون مراده إجماع من يعتدّ بقوله في مثل ذلك ، فإنّ المخالف هو عكرمة ومقاتل (1) وأشباههما ، ممّن لا يجوز حتّى للقوم الاعتداد بقوله في مقام النزول وشبهه ؛ لأنّ قول المفسّر إنّما يؤخذ به في ذلك إذا كان رواية عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، أو من يعتبر قوله من الصحابة ؛ لأنّه من باب الإخبار.

وعكرمة كذّاب خارجيّ كما سبق بعض ترجمته في مقدّمة الكتاب (2) ، فلا يعتدّ بخبره في ذلك ، فضلا عن رأيه ، ولا سيّما أنّه متعلّق بفضل آل محمّد.

وكذا مقاتل ، كان كذّابا ، حتّى قال النسائي : الكذّابون المعروفون بوضع الحديث على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أربعة ؛ وعدّه منهم (3).

ص: 356


1- هو : أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير ، الأزدي بالولاء ، المروزي الخراساني ، وأصله من بلخ ، انتقل إلى البصرة ، ودخل بغداد وحدّث بها ، وكان له باع في التفسير ، وله تفسيره المعروف ، وبحوث أخرى في التفسير ، أخذ الحديث عن مجاهد بن جبر ، وعطاء بن أبي رباح ، لم يوثّقه أغلب علماء الجرح والتعديل ، وكذّبه وكيع والنسائي ، توفّي سنة 150 ه بالبصرة. أنظر : تاريخ بغداد 160/13 رقم 7143 ، وفيات الأعيان 255/5 رقم 733 ، شذرات الذهب 227/1.
2- راجع ج 1 / 191 - 193 رقم 224 من هذا الكتاب.
3- تهذيب التهذيب 8 / 324 - 325 رقم 7146.

وكان يأخذ علم القرآن من اليهود والنصارى ، وكان دجّالا جسورا أسند ظهره إلى القبلة وقال : سلوني عمّا دون العرش ؛ فسئل عن النملة أين أمعاؤها ، في مقدّمها أو مؤخّرها؟ فلم يحر جوابا!

وسئل عن آدم حين حجّ من حلق رأسه؟ فبقي ضالّا!

راجع « ميزان الاعتدال » و « تهذيب التهذيب » و « وفيات الأعيان » ، تجد ما ذكرناه من بعض أحواله الخبيثة (1).

وقس على هذين الكذّابين ، اللذين هما من رؤوس مفسّريهم ، غيرهما!

وأمّا قول الفضل : « أكثر المفسّرين على أنّ الآية نزلت في شأن الأزواج » ..

فغير صحيح ؛ لأنّ ابن حجر أكثر منه اطّلاعا ، قال في « الصواعق » عند ذكر الآية في فضائل أهل البيت علیهم السلام : « أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين » (2).

بل الحقّ أنّ القائلين بنزولها في شأن الأزواج خاصّة أقلّ القليل بالنسبة إلى غيرهم ؛ لأنّ جميع مفسّري الشيعة وأكثر مفسّري السنّة قالوا - كما عرفت - : بنزولها في عليّ وفاطمة والحسنين ، لكن مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله عندنا (3).

ص: 357


1- ميزان الاعتدال 6 / 505 - 506 رقم 8747 ، تهذيب التهذيب 8 / 320 - 325 ، رقم 7146 ، وفيات الأعيان 5 / 255 - 256 رقم 733.
2- الصواعق المحرقة : 220.
3- انظر مثلا : مجمع البيان 8 / 137 و 138 ، تفسير فرات 1 / 331 وما بعدها.

وقال بعض مفسّريهم بنزولها في بني هاشم (1).

وقال جملة منهم بنزولها في آل النبيّ الأربعة المذكورين والأزواج (2).

فلم يبق من المفسّرين من يقول بنزولها في الأزواج خاصّة إلّا القليل (3).

وكيف كان ، فلا عبرة بهم حتّى لو كانوا الأكثر ؛ لامتناع إرادة الأزواج ولو منضمّات ؛ لأنّهنّ غير مطهّرات من الرجس ، حتّى لو أريد به الشرك وكبائر الذنوب ؛ لتقدّم الشرك منهنّ ، وحدوث الكبائر من بعضهنّ ، كعائشة ، حيث خرجت على إمام زمانها الذي قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حربك حربي » (4)، وقتلت الآلاف العديدة ، وخالفت

ص: 358


1- تفسير البغوي 3 / 456 ، تفسير القرطبي 14 / 119 ، فتح القدير 4 / 280 ، البحر المحيط 7 / 231 - 232 ، روح المعاني 22 / 20.
2- انظر : تفسير الفخر الرازي 25 / 210.
3- انظر : تفسير ابن كثير 3 / 465.
4- مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 216 ح 285 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 129 ح 143 ، شرح نهج البلاغة 13 / 193. كما ورد أن النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام : « أنا حرب لمن حاربتم - أو : حاربكم ؛ أو : حاربهم -». فانظر : سنن الترمذي 656/5 ح 3870 ، سنن ابن ماجة 52/1 ح 145 ، مسند أحمد 442/2 ، المعجم الكبير 3/ 40 ح 2619 - 2621 وج 5 / 184 ح 5030 و 5031 ، مصنف ابن أبي شيبة 512/7 ب 23 ح 7 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9 / 61 ح 6938 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 161 ح 4713 و 4714 ولم يتعقبهما الذهبي في «التلخيص » . هذا ، وقد أسقطت يد الخيانة اسم أمير المؤمنين عليه السلام من مصنف ابن أبي شيبة والإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ؛ فلاحظ ! !

أمر اللّه سبحانه في نصّ كتابه بقرارها في بيتها (1) ..

كما تظاهرت مع صاحبتها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكذبتا عليه ، فأنزل اللّه تعالى به قرآنا مبينا ، لعظيم مكرهما وفعلهما (2) ، وضرب لأجلهما المثل بامرأتي نوح ولوط (3).

مع أنّ إرادة الأزواج مخالفة للأخبار المتواترة المشتملة على الصحيح

ص: 359


1- إشارة إلى قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ... ) ( وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) سورة الأحزاب 33 : 33.
2- إشارة إلى عائشة وحفصة في قوله تعالى : ( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ * عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً ) سورة التحريم 66 : 4 - 5. أنظر : صحيح البخاري 3 / 266 ح 41 و ج 275/6 - 278 ح 406 - 409 وج 7/ 50 ح 121 و ص 277 - 279 ح 61 ، صحيح مسلم 4 / 188 - 194 ، سنن الترمذي 391/5 - 394 ح 3318 ، سنن النسائي 137/4 ، السنن الكبرى - للنسائي - 72/2 ح 2442 و 5 / 366 ح 9157 ، مسند أحمد 33/1 و 48 ، مسند أبي داود الطيالسي : 6 ، مسند البزار 303/1 ح 195 و ص 318 ح 206 وص 329 ح 212 ، مسند أبي يعلى 149/1 - 153 ح 164 و ص 162 ح 178 ، الطبقات الكبرى - لابن سعد - 147/8 - 153 ، تفسير الحبري : 325 ح 68 ، تفسير الطبري 12 / 153 ح 34410 - 34416 ، مسند أبي عوانة 163/3 - 172 ح 4572 - 4581 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 6 / 229 - 232 ح 4254 ، سنن الدارقطني 26/4 ح 3969 ، تفسير الماوردي 40/6 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 353/7 ، تفسير البغوي 335/4 .
3- إشارة إلى قوله تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) سورة التحريم 66 : 10. أنظر : تنوير المقباس من تفسير ابن عباس : 605 ، تفسير الماوردي 47/6 ، الكشاف 131/4 ، زاد المسير 84/8 ، تفسير الفخر الرازي 50/30 ، تفسير القرطبي 18 / 132 ، تفسير الخازن 4 / 288 ، فتح القدير 5 / 255 - 256 .

الكثير عندهم ، الدالّة على نزول الآية في خصوص أمير المؤمنين وفاطمة وأبنيهما علیهم السلام ، وبعضها نصّ بخروج الأزواج ..

فمنها : ما رواه مسلم ، في باب فضائل أهل البيت علیهم السلام ، عن عائشة ، قالت : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غداة ، وعليه مرط مرجّل (1) من شعر أسود ، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء عليّ فأدخله ، ثمّ قال : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) (3).

ونقله السيوطي في « الدّر المنثور » أيضا عن أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم (4).

ورواه الحاكم (5) بسند آخر عن عائشة ، وصحّحه على شرط

ص: 360


1- كذا في الأصل ، وفي المصدر : مرحّل. والمرط ، وجمعه مُرُوط : كساء من خَز أو صوف أو كتان ؛ أنظر : لسان العرب 13 / 83 مادة «مرط » . والمُرَجلُ : أي فيه صور كصور الرجال ؛ أنظر : لسان العرب 155/5 مادة « رجل » . والمُرحل : ضَرْبٌ من بُرود اليمن ، سُمّي مرحلاً لأنه موشى وشياً وعليه تصاوير رحل وما ضاهاه ؛ أنظر : لسان العرب 171/5 مادة «رحل» ، الفائق في غريب الحديث 360/3 . ولعل الصحيح هو ما في المصدر ، وما في المتن تصحيف.
2- سورة الأحزاب 33 : 33.
3- صحيح مسلم 7 / 130 باب فضائل أهل البيت علیهم السلام .
4- الدرّ المنثور 6 / 605 ؛ وانظر : مسند أحمد 6 / 162 ولكنّ يد الخيانة بترت الحديث فيه من بعد كلمة « مرجّل » فجاء الحديث ناقص المعنى!! ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 501 ب 18 ح 39.
5- ص 147 من الجزء الثالث [ 3 / 159 ح 4707 ]. منه قدس سره .

الشيخين.

ومنها : ما رواه الحاكم أيضا قبل الحديث المذكور ، عن أمّ سلمة ، قالت : « في بيتي نزلت : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، فأرسل رسول اللّه إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ».

ثمّ قال الحاكم : هذا صحيح على شرط البخاري (1).

ورواه أيضا في تفسير سورة الأحزاب (2) ، بسند آخر عن أمّ سلمة ، وصحّحه على شرط البخاري ، وزاد فيه :

« قالت أمّ سلمة : يا رسول اللّه! ما أنا من أهل البيت؟

قال : إنّك على خير ، وهؤلاء أهل بيتي ، اللّهمّ أهلي أحقّ »

ومنها : ما رواه الحاكم أيضا ، عن واثلة ، قال : أتيت عليّا فلم أجده ، فقالت لي فاطمة : انطلق إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدعوه ، فجاء مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فدخلا ودخلت معهما ..

فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحسن والحسين ، فأقعد كلّ واحد منهما على فخذيه ، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ، ثمّ لفّ عليهم ثوبا ، وقال : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )

ثمّ قال : هؤلاء أهل بيتي ، اللّهمّ أهل بيتي أحقّ

ثمّ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (3).

وروى مثله في تفسير سورة الأحزاب ، بسند آخر عن واثلة ،

ص: 361


1- المستدرك على الصحيحين 3 / 158 ح 4705.
2- ص 416 من الجزء الثاني [ 2 / 451 ح 3558 ]. منه قدس سره .
3- المستدرك على الصحيحين 3 / 159 ح 4706.

وصحّحه على شرط مسلم (1).

وروى نحوه أحمد في مسنده ، عن واثلة أيضا (2).

ونقل السيوطي في « الدرّ المنثور » نحوه عن ابن أبي شيبة ، وأبن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي ؛ كلّهم عن واثلة (3).

ومنها : ما رواه الحاكم بعد الحديث الأوّل ، عن أبي سعيد (4) ، قال : « نزل على رسول اللّه الوحي فأدخل عليّا وفاطمة وأبنيهما تحت ثوبه ، ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهلي وأهل بيتي » (5)

وناقش الذهبي في سنده ، حيث إنّ فيه بكير بن مسمار وعليّ بن ثابت ، فقال : « عليّ وبكير تكلّم فيهما » (6).

وفيه : إنّ بكيرا من رجال صحيح مسلم (7) ، وعليّا لم يضعّفه سوى الأزدي (8).

ص: 362


1- المستدرك على الصحيحين 2 / 451 ح 3559.
2- ص 107 من الجزء الرابع. منه قدس سره .
3- الدرّ المنثور 6 / 605.
4- كذا في الأصل ، وفي المصدر : « سعد ».
5- المستدرك على الصحيحين 3 / 159 رقم 4708.
6- تلخيص المستدرك - بحاشيته - 3 / 159 رقم 4708.
7- ميزان الاعتدال 2 / 68 رقم 1312.
8- ميزان الاعتدال 5 / 143 رقم 5802. نقول : وأبو الفتح محمد بن الحسين بن يزيد الأزدي الموصلي الحافظ، المتوفى سنة 394 ه- ، هو نفسه ضعيف ، ونقل الذهبي تضعيفه عن البرقاني والأرموي والخطيب ، ولذا لم يعبأ الذهبي وأبن حجر بتضعيفاته ، وردّ الذهبي عليه قائلاً : «ليت الأزدي عرف ضعف نفسه » . أنظر : الضعفاء والمتروكين - لابن الجوزي - 53/3 رقم 2953 ، میزان الاعتدال 6 / 118 رقم 7422، سير أعلام النبلاء 13 / 389 ترجمة الحارث بن محمّد ، لسان الميزان 5 / 139 رقم 464 ، هدي الساري مقدّمة فتح الباري : 642 - 645.

ونقل السيوطي في « الدرّ المنثور » نحو هذا الحديث ، عن ابن مردويه ، وأبن جرير ، وسعد (1).

ومنها : ما رواه الحاكم أيضا وصحّحه ، عن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، قال : « لمّا نظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الرحمة هابطة ، قال : ادعو لي! ادعو لي!

فقالت صفيّة : من يا رسول اللّه؟

قال : أهل بيتي ، عليّا وفاطمة والحسن والحسين.

فجيء بهم ، فألقى عليهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله كساءه ، ثمّ رفع يديه ، ثمّ قال :

اللّهمّ هؤلاء آلي ، فصلّ على محمّد وآل محمّد.

وأنزل اللّه : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) » (2)

ومنها : ما رواه الترمذي في مناقب أهل البيت ، عن عمر بن أبي سلمة : « نزلت هذه الآية على النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) في بيت أمّ سلمة ، فدعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء ، وعليّ خلف ظهره ، فجلّله بكساء ، ثمّ قال :

اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

قالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا نبيّ اللّه؟

ص: 363


1- الدرّ المنثور 6 / 605.
2- المستدرك على الصحيحين 3 / 159 - 160 ح 4709.

قال : أنت على مكانك ، وأنت إلى خير » (1)

ثمّ قال : وفي الباب عن أمّ سلمة ، ومعقل بن يسار ، وأبي الحمراء ، وأنس بن مالك (2).

ورواه الترمذي أيضا في تفسير سورة الأحزاب ، وروى معه عن أنس وحسّنه ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يمرّ بباب فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت! ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (3).

ومثله في مسند أحمد ، عن أنس (4).

وكذا في مستدرك الحاكم (5) ، وصحّحه على شرط مسلم ، ولم يتعقّبه الذهبي.

ونقله في « الدرّ المنثور » عن ابن جرير ، وأبن أبي شيبة ، وأبن المنذر ، والطبراني ، وأبن مردويه ، كلّهم عن أنس (6).

ونقل نحوه أيضا عن الطبراني ، عن أبي الحمراء (7).

ونقل أيضا عن ابن جرير وأبن مردويه ، عن أبي الحمراء ، قال : « حفظت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرّة يخرج

ص: 364


1- سنن الترمذي 5 / 621 - 622 ح 3787.
2- سنن الترمذي 5 / 622 ذ ح 3787.
3- سنن الترمذي 5 / 328 ح 3206.
4- ص 259 و 285 من الجزء الثالث. منه قدس سره .
5- ص 158 من الجزء الثالث [ 3 / 172 ح 4748 ]. منه قدس سره .
6- الدرّ المنثور 6 / 605 ؛ وانظر : مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 527 ح 4 ، المعجم الكبير - للطبراني - 3 / 56 ح 2671.
7- الدرّ المنثور 6 / 607 ؛ وانظر : المعجم الكبير - للطبراني - 3 / 56 ح 2672.

إلى صلاة الغداة إلّا أتى إلى باب عليّ ، فوضع يده على جنبتي الباب ، ثمّ قال : الصلاة الصلاة! ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ ... ) الآية (1).

ونقل أيضا عن ابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : « شهدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تسعة أشهر ، يأتي كلّ يوم باب عليّ بن أبي طالب عند وقت كلّ صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت ، ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ ) .. الآية ، الصلاة رحمكم اللّه ؛ كلّ يوم خمس مرّات » (2).

ومنها : ما رواه الترمذي ، في باب ما جاء في فضل فاطمة علیهاالسلام ، عن أمّ سلمة : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جلّل على الحسن والحسين وعليّ وفاطمة كساء ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامّتي (3) ، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

فقالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول اللّه؟

قال : إنّك إلى خير.

ثمّ قال الترمذي : هذا حديث حسن ( صحيح ) (4) ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.

وفي الباب : عن أنس ، وعمر بن أبي سلمة ، وأبي الحمراء » (5).

ص: 365


1- الدرّ المنثور 6 / 606.
2- الدرّ المنثور 6 / 606.
3- كذا في الأصل ، وفي المصدر : « وخاصّتي ».
4- لم ترد في المصدر ، وهو تحريف يقينا ، فقد رواه أئمّة الحديث عن الترمذي كذلك! قال القاري : « أخرجه الترمذي وقال : حسن صحيح » ؛ انظر : مرقاة المفاتيح 10 / 509 ح 6136.
5- سنن الترمذي 5 / 656 - 657 ح 3871.

ومنها : ما رواه أحمد في مسنده (1) ، عن أمّ سلمة بثلاثة طرق : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة (2) فيها حريرة (3) ، فدخلت بها عليه ، فقال لها : ادعي زوجك وأبنيك.

قالت : فجاء عليّ والحسن والحسين ، فدخلوا عليه ، فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة ، وهو على منامة له على دكّان (4) تحته كساء له خيبريّ.

قالت : وأنا أصلّي في الحجرة ، فأنزل اللّه هذه الآية : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )

قالت : فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ، ثمّ قال :

اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، وخاصّتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا .. [ اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، وخاصّتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ].

ص: 366


1- ص 292 من الجزء السادس. منه قدس سره .
2- البرمة : القدر مطلقا ، وهي في الأصل القدر المتّخذة من الحجر المعروف في الحجاز واليمن ، والجمع : برم وبرام وبرم ؛ انظر : لسان العرب 1 / 392 مادّة « برم ».
3- الحريرة : الحساء من الدسم والدقيق ، وقيل : هو الدقيق الذي يطبخ بلبن ؛ انظر : لسان العرب 3 / 119 مادّة « حرر ». وقد ورد في المصدر : « خَزِيرة ) ؛ والخَزِيرةُ والخَزِيرُ : اللحم الغاب يؤخذ فيقطع صغاراً في القدر ثمّ يطبخ بالماء الكثير والملح ، فإذا أميت طبخاً ذُر عليه الدقيق فقصد به ، ويقال : هي مرقة ، وهي أن تُصفّى بُلالَةُ النُّخالة ثمّ تُطبخ ، وقيل : إذا كانت من لحم أو نخالة فهي خَزِيرةً ، وإن كانت من دقيق فهي حَرِيرة ، والحريرة أَرَقُ من الخَزيرة ؛ أنظر : لسان العرب 4/ 80 مادة «خزر» .
4- الدّكّة والدّكّان : بناء يسطّح أعلاه ليقعد عليه ؛ انظر مادّة « دكك » في : لسان العرب 4 / 382 ، تاج العروس 13 / 559.

قالت : فأدخلت رأسي البيت (1) ، فقلت : وأنا معكم يا رسول اللّه؟

قال : إنّك إلى خير ، إنّك إلى خير ».

ونحوه في « أسباب النزول » للواحدي (2).

وفي « الدرّ المنثور » عن ابن جرير ، وأبن المنذر ، وأبن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن أمّ سلمة أيضا (3)

ومنها : ما رواه أحمد أيضا (4) عن أمّ سلمة : « أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جلّل على عليّ وحسن وحسين وفاطمة كساء ، ثمّ قال :

اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، وخاصّتي ، اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

فقالت أمّ سلمة : أنا منهم؟

قال : إنّك إلى خير ».

ومنها : ما نقله السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، عن أمّ سلمة ، قالت : نزلت هذه الآية في بيتي : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وفي البيت سبعة : جبرئيل ، وميكائيل ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وأنا على باب البيت.

قلت : يا رسول اللّه! ألست من أهل البيت؟

قال : إنّك إلى خير ، إنّك من أزواج النبيّ » (5).

ص: 367


1- أي : تحت ما أظلّه بهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الكساء ؛ انظر : تاج العروس 3 / 21 مادّة « بيت ».
2- أسباب النزول : 198.
3- الدرّ المنثور 6 / 603 و 604.
4- ص 304 من الجزء السادس. منه قدس سره .
5- الدرّ المنثور 6 / 604.

ومنها : ما في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ؛ والخطيب ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : « كان يوم أمّ سلمة أمّ المؤمنين ، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذه الآية : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

قال : فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحسن وحسين وفاطمة وعليّ ، فضمّهم إليه ، ونشر عليهم الثوب ، والحجاب على أمّ سلمة مضروب ، ثمّ قال :

اللّهمّ أهل بيتي ، اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

قالت : فأنا معهم يا نبي اللّه؟

قال : إنّك على مكانك ، وإنّك على خير » (1).

ومنها : ما في « الدرّ المنثور » عن الترمذي ، قال : وصحّحه ، وعن ابن جرير ، وأبن المنذر ، وأبن مردويه ، والبيهقي ، من طرق عن أمّ سلمة ، قالت : في بيتي نزلت : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ ... ) الآية ، وفي البيت فاطمة وعليّ والحسن والحسين ، فجلّلهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكساء كان عليه ، ثمّ قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا » (2).

ومنها : ما في « الدرّ المنثور » ، عن ابن جرير ، وأبن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي عليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين :

ص: 368


1- الدرّ المنثور 6 / 604 ، وانظر : تاريخ بغداد 10 / 278 رقم 5396.
2- الدرّ المنثور 6 / 604 ، وانظر : سنن الترمذي 5 / 327 - 328 ح 3205 وص 621 ح 3787 وص 656 - 657 ح 3871 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 2 / 149 وج 7 / 63.

( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... ) الآية (1).

ومثله في « الصواعق » ، عن أحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد (2).

وفي « أسباب النزول » للواحدي ، عن أبي سعيد (3).

ومنها : ما في « الدرّ المنثور » قال : أخرج الحكيم الترمذي ، والطبراني ، وأبن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه قسم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسما ..

إلى أن قال : ثمّ جعل القبائل بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا ، فذلك قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب (4).

.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى ، الدالّة على نزول الآية الكريمة في الخمسة الأطهار أو في الأربعة (5) ، فلا تشمل الأزواج قطعا.

بل يستفاد من تلك الأخبار أنّ المراد بأهل البيت عند الإطلاق هو خصوص الخمسة أو الأربعة ، فضلا عن نزول الآية بهم ، فلا تدخل الأزواج فيهم بكلّ مقام ، إلّا أن يراد لقرينة بيت السكنى فيدخلن مع الإماء.

ص: 369


1- الدرّ المنثور 6 / 604 ، وانظر : المعجم الكبير 3 / 56 ح 2673.
2- الصواعق المحرقة : 221.
3- أسباب النزول : 198.
4- الدرّ المنثور 6 / 605 - 606 ، وانظر : نوادر الأصول 1 / 214 - 215 ، المعجم الكبير - للطبراني - 3 / 56 - 57 ح 2674 وج 12 / 81 - 82 ح 12604 ، دلائل النبوّة - لأبي نعيم - 1 / 58 ح 16 ، دلائل النبوّة - للبيهقي - 1 / 170 ، كنز العمّال 2 / 44 ح 3050.
5- راجع الصفحتين 351 و 358 وما بعدها من هذا الجزء.

ويدلّ (1) على عدم كونهنّ من أهل البيت ، ما رواه مسلم في باب فضائل عليّ علیه السلام ، أنّه قيل لزيد بن أرقم بعد ما روى حديث الثقلين : من أهل بيته؟ نساؤه؟

قال : لا وأيم اللّه! إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الّذين حرموا الصدقة بعده (2).

وفي رواية أخرى لمسلم : « فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟

أليس نساؤه من أهل بيته؟!

قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده » (3).

فإنّه أراد بقوله : « نساؤه من أهل بيته » الإنكار على من تخيّل دخولهنّ في أهل بيت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولذا استدرك وقال : « ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده ».

ولا تنافي هاتان الروايتان تلك الأخبار السابقة الدالّة على نزول آية التطهير في الخمسة أو الأربعة ؛ لأنّ هاتين الروايتين إنّما تدلّان على دخول غير الأربعة من عشيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مسمّى أهل بيته ، فلا تنافيان ما يدلّ على اختصاص نزول الآية بالأربعة.

ص: 370


1- (1) هذا الاستدلال من الشيخ المظفّر قدس سره مجاراة للقوم في ما يعتمدون عليه ، وإلزام لهم بما يعتقدونه ، استيفاء منه لجوانب البحث وتتميما لها ؛ إذ ليس « الدليل » إلّا الكتاب والسنّة ، ثمّ العقل القطعي ، وأمّا ما ينقل عن زيد أو عمرو فهو « قول » وليس ب « دليل » ، وقد قامت الأدلّة من الكتاب والسنّة على متابعة « الدليل » لا إطاعة « القول » ؛ فلاحظ!
2- صحيح مسلم 7 / 123.
3- صحيح مسلم 7 / 123.

على أنّا لا نسلّم لزيد اجتهاده في شمول أهل البيت لغير الأربعة ؛ لأنّ غيرهم بالضرورة ليس من الثقل الذي هو قرين القرآن وعديله في لزوم التمسّك به ، وأنّ من تمسّك به لا يضلّ أبدا ؛ لاشتمالهم على الجهلة والعصاة والفسّاق ، فكيف يدخلون في حديث الثقلين؟! وكذا في آية التطهير بالضرورة؟!

ويدلّ أيضا على خروج الأزواج عن مسمّى أهل البيت ، فضلا عن الآية ، ما رواه أحمد (1) ، عن أمّ سلمة ، قالت : « بينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بيتي يوما إذ قالت الخادم : إنّ عليّا وفاطمة بالسدّة (2) ، فقال لي : قومي فتنحّي عن أهل بيتي.

قالت : فقمت فتنحّيت في البيت قريبا ، فدخل عليّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين ، وهما صبيّان صغيران ، فأخذ الصبيّين فوضعهما في حجره فقبّلهما ، وأعتنق عليّا بإحدى يديه ، وفاطمة باليد الأخرى ، فقبّل فاطمة ، وقبّل عليّا ، فأغدق عليهم خميصة (3) سوداء ، فقال : اللّهمّ إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي.

قالت : فقلت : وأنا يا رسول اللّه؟

فقال : وأنت ».

ص: 371


1- ص 296 من الجزء السادس. منه قدس سره .
2- السدّة : الفناء أو الساحة أمام باب الدار ، أو الظّلّة أو السقيفة تكون بباب الدار ، أو الصّفّة بين يدي البيت ، وقيل : هي الباب نفسه ؛ انظر : لسان العرب 6 / 211 مادّة « سدد ».
3- الخميصة : كساء من خزّ أو صوف أسود مربّع له علمان ، ولا تسمّى خميصة إلّا أن تكون سوداء معلمة ؛ انظر : لسان العرب 4 / 219 مادّة « خمص ».

ومثله في محلّ آخر عن أمّ سلمة (1).

وأراد صلی اللّه علیه و آله بقوله : « وأنت » إنّك أيضا إلى اللّه لا إلى النار ، لا أنّها من أهل بيته ، لقوله : « تنحّي عن أهل بيتي ».

ويدلّ أيضا على خروج الأزواج عن مسمّى أهل البيت ما رواه أحمد (2) ، عن أمّ سلمة أيضا : « أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لفاطمة : ائتيني بزوجك وأبنيك.

فجاءت بهم ، فألقى عليهم كساء فدكيا ، ثمّ وضع يده عليهم ، ثمّ قال : اللّهمّ إنّ هؤلاء آل محمّد ، فاجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وآل محمّد ، إنّك حميد مجيد ».

قالت أمّ سلمة : « فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي وقال : إنّك على خير ».

ومثله في « الدرّ المنثور » ، عن الطبراني (3).

وإنّما لم نجعل هذه الأحاديث في طيّ الأخبار السابقة ؛ لأنّها لم تتعرّض لنزول الآية ، وإنّما دلّت على خروج الأزواج من أهل البيت ، وإن كان الظاهر تعلّقها في قصّة نزول الآية بقرينة الأخبار السابقة.

وبالجملة : لا ريب بأنّ الآية الكريمة مختصّة بالخمسة الأطهار ، ولا تشمل الأزواج ، ولا بقيّة أقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؛ لاختصاص أخبار النزول بالخمسة الأطهار ، ولكون غيرهم غير مطهّرين من الرجس.

ولا يعارض تلك الأخبار ما رواه ابن حجر في « الصواعق » ، من أنّ

ص: 372


1- ص 304 من الجزء المذكور. منه قدس سره .
2- ص 323 من الجزء المذكور. منه قدس سره .
3- الدرّ المنثور 6 / 604 ، وانظر : المعجم الكبير 3 / 53 ح 2664.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله اشتمل على العبّاس وبنيه بملاءة ، ثمّ قال : « يا ربّ هذا عمّي ، وصنو أبي ، وهؤلاء أهل بيتي ، فاسترهم من النار كستري إيّاهم » ؛ فأمّنت أسكفّة (1) الباب وحوائط البيت ، فقال : « آمين » وهي ثلاثا (2).

وذلك لأنّ هذا الحديث لا يدلّ على نزول الآية بالعبّاس وبنيه ، وإنّما يدلّ على صدق أهل البيت عليهم فقط.

على أنّه ضعيف السند ، واضح الكذب ، ظاهر التصنّع ، رعاية لملوك العبّاسيّين! وإلّا فما هذا الاهتمام بالعبّاس وبنيه حتّى تؤمّن أسكفّة الباب وحيطان البيت ثلاثا مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!

هذا ، وقد استدلّ من زعم نزول الآية بالأزواج بمناسبة نظم القرآن كما بيّنه الفضل ، وفيه :

أوّلا : إنّ مناسبة النظم لا تعارض ما تواتر بنزولها في الخمسة الطاهرين ، أو الأربعة خاصّة.

وثانيا : إنّا نمنع المناسبة ؛ لتذكير الضمير بعد التأنيث ، ولتعدّد الخطاب والمخاطب.

وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج وخطابهنّ للتنبيه على أنّه سبحانه إنّما أمرهنّ ونهاهنّ وأدّبهنّ إكراما لأهل البيت ، وتنزيها لهم عن أن تنالهم بسببهنّ وصمة ، وصونا لهم عن أن يلحقهم من أجلهنّ عيب ، ورفعا لهم عن أن يتّصل بهم أهل المعاصي ، ولذا استهلّ سبحانه

ص: 373


1- الأسكفّة والأسكوفة : عتبة الباب التي يوطأ عليها ؛ انظر : لسان العرب 6 / 308 مادّة « سكف ».
2- الصواعق المحرقة : 222.

الآيات بقوله : ( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ) (1).

ضرورة أنّ هذا التمييز إنّما هو للاتّصال بالنبيّ وآله ، لا لذواتهنّ ، فهنّ في محلّ ، وأهل البيت في محلّ آخر.

فليست الآية الكريمة إلّا كقول القائل : يا زوجة فلان! لست كأزواج سائر الناس ، فتعفّفي ، وتستّري ، وأطيعي اللّه تعالى ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الأدناس ، وصونهم عن النقائص.

وقد يستدلّ أيضا للقائل بنزولها في الأزواج بما رواه الواحدي في « أسباب النزول » ، عن ابن عبّاس ، قال : « أنزلت هذه الآية في نساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (2).

وفيه - مع ضعفه بجماعة متروكين ، منهم صالح بن موسى ، الذي سبق بعض ترجمته في مقدّمة الكتاب (3) _ :

إنّه معارض بما مرّ عن ابن عبّاس نفسه ، من أنّ المراد بأهل البيت :

البيت من القبيلة (4) ، وبالأخبار السابقة الصحيحة المستفيضة الدالّة على نزولها في الخمسة أو الأربعة خاصّة.

وقد روى القوم أيضا نزولها فيهنّ ، عن ابن عبّاس ، من طريق عكرمة ؛ وقد عرفت حاله ، وأنّه كذّاب خارجي (5).

ص: 374


1- سورة الأحزاب 33 : 32.
2- أسباب النزول : 198.
3- انظر : ج 1 / 146 رقم 145 من هذا الكتاب.
4- راجع الصفحة 369 من هذا الجزء.
5- انظر : ج 1 / 191 رقم 224 من هذا الكتاب.

ورووه أيضا عن عروة بن الزبير ؛ وهو معلوم العداوة لآل محمّد (1) ، ومتّهم بإرادة جلب الفضل لخالته في أمر لم تدّعه هي لنفسها لو صحّ السند إليه (2).

على أنّ رأي عروة وغيره لا يزاحم تلك الأخبار المتواترة ، الحاكية لفعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وقوله المأخوذ عن جبرئيل عن اللّه تعالى.

واستدلّ من زعم نزول الآية بالأزواج وعشيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، بما رواه ابن حجر في « الصواعق » ، من أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضمّ إلى الأربعة الأطهار بقيّة بناته وأقاربه وأزواجه (3).

وأثر الوضع على هذه الرواية ظاهر ، فإنّا لم نعهد وجود كساء يسع مقدار بني هاشم وأزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، الّذين يبلغ عددهم في ذلك الوقت

ص: 375


1- ورد أنّ الرعدة كانت تأخذ عروة إذا ذكر عليّ علیه السلام ، فيسبّه ويضرب بإحدى يديه على الأخرى ، وكان يعيب على عليّ وينال منه ، وكان منحرفا عنه علیه السلام ؛ أنظر : شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 4 / 69 و 102.
2- الدرّ المنثور 6 / 603. نقول : أما سند الحديث إليه كما أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 160/8 فهو : محمد بن عمر ، عن مصعب بن ثابت ، عن أبي الأسود ، عن عروة . ومحمد بن عمر ، هو الواقدي ، فقد ضعفه يحيى بن معين وقال فيه : ضعيف ، ليس بثقة ، وقال أحمد بن حنبل : كذاب ، وقال البخاري ومسلم : متروك الحديث ، وقال النسائي : ليس بثقة ؛ أنظر : تهذيب الكمال 17 / 97 - 104 رقم 6090 . وأما مصعب ، فقد ضعفه يحيى بن معين كذلك ، وقال أحمد بن حنبل : أراه ضعيف الحديث ، وقال أبو حاتم والنسائي : ليس بالقوي ؛ أنظر : تهذيب الكمال 18 / 120 رقم 6572 . وأما أبو الأسود ، فهو : محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي الأسدي ، يتيم عروة ؛ أنظر : تهذيب الكمال 507/16 رقم 6000 .
3- الصواعق المحرقة : 222.

تقريبا مئة نفس صغيرا وكبيرا! ولو وجد فما حاجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى اقتناء مثله؟!

ولو كان من الخمسة الأطهار غيرهم لاشتهر وذاع وافتخر به مفتخرهم ؛ لأنّه يتنافس به المتنافسون!

أترى أنّ حفصة تترك ذكره ، وعائشة ترويه للخمسة وتدع نفسها؟!

وهل يغفل حسّاد أمير المؤمنين علیه السلام عنه؟!

هذا كلّه مع الإعراض عمّا في سند الحديث ، ومعارضته بتلك الأخبار المتواترة.

واستدلّوا أيضا بما رواه بعضهم عن واثلة ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا جمع الأربعة الطيّبين وتلا الآية ، قال واثلة : « وأنا من أهلك؟ قال : وأنت من أهلي » (1).

فإنّه إذا كان واثلة من أهل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأقاربه وأزواجه أولى.

وفيه : إنّه لو صحّ السند ، فدخول واثلة مبنيّ على ضرب من التجوّز ، فلا تلزم الأولويّة (2).

على أنّ هذه الرواية معارضة بالرواية السابقة عن واثلة ، الدالّة على خروجه ، وهي أشهر وأصحّ ، مع اعتضادها بالأخبار المتواترة (3).

ص: 376


1- تفسير الطبري 10 / 297 ح 28494 ، الصواعق المحرقة : 221.
2- (2) ثمّ يقال : ما وجه دخول واثلة بن الأسقع ، وهو ليثي كناني ، في بني هاشم وأهل البيت؟! وما الذي أتى بواثلة وأدخله إلى بيت النبيّ ، وقد كان وقت نزول الآية كافرا؟! لأنّه أسلم والنبيّ يتجهّز إلى تبوك سنة 9 ه - كما في الاستيعاب 4 / 1564 رقم 2738 - والآية نزلت قبل ذلك بكثير!!
3- المستدرك على الصحيحين 2 / 451 ح 3559 وج 3 / 159 ح 4706 ، الدرّ المنثور 6 / 605.

وقد يستدلّ لهم بما رواه أحمد في مسنده (1) ، عن أمّ سلمة ، من حديث ذكرت فيه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله اجتبذ من تحتها كساء خيبريا ، فلفّه عليه وعلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وأخذ بشماله طرفي الكساء ، وألوى بيده اليمنى إلى ربّه عزّ وجلّ ، ودعا لهم بالتطهير ثلاثا.

قالت : قلت : يا رسول اللّه! ألست من أهلك؟!

قال : بلى ، فادخلي في الكساء.

قالت : فدخلت في الكساء بعد ما قضى دعاءه لابن عمّه وابنيه وابنته فاطمة

وفيه - مع ضعف سنده بجماعة ، منهم : شهر بن حوشب ، الذي سبق بعض ترجمته في المقدّمة (2) _ :

إنّ المراد : أنّها من أهله دون أن تشملها آية التطهير ، ولذا جذب الكساء من تحتها وخصّهم بدعائه ، فهي من أهله بوجه التجوّز ؛ لأنّها من المطيعات لله تعالى ، وله ، أو من أهل بيت سكناه.

فاتّضح أنّ الآية الكريمة مختصّة بالخمسة الطاهرين ، أو الأربعة ، وقد كان هذا معروفا في الصدر الأوّل.

وإنّما حدث الخلاف من عكرمة الكذّاب الخارجي (3) وأشباهه ، كما يشهد له ما في « الدرّ المنثور » ، عن ابن جرير وابن مردويه ، عن عكرمة ، - في الآية - ، قال : ليس بالذي تذهبون إليه ، إنّما هو نساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله (4).

ص: 377


1- ص 298 من الجزء السادس. منه قدس سره .
2- انظر : ج 1 / 143 رقم 140 من هذا الكتاب.
3- راجع ترجمته في ج 1 / 191 رقم 224 من هذا الكتاب.
4- الدرّ المنثور 6 / 603.

فإنّ قوله : « ليس بالذي تذهبون إليه » دالّ على معروفية نزولها في عليّ وفاطمة والحسن والحسين بين أهل الصدر الأوّل ، ولذا احتاج عكرمة إلى أن ينادي في الأسواق بنزولها في الأزواج ، كما في « الصواعق » (1).

واحتاج إلى أن يقول : « من شاء باهلته أنّها في أزواج النبيّ صلی اللّه علیه و آله » كما في « الدرّ المنثور » (2).

وقد اجتهد في إطفاء أنوار آل محمّد صلی اللّه علیه و آله .. ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (3).

ثمّ إنّه لا ريب بدلالة الآية الكريمة على عصمتهم عن جميع الذنوب مطلقا ؛ لإطلاق الرجس فيها مع معونة بعض الأخبار السابقة ، حيث

قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيه : « فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب » (4) ..

فإنّ الذنوب جمع محلّى باللام ، وهو يفيد العموم ، ولأنّ الآية الشريفة دالّة على مدحهم والعناية العظمى بشأنهم ، ولا يحسن مثله ، - بحيث أنزل اللّه تعالى به قرآنا يتلى إلى آخر الدهر - إلّا بعصمتهم وطهارتهم عن كلّ ذنب ، لا عن خصوص الشرك وكبائر الفواحش كما زعمه الفضل ، ولا سيّما وهو ممّا يشاركهم فيه كثير من المؤمنين! ..

فكيف يخصّهم بالثناء ويأتي بما يفيد الحصر؟!

وأمّا ما استند إليه الفضل من سبق قوله تعالى : ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي

ص: 378


1- الصواعق المحرقة : 221.
2- الدرّ المنثور 6 / 603.
3- سورة التوبة 9 : 32.
4- الدرّ المنثور 6 / 605 - 606.

قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (1) ، فباطل ؛ لأنّه لو كان سبق مثله قرينة على إرادة الطهارة عنه ، لكان اللازم أيضا القول بالطهارة عن مخالفة كلّ ما سبق في الآية ، من الأمر بقولهنّ المعروف ، وبالقرار في بيوتهنّ ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة اللّه ورسوله ؛ وذلك في معنى العصمة عن كلّ الذنوب ..

والفضل لا يقول بها ، ولا يمكن أن يدّعيها للأزواج ؛ لما يعلمه هو وغيره من أنّ عائشة لم تقرّ في بيتها ، وعصت اللّه ورسوله بحرب إمام زمانها ، وشقّت عصا المسلمين وشتّتت أمرهم ، وتظاهرت هي وحفصة على النبيّ ، وعصتا ربّهما ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (2) .. إلى غير ذلك ممّا ستعرفه في المطاعن.

فإذا ثبت نزول الآية في الخمسة الأطهار ، ودلّت على عصمتهم من الذنوب ، ثبتت إمامة أمير المؤمنين علیه السلام دون من تقدّمة في الخلافة ؛ لما سبق من أنّ العصمة شرط الإمامة (3) ، وغير عليّ ليس معصوما بالإجماع والضرورة ..

ولأنّ أمير المؤمنين علیه السلام ادّعى الإمامة لنفسه ، وأنّها حقّه - وإن لم يتمكّن من حرب من تقدّم عليه كما سبق (4) - ، فيكون صادقا ؛ لأنّ الكذب - ولا سيّما في مثل دعوى الإمامة - من أعظم الرجس.

وقوله : « لا نسلّم أنّ عليّا ادّعى الإمامة لنفسه » (5) ، مكابرة ظاهرة كما

ص: 379


1- سورة الأحزاب 33 : 32.
2- سورة التحريم 66 : 4.
3- انظر الصفحة 205 وما بعدها من هذا الجزء.
4- انظر الصفحة 280 من هذا الجزء.
5- مرّ في الصفحة 355 من هذا الجزء.

مرّ توضيحه (1).

وإلّا فما الموجب لتأخّره عن بيعتهم إلى أن قهروه عليها ، وبقي يتظلّم منهم مدّة حياته ، وجرّد الزبير سيفه لأجله .. إلى غير ذلك ممّا سبق (2)؟!

* * *

ص: 380


1- تقدّم في الصفحة 280 وما بعدها من هذا الجزء.
2- انظر الصفحة 277 وما بعدها من هذا الجزء.

4 - آية المودّة في القربى

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

الرابعة : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2).

روى الجمهور في الصحيحين ، وأحمد بن حنبل في مسنده ،

والثعلبي في تفسيره ، عن ابن عبّاس ، قال :

لمّا نزل : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )

قالوا : يا رسول اللّه! من قرابتك الّذين وجبت علينا مودّتهم؟

قال : عليّ وفاطمة وأبناهما (3)

ووجوب المودّة يستلزم وجوب الطاعة.

* * *

ص: 381


1- نهج الحقّ : 175.
2- سورة الشورى 42 : 23.
3- فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل - 2 / 832 - 833 ح 1141 ، المعجم الكبير - للطبراني - 3 / 47 ح 2641 وج 11 / 351 ح 12259 ، تفسير الثعلبي 8 / 310 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 258 - 259 ح 352 ، شواهد التنزيل 2 / 130 - 134 ح 822 - 828 ، الكشّاف 3 / 467 ، تفسير الفخر الرازي 27 / 167 ، الجامع لأحكام القرآن 16 / 16 ، فرائد السمطين 2 / 13 ح 359 ، مجمع الزوائد 9 / 168 ، تفسير ابن كثير 4 / 114 - 115.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اختلفوا في معنى الآية ، فقال بعضهم : الاستثناء منقطع (2) ، والمعنى :

لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ، لكن المودّة في القربى حاصلة بيني وبينكم ، فلهذا أسعى وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم (3).

وقال بعضهم : الاستثناء متّصل (4) ، والمعنى : لا أسألكم عليه أجرا من الأجور إلّا مودّتكم في قرابتي (5).

وظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبيّ ، ولو خصّصناه بمن ذكر لا يدلّ على خلافة عليّ ، بل يدلّ على وجوب مودّته.

ونحن نقول : إنّ مودّته واجبة على كلّ المسلمين ، والمودّة تكون مع الطاعة ، ولا كلّ مطاع يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى.

والعجب من هذا الرجل أنّه يستدلّ على المطلوب ، وكلامه في غاية البعد عنه وهو لا يفهم هذا.

* * *

ص: 382


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 3 / 19.
2- الاستثناء المنقطع : هو أن لا يكون المستثنى بعضا ممّا قبله ، ولذا صحّ وضع « لكن » في مكان « إلّا » ، مثل : ما حضر الأساتذة إلّا طلبتهم ؛ انظر : شرح ابن عقيل 2 / 472.
3- تفسير الطبري 11 / 145 ذ ح 30686 ، تفسير الفخر الرازي 27 / 166 ، تفسير القرطبي 16 / 15 ، الكشّاف 3 / 466 ، روح المعاني 25 / 48.
4- الاستثناء المتّصل : هو أن يكون المستثنى بعضا ممّا قبله ، مثل : سقيت الأشجار إلّا شجرة ؛ انظر : شرح ابن عقيل 2 / 472.
5- تفسير الكشّاف 3 / 466 ، تفسير القرطبي 16 / 16 ، روح المعاني 25 / 48.
وأقول :

ينبغي قبل الكلام في الآية ذكر بعض الأخبار التي رواها القوم ، الدالّة على أنّ المراد بالقربى آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ..

فمنها : الحديث الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه ، وقد رواه الزمخشري في تفسير الآية ، واستدلّ لصحّته بأخبار كثيرة تستلزم معناه (1).

ونقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه (2).

ونقله في « ينابيع المودّة » عند ذكر الآية ، عن أحمد ، والثعلبي ، والحاكم في « المناقب » ، والواحدي في « الوسيط » ، وأبي نعيم في « الحلية » ، والحمويني في « فرائد السمطين » (3).

ونقله في « الصواعق » في الآية الرابعة عشرة من الآيات الواردة في أهل البيت ، عن أحمد ، والطبراني ، وابن أبي حاتم ، والحاكم (4).

ومنها : ما نقله الحاكم في « المستدرك » ، في تفسير حم عسق ، من كتاب التفسير (5) ، عن البخاري ومسلم ، قال : [ هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه ، إنّما ] اتّفقا في تفسير هذه الآية - أي آية المودّة _

ص: 383


1- تفسير الكشّاف 3 / 467.
2- الدرّ المنثور 7 / 348.
3- ينابيع المودّة 1 / 315 ب 32 ح 1.
4- الصواعق المحرقة : 258 - 259.
5- ص 444 من الجزء الثاني [ 2 / 482 ذ ح 3659 ]. منه قدس سره .

على حديث عبد الملك بن ميسرة الزرّاد ، عن طاووس ، عن ابن عبّاس ، أنّه في قربى آل محمّد صلی اللّه علیه و آله .

ولعلّ هذا هو الذي أراده المصنّف بما عن البخاري ومسلم.

ومنها : ما في « الدرّ المنثور » أيضا ، قال : أخرج ابن جرير ، عن أبي الديلم : « لمّا جيء بعليّ بن الحسين علیه السلام فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم.

فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام : أقرأت القرآن؟!

قال : نعم.

قال : أما قرأت : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ؟!

قال : فإنّكم لأنتم هم؟!

قال : نعم » (1).

ونحوه في « الصواعق » ، عن الطبراني (2).

ومنها : ما في « الصواعق » ، قال : « روى أبو الشيخ وغيره ، عن عليّ علیه السلام : فينا ال- ( حم ) (3) آية ، لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن.

ثمّ قرأ : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (4).

ص: 384


1- الدرّ المنثور 7 / 348 ، وانظر : تفسير الطبري 11 / 144 ح 30677.
2- الصواعق المحرقة : 259 ، وانظر : المعجم الكبير 3 / 47 ح 2641 وج 11 / 351 ح 12259.
3- سورة الشورى 42 : 1.
4- الصواعق المحرقة : 259 ، جواهر العقدين : 317.

ومنها : ما في « الصواعق » أيضا ، قال : « أخرج البزّار والطبراني ، عن الحسن علیه السلام ، من طرق بعضها حسان ، أنّه خطب خطبة من جملتها :

من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد.

ثمّ تلا : ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ ... ) (1) الآية.

ثمّ قال : أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير.

ثمّ قال : وأنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه عزّ وجلّ مودّتهم وموالاتهم ، فقال في ما أنزل على محمّد صلی اللّه علیه و آله : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .

قال : وفي رواية : الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم ، وأنزل فيهم : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) (2) ، واقتراف الحسنات مودّتنا أهل البيت » (3).

وروى الحاكم هذه الخطبة في فضائل الحسن علیه السلام من « المستدرك » (4) ، قال الحسن علیه السلام في آخرها :

« وأنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيّه صلی اللّه علیه و آله : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ

ص: 385


1- سورة يوسف 12 : 38.
2- سورة الشورى 42 : 23.
3- الصواعق المحرقة : 259 ، وانظر : المعجم الأوسط 2 / 401 - 402 ح 2176 ، مجمع الزوائد 9 / 146 عن البزار وغيره.
4- ص 172 من الجزء الثالث [ 3 / 188 - 189 ح 4802 ]. منه قدس سره . وأنظر : الذرية الطاهرة : 109 - 111 ح 114 - 115.

فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) ، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت ».

ومنها : ما في « الصواعق » أيضا ، عن الثعلبي والبغوي ، عن ابن عبّاس ، أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلّا أن يحثّنا على قرابته من بعده ، فأخبر جبرئيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّهم اتّهموه ، فأنزل : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً ) (1) الآية.

فقال القوم : يا رسول اللّه! إنّك لصادق ..

فأنزل اللّه : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) (2) (3).

.. إلى غير ذلك من الأخبار.

ويؤيّدها الأخبار المستفيضة الدالّة على وجوب حبّ أهل البيت ، وأنّه مسؤول عنه يوم القيامة (4).

وذكر في « الكشّاف » أخبارا أخر جعلها دليلا لإرادة عليّ وفاطمة والحسنين من القربى (5).

وكذا يؤيّدها الأخبار المفسّرة للحسنة في تتمّة الآية بحبّ أهل

ص: 386


1- سورة الشورى 42 : 24.
2- سورة الشورى 42 : 25.
3- الصواعق المحرقة : 259 - 260 ، وانظر : تفسير الثعلبي 8 / 315 ، تفسير البغوي 4 / 112.
4- انظر : المعجم الكبير 11 / 83 - 84 ح 11177 ، المعجم الأوسط 3 / 9 ح 2212 وص 26 ح 2251 وج 9 / 264 - 265 ح 9406 ، مجمع الزوائد 9 / 172 وج 10 / 346 ، ذخائر العقبى : 63 ، جواهر العقدين : 326 و 327.
5- تفسير الكشّاف 3 / 467.

البيت ، كما سمعته في بعض الروايات المذكورة (1).

وقال ابن حجر عند كلامه في الآية : أخرج أحمد ، عن ابن عبّاس : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) ، قال : المودّة لآل محمّد (2).

ومثله في « الدرّ المنثور » ، عن ابن أبي حاتم ، عن ابن عبّاس (3).

وقال في « الكشّاف » : ( وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) ، عن السدّي أنّها المودّة في آل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (4).

ولكن يا للأسف! ما هان على القوم رواية تلك الأخبار حتّى رووا عن ابن عبّاس ما ينافي رواياته السابقة ، فنسبوا إليه مخالفة النبيّ والوحي!! ..

روى البخاري في كتاب « التفسير » من صحيحه ، في تفسير الآية :

« أنّه سئل ابن عبّاس عنها ، فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمّد.

فقال ابن عبّاس : عجلت ؛ لم يكن بطن في قريش إلّا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة » (5).

والمعنى على حسب ظاهر هذا التفسير : لا أسألكم على التبليغ أجرا إلّا صلتكم لي لما بيني وبينكم من القرابة ، حيث إنّ له قرابة في بطون قريش كلّها.

ص: 387


1- مرّت في الصفحة السابقة.
2- الصواعق المحرقة : 259.
3- الدرّ المنثور 7 / 348 ، وانظر : تفسير القرطبي 16 / 17 ، جواهر العقدين : 319.
4- الكشّاف 3 / 468 ، وانظر : مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 263 ح 360.
5- صحيح البخاري 6 / 231 ح 314.

وفيه : مع مخالفته لقول من أنزل عليه القرآن ، ولظاهر اللفظ ، إنّه لا معنى لسؤال الأجر على التبليغ ممّن لم يعترف له بالرسالة ؛ لأنّ المقصود على هذا التفسير هو السؤال من الكافرين ، ولذا قال في « الكشّاف » في بيانه : « والمعنى : إن أبيتم تصديقي فاحفظوا حقّ قرابتي ولا تؤذوني » (1).

أقول : وفي جعل معنى ( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) : « إن أبيتم تصديقي » نظر ظاهر.

ومثل هذا المحكيّ عن ابن عبّاس في البطلان ، ما ذكره الفضل من المعنى على الاستثناء المنقطع ، فإنّ المنقطع عبارة عن إخراج ما لو لا إخراجه لتوهّم دخوله في حكم المستثنى منه نظير الاستدراك.

وأنت تعلم أنّ المستثنى الذي ذكره الفضل أجنبيّ عمّا قبله بكلّ وجه ، فلا يتوهّم دخوله في حكمه حتّى يستثنى منه.

وأعظم من هذين التفسيرين في البطلان ، ما رواه بعض القوم عن ابن عبّاس ، من أنّ المعنى : « لا أسألكم أجرا على التبليغ إلّا مودّة اللّه بالتقرّب إليه » (2) ، فإنّ القربى لم تأت بمعنى التقرّب ، مع أنّه مناف للأخبار السابقة المعتبرة عن ابن عبّاس (3).

والحقّ أنّ هذه التفاسير من تحريف الكلم عن مواضعه ، الذي يدعو إليه العناد والتعصّب ، فلا ريب لكلّ منصف في أنّ المراد بالقربى : القرابة ، وأنّ المقصود : عليّ وفاطمة والحسنان ، كما نطقت به الأخبار.

وقول الفضل : « وظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات

ص: 388


1- الكشّاف 3 / 467.
2- انظر : تفسير القرطبي 16 / 16 - 17 ، جواهر العقدين : 323.
3- راجع الصفحات 381 و 383 و 387 من هذا الجزء.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله » ، باطل ؛ لمنافاته للقرينة اللفظية - وهي الأخبار السابقة وغيرها - .. وللقرينة الحاليّة ؛ لأنّ المعلوم من حال النبيّ صلی اللّه علیه و آله الاعتناء بعليّ وفاطمة والحسنين ، لا من ناوأه من أقربائه ولم يسلموا إلّا بحدود السيوف والغلبة .. وللقرينة العقليّة ؛ إذ لا يتصوّر أن يكون ودّ من لم يوادّ اللّه ورسوله أجرا للتبليغ والرسالة.

فلا بدّ أن يكون المراد مودّة من يكمل الإيمان بمودّته ، وتحصل السعادة الأبديّة بموالاته ، ولذا قال سبحانه في آية أخرى : ( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (1).

بل بلحاظ شأن النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما يعدّ قرابة له من هو منه ، لا من بان عنه معنى ومنزلة ، ولذا قال تعالى لنوح : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) (2).

وقال الرازي في تفسير آية المودّة التي نحن فيها : « آل محمّد صلی اللّه علیه و آله هم الّذين يؤول أمرهم إليه ، فكلّ من كان مآل أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل.

ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول اللّه أشدّ التعلّقات.

وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل » (3).

أقول : ونحو هذا آت في لفظ « القربى » ، فيتعيّن أن يكون المراد بالآية الأربعة الأطهار.

ص: 389


1- سورة سبأ 34 : 47.
2- سورة هود 11 : 46.
3- تفسير الفخر الرازي 27 / 167.

وهي تدلّ على أفضليّتهم ، وعصمتهم ، وأنّهم صفوة اللّه سبحانه ؛ إذ لو لم يكونوا كذلك لم تجب مودّتهم دون غيرهم ، ولم تكن مودّتهم بتلك المنزلة التي ما مثلها منزلة ؛ لكونها أجرا للتبليغ والرسالة الذي لا أجر ولا حقّ يشبهه ..

ولذا لم يجعل اللّه المودّة لأقارب نوح وهود أجرا لتبليغهما ، بل قال لنوح : ( وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ) (1).

وقال لهود : ( يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (2) ..

فتنحصر الإمامة بقربى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ إذ لا تصحّ إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، لا سيّما بهذا الفضل الباهر ..

مضافا إلى ما ذكره المصنّف رحمه اللّه من أنّ وجوب المودّة مطلقا يستلزم وجوب الطاعة مطلقا ؛ ضرورة أنّ العصيان ينافي الودّ المطلق ..

ووجوب الطاعة مطلقا يستلزم العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم بالإجماع ، فتنحصر الإمامة بهم ، ولا سيّما مع وجوب طاعتهم على جميع الأمّة.

وقد فهم دلالة الآية على الإمامة الصحابة ، ولذا اتّهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعضهم فقالوا : « ما يريد إلّا أن يحثّنا على قرابته بعده » ، كما سمعته في بعض الروايات السابقة (3).

وكلّ ذي فهم يعرفها من الآية الشريفة ، إلّا أنّ القوم أبوا أن يقرّوا

ص: 390


1- سورة هود 11 : 29.
2- سورة هود 11 : 51.
3- تقدّم في الصفحة 386 من هذا الجزء.

بالحقّ ويؤدّوا أجر الرسالة ، فإذا صدرت من أحدهم كلمة طيّبة لم تدعه العصبيّة حتّى يناقضها! ..

ولذا لمّا نطق الرازي بما حكيناه عنه سابقا عقّبه بقوله :

« المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) فيه منصب عظيم للصحابة ؛ لأنّه تعالى قال : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ، فكلّ من أطاع اللّه كان مقرّبا عند اللّه ، فدخل تحت قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .

والحاصل : إنّ هذه الآية تدلّ على وجوب حبّ آل رسول اللّه وحبّ أصحابه » (2).

فانظر إلى هذه الكلمات الهزلية ، بل لا يتصوّر لكلامه معنى إلّا أن يراد بالقربى المقرّبون ، وهو ليس من معاني القربى.

ولو سلّم ، فاللازم وجوب ودّ كلّ من أطاع اللّه بلا خصوصيّة للصحابة ، فكيف تدلّ الآية على عظيم منصب للصحابة؟!

ثمّ إنّ بعض القوم أورد على نزول الآية بعليّ وفاطمة والحسنين علیهم السلام بأنّ سورة الشورى مكّيّة وعليّ حينئذ لم يتزوّج بفاطمة ، فضلا عن ولادة الحسنين علیهماالسلام (3).

وفيه : إنّ أخبار نزول الآية الشريفة بالأربعة الطاهرين حجّة قطعيّة وكثيرة معتبرة ، فلا يعتنى بدعوى كون السورة مكّية .. على أنّه جاء في

ص: 391


1- سورة الواقعة 56 : 10 و 11.
2- تفسير الفخر الرازي 27 / 167 - 168.
3- كابن تيميّة في منهاج السنّة 4 / 27 و 562 وج 7 / 99 ، وأبن كثير في تفسيره 4 / 114 ، والقسطلاني في إرشاد الساري 11 / 50.

بعض أخبارهم أنّها مدنيّة.

ولو سلّم ، فكون السورة مكيّة إنّما هو بلحاظ أكثرها ، فلا ينافي نزول آية منها بالمدينة (1).

* * *

ص: 392


1- لم نعثر على أحد من أهل الفنّ قال بأنّ آية المودّة مكّية ، فضلا عن إطلاق القول بأنّ سورة الشورى مكّية ، فكثير من السور نزلت في مكّة ولم يكتمل نزولها إلّا في المدينة ، ومنها سورة الشورى التي منها آية المودّة ، فقد صرّح القرطبي عن ابن عبّاس وقتادة بأنّ السورة مكّية إلّا أربع آيات نزلت بالمدينة ، منها آية المودّة ، كما في تفسيره 16 / 3 ، ومثل ذلك في تفسير الخازن 4 / 89 ، فذكر أنّها مكّية إلّا أربع آيات نزلت بالمدينة أوّلها آية المودّة ، وذكر ذلك أبو حيّان في تفسيره النهر المادّ 5 / 105 ، والسيوطي في الإتقان 1 / 46 من قوله تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى ) إلى قوله : ( بَصِيرٌ ) ، والشوكاني في تفسيره فتح القدير 4 / 524 ، والآلوسي في روح المعاني 25 / 16. يضاف إلى ذلك أن ما رواه الطبراني في المعجم الكبير 26/12 - 27 ح 12384 ، وفي المعجم الأوسط 103/6 - 104 ح 5758 ، ما يؤكد نزول آية المودة وبعدها أربع آيات في المدينة . وراجع ما كتبه السيد علي الحسيني الميلاني في ما يتعلق بآية المودة من مباحث علمية في كتابه : تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات 1 / 231 - 341 .

5 - آية : ( مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ )

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

الخامسة : قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ) (2).

قال الثعلبي : ورواه ابن عبّاس : أنّها نزلت في عليّ علیه السلام لمّا هرب النبيّ صلی اللّه علیه و آله من المشركين إلى الغار ، خلّفه لقضاء دينه وردّ ودائعه ، فبات على فراشه ، وأحاط المشركون بالدار ..

فأوحى اللّه إلى جبرئيل وميكائيل : إنّي قد آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟

فاختار كلّ منهما الحياة ، فأوحى اللّه إليهما : ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب؟! آخيت بينه وبين محمّد ، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه!

فنزلا ، فكان جبرئيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، فقال جبرئيل : بخ بخ! من مثلك يابن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة (3)؟!

ص: 393


1- نهج الحقّ : 176.
2- سورة البقرة 2 : 207.
3- انظر : تفسير الثعلبي 2 / 125 - 126. وانظر : مسند أحمد 1 / 331 ، فضائل الصحابة - له - 2 / 851 ح 1168 ، السنن الكبرى - للنسائي - 113/5 ح 8409 ، المعجم الكبير 12 / 77 ح 12593 ، المعجم الأوسط 3 /1. 242 ح 2836 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 589 ح 1351 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 143 ح 4652 ، تلخيص المتشابه 1 / 414 رقم 689 ، شواهد التنزيل 1 / 96 - 102 ح 133 - 142 ، إحياء علوم الدين 4 / 37 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 126 ح 140 و 141 ، تاريخ دمشق 42 / 99 - 102 ، تفسير الفخر الرازي 5 / 222 ، تفسير القرطبي 3 / 16 ، مجمع الزوائد 9 / 119 - 120.

ص: 394

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اختلف المفسّرون أنّ الآية نزلت في من؟ ..

قال كثير منهم : نزلت في صهيب الرومي ، وأنّه كان غريبا بمكّة ، فلمّا هاجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قصد الهجرة ، فمنعه قريش من الهجرة ، فقال : يا معشر قريش! إنّكم تعلمون أنّي كثير المال ، وإنّي تركت لكم أموالي ، فدعوني أهاجر في سبيل اللّه ولكم مالي.

فلمّا هاجر ، وترك الأموال ، أنزل اللّه هذه الآية.

فلمّا دخل صهيب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قرأ عليه الآية وقال له : ربح البيع (2).

وأكثر المفسّرين على أنّها نزلت في الزبير بن العوّام ، ومقداد بن الأسود لمّا بعثهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لينزلوا خبيب بن عديّ من خشبته التي صلب عليها ، فكان صلب بمكّة ، وحوله أربعون من المشركين ، ففديا أنفسهما حتّى أنزلاه ، فأنزل اللّه الآية (3).

ولو كان نازلا في شأن أمير المؤمنين عليّ ، فهو يدلّ على فضله واجتهاده في طاعة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وبذل الروح له.

وكلّ هذه مسلّمة لا كلام لأحد فيه ، ولكن ليس هو بنصّ في إمامته كما لا يخفى.

ص: 395


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 3 / 38.
2- الكشّاف 1 / 353 ، تفسير الفخر الرازي 5 / 222 ، تفسير القرطبي 3 / 15 - 16 ، الدرّ المنثور 1 / 575.
3- تفسير البغوي 1 / 132 ، روح المعاني 2 / 146.
وأقول :

إنّ استدلالنا بشيء لا يتوقّف على انحصار أقوالهم وأخبارهم فيه ، بل يكفينا وجوده في رواياتهم لنتّخذه حجّة عليهم ، من دون أن يعارضه ما يخالفه من أقوالهم ورواياتهم ؛ لأنّها ليست حجّة علينا ، وحينئذ يكفينا روايتهم نزول الآية في أمير المؤمنين علیه السلام ، كما نقله المصنّف رحمه اللّه عن الثعلبي ..

ونقله في « ينابيع المودّة » أيضا ، عنه ، وعن ابن عقبة في ملحمته ، وأبي السعادات في « فضائل العترة الطاهرة » ، والغزّالي في « الإحياء » عن ابن عبّاس ، وأبي رافع ، وهند بن أبي هالة ربيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1).

ورواه الرازي في تفسيره بمثل ما عن الثعلبي (2).

وروى الحاكم ما يدلّ على ذلك في « المستدرك » (3) ، وصحّحه هو والذهبي ، عن ابن عبّاس ، من حديث قال فيه : « شرى عليّ نفسه ، ولبس ثوب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ثمّ نام مكانه ».

ومثله في مسند أحمد (4).

وروى الحاكم بعد الحديث المذكور عن عليّ بن الحسين ، قال :

ص: 396


1- ينابيع المودّة 1 / 274 ح 3 ، وانظر : إحياء علوم الدين 4 / 37 في بيان الإيثار وفضله.
2- تفسير الفخر الرازي 5 / 222.
3- ص 4 من الجزء الثالث [ 3 / 5 ح 4263 ]. منه قدس سره . وأنظر : المستدرك علی الصحيحين 143/3 ح 4652 وصححه هو والذهبي.
4- ص 331 من الجزء الأوّل. منه قدس سره .

« أوّل من شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه عليّ بن أبي طالب .. وذكر شعرا لأمير المؤمنين في مبيته على فراش النبيّ صلی اللّه علیه و آله » (1).

ونقل في « ينابيع المودّة » نزولها في أمير المؤمنين علیه السلام ، عن أبي نعيم بسنده عن ابن عبّاس .. إلى غير ذلك ممّا في « الينابيع » وغيرها (2).

ولو ضممت إليه أخبارنا كان متواترا (3) ..

فكيف يعتنى برواية الفضل في نزولها بصهيب (4)؟!

وأمّا ما ذكره من قول أكثر المفسّرين بنزولها في الزبير والمقداد ، فكذب صريح ..

كيف؟! ولم يذكره الرازي في تفسيره ، وهو قد جمع فيه جميع أقوالهم! ..

ولا ذكره الزمخشري أيضا ، ولا تعرّض السيوطي في « الدرّ المنثور » لرواية تتعلّق به ، مع أنّه قد جمع فيه عامّة أخبارهم ، ولا سيّما إذا كانت في فضل مثل الزبير (5)!

ص: 397


1- المستدرك على الصحيحين 3 / 5 ح 4264.
2- ينابيع المودّة 1 / 274 ح 2 ، وانظر : الصفحة 393 ه 3 من هذا الجزء.
3- انظر : مجمع البيان 2 / 57 و 58 ، تفسير فرات 1 / 65 ح 31 - 33 ، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 1 / 310 ، مناقب آل أبي طالب 2 / 76 - 77 ، تفسير الصافي 1 / 241 رقم 207 ، بحار الأنوار 36 / 40 وما بعدها.
4- لا سيّما ونحن نعرفه بعداوة آل محمّد صلی اللّه علیه و آله وصداقة أعدائهم ؛ ولذا أوصى عمر إليه بالصلاة في الناس أيّام الشورى ، وقال في حقّه : « نعم العبد صهيب ، لو لم يخف اللّه لم يعصه »!! ومن المعلوم أنّ كلّ عدوّ لآل محمّد منافق لا فضل له ولا كرامة. منه قدس سره .
5- راجع : تفسير الكشّاف 1 / 352 - 353 ، تفسير الفخر الرازي 5 / 222 - 223 ، الدرّ المنثور 1 / 575 - 578.

وذكر في « الاستيعاب » بترجمة خبيب ، أنّ الذي أرسله النبيّ صلی اللّه علیه و آله لإنزاله هو عمرو بن أميّة الضمري ، وما ذكر الزبير ، ولا المقداد (1)!

هذا في نزول الآية ..

وأمّا دلالتها على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فلأنّ نزولها فيه كاشف عن أفضليّته وامتيازه بالمعرفة والإخلاص ؛ لأنّ كثيرا من المسلمين غيره قد بذلوا أنفسهم في الجهاد ، وحفظ الرسول صلی اللّه علیه و آله ونشر الدعوة ولم ينالوا ما ناله أمير المؤمنين علیه السلام من شهادة اللّه له ، بأنّه شرى نفسه ابتغاء مرضاته حتّى باهى به سادة ملائكته ، وذكره بالأخوّة لسيّد أنبيائه ، وقال له جبرئيل : « من مثلك؟! » (2) الدالّ على عدم المماثل له .. والأفضل هو الإمام!

* * *

ص: 398


1- الاستيعاب 2 / 442 رقم 632.
2- كما في رواية الثعلبي المتقدّمة آنفا في الصفحة 393.

6 - آية المباهلة

اشارة

قال المصنّف - قدس سره - (1) :

السادسة : آية المباهلة (2) ، أجمع المفسّرون على أنّ ( أَبْناءَنا ) إشارة إلى الحسن والحسين ، ( ونِساءَنا ) إشارة إلى فاطمة ، ( وأَنْفُسَنا ) إشارة إلى عليّ علیه السلام (3).

ص: 399


1- نهج الحقّ : 177.
2- وهي قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) سورة آل عمران 3 : 61.
3- انظر : تفسير السدّي : 179 ، تفسير الحبري : 247 - 248 ح 12 - 13 ، تفسير الطبري 3 / 298 - 299 ح 7178 و 7179 و 7186 ، أحكام القرآن - للجصّاص - 2 / 23 ، تفسير الثعلبي 3 / 85 ، تفسير الماوردي 1 / 398 - 399 ، أسباب النزول - للواحدي - : 57 ، شواهد التنزيل 1 / 120 - 128 ح 168 - 176 ، تفسير البغوي 1 / 240 ، تفسير الكشّاف 1 / 434 ، أحكام القرآن - لابن عربي - 1 / 360 ، زاد المسير 1 / 7324 تفسير الفخر الرازي 8 / 89 - 90 ، تفسير القرطبي 4 / 67 ، تفسير النسفي 1 / 161 ، البحر المحيط 2 / 479 - 480 ، تفسير القرآن العظيم - لابن كثير - 1 / 350 ، الدرّ المنثور 2 / 231 - 233 ، تفسير أبي السعود 1 / 373 ، فتح القدير 1 / 347 - 348 ، روح المعاني 3 / 303. وأنظر : صحيح مسلم 120/7 - 121 ، سنن الترمذي 210/5 ح 2999 و ص 596 ح 3724 ، مسند أحمد 1 / 185 ، فضائل الصحابة - له - 2 / 974 - 975 ح 1374 ، مسند سعد - للدورقي - : 51 ح 19 ، تاريخ المدينة - لابن شبة - 583/2 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 163 ح 4719 ، معرفة علوم الحديث : 50 ، المغني - للقاضي عبد الجبار - ج 20 ق 1 / 142 ، دلائل النبوة - لأبي نعيم - 2 /353 - 355 ح 244 - 245 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 7 / 63 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 231 - 232 ح 310 ، مصابيح السنّة 4 / 183 ح 4795 ، الشفا - للقاضي عياض - 2 / 48 ، جواهر العقدين : 278 عن الدارقطني ، كنز العمّال 2 / 379 - 380 ح 4307.

فجعله اللّه نفس محمّد صلی اللّه علیه و آله ، والمراد المساواة ، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرّف ، أكمل وأولى بالتصرّف.

وهذه الآية أدلّ دليل على علوّ مرتبة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّه تعالى حكم بالمساواة لنفس الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وأنّه تعالى عيّنه في استعانة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الدعاء.

وأيّ فضيلة أعظم من أن يأمر اللّه نبيّه بأن يستعين به على الدعاء إليه ، والتوسّل به؟!

ولمن حصلت هذه المرتبة؟!

* * *

ص: 400

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

كان عادة أرباب المباهلة أن يجمعوا : أهل بيتهم وقراباتهم ؛ ليشمل البهلة (2) سائر أصحابهم ، فجمع رسول اللّه أولاده ، ونساءه.

والمراد بالأنفس ها هنا : الرجال ، كأنّه أمر بأن يجمع نساءه وأولاده ورجال أهل بيته.

فكان النساء : فاطمة ، والأولاد : الحسن والحسين ، والرجال : رسول اللّه وعليّ.

وأمّا دعوى المساواة التي ذكرها ، فهي باطلة قطعا ، وبطلانها من ضروريات الدين ؛ لأنّ غير النبيّ من الأمّة لا يساوي النبيّ أصلا ، ومن ادّعى هذا فهو خارج عن الدين.

وكيف يمكن المساواة ، والنبيّ نبيّ مرسل خاتم الأنبياء ، وأفضل أولي العزم ، وهذه الصفات كلّها مفقودة في عليّ؟!

نعم ، لأمير المؤمنين عليّ في هذه الآية فضيلة عظيمة ، وهي مسلّمة ، ولكن لا تصير دالّة على النصّ بإمامته.

* * *

ص: 401


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 3 / 62.
2- الابتهال : التضرّع ، والاجتهاد في الدعاء وإخلاصه لله عزّ وجلّ. والبهل : اللعن ، والمباهلة : الملاعنة. أنظر مادّة «بهل» في : الصحاح 1642/4 ، لسان العرب 522/1.
وأقول :

دعوى العادة كاذبة! ولا أدري متى اعتيد أصل المباهلة حتّى يعتاد فيها جمع الأهل والأقارب؟!

ولو كانت هناك عادة بذلك لاعترض النصارى على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمخالفتها ، حيث لم يجمع من أهله وأقاربه إلّا القليل!

ولو سلّم ، فمخالفة النبيّ صلی اللّه علیه و آله للعادة دليل على أنّ محلّ العناية الإلهيّة ، والكرامة النبويّة ، هو من جمعهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأمر اللّه سبحانه ، دون بقيّة أقاربه كالعبّاس وبنيه ، وسائر بني هاشم وبناتهم ، وبنات الزهراء علیهاالسلام ، ودون زوجاته ، مع أنّهنّ من نسائه ، ومن أهل بيت سكناه.

وقد عرف أنّهم محلّ عناية اللّه والشرف عنده ، ومحلّ الخطر والعظمة لديه ، أسقف نجران حيث قال - كما عن ابن إسحاق ، ورواه في « الكشّاف » - : « إنّي لأرى وجوها لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها » (1).

وفي تفسيري الرازي والبيضاوي : « لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها » (2).

ثمّ قال الرازي : « واعلم أنّ هذه الرواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث » (3).

ص: 402


1- تفسير الكشّاف 1 / 434.
2- تفسير الفخر الرازي 8 / 90 ، تفسير البيضاوي 1 / 163.
3- تفسير الفخر الرازي 8 / 90.

فيا عجبا قد عرف ذلك لهم النصارى وأنكره من يدّعي الإسلام ، كالفضل وأمثاله! حتّى جعلوا جمعهم من العاديّات ، لا لكرامتهم وفضلهم عند اللّه تعالى وعزّتهم على الرسول صلی اللّه علیه و آله .

وما اكتفى الفضل بمشاركة سائر أقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونسائه لهم حتّى أضاف إليهم أصحابه ، فقال : « لتشمل البهلة سائر أصحابهم » ، وهو ضروري البطلان ؛ لأنّ شمولها لهم إن كان باعتبار التبعيّة ، فلا حاجة إلى إحضار الأربعة الأطيبين ؛ لأنّ الكلّ أتباعه ..

وإن كان لأجل المباشرة ، فالأصحاب كبقيّة الأقارب غير مباشرين.

ولو شملت البهلة غير الأربعة لأحضر النبيّ صلی اللّه علیه و آله من غيرهم ، ولو واحدا من أفاضل الأقارب والأصحاب!

فلا بدّ أن يكون تخصيص اللّه والرسول للأربعة الطاهرين ؛ لعناية اللّه بهم ، وبيانه لفضلهم وكرامتهم عند النبيّ ، وعزّتهم عليه ، واستعانته بدعائهم ، كما قال سبحانه : ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) .. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا دعوت فأمّنوا » ، كما رواه الزمخشري والرازي والبيضاوي وغيرهم (1) ..

إذ كلّما كثر محلّ العناية ومنجع (2) الاستجابة ، كان أدخل بالإجابة ؛ لأنّ الاستكثار منهم أظهر في إعظام اللّه والرغبة إليه ، ولذا يستحبّ في الأدعية كثرة تعظيم اللّه بأسمائه المقدّسة ، وشدّة إظهار الخضوع لجلاله.

ص: 403


1- الكشّاف 1 / 434 ، تفسير الفخر الرازي 8 / 90 ، تفسير البيضاوي 1 / 163 ، وانظر : دلائل النبوّة - لأبي نعيم - 2 / 355 ح 245 ، الدرّ المنثور 2 / 232.
2- المنجع - والجمع : مناجع - : محالّ ومواضع حصول التأثير والنفع والفائدة ؛ انظر مادّة « نجع » في : لسان العرب 14 / 55 ، تاج العروس 11 / 469 - 470.

وبذلك يعلم أفضليّة الحسن والحسين ، فضلا عن أمير المؤمنين علیه السلام والزهراء علیهاالسلام ، على جميع الصحابة وأقارب النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فإنّ استعانة سيّد النبيّين بهما في الدعاء بأمر اللّه سبحانه مع صغرهما ، ووجود ذوي السنّ من أقاربه ، وأصحابه ، لأعظم دليل على امتيازهما بالشرف عند اللّه ، وتميّزهما مع صغرهما بالمعرفة والفضل ، ولذا قال : ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) ، فجعل الحسنين ممّن تشمله اللعنة لو كانا من الكاذبين ، وأشركهما في تحقيق دعوة الإسلام ، وتأييد دين اللّه ..

فكانا شريكي رسول اللّه ، وأمير المؤمنين ، والزهراء في ذلك ، ممتازين على الأمّة كما امتاز عيسى وهو صبيّ على غيره.

فظهر دلالة الآية الكريمة على أفضلية الأربعة الأطهار ، ولا سيّما أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّها جعلته نفس النبيّ ، وعبّرت عنه بالأنفس بصيغة الجمع ، كما عبّرت عن فاطمة بالنساء للإعلام من وجه آخر بعظمهم.

وقول الفضل : « والمراد بالأنفس هاهنا الرجال » ، باطل لوجهين :

الأوّل : إنّ أمر الشخص نفسه ودعوته لها مستهجن ومخالف لما ذكره الأصوليّون من أنّ المتكلّم لا يشمله خطابه ، فإذا قال : يا أيّها الناس اتّقوا اللّه ؛ لا يكون من المخاطبين ، وإذا دعا الجماعة لا يكون من المدعوّين (1).

الثاني : ما نقله ابن حجر في ( صواعقه ) عند ذكر الآية ، وهي الآية التاسعة من الآيات النازلة في أهل البيت علیهم السلام ، عن الدارقطني : « إنّ عليّا

ص: 404


1- انظر مثلا : التبصرة في أصول الفقه : 73 ، إرشاد الفحول : 225 - 226.

يوم الشورى احتجّ على أهلها فقال لهم : أنشدكم باللّه هل فيكم أحد أقرب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الرحم منّي ، ومن جعله نفسه ، وأبناءه أبناءه ، ونساءه نساءه ، غيري؟!

قالوا : اللّهمّ لا » (1).

ونقل الواحدي وغيره ، عن الشعبي ، أنّه قال : ( أَبْناءَنا ) الحسن والحسين ، ( ونِساءَنا ) فاطمة ، ( وأَنْفُسَنا ) عليّ بن أبي طالب (2).

وأمّا ما ذكره الفضل من أنّ دعوى المساواة خروج عن الدين ، فخروج عن سنن الحقّ المبين ؛ لأنّ مقصود المصنّف رحمه اللّه هو المساواة في الخصائص والكمال الذاتي ، عدا خاصّة أوجبت نبوّته وميّزته عنه ، وهو مفاد ما حكاه في « كنز العمّال » في فضائل عليّ علیه السلام (3) ، عن ابن أبي عاصم ، وابن جرير ، قال : وصحّحه ، وعن الطبراني في « الأوسط » ، وابن شاهين في « السنّة » ، أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لعليّ : « ما سألت اللّه لي شيئا إلّا سألت لك مثله ، ولا سألت اللّه شيئا إلّا أعطانيه ، غير أنّه قيل لي : إنّه لا نبيّ بعدك » (4).

ص: 405


1- الصواعق المحرقة : 239.
2- أسباب النزول : 57 ، وانظر : دلائل النبوّة - لأبي نعيم - 2 / 353 - 354 ح 244.
3- ص 407 من الجزء السادس [ 13 / 113 ح 36368 وص 151 ح 36474 وص 170 ح 36513 ]. منه قدس سره .
4- انظر : السنّة - لابن أبي عاصم - : 582 ح 1313 ، المعجم الأوسط 8 / 82 ح 7917 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 151 ح 8532 و 8533 ، أنساب الأشراف 2 / 357 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 150 ح 178 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 110 ح 117 وص 143 ح 164 ، تاريخ دمشق 42 / 310 - 311 ، ذخائر العقبى : 115 ، فرائد السمطين 1 / 220 - 221 ح 171 و 172 ، مجمع الزوائد 9 / 110.

ويدلّ عليه ما روي مستفيضا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّ عليّا منّي وأنا منه » (1).

فتدلّ الآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لأنّ مساواته للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في خصائصه عدا مزية النبوّة تستوجب أن يكون مثله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأفضل من غيره بكلّ الجهات ، وأن يمتنع صيرورته رعيّتة ومأمورا لغيره ، كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

بل يكفي في الدلالة على إمامته مجرّد دلالتها على أفضليّته من جميع الأمّة (2).

ص: 406


1- انظر : صحيح البخاري 4 / 22 ح 9 وج 5 / 87 ، سنن ابن ماجة 1 / 44 ح 119 ، سنن الترمذي 5 / 590 - 591 ح 3712 وص 593 ح 3716 ، السنن الكبرى - للنسائي - 5 / 45 ح 8146 و 8147 وص 126 - 127 ح 8453 - 3455 وص 128 ح 8459 وص 132 - 133 ح 8474 ، مسند أحمد 4 / 164 و 165 و 437 - 438 وج 5 / 356 ، مسند الطيالسي : 111 ح 829 ، مصنّف عبد الرزّاق 11 / 227 ح 20394 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 495 ح 8 وص 499 ح 27 وص 504 ح 58 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 550 ح 1187 وص 584 ح 1320 ، مسند أبي يعلى 1 / 293 ح 355 ، مسند الروياني 1 / 62 ح 119 ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 41 - 42 ح 6890 ، المعجم الكبير 18 / 128 ح 265 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 119 ح 4579 ، حلية الأولياء 6 / 294 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 206 - 211 ح 267 - 276 ، مصابيح السنّة 4 / 172 ح 4765 و 4766 و 4768.
2- كما يمكن الاستدلال بآية المباهلة على إمامة أمير المؤمنين عليّ علیه السلام بضميمة تفسير قوله تعالى : ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) سورة التوبة 9 : 120 .. و (نفسه) هنا هو على عليه السلام ، ولو كان الضمير يعود إلى رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم لقال : « ولا يرغبوا بأنفسهم عنه » كما هو مقتضى البلاغة .. وخصوص المورد لا يخصصه. أنظر : العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية : 339 - 340 .

ويستفاد من الرازي في تفسير الآية تسليم دلالتها على أفضليّته من الصحابة ؛ لأنّه نقل عن الشيخ محمود بن الحسن الحمصي (1) أنّه استدلّ بجعل عليّ علیه السلام نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله على كونه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلی اللّه علیه و آله ؛ لأنّ النبيّ أفضل منهم وعليّ نفسه.

ونقل عن الشيعة قديما وحديثا الاستدلال بذلك على فضل عليّ على جميع الصحابة.

وما أجاب الرازي إلّا عن الأوّل ، بدعوى الإجماع على أنّ الأنبياء أفضل من غيرهم قبل ظهور الشيخ محمود (2).

وفيه : إنّ الإجماع إنّما هو على فضل صنف الأنبياء على غيره من الأصناف ، وفضل كلّ نبيّ على جميع أمّته ، لا فضل كلّ شخص من الأنبياء على كلّ من عداهم حتّى لو كان من أمم غيرهم.

فذلك نظير تفضيل صنف الرجال على صنف النساء ، حيث إنّه لم يناف فضل بعض النساء على كثير من الرجال.

ولم يختصّ تفضيل أمير المؤمنين على من عدا محمّد من الأنبياء

ص: 407


1- هو : تاج الدين محمود بن علي بن الحسن الحمصي الرازي ، المعروف بتاج الرازي أو سديد الدين ، فقيه أصولي ، ورع ثقة ، متكلّم ، من علماء الإمامية الأعلام ، له تصانيف كثيرة منها : التعليق الكبير ، التعليق الصغير ، المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد ، التبيين والتنقيح في التحسين والتقبيح ، بداية الهداية ، نقض الموجز ، وغيرها ؛ توفّي في أوائل المئة السابعة. انظر : فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنّفيهم : 164 رقم 389 ، رياض العلماء 202/5 - 203 ، هدية العارفين 408/6 ، طبقات أعلام الشيعة / الثقات العيون في سادس القرون : 277 ، معجم المؤلفين 820/3 رقم 16654 .
2- تفسير الفخر الرازي 8 / 91.

بالشيخ محمود ، حتّى ينافي ما ادّعاه الرازي من الإجماع (1) ..

بل قال به الشيعة قبل وجود الشيخ محمود وبعده ، مستدلّين بالآية الكريمة ، وغيرها من الآيات والأخبار المتضافرة ، التي ليس المقام محلّ ذكرها ، وستعرف بعضها (2).

ص: 408


1- كما أجاب السيّد عليّ الحسيني الميلاني عن هذا الإجماع المدّعى ، في مبحث آية المباهلة من كتابه : تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات 1 / 461 - 466 ؛ فراجع!
2- ومن المضحك الدالّ على إرادة القوم إطفاء أنوار آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ما نقله السيوطي [ الدرّ المنثور 2 / 233 ] في تفسير الآية ، عن ابن عساكر [ تاريخ دمشق 39 / 177 ] ، أنّه أخرج عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه علیهماالسلام ، في هذه الآية ، أنّه قال : « فجاء بأبي بكر وولده ، وبعمر وولده ، وبعثمان وولده ، وبعليّ وولده »!! .. إذ لو صح هذا لملأ القوم به الطوامير ، ولما خفي أمره عليهم حتى يظهره الإمام جعفر بن محمد عليهماالسلام ، ولكانت رواية عائشة له أقرب إلى فخرها من ذكر تقبيل النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم إياها ، ومسابقته معها ، ولعبها بالبنات في بيته ، وغناء الجواري لها بحضرته ، ووضع خدها على خده بمنظر الأجانب وهي تنظر إلى لعب الحبشة .. إلى غير ذلك من مفاخرها ! ! وما أدري أي ولد خلفائهم يصلح للمباهلة به ؟ ! أعبد الرحمن بن أبي بكر ، أم عبيد اللّه بن عمر ، الذي قتل نفساً بغير نفس ، وحارب اللّه ورسوله بحرب أمير المؤمنين بصفين ؟ ! أم من تظاهرتا على رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم ، والتي حاربت إمام زمانها ، ولم تقرّ في بيتها ، وشتتت أمر المسلمين ، وقتلت الآلاف العديدة منهم ؟ ! أم غيرهم من أولادهم ، كعبد الرحمن وعاصم ابني عمر بن الخطاب ، اللذين شربا الخمر ، كما ذكره في العقد الفريد ، في أواخر الجزء السادس [283/5] ، تحت عنوان : «من حد الأشراف الخمر وشُهَرَ بها ، وذكر معهما أخاهما في عبيد اللّه ؟ ! من ويا عجباً ما اكتفى هذا الراوي بالكذب حتى نسبه إلى جعفر الصادق وأبيه ، اللذّين قد علم منهما الخلاف ، وتضافرت الأخبار عنهما باختصاص الآية بأهل الكساء!! وليت شعري ألم يستح القوم من ذكر هذه الرواية المضحكة ؟ ! ! منه قدس سره. نقول : وقد استوفى السيد علي الحسيني الميلاني البحث حول سند الحديث الموضوع ، المشار إليه آنفاً في كلام الشيخ المظفر قدس سره - ، في كتابه : الرسائل العشر : الرسالة 7 - رسالة في الأحاديث المقلوبة في مناقب الصحابة / الحديث الثاني - حديث المباهلة / ص 13 - 18 ، وكذا في مبحث آية المباهلة من كتابه : تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات 416/1 - 420 ؛ فراجع !

وكيف كان ، فقد استفاضت الأخبار بنزول الآية بأهل الكساء ، حتّى روى مسلم والترمذي - كلاهما في باب فضائل عليّ علیه السلام - عن سعد بن أبي وقّاص ، قال : « لمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ) دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللّهمّ هؤلاء أهلي » (1).

ونقله السيوطي أيضا عن ابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه (2).

ولا يخفى ما في قوله صلی اللّه علیه و آله : « هؤلاء أهلي » من اختصاص أهل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الأربعة الأطهار ، كما يدلّ عليه أيضا حديث الكساء ، وغيره.

ونقل السيوطي أيضا ، عن البيهقي في « الدلائل » ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتب إلى أهل نجران .. وذكر خبرا طويلا قال في آخره :

« فلمّا أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أقبل مشتملا على الحسن والحسين ،

ص: 409


1- صحيح مسلم 7 / 120 - 121 ، سنن الترمذي 5 / 596 ح 3724.
2- الدرّ المنثور 2 / 232 - 233 ، وانظر : المستدرك على الصحيحين 3 / 163 ح 4719 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 7 / 63.

وفاطمة تمشي خلف ظهره ، للملاعنة ، وله يومئذ عدّة نسوة ... » (1)الحديث

وقد أشار بقوله : « وله عدّة نسوة » إلى أنّ أزواجه لسن من أهل المباهلة ، ولا من محلّ العناية!

.. إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة ، أو المتواترة ، التي تقدّمت الإشارة إلى بعضها في كلام الرازي وغيره.

* * *

ص: 410


1- الدرّ المنثور 2 / 229 - 230 ، وانظر : دلائل النبوّة 5 / 385 - 388.

7 - آية : ( فَتَلَقَّى آدَمُ ... )

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

السابعة : قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ) (2).

روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : سئل رسول اللّه عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، قال : سأله بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ ؛ فتاب عليه (3).

* * *

ص: 411


1- نهج الحقّ : 179.
2- سورة البقرة 2 : 37.
3- انظر : مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 104 - 105 ح 89 ، الدرّ المنثور 1 / 147.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اختلف المفسّرون في هذه الكلمات ..

فقال بعضهم : هو التسبيح والتهليل والتحميد (2).

وقال بعضهم : هي مناسك الحجّ ، فيها غفر ذنوب آدم (3).

وقال بعضهم : هي الخصال العشرة (4) التي سمّيت خصال الفطرة ، وقد أمر آدم بالعمل بها ليتوب اللّه عليه (5).

ولو صحّ ما رواه عن الجمهور - ولا نعرف هذا الجمهور - لدلّ على فضيلة كاملة لعليّ ، ونحن نقول بها ، ونعلم أنّ التوسّل بأصحاب العباء من أعظم الوسائل وأقرب الذرائع ، ولكن لا يدلّ على نصّ الإمامة ، فخرج الرجل من مدّعاه ؛ ويقيم الدلائل على فضائل عليّ من نصّ القرآن! وكلّ هذه الفضائل مسلّمة.

ص: 412


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 3 / 77.
2- تفسير القرطبي 1 / 221 - 222.
3- الدرّ المنثور 1 / 145 ، تفسير الفخر الرازي 3 / 21.
4- كذا ، والصواب لغة : « العشر ».
5- لم نعثر على من سمّى الخصال العشر بخصال الفطرة ، وقد روي في تفسير الآية : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ) سورة البقرة 2 : 124 ، عن ابن عبّاس أنّه قال : هي عشر خصال ، كانت فرضا في شرعه وهي سنّة في شرعنا ، خمس في الرأس وخمس في الجسد ، أمّا التي في الرأس : فالمضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقصّ الشارب والسواك ، وأمّا التي في البدن : فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء. انظر : تفسير الفخر الرازي 42/4 ، فتح القدير 137/1. ويبدو أن الأمر اختلط على الفضل ، إذ لا يخفى عدم ملاءمة هذا المعنى مع الآية الكريمة مورد البحث ، وهي : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ) ؛ فلاحظ !
وأقول :

لا مناسبة بين مناسك الحجّ ونحوها - ممّا هو من قسم الأفعال - وبين الكلمات التي هي من الأقوال ، فكيف يحسن أن تفسّر بها؟!

ولا يهمّنا اختلافهم بعد ما صرّحت أخبارهم بالمدّعى ..

ففي « الدرّ المنثور » ، عن ابن النجّار ، بسنده إلى ابن عبّاس ، قال : سألت رسول اللّه عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه.

قال : سأله بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ ؛ فتاب عليه (1).

ومثله في « ينابيع المودّة » (2).

وفي « منهاج الكرامة » للمصنّف ، عن ابن المغازلي ، بسنده إلى ابن عبّاس ، إلّا أنّه قال : « سئل النبيّ صلی اللّه علیه و آله » بالبناء للمجهول ، كما ذكره المصنّف رحمه اللّه هنا (3).

ونقله ابن الجوزي ، عن الدارقطني ، بلفظ : « سألت النبيّ صلی اللّه علیه و آله » ، قال الدارقطني : حدّثنا أبو ذرّ أحمد بن محمّد بن أبي بكر الواسطي ، حدّثنا محمّد بن علي بن خلف العطّار ، حدّثنا حسين الأشقر ، حدّثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس : « سألت

ص: 413


1- الدرّ المنثور 1 / 147.
2- ينابيع المودّة 1 / 288 ب 24 ح 4.
3- منهاج الكرامة : 124 ، وراجع : مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 104 - 105 ح 89.

النبيّ ... » (1) الحديث.

وزعم ابن الجوزي في ( الأحاديث الموضوعة ) أنّه موضوع ، قال : « تفرّد به عمرو ، عن أبيه أبي المقدام ؛ وتفرّد به حسين ، عنه ..

وعمرو : قال يحيى [ بن معين ] : لا (2) ثقة ، ولا مأمون.

وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الأثبات » (3).

وفيه : إنّ التفرّد لو تمّ لا يقتضي الوضع ، ولا سيّما في فضائل آل الرسول صلی اللّه علیه و آله الّذين يخشى من يروي لهم فضيلة أسنّة الضلال ، وألسنة الضلّال ، بل روايته في فضائلهم بتلك العصور تشهد بوثاقته ، كما سبق في المقدّمة (4).

وأمّا ما حكاه عن يحيى ، فلو اعتبرناه فهو معارض بما حكاه عنه في « ميزان الاعتدال » أنّه قال : لا يكذب في حديثه (5).

على أنّ ضعف الراوي لا يقتضي وضع روايته!

وأمّا ابن حبّان ، فمع عدم اعتبار قوله - كما عرفته في مقدّمة الكتاب (6) - ، لا يقتضي كلامه وضع هذا الحديث بعينه ، مع أنّه قد شهد لعمرو ، أبو داود بالصدق في الحديث ، قال : ليس في حديثه نكارة.

وقال : هو رافضي خبيث ، وكان رجل سوء ، ولكنّه صدوقا في الحديث.

ص: 414


1- الموضوعات 2 / 3.
2- في المصدر : « غير ».
3- الموضوعات 2 / 3.
4- انظر : ج 1 / 7 وما بعدها من هذا الكتاب.
5- ميزان الاعتدال 5 / 302 رقم 6346.
6- انظر : ج 1 / 35 - 36 من هذا الكتاب.

وقال أيضا : رافضي خبيث ، ولكن ليس يشبه حديثه أحاديث الشيعة - يعني أنّه مستقيم [ الحديث ] -.

كما ذكر ذلك كلّه ابن حجر في « تهذيب التهذيب » ، وذكر بعضه في « ميزان الاعتدال » (1).

وبالجملة : إنّ الرجل صدوق كما قاله أبو داود ، فلا يصحّ نسبة الوضع إليه ، وإنّما طعن به القوم لتشيّعه.

ويعضد هذا الحديث ما نقله السيوطي في « الدرّ المنثور » ، عن الديلمي في « مسند الفردوس » ، بسند أخرجه عن عليّ ، قال : سألت النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن قول اللّه تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) (2).

فقال : إنّ اللّه أهبط آدم بالهند ... إلى أن قال : حتّى بعث اللّه إليه جبرئيل ، قال : قل :

اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد ، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي ، فاغفر لي ، إنّك أنت الغفور الرحيم.

اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد ، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي ، فتب عليّ ، إنّك أنت التوّاب الرحيم.

فهذه الكلمات التي تلقّى آدم » (3).

ص: 415


1- تهذيب التهذيب 6 / 122 رقم 5156 ، ميزان الاعتدال 5 / 303 رقم 6346.
2- سورة البقرة 2 : 37.
3- الدرّ المنثور 1 / 147.

وأمّا دلالة هذه الآية مع تفسيرها بهذه الأخبار على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، فأوضح من أن تحتاج إلى بيان ؛ لأنّ توسّل شيخ النبيّين بمحمّد وآله - بتعليم اللّه سبحانه - وهم في آخر الزمان ، والإعراض عن أعاظم المرسلين وهم أقرب إليه زمانا ، لأدلّ دليل على فضلهم على جميع العالمين ، وعلى عصمتهم من كلّ زلل وإن كان مكروها.

فإنّ آدم إنّما عصى بارتكاب المكروه ، فلا يصحّ التوسّل بهم في التوبة عمّا ارتكب إلّا لأنّهم لم يرتكبوا معصية ومكروها ، فلا بدّ أن تنحصر خلافة الرسول بآله ؛ لفضلهم على الأنبياء ، وعصمتهم دون سائر أمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله .

وكيف يكون المعصوم من كلّ زلّة الفاضل حتّى على أعاظم الأنبياء رعيّة ومأموما لسائر الناس ، ولا سيّما من أفنى أكثر عمره بالشرك ، وعبادة الأوثان ، وقضى باقيه بالفرار من الزحف ، والعصيان؟!

* * *

ص: 416

8 - آية : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )

قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - :

قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :

الثامنة : قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) (2).

روى الجمهور ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « انتهت الدعوة إليّ ، وإلى عليّ ، لم يسجد أحدنا لصنم قطّ ، فاتّخذني [ اللّه ] نبيّا ، واتّخذ عليّا وصيّا »(3).

* * *

ص: 417


1- نهج الحقّ : 179.
2- سورة البقرة 2 : 124.
3- مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 239 - 240 ح 322.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذه الرواية ليست في كتب أهل السنّة والجماعة ، ولا أحد من المفسّرين ذكر هذا.

وإن صحّ ، دلّ على أنّ عليّا وصيّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والمراد بالوصاية : ميراث العلم والحكمة ، وليست هي نصّا في الإمامة كما ادّعاه.

* * *

ص: 418


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 3 / 80.
وأقول :

قد نقل المصنّف رحمه اللّه هذه الرواية في « منهاج الكرامة » عن ابن المغازلي ، ولم ينكرها ابن تيميّة ، ولكنّه طالب بصحّتها (1).

وفيه : إنّه لا ريب بصحّتها ؛ لأنّ كلّ من يروي في ذلك الزمان فضيلة لآل محمّد فقد أوقع نفسه في خطري : الموت ، وسقوط الشأن ، ولا موجب له إلّا الوثاقة وحبّ الصدق بتلك الرواية ، كما عرفته في مقدّمة الكتاب (2).

على أنّ سند الحديث ليس بأيدينا فعلا ، ولعلّه صحيح عندهم.

وأمّا دلالة الآية بضميمة الحديث على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ؛ فلأنّ الحديث قد دلّ على استجابة دعوة إبراهيم في بعض ذرّيّته ، وصيرورتهم أئمّة للناس لكونهم أنبياء أو أوصياء ..

ودلّ على أنّ الدعوة انتهت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليّ علیه السلام ، فكانت إمامة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باتّخاذ اللّه له نبيّا ، وإمامة عليّ باتّخاذه وصيّا ، فوصايته لا بدّ أن تكون بإمامته للناس ومن أنواعها.

ولو سلّم أنّ المراد بالوصاية وراثة العلم والحكمة ، فهي من خواصّ الأئمّة ؛ لقوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ

ص: 419


1- منهاج الكرامة : 125 ، وانظر : مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 239 - 240 ح 322 ، منهاج السنّة 7 / 133.
2- انظر ج 1 / 7 وما بعدها من هذا الكتاب.

لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1).

ثمّ إنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « لم يسجد أحدنا لصنم قطّ » إشارة إلى انتفاء مانع النبوّة والإمامة عنهما ، أعني : المعصية والظلم المذكور في تلك الآية بقوله سبحانه : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2).

فيكون معنى كلامه صلی اللّه علیه و آله : انتهت إليّ وإلى عليّ دعوة إبراهيم لذرّيّته ؛ لا نتفاء الظلم عنّا الذي جعله اللّه مانعا عن نيل الإمامة ، فاتّخذني نبيّا وعليّا وصيّا.

وإنّما خصّ السجود للصنم بالذكر دون سائر الظلم والمعصية ؛ لأنّه الفرد الأهمّ في الانتفاء ، وابتلاء عامّة قومه به.

فالمقصود إنّما هو بيان انتفاء المانع المذكور في الآية عنهما ، لا بيان أنّ عدم السجود للصنم علّة تامّة لانتهاء الدعوة إليهما ، حتّى تلزم إمامة كلّ من لم يسجد لصنم ، وإن كان جاهلا عاصيا ..

ولا بيان كون عدم السجود للصنم فضيلة مختصّة بهما في دائم الدهر ، حتّى يقال بمشاركة كلّ من ولد على الإسلام لهما.

ولا بيان أنّ عدم السجود للصنم سبب تامّ للأفضلية ، حتّى يقال : إنّ بعض من تاب عن الكفر أفضل ممّن ولد على الإسلام.

ثمّ إنّ المراد بانتهاء الدعوة إليهما : وصولها إليهما ، لا انقطاعها عندهما ؛ لتعديته ب « إلى » ، فلا ينفي إمامة الحسن والحسين ، والتسعة من بعدهما ، وقد ظهر بذلك بطلان ما لفّقه ابن تيميّة في المقام (3) ، ويظهر منه

ص: 420


1- سورة يونس 10 : 35.
2- سورة البقرة 2 : 124.
3- انظر : منهاج السنّة 7 / 133 - 135.

تجويز نبوّة من كان كافرا ، بل وقوعها ، فإنّه لمّا أنكر كون عدم السجود للصنم موجبا للفضل على من كان كافرا ثمّ تاب ، استدلّ عليه بأنّ لوطا آمن لإبراهيم ثمّ بعثه اللّه نبيّا ، وأنّ شعيبا قال : ( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْها ) (1) ، وأنّ اللّه سبحانه قال : ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) (2).

وإذا كان هؤلاء أنبياء ، فمن المعلوم أنّ الأنبياء أفضل من غيرهم ، فلا يكون عدم السجود للأصنام موجبا للأفضليّة (3).

وفيه : إنّ إيمان لوط لإبراهيم لا يستدعي سبق الكفر منه - وحاشاه - ؛ لاحتمال ولادته بعد نبوّة إبراهيم ، أو أنّه كان متديّنا بشريعة سابقة ، وآمن به في أوّل نبوّته.

وأمّا إطلاق العود في الآيتين الأخيرتين ، فمن باب التغليب بلحاظ أتباعهم.

ثمّ إنّ مقتضى استدلال ابن تيميّة بالآية الأخيرة ؛ كون الرسل كلّهم أو أكثرهم - بزعمه - كانوا كفّارا ، وهو خلاف ضرورة الإسلام والمسلمين!

وما الداعي له إلى هذا الضلال إلّا إنكار فضل أمير المؤمنين على أقوام أفنوا أكثر أعمارهم في الكفر ، ولمزيد نصبه أنكر عدم سجود أخ النبيّ صلی اللّه علیه و آله للأصنام قبل إسلامه (4) ، خلافا لإجماع المسلمين! حتّى إنّ

ص: 421


1- سورة الأعراف 7 : 89.
2- سورة إبراهيم 14 : 13.
3- انظر : منهاج السنّة 7 / 133 - 135.
4- انظر : منهاج السنّة 7 / 134.

قومه السنّيّين إذا ذكروا عليّا علیه السلام قالوا : « كرّم اللّه وجهه » إشارة إلى عدم سجوده للأصنام أصلا.

ولم يزل يتمحّل لإنكار فضل وليّ المؤمنين تلك التمحّلات ، ويتقلّب بهاتيك الجهالات ، فاللّه حسيبه ، والنبيّ شاهده ، وعليّ خصمه.

* * *

ص: 422

9 - آية : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا )

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

التاسعة : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) (2).

روى الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت في أمير المؤمنين عليّ علیه السلام ؛ قال : الودّ : المحبّة في قلوب المؤمنين (3).

* * *

ص: 423


1- نهج الحقّ : 180.
2- سورة مريم 19 : 96.
3- المعجم الكبير 12 / 96 ح 12655 ، المعجم الأوسط 6 / 10 ح 5516 ، تفسير الحبري : 289 ح 43 ، تفسير الثعلبي 6 / 233 ، ما نزل من القرآن في عليّ - لأبي نعيم - : 129 و 132 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - لابن المغازلي - : 269 - 270 ح 374 ، شواهد التنزيل 1 / 359 - 367 ح 489 - 509 ، الطيوريات : 398 - 399 ح 702 ، الكشّاف 2 / 527 ، مناقب الإمام عليّ علیه السلام - للخوارزمي - : 278 ح 268 ، زاد المسير 5 / 197 ، تذكرة الخواصّ : 26 ، كفاية الطالب : 249 ، تفسير القرطبي 11 / 107 ، ذخائر العقبى : 159 ، الرياض النضرة 3 / 179 ، فرائد السمطين 1 / 79 ح 49 ، التسهيل لعلوم التنزيل 3 / 10 ، الدرّ المنثور 5 / 544 ، جواهر العقدين : 327.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ليست هذه الرواية في تفاسير أهل السنّة (2) ، وإن صحّت دلّت على وجوب محبّته ، وهو واجب بالاتّفاق ، ولم يثبت به النصّ على الإمامة وهو المدّعى.

* * *

ص: 424


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 3 / 87.
2- راجع الهامش رقم 3 من الصفحة السابقة.
وأقول :

قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج الطبراني وابن مردويه ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) ، قال : محبّة في قلوب المؤمنين (1).

وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن مردويه والديلمي ، عن البراء ، قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ : قل : اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي عندك ودّا ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة.

فأنزل اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) ، قال : نزلت في عليّ » (2).

وروي مثل الأخير في « الكشّاف » (3).

ونقله سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواصّ » عن « تفسير الثعلبي » (4).

وكذا نقله عنه المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » مع الحديث الأوّل عن أبي نعيم (5).

ص: 425


1- الدرّ المنثور 5 / 544 ، وانظر : المعجم الكبير 12 / 96 ح 12655 ، المعجم الأوسط 6 / 10 ح 5516.
2- الدرّ المنثور 5 / 544.
3- تفسير الكشّاف 2 / 527.
4- تذكرة الخواصّ : 26.
5- منهاج الكرامة : 125 ، وانظر : ما نزل من القرآن في عليّ : 129 و 132.

وقال في « الصواعق » ، في المقصد الثاني من المقاصد المتعلّقة بالآية الرابعة عشرة من الآيات النازلة في أهل البيت علیهم السلام : « أخرج الحافظ السلفي ، عن محمّد بن الحنفية ، أنّه قال في تفسير هذه الآية : لا يبقى مؤمن إلّا وفي قلبه ودّ لعليّ وأهل بيته » (1).

والظاهر أنّ ما رواه في « الكشّاف » مذكور في « تفسير الرازي » ، كما نقله السيّد السعيد عنه (2) ، فإنّ عمدة ما ذكره الرازي هنا مأخوذ من « الكشّاف » ، لكنّ نسخة « تفسير الرازي » التي رأيتها خالية عن تلك الرواية ، فلا يبعد أنّ فيها سقطا.

وأمّا دلالة الآية على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام دون غيره ، فمحتاجة إلى بيان معناها أوّلا ..

قال في « الكشّاف » : « المعنى : سيحدث لهم في القلوب مودّة ، ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ، ولا تعرّض للأسباب التي توجب الودّ ويكتسب بها الناس مودّات القلوب ، من قرابة ، أو صداقة ، أو اصطناع بمبرّة ، أو غير ذلك .. وإنّما هو اختراع منه ابتداء ، اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصّة ، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب [ والهيبة ] إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم » (3).

ومثله في « تفسير الرازي » (4).

ولا يخفى أنّ هذه العناية الإلهية ، والبشارة الربّانية التي استحقّت

ص: 426


1- الصواعق المحرقة : 261.
2- انظر : إحقاق الحقّ 3 / 87.
3- تفسير الكشّاف 2 / 527.
4- تفسير الفخر الرازي 21 / 256.

الذكر في الكتاب المجيد ، ناشئة من أهليّة من به العناية ، وامتيازه بالقرب إلى اللّه تعالى ، وارتقائه على كلّ المؤمنين بالفضل والطاعة ، وهي مختصّة بأمير المؤمنين ؛ ولذا نزلت الآية به دون غيره من الصحابة.

فيكون أفضل الأمّة وإمامها بشهادة تعظيم اللّه سبحانه له ، حيث عبّر عنه : ب ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) ، كناية عن أنّه بمنزلتهم جميعا في الإيمان والعمل الصالح ، لكونه إمامهم ، وسبب إيمانهم وعملهم الصالحات ؛ ولذا قال رسول اللّه في حقّه يوم الخندق : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » (1) .. وقال : « ضربة عليّ تعدل عبادة الثقلين » (2).

ثمّ إنّه بمقتضى رواية « الصواعق » (3) تكون العناية ثابتة أيضا لأبناء أمير المؤمنين الطاهرين ، فتثبت لهم الإمامة أيضا.

وأمّا ما ذكر الفضل من دلالة الآية على وجوب محبّته علیه السلام ، فخلاف الظاهر ؛ لأنّ المراد بالجعل فيها على الأظهر هو التكوين لا التكليف كما عرفته من كلام « الكشّاف » (4).

ولو سلّم ، فهو أيضا دالّ على الإمامة ؛ لأنّ إيجاب المودّة على الإطلاق مستلزم لوجوب الطاعة مطلقا ، المستلزم للإمامة وللعصمة التي هي شرط الإمامة ، فإذا فقد هذا الشرط عن غيره بالإجماع والضرورة تعيّنت إمامته علیه السلام .

ص: 427


1- شرح نهج البلاغة 13 / 285 ، حياة الحيوان - للدميري - 1 / 274 ، ينابيع المودّة 1 / 281 ح 2 وص 283 - 284 ضمن ح 7.
2- المواقف : 412 ، شرح المقاصد 5 / 298 ، شرح المواقف 8 / 371 ، السيرة الحلبية 2 / 642 - 643.
3- الصواعق المحرقة : 261.
4- الكشّاف 2 / 527.

10 - آية : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ )

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

العاشرة : قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (2).

نقل الجمهور ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا المنذر ، وعليّ الهادي ، وبك يا عليّ يهتدي المهتدون [ من بعدي ] » (3).

* * *

ص: 428


1- نهج الحقّ : 180.
2- سورة الرعد 13 : 7.
3- انظر : مسند أحمد 1 / 126 ، زوائد عبد اللّه بن أحمد بن حنبل على المسند : 355 ح 148 ، المعجم الأوسط 2 / 94 ح 1383 ، المعجم الصغير 1 / 261 ، تفسير الحبري : 281 - 283 ح 38 و 39 ، تفسير الطبري 7 / 344 ح 20161 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 140 ح 4646 ، تفسير الثعلبي 5 / 272 ، ما نزل من القرآن في عليّ - لأبي نعيم - : 117 ، تاريخ بغداد 12 / 372 ، شواهد التنزيل 1 / 293 - 303 ح 398 - 416 ، فردوس الأخبار 1 / 42 ح 103 ، تاريخ دمشق 42 / 359 - 360 ، زاد المسير 4 / 236 ، تفسير الفخر الرازي 19 / 20 ، كفاية الطالب : 232 - 233 ، فرائد السمطين 1 / 148 ح 111 و 112 ، تفسير ابن كثير 2 / 483 ، مجمع الزوائد 7 / 41 ، الدرّ المنثور 4 / 608.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ليس هذا في تفاسير السنّة ، ولو صحّ دلّ على أنّ عليّا هادي ، وهو مسلّم ، وكذا أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هداة ؛ لقوله صلی اللّه علیه و آله : « أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتهم » (2) ، ولا دلالة فيه على النصّ.

* * *

ص: 429


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 3 / 93.
2- لسان الميزان 2 / 118 رقم 448.
وأقول :

نقل الحديث المذكور بعينه في « كنز العمّال » بفضائل عليّ علیه السلام (1) ، عن الديلمي في كتاب « الفردوس » (2).

ونقله عنه أيضا المصنّف رحمه اللّه في « منهاج الكرامة » (3).

وذكر السيوطي في « الدرّ المنثور » أخبارا أربعة في نزولها بعليّ علیه السلام (4) :

الأوّل : ما أخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في « المعرفة » ، والديلمي ، وابن عساكر ، وابن النجّار ، عن ابن عبّاس ، قال : « لمّا نزلت : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ، وضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يده على صدره فقال : « أنا المنذر » ، وأومأ بيده إلى عليّ علیه السلام فقال : « أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدي المهتدون من بعدي » (5).

ولعلّه هو حديث الديلمي السابق.

الثاني : ما أخرجه ابن مردويه ، عن أبي برزة الأسلمي : « سمعت رسول اللّه يقول : « إنّما أنت منذر » ووضع يده على صدره ، ثمّ وضعها

ص: 430


1- ص 157 من الجزء السادس [ 11 / 620 ح 33012 ]. منه قدس سره .
2- فردوس الأخبار 1 / 42 ح 103.
3- منهاج الكرامة : 126.
4- (4) وقد توسّع السيّد عليّ الحسيني الميلاني بدراسة تفسير الآية الكريمة وما ورد في ذلك من أحاديث ، سندا ودلالة ، في موسوعته : نفحات الأزهار 20 / 297 - 368 ؛ فراجع!
5- انظر : معرفة الصحابة 1 / 87 - 88 ح 344 ، تاريخ دمشق 42 / 359.

على صدر عليّ وهو يقول : ( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (1).

الثالث : ما أخرجه ابن مردويه ، والضياء في « المختارة » ، عن ابن عبّاس ، قال : « رسول اللّه المنذر ، وعليّ بن أبي طالب الهادي » (2).

الرابع : ما أخرجه عبد اللّه بن أحمد في « زوائد المسند » ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في « الأوسط » ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، في قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ، قال : « رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المنذر ، وأنا الهادي » (3).

قال السيوطي : وفي لفظ : « والهادي رجل من بني هاشم » ، يعني نفسه (4).

وقد ذكر الحاكم هذا الحديث في « المستدرك » (5) ، وقال : « صحيح الإسناد » ؛ وما تعقّبه الذهبي إلّا ببهت النصب وتحكّم الضلالة ، فقال : « بل كذب ، قبّح اللّه واضعه ».

وقد نقل جماعة هذا الحديث باللفظ الثاني عن الثعلبي مع أوّل الأحاديث التي ذكرها السيوطي ، منهم صاحب « ينابيع المودّة » ، وهو أيضا نقل الحديث الأخير باللفظ الثاني عن الحمويني ، قال : « أخرجه بسنده عن أبي هريرة » (6).

ونقل أيضا خبرا آخر عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني ، بسنده عن

ص: 431


1- الدرّ المنثور 4 / 608.
2- الدرّ المنثور 4 / 608.
3- الدرّ المنثور 4 / 608.
4- الدرّ المنثور 4 / 608.
5- ص 129 من الجزء الثالث [ 3 / 140 ح 4646 ]. منه قدس سره .
6- ينابيع المودة 1 / 296 ح 5 و 6.

بريدة الأسلمي ، قال : دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بماء للطهور ، فأخذ بيد عليّ - بعد ما تطهّر - فألصق يده بصدره ، فقال : « أنا المنذر » ، ثمّ ردّ يده إلى صدر عليّ ، فقال : أنت ( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) .

ثمّ قال له : « أنت منادي (1) الأنام ، وغاية الهدى ، وأمير الغرّ المحجّلين ، أشهد لك إنّك كذلك » (2).

ثمّ قال في « الينابيع » : « المالكي أيضا أخرجه عن ابن عبّاس » (3).

ويعني بالمالكي : علي بن أحمد ، صاحب « الفصول المهمّة » ، ونقل أيضا أخبارا كثيرة من هذا النحو (4).

ونقل الرازي في تفسيره الخبر الأوّل من أخبار السيوطي ، وذكر في الآية أقوالا ثلاثة ، ثالثها ما دلّ عليه هذا الخبر (5).

ولا ريب أنّه المتّبع ؛ لأنّه تفسير بالرواية عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والقولان الأوّلان تفسير بالرأي ، ولو فرض ورود رواية بهما فلا تكون حجّة علينا ، ولا تعارض تلك الروايات ؛ لاتّفاق الفريقين عليها ، فقول الفضل : « ليس هذا في تفاسير السنّة » كما ترى!

وقد ذكر السيّد السعيد رحمه اللّه ، أنّ ابن عقدة صنّف كتابا في هذه الآية وروايات نزولها في شأن أمير المؤمنين علیه السلام (6).

ص: 432


1- في شواهد التنزيل : منارة.
2- ينابيع المودّة 1 / 296 - 297 ح 7 ، وانظر : شواهد التنزيل 1 / 301 - 302 ح 414.
3- ينابيع المودّة 1 / 297 ذ ح 7 ، وانظر : الفصول المهمّة : 123.
4- ينابيع المودّة 1 / 296 - 297 ح 5 - 10.
5- تفسير الفخر الرازي 19 / 20.
6- إحقاق الحقّ 3 / 93.

وأمّا دلالتها على إمامته دون غيره فأوضح من أن تحتاج إلى بيان ؛ لأنّ اللّه تبارك وتعالى جعله في قرن النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّ له الإنذار ولعليّ الهداية ، أي إراءة الطريق ، وعمّم هدايته لكلّ قوم ، وذلك من آثار الإمامة ، لا سيّما وقد قال له رسول اللّه : « وبك يهتدي المهتدون من بعدي » (1)

فإنّه بمقتضى تقديم الجار والمجرور دالّ على حصر الهداية به بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، مع أنّه قد أثنى عليه في رواية الحسكاني بما يناسب الإمامة (2).

وممّا بيّنّا يعلم ما في قول الفضل : « دلّ على أنّ عليّا هاد » ، مريدا به عدم دلالة الآية والرواية على اختصاص الهداية به.

وأمّا ما رواه من حديث « أصحابي كالنجوم » ، فهو باطل متنا وسندا (3) ..

أمّا الأوّل : فلأنّ عمومه لكلّ أصحابه مخالف للضرورة ؛ لأنّ أكثرهم من الجاهلين ..

وكثيرا منهم من المرتدّين بعده كما دلّت عليه أخبار الحوض ، بل بعضها دالّ على ارتداد الكلّ إلّا مثل همل النعم (4) ..

ص: 433


1- كما في رواية ابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم والديلمي وابن عساكر وابن النجّار ، عن ابن عبّاس.
2- تقدّمت آنفا في الصفحة 431 - 432.
3- (3) وانظر : رسالة في حديث « أصحابي كالنجوم » ، وهي الرسالة الأولى من كتاب « الرسائل العشر » ، للسيّد عليّ الحسيني الميلاني ، فقد توسّع في بحثه سندا ودلالة ، على ضوء كلمات علماء وحفّاظ أهل السنّة وآرائهم ؛ فراجع!
4- تقدّم تخريج ذلك مفصّلا في ج 2 / 27 - 28 ه 1 ، وانظر : الصفحة 212 - 313 ه 1 من هذا الجزء.

كما أنّ بعضهم من المنافقين في وقته ، قال تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (1) ..

وبعضهم من القاسطين والناكثين والمارقين (2) ..

وبعضهم من الزنّائين ، والفاسقين ، كالمغيرة والوليد وأشباههما (3).

فكيف يقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « بأيّهم اقتديتم اهتديتم »؟! وهو يقتضي العصمة ، ولا أقلّ من العدالة ، ويقتضي العلم والإحاطة بما جاء به الرسول وأكثرهم من الجاهلين!

فلا بدّ أن يكون المراد بالأصحاب في الحديث - على فرض صحّته - ثقل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسفينة النجاة ، وهم آله كما فسّر بهم علیهم السلام (4).

وأمّا الثاني : فلما نقله السيّد السعيد رحمه اللّه عن شارح « الشفاء » للقاضي عياض ، أنّه قال : « اعلم أنّ حديث : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ) أخرجه الدارقطني في ( الفضائل ) وابن عبد البرّ في ( العلم ) ، من طريق من حديث جابر ، وهذا إسناد لا يقوم به حجّة ؛ لأنّ الحارث بن

ص: 434


1- سورة التوبة 9 : 101.
2- سيأتي الكلام عنهم.
3- استفاضت الأخبار بزنا المغيرة في الجاهلية والإسلام حتّى ضرب بزناه المثل ، وقصّته مع أمّ جميل أثناء ولايته على البصرة مشهورة ؛ راجع : فتوح البلدان : 344 ، تاريخ الطبري 2 / 492 - 494 ، الأغاني 16 / 103 - 110 ، الكامل في التاريخ 2 / 384 - 385 ، البداية والنهاية 7 / 66 - 67. أما الوليد ، فقد نزل فيه قوله تعالى : ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) سورة الحجرات 49: 6؛ انظر: تفسير الطبري 383/11 - 384 ح 31686 - 31692 ، تفسير البغوي 191/4 ، الكشاف 559/3 ، تفسير الفخر الرازي 28 / 120 ، تفسير ابن كثير 210/4
4- انظر : معاني الأخبار : 156 ح 1.

غضين : مجهول.

ورواه عبد بن حميد في مسنده ، من رواية عبد الرحيم بن زيد ، عن أبيه ، عن [ ابن ] المسيّب ، عن [ ابن ] عمر ؛ قال البزّار : منكر لا يصحّ.

ورواه ابن عديّ في ( الكامل ) ، من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي ، عن نافع عن [ ابن ] عمر بلفظ : ( بأيّهم أخذتم بقوله ) بدل ( اقتديتم ) ، وإسناده ضعيف لأجل حمزة ؛ لأنّه متّهم بالكذب.

ورواه البيهقي في ( المدخل ) ، من حديث ابن عبّاس ، وقال : متنه مشهور ، وأسانيده ضعيفة لم يثبت منها في هذا الباب إسناد.

وقال ابن حزم : مكذوب موضوع باطل ».

انتهى كلام شارح « الشفاء » (1).

* * *

ص: 435


1- شرح الشفاء 2 / 91 - 92 ، ولم يرد فيه قول ابن حزم ، وانظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 110 - 111 ، الكامل في الضعفاء 2 / 377 رقم 502. وراجع : إحقاق الحق 95/3 - 99.

ص: 436

فهرس المحتويات

مباحث النبوة

نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله

المسألة الرابعة : في النّبوّة... 7

المبحث الأوّل : في نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ... 7

ردّ الفضل بن روزبهان:... 10

ردّ الشيخ المظفّر... 13

عصمة الأنبياء

المبحث الثاني : في أنّ الأنبياء معصومون... 17

ردّ الفضل بن روزبهان:... 20

ردّ الشيخ المظفّر... 28

كلام العلامة الحلي في نسبتهم السهو إلى النبي 6 في الصلاة... 50

ردّ الفضل بن روزبهان :... 51

ردّ الشيخ المظفّر... 53

كلام العلامة الحلي في نسبتهم كثيراً من النقص إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 64

ردّ الفضل بن روزبهان:... 66

ردّ الشيخ المظفّر... 68

كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من تجويز الغناء إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 74

ردّ الفضل بن روزبهان:... 76

ردّ الشيخ المظفّر... 78

ص: 437

كلام العلامة الحلي في ما قالوه موسى علیه السلام فقأ عين ملك الموت... 88

ردّ الفضل بن روزبهان :... 89

ردّ الشيخ المظفّر... 90

كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من الكذب إلى إبراهيم علیه السلام ... 97

ردّ الفضل بن روزبهان :... 98

ردّ الشيخ المظفّر... 99

كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من الشك إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 103

ردّ الفضل بن روزبهان :... 104

ردّ الشيخ المظفّر... 106

كلام العلامة الحلي في ما نسبوه من استماع اللّهو إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 111

ردّ الفضل بن روزبهان :... 112

ردّ الشيخ المظفّر... 113

كلام العلامة الحلي في نسبتهم السهو والنسيان إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 116

ردّ الفضل بن روزبهان :... 118

ردّ الشيخ المظفّر... 119

كلام العلامة الحلي في أكل النبي صلی اللّه علیه و آله مما لم يذكر اسم اللّه عليه... 128

ردّ الفضل بن روزبهان :... 129

ردّ الشيخ المظفّر... 130

كلام العلامة الحي في نسبتهم البول قائماً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ... 131

ردّ الفضل بن روزبهان :... 132

ردّ الشيخ المظفّر... 133

من الأحاديث الموضوعة

في توهين الأنبياء والخالق

1 - حديث بدء الوحي... 137

2 - حديث تأبير النخل... 142

ص: 438

3 - حديث إسقاط النبيّ صلی اللّه علیه و آله آيات من القرآن ... 144

4 - حديث نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن صلاة الصبح ... 145

5 - حديث ترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن صلاة العصر... 146

6 - حديث إذا لعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أحدا فهو له زكاة... 148

7 - حديث نفي النبيّ صلی اللّه علیه و آله عذاب القبر... 152

8 - حديث حبّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لعائشة... 153

9 - حديث فرار الحجر من النبيّ موسى علیه السلام ... 159

10 - حديث طواف النبيّ سليمان علیه السلام بمئة امرأة في ليلة واحدة... 161

11 - حديث حرق نبيّ قرية للنمل قرية للنمل... 162

12 - حديث وضع الربّ رجله في جهنّم... 163

13 - حديث خلق اللّه آدم على صورته... 166

لزوم المحالات

من إنكار عصمة الأنبياء علیه السلام

منها : جواز الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها... 171

ردّ الفضل بن روزبهان :... 172

ردّ الشيخ المظفّر... 173

منها : وجوب متابعة العاصي وأنتفاء فائدة البعثة... 175

ردّ الفضل بن روزبهان :... 176

ردّ الشيخ المظفّر... 177

منها : إنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبري منه... 179

ردّ الفضل بن روزبهان :... 180

ردّ الشيخ المظفّر... 181

منها : سقوط محله ورتبته عند العوامّ... 182

ردّ الفضل بن روزبهان :... 184

ردّ الشيخ المظفّر... 185

ص: 439

نزاهة النبيّ

عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات

المبحث الثالث : وجوب كون النبي منزَّهاً عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات 189

قول الإمامية والأشاعرة... 189

ردّ الفضل بن روزبهان :... 191

ردّ الشيخ المظفّر... 192

قول المعتزلة... 196

ردّ الفضل بن روزبهان :... 198

ردّ الشيخ المظفّر... 199

مباحث الإمامة

المسألة الخامسة : في الإمامة... 205

وجوب عصمة الإمام

المبحث الأوّل : وجوب عصمة الإمام... 205

ردّ الفضل بن روزبهان :... 208

ردّ الشيخ المظفّر... 211

الإمام أفضل من رعيّته

المبحث الثاني : في أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته... 233

ردّ الفضل بن روزبهان :... 235

ردّ الشيخ المظفّر... 237

طريق تعيين الإمام

المبحث الثالث : في طريق تعيين الإمام... 241

ص: 440

ردّ الفضل بن روزبهان :... 244

ردّ الشيخ المظفّر... 248

تعيين إمامة عليّ علیه السلام بدليل العقل

المبحث الرابع : في تعيين الإمام... 271

ردّ الفضل بن روزبهان :... 273

ردّ الشيخ المظفّر... 277

تعيين إمامة عليّ علیه السلام بالقرآن... 297

1 - آية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ... )... 297

ردّ الفضل بن روزبهان :... 299

ردّ الشيخ المظفّر... 300

2 - آية : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ... )... 314

ردّ الفضل بن روزبهان :... 315

ردّ الشيخ المظفّر... 317

3 - آية التطهير... 351

ردّ الفضل بن روزبهان :... 354

ردّ الشيخ المظفّر... 356

4 - آية المودّة في القربى... 381

ردّ الفضل بن روزبهان :... 382

ردّ الشيخ المظفّر... 383

5 - آية : ( مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ... )... 393

ردّ الفضل بن روزبهان :... 395

ردّ الشيخ المظفّر... 396

6 - آية المباهلة... 399

ردّ الفضل بن روزبهان :... 401

ص: 441

ردّ الشيخ المظفّر... 402

7 - آية : ( فَتَلَقَّى آدَمُ ... )... 411

ردّ الفضل بن روزبهان :... 412

ردّ الشيخ المظفّر... 413

8 - آية : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً )... 417

ردّ الفضل بن روزبهان :... 418

ردّ الشيخ المظفّر... 419

9 - آية : ( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا )... 423

ردّ الفضل بن روزبهان :... 424

ردّ الشيخ المظفّر... 425

10 - آية : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ )... 428

ردّ الفضل بن روزبهان :... 429

ردّ الشيخ المظفّر... 430

فهرس المحتويات... 437

* * *

ص: 442

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.