دلائل الصدق لنهج الحق المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر

المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم

الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1423 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-319-356-x

ص: 1

اشارة

دلائل الصدق لنهج الحق

تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر

(1301 - 1375 ه)

الجزء الثالث

تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2

تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34

البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb

www.al-albayt.com

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

إنه تعالى لا يفعل القبيح

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1)

المطلب الثالث : في أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب

ذهبت الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة إلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، بل جميع أفعاله حكمة وصواب ، ليس فيها ظلم ولا جور ولا عدوان ولا كذب ولا فاحشة ؛ لأنّ اللّه تعالى غنيّ عن القبيح ، عالم بقبح القبائح ؛ لأنّه عالم بكلّ المعلومات ، وعالم بغناه عنه ، وكلّ من كان كذلك فإنّه يستحيل عليه صدور القبيح عنه ، والضرورة قاضية بذلك ، ومن فعل القبيح مع الأوصاف الثلاثة استحقّ الذمّ واللوم.

وأيضا : اللّه تعالى قادر ، والقادر إنّما يفعل بواسطة الداعي ، والداعي إمّا داعي الحاجة ، أو داعي الجهل ، أو داعي الحكمة.

أمّا داعي الحاجة ، فقد يكون العالم بقبح القبيح محتاجا إليه ، فيصدر عنه [ دفعا لحاجته ].

وأمّا داعي الجهل ، فبأن يكون القادر عليه جاهلا بقبحه ، فيصحّ صدوره عنه.

ص: 5


1- نهج الحقّ : 85.

وأمّا داعي الحكمة ، فبأن يكون الفعل حسنا ، فيفعله لدعوة الداعي إليه.

والتقدير أنّ الفعل قبيح ، فانتفت هذه الدواعي فيستحيل القبح منه تعالى (1).

وذهبت الأشاعرة كافّة إلى أنّ اللّه تعالى قد فعل القبائح بأسرها ، من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ، ورضي بها وأحبّها (2).

* * *

ص: 6


1- أوائل المقالات : 56 - 58 ، تصحيح الاعتقاد : 45 و 49 - 50 ، شرح جمل العلم والعمل : 83 و 85 - 88 ، المنقذ من التقليد 1 / 179 ، تجريد الاعتقاد : 198 و 199 ، شرح الأصول الخمسة : 301 - 302 ، الملل والنحل 1 / 39 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 340.
2- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 48 ، تمهيد الأوائل : 317 - 320 و 366 - 367 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 168 ، الملل والنحل 1 / 83 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 343 - 345 ، المسائل الخمسون : 60 - 61 ، شرح المقاصد 4 / 223 و 238 ، شرح المواقف 8 / 173 - 174.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق أنّ الأمّة أجمعت على أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب.

فالأشاعرة من جهة أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه (2).

وأمّا المعتزلة فمن جهة أنّ ما هو قبيح منه يتركه ، وما يجب عليه يفعله (3).

وهذا الخلاف فرع قاعدة التحسين والتقبيح ، إذ لا حاكم بقبح القبيح منه ، ووجوب الواجب عليه ، إلّا العقل.

فمن جعله حاكما بالحسن والقبح قال بقبح بعض الأفعال منه ووجوب بعضها عليه.

ونحن قد أبطلنا حكمه وبيّنّا أنّ اللّه تعالى هو الحاكم ، فيحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ، لا وجوب عليه ، ولا استقباح منه (4) .. هذا مذهب الأشاعرة.

وما نسبه هذا الرجل المفتري إليهم أخذه من قولهم : « إنّ اللّه خالق

ص: 7


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 383.
2- المسائل الخمسون - للفخر الرازي - : 61 و 62 ، المواقف : 328 ، شرح المواقف 8 / 195.
3- المحيط بالتكليف : 229 - 230 ، شرح الأصول الخمسة : 301 ، المواقف : 328 ، شرح المواقف 8 / 195.
4- راجع ج 2 / 352 من هذا الكتاب.

كلّ شيء » (1) .. فيلزم أن يكون خالقا للقبائح ..

ولم يعلموا (2) أنّ خلق القبيح ليس فعله ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، بل بالنسبة إلى المحلّ المباشر للفعل كما ذكرناه غير مرّة ، وسنذكر تحقيقه في مسألة خلق الأعمال.

* * *

ص: 8


1- تمهيد الأوائل : 341 وما بعدها ، الاعتقاد - للبيهقي - : 73 ، المواقف : 320 ، شرح المقاصد 4 / 238 - 239 ، شرح المواقف 8 / 173 ، وانظر ج 2 / 357 من هذا الكتاب.
2- يعني بهم الشيعة الإمامية والمعتزلة.

وأقول :

اشارة

لا يخفى أنّ الأشاعرة لمّا زعموا أنّ اللّه تعالى خلق الأعمال جميعها ، حسنها وقبيحها ، لزمهم ما ذكره المصنّف من القول : بأنّ اللّه تعالى فاعل للقبائح بأسرها ، وأجاب الفضل عنه بجوابين :

الأوّل : إنّه لا يقبح من اللّه فعل القبيح ، إذ لا قبيح منه ولا استقباح بالنسبة إليه ؛ لأنّ قبح الفعل مبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ، والأشاعرة لا يقولون بها.

الثاني : إنّ خلق القبيح غير فعله.

وهذان الجوابان - مع تضمّن أوّلهما الإقرار بفعل اللّه سبحانه للقبيح - باطلان.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من حكم العقل بالحسن والقبح العقليّين في الأفعال ، وقد أقرّ الخصم به في تحقيقه السابق (1).

وأمّا الثاني : فلأنّ كون الخلق غير الفعل لا يتصوّر أن يكون مبنيا إلّا على اعتبار أن يكون الفعل قائما في الفاعل وحالّا في ذاته ، بخلاف الخلق ، وهو باطل ؛ لأنّ القتل فعل للقاتل وهو حالّ بالمقتول.

ولو سلّمت المغايرة ، فخلق القبيح صفة نقص في الخالق ، وهو من القبح العقلي المسلّم عندهم على ما أسلفه الخصم.

فإن قلت : الخلق من أفعاله تعالى لا صفاته.

ص: 9


1- راجع ج 2 / 411 فما بعدها من هذا الكتاب.

قلت : المراد بالصفة مطلق ما يفيد الكمال أو النقص لمن ثبت له واتّصف به ، كما يشهد به إرجاع الفضل لبعض الأمثلة التي ألزمهم بها المصنّف إلى صفة النقص أو الكمال ، وبهذا الاعتبار يوصف اللّه تعالى بالحكمة والغنى والرزق والإحياء ، ونحوها.

ولو سلّم أنّ خلق القبيح ليس صفة نقص في الخالق ، فلا شكّ أنّه مستلزم للنقص في صفاته ؛ لأنّه يعود إلى النقص في القدرة أو العلم أو الحكمة.

ومن المضحك تعليله لكون الخلق غير الفعل ، بأنّه لا قبح بالنسبة إليه ، ضرروة أنّه لا يقتضي المغايرة بينهما ، وإنّما يقتضي أن لا يكون صدور القبيح منه قبيحا ، سواء سمّى صدوره خلقا أم فعلا.

وأمّا قوله : « ولا واجب عليه » ..

فقد عرفت أنّه مناف لمقتضى الحكمة والعدل ، ومخالف لنصّ الكتاب ، حيث قال تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (1) ..

( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (2) .. و ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (3).

كما عرفت بطلان نسبة القبح إلى المحلّ الذي لا أثر له أصلا ، ونفيه عن المؤثّر الموجد ، فإنّه خلاف الضرورة.

* * *

ص: 10


1- سورة الأنعام 6 : 54.
2- سورة النحل 16 : 9.
3- سورة الليل 92 : 12.

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

فلزمهم من ذلك محالات ..

منها : امتناع الجزم بصدق الأنبياء ؛ لأنّ مسيلمة الكذّاب لا فعل له ، بل القبيح الذي صدر عنه من اللّه تعالى عندهم ، فجاز أن يكون جميع الأنبياء كذلك.

وإنّما نعلم صدقهم لو علمنا أنّه تعالى لا يصدر عنه القبيح ، فلا نعلم حينئذ نبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله ، ولا نبوّة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ألبتّة.

فأيّ عاقل يرضى لنفسه أن يقلّد من لم يجزم بنبيّ من الأنبياء [ ألبتّة ] ، وأنّه لا فرق عنده بين نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله وبين نبوّة مسيلمة الكذّاب؟!

فليحذر العاقل من اتّباع أهل الأهواء والانقياد إلى طاعتهم ، ليبلّغهم مرادهم ويربح هو الخسران بالخلود بالعذاب (2) ، ولا ينفعه عذره غدا يوم الحساب.

* * *

ص: 11


1- نهج الحقّ : 85 - 86.
2- في المصدر : في النيران.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد مرّ مرارا أنّ صدق الأنبياء مجزوم به جزما مأخوذا من المعجزة وعدم جريان عادة اللّه تعالى على إجراء المعجزة على يد الكذّابين ، وأنّه يجري مجرى المحال العادي (2).

فنحن نجزم أنّ مسيلمة كذّاب ؛ لعدم المعجزة ، ونجزم أنّ اللّه تعالى لم يظهر المعجزة على يد الكاذب ، ويفيدنا هذا الجزم العلم العادي.

فالفرق بينه وبين الأنبياء ظاهر مستند بالعلم العادي ، لا بالقبح العقلي الذي يدّعيه.

وما ذكره من الطامّات والتنفير فهو الجري على عادته في المزخرفات والترّهات.

* * *

ص: 12


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 385.
2- الإرشاد - للجوينى - : 273 - 275 ، الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - : 125 ، المواقف : 341 ، شرح المواقف 8 / 228 - 229.

وأقول :

لا شكّ أنّ النبوّة ليست من المحسوسات الخارجية حتّى تعلم بالحسّ الظاهري ، ولا علم لنا بالغيب حتّى نعلم عادة اللّه فيها ، وأنّه لا يخلق المعجزة إلّا لصادق ، وهو تعالى عندهم لا يقبح عليه شيء.

فكيف يمكن دعوى العادة بإجراء المعجزة على يد الصادق دون الكاذب ، وأنّ كلّ ذي معجزة صادق دون غيره؟!

بل من الجائز أن يكون كلّ ذي معجزة كاذبا ، ومن لا معجزة له صادقا ، فلا يصحّ الجزم بنبوّة نبيّنا صلی اللّه علیه و آله وغيره من الأنبياء ، ولعلّ مسيلمة هو النبي دون نبيّنا! وعلى الإسلام السلام!

* * *

ص: 13

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - :

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم تكذيب اللّه تعالى في قوله :

( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (2) ..

( وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) (3) ..

( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (4) ..

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (5) ..

( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (6) ..

( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (7) ..

( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (8) ..

( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (9) ..

ومن يعتقد اعتقادا يلزم منه تكذيب القرآن العزيز فقد اعتقد ما

ص: 14


1- نهج الحقّ : 86.
2- سورة البقرة 2 : 205.
3- سورة الزمر 39 : 7.
4- سورة غافر 40 : 31.
5- سورة فصّلت 41 : 46.
6- سورة الكهف 18 : 49.
7- سورة هود 11 : 117.
8- سورة الإسراء 17 : 38.
9- سورة الأعراف 7 : 28.

يوجب الكفر ، وحصل الارتداد والخروج عن ملّة الإسلام.

فليتعوّذ الجاهل والعاقل من هذه المقالة [ الرديئة ] المؤدّية إلى أبلغ أنواع الضلالة.

وليحذر من حضور الموت عنده وهو على هذه العقيدة فلا تقبل توبته.

وليخش من الموت قبل تفطّنه بخطأ نفسه ، فيطلب الرجعة فيقول :

( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (1) ، فيقال له :

( كَلاَّ ) (2)!

* * *

ص: 15


1- (1 و 2) سورة المؤمنون 23 : 99 و 100.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد مرّ أنّ كلّ ما يقيم من الدلائل هو إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.

فإنّ الأشاعرة مذهبهم المصرّح به في سائر كتبهم : إنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يرضى بالقبائح.

والإرادة غير الرضا ، وما ذكر من الآيات ليس حجّة عليهم ، إنّما هي حجّة على من جوّز الظلم على اللّه والرضا بالكفر.

وهذا الرجل أصمّ أطروش لا يسمع نداء المنادي ، وصوّر عند نفسه مذهبا وافترى أنّه مذهب الأشاعرة ، ويورد عليه الاعتراضات ، وليس أحد من المسلمين قائلا بأنّه تعالى ظالم أو راض بالكفر ، تعالى اللّه عن ذلك.

وما يزعم أنّه يلزم الأشاعرة فهو باطل ؛ لأنّ الخلق غير الفعل.

والعجب أنّه لا يخاف أن يلقى اللّه بهذه العقيدة الباطلة ، التي هي إثبات الشركاء لله تعالى في الخلق ، مثل المجوس.

وذلك المذهب أردأ من مذهب المجوس بوجه ؛ لأنّ المجوس لا يثبتون إلّا شريكا واحدا يسمّونه ( أهرمن ) (2) ، وهؤلاء يثبتون شركاء

ص: 16


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 387.
2- وأهرمن ، أي : الشرّ أو الضرّ والفساد ، أو الظلمة ؛ وهو الأصل المحدث .. والأصل الأزلي هو : يزدان ، أي : الخير أو الصلاح والنفر. أو النور. أنظر : شرح الأصول الخمسة : 284 - 285 ، الملل والنحل 260/2 - 261 ، شرح المؤلف 44/8.

لا تحصر ولا تحصى .. ( إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (1).

* * *

ص: 17


1- سورة الصافّات 37 : 35.

وأقول :

قد سبق أنّ خلق الشيء بالاختيار يتوقّف على الرضا به والحبّ له (1) ، فيلزم - بناء على أنّه سبحانه خالق القبائح والفساد والكفر - أن تكذب الآيتان الأوليان.

كما يلزم - بناء عليه - أن تكذب الآيات النافية للظلم منه تعالى ؛ لأنّه إذا خلق ظلم الناس بعضهم لبعض كان هو الظالم للمظلوم حقيقة ، مضافا إلى أنّ خلقه تعالى لسيّئات العباد وتعذيبهم عليها ظلم لهم بالضرورة.

ويلزم - أيضا - أن تكذب الآية الأخيرة ؛ لأنّه إذا خلق الفحشاء لم يصحّ أن يتنزّه عن الأمر بها ، بل خلقه للفحشاء بقوله : « كوني » بمنزلة أمر الفاعل بها.

فإن قلت : لا ظلم منه تعالى ؛ لأنّه المالك المطلق ، وقد تصرّف في ملكه.

قلت : تصرّف المالك بملكه - ذي الحياة والشعور - بالإضرار به بلا سبب ظلم له بالضرورة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (2).

فإنّه صريح بأنّ إهلاك القرى مع إصلاح أهلها ظلم ، والحال أنّه من التصرّف في الملك.

وممّا ذكرنا يعلم أنّ ما زعمه الخصم من أنّهم ينفون الظلم والرضا

ص: 18


1- مرّ كلام الشيخ المظفّر قدس سره بهذا الخصوص في ج 2 / 364 من هذا الكتاب.
2- سورة هود 11 : 117.

بالكفر والقبائح عن اللّه تعالى باطل.

ولا يتوقّف إثبات الرضا له تعالى بالقبائح على أنّ يكون بمعنى الإرادة ، وليس هو من قولنا ولا قول أحد.

وإنّما نقول بتوقّف الفعل الاختياري على إرادته ، وهي موقوفة على الرضا به ، فيتوقّف الفعل على الرضا به.

وما زعمه من أنّ الخلق غير الفعل قد سبق بطلانه (1) ، على أنّ الخلق للشيء يتوقّف على الرضا به بالضرورة ، ويستلزم إثبات الظلم لله تعالى وإن لم يسمّ الخلق فعلا.

ولا لوم على المصنّف في عدم التفاته إلى مثل تلك الأجوبة الفارغة عن المعنى ، المبنية على مجرّد الاصطلاح أو على أمور ضرورية الفساد.

وأمّا ما نسبه إلينا من إثبات الشركاء لله سبحانه في الخلق ، فقد سبق ما فيه (2) ، وأنّ إيجادنا لأفعالنا إنّما هو من آثار قدرته ؛ لأنّ قدرتنا وتأثيرنا من مظاهر قدرته ، ودلائل لطف صنعه وحكمته ، فنحن لم نستغن عنه في حال ، ولم نفعل بقوّة منّا واستقلال.

وأيّ مناسبة لهذا بالشركة في الخلق المنصرف إلى كونه في عرضه تعالى؟! وبقول المجوس بإلهين مستقلّين؟! بل قول الأشاعرة أشبه بقول أكثر المجوس ؛ لأنّهم معا يثبتون القدماء (3).

ويزيد الأشاعرة على بعض المجوس بإثباتهم حاجة اللّه تعالى في

ص: 19


1- راجع الصفحتين 9 - 10 من هذا الجزء.
2- انظر ج 2 / 359 من هذا الكتاب.
3- راجع ج 2 / 267 ه 4 من هذا الكتاب.

خلقه إلى غيره ، وهو صفاته (1).

والبعض من المجوس - كما قيل - يقرّون باللّه تعالى ، ويجعلونه خالق الخير ، بلا حاجة منه سبحانه إلى غيره (2).

* * *

ص: 20


1- انظر الهامش السابق.
2- راجع : الملل والنحل 2 / 261.

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم عدم الوثوق بوعده ووعيده ؛ لأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز منه الكذب ، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه ، بل ولا ظنّ به ؛ لأنّه لمّا وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم ، كيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد؟! وتنتفي حينئذ فائدة التكليف ، وهو الحذر من العقاب ، والطمع في الثواب.

ومن يجوّز لنفسه أن يقلّد من يعتقد جواز الكذب على اللّه تعالى ، وأنّه لا جزم بالبعث والنشور ، ولا بالحساب ولا بالثواب ولا بالعقاب؟! وهل هذا إلّا خروج عن الملّة الإسلامية؟!

فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء ، ولا يعتذر بأنّي ما عرفت مذهبهم ، فهذا عين مذهبهم وصريح مقالتهم ، نعوذ باللّه منها ومن أمثالها.

ومنها : إنّه يستلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق ، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة ، والعمل بمقتضى العقل ، بل كلّما ازداد المطيع في طاعته وزهده ورفضه للأمور الدنيوية ، والإقبال على اللّه تعالى بالكلّيّة ، والانقياد إلى امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، نسب إلى زيادة الجهل والحمق والسفه! .. وكلّما ازداد العاصي في عصيانه ، ولجّ في غيّه وطغيانه ، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرّمة ، واستعمال الملاذّ المزجور عنها

ص: 21


1- نهج الحقّ : 87.

بالشرع ، نسب إلى العقل والأخذ بالحزم ..

لأنّ الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى جاز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي ، فيتعجّل المطيع بالتعب ولا تفيده طاعته إلّا الخسران ، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد والعقاب المؤبّد ، وجاز أن يثيب العاصي فيحصل بالربح في الدارين ، ويتخلّص من المشقّة في المنزلتين!

ومنها : إنّه تعالى كلّف المحال ؛ لأنّ الآثار كلّها مستندة إليه تعالى ، ولا تأثير لقدرة العبد ألبتّة ، فجميع الأفعال غير مقدورة للعبد ، وقد كلّف ببعضها فيكون قد كلّف ما لا يطاق.

وجوّزوا بهذا الاعتبار ، وباعتبار وقوع القبيح منه تعالى ، أن يكلّف اللّه تعالى العبد أن يخلق مثله تعالى ومثل نفسه ، وأن يعيد الموتى في الدنيا كآدم ونوح وغيرهما ، وأن يبلع جبل أبي قبيس (1) دفعة ، ويشرب ماء دجلة في جرعة ، وأنّه متى لم يفعل ذلك عذّبه بأنواع العذاب.

فلينظر العاقل في نفسه : هل يجوز له أن ينسب ربّه تعالى وتقدّس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟! وهل ينسب ظالم منّا إلى مثل هذا الظلم؟! تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

ومنها : إنّه يلزم منه عدم العلم بنبوّة أحد من الأنبياء علیهم السلام ؛ لأنّ دليل

ص: 22


1- جبل أبي قبيس : هو اسم الجبل المشرف على مكّة المكرّمة ، قيل : سمّي باسم رجل من مذحج كان يكنّى أبا قبيس ، وقيل : كنّاه النبيّ آدم علیه السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس ، وكان في الجاهلية يسمّى « الأمين » لأنّ الحجر الأسود كان مستودعا فيه أيّام الطوفان. أنظر : معجم البلدان 103/1 رقم 159 ، مراصد الاطلاع 1066/3 ، وأنظر مادّة «قبس» في : لسان العرب 11/11 ، تاج العروس 405/8.

النبوّة هو : أنّ اللّه تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوة لأجل التصديق ، وكلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق ، فإذا صدر القبيح منه لم يتمّ الدليل.

أمّا الصغرى : فجاز أن يخلق المعجزة للإغواء والإضلال.

وأمّا الكبرى : فلجواز أن يصدّق المبطل في دعواه.

ومنها : إنّ القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة [ منه ] ؛ لأنّه حينئذ أضرّ [ على البشر ] من إبليس لعنه اللّه تعالى ، وكان الواجب - على قولهم - أن يقول المتعوّذ : أعوذ بالشيطان الرجيم من اللّه تعالى!

وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدّي إلى التعوّذ من أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وتخليص إبليس من اللعن والبعد والطرد؟!

نعوذ باللّه من اعتقاد المبطلين ، والدخول في زمرة الضالّين ، ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.

* * *

ص: 23

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت في ما سبق مذهب الأشاعرة في عدم صدور القبيح من اللّه تعالى ، وأنّ إجماع الملّيّين منعقد على أنّه تعالى لا يفعل القبيح .. فكلّ ما أقامه من الدلائل قد ذكرنا أنّه إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، فإنّ المدّعى شيء واحد.

وهم يسندونه بالقبح العقلي.

والأشاعرة يسندونه إلى أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه (2).

ثمّ إنّ المعتزلة لو أرادوا من نسبة فعل القبيح إليه تعالى أنّه يخلق القبائح من أفعال العباد - على رأي الأشاعرة - فهذا شيء يلزمهم ؛ لأنّ القبائح من الأشياء كما تكون في الأعراض كالأفعال ، تكون في الجواهر والذوات .. فالخنزير قبيح ، والعقرب والحيّة والحشرات قبائح ، وهم متّفقون أنّ اللّه يخلقهم.

فكلّ ما يلزم الأشاعرة يلزمهم في خلق القبائح الجوهريّة.

وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ولا هو معتقدهم كما صرّحنا به مرارا.

* * *

ص: 24


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 403.
2- انظر الصفحة 7 من هذا الجزء.

وأقول :

قد سبق أنّ قول الأشاعرة بعدم صدور القبيح منه سبحانه ليس بمعنى أنّه لا يوجد القبائح ، بل بمعنى أنّه لا يقبح منه القبيح وإن صدر منه ، كالزنا ، والقيادة ، والكفر ، ونحوها! (1).

وحينئذ فيرد عليهم كلّ ما ذكره المصنّف ، إذ ليس الإشكال ناشئا من تسمية ما يصدر عنه من القبيح قبيحا ، بل من جهة القول بصدوره عنه وإيجاده له.

فيكون استنادهم في دفع المحالات إلى أنّه لا قبيح منه ، تقريرا للزومها بعبارة ظاهرها مليح وباطنها قبيح.

وأمّا قوله : « وإن أرادوا أنّه يفعل القبائح ، فإنّ هذا شيء لم يلزم من كلامهم ... » إلى آخره ..

ففيه ما مرّ من أنّ فعل القبيح وخلقه بمعنى واحد ، وتعدّد الألفاظ لا أثر له ، فإنّ الإشكال ناشئ من قولهم بإيجاد اللّه سبحانه للقبائح ، ولا لتسميته خلقا لا فعلا (2).

على أنّه لا وجه لامتناعهم من نسبة الفعل إليه تعالى ، بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

وأمّا قوله : « فهذا شيء يلزمهم » ..

ص: 25


1- انظر ج 2 / 332 من هذا الكتاب.
2- راجع الصفحة 9 من هذا الجزء.

فمردود بأنّ الخنزير والحشرات ليست قبائح حقيقة ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، بخلاف قبائح الأعمال فإنّها شرور ومفاسد في الكون.

نعم ، لمّا كان الخنزير والحشرات مؤذية ، أو لا تلائم الطباع ، سمّيت شرورا وقبائح عند من يخفى عليه وجه الحكمة في خلقها والمصالح الثابتة فيها ، وإلّا فاللّه أجلّ من أن يخلق القبيح ، تبارك اللّه أحسن الخالقين.

* * *

ص: 26

إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

اشارة

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

المطلب الرابع : في أنّ اللّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

اشارة

قالت الإمامية : إنّ اللّه تعالى إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ، ونفع يصل إليهم (2).

وقالت الأشاعرة : إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض ، ولا لمصلحة ترجع إلى العباد ، ولا لغاية من الغايات (3).

ولزمهم من ذلك محالات :

منها : أن يكون اللّه تعالى لاعبا عابثا في فعله ، فإنّ العابث ليس إلّا الذي يفعل لا لغرض وحكمة بل مجّانا ، واللّه تعالى يقول : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ

ص: 27


1- نهج الحقّ : 89.
2- الذخيرة في علم الكلام : 108 وما بعدها ، تقريب المعارف : 114 وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : 110.
3- الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالى - : 115 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 397 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 296 ، المواقف : 331 ، شرح المواقف 8 / 202.

وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (1) .. ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (2).

والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 28


1- سورة الأنبياء 21 : 16.
2- سورة آل عمران 3 : 191.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق أنّ الأشاعرة ذهبوا إلى أنّ أفعال اللّه تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة (2).

ووافقهم على ذلك جماهير الحكماء وطوائف الإلهيّين.

وذهبت المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية إلى وجوب تعليلها (3).

ومن دلائل الأشاعرة : إنّه لو كان فعله تعالى لغرض ، من تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ، لكان هو ناقصا لذاته ، مستكملا بتحصيل ذلك الغرض ؛ لأنّه لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه ؛ وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه ، لا يكون باعثا على الفعل ، وسببا لإقدامه عليه بالضرورة.

فكلّ ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به من عدمه ، وهو معنى الكمال.

فإذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بدونه (4) ، هذا هو الدليل.

وذكر هذا الرجل أنّه يلزم من هذا المذهب محالات :

منها : أن يكون اللّه تعالى لاعبا عابثا.

ص: 29


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 424.
2- راجع ج 2 / 346 من هذا الكتاب.
3- المحيط بالتكليف : 263 ، وانظر : ج 2 / 345 من هذا الكتاب.
4- انظر : شرح المواقف 8 / 202 - 203.

والجواب الحقيقي : إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع ، وأفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، راجعة إلى مخلوقاته تعالى ، لكنّها ليست أسبابا باعثة على إقدامه ، وعللا مقتضية لفاعليّته ، فلا تكون أغراضا له ولا عللا غائية لأفعاله تعالى حتّى يلزم استكماله بها ، بل تكون غايات ومنافع لأفعاله وآثارا مترتّبة عليها ، فلا يلزم أن يكون شيء من أفعاله تعالى عبثا خاليا عن الفوائد.

وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى ، فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة (1).

* * *

ص: 30


1- انظر : شرح المواقف 8 / 205.

وأقول :

لم ينف الحكماء كلّي الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال كما يدلّ عليه كلمات بعضهم (1) ، وهذا الدليل الذي ذكره الخصم وأخذه أتباعهم من ظواهر كلماتهم.

وقد أجاب الإمامية عن هذا الدليل بما قاله نصير الدين رحمه اللّه في التجريد : « ولا يلزم عوده إليه » (2).

يعني أنّ الغرض لا يلزم عوده إلى اللّه تعالى ، بل يجوز أن يعود إلى مصلحة العبد أو نظام الموجودات بما تقتضيه الحكمة.

وأشار إليه المصنّف رحمه اللّه بقوله : « إنّما يفعل لغرض وحكمة وفائدة ومصلحة ترجع إلى المكلّفين ».

فقولهم في هذا الدليل : « لا يصلح غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه » ظاهر البطلان ، فإنّ الحكيم المحسن لا يحتاج في داعيه للفعل إلى أكثر من حصول المصلحة لعبده ، أو احتياج النظام إليه ، فيكون الغرض كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ؛ لأنّه يشهد بحكمته وإحسانه ، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصا عابثا.

وقد قسّم الأشاعرة قسمة غير عادلة ، حيث اكتفوا لأنفسهم في مقام

ص: 31


1- انظر مثلا : تهافت التهافت : 491 ، شرح التجريد : 443 ، وقد مرّ ذلك في ج 2 / 347 ه 1.
2- تجريد الاعتقاد : 198.

أفعاله تعالى بمجرّد الإرادة بلا غرض أصلا ، ولم يكتفوا منّا بالغرض العائد إلى العبد أو النظام.

وقالوا : إنّ الاكتفاء به خلاف الضرورة كما سمعته في دليلهم (1).

وما قيل : إنّ الغرض علّة لعلّيّة العلّة الفاعليّة ، فلو كان لفعله تعالى غرض لاحتاج في علّيّته إليه ، والمحتاج إلى الغير مستكمل به.

ففيه : إنّ هذا الاحتياج ليس من استكمال الذات في شيء ، بل هو من باب شرط الفعل أو شرط كماله نظير احتياجه في علّيّته للكائنات إلى إمكانها ، واحتياجه في كونه رازقا إلى وجود من يرزقه ، وفي تعلّق علمه إلى ثبوت المعلومات.

على أنّ الأشاعرة قائلون باحتياجه في أفعاله تعالى إلى صفاته الزائدة على ذاته ، وإنّه مستكمل بها (2) .. فما بالهم يستبشعون من استكماله تعالى بالغرض لو فرض به استكمال لذاته؟!

فإن قلت : نرى بعض الأشياء بلا غرض ولا مصلحة كإماتة الأنبياء ، وإبقاء إبليس ، وتخليد الكفّار بالنار.

قلت : لا ريب أنّ موت الأنبياء مصلحة لهم لخلاصهم من مكاره الدنيا ووصولهم إلى الدرجات العليا ، وهو غرض راجح لهم ، كما أنّ بقاء إبليس مصلحة للمؤمنين بمجاهدتهم له الموجبة لفوزهم بالأجر ، مع أنّ به تمييز الخبيث من الطيّب وتمحيص الناس ، فينال كلّ امرئ استحقاقه ، قال

ص: 32


1- انظر الصفحة 29 من هذا الجزء.
2- تمهيد الأوائل : 227 ، الملل والنحل 1 / 81 - 82 ، المواقف : 279 ، شرح المواقف 8 / 44 - 45.

تعالى : ( الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (1).

كما أنّ بقاء إبليس مصلحة له بطول تمكينه من التوبة الخالصة المخلّصة له من غضب اللّه وعقابه ، ولا ينافيه إخباره سبحانه بأنّه يدخل النار لإمكان كونه مشروطا بعدم التوبة.

وأمّا تخليد أهل النار ، فمع أنّه فرع حكمة الوعيد ، مشتمل على مصلحة للمؤمنين ، لكونه زيادة في نعيمهم وسرورهم بخلاصهم من مثله وتشفّيهم من أعدائهم ، قال تعالى : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) (2).

هذا ، ونقل عن شيخهم الأشعري دليل آخر مضحك ، كما حكاه السيّد السعيد - مع ردّه - عن السيّد معين الدين الإيجي الشافعي (3) ، في رسالته التي ألّفها لتحقيق مسألة الكلام ..

قال : « إعلم أنّه - رضي اللّه عنه - قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له ، مع أنّه مناف لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث ، مثل : إنّ أفعال اللّه تعالى غير معلّلة بغرض ، ودليله كما صرّح به في كتبه أنّه يلزم تأثّر الربّ عن شعوره بخلقه.

ص: 33


1- سورة العنكبوت 29 : 1 و 2.
2- سورة المطفّفين 83 : 34.
3- هو : محمّد بن صفي الدين عبدالرحمن بن محمّد بن عبدالسلام معين الدين الإيجي الصفوي الشيرازي الشافعي ، ولد سنة 832 ه وتوفّي سنة 906 ه ، له تصانيف عديدة منها : جوامع التبيان في تفسير القرآن ، كتاب تهافت الفلسفة ، حاشية على التلويح للتفتازاني. أنظر : هديّة العارفين 223/6 ، معجم المؤلفين 401/3 رقم 14004.

وأنت تعلم أنّه لا يشكّ ذو فكرة (1) أنّ علمه تعالى بالممكنات والغايات المترتّبة عليها صفة ذاتية ، وفعله موقوف على صفة ذاتية ، وكم من الصفات الذاتية موقوفة على صفة مثلها ، وتعالى جدّ ربّنا عن أن يحصل له بواسطة شعوره بغاية شوق وانفعال في ذاته الأقدس كما في الحيوانات » (2).

والأولى في ردّه أن يقال : إنّه إن أراد بتأثّره تعالى حصول الانفعال له ، فهو غير لازم من القول بالغرض.

وإن أراد به أنّ الغرض يكون داعيا له إلى الفعل ، فهو المطلوب ، ولا بأس به أصلا.

ثمّ إنّه لا مناص للأشاعرة عن القول بالغرض ؛ لأنّهم قالوا بحجّية القياس (3) ، وهو لا يتمّ إلّا إذا كانت التكاليف التي هي من أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، إمّا لكون العلّة في القياس غرضا كما في أكثر المقامات ، أو لاستلزامها للغرض ، بلحاظ أنّ سببية الشيء لأن يكلّف سبحانه اختيارا تستدعي وجود غرض له ملازم لتلك العلّة ، وإلّا فكيف صارت علّة لفعل اللّه وهو التكليف؟!

على أنّ الالتزام بثبوت علّة لفعل من أفعاله تعالى وإن لم تكن علّة غائية ، يستلزم القول بصحّة الأغراض ؛ لأنّ النقص المفروض يأتي أيضا

ص: 34


1- في المصدر : « مرّة » ، والمرّة ، القوّة وشدّة العقل ؛ انظر : لسلن العرب 13 / 74 مادّة « مرر ».
2- إحقاق الحقّ 1 / 432 - 433.
3- التبصرة في أصول الفقه : 419 مسألة 3 ، المستصفى من علم الأصول 2 / 234 ، المحصول في علم أصول الفقه 2 / 245 ، الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 3 / 164 وما بعدها ، المواقف : 36.

من تلك العلّة ؛ لأنّها تستدعي حاجته في فعله إليها.

فلا بدّ من القول بأنّ الحاجة إلى العلّة لا تستوجب النقص سواء كانت العلّة غائية أم لا.

وأمّا ما ذكره في الجواب عن العبث ؛ فهو عين ما في « شرح المواقف » (1).

وفيه : إنّ الفعل إذا تجرّد عن الغرض كان عبثا ولعبا وإن اشتمل في نفسه على مصلحة ، ضرورة أنّ من استأجر أجيرا على فعل فيه مصلحة ، ولكن لم يستأجر لغرض المصلحة بل مجّانا وبلا غاية له ولا لغيره ، عدّ عابثا لاعبا.

على أنّ قوله : « أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم ومصالح ... » إلى آخره ..

إنّ أراد به أنّ ذلك أمر لازم ، فهو لا يتمّ على قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء »!

وإن أراد أنّه أمر اتّفاقي ، فكيف يتنزّه اللّه سبحانه عن اللعب أي الخلق بلا مصلحة ، ويراه عيبا عليه ، والحال أنّه يجوز عليه أن يخلق ما لا مصلحة فيه؟!

* * *

ص: 35


1- شرح المواقف 8 / 204 - 205.

قال المصنّف - رحمه اللّه تعالى - :

قال المصنّف - رحمه اللّه تعالى - (1) :

ومنها : إنّه يلزم أن لا يكون اللّه سبحانه محسنا إلى العباد ، ولا منعما عليهم ، ولا راحما لهم ، ولا كريما في حقّ عباده ، ولا جوادا ، وكلّ هذا ينافي نصوص الكتاب العزيز ، والمتواتر من الأخبار النبوية ، وإجماع الخلق كلّهم من المسلمين وغيرهم ، فإنّهم لا خلاف بينهم في وصف اللّه تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.

وبيان لزوم ذلك : إنّ الإحسان إنّما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، فإنّه لو فعله لغير ذلك لم يكن محسنا ؛ ولهذا لا يوصف مطعم الدابّة لتسمن حتّى يذبحها بالإحسان في حقّها ، ولا بالإنعام عليها ، ولا بالرحمة ؛ لأنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه لا لغرض آخر يرجع إليه.

وإنّما يكون كريما وجوادا لو نفع الغير للإحسان وبقصده ، ولو صدر منه النفع لا لغرض لم يكن كريما ولا جوادا ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى العبث في أفعاله ، وأنّه ليس بجواد ولا محسن ولا راحم ولا كريم؟! نعوذ باللّه من مزالّ الأقدام ، والانقياد إلى مثل هذه الأوهام.

* * *

ص: 36


1- نهج الحقّ : 89.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : منع الملازمة ؛ لأنّ خلوّ الفعل عن الغرض لا يستدعي كون الفاعل غير محسن ولا راحم ولا منعم.

فإنّ معنى الغرض ما يكون باعثا للفاعل على الفعل ، ويمكن صدور الإحسان والرحمة والإنعام من الفاعل من غير باعث له ، بل للإفاضة الذاتية التي تلزم ذات الفاعل.

نعم ، لو كان خاليا من المصلحة والغاية لكان ذلك الفعل عبثا.

وقد بيّنّا أنّ أفعاله تعالى مشتملة على الحكم والغايات والمصالح ، فلا تكون أفعاله عبثا.

وأمّا قوله : « إنّ التعطّف والشفقة إنّما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفعه » ..

فإن أراد بالقصد الغرض والعلّة الغائيّة ؛ فممنوع.

وإن أراد الاختيار وإرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه بالتعيين ؛ فذلك في حقّه تعالى ثابت ، وهذا لا يتوقّف على وجود الغرض والعلّة الغائيّة.

* * *

ص: 37


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 434.

وأقول :

منع الملازمة مكابرة ظاهرة ، ضرورة أنّ الفعل لا لغاية وغرض ، عبثّ ، والعبث لا يكون إحسانا وإنعاما وكرما ، بل مع قطع النظر عن العبث لا يكون الفعل بنفسه إحسانا بلا قصد الإحسان ، وإلّا لكان كذلك وإن صدر لغاية أخرى ، كما في مثال المصنّف بمطعم الدابّة ؛ وهو خلاف الضرورة.

قال الشاعر :

لا تمدحنّ ابن عبّاد وإن هطلت *** كفّاه بالجود سحّا يخجل الدّيما (1)

فإنّها خطرات من وساوسه *** يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما (2)

فإنّه جعل عطاءه الوافر لا لغاية الإحسان والفضل ، ليس من الكرم ، وإن أساء وأجحف في حقّ ابن عبّاد.

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني ، فهو عين القول بالغرض ؛ لأنّ إرادة إيصال الإحسان إلى المحسن إليه عبارة عن قصد الداعي ، والداعي هو الغرض.

* * *

ص: 38


1- السّحّ : الصّبّ المتتابع الكثير ، وهنا كناية عن العطاء الكثير المتواصل ؛ انظر : لسان العرب 6 / 188 مادّة « سحح ». والديم ، جمع دِيمَة : المطر الدائم في سكون بلا رعد ولا برق ، وهي هنا علی المجاز : العطاء الدائم المستمرّ ؛ أنظر : لسان العرب 446/4 و 458 مادتي «دوم» و «دیم».
2- البيتان لأبي بكر الخوارزمي في هجاء الوزير الصاحب بن عبّاد ؛ انظر ديوانه : 409 - 410 رقم 214 ، وانظر : مرآة الجنان 2 / 314 ، شذرات الذهب 3 / 105.

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - :

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم أن تكون جميع المنافع التي جعلها اللّه تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى ، بل وضعها وخلقها عبثا.

فلا يكون خلق العين للإبصار ، ولا خلق الأذن للسماع ، ولا اللسان للنطق ، ولا اليد للبطش ، ولا الرجل للمشي ، وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان وغيره من الحيوانات.

ولا خلق الحرارة في النار للإحراق ، ولا الماء للتبريد ، ولا خلق الشمس والقمر والنجوم للإضاءة ، ومعرفة الليل والنهار للحساب.

وكلّ هذا مبطل للأغراض والحكم والمصالح ، ويبطل علم الطبّ بالكلّيّة ، فإنّه لم يخلق الأدوية للإصلاح ، ويبطل علم الهيئة ، وغيرها.

ويلزم العبث في ذلك كلّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 39


1- نهج الحقّ : 90 - 91.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إذا قلنا : إنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى ، هي راجعة إلى مخلوقاته ، لا يلزم أن تكون منافع الأشياء غير مقصودة لله تعالى ..

بل هو الحكيم خلق الأشياء ورتّب عليها المصالح ، وقبل خلق الأشياء قدّرها ودبّرها ، ولكن ليست أفعاله محتاجة إلى علّة غائيّة كأفعالنا [ الاختيارية ] ..

فإنّا لو فقدنا العلّة الغائيّة لم نقدر على الفعل الاختياري ، وليس هو تعالى كذلك ؛ للزوم النقص والاحتياج ..

بل الآثار والمصالح تترتّب على أفعاله من غير نقص الاحتياج إلى العلّة الغائية الباعثة للفاعل ، ولولاها لم يتصوّر الفعل الاختياري من الفاعل (2).

هذا هو المطلوب من كلام الأشاعرة ، لا نفي منافع الأشياء ، وأنّها لم تكن معلومة لله تعالى وقت خلق الأشياء ..

مثلا : اقتضت حكمة خلق العالم أن يخلق الشمس مضيئة ، وفي إضاءتها منافع للعباد ، فاللّه تعالى قبل أن يخلق الشمس كان يعلم هذه المنافع المترتّبة عليها لخلقها ، وترتّب المنافع عليها من غير احتياج إلى

ص: 40


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 436.
2- شرح المواقف 8 / 204.

حالة باعثة إلى هذا الخلق ، فلا يلزم أن لا تكون المنافع مقصودة ، بل هي مقصودة ، بمعنى ملاحظة المصلحة والغاية المترتّبة عليها ، لا بمعنى الغرض الموجب لإثبات النقص له.

* * *

ص: 41

وأقول :

قوله : « رتّب عليها المصالح ».

إن أراد به أنّه رتّبها بما هي مصالح لها مقصودة من خلقها ، فهو معنى كونها غرضا منها.

وإن أراد به أنّه رتّبها بما هي مقصودة بأنفسها ، لا بما هي غرض ، لم يخرج فعل الأشياء عن العبث ، ومنه يعلم ما في قوله بآخر كلامه : « بل هي مقصودة بمعنى ملاحظة المصلحة ».

فإنّه إن أراد بقصد المنافع وملاحظتها ، مطلوبيّتها منها ، فهو المطلوب.

وإن أراد به مجرّد ملاحظتها لأنفسها ، فلا تكون مخرجة للأشياء عن العبث.

ولا يخفى أنّ قوله : « قبل خلق الأشياء دبّرها » خطأ ؛ لأنّ التدبير إنّما هو حين الخلق وما دام البقاء ، لا قبل الخلق.

ولا يصحّ أن يريد به التروّي ، فإنّه سبحانه غنيّ عن التروّي إذا أراد شيئا قال له : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

وأمّا قوله : « فإنّا لو فقدنا العلّة الغائية لم نقدر على الفعل الاختياري » ..

ص: 42


1- سورة البقرة 2 : 117 ، سورة آل عمران 3 : 47 و 59 ، سورة الأنعام 6 : 73 ، سورة النحل 16 : 40 ، سورة مريم 19 : 35 ، سورة يس 36 : 82 ، سورة غافر 40 : 68.

فخطأ آخر ؛ لأنّ اللازم من فقدها إنّما هو العبث لا عدم القدرة.

فلو زعم أنّ الترجيح بلا مرجّح محال كالترجّح بلا مرجّح ، فهو جار في حقّ اللّه تعالى ؛ لأنّ المانع العقلي واحد ، على أنّ الامتناع والمحالية بالغير لا ينافي القدرة على نفس الفعل.

ولو اكتفى بالنسبة إلى اللّه سبحانه بمجرّد رجحان الفعل في نفسه لاشتماله على المصلحة ، جاء مثله بالنسبة إلى الإنسان بلا فرق.

ثمّ لا يخفى أنّ قياس الغائب على الشاهد الذي استند إليه سابقا يقتضي العلّة الغائيّة لأفعاله تعالى.

وما ذكره من لزوم نقص الاحتياج قد عرفت وهنه ، وهو أشبه بحديث خرافة (1).

* * *

ص: 43


1- مثل يضرب لكلّ ما لا يمكن وقوعه. وخُرافة : رجل من عُذرة استهوته الجنّ - كما تزعم العرب - مدّة ، ثمّ لما رجع أخبر بما رأى منهم ، فكذبوه حتى قالوا لما لا يمكن : حديث خرافة . أنظر : مجمع الأمثال - للميداني - 346/1 رقم 1028 ، الحيوان - للجاحظ - 426/6 ، تاج العروس 12 / 162 مادة «خرف » . ووردت في أمهات مصادر الجمهور روايات نُسبت إلى الرسول الأكرم صلی اللّه عليه وآله وسلم أنه حدث بعض نسائه وأقرّ بخرافة وأحاديثه العجيبة عن الجنّ ! فانظر مثلاً : مسند أحمد 157/6 ، الشمائل النبوية - للترمذي - : 308 ح 252 ب 38 ، مسند أبي يعلى 419/7 ح 4442 ، مجمع الزوائد 315/4 باب عشرة النساء ، كنز العمال 629/3 ح 8244 و 8245 .

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم منه الطامّة العظمى والداهية الكبرى [ عليهم ]، وهو : إبطال النبوّات بأسرها ، وعدم الجزم بصدق واحد منهم ، بل يحصل الجزم بكذبهم [ أجمع ] ؛ لأنّ النبوّة إنّما تتمّ بمقدّمتين :

إحداهما : إنّ اللّه تعالى خلق المعجزة على يد مدّعي النبوّة لأجل التصديق.

والثانية : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق.

ومع عدم القول بإحداهما لا يتمّ دليل النبوّة ..

[ المقدّمة الأولى : ] فإنّه تعالى لو خلق المعجزة لا لغرض التصديق ، لم يدلّ على صدق المدّعي ، إذ لا فرق بين النبيّ وغيره.

فإنّ خلق المعجزة لو لم يكن لأجل التصديق ، لكان لكلّ أحد أن يدّعي النبوّة ويقول : إنّ اللّه صدّقني ؛ لأنّه خلق هذه المعجزة ، ويكون نسبة النبيّ وغيره إلى هذه المعجزة على السواء ؛ ولأنّه لو خلقها لا لأجل التصديق لزم الإغراء بالجهل ؛ لأنّها دالّة عليه.

فإنّ في الشاهد لو ادّعى شخص أنّه رسول السلطان ، وقال للسلطان :

إن كنت صادقا في دعوى رسالتك ، فخالف عادتك ، واخلع خاتمك ، ففعل السلطان ذلك ، ثمّ تكرّر هذا القول من مدّعي رسالة السلطان وتكرّر من السلطان هذا الفعل عقيب الدعوى ، فإنّ الحاضرين بأجمعهم يجزمون

ص: 44


1- نهج الحقّ : 91.

بأنّه رسول ذلك السلطان.

كذا هنا ، إذا ادّعى النبيّ الرسالة ، وقال : إنّ اللّه تعالى يصدّقني بأن يفعل فعلا لا يقدر الناس عليه مقارنا لدعواي ، وتكرّر هذا الفعل من اللّه تعالى عقيب تكرّر الدعوى ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بصدقه ، فلو لم يخلقه لأجل التصديق ؛ لكان اللّه تعالى مغريا بالجهل ، وهو قبيح لا يصدر عنه ، وكان مدّعي النبوّة كاذبا حيث قال : إنّ اللّه تعالى خلق المعجزة على يدي لأجل تصديقي ، فإذا استحال عندهم أن يفعل لغرض ، فكيف يجوز للنبيّ هذه الدعوى؟! المقدّمة الثانية ، وهي : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق ؛ ممنوعة عندهم أيضا ؛ لأنّه يخلق الإضلال ، والشرور ، وأنواع الفساد والشرك ، والمعاصي الصادرة من بني آدم علیه السلام ، فكيف يمتنع عليه تصديق الكاذب؟! فتبطل المقدّمة الثانية أيضا.

هذا نصّ مذهبهم وصريح معتقدهم ، نعوذ باللّه من عقيدة أدّت إلى إبطال النبوّات ، وتكذيب الرسل ، والتسوية بينهم وبين مسيلمة حيث كذب في ادّعاء الرسالة.

فلينظر العاقل المنصف ، ويخف ربّه ، ويخش من أليم عقابه ، ويعرض على عقله هل بلغ كفر الكافر إلى هذه المقالات الرديّة والاعتقادات الفاسدة؟! وهل هؤلاء أعذر في مقالاتهم؟ أم اليهود والنصارى الّذين حكموا بنبوّة الأنبياء المتقدّمين علیهم السلام ، وحكم عليهم جميع الناس بالكفر حيث أنكروا نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وهؤلاء قد لزمهم إنكار جميع الأنبياء ، فهم شرّ من أولئك.

ص: 45

ولهذا قال الصادق علیه السلام حيث عدّهم وذكر اليهود والنصارى : « إنّهم شرّ الثلاثة » (1).

ولا يعذر المقلّد نفسه ، فإنّ فساد هذا القول معلوم لكلّ أحد ، وهم معترفون بفساده أيضا.

* * *

ص: 46


1- انظر مؤدّاه في : علل الشرائع 1 / 339 - 340 ح 1 باب 220.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

حاصل ما ينعقد في هذا الاستدلال من هذا الكلام : أنّ اللّه تعالى لو لم يخلق المعجزة لغرض تصديق الأنبياء لم يثبت النبوّة ، فعلم أنّ بعض أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.

والجواب : إنّه إن أراد بهذا الغرض العلّة الغائيّة الباعثة للفاعل المختار على فعله الاختياري ؛ فهو ممنوع.

وإن أراد أنّ اللّه تعالى يفيض المعجزة بالقصد والاختيار ، وغايته وفائدته تصديق النبيّ من غير أن يكون تصديق النبيّ باعثا على إفاضة المعجزة ، فهذا مسلّم ، ويحصل تصديق الأنبياء من غير إثبات الغرض ، وهذا مذهب الأشاعرة كما قدّمنا.

ثمّ إنّ هذا الرجل يفتري عليهم المدّعيات المخترعة من عند نفسه من غير تفهّم لكلامهم وتأمّل في غرضهم ، فإنّهم يعنون بنفي الغرض نفي الاحتياج من اللّه تعالى ، ووافقهم في ذلك جميع الحكماء الإلهيّين (2).

فإن كان هذا المدّعي صادقا ، فكيف يكفّرهم ويرجّح عليهم اليهود والنصارى؟!

وإن كان باطلا ، فيكون غلطا منهم في عقيدة بعثهم على اختيارها

ص: 47


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 439.
2- (2) هذا ادّعاء الجرجاني في شرح المواقف 8 / 202 المقصد الثامن ، وقد تقدّم في الصفحة 31 من هذا الجزء أنّ الحكماء لم ينفوا كلّيّ الغرض ، وإنّما نفوا الغرض الذي به الاستكمال ؛ فراجع!

تنزيه اللّه تعالى من الأغراض والنقص والاحتياج ، فكيف يجوز ترجيح اليهود والنصارى عليهم؟! ومع ذلك افترى على الصادق علیه السلام كذبا في حقّهم ، وإن كان قد قال الصادق هذا الكلام ، فيجب حمله على طائفة أخرى غير الأشاعرة ..

كيف؟! والشيخ الأشعري الذي هو مؤسّس هذه المقالة تولّد بعد سنين كثيرة من أزمان الصادق؟! والأشاعرة كانوا بعده ، فكيف ذكر الصادق فيهم هذه المقالة؟!

فعلم أنّ الرجل مفتر كودن (1) كذّاب ، مثل كوادن حلّة وبغداد ، لا أفلح من رجل سوء!

* * *

ص: 48


1- الكودن - جمعها : الكوادن - : البليد ، على التشبيه هنا ، وفي اللغة هو : البرذون الثقيل من الدوابّ ، وقيل : هو الفيل ، وقيل : البغل. أنظر مادّة «كدن» في : الصحاح 2187/6 ، لسان العرب 48/12 ، تاج العروس 475/18 و 476.

وأقول :

حاصل مذهبهم - كما ذكر - : إنّه تعالى يخلق المعجزة لا لغاية ، لكنّها بنفسها تفيد التصديق بالنبوّة.

وفيه : إنّ إفادتها له ليست ذاتية ؛ إذ ليست هي إلّا كسائر خوارق العادة التي ربّما تقع في الكون ، ولا يوجب نفس وجودها تصديق أحد في دعواه ، فمن أين تفيد المعجزة التصديق بالنبوّة وهو لم يكن غرضا منها؟!

ومجرّد مقارنتها لدعوى النبوّة لا يجعل التصديق بها فائدة لها بعد أن كان أصل وجودها ومقارنتها بلا غرض ، كما لو قارنت دعوى أخرى لاخر! وحينئذ ، فلا يكون مدّعي النبوّة أولى بدعواها من غيره وإن ظهرت المعجزة على يده ؛ لأنّ خلقها كان مجّانا وبلا قصد تصديقه ، فكيف تقتضي نبوّته خاصّة؟! ثمّ لو سلّم كون التصديق فائدة للمعجزة ، فهو غير نافع لما ذكره المصنّف رحمه اللّه من لزوم كذب مدّعي النبوّة بقوله : « إنّ اللّه يخلق المعجزة لتصديقي » ، وغير دافع للإغراء بالجهل من حيث إفادة المعجزة أنّ اللّه تعالى خلقها لتصديقه ، وإن لم يكن هناك إغراء بالجهل من حيث أصل دعواه النبوّة ، لفرض كونه نبيّا.

ثمّ إنّه لم يتعرّض للجواب عن إيراد المصنّف رحمه اللّه على المقدّمة الثانية ، إكتفاء بما أسلفه من دعوى العادة التي عرفت أنّه لا معنى لها.

ص: 49

وأمّا قوله : « وإن كان باطلا فيكون غلطا في عقيدة » ..

ففيه : إنّهم لم يستوجبوا ذلك لمجرّد الغلط ، بل للإصرار عليه عنادا للحقّ ، وجرأة على اللّه تعالى ، بعد البيان بصريح الكتاب العزيز والسنّة الواضحة وحكم العقل الضروري ، ولو دعاهم إلى ذلك تنزيه اللّه تعالى عن الحاجة والنقص لما جعلوه محتاجا في كلّ آثاره إلى غيره ، وهو صفاته الزائدة على ذاته بزعمهم! وكيف يكون ذلك تنزيها وقد أوضح لهم الإمامية أنّه ليس من الاحتياج والنقص في شيء؟! بل الغرض كمال للتأثير وشاهد بكمال المؤثّر.

ومن المضحك وعظه في المقام وإنكاره على المصنّف رحمه اللّه في ترجيح اليهود والنصارى على الأشاعرة ، والحال أنّه قد جاء بأكبر منه قريبا ، حيث جعل مذهب العدلية أردأ من مذهب المجوس.

وأمّا ما زعمه من أنّ تأخّر زمن الأشعري والأشاعرة عن الصادق علیه السلام مناف لإرادته لهم ..

ففيه : إنّه إذا جاز لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إرادتهم أو المعتزلة على الخلاف بينهم من قوله صلی اللّه علیه و آله : « القدرية مجوس هذه الأمّة » (1) ، فليجز للصادق علیه السلام إرادتهم ؛ لأنّ علمه من علم جدّه ، واصل إليه من باب مدينة علمه (2) ، وهو أحد أوصيائه الطاهرين.

ص: 50


1- سنن أبي داود 4 / 221 ح 4691 ، التاريخ الكبير - للبخاري - 2 / 341 رقم 2681 ، السنّة - لابن أبي عاصم - : 149 ح 338 ، المعجم الأوسط 3 / 127 ح 2515 وج 4 / 464 ح 4205.
2- (2) إشارة إلى قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأتي من بابها » ، وقد تقدّمت الإشارة إلى مصادر هذا الحديث الشريف في ج 2 / 407 ه 1. فراجع.

ويحتمل أن يريد الصادق علیه السلام مطلق الناصبة والمجبّرة ، فيدخل فيهم الأشاعرة ، وإن كانت بدعتهم بعده.

* * *

ص: 51

قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - :

قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :

ومنها : إنّه يلزم [ منه ] مخالفة الكتاب العزيز ؛ لأنّ اللّه تعالى قد نصّ نصّا صريحا في عدّة مواضع من القرآن أنّه يفعل لغرض وغاية ، لا عبثا ولعبا ..

قال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (2) ..

قال تعالى : ( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (3) ..

وقال تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (4).

وهذا الكلام نصّ صريح في التعليل بالغرض والغاية.

وقال تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (5) ..

وقال تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ) (6) ..

وقال تعالى : ( وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) (7).

ص: 52


1- نهج الحقّ : 93.
2- سورة الأنبياء 21 : 16.
3- سورة المؤمنون 23 : 115.
4- سورة الذاريات 51 : 56.
5- سورة النساء 4 : 160.
6- سورة المائدة 5 : 78.
7- سورة محمّد 47 : 31.

والآيات الدالّة على الغرض والغاية في أفعال اللّه أكثر من أن تحصى ، فليتّق اللّه المقلّد في نفسه ، ويخش عقاب ربّه ، وينظر في من يقلّده ، هل يستحقّ التقليد أو لا؟!

ولينظر إلى ما قال ، ولا ينظر إلى من قال ، وليستعدّ لجواب ربّ العالمين حيث قال : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) (1) .. فهذا كلام اللّه على لسان النذير ، وهاتيك الأدلّة العقليّة المستندة إلى العقل الذي جعله اللّه حجّة على بريّته.

وليدخل في زمرة الّذين قال اللّه تعالى عنهم : ( فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (2) ..

ولا يدخل نفسه في زمرة الّذين قال اللّه تعالى عنهم : قالوا ( رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) (3).

ولا يعذر بقصر العمر ، فهو طويل على الفكر ؛ لوضوح الأدلّة وظهورها ، ولا بعدم المرشدين ، فالرّسل متواترة ، والأئمّة متتابعة ، والعلماء متضافرة.

* * *

ص: 53


1- سورة فاطر 35 : 37.
2- سورة الزمر 39 : 17 و 18.
3- سورة فصّلت 41 : 29.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد ذكرنا في ما سبق أنّ ما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة (2).

فقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (3) ، فالمراد [ منه ] أنّ غاية خلق الجنّ والإنس والحكمة والمصلحة فيه كانت هي العبادة ، لا أنّ العبادة كانت باعثا له على الفعل ، كما في أرباب الإرادة الناقصة الحادثة.

وكذا غيره من نصوص الآيات ، فإنّها محمولة على الغاية والحكمة لا على الغرض.

* * *

ص: 54


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 444.
2- انظر الصفحة 37 من هذا الجزء.
3- سورة الذاريات 51 : 56.

وأقول :

لا يخفى أنّ حمل الآيات على مجرّد المنفعة والفائدة من دون أن تكون غرضا وعلّة غائيّة مستبعد جدّا ، بل هو ممتنع في أكثرها ، كالآية الأولى ، فإنّها دالّة على أنّ خلق السماوات والأرض بما فيهما من المنافع والفوائد صالح لأن يقع على نوعين : لعب ، وغير لعب ، ولا وجه له إلّا قصد الغاية وعدم قصدها ، وإلّا فلا يصحّ تنويع ما فيه الفائدة إلى نوعين :

لعب لا فائدة فيه ، وغير لعب فيه الفائدة.

* وكقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (1) فإنّه لا يمكن حمله على المنفعة والفائدة ؛ لأنّ المعنى حينئذ يكون :

ما خلقت كلّ فرد من الجنّ والإنس إلّا وفائدته ومنفعته العبادة .. وهو كذبّ ، إذ ليس كلّ فرد منهم عابدا ، بخلاف ما إذا قصد الغرض ، فإنّه لا يلزم حصوله.

وليس المقصود جنس الجنّ والإنس حتّى لا يلزم الكذب على تقدير إرادة الفائدة ؛ لأنّه نسب العبادة إلى ضمير الجمع الدالّ على الثبوت لكلّ فرد ؛ على أنّه لو قصد الجنس يكون أكثر الأفراد بلا فائدة ؛ لدلالة الآية على انحصار فائدة خلق الجنس الحاصل في خلق أفراده بالعبادة ، وحينئذ فيعود محذور الكذب.

* وكقوله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ) (2) الآية ، فإنّه لا معنى

ص: 55


1- سورة الذاريات 51 : 56.
2- سورة النساء 4 : 160.

لجعل ظلمهم وصدّهم عن سبيل اللّه منفعة وحكمة لتحريم الطيّبات ، وإنّما هما سبب وداع للتحريم.

* وكقوله تعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) (1) الآية ، فإنّه لا معنى لجعل عصيانهم منفعة وفائدة للعنهم ، وإنّما هو سبب وداع له.

فإن قلت : كما لم يكن الظلم والصدّ والعصيان منافع ، لا تكون أغراضا؟!

قلت : نعم ، ولكنّ التعليل يستلزم الغرض ؛ إذ لا يمكن سببيّة شيء لأن يفعل سبحانه باختياره وهو لا غرض له ؛ كما سبق.

ولو سلّم مسلّم ، فالآيتان لمّا دلّتا على تعليل أفعاله تعالى ، صحّ إثبات الغرض له ، الذي هو أيضا علّة باعثة على الفعل ؛ لأنّ النقص - على زعمهم - يأتي أيضا من قبل التعليل ؛ لأنّه يستدعي حاجته إلى العلّة في فعله ، فإذا اقتضت الآيتان عدم النقص بالتعليل صحّ إثبات الغرض.

ثمّ لو سلّم إمكان حمل الآيات كلّها على مجرّد الفائدة ، فلا داعي له بعد عدم المعارضة بالنقل كما هو ظاهر ، ولا بالعقل ؛ لفساد أدلّته ، مع إنّهم لم يجروها في القياس كما سبق! واعلم أنّ الغرض هو الغاية ، فما معنى نفي الخصم الغرض لأفعاله تعالى وإثبات الغاية لها؟!!

وقد حصل هذا التناقض منه قبل - كما في أوّل هذا المطلب - إذ ذكر أنّ الأشاعرة قالوا : لا يجوز تعليل أفعاله بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة (2) ، ثمّ قال في آخر كلامه : « وما ورد من الظواهر الدالّة على تعليل

ص: 56


1- سورة المائدة 5 : 78.
2- انظر الصفحة 29 من هذا الجزء.

أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة ، دون الغرض والعلّة » (1).

نعم ، قد يريد بالغاية عند إثباتها مجرّد الفائدة المترتّبة اتّفاقا ، لا العلّة الغائيّة ، وفائدة كلامه تخفيف الشناعة وتلبيس الحقّ.

* * *

ص: 57


1- انظر الصفحة 30 من هذا الجزء.

قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - :

قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :

ومنها : إنّه يلزم تجويز تعذيب أعظم المطيعين لله تعالى كالنبيّ صلی اللّه علیه و آله بأعظم أنواع العذاب ، وإثابة أعظم العاصين كإبليس وفرعون بأعظم مراتب الثواب ؛ لأنّه إذا كان يفعل لا لغرض وغاية ، ولا لكون الفعل حسنا ، ولا يترك الفعل لكونه قبيحا ، بل مجّانا لغير غرض ، لم يكن تفاوت بين سيّد المرسلين وإبليس في الثواب والعقاب ، فإنّه لا يثيب المطيع لطاعته ، ولا يعاقب العاصي لعصيانه.

فإذا تجرّد هذان الوصفان عن الاعتبار في الإثابة والانتقام ، لم يكن لأحدهما أولوية الثواب والعقاب دون الآخر.

فهل يجوز لعاقل يخاف اللّه وعقابه أن يعتقد في اللّه تعالى مثل هذه العقائد الفاسدة؟! مع أنّ الواحد منّا لو نسب إلى أنّه يسيء إلى من أحسن إليه ويحسن إلى من أساء إليه ، قابله بالشتم والسبّ ولم يرض ذلك منه ..

فكيف يليق أن ينسب ربّه إلى شيء يكرهه أدون الناس لنفسه؟!

* * *

ص: 58


1- نهج الحقّ : 94.

وقال الفضل (1) :

هذا الوجه بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى بيان ؛ لأنّ أحدا لم يقل :

بأنّ الفاعل المختار الحكيم لم يلاحظ غايات الأشياء والحكم والمصالح فيها.

فإنّهم يقولون في إثبات صفة العلم : إنّ أفعاله متقنة (2) ، وكلّ من كان أفعاله متقنة فلا بدّ أن يلاحظ الغاية والحكمة ، فملاحظة الغاية والحكمة في الأفعال لا بدّ من إثباته بالنسبة إليه تعالى ، وإذا كان كذلك كيف يجوز التسوية بين العبد المطيع والعبد العاصي؟! وعندي أنّ الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية لم يحرّروا هذا النزاع ولم يبيّنوا محلّه ، فإنّ جلّ أدلّة المعتزلة دلّت على إنّهم فهموا من كلام الأشاعرة نفي الغاية والحكمة والمصلحة ، وإنّهم يقولون : إنّ أفعاله اتّفاقيات كأفعال من لم يلاحظ الغايات (3) ، واعتراضاتهم واردة على هذا.

فنقول : الأفعال الصادرة من الإنسان مثلا مبدؤها دواع مختلفة ، ولا بدّ لهذه الدواعي من ترجيح بعضها على بعض ، والمرجّح هو الإرادة الحادثة (4) .. فذلك الداعي الذي بعث الفاعل على الفعل مقدّم على وجود

ص: 59


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 445.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 188 ، المواقف : 285.
3- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 350 - 354.
4- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 205 - 208.

الفعل ، ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل ، فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه إلى ذلك الباعث ، وهو العلّة الغائيّة والغرض.

هذا تعريف الغرض في اصطلاح القوم ، فإن عرض هذا على المعتزلي فاعترف بأنّه تعالى في أفعاله صاحب هذا الغرض ، لزمه إثبات الاحتياج لله تعالى في أفعاله ، وهو لا يقول بهذا قطّ ؛ لأنّه ينفي الصفات الزائدة ليدفع الاحتياج ، فكيف يجوّز الغرض المؤدّي إلى الاحتياج؟! فبقي أنّ مراده من إثبات الغرض دفع العبث من أفعاله تعالى ، فهو يقول : إنّ اللّه تعالى مثلا خلق الخلق للمعرفة ، يعني غاية الخلق ، والمصلحة التي لاحظها اللّه تعالى وراء علّتها هي المعرفة ، لا أنّه يفعل الأفعال لا لغرض ومقصود كالعابث واللاعب ، فهذا عين ما يقوله الأشاعرة من إثبات الغاية والمصلحة.

فعلم أنّ النزاع نشأ من عدم تحرير المدّعى.

* * *

ص: 60

وأقول :

إن أراد بملاحظة الغاية كونها داعية للفعل ، فهو مذهبنا (1) ، ولا يقوله الأشاعرة.

وإن أراد بها مجرّد إدراك الغاية من دون أن تكون باعثة على الفعل ، فهو مذهب الأشاعرة (2) ، ويلزمه العبث وسائر المحالات ، ويجوز بمقتضاه أن يعذّب اللّه سبحانه أعظم المطيعين ، ويثيب أعظم العاصين ؛ لأنّه لا غاية له تبعثه إلى الفعل ، بل يفعل مجّانا بلا غرض ، بل يجوز أن لا تكون أفعاله متقنة ، وإن اتّفق إتقانها في ما وقع ، وأمّا في ما لم يقع بعد - كالثواب والعقاب - فمن الجائز أن لا يكون متقنا ؛ لفرض عدم الغرض له تعالى ، ولأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء! ..

فما زعمه من عدم تحرير الفريقين لمحلّ النزاع حقيق بالسخرية! أتراه يخفى على جماهير العلماء ويظهر لهذا الخصم وحده؟! وهل يخفى على أحد أنّ النزاع في الغرض والعلّة الغائيّة ، وأنّ الإمامية والمعتزلة لم يروا بالقول بالغرض بأسا ونقصا ، بخلاف الأشاعرة؟! وهذا الخصم ما زال ينسب لقومه القول بالغاية ، فإن أراد بها الغاية الباعثة على الفعل ، فهي خلاف مذهبهم بالضرورة.

ص: 61


1- تجريد الاعتقاد : 198 ، كشف المراد : 331 ، تلخيص المحصّل : 343 - 344.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 350 ، المواقف : 331 - 332 ، شرح المواقف 8 / 202 - 206.

وإن أراد بها الأمر المترتّب اتّفاقا ، كقوله تعالى : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (1) ، غاية الأمر : أنّ اللّه تعالى عالم بهذا الأمر المترتّب ، فهو حقيقة مذهبهم ، وعليه ترد الإشكالات ، ولا ينفع معه التسويلات والتنصّلات.

وأمّا ما ذكره من قولهم بالحكمة والمصلحة ، فهو وإن قالوا به ظاهرا ، لكن لا بنحو اللزوم كقولهم بالإتقان ؛ لأنّ اللزوم لا يجتمع مع نفي الغرض ونفي الحسن والقبح العقليّين ونفي وجوب شيء عليه تعالى.

وأمّا قوله : « ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل » ..

فإن أراد به أنّه لا يفعله لكونه عبثا ، فهو صحيح ، واللّه سبحانه أحقّ به.

وإن أراد أنّه لا يفعله لعدم قدرته عليه كما زعمه سابقا ، فهو باطل - كما عرفت - ، ومنه يعلم ما في قوله : « فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه ».

وقد بيّنّا أنّ هذا الاحتياج لإخراج الفعل عن العبث لا لنقص في القدرة ، فيكون كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ، لا كاحتياج الذات إلى صفاتها الزائدة الموجب لنقص الذات في نفسها (2) ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 62


1- سورة القصص 28 : 8.
2- انظر ج 2 / 169 وما بعدها من هذا الكتاب.

إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

المطلب الخامس : في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

اشارة

هذا هو مذهب الإمامية ، قالوا : إنّ اللّه تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أم لا ، ولا يريد المعاصي سواء وقعت أم لا ، [ وكره المعاصي سواء وقعت أم لا ] ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أم لا (2).

وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ اللّه تعالى يريد كلّ ما يقع في الوجود ، سواء كان طاعة أم لا ، وسواء أمر به أم نهى عنه (3) [ وكره كلّ ما لم يقع ، سواء كان طاعة أو لا ، وسواء أمر به أو نهى عنه ] ، فجعلوا كلّ المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور مرادة لله تعالى ، وأنّه تعالى راض بها!

ص: 63


1- نهج الحقّ : 94.
2- أوائل المقالات : 57 - 58 ، شرح جمل العلم والعمل : 87 ، المنقذ من التقليد 1 / 179 ، تجريد الاعتقاد : 199.
3- الإبانة في أصول الديانة : 126 - 127 ، تمهيد الأوائل : 317 ، الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - : 102 ، الملل والنحل 1 / 83 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 343 ، المواقف : 320 ، شرح المقاصد 4 / 274 ، شرح المواقف 8 / 173.

وبعضهم قال : إنّه محبّ لها ، وكلّ الطاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى غير مريد لها ، وإنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، وإنّ الكافر فعل في كفره ما هو مراد لله تعالى وترك ما كره اللّه تعالى من الإيمان والطاعة منه (1).

وهذا القول يلزم منه محالات ، منها : نسبة القبيح إلى اللّه تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، وقد بيّنّا أنّه تعالى منزّه عن فعل القبائح كلّها (2).

* * *

ص: 64


1- انظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 343 - 345 ، شرح المواقف 8 / 173 وقال : « منهم - أي الأشاعرة - من جوّز أن يقال : اللّه مريد للكفر والفسق والمعصية » وذكر في ص 174 أنّ خالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة ، وفيه أيضا : أنّ عدم إيمان الكافر مراد لله .. فلاحظ!
2- راجع كلام العلّامة الحلّي قدس سره في ج 2 / 334 المبحث الحادي عشر من هذا الكتاب.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد وما ليس بكائن ليس بمراد ، واتّفقوا على جواز إسناد الكلّ إليه تعالى جملة ، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه (2).

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد لجميع أفعاله ، أمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر (3).

ودليل الأشاعرة : إنّه خالق للأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة (4).

وأمّا ما استدلّ به هذا الرجل في عدم جواز إرادة اللّه تعالى للشرك والمعاصي ، فهو من استدلالات المعتزلة.

والجواب : إنّ الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى : إنّه أمر قدّره اللّه تعالى في الأزل للكافر ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس

ص: 65


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 448.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 343 ، المواقف : 320 ، شرح المواقف 8 / 173 و 174.
3- تقدّم في الصفحة 63 ه 2 ، وراجع المصارد التالية التي تذكر آراء المعتزلة : شرح الأصول الخمسة : 456 - 457 ، الملل والنحل 1 / 39 ، شرح المواقف 8 / 173.
4- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 343 ، المواقف : 320 ، شرح المواقف 8 / 174.

الرضا بالإرادة.

وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر من الكافر مكروهة لله تعالى ..

فإن أراد بالكراهة عدم تعلّق الإرادة به ، فصحيح ؛ لأنّه لو أراد لوجد ..

وإن أراد عدم الرضا به ، فهو باطل ؛ لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرضا أو عدمه.

وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، فإنّه تعالى أمر الكفّار بالإسلام ولم يرد إسلامهم ، بمعنى عدم تقدير إسلامهم ، وهذا لا يعدّ من السفه ، ولا محذور فيه ، وإنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، ولكن هذا الانحصار ممنوع ؛ لأنّه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم فلا يعدّ سفها.

وأمّا ما ذكره من لزوم نسبة القبيح إلى اللّه تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ..

فجوابه : إنّ الإرادة بمعنى التقدير ، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه.

على أنّ هذا مبنيّ على القبح العقلي وهو غير مسلّم عندنا ، ومع هذا فإنّه مشترك الإلزام ؛ لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحا ، واللّه تعالى خلقه بالاتّفاق منّا ومنكم.

* * *

ص: 66

وأقول :

لا يخفى أنّ الأمور الممكنة إنّما يفعلها القادر المختار أو يتركها بإرادة منه ؛ لأنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلّا بمرجّح ، وهو الإرادة ، فيكون العدم على طبع الوجود مقدورا ومستندا إلى الإرادة.

ولذا أسند اللّه تعالى العدم المسبوق بالوجود إلى إرادته حيث يقول :

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (1) الآية ، فإنّ إهلاك القرية عبارة عن إماتة أهلها بسبب العذاب ، والموت عدم الحياة.

ولا ريب أنّ الإرادة تتوقّف على أمور :

منها : تصوّر المراد ..

ومنها : الرضا به ، سواء كان وجودا أو عدما ، وسواء كان حكما أم غيره ، فإنّ من يريد شيئا لا بدّ أن يرضى به بالضرورة.

ومنها : الرضا بمتعلّق المراد على وجه التعيّن له أو الترجيح له أو التساوي كما في متعلّق التكاليف ، فإنّ الحاكم إذا كلّف بنحو الوجوب لا بدّ أن يرضى بوجود الواجب على وجه التعيّن له بحيث يكون كارها لنقيضه ، ومثله الحرمة بالنسبة إلى الرضا بالترك والكراهة لنقيضه.

وإذا كلّف بنحو الندب ، لزم أن يرضى بالوجود على وجه الرجحان ، ومثله الكراهة بالنسبة إلى الرضا بالترك.

وإذا حكم على وجه الإباحة ، لزم أن يرضى بالوجود والعدم بنحو

ص: 67


1- سورة الإسراء 17 : 16.

التساوي.

نعم ، إذا كان التكليف امتحانيا لم تتوقّف إرادته إلّا على الرضا بأصل التكليف ، لا بمتعلّقه.

فإذا عرفت هذا فنقول : لمّا كانت أفعال العباد عند الإمامية غير مخلوقة لله تعالى ، لم تكن له إلّا إرادة تشريعية ، أي إرادة للأحكام ، فلم يكن له تعالى رضا بما يريده العباد ويفعلونه من المعاصي ، ولا كراهة لما يتركونه من الطاعات.

بخلافه على مختار الأشاعرة من أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه يلزم أن يكون اللّه سبحانه مريدا للمعاصي الواقعة راضيا بها ، ولعدم الطاعات المتروكة كارها لها ؛ لأنّ فعله للمعاصي يتوقّف على إرادتها المتوقّفة على الرضا بها ، وتركه للطاعات يتوقّف على إرادة الترك المتوقّفة على الرضا به وكراهته الفعل ، كما سبق (1).

ويلزم أن يكون اللّه تعالى آمرا بما يريد عدمه ويكرهه ولا يرضى به ، وهو الذي لم يخلقه من الطاعات ، وناهيا عمّا أراده ورضي به ، وهو الذي خلقه من المعاصي ، بل يلزم اجتماع الضدّين : الرضا والكراهة في ما أمر به وتركه ؛ لأنّ أمره دليل الرضا وتركه دليل الكراهة.

وكذا يجتمعان في ما نهى عنه وفعله ؛ لأنّ نهيه مستلزم للكراهة ، وفعله مستلزم للرضا.

وهذا الذي قلناه لا يبتني على أنّ تكون الإرادة بمعنى الرضا كما تخيّله الخصم ، بل هو مبنيّ على توقّف الإرادة على الرضا - كما بيّنّاه - ،

ص: 68


1- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج 2 / 373 من هذا الكتاب.

فلا معنى لقوله : « الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى أنّه أمر قدّره اللّه في الأزل ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس الرضا بالإرادة ».

على أنّ تفسير الإرادة بالتقدير ، خطأ ؛ لأنّ الإرادة صفة ذاتية والتقدير فعل ، ولو سلّم فقد عرفت أنّ التقدير موقوف على الإرادة (1) ، وهي موقوفة على الرضا.

ومن الفضول قوله في ما سمعت : « وأمر المشرك به » ..

فإنّ المصنّف لم يدّع أنّه يلزم مذهبهم أمر المشرك به حتّى ينفيه ، ولا هو متوهّم من كلام المصنّف.

وأمّا إنكاره لعدم الرضا بترك الطاعات ، بحجّة أنّها لم تحصل في الوجود حتّى يتعلّق بها الرضا أو عدمه ، فخطأ ؛ لأنّ الرضا وعدمه إنّما يتعلّقان بالشيء من حيث هو ، لا بما هو موجود ، كيف؟! وهما سابقان على الإرادة السابقة على الوجود.

وأمّا إنكاره للسفه في الأمر بالإسلام الذي لم يقدّره ، فمكابرة ظاهرة.

وقوله : « إنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به » ..

باطل ؛ لأنّ إتمام الحجّة إنّما يكون على القادر المتمكّن ، لا على العاجز ، فيكون امتحانه سفها آخر ، تعالى اللّه عنه علوّا كبيرا ، وسيأتي قريبا زيادة إشكال عليه فانتظر.

وأمّا قوله : « وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح » ..

ص: 69


1- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج 2 / 373 من هذا الكتاب.

فمكابرة أخرى كما مرّ (1) ، إذ لا وجه لعدم قبح القبيح منه سبحانه ، وهو أولى من يتنزّه عن فعل القبيح.

وأمّا ما زعمه من الاشتراك في الإلزام ، فقد عرفت جوابه (2).

* * *

ص: 70


1- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في مبحث « إنّه تعالى لا يفعل القبيح » ، الصفحة 9 من هذا الجزء.
2- راجع الصفحة 25 من هذا الجزء.

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : كون العاصي مطيعا بعصيانه ، حيث أوجد مراد اللّه تعالى وفعل وفق مراده.

* * *

ص: 71


1- نهج الحقّ : 95.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّ المطيع من أطاع الأمر ، والأمر غير الإرادة ، فالمريد هو المقدّر للأشياء ومرجّح وجوداتها ، فإذا وقع الخلق على وفق إرادته فلا يقال : إنّ الخلق أطاعوه.

نعم ، إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين.

* * *

ص: 72


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 452.

وأقول :

غير خفيّ أنّ الطاعة منوطة بموافقة الإرادة ، والعصيان بمخالفتها ، لا بموافقة لفظ الأمر ومخالفته ..

ولذا لو علمت إرادة المولى لشيء ولم يأمر به لمانع وجب إتيانه ..

ولو علم عدم إرادته مع أمره صورة لم يجب فعله ..

وإنّما قالوا : الطاعة موافقة الأمر ؛ لأنّه دليل الإرادة ولا تعرف بدونه غالبا ، وحينئذ فيلزم ما ذكره المصنّف من كون العاصي مطيعا بعصيانه لموافقته للإرادة التكوينية ، بل هو موافق للأمر التكويني فيكون مطيعا ألبتّة.

قال عزّ من قائل : ( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (1) ..

وقال تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2).

* * *

ص: 73


1- سورة فصّلت 41 : 11.
2- سورة يس 36 : 82.

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

ومنها : كونه تعالى يأمر بما يكره ؛ لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه حيث لم يوجد .. وينهى عمّا يريد ، لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه.

وكلّ من فعل هذا من أشخاص البشر ينسبه كلّ عاقل إلى السفه والحمق ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربّه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنه؟!

* * *

ص: 74


1- نهج الحقّ : 95.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يعدّ سفها (2) ، وإنّما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، وليس كذلك ؛ لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل.

أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة ؛ فلأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده.

وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه ؛ فلأنّه يحصل مقصوده وهو الامتحان ، أطاع أو عصى ، فلا سفه بالأمر بما لا يريده الآمر.

* * *

ص: 75


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 452.
2- راجع ردّ الفضل في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج 2 / 372 ، وانظر الصفحتين 65 - 66 من هذا الجزء.

وأقول :

لا يخفى أنّ السفه يحصل بطلب الفعل والأمر به حقيقة مع كراهته في الواقع ، وبالنهي عنه حقيقة مع إرادته واقعا ، كما هو الحاصل في الشرعيّات ، ضرورة مطلوبية مثل الإيمان وعدم الكفر حقيقة.

ولا محلّ لاحتمال أن يكون الطلب لمثل ذلك صوريا لغرض الامتحان أو غيره ، على أنّ الامتحان للعاجز سفه آخر.

ثمّ إنّ كلامه دالّ على ثبوت الغرض لله تعالى ، وهو باطل على قولهم : « إنّ أفعاله تعالى لا تعللّ بالأغراض » (1)!

* * *

ص: 76


1- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 350 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 296 ، المواقف : 331 ، شرح المواقف 8 / 202.

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - :

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :

ومنها : مخالفة النصوص القرآنية الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات ، كقوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (2) ..

( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (3) ..

( فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (4) ..

( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (5) ..

إلى غير ذلك من الآيات ..

فترى لأيّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟!

* * *

ص: 77


1- نهج الحقّ : 95.
2- سورة غافر 40 : 31.
3- سورة الإسراء 17 : 38.
4- سورة الزمر 39 : 7.
5- سورة البقرة 2 : 205.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضا والاستحسان ، ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا ، فقوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (2) ، أريد من الإرادة الرضا ، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة ، وهذا عين المذهب.

وأمّا الإرادة بمعنى التقدير والترجيح ، أو مبدأ الترجيح ، فلا تقابلها الكراهة ، وهو معنى آخر.

وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا.

* * *

ص: 78


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 454.
2- سورة غافر 40 : 31.

وأقول :

لمّا كان من مذهبه : أنّ اللّه سبحانه هو الخالق للظلم الواقع في الكون ، المريد له (1) ، وكان ذلك خلافا صريحا للآية الأولى ، التجأ إلى حمل الإرادة فيها على الرضا ، وهو لو سلّم لا ينفعه ؛ لتوقّف الإرادة على الرضا ؛ لأنّه من مقدّماتها ، فإذا نفت الآية رضاه تعالى بالظلم - كما زعم - استلزم نفي إرادته له ، وهو خلاف مذهبه.

وليت شعري إذا لم يرض سبحانه بالظلم والكفر وكان السيّئ عنده مكروها ولا يحبّ الفساد ، فكيف أرادها وخلقها وهو العالم المختار؟!

وإذا كان يرضى الشكر ، فما المانع له عن إرادته وخلقه وهو المتصرّف فيه كما زعموا؟!

وأمّا قوله : « وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا » ..

فكلام صادر من غير تروّ ، إذ ليس في بقيّة الآيات التي ذكرها المصنّف رحمه اللّه ما يشتمل على لفظ الإرادة ، ولا يعوزه الجواب إذا كان مبنيا على المغالطة.

* * *

ص: 79


1- راجع الصفحة 63 من هذا الجزء.

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

ومنها : مخالفة المحسوس وهو : استناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصوارف ؛ لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة.

وإنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف ، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها وانتفاء الصارف عنها.

وفي القبيح ثبوت الصارف وانتفاء الداعي ؛ لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى ، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاها ، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به.

فحينئذ يتحقّق ثبوت الداعي إلى الطاعات ، وثبوت الصارف في المعاصي ، فثبت إرادته للأوّل وكراهته للثاني.

* * *

ص: 80


1- نهج الحقّ : 96.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إسناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصارف لا ينافي سبق إرادة اللّه تعالى لأفعالهم وخلقه لها ؛ لأنّ الإسناد بواسطة الكسب والمباشرة ، فلا يكون مخالفة للمحسوس.

وأمّا ما ذكره من الدليل ، فهو مبنيّ على إثبات الحسن والقبح العقليّين ، وقد أبطلناهما.

* * *

ص: 81


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 455 - 456.

وأقول :

حاصل مراد المصنّف : إنّ الظاهر عندنا الضروري لدينا ، أنّ الفعل إنّما تتفرّع إرادته وإيجاده عن ثبوت الداعي له وانتفاء الصارف عنه ، وتتفرّع كراهته وتركه عن وجود الصارف عنه وعدم الداعي له.

ولا ريب أنّ الفعل الذي به الطاعة حسن ، والحسن جهة دعاء ، والفعل الذي به المعصية قبيح ، والقبح جهة صرف ، فلا بدّ أن يكون ما به الطاعة مراد اللّه تعالى ؛ لوجود الداعي له وهو حسنه بلا صارف عنه ، وما به المعصية مكروها لله تعالى ؛ لوجود الصارف عنه وهو قبحه بلا داع له ..

لأنّ الداعي : إمّا الحاجة إليه ، أو الجهل بقبحه ، وهما منتفيان في حقّ اللّه تعالى.

أو الحكمة ، وهي منافية لفعل القبيح ، فيلزم أن تثبت إرادة اللّه تعالى للطاعات ، وكراهته للمعاصي ، إرادة وكراهة تشريعيّتين عندنا وتكوينيّتين عند الأشاعرة.

لكنّهم خالفوا المحسوس بقولهم : إنّ اللّه تعالى يريد كلّ ما وقع في الوجود من الأفعال ، سواء كان طاعة أم معصية ، ويكره كلّ ما لم يقع (1).

فإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ مراد المصنّف هو : الداعي والصارف لله تعالى لا للعبد كما تخيّله الخصم ، فأجاب بما لا يرتبط بكلام المصنّف أصلا.

ص: 82


1- راجع الصفحة 63 من هذا الجزء.

والأولى للخصم الاكتفاء في الجواب بإنكار الحسن والقبح العقليّين في الأفعال.

لكن يرد عليه - مع بطلانه كما سبق (1) - أنّ بعض الأفعال صفة كمال أو نقص عندهم ، كالعدل ، والظلم ، والإصلاح ، والإفساد ، ونحوها ..

وهم يقولون : بالحسن والقبح عقلا فيها كما سبق منه (2) ، وهو كاف في تمام دليل المصنّف رحمة اللّه عليه.

* * *

ص: 83


1- انظر الصفحة 9 من هذا الجزء.
2- راجع ردّ الفضل بن روزبهان من مبحث « الحسن والقبح العقليّين » في ج 2 / 411 من هذا الكتاب.

ص: 84

وجوب الرضا بالقضاء

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المطلب السادس : في وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى

اشارة

اتّفقت الإمامية والمعتزلة وغيرهم من الأشاعرة وجميع طوائف الإسلام على وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره (2).

ثمّ إنّ الأشاعرة قالوا قولا لزمهم منه خرق الإجماع والنصوص الدالّة على وجوب الرضا بالقضاء ، وهو : إنّ اللّه تعالى يفعل القبائح بأسرها ولا مؤثّر في الوجود غير اللّه تعالى من الطاعات والقبائح (3) ..

فتكون القبائح من قضاء اللّه تعالى على العبد وقدره ، والرضا بالقبيح

ص: 85


1- نهج الحقّ : 96.
2- انظر رأي الإمامية والمعتزلة في : التوحيد - للصدوق - : 370 ، المنقذ من التقليد 1 / 192 - 193 ، تجريد الاعتقاد : 200 ، المحيط بالتكليف : 420. وأنظر رأي الأشاعرة في : الملل والنحل 83/1 ، محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين : 289 ، المواقف : 322 ، شرح المواقف 176/8 - 177.
3- انظر الصفحة 6 ه 2 من هذا الجزء.

حرام بالإجماع (1) ، فيجب أن لا يرضى بالقبيح ..

ولو كان من قضاء اللّه تعالى لزم إبطال إحدى المقدّمتين ، وهي :

إمّا عدم وجوب الرضا بقضائه تعالى وقدره ..

أو وجوب الرضا بالقبيح ..

وكلاهما خلاف الإجماع.

أمّا على قول الإمامية ، من أنّ اللّه تعالى منزّه من فعل القبائح والفواحش ، وأنّه لا يفعل إلّا ما هو حكمة وعدل وصواب ، ولا شكّ في وجوب الرضا بهذه الأشياء ، فلا جرم كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية والمعتزلة واجبا ، ولم يلزم منه خرق الإجماع في ترك الرضا بقضاء اللّه تعالى ولا في الرضا بالقبائح.

* * *

ص: 86


1- انظر : التوحيد - للصدوق - : 371 ، تقريب المعارف : 105 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 88 و 89 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 344 ، المواقف : 322.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق أنّ وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى مذهب الأشاعرة (2) ، وأمّا لزوم نسبة فعل القبائح إليه تعالى فقد عرفت بطلانه في ما سبق (3) ، وأنّه غير لازم ؛ لأنّ خلق القبيح ليس فعله ، ولا قبيح بالنسبة إليه تعالى.

وأمّا قوله : « فتكون القبائح من قضاء اللّه تعالى » ..

فجوابه : إنّ القبائح مقضيّات لا قضاء ، والقضاء فعل اللّه تعالى ، والقبيح هو المخلوق.

ونختار من المقدّمتين وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره ، ولا نرضى بالقبيح ، والقبيح ليس هو القضاء ، بل هو المقضيّ كما عرفته ، ولم يلزم منه خرق الإجماع.

* * *

ص: 87


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 459.
2- راجع ردّ الفضل بن روزبهان في ج 2 / 338.
3- راجع ردّ الفضل بن روزبهان في الصفحة 7 من هذا الجزء.

وأقول :

قد بيّنّا أنّ خلق القبيح فعله (1) ، ولو سلّمت المغايرة فهو في القبح مثله.

وليت شعري لم يمتنع من القول : بأنّ الخلق هو الفعل؟! والحال أنّه يزعم أنّه لا قبيح بالنسبة إليه تعالى ، فليكن فعله سبحانه للقبيح سائغا ، وتسميته الخلق بالفعل جائزة ، لا سيّما و [ أنّه ] لا حسن ولا قبح عقلا في الأفعال عندهم!

وليس هو بأعظم من حكمه بأنّ اللّه سبحانه يقضي بالقبيح ، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القضاء والمقضيّ ، فقد سبق أنّه لا يغني شيئا ؛ للتلازم بينهما في الرضا وعدمه (2).

على أنّ القبائح المقضيّات لله سبحانه مرضيّات له ؛ لتوقّف فعل الشيء بالاختيار على إرادته والرضا به - كما مرّ (3) - ، فلو سخطها العبد كان سخطا لما رضي اللّه وأراده.

فإن قلت : من مقضيّات اللّه تعالى : جهل العباد وملكاتهم السيّئة كالجبن والبخل ، وهي ممّا اتّفقت الكلمة والأخبار على ذمّها وعدم الرضا بها ، فلا بدّ من القول بعدم التلازم بين القضاء والمقضيّ في الرضا وعدمه.

ص: 88


1- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في الصفحة 9 من هذا الجزء.
2- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في ج 2 / 339.
3- انظر ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في ج 2 / 339.

قلت : ذمّ الجهل وعدم الرضا به ليس من حيث أصل وجوده ، ولذا لا يذمّ جهل الطفل ولا يسخط منه ، بل من حيث البقاء والاستمرار عليه لمن يتمكّن من إزالته ، والبقاء عليه مستند إلى العبد.

كما إنّ ذمّ الجبن والبخل وعدم الرضا بهما ليس من حيث أصل وجودهما الذي قضت به الحكمة الإلهيّة ، بل من حيث آثارهما المستندة إلى العبد التي يقدر على مجانبتها بالنظر إلى قبحها ، وتعويد نفسه على خلافها ، بل يقدر على تبديل الملكتين بخلافهما.

فالجهل والجبن والبخل مرضيّات الوجود ، مسخوطات البقاء أو الآثار ، والمرضيّ مستند إلى اللّه تعالى ، والمسخوط مستند إلى العبد.

* * *

ص: 89

ص: 90

إنّه تعالى لا يعاقب على فعله

اشارة

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

المطلب السابع : في أنّ اللّه تعالى لا يعاقب الغير على فعله

اشارة

ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ اللّه تعالى لا يعذّب العبيد على فعل يفعله فيهم ، ولا يلومهم عليه (2).

وقالت الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى لا يعذّب العبد على فعل العبد ، بل يفعل اللّه تعالى فيه الكفر ، ثمّ يعاقبه عليه ، ويفعل فيه الشتم لله تعالى والسبّ له ولأنبيائه علیهم السلام ويعاقبه عليها ، ويخلق فيهم الإعراض عن الطاعات وعن ذكره وذكر أحوال المعاد .. ثمّ يقول : ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (3) (4).

ص: 91


1- نهج الحقّ : 98.
2- أوائل المقالات : 57 - 58 رقم 26 وذكر الشيخ المفيد رأي المعتزلة كذلك ، المنقذ من التقليد 1 / 190 و 199. وأنظر رأي المعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : 332 وما بعدها ، الملل والنحل 39/1 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 344/1.
3- سورة المدّثّر 74 : 49.
4- (4) الإبانة عن أصول الديانة : 158 - 161 ، تمهيد الأوائل : 317 - 323 ، الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - :1. 117 ، المواقف : 320 - 321 ، شرح المقاصد 4 / 274 - 275 ، شرح المواقف 8 / 173 وما بعدها.

وهذا أشدّ أنواع الظلم ، وأبلغ أصناف الجور ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا .. وقد قال تعالى :

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (1) ..

( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (2) ..

( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (3) ..

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (4).

وأيّ ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا ويعاقبه عليه؟! بل يخلقه أسود ثمّ يعذّبه على سواده ، ويخلقه طويلا ثمّ يعاقبه على طوله ، ويخلقه أكمه ويعذّبه على ذلك ، ولا يخلق له قدرة على الطيران إلى السماء ثمّ يعذّبه بأنواع العذاب على أنّه لم يطر!

فلينظر العاقل المصنف من نفسه ، التارك للهوى ، هل يجوز له أن ينسب ربّه عزّ وجلّ إلى هذه الأفعال؟! مع أنّ الواحد منّا لو قيل له : إنّك تحبس عبدك وتعذّبه على عدم خروجه في حوائجك! لقابل بالتكذيب وتبرّأ من هذا الفعل ، فكيف يجوز أن ينسب ربّه إلى ما يتنزّه هو عنه؟!

* * *

ص: 92


1- سورة فصّلت 41 : 46.
2- سورة غافر 40 : 31.
3- سورة النحل 16 : 118.
4- سورة الأنعام 6 : 164 ، سورة الإسراء 17 : 15 ، سورة الزمر 39 : 7 ، سورة فاطر 35 : 18.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : أن لا خالق غير اللّه تعالى كما نصّ عليه في كتابه العزيز : ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) وهو يعذّب العبد على فعل العبد ؛ لأنّ العبد هو المباشر والكاسب لفعله وإن كان خلقه من اللّه تعالى ، والخلق غير الفعل والمباشرة.

ثمّ إنّه لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك (3).

وليس هذا من باب الظلم ؛ لأنّ الظلم هو التصرّف في حقّ الغير ، ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم ، فالعباد كلّهم ملك اللّه تعالى ، وله التصرّف فيهم كيف يشاء.

ألا ترى إلى قول عيسى علیه السلام حيث حكى اللّه تعالى عنه : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) (4) جعل العبودية سببا مصحّحا للتعذيب ، والمراد أنّهم ملكك ولك التصرّف فيهم كيف شئت ، فلا ظلم بالنسبة إليه تعالى كيفما يتصرّف في عباده.

هذا هو الحقّ الأبلج وما سواه بدعة وضلالة ، كما ستراه وتعلمه بعد هذا في مبحث خلق الأعمال إن شاء اللّه تعالى.

ص: 93


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 466.
2- سورة الرعد 13 : 16 ، سورة الزمر 39 : 62.
3- انظر الصفحة 7 - 8 والصفحة 91 ه 4 من هذا الجزء.
4- سورة المائدة 5 : 118.

وما ذكره من خلق الأسود وتعذيبه بالسواد فهذا من باب طامّاته ، وكذا ما ذكره من الأمثلة.

فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب ، والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض ؛ لأنّ العبد في الأفعال كاسب ومباشر ، والثواب والعقاب بواسطة المباشرة كما ستعرف.

* * *

ص: 94

وأقول :

قد سبق في المطلب الأوّل بيان المراد في قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) فراجع تحقيقه (2).

وأمّا قوله : « لأنّ العبد هو المباشر والكاسب » ..

ففيه : إنّ الكسب الذي يزعمونه أيضا خلق اللّه تعالى ؛ لأنّه خالق كلّ شيء ، ولا أثر للعبد في الكسب أصلا.

ما أدري هل المقتضي للعقاب مجرّد الألفاظ وأن يقال : إنّ العبد كسب وفعل؟!

وأمّا قوله : « ومن تصرّف في حقّه بأيّ وجه من وجوه التصرّف لا يقال : إنّه ظلم » ..

فظاهر البطلان ، ضرورة أنّ صحّة تعذيب العبد بأنواع العذاب من دون ذنب ليست من مقتضيات الملكيّة وحقوقها ، بل هذا التصرّف ظلم محض لا يستحقّه المالك بوجه أصلا.

قال تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) (3) ، فإنّه سبحانه جعل إهلاكه للمصلح ظلما وإن كان من التصرّف في الملك.

فتعبير الخصم عن الملك بالحقّ على وجه يجوز فيه ذلك التصرّف

ص: 95


1- سورة الرعد 13 : 16 ، الزمر 39 : 62.
2- انظر ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في ج 2 / 342.
3- سورة هود 11 : 117.

خطأ واضح.

وأمّا استدلاله بالآية الحاكية لقول عيسى علیه السلام ففي غير محلّه ؛ لأنّ حقّيّة العقاب متوقّفة على أمرين : الذنب ، وولاية المعذّب على المذنب.

ولمّا كان من اتّخذ عيسى وأمّه إلهين مذنبا - وسابقا ذكر ذنبه في الآية - بيّن عيسى الأمر الثاني ، وهو : ولاية اللّه تعالى عليهم بأنّهم عباده ، فلم تدلّ الآية على صحّة عذاب من لا ذنب له.

وأمّا قوله : « فإنّ هذه الأشياء أعراض خلقت ولا يتعلّق بها ثواب وعقاب » ..

ففيه : - مع أنّ بعض أمثلة المصنّف كالطيران من الأفعال - إن أراد أنّها لا يتعلّق بها ثواب وعقاب من حيث الوقوع ، فمسلّم ، وليس هو مقصود المصنّف.

وإن أراد أنّه لا يجوز تعلّقهما بها ، فهو مناف لقوله : « لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك ».

.. إلى غير ذلك من كلماته.

والمصنّف لم يقصد إلّا تجويزهم للعقاب في الأمثلة وهو لازم لهم.

وأما قوله : « والأفعال المخلوقة ليست مثل هذه الأعراض » ..

ففيه : إنّه لا أثر لهذا الفرق بعد أن كان المصحّح للعذاب عندهم هو الملكيّة ، على أنّ الكسب كالسواد فعل لله تعالى ، فلا فرق إلّا بأمر يعود إلى اللفظ.

* * *

ص: 96

امتناع تكليف ما لا يطاق

اشارة

قال المصنّف - ضاعف اللّه أجره - (1) :

المطلب الثامن : في امتناع تكليف ما لا يطاق

اشارة

قالت الإمامية : إنّ اللّه تعالى يستحيل عليه - من حيث الحكمة - أن يكلّف العبد ما لا قدرة له عليه ولا طاقة له به ، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه (2).

فلا يجوز له أن يكلّف الزمن الطيران إلى السماء ، ولا الجمع بين الضدّين ، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب ، ولا إحياء الموتى ، ولا إعادة آدم ونوح علیهماالسلام ، ولا إعادة الأمس الماضي ، ولا إدخال جبل قاف (3) في خرم الإبرة ، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة ، ولا إنزال

ص: 97


1- نهج الحقّ : 99.
2- أوائل المقالات : 57 - 58 ، شرح جمل العلم والعمل : 98 - 99 ، الذخيرة في علم الكلام : 100 ، تقريب المعارف : 112 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 106 ، المنقذ من التقليد 1 / 203.
3- هذا ممّا يضرب مثلا لما هو مستحيل ، وقد وردت عدّة أحاديث عن الخاصّة والعامّة تفيد أنّ جبل قاف هو الجبل المحيط بالأرض ، وخضرة السماء منه ، وبه يمسك اللّه الأرض أن تميد بأهلها ... انظر : معاني الأخبار : 22 ح 1 ، مجمع البيان 9 / 208 ، تفسير الفخر الرازي 28 / 146 و 148 ، تفسير القرطبي 17 / 3 و 4 ، معجم البلدان 4 / 338 رقم 9373 ؛ واللّه العالم!

الشمس والقمر إلى الأرض .. إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة [ لذاتها ].

وذهبت الأشاعرة : إلى أنّ اللّه تعالى لم يكلّف العبد إلّا ما لا يطاق ولا يتمكّن من فعله (1) ، فخالفوا المعقول الدالّ على قبح ذلك ، والمنقول ، وهو المتواتر من الكتاب العزيز ، قال اللّه تعالى :

( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (2) ..

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (3) ..

و ( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (4) ..

( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (5).

والظلم هو الإضرار بغير المستحقّ ، وأيّ إضرار أعظم من هذا مع إنّه غير مستحقّ؟!

تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 98


1- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 98 - 99 ، تمهيد الأوائل : 332 - 333 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 328 - 332 ، المواقف : 330 - 331 ، شرح المقاصد 4 / 296 ، شرح المواقف 8 / 200.
2- سورة البقرة 2 : 286.
3- سورة فصّلت 41 : 46.
4- سورة غافر 40 : 17.
5- سورة الكهف 18 : 49.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ تكليف ما لا يطاق جائز ، والمراد من هذا الجواز ، الإمكان الذاتي ، وهم متّفقون أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع قطّ في الشريعة بحكم الاستقراء ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) .

والدليل على جوازه : إنّه تعالى لا يجب عليه شيء ، فيجوز له التكليف بأيّ وجه أراد ، وإن كان العلم العادي أفادنا عدم وقوعه.

وأيضا : لا يقبح من اللّه شيء ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

ومذهب المعتزلة : عدم جواز التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه قبيح عقلا بما ذكره هذا الرجل من أنّ المكلّف للزمن الطيران إلى السماء وأمثاله يعدّ سفها ، وقد مرّ في ما مضى إبطال الحسن والقبح العقليّين (2).

ولا بدّ في المقام من تحرير محلّ النزاع ، فنقول : إنّ ما لا يطاق على مراتب :

أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم اللّه بعدم وقوعه ، أو تعلّق إرادته أو إخباره بعدمه ، فإنّ مثله لا تتعلّق به القدرة الحادثة ؛ لأنّ القدرة الحادثة مع الفعل لا قبله ، ولا تتعلّق بالضدّين ، بل لكلّ واحد منهما قدرة على حدة تتعلّق به حال وجوده عندنا ، ومثل هذا الشيء لمّا لم يتحقّق أصلا

ص: 99


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 472.
2- انظر ردّ الفضل في ج 2 / 330 - 331 من هذا الكتاب.

فلا تكون له قدرة حادثة تتعلّق به قطعا ، والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا ، وإلّا لم يكن العاصي بكفره وفسقه مكلّفا بالإيمان وترك الكبائر ، بل لا يكون تارك المأمور به عاصيا أصلا ، وذلك معلوم بطلانه من الدين ضرورة.

والثاني : أن يمتنع لنفس مفهومه ، كجمع الضدّين وقلب الحقائق وإعدام القديم ، فقالت الأشاعرة في هذا القسم : إنّ جواز التكليف به فرع تصوّره وهو مختلف فيه ، فمنهم من قال : لا يتصوّر الممتنع لذاته ، ومنهم من قال بإمكان تصوّره.

وبالجملة : لا يجوز التكليف به أصلا ؛ لأنّ المراد بهذا الجواز الإمكان الذاتي ، والتكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات ، وهو باطل.

الثالث : أن لا تتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومه - بأن لا يكون من جنس ما يتعلّق به كخلق الأجسام ، فإنّ القدرة الحادثة لا تتعلّق بإيجاد الجواهر أصلا - ، أم لا - بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، لكن يكون من نوع أو صنف لا يتعلّق به كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، وسائر المستحيلات العاديّة - ، فهذا محلّ النزاع ..

فنحن نقول : بجوازه لإمكانه الذاتي ..

والمعتزلة : يمنعونه لقبحه العقلي (1) ..

مع إنّا قائلون : بأنّه لم يقع (2) ، وهذا مثل سائر ما يجوّزه الأشاعرة من الأمور الممكنة ، كالرؤية وغيرها ، والتجويز العقلي لا يستلزم الوقوع.

ص: 100


1- انظر : شرح المواقف 8 / 200 - 202.
2- راجع : المواقف : 331 ، شرح المواقف 8 / 202.

وأقول :

لا يخفى أنّ تفسيره للجواز بالإمكان الذاتي خطأ ظاهر ، فإنّ المراد بالجواز كما يظهر من دليلهم وكلماتهم هو الصحّة وعدم الامتناع أصلا حتّى بالغير.

فإنّا نقول أيضا بإمكان التكليف بما لا يطاق ذاتا ، وعدم كونه من الممتنعات الذاتية ، لكن نقول : إنّه ممتنع بالغير ، من حيث قبحه وكونه ظلما ومنافيا للحكمة (1) ، وهم لا يقولون بذلك.

وقد عرفت سابقا ما في قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء » ، وما في إنكارهم للحسن والقبح العقليّين (2).

وأمّا قوله : « أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم اللّه بعدم وقوعه » ..

ففيه ما تقدّم أيضا من أنّ العلم وصدق الخبر تابعان للمعلوم ووقوع المخبر به ، لا متبوعان ، فلا يجعلان خلافهما ممتنعا لا يطاق (3).

وأمّا ما زعمه من أنّ القدرة مع الفعل ، فهو أحد السفسطات ، وستعرف ما فيه.

وقوله : « والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا » ..

باطل لأمور :

الأوّل : إنّه عليه يلزم كذب قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ

ص: 101


1- أوائل المقالات : 56 - 58.
2- انظر ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في ج 2 / 332 و 353.
3- انظر ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في ج 2 / 353.

وُسْعَها ) (1) ؛ لأنّ كلّ ما علم اللّه وأراد عدم وقوعه أو أخبر بعدمه ، ممتنع على ما زعم ، فإذا كان التكليف به جائزا وواقعا كان تكليفا بما لا يطاق ولا يسع المكلّف.

كما إنّ كلّ ما يقع بعلمه أو إخباره أو إرادته واجب حينئذ ، والواجب لا تتعلّق به الطاقة والوسع ، لعدم تيسّر عدمه.

فإذا كلّف اللّه سبحانه به كان أيضا تكليفا بما لا يطاق ، فيكون كلّ ما تعلّق به التكليف عندهم ممّا لا يطاق ، كما ذكره المصنّف ، وتكذب الآية كذبا كلّيّا.

وإن أبيت عن كون الواجب ممّا لا يسع ، فلا ريب أنّ الممتنع ليس ممّا يسع ، فتكذب الآية كذبا جزئيّا.

الثاني : إنّ دعوى الإجماع المذكور إن كانت على وقوع التكليف بما لا يطاق - كما هو ظاهر كلامه - فهي افتراء ؛ لما عرفت أنّ مذهب الإمامية والمعتزلة امتناعه (2) ، وأنّ تعلّق علم اللّه تعالى وإخباره بالشيء لا يجعل نقيضه ممتنعا ، وأنّ إرادته التكوينية لم تتعلّق بأفعال العباد.

وإن كانت دعواه الإجماع على وقوع التكليف بأفعال البشر - بما هي لا تطاق عندهم وتطاق عندنا - كان إظهاره الإجماع على التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى تدليسا.

الثالث : إنّ القول بوقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى مناف لعدم تجويز التكليف بما لا يطاق في المرتبة الثانية ؛ لأنّ المرتبة

ص: 102


1- سورة البقرة 2 : 286.
2- راجع الصفحة 97 من هذا الجزء.

الأولى تكون حقيقة من الثانية إذا حصلت المخالفة للتكليف ؛ لأنّ المخالفة لا بدّ أن تكون بنقيض المطلوب ، فيكون التكليف بالمطلوب راجعا إلى التكليف بالجمع بينه وبين نقيضه ، بل قد يرجع إلى التكليف بالجمع بين الضدّين أيضا.

مثلا : إذا كلّف الكافر بالإيمان ، والحال أنّ كفره لازم لتعلّق الإرادة الإلهيّة به ، يكون مكلّفا بأن يجمع الضدّين : الإيمان والكفر ، والنقيضين : الإيمان وعدمه ، وكلاهما ممتنع لنفس مفهومه.

وأمّا قوله : « فهذا محلّ النزاع » ..

ففيه ما لا يخفى ؛ لأنّه في المرتبتين الأوليين - أيضا - محلّ النزاع بيننا وبينهم.

أمّا الأولى : فلما عرفت أنّهم يجوّزونه فيها وقالوا بوقوعه ، ونحن نمنع من جوازه ووقوعه أصلا ؛ لأنّ محلّ التكليف مطاق عندنا في هذه المرتبة.

وأمّا الثانية : فلأنّا نمنع منه في غيرها - فضلا عنها - وهم يجوّزونه فيها ؛ لأنّهم يقولون - كما ذكر الخصم - : إنّ التكليف بهذا القسم الثاني فرع تصوّره ، فمن يقول بتصوّره لا يمنع من التكليف به ، ومن ينكر تصوّره لا يمنع من التكليف به من حيث هو ، وإنّما يمنع منه لعدم إمكان تصوّر الممتنع لذاته لا لعدم جواز التكليف بما لا يطاق.

ولا أدري كيف لا يمكن تصوّره ، فهل يمتنع تصوّره على الباري تعالى أو على عباده؟!

وأمّا تعليله لعدم الجواز في المرتبة الثانية بقوله : « التكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات » ، فممّا لا يرضى به الأشاعرة ؛ لأنّه ليس

ص: 103

مانعا عندهم بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين ، وقولهم : « لا يقبح منه تعالى شيء » (1).

فظهر أنّ تكلّف الخصم - تبعا للمواقف وشرحها (2) - في بيان هذه المراتب ، ودعوى الفرق بينها ، لا يجديهم نفعا سوى تلبيس الحقيقة ، وإضاعة الحقّ .. وما ضرّهم لو سلكوا الصراط السوي ، واتّبعوا الكتاب المجيد؟!

* * *

ص: 104


1- المسائل الخمسون : 61 ، تفسير الفخر الرازي 7 / 144 ، المواقف : 328 ، شرح المقاصد 4 / 282 - 283 ، شرح المواقف 8 / 195.
2- المواقف : 330 - 331 ، شرح المواقف 8 / 200 - 202.

إرادة النبيّ موافقة لإرادة اللّه

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المطلب التاسع : في أنّ إرادة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم موافقة لإرادة اللّه تعالى

اشارة

ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يريد ما يريده اللّه تعالى ويكره ما يكرهه ، وأنّه لا يخالفه في الإرادة والكراهة (2).

وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، وأنّ النبيّ يريد ما يكرهه اللّه تعالى ، ويكره ما يريده ؛ لأنّ اللّه تعالى يريد من الكافر الكفر ، ومن العاصي العصيان ، ومن الفاسق الفسوق ، ومن الفاجر الفجور ، والنبيّ أراد منهم الطاعات ، فخالفوا بين مراد اللّه تعالى وبين مراد النبيّ ، وأنّ اللّه كره من الفاسق الطاعة ومن الكافر الإيمان ، والنبيّ أرادهما منهما ، فخالفوا بين كراهة اللّه وكراهة نبيّه (3).

نعوذ باللّه من مذهب يؤدّي إلى القول بأنّ مراد النبيّ يخالف مراد اللّه

ص: 105


1- نهج الحقّ : 100.
2- إنقاذ البشر من الجبر والقدر - المطبوع ضمن رسائل الشريف المرتضى - 2 / 236 ، مجمع البيان 7 / 399 ، المنقذ من التقليد 1 / 185.
3- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 310 - 311 ، وانظر ج 2 / 365 من هذا الكتاب.

تعالى ، وأنّ اللّه تعالى لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه ، بل يريد ما أرادته الشياطين من المعاصي وأنواع الفواحش والفساد!

* * *

ص: 106

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الإرادة قد تقال ويراد بها : الرضا والاستحسان ، ويقابلها السخط والكراهة ، وقد يراد بها الصفة المرجّحة والتقدير قبل الخلق ، وبهذا المعنى لا يقابلها الكراهة.

فالإرادة إذا أريد بها الرضا والاستحسان ، فلا شكّ أنّ مذهب الأشاعرة أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله ، وكلّ ما هو مكروه عند اللّه مكروه عند رسوله.

وأمّا قوله : « ذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، فإنّ النبيّ يريد ما يكرهه اللّه ويكره ما يريده ؛ لأنّ اللّه يريد من الكافر الكفر ، ومن المعاصي العصيان ... والنبيّ أراد منهم الطاعات » ..

فإن أراد بهذه الإرادة والكراهة الرضا والسخط ، فقد بيّنّا أنّه لم يقع بين إرادة اللّه وإرادة رسوله مخالفة قطّ.

وإن أراد أنّ اللّه يقدّر الكفر للكافر والنبيّ يريد منه الطاعة ، بمعنى الرضا والاستحسان ، فهذا صحيح ؛ لأنّ اللّه أيضا يستحسن منهم الطاعة ويريدها ، بمعنى يقدّرها.

والحاصل : إنّه يخلط بين المعنيين ويعترض ، وكثيرا ما يفعل في هذا الكتاب أمثال هذا ، واللّه يعلم المصلح من المفسد.

* * *

ص: 107


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 1 / 485 - 486.

وأقول :

لا أعرف معنى للتقدير قبل الخلق - أي في الأزل - كما عبّر به سابقا ، إذ لا أزلي إلّا اللّه عندنا (1) ، وإلّا هو وصفاته عندهم (2).

ولعلّه يريد به الصفة المرجّحة على أنّ يكون عطفه عليها للتفسير ، كما يشهد له جعلهما في كلامه معنى واحدا ، لكنّ التعبير عن الصفة الذاتية بالتقدير - الذي هو فعل - غير مناسب.

وكيف كان فقوله : « لا شكّ أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله » باطل ؛ لأنّ اللّه سبحانه لمّا كان عندهم مريدا لأفعال العباد ، خالقا لها ، لزم أن يكون راضيا بالموجود منها كارها للمعدوم ؛ لتوقّف إرادة الفعل بمعنى الصفة المرجّحة على الرضا به ، وتوقّف إرادة العدم على كراهة الفعل ، إذ بالإرادة يحصل الترجيح ..

والترجيح فرع الرضا بالراجح والكراهة للمرجوح ..

فيكون اللّه سبحانه راضيا بالكفر والمعاصي الموجودة ، كارها للإيمان والطاعات المفقودة ، والنبيّ بخلاف ذلك ، فيختلفان بالرضا والكراهة.

وحينئذ فعلى تقدير أن يريد المصنّف بالإرادة الرضا ، يكون كلامه

ص: 108


1- شرح جمل العلم والعمل : 50 ، تقريب المعارف : 75 و 83 ، المنقذ من التقليد 1 / 70.
2- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 26 و 32 و 47 ، تمهيد الأوائل : 48 - 49 ، الملل والنحل 1 / 82 ، المسائل الخمسون : 43 - 44 ، شرح المواقف 8 / 44 - 45.

تامّا وما نسبه إلى الأشاعرة صحيحا.

وأمّا قوله : « وإن أراد أنّ اللّه تعالى يقدّر الكفر » ..

ففيه : إنّه لو فرض إرادة المصنّف له ، فهو يستلزم الرضا بالموجود والكراهة للمعدوم ، سواء أريد بالتقدير الصفة المرجّحة أم الفعل ؛ لتوقّف الصفة على الرضا والكراهة كما عرفت ، وتوقّف الفعل على الصفة ، وحينئذ يلزم المخالفة بين اللّه ورسوله بالرضا والكراهة ، كما عرفت.

* * *

ص: 109

ص: 110

إنّا فاعلون

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

المطلب العاشر : في : إنّا فاعلون

اشارة

اتّفقت الإمامية والمعتزلة على : « إنّا فاعلون » وادّعوا الضرورة في ذلك (2).

فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وإنّ هذا الحكم مركوز في عقل كلّ عاقل ، بل في قلوب الأطفال والمجانين.

فإنّ الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه فإنّه يذمّ الرامي دون الآجرة ، ولو لا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذمّ الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم.

ص: 111


1- نهج الحقّ : 101.
2- الذخيرة في علم الكلام : 73 ، شرح جمل العلم والعمل : 92 ، المنقذ من التقليد 1 / 150 - 151 ، تجريد الاعتقاد : 199. وأنظر رأي المعتزلة في : المغني - للقاضي عبد الجبار - 3/8 و 13 ، شرح الأصول الخمسة : 323 و 336 ، المحيط بالتكليف : 230 ، الملل والنحل 1/ 39 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 320 .

قال أبو الهذيل : « حمار بشر أعقل من بشر (1) ؛ لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه ، وما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ، فحماره أعقل منه » (2).

وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنّه لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى (3) ، فلزمهم من ذلك محالات.

* * *

ص: 112


1- هو : أبو عبدالرحمن بشر بن غياث المريسي ، فقيه حنفي متكلّم ، كان يقول بالإرجاء ، ومن اصحاب الرأي ، وله مقالات فاسدة ، توفّي ببغداد سنة 218 أو 219 ه. أنظر ترجمته في : تاريخ بغداد 56/7 رقم 3516 ، معجم البلدان 138/5 رقم 11179 ، وفيات الأعيان 277/1 رقم 115.
2- منهاج السنّة النبوية 3 / 108.
3- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 71 - 72 ، الإبانة عن أصول الديانة : 126 - 131 المسألة 194 - 205 وص 142 ذيل المسألة 226 وص 146 الجواب 233 ، تمهيد الأوائل : 317 - 319 ، الإنصاف - للباقلّاني - : 43 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 99 ، الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - : 115 الدعوى الرابعة ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 83 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 320 الفرقة الرابعة ، المسائل الخمسون : 59 المسألة 34 ، شرح العقائد النسفية : 135 ، شرح المقاصد 4 / 223 و 238 وما بعدها ، شرح المواقف 8 / 145 - 146 و 173 - 174 ، شرح العقيدة الطحاوية : 120 - 121 ؛ وانظر : خلق أفعال العباد - للبخاري - : 25 - 46.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل اللّه سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد.

والمراد بكسبه إيّاه : مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلّا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (2) ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد ..

فالعبد فاعل وكاسب ، واللّه خالق ومبدع .. هذا حقيقة مذهبهم.

ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتّى يكون الخلاف في أنّه فاعل أو لا ، كما صدّر الفصل بقوله : « إنّا فاعلون » واعترض الاعتراضات عليه.

فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه اللّه فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا واختيارنا ، وهذا شيء لا يستبعده العقل.

ص: 113


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 5.
2- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 72 - 78 ، تمهيد الأوائل : 342 ، شرح المواقف 8 / 145 و 146.

فإنّ الأسود هو الموصوف بالسواد ، والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله تعالى؟!

ودليل الأشاعرة : إنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى ؛ لشمول قدرته - كما ثبت في محلّه - ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ؛ لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد ؛ لما هو ثابت في محلّه.

وهذا دليل لو تأمّله المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقّ صريح ، ولا شكّ أنّ الممكن ، إذا صادفته القدرة القديمة المستقلّة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة.

والمعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء ، وهو إثبات تعدّد الخالقين غير اللّه تعالى في الوجود ، وهذا خطأ عظيم واستجراء كبير ، لو تأمّلوا قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع ، كما سنبيّن لك إن شاء اللّه تعالى في أثناء هذه المباحث.

ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار ، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق ..

منها : ما اختاره أبو الحسين (1) من مشايخهم وذكره هذا الرجل ،

ص: 114


1- هو : محمّد بن علي بن الطيّب البصري ، شيخ المعتزلة ، وصاحب التصانيف الكلامية ، بصري سكن بغداد ودرس فيها الكلام إلى حين وفاته سنة 436 ه ، ولم تذكر أيّ من المصادر تاريخا لولادته ، إلّا إنّه قيل : قد شاخ. له تصانيف عديدة ، منها : المعتمد في أصول الفقه - ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب «المحصول» - ، تصحیح الأدلة ، شرح الأصول الخمسة ، كتاب في الإمامة ، وغير ذلك. أنظر : تاریخ بغداد 100/3 رقم 1096 ، وفيات الأعيان 271/4 رقم 609 ، لسان الميزان 5/298 رقم 1009 ، شذرات الذهب 259/3 حوادث سنة 436 ه- ، معجم المؤلفين 518/3 رقم 14762 .

وهو : ادّعاء الضرورة في إيجاد العبد فعله ، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى الاستدلال (1).

وبيان ذلك : إنّ كلّ فاعل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وإنّ الأوّل مستند إلى دواعيه واختياره ، وإنّه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء ، بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه.

وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الإمامية إنكار هذا سفسطة مصادمة للضرورة (2) كما اشتملت عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحث.

والجواب : إنّ الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية ضروري ، لكنّه عائد إلى وجود القدرة ، منضمّة إلى الاختيار في الأولى وعدمها في الثانية ، لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدم تأثيرها في غيرها (3).

والحاصل : إنّا نرى الفعل الاختياري مع القدرة ، والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق بينهما يعلم بالضرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم تأثيرها فيه ، وهذا محلّ النزاع ، فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا.

ص: 115


1- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 320.
2- المواقف : 313.
3- انظر : شرح المواقف 8 / 152.

ثمّ إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا المدّعى باطل صريح ؛ لأنّ علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ، ومعترفين مثبتين له بالدليل.

فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه ، لا التفرقة بالحسّ بين الفعلين ، فإنّه لا مدخل له في إثبات المدّعى ؛ لأنّه مسلّم بين الطرفين ، فكيف يسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه؟!

وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه ، علم أنّ إرادته للشيء لا تتوقّف على إرادته لتلك الإرادة ، وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة يحصل المراد ، وبدونها لا يحصل ، ويلزم منها : إنّه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها ، وهذا ظاهر للمنصف المتأمّل ، فكيف يدّعي الضرورة في خلافه (1)؟!

فعلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه.

* * *

ص: 116


1- شرح المواقف 8 / 152 - 153.

وأقول :

قوله : « نحن أيضا نقول : إنّا فاعلون » ..

مغالطة ظاهرة ؛ لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده ، وهم لا يقولون به ، وإنّما يقولون : إنّا محلّ لفعل اللّه سبحانه (1) ، والمحلّ ليس بفاعل ، فإنّ من بنى في محلّ بناء لا يقال : إنّ المحلّ بان ، وفاعل ؛ نعم ، يقال : مات وحيي ونحوهما ، وهو قليل.

وقوله : « وهذا شيء لا يستبعده العقل » ..

مكابرة واضحة ؛ لأنّ المشاهد لنا صدور الأفعال منّا لا مجرّد كوننا محلّا ، كما تشهد به أعمال الأشاعرة أنفسهم .. فإنّهم يجتهدون في تحصيل غاياتهم كلّ الاجتهاد ، ولا يكلونها إلى إرادة اللّه تعالى ، وتراهم ينسبون الخلاف بينهم وبين العدلية إلى الطرفين ، ويجعلون الأدلّة والردود من آثار الخصمين ، ويتأثّرون كلّ التأثّر من خصومهم ، وينالونهم بما يدلّ على إنّ الأثر في المخاصمة لهم ..

فكيف يجتمع هذا مع زعمهم أنّا محلّ صرف؟!

وأمّا قياس ما نحن فيه على الأسود فليس في محلّه ، إذ ليس السواد متعلّقا لقدرة العبد حتّى يحسن الاستشهاد به وقياس فعل العبد عليه!

وأمّا ما ذكره من دليل الأشاعرة ، فإن كان المراد بالمقدّمة القائلة : « كلّ ممكن مقدور لله تعالى » ، هو : أنّ كلّ ممكن مصدر قدرته تعالى حتّى أفعال

ص: 117


1- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 72 - 78 ، شرح المقاصد 4 / 225 - 226 ، شرح المواقف 8 / 145 - 146.

العباد ، فهو مصادرة ، ولا يلزم من إمكانها المبيّن في المقدّمة الأولى إلّا احتياجها إلى المؤثّر ، وجواز تأثير قدرة اللّه تعالى فيها ، لا تأثيرها فعلا بها.

وبهذا بطلت المقدّمة الثالثة ؛ لأنّه لم يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين ، فإنّ التأثير عندنا لقدرة العبد في فعله ، وإنّما قدرة اللّه تعالى صالحة للتأثير فيه ، وأن تتغلّب على قدرة العبد.

ولسخافة هذا الدليل لم يشر إليه نصير الدين رحمه اللّه في « التجريد » ، ولا تعرّض له القوشجي الشارح الجديد.

وأمّا ما ذكره من أنّ المعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء وهو : إثبات تعدّد الخالقين غير اللّه تعالى ، فهو منجرّ إلى الانتقاد على اللّه سبحانه حيث يقول في كتابه العزيز : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (1).

وقد مرّ أنّ الرديء هو إثبات تعدّد الخالقين المستقلّين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم.

أمّا إثبات فاعل غير اللّه تعالى ، أصل وجوده وقدرته من اللّه تعالى ، وتمكّنه وفعله من مظاهر قدرة اللّه سبحانه وتوابع مخلوقيّته له ، فمن أحسن الأمور وأتّمها اعترافا بقدرة اللّه تعالى ، وأشدّها تنزيها له.

أترى أنّ عبيد السلطان إذا فعلوا شيئا بمدد السلطان يقال : إنّهم سلاطين مثله ، ويكون ذلك عيبا في سلطانه ، مع أنّ مددهم منه ليس كمدد العباد من اللّه تعالى ، فإنّ السلطان لم يخلق عبيده وقدرتهم ولا شيئا من

ص: 118


1- سورة المؤمنون 23 : 14.

صفاتهم ، فكيف يكون القول : بأنّا فاعلون لأفعالنا رديّا منافيا لعظمة اللّه تعالى؟! واعلم أنّ الخلق لغة : الفعل والاختراع ، قال تعالى : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (1) .. ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (2).

نعم ، المنصرف منه عند الإطلاق فعل اللّه تعالى ، فتخيّل الخصم أنّه قد أمكنت الفرصة ، وهو من جهالاته! ولو كان مجرّد صحّة إطلاق الخالقين على العباد عيبا في مذهبنا لكان عيبا في قوله تعالى : ( تَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (3).

وكان إطلاق القادرين العالمين المريدين عليهم أولى بالعيب في مذهبهم ؛ لأنّ القدرة والعلم والإرادة صفات ذاتية لله تعالى ، زائدة على ذاته بزعمهم (4) كزيادتها على ذوات العباد.

فكيف يشركون فيها معه البشر ، ويثبتون القادرين المريدين العالمين غير اللّه؟!

نعم ، لا ريب عند كلّ عاقل برداءة القول بقدماء شركاء لله في القدم ، محتاج إليهم في حياته وبقائه وأفعاله وعلمه حتّى بذاته ، كما هو مذهب الأشاعرة.

وما بالهم لا يستنكرون من إثبات الملك لأنفسهم كما يثبتونه لله تعالى فيقولون : اللّه مالك ونحن مالكون؟!

ص: 119


1- سورة المائدة 5 : 110.
2- سورة العنكبوت 29 : 17.
3- سورة المؤمنون 23 : 14.
4- راجع ج 2 / 267 ومصادر الهامش رقم 4.

وأمّا ما ذكره من الجواب عن دعوى الضرورة ، فممّا تكرّر ذكره في كتبهم ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة والاختيار في الحركات الاختيارية ، تحكم بتأثير القدرة فيها ، وأنّا فاعلون لها ، ولذا يذمّ الطفل الرامي لعلمه الضروري بأنّه مؤثّر ، كما بيّنه المصنّف رحمه اللّه .

على أنّه لو لم يكن للقدرة تأثير لم يعلم وجودها ، إذ لا دليل عليها غيره ، ومجرّد الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية لا يقضي بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بخصوص الاختيار وعدمه.

فإن قلت : الاختيار هو الإرادة ، وهي : عبارة عن الصفة المرجّحة لأحد المقدورين ، فيكون وجود الاختيار مستلزما لوجود القدرة.

قلت : المراد أنّها مرجّحة في مورد حصول القدرة لا مطلقا حتّى يلزم وجودها ، على أنّه يمكن أن تكون مرجّحة لأحد مقدوري اللّه تعالى ، بأن يكون قد أجرى عادته على أنّ تكون إرادة العبد مخصّصة لأحد مقدوريه تعالى ، بأن يخلق الفعل عند خلقها.

هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات القدرة بلا تأثير ليس إلّا كإثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار ، وإثبات السامعة للأصمّ بلا إسماع! وكما إنّ القول بهذا مخالف للضرورة ، فالقول بوجود القدرة بلا تأثير كذلك.

وهل خلق القدرة - وكذا الاختيار - بلا تأثير إلّا من العبث؟! تعالى اللّه عنه.

نعم ، قد يرد على العدلية أنّ تأثير قدرة العبد في الأفعال الاختيارية ، وإن كان ضروريا ، إلّا إنّه أعمّ من أن يكون بنحو الاشتراك بينها وبين قدرة

ص: 120

اللّه تعالى ، كما عن أبي إسحاق الإسفراييني (1) ، أو بنحو الاستقلال والإيجاب كما عن الفلاسفة (2) ، أو بنحو الاستقلال والاختيار كما هو مذهب العدلية (3) ، فمن أين يتعيّن الأخير؟!

وفيه : بعد كون المطلوب في المقام هو إبطال مذهب الأشاعرة ، وما ذكر كاف في إبطاله : إنّ مذهب الفلاسفة مثله في مخالفة الضرورة ؛ لأنّ وجود الاختيار وتأثيره من أوضح الضروريات.

على أنّ الإيجاب ينافي فرض وجود القدرة لاعتبار تسلّطها على الطرفين في القول الأحقّ ، ويمكن أن يحمل كلامهم على الإيجاب بالاختيار فيكون صحيحا.

وأمّا مذهب أبي إسحاق ، فظاهر البطلان أيضا ؛ لأنّ اللّه سبحانه منزّه عن الاشتراك في فعل الفواحش كنزاهته عن فعلها بالاستقلال ، ولأنّه يقبح بأقوى الشريكين أن يعذّب الشريك الضعيف على الفعل المشترك ، كما بيّنه إمامنا وسيّدنا الكاظم علیه السلام وهو صبي لأبي حنيفة (4).

ص: 121


1- كما في محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 280 ، تلخيص المحصّل : 325 ، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار : 190. وقد مرّت ترجمة الإسفرايني في ج 59/2 ه 1 ؛ فراجع.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 280 ، شرح المواقف 8 / 147 ، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار : 190 ، شرح العقيدة الطحاوية : 122.
3- الذخيرة في علم الكلام : 84 و 86 ، شرح جمل العلم والعمل : 92 و 96 - 97 ، تجريد الاعتقاد : 205. وأنظر رأي المعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : 325 و 362 ، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين : 281، شرح المواقف 146/8.
4- انظر ذلك مثلا في : التوحيد - للصدوق - : 96 ب 5 ح 2 ، الأمالي - للصدوق - : 494 ح 673 المجلس 64 ، مناقب آل أبي طالب 4 / 339 ، الاحتجاج 2 / 331 ح 269 ، أعلام الدين : 318.

وأمّا ما زعمه من إبطال دعوى الضرورة بقوله : « لأنّ علماء السلف كانوا منكرين ... » إلى آخره ..

ففيه : إنّ علماء السلف من العدلية إنّما ذكروا الأدلّة على المدّعى الضروري ، للتنبيه عليه لا لحاجته إليه ، ولذا ما زالوا يصرّحون بضروريّته ، مضافا إلى أنّ عادة الأشاعرة لمّا كانت على إنكار الضروريات ، احتاج منازعهم إلى صورة الدليل مجاراة لهم.

وأمّا قوله : « وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل ... » إلى آخره ..

فتوضيحه : إنّ سليم العقل يعلم أنّ إرادته لا تتوقّف على إرادة أخرى ، فلا بدّ أن تكون إرادته من اللّه تعالى ، إذ لو كانت منه لتوقّفت على إرادة أخرى ؛ لتوقّف الفعل الاختياري على إرادته ، فيلزم التسلسل في الإرادات ، وهو باطل.

فإذا كانت إرادته من اللّه تعالى وغير اختيارية للعبد ، لم يكن الفعل من آثار العبد وقدرته ، بل من آثار اللّه تعالى ، لوجوب حصول الفعل عقيب الإرادة المتعلّقة به ، الجازمة الجامعة للشرائط ، المخلوقة لله تعالى ، فلم تكن إرادة العبد ولا حصول الفعل عقيبها من آثار العبد ، بل من اللّه تعالى.

وفيه : إنّ عدم احتياج الإرادة إلى إرادة أخرى ، لا يدّل على عدم كونها من أفعال العبد المستندة إلى قدرته ، فإنّ تأثير قدرته في الفعل لا يتوقّف ذاتا على الإرادة ، ولذا كان الغافل يفعل بقدرته وهو لا إرادة له ، وكذا النائم.

وإنّما سمّي الفعل المقدور اختياريا لاحتياجه غالبا إلى الإرادة والاختيار ، فتوهّم من ذلك اشتراط سبق الإرادة في كلّ فعل مقدور ، وهو

ص: 122

خطأ.

وبالجملة : فعل العبد المقدور نوعان : خارجي ، كالقيام والقعود ونحوهما ؛ وذهني ، وهو أفعال القوى الباطنة ، كالإرادة والعلم والرضا والكراهة ونحوها.

والأوّل مسبوق بالإرادة إلّا نادرا كفعل الغافل والنائم ، والثاني بالعكس ، والجميع مقدور ومفعول للعبد ، ولذا كلّف الإنسان عقلا وشرعا بالمعرفة ، ووجب عليه الرضا بالقضاء ، وورد العفو عن النيّة ..

وقال تعالى : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (1) ..

وقال سبحانه : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) (2) ..

وقال تعالى : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) (3) ..

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما لكلّ امرئ ما نوى » (4) ..

وقال : « نيّة المرء خير من عمله » (5).

ص: 123


1- سورة الأنفال 8 : 53.
2- سورة يوسف 12 : 83.
3- سورة المائدة 5 : 30.
4- صحيح البخاري 1 / 2 ح 1 وص 37 ح 53 وج 3 / 290 ح 13 وج 8 / 252 ح 63 وج 9 / 40 ح 1 ، صحيح مسلم 6 / 48 ، سنن أبي داود 2 / 269 ح 2201 ، سنن ابن ماجة 2 / 1413 ح 4227 ، سنن الترمذي 4 / 154 ح 1647 ، سنن النسائي 1 / 59 ، مسند أحمد 1 / 25 ، تهذيب الأحكام 1 / 83 ح 218 وج 4 / 186 ح 519 ، الأمالي - للطوسي - : 618 ح 1274 ، دعائم الإسلام 1 / 156.
5- المعجم الكبير - للطبراني - 6 / 185 ح 5942 ، حلية الأولياء 3 / 255 ، تاريخ بغداد 9 / 237 ، إحياء علوم الدين 5 / 270 ، فردوس الأخبار 2 / 373 ح 7096 و 7097 ، أصول الكافي 2 / 112 ح 1669 ، المحاسن 1 / 405 ح 919 ، الهداية - للصدوق - : 62.

ويشهد لكون الإرادة من الأفعال المستندة إلى قدرة العبد ؛ أنّ الإنسان قد يتطلّب معرفة صلاح الفعل ليحدث له إرادة به ، وقد يتعرّف فساده بعد وجودها فيزيلها بمعرفة فساده ، وإن كانت جازمة فإنّها قد تكون فعلية والمراد استقباليا ، فالقدرة في المقامين على الإرادة حاصلة من القدرة على أسبابها كسائر أفعال القلب ، فكلّ فعل باطني مقدور للإنسان حدوثا وبقاء وزوالا.

فثبت أنّ الإرادة ومقدّماتها - أعني : تصوّر المراد والتصديق بمصالحه والرضا به من الجهة الداعية إليه - مقدورة للعبد ، ومن أفعاله المستندة إليه.

نعم ، ربّما يكون بعض مقدّمات الإرادة من اللّه تعالى ، وبذلك تحصل الإعانة من اللّه تعالى لعبده ، كما تحصل بتهيئة غيرها من مقدّمات الفعل ، وعليه يحمل

قول إمامنا الصادق علیه السلام : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين » (1).

فإنّه لا يبعد أنّ المراد بالأمر بين الأمرين دخل اللّه سبحانه في أفعال العباد ، بإيجاد بعض مقدّماتها ، كما هو واقع في أكثر المقدّمات الخارجية ، التي منها تهيئة المقتضيات ورفع الموانع.

فحينئذ لا يكون العبد مجبورا على الفعل ولا مفوّضا إليه بمقدّماته ، وبذلك يصحّ نسبة الأفعال إلى اللّه تعالى.

فإنّ فاعل المقدّمات ، لا سيّما الكثيرة القريبة إلى الفعل قد يسمّى

ص: 124


1- الكافي 1 / 179 ح 406 ، عيون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 141 ، التوحيد - للصدوق - : 362 ح 8 ، الاحتجاج 2 / 490.

فاعلا له ، وعليه يحمل ما ظاهره إسناد أفعال العباد إلى اللّه تعالى ، كبعض آيات الكتاب العزيز (1).

واللّه وأولياؤه أعلم.

* * *

ص: 125


1- انظر : سورة البقرة 2 : 253 ، سورة الرعد 13 : 16 ، سورة الصافّات 37 : 96 ، سورة الزمر 39 : 62.

قال المصنّف - زاد اللّه فضله عليه - :

قال المصنّف - زاد اللّه فضله عليه - (1) :

منها : مكابرة الضرورة ، فإنّ العاقل يفرّق بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة ، والبطش باليد اختيارا ، وبين الحركة الاضطرارية ؛ كالوقوع من شاهق ، وحركة المرتعش ، وحركة النبض ، ويفرّق بين حركات الحيوان الاختيارية وحركات الجماد.

ومن شكّ في ذلك فهو سوفسطائي ، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه.

* * *

ص: 126


1- نهج الحقّ : 102.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت جواب هذا في ما مرّ (2) ، وقد ذكر هذا الرجل هذا الكلام ثمّ كرّره ، كما هو عادته في التكريرات القبيحة الطويلة الخالية عن الجدوى ؛ والجواب ما سبق.

* * *

ص: 127


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 18.
2- راجع الصفحة 113 فما بعدها.

وأقول :

مراد المصنّف رحمه اللّه سابقا هو : بيان مدّعى العدلية من كون العباد فاعلين بالضرورة (1).

ومراده هنا : بيان ما يلزم الأشاعرة من مكابرة الضرورة ، غاية الأمر أنّه بيّن سابقا وجه الضرورة بيانا للمدّعى ، وهو ليس من التكرار.

وأمّا تطويله ، فهو لإيضاح الحجّة للعوامّ عسى أن يرتدع من له قلب.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب بمجرّد وجود القدرة وعدمها من دون تأثير لوجودها ، فقد عرفت أيضا أنّه مخالف للضرورة ، فإنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة تحكم بتأثيرها ، ولو لم يكن لها تأثير لم نعلم بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بمجرّد وجود الاختيار وعدمه (2).

* * *

ص: 128


1- تقدّم في الصفحة 111.
2- تقدّم في الصفحة 120.

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : إنكار الحكم الضروري من حسن مدح المحسن وقبح ذمّه ، وحسن ذمّ المسيء وقبح مدحه.

فإنّ كلّ عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما ولا يفعل شيئا من المعاصي ، ويبالغ بالإحسان إلى الناس ، ويبذل الخير لكلّ أحد ، ويعين الملهوف ، ويساعد الضعيف .. وإنّه يقبح ذمّه ، ولو شرع أحد في ذمّه باعتبار إحسانه عدّه العقلاء سفيها ، ولامه كلّ أحد ، ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور والتعدّي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس ، ويمتنع من فعل الخير وإن قلّ ، وإنّ من مدحه على هذه الأفعال عدّ سفيها ولامه كلّ عاقل.

ونعلم ضرورة قبح المدح والذّم على كونه طويلا وقصيرا ، أو كون السماء فوقه والأرض تحته ، وإنّما يحسن هذا المدح والذمّ لو كان الفعلان صادرين عن العبد ، فإنّه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجّه المدح والذمّ إليه.

والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ ، فلم يحكموا بحسن مدح اللّه تعالى على إنعامه ولا الثناء عليه ، ولا الشكر له ، ولا بحسن ذمّ إبليس وسائر الكفّار والظلمة المبالغين في الظلم ، بل جعلوهما متساويين

ص: 129


1- نهج الحقّ : 102.

في استحقاق المدح والذمّ (1).

فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ، ويتّبع ما يقوده عقله إليه ، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ويعتقد ضدّ الصواب ، فإنّه لا يقبل منه غدا يوم الحساب ..

وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الّذين قال اللّه تعالى عنهم : ( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ) (2).

* * *

ص: 130


1- انظر : نهاية الإقدام في علم الكلام : 370 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 294 ، طوالع الأنوار : 202.
2- سورة غافر 40 : 47.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

حاصل ما ذكره في هذا الفصل : أنّ المدح والذمّ يتوجّهان إلى الأمور الاختيارية ، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمّه ، ويقبح مدح المسيء ويحسن ذمّه ، ولو لا أنّ تلك الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة والسيّئة ، ولا يستحقّ صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذمّ ، فعلم أنّ الأفعال اختيارية ، وإلّا يلزم التساوي المذكور ، وهو باطل.

والجواب : إنّ ترتّب المدح والذمّ على الأفعال ، باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل وكسبه ومباشرته للفعل ؛ أمّا أنّه لتأثير قدرته في الفعل ، فذلك غير ثابت ، وهو المتنازع فيه ، ولا يتوقّف ترتّب المدح والذمّ على التأثير ، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول الترتّب المذكور.

ثمّ ما ذكر أنّ المدح والذمّ لم يترتّب على ما لم يكن بالاختيار ، فباطل مخالف للعرف واللغة ، فإنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها بخلاف الحمد ، واختلف في الحمد أيضا.

وأمّا قوله : « والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح » ..

إن أراد أنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي للمدح والذمّ المذكورين ، فذلك كذلك ؛ لأنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا.

وإن أراد نفي الحكم بحسن مدح اللّه تعالى وثنائه مطلقا ، فهذا من

ص: 131


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 19.

مفترياته ، فإنّهم يحكمون بحسن مدح اللّه وثنائه ؛ لأنّ الشرع أمر به ، لا لأنّ العقل حكم به ، كما مرّ مرارا (1).

* * *

ص: 132


1- انظر ردّ الفضل بن روزبهان في ج 2 / 411 - 412.

وأقول :

لا ريب أنّ المدح والذمّ يتبعان حسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح في الأفعال إنّما يكونان من حيث صدورها من فاعلها وتأثيره فيها بقدرته واختياره ، لا لذواتها ، ولذا لو صدر من النائم أو المكره فعل لم يمدح ولا يذمّ عليه.

وحينئذ فلا يصحّ تعلّق المدح والذمّ بالعبد بمجرّد جعل اللّه تعالى له محلّا لفعله من دون قدرة له على الامتناع ولا تأثير له في الفعل ، فلا وجه لجعل الكسب موجبا لترتّب مدح العبد وذمّه على الفعل ، فإنّه بأيّ معنى فسّر لم يصدر كأصل الفعل بقدرة العبد واختياره ، وما لم يصدر من العبد شيء لا يحسن مدحه أو ذمّه عليه.

وأمّا ما حكاه عن أهل اللغة من أنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها (1) ..

ففيه : إنّ مرادهم بالغير هو الصفات كصفاء اللؤلؤ ، لا ما يعمّ الأفعال التي تقع بلا قدرة واختيار ، فإنّه خلاف الضرورة.

ولكن على هذا يشكل ذكر المصنّف للطول والقصر ، وكون السماء فوقنا والأرض تحتنا ، فإنّها ليست من الأفعال حتّى يكون عدم المدح والذمّ عليها شاهدا للمدّعى.

ص: 133


1- مثل الثناء على الشيء بما فيه من الصفات الجميلة ، خلقية كانت أو اختيارية ؛ انظر مادّة « مدح » في : المصباح المنير : 216 ، تاج العروس 4 / 199.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ مراده أنّهم إذا لم يجعلوا لجهة الصدور مدخلا في حسن المدح والذمّ وقبحهما ، كان اللازم عدم قبح المدح والذمّ على المثالين ونحوهما ممّا لم يصدر عن الإنسان ، وهو خلاف الضرورة.

وأمّا ما ردّد به في بيان مراد المصنّف بقوله : « الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ » ..

فخطأ ، إذ ليس شيء ممّا ذكره مرادا له ، وإنّما مراده أنّهم لمّا لم يجعلوا الأفعال صادرة من العبد - والحال كما عرفت أنّ لجهة الصدور في الأفعال مدخلا تامّا في استحقاق المدح والذمّ ، وفي حسنهما وقبحهما - لزمهم إنكار حسن مدح اللّه على إنعامه ، وذمّ إبليس والكافرين والظالمين ؛ لأنّ المدح والذمّ غير صادرين من العبد ، وهذا الإنكار خلاف الضرورة.

على أنّه لو أراد المصنّف ما ذكره الخصم أوّلا كان جديرا بالذكر والعجب ..

إذ كيف يدّعي عاقل أنّه - مع قطع النظر عن التكليف الشرعي - لا يحسن مدح اللّه على نعمائه وشكره على آلائه ، ولا يقبح مدح إبليس والكافرين ، وأنّه لا فرق عقلا بين هذين المدحين ، كما لا فرق أيضا بين مدح اللّه على نعمه وذمّه عليها ، ومدح الظالم على ظلمه وذمّه عليه؟!

فمن ادّعى ذلك كان حقيقا بأن يلحق في المجانين!

* * *

ص: 134

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

ومنها : إنّه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي ؛ لأنّا غير قادرين على ممانعة القديم ..

فإذا كان فاعل فينا للمعصية هو اللّه تعالى لم نقدر على الطاعة ؛ لأنّ اللّه تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة كان واجب الحصول .. وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول. ولو لم يكن العبد متمكّنا من الفعل والترك ، كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات ، وكما إنّ البديهة حاكمة بأنّه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمّه ، وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد.

ولأنّه تعالى يريد منّا فعل المعصية ويخلقها فينا ، فكيف نقدر على ممانعته؟!

ولأنّه إذا طلب منّا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنّا ، بل إنّما يفعله هو ، كان عابثا في الطلب ، مكلّفا لما لا يطاق ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 135


1- نهج الحقّ : 103.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذه الشبهة اضطرّت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب ، وإلّا لم يجترئ أحد من المسلمين على إثبات تعدّد الخالقين في الوجود.

والجواب : إنّ تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلّيّة لا باعتبار الفاعليّة ، ولأنّ العبد لمّا كانت قدرته واختياره مقارنة للفعل ، صار كاسبا للفعل ، وهو متمكّن من الفعل والترك ، باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسب والمباشرة ، وهذا يكفي في صحّة التكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقيّته للفعل ، وهو محلّ النزاع (2).

وأمّا الثواب والعقاب المترتّبان على الأفعال الاختيارية ، فكسائر العاديّات المترتّبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي والتجاء سؤال.

وكما لا يصحّ عندنا أن يقال : لم خلق اللّه الإحراق عقيب مسيس النار؟ ولم لا يصحّ ابتداء؟ فكذا ها هنا لا يصحّ أن يقال : لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة ، وعاقب عقيب أفعال أخرى ، ولم لا يفعلها ابتداء ولم يعكس فيهما؟

وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة ، فإنّها قد تكون دواعي العبد إلى الفعل واختياره ، فيخلق اللّه الفعل عقيبها عادة ، وباعتبار ذلك يصير

ص: 136


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 22.
2- انظر : شرح التجريد : 444 - 445.

الفعل طاعة ومعصية ، ويصير علامة للثواب والعقاب (1).

ثمّ ما ذكره أنّه يلزم إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو اللّه تعالى أنّا لا نقدر على الطاعة ، لأنّه إن خلق الطاعة كان واجب الحصول ، وإلّا كان ممتنع الحصول ..

فنقول : هذا يلزمكم في العلم لزوما غير منفكّ عنكم ؛ لأنّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد .. وما علم اللّه وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ، ولا مخرج عنهما لفعل العبد .. وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع.

فيبطل حينئذ التكليف ؛ لا بتنائه على القدرة والاختيار بالاستقلال كما زعم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم اللّه تعالى بالأشياء.

* * *

ص: 137


1- انظر : شرح المواقف 8 / 154.

وأقول :

من رأى تعبيره عن هذا الدليل بالشبهة يحسب أنّه يأتي في جوابه بالكلام الجزل والقول الفصل ، وإذا جاء إلى جوابه رآه بالخرافات أشبه! فإنّ كلّ ما ذكره لا يجعل متعلّق التكليف من آثار العبد ، فإنّ كلّ ما في الوجود بزعمهم مخلوق لله تعالى ، حتّى الكسب والمحلّيّة.

فمن أين يكون العبد مؤثّرا وموجدا حتّى يصحّ تكليفه؟!

وبالجملة : إن كان للعبد إيجاد وتأثير في متعلّق التكليف ، تمّ مطلوبنا ، وإلّا فالإشكال بحاله ، فيلزمهم تكليف العباد بما لا يطاق ، وما لا أثر لهم فيه أصلا وحصول العبث في الطلب.

وأمّا ما زعمه من أنّ الثواب والعقاب من العاديّات ..

ففيه - مع ما عرفت من إشكال حصول العلم بالعادة الغيبية - : إنّه لا يمكن أن يكون من عاديّات العادل الرحمن أن يعذّب عبده الضعيف على فعل هو خلقه فيه ، ولا أثر للعبد به بوجه ، فلا يقاس بخلق الإحراق عقيب مسيس النار.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن العبث في الطلب بقوله : « وأمّا التكليف والتأديب والبعثة » ..

فخروج عن مذهبه ظاهرا ، إذ كيف يدعو التكليف والتأديب والبعثة العبد إلى الفعل والاختيار ، وهما من اللّه سبحانه ، ولا أثر للعبد فيهما أصلا عندهم؟!

وأمّا ما زعمه من الإلزام لنا بالعلم ، فممّا لا يرضى به عارف من

ص: 138

قومه فضلا عن غيرهم ؛ لما سبق من أنّ العلم تابع للمعلوم لا متبوع (1) ، وإلّا لما كان اللّه قادرا مختارا ؛ لأنّ ما علم وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، على نحو ما ذكره في كلامه ، ومن الوهن بالإنسان أن يتعرّض للجواب عن مثل هذه الكلمات التي يعلم فيها مقصد صاحبها.

* * *

ص: 139


1- راجع ج 2 / 354 ، وانظر الصفحة 101 من هذا الجزء.

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

ومنها : إنّه يلزم أن يكون اللّه سبحانه أظلم الظالمين ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّه إذا خلق فينا المعصية ولم يكن لنا فيها أثر ألبتّة ، ثمّ عذّبنا عليها وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا ، كان ذلك نهاية الجور والعدوان ، نعوذ باللّه من مذهب يؤدّي إلى وصف اللّه تعالى بالظلم والعدوان.

فأيّ عادل يبقى بعد اللّه تعالى ، وأيّ منصف سواه ، وأيّ راحم للعبد غيره ، وأيّ مجمع للكرم والرحمة والإنصاف عداه ، مع أنّه يعذّبنا على فعل صدر عنه ، ومعصية لم تصدر منّا بل منه؟!!

* * *

ص: 140


1- نهج الحقّ : 104.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

نعوذ باللّه من نسبة الظلم والعدوان إلى اللّه المنّان ، وخلق المعصية في العاصي لم يستوجب الظلم ، والظلم تصرّف في حقّ الغير ، واللّه تعالى لا يظلم الناس في كلّ تصرّف يفعل فيهم.

وقد روي أنّ عمرو بن العاص سأل أبا موسى ، فقال : يخلق فيّ المعصية ثمّ يعاديني بها؟! فقال أبو موسى : لأنّه لا يظلمك (2).

وتوضيح هذا المبحث : إنّ النظام الكلّي في خلق العالم يقتضي أن يكون فيه عاص ومطيع ، كالبيت الذي يبنيه حكيم مهندس ، فإنّه يقتضي أن يكون فيه بيت الراحة ومحلّ الصلاة ، وإن لم يكن مشتملا على المستراح كان ناقصا ، وكذلك إن لم يكن في الوجود عاص لم يكمل النظام الكلّي ، ولم يملأ النار من العصاة ..

وكما إنّه لا يحسن أن يعترض على المهندس : إنّك لم عملت المستراح ولم تجعل البيت كلّه محلّ العبادة ومجلس الأنس؟! .. كذلك لم يحسن أن يقال لخالق النظام الكلّي : لم خلقت العصيان؟! ولم لم تجعل العباد كلّهم مطيعين؟! .. لأنّ النظام الكلّي كان يقتضي وجود الفريقين ، فإنّ التصرّف الذي يفعله صاحب البيت في جعل بعضه مسجدا وبعضه مستراحا هل يقال : هو ظلم؟! فكذلك تصرّف الحقّ سبحانه في الموجود

ص: 141


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 25 - 27.
2- انظر : الملل والنحل 1 / 81 وفيه : « يقدر عليّ شيئا ثمّ يعذّبني عليه ، قال : نعم ، قال عمرو : ولم؟! قال : لأنّه لا يظلمك ».

بأيّ وجه يتّفق لا يقال : إنّه ظلم.

ولكنّ المعتزلي الأعمى يحسب أنّ الخلق منحصر فيه ، وهو مالك لنفسه واللّه ملك عليه ، لا يعلم أنّه مالك مطلق!!

ألا ترى أنّ الرجل الذي يعمل عملا ، ويستأجر على العمل رجالا ، ويستعمل معهم بعض عبيده الأرقّاء ، فإذا تمّ العمل أعطى الأجراء أجرتهم ، ولم يعط العبيد شيئا ، هل يقال : إنّه ظلم العبيد؟! لا شكّ أنّه لا يقول عاقل : إنّه ظلم العبيد ؛ وذلك لأنّه تصرّف في حقّه بما شاء.

ثمّ إنّ هذا الرجل لو حمّل العبد فوق طاقته أو قطع عنه القوت واللباس يقال : إنّه ظالم ؛ وذلك لأنّه تجاوز عن حدّ ما يملكه من العبد ، وهو التصرّف حسبما أذن اللّه تعالى فيه ، فإذا تجاوز من ذلك الحدّ فقد ظلم .. وذلك لأنّه ليس بالمالك المطلق ، ولو كان هو المالك المطلق ، وكان له التصرّف حيثما شاء وكيفما أراد ، لكان كلّ تصرّفاته عدلا ، لا جورا ولا ظلما.

وكذلك الحقّ سبحانه هو المالك المطلق ، وله التصرّف كيفما شاء وحيثما أراد ، فلا يتصوّر منه ظلم بأيّ وجه تصرّف.

هذا هو التحقيق ولا تعد عن هذا!

* * *

ص: 142

وأقول :

من المضحك استدلاله بما عن أبي موسى عن دعوى عدم الظلم ، ردّا على ما يدركه كلّ ذي وجدان ، من أنّ خلق المعصية والمعاداة عليها سفه وظلم ، فكأنّه لم يرض أن يختصّ شيخهم الأشعري بهذه الخرافة حتّى أشرك معه جدّه ، ولا يخفى أنّ تنظيره بالبيت مخالف لما نحن فيه من وجهين :

الأوّل : إنّ حسن وجود المستراح في البيت ومدخليّته فيه ظاهر لكلّ أحد ، إذ لولاه لتلوّث البيت وتكدّرت حياة أهله ، بخلاف محلّ النزاع من أفعال العباد ، كالجور والنميمة والقتل والسرقة وقطع السبيل ونحوها ، فإنّها شرور في العالم توجب الفساد فيه والنقصان في نظامه لا الكمال.

الثاني : إنّ جعل المستراح محلّا للقذر لا ظلم فيه له لعدم شعوره ، بخلاف جعل العاصي محلّا للأفعال الذميمة ثمّ عقابه عليها.

ومن أغرب الغريب قوله : « ولم يملأ النار من العصاة » ..

فإنّه كلام من يرى أنّ لله سبحانه حاجة وفائدة في أن يملأها من عباده.

على أنّه إذا كان له التصرّف كيفما شاء لم يحتج إلى خلق المعصية ، بل له أن يملأها منهم ابتداء.

وليت شعري أمن الرحمة بعدما كمّل بهم نظامه ووسمهم بالسوء أن يعاقبهم؟! بل هم أولى بالثواب.

ص: 143

ثمّ إنّ التمثيل بالبيت إنّما يناسب القول بالأصلح الذي لا يراه الأشاعرة ، وقد ذكره بعض المحقّقين (1) لتقريبه ، فأخذه الخصم من غير تدبّر ، ووضعه في غير موضعه ، على غير موافقة لمذهبه!

وما أدري ما فائدة ذكر استعمال العبيد بلا أجرة وهو لا يقرّب مطلوبه ولا يخالف قولنا؟!

وأمّا ما ذكره من حمل العبد فوق طاقته ، وقطع القوت واللباس عنه ، وأنّه ظلم وجور ، فهو أقرب إلى مطلوبنا ؛ لأنّ الظلم إنّما يكون فيه من حيث هو ، لا من حيث عدم إذن الشارع فيه ، بل لو أذن فيه عدّ آذنا في الجور ، وعدّ إذنه جورا آخر ، وأعظم منه في ظلم خلق الفعل في العبد وتعذيبه عليه بأنواع العذاب.

ودعوى أنّ لله سبحانه ذلك ، لأنّه المالك المطلق ، ممنوعة ؛ لأنّ الملك المطلق : عبارة عن سلطنة مطلقة غير مقيّدة بوجه ، ولا نسلّم أنّ من أحكامها وآثارها جواز الإضرار بالعبد بلا منفعة له ولا ذنب منه ، بل أحكامها وشؤونها رعاية العبد ورحمته وإنصافه ، وأيّ عاقل لا يعدّ ذلك الإضرار من التصرّف القبيح والظلم الصريح؟!

* * *

ص: 144


1- ذكره العلّامة الدواني في بعض رسائله لبيان القول بالأصلح بنظام الكلّ ، كما في إحقاق الحقّ 2 / 28.

قال المصنّف - زاد اللّه في علوّ درجاته - :

قال المصنّف - زاد اللّه في علوّ درجاته - (1) :

ومنها : إنّه يلزم منه تجويز انتفاء ما علم بالضرورة ثبوته ..

بيانه : إنّا نعلم بالضرورة أنّ أفعالنا إنّما تقع بحسب قصودنا ودواعينا ، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي وثبوت الصوارف ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّا متى أردنا الفعل ، وخلص الداعي إلى إيجاده ، وانتفى الصارف ، فإنّه يقع ، ومتى كرهناه لم يقع.

فإنّ الإنسان متى اشتدّ به الجوع وكان تناول الطعام ممكنا ، فإنّه يصدر منه تناول الطعام ، ومتى اعتقد أنّ في الطعام سمّا انصرف عنه ، وكذا يعلم من حال غيره ذلك ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ شخصا لو اشتدّ به العطش ولا مانع له من شرب الماء ، فإنّه يشربه بالضرورة ، ومتى علم مضرّة دخول النار لم يدخلها.

ولو كانت الأفعال صادرة من اللّه تعالى ، جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه وانتفى الداعي إليه ، ويمتنع صدوره عنّا وإن أردناه وخلص الداعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله اللّه تعالى ، وذلك معلوم البطلان.

فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهبا يقوده إلى بطلان ما علم بالضرورة ثبوته؟!

* * *

ص: 145


1- نهج الحقّ : 104.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق في تحرير المذهب : إنّ الأفعال تقع بقدرة اللّه تعالى عقيب إرادة العبد على سبيل العادة ، فإذا حصلت الدواعي وانتفت الصوارف يقع فعل العبد ، وإن جاز عدم الوقوع عقلا ، كما في سائر العاديّات التي يجوز عدم وقوعها عقلا ويستحيل عادة (2).

فكذا كلّ ما ذكره من تناول الطعام وشرب الماء ، فإنّه يجوز أن لا يقع عقيب إرادة الطعام ، ولكن العادة جرت بوقوعها.

وأمّا قوله : « ولو كانت الأفعال صادرة من اللّه تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه » ..

فهذا أمر صحيح ؛ فإنّ كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها ، وهذا الجواز ممّا لا ريب فيه ، وليس في إنكار هذا الجواز نفي ما علم بالضرورة.

* * *

ص: 146


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 29.
2- تقدّم في الصفحة 113 من هذا الجزء.

وأقول :

نتيجة كلامه الإصرار على مكابرة الضرورة فلا يلتفت إليه.

وأعجب منه قوله : « فإنّ كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها » ..

إذ أيّ عاقل يفعل ما يكره مع انتفاء الدواعي أو وجود الصوارف كما هو مفروض الكلام؟!

نعم ، ربّما نفعل ما نكره لداع أقوى من الصارف ، وهو أمر آخر ، بل لا تبقى الكراهة الحقيقية حينئذ.

* * *

ص: 147

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : تجويز ما قضت الضرورة بنفيه ؛ وذلك لأنّ أفعالنا إنّما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده ، ولا تقع منّا على الوجه الذي نكره.

فإنّا نعلم بالضرورة أنّا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة ، ولو أردنا الحركة يسرة لم تقع يمنة ، والحكم بذلك ضروري.

فلو كانت الأفعال صادرة من اللّه تعالى جاز أن تقع الحركة يمنة ونحن نريد الحركة يسرة ، وبالعكس ، وذلك ضروريّ البطلان.

* * *

ص: 148


1- نهج الحقّ : 105.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جواب هذا ما سبق في الفصل السابق : « إنّ هذه الأفعال إنّما تقع عقيب إرادة العبد عادة من اللّه تعالى ، وإنّ اللّه تعالى يخلق هذه الحركات عقيب إرادة العبد ، وهو يخلق الإرادة ، والضرورة إنّما تقضي على وقوع هذه الأفعال عقيب القصد والإرادة ، لا أنّها تقضي بأنّ هذه الإرادة مؤثّرة خالقة للفعل » (2).

والعجب أنّ هؤلاء لا يفرّقون بين هذين المعنيين!

ثمّ من العجب كلّ العجب أنّهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأمّلون أنّ هذه الإرادة من يخلقها؟!! أهم يخلقونها أم اللّه تعالى يخلقها؟!

فالذي خلق الإرادة وإن لم يرد العبد تلك الإرادة ، وهو مضطرّ في صيرورته محلّا لتلك الإرادة ، خالق الفعل.

فإذا بلغ أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل ، ونسبوا إلى أنفسهم الأفعال ، وفيه خطر الشرك.

* * *

ص: 149


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 31.
2- تقدّم قريبا في الصفحة 146.

وأقول :

سبق في أوّل المبحث أنّ القول بعدم تأثير قدرة العبد واختياره خلاف الضرورة ، وأنّ من أنكر تأثير قدرته ليس له طريق إلى إثبات وجودها (1).

كما سبق هناك أنّ الإرادة ومقدّماتها ، من تصوّر المراد ، والتصديق بمصلحته ، والرضا به ، أفعال للعباد وآثار لقدرتهم ، وأنّه ربّما تقع المقدّمات من اللّه تعالى ، وقد أوضحناه فراجع (2) ، فلا محلّ لعجبه كلّ العجب.

ومن خلوّ وطاب (3) الأشاعرة من النقد على مذهب العدليّة التجأوا إلى التهويل بالألفاظ ، فعبّروا عن فعل العبد بالخلق والشرك ، اللذين ينصرف أوّلهما إلى فعل كامل القدرة ، وثانيهما : إلى الشرك في الإلهيّة ..

وهم أحقّ بالشرك ؛ لإثباتهم الصفات الزائدة المغايرة لله تعالى في وجوده ، ولا تقوم الإلهيّة إلّا بها ، مع أنّهم - أيضا - أثبتوا هذه الصفات لأنفسهم (4)!

ص: 150


1- راجع الصفحة 120.
2- راجع الصفحة 124 - 125.
3- الوطاب ، جمع وطب : وهو سقاء اللبن ؛ انظر : لسان العرب 15 / 334 ، تاج العروس 2 / 469 ، مادّة « وطب ». وهو هنا كناية عن خلوّ جعبتهم من الحجّة والبرهان.
4- انظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 138 ، المواقف : 269 ؛ وقد تقدّم هذا البحث في ج 2 / 173 وما بعدها ، فراجع.

ولا ريب أنّ دعوى المشاركة في الصفات الذاتية أعظم خطرا من دعوى المشاركة في الأفعال ، لا سيّما مع كونها بأقدار اللّه تعالى.

* * *

ص: 151

مخالفة الجبريّة لنصوص القرآن

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

ومنها : إنّه يلزمهم مخالفة الكتاب العزيز ، ونصوصه ، والآيات المتضافرة فيه ، الدالّة على إسناد الأفعال إلينا.

وقد بيّنت في كتاب « الإيضاح » مخالفة أهل السنّة لنصّ الكتاب والسنّة (2) ، بالوجوه التي خالفوا فيها آيات الكتاب العزيز ، حتّى إنّه لا تمضي آية من الآيات إلّا وقد خالفوا فيها من عدّة أوجه ، فبعضها يزيد على العشرين ، ولا ينقص شيء منها عن أربعة.

ولنقتصر في هذا المختصر على وجوه قليلة دالّة على أنّهم خالفوا صريح القرآن ، ذكرها أفضل متأخّريهم ، وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي (3) ، وهي عشرة :

الأوّل : الآيات الدالّة على إضافة الفعل إلى العبد :

( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) (4) ..

ص: 152


1- نهج الحقّ : 105.
2- كتاب « إيضاح مخالفة السنّة لنصّ الكتاب والسنّة » للعلّامة الحلّي ، فرغ منه سنة 723 ه ، منه عدّة نسخ مخطوطة في مكتبات إيران ، ولم يطبع لحدّ يومنا هذا. أنظر : أمل الآمل 85/2 رقم 224 ، الذريعة 498/2 رقم 1954 ، مكتبة العلامة الحلي : 62 رقم 21.
3- انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 283 - 286.
4- سورة مريم 19 : 37 ، سورة الذاريات 51 : 60. ولم ترد هذه الآية في المصدر.

( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (1) ..

( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ ) (2) ..

( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (3) ..

( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) (4) ..

( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) (5) ..

( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) (6) ..

( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) (7) ..

( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (8) (9).

* * *

ص: 153


1- سورة البقرة 2 : 79.
2- سورة الأنعام 6 : 116.
3- سورة الأنفال 8 : 53.
4- سورة يوسف 12 : 18 و 83.
5- سورة المائدة 5 : 30.
6- سورة النساء 4 : 123.
7- سورة الطور 52 : 21.
8- سورة إبراهيم 14 : 22.
9- انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 283.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود (2) ، فكلّ ما كان كذلك من كتاب اللّه وخالفه المكلّف عالما به يكون كافرا ، نعوذ باللّه من هذا ، وكلّ ما يحتمل الوجوه ، ولا يكون بحيث لا يحتمل خلاف المقصود ، فالمخالفة له لا تكون كفرا ، بل هو محتمل للاجتهاد والترجيح لما هو الأنسب والأقرب إلى مدلول الكتاب.

والعجب من هذا الرجل أنّه جمع الآيات التي أوردها الإمام الرازي ليدفع عنها احتمال ما يخالف مذهب أهل السنّة ، ثمّ أتى على الآيات كلّها ، ووافق مذهب السنّة لها ، ودفع عنها ما احتمل تطبيقه على مذهب المعتزلة .. وهذا الرجل ذكر الآيات كلّها ، وجعلها نصوصا مؤيّدة لمذهبه ، ولم يذكر ما ذكر الإمام في تأويل الآيات وتطبيقها على مذهب أهل السنّة والجماعة.

وهذا يدلّ على غاية حمق الرجل وحيلته وتعصّبه وعدم فهمه ، أما كان يستحي من ناظر في كتابه؟!

ومثله في هذا العمل كمثل من جمع السهام في وقعة حرب ، وكانت تلك السهام قتلت طائفة من أهل عسكره ، فأخذ السهام من بطون أصحابه ومن صدورهم وأفخاذهم ، ثمّ يفتخر أنّ لنا سهاما قاتلة للرجال ، ولم يعلم

ص: 154


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 33.
2- انظر : شرح المصطلحات الكلامية : 366 رقم 1324 مادّة « النصّ ».

أنّ هذه السهام قتلت أحبّاءه وأعوانه ، نعوذ باللّه من الجهل والتعصّب.

ثمّ جعل هذه الآيات دليلا على مذهبه الباطل ، من باب إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.

فإنّا لا ننكر أنّ للفعل نسبة إلى الفاعل ، ونسبة وإضافة إلى الخالق ، كالسواد ، فإنّ له إضافة إلى الأسود ، لأنّه محلّه ، وإلى الخالق الذي خلقه في الأسود حتّى صار به أسود.

فقوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) (1) فيه إضافة الكفر إلى العبد ، ولا شكّ أنّه كذلك ، وليس لنا فيه نزاع أصلا ، والكلام في الخلق لا في الكسب والمباشرة.

وقوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (2) لا شكّ أنّ الكتابة تصدر من يد الكاتب ، وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال ، والكلام في الخلق والتأثير ، فنقول : الكتابة كسب العبد وخلق الحقّ.

ألم يقرأ هذا الرجل آخر هذه الآية : ( ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (3) صرّح بالكسب وأنّ كتابتهم كسب لهم ، لا أنّه خلق لهم؟!

وقس عليه باقي الآيات المذكورة.

* * *

ص: 155


1- سورة مريم 19 : 37 ، سورة الذاريات 51 : 60.
2- سورة البقرة 2 : 79.
3- سورة البقرة 2 : 79.

وأقول :

النصّ كما ذكره ، هو ما لا يحتمل الخلاف ، لكن لا بحسب الاحتمالات السفسطائية والأوهام ، وإلّا لم يكن نصّ أصلا ، بل بحسب طريقة الاستعمال وأفهام أهل اللسان كما هو ثابت في هذه الآيات الكريمة ؛ لأنّ نسبة الفعل الاختياري إلى فاعله إنّما يفهم منها تأثير الفاعل في الفعل وإحداثه إيّاه.

ولا يتصوّر عاقل أنّ نسبة الفعل الاختياري إلى الفاعل ذي القدرة والاختيار عبارة عن كون الفاعل محلّا فقط ، فلا يقاس ما نحن فيه بالأسود ، فإنّ السواد ليس باختياري لمن لا قدرة ولا اختيار له فيه.

ولكنّ الأشاعرة اصطلحوا وأثبتوا للفعل الاختياري نسبة إلى الفاعل بمعنى المحلّيّة ، لا يعرفها العرب ، وسمّوها الكسب ، ونسبة إلى الخالق ، وحملوا الكتاب العزيز على اصطلاحهم المتأخّر (1).

ولأجل ما ذكرنا لم يتعرّض المصنّف لتأويل الرازي لو وقع منه ؛ لأنّ أجوبتهم تدور مدار الكسب الخرافي ، ولو كان له جواب ذو بال لما تركه الخصم وتعرّض للكسب!

فالحقّ أنّ تأويل الآيات بمثل ذلك يعدّ من تحريف الكلم عن مواضعه ، ويوجب إسقاط الكتاب العزيز عن الحجّيّة ، إذ لا نصّ في

ص: 156


1- بل لم يستطع الأشاعرة أنفسهم من توضيح معنى الكسب! حتّى إنّ التفتازاني قال بعد تعريفه للكسب : « وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن ... » انظر : شرح العقائد النسفية : 144.

الكتاب إلّا ويمكن فيه مثل ذلك التأويل.

وأمّا استشهاده بتتمّة الآية فمن العجائب ؛ لأنّ المراد بالكسب فيها هو طلبهم لذلك الثمن القليل ، ولذا جعل تعالى الويل على كلّ من الكتابة والكسب منفردا.

ومن الجهالات المثل الذي ضربه ، مشيرا به إلى أنّ الآيات من أدلّة الأشاعرة ، وكانت سهاما لهم على خصومهم!

ولم ينكر ذو فهم أنّها من أدلّة العدليّة ، وغاية ما عند الأشاعرة تأويلها بالكسب الساقط.

ف- ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (1).

* * *

ص: 157


1- سورة الإسراء 17 : 48.

قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - :

قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :

الثاني : ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه ، وذمّ الكافر على كفره ، ووعده بالثواب على الطاعة ، وتوعّده بالعقاب على المعصية ..

كقوله تعالى : ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (2) ..

( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) ..

( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (4) ..

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (5) ..

( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (6) ..

( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) (7) ..

( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (8) ..

( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (9) ..

ص: 158


1- نهج الحقّ : 106.
2- سورة غافر 40 : 17.
3- سورة الجاثية 45 : 28.
4- سورة النجم 53 : 37.
5- سورة الأنعام 6 : 164 ، سورة الإسراء 17 : 15 ، سورة فاطر 35 : 18 ، سورة الزمر 39 : 7.
6- سورة طه 20 : 15.
7- سورة الرحمن 55 : 60.
8- سورة النمل 27 : 90.
9- سورة الأنعام 6 : 160.

( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) (1) ..

( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا ) (2) ..

و ( الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ) (3) (4).

* * *

ص: 159


1- سورة طه 20 : 124.
2- سورة البقرة 2 : 86.
3- سورة آل عمران 3 : 90.
4- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 283 - 284.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مدح المؤمن وذمّ الكافر بكونهما محلّا للكفر والإيمان ، كما يمدح الرجل بحسنه وجماله ، وتمدح اللؤلؤة بصفائها.

والوعد والوعيد لكونهما محلّا للأعمال الحسنة والسيّئة ، كما يؤثر ويختار المسك ، ويحرق الحطب والحشيش.

والآيات المذكورة إنّما تدلّ على المدح للمؤمن ، والذمّ للكافر ، وبيان ترتّب الجزاء ، وليس النزاع في هذا ؛ لأنّ هذا مسلّم.

والكلام في أنّ الأفعال المجزية ، هل هي مخلوقة لله تعالى أو للعبد؟

وأمّا المباشرة للعمل والكسب الذي يترتّب عليه الوعد والوعيد والجزاء ، فلا كلام في أنّهما من العبد.

ولهذا يترتّب عليهما الجزاء ، فعلم أنّ ما في الآيات ليس دليلا لمذهبه.

* * *

ص: 160


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 39.

وأقول :

لا ريب أنّ المدح والذمّ تابعان لحسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح قد لا يعتبر فيهما القصد والاختيار ؛ لعدم كون متعلّقهما من الأفعال الاختيارية ، بل من الصفات الذاتية ، كصفاء اللؤلؤ وكدرته ، وجمال الوجه وحسنه.

وقد يعتبر فيهما القصد والاختيار ؛ لتعلّقهما بالفعل الاختياري ، فإنّ الفعل الاختياري لو وقع بلا قصد لم يوصف بالحسن والقبح ، ولا يحمد عليه الفاعل ولا يذمّ ، كفعل النائم ، فإنّ النائم إذا صدرت منه كلمة الإيمان والكفر لم توصف بحسن ولا قبح منه ، ولا يحمد عليها ولا يذمّ.

وكذا لا يذمّ الشخص على الفعل إذا أكره عليه ، كما وقعت كلمة الكفر من عمّار بإكراه قريش فلم يذمّ عليها ، ونزل قوله تعالى : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (1).

ولو انتفى أصل الصدور من الشخص ، كان الفعل أولى بعدم اتّصافه بالحسن والقبح منه ، وكان الشخص أولى بأن لا يحمد أو يذمّ عليه ، سواء لم يرتبط به الفعل أصلا أم ارتبط به بنحو المحلّيّة أو الآليّة بلا اختيار ولا تأثير.

فإنّ الحجارة لا تحمد ولا تذمّ على الإيلام ، ولا يحسن منها ولا يقبح ، وإنّما يحمد الرامي أو يذمّ على الإيلام لحسنه منه أو قبحه

ص: 161


1- سورة النحل 16 : 106.

بحسب الوجوه والاعتبار ، كضرب اليتيم تأديبا أو عدوانا.

وكذا الحال في الإنسان بناء على صدور فعله من اللّه تعالى ، فإنّه لا يحسن من الإنسان ولا يقبح ، ولا يحمد عليه ولا يذمّ ؛ لعدم تأثيره في الفعل أصلا ، ومجرّد كونه محلّا لفعله تعالى ، وصيرورته آلة ، وتسميته في الاصطلاح اللفظي كاسبا .. لا يقتضي حسن الفعل منه أو قبحه ، ولا حمده عليه أو ذمّه ، ما دام غير مؤثّر فيه بوجه ، إذ ليس هو إلّا كالحجارة.

فحينئذ يكون تعلّق المدح والذمّ في القرآن بالمؤمن والكافر ، دليلا على الصدور منهما والتأثير لهما.

وأمّا الوعد والوعيد فلا معنى لتعلّقهما بالشخص ؛ لكونه محلّا للأفعال ، إذ لم يستند إليه شيء حتّى يجزى به .. والتشبيه بإيثار المسك واختياره وإحراق الحطب والحشيش ، خطأ ؛ لأنّ الكلام في صحّة الوعد والوعيد .. وبالضرورة : لا يصحّ وعد المسك ، وإبعاد الحشيش ..

على أنّ حرق الحطب ليس ظلما له ، إذ لا شعور له ، بخلاف تعذيب الإنسان ، فلا معنى لقياس المؤمن والكافر على المسك والحطب.

وأمّا ما ذكره من أنّ المباشرة والكسب لا كلام في أنّهما من العبد ، فإنّ أراد به أنّهما منه حقيقة ، كان خروجا عن مذهبه وشركا بمعتقده ؛ لأنّ كلّ ما في الوجود من اللّه تعالى ..

وإن أراد أنّهما منه اصطلاحا ، وبمجرّد التسمية اللفظية لم يحصل به الجواب.

* * *

ص: 162

قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :

الثالث : الآيات الدالّة على أنّ أفعال اللّه تعالى منزّهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين في التفاوت والاختلاف والظلم.

قال اللّه تعالى : ( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) (2) ..

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (3) ..

( ثُمَّ هَدى ) (4) ..

والكفر والظلم ليس بحسن.

وقال تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (5) ..

والكفر ليس بحقّ.

وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (6) ..

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (7) ..

( وَما ظَلَمْناهُمْ ) (8) ..

ص: 163


1- نهج الحقّ : 107.
2- سورة الملك 67 : 3.
3- سورة السجدة 32 : 7.
4- سورة طه 20 : 50 ، وأوّل الآية : ( الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) .
5- سورة الحجر 15 : 85.
6- سورة النساء 4 : 40.
7- سورة فصّلت 41 : 46.
8- سورة هود 11 : 101 ، سورة النحل 16 : 118 ، سورة الزخرف 43 : 76.

( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (1) ..

( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (2) (3).

* * *

ص: 164


1- سورة غافر 40 : 17.
2- سورة النساء 4 : 49.
3- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 284 ، ولم ترد فيه آية ( ثُمَّ هَدى ) .

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب جميع الملّيّين أنّ أفعال اللّه تعالى منزّهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين ، فإنّ أفعال المخلوقين مشتملة على التفاوت [ والاختلاف ] والظلم ، وأفعال اللّه تعالى منزّهة عن هذه الأشياء.

فالآيات الدالّة على هذا المعنى دليل جميع الملّيّين ، ولا يلزم الأشاعرة شيء منها ؛ لأنّهم لا يقولون : إنّ أفعال العباد أفعال اللّه تعالى حتّى يلزم المحذور ، بل إنّهم يقولون : أفعال العباد مخلوقة لله تعالى مكسوبة للعبد.

وهذا التفاوت والاختلاف والظلم بواسطة الكسب والمباشرة ، فالتفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء ، كالإنسان وغيره من المخلوقات ، فإنّ الاختلاف والتفاوت واقعان فيها لا محالة.

فهذا التفاوت والاختلاف في تلك الأشياء ؛ بماذا ينسب؟ وبأيّ شيء ينسب؟ فينسب إليه تعالى اختلاف أفعال العباد!

وأمّا الاستدلال بقوله : ( أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (2) على أنّ الكفر ليس خلقه ، فباطل ؛ لأنّ الكفر مخلوق لا خلق ، ولو كان كلّ مخلوق حسنا لوجب أن لا يكون في الوجود قبيح ، وهو باطل ؛ لكثرة المؤذيات والقبائح المتحقّقة بخلق اللّه تعالى على ما سيجيء.

ص: 165


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 41.
2- سورة السجدة 32 : 7.

وأمّا الاستدلال بقوله : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (1) على أنّ الكفر ليس مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ليس بحقّ ، فباطل ؛ لأنّ معنى الآية : إنّا ما خلقنا السماوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ والصدق والجدّ ، لا بالهزل والعبث ، كما قال : ( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِ ) (2) ..

ولو كان المعنى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلّا بكون كلّ مخلوق حقّا ، لأفاد أنّ الكفر حقّ ، وأنّى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام؟!

نعم ، ربّما فهم ذلك الأعرابي الجاف ، الحلّي الوطن ، ذلك المعنى من كلام اللّه تعالى!

* * *

ص: 166


1- سورة الحجر 15 : 85.
2- سورة الدخان 44 : 38 و 39.

وأقول :

من العجب أنّ الخصم وأصحابه يطلقون أفعال اللّه تعالى على مخلوقاته ، فإذا جاءوا إلى أفعال العباد - التي هي مخلوقة لله بزعمهم - سمّوها أفعال المخلوقين .. أيزعمون أنّ الخروج عن عهدة الإشكال بمجرّد الاصطلاح والتسمية؟!

على أنّ صريح الآية الأولى عدم التفاوت في خلق اللّه ، ومنه أفعال العباد عندهم ، فلا يضرّنا عدم تسميتها أفعالا لله تعالى.

وأمّا ما زعمه من التفاوت بواسطة الكسب والمباشرة ..

ففيه : إنّهم يزعمون أنّ اللّه تعالى خالق الأشياء كلّها ، فكلّ شيء جعلوا فيه التفاوت ، سواء كان هو الكسب أم غيره ، فهو من خلق اللّه تعالى ، فيكون التفاوت في خلقه ، وقد نفته الآية ، فلا ينفعهم الفرار إلى الكسب والمباشرة.

ومن المضحك أنّه بعدما زعم أنّ مذهب جميع الملّيّين تنزيه أفعال اللّه عن التفاوت ، كذّب نفسه بإثبات التفاوت في سائر الأشياء - كالإنسان وغيره من المخلوقات - ، ونسبه - مع التفاوت في أفعال العباد - إلى اللّه تعالى!

وهو أيضا تكذيب لله تعالى في قوله : ( ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) (1) .. ومنشأه الجهل بمعنى الآية ، إذ ليس المراد بالتفاوت في

ص: 167


1- سورة الملك 67 : 3.

الآية الاختلاف بالصورة والمادّة ، أو الحسن والأحسنية ، أو نحو ذلك ، حتّى تكذّب الآية ، بل المراد به الاختلاف بالحسن والقبح ووقوع الخلل وعدم الإتقان في بعضها ، ولكنّ الخصم لا يرضى بهذا ؛ لأنّه يزعم أنّ خلق اللّه متفاوت بالحسن والقبح.

فإن قلت : لعلّه فهم من لفظ الخلق المعنى المصدري ، فلا يكون قوله بالتفاوت في المخلوقات تكذيبا للآية.

قلت : مع أنّه لا إشعار لكلامه به ؛ لو كان كذلك لما احتاج إلى دعوى كون التفاوت بواسطة الكسب ، على أنّ تعليق الرؤية المنفية بالخلق يدلّ على إرادة المخلوق منه ، مع أنّ القول بوقوع التفاوت في المخلوقات يستوجب نفي الإتقان وثبوت النقص في اللّه سبحانه بالعجز أو الجهل ، وهو كفر!

وأمّا ما أجاب به عن قوله تعالى : ( أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (1) ..

حيث قال : إنّ الكفر مخلوق لا خلق ، فغلط واضح ، بناء على قراءة الأكثر بفتح ( لام ) خَلَقَهُ ، ليكون فعلا ، فإنّ الآية حينئذ تكون صريحة في أنّه تعالى أحسن كلّ شيء مخلوق له.

وكذا بناء على قراءته بتسكين ( اللام ) ، ليكون مصدرا وبدل اشتمال من كُلَّ شَيْءٍ ؛ وذلك لأنّ إحسان الخلق إنّما هو باعتبار إحسان المخلوق ، أو يستلزمه ، كما تشهد له القراءة الأولى.

وكيف يمكن أن يقال : إنّ اللّه سبحانه لم يحسن مخلوقاته ، وهو ينفي الإتقان ويثبت العجز أو الجهل له سبحانه؟!

ص: 168


1- سورة السجدة 32 : 7.

وما زعمه من كثرة القبائح المؤذية في مخلوقات اللّه تعالى ، يرد عليه - مع منافاته لقوله سابقا بعدم صدور القبيح منه تعالى - : إنّ المؤذيات ليست قبائح ؛ لما فيها من المصالح الكثيرة ، وإن تخيّلها قبائح من لا يعرف أنّ اللّه أحسن الخالقين ، وأنّ أفعاله متقنة منزّهة عن القبيح.

وأمّا جوابه عن الآية الثالثة ، بأنّ معناها : إنّا ما خلقنا السماوات والأرض إلّا متلبّسين بالحقّ ..

ففيه : إنّ هذا هو مراد المصنّف ، وهو بالضرورة يقتضي أن تكون مخلوقاته تعالى كلّها حقّا ، وإلّا فكيف يكون متلبّسا بالحقّ ومخلوقاته ومصنوعاته من الباطل؟!

كما إنّه لا يكون منزّها عن اللعب والعبث إذا كان بعض مخلوقاته لعبا وعبثا!

* * *

ص: 169

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

الرابع : الآيات الدالّة على ذمّ العباد على الكفر والمعاصي ، كقوله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ ) (2) ، والإنكار والتوبيخ مع العجز عنه محال ، ومن مذهبهم أنّ اللّه خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره ، فكيف يوبّخه عليه؟!

وقال تعالى : ( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ) (3) ، وهو إنكار بلفظ الاستفهام.

ومن المعلوم أنّ رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثمّ يقول : ما منعك من التصرّف في حوائجي؟! قبح منه ذلك.

وكذا قوله تعالى : ( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ) (4) ..

( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) (5) ..

وقوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ) (6) ..

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (7) ..

ص: 170


1- نهج الحقّ : 107.
2- سورة البقرة 2 : 28.
3- سورة الإسراء 17 : 94.
4- سورة النساء 4 : 39.
5- سورة ص 38 : 75.
6- سورة طه 20 : 92.
7- سورة المدّثّر 74 : 49.

( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (1) ..

( عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) (2) ..

( لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ ) (3) ..

وكيف يجوز أن يقول : لم تفعل ، مع أنّه ما فعله.!

وقوله : ( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (4) ..

( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (5) ..

قال الصاحب بن عبّاد (6) : كيف يأمر بالإيمان ولم يرده ، وينهى عن المنكر وقد أراده ، ويعاقب على الباطل وقدّره؟! (7).

وكيف يصرفه عن الإيمان ويقول : ( فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (8)؟! ..

ويخلق فيهم الكفر ثمّ يقول : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ ) (9)؟! ..

ويخلق فيهم لبس الباطل ثمّ يقول : ( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (10)؟! ..

وصدّهم عن سواء السبيل ، ثمّ يقول : ( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ

ص: 171


1- سورة الانشقاق 84 : 20.
2- سورة التوبة 9 : 43.
3- سورة التحريم 66 : 1.
4- سورة آل عمران 3 : 71.
5- سورة آل عمران 3 : 99.
6- تقدّمت ترجمته في ج 2 / 358 ه 3.
7- انظر مؤدّاه شعرا في ديوانه : 41 - 42 الأبيات 23 - 25 ، وفي شرح قصيدة الصاحب بن عبّاد في أصول الدين - للقاضي جعفر البهلولي المعتزلي - : 60 - 64.
8- سورة يونس 10 : 32 ، سورة الزمر 39 : 6.
9- سورة البقرة 2 : 28 ، سورة آل عمران 3 : 101.
10- سورة آل عمران 3 : 71.

اللّهِ ) (1)؟! ..

وحال بينهم وبين الإيمان ، ثمّ قال : ( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ ) (2)؟! ..

وذهب بهم عن الرشد ، ثمّ قال : ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (3)؟! ..

وأضلّهم عن الدين حتّى أعرضوا ، ثمّ قال : ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (4)؟! (5).

* * *

ص: 172


1- سورة آل عمران 3 : 99.
2- سورة النساء 4 : 39.
3- سورة التكوير 81 : 26.
4- سورة المدّثّر 74 : 49.
5- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 284.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق أنّ ذمّ العباد على الكفر ؛ لكونهم محلّ الكفر والكاسبين المباشرين له.

والإنكار والتوبيخ في قوله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ ) (2) ؛ لكسبهم الكفر ، وهم غير عاجزين عن الكسب ؛ لوجود القدرة على الكسب ، وإن كانوا عاجزين عن دفع الكفر عنهم بحسب الإيجاد والخلق.

والأوّل كاف في ترتّب التوبيخ على فعلهم.

وأمّا ما ذكر من أنّ مذهبهم أنّ اللّه تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، وهو لا يقدر على غيره ، فكيف يوبّخه عليه؟!

فقد ذكرنا جوابه في ما سبق أنّ التوبيخ باعتبار الكسب والمحلّيّة ، لا باعتبار التأثير والخالقيّة (3).

وقد ذكرنا في ما سبق أنّ هذا يلزمهم في العلم بعينه (4).

وكذا حكم باقي ما ذكر من الآيات المشتملة على توبيخ اللّه تعالى عباده بالشرك والمعاصي ، فإنّ كلّ هذه التوبيخات متوجّهة إلى العباد باعتبار المحلّيّة والكسب ، لا باعتبار الخلق.

ص: 173


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 47.
2- سورة البقرة 2 : 28.
3- راجع الصفحتين 131 و 155.
4- راجع الصفحة 137.

وأمّا ما ذكره من كلمات الصاحب ، فهو كان وزيرا متشدّقا في الإنشاء ، معتزليا ، ذكر الكلمات على وتيرة أرباب الترسّلات والمراسلات ، وليس فيه دليل ، وما أحسن ما قيل في أمثال كلامه :

كلامك يا هذا كبندق فارغ *** خليّ عن المعنى ولكن يقرقر

* * *

ص: 174

وأقول :

بعد قولهم : « إنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء » يكون الكسب أيضا من مخلوقاته كما سبق (1) ، ويكون العبد عاجزا عنه كأصل الفعل ، فلا يصحّ توبيخ العبد عليه أيضا.

وما زعمه من وجود القدرة على الكسب ، إن أراد بها القدرة المؤثّرة فيه ، فقد خرج عن مذهبه حيث يقول : لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى وكلّ شيء مخلوق له ..

وإن أراد بها غير المؤثّر ، فهي لا تصحّح التوبيخ ، مع أنّ مثلها عندهم متعلّق بأصل الفعل ، فلا داعي للفرار إلى الكسب.

وأمّا ما زعمه من أنّ هذا يلزمنا في العلم ، فقد مرّ مرارا ما فيه (2).

وأمّا كون الصاحب رحمه اللّه وزيرا متشدّقا في الإنشاء ، فلا ينافي علوّ مكانته في العلم ، كما هو معلوم لكلّ أحد ، وتشهد به رصانة معاني كلامه المذكور ..

وما زعمه أنّه كان معتزليا ، فهو كما زعمه الذهبي أنّ السيّد المرتضى رحمه اللّه كان معتزليا (3) ..

ص: 175


1- راجع الصفحة 167.
2- انظر الصفحة 138 - 139 من هذا الجزء ، وج 2 / 353 من هذا الكتاب.
3- انظر : سير أعلام النبلاء 17 / 588 رقم 394.

ومن نظر أحوال الصاحب عرف أنّه شريف الحسب ، إماميّ المذهب ، عريق الولاء لأهل البيت (1) ، لا يتحكّم على الحقّ بلعلّ وليت.

ولينظر المنصف أنّ الخالي عن المعنى هو كلام الصاحب أو كلام الخصم!!

* * *

ص: 176


1- انظر : عيون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 12 ، لسان الميزان 1 / 413 - 416 رقم 1295 ، أمل الآمل 2 / 34 رقم 96 ، أعيان الشيعة 3 / 328.

قال المصنّف - رفع اللّه في الخلد أعلامه - :

قال المصنّف - رفع اللّه في الخلد أعلامه - (1) :

الخامس : الآيات التي ذكر اللّه تعالى فيها تخيير العباد في أفعالهم وتعلّقها بمشيئتهم :

قال تعالى : ( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (2) ..

( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (3) ..

( فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ ) (4) ..

( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (5) ..

( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (6) ..

( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (7) ..

( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ) (8).

وقد أنكر اللّه تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه وأضافها إلى اللّه

ص: 177


1- نهج الحقّ : 109.
2- سورة الكهف 18 : 29.
3- سورة فصّلت 41 : 40.
4- سورة التوبة 9 : 105.
5- سورة المدّثّر 74 : 37.
6- سورة المدّثّر 74 : 55 ، سورة عبس 80 : 12.
7- سورة المزّمّل 73 : 19 ، سورة الإنسان 76 : 29.
8- سورة النبأ 78 : 39.

تعالى بقوله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا ) (1) ..

( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (2) (3).

* * *

ص: 178


1- سورة الأنعام 6 : 148.
2- سورة الزخرف 43 : 20.
3- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 285.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذه الآيات تدلّ على أنّ للعبد مشيئة ، وهذا شيء لا ريب فيه ولا خلاف لنا فيه ، بل النزاع في أنّ هذه المشيئة التي للعبد ، هل هي مؤثّرة في الفعل موجدة إيّاه؟ أو هي موجبة للمباشرة والكسب؟

فإقامة الدليل على وجود المشيئة في العبد غير نافعة له.

وأمّا قوله : « قد أنكر اللّه تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه وأضافها إلى اللّه تعالى بقوله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا ) (2).

فنقول : هذا الإنكار بواسطة إحالة الذنب على مشيئة اللّه تعالى عنادا وتعنّتا ، فأنكر اللّه عليهم عنادهم وجعل المشيئة الإلهيّة علّة للذنب ، وهذا باطل.

ألا ترى إلى قوله : ( وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (3) كيف نسب عدم الإشراك إلى المشيئة؟! ولو لا أنّ الإنكار في الآية الأولى لجعل المشيئة علّة للذنب ، وفي الثانية لتعميم حكم المشيئة الموجبة للخلق ، لم يكن فرق بين الأولى والثانية ، والحال أنّ الأولى واردة للإنكار على ذلك الكلام ، وهو منقول عنهم ، والثانية من اللّه تعالى من غير إنكار ، فليتأمّل المتأمّل ليظهر عليه الحقّ.

ص: 179


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 50.
2- سورة الأنعام 6 : 148.
3- سورة الأنعام 6 : 107.

وأقول :

صريح الآيات إرجاع الإيمان والكفر ونحوهما إلى مشيئة العبد ، ولا معنى للإرجاع إليها بدون تأثيرها.

ثمّ إنّ إيجاب المشيئة للكسب - كما زعم - إن كان بمعنى تأثيرها فيه ، فهو خلاف مذهبهم ، وإلّا فلا يصحّ الإرجاع إليها.

وأمّا ما ذكره من أنّ هذا الإنكار بواسطة إحالة الذنب إلى مشيئة اللّه تعالى ... إلى آخره ..

ففيه : إنّ صريح الآية إحالتهم أصل الشرك إلى مشيئة اللّه تعالى ، ولا يفهم من الآية أنّهم يعدّون الشرك ذنبا ، فضلا عن إحالتهم جهة الذنب إلى مشيئة اللّه تعالى.

وأمّا ما زعمه من أنّه لولا الجمع الذي ذكره لم يكن فرق بين الأولى والثانية ..

ففيه : إنّ الفرق واضح ؛ لأنّ الأولى في مقام الإنكار على من نفى المشيئة المؤثّرة فعلا عن نفسه وأضافها إلى اللّه تعالى ، والثانية في مقام فرض مشيئته تعالى ، وأنّه لو فرض تعلّقها بعدم الشرك لما أشركوا.

* * *

ص: 180

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

السادس : الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال والمسارعة إليها قبل فواتها.

كقوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ..

( أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ وَآمِنُوا بِهِ ) (3) ..

( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) (4) ..

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) (5) ..

( فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) (6) ..

( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) (7) ..

( وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) (8).

وكيف يصحّ الأمر بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور ممنوعا عاجزا عن الإتيان؟!

ص: 181


1- نهج الحقّ : 109.
2- سورة آل عمران 3 : 133.
3- سورة الأحقاف 46 : 31.
4- سورة الأنفال 8 : 24.
5- سورة الحجّ 22 : 77.
6- سورة النساء 4 : 170.
7- سورة الزمر 39 : 55.
8- سورة الزمر 39 : 54.

وكما يستحيل أن يقال للمقعد الزمن : قم ، ولمن يرمى من شاهق جبل : احفظ نفسك (1) .. فكذا ها هنا.

* * *

ص: 182


1- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 285.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

أمر العباد بالمسارعة في الخيرات من باب التكليف ، وقد سبق فائدة التكليف (2) .. وأنّه ربّما يصير داعيا إلى إقبال العبد إلى اللّه تعالى.

وخلق الثواب والعقاب عقيب التكليف والبعثة وعمل العباد ، كخلق الإحراق عقيب النار.

فكما لا يحسن أن يقال : لم خلق اللّه الإحراق عقيب النار؟

كذلك لا يحسن أن يقال : لم خلق الثواب والعقاب عقيب الطاعة والمعصية؟ فإنّه تعالى مالك على الإطلاق ، ويحكم ما يريد.

وأمّا قوله : كيف يصحّ الأمر بالطاعة والمأمور عاجز؟! ..

فالجواب : ما سبق أنّه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة ؛ والكلام في الخلق والتأثير لا في الكسب والمباشرة (3)!

* * *

ص: 183


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 53.
2- تقدّم في الصفحة 136.
3- انظر الصفحة 155.

وأقول :

قد عرفت أنّ هذا كلّه من الهذيان أو التمويه (1) ، فلا يحسن بنا إضاعة القرطاس لأجله مرّة أخرى!

* * *

ص: 184


1- راجع الصفحتين 148 و 169.

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

السابع : الآيات التي حثّ اللّه تعالى فيها على الاستعانة به.

قوله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (2) ..

( فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) (3) ..

( اسْتَعِينُوا بِاللّهِ ) (4).

فإذا كان اللّه تعالى خلق الكفر والمعاصي ، كيف يستعان ويستعاذ به؟!

وأيضا : يلزم بطلان الألطاف والدواعي ؛ لأنّه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد ، فأيّ نفع يحصل للعبد من اللطف الذي يفعله اللّه تعالى؟!

ولكنّ الألطاف حاصلة .. كقوله تعالى : ( أَ وَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ) (5) ..

( وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (6) ..

( وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) (7) ..

ص: 185


1- نهج الحقّ : 110.
2- سورة الفاتحة 1 : 5.
3- سورة النحل : 16 : 98.
4- سورة الأعراف 7 : 128 ، ووردت في المصدر بدلا عن هذه آية : ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ) سورة البقرة 2 : 153.
5- سورة التوبة 9 : 126.
6- سورة الزخرف 43 : 33.
7- سورة الشورى 42 : 27.

( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) (1) ..

( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) (3).

* * *

ص: 186


1- سورة آل عمران 3 : 159.
2- سورة العنكبوت 29 : 45.
3- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 285.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

خلق الكفر والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من الخالق ولا يستعاذ به ، فإنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاستعاذة ، ولو كان الأمر كما ذكروا لانسدّ باب الدعاء والطلب من اللّه تعالى ؛ لأنّه خالق الأشياء.

وهذا من الترّهات التي لا يتفوّه بها عاقل فضلا عن فاضل.

* * *

ص: 187


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 54.

وأقول :

اشارة

الاستعانة : طلب إعانة المعين على فعل المستعين ، فإذا كان الفعل والأثر لله وحده ، كيف يحصل معنى الاستعانة؟!

كما إنّ الاستعاذة به تعالى من الشيطان إنّما تكون إذا كان الشيطان أثر ، فإذا كان الأثر لله وحده ، كيف يستعاذ به من غير المؤثّر؟!

هذا هو مراد المصنّف لا ما فهمه الخصم!

ودعوى أنّ الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق موجبهما دعوى شبيهة بالكسب في عدم ظهور معناها ، مع إنّها لا تنافي وجه الاستدلال الذي ذكرناه!

فنحن ندعوه سبحانه بأن يعيننا على فعل الخير ، ويعيذنا من فعل الشيطان وشرّه ، وباب دعائه تعالى مفتوح للسائلين.

وقد تغافل الخصم عمّا ذكره المصنّف من لزوم بطلان الألطاف والدواعي ؛ لعجزه عن الجواب! ولعلّه عن غفلة ؛ لأنّ من كانت بضاعته دعوى الكسب ونحوه لا يعجز عن الجواب.

* * *

ص: 188

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

الثامن : الآيات الدالّة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسهم.

كقوله تعالى حكاية عن آدم علیه السلام : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (2) ..

وعن يونس علیه السلام : ( سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (3) ..

وعن موسى علیه السلام : ( إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) (4) ..

وقال يعقوب لأولاده : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) (5) ..

وقال يوسف علیه السلام : ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) (6) ..

وقال نوح علیه السلام : ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) (7).

فهذه الآيات تدلّ على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لأفعالهم (8).

* * *

ص: 189


1- نهج الحقّ : 110.
2- سورة الأعراف 7 : 23.
3- سورة الأنبياء 21 : 87.
4- سورة النمل 27 : 44 ، سورة القصص 28 : 16.
5- سورة يوسف 12 : 18.
6- سورة يوسف 12 : 100.
7- سورة هود 11 : 47.
8- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 286.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لا يدلّ على اعتقادهم بكونهم خالقين ، والمدّعى هو هذا ، وفيه التنازع ، فإنّ كلّ إنسان يعلم أنّه فاعل للفعل ، ولكن الكلام في الخلق والإيجاد ، فليس فيه دلالة لمدّعاه!

* * *

ص: 190


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 56.

وأقول :

سبق أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح الدلالة على إيجاده إيّاه ، وأنّ الكسب بالمعنى الذي فسّره به ، إنّما هو عبارة عن نسبة محلّيّة لا فاعليّة (1) ، فتكون الآيات دليلا واضحا على المطلوب.

وقوله : إنّ « الكلام في الخلق والإيجاد » ..

مسلّم ؛ والآيات دالّة عليه ، فإنّ الخلق لغة هو الفعل ، وإن كان ينصرف في الاستعمال إلى فعل اللّه تعالى خاصّة ، ولذا يتقصّده الخصم ، ليستبشع السامع من دعوى الأنبياء في أنفسهم الخلق ، ولم يعلم أنّ اللّه تعالى نسبه إلى عيسى فقال : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (2) ..

ونسبه إلى غيره فقال : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (3) ..

وقال سبحانه : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (4).

* * *

ص: 191


1- تقدّم في الصفحة 156 من هذا الجزء.
2- سورة المائدة 5 : 110.
3- سورة العنكبوت 29 : 17.
4- سورة المؤمنون 23 : 14.

قال المصنّف - طاب مثواه - :

قال المصنّف - طاب مثواه - (1) :

التاسع : الآيات الدالّة على اعتراف الكفّار والعصاة بأنّ كفرهم ومعاصيهم كانت منهم.

كقوله تعالى : ( وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ )

- إلى قوله تعالى : - ( أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) (2) ..

وقوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) (3) ..

( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) - إلى قوله تعالى : - فَكَذَّبْنا (4) ..

وقوله تعالى : ( أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ) (5) .. ( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) (6) (7).

* * *

ص: 192


1- نهج الحقّ : 111.
2- سورة سبأ 34 : 31 و 32.
3- سورة المدّثّر 74 : 42 و 43.
4- سورة الملك 67 : 8 و 9.
5- سورة الأعراف 7 : 37.
6- سورة الأعراف 7 : 39.
7- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 286.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اعتراف الكفّار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة ، وهو أنّ الكسب من العبد ، والخلق من اللّه تعالى.

ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة : ( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) (2) أي كان هذا الجزاء لكسبكم الأعمال السيّئة.

وكلّ هذا يدلّ على أنّ للعبد كسبا يؤاخذ به يوم القيامة ويجزى به ، ولا يدلّ على ما هو محلّ النزاع ، وهو كونه خالقا لفعله وموجدا إيّاه ، فليس فيها دلالة على المقصود.

* * *

ص: 193


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 57.
2- سورة الأعراف 7 : 39.

وأقول :

التعلّل بالكسب عليل ؛ لأنّه معنى حادث اخترعه الأشاعرة ، فكيف تحمل عليه الآية؟! والحال أنّ معناه اللغوي : العمل.

وهل يفهم عربي أنّ معنى الآية ( فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما ... )

أنّكم محلّ لفعل أنا خلقته؟!

وهل يصحّ من العدل أن يذيقهم العذاب لأجل جعله لهم محلّا لفعله؟!

وكذا الآيات الأخر صريحة في المطلوب لما عرفت من أنّ إسناد الفعل الاختياري إلى فاعله صريح في إيجاده إيّاه (1).

* * *

ص: 194


1- انظر الصفحة 169.

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

العاشر : الآيات التي ذكر اللّه تعالى فيها ما يحصل منهم من التحسّر في الآخرة على الكفر ، وطلب الرجعة.

قال تعالى : ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا ) (2) ..

( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) (3) ..

( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) (4) ..

( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (5) (6).

* * *

ص: 195


1- نهج الحقّ : 112.
2- سورة فاطر 35 : 37.
3- سورة المؤمنون 23 : 99 و 100.
4- سورة السجدة 32 : 12.
5- سورة الزمر 39 : 58.
6- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 286.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

التحسّر وطلب الرجعة لاكتساب الأعمال السيّئة والاعتقادات الباطلة التي من جملتها اعتقاد الشركاء لله تعالى ، كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من الملّيّين كالمعتزلة وتابعيهم ، وليس في هذه الآيات دليل على مدّعاهم.

* * *

ص: 196


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 58.

وأقول :

سبق أنّ الكسب كأصل الفعل لا أثر للعبد فيه (1) ، فكيف يتحسّر لوقوعه منه والمؤثّر غيره؟!

وكيف يطلب الرجعة للعمل وهو عود على بدء؟! لأنّ العمل لغيره ولا قدرة له على الدفع!

وما الفائدة بالرجعة والمحسن مثل المسيء عند الأشاعرة في تجويز العذاب؟! ولعلّه يكون الأمر فيها أسوأ!

ونتيجة مقالتهم أنّ اللّه سبحانه خلق في العبد الكفر والمعصية ، وجعله محلّا لها بإرادته من دون أثر للعبد أصلا ، ويعاقبه عليهما بأشدّ العقاب!

ويخلق فيه التحسّر وطلب الرجعة ولا يجيبه إليها ، ويخلق فيه الاعتراف بالظلم ، وهو خلق الظلم فيه ، ويخيّره في أفعاله ولا خيار له!

ومع ذلك لا جور ولا سفه في فعله ، بل كلّه عدل ورحمة وصواب ، ما هذا إلّا شيء عجاب!!

* * *

ص: 197


1- راجع الصفحة 161 - 162 من هذا الجزء.

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..

فما عذر فضلائهم؟! وهل يمكنهم الجواب عند هذا السؤال : كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريّا؟! إلّا بأنّا طلبنا الحياة الدنيا وآثرناها على الآخرة!

وما عذر عوامّهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم واتّباعهم في عقائدهم؟!

وهل يمكنهم الجواب عند السؤال : كيف تركتم هذه الآيات وقد جاءكم بها النذير ، وعمّرناكم ما يتذكّر فيه من تذكّر؟! إلّا بأنّا قلّدنا آباءنا وعلماءنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر ، مع كثرة الخلاف وبلوغ الحجّة إلينا!

فهل يقبل عذر هذين القبيلين ، وهل يسمع كلام الفريقين؟!

* * *

ص: 198


1- نهج الحقّ : 112.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت في ما مضى أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود (2) ، وقد علمت في كلّ الفصول من استدلالاته بالآيات أنّها دالّة على خلاف مقصوده ، فهي نصوص مخالفة لمدّعاه.

والعجب أنّه يفتخر ويباهي بإتيانها ثمّ يقول : ما عذر علمائهم وعوامّهم؟!

فنقول : أمّا عذر علمائهم فإنّهم يقولون يوم القيامة : إلهنا كنّا نعلم أنّه لا خالق في الوجود سواك ، وأنت خلقت كلّ شيء ، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة ، فإن تعذّبنا فنحن عبادك ، وإن تغفر لنا فبفضلك وكرمك ، ولك التصرّف كيف شئت.

وأمّا عذر عوامّهم فإنّهم يقولون : إلهنا! إنّ نبيّك محمّدا صلی اللّه علیه و آله أمرنا أن نكون ملازمين للسواد الأعظم ، فقال : عليكم بالسواد الأعظم (3) ؛ ورأينا في أمّته السواد الأعظم كان أهل السنّة ، فدخلنا فيهم واعتقدنا مثل اعتقادهم ، ورأينا المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود ، يخفون مذهبهم ويسمّونه التقية ، ويهربون من كلّ شاهق إلى شاهق ، ولو نسب إليهم أنّهم معتزليّون أو شيعة يستنكفون عن هذه النسبة ، فعلمنا أنّ الحقّ مع السواد الأعظم.

ص: 199


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 59.
2- راجع الصفحة 167.
3- السنّة - لابن أبي عاصم - 1 / 39 ح 80 ، تفسير القرطبي 14 / 39.

وأقول :

قد سبق أنّ النصّ ما لا يحتمل الخلاف بحسب فهم أهل اللسان (1) ، وأنّ الآيات الكريمة كذلك ، ونحن نكل إلى السامع قوله : « دالّة على خلاف مقصودة » (2).

وأمّا ما ذكره في عذر علمائهم فهو لا يسمع عند من يعلم الحقائق والصادق من الكاذب ، ويعلم أنّهم ما قالوا ذلك في الدنيا إلّا لإغواء العوامّ المساكين وتلبيس الحقّ المبين! فيقول لهم : كيف تقولون لا خالق في الوجود سواك ، وأنتم تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم؟! فإنّا نشاهد أعمالكم تشهد عليكم بخلاف أقوالكم ، إذ تحتالون للدنيا ومقاصدكم بكلّ حيلة ، وتتنازعون عليها بما ترون لكم من كلّ حول وقوّة.

وكيف تقولون ذلك وهذه آيات الكتاب المجيد تتلى عليكم بنسبة الأفعال إلى العباد؟! وقد صرّح بعضها بلفظ الخلق ، قال تعالى : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (3) .. ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (4) ..

فما غايتكم بهذا المقال إلّا الإضلال ، ونفي فعل القبيح عن أنفسكم ، وإثباته للمنزّه عن كلّ عيب ونقص!

ص: 200


1- تقدّم في الصفحة 169.
2- المتقدّم في الصفحة السابقة.
3- سورة المائدة 5 : 110.
4- سورة العنكبوت 29 : 17.

وأيّ فائدة لقولكم : « إنّا كسبنا المعصية » وأنتم تريدون به أنّكم محلّ بالاضطرار؟! فيكون أرحم الراحمين - بزعمكم - قد خلق المعصية مع كسبها فيكم بلا جرم ، فصيّر تموه أظلم الظالمين كما هو مرادكم بقولكم : إنّ « لك التصرّف » فينا ، فإنّ اللّه سبحانه يتنزّه عن التصرّف المطوي على الظلم والجور.

وأمّا ما ذكره في عذر عوامّهم بأن نبيّنا قال : « عليكم بالسواد الأعظم » فعذر بارد ..

لأنّه يقال لهم أوّلا : كيف أخذتم دينكم من هذا الحديث ، وهو لو صحّ سندا وتمّ دلالة لا يفيد إلّا الظنّ ، وقد سمعتم قوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (1) .. وقوله : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (2)؟!

ويقال لهم ثانيا : كيف أخذتم بهذا الحديث وتركتم قول اللّه تعالى : ( أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (3) الدالّ على انقلاب السواد الأعظم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! ..

وما رواه معتمدكم البخاري في « كتاب الحوض » من صحيحه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخبر أنّ الصحابة إذا وردوا عليه الحوض يحال بينه وبينهم ، ويقال له : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ويؤخذ بهم إلى النار ، ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم (4).

ص: 201


1- سورة يونس 10 : 36.
2- سورة الأنعام 6 : 116.
3- سورة آل عمران 3 : 144.
4- صحيح البخاري 8 / 216 ح 164 - 166 باب في الحوض.

وما رواه أهل صحاحكم وغيرهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : يكون في هذه الأمّة مثل ما كان في بني إسرائيل ، حذو النعل بالنعل (1) ، وقد ارتدّ السواد الأعظم من بني إسرائيل ، وخالفوا خليفة موسى أخاه هارون ..

مع أنّ أكثر الناس في عامّة الأزمنة على الضلالة ، كما يصرّح به الكتاب العزيز في كثير من الآيات (2).

ويقال لهم ثالثا : كيف علمتم أنّ المراد بالحديث لزوم اتّباع السواد الأعظم حتّى في الدين؟! والحال أنّه مطلق صالح للتقييد بألف قيد ، كما قيّدتموه أنتم بغير المعصية والظلم ونحوهما (3) ، فكان يلزمكم الفحص والنظر في الأدلّة العقلية والنقلية.

وقد كان يكفيكم من العقل أنّ الجبر مستوجب لنسبة الظلم إلى اللّه

ص: 202


1- انظر : سنن الترمذي 5 / 26 ح 2641 ، السنّة - لابن أبي عاصم - 1 / 25 ح 45 ، المعجم الكبير 6 / 204 ح 6017 وج 10 / 39 ح 9882 وج 17 / 13 ح 3 ، الشريعة - للآجري - : 26 - 27 ح 29 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 218 - 219 ح 444 و 445 ، مجمع الزوائد 7 / 261 عن البزّار.
2- كقوله تعالى : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) سورة الأنعام 6 : 116. وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ) سورة الصافات 37 : 71 . وقوله تعالى : ( لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) سورة الزخرف 43 : 78 . .. إلى كثير من الآيات الكريمة في هذا الصدد ، يمكنك مراجعتها في مادة «كثر» من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .
3- انظر مثلا : الإحكام في أصول الأحكام - لابن حزم - 1 / 592 وقد أثبت عدم صحّة رواية « عليكم بالسواد الأعظم » ، الاعتقاد على مذهب السلف - للبيهقي - : 139 ، المحصول في علم أصول الفقه 2 / 46 - 47 ، فواتح الرحموت 2 / 222 - 223 ، شرح العقيدة الطحاوية : 111.

سبحانه .. ومن النقل الآيات السابقة ؛ بل وجدان كلّ شخص أنّه يحرم عليه اتّباع السواد الأعظم في هذه المسألة ؛ لأنّه يجد من نفسه أنّه المؤثّر في فعله ، وعليه رأيه في كلّ عمله.

على أنّ السواد الأعظم هو العوامّ ، فما معنى اتّباعه لنفسه وكلّه جاهل؟!

.. إلى غير ذلك من المفاسد المانعة من الاعتذار بهذا الحديث!

وأمّا ما أشار إليه من أمر التقيّة ، فلو ذكره المعتذر كان الأمر عليه أشدّ وأخزى ..

إذ يقال له أوّلا : ما أنكرتم من التقيّة وقد شرّعها اللّه تعالى في كتابه العزيز ، فقال : ( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1) .. وقال تعالى : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (2)؟!

وثانيا : إنّ تقيّة الشيعة ليست إلّا منكم ؛ لأنّكم أخفتموهم وقتلتموهم لتمسّكهم بمن أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمّته بالتمسّك بهم! وأنتم اتّبعتم الظالمين في معاداة أهل بيت الرحمة وشيعتهم المؤمنين ، وآمنتم المشركين والمنافقين والفاسقين!

وقولكم : « يستنكفون من هذه النسبة » ..

حاشا وكلّا ، رأينا علانيتهم تشهد لضمائرهم بالافتخار بموالاة آل محمّد الطاهرين ومعاداة أعدائهم ، كما قال شاعرهم الكميت رحمه اللّه

ص: 203


1- سورة آل عمران 3 : 28.
2- سورة النحل 16 : 106.

تعالى :

وما لي إلّا آل أحمد شيعة *** وما لي إلّا مذهب الحقّ مذهب(1)

* * *

ص: 204


1- القصائد الهاشميات : 28 ، الأغاني 17 / 29 ، وجاء البيت فيهما هكذا : فما لي إلّا آل أحمد شيعة *** وما لي إلّا مشعب الحقّ مشعب

قال المصنّف - بلّغه اللّه مناه - :

قال المصنّف - بلّغه اللّه مناه - (1) :

ومنها : مخالفة الحكم الضروري الحاصل لكلّ أحد ، عندما يطلب من غيره أن يفعل فعلا ، فإنّه يعلم بالضرورة أنّ ذلك الفعل يصدر عنه.

ولهذا يتلطّف في استدعاء الفعل منه بكلّ لطيفة ، ويعظه ويزجره عن تركه ، ويحتال عليه بكلّ حيلة ، ويعده ويتوعّده على تركه ، وينهاه عن فعل ما يكرهه ويعنّفه على فعله ، ويتعجّب من فعله ذلك ويستطرفه ، ويتعجّب العقلاء من فعله.

وهذا كلّه دليل على فعله ، ويعلم بالضرورة الفرق بين أمره بالقيام وبين أمره بإيجاد السماوات والكواكب ، ولو لا أنّ العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا لما صحّ ذلك.

* * *

ص: 205


1- نهج الحقّ : 113.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الطلب من الغير للفعل ونهيه عن الفعل ، للحكم الضروري بأنّه فاعل الفعل ، وهذا لا ينكره إلّا من ينكر الضروريّات.

وقد مرّ مرارا أنّ هذا ليس محلّ النزاع (2) ، فإنّ صدور الفعل عن أحدنا محسوس ، ولهذا نطلب منه ونتلطّف ، ونزجر ونعد ونوعد.

وكلّ هذه الأمور واقعة ، وليس النزاع إلّا في أنّ هذا الفعل هل هو مخلوق لنا ، أو نحن نباشره؟

فالنزاع راجع إلى الفرق بين المباشرة والخلق ، وأنّهما متّحدان أو متغايران؟ وهذا ليس بضروري ، ومن ادّعى ضرورية هذا فهو مكابرة لمقتضى العقل ، فمخالفة الضرورة في ما ذكر ليس في محلّ النزاع ، فليس له فيه دليل.

* * *

ص: 206


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 63.
2- انظر ردّ الفضل في الصفحتين 121 و 141.

وأقول :

ما ذكره المصنّف من التلطّف في الاستدعاء ونحوه دليل ضروريّ على كون العبد موجدا لفعله ومؤثّرا فيه ، كما هو مذهبنا ، ومجرّد محلّيّته لفعل فاعل آخر مع عدم الأثر له أيضا في المحلّيّة - كما هو مذهبهم - لا يصحّح التلطّف ونحوه ، وهذا من أوّليّات الضروريّات.

ولكنّ الخصم يستعمل المغالطة والتمويه ، فادّعى أنّهم يقولون بمباشرة العبد للفعل ، وأنّها غير الإيجاد.

فإن أراد أنّها فعل آخر للعبد من آثاره فهو مخالف لمذهبه ..

وإن أراد أنّها عبارة عن محلّيّة العبد لفعل اللّه بلا أثر للعبد فيها أصلا ، لم يرتفع الإشكال بمخالفتهم للحكم الضروري كما أوضحه المصنّف.

وليت شعري إذا استعمل الإنسان التمويه في دينه اليوم ، فهل يراه منجيه غدا يوم تكشف الحقائق ويظهر الكاذب من الصادق؟!

فليحذر العاقل! وليعتبر من يريد خلاص نفسه يوم حلوله في رمسه!

* * *

ص: 207

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : مخالفة إجماع الأنبياء والرسل ، فإنّه لا خلاف في أنّ الأنبياء أجمعوا على أنّ اللّه تعالى أمر عباده ببعض الأفعال كالصلاة والصوم ، ونهى عن بعضها كالظلم والجور ، ولا يصحّ ذلك إذا لم يكن العبد موجدا.

إذ كيف يصحّ أن يقال له : ائت بفعل الإيمان والصلاة ، ولا تأت بالكفر والزنا ، مع أنّ الفاعل لهذه الأفعال والتارك لها هو غيره؟!

فإنّ الأمر بالفعل يتضمّن الإخبار عن كون المأمور قادرا عليه ، حتّى لو لم يكن المأمور قادرا على المأمور به لمرض أو سبب آخر ثمّ أمره ، فإنّ العقلاء يتعجّبون منه وينسبونه إلى الحمق والجهل والجنون ، ويقولون : إنّك لتعلم أنّه لا يقدر على ذلك ، ثمّ تأمره به؟!

ولو صحّ هذا لصحّ أن يبعث اللّه رسولا إلى الجمادات مع الكتاب ، فيبلّغ إليها ما ذكرناه ، ثمّ إنّه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات ويعاقبها لأجل أنّها لم تمتثل أمر الرسول ، وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل.

* * *

ص: 208


1- نهج الحقّ : 113.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

أمر الأنبياء عباد اللّه بالأشياء ونهيهم عن الأشياء لا يتوقّف على كون العبد موجدا للفعل.

نعم ، يتوقّف على كون العبد فاعلا مستقلّا في الكسب والمباشرة ومختارا ، وهذا مذهب الأشاعرة (2) ، وما ذكره لا يلزم من يقول بهذا ، بلى يلزم أهل مذهب الجبر.

وقد علمت أنّ الأشاعرة يثبتون اختيار العبد في كسب الفعل ، ويمنعون كون قدرته مؤثّرة في الفعل ، ومبدعة موجدة إيّاه ، وشتّانبين الأمرين.

فكلّ ما ذكره لا يلزم الأشاعرة ، وليس في مذهبهم مخالفة لإجماع الأنبياء.

* * *

ص: 209


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 65.
2- انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 69 ، تمهيد الأوائل : 342 ، شرح المقاصد 4 / 250 ، شرح المواقف 8 / 146.

وأقول :

لم يرد الخصم بقوله : « فاعلا مستقلّا في الكسب » تأثير قدرته فيه ، فإنّه مناف لقولهم : لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه تعالى.

بل أراد مجرّد محلّيّته للفعل بلا تأثير له في الفعل والمحلّيّة ، غاية الأمر أنّه يقترن بالفعل قدرة له واختيار ، وهما لا يصحّحان أمره ونهيه ما لم يكن لهما تأثير ألبتّة.

فيرد عليهم ما ذكره المصنّف رحمه اللّه ، فليس أمر العباد ونهيهم إلّا بمنزلة أمر الجمادات ونهيها!

* * *

ص: 210

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

ومنها : إنّه يلزم منه سدّ باب الاستدلال على وجود الصانع ، والاستدلال على كونه تعالى صادقا ، والاستدلال على صحّة النبوّة ، والاستدلال على صحّة الشريعة ، ويفضي إلى القول بخرق إجماع الأمّة ؛ لأنّه لا يمكن إثبات الصانع إلّا بأن يقال : العالم حادث ، فيكون محتاجا إلى المحدث قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا ، فمع منع حكم الأصل في القياس ، وهو كون العبد موجدا ، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة ، فينسدّ عليه باب إثبات الصانع.

وأيضا : إذا كان اللّه تعالى خالقا للجميع من القبائح وغيرها ، لم يمتنع منه إظهار المعجز على يد الكاذب ، ومتى لم يقطع بامتناع ذلك انسدّ علينا باب إثبات الفرق بين النبيّ والمتنبّي.

وأيضا : إذا جاز أن يخلق اللّه تعالى القبائح ، جاز أن يكذب في إخباره ، فلا يوثق بوعده ووعيده وإخباره عن أحكام الآخرة والأحوال الماضية والقرون الخالية.

وأيضا : يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها وأن يبعث عليها ، ويحثّ ويرغّب فيها ، ولو جاز ذلك جاز أن يكون ما رغّب اللّه تعالى فيه من القبائح ، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح التشاغل بها.

وأيضا : لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والإضلال ،

ص: 211


1- نهج الحقّ : 114.

ويزيّنه له ويصدّه عن الحقّ ، ويستدرجه بذلك إلى عقابه ، للزم في دين الإسلام جواز أن يكون هو الكفر والضلال ، مع أنّه تعالى زيّنه في قلوبنا ، وأن يكون بعض الملل المخالفة للإسلام هو الحقّ ، ولكنّ اللّه تعالى صدّنا عنه وزيّن خلافه في أعيننا ..

فإذا جوّزوا ذلك لزمهم تجويز ما هم عليه هو الضلالة والكفر ، وكون ما خصومهم عليه هو الحقّ ، وإذا لم يمكنهم القطع بأنّ ما هم عليه هو الحقّ ، وما خصومهم عليه هو الباطل ، لم يكونوا مستحقّين للجواب!

* * *

ص: 212

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

في هذا الفصل استدلّ بأشياء عجيبة ينبغي أن يتّخذه الظرفاء ضحكة لهم.

منها : إنّه استدلّ بلزوم انسداد باب إثبات الصانع وكونه صادقا والاستدلال بصحّة النبوّة على كون العبد موجد أفعاله.

وذكر في وجه الملازمة شيئا غريبا عجيبا ، وهو أنّا نستدلّ على حدوث العالم بكونه محتاجا إلى المحدث قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا ، فمن منع حكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجدا ، لا يمكنه استعمال هذه الطريقة ، وإثبات هذه الملازمة من المضاحك ..

أمّا أوّلا : فلأنّه حصر حادثات العالم في أفعال الإنسان ، ولو لم يخلق الإنسان وأفعاله أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات الحيوان وسائر الأشياء الحادثة بوجوب وجود المحدث ، وكأنّ هذا الرجل لم يمارس قطّ شيئا من المعقولات!

والحقّ أنّه ليس أهلا لأن يباحث لدناءة رتبته في العلم ، ولكن ابتليت بهذا مرّة فصبرت.

وأمّا ثانيا : فلأنّه استدلّ بلزوم عدم كونه صادقا على كون العبد موجد فعله ، ولم يذكر هذه الملازمة ؛ لأنّ النسبة بينه وبين هذه الملازمة بعيدة جدّا.

ص: 213


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 67.

وأمّا ثالثا : فلأنّه استدلّ بلزوم انسداد باب صحّة النبوّة ، وصحّة الشريعة على كون العبد موجد فعله ؛ ومن أين يفهم هذه الملازمة؟!

ثمّ ادّعى الإفضاء إلى خرق الإجماع ..

وكلّ هذه الاستدلالات خرافات وهذيانات لا يتفوّه بها إلّا أمثاله في العلم والمعرفة.

ثمّ استدلّ على بطلان كونه خالقا للقبائح بلزوم عدم امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب ، وقد استدلّ قبل هذا بهذا مرارا وأجبناه في محالّه (1).

وجواب هذا وما ذكر بعده من ترتّب الأمور المنكرة على خلق القبائح ، مثل : ارتفاع الثقة من الشريعة والوعد والوعيد وغيرها : إنّا نجزم بالعلم العادي وبما جرى من عادة اللّه تعالى أنّه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب ، فهو محال عادة كسائر المحالات العادية ، وإن كان ممكنا بالذات ؛ لأنّه لا يجب على اللّه تعالى شيء على قاعدتنا.

فكلّ ما ذكره من لزوم جواز تزيين الكفر في القلوب عوض الإسلام ، وأنّ ما عليه الأشاعرة من اعتقاد الحقّيّة يمكن أن يكون كفرا وباطلا فلا يستحقّون الجواب ..

فجوابه : إنّ جميع هؤلاء لا يقع عادة كسائر العاديّات ، ونحن نجزم بعدم وقوعه ، وإن جاز عقلا ، حيث لا يجب عليه شيء ، ولا قبيح بالنسبة إليه.

* * *

ص: 214


1- انظر الصفحات 11 و 12 و 49 و 52 من هذا الجزء.

وأقول :

ينبغي بيان مقصود المصنّف وتوضيح بعض كلامه ؛ ليعرف منه خبط الخصم ، فنقول : ذكر المصنّف أنّه يلزم من القول بأنّ العباد غير فاعلين لأفعالهم لوازم أربعة :

[ اللازم ] الأوّل : سدّ باب الاستدلال على وجود الصانع ، واستدلّ عليه بقوله : « لأنّه لا يمكن إثبات الصانع إلّا بأن يقال ... » إلى آخره.

وتوضيحه : إنّهم اختلفوا في أنّ المحوج إلى الصانع ؛ هل هو الإمكان ، أو الحدوث ، أو المركّب منهما ، أو الإمكان بشرط الحدوث؟

واختار الأشاعرة الثاني كما ذكره الخصم سابقا (1).

وعلى مختارهم يتوقّف إثبات الصانع على قولنا : العالم حادث ، وكلّ حادث محتاج إلى محدث (2) ، ولا دليل على الكبرى إلّا احتياج أفعالنا إلينا ، وقياس سائر الحوادث عليها في الحاجة إلى محدث.

فإذا منع الأشاعرة الأصل - وهو احتياج أفعالنا إلينا لعدم كوننا موجدين لها ، ولم يكن في سواها من الحوادث دلالة على الحاجة إلى المحدث - انسدّ عليهم باب إثبات الصانع.

فالمصنّف قد حصر الدليل على الكبرى بحاجة أفعالنا إلينا ، لا أنّه حصر الحادثات في أفعال الإنسان كما فهمه الخصم.

ص: 215


1- راجع ردّ الفضل في ج 2 / 311.
2- انظر : تقريب المعارف : 71 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 49 ، المنقذ من التقليد 1 / 28.

فإن قلت : نفس حدوث الحوادث يدلّ على وجود المحدث بلا حاجة إلى القياس على أفعالنا.

قلت : لا نسلّم ذلك ما لم يرجع إلى التعليل بالإمكان ، بلحاظ أنّ ما تساوى طرفاه يمتنع ترجّح أحدهما بلا مرجّح ، وهو خلاف قولهم بأنّ العلّة المحوجة هي الحدوث لا الإمكان (1).

فنفس الحدوث - مع قطع النظر عن الإمكان - لا يقتضي الحاجة إلى صانع ؛ لجواز الصدفة ، فلا بدّ لهم من القول بأنّا فاعلون لأفعالنا ، وأنّها محتاجة إلينا ، ليقاس عليها سائر الحوادث وتتمّ كلّية الكبرى.

اللازم الثاني : سدّ باب الاستدلال على كونه تعالى صادقا ، واستدلّ عليه المصنّف بقوله : « وأيضا لو جاز أن يخلق اللّه تعالى القبائح ، جاز أن يكذب في إخباره ».

وتوضيحه : إنّه إذا جاز أن يخلق تعالى الكذب الواقع من الناس وسائر القبائح ، فقد جاز أن يكذب في كلامه اللفظي ، إذ لا فرق بين أن يخلق الكذب في الناس ، وبين أن يخلقه في شجرة أو على لسان جبرائيل أو ألسنة الأنبياء ؛ لأنّ جميع الكذب والقبائح إنّما هي خلقه ، فلا يوثق بوعده ووعيده وسائر أخباره ، كما سبق موضّحا (2).

[ اللازم ] الثالث : سدّ باب الاستدلال على صحّة النبوّة ، واستدلّ عليه المصنّف بقوله : « وأيضا إذا كان اللّه تعالى خالقا للجميع من القبائح وغيرها » ..

وهو غنيّ عن البيان ، والملازمة فيه ظاهرة.

ص: 216


1- انظر : تمهيد الأوائل : 38 - 42 ، المواقف : 76 - 77 ، شرح المقاصد 2 / 13.
2- راجع الصفحة 19.

[ اللازم ] الرابع : سدّ باب الاستدلال على صحّة الشريعة ، واستدلّ عليه المصنّف بأمرين :

الأوّل : قوله : « وأيضا يلزم من خلقه القبائح جواز أن يدعو إليها ».

وتوضيحه : إنّ خلق الشيء يتوقّف على إرادته ، وهي تتوقّف على الرضا به - كما سبق (1) - ..

فإذا كان تعالى خالقا للقبائح ، كان مريدا لها وراضيا بها ..

وإذا أرادها ورضي بها ، جاز أن يدعو إليها ، ويبعث الرسل لأجل العمل بها ويرغّب فيها.

وإذا جاز ذلك ، جاز أن يكون ما رغّب فيه وبعث به الرسل من القبائح ، فتزول الثقة بالشرائع ويقبح التشاغل بها ؛ لجواز أن يكون ما تدعو إليه قبيحا.

الثاني : قوله : « وأيضا لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد الكفر والإضلال » ..

وهو لا يحتاج إلى البيان.

ولا ريب أنّ سدّ باب الاستدلال على تلك الأمور خرق لإجماع الأمّة.

فظهر أنّ المصنّف ذكر اللوازم الأربعة ووجه لزومها لهم ، لكن على طريق اللف والنشر المشوّش ؛ لأنّه قدّم دليل اللازم الثالث على دليل الثاني ، فلم يتّضح للخصم كلام المصنّف رحمه اللّه مع غاية وضوحه!

وقد تشبّث للجواب عن بعض الأدلّة بأنّه محال عادة أن يخالف اللّه

ص: 217


1- تقدّم في ج 2 / 364.

تعالى عادته ، حيث جرى في عادته أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب ، وأن لا يكذب في إخباره ، وأن لا يبعث إلى القبائح ولا يحثّ عليها ، ولا يزيّن الكفر في القلوب ، إلى نحو ذلك ممّا رتّب المصنّف جوازه على جواز خلق اللّه سبحانه للقبائح.

وفيه - كما مرّ كثيرا - أنّا نطالبه بمستند العادة ، وهذه الأمور غيبية.

ثمّ ما معنى العادة في أنّ شريعة الإسلام وما عليه الأشاعرة دون غيرهما حقّ ، وقد أوكلنا جملة ممّا خبط به الخصم إلى فهم الناظر ؛ لئلّا يحصل الملل من البيان.

* * *

ص: 218

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - :

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :

ومنها : تجويز أن يكون اللّه تعالى ظالما عابثاً ؛ لأنّه لو كان اللّه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ومنها القبائح كالظلم والعبث ، لجاز أن يخلقها لا غير ، حتّى تكون كلّها ظلما وعبثا ، فيكون اللّه تعالى ظالما عابثا لاعبا ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 219


1- نهج الحقّ : 115.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

نعوذ باللّه من التفوّه بهذه الترّهات ، وأنّى يلزم هذا من هذه العقيدة ، والظلم والعبث من أفعال العباد ، ولا قبيح بالنسبة إليه ، وخالق الشيء غير فاعله؟!

وهذا الرجل لا يفرّق بين خالق الصفة والمتّصف بتلك الصفة ، وكلّ محذوراته ناش من عدم هذا الفرق ، ألا يرى أنّ اللّه خالق السواد ، فهل يجوز أن يقال : هو الأسود؟!

كذلك لو كان خالق الظلم والعبث ، هل يجوز أن يقال : إنّه ظالم عابث؟! نعوذ باللّه من التعصّب المؤدّي إلى الهلاك.

ثمّ إنّ هذا الرجل يحصر القبيح في أفعال الإنسان ، ويدّعي أن لا قبيح ولا شرّ في الوجود إلّا أفعال الإنسان ، وذلك باطل ، فإنّ القبائح - غير أفعال الإنسان - في الوجود كثيرة ، كالخنزير والحشرات المؤذية.

وهل يصحّ له أن يقول : إنّ هذه الأشياء غير مخلوقة لله تعالى؟!

فإذا قال : إنّها مخلوقة لله تعالى ، فهل يمنع قباحتها وشرّها؟! وذلك مخالف الضرورة والحسّ! فإذا يلزم ما ألزم الأشاعرة من القول بخلق الأفعال القبيحة.

* * *

ص: 220


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 70.

وأقول :

لا تنفعهم الاصطلاحات الصرفة ، وأنّ الخلق غير الفعل - كما سبق (1) -.

ولو سلّم ، فالمصنّف يلزمهم بأنّه إذا كان اللّه تعالى خالقا للقبائح كالظلم والعبث ، فقد جاز أن تكون مخلوقاته كلّها منها ، فلا يكون في الكون إلّا ما هو من جنس العبث والظلم واللواط والزنا والقيادة والفساد في الأرض ونحوها ، فإذا جاز ذلك عندهم ، فقد جوّزوا أن يكون اللّه سبحانه عابثا ظالما ، إذ لا شكّ لكلّ عاقل أنّ من تكون مخلوقاته هكذا لا غير ، يكون عابثا ظالما ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وقوله : « لا قبيح بالنسبة إليه » ؛ قد عرفت أنّه باللغو أشبه (2).

وأمّا ما زعمه من أنّ خالق الصفة غير المتّصف بها ..

ففيه : إنّه عليه لا يصحّ وصف اللّه تعالى بالصفات الفعلية ، فلا يقال له : هاد ورحمن ورازق ؛ لأنّ الهداية والرحمة والرزق مخلوقة له ، ولا محيي ولا مميت ولا معزّ ولا مذلّ .. إلى غير ذلك.

فالحقّ أنّ الصفات منها ما يكون التلبّس بمبدئها باعتبار إيجاده ، كالظالم والعابث والأبيض والهادي والمحيي والضارب ، ونحوها.

ومنها : ما يكون التلبّس به باعتبار قيامه وحلوله بالموصوف ،

ص: 221


1- تقدّم في الصفحة 9 من هذا الجزء.
2- انظر ردّ الفضل في الصفحة 7 وردّ الشيخ المظفّر قدس سره عليه في الصفحة 9 من هذا الجزء ، وانظر كذلك ردّ الشيخ المظفّر في ج 2 / 261 وما بعدها.

كالحيّ والميّت والأبيض والأسود ، ونحوها.

ومنها : غير ذلك كما سبق بيانه (1).

فحينئذ لا وجه لنقض الخصم بالأسود في محلّ الكلام ، من نحو الظالم والعابث واللاعب ، كما لا ريب في صدق هذه المشتقّات على من أوجد مبادئها ، وهي الظلم والعبث واللعب ، لا سيّما إذا اختصّت مصنوعاته بهذه المبادئ.

وأمّا ما أورده من النقض بخلق الخنزير ونحوه ، بدعوى أنّها قبائح ، فقد مرّ أنّها لم تخلق إلّا لحكم ومصالح فيها ، فلا توصف بالقبح واقعا وإن وصفت به تسامحا وببعض الجهات (2) ..

على أنّ القبح المتنازع فيه هو القبح في الأفعال ، وهو المعنى الثالث الذي ذكره (3) ، والقبح في الأعيان لا يكون إلّا بالمعنى الثاني ، وهو معنى الملاءمة والمنافرة الذي ليس هو محلّا للنزاع باعترافهم.

* * *

ص: 222


1- انظر ج 2 / 233.
2- انظر الصفحة 26 من هذا الجزء.
3- راجع ردّ الفضل في ج 2 / 327.

قال المصنّف - عطّر اللّه ضريحه - :

قال المصنّف - عطّر اللّه ضريحه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم إلحاق اللّه تعالى بالسفهاء والجهّال ، تعالى اللّه عن ذلك ؛ لأنّ من جملة أفعال العباد الشرك باللّه تعالى ، ووصفه بالأضداد والأنداد والأولاد ، وشتمه وسبّه.

فلو كان اللّه تعالى فاعلا لأفعال العباد ، لكان فاعلا للأفعال كلّها ولكلّ هذه الأمور ، وذلك يبطل حكمته ؛ لأنّ الحكيم لا يشتم نفسه ، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء ، نعوذ باللّه من هذه المقالات الرديّة.

* * *

ص: 223


1- نهج الحقّ : 116.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ونحن نقول : نعوذ باللّه من هذه المقالة المزخرفة الباطلة ، وهذا شيء نشأ له لعدم الفرق بين الخالق والفاعل ، فإنّ اللّه يخلق الأشياء ، فالسبّ والشتم له - وإن كانا مخلوقين لله تعالى - فبما فعل العبد ، والمذمّة للفعل لا للخلق ، فلا يلزم كونه شاتما لنفسه.

وخلق هذه الأفعال ليس سفها حتّى يلزم إلحاقه تعالى بالسفهاء ، نعوذ باللّه من هذا ؛ لأنّ اللّه تعالى قدّر في الأزل شقاوة الشاتم له ، والسابّ له ، وأراد إدخاله النار ، فيخلق فيه هذه الأفعال ، لتحصل الغاية التي هي دخول الشاتم النار ، فأيّ سفه في هذا؟!

* * *

ص: 224


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 72.

وأقول :

لو سلّم أنّ الخالق غير الفاعل فلا يرتفع السفه ؛ لأنّه إنّما ينشأ من إيجاد الشخص سبّ نفسه وما ينقصه ، سواء سمّي خلقا أم فعلا ، فإنّ مجرّد الاصطلاح لا يدفع المحذور.

ولكنّ هذا ليس بأعظم من قوله بإرادة اللّه سبحانه إدخال عبده النار ، فيتسبّب إليه بجعله محلّا لسبّه وسائر القبائح ، مع عجزه عن الدفع لتحصل الغاية ، وهي تعذيب عبده الضعيف الأسير بأشدّ العذاب!

والحال أنّه لا حاجة إلى هذا التسبّب المستهجن ؛ لأنّه يصحّ عندهم أن يعذّب عبده ابتداء وبلا سبب ، فما أعجب أقوال هؤلاء وما أقبحها وما أجرأهم على اللّه العظيم!

* * *

ص: 225

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم مخالفة الضرورة ؛ لأنّه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه.

ولو جاز ذلك لجوّزنا أن يكون في ما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلّا للدعوة إلى السرقة ، والزنا ، واللواط ، وكلّ القبائح ، ومدح الشيطان وعبادته ، والاستخفاف باللّه تعالى ، والشتم له ، وسبّ رسوله ، وعقوق الوالدين ، وذمّ المحسن ، ومدح المسيء.

* * *

ص: 226


1- نهج الحقّ : 116.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

لو أراد من نفي جواز بعثه الرسول بهذه الأشياء الوجوب على اللّه تعالى ، فنحن نمنعه ؛ لأنّه لا يجب على اللّه شيء.

وإن أراد بنفي هذا الجواز الامتناع عقلا ، فهو لا يمتنع عقلا.

وإن أراد الوقوع ، فنحن نمنع هذا ؛ لأنّ العلم العادي يفيدنا عدم وقوع هذا ، فهو محال عادة ، والتجويز العقلي لا يوجب وقوع هذه الأشياء كما عرفته مرارا (2).

ثمّ إنّه صدّر كلامه بلزوم مخالفة الضرورة ، وأيّ مخالفة للضرورة في هذا المبحث؟!

* * *

ص: 227


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 74.
2- انظر الصفحات 7 و 65 و 99 من هذا الجزء.

وأقول :

يمكن اختيار الشقّ الأوّل ؛ لأنّ اللّه سبحانه أوجب على نفسه الهدى وقصد السبيل حيث قال : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (1) .. ( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (2).

ولا ريب أنّ إرسال الرسول بتلك الفواحش والقبائح وقطع السبيل ، مناف للهدى وقصد السبيل.

ويمكن اختيار الشقّ الثاني ؛ لحكم العقل (3) بامتناع أن يبعث اللّه تعالى رسولا بهذا الدين ؛ لأنّه من أظهر منافيات الحكمة وأعظم النقص بالملك العدل ، فهو ممتنع عقلا بالغير ، بل مثله نقص في حقّ أقلّ العقلاء.

ويمكن اختيار الشقّ الثالث ، أعني الوقوع احتمالا ؛ لأنّه إذا جاز أن يخلق اللّه سبحانه تلك القبائح ، احتملنا أن يكون قد بعث بها رسولا.

ودعوى العلم العادي بالعدم ممنوعة ، إذ لم يطّلع أحدنا على جميع الأنبياء وشرائعهم ، ولم نعرف منهم إلّا النادر ، فلعلّ هناك نبيّ أو أنبياء هذه شريعتهم لم يتّبعهم أحد ، أو اندرست أممهم.

ولا عجب من الخصم إذ أنكر على دعوى الضرورة ، فإنّ أمرهم مبنيّ على إنكار الضروريات!

ص: 228


1- سورة الليل 92 : 12.
2- سورة النحل 16 : 9.
3- كذا في المخطوط ، وفي المطبوعتين : الكلّ.

قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - :

قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :

ومنها : إنّه يلزم أن يكون اللّه سبحانه أشدّ ضررا من الشيطان ؛ لأنّ اللّه لو خلق الكفر في العبد ثمّ يعذّبه عليه لكان أضرّ من الشيطان ؛ لأنّ الشيطان لا يمكن أن يلجئه إلى القبائح ، بل يدعوهم إليها كما قال اللّه تعالى : ( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (2).

ولأنّ دعاء الشيطان هو أيضا من فعل اللّه تعالى ، وأمّا اللّه سبحانه فإنّه يضطرّهم إلى القبائح!

ولو كان كذلك لحسن من الكافر أن يمدح الشيطان وأن يذمّ اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 229


1- نهج الحقّ : 116.
2- سورة إبراهيم 14 : 22.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

نعوذ باللّه من التفوّه بهذه المقالة ، والاستجراء على تصوير أمثال هذه الترّهات ، فإنّ اللّه تعالى يخلق كلّ شيء ، والتعذيب مرتّب على المباشرة والكسب ، وخلق الكفر ليس بقبيح ؛ لأنّ غايته دخول الشقي النار ، كما يقتضيه نظام عالم الوجود.

والتصرّف في العبد بما شاء ليس بظلم ؛ لأنّه تصرّف في ملكه ، وقد عرفت أنّ تصرّف المالك في الملك بما شاء ليس بظلم (2) ، واللّه تعالى وإن خلق الكفر في العبد ، ولكنّ العبد هو يباشره ويكسبه.

واللّه تعالى بعث الأنبياء ، وخلق أيضا قوّة النظر ، وبثّ دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس.

فهذه كلّها ألطاف من اللّه تعالى ، والشيطان يضرّ بالإغواء والوسوسة ، فأين نسبة اللطيف الهادي - وهو اللّه تعالى - بالشيطان الضارّ المضلّ؟! ومن أين لزم هذا؟!

* * *

ص: 230


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 75.
2- تقدّم في الصفحة 93.

وأقول :

قد خرج بكلامه عن المقصود ، وتشبّث بالتمويهات الصرفة ، فإن كانت غايته من كلامه جعل أثر للعبد والشيطان في الفعل أو الكسب ، فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا لم يكن له مناص عن إلزام المصنّف لهم.

وقد عرفت تفصيل ما في هذه الكلمات الفارغة عن التحصيل (1).

وأمّا الاجتراء على اللّه سبحانه فهو ممّن قال بما يستلزم هذا الكفر ، لا ممّن صوّره للردع عنه.

وما باله إذا كان يتعوّذ من التفوّه بهذه الكلمات يعتقد بحقيقتها ، ويعلم أنّ جوابه عنها يشتمل على الإقرار بها ، لكن بشيء من التمويه!

* * *

ص: 231


1- راجع الصفحة 95 من هذا الجزء وج 2 / 336.

قال المصنّف - ضاعف اللّه ثوابه - :

قال المصنّف - ضاعف اللّه ثوابه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم مخالفة العقل والنقل ؛ لأنّ العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله لم يستحقّ ثوابا ولا عقابا ، بل يكون اللّه تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير استحقاق منهم.

ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء علیهم السلام ، وإثابة الفراعنة والأبالسة ، فيكون اللّه تعالى أسفه السفهاء ، وقد نزّه اللّه تعالى نفسه عن ذلك فقال : ( أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2) .. ( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (3).

* * *

ص: 232


1- نهج الحقّ : 117.
2- سورة القلم 68 : 35 و 36.
3- سورة ص 38 : 28.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّ استحقاق العبد للثواب والعقاب بواسطة المباشرة والكسب ، وهو يستحقّ الثواب والعقاب بالمباشرة ، لا أنّه يجب على اللّه إثابته.

فاللّه متعال عن أن يكون إثابة المطيع وتعذيب العاصي واجبا عليه ، بل جرى عادة اللّه تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح ، والتعذيب عقيب الكفر والعصيان.

وجواز تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة المراد به نفي الوجوب على اللّه تعالى ، وهو لا يستلزم الوقوع ، بل وقوعه محال عادة - كما ذكرناه مرارا (2) - فلا يلزم المحذور.

* * *

ص: 233


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 76.
2- راجع الصفحة 214 من هذا الجزء وج 2 / 357 و 428.

وأقول :

الكسب والمباشرة أثر صادر عن اللّه تعالى وحده بزعمهم ، كأصل الفعل ، لأنّه خالق كلّ شيء ، فكيف يستحقّ العبد الثواب والعقاب على الكسب؟!

وكيف يتّجه تخصيص الاستحقاق عليه دون أصل الفعل ، وكلاهما من اللّه وحده ، والعبد محلّ بالاضطرار؟!

ثمّ إنّه إذا كان العبد مستحقّا للثواب بواسطة الكسب ، كان حكمه بعدم وجوب إثابته مناقضا له ، إذ كيف يكون حقّا له على اللّه تعالى ولا يجب عليه أداؤه له ، وهو العدل؟!

نعم ، لمّا كان العقاب حقّا لله تعالى ، كان له العفو عنه ، كما سبق (1) ويأتي إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا دعوى العادة ، فباطلة ؛ لأنّ الثواب والعقاب غيب ومتأخّران ، فما وجه العادة والعلم بها؟! إلّا أن يدّعي العلم العادي بأخبار اللّه تعالى في كتابه المجيد ، وهو مع توقّفه على ثبوت صدق كلامه تعالى على مذهبهم غير تامّ ؛ لأنّه تعالى أيضا أخبر بأنّه يمحو ما يشاء ويثبت (2).

وأمّا قوله : « وهو لا يستلزم الوقوع » .. فمسلّم ؛ لكن لا يستلزم أيضا عدم الوقوع ، ويكفينا الاحتمال ، إذ لا يجوز على غير السفيه تعذيب

ص: 234


1- تقدّم في ج 2 / 398.
2- في قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) سورة الرعد 13 : 39.

الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة ؛ تعالى اللّه عن ذلك.

وقد أنكر عليه سبحانه هذا الحكم فقال : ( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1).

* * *

ص: 235


1- سورة الصافّات 37 : 154 ، سورة القلم 68 : 36.

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

ومنها : يلزم مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر ؛ لأنّه تعالى إذا خلق الكفر في الكافر لزم أن يكون قد خلقه للعذاب في نار جهنّم.

ولو كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا ، فإنّ نعمة الدنيا مع عقاب الآخرة لا تعدّ نعمة ، كمن جعل لغيره سمّا في حلواء وأطعمه ، فإنّه لا تعدّ اللذّة الحاصلة من تناوله نعمة.

والقرآن قد دلّ على أنّه تعالى منعم على الكفّار ، قال اللّه تعالى :

( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً ) (2) .. ( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ ) (3).

وأيضا : قد علم بالضرورة من دين محمّد صلی اللّه علیه و آله أنّه ما من عبد إلّا ولله عليه نعمة ، كافرا كان أو مسلما.

* * *

ص: 236


1- نهج الحقّ : 117.
2- سورة إبراهيم 14 : 28.
3- سورة القصص 28 : 77.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذا أيضا من غرائب الاستدلالات ، فإنّ نعمة اللّه تعالى على الكافر محسوسة ، والهداية أعظم النعم.

وإرسال الرسل وبثّ الدلائل العقليّة كلّها نعم عظام ، والكافر استحقّ دخول النار بالمباشرة والكسب ، والخلق من اللّه تعالى ليس بقبيح.

ثمّ ما ذكره من لزوم عدم كون الكافر منعما عليه ، يلزمه أيضا بإدخاله النار ، فإنّ اللّه تعالى يدخل الكافر النار ألبتّة ، فيلزم أن لا يكون عليه نعمة.

فإن قال : إدخاله لكونه آثر الكفر ورجّحه واختاره.

قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك ، وإدخاله لكونه باشر الكفر ، وكسبه ، وعمل به.

ولو كان الواجب على اللّه تعالى أن ينعم على الكافر - وهو المفهوم من ضرورة الدين - لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار ، بأيّ وصف كان الكافر ؛ لأنّه يلزم أن لا يكون منعما عليه ، وهو خلاف ضرورة الدين.

وأمثال هذه الاستدلالات ترّهات ومزخرفات.

* * *

ص: 237


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 78.

وأقول :

لا ينكر أنّ الهداية والرسل والدلائل نعم عظام على العباد ، لكن إذا خلق اللّه سبحانه الكفر في الكافر وأعجزه عن اتّباع الرسل والدلائل لم تكن في حقّه نعمة بالضرورة ، وإنّما تكون نعمة عليه إذا مكّنه من اتّباعها ، وأهّله لتحصيل الثواب بعمله الميسور له ، وإن فوّت على نفسه بكفره الاختياري نعمة الثواب.

وهذا هو الجواب عن نقض الخصم على المصنّف رحمه اللّه بأنّه إذا أدخل اللّه الكافر النار لم تكن له نعمة عليه ، لا ما ذكره بقوله : « فإن قال : إدخاله لكونه آثر الكفر ورجّحه واختاره » فإنّ هذا إنّما يكون مصحّحا لعقابه ، لا لإثبات كونه منعما عليه كما هو محلّ الكلام ، وقد بيّنّا ثبوته على مذهبنا فيكون هو الجواب.

ولعلّ الخصم إنّما أجاب بهذا ليتمكّن بزعمه من الجواب بمثله! ويقول : « قلنا : في مذهبنا أيضا كذلك ، وإدخاله لكونه باشر الكفر ... » إلى آخره.

وفيه : مع ما ظهر لك من أنّ مثل هذا لا يصلح أن يكون جوابا عن إشكال عدم النعمة على الكافر ، ليس صحيحا في نفسه ؛ لما سبق مرارا من أنّ الكسب ليس ممّا للعبد فيه أثر - على قولهم (1) - فلا يكون مصحّحا للعقاب.

ص: 238


1- انظر قول الفضل في ص 93 ، وردّ الشيخ المظفّر عليه في ص 95 من هذا الجزء.

وأمّا قوله : « ولو كان الواجب على اللّه تعالى أن ينعم على الكافر لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار ».

ففيه : إنّ المصنّف إنّما قال : « قد علم بالضرورة من دين محمّد صلی اللّه علیه و آله أنّه ما من عبد إلّا ولله تعالى عليه نعمة ، كافرا أو مسلما » وهذا لا يدلّ على أصل وجوب الإنعام على الكافر ، فضلا عن أن يجب على اللّه تعالى أن يجعل الكافر محلّا لكلّ نعمة ، وأن لا يدخله النار.

* * *

ص: 239

قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - :

قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - (1) :

ومنها : صحّة وصف اللّه تعالى بأنّه ظالم وجائر ؛ لأنّه لا معنى للظالم إلّا فاعل الظلم ، ولا الجائر إلّا فاعل الجور ، ولا المفسد إلّا فاعل الفساد ؛ ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلّا حال نفي الآخر (2).

ولأنّه لمّا فعل العدل سمّي عادلا ، فكذا لو فعل الظلم سمّي ظالما.

ويلزم أن لا يسمّى العبد ظالما ولا سفيها ؛ لأنّه لم يصدر عنه شيء من هذه.

* * *

ص: 240


1- نهج الحقّ : 117.
2- أي إنّ ثبوت الصفة يستلزم نفي ضدّها ، فكونه عادلا يستلزم أن لا يكون ظالما.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت أنّ خالق الشيء غير فاعله ومباشره (2) ، فالفعل تارة يطلق ويراد به : الخلق ، كما يقال : اللّه تعالى فاعل كلّ شيء ، وقد يطلق ويراد به :

المباشرة والاعتمال.

وعلى التقديرين فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء الذي خلقه ، وإن كان المخلوق من جملة الصفات كما قدّمنا (3).

فمن خلق الظلم لا يقال : إنّه ظالم.

وقد ذكرنا أنّه لم يفرّق بين هذين المعنيين (4) ، ولو فرّق لم يستدلّ بأمثال هذا.

* * *

ص: 241


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 80.
2- انظر الصفحتين 93 و 173 من هذا الجزء.
3- تقدّم في الصفحتين 165 و 220 من هذا الجزء.
4- راجع الصفحة 149 من هذا الجزء.

وأقول :

إذا أقرّ بإطلاق الفعل على الخلق ، وأنّه يقال : فاعل كلّ شيء ، ويراد خالقه ، فقد صارا مترادفين ، وبطل قوله : إنّ خالق الشيء غير فاعله.

ولو سلّم فلا يرتفع الإشكال بمجرّد هذا الاصطلاح ، إذ يكفينا أن نقول : إنّ من أوجد الظلم والفساد يسمّى ظالما مفسدا لغة وعرفا ، فيلزمهم الإشكال.

وأمّا قوله : « وعلى التقديرين ، فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء » ..

فغلط ظاهر ، ضرورة أنّ أكثر صفات اللّه سبحانه من أفعاله ، كالعادل والرحمن والهادي والمحيي والمميت ونحوها ، بل صفات الذات أيضا من مخلوقاته بزعمهم ؛ لأنّها مغايرة له وصادرة عنه بالإيجاب.

ثمّ إنّ مراد المصنّف رحمه اللّه ب « الآخر » في قوله : « ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلّا حال نفي الآخر » هو الآخر الضدّ ، لا مطلقا.

وحينئذ فلو ثبت الظلم لأحد لم يصحّ إثبات العدل له في مورد ثبوت الظلم له ، فلا يصحّ وصف اللّه سبحانه بالعادل حال خلقه للظلم وثبوته له ، وهو كفر آخر.

* * *

ص: 242

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه -

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم منه المحال ؛ لأنّه لو كان هو الخالق للأفعال ، فإمّا أن يتوقّف خلقه لها على قدرتنا ودواعينا ، أو لا ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّه يلزم منه عجزه سبحانه عمّا يقدر عليه العبد ، ولأنّه يستلزم خلاف المذهب ، وهو وقوع الفعل منه والداعي من العبد ، إذ لو كان من اللّه تعالى لكان الجميع من عنده ، ولأنّه القدرة والداعي إن أثّرا فهو المطلوب ، وإلّا كان وجودهما كوجود لون الإنسان وطوله وقصره.

ومن المعلوم بالضرورة أنّه لا مدخل للّون والطول والقصر في الأفعال ، وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منّا.

وأمّا الثاني : فلأنّه يلزم منه أن يكون اللّه تعالى أوجد - أي خلق - تلك الأفعال من دون قدرتهم ودواعيهم ، حتّى توجد الكتابة والنساجة المحكمتان ممّن لا يكون عالما بهما ، ووقوع الكتابة ممّن لا يد له ولا قلم ، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية ، الريّان في الغاية ، مع تمكّنه من الأكل.

ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال ، وأن لا يقوى الرجل الشديد القوّة على رفع تبنة ، وأن يجوز من الممنوع المقيّد العدو ، وأن يعجز القادر

ص: 243


1- نهج الحقّ : 118.

الصحيح عن تحريك الأنملة (1).

وفي هذا زوال الفرق بين القوي والضعيف ، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزّمن والصحيح.

* * *

ص: 244


1- الأنملة - بالفتح - : المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع ؛ انظر لسان العرب 14 / 295 مادّة « نمل ».

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

نختار القسم الثاني ، وهو أنّ خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقّف على دواعينا وقدرتنا ، وما ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية ، فهي استبعادات ، والاستبعاد لا يقدح في الجواز العقلي.

نعم ، عادة اللّه جرت على إحداث الكتابة عند حصول اليد والقلم ، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون اليد والقلم ، ولكن هو من المحالات العادية كما مرّ غير مرّة (2).

وما ذكر أنّه يلزم أن تكون القدرة والداعي إذا لم يكونا مؤثّرين في الفعل ، كاللون والطول والقصر بالنسبة إلى الأفعال ، فهو ممنوع ..

للفرق بأنّ الفعل يقع عقيب وجود القدرة ، كالإحراق الذي يقع عقيب مساس النار عادة ، ولا يقال لا فرق بالنسبة إلى الإحراق بين النار وغيرها ، إذ لا تجري العادة بحدوث الإحراق عقيب مساس الماء.

فكذلك لم تجر عادة اللّه تعالى بإحداث الفعل عقيب وجود اللون ، بل عقيب حصول القدرة والداعي مع أنّهما غير مؤثّرين.

* * *

ص: 245


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 82.
2- راجع الصفحة 214 من هذا الجزء.

وأقول :

لا يخفى أنّ مقصود المصنّف هو : إنّه يلزم انتفاء الفرق في صحّة نسبة الكتابة إلى ذي اليد أو مقطوعها ؛ لأنّ المفروض عدم دخل القدرة وآلاتها في وجود الأفعال ، وذلك باطل بالضرورة.

وكذا الكلام في تأثير الداعي ، وليس المقصود امتناع حصول الكتابة مثلا بدون الآلات ، فإنّه لا ينكر إمكانه ، بل وقوعه في اللوح وغيره.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة والداعي ، وبين اللون والطول والقصر بجريان العادة ، فليس في محلّه ؛ لأنّ المصنّف رحمه اللّه أراد لزوم عدم الفرق في عدم المدخلية والتأثير ، لا لزوم عدم الفرق أصلا ، وإلّا فالفروق كثيرة.

ولا ريب أنّ عدم الفرق بعدم المدخلية والتأثير خلاف الضرورة ، فإنّ كلّ عاقل يدرك مدخلية القدرة والداعي في الفعل وتأثيرهما فيه ، دون اللون والطول والقصر.

* * *

ص: 246

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : تجويز أن يكون اللّه تعالى جاهلا أو محتاجا ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّ في الشاهد فاعل القبيح إمّا جاهل ، أو محتاج ، مع إنّه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة ، فلأن يكون كذلك في الغائب - الذي هو الفاعل في الحقيقة - أولى.

* * *

ص: 247


1- نهج الحقّ : 119.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد مرّ أنّ الخالق غير الفاعل ، بمعنى الكاسب والمباشر (2) ، وخالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجا ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ، كما في خلقه لما هو قبيح بالنسبة إلى المخلوق ، فلا يلزم منه جهل ولا احتياج.

* * *

ص: 248


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 83.
2- انظر الصفحتين 93 و 173 من هذا الجزء.

وأقول :

ضرورة العقلاء قاضية بأنّ خلق القبيح وإيجاده أولى بالقبح من كسبه ، بمعنى محلّيّة المحلّ له بلا تأثير ، بل لا معنى لنسبة قبح الفعل الاختياري إلى غير المؤثّر.

فلا محالة يلزم من خلق القبيح أحد الأمرين : الجهل ، والاحتياج ، ولا عبرة بالسفسطات.

* * *

ص: 249

قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - :

قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :

ومنها : إنّه يلزم منه الظلم ؛ لأنّ الفعل إمّا أن يقع من العبد لا غير ..

أو من اللّه تعالى ..

أو منهما بالشركة ، بحيث لا يمكن تفرّد كلّ منهما بالفعل ، أو لا من واحد منهما ..

والأوّل : هو المطلوب.

والثاني : يلزم منه الظلم ، حيث فعل الكفر وعذّب من لا أثر له فيه ألبتّة ، ولا قدرة موجدة له ، ولا مدخل له في الإيجاد ، وهو أبلغ أنواع الظلم.

والثالث : يلزم منه الظلم ؛ لأنّه شريك في الفعل ، وكيف يعذّب شريكه على فعل فعله هو وإيّاه؟!

وكيف يبرّئ نفسه من المؤاخذة مع قدرته وسلطنته ، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعل هو مثله؟!

وأيضا : يلزم منه تعجيز اللّه تعالى ، إذ لا يتمكّن من الفعل بتمامه ، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد.

وأيضا : يلزم المطلوب ، وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل ، وإذا جاز استناد أثر ما إليه ، جاز استناد الجميع إليه.

ص: 250


1- نهج الحقّ : 119.

فأيّ ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات؟!

فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص التي نزّه اللّه تعالى نفسه عنها وتبرّأ منها!

* * *

ص: 251

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

نختار أنّ الفعل - بمعنى الخلق - يصدر من اللّه تعالى ، والعبد كاسب للفعل ، مباشر له ، ولا تأثير لقدرته في الفعل.

قوله : « يلزم منه الظلم ».

قلنا : قد سبق أنّ الظلم لا يلزم أصلا ؛ لأنّه يتصرّف في ما هو ملك له ، والتصرّف في الملك كيف شاء المالك لا يسمّى ظلما ، ثمّ إنّ تعذيب العاصي بواسطة كونه محلّا للفعل الموجب للعذاب (2).

وأمّا قوله : « فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص ».

فنقول : أنا أخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق باللّه تعالى ، وهو الهرب والفرار من الشرك الصريح الذي لزم المخالفين ممّن يدّعون أنّ العبد خالق مثل الربّ ، وهذا فيه خطر الشرك ، وهم يهربون من الشرك!

* * *

ص: 252


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 84.
2- انظر الصفحتين 93 و 230 من هذا الجزء.

وأقول :

لا يمكن أن يكون مجرّد الملك مصحّحا لعذاب من لا ذنب له ؛ لما سبق من أنّه ليس من أحكام الملكيّة جواز إضرار المالك بملكه الحسّاس ، بلا جرم منه ، ولا فائدة له ، بل هو مناف لمقتضى الملكيّة من رعاية المملوك وحمايته عمّا يضرّه (1).

وأمّا ما أخبر به من الأمر الداعي لأصحابه ، فلو صدق فيه ، فلم أثبتوا لأنفسهم قدرة وإرادة وغيرهما من الصفات الزائدة بزعمهم على الذات ، وأثبتوا لأنفسهم أيضا ملكيّة؟!

وادّعوا مشاركة اللّه سبحانه في الكلّ! والحال أنّ المشاركة فيها أعظم من المشاركة في الفعل ، بل لو كان الشرك مطلقا باطلا لم تصحّ مشاركة اللّه تعالى في الوجود والشيئية ، وفي ثبوت الهوية.

فالحقّ - كما سبق - أنّ المشاركة في ما لا نقص به على اللّه سبحانه من الأمور التي لا توجب الإلهية ، ولا المعارضة ، أو المماثلة له ، جائزة وواقعة ، كما في محلّ النزاع.

وكيف يكون فيها نقص؟! وهي من مظاهر القدرة الربّانيّة ، ودلائل النزاهة ، حيث جعل قدرة العبيد الفعّالة دليلا على قدرته العظمى ، وطريقا إلى نزاهته عن أفعالهم القبيحة!

نعم ، أنا أخبره أنّ الذي دعاهم إلى الالتزام بذلك وسلوك أسوأ

ص: 253


1- تقدّم في الصفحة 95 من هذا الجزء.

المسالك ، هو التعصّب للأسلاف ، والاقتداء بآثار الآباء.

ومن المضحك أنّه في مقام إنكار تأثير العبيد يثبت التأثير لهم فيقول :

« أنا أخبره بالذي دعاهم » فأشرك بمذهبه ، وأساء باعتقاده إلى ربّه!

وما زال يعاقب المصنّف عقاب الفاعلين للفاعلين المؤثّرين!

أعاذنا اللّه من مخالفة العمل للقول ، والتعرّض لسخطه ، إنّه أرحم الراحمين.

* * *

ص: 254

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : إنّه يلزم مخالفة القرآن العظيم والسنّة المتواترة والإجماع وأدلّة العقل.

* أمّا الكتاب فإنّه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد ، وقد تقدّم بعضها (2).

وكيف يقول اللّه تعالى : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (3) ولا خالق سواه؟!

ويقول : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (4) ولا تحقّق لهذا الشخص ألبتّة؟!

ويقول : ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) (5) ..

( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (6) ..

( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (7) ..

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا

ص: 255


1- نهج الحقّ : 120.
2- تقدّم في الصفحة 152 - 153 من هذا الجزء.
3- سورة المؤمنون 23 : 14.
4- سورة طه 20 : 82.
5- سورة فصّلت 41 : 46 ، سورة الجاثية 45 : 15.
6- سورة النجم 53 : 31.
7- سورة الكهف 18 : 7.

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (1) ..

( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (2) ولا وجود لهؤلاء؟!

ثمّ كيف يأمر وينهى ولا فاعل؟! وهل هو إلّا كأمر الجماد ونهيه؟!

* وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إعملوا ، فكلّ ميسّر لما خلق له » (3) ..

« نيّة المؤمن (4) خير من عمله » (5) ..

« إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (6) ..

* والإجماع دلّ على وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى ، فلو كان الكفر بقضاء اللّه تعالى لوجب الرضا به ، والرضا بالكفر حرام بالإجماع.

فعلمنا أنّ الكفر ليس من فعله تعالى ، فلا يكون من خلقه.

* * *

ص: 256


1- سورة الجاثية 45 : 21.
2- سورة ص 38 : 28.
3- صحيح البخاري 6 / 298 ح 446 وج 9 / 284 ح 176 ، صحيح مسلم 8 / 47 ، سنن أبي داود 4 / 228 ح 4709 ، سنن ابن ماجة 1 / 30 ح 78 ، سنن الترمذي 4 / 388 ح 2136 ، مسند أحمد 1 / 82 ، التوحيد - للصدوق - : 356 ح 3 ، مجمع البحرين - للطريحي - 3 / 521 مادّة « يسر ».
4- كان في الأصل : « المرء » ، وهو تصحيف ، والمثبت من المصادر.
5- تقدّم تخريجه في الصفحة 123 ه 5 ، فراجع.
6- تقدّم تخريجه في الصفحة 123 ه 4 ، فراجع.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت في ما سبق أجوبة كلّ ما استدلّ به من آيات الكتاب العزيز (2).

ثمّ إنّ كلّ تلك الآيات معارضة بالآيات الدالّة على أنّ جميع الأفعال بقضاء اللّه وقدره وإيجاده وخلقه ، نحو :

( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (3) أي عملكم ..

و ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (4) وعمل العبد شيء ..

( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (5) وهو يريد الإيمان إجماعا ، فيكون فعّالا له ، وكذا الكفر ، إذ لا قائل بالفصل.

وأيضا : تلك الآيات معارضة بالآيات المصرّحة بالهداية والضلال والختم ، نحو :

( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) (6) ..

و ( خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) (7) وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها.

ص: 257


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 86.
2- انظر الصفحة 154 من هذا الجزء.
3- سورة الصافّات 37 : 96.
4- سورة الزمر 39 : 62.
5- سورة هود 11 : 107.
6- سورة البقرة 2 : 26.
7- سورة البقرة 2 : 7.

وأنت تعلم أنّ الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها ، خصوصا في المسائل العقلية ، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية.

وقد ذكرنا في ما سلف من الكلام ما يغني في إثبات المقصد.

وأمّا ما استدلّ به على تعدّد الخالقين من قوله تعالى : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (1) ، فالمراد بالخالقين هناك : ما يدّعي الكافرون من الأصنام.

فكأنّه يقول : تبارك اللّه الذي هو أحسن من أصنامكم الّذين تجعلونهم الخالقين المقدّرين بزعمكم ، فإنّهم لا يقدرون على شيء ، واللّه يخلق مثل هذا الخلق البديع المعجب.

أو المراد من الخالقين : المقدّرين للخلق ، كالمصوّرين ، لا أنّه تعالى أثبت لنفسه شركاء في الخلق.

ولكنّ المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال اللّه تعالى : ( وَإِذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (2).

* * *

ص: 258


1- سورة المؤمنون 23 : 14.
2- سورة الزمر 39 : 45.

وأقول :

قد ظهر ممّا سبق أنّ أجوبته لا تصلح أن توسم باسم الجواب (1) ، ودعواه هنا المعارضة بالآيات الأخر باطلة.

أمّا قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) ، فقد عرفت في أوّل المطلب الأوّل أنّ المراد به السماوات والأرض ، وما فيهما من الأجسام والأعراض والأجرام ، لا ما يشمل أفعال العباد ، فراجع (3).

وأمّا قوله تعالى : ( أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (4) فالمراد فيه ب ( ما يعملون ) هو : ما ينحتونه من الأصنام لا عملهم (5) ، إذ لا معنى للإنكار على عبادتهم لما ينحتون بحجّة أنّه خلقهم وأعمالهم التي منها عبادتهم التي أنكر عليها!

وأمّا قوله تعالى : ( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) ، فالظاهر أنّ معناه أنّه تعالى فعّال لما يريد فعله وتكوينه.

ومن أوّل الدعوى أنّه يريد تكوين الإيمان ، وإنّما يريده تكليفا وتشريعا.

وأمّا المعارضة بالآيات الواردة في الهداية والإضلال والختم ، فمبنيّة

ص: 259


1- انظر الصفحة 156 من هذا الجزء.
2- سورة الرعد 13 : 61 ، سورة الزمر 39. 2. سورة غافر 40 : 62.
3- راجع ج 2 / 343.
4- سورة الصافّات 37 : 95 و 96.
5- انظر : تفسير الماوردي 5 / 58 ، الكشّاف 3 / 345 ، مجمع البيان 8 / 281.

على أنّ المراد بالهداية والإضلال : خلق الهدى والضلال ، وهو ممنوع ؛ بل المراد بالهداية أحد أمور :

الأوّل : الدلالة والإرشاد ، كما في قوله تعالى : إنّا ( هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (1) .. ( إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (2).

وقوله تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (3) ..

وقوله تعالى : ( إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (4).

.. إلى غيرها من الآيات الكثيرة.

الثاني : الإثابة والإنعام ، كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ) (5).

فإنّ المراد هنا بالهداية : الإثابة ؛ لوقوعها بعد القتل والموت ، كما إنّ المراد هنا بالإضلال : إبطال أعمالهم.

ومثلها في إرادة الإثابة قوله تعالى : ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (6).

الثالث : التوفيق وزيادة الألطاف ، كما في قوله تعالى : ( مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) (7) ، ونقيضه الإضلال بأن يكلهم إلى أنفسهم ، ويمنعهم زيادة

ص: 260


1- سورة البلد 90 : 10.
2- سورة الإنسان 76 : 3 ، وتمام الآية : ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) .
3- سورة فصّلت 41 : 17.
4- سورة الشورى 42 : 52.
5- سورة محمّد صلی اللّه علیه و آله 47 : 4 و 5.
6- سورة يونس 10 : 9.
7- سورة الإسراء 17 : 97.

الألطاف.

ويحتمل أن يراد هذا المعنى من الآية التي ذكرها الخصم.

الرابع : التيسير والتسهيل ، وبالإضلال تشديد الامتحان ، ولعلّ منه هذه الآية ، فإنّه سبحانه يضرب الأمثال المذكورة في الآية امتحانا ، فتسهل عند قوم ، وتشتدّ عند آخرين ، هذا كلّه في الهداية والإضلال.

وأمّا الختم المذكور في قوله تعالى : ( خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (1).

فالمراد به : التشبيه ، ضرورة عدم الختم حقيقة على سمعهم ، وعدم الغشاوة على أبصارهم ، فكذا على قلوبهم.

والمعنى : إنّ الكفر تمكّن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها ، وصاروا كمن لا يعقل ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، كما قال تعالى : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2).

ويحتمل (3) أن يكون الختم كناية عن ضيق قلوبهم عن النظر إلى الدلائل ، وعدم انشراح صدورهم للإسلام ، وإنّما نسبه إلى اللّه تعالى على الوجهين لخذلانه سبحانه لهم ، وعدم رعايته لهم بمزيد الألطاف ، لكثرة ذنوبهم ، وتتابع مناوأتهم للحقّ ، ولكن لا تزول به القدرة والاختيار ، ولذا قال سبحانه في آية أخرى : ( بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (4).

ص: 261


1- سورة البقرة 2 : 7.
2- سورة البقرة 2 : 171.
3- في مطبوعة طهران : ولا يحتمل.
4- سورة النساء 4 : 155.

فاستثنى القليل وأثبت لهم الإيمان بعدما طبع على قلوبهم ؛ لأنّ لهم أفعالا حسنة تجرّهم إلى الإيمان والسعادة.

ويحتمل أن يريد : ( فَلا يُؤْمِنُونَ ) إلّا إيمانا قليلا لعدم تصديقهم بكلّ ما يلزم التصديق به.

وأمّا تأويله لقوله تعالى : ( أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (1) فتأويل بعيد ؛ لأنّ ظاهرها أنّه أحسن الخالقين الفاعلين حقيقة ، كعيسى المذكور بقوله تعالى :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (2) لا الخالقين بالزعم والتقدير ، بل لا يصحّ أوّل التأويلين ؛ لأنّ عبدة الأصنام لا يزعمون أنّها خالقة ، بل يرونها مقرّبة إلى اللّه تعالى.

وأمّا الآية التي ادّعى مناسبتها لحال العدليّة ، فخطأ ؛ لأنّ مذهبهم لا يناسب الإشراك كما عرفت (3) ، وإنّما يناسبه مذهب من يدّعي تعدّد القدماء وتركّب الإلهية ، ويرون أنفسهم شركاء لله تعالى في صفاته الذاتية ؛ لأنّ صفاتهم كصفاته زائدة على الذات (4)!

* * *

ص: 262


1- سورة المؤمنون 23 : 14.
2- سورة المائدة 5 : 110.
3- تقدّم في ج 2 / 176 - 177.
4- راجع ردّ الفضل في ج 2 / 175.

الجواب عن شبه المجبّرة

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

المطلب الحادي عشر : في نسخ شبههم

اشارة

إعلم أنّ الأشاعرة احتجّوا على مقالتهم بوجهين ، هما أقوى الوجوه عندهم ، يلزم منهما الخروج عن العقيدة!

ونحن نذكر ما قالوا ، ونبيّن دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

الأوّل : قالوا : لو كان العبد فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار ، فإمّا أن يتمكّن من تركه أو لا ..

والثاني : يلزم منه الجبر ؛ لأنّ الفاعل الذي لا يتمكّن من ترك ما يفعله موجب لا مختار ، كما يصدر عن النار الإحراق ولا تتمكّن من تركه.

والأوّل إمّا أن يترجّح الفعل حالة الإيجاد ، أو لا .. والثاني ؛ يلزم منه ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجّح ؛ لأنّهما لمّا استويا من كلّ وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وبالنسبة إلى القادر الموجد ، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجّح ، وإن ترجّح ،

ص: 263


1- نهج الحقّ : 121.

فإن لم ينته إلى حدّ الوجوب ، أمكن حصول المرجوح مع تحقّق الرجحان ، وهو محال.

أمّا أوّلا ؛ فلامتناع وقوعه حالة التساوي ، فحالة المرجوحية أولى.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح ، فلنفرضه واقعا في وقت ، والراجح في آخر ، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين لا بدّ له من مرجّح غير المرجّح الأوّل ، وإلّا لزم ترجيح أحد المتساويين بغير مرجّح ، فينتهي إلى حدّ الوجوب ، وإلّا تسلسل.

وإذا امتنع وقوع الأثر إلّا مع الوجوب - والواجب غير مقدور ، ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضا - فيلزم الجبر والإيجاب ، فلا يكون العبد مختارا (1).

الثاني : إنّ كلّ ما يقع فإنّ اللّه تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه ، وكلّ ما لم يقع فإنّ اللّه قد علم في الأزل عدم وقوعه.

وما علم اللّه وقوعه فهو واجب الوقوع ، وإلّا لزم انقلاب علم اللّه تعالى جهلا ، وهو محال.

وما علم عدم وقوعه فهو ممتنع ، إذ لو وقع انقلب علم اللّه تعالى جهلا ، وهو محال أيضا ، والواجب والممتنع غير مقدورين للعبد ، فيلزم الجبر (2).

* * *

ص: 264


1- المطالب العالية من العلم الإلهي 8 / 11 - 12 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 281 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 321 ، المواقف : 312 - 313 ، شرح المقاصد 4 / 229 ، شرح المواقف 8 / 149 - 151.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 288 ، المطالب العالية من العلم الإلهي 8 / 18 ، المواقف : 315 ، شرح المقاصد 4 / 231 ، شرح المواقف 8 / 155.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

أوّل ما ذكره من الدليلين للأشاعرة قد استدلّ به أهل المذهب ، وهو دليل صحيح بجميع مقدّماته كما ستراه واضحا إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الثاني ممّا ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي على سبيل النقض (2) ، وليس هو من دلائل الأئمّة الأشاعرة ، وقد ذكر الإمام هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف ، إن لزم القائل بعدم استقلال العبد في أفعاله ، فهو لازم لهم أيضا لوجوه :

الأوّل : إنّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا.

وما علم اللّه وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ، لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم اللّه

ص: 265


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 91.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 288 ، المطالب العالية من العلم الإلهي 8 / 18.

تعالى بالأشياء.

قال الإمام الرازي : « ولو اجتمع جميع العقلاء لم يقدروا أن يوردوا على هذا الوجه حرفا » (1).

وقد أجابه شارح « المواقف » كما سيرد عليك (2).

* * *

ص: 266


1- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 328.
2- شرح المواقف 8 / 155 - 156.

وأقول :

ما نقله عن الرازي من النقض به لا ينافي الاستدلال به ، فإنّه إن تمّ دلّ على أنّ أفعال العباد جبرية ليست من آثار قدرتهم.

وقد صرّح القوشجي بأنّ الأشاعرة استدلّوا به ، كما ذكره في بحث العلم من الأعراض (1) ، عند قول نصير الدين قدس سره في « التجريد » : « وهو تابع بمعنى أصالة موازنة في التطابق » (2).

والظاهر أنّ الخصم إنّما فرّ من تسميته دليلا ليكون فساده أهون على نفسه!

* * *

ص: 267


1- شرح التجريد : 335. وقد جاء مؤداه في : الإرشاد - للجويني -: 205 - 206 ، تبصرة الأدلّة في أصول الدين 624/2. وكذا جاء مؤداه في : المواقف وشرحها وشرح المقاصد كم مرّ آنفاً في الصفحة 264.
2- تجريد الاعتقاد : 171.

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن حيث المعارضة ..

أمّا النقض ، ففي الأوّل من وجوه :

الأوّل - وهو الحقّ - : إنّ الوجوب من حيث الداعي والإرادة ، لا ينافي الإمكان في نفس الأمر ، ولا يستلزم الإيجاب وخروج القادر عن قدرته وعدم وقوع الفعل بها.

فإنّا نقول : الفعل مقدور للعبد ، يمكن وجوده منه ، ويمكن عدمه ، فإذا خلص الداعي إلى إيجاده ، وحصلت الشرائط ، وارتفعت الموانع ، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة ألبتّة ، وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل.

ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.

* * *

ص: 268


1- نهج الحقّ : 122.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، سواء كان ممكنا في نفس الأمر أو لا.

وكلّ من لا يتمكّن من الفعل وتركه فهو غير قادر ، سواء كان منشأ عدم تمكّنه عدم الإمكان الذاتي لفعله ، أو عدم حصول الشرائط ووجود الموانع ، فما ذكره ليس بصحيح.

* * *

ص: 269


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 94.

وأقول :

لمّا زعم الأشاعرة في أوّل الدليلين أنّ العبد إمّا أن يتمكّن من ترك ما فعله أو لا ، فإن لم يتمكّن كان موجبا لا مختارا ، ويلزم الجبر ، أجاب المصنّف رحمه اللّه : « إنّا نختار أنّه لا يتمكّن ».

قولكم : « كان موجبا لا مختارا ».

قلنا : ممنوع ؛ لأنّ عدم التمكّن من الترك إنّما هو بسبب اختيار الفعل وتمام علّته ، فلا ينفي كونه مختارا ، ولا ينافي إمكان الفعل في نفسه وتأثير قدرة العبد فيه.

وهذا معنى ما يقال : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

وأورد عليه الخصم بأنّ هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، وهو كلام لا محصّل له.

ولعلّه يريد أنّا ندّعي أنّ الفعل اضطراري غير اختياري ، لعدم التمكّن من تركه بعد الاختيار والإرادة المؤثّرة ، وإن لم يصر فاعله بذلك موجبا.

وفيه - مع أنّ دليل الأشاعرة صريح في لزوم كون الفاعل موجبا - يشكل بأنّ عدم التمكّن من الترك بعد الإرادة المؤثّرة لا ينفي حدوثه بالاختيار ، ولا ينافي كونه مقدورا بالذات ، وغاية ما يثبت أنّ الفعل بعد الإرادة التامّة يصير واجبا بالغير ، لا واجبا بالذات ، ولا صادرا بالجبر.

وأمّا ما زعمه من أنّ من لم يتمكّن من الفعل لعدم حصول شرائطه غير قادر عليه ، فهو ممّا لا دخل له بمطلوب الأشاعرة من أنّ الفعل الواقع

ص: 270

من العبد مجبور عليه!

على أنّ انتفاء شرائط الفعل لا ينفي القدرة عليه ما دامت الشرائط ممكنة.

ولست أعرف كيف بنى الخصم أنّه أجاب عن كلام المصنّف ، مع إنّه سيذكر معنى كلام المصنّف بلفظ شرح « المواقف » ويبني عليه ، ولعلّ الفرق أنّه وجده في الشرح فاعتبره من غير تمييز!

* * *

ص: 271

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

الثاني : يجوز أن يترجّح الفعل ، فيوجده المؤثّر ، أو العدم فيعدمه ، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين (2) ، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح من غير مرجّح.

قوله : « مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض ، فليفرض واقعا في وقت ، فترجيح الفعل وقت وجوده يفتقر إلى مرجّح آخر ».

قلنا : ممنوع ؛ بل الرجحان الأوّل كاف ، فلا يفتقر إلى رجحان آخر.

* * *

ص: 272


1- نهج الحقّ : 122.
2- انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي 1 / 107 - 108 ، المنقذ من التقليد 1 / 29 ، شرح المقاصد 1 / 481 - 482.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

لا يصحّ أن يكون المرجّح في وقت ترجيح الفعل هو المرجّح الأوّل ، ولا بدّ أن يكون هذا المرجّح غير المرجّح الأوّل ؛ لأنّ هذا المرجّح موجود عند وقوع الفعل مثلا في وقت وقوعه ، ولهذا ترجّح الفعل.

فلو كان هذا المرجّح موجودا عند عدم الفعل ، ولم يترجّح به الفعل ، فلا يكون مرجّحا ، وإذا ترجّح به الفعل فيكون حكم الوقتين مساويا.

ويلزم خلاف المفروض ؛ لأنّا فرضنا أنّ الفعل يوجد في وقت ويعدم في الآخر ، ولا بدّ من مرجّح غير المرجّح الأوّل ليترجّح به الفعل في وقت وينتهي إلى الوجوب ، وإلّا يتسلسل فيتمّ الدليل بلا ورود نقض.

* * *

ص: 273


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 96.

وأقول :

لا يخفى أنّ عندنا مسألتين :

الأولى : إنّه هل يمكن ترجّح أحد طرفي الممكن على الآخر برجحان ناش عن ذات الممكن ، غير منته إلى حدّ الوجوب ، بحيث يجوز أنيوجد ممكن بذلك الرجحان من غير احتياج إلى فاعل ، فينسدّ باب إثبات الصانع أو لا يمكن؟

لا ريب أنّه لا يمكن ؛ لأنّ فرض إمكان الشيء يقتضي جواز وقوع الطرفين بالنظر إلى ذاته.

وفرض مرجوحية أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ، يقتضي امتناع وقوع المرجوح ؛ لامتناع ترجّح المرجوح بالضرورة.

ولذا قال نصير الدين قدس سره في « التجريد » : « ولا يتصوّر الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته » (1).

الثانية : إنّه هل يمكن ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بمرجّح لا ينتهي إلى حدّ الوجوب - كما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين (2) ونقله المصنّف عنهم - أو لا يمكن؟

ودليل الأشاعرة من فروع هذه المسألة ، ومبنيّ على عدم إمكان الترجيح بذلك المرجّح ، وهو ممنوع ؛ لأنّ إمكان وقوع الفعل لأجله وكفايته

ص: 274


1- تجريد الاعتقاد : 113.
2- راجع ما تقدّم انفا في الصفحة 272.

في الإقدام على الفعل ، لا يستلزم خروجه عن المرجوحية ، مع فرض عدم الفعل.

هذا إذا أريد بالمرجّح الأمر الداعي إلى الاختيار.

وأمّا لو أريد به المركّب منهما ومن سائر أجزاء العلّة ، كما هو المقصود في مقام ترجيح أحد طرفي الممكن ، فلا محالة يكون المرجّح موجبا ؛ ولأجله جعل المصنّف الحقّ هو الجواب الأوّل السابق.

* * *

ص: 275

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

الثالث : لم لا يوقعه القادر مع التساوي؟ فإنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر ، من غير مرجّح.

وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلّمين (2) ، وتمثّلوا في ذلك بصورة وجدانية ، كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه ، فإنّه يتناول أحدهما من غير مرجّح ، ولا يمتنع من الأكل حتّى يترجّح لمرجّح ، والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه ، والهارب من السبع إذا عنّ (3) له طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر حصول المرجّح.

وإذا كان هذا الحكم وجدانيا ، كيف يمكن الاستدلال على نقيضه؟!

الرابع : إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين (4) ، فالمتمكّن من الفعل يخرج عن القدرة ؛ لعدم التمكّن من الترك.

وإن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين ، لزمهم وجود الضدّين دفعة

ص: 276


1- نهج الحقّ : 123.
2- انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي 1 / 108 ، شرح المقاصد 1 / 484.
3- عنّ الشيء : ظهر أمامك ؛ انظر : لسان العرب 9 / 437 مادّة « عنن ».
4- تمهيد الأوائل : 326 و 336 ، الإرشاد - للجويني - : 201 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 153 ، المواقف : 153.

واحدة ؛ لأنّ القدرة لا تتقدّم على المقدور عندهم (1).

وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم ، إمّا اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل.

فانظر إلى هؤلاء القوم الّذين لا يبالون في تضادّ أقوالهم وتعاندها!

* * *

ص: 277


1- تمهيد الأوائل : 336 ، الإرشاد - للجويني - : 197 - 198 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 152 ، المواقف : 151.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اتّفق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، والحكم بعد تصوّر الطرفين ، أي تصوّر الموضوع الذي هو إمكان الممكن ، وتصوّر المحمول - الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب - ضروري بحكم بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما ، ولذلك يجزم به الصبيان الّذين لهم أدنى تمييز ..

ألا ترى إلى كفّتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما ، وقال قائل : ترجّحت إحداهما على الأخرى بلا مرجّح من خارج ، لم يقبله صبي مميّز ، وعلم بطلانه بديهة.

فالحكم بأنّ أحد المتساويين لا يترجّح على الآخر إلّا بمرجّح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب ، بل الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تراها تنفر من صوت الخشب (2).

وما ذكر من الأمثلة ، كالجائع في اختيار أحد الرغيفين وغيره ، فإنّه لمّا خالف الحكم البديهي ، يجب أن يكون هناك مرجّح لا يعلمه الجائع ، والعلم بوجود المرجّح من القادر غير لازم ، بل اللازم وجود المرجّح.

وأمّا دعوى كونه وجدانيا مع اتّفاق العقلاء بأنّ خلافه بديهي ، دعوى باطلة كسائر دعاويه ؛ واللّه أعلم.

ص: 278


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 99.
2- انظر : شرح المواقف 3 / 135 - 136.

وأمّا قوله في الوجه الرابع : « إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين ... » إلى آخره.

فنقول في جوابه : عدم صلاحية القدرة للضدّين لا يمنع صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة ، فإنّ المراد من الاحتجاج نفي الاختيار عن العبد ، وإثبات أنّ الفعل واجب الصدور عنه ، وليس له التمكّن من الترك ، وذلك يوجب نفي الاختيار.

فإذا كان المذهب أنّ القدرة لا تصلح للضدّين ، وبلغ الفعل حدّ الوجوب لوجود المرجّح الموجب ، لم يكن العبد قادرا على الترك ، فيكون موجبا لا مختارا ، وهذا هو المطلوب ..

فكيف يقول : إنّ كون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة؟!

فعلم أنّه من جهله وكودنيّته لا يفرّق بين ما هو مؤيّد للحجّة وما هو مناف لها!

ثمّ ما ذكر أنّهم [ إن ] (1) خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدين ، لزمهم إمّا اجتماع الضدّين ، أو تقدّم القدرة على الفعل ؛ فهذا شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا.

والأشاعرة إنّما نفوا هذا المذهب وقالوا : إنّ القدرة لا تصلح للضدّين (2) ؛ لأنّ القدرة عندهم مع الفعل (3) ، فيجب أن لا يكون صالحا

ص: 279


1- أثبتناه من « إبطال نهج الباطل ».
2- راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة 276 ه 4.
3- راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة 277 ه 1.

للضدّين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين!

أنظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق الحلّي ، الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات ، حسب أنّ هذا الكلام حطب يسرق! كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضا! والحمد لله الذي فضحه في آخر الزمان ، وأظهر جهله وتعصّبه على أهل الإيمان.

* * *

ص: 280

وأقول :

ما ذكره من اتّفاق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، خطأ ظاهر ، فإنّ قومه - وهم الأشاعرة - لا يوافقون عليه ، ويزعمون أنّ بقاء الممكن الموجود ، وعدم الممكنات الأزلي ، لا يحتاجان إلى مرجّح وسبب.

ولذا قالوا : إنّ المحوج إلى السبب هو الحدوث ، أي خروج الممكن من العدم إلى الوجود ، لا الإمكان (1).

ولكن غرّ الخصم أنّه رأى في أوّل مباحث الممكن من « المواقف » وشرحها دعوى ضرورية حاجة الممكن إلى السبب بالتقرير الذي ذكره الخصم ، ولم يلتفت إلى أنّهما ذكرا ذلك عن الحكماء القائلين بأنّ المحوج إلى السبب هو الإمكان (2) ، خلافا للأشاعرة.

ولذا بعدما ذكرا عن الحكماء أنّ الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تنفر من صوت الخشب ، أوردا عليه بقولهما : « قلنا ذلك ، أي نفورها لحدوثه لا لإمكانه ، فإنّه لمّا حدث الصوت بعد عدمه ، تخيّلت البهائم أن لا بدّ له من محدث ، لا أنّها تخيّلت تساوي طرفي الصوت ، وأن لا بدّ هناك من مرجّح » (3).

ولو سلّم الاتّفاق على حاجة الممكن إلى السبب ، وعلى أنّه يمتنع

ص: 281


1- شرح المقاصد 2 / 15.
2- انظر : المواقف : 71 ، شرح المواقف 3 / 135 - 136.
3- المواقف : 71 ، شرح المواقف 3 / 137.

ترجّح أحد طرفيه بدون مرجّح فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ كلام المصنّف في إمكان ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بلا مرجّح كما هو مذهب جماعة ومنهم الأشاعرة.

ولذا قال في « المواقف » في البحث عن أفعال العباد ، بعدما ذكر الدليل المذكور الذي نقله المصنّف عن الأشاعرة : « واعلم أنّ هذا الاستدلال إنّما يصلح إلزاما للمعتزلة ، القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياري ؛ وإلّا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار بأحد طرفي المقدور ، فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجّح كونه اتّفاقيا » (1).

بل يستفاد من هذا - لا سيّما قوله : « يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار » - جواز ترجيح المرجوح على الراجح فضلا عن المساوي ، كما يدلّ عليه أيضا تجويزهم تقديم المفضول على الفاضل في مسألة الإمامة (2) ، وتجويزهم عقلا أن يعذّب اللّه الأنبياء ويثيب الفراعنة والأبالسة (3) ، وقولهم : لا يجب على اللّه شيء ولا يقبح منه شيء (4) ، وحينئذ فما أجاب به الخصم عن مثال الرغيفين ونحوه غير صحيح عند أصحابه.

وأمّا ما أجاب به عن الوجه الرابع ، فمن الجهل أيضا ؛ لأنّ المصنّف

ص: 282


1- المواقف : 313.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 2 / 296 ، المواقف : 412 ، شرح المقاصد 5 / 247.
3- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 115 - 116 ، تمهيد الأوائل : 385 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134.
4- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 295 ، المواقف : 328 ، شرح المقاصد 4 / 294.

لم ينكر أنّ القول بكون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم القدرة على الترك بعد فرض تعلّقها بالفعل ، وإنّما يقول : إنّ القول بهذا القول مناف للاستدلال بذلك الدليل ؛ لأنّ الاستدلال به مبنيّ على جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، وهم لا يقولون بتعلّقها بهما.

وأمّا ما ذكره من أنّ قول المصنّف : « إن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين لزمهم ... شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا » ..

ففيه : إنّ هذا القول من المصنّف جواب عن سؤال مقدّر ، وهو : إنّ ما ذكرته من منافاة الدليل لمذهبهم مبنيّ على التزامهم هنا بقولهم بعدم جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، فلعلّهم خالفوا هنا ذلك وأجازوا تعلّقها بهما.

فقال : وإن خالفوا ذلك لزمهم محذور آخر ، وهو اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل ، وكلاهما مخالف لمذهبهم.

وهذا ليس من باب اختراع النسبة إليهم ، كما توهّمه الخصم وأبان به وبما قبله عن جهله بمقاصد المصنّف وبمذهبهم ، وعن سرقته لكلام « المواقف » وشرحها من دون معرفة بمخالفته لمذهبهم ، وبعدم انطباقه على المورد!!

* * *

ص: 283

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

وفي الثاني من وجهين :

الأوّل : العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا يؤثّر فيه ، فإنّ التابع إنّما يتبع متبوعه ويتأخّر عنه بالذات ، والمؤثّر متقدّم.

الثاني : إنّ الوجوب اللاحق لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن ، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق إذا فرض موجودا ، فإنّه حالة وجوده يمتنع عدمه ، لامتناع اجتماع النقيضين ، وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنّه ممكن بالنظر إلى ذاته.

والعلم حكاية عن المعلوم ومطابق له ، إذ لا بدّ في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان ، والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم ، فإنّه لولاه لم يكن علما به.

ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه ، بما هو حكاية عنه ، وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم.

وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب ، فكذا مع فرض العلم به.

وكما إنّ ذلك الوجوب لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، كذا هذا الوجوب ، ولا يلزم من تعلّق علم اللّه تعالى به وجوبه بالنسبة إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم.

* * *

ص: 284


1- نهج الحقّ : 123.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد ذكرنا أنّ هذه الحجّة أوردها الإمام الرازي على سبيل الفرض الإجمالي ، في « مبحث التكليف والبعثة » (2) ، وهذا صورة تقريره :

« ما علم اللّه عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا .. وما علم اللّه وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ؛ لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم اللّه تعالى بالأشياء ».

قال الإمام الرازي : ولو اجتمع جملة العقلاء ، لم يقدروا أن يوردوا على هذا حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام ، وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها » (3).

وقال شارح « المواقف » : « واعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم ، على معنى أنّهما يتطابقان ، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم ، ألا يرى إلى صورة الفرس مثلا على الجدار ، إنّما كانت على الهيئة المخصوصة ؛ لأنّ

ص: 285


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 108.
2- تقدّم عن الفخر الرازي وغيره كما في الصفحة 267 ه 1.
3- الأربعين في أصول الدين 1 / 328.

الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال بينهما.

فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا ، إنّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه ، دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه ، وسلب القدرة والاختيار ، وإلّا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما » (1) ، انتهى كلام شارح « المواقف ».

وظهر أنّ الرجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنّة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم.

وجواب الأوّل من الوجهين : إنّا لا ندّعي تأثير العلم في الفعل - كما ذكرنا - حتّى يلزم من تأخّره عن المعلوم عدم تأثيره ، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا (2) ، والتابعيّة لا تدفع هذا المحذور ؛ لما ستعلم.

وجواب الثاني من الوجهين : إنّا نسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات ، واجب بالغير.

والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا ، وهو حاصل ، سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير.

وأمّا جواب شارح « المواقف » فنقول : لا نسلّم أنّ العلم مطلقا تابع للمعلوم ، بل العلم الانفعالي الذي يتحقّق بعد وقوع المعلوم هو تابع للمعلوم.

وإن أراد بالتابعيّة التطابق ، فلا نسلّم أنّ الأصل في المطابقة هو

ص: 286


1- شرح المواقف 8 / 155 - 156.
2- تقدّم في الصفحة 265.

المعلوم في العلم الفعلي ، بل الأمر بالعكس عند التحقيق ، فإنّ علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت ، هو الأصل والعلّة لبناء البيت ، والبيت يتبعه ، فإن خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّر المهندس في علمه الفعلي ، لزم انقلاب العلم جهلا.

وأنت تعلم أنّ علم اللّه تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعليّ ، كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ثمّ يطابقه البيت.

كذلك علم اللّه تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع ، ويتبعه وجود الممكنات ، فإن وقع شيء من الكائنات على خلاف ما قدّره علمه الفعلي في الأزل ، لزم انقلاب العلم جهلا ، وهذا هو التحقيق!

* * *

ص: 287

وأقول :

تقدّم أنّ إيراد الرازي له على سبيل النقض لا ينافي اتّخاذ الأشاعرة له دليلا ، كما نقله عنهم من هو منهم ، وهو القوشجي كما مرّ (1).

وأمّا ما ادّعاه من ظهور سرقة المصنّف للجوابين بسبب ما نقله عن شارح « المواقف » ، فمن المضحكات ؛ لأنّ تصنيف « شرح المواقف » متأخّر عن تصنيف المصنّف لهذا الكتاب بنحو من مائة سنة ، فإنّ السلطان محمّد خدابنده تشيّع سنة سبع بعد السبعمائة ، وصنّف له هذا الكتاب (2) ، وكان تصنيف « شرح المواقف » سنة سبع بعد الثمانمائة ، كما ذكره الشارح في آخر شرحه (3).

على أنّ الجواب الثاني من خواصّ هذا الكتاب ، إذ لم يذكر في « شرح المواقف » ولا غيره.

ولو كان واحد من الجوابين من كلام الأشاعرة لما خفي على صاحب « المواقف » ، فإنّ عادته جمع كلامهم وكلام غيرهم ، سوى كثير من كلمات أهل الحقّ! فلمّا لم يطلع عليهما علم أنّهما من خواصّ خصومهم ، كما هي

ص: 288


1- تقدّم في الصفحة 267 من هذا الجزء.
2- انظر : نهج الحقّ : 38 مقدّمة العلّامة الحلّي ؛ وانظر : أعيان الشيعة 9 / 120 ، الذريعة 24 / 416 رقم 2183.
3- شرح المواقف 8 / 401. وقد كانت وفاة العلامة الحلي قدس سره كانت في سنة 726 ه ، وتوفي الإيجي مؤلف «المواقف» في سنة 756 ه ، فیما كانت وفاة الجرجاني شارح «المواقف» في سنة 812 ه.

عادتهم في ترك النظر بكلمات الإمامية ، رغبة عن الحقّ ، وتعصّبا لما هم عليه.

لكن لمّا كان لشارح « المواقف » حاشية على « شرح التجريد القديم » (1) ، اطّلع على الجواب الأوّل ، فذكره في « شرح المواقف » (2) ؛ لأنّ شيخ المتكلّمين نصير الدين قدس سره قد ذكره في « التجريد » (3) ، فكان هذا الجواب من خواصّ نصير الدين ، والجواب الثاني منخواصّ المصنّف.

ثمّ إنّ ما أجاب به الخصم عن الأوّل بقوله : « بل ندّعي انقلاب العلم جهلا » غير نافع له ؛ لأنّ لزوم الانقلاب ما لم يكن العلم مؤثّرا لا يوجب سلب تأثير قدرة العبد كما هو مدّعاهم ، وإنّما يوجب أن يقع ما علم اللّه تعالى على الوجه الذي علمه من الاختيار أو الاضطرار ، كما إنّ صدق الصدق في الأخبار إنّما يقتضي ذلك.

وأمّا ما أجاب به عن الثاني ..

ففيه : إنّ الوجوب بالغير ، الحاصل من فرض وقوع الممكن

ص: 289


1- هو الشرح المسمّى « تشييد القواعد » أو « تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد » تأليف : شمس الدين محمود بن عبدالرحمن بن أحمد الأصفهاني ، المتوفّى سنة 746 ه. وتسميته بالشرح القديم لا لكونه أقدم الشروح ، بل لتقدمه على «شرح التجريد» المعروف ب- «الشرح الجديد» ، للشيخ علاء الدين علي بن محمد القوشجي ، المتوفى سنة 879 ه. وقد كتب شارح «المواقف» السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني ، المتوفى سنة 816ه حاشية على الشرح القديم هذا ، اشتهرت باسم «حاشية التجريد» . أنظر : الذريعة 354/3 ، مقدّمة تجريد الاعتقاد : 80 ، كشف الظنون 346/1 .
2- شرح المواقف 8 / 155.
3- تجريد الاعتقاد : 113 - 114.

بالاختيار - كما بيّنه المصنّف - لا يجعل الفعل اضطراريا ، وإلّا كان خلفا ، بل كثير من الوجوب أو الامتناع بالغير لا يسلب القدرة والاختيار ، كالظلم وفعل القبيح ، فإنّهما ممتنعان على اللّه تعالى لقبحهما ، وهو قادر مختار في تركهما.

وبالجملة : المدار في القدرة والاختيار على كون الفعل منوطا بإشاءة الفاعل وأفعال العباد كذلك ، غاية الأمر أنّ اللّه تعالى علم أنّهم يفعلون أفعالا ويتركون أفعالا بإشاءتهم للأمرين ، كما يعلم ذلك في حقّه تعالى ، وهو لا يوجب الخروج عن القدرة والاختيار.

وأمّا ما أورد به على الجواب الذي نقله شارح « المواقف » ..

ففيه : إنّه إن أراد بقوله : « إنّ علم اللّه تعالى بالموجودات فعليّ » أنّه سبب حقيقي مؤثّر فيها ، ومنها أفعالنا ، فهو باطل ألبتّة حتّى لو قلنا : إنّه تعالى فاعل لأفعالنا ؛ لأنّ المؤثّر فيها قدرته لا علمه.

وإن أراد به أنّ علمه شرط لها ، فلا يضرّنا تسليمه ، إذ لا يستدعي خروج أفعالنا عن قدرتنا ؛ لأنّ الأثر للفاعل ، لا للشرط.

والقوم يعنون بكون العلم الفعلي سببا لوجود المعلوم في الخارج ، أنّه دخيل في السببية من حيث كونه شرطا ، كعلم المهندس ، بخلاف العلم الانفعالي ، فإنّه ليس بشرط للمعلوم ، بل هو مسبّب ، أي : فرع عن وجود المعلوم ، كعلمنا بما وقع.

وبخلاف الفعلي والانفعالي أيضا الذي يعرّفونه بما ليس سببا لوجود المعلوم في الخارج ، ولا مسبّبا عنه ، كعلم اللّه سبحانه بذاته ، فإنّه بالاتّفاق عين ذاته ، ويختلفان بالاعتبار.

على أنّ الحقّ أنّ العلم الفعلي ليس شرطا لوجود المعلوم ، ضرورة

ص: 290

أنّ العلم تابع للمعلوم ؛ لأنّه انكشاف الشيء وحضوره لدى العالم به ، فيكون وجود المعلوم واقعا متقدّما رتبة على العلم ؛ لكونه شرطا له أو بحكمه.

فلو كان العلم الفعلي شرطا أيضا لوجود المعلوم جاء الدور (1) ، فلا بدّ أن يكون العلم الفعلي كغيره ، ليس شرطا في وجود المعلوم.

نعم ، تصوّر الشيء شرط لإقدام العاقل الملتفت على إيجاد الشيء ، وهو أمر آخر ، ومنه تصوّر المهندس ، وهو غير العلم الفعلي المصطلح عليه بالعلم الحضوري ..

فإذا عرفت هذا ، عرفت ما في كلام الخصم من الخطأ ، فتدبّر!

* * *

ص: 291


1- وبه قال الفخر الرازي في الأربعين في أصول الدين 1 / 207.

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

وأمّا المعارضة في الوجهين ، فإنّهما آتيان في حقّ واجب الوجود تعالى.

فإنّا نقول في الأوّل : لو كان اللّه تعالى قادرا مختارا فإمّا أن يتمكّن من الترك أو لا ، فإن لم يتمكّن من الترك كان موجبا مجبورا على الفعل ، لا قادرا مختارا.

وإن تمكّن ، فإمّا أن يترجّح أحد الطرفين على الآخر أو لا ، فإن لم يترجّح لزم وجود الممكن المساوي من غير مرجّح ، فإن كان محالا في حقّ العبد ، كان محالا في حقّ اللّه تعالى ، لعدم الفرق.

وإن ترجّح فإن انتهى إلى الوجوب لزم الجبر ، وإلّا تسلسل أو وقع المتساوي من غير مرجّح ، فكلّ ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حقّ العبد.

* * *

ص: 292


1- نهج الحقّ : 124.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ذكر صاحب « المواقف » هذا الدليل في كتابه ، وأورد عليه أنّ هذا ينفي كون اللّه تعالى قادرا مختارا ، لإمكان إقامة الدليل بعينه ، فيقال : لو كان اللّه موجدا لفعله بالقدرة استقلالا ، فلا بدّ أن يتمكّن من فعله وتركه ، وأن يتوقّف فعله على مرجّح ، إلى آخر ما مرّ تقريره.

وأجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدثة ، أي الفعل يتوقّف على مرجّح هو الإرادة الجازمة ، لكن إرادة العبد محدثة ، فافتقرت إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها اللّه تعالى فيه ، بلا إرادة واختيار منه ، دفعا للتسلسل في الإرادات التي تفرض صدورها عنه ، وإرادة اللّه تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى (2) ..

فظهر الفرق واندفع النقض.

* * *

ص: 293


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 113.
2- المواقف : 312 - 313 ، شرح المواقف 8 / 149 - 151.

وأقول :

هذا الجواب للرازي في « الأربعين » كما نقل عنه (1).

وأورد عليه المحقّق الطوسي رحمه اللّه في « التجريد » بما مضمونه : إنّ التقسيم إلى الإرادتين ، والفرق بينهما بالحدوث والقدم ؛ لا يدفع الإشكال ؛ لأنّ الترك إن لم يمكن مع الإرادة القديمة كان اللّه تعالى موجبا لا قادرا مختارا.

وإن أمكن ، فإن لم يتوقّف فعله تعالى على مرجّح استغنى الجائز عن المرجّح.

وإن توقّف كان الفعل معه موجبا ، فيكون اضطراريا (2).

وسيأتي للكلام تتمّة عند القول في المعارضة الآتية.

* * *

ص: 294


1- انظر : الأربعين في أصول الدين 1 / 323.
2- تجريد الاعتقاد : 192 و 199.

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - :

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :

ونقول في الثاني : إنّ ما علمه تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منّا عن قدرته وإدخاله في الموجب ، لزم في حقّ اللّه تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال.

فقد ظهر من هذا أنّ هذين الدليلين آتيان في حقّ اللّه تعالى ، وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادرا ، ويكون موجبا.

وهذا هو الكفر الصريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة.

والحاصل : إنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدليلين لزمهم الكفر ، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما.

* * *

ص: 295


1- نهج الحقّ : 124.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت في كلام شارح « المواقف » أنّه ذكر هذا النقض ، وليس هو من خواصّه حتّى يتبختر به ويأخذ في الإرعاد والإبراق والطامّات.

والجواب :

أمّا عمّا يرد على الدليل الأوّل فهو : إنّ فعل الباري محتاج إلى مرجّح قديم يتعلّق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين.

وذلك المرجّح القديم لا يحتاج إلى مرجّح آخر ، فيكون اللّه تعالى مستقلّا في الفعل.

ولو قال قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجّح القديم كان موجبا لا مختارا.

قلنا : إنّ الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافيه بل يحقّقه.

فإن قلت : نحن نقول : اختيار العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافي كونه قادرا مختارا.

قلت : لا شكّ أنّ اختياره حادث ، وليس صادرا عنه باختياره ، وإلّا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار ، وتسلسل ، بل عن غيره ، فلا يكون مستقلّا في فعله باختياره ، بخلاف إرادة الباري ، فإنّها مستندة إلى ذاته ، فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه (2).

ص: 296


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 117.
2- شرح المواقف 8 / 151.

وأمّا عمّا يرد على الدليل الثاني فهو : إنّ علم اللّه تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة والإرادة ، فإذا علم الشيء وتعلّق به علمه ، تعلّق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات.

وكلّ واحد من الصفات الثلاث يتعلّق بمتعلّقه من الأشياء ، وعلى كلّ ما تقتضيه ، فمقتضى العلم التعلّق من حيث الانكشاف ، ومقتضى الإرادة الترجيح ، ومقتضى القدرة صحّة وقوع الفعل والترك فلا يلزم الوجوب ؛ لأنّ صفة العلم لا تصادم صفة القدرة ، لأنّهما قديمتان حاصلتان معا ، بخلاف القدرة الحادثة ، فإنّ العلم القديم يصادمه ، ومقتضى العلم القديم يسلب عنه القدرة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة بخلاف الصفات القديمة ، فليس ثمّة إيجاب.

تأمّل ، فإنّ هذا الجواب دقيق ، وبالتأمّل فيه حقيق.

وأمّا ما ذكره من لزوم الكفر ، فمن باب طامّاته وترّهاته ، وهذه مسائل علمية عملية يباحث الناس فيها ، فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصّبه ينزله على الكفر والتفسيق ، نعوذ باللّه من جهل ذلك الفسّيق.

* * *

ص: 297

وأقول :

قد بيّنّا أنّ تصنيف المصنّف لهذا الكتاب قبل تصنيف « شرح المواقف » بنحو مائة سنة ، فلا ينافي كون هذا النقض من خواصّ المصنّف ، بل صنّف المصنّف هذا الكتاب سنة سبع بعد السبعمائة أو بعدها بقليل (1) ، والقاضي العضد حينئذ صبي ؛ لأنّه ولد بعد السبعمائة (2) ، فيكون هذا الكتاب أسبق من « المواقف » فضلا عن شرحها بكثير.

وأمّا التبختر ، فالمصنّف أجلّ منه قدرا ، وإن حقّ له ؛ لأنّه أكثر الناس علما وتصنيفا.

ولا يبعد أنّه صنّف هذا الكتاب بنحو عشرة أيّام ، بحسب ما ذكر العلماء من كثرة تصانيفه وسرعته في تأليفها ، أجزل اللّه رحمته عليه وضاعف أجره.

وأمّا الإرعاد ، فلا يتوقّف على كون ذلك من خواصّه ، وإن كان قريبا ، بل يكفي فيه أن يكون من إفادات شيخه نصير الملّة والدين ، أو غيره من أصحابنا.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن معارضة الدليل الأوّل ..

ففيه أوّلا : إنّ دعوى عدم صدور اختيار العبد منه بل من اللّه تعالى باطلة ؛ لما سبق تحقيقه (3) من أنّ بعض آثار قدرة العبد صادرة عنه

ص: 298


1- راجع ما مرّ آنفا في الصفحة 288.
2- انظر : الدرر الكامنة 2 / 196 رقم 2279 ، معجم المؤلّفين 2 / 76 رقم 6756.
3- تقدّم في الصفحة 121 - 122 من هذا الجزء.

بلا سبق إرادة ، كأكثر أفعال القوى الباطنة ، ومنها : الإرادة ، وبعض أفعال القوى الظاهرة ، كفعل الغافل والنائم ، فلا يتوقّف صدور الإرادة عن العبد بقدرته على إرادة أخرى حتّى يلزم التسلسل.

وثانيا : إنّ كون إرادة اللّه سبحانه مستندة إلى ذاته لا ينفي الجبر عن فعله على مذهبهم ؛ لأنّها من صفاته ، وصفاته بزعمهم صادرة عنه بالإيجاب ، فيكون فعله المترتّب عليها صادرا عنه بالإيجاب والجبر لا بالقدرة ، كما أشار إليه شارح « المواقف » بعد بيان ما ذكره الخصم في جواب معارضة الدليل الأوّل ، قال :

« لكن يتّجه أن يقال : استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة ، فإذا وجب الفعل بما ليس اختياريا له ، تطرّق إليه شائبة الإيجاب » (1).

وقد ترك الخصم ذكر هذا مع أنّ كلامه مأخوذ من « شرح المواقف » بعين لفظه ليروّج منه الباطل! فاللّه حسيبه.

وأمّا ما أجاب به عن معارضة الدليل الثاني ..

ففيه : مع أنّ مجرّد القدم لا يرفع دعوى التصادم لو صحّت ، أنّ الذي أوجب عندهم الجبر هو أنّ ما علم اللّه تعالى وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهذا جار في أفعال اللّه تعالى وأفعال العبد بلا فرق ، ولا دخل لحديث التصادم في رفعه أصلا.

هذا كلّه إذا قلنا بقدم إرادة اللّه تعالى المخالفة للعلم بالمصلحة كما يدّعيه الأشاعرة ..

ص: 299


1- شرح الواقف 8 / 151.

وأمّا إذا قلنا بحدوثها كما اختاره جماعة (1) ، ودلّ عليه كثير من الآيات ، كقوله تعالى : ( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (2) .. وقوله تعالى :

( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .. ونحوهما ، فإنّه حينئذ لا يبقى محلّ لجواب المعارضتين معا كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره من أنّ لزوم الكفر من باب طامّاته ..

ففيه : إنّه كيف لا يلزمهم الكفر وهي - كما قال الخصم - مسائل علمية عملية ، فإنّهم إذا التزموا بصحّة الدليلين ، وعملوا واعتقدوا بمقتضاهما ، كان اللّه تعالى عندهم موجبا لا قادرا مختارا ، وهو عين الكفر ، نعوذ باللّه.

* * *

ص: 300


1- انظر : المغني - للقاضي عبد الجبّار - 6 ق 2 / 137 و 140 ، شرح الأصول الخمسة : 440 ، الكشف عن مناهج الأدلّة - لابن رشد - : 47.
2- سورة الإسراء 17 : 16.
3- سورة يس 36 : 82.

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!

وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟! ..

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (2)؟!

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة اللّه سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!

وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف .. وفّقهم اللّه لإصابة الصواب.

* * *

ص: 301


1- نهج الحقّ : 125.
2- سورة النساء 4 : 78.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.

ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.

فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ باللّه من الضلال ، واللّه الهادي.

* * *

ص: 302


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 120.

وأقول :

قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.

فإذا كان اللّه تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من اللّه تعالى لا من المصنّف ، وليحارب اللّه تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.

ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من اللّه سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!

وهل يحسن من اللّه تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى اللّه عمّا يصفون.

* * *

ص: 303

ص: 304

إبطال الكسب

اشارة

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :

المطلب الثاني عشر : في إبطال الكسب

اشارة

إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات .. ( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (2) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه (3) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :

اللّه تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له (4) ، فإذا طولب بتحقيق

ص: 305


1- نهج الحقّ : 125.
2- سورة ص 38 : 3.
3- كان في الأصل : « رأيه » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.
4- انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 72 - 78 ، مقالات الإسلاميّين : 539.

الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه ..

فقال بعضهم : معنى الكسب خلق اللّه تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق اللّه الفعل عند اختيار العبد (1).

وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ اللّه تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من اللّه تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد (2).

وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد (3).

* * *

ص: 306


1- انظر : الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - 59 - 60 ، شرح المقاصد 4 / 225 - 226 ، العلم الشامخ : 319 عن ابن الهمام.
2- انظر : تمهيد الأوائل : 347 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 84 - 85 ، شرح المقاصد 4 / 224 ، العلم الشامخ : 321 عن أبي منصور السمرقندي.
3- انظر : شرح المقاصد 4 / 225 ، العلم الشامخ : 317 و 325 حكاية عن والد السبكي.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له .. هذا مذهب الشيخ (2).

ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه اللّه تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.

ونحن إن شاء اللّه تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :

يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.

وتحقيقه : إنّ اللّه تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.

ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.

وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،

ص: 307


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 123.
2- تقدّم في الصفحة 113 من هذا الجزء.

فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد اللّه بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.

والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.

فلمّا أوجد اللّه تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :

نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.

ونسبة إلى اللّه تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.

وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.

ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال - باعتبار كون الفعل صفة له - : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.

والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.

وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ

ص: 308

ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!

إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل اللّه تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!

والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!

فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.

ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول (1) في مهمّة (2) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :

ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي *** طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي (3)

فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، واللّه تعالى يجازيه!

* * *

ص: 309


1- في نسخة إحقاق الحقّ : الغول ؛ ولعلّها الأنسب.
2- المهمّة : كلّ ما نواه المرء من فعل أو أمر وأراده وعزم عليه وهمّ بأن يفعله ؛ انظر : تاج العروس 17 / 764 و 767 مادّة « همم ».
3- نقول : لا ندري ممّ نتعجّب؟! أمن علم هذا الرجل وبراعته في علم الكلام؟! أم من فصاحته وبلاغته ونبوغه في الشعر ومعرفته بالمعاني؟! أم من خلقه الرفيع العالي؟! والعجب كلّ العجب ممّن يتّبع هذا وأمثاله ويدافع عنهم دون علم ودراية!! ولكن كما قال أبو الطيّب المتنبّي : شبيه الشيء منجذب إليه *** وأشبهنا بدنيانا الطغام فليتأمّل!

وأقول :

ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.

وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد اللّه بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد اللّه سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.

نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة اللّه على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي (1) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت ... » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،

ص: 310


1- انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي 9 / 21.

ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » .. إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل (1).

وأيّ دلالة في ذكر الكسب - عند إرادة ترتّب الجزاء - على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!

وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن - عند إرادة ترتّب الجزاء - سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :

إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال اللّه تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.

ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال اللّه تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.

ص: 311


1- انظر مادّة « كسب » في : لسان العرب 12 / 87 ، المصباح المنير : 203.

وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.

فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!

* * *

ص: 312

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

وهذه الأجوبة فاسدة ..

أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.

وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى اللّه تعالى ، وأن ينسب اللّه تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.

وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن اللّه تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو اللّه تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من اللّه تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.

وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق اللّه تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق اللّه تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر (2).

ص: 313


1- نهج الحقّ : 126.
2- في المخطوط : القدر.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ (2) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب ..

أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها اللّه تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل (3).

فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه اللّه تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.

وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه اللّه تعالى عقيب الاختيار؟!

فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها اللّه تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب

ص: 314


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 134.
2- انظر الصفحتين 113 و 307.
3- الإمامية لا تقول بذلك على إطلاقه ، وسيأتي ردّ المصنّف قدس سره عليه.

عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن اللّه تعالى.

وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ... » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن اللّه تعالى لا عن العبد.

وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.

قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».

قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح (1).

وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق اللّه الفعل عقيبه ».

فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.

* * *

ص: 315


1- تقدّم في الصفحة 113.

وأقول :

ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة اللّه وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :

« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى اللّه تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة اللّه تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة اللّه تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب :

الكسب (1).

وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة اللّه تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.

وقيل : الفعل الذي يخلقه اللّه تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.

ص: 316


1- شرح المقاصد 4 / 225 ، وانظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 320 ، المطالب العالية من العلم الإلهي 9 / 10.

وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.

و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.

فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب - من حيث هو كسب - اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.

وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة اللّه تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.

إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة اللّه تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له (1) » (2).

وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا

ص: 317


1- الاقتصاد في الاعتقاد : 60.
2- شرح المقاصد 4 / 225 - 226.

الخصم.

ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب - بأيّ معنى فسّر - إن كان من فعل اللّه تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.

ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ اللّه تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها (1) ..

فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».

على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ... إلى آخره.

وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها اللّه تعالى في العبد » ..

فإن أراد أنّها ربّما يخلقها اللّه تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،

ص: 318


1- انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي 3 / 270 - 271.

قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!

وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه اللّه تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن اللّه تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به - لو سلّم - لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.

على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى (1) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.

ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه ... » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.

وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري (2) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال اللّه تعالى ، كما عرفت.

ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.

وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.

ص: 319


1- الإبانة عن أصول الديانة : 46 ، تمهيد الأوائل : 341 ، المواقف : 311.
2- مناهج اليقين : 240 - 241.

وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».

وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار » ..

ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن اللّه لا عن العبد ».

وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل ..

ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار - كما زعم - إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.

واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل اللّه تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.

وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.

وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب

ص: 320

خلق الفعل عقيب الاختيار ، فأجاب بما سمعته.

وكيف يدّعيه المصنّف وكلّ أحد يعلم أنّ ما جعلوه مخلصا هو وجود الاختيار لا وجوب خلق اللّه الفعل عقيبه؟!

وبهذا تعرف مقدار تدبّر هذا الخصم!

* * *

ص: 321

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

وأمّا الثاني : فلأنّ كون الفعل طاعة أو معصية ، إمّا أن يكون نفس الفعل في الخارج ، أو أمرا زائدا عليه.

فإن كان الأوّل ، كان أيضا من اللّه تعالى ، فلا يصدر عن العبد شيء ، فيبطل العذر.

وإن كان الثاني ، كان العبد مستقلّا بفعل هذا الزائد.

وإذا جاز إسناد هذا الفعل ، فليجز إسناد أصل الفعل!

وأيّ ضرورة للتمحّل بمثل هذه المحاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار؟!

وأيّ فارق بين الفعلين؟! ولم كان أحدهما صادرا عن اللّه تعالى والآخر صادرا عن العبد؟!

وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف ، فإن كان حقّا عندهم امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا كون الفعل طاعة ، هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل ، إن طابق الأمر كان طاعة ، وإلّا فلا.

وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد ، لا في ذاته ، ولا في شيء من صفاته ، فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأوّل.

ص: 322


1- نهج الحقّ : 127.

وأيضا الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ، ولهذا ذمّ اللّه تعالى إبليس وفرعون على مخالفتهما أمر اللّه.

وكلّ فعل يفعله اللّه تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من اللّه.

فلو كان أصل الفعل صادرا من اللّه امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن.

فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة من اللّه امتنع وصفها بالقبح ، فلا تكون معصية ، فلا يستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب ، فلا يحسن من اللّه تعالى ذمّ إبليس وأبي لهب وغيرهما ، حيث لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية ، فلا تتحقّق معصية من العبد ألبتّة!

وأيضا المعصية قد نهى اللّه تعالى عنها إجماعا ، والقرآن مملوء من المناهي والتوعّد عليها.

وكلّ ما نهى اللّه عنه فهو قبيح ، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلّا ما نهى اللّه عنه ، مع إنّها قد صدرت عن إبليس وفرعون وغيرهما من البشر.

وكلّ ما صدر من العبد فهو مستند إلى اللّه تعالى ، والفاعل له هو اللّه لا غير عندهم ، فيكون حسنا وقد فرضناه قبيحا ، وهذا خلف.

وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ، وكفاهم من الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون.

وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات ، والدخول في هذه الظلمات ، والإعراض عن الحقّ الواضح ، والدليل اللائح ، والمصير إلى ما لا يفهمه القائل ولا السامع؟!

ص: 323

ولا يدري هل يدفع عنهم ما التزموا به أو لا؟! فإنّ هذا الدفع وصف من صفاته ، والوصف إنّما يعلم بعد علم الذات ، فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به؟!

فلينظر العاقل في نفسه قبل دخوله في رمسه ، ولا يبقى للقول مجال ، ولا يمكن الاعتذار بهذا المحال!

* * *

ص: 324

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

القول الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلّاني من الأشاعرة ..

ومذهبه : إنّ الأفعال الاختيارية من العبد واقعة بمجموع القدرتين ، على أنّ تتعلّق قدرة اللّه تعالى بأصل الفعل ، وقدرة العبد بصفته ، أعني بكونه طاعة أو معصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى ، كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء ، فإنّ ذات اللطم واقعة بقدرة اللّه تعالى وتأثيره ، وكونه طاعة على الأوّل ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره (2).

هذا مذهب القاضي ، وهو غير مقبول عند عامّة الأصحاب ؛ لشمول الأدلّة المبطلة لمدخلية اختيار العبد في التأثير في أصل الفعل تأثيره في الصفة بلا فرق.

وهذا الإبطال مشهور في كتب الأشاعرة (3) فليس من خواصّه.

ص: 325


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 139.
2- التقريب والإرشاد 1 / 232 - 233 ، تمهيد الأوائل : 347 ، المواقف : 312 ، شرح المواقف 8 / 147.
3- المعروف أنّ أوّل من أثبت من الأشاعرة تأثيرا غير مستقلّ لقدرة العبد في الفعل هو أبو المعالي الجويني في كتابه « النظامية » كما في العلم الشامخ : 331 ، وحكاه عنه كذلك الشهرستاني في الملل والنحل 1 / 85 ، وردّه الشهرستاني في نهاية الإقدام في علم الكلام : 78 - 79 قائلا باستحالة هذا التأثير. هذا ، ولم يعرف للأشاعرة قول بتأثير قدرة العبد إلّا عند متأخرهم ، كالشعراني في اليواقيت والجواهر 139/1 - 141 ، والزرقاني في مناهل العرفان 29/2 - 32.

وأمّا باقي ما أورده على معنى الكسب حسب ما هو مذهب القاضي فغير وارد عليه ، ونحن نبطله حرفا بحرف ، فنقول :

أمّا قوله : « كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل ... » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا لا نسلّم أنّ كونه موافقا لأمر الشريعة شيء يرجع إلى ذات الفعل ، فإنّ المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنّه ليس صفة الفعل ، بل هو ذات الفعل ، فبطلانه ظاهر.

وإن كان المراد أنّه راجع إلى الذات ، بمعنى أنّه وصف للذات فمسلّم ، لكن لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ، وهذا أوّل الكلام.

ثمّ إنّ ما ذكر أنّ : « الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ... وكلّ فعل يفعله اللّه تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم ... سوى صدوره من اللّه ، فلو كان أصل الفعل صادرا من اللّه امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن ... » إلى آخره.

فجوابه : إنّ الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة ، ولكنّ مدرك هذا الحسن والقبح هو الشرع لا العقل ، فكلّ فعل يفعله اللّه تعالى فهو حسن بالنسبه إليه ، وربّما يكون قبيحا بالنسبة إلى المحلّ كالعاصي.

قوله : « فلو كان أصل الفعل صادرا من اللّه تعالى امتنع وصفه بالقبح ».

قلنا : المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، وكلّ ما كان صادرا

ص: 326

من اللّه تعالى كالخلق ، امتنع وصفه بالقبح.

والمعصية صادرة من العبد ويجوز وصفها بالقبح ، فلا يلزم شيء ممّا ذكره بتفاصيله.

وأمّا قوله : « وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ».

فنقول : هذا القول إن صدر من الأشاعرة ، يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه أوصاف فعل العبد ، ولا بدّ من إثبات شيء لئلّا يلزم بطلان التكليف والثواب والعقاب ، ولكنّه غير معلوم الحقيقة ، وعلى هذا الوجه لا خلل في الكلام.

* * *

ص: 327

وأقول :

لا يخفى أنّ نسبة القول الثاني إلى القاضي الباقلّاني منافية لقوله سابقا : « هذه الأقوال ما رأيناها في كتب الأصحاب »!! (1).

والظاهر : إنّ المصنّف مختصّ بإبطال مذهب القاضي بالوجوه المذكورة ؛ لأنّ ما تخيّل الخصم مشاركة المصنّف للأشاعرة فيه هو قوله :

« وأيضا : دليلهم آت في هذا الوصف » ، وهو - كما ترى - توطئة للإيراد لا نفسه ؛ لأنّ المنظور إليه في الإيراد هو قوله بعده : « فإن كان - أي دليلهم - حقّا امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به ».

وبهذا تعلم أنّ الخصم لم يجب عن هذا الوجه ، كما أنّه لم يتعرّض للجواب عمّا قبله الذي هو أوّل الوجوه.

واعلم أنّ المصنّف أبطل قول القاضي بخمسة وجوه :

الأوّلان منها راجعان إلى إبطال تفرقة القاضي بين الفعل وصفته.

وثالثها : إلى إبطال قوله بإسناد الوصف إلى العبد.

وأخيراها : إلى إبطال قوله بأنّ أصل الفعل من اللّه تعالى.

وقد عرفت أنّ الخصم أغفل جواب الأوّل ، ولم يفهم الثاني ، كما أنّه أغفل جواب الأخير ، وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « وأيضا المعصية قد نهى اللّه تعالى عنها ... » إلى آخره.

وحاصله : إنّ المعصية - يعني أصل الفعل - كالزنا منهيّ عنه ، وكلّ

ص: 328


1- تقدّم في الصفحة 314 من هذا الجزء.

ما نهى اللّه تعالى عنه قبيح ، فإذا زعم القاضي وقومه أنّ الزنا مثلا فعل اللّه تعالى كان حسنا ، وهذا خلف.

وأمّا الثالث ، وهو الذي ذكره بقوله : « وأيضا : كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة » ..

فقد أجاب عنه الخصم بقوله : « فجوابه : إنّا لا نسلّم ... » إلى آخره.

وردّد فيه بمراده بالرجوع بين أمرين لم يردهما قطعا ، فإنّ مراده بالرجوع في قوله : « وكونه موافقا لأمر الشريعة يرجع إلى ذات الفعل » هو استناد الموافقة إلى ذات الفعل ، لا أنّها ذاته أو وصفه كما تخيّله الخصم.

وحاصل مقصود المصنّف - كما هو صريح كلامه - : إنّ معنى كون الفعل طاعة هو كونه موافقا للأمر ، وكونه موافقا له مستند إلى ذات الفعل ، لا إلى العبد ، فكيف يقول القاضي باستناد الطاعة إلى العبد؟! ومنه يعلم ما في قول الخصم : « لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ».

وأمّا ما أجاب به عن الرابع بقوله : « ثمّ إنّ ما ذكر أنّ الطاعة حسنة ... » إلى آخره ..

فخطأ ظاهر ؛ لأنّ حاصل مراد المصنّف بهذا الوجه أنّه لو كان أصل الفعل صادرا عن اللّه تعالى - كما يزعمه القاضي وقومه - لكان حسنا وامتنع قبحه ، فلا يكون معصية ؛ لأنّها قبيحة فلا تتحقّق من العبد معصية ألبتّة ، ولا يحسن ذمّه وعقابه!

والحال : إنّا علمنا أنّ اللّه سبحانه ذمّ إبليس وأبا لهب وغيرهما ، وهذا وارد على القاضي وقومه ، سواء كان الحسن والقبح عقليّين أم شرعيّين ، لامتناع كون فعل اللّه تعالى قبيحا بقبح عقلي أو شرعي.

ص: 329

ولا نعقل ما ذكره الخصم وأصحابه أنّ الفعل الواحد الشخصي يكون حسنا بالنسبة إلى فاعله المؤثّر فيه ، قبيحا بالنسبة إلى محلّه الذي لا أثر فيه أصلا.

كما إنّه لا معنى لجعل المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه أشبه باللغو ، إذ كيف يمكن إثبات صدورها ممّن لم يوجدها ونفي صدورها عن خالقها وموجدها؟! وهل معنى للخلق إلّا الصدور والإيجاد؟!

هذا ، ويمكن أن يريد المصنّف بهذا الوجه الإشكال على دعوى القاضي صدور وصف المعصية من العبد ، لا الإشكال على دعواه صدور أصل الفعل من اللّه تعالى كما بيّنّا.

فيكون معنى كلامه : إنّ أصل الفعل إذا كان صادرا عن اللّه سبحانه كما زعمه القاضي ، بطل قوله بصدور وصف المعصية عن العبد ؛ لأنّ فعل اللّه تعالى لا يوصف بالقبيح ، فلا يوصف بالمعصية ، ويلزمه انتفاء المعصية عن العبد ، كما يلزمه أن لا يحسن من اللّه سبحانه ذمّ إبليس وسائر العصاة ، والحال أنّ اللّه تعالى قد ذمّهم.

وأمّا قوله : « يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه ... » إلى آخره ..

ففيه : إنّه إذا لم يطّلع على كلمات القائل ومحلّه من العلم ، فكيف حكم بأنّ هذا مراده؟!

على أنّ الشيء المجهول الذي أثبته إن كان للعبد تأثير فيه ، بطل مذهبهم ، وإلّا بطل التكليف والبعثة والعقاب!

* * *

ص: 330

القدرة متقدّمة [ على الفعل ]

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :

المطلب الثالث عشر : في أنّ القدرة متقدّمة

اشارة

ذهبت الإمامية والمعتزلة كافّة إلى أنّ القدرة التي للعبد متقدّمة على الفعل (2).

وقالت الأشاعرة هنا قولا غريبا عجيبا ، وهو : إنّ القدرة لا توجد قبل الفعل ، بل مع الفعل ، غير متقدّمة عليه لا بزمان ولا بآن (3).

فلزمهم من ذلك محالات ، منها : تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ الكافر مكلّف بالإيمان إجماعا منّا ومنهم.

فإن كان قادرا عليه حال كفره ، ناقضوا مذهبهم من أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه.

ص: 331


1- نهج الحقّ : 129.
2- الذخيرة في علم الكلام : 88 ، شرح جمل العلم والعمل : 97 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 104 ، تجريد الاعتقاد : 175 ، شرح الأصول الخمسة : 390 - 391.
3- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 92 ، تمهيد الأوائل : 325 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 152 ، شرح المقاصد 2 / 353 ، شرح المواقف 6 / 88.

وإن لم يكن قادرا عليه ، لزمهم تكليف ما لا يطاق.

وقد نصّ اللّه تعالى على امتناعه فقال : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (1).

والعقل دلّ عليه ، وقد تقدّم (2).

وإن قالوا : إنّه غير مكلّف حال كفره ، لزم خرق الإجماع ؛ لأنّ اللّه تعالى أمره بالإيمان ، بل عندهم أنّه أمرهم في الأزل ونهاهم ، فكيف لا يكون مكلّفا؟!

* * *

ص: 332


1- سورة البقرة 2 : 286.
2- راجع الصفحة 97 - 98 من هذا الجزء.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة حادثة مع الفعل ، وإنّها توجد حال حدوث الفعل وتتعلّق به في هذه الحالة ، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلّقها به ، إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، بل امتنع وجوده فيه ...

وإن لم يمتنع وجوده قبله ، بل أمكن ، فلنفرض وجوده فيه .. فالحالة التي فرضناها أنّها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك ، بل هي حال الفعل ، هذا خلف محال ..

لأنّ كون المتقدّم على الفعل مقارنا يستلزم اجتماع النقيضين ، أعني كونه متقدّما وغير متقدّم ، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال ، فلا يكون ممكنا ، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات.

وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله لم يكن مقدورا قبله ، فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ، ولا شكّ أنّ وجود القدرة بعد الفعل ممّا لا يتصوّر ..

فتعيّن أن تكون موجودة معه ، وهو المطلوب (2).

هذا دليل الأشاعرة على هذا المدّعى.

وأمّا ما ذكر من لزوم المحالات أنّ الكافر مكلّف بالإيمان بالإجماع ، فإن كان قادرا على الإيمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدّمة على الفعل ، وهو خلاف مذهبهم ..

وإن لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق.

ص: 333


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 143.
2- انظر : شرح المواقف 6 / 88 - 90.

فجوابه : إنّا نختار أنّه غير قادر على الإيمان حال الكفر ، ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ شرط صحّة التكليف عندنا أن يكون الشيء المكلّف به متعلّقا للقدرة ، أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة ، وهذا الشرط حاصل في الإيمان ، فإنّه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه ، لكنّ تركه بالتلبّس بضدّه - الذي هو الكفر - مقدور له حال كونه كافرا (1).

* * *

ص: 334


1- انظر : شرح المواقف 6 / 98.

وأقول :

ما ذكره من دليل الأشاعرة هو عين ما في « المواقف » وشرحها بألفاظه (1) ، وقد أشكلا فيه بما أغفله الخصم إضاعة للحقّ.

وحاصله : إنّه إن كان المراد بوجود الفعل قبل وجوده هو وجوده بشرط كونه قبل الوجود ، فهو مسلّم المحاليّة ، ولا كلام فيه.

وإن كان المراد به وجوده في زمان عدم الفعل بدلا عن العدم ، فهو ليس بمحال.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم التكليف بما لا يطاق ، فهو مبنيّ على ما ذهبوا إليه من تعلّق القدرة بطرف دون آخر (2) ، وهو باطل.

ولو سلّم فقدرة الكافر إنّما تعلّقت بترك الإيمان ، والمطلوب تعلّقها بالإيمان ، ليكون ممّا يسع المكلّف الذي نفت الآية التكليف بغيره.

وبالضرورة : إنّ مجرّد تعلّق القدرة بالكفر وبترك الإيمان لا يجعل الإيمان ممّا يسع المكلّف ومصداقا له.

وأجيب عن أصل الإشكال بأنّ الكافر مكلّف في الحال بالإيمان في ثاني الحال.

وفيه : مع أنّه مناف لما يزعمونه - كما ستعرف - من أنّ التكليف مع

ص: 335


1- المواقف : 151 ، شرح المواقف 6 / 88.
2- انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 98 ، تمهيد الأوائل : 332 - 333 ، المواقف : 331 ، شرح المواقف 8 / 200.

الفعل : أنّ المفروض تكليف الكافر بالإيمان في حال كفره ، لا في ثاني الحال ؛ ولو سلّم ، فإن كان ثاني الحال حال كفر أيضا ، بقي الإشكال ، وإن كان حال إيمان ، فالإيمان واجب حينئذ لا مقدور ؛ لأنّ الشيء إذا وجد وجب.

ومنه يعلم وجه تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان ؛ لأنّ المكلّف به ليس بمقدور قبل وجوده وواجب حينه (1).

وقد صحّح القوشجي تشنيعهم بتقرير أنّه قبل الإتيان غير مقدور ، وحينه يحصل الامتثال ، وحينئذ فهو أيضا وارد بالنسبة إلى التكليف بالإيمان (2).

* * *

ص: 336


1- انظر : المغني - للقاضي عبد الجبّار - 8 / 250 ، شرح المواقف 6 / 96 - 97.
2- شرح التجريد : 362.

قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - :

قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - (1) :

ومنها : الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الحاجة إلى القدرة إنّما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، وهذا إنّما يتحقّق حال العدم ؛ لأنّ حال الوجود هي حال الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الفعل حال الوجود يكون واجبا فلا حاجة به إلى القدرة.

على أنّ مذهبهم أنّ القدرة غير مؤثّرة ألبتّة ؛ لأنّ المؤثّر في الموجودات كلّها هو اللّه تعالى (2).

فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول ؛ لأنّه خلاف مذهبهم.

* * *

ص: 337


1- نهج الحقّ : 129.
2- انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي 9 / 75 ، المواقف : 150 ، شرح العقائد النسفية : 146.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الحاجة إلى القدرة اتّصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار ، حتّى يصحّ كونه محلّا للثواب والعقاب ، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل ، لا يتحقّق له صورة الاختيار ، واللّه حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى.

ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثّرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه ، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولا.

* * *

ص: 338


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 145.

وأقول :

إذا لم تكن القدرة مؤثّرة ، فكيف يعلم وجودها؟! وكيف يخرج عن الاضطرار؟! ومن أين تكون مصحّحة للثواب والعقاب؟! على أنّ الثواب عندهم تفضّل محض ، والعقاب تصرّف في الملك بلا حاجة إلى القدرة (1).

وأمّا ما زعمه من أنّه لو لم تكن القدرة حادثة لا تتحقّق له صورة الاختيار ، فخطأ ؛ إذ لا يتوقّف إيجاد صورة الاختيار على وجود القدرة إذا لم يكن لهما أثر أصلا كما زعموا ، على أنّه لا فائدة في صورة الاختيار بلا تأثير ، كما لا نتصوّر حكمة في خلق القدرة غير التأثير.

ولو سلّم فالبحث عنها - بلحاظ جهة التأثير - فضول.

* * *

ص: 339


1- انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 123 و 134 و 140 ، المواقف : 378 ، شرح المقاصد 5 / 125 - 126.

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومنها : إلزام حدوث قدرة اللّه تعالى أو قدم العالم ؛ لأنّ القدرة مقارنة للفعل ، وحينئذ يلزم أحد الأمرين ، وكلاهما محال ..

لأنّ قدرة اللّه تعالى يستحيل أن تكون حادثة ، والعالم يمتنع أن يكون قديما.

ولأنّ القدم مناف للقدرة ؛ لأنّ القدرة إنّما تتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر.

ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد والكلام في أحكامها ، مع أنّ القدرة غير مؤثّرة في الفعل ألبتّة ، وإنّه لا مؤثّر غير اللّه تعالى ، فأيّ فرق بين القدرة واللون وغيرهما بالنسبة إلى الفعل ، إذا كانت غير مؤثّرة ولا مصحّحة للتأثير؟!

وقال أبو عليّ ابن سينا رادّا عليهم : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود » (2).

* * *

ص: 340


1- نهج الحقّ : 130.
2- الإلهيّات من كتاب الشفاء : 182.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

حاصل هذا الاعتراض : إنّ كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة اللّه تعالى أو قدم مقدوره ، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا ، فيلزم من حدوث مقدوره تعالى حدوث قدرته ، أو من قدم قدرته قدم مقدوره ، وكلاهما باطل ؛ بل قدرته أزلية إجماعا ، متعلّقة في الأزل بمقدوراته.

فقد ثبت تعلّق القدرة بمقدورها قبل حدوثه ، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا (2).

وأجاب شارح « المواقف » عن هذا الاعتراض بأنّ « القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهيّة للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا ، فلا يلزم من جواز تقدّمها على الفعل جواز تقدّم الحادثة عليه.

ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل بالفعل تعلّقا معنويا لا يترتّب عليه وجود الفعل ، ولها تعلّق آخر به حال حدوثه ، تعلّقا حادثا موجبا لوجوده ، فلا يلزم من قدمها مع تعلّقها المعنوي قدم آثارها ، فاندفع الإشكال بحذافيره » (3).

وأمّا ما ذكره من التعجّب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنّها غير مؤثّرة في الفعل ، فبالحريّ أن يتعجّب من تعجّبه ؛ لأنّ القدرة صفة حادثة في العبد ، وهي من صفات الكمال.

ص: 341


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 148.
2- انظر : شرح المواقف 6 / 94 - 95.
3- شرح المواقف 6 / 96.

فالبحث عنها لكونها من الأعراض والكيفيات النفسانية وعدم كونها مؤثّرة في الفعل ، من جملة أحوالها المحمولة عليها ، فلم لا يبحث عنها؟!

وأمّا قوله : ( أن لا فرق بينها وبين اللون ) ؛ فقد أبطلنا هذا القول في ما سبق مرارا ، بأنّ اللون لا نسبة له إلى الفعل ، والقدرة تخلق مع الفعل ليترتّب على خلقها صورة الاختيار ، ويخرج بها العبد من الجبر المطلق ، ويترتّب على فعله الثواب والعقاب والتكليف ؛ واللّه أعلم.

قال الإمام الرازي : القدرة تطلق على مجرّد القوّة التي هي مبدأ للأفعال المختلفة (1) الحيوانية ، وهي القوّة العضلية التي هي بحيث متى انضمّ إليها إرادة أحد الضدّين ، حصل ذلك الضدّ ، ومتى انضمّت إليها إرادة الضدّ الآخر ، حصل ذلك الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين سواء ، وهي قبل الفعل.

والقدرة أيضا تطلق على القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ أنّها لا تتعلّق بالضدّين معا وإلّا اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ؛ وذلك لاختلاف الشرائط ... وهذه القدرة مع الفعل ؛ لأنّ وجود المقدور لا يتخلّف عن المؤثّر التامّ (2).

ولعلّ الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولذلك حكم بأنّها مع الفعل ، وأنّها لا تتعلّق بالضدّين.

والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرّد القوّة العضلية ، فلذلك قالوا بوجودها

ص: 342


1- انظر : المواقف : 154 ، وجاء في تفسير الفخر الرازي 1 / 146 ما نصّه : « وأعلم أنّ لفظ القوّة يقرب من لفظ القدرة » وهو مؤدّى « القدرة تطلق على مجرّد القوّة » ، فلاحظ!
2- انظر : شرح التجريد - للقوشجي - : 361.

قبل الفعل وتعلّقها بالأمور المتضادّة ، فهذا وجه الجمع بين المذهبين (1).

وبهذا يخرج جواب أبي علي ابن سينا حيث قال : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود » فإنّه غير قادر ، بمعنى أنّه لم يحصل له بعد القوّة المستجمعة لشرائط التأثير ، وهو قادر بمعنى أنّه صاحب القوّة العضلية.

* * *

ص: 343


1- شرح المواقف 6 / 104 - 105.

وأقول :

لا أثر لمخالفة القدرة القديمة للحادثة في الماهيّة ؛ لأنّ دليل الأشاعرة السابق المانع من تقدّم القدرة الحادثة آت في القديمة أيضا ، كدليلهم الآخر الآتي في كلام القوشجي.

على أنّ المخالفة ممنوعة بمقتضى مذهبهم ؛ لأنّ القدرتين من الأعراض واقعا في مذهبهم ، والعرض لا يبقى زمانين عندهم.

قال القوشجي : « احتجّت الأشاعرة على أنّ القدرة مع الفعل لا قبله بوجهين :

أحدهما : إنّها عرض ، والعرض لا يبقى زمانين ، فلو كانت قبل الفعل لا نعدمت حال الفعل ، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة ، والمعلول بدون العلّة ، وهو محال.

وأجيب عنه : أمّا أوّلا : فبالنقض بقدرة اللّه تعالى ، وما يقال من أنّ العرض لا يطلق على صفاته تعالى ، وأنّ صفاته ليست مغايرة لذاته ، فممّا لا يجدي نفعا ، ولأنّ الكلام في المعاني لا في إطلاق الألفاظ » (1).

وأمّا قول شارح « المواقف » : « ثمّ إنّ القدرة القديمة متعلّقة في الأزل ... » إلى آخره (2).

ففيه : إنّه إذا جاز ذلك في القديمة فليجز مثله في الحادثة ، بأن تكون

ص: 344


1- شرح التجريد : 362.
2- شرح المواقف 6 / 96.

نفسها وتعلّقها المعنوي متقدّمين على الفعل كما هو المطلوب ، إذ لا ندّعي تقدّمها على الفعل بتعلّقها الموجب لوجوده.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن تعجّب المصنّف ، فقد مرّ ما فيه ، من أنّ البحث عن تقدّمها أو مقارنتها ، إنّما هو فرع تأثيرها ومبنيّ عليه ، فإذا زعموا أنّها غير مؤثّرة ، كان بحثهم عن جهة التقدّم والمقارنة فضولا ، وإن كان البحث عنها من جهة أخرى صحيحا.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة واللون ..

ففيه : إنّ المطلوب هو الفرق بالنسبة إلى الدخل بالفعل ، لا الفرق بأيّ وجه كان ، وما ذكره من صورة الاختيار ، قد عرفت أنّه لا فائدة فيه مع عدم تأثير القدرة.

على أنّه لا يتوقّف خلق صورة الاختيار على خلق القدرة بعد فرض عدم الأثر لهما.

كما إنّ القدرة بلا تأثير لا تصحّح العقاب والثواب ، ولا تخرج العبد عن الجبر الحقيقي.

وأمّا كلام الرازي ، فهو في الحقيقة تسليم منه لخصومهم ؛ لأنّ محلّ النزاع هو المعنى الأوّل ، الذي لا يخالف المعنى الثاني بذات القدرة ، وإنّما يخالفه بعدم اجتماع شرائط تأثيرها.

كما إنّ احتمال الرازي لإرادة الأشعري للمعنى الثاني خطأ ، كما ذكره شارح « المواقف » ؛ لأنّ القدرة الحادثة ليست مؤثّرة عند الأشعري ، فكيف يقال : إنّه أراد بالقدرة القوّة المستجمعة لشرائط التأثير؟!

وأمّا ما ذكره من أنّه يخرج بهذا جواب ابن سينا ..

ففيه : ما حكاه السيّد السعيد عن ابن سينا في كلام له متّصل بهذا

ص: 345

الجواب ، فإنّه صرّح به بأنّ : القدرة ليست إلّا القوّة التي يكون لها التأثير بالقوّة ، وردّ على من فسّرها بالقوّة المستجمعة لشرائط التأثير.

ونقل السيّد رحمه اللّه أيضا عن ابن سينا أنّه أبطل القول بأنّ القدرة مع الفعل ، حيث إنّه في فصل القوّة والفعل والقدرة والعجز ، من « إلهيّات الشفاء » قال : « وقد قال بعض الأوائل - وغاريقون منهم - : إنّ القوّة تكون مع الفعل ولا تتقدّم.

وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير.

فالقائل بهذا القول كأنّه يقول : إنّ القاعد ليس يقوى على القيام ، أي :

لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم ، فكيف يقوم؟! وإنّ الخشب ليس بجبلّته أن ينحت بابا ، فكيف ينحت؟!

وهذا القائل لا محالة غير قوي على أنّ يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا ، فيكون بالحقيقة أعمى » (1).

* * *

ص: 346


1- الإلهيّات من كتاب الشفاء : 182 ، إحقاق الحقّ 2 / 151.

القدرة صالحة للضدّين

اشارة

قال المصنّف - عطّر اللّه مرقده - (1) :

المطلب الرابع عشر : في أنّ القدرة صالحة للضدّين

اشارة

ذهب جميع العقلاء إلى ذلك عدا الأشاعرة ، فإنّهم قالوا : القدرة غير صالحة للضدّين (2) ، وهذا مناف لمفهوم القدرة ، فإنّ القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك.

فلو فرضنا القدرة على أحد الضدّين لا غير ، لم يكن الآخر مقدورا ، فلم يلزم من مفهوم القادر أنّه إذا شاء أن يترك ترك.

* * *

ص: 347


1- نهج الحقّ : 130.
2- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 94 ، تمهيد الأوائل : 326 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 153 ، المواقف : 153 ، شرح المواقف 6 / 102 - 103.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بالضدّين ، بناء على كون القدرة عندهم مع الفعل لا قبله.

بل قالوا : إنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق بمقدورين مطلقا ، سواء كانا متضادّين أو متماثلين أو مختلفين ، لا معا ولا على سبيل البدل ، بل القدرة الواحدة لا تتعلّق إلّا بمقدور واحد ، وذلك لأنّها مع المقدور (2).

ولا شكّ أنّ ما نجده عند صدور أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر.

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّ قدرة العبد تتعلّق بجميع مقدوراته المتضادّة وغير المتضادّة (3).

وأنا أقول : ولعلّ النزاع لفظي لا على الوجه الذي ذكره الإمام الرازي ، فإنّ الأشاعرة يجعلون كلّ فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلّقا بمقدور واحد ، وهو الكائن عند حدوث الفعل ، فكلّ فرد له متعلّق.

والمعتزلة يجعلون القدرة مطلقا متعلّقة بجميع المقدورات ، وهذا لا ينافي جعل كلّ فرد ذا تعلّق واحد.

والمعتزلي لا يقول : إنّ الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث

ص: 348


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 152.
2- انظر : تمهيد الأوائل : 326 ، المواقف : 153.
3- انظر : شرح الأصول الخمسة : 415 ، شرح المواقف 6 / 102 - 103 ، الذخيرة في علم الكلام : 85 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 103.

وحصل منه الفعل ، فعين ذلك الفرد يتعلّق بضده ، بل يقول : إنّ القدرة الحادثة مطلقا تتعلّق بالضدّين ، وهذا لا ينفيه الأشاعرة ، فالنزاع لفظي ؛ تأمّل.

وأمّا ما ذكره من : « أنّه يوجب عدم كون القادر قادرا ؛ لأنّه إذا لم تصلح القدرة للضدّين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو الترك ، فيكون مضطرّا لا قادرا ».

فالجواب عن ذلك : إنّه إن أريد بكونه مضطرّا أنّ فعله غير مقدور له ، فهو ممنوع ، وإن أريد به أنّ مقدوره ومتعلّق قدرته متعيّن ، وأنّه لا مقدور له بهذه القدرة سواه ، فهذا عين ما ندّعيه ونلتزمه ..

ولا منازعة لنا في تسميته مضطرّا ، فإنّ الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة ، ألا يرى أنّ من أحاط به بناء من جميع جوانبه ، بحيث يعجز عن التقلّب من جهة إلى أخرى ، فإنّه قادر على الكون في مكانه بإجماع منّا ومنهم ، مع أنّه لا سبيل له إلى الانفكاك عن مقدوره (1).

* * *

ص: 349


1- انظر : شرح المواقف 6 / 104.

وأقول :

لا يخفى أنّ تعلّق القدرة بالشيء قد يكون بمعنى أنّه إن شاء فعله فعله ، وإن شاء تركه تركه ، وهو معنى صحّة الطرفين وصلاحيّتهما.

وقد يكون بمعنى تأثيرها في متعلّقها ، وهذا بالضرورة لا يقع بالطرفين ؛ لأنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، لعدم إمكان اجتماعهما.

ولا ريب أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في المعنى الأوّل ، إذ لو كان مقصود الأشاعرة هو المعنى الثاني ، لاستدلوا بما هو ضروري ، من أنّ التأثير للنقيضين في آن واحد محال ، ولم يحتاجوا إلى كلفة بنائه على مقارنة القدرة للمقدور التي تمحّلوا للاستدلال عليها.

وحينئذ فلا وجه لما زعمه الخصم من كون النزاع لفظيا ؛ لأنّه إذا كان محلّ النزاع هو التعلّق بالمعنى الأوّل كما عرفت ، فلا بدّ أن يكون المراد هو القدرة المطلقة ؛ لأنّها هي التي تصلح للنقيضين ، لا فرد القدرة الخاصّ الجامع لشرائط التأثير ؛ لأنّه إنّما يكون فردا خاصّا عند التأثير بأحد الطرفين ، فلا يمكن أن يصلح في هذا الحين للتأثير بالطرف الآخر.

ولا يخفى أنّ هذا الذي جمع به الخصم وأظهر التفرّد به راجع إلى ما جمع به الرازي ؛ لأنّ القدرة المطلقة هي القوّة العضلية ، وفردها هو القوّة

ص: 350

المستجمعة لشرائط التأثير (1).

وأمّا ما أجاب به عن إلزام المصنّف ، فمناف لما توهّمه من كون النزاع لفظيا ، إذ لو سلّموا تعلّق القدرة المطلقة بالطرفين ، كما هو محلّ دعوى المصنّف ، لقال : نحن لا نمنع هذا حتّى ينافي مفهوم القدرة ، وإنّما نمنع تعلّق فردها بالطرفين وهو لا ينافي مذهبكم.

ولكن قد يعذر الخصم على إتيان هذه المنافاة ؛ لأنّه لا يعرف من الاستدلال والردّ إلّا ما في « المواقف » وشرحها ، كما هو دأبه في هذا الكتاب ، وقد وجد هذا الكلام في « شرح المواقف » فأورده بلفظه جهلا بأنّه ينفي ما توهّمه (2).

ثمّ إنّه واضح البطلان ؛ لأنّا نختار منه الشقّ الأوّل من ترديده ، ونحكم بسفسطة مانعه ، إذ لو كان الفعل الذي لا يتمكّن فاعله من تركه مقدورا له ، لكان كلّ فعل تلبّس به الشخص ولم يقدر على تركه مقدورا له ، وكذا كلّ ترك تلبّس به ولم يقدر على نقيضه ..

فيكون من سقط من شاهق قادرا على هذا السقوط في حين السقوط ، وكان تارك الطيران إلى السماء قادرا على الترك ، وهو عين السفسطة.

ومن هذا القبيل مثال البناء الذي ذكره ، فإنّ دعوى قدرة من أحاط به البناء وعجز عن التقلّب شبيهة بدعوى القدرة في هذه الأمثلة.

نعم ، هو قادر على الكون في البناء المذكور ، وعلى السقوط في

ص: 351


1- تقدّم قول الفخر الرازي في الصفحة 342.
2- انظر : شرح المواقف 6 / 104.

المثال السابق ، قبل الكون وقبل السقوط ، وأمّا حينهما فهما غير مقدورين له في هذا الحين ..

وضرورة العقلاء حاكمة بذلك ، ودعوى الإجماع منّا ومنهم مع وضوح الكذب علينا غير غريبة!

* * *

ص: 352

الإنسان مريد لأفعاله

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المطلب الخامس : عشر في الإرادة

اشارة

ذهبت الإمامية وجميع المعتزلة إلى أنّ الإنسان مريد لأفعاله ، بل كلّ قادر فإنّه مريد ؛ لأنّها صفة تقتضي التخصيص ، وأنّها نفس الداعي (2).

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فأثبتوا صفة زائدة عليه (3).

وهذا من أغرب الأشياء وأعجبها ؛ لأنّ الفعل إذا كان صادرا عن اللّه تعالى ومستندا إليه ، وكان لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى ، فأيّ دليل حينئذ يدلّ على ثبوت الإرادة؟! وكيف يمكن ثبوتها لنا؟!

ص: 353


1- نهج الحقّ : 131.
2- الذخيرة في علم الكلام : 165 - 166 ، شرح جمل العلم والعمل : 92 - 93 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 97 - 98 ، المنقذ من التقليد 1 / 162 ، تجريد الاعتقاد : 199 ، المحيط بالتكليف : 232 ، شرح الأصول الخمسة : 324 - 347 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 344.
3- الإبانة عن أصول الديانة : 123 وما بعدها ، تمهيد الأوائل : 299 و 317 ، الملل والنحل 1 / 82 - 83 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 207 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 243 ، المسائل الخمسون : 52 و 53 ، شرح المقاصد 4 / 128 و 274 ، شرح العقائد النسفية : 124 - 125 ، شرح المواقف 8 / 44 - 45.

لأنّ طريق الإثبات هو أنّ القادر كما يقدر على الفعل ، كذا يقدر على الترك ، فالقدرة صالحة للإيجاد والترك ، وإنّما يتخصّص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التابع.

فالمذهب الذي اختاروه لأنفسهم سدّ عليهم ما علم وجوده بالضرورة ، وهو القدرة والإرادة.

فلينظر العاقل المنصف من نفسه ، هل يجوز له اتّباع من ينكر الضروريات ويجحد الوجدانيات؟!

وهل يشكّ عاقل في أنّه قادر مريد ، وأنّه فرق بين حركاته الإرادية وحركة الجماد؟!

وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربّه؟!

وهل تتمّ له المحاجّة عند اللّه تعالى بأنّي اتّبعت هؤلاء ، ولا يسأل يومئذ كيف قلّدت من تعلم بالضرورة بطلان قوله؟!

وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز مطلقا؟!

فكيف لأمثال هؤلاء؟!

فما يكون جوابه غدا لربّه؟!

وما علينا إلّا البلاغ المبين!

وقد طوّلنا في هذا الكتاب ليرجع الضالّ عن زلله ، ويستمرّ المستقيم على معتقده.

* * *

ص: 354

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذا المطلب لا يتحصّل مقصوده من عباراته الركيكة ، والظاهر أنّه أراد أنّ الأشاعرة لا يقدرون على إثبات صفة الإرادة ؛ لأنّ إسناد الفعل إلى اللّه تعالى ، وأنّه لا مؤثّر إلّا هو ، يوجب عدم إثبات صفة الإرادة.

وقد علمت في ما سلف بطلان هذا ، فإنّ وجود القدرة والإرادة في العبد معلوم بالضرورة ، وكونهما غير مؤثّرتين في الفعل لا يوجب عدم ثبوتهما في العبد - كما مرّ مرارا - واللّه أعلم.

وما ذكره من الطامّات قد كرّره مرّات ، ومن كثرة التطويل الذي كلّه حشو حصل له الخجل ، وما أحسن ما قلت في تطويلاته شعرا :

لقد طوّلت والتطويل حشو *** وفي ما قلته نفع قليل

وقالوا الحشو لا التطويل لكن *** كلامك كلّه حشو طويل

* * *

ص: 355


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 161.

وأقول :

لم يخف على المصنّف أنّ وجود القدرة والإرادة في العبد ضروري ، كيف وقد صرّح به هنا ، وصرّح في ما سبق بأنّهما مؤثّران بالضرورة؟!

ولكن لمّا علم من حالهم أنّهم يكابرون الضرورة ، ويطالبون بإقامة الأدلّة على الأمور البديهية ، كما كابروا في أمر تأثيرهما وفي غيره من الأمور السابقة ، جرى على منوالهم في المقام ، وألزمهم بعدم وجود الدليل على وجود القدرة والإرادة ، بناء على مذهبهم من كون المؤثّر هو اللّه تعالى وحده ، بل يلزمهم الحكم بعدم وجود الإرادة ، إذ لا يتصوّر وجه حاجة إليها غير تخصيص أحد الطرفين المقدورين.

فإذا منعوا صلاحية القدرة للطرفين وقالوا : إنّها هي المخصّصة لأحدهما ، لم يكن معنى لتخصيص الإرادة ، فيلزمهم نفي وجود ما علم وجوده بالضرورة ، وينسدّ طريق ثبوته ، لا سيّما واللّه سبحانه لا يفعل العبث.

ودعوى الأشاعرة ترتّب التكليف والثواب والعقاب على وجودها المجرّد عن التأثير ، قد عرفت بطلانها.

وأمّا ما نسبه إلى المصنّف من الطامّات ، وإيراد الحشو في العبارات ، فهو موكول إلى المنصف.

وكفاك في معرفة تضلّعه في البيان وسموّ مداركه ، ما سمّاه شعرا واستحسنه من هذين البيتين ونحوهما!!

* * *

ص: 356

المتولّد من الفعل من جملة أفعالنا

اشارة

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

المطلب السادس عشر : في المتولّد

اشارة

ذهبت الإمامية إلى أنّ المتولّد من أفعالنا [ مستند إلينا ] (2).

وخالفت أهل السنّة في ذلك ، وتشعّبوا في ذلك ، وذهبوا كلّ مذهب.

فزعم معمّر (3) : إنّه لا فعل للعبد إلّا الإرادة ، وما يحصل بعدها فهو

ص: 357


1- نهج الحقّ : 132.
2- أوائل المقالات : 103 ، الذخيرة في علم الكلام : 73 ، شرح جمل العلم والعمل : 92 ، تقريب المعارف : 108 ، تجريد الاعتقاد : 200.
3- هو : أبو عمرو - أو : أبو المعتمر - معمّر بن عبّاد البصري السلمي ، مولاهم العطّار ، المتكلّم المعتزلي ، المتوفّى سنة 215 ه ، تفرّد بمقالات أنكرها عليه معتزلة البصرة ففرّ إلى بغداد ، وكان يقول : « في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ، ولا لها عند اللّه عدد ولا مقدار » ، وكان بينه وبين النظّام مناظرات ومنازعات ، له عدّة تصانيف ، منها : كتاب المعاني ، كتاب الاستطاعة ، كتاب الجزء الذي لا يتجزّأ والقول بالأعراض والجواهر. أنظر ترجمته في : الفهرست - للنديم - : 289 ، سير أعلام النبلاء 546/10 رقم 176 ، طبقات المعتزلة : 54.

من طبع المحلّ (1).

وقال بعض المعتزلة (2) : لا فعل للعبد إلّا الفكر (3).

وقال النظّام : لا فعل للعبد إلّا ما يوجد في محلّ قدرته ، وما يجاورها فهو واقع بطبع المحلّ (4).

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ المتولّد من فعل اللّه تعالى (5).

وقد خالف الكلّ ما هو معلوم بالضرورة عند كلّ عاقل ..

فإنّا نستحسن المدح والذمّ على المتولّد كالمباشر ، كالكتابة والبناء والقتل ، وغيرها.

وحسن المدح والذمّ فرع على العلم بالصدور عنّا ، ومن كابر في حسن مدح الكاتب والبنّاء المجيدين في صنعتهما ، البارعين فيها ، فقد كابر مقتضى عقله (6).

* * *

ص: 358


1- المغني - للقاضي عبد الجبّار - 9 / 11 وفيه أنّه قول ثمامة بن الأشرس والجاحظ أيضا حكاية عن أبي القاسم البلخي في كتاب « المقالات » ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 87 ، الملل والنحل 1 / 59 ، شرح المقاصد 4 / 271 - 272.
2- هو ثمامة بن الأشرس النميري.
3- المغني - للقاضي عبد الجبّار - 9 / 11 ، الفرق بين الفرق : 157 - 158 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 61 - 62 ، شرح المقاصد 4 / 272.
4- المغني - للقاضي عبد الجبّار - 9 / 11 ، الملل والنحل 1 / 49 ، شرح المقاصد 4 / 272 ، شرح المواقف 8 / 160.
5- تمهيد الأوائل : 334 - 335 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 290 ، المواقف : 316 ، شرح العقائد النسفية : 151 ، شرح المقاصد 4 / 271.
6- راجع : الذخيرة في علم الكلام : 73 - 75 ، تقريب المعارف : 108 - 109.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم ، ورأوا فيها ترتّبا ، قالوا بالتوليد ، وهو أن يوجد فعل لفاعله فعلا آخر ، نحو حركة اليد وحركة المفتاح.

والمعتمد في إبطال التوليد عند الأشاعرة استناد جميع الكائنات إلى اللّه تعالى ابتداء.

وأمّا ترتّب المدح والذمّ للعبد ؛ فلأنّه محلّ للفعل ومباشر وكاسب له.

وكذا ما يترتّب على فعله (2) وإن أحدثه اللّه تعالى بقدرته ، فلا يلزم مخالفة الضرورة كما مرّ مرارا.

* * *

ص: 359


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 165.
2- تقدّم في الهامش رقم 5 من الصفحة السابقة.

وأقول :

فيه ما عرفت أنّه لا يصحّ إسناد جميع أفعال العباد إلى اللّه سبحانه ، وأنّ الكسب لا يغني في دفع شيء من الإشكالات السابقة ، إذ لا أثر للعبد فيه كأصل الفعل ، لاستناد جميع الكائنات عندهم إلى اللّه سبحانه.

وحينئذ فلا محلّ لمدح العبد وذمّه على المتولّد بطريق أولى ؛ لأنّه فعل اللّه تعالى بلا أثر للعبد فيه أصلا عندهم.

* * *

ص: 360

التكليف سابق على الفعل

اشارة

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

المطلب السابع عشر : في التكليف

اشارة

لا خلاف بين المسلمين في أنّ اللّه تعالى كلّف عباده فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، وأنّ التكليف سابق على الفعل (2).

وقالت الأشاعرة ها هنا مذهبا غريبا عجيبا! وهو : إنّ التكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله (3).

وهذا يلزم منه محالات ..

* * *

ص: 361


1- نهج الحقّ : 133.
2- شرح الأصول الخمسة : 410 - 411 ، تقريب المعارف : 123 ، تجريد الاعتقاد : 203.
3- التقريب والإرشاد 2 / 290 - 292 ، المحصول في علم أصول الفقه 1 / 335 ، الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 1 / 127 ، فواتح الرحموت 1 / 134 - 135.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

لمّا ذهبت الأشاعرة إلى أنّ القدرة مع الفعل ، والتكليف لا يكون إلّا حال القدرة (2) ، فيلزم أن يكون التكليف مع الفعل ، وهذا شيء لزم من القول الأوّل.

* * *

ص: 362


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 166.
2- التقريب والإرشاد 2 / 290 - 292 ، المحصول في علم أصول الفقه 1 / 335 وما بعدها ، الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 1 / 127 ، فواتح الرحموت 1 / 134 - 135.

وأقول :

قد عرفت بطلان اللزوم (1) فيلزمه بطلان اللازم ، على أنّ اللزوم ممنوع ؛ لأنّ توقّف صحّة التكليف على القدرة لا يستدعي إلّا تحقّق القدرة على الفعل في وقته لا في وقت التكليف ، فلا يتمّ القول بأنّ التكليف مع الفعل.

* * *

ص: 363


1- انظر الصفحة 345 - 346.

قال المصنّف - قدّس اللّه سرّه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه سرّه - (1) :

الأوّل : أن يكون التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ الفعل حال وقوعه يكون واجبا ، والواجب غير مقدور.

* * *

ص: 364


1- نهج الحقّ : 133.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

لا نسلّم أنّ الواجب غير مقدور مطلقا ، بل ما أوجبته القدرة الحادثة مقدور لتلك القدرة التي أوجبته.

وكذلك فعل العبد بعد الحصول ، فيكون مقدورا ، وإذا صار مقدورا تعلّق به التكليف ولا محذور فيه.

* * *

ص: 365


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 166.

وأقول :

لا ريب أنّ المقدور لا يبقى على المقدوريّة حين عروض الوجوب عليه وإن كان وجوبه بالقدرة ، إذ لو بقي مقدورا لم يصر واجبا ، فإذا فرض تعلّق التكليف بالفعل حين وقوعه ، فقد تعلّق به وهو واجب غير مقدور ، وهو محال ، ومجرّد مقدوريّته بالذات لا تسوّغ التكليف به وهو في حال الوجوب.

ولو سلّم بقاؤه على المقدوريّة ، فلا ريب أنّ التكليف بالشيء محركّ وباعث عليه ، والموجود لا يتصوّر التحريك نحوه ، وكما لا يجوز التكليف بالشيء بعد وقوعه وإن كان مقدورا في نفسه ، لا يجوز التكليف به حين وقوعه.

* * *

ص: 366

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

الثاني : يلزم أن لا يكون أحد عاصيا ألبتّة ؛ لأنّ العصيان مخالفة الأمر ، فإذا لم يكن الأمر ثابتا إلّا حالة الفعل ، وحال العصيان هو حال عدم الفعل ، فلا يكون مكلّفا حينئذ وإلّا لزم تقدّم التكليف على الفعل ، وهو خلاف مذهبهم.

لكن العصيان ثابت بالإجماع ونصّ القرآن ..

قال اللّه تعالى : ( أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (2) ..

( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ) (3) ..

( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) (4) ..

ويلزم انتفاء الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة أيضا.

فلينظر العاقل من نفسه ، هل يجوز لأحد تقليد هؤلاء الّذين طعنوا في الضروريات؟!

فإنّ كلّ عاقل يسلّم بالضرورة من دين محمّد صلی اللّه علیه و آله أنّ الكافر عاص ، وكذا الفاسق .. ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (5).

فأيّ سداد في هذا القول المخالف لنصوص القرآن؟!

ص: 367


1- نهج الحقّ : 133.
2- سورة طه 20 : 93.
3- سورة الكهف 18 : 69.
4- سورة يونس 10 : 91.
5- سورة الأحزاب 33 : 70 و 71.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الأمر عندنا أزلي ، فكيف ينسب إلينا أنّ الأمر عندنا لم يكن ثابتا إلّا حالة الفعل؟!

وأمّا قوله : « حال العصيان حال عدم الفعل » ..

فنقول : ممنوع ؛ لأنّ الأمر إذا توجّه إلى المكلّف وتعلّق به ، فهو إمّا أن يفعل المأمور به ، أو لا يفعل ، فإن فعل المأمور به فهو مطيع ، وإن فعل غيره فهو عاص.

فالطاعة والعصيان يكونان مع الفعل ، والتكليف حاصل معه ، فكيف يصحّ أن يقال : إنّ العصيان حال عدم الفعل ، والعصيان صفة الفعل ، وحاصل معه؟!

والحاصل : إنّ عصيان الأمر مخالفته ، وإذا صدر الفعل عن المكلّف ، فإن وافق الأمر فهو طاعة ، وإن خالفه فهو عصيان.

فالعصيان حاصل حال الفعل ، ولا يلزم أصلا من هذا الكلام أن لا يكون العصيان ثابتا.

وأمّا قوله : « والعصيان ثابت » ، وإقامة الدليل على هذا المدّعى ، فهو من باب طامّاته ، وإقامته الأدلّة الكثيرة على مدّعى ضروري في الشرع متّفق عليه.

ص: 368


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 167.

وأقول :

نعم ، لمّا كان الأمر عندهم أزليا وجب أن يكون الأمر سابقا على الفعل ، فينا في قولهم بأنّ الأمر مع الفعل ، وليس علينا أن ندفع هذه المنافاة.

ودعوى أنّ الأمر أزلي وتعلّقه حادث لو صحّت لا تدفع المنافاة ، ما دام الأمر بنفسه ثابتا في الأزل كما زعموه.

ولا يمكن إنكار قولهم بأنّ الأمر مع الفعل ، بدليل ما تكلّفوه من الأجوبة عن المحالات التي ذكرها المصنّف ، فإنّهم لو ذهبوا إلى أنّ التكليف قبل الفعل لما لزمهم شيء من المحالات ، وما احتاجوا إلى تكلّف تلك الأجوبة الواهية ، التي منها ما أجاب به عن قول المصنّف رحمه اللّه : « حال العصيان حال عدم الفعل ».

وحاصله : إنّ المكلّف فاعل حال عصيانه فعلا آخر مقارنا لترك المأمور به ، فيكون العصيان حال الفعل ، وهذا مبنيّ على أنّ مرادهم بالفعل في قولهم : « التكليف مع الفعل » هو الأعمّ من فعل المأمور به وفعل ضدّه ، لزعمهم أنّ القدرة المعتبرة في التكليف هي القدرة على الشيء أو ضدّه.

وفيه : إنّهم لو أرادوا الأعمّ لا خصوص الفعل المأمور به ، لما احتاجوا إلى كلفة الجواب عن المحالات الأخر ؛ لأنّ المأمور متلبّس قبل فعل المأمور به بفعل ضدّه ، فيكون التكليف مع الفعل - أي : فعل الضدّ - وقبل فعل المأمور به ، فلا يكون تكليفا بالواجب ، ولا طلبا لتحصيل الحاصل.

فتكلّفهم بالجواب عن هذين المحالين دليل على أنّ مرادهم بالفعل

ص: 369

هو خصوص فعل المأمور به ، فيبطل ما أجاب به الخصم.

هذا ، واعلم أنّ كلام المصنّف إنّما هو في عصيان الأمر كما هو صريح كلام الخصم.

وإنّما خصّ المصنّف الإشكال به دون عصيان النهي ؛ لأنّه في مقام الردّ على قولهم : « التكليف مع الفعل ».

ومن المقرّر أنّ التكليف في النهي إنّما هو بالترك ؛ لأنّه طلب الترك ، فيكون التكليف معه لا مع الفعل ، لاعتبار القدرة على المكلّف به ، وزعمهم أنّ القدرة على الشيء معه.

وحينئذ فتقرير الإشكال على كون التكليف مع الترك هكذا : إنّ عصيان النهي مخالفته ، فإذا لم يكن النهي ثابتا إلّا حالة الترك ، وحال العصيان هي حال فعل المنهيّ عنه ، لم يكن مكلّفا حينئذ ، وإلّا لزم ثبوت النهي لا مع الترك ، وإذا لم يكن منهيّا حين فعل المنهي عنه ، لم يكن عاصيا ..

ويمكن أن يدّعي أنّ النهي متعلّق بالفعل بنحو الزجر عنه ، فيكون التكليف مطلقا على زعمهم مع الفعل ، ويكون تخصيص المصنّف للإشكال بعصيان الأمر ؛ لاختصاصه به.

وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف في إقامته الأدلّة على ثبوت العصيان قد أقامها على مدّعى ضروريّ ، فصحيح ، لكنّه أراد بها التشنيع عليهم باستلزام مذهبهم لمخالفة الضروري الثابت بالإجماع ونصّ الكتاب!

* * *

ص: 370

قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - :

قال المصنّف - رفع اللّه منزلته - (1) :

الثالث : لو كان التكليف حالة الفعل خاصّة لا قبله ، لزم : إمّا تحصيل الحاصل ، أو : مخالفة التقدير ، والتالي باطل بقسميه بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : إنّ التكليف إمّا أن يكون بالفعل الثابت حالة التكليف ، أو بغيره.

والأوّل : يستلزم تحصيل الحاصل.

والثاني : يستلزم تقدّم التكليف على الفعل.

وهو خلاف الفرض ، وأيضا هو المطلوب ، وأيضا يستلزم التكرار.

* * *

ص: 371


1- نهج الحقّ : 134.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

نختار أنّ التكليف بالفعل الثابت حالة التكليف.

قوله : « يستلزم تحصيل الحاصل ».

قلنا : تحصيل الحاصل بهذا التحصيل ليس بمحال ، وها هنا كذلك ؛ لأنّ التكليف وجد مع القدرة والفعل ، فهو حاصل بهذا التحصيل فلا محذور.

* * *

ص: 372


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 169.

وأقول :

قد تكرّر هذا الجواب في كلماتهم ، وهو من الغرائب ؛ لأنّ الحصول المطلوب لا بدّ أن ينبعث عن الطلب.

فلو كان الحصول مقارنا للطلب ومطلوبا به ، لزم إعادة نفس الحصول ليتصوّر الانبعاث عن الطلب ، فيلزم تحصيل الحاصل وإعادته بعينه ، وهو محال.

* * *

ص: 373

ص: 374

شرائط التكليف

اشارة

قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :

المطلب الثامن عشر : في شرائط التكليف

اشارة

ذهبت الإماميّة إلى أنّ شرائط التكليف ستّة :

الأوّل : وجود المكلّف ؛ لامتناع تكليف المعدوم ، فإنّ الضرورة قاضية بقبح أمر الجماد ، وهو إلى الإنسان أقرب من المعدوم (2).

وقبح أمر الرجل عبيدا يريد أن يشتريهم وهو في منزله وحده ، ويقول : يا سالم قم ، ويا غانم كل ، ويعدّه كلّ عاقل سفيها ، وهو إلى الإنسان الموجود أقرب.

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا تكليف المعدوم ومخاطبته والإخبار عنه (3) ، فيقول اللّه في الأزل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا

ص: 375


1- نهج الحقّ : 134.
2- التذكرة بأصول الفقه : 32 ، الغيبة - للطوسي - : 15 ، العدّة في أصول الفقه 1 / 251.
3- التقريب والإرشاد 2 / 298 وما بعدها ، المستصفى من علم الأصول 1 / 85 ، المحصول في علم أصول الفقه 1 / 328 ، الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 1 / 131 ، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل : 44 ، فواتح الرحموت 1 / 146 - 147.

رَبَّكُمُ ) (1) ، ولا شخص هناك ..

ويقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (2) ، ولا نوح هناك.

وهذه مكابرة في الضرورة.

* * *

ص: 376


1- سورة البقرة 2 : 21.
2- سورة نوح 71 : 1.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت جواب هذا في مبحث إثبات الكلام النفساني ، وأنّ الخطاب موجود في الأزل قبل وجود المخاطبين بحسب الكلام النفساني (2) ، ويحدث التعلّق عند وجودهم.

ولا قبح في هذا ، فإنّ من زوّر في نفسه كلاما ليخاطب به العبيد الّذين يريد أن يشتريهم بأن يخاطبهم بعد الشراء لا يعدّ سفيها.

ثمّ ما ذكر أنّ الأشاعرة جوّزوا تكليف المعدوم ، فهذا ينافي ما أثبته في الفصل السابق أنّهم يقولون : إنّ التكليف مع الفعل ، وليس قبله تكليف.

فإذا كان وجود التكليف عند الأشاعرة مع الفعل ، فهل يجوز عندهم أن يقولوا بتكليف المعدوم؟!

* * *

ص: 377


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 172.
2- راجع ج 2 / 237 و 244 - 245.

وأقول :

تقدّم في ذلك المبحث أنّ خطاب المعدوم وتكليفه سفه بالضرورة ، إذ لا يصحّان من دون مخاطب ومكلّف ، ولا أثر لحدوث التعلّق لو عقلنا التعلّق (1).

والقياس على من زوّر في نفسه كلاما ، خطأ ظاهر ؛ لأنّ المزوّر ليس بمخاطب ، وإنّما هو متصوّر ومقدّر لخطاب في المستقبل ، فلا يقاس عليه الكلام النفسي الذي هو خطاب وتكليف في الأزل.

وأمّا ما ذكره من المنافاة ، فقد عرفت أنّه ليس على المصنّف رفع التنافي عن أقوالهم ، وكيف يمكن إنكارهم لتكليف المعدوم وقد قالوا : إنّه مأمور ومنهي في الأزل؟!

* * *

ص: 378


1- راجع ج 2 / 238 و 246.

قال المصنّف - طاب رمسه - :

قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :

الثاني : كون المكلّف عاقلا ؛ فلا يصحّ تكليف الرضيع ، ولا المجنون المطبق (2).

وخالفت الأشاعرة في ذلك وجوّزوا تكليف هؤلاء (3).

فلينظر العاقل هل يحكم عقله بأن يؤاخذ المولود حال ولادته بالصلاة وتركها ، وترك الصوم والحجّ والزكاة ، وهل يصحّ مؤاخذة المجنون المطبق على ذلك؟!

* * *

ص: 379


1- نهج الحقّ : 135.
2- شرح جمل العلم والعمل : 100 ، الذخيرة في علم الكلام : 121 ، تقريب المعارف : 129 ، المنقذ من التقليد 1 / 253.
3- ذكر ذلك الباقلّاني عن بعض الفقهاء ؛ انظر : التقريب والإرشاد 1 / 240 و 243 - 244.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ القلم مرفوع عن الصبيّ حتّى يبلغ الحلم ، وعن المجنون حتّى يفيق (2).

وما ذكره افتراء عليهم محض ، كما هو عادته في الافتراء والكذب والاختراع.

* * *

ص: 380


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 173.
2- انظر : التقريب والإرشاد 1 / 236.

وأقول :

ما نسبه المصنّف إليهم هو تجويز تكليف غير العاقل ، وما نقله الخصم هو عدم الوقوع ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يمكن إنكار تجويزهم ذلك ؛ لأنّهم يجوّزون تكليف ما لا يطاق ؛ وهذا نوع منه.

ويقولون : إنّ اللّه يحكم ما يريد ، ولا يقبح منه شيء (1) ، فيجوز أن يكلّف من لا عقل له ، ويعاقبه على المخالفة.

على أنّه قد نقل عنهم السيّد السعيد ما يدلّ على أنّهم يقولون بالوقوع (2).

ولا يهمّنا أمره بعد كون ما نسبه المصنّف إليهم هو التجويز.

* * *

ص: 381


1- راجع : الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 154 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 332 و 345 ، المواقف : 330 ، شرح المقاصد 4 / 294.
2- إحقاق الحقّ 2 / 174.

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

الثالث : فهم المكلّف ؛ فلا يصحّ تكليف من لا يفهم الخطاب قبل فهمه (2).

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فلزمهم التكليف بالمهمل وإلزام المكلّف معرفته ومعرفة المراد منه ، مع أنّه لم يوضع لشيء ألبتّة ، ولا يراد منه شيء أصلا (3).

فهل يجوز للعاقل أن يرضى لنفسه المصير إلى هذه الأقاويل؟!

* * *

ص: 382


1- نهج الحقّ : 135.
2- العدّة في أصول الفقه 2 / 451 وما بعدها.
3- انظر : تفسير الفخر الرازي 2 / 13 ، الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 1 / 144 ، فواتح الرحموت 1 / 143 - 144.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّه لا يصحّ خطاب المكلّفين بما لا يفهمونه ممّا يتعلّق بالأمر والنهي (2).

وما لا يتعلّق به اختلف فيه .. فذهب جماعة منهم إلى جواز المخاطبة بما لا يفهمه المكلّف ، كالمقطّعات في أوائل السور (3) ، ولكن ليس هذا مذهب العامّة.

* * *

ص: 383


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 175.
2- راجع ما مرّ في الصفحة السابقة ، الهامش 3.
3- تفسير الفخر الرازي 2 / 13.

وأقول :

كيف لا تصحّ نسبة المصنّف إليهم صحّة تكليف من لا يفهم الخطاب ، وقد زعموا أنّ اللّه يحكم ما يريد ولا يقبح منه شيء (1)؟!

وأمّا ما نقله الخصم ، فالظاهر أنّه في الوقوع لا الجواز ، كما يرشد إليه تفصيلهم.

وتمثيل المجوّز للثاني بما زعم وقوعه ، وهو المقطّعات كما نقله الخصم ، وإلّا فبالنظر إلى الجواز العقلي وعدمه لا وجه للتفصيل.

* * *

ص: 384


1- انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 154 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 332 و 345 ، المواقف : 330 ، شرح المقاصد 4 / 294.

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

الرابع : إمكان الفعل إلى المكلّف ؛ فلا يصحّ التكليف بالمحال (2).

وخالفت الأشاعرة فيه ، فجوّزوا تكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتكليف العاجز خلق مثل اللّه تعالى وضدّه وشريكه وولد له ، وأن يعاقبه على ذلك ، وتكليفه الصعود على السطح العالي بأن يضع رجلا في الأرض ورجلا على السطح (3).

وكفى من ذهب إلى هذا نقصا في عقله ، وقلّة في دينه ، وجرما عند اللّه تعالى ، حيث نسبه إلى إيجاد ذلك ، بل مذهبهم أنّه تعالى لم يكلّف أحدا إلّا بما لا يطاق.

أو ترى ما يكون جواب هذا القائل إذا وقف بين يدي اللّه تعالى وسأله : كيف ذهبت إلى هذا القول وكذّبت القرآن العزيز ، وإنّ فيه : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (4).

* * *

ص: 385


1- نهج الحقّ : 135.
2- شرح جمل العلم والعمل : 98 - 99 ، الذخيرة في علم الكلام : 100 - 101 و 121 ، تقريب المعارف : 112 و 128 ، تجريد الاعتقاد : 203.
3- انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 98 - 101 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 140 و 163 ، المواقف : 330 - 331.
4- سورة البقرة 2 : 286.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت في الفصل الذي ذكر فيه « تكليف ما لا يطاق » ، أنّ ما لا يطاق على ثلاث مراتب ، ولا يجوز التكليف بالوسطى دون الثالث.

والأوّل واقع بالاتّفاق ، كتكليف أبي لهب بالإيمان وهذا بحسب التجويز العقلي ، والاستقراء يحكم بأنّ التكليف بما لا يطاق لم يقع ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (2) ، وهذا مذهب الأشاعرة (3).

والعجب من هذا الرجل أنّه يفتري الكذب ثمّ يعترض عليه ، فكأنّه لم يتّفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة ، وسمع عقائدهم من مشايخه من الشيعة وتقرّر بينهم أنّ هذه عقائد الأشاعرة.

ثمّ لم يستح من اللّه تعالى ومن الناظر في كتابه ، وأتى بهذه الترّهات والمزخرفات.

* * *

ص: 386


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 176.
2- سورة البقرة 2 : 286.
3- تقدّم في الصفحة 99 - 100 من هذا الجزء.

وأقول :

سبق هناك بيان ما في دعوى الاتّفاق على وقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى.

وحقّقنا أنّا لا نجوّزه بالمراتب كلّها ، وأنّهم يجوّزونه فيها جميعا.

وأوضحنا المقام في تكليف أبي لهب بالإيمان.

وذكرنا أنّ اللّه سبحانه لم يكلّف عندهم إلّا بما لا يطاق ؛ لأنّ أفعال العباد مخلوقة له ولا أثر للعبد فيها ، فكلّها لا تطاق للعبد ولا ممّا يسعه (1) ، ومع ذلك قد كلّفه اللّه سبحانه بها ، فيكون قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (2) كاذبا على مذهبهم ، كما ذكره المصنّف ولم يجهله الخصم ، ولكنّه قصد بتكذيب المصنّف وإساءة الأدب معه والتجاهل بمذهبه ، التمويه وتلبيس الحقيقة.

* * *

ص: 387


1- تقدّم في الصفحة 101 - 104 من هذا الجزء.
2- سورة البقرة 2 : 286.

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

الخامس : أن يكون الفعل ما يستحقّ به الثواب (2) ، وإلّا لزم العبث والظلم على اللّه تعالى.

وخالفت الأشاعرة فيه ، فلم يجعلوا الثواب مستحقّا على شيء من الأفعال ، بل جوّزوا التكليف بما يستحقّ عليه العقاب (3) ، وأن يرسل رسولا يكلّف الخلق فعل جميع القبائح وترك جميع الطاعات.

فيلزمهم من هذا أن يكون المطيع المبالغ في الطاعة من أسفه الناس وأجهل الجهلاء ، من حيث يتعب بماله وبدنه في فعله شيئا ربّما يكون هلاكه فيه.

وأن يكون المبالغ في المعصية والفسوق أعقل العقلاء حيث يتعجّل اللذّة ، وربّما يكون تركها سبب الهلاك وفعلها سبب النجاة.

فكان وضع المدارس والرّبط (4) والمساجد من نقص التدبيرات البشرية ، حيث تخسر الأموال في ما لا نفع فيه ولا فائدة عاجلة ولا آجلة.

ص: 388


1- نهج الحقّ : 136.
2- انظر : الذخيرة في علم الكلام : 112 و 131 ، تقريب المعارف : 119 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 112.
3- التقريب والإرشاد 1 / 266 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 140.
4- الرّبط : الخيل تربط بالأفنية وتعلف ، ورباط الخيل مرابطتها في الثغور لصدّ الأعداء ؛ وواحد الرّبط : الرّبيط ، وجمع الرّبط : الرّباط ، وهو جمع الجمع. أنظر مادّة «ربط» في : لسان العرب 112/5 ، تاج العروس 259/10 - 262.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

شرط الفعل الذي يقع به التكليف أن يكون ممّا يترتّب عليه الثواب في عادة اللّه تعالى ، لا أنّه يجب على اللّه تعالى إثابة المكلّف المطيع ؛ لأنّه لا يجب عليه شيء ، بل جرى عادة اللّه تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح ، وليس للمكلّفين على اللّه تعالى دين يجب عليه قضاؤه.

ولو كان إلّا كذلك ، للزم أن يكون العباد متاجرين مع اللّه تعالى ، كالأجراء الّذين يأخذون أجرتهم عند الفراغ من العمل ، ولو لم يعط المؤجّر أجرتهم لكان ظالما وجائرا.

وهذا مذهب باطل لا يذهب إليه من يعرف نعم اللّه تعالى على عباده ، ويعرف علوّ الشأن الإلهي ، وأنّ الناس كلّهم عبيد اللّه ، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لهم عليه حقّ ولا استحقاق ، بل الثواب بفضله وجرى عادته أن يعطي العبد المطيع عقيب طاعته ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز.

وهل يحسن أن يقال : إنّه إذا لم يجب على اللّه تعالى إعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، تموت الناس من الجوع؟!

كذلك لا يحسن أن يقال : لو لم يجب على اللّه تعالى إثابة المطيع وجزاء العاصي ، لارتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، ولكان فعل الخيرات وإثارة المبرّات ضائعا عبثا؟!

ص: 389


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 177.

لأنّا نقول : جرت عادة اللّه تعالى التي لا تتخلّف إلّا بسبيل خرق العادة على إعطاء الثواب للمطيع من غير أن يجب عليه شيء.

فلم يرتفع الفرق بين المطيع والعاصي ، كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز ، فهل يكون من أكل الخبز فشبع ، كمن ترك أكل الخبز فجاع؟!

* * *

ص: 390

وأقول :

قد سبق أنّ الثواب غيبي ، فلا تصحّ دعوى العلم بالعادة فيه ..

وأمّا إحرازها بإخبار اللّه تعالى ، فغير تامّ ؛ لابتنائه على صدق كلامه تعالى ، وهو غير محقّق على مذهبهم!

مع أنّه قال تعالى : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) (1) ، ولعلّ ما أخبر به من الثواب ممّا يمحوه.

فأين العادة في الثواب وإحرازها؟! لا سيّما وقد أجاز الخصم خرقها كما هو واقع في عادات الدنيا.

وأمّا ما ذكره من نفي كون الثواب دينا على اللّه تعالى ، فنحن نمنعه ونقول : إنّه دين ، أي إنّه حقّ عليه اقتضاه عدله.

وأمّا كون العباد متاجرين مع اللّه تعالى ، فهو ممّا نطق به الكتاب العزيز ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) (2) ..

وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )

إلى قوله تعالى : ( فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ) (3) ..

ص: 391


1- سورة الرعد 13 : 39.
2- سورة فاطر 35 : 29 و 30.
3- سورة التوبة 9 : 111.

وقال تعالى : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ... ) (1) الآية ..

( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) (2) ..

( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) (3) ..

( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) (4) ..

( إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ ) (5) ..

( فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) (6).

إلى غير ذلك من الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة.

وأمّا قوله : « لو لم يعط المؤجّر أجرتهم كان ظالما وجائرا » ..

فهو من مقالة أهل الحقّ التي صرّح بها الكتاب المجيد ، قال تعالى :

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (7).

وقال تعالى : ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) (8).

وقال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ

ص: 392


1- سورة الصفّ 61 : 10 و 11.
2- سورة الكهف 18 : 30.
3- سورة الأعراف 7 : 170.
4- سورة آل عمران 3 : 136 ، سورة العنكبوت 29 : 58.
5- سورة آل عمران 3 : 185.
6- سورة آل عمران 3 : 57 ، سورة النساء 4 : 173.
7- سورة الأنفال 8 : 60.
8- سورة النساء 4 : 124.

نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (1).

وقال تعالى : ( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (2).

وقال تعالى : ( وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (3).

وقال تعالى : ( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (4).

وقال تعالى : ( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (5).

إلى غير ذلك من الآيات المستفيضة.

وأمّا قوله : « لا يذهب إليه من يعرف نعم اللّه على عباده » ..

فإن أراد به أنّ من يعرف نعمه لا يرى أنّه مستحقّ للأجر ، فظاهر البطلان ؛ لأنّ وجوب شكر المنعم لا ينافي استحقاق الأجر على ما كلّفه به المنعم ، وإن حسن من العبد أو وجب عليه عدم المطالبة بالأجر شكرا للنعمة.

وإن أراد أنّ حصول الإنعام من اللّه تعالى كاف في صحّة التكليف منه بلا إعطاء أجر ، ليكون التكليف ناشئا من طلب المنعم جزاء نعمه بالشكر عليها ، كما عن أبي القاسم البلخي (6) ، فهو أظهر بطلانا ؛ إذ يقبح من

ص: 393


1- سورة آل عمران 3 : 25.
2- سورة البقرة 2 : 272.
3- سورة الجاثية 45 : 22.
4- سورة النحل 16 : 111.
5- سورة الأحقاف 46 : 19.
6- انظر : شرح الأصول الخمسة : 617.

الكريم طلب جزاء نعمته من دون أن يعطيه ثوابا على ما كلّفه به ، بل يكون تكليفه بلا أجر عبثا وظلما!

ولو كان الثواب تفضّلا محضا ، لصحّ منع الثواب عن سيّد النبيّين أو مساواته فيه لسائر المؤمنين ، بل للأطفال والمجانين ، ولجاز خلق النار دون الجنّة.

وأمّا ما ذكره من مثال الموت من الجوع ؛ فإنّما لا يحسن السؤال فيه إذا ترتّب عليه فائدة للعبد ، أو كان جزاء عمله السيّئ ، وإلّا فيقبح إيلام العبد بلا فائدة له ولا ذنب منه ، ويصحّ السؤال عنه.

كما يصحّ السؤال عن ترك إثابة المطيع وجعله بمنزلة العاصي ، لكن مثل هذه الأمور ليست من فعله ولا تصدر عنه ، فلا يسأل عنها ؛ لانتفاء الموضوع.

* * *

ص: 394

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

السادس : أن لا يكون حراما ؛ لامتناع كون الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيّا عنه ؛ لاستحالة التكليف بما لا يطاق (2).

وأيضا : يكون مرادا ومكروها في وقت واحد من جهة واحدة ، وهذا مستحيل عقلا.

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا أن يكون الشيء الواحد مأمورا به منهيّا عنه ؛ لإمكان تكليف ما لا يطاق عندهم (3).

* * *

ص: 395


1- نهج الحقّ : 136.
2- التذكرة بأصول الفقه : 31 ، العدّة في أصول الفقه 1 / 181.
3- انظر : التقريب والإرشاد 1 / 246 - 247 و 260 ، تمهيد الأوائل : 320 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 140 ، فواتح الرحموت 1 / 110 - 111.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

لا خلاف في أنّ المأمور به لا بدّ أن لا يكون حراما ؛ لأنّ الحرام ما نهى اللّه عنه ..

ولا يكون الشيء الواحد مأمورا به ، منهيّا عنه ، في وقت واحد ، من جهة واحدة ، ولكن إن اختلف الوقت والجهة والشرائط التي اعتبرت في التناقض ، يجوز أن يتعلّق به الأمر في وقت من جهة ، والنهي في وقت آخر من جهة أخرى ؛ فهذا مذهب أهل السنّة.

وأمّا إمكان التكليف بما لا يطاق ، فقد سمعته غير مرّة ، وأنّه لا يقع ولم يقع.

* * *

ص: 396


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 181.

وأقول :

قد نصدّقه في ما يتعلّق بالوقوع ، بأن لم يقولوا بوقوع الأمر بالحرام.

ولكنّ كلام المصنّف في التجويز كما لا ينكره الخصم ، وكفاهم نقصا في تجويز مثله على اللّه سبحانه ، وهو ممّا لا يجوز على أقلّ العقلاء.

* * *

ص: 397

قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

ومن العجب أنّهم حرّموا الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك لم يوجبوا القضاء وقالوا : إنّها صحيحة (2).

مع أنّ الصحيح هو المعتبر في نظر الشارع ، وإنّما يطلق على المطلوب شرعا ، والحرام غير معتبر في نظر الشارع ، مطلوب الترك شرعا.

وهل هذا إلّا محض التناقض؟!

* * *

ص: 398


1- نهج الحقّ : 137.
2- المجموع - للنووي - 3 / 164.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الصلاة الصحيحة ما استجمعت شرائط الصحّة التي اعتبرت في الشرع ، فالصلاة في الدار المغصوبة صحيحة ؛ لأنّها مستجمعة لشرائط الصحّة التي اعتبرت في الصلاة في الشرع ، وليس وقوعها في مكان مملوك غير مغصوب من شرائط صحّة الصلاة .. نعم ، من شرائطها أن تقع في مكان طاهر من النجاسات.

ولو كان من شرائط الصحّة وقوعها في مكان غير مغصوب ، لكان الواقع في المكان المغصوب منها فاسدة ، وكان يجب قضاؤها ؛ لكونها غير معتبرة في نظر الشرع ؛ لعدم استجماعها الشرائط المعتبرة فيها.

وأمّا كونها حراما ، فلأجل أنّها تتضمّن الاستيلاء على حقّ الغير عدوانا ، فهي بهذا الاعتبار حرام ، فالحرمة باعتبار ، والصحّة باعتبار آخر ، فأين التناقض؟!

والعجب أنّه مشتهر بالدراية في المعقولات ، ولا يعلم شرائط حصول التناقض!

* * *

ص: 399


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 182.

وأقول :

إذا أقرّوا بحرمة الصلاة في الدار المغصوبة ، لزمهم الحكم بعدم اعتبارها شرعا ، لعدم مطلوبيّتها ، فلا تصحّ ؛ لأنّ العبادة الصحيحة هي المطلوبة للشارع ، المعتبرة في نظره.

وهذه عبارة أخرى عن كون إباحة المكان شرطا في صحّة الصلاة ، فإذا حكموا بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة ثبت التناقض ؛ لأنّه يكون هذا الوجود الشخصي للصلاة في الدار المغصوبة معتبرا وغير معتبر ، صحيحا وغير صحيح ، وهو تناقض ظاهر.

* * *

ص: 400

الإعواض على الآلام

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المطلب التاسع عشر : في الإعواض

اشارة

ذهبت الإمامية إلى أنّ الألم الذي يفعله اللّه تعالى بالعبد ، إمّا أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة ، وهو المستحقّ ؛ لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) ..

وقوله تعالى : ( أَ وَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (3) ، ولا عوض فيه.

وإمّا أن يكون على وجه الابتداء ، وإنّما يحسن فعله من اللّه تعالى بشرطين :

أحدهما : أن يشتمل على مصلحة مّا للمتألّم أو لغيره ، وهو نوع من اللطف ؛ لأنّه لو لا ذلك لكان عبثا ، واللّه تعالى منزّه عنه.

ص: 401


1- نهج الحقّ : 137.
2- سورة البقرة 2 : 65.
3- سورة التوبة 9 : 126.

الثاني : أن يكون في مقابلته عوض للمتألّم يزيد على الألم ، بحيث لو عرض على المتألّم الألم والعوض اختار الألم ، وإلّا لزم الظلم والجور من اللّه سبحانه على عبيده ؛ لأنّ إيلام الحيوان وتعذيبه على غير ذنب ولا لفائدة تصل إليه ظلم وجور ، وهو على اللّه تعالى محال (1).

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوّزوا أن يؤلم اللّه عبده بأنواع الألم من غير جرم ولا ذنب لا لغرض وغاية ولا يوصل إليه العوض ، ويعذّب الأطفال والأنبياء والأولياء من غير فائدة ولا يعوّضهم على ذلك بشيء ألبتّة (2) ، مع أنّ العلم الضروري حاصل لنا بأنّ من فعل من البشر مثل هذا عدّه العقلاء ظالما جائرا سفيها.

فكيف يجوز للإنسان نسبة اللّه تعالى إلى مثل هذه النقائص ولا يخشى ربّه؟!

وكيف لا يخجل منه غدا يوم القيامة إذا سألته الملائكة يوم الحساب :

هل كنت تعذّب أحدا من غير استحقاق ولا تعوّضه عن ألمه عوضا يرضى به؟!

فيقول : كلّا ، ما كنت أفعل ذلك.

فيقال له : كيف نسبت ربّك إلى هذا الفعل الذي لم ترضه لنفسك؟!

* * *

ص: 402


1- الذخيرة في علم الكلام : 239 ، تقريب المعارف : 137 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 150 ، المنقذ من التقليد 1 / 330.
2- اللمع في الرّد على أهل الزيغ والبدع : 115 - 116 ، تمهيد الأوائل : 382 - 385 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134 و 144 ، المواقف : 330.

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ الإعواض مذهب المعتزلة (2) ، ولهم على هذا الأصل اختلافات ركيكة تدلّ على فساد الأصل مذكورة في كتب القوم.

وأمّا الأشاعرة ، فذهبوا إلى أنّ اللّه تعالى لا يجب عليه شيء ، لا عوض على الألم ولا غيره ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ما يشاء ، والعوض إنّما يجب على من يتصرّف في غير ملكه (3).

نعم ، جرت عادة اللّه على أنّ المتألّم بالآلام إمّا أن يكفّر عنه سيّئاته ، أو يرفع له درجاته إن لم يكن له سيّئات ، ولكن لا على طريق الوجوب عليه.

وأمّا حديث العوض في أفعال اللّه تعالى ، فقد مرّ بطلانه في ما سبق.

وأمّا تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء ، ففيه فوائد ترجع إليهم ، من رفع الدرجات وحطّ السيّئات ، كما أشير إليه في الأحاديث الصحاح ، ولكن على سبيل جري العادة لا على سبيل الوجوب ، فلا يلزم منه جور ولا ظلم.

ثمّ ما ادّعى من العلم الضروري بأنّ البشر لو عذّب حيوانا بلا عوض لكان ظالما ، فهذا قياس فاسد ؛ لأنّ البشر يتصرّف في الحيوان بما ليس له ،

ص: 403


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع مع إحقاق الحقّ - 2 / 187.
2- انظر : شرح الأصول الخمسة : 494 وما بعدها.
3- انظر : تمهيد الأوائل : 384 ، الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - : 115 - 116 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 295 ، المواقف : 330 ، شرح المواقف 8 / 195 - 200.

واللّه تعالى مالك مطلق يتصرّف كيف يشاء.

ونحن لا نمنع وقوع الجزاء والمنافع ، ولكن نمنع وجوب هذا.

ونحن نقول : من يعتقد أنّ اللّه تعالى يجب عليه الإعواض عن الآلام ، إذا حضر يوم القيامة عند ربّه ، ورأى الجلال الإلهي ، والعظمة الربّانية ، والتصرّف المطلق الذي حاصل له في الملك والملكوت ، سيّما في موقف القيامة التي يقال فيها : ( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (1) ، أما يكون مستحييا من اللّه تعالى أن يعتقد في الدنيا أنّه مع اللّه تعالى كالتاجر العامل ، أعطى الأعمال والآن يريد جزاء الواجب على اللّه تعالى؟! فيدّعي على اللّه في ذلك المشهد : إنّك عذّبتني وآلمتني في الدنيا ، فالآن لا أخلّيك حتّى آخذ منك العوض ؛ لأنّه واجب عليك أن تعوّضني.

فيقول اللّه تعالى : يا عبد السوء! أنا خلقتك وأنعمت عليك كيت وكيت ، أتحسبني كنت متاجرا معك ، معاملا لك ، حتّى توجب عليّ العوض؟! أدخلوا العبد السوء النار.

فيقول : هكذا علّمني ابن المطهّر الحلّي ، وهو كان إمامي ، وأنا الآن بريء منه.

فيقول اللّه تعالى : أدخلوا جميعا النار! ( كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) (2).

واللّه أعلم ، وهو أصدق القائلين.

* * *

ص: 404


1- سورة غافر 40 : 16.
2- سورة البقرة 2 : 167.

وأقول :

كم للمعتزلة من أصل خالفوا فيه العقل والنقل! كقولهم : إنّ الإمامة بالاختيار(1).

وكم لهم من أصل دلّ عليه العقل والنقل كالأصل الذي نحن فيه! وذلك لأنّ لهم ميلا إلى طريقة أمير المؤمنين ، وهوى بموالاة أعدائه.

ولذا أصابوا الحقّ في أصل هذا الأصل ، وأخطأوا في كيفيّاته ، ولو فسد الأصل بالاختلاف في جهاته لفسد الإسلام باختلاف أهله.

والأشاعرة لما جانبوا باب مدينة العلم وخالفوه بتمام جهدهم ، لم يجتمعوا مع شيعة الحقّ في كلّ الأصول المهمّة ، ولم يأخذوا بما أمروا به من التمسّك بأهل بيت العصمة.

وممّا خالفوا فيه صريح الحقّ وحكم العقل والنقل ، هذا الأصل ، بحجّة أنّ المالك المطلق يجوز له التصرّف كيف شاء بلا حدّ ولا نهاية ، ولا يلزمه بتصرّفه شيء من الأشياء.

فإن أرادوا أنّ جواز تصرّفه كذلك نفس معنى الملكية المطلقة ، فهو ظاهر البطلان ؛ لأنّ الملكية سلطنة وأمر نسبي اعتباري.

وإن أرادوا به أنّه من أحكامها وآثارها ، فهو عين المدّعى ، ومحلّ الكلام.

وكيف يكون من أحكامها جواز تعذيب العبد بلا ذنب ، وإيلامه

ص: 405


1- انظر : شرح الأصول الخمسة : 753.

بلا عوض ، وهما منافيان لحقّ الرعاية وإنصاف المملوك؟!

فلا بدّ عقلا من ثبوت عوض عن الألم يرضى به العبد.

ولقوله تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (1) ، ومن الرحمة إعطاء العوض على الآلام ، فيكون ممّا كتبه وأوجبه على نفسه تعالى.

وممّا يشهد بضرورة حكم العقل بوجوب العوض ، تفريع الخصم خلافا لمذهبه قوله : « فلا يلزم منه جور ولا ظلم » على ما أثبته من الفوائد في تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء ، فإنّ تفريع ذلك على هذا يستدعي لزوم الجور والظلم بدون الفوائد ، وإلّا لم يكن محلّ للتفريع.

وأمّا ما ذكره من العادة التي هي غيب ، فقد عرفت ما فيه مرارا.

وأمّا قوله : « وأمّا حديث العوض في أفعال اللّه تعالى ، فقد مرّ بطلانه » ..

ففيه : إنّه لم يتقدّم ذكر العوض على أفعال اللّه تعالى - وهي الآلام - الذي عرّفه المتكلّمون بالنفع المستحقّ ، لا على وجه التعظيم والإجلال.

وإنّما تقدّم في الشرط الخامس للتكليف ذكر الثواب على أفعال العبد المكلّف بها ، الذي عرّفوه بالنفع المستحقّ على وجه التعظيم والإجلال (2) ، فكيف يزعم أنّ حديث العوض في أفعال اللّه تعالى - الذي وقع به كلام المصنّف هنا - قد مرّ بطلانه؟!

ولكنّه اشتبه عليه الأمر وخلط من حيث لا يعلم ، وعلى هذا الخلط جرى في قوله : « كالتاجر والعامل ، أعطى الأعمال والآن يريد جزاء الواجب

ص: 406


1- سورة الأنعام 6 : 54.
2- تقدّم في ردّ الفضل في الصفحة 389 من هذا الجزء.

على اللّه تعالى ، فيدّعي على اللّه في ذلك المشهد أنّك عذّبتني وآلمتني في الدنيا » ..

إذ لا ربط للآلام التي هي أفعال اللّه تعالى ، بأعمال العبد التي عملها ، ولا دخل لجزاء أحدهما بجزاء الآخر.

وأمّا قوله : « أما يكون مستحييا من اللّه تعالى أن يعتقد » ..

ففيه : إنّه لا حياء في اعتقاد الحقّ الذي دلّ عليه العقل وصرّح به الكتاب العزيز في موردي الثواب والعوض ، حيث كتب على نفسه الرحمة المستدعية لإعطائهما.

نعم ، ينبغي حياء العبد من ادّعائه بالحقّ لو كانت له حاجة إلى الدعوى ، ولكن يستحيل أن يحوج اللّه تعالى عبده المسكين إلى الدعوى ، فإنّه أسرع الحاسبين وأرحم الراحمين.

ثمّ إنّ هذا الاعتقاد والتعليم إنّما هما من فعل اللّه وحده عندهم ، فما بال ابن المطهّر يلام على التعليم وهو من اللّه تعالى ، ولا يلام عليه الخالق المؤثّر؟!!

ما هذا إلّا عجب!!

* * *

ص: 407

ص: 408

فهرس المحتويات

المطلب الثالث : في أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب... 5

رد الفضل بن روزبهان... 7

ردّ الشيخ المظفر... 9

المحالات التي تترتب على القول بأنّ اللّه يفعل القبيح ويخلّ بالواجب :

منها : امتناع الجزم بصدق الأنبياء... 11

رد الفضل بن روزبهان... 12

رد الشيخ المظفر... 13

ومنها :تكذيب اللّه تعالى في بعض أقواله... 14

رد الفضل بن روزبهان... 16

رد الشيخ المظفر... 18

ومنها : يلزم عدم الوثوق بوعد اللّه ووعيده... 21

رد الفضل بن روزبهان... 24

رد الشيخ المظفر... 25

إنّه تعالى يفعل لغرض وحكمة

المطلب الرابع : في أنّ اللّه تعالى يفعل لغرض وحكمة... 27

رد الفضل بن روزبهان... 29

رد الشيخ المظفر... 31

المحالات التي تترتب على القول بأنه لا يجوز أن يفعل اللّه شيئاً لغرض ولا لمصلحة :

ص: 409

منها : أن لا يكون اللّه محسناً إلى العباد... 36

رد الفضل بن روزبهان... 37

رد الشيخ المظفر... 38

ومنها : أن يكون خلق اللّه لجميع المنافع عبثاً... 39

رد الفضل بن روزبهان... 40

رد الشيخ المظفر... 42

ومنها : إبطال النبوّات ، وعدم الجزم بصدق الأنبياء... 44

رد الفضل بن روزبهان... 47

رد الشيخ المظفر... 49

ومنها : مخالفة الكتاب العزيز... 52

رد الفضل بن روزبهان... 54

رد الشيخ المظفر... 55

ومنها : جواز تعذيب المطيعين لله ، وإثابة العاصين له... 58

رد الفضل بن روزبهان... 59

رد الشيخ المظفر ... 61

إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

المطلب الخامس : في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي... 63

رد الفضل بن روزبهان... 65

رد الشيخ المظفر... 67

المحالات التي تترتب على القول بأن أنواع الشرور مرادة لله تعالى وأنه راض بها 71

منها : كون العاصي مطيعاً بعصيانه... 71

رد الفضل بن روزبهان... 72

رد الشيخ المظفر... 73

ومنها : كون اللّه يأمر بما يكره... 74

ص: 410

رد الفضل بن روزبهان... 75

رد الشيخ المظفر... 76

ومنها : مخالفة النصوص القرآنية... 77

رد الفضل بن روزبهان... 78

رد الشيخ المظفر... 79

منها : عد انتفاء ثبوب الداعي إلى الطاعات... 80

رد الفضل بن روزبهان... 81

رد الشيخ المظفر... 82

وجوب الرضا بالقضاء اللّه تعالى

المطلب السادس : في وجوب الرضا بقضاء اللّه تعالى... 85

رد الفضل بن روزبهان... 87

رد الشيخ المظفر... 88

اللّه تعالى لا يعاقب على فعله

المطلب السابع : في أنّ اللّه تعالى لا يعاقب الغير على فعله... 91

رد الفضل بن روزبهان... 93

رد الشيخ المظفر... 95

امتناع تكليف ما لا يطاق

المطلب الثامن : في امتناع تكليف ما لا يطاق... 97

رد الفضل بن روزبهان... 99

رد الشيخ المظفر... 101

إرادة النبيّ موافقة لإرادة اللّه

المطلب التاسع : في أنّ إرادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله موافقة لإرادة اللّه تعالى... 105

ص: 411

رد الفضل بن روزبهان... 107

رد الشيخ المظفر... 108

إنّا فاعلون

المطلب العاشر : في إنّا فاعلون... 111

رد الفضل بن روزبهان... 113

رد الشيخ المظفر... 117

المحالات التي تترتب على القول بأن لا مؤثر إلا اللّه تعالى:

منها : مكابرة الضرورة... 126

رد الفضل بن روزبهان... 127

رد الشيخ المظفر... 128

ومنها : إنكار حسن مدح المحسن وقبح ذمّه ، وحسن ذمّ المسيء... 129

رد الفضل بن روزبهان... 131

رد الشيخ المظفر... 133

ومنها : إنه يقبح من اللّه تعلى تكليفنا فعل الطاعات وآجتناب المعاصي... 135

رد الفضل بن روزبهان... 136

رد الشيخ المظفر... 138

ومنها : أن يكون اللّه سبحانه أظلم الظالمين... 140

رد الفضل بن روزبهان... 141

رد الشيخ المظفر... 143

ومنها : تجويز النتفاء ما علم بالضرورة ثبوته... 145

رد الفضل بن روزبهان... 146

رد الشيخ المظفر... 147

ومنها : تجويز ما قضت الضرورة بنفيه... 148

رد الفضل بن روزبهان... 149

رد الشيخ المظفر... 150

ص: 412

ومنها : مخالفة النصوص القرآنية... 152

الأوّل : الآيات الدالّة على إضافة الفعل إلى العبد... 152

رد الفضل بن روزبهان... 154

رد الشيخ المظفر... 156

الثاني : ما ورد في القرآن من مدح المؤمن ، وذم الكافر... 158

رد الفضل بن روزبهان... 160

رد الشيخ المظفر... 161

الثالث : الآيات الدالة على أن أفعال اللّه ليست مثل أفعال المخلوقين... 163

رد الفضل بن روزبهان... 165

رد الشيخ المظفر... 167

الرابع : الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي... 170

رد الفضل بن روزبهان... 173

رد الشيخ المظفر... 175

الخامس : الآيات الدالة على تخيير العباد في أفعالهم وتعلقها بمشيئتهم... 177

رد الفضل بن روزبهان... 179

رد الشيخ المظفر... 180

السادس : الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال والمسارعة إليها... 181

رد الفضل بن روزبهان... 183

رد الشيخ المظفر... 184

السابع : الآيات التي حثّ اللّه فيها على الاستعانة به... 185

رد الفضل بن روزبهان... 187

رد الشيخ المظفر... 188

الثامن : آيات اعتراف الأنبياء بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسهم... 189

رد الفضل بن روزبهان... 190

ردالشيخ المظفر... 191

التاسع : آيات اعتراف الكفار والعصاة بأن كفرهم ومعاصيهم كانت منهم... 192

ص: 413

رد الفضل بن روزبهان... 193

رد الشيخ المظفر... 194

العاشر : الآيات الدالة على تحسر الكفار في الآخرة... 195

رد الفضل بن روزبهان... 196

رد الشيخ المظفر... 197

ما هو جواب من ترك هذه الآيات القرآنية؟... 198

رد الفضل بن روزبهان... 199

رد الشيخ المظفر... 200

المحالات التي تترتب على القول بأنّ لا مؤثر إلا اللّه تعالى:

ومنها : مخالفة الحكم الضروي الحاصل لكل أحد... 205

رد الفضل بن روزبهان... 206

رد الشيخ المظفر... 207

ومنها : مخالفة إجماع الأنبياء والرسل... 208

رد الفضل بن روزبهان... 209

رد الشيخ المظفر... 210

ومنها : سد باب الاستدلال على وجود الصانع... 211

رد الفضل بن روزبهان... 213

رد الشيخ المظفر... 215

ومنها : تجويز أن يكون اللّه ظالماً عابثاً... 219

رد الفضل بن روزبهان... 220

رد الشيخ المظفر... 221

ومنها : يلزم إلحاق اللّه بالسفهاء والجهال... 223

رد الفضل بن روزبهان... 224

رد الشيخ المظفر... 225

ومنها : مخالفة الضرورة... 226

رد الفضل بن روزبهان... 227

ص: 414

رد الشيخ المظفر... 228

ومنها : أن يكون اللّه اشدّ ضرراً على العبد من الشيطان... 229

رد الفضل بن روزبهان... 230

رد الشيخ المظفر... 231

ومنها : مخالفة العقل والنقل... 232

رد الفضل بن روزبهان... 233

رد الشيخ المظفر... 234

ومنها : مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر... 236

رد الفضل بن روزبهان... 237

رد الشيخ المظفر... 238

ومنها : صحة وصل اللّه بأنه ظالم جائر ... 240

رد الفضل بن روزبهان... 241

رد الشيخ المظفر... 242

ومنها : يلزم منه المحال... 243

رد الفضل بن روزبهان... 245

رد الشيخ المظفر... 246

ومنها : تجويز أن يكون اللّه جاهلاً أو محتاجاً... 247

رد الفضل بن روزبهان... 248

رد الشيخ المظفر... 249

ومنها : يلزم من اللّه الظلم... 250

رد الفضل بن روزبهان... 252

رد الشيخ المظفر... 253

ومنها : مخالفة القرآن والسنة والإجماعو الأدلة العقلية... 255

رد الفضل بن روزبهان... 257

رد الشيخ المظفر... 259

ص: 415

الجواب عن شبه المجبّرة

المطلب الحادي عشر : في نسخ شبههم... 263

رد الفضل بن روزبهان... 265

رد الشيخ المظفر... 267

نقض الشبه الأولى - الوجه الأول... 268

رد الفضل بن روزبهان... 269

رد الشيخ المظفر... 270

الوجه الثاني... 272

رد الفضل بن روزبهان... 273

رد الشيخ المظفر... 274

الوجهان الثالث والرابع... 276

رد الفضل بن روزبهان... 278

رد الشيخ المظفر... 281

نقض الشبة الثانية - الوجهان الأول والثاني... 284

رد الفضل بن روزبهان... 285

رد الشيخ المظفر... 288

معارضة الشبهة الأولى... 292

رد الفضل بن روزبهان... 293

رد الشيخ المظفر... 294

معارضة الشبهة الثانية... 295

رد الفضل بن روزبهان... 296

رد الشيخ المظفر... 298

ما هو جواب من تمسك بهذه الشبهات... 301

رد الفضل بن روزبهان... 302

رد الشيخ المظفر... 303

ص: 416

إبطال الكسب

المطلب الثاني عشر : في إبطال الكسب... 305

رد الفضل بن روزبهان... 307

رد الشيخ المظفر... 310

الرد الأول على القائلين بالكسب... 313

رد الفضل بن روزبهان... 314

رد الشيخ المظفر... 316

الردان الثاني والثالث... 322

رد الفضل بن روزبهان... 325

رد الشيخ المظفر... 328

القدرة متقدّمة على الفعل

المطلب الثالث عشر : في أنّ القدرة متقدّمة على الفعل... 331

رد الفضل بن روزبهان... 333

رد الشيخ المظفر... 335

المحالات التي تترتب على القول بأن القدرة تكون مع الفعل :... 337

ومنها : الاستغناء عن القدرة... 337

رد الفضل بن روزبهان... 338

رد الشيخ المظفر... 339

ومنها : حدوث قدرة اللّه ، أو قدم العالم... 340

رد الفضل بن روزبهان... 341

رد الشيخ المظفر... 344

القدرة صالحة للضدّين

المطلب الرابع عشر : في أن القردة صالحة للضدين... 347

ص: 417

رد الفضل بن روزبهان... 348

رد الشيخ المظفر... 350

الإنسان مريد لأفعاله

المطلب الخامس عشر : في الإرادة... 353

رد الفضل بن روزبهان... 355

رد الشيخ المظفر... 356

المتولّد من الفعل من جملة أفعالنا

المطلب السادس عشر : في المتولّد... 357

رد الفضل بن روزبهان... 359

رد الشيخ المظفر... 360

التكليف سابق على الفعل

المطلب السابع عشر : في التكليف... 361

رد الفضل بن روزبهان... 362

رد الشيخ المظفر... 363

المحالات التي تترتب على القول بأن التكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله

منها : التكليف بغر المقدور... 364

رد الفضل بن روزبهان... 365

رد الشيخ المظفر... 366

ومنها : أن لا يكون أحد معاصياً... 367

رد الفضل بن روزبهان... 368

رد الشيخ المظفر... 369

ومنها : مخالفة التقدير... 371

رد الفضل بن روزبهان... 372

ص: 418

رد الشيخ المظفر... 373

شرائط التكليف

المطلب الثامن عشر : في شرائط التكليف... 375

الشرط الأوّل : وجود المكلف... 375

رد الفضل بن روزبهان... 377

رد الشيخ المظفر... 378

الشرط الثاني : كون المكلف عاقلاً... 379

رد الفضل بن روزبهان... 380

رد الشيخ المظفر... 381

الشرط الثالث : فهم المكلف... 382

رد الفضل بن روزبهان... 383

رد الشيخ المظفر... 384

الشرط الرابع : إمكان الفعل إلى المكلف... 385

رد الفضل بن روزبهان... 386

رد الشيخ المظفر... 387

الشرط الخامس : أن لا يكون الفعل حراماً... 388

رد الفضل بن روزبهان... 389

رد الشيخ المظفر... 391

الشرط السادس : أن لا يكون الفعل حراماً... 395

رد الفضل بن روزبهان... 396

رد الشيخ المظفر... 397

حرمة الصلاة في الدار مغصوبة... 398

رد الفضل بن روزبهان... 399

رد الشيخ المظفر... 400

ص: 419

الإعواض على الآلام

المطلب التاسع عشر : في الإعواض... 401

رد الفضل بن روزبهان... 403

رد الشيخ المظفر... 405

فهرس المحتويات... 409

ص: 420

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.