دلائل الصدق لنهج الحق المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر

المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم

الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1423 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-319-355-1

ص: 1

اشارة

دلائل الصدق لنهج الحق

تأليف : آية اللّه العلّامة الشيخ محمد حسن المظفر

(1301 - 1375 ه)

الجزء الثاني

تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

ص: 2

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1438 ه - 2017 م

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث

بيروت - حارة حريك - قرب جامع الحسنين - فوق صیدلية دیاب - ط 2

تلفاكس: 541431 - 01 - هاتف : 544805 - 01 - ص ب : 24/34

البريد الإلكتروني : alalbayt@inco.com.lb

www.al-albayt.com

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

المقدمة : من هم الفرة الناجية؟

اشارة

ص: 5

ص: 6

من هم الفرقة الناجية؟

قال المصنّف العلّامة - بعد الحمد والصلاة - (1) :

وبعد ،

فإنّ اللّه تعالى حيث حرّم في كتابه العزيز كتمان بيّناته وآياته ، وحظر إخفاء براهينه ودلالاته ، فقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (2).

وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) (3).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من علم علما وكتمه ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من النار » (4).

ص: 7


1- نهج الحقّ : 36 - 38.
2- سورة البقرة 2 : 159.
3- سورة البقرة 2 : 174 و 175.
4- ورد الحديث بألفاظ وأسانيد مختلفة في العديد من مصادر الفريقين ، منها : سنن أبي داود 320/3 ح 3658 ، سنن ابن ماجة 96/1 - 98 ح 261 و 264 - 266 ، سنن الترمذي 5 / 29 ح 2649 ، مسند أحمد 2 / 263 ، مسند أبي يعلى 4 / 458 ح 2585 ، المعجم الكبير 10 / 128 ح 10197 ، المعجم الأوسط 3 / 53 ح 2311 ، المعجم الصغير 1 / 162 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 182 ح 345 و 346 ، كنز العمّال 10 / 217 ح 29146 ، الأمالي - للطوسي - : 377 ح 808.

تفضّلا منه على بريّته ، وطلبا لإدراجهم في رحمته ، فيرجع الجاهل عن زلله ، ويستوجب الثواب [ بعلمه ] على عمله.

فحينئذ وجب على كلّ مجتهد وعارف إظهار ما أوجب اللّه تعالى إظهاره من الدين ، وكشف الحقّ ، وإرشاد الضالّين ؛ لئلّا يدخل تحت الملعونين على لسان ربّ العالمين ، وجميع الخلائق أجمعين ، بمقتضى الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية.

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (1).

ولمّا كان أبناء هذا الزمان ممّن استغواهم الشيطان - إلّا الشاذّ القليل ، الفائز بالتحصيل - حتّى أنكروا كثيرا من الضروريّات ، وأخطأوا في معظم المحسوسات ، وجب بيان خطئهم ؛ لئلّا يقتدي غيرهم بهم ، فتعمّ البليّة جميع الخلق ، ويتركون نهج الصدق.

وقد وضعنا هذا الكتاب الموسوم ب « نهج الحقّ وكشف الصدق » (2) طالبين فيه الاختصار ، وترك الاستكثار ، بل اقتصرنا فيه على مسائل ظاهرة

ص: 8


1- الكافي 1 / 75 ح 158 ، المحاسن 1 / 361 ح 776 ، وانظر ما بمعناه في : تاريخ دمشق 54 / 80 ح 11366 ، مختصر تاريخ دمشق 23 / 6 رقم 3 ، كنز العمّال 10 / 216 ح 29140.
2- كان في الأصل : « كشف الحقّ ونهج الصدق » ، وما أثبتناه هو الصواب وفقا للمصدر.

معدودة ، ومطالب واضحة محدودة.

وأوضحت فيه لطائفة المقلّدين من طوائف المخالفين ، إنكار رؤسائهم ومقلّديهم القضايا البديهية ، والمكابرة في المشاهدات الحسّيّة ، ودخولهم تحت فرق السوفسطائية (1) ، وارتكاب الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو عقل ورويّة ؛ لعلمي بأنّ المنصف منهم إذا وقف على مذهب من يقلّده تبرّأ منه ، [ وحاد عنه ، ] وعرف أنّه ارتكب الخطأ والزلل ، وخالف الحقّ في القول والعمل.

فإن اعتمدوا الإنصاف ، وتركوا المعاندة والخلاف ، وراجعوا أذهانهم الصحيحة ، وما تقتضيه جودة القريحة ، ورفضوا تقليد الآباء ، والاعتماد على أقوال الرؤساء ، الّذين طلبوا اللذّة العاجلة ، وأهملوا أحوال الآجلة ، حازوا القسط الأوفى من الإخلاص ، وحصلوا بالنصيب الأسنى من النجاة والخلاص.

وإن أبوا إلّا استمرارا على التقليد ، فالويل لهم من نار الوعيد ، وصدق عليهم قوله تعالى : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) (2).

وإنّما وضعنا هذا الكتاب حسبة لله ، ورجاء لثوابه ، وطلبا للخلاص

ص: 9


1- السفسطة : هي المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام ، واللفظ مركّب في اليونانية من « سوفيا » وهي الحكمة ، ومن « أسطس » وهي المموّه ؛ فمعناها حكمة مموّهة ، وكلّ من له قدرة على التمويه والمغالطة بالقول في أيّ شيء كان ، قيل له : إنّه سوفسطائي. أنظر : معجم المصطلحات العلمية العربية : 90 - 91 ، التعريفات - للجرجاني - : 118.
2- سورة البقرة 2 : 166.

من أليم عقابه ، بكتمان الحقّ ، وترك إرشاد الخلق!

وامتثلت فيه مرسوم سلطان وجه الأرض ، الباقية دولته إلى يوم النشر والعرض ، سلطان السلاطين ، خاقان الخواقين ، مالك رقاب العباد وحاكمهم ، وحافظ أهل البلاد وراحمهم ، المظفّر على جميع الأعداء ، المنصور من إله السماء ، المؤيّد بالنفس القدسية ، والرئاسة الملكية ، الواصل بفكره العالي ، إلى أسنى مراتب المعالي ، البالغ بحدسه الصائب ، إلى معرفة الشهب الثواقب ، غياث [ الملّة و ] الحقّ والدين : أولجايتو خدابنده محمّد (1) ، خلّد [ اللّه ] ملكه إلى يوم الدين ، وقرن دولته بالبقاء والنصر والتمكين.

وجعلت ثواب هذا الكتاب واصلا إليه ، أعاد اللّه بركاته عليه ، بمحمّد وآله الطاهرين ، صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وقد اشتمل هذا الكتاب على مسائل ..

ص: 10


1- هو : خدابنده محمّد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكيز خان المغولي ، ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر ، وأولجايتو معناه السلطان الكبير المبارك ، وخدابنده معناه عبد اللّه ، وقيل : خربندا ، ولد سنة 680 ه ، اعتنق الإسلام وسمّي بمحمّد ، وتلقّب بغياث الدين ، كان عادلا كريما سمحا ، تحوّل إلى مذهب الشيعة الإمامية سنة 708 ه بعد أن كان حنفيّا ، على أثر مناظرات كثيرة بين المذاهب الإسلامية - وقيل : إنّ ذلك كان على يد العلّامة الحلّي قدس سره - ، توفّي في آخر شهر رمضان عام 716 ه عن بضع وثلاثين سنة ، ودفن بتربته في مدينة « السلطانية » التي أنشأها بين مدينتي قزوين وهمذان. أننظر أعيان الشيعة 120/9 - 121 ، مراقد المعارف 218/1 - 220 ، دول الإسلام : 409 ، العبر 44/4 ، البداية والنهاية 62/14 حوادث سنة 716 ه ، دول الإسلام : 409 حوادث سنة 716 ه ، تاريخ ابن خلدون 649/5 ، شذرات الذهب 40/6 وفيات سنة 716 ه.

وقال الفضل

وقال الفضل (1) :

الحمد لله المتعزّز بالكبرياء والرفعة والمناعة ، المتفرّد بإبداع الكون في أكمل نظام وأجمل بداعة ، المتكلّم بكلام أبكم كلّ منطيق من قروم (2) أهل البراعة ، فانخزلوا (3) آخرا في حجر (4) العجز وإن بذلوا الوسع والاستطاعة.

أحمده على ما تفضّل بمنح كرائم الأجور على أهل الطاعة ، وفضّل

ص: 11


1- إبطال نهج الباطل وإهمال كشف العاطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - 1 / 22 - 35.
2- قروم - جمع : قرم - : أي السيّد المعظّم ، المقدّم في المعرفة وتجارب الأمور. قروم - جمع : قرم -: أي السيد المعظم ، المقدّم في المعرفة و تجارب الأمور. أنظر : الصحاح 2009/5 ، لسان العرب 130/11 ، تاج العروس 562/17 ، مادّة «قرم».
3- كان في طبعة القاهرة : « فانخذلوا » بالذال المعجمة. والخزل والانخزال : القطع والانقطاع. والخذل والخذلان: ترك الإعانة والنصرة، والضعف. أنظر مادّتي «خذل» و «خزل» في : الصحاح 1683/4 و 1684 ، لسان العرب 45/5 و 84 ، تاج العروس 194/14 و 197.
4- في طبعة طهران : « حجز ». و حجر الإنسان - بافتح أو الكسر - : حضنه . أو : حجر - جمع حجرة - : وهي الغرفة. وحجز أو حجزات - جمع حجزة -: وهي موضع الالتجاء والاعتصام ، والتمسك بالشيء ، والتعلق به ، والأخذ بسبب منه. أو : حجز - بالكسر أو الضم - : الأصل والمنبت والناحية . أنظر مادّتي «حجر» و «حجز» في : الصحاح 623/2 ، لسان الهرب 57 /3 و 62 ، تاج العروس 241/6 و 246 2 ج 42/8 - 43.

على فرق الإسلام الفرقة الناجية من أهل السنّة والجماعة ، حتّى كشف نقاب الارتياب عن وجوه مناقبهم صاحب المقام المحمود والعظمى من الشفاعة ، بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تزال طائفة من أمّتي منصورين ، لا يضرّهم من خذلهم حتّى تقوم الساعة » (1)

صلّى اللّه وسلّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد ، الذي فرض اللّه على كافّة الناس اتّباعه ، وجعل شيعة الحقّ وأئمّة الهدى أشياعه ، وهدى إلى انتقاد « نهج الحقّ » وإيضاح « كشف الصدق » أتباعه.

ثمّ السلام والتحيّة والرضوان على عترته أهل بيته ، وكرام صحبه ، أرباب النجدة والجود والشجاعة ، الّذين جعل اللّه موالاتهم في سوق الآخرة خير بضاعة ، ما دام ذبّ الباطل عن حريم الحقّ أفضل عمل وخير صناعة.

أمّا بعد :

فإنّ اللّه بعث نبيّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم حين تراكم الأهواء الباطلة ، وتصادم الآراء العاطلة ، والناس هائمون في معتكر حندس (2) ليل الضلال ،

ص: 12


1- هذا من الأحاديث المتواترة معنى ، وقد روته أمّهات مصادر وجوامع الجمهور ، منها : صحيح البخاري 9 / 181 ح 82 ، التاريخ الكبير 4 / 12 رقم 1797 ، صحيح مسلم 1 / 95 ، سنن أبي داود 3 / 4 ح 2484 ، سنن ابن ماجة 1 / 4 - 5 ح 6 و 7 و 9 و 10 ، سنن الترمذي 4 / 420 ح 2192 ، سنن النسائي 6 / 214 - 215 ، مسند الطيالسي : 9 ، سنن سعيد بن منصور 2 / 144 - 145 ح 2372 و 2375 و 2376 ، مسند أحمد 3 / 384 ، مسند أبي يعلى 13 / 375 ح 7383 ، المعجم الكبير 2 / 238 ح 1996 ، المستدرك على الصحيحين 2 / 81 ح 2392.
2- (2) اعتكر الليل : اشتدّ سواده واختلط والتبس ؛ أنظر : الصحاح 2 / 756 ، لسان العرب 337/9 ، تاج العروس 256/7 ، مادّة «عكر». والحندس : الشديد الظلمة ؛ أنظر : الصحاح 916/3 ، لسان العرب 356/3 ، تاج العروس 252/8.

يعبدون الأوثان ، ويخرّون للأذقان [ سجّدا ] عندها بالغدوّ والآصال ، لا يعرفون ملّة ، ولا يهتدون إلى نحلة ، ولا سير لهم إلى مراتع الحقّ ولا رحلة.

فأقام اللّه تعالى برسوله الملّة العوجاء ، وهداهم بإيضاح الحقّ إلى السنن الميتاء (1) ، وأوضح للملّة منارها ، وأعلم آثارها ، وأسّس قواعد الدين على رغم الكفرة الماردين ، هم الّذين أبوا إلّا الإقامة على الكفر والبوار ، وإن هداهم إلى سبيل النجاح ، فما أذعنوا للحقّ إلّا بعد ضرب القواضب (2) وطعن الرماح.

فندب صلّى اللّه عليه وسلّم لنصرة الدين ، وإعانة الحقّ ، عصبة من صحبه الصادقين ، فانتدبوا ، ونصروا ، ونصحوا ، وأوذوا في سبيل اللّه ، ثمّ هاجروا واغتربوا.

هم كانوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الكرش والعيبة (3) ، حين كذّبه عتبة

ص: 13


1- في إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن « إحقاق الحقّ » : « المتناء » .. و« الغرّاء » نسخة بدل عنها.
2- القواضب - جمع قاضب - : السيوف القواطع ؛ انظر : الصحاح 1 / 203 ، لسان العرب 11 / 202 ، تاج العروس 2 / 327 ، مادّة « قضب ».
3- الكرش أو الكرش - لغتان بمعنىً - : هي لكلّ مجترّ بمنزلة المعدة للإنسان ، ومن المجاز : الجماعة من الناس. أنظر : الصحاح 1017/3 ، لسان العرب 69/12 ، تاج العروس 181/9 ، مادّة «كرش». والعيبة - جمعها : عيب وعياب و عيبات - : ما يجعل فيه الثياب ، ووعاء يكون فيه المتاع. وعيبة الرجل : موضع سرّه. أنظر : الصحاح 190/1 ، لسان العرب 490/9 - 491 ، تاج العروس 270/2 ، مادة «عيب». أي إنهم جماعته وصحابته وبطانته، وموضع سرّه وأمانته ، الذين يثق بهم ويعتمد عليهم في أموره.

وشيبة (1) ..

فأثنى اللّه عليهم في مجيد كتابه ، ورضي عنهم ، وتاب عليهم (2) ، وجعل مناط أمور الدين مرجوعة إليهم.

ثمّ وثب فرقة بعد القرون المتطاولة ، والدول المتداولة ، يلعنونهم ويشتمونهم [ ويسبّونهم ] ، ولكلّ قبيح ينسبونهم ، فويل لهذه الفئة

ص: 14


1- ذكر عتبة وشيبة - هنا - لم يقصد منه خصوص الرجلين ، بل المراد عموم كفّار قريش. وعتبة وشيبة هما ابنا ربيعة بن عبد شمس ، قتلا والوليد بن عتبة يوم بدر كفاراً ، ، بيد أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث ، وفيهم جميعاً نزل قوله تعالى : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ...) سورة الحج 19 : 22. أنظر مثلاً : صحيح البخاري 183/5 - 184 ح 17 - 21 و ج 181/6 ح 264 و 265 ، صحيح مسلم 246/8 ، سنن ابن ماجة 946/2 ح 2835 ، مصنف ابن أبي شيبة 474/8 ح 31 ، مسند البزار 2 / 291 - 292 ح 715 ، وغيرها كثير .
2- أشار ابن روزبهان - في كلامه هذا - إلى آيات قرآنية عديدة بخصوص الثناء والرضا والتوبة على الصحابة ، منها : قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ...) سورة الفتح 48 : 29 وقوله عزّ وجلّ: ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ...) سورة الفتح 48 : 18 وقوله سبحانه : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ...) سورة التوبة 9 : 117 .

الباغية ، التي يسخطون العصبة الرضيّة ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، شاهت الوجوه ، ونالت كلّ مكروه.

ثمّ إنّ زماننا قد أبدى من الغرائب ، ما لو رآه محتلم في رؤياه لطار من وكر الجفن نومه ، ولو شاهده يقظان في يومه لاعتكر من ظلام الهموم يومه (1).

وممّا شاع فيه أنّ فئة من أصحاب البدعة استولوا على البلاد ، وأشاعوا الرفض والابتداع بين العباد.

فاضطرّني حوادث الزمان ، إلى المهاجرة عن الأوطان ، وإيثار الاغتراب وتوديع الأحبّة والخلّان ، وأزمعت الشخوص من وطني أصفهان ، حتّى حططت الرحل بقاسان (2).

عازما على أن لا يأخذ جفني القرار (3) ، ولا تضاجعني الأرض بقرار ،

ص: 15


1- في المصدر : بومه.
2- قاسان - بالسين المهملة - : مدينة كانت عامرة آهلة ، كثيرة الخيرات ، واسعة الساحات ، متهدّلة الأشجار ، حسنة النواحي والأقطار ، بما وراء النهر في حدود بلاد الترك ، خربت بغلبة الترك عليها. وقاسان أو قاشان - بالسين المهملة أو الشين المعجمة - : مدينة قرب أصفهان ، بينها وبين قُم اثنا عشر فرسخاً ، وبينها وبين أصفهان ثلاث مراحل . والتي عناها الفضل هنا هي الأولى دون الثانية ؛ لأنّ أهل الأولى من الجمهور دون الثانية التي أهلها كلّهم شيعة إمامية . أنظر : معجم البلدان 335/4 و 336 رقمي 9361 و 9364 ، مراصد الاطلاع 1056/3 و 1057 .
3- القرار : الهدوء والنوم ، وأقرّ اللّه عينه ، أي أنام اللّه عينه ؛ أنظر : لسان العرب 11 / 100 - 101 مادّة « قرر ». وفي المصدر : « الغرار» ، وهو النوم القليل. انظر : الصحاح ،768/2 ، لسان العرب 10 / 45 ، مادة «غَرَرَ » .

حتّى أستوكر مربعا من مرابع الإسلام ، لم يسمعني فيه الزمان صيت هؤلاء اللئام.

وأستوطن مدينة أتّخذها دار هجرتي ، ومستقرّ رحلتي ، تكون فيها السنّة والجماعة فاشية ، ولم يكن فيها شيء من البدع والإلحاد ناشية.

وأتمسّك بسنّة النبيّ [ صلّى اللّه عليه وسلّم الرصين ] ( وآله وصحبه المرضيّين ) (1) ، وأعبد ربّي حتّى يأتيني اليقين.

فإنّ التمسّك [ بالسنّة ] عند فساد الأمّة طريق رشيد ، وأمر سديد ، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : « من تمسّك بسنّتي عند فساد أمّتي فله أجر مائة شهيد » (2).

فلمّا استقرّ ركابي بمدينة قاسان ، اتّفق لي مطالعة كتاب من مؤلّفات المولى الفاضل ، جمال الدين ابن المطهّر الحلّي ، غفر اللّه ذنوبه ، وقد سمّاه بكتاب « نهج الحقّ وكشف الصدق » ، قد ألّفه في أيّام دولة السلطان غياث الدين أولجايتو محمّد خدابنده ، وذكر أنّه صنّفه بإشارته.

وقد كان ذلك الزمان أوان فشو البدعة ، ونبغ نابغة الفرقة الموسومة ب : « الإمامية » من فرق الشيعة!

فإنّ عامّة الناس يأخذون المذاهب من السلاطين وسلوكهم ، والناس على دين ملوكهم ، إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقليل

ص: 16


1- ما بين القوسين ليس في « إبطال نهج الباطل ».
2- انظر مثلاً - وفي بعضها : « فله أجر شهيد » - : المعجم الأوسط 5 / 471 ح 5414 ، الكامل في ضعفاء الرجال 2 / 327 رقم 460 ، حلية الأولياء 8 / 200 ، فردوس الأخبار 2 / 355 ح 6889 ، مصابيح السنّة 1 / 163 ح 139 ، الترغيب والترهيب 1 / 45 ح 5 ، مشكاة المصابيح 1 / 97 ح 176 ، مجمع الزوائد 1 / 172 الجامع الصغير : 549 ح 9171 ، كنز العمّال 1 / 184 ح 936 وص 214 ح 1071.

ما هم!

وقد ذكر في مفتتح ذلك الكتاب أنّه حاول بتأليفه إظهار الحقّ ، وبيان خطأ الفرقة الناجية من أهل السنّة والجماعة ؛ لئلّا يقلّدهم المسلمون ، ولئلّا يقتدوا بهم ، فإنّ الاقتداء بهم ضلالة.

وذكر أنّه أراد بهذا إقامة مراسم الدين ، وحوز (1) [ أجور ] الآخرة ، واقتناء ثواب الّذين يبغون (2) الحقّ ولا يكتمونه.

ومع ذلك فإنّ جلّ كتابه مشتمل على مطاعن الخلفاء الراشدين ، والأئمّة المرضيّين ، وذكر مثالب العلماء المجتهدين!

فهو في هذا كما ذكر بعض الظرفاء - على ما يضعونه على ألسنة البهائم - أنّ الجمّال سأل جملا : من أين تخرج؟ قال الجمل : من الحمّام ؛ قال : صدقت ، ظاهر من رجلك النظيف ، وخفّك اللطيف.

فنقول : نعم ، ظاهر على ابن المطهّر أنّه من دنس الباطل ودرن التعصّب مطهّر ، وهو خائض في مزابل المطاعن ، وغريق في حشوش (3) الضغائن ، فنعوذ باللّه من تلبيس إبليس ، وتدليس ذلك الخسيس ، كيف سوّل له وأملى له ، وكثّر في إفشاء الباطل - على رغم الحقّ - إملاءه؟!

ص: 17


1- الحوز : الجمع ، وكلّ من ضمّ شيئا إلى نفسه من مال أو غير ذلك ، فقد حازه حوزا وحيازة ؛ انظر : الصحاح 3 / 875 ، لسان العرب 3 / 388 ، مادّة « حوز ».
2- في إبطال نهج الباطل : « يبيّنون » ؛ ولعلّ ما في المتن تصحيف : يبلّغون.
3- الحشوش ، جمع : الحشّ والحشّ : الكنف ومواضع قضاء الحاجة. أنظر : الصحاح 1001/3 ، النهاية في غريب الحديث والأثر 390/1 ، لسان العرب 3 / 189 - 190 ، القاموس المحيط 2/ 279 ، تاج العروس 90/9 - 91 ، مادة « حَشَشَ » .

ومن الغرائب أنّ ذلك الرجل وأمثاله ينسبون مذهبهم إلى الأئمّة الاثني عشر - رضوان اللّه عليهم أجمعين - وهم صدور إيوان (1) الاصطفاء ، وبدور سماء الاجتباء ، ومفاتيح أبواب الكرم ، ومجاديح (2) هواطل النعم ، وليوث غياض (3) البسالة ، وغيوث رياض الإيالة (4) ، وسبّاق مضامير (5) السماحة ، وخزّان نقود الرجاحة ، والأعلام الشوامخ في الإرشاد والهداية ، والجبال الرواسخ في الفهم والدراية ... وهم كما قلت فيهم شعرا :

شمّ المعاطس من أولاد فاطمة *** علوا رواسي طود العزّ والشرف

فاقوا العرانين (6) في نشر الندى كرما *** بسمح كفّ خلا من هجنة السرف

ص: 18


1- الإيوان - بكسر الهمزة - : الصفّة العظيمة كالأزج - وهو البيت الذي يبنى طولا غير مسدود الوجه - وجمعه : إيوانات وأواوين. انظر : الصحاح 2076/5 ، لسان العرب 273/1 و 130 ، تاج العروس 18 / 40 رج 287/3 ، مادتي «أون» و «ارج».
2- مجاديح السماء : أنواؤها ؛ انظر : الصحاح 1 / 358 ، لسان العرب 2 / 197 ، مادّة « جدح ».
3- الغياض - جمع : غيضة - : وهي الأجمة ، وهي مجتمع الشجر في مغيض الماء ، يجتمع فيه الماء فينبت فيه الشجر ، من أيّ الشجر كان ، وكذا هي الشجر الملتفّ. أنظر : الصحاح 1097/3 ، لسان العرب 10/ 158 ، تاج العروس 117/10 ، مادة « غَيْضَ » .
4- الإيالة : السياسة ، يقال : آل الأمير رعيّته يؤولها أولا وإيالا ، أي ساسها وأحسن رعايتها ؛ انظر : الصحاح 4 / 1628 ، لسان العرب 1 / 267 ، مادّة « أول ».
5- في طبعتي طهران والقاهرة : « مظاهر » ، والمثبت هو الأنسب بالسياق.
6- عرانين القوم : سادتهم وأشرافهم ووجوههم ؛ انظر : الصحاح 6 / 2163 ، لسان العرب 9 / 175 ، مادّة « عرن ».

تلقاهم في غداة الروع إذ رجفت *** أكتاف أكفائهم من رهبة التلف

مثل الليوث إلى الأهوال سارعة *** حماسة النفس لا ميلا إلى الصلف

بنو عليّ وصيّ المصطفى حقّا (؟) (1) *** أحلاف (2) صدق نموا من أشرف السلف

وهؤلاء الأئمّة الكرام (3) ، قد كانوا يثنون على الصحابة الكرام ، الخلفاء الراشدين - رضي اللّه عنهم - بما هم أهله من ذكر المناقب والمزايا.

وقد ذكر الشيخ عليّ بن عيسى الإربلي (4) - رحمه اللّه تعالى - في

ص: 19


1- علامة الاستفهام من الشيخ المظفّر قدس سره .
2- كذا في الأصل ؛ وفي إحقاق الحقّ : أخلاف.
3- في إبطال نهج الباطل : « العظام ».
4- هو : الشيخ بهاء الدين أبو الحسن عليّ بن عيسى بن فخر الدين أبي الفتح الإربلي ، من كبار علماء الشيعة الإمامية ، كان فاضلا محدّثا ثقة ، شاعرا أديبا منشئا ، جامعا للفضائل والمحاسن ، مؤلّفا شهيرا. كان والده أميراً حاكماً بإربل أيّام تاج الدين محمد بن الصلايا الحسين ، له تصانيف كثيرة ، منها : كشف الغمة في معرفة الأئمّة عليهم السلام ، رسالة الطيف في الإنشاء ، نزهة الأخيار ، حياة الإمامين زين العابدين ومحمد الباقر عليهماالسلام ، ديوان شعر ، وله رسائل علمية وأدبية ، وله أيضاً شعر كثير في مدح أهل البيت عليهم السلام ولقبه الإريلي » . ولقبه «الإربلي» نسبة إلى إريل ، وهي : قلعة حصينة ومدينة كبيرة بين الزابين ، من أعمال الموصل، من جهتها الشرقية . وجاء في خاتمة كتابه كشف الغمّة أنه فرغ من تصنيفه سنة 687 ه- ، وتوفي سنة 693/2 ه- في بغداد ودفن فيها ؛ ولعلّ ما في شذرات الذهب من سنة 683 ه- تصحيف ، لمنافاته مع ما سبق . أمّا مرقده فهو بالكرخ ببغداد ، بداره على الضفة اليمنى لنهر دجلة قرب الجسر العتيق ( جسر الأحرار ) بين الزقاق ونهر دجلة. انظر : أمل الآمل 195/2 رقم 588 ، رياض العلماء 166/4 ، الكنى والألقاب 2 / 18 ، مراقد المعارف 2/ 90 رقم 174 ، معجم البلدان 166/1 رقم 406 ، شذرات الذهب 383/5 وفيات سنة 683 ه- ، هديّة العارفين 714/5، معجم المؤلفين 2 / 484 رقم 9805.

كتاب « كشف الغمّة في معرفة الأئمّة » - واتّفق جميع الإمامية أنّ عليّ بن عيسى من عظمائهم ، والأوحدي النحرير من جملة علمائهم ، لا يشقّ غباره ، ولا يبتدر آثاره ، وهو المعتمد المأمون في النقل - وما ذكره هو في الكتاب المذكور نقلا عن كتب الشيعة ، لا عن كتب علماء السنّة :

أنّ الإمام أبا جعفر محمّدا الباقر رضي اللّه عنه سئل عن حلية السيف ، هل يجوز؟

فقال : نعم [ يجوز ] ، قد حلّى أبو بكر الصدّيق سيفه [ بالفضّة ].

قال الراوي : فقال السائل : أتقول هكذا؟!

فوثب الإمام من مكانه وقال : نعم ... الصدّيق ، فمن لم يقل له :

« الصدّيق » فلا صدّقه اللّه في الدنيا والآخرة (1).

هذه عبارة « كشف الغمّة » وهو كتاب مشهور معتمد عند الإمامية.

وذكر أيضا في الكتاب المذكور ، أنّ الإمام أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق قال : « ولدني أبو بكر ( الصدّيق ) (2) مرّتين » ؛ وذلك أنّ أمّ الإمام جعفر كانت أمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق ،

ص: 20


1- كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 2 / 147 ، نقلا عن صفة الصفوة - لأبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي - 1 / 399 ، باختلاف يسير ؛ وما بين القوسين المعقوفتين أثبتناه من « إبطال نهج الباطل » المطبوع ضمن « إحقاق الحقّ ».
2- ليست في كشف الغمّة.

وكذا كانت إحدى جدّاته الأخرى من أولاد أبي بكر (1) (2).

وذكر الإمام الحاكم أبو عبد اللّه النيسابوري ، المحدّث الكبير ، والحافظ المتقن ، الفاضل النحرير ، في كتاب « معرفة علوم الحديث » بإسناده عن الإمام [ أبي عبد اللّه ] (3) جعفر بن محمّد الصادق ، أنّه قال : « أبو بكر ( الصدّيق ) (4) جدّي ، وهل يسبّ أحد أجداده (5)؟! لا قدّمني اللّه إن لا أقدّمه » (6). انتهى ..

وقد اشتهر بين المحدّثين والعلماء أنّ الحاكم أبا عبد اللّه - المذكور - كان مائلا إلى التشيّع (7).

فمن عجبي!! كيف يجوز لهم ذكر المطاعن لذلك الإمام الحكيم الرشيد ، وقد ذكر الأئمّة - الّذين يدّعون الاقتداء بهم - في مناقبه (8) أمثال هذه المناقب ، ومع ذلك يزعمون أنّهم لهم مقتدون ، وبآثارهم مهتدون؟!

نسأل اللّه العصمة عن التعصّب ، فإنّه ساء الطريق ، وبئس الرفيق.

ثمّ إنّي لمّا نظرت في ذلك الكتاب الموسوم ب « نهج الحقّ وكشف الصدق » رأيت أنّ صاحبه عدل عن نهج الحقّ ، وبالغ في الإنكار على أهل السنّة ، حتّى ذكر أنّهم كالسوفسطائية ، ينكرون المحسوسات والأوليّات ،

ص: 21


1- إذ إنّ جدّته لأمّه علیه السلام هي : أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
2- انظر : كشف الغمّة 2 / 161 ، نقلا عن الحافظ عبد العزيز بن أبي نصر محمود بن المبارك بن محمود الجنابذي ، المعروف بابن الأخضر ( 524 - 611 ه ).
3- أثبتناه من « إبطال نهج الباطل » المطبوع ضمن « إحقاق الحقّ ».
4- ليست في معرفة علوم الحديث.
5- في إبطال نهج الباطل : آباءه.
6- معرفة علوم الحديث : 51.
7- انظر : سير أعلام النبلاء 17 / 162 رقم 100.
8- أي : مناقب أبي بكر. وكان في إبطال نهج الباطل : « مناقبهم » وهو تصحيف.

فلا يجوز الاقتداء بهم ، ووضع في هذا مسائل ذكرها من علم أصول الدين ، ومن علم ( مسائل ) (1) أصول الفقه ، ومن المسائل الفقهية ، وطعن على الأئمّة الأربعة بمخالفتهم نصّ الكتاب ، وبالغ في هذا أقصى المبالغة.

ولم يبلغني أنّ أحدا من علماء السنّة ردّ عليه كلامه ومطاعنه في كتاب وضعه لذلك ، وذلك الإعراض يحتمل أن يكون لوجهين :

الأوّل : عدم الاعتناء بكلامه وكلام أمثاله ؛ لأنّ أكثره ظاهر عليه أثر المكابرة والتعصّب ، وقد ذكر ما ذكر في كلام بالغ في الركاكة - على شاكلة كلام المتعرّبة من عوامّ الحلّة وبغداد - ، وشين الرطانة (2) ، وهجنة (3) [ العوراء (4) ] تلوح من مخائله كرطانات جهلة أهل السواد ، كما ستراه واضحا غير خفيّ على أهل الفطانات.

الوجه الثاني : إنّ تتبّع ذلك الكلام وتكراره وإشاعته ممّا ينجرّ (5) إلى اتّساع الخرق ، وتشهير ما حقّه الإعراض عنه ، ولم يكن داعية دينية تدعو إلى ذلك الردّ ، لسلامة الزمان عن آفة البدعة.

ومن عادة أجلّة علماء الدين أنّهم لا يخوضون في التصانيف إلّا

ص: 22


1- ليست في إبطال نهج الباطل ؛ وعبارة الفضل مشوّشة ، وما يناسب السياق أن تكون الجملة هكذا : ومسائل من علم أصول الفقه ...
2- الرطانة - بالفتح أو الكسر - : الكلام بالعجميّة ؛ انظر : الصحاح 5 / 2124 ، لسان العرب 5 / 239 ، تاج العروس 18 / 237 ، مادّة « رطن ».
3- تهجين الأمر : تقبيحه ، والهجنة من الكلام : ما يعيبه ؛ انظر : الصحاح 6 / 2217 ، لسان العرب 15 / 42 ، تاج العروس 18 / 582 ، مادّة « هجن ».
4- العوراء : الكلمة التي تهوي في غير عقل ولا رشد ، والكلمة القبيحة ، وهي السقطة ؛ انظر : الصحاح 2 / 760 ، لسان العرب 9 / 469 ، مادّة « عور ».
5- كذا في الأصل والمصدر ، و« يجرّ » هو الصواب لغة ومعنى ؛ وكذا في المورد التالي في الصفحة التالية.

لضرورة الدين ، لا يصبغون بالمداد ثياب الأقلام ، إلّا لقصارة (1) الدنس الواقع على جيوب حلل الإسلام.

ولمّا اطّلعت على مضامين ذلك الكتاب ، وتأمّلت في ما سنح في الزمان من ظهور بدعة الفرقة الإمامية ، وعلوّهم في البلاد ، حتّى قصدوا محو آثار كتب السنّة وغسلها وتحريفها (2) ، بل تمزيقها وتحريقها ...

حدّثتني نفسي بأنّ فساد الزمان ربّما ينجرّ إلى أنّ أئمّة الضلال يبالغون بعدها في تشهير هذا الكتاب ، وربّما يجعلونه مستندا لمذهبهم الفاسد ، ويحصّلون من قدح أهل السنّة - بذلك الكتاب - جلّ المقاصد ، ويظهرون على الناس ما ضمّن ذلك الرجل ذلك الكتاب من ضعف آراء الأئمّة الأشاعرة ، من أهل السنّة والجماعة ، ويصحّحون على العوامّ والجهلة أنّهم كالسوفسطائية ، فلا يصحّ الاقتداء بهم ، وربّما يصير هذا سببا لوهن قواعد السنّة.

فهنالك تحتّم عليّ ، ورأيت المفروض عليّ ، أن أنتقد كلام ذلك الرجل في ذلك الكتاب ، وأقابل في كلّ مسألة من العلوم الثلاثة المذكورة فيه ما يكون تحقيقا لحقيقة تلك المسألة ، وأبيّن فيه حقّيّة مذهب أهل السنّة والجماعة في تلك المسألة ، أو أردّ عليه ما يكون باطلا ، وعن حلية الحقّ الصريح عاطلا ، على وجه التحقيق والإنصاف ، لا على وجه التعصّب والاعتساف.

ص: 23


1- قصر الثوب قصارة : بيّض الثوب وحوّره ودقّه بالقصرة التي هي القطعة من الخشب ؛ انظر : الصحاح 2 / 794 ، لسان العرب 11 / 189 ، تاج العروس 7 / 397 ، مادّة « قصر ». والمقصود هنا هو إزالة الدنس عن الثوب وتنظيفة منه.
2- في إبطال نهج الباطل : « تخريقها ».

وقد أردت أوّلا أن أذكر حاصل كلامه في كلّ مسألة ، بعبارة موجزة خالية عن التطويل المملّ الفارغ عن الجدوى ، وليسهل على المطالع أخذه وفهمه ، ولا يذهب إلى أباطيله ذهنه ووهمه.

ثمّ بدا لي أن أذكر كلامه بعينه وبعباراته الركيكة ، لوجهين :

أحدهما : إنّ الفرقة المبتدعة لا يأتمنون علماء السنّة ، وربّما يتمسّك بعض أصحاب التعصّب بأنّ المذكور ليس من كلام ابن المطهّر ، ليدفع بهذا الإلزام عنه.

والثاني : إنّ آثار التعصّب والغرض في تطويلات عباراته ظاهرة ، فأردت نقل كلامه بعينه ليظهر على أرباب الفطنة أنّه كان من المتعصّبين ، لا من قاصدي تحقيق مسائل الدين.

وهذان الوجهان حدأاني إلى ذكر كلامه في ذلك الكتاب بعينه.

واللّه تعالى أسأل أن يجعل سعيي مشكورا ، وعملي لوجهه خالصا مبرورا ، وأنّ يزيد بهذا تحقيقا في ديني ، ورجحانا في يقيني ، ويثقل به يوم القيامة عند الحساب موازيني ، وأن يوفّقني للتجنّب عن التعصّب ، والتأدّب في إظهار الحقّ أحسن التأدّب ، إنّه وليّ التوفيق ، وبيده أزمّة التحقيق.

وها أنا أشرع في المقصود ، متوكّلا على اللّه الودود ، وأريد أن أسمّيه بعد الإتمام - إن شاء اللّه - بكتاب : « إبطال نهج الباطل ، وإهمال كشف العاطل ».

* * *

ص: 24

أقول :

اشارة

قد ذكر الفضل هذا في كلامه أنّهم « الفرقة الناجية » ، وهي دعوى يبطلها الكتاب والسنّة والعقل - كما ستعرفها إن شاء اللّه تعالى -.

لكن ينبغي هنا أن نشير إلى بعض الآيات ، وبعض الأخبار ..

فمن الآيات :

قوله عزّ من قائل مخاطبا للصحابة بعد واقعة أحد :

( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) .. الآية (1).

فإنّها دالّة على عروض الانقلاب للصحابة بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ..

إذ ليس الاستفهام منه سبحانه على حقيقته ؛ لاستلزامه الجهل .. بل هو للإنكار أو التوبيخ ، وهما يقتضيان الوقوع ، ولذا قال : ( انْقَلَبْتُمْ ) بلفظ الماضي ، تنبيها على تحقّقه ، لعلمه تعالى بعاقبة أمرهم.

ولا يصح أن يراد بالآية خصوص الأعراب ، الّذين زعم أهل السنّة ارتدادهم ، كمالك بن نويرة (2) وقومه ؛ لأنّ الآية متعلّقة بالمنهزمين في

ص: 25


1- سورة آل عمران 3 : 144 .. وتمامها : ( وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .
2- في الجاهلية وأشرافهم ، وكان من أرداف الملوك ، قدم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأسلم ، وأسلم بنو يربوع بإسلامه ، وولّاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على صدقات قومه ثقة به واعتمادا عليه ، قتله خالد بن الوليد مسلما! وجعل رأسه أثفية لقدر! ثمّ نزا على امرأته من ليلته فزنى بها وكانت جميلة!! أنظر : فتوح البلدان : 107 ، تاریخ الطبري 272/2 حوادث سنة 11 ه- ، أُسد الغابة 276/4 رقم 4648 ، شرح نهج البلاغة 1 / 179 ، الإصابة في تمييز الصحابة 754/5 رقم 7702 ، تاريخ الخميس 209/2 .

أحد ، وهم المهاجرون والأنصار (1).

فإن قلت : لعلّ المراد الإنكار على ما يعلمه منهم من إرادة الانقلاب في وقعة أحد ، كما روي عن بعضهم من إرادة التنصّر والتهوّد - كما ستعرفه في محلّه - فلا تدلّ على الانقلاب بعد موت النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

قلت : لو سلّم ، فهو كاف في المقصود ؛ لأنّ القوم أولئك القوم ، ولم يخرج منهم إلّا القليل المتّفق على عدم انقلابهم ، لا الكثير الغالب ، وإلّا لما حسن الإنكار على المنهزمين بوجه العموم ، ولو بالعموم العرفي.

وللكلام في الآية تتمّة تأتي في أوّل مباحث الإمامة إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا الأخبار :

فمنها : أخبار الحوض ، الدالّة على ارتداد الصحابة ، إلّا القليل

ص: 26


1- تنوير المقباس : 74 ، تفسير الطبري 3 / 455 - 458 ح 7939 - 7952 ، أسباب النزول - للواحدي - : 70 ، البحر المحيط 3 / 68 - 69 ، النهر المادّ 1 / 566 ، تفسير البغوي 1 / 281 ، الكشّاف 1 / 468 ، تفسير الفخر الرازي 9 / 22 المسألة 1 ، تفسير القرطبي 4 / 143 ، تفسير البيضاوي 1 / 182 ، تفسير ابن جزي الكلبي 1 / 119 ، تفسير ابن كثير 1 / 386 ، فتح القدير 1 / 385 ، روح المعاني 3 / 114.

النادر ، كالذي رواه البخاري في « كتاب الحوض » عن أبي هريرة ، أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « بينا أنا قائم فإذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ؛ فقلت : إلى أين؟! قال : إلى النار واللّه ؛ قلت : ما شأنهم؟! قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

ثمّ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ؛ قلت : إلى أين؟! قال : إلى النار واللّه ؛ قلت : ما شأنهم؟! قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم » (1).

ص: 27


1- صحيح البخاري 8 / 217 ح 166. وقد تضافرت الأحاديث وصحت في اختلاج أكثر الصحابة عن الحوض يوم القيامة ، لارتدادهم عن الدين ؛ فانظر ذلك - مثلاً - في : 406/1 - 4071 صحيح البخاري 277/4 ح 151 وج 6 / 108 ح 147 و ج 1 / 214 ح 157 و ص 216 - 218 ح 163 و 164 و 165 و 171 ، صحیح مسلم 150/1 - 151 وج 2 / 12 - 13 وج 7 / 66 - 68 و ص 71 و ج 157/8 ، سنن ابن ماجة 2 /1439 ح 4306 ، مسند أحمد 257/1 و 384 و 406 و 425 و 439 و 453 و 455 وج 2/ 300 و 108 و ج 5 / 48 و 50 و 333 و 339 و 393 ، مصنف عبد الرزاق 20854 و 20855 ، ما روي في الحوض والكوثر - لبقي بن مخلد - : 98 35 ، تأويل مختلف الحديث : 30 ، السنة - لابن أبي عاصم - : ح 340 - 346 ح 761 - 776 ، المعجم الكبير 143/6 ح 5783 و ص . و ص 171 ح 5894 و ص 200 ح 5996 و ج 11 / 28 - 10953 وج 17 / 201 ح 538 ، المعجم الأوسط 3 / 263 ح 2895 ، السنن الكبرى 78/4 ، فردوس الأخبار 1 / 45 ح 131 ، الذيل على جزء بقي بن مخلد - لابن بشكوال - : 119 - 120 ح 54 و 55 ، مصابيح السنة 537/3 ح 4315 ، الترغيب والترهيب 4 / 192 ح 75 - 77 ، مجمع الزوائد 10 / 364 - 365 ، جامع الأحاديث الكبير 191/2 - 192 ح 4776 و 4777 وج 3 / 283 ح 8653 و 1. الجامع الصغير : 463 ح 7561 ، كنز العمّال 11 / 176 - 177 ح 31112 - 31115 وج 13 / 94 ح 36321 وج 14 / 417 - 419 ح 39124 - 39131 - وص 420 ح 39135 وص 421 ح 39137.

فهل ترى هذا الخبر ونحوه يجامع مذهب القوم ، والبناء على سلامة الصحابة المخالفين لأمير المؤمنين علیه السلام ؟!

فكيف يكونون هم الفرقة الناجية؟!

ومنها : ما رواه الحاكم وصحّحه على شرط البخاري ومسلم ، عن عوف بن مالك ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ستفترق أمّتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمهم فرقة [ قوم ] يقيسون الأمور برأيهم ، فيحرّمون الحلال ، ويحلّلون الحرام » (1)

وأنت تعلم أنّ أهل القياس عمدة أهل السنّة ، فكيف يكونون الفرقة الناجية؟!

ومنها : ما رواه الذهبي في « ميزان الاعتدال » بترجمة زيد بن وهب الجهني - وصحّحه بظاهر كلامه ، واعتبره جدّا - عن حذيفة : « إن خرج الدجّال تبعه من كان يحبّ عثمان » (2)

.... إلى غيرها ممّا لا يحصى من الأخبار ، وسيمرّ عليك الكثير منها إن شاء اللّه تعالى.

وممّا يدلّ على أنّنا نحن الفرقة الناجية : الأحاديث المستفيضة ؛ كحديث السفينة ، وباب حطّة ، وحديث الثقلين - ونحوها ممّا سيمرّ عليك - فإنّا تعلّقنا بسفينة النجاة ، ودخلنا باب حطّة ، وتمسّكنا بعترة

ص: 28


1- المستدرك على الصحيحين 4 / 430 [ 4 / 477 ح 8325 ] كتاب الفتن. منه قدس سره .
2- ميزان الاعتدال 3 / 158 رقم 3034.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وثقله ، الذي من تمسّك به لا يضلّ أبدا (1).

بخلاف أهل السنّة ، فإنّهم بالضرورة لم يتمسّكوا بهم ، ولم يأخذوا منهم علما وعملا ، بل نابذوهم يدا ولسانا.

وأمّا ما رواه الخصم من قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا تزال طائفة من أمّتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم » (2).

فهو أدلّ على إنّ الشيعة هم الفرقة الناجية ؛ للتعبير بالطائفة الظاهرة بالقلّة.

والمراد بال « منصورين ... » إلى آخره ، هو : النصرة الدينية القائمة بالأدلّة الجليّة وقوّة البرهان ، وهي مختصّة بمذهب قرناء القرآن المجيد ، والثقل الذي خلّفه النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأمّته.

وليس المراد النصرة الدنيوية كما تخيّله الخصم ، فإنّه ينتقض عليه بأمر عثمان ، وكثير من الأوقات كأيّام البويهيّين ، والحمدانيّين ، والعلويّين ، وأيّام المصنّف ، والسلطان محمّد خدابنده ، وأيّام الصفويّين ، التي هي أيّام الخصم نفسه التي تذمّر منها في خطبته لاستيلاء الشيعة على البلاد.

وأمّا ما وسموا به أنفسهم من أنّهم أهل السنّة والجماعة فخطأ آخر ؛ لما رواه يحيى بن عبد اللّه بن الحسن ، عن أبيه ، قال : « كان عليّ علیه السلام يخطب ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرني من أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة؟ ومن أهل السنّة؟ ومن أهل البدعة؟

ص: 29


1- سيأتي تخريج كلّ واحد منها في محلّه إن شاء اللّه تعالى.
2- مرّ تخريجه في صفحة 12.

فقال : ويحك! أما إذ سألتني فافهم عنّي ، ولا عليك أن [ لا ] تسأل عنها أحدا بعدي.

فأمّا أهل الجماعة : فأنا ومن اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر اللّه وأمر رسوله صلی اللّه علیه و آله .

وأمّا أهل الفرقة : فالمخالفون لي ولمن اتّبعني وإن كثروا.

وأمّا أهل السنّة : فالمتمسّكون بما سنّه اللّه لهم ورسوله صلی اللّه علیه و آله وإن قلّوا [ وإن قلّوا ].

وأمّا أهل البدعة : فالمخالفون لأمر اللّه ، ولكتابه ، ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، العاملون برأيهم وأهوائهم ، وإن كثروا ، وقد مضى منهم الفوج الأوّل ، وبقيت أفواج ، وعلى اللّه قصمها واستئصالها عن حدبة (1) الأرض » (2) .. الحديث

وهو كما ترى لا ينطبق على أهل السنّة إلّا أن يتعلّقوا بالمكابرة ، ويتجنّوا في الدعوى.

إذ كيف يكونون من أهل جماعة أمير المؤمنين علیه السلام ومتّبعيه؟! وهم لا يتّبعونه بكلّ ما يخالف به مشايخهم ، بل بكلّ أمر!

وكيف يكونون من أهل السنّة؟! وهم يعملون بالقياس ، والاستحسان ، ويحلّلون الحرام ، ويحرّمون الحلال بآرائهم ، كما ذمّهم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث الحاكم السابق!

ص: 30


1- الحدبة : ما أشرف وغلظ وارتفع من الأرض ؛ انظر : الصحاح 1 / 108 ، لسان العرب 3 / 73 ، تاج العروس 1 / 407 ، مادّة « حدب ».
2- كنز العمّال 8 / 215 [ 16 / 183 - 184 ح 44216 ] كتاب المواعظ. منه قدس سره .

نعم ، هم أهل جماعة معاوية وأضرابه ، وهم أهل السنّة ، أي المخالفون لأمير المؤمنين علیه السلام كما عرفت في بعض رجال المقدّمة أنّهم يصفون العثماني العدوّ لأمير المؤمنين علیه السلام بأنّه صاحب سنّة! (1).

فلو لم يستحسنوا طريقة العثماني ، ولم يرتضوها ، لوصفوه بأنّه صاحب بدعة وضلالة ونفاق ، لما استفاض أنّ بغض عليّ علیه السلام علامة النفاق (2).

فيكون أهل السنّة عبارة عن العثمانيّين الأعداء لأمير المؤمنين ، المبغضين له.

ويشهد لعداوتهم له أنّهم إلى الآن لا يأنسون بذكر فضائله ، ولا يحبّون الاستماع إليها ، لا سيّما فضائله العظمى ، ومناقبه الكبرى ، التي يعرفون منها الامتياز على مشايخهم ، حتّى إنّهم يحتالون لإنكارها أو تأويلها بكلّ طريق ، وإن لم يمكن لأحدهم نكران فضله ، وترك ذكر فضائله كلّيّة!

وتراهم إذا ذكروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفردوه بالصلاة عليه ، وهي الصلاة البتراء المنهيّ عنها (3) ، مع إنّه قد استفاض عندهم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جعل الصلاة على آله من كيفيّة الصلاة عليه ، كما رواه البخاري ومسلم

ص: 31


1- (1) انظر مثلا : إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، مرّت ترجمته في ج 1 / 63 - 64 رقم 6 . وعثمان بن عاصم ، مرّت ترجمته في ج 1/ 187 - 188 رقم 216 . ومحمد بن عبيد الطنافسي ، مرّت ترجمته في ج 242/1 رقم 293.
2- مرّت الإشارة إلى ذلك في الجزء الأوّل من الكتاب ، صفحة 15 ؛ فراجع.
3- انظر : جواهر العقدين : 217 ، الصواعق المحرقة : 225 ، كشف الغمّة عن جميع الأمّة - للشعراني - 1 / 342.

وغيرهما (1) ، وستعرفه إن شاء اللّه في الآية الخامسة والعشرين من الآيات التي استدلّ بها المصنّف رحمه اللّه على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام .

نعم ، ربّما يصلّون على آل النبيّ معه في أوائل مصنّفاتهم وأواخرها ، ولكن لا بدّ أن يشركوا معهم الصحابة ، كراهة لتمييز آل محمّد صلی اللّه علیه و آله على غيرهم كما ميّزهم اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وخصّهم بالأمر بالصلاة عليهم معه.

ومع ذلك ، إذا جاء أحدهم إلى تفسير آل الرسول صلی اللّه علیه و آله قال : المراد بهم مطلق عشيرته وأقاربه! (2) خلافا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حيث فسّرهم بعليّ وفاطمة والحسن والحسين كما تواتر في أخبارهم ، التي منها ما استفاض في نزول آية التطهير (3).

فليت شعري كيف يفضّل بمشاركة سيّد النبيّين بالصلاة عليه من لا يشاركه بالفضل والقرب من اللّه سبحانه ، ولا يختصّ معه بالطهارة من الرجس؟!

وأمّا ما أشار فيه إلى مدح الصحابة المرضيّين ، فأكثره حقّ بلا مراء ،

ص: 32


1- صحيح البخاري 6 / 217 - 218 ح 291 - 293 ، صحيح مسلم 2 / 16 ، سنن ابن ماجة 1 / 292 - 293 ح 903 و 904 و 906 ، سنن أبي داود 1 / 255 - 256 ح 976 - 981 ، سنن الترمذي 5 / 334 - 335 ح 3220 ، سنن النسائي 3 / 45 - 49 ، مسند أحمد 4 / 243 و 244 وج 5 / 274 ، الصلاة على النبيّ صلی اللّه علیه و آله - لابن أبي عاصم - : 12 - 16 ح 1 - 7 وص 17 - 25 ح 10 - 22. وسيأتي إن شاء اللّه تعالی مزيد تفصيل في موضعه من الآية الكريمة المشار إليها في المتن لاحقاً
2- انظر : تفسير القرطبي 14 / 119 ، شرح الزرقاني على المواهب اللدنّية 4 / 342 - 343.
3- مرّ تخريج ذلك في الجزء الأوّل ، صفحة 162 - 164 ه 4 ؛ فراجع.

وهم الأحقّون بالمدح والثناء.

كيف لا؟! وهم أركان الدين ، وأنصار سيّد المرسلين صلی اللّه علیه و آله .

ولكنّ الكلام في من انقلبوا بعده ، وارتدّوا على أدبارهم القهقرى.

ثمّ إنّ من المشكل قول الفضل : « وجعل مناط أمور الدين مرجوعة إليهم ».

فإنّه إن أراد بالدين : فروعه ، وبرجوعه إليهم : صحّة اجتهادهم تبعا للدليل ؛ فهذا لا يخصّهم.

وإن أراد صحّة اجتهادهم ، وحكمهم بالاستحسان والهوى ، كما في تحريم المتعتين ، وإمضاء الطلاق ثلاثا ، ونحوها ؛ فباطل.

لأنّ الأحكام بيد اللّه تعالى ، وليس لأحد أن يتحكّم في دينه ، ويشرّع خلاف ما أنزل على رسوله صلی اللّه علیه و آله .

وإنّ أراد بالدين : الإمامة ، وبرجوع أمورها إليهم : جعلهم أئمّة ؛ فهو باطل أيضا على مذهبهم ، لإنكارهم النصّ على إمام.

وما أحسن قوله : « والناس على دين ملوكهم » ، فإنّه من أصدق الكلام!

ولذا ترى الناس اجتنوا من الشجرة الملعونة في القرآن طعام الأثيم ، وهو بغضهم وعداوتهم لمن أمروا بمودّتهم ، وتركوا التمسّك بالشجرة الطيّبة ، وأحد الثقلين اللذين أمروا بالتمسّك بهما ، وأخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّهم سفينة النجاة ، وأنّهم من بيوت أذن اللّه أن ترفع.

فعافوا مذهب هؤلاء الأطيبين ، واتّبعوا مذهب أولئك الظالمين ، وهم يشاهدون أحوالهم في الفسق والجور ، يسهرون لياليهم بالخمر والزنا ، ويقضون أيّامهم بالظلم والخنا ، لا يعرفون لله حرمة ، ولا يرقبون في مؤمن

ص: 33

إلّا (1) ولا ذمّة.

نعم ، ربّما يتّفق أنّ الملوك والناس يتّبعون النبيّين والعلماء والبراهين ، كما اتّفق في زمن الإمام العلّامة المصنّف أعلى اللّه مقامه ، فإنّ سلطان زمانه السديد لمّا رأى الخلل في مذاهب السنّة ، طلب المصنّف رحمه اللّه من الحلّة الفيحاء ، وجمع له الجمّ الغفير من أكابر علمائهم ، وأمرهم بالمناظرة بحضرته ، ليتّضح الحقّ عيانا.

فتناظروا ، وبان الوهن والانقطاع في أولئك العلماء على رؤوس الأشهاد ، وظهر بطلان دينهم في جميع البلاد ، فاستبصر السلطان وكلّ من سلك لمعرفة الحقّ فجاجا ، وجاء نصر اللّه والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا.

ولم يكن لهذا السلطان العظيم الشأن داع للعدول عن مذهبه ، وخلاف ما كان عليه عامّة أهل مملكته ، غير حبّ الحقّ والحقيقة ، إذ ليس سلطانه محتاجا إلى ما فعل ، بل كان منه على خطر ، بخلاف ملوك السنّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فإنّ سلطانهم موقوف على ردّ نصّ الغدير ، وجحد الأئمّة الاثني عشر ، الّذين هم أحد الثقلين المستمرّين ، اللذين لا يفترقان حتّى يردا على النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحوض.

* وأمّا ما نقله عن « كشف الغمّة » من حديث « حلية سيف أبي بكر » فهو وإن كان مذكورا في أواخر أحوال إمامنا أبي جعفر الباقر علیه السلام ، إلّا أنّه قد نقله عن أبي الفرج ابن الجوزي في كتاب « صفوة الصفوة » عن عروة

ص: 34


1- الإلّ : كلّ ما له حرمة وحقّ ، كالحلف والعهد والقرابة والرحم والجوار ، انظر : الصحاح 4 / 1626 ، لسان العرب 1 / 186 ، تاج العروس 14 / 26 ، مادّة « ألل ».

ابن عبد اللّه (1).

فهو عن كتب السنّة وأخبارهم لا الشيعة ، كما هو طريقة « كشف الغمّة » ، فإنّ غالب ما فيه منقول عن كتب الجمهور ، يعرفه كلّ من رأى هذا الكتاب ولحظ طرفا منه.

وقد صرّح مؤلّفه بذلك في خطبة الكتاب ، فقال : « واعتمدت في الغالب النقل من كتب الجمهور ؛ ليكون أدعى لتلقّيه بالقبول ، ووفق رأي الجميع متى رجعوا إلى الأصول ، ولأنّ الحجّة متى قام الخصم بتشييدها ، والفضيلة متى نهض المخالف بإثباتها وتقييدها ، كانت أقوى يدا ... » إلى آخر كلامه (2).

* كما إنّ ما نقله الخصم عن كتاب « كشف الغمّة » من قول إمامنا الصادق علیه السلام : « ولدني أبو بكر مرّتين » إنّما هو من كتب القوم ، على أنّ لفظ « الصدّيق » زيادة من الفضل!

وظاهر أنّه لم ير « كشف الغمّة » ولذا جهل ولادة الصادق علیه السلام الثانية ، فقال : « وكذا كانت إحدى جدّاته [ الأخرى ] من أولاد أبي بكر » مع إنّها مذكورة في الكتاب!

فإنّه - بعد ما نقل في أوّل ترجمة الصادق علیه السلام كلاما طويلا لمحمّد ابن طلحة الشافعي - قال : « وقال الحافظ عبد العزيز الأخضر الجنابذي : أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الصادق ، أمّه أمّ فروة ، واسمها قريبة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق ، وأمّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق ، ولذا قال

ص: 35


1- صفوة الصفوة 1 / 399 ، وانظر : حلية الأولياء 3 / 185.
2- كشف الغمّة 1 / 4.

جعفر : ولدني أبو بكر مرّتين » (1)

فهذا - مع إنّه عن كتب الجمهور - خال عن وصف الصادق علیه السلام لأبي بكر ب : الصدّيق.

وعليه ، فقد كذب الخصم مرّتين :

الأولى : في دعوى أنّ ما ذكره فى « كشف الغمّة » كان نقلا عن كتب الشيعة.

والثانية : في النقل عن الصادق علیه السلام أنّه وصف أبا بكر ب « الصدّيق » بقوله : ولدني أبو بكر مرّتين.

وهذا ونحوه هو الذي أوجب أن لا نأتمن القوم في نقلهم!

* وأمّا ما حكاه عن الحاكم ، فلو صحّ عنه لم يكن حجّة علينا ؛ لأنّ الحاكم ورجال حديثه من الجمهور ، ومجرّد كونه ممّن يميل إلى التشيّع - أي أنّه ليس ناصب العداوة لأمير المؤمنين - وأنّ له إنصافا في الجملة ، لا يقضي بإلزامنا بما يرويه بإسناد من قومه.

* وأمّا ما ذكره من الوجهين لترك علمائهم الردّ على المصنّف رحمه اللّه ، فالحقّ كما ذكره في الوجه الثاني ، من أنّ تتبّع ذلك الكلام وإشاعته ينجرّ (2) إلى اتّساع الخرق ، إذ به تنكشف الحقيقة وتزول الغفلة عن بعض الغافلين.

ولذا قالوا : إذا جاء ذكر ما وقع بين الصحابة فاسكتوا! (3).

ص: 36


1- كشف الغمّة 2 / 161.
2- في المخطوط والمصدر : « ينجرّ » ، والمثبت من المطبوعتين هو الصواب معنى.
3- (3) وقد رووا في ذلك حديثا موضوعا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا. انظر : المعجم الكبير 96/2 ح 1427 وج 10/198 ح 10448 ، تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة : 183 رقم 174 ، حلية الأولياء 4/ 108 ، مجمع الزوائد 202/7 و 223 ، كنز العمال 1 / 178 ح 901 .

فإنّهم لو بحثوا لما خفي الحقّ ، ولزالت الغشاوة عن أعين الأفئدة ، ولكن قنعوا بالظنّ والتخمين ، ولم ينظروا بعين التدبّر والإنصاف إلى ما أرشدهم إليه علماء الإمامية ، كأنّهم لم يسمعوا ما ذمّ اللّه سبحانه به الأوّلين ، حيث قال تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (1).

فاللازم على كلّ مكلّف أن يبحث عن الحقّ بحثا تامّا ، ويرعى الأدلّة رعاية من يطلب خلاص نفسه يوم العرض ، لا مجرّد الحصول على صورة الردّ والنقض.

وما أعجب نسبة الخصم التعصّب إلى المصنّف رحمه اللّه ! والإنصاف والتأدّب إلى نفسه! مع ما رأيت من كلامه ، من ضروب الشتم ، وتعمّد الكذب.

وأعجب منه نسبة الركاكة وشين الرطانة إلى كلام المصنّف رحمه اللّه ! وهو لم يعرف العلوم العربية ، فضلا عن أن يرقى إلى رتبةالبلاغة ، فإنّ كلامه قد اشتمل على أنواع الغلط!

فوصف السنن ب « الميتاء » ولا يقال - في ما أعلم - : « ميتاء ».

وأعاد ضمير الجمع المذكّر إلى الموصول المفرد المؤنّث ، فقال : « التي يسخطون العصبة الرضية ».

واستعمل في شعره « سارعة » بمقام « مسرعة ».

ص: 37


1- سورة الأنعام 6 : 116.

وجاء بيته الأخير مختلّ الوزن.

وأعاد ضمير المفرد على المثنّى ، فقال : « الوجهان حداني ».

.. إلى غير ذلك ممّا في كلامه من الغلط ، فضلا عن الركاكة!

ونحن وإن لم نرد أن نؤاخذه بمثل ذلك ؛ لأنّ المقصود غيره ، إلّا أنّا أردنا هنا أن نشير إلى أنّه ركض في غير ميدانه ، وأحلّ نفسه بغير مكانه!

ص: 38

المحسوسات أصل الاعتقادات

اشارة

ص: 39

ص: 40

المحسوسات أصل الاعتقادات

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

المسألة الأولى : في الإدراك

اشارة

وفيه مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : [ الإدراك أعرف الأشياء ]

اشارة

لمّا كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها - على ما يأتي - وبه تعرف الأشياء ، وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة ، وجب البدأة به ، فلهذا قدّمناه.

إعلم أنّ اللّه تعالى خلق النفس الإنسانية - في مبدأ الفطرة - خالية عن جميع العلوم بالضرورة ، وقابلة لها [ بالضرورة ] ، وذلك مشاهد في حال الأطفال.

ص: 41


1- نهج الحقّ : 39 - 40.

ثمّ إنّ اللّه تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك ، وهي القوى الحاسّة ، فيحسّ الطفل - في أوّل ولادته - بحسّ اللمس ما يدركه من الملموسات.

ويميّز بواسطة الإدراك البصري - على سبيل التدرّج - بين أبويه وغيرهما.

وكذا يتدرّج في الطعوم ، وباقي المحسوسات ، إلى إدراك ما يتعلّق بتلك الآلات.

ثمّ يزداد تفطّنه فيدرك بواسطة إحساسه بالأمور الجزئية ، الأمور الكلّيّة ، من المشاركة والمباينة (1) ، ويعقل الأمور الكلّيّة الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية.

ثمّ إذا استكمل الاستدلال (2) ، وتفطّن بمواضع الجدال ، أدرك بواسطة العلوم الضرورية ، العلوم الكسبية.

فقد ظهر من هذا أنّ العلوم الكسبيّة فرع على العلوم الضرورية الكلّيّة ، والعلوم الضرورية الكلّيّة فرع على المحسوسات الجزئية.

فالمحسوسات إذا : هي أصل الاعتقادات ، ولا يصحّ الفرع إلّا بعد

ص: 42


1- المشاركة : هي معرفة الأشياء بأمثالها ؛ والمشترك : هو اللفظ الواحد الذي تعدّد معناه وقد وضع للجميع كلّا على حدة ، ككلمة « عين » الموضوعة لحاسّة النظر وينبوع الماء ومعدن الذهب وغيرها. والمباينة : هي معرفة الأشياء بأضدادها ؛ والتباين : هو أن تكون معاني الألفاظ متكثرة بتكثر الألفاظ ، وإن كانت المعاني تلتقي في بعض أفرادها أو كلها ، مثل «السيف» و «الصارم» فإنّ الصارم خصوص القاطع من السيوف ، فهما متباينان معنى وإن كانا يلتقيان في الأفراد . أنظر : المنطق 41/1 و 45.
2- كان في الأصل : « العلوم » ؛ وما أثبتناه من نهج الحقّ.

صحّة أصله ، فالطعن في الأصل طعن في الفرع.

وجماعة الأشاعرة - الّذين هم اليوم كلّ الجمهور ، من : الحنفيّة ، والشافعيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة - إلّا اليسير من فقهاء ما وراء النهر (1) ، أنكروا قضايا محسوسة - على ما يأتي بيانه - فلزمهم إنكار المعقولات الكلّيّة - التي هي فرع المحسوسات - ويلزمهم إنكار الكسبيّات ؛ وذلك [ هو ] عين السفسطة.

* * *

ص: 43


1- وهم أتباع المتكلّم الأصولي أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي الحنفي ، ولد ب « ماتريد » أحد أحياء سمرقند ، وتوفّي بها سنة 333 ه ، له كتب ، منها : تأويلات أهل السنّة ، تأويلات القرآن ، بيان وهم المعتزلة ، الدرر في أصول الدين ، عقيدة الماتريدية ، شرح الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة. أنظر في ترجمته : الجواهر المضيّة 360/3 رقم 1532 ، تاج التراجم : 249 رقم 217 ، مفتاح السعادة 2 / 133 ، كشف الظنون 262/1 ، معجم المؤلفين 692/3 رقم 15849 ، هدية العارفين 36/6 ، الأعلام - للزركلي - 19/7 . وبين هذه الفرقة وبين بقية الأشاعرة خلاف في عدة مسائل كلامية . أنظر ذلك في : شرح العقائد النسفية : 116 ، شرح المواقف 129/8 ، المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية : 80 و 83 و 96 و 98 .
وقال الفضل:

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ هذه المباحث - التي صدّر بها كتابه - كلّها ترجع إلى بحث الرؤية ، التي وقع فيها الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية وغيرهم ، وذلك في رؤية اللّه تعالى التي تجوّزها الأشاعرة ، وتنكرها المعتزلة ؛ كما ستراه واضحا إن شاء اللّه تعالى.

فجعل المسألة الأولى في الإدراك مع إرادة الرؤية - التي هي أخصّ من مطلق الإدراك - من باب إطلاق العامّ وإرادة الخاصّ ، بلا إرادة المجاز وقيام القرينة ؛ وهذا أوّل أغلاطه.

والدليل على إنّه أراد بهذا الإدراك - الذي عنون به المسألة - الرؤية :

أنّه قال : « لمّا كان الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها - على ما يأتي - [ وبه تعرف الأشياء ] ، وحصل فيه من مقالاتهم أشياء عجيبة غريبة ، وجب البدأة به ».

وإنّما ظهرت مقالاتهم العجيبة - على زعمه - في الرؤية ، لا في مطلق الإدراك ؛ كما ستعرف بعد هذا.

فإنّ الأشاعرة لا بحث لهم مع المعتزلة في مطلق الإدراك ، فثبت أنّه أطلق الإدراك وأراد به الرؤية ؛ وهو غلط ، إذ لا دلالة للعامّ على الخاصّ.

ثمّ إنّ قوله : « الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ... وبه تعرف الأشياء » كلام غير محصّل المعنى ؛ لأنّه إن أراد أنّ الرؤية التي أراد من

ص: 44


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 78 - 81.

الإدراك هي أعرف الأشياء في كونها محقّقة ثابتة ، فلا نسلّم الأعرفية ، فإنّ كثيرا من الأجسام والأعراض معروفة محقّقة الوجود مثل الرؤية.

وإن أراد أنّ الإحساس - الذي هو الرؤية - أعرف بالنسبة إلى باقي المحسوسات (1) ، ففيه :

إنّ كلّ حاسّة بالنسبة إلى متعلّقها ، حالها كذلك ، فمن أين حصل هذه الأعرفية للرؤية؟!

وبالجملة : هذا الكلام غير محصّل المعنى.

ثمّ قوله : « إنّ اللّه تعالى خلق النفس الإنسانية - في مبدأ الفطرة - خالية عن جميع العلوم بالضرورة. وقابلة لها [ بالضرورة ] ، وذلك مشاهد في حال الأطفال » ..

كلام باطل ، يعلم منه أنّه لم [ يكن ] يعرف شيئا من العلوم العقليّة ، فإنّ الأطفال لهم علوم ضروريّة كثيرة من المحسوسات البصريّة والسمعيّة والذوقيّة ، وكلّ هذه المحسوسات علوم حاصلة من الحسّ.

ولمّا لم يكن هذا الرجل من أهل العلوم العقليّة ، حسب أنّ مبدأ الفطرة الذي يذكره الحكماء ويقولون : « إنّ النفس في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم » هو حال الطفوليّة ؛ وذلك باطل عند من يعرف أدنى شيء من الحكمة ، فإنّ الجنين - فضلا عن الطفل - له علوم كثيرة.

بل المراد من مبدأ الفطرة : ان تعلّق النفس بالبدن ، فالنفس في تلك الحال خالية عن جميع العلوم إلّا العلم بذاتها.

وهذا تحقيق ذكر في موضعه من الكتب الحكميّة ، ولا يناسب بسطه

ص: 45


1- في إحقاق الحقّ : الإحساسات.

في هذا المقام ، والغرض أنّه لم يكن من أهل المعقولات حتّى يظنّ أنّه شنّع على الأشاعرة من الطرق العقليّة.

ثمّ في قوله : « وأنكروا قضايا محسوسة - على ما يأتي بيانه - فلزمهم إنكار المعقولات الكلّيّة ».

أراد به أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية عند شرائطها ، وعدم امتناع الإدراك عند فقد الشرائط ؛ وأنت ستعلم أنّ كلّ ذلك ليس إنكارا للقضايا المحسوسة.

ثمّ إنّ إنكار القضايا المحسوسة ، أراد به أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة ، لوقوع الغلط في المحسوسات ، فلا يعتمد على حكم الحسّ.

وهذا هو مذهب جماعة من العقلاء ، ذكره الأشاعرة وأبطلوه ، وحكموا بأنّ حكم الحسّ معتبر في المحسوسات ، كما اشتهر هذا في كتبهم ومقالاتهم (1).

ولو فرضنا أنّ هذا مذهبهم ، فليس كلّ من يعتقد بطلان حكم الحسّ يلزمه إنكار كلّ المعقولات ، فإنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة ، من جملتها المحسوسات ، فمن أين هذه الملازمة؟!

فعلم أنّ ما أراد - في هذا المبحث - أن يلزم الأشاعرة من السفسطة ، لم يلزمهم ، بل كلامه المشوّش - على ما بيّنّا - عين الغلط والسفسطة.

واللّه العالم.

ص: 46


1- انظر : الأربعين في أصول الدين 1 / 237 ، شرح المقاصد 2 / 305 و 312 - 313 وج 4 / 140 ، شرح المواقف 7 / 200 - 210.
وأقول :

لا يخفى أنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة لا يخصّ الرؤية - وإن كان الكلام فيها أوضح - ، بل يعمّ مطلق الإدراك بالحواسّ الظاهريّة.

فإنّهم كما أجازوا تحقّق الرؤية بدون شرائطها ، وأجازوا رؤية الكيفيّات النفسانيّة - كالعلم ، والإرادة ، ونحوهما - ، ورؤية الكيفيّات الملموسة ، والأصوات ، والطعوم ...

أجازوا سماع المذكورات ، ولمسها ، وشمّها ، وذوقها ؛ لإحالتهم كلّ شيء إلى إرادة القادر المختار ، من دون دخل للأسباب الطبيعيّة ؛ كما سيصرّح به الخصم في المبحث الآتي وغيره.

ولأجل عموم النزاع ، جعل المصنّف رحمه اللّه عنوان المسألة : الإدراك ، وأراد به مطلق الإحساس بالحواسّ الظاهريّة.

ولذا تعرّض في هذا المبحث الأوّل للقوى الظاهريّة ، وتدرّج الطفل فيها ، ثمّ قال : « فالمحسوسات إذا : هي أصول الاعتقادات ، ولا يصحّ الفرع إلّا بعد صحّة أصله ».

وتعرّض في المبحث الثالث والرابع والسادس لما يتعلّق بغير الرؤية.

فحينئذ لا معنى لما زعمه الخصم من أنّ المصنّف أراد بالإدراك خصوص الرؤية.

ولو سلّم ، فلا وجه لإنكار الخصم صحّة إرادة الرؤية من الإدراك ، وقيام القرينة عليها ، فإنّه بعد ما زعم وجود الدليل على إرادتها منه ، فقد أقرّ بثبوت القرينة ، إذ ليست القرينة إلّا ما يدلّ على المراد باللفظ.

ص: 47

ثمّ إنّ قول المصنّف رحمه اللّه : « الإدراك أعرف الأشياء وأظهرها ، وبه تعرف الأشياء » إنّما هو كقولهم : العلم بديهي التصوّر ، وغيره يعرف به ، فلا يحدّ.

فالإدراك حينئذ - أعني الإحساس بالحواسّ الظاهريّة - بمنزلة العلم الذي هو الإدراك بالقوى الباطنية ، في كونهما معا بديهيّين ، مفهوما ، ووجودا ، وشروطا.

وهذا كلام ظاهر المفهوم ، محصّل المعنى ، لمن له تحصيل!

ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه أراد بمبدأ الفطرة : ما قبل الولادة ، وهو زمن تعلّق النفس الحيوانية - أي قوى الحيوان المدركة والمحرّكة - بالبدن ، لقوله :

« فيحسّ الطفل في أوّل ولادته ».

إذ لا يجتمع إثبات الإحساس له مع قوله : « النفس في مبدأ الفطرة خالية من جميع العلوم » لو أراد ب « مبدأ الفطرة » ما هو عند الولادة ، فلا بدّ من اختلاف الزمان ، وأنّه أراد ب « مبدأ الفطرة » ما قبل الولادة.

كما أنّه أراد بالأطفال : مطلق الصغار - ولو قبل الولادة - لا خصوص المولودين ، ولذا حكم بخلوّهم عن العلوم في مبدأ الفطرة ، حتّى العلم بذواتهم ، إذ لا دليل على استثنائه - كما فعله الخصم تقليدا لغيره - ، فإنّ الحياة لا تستلزم الشعور والإدراك حتّى للذات.

ولذا ترى من أصابه البنج (1) حيّا لا إدراك له أصلا ، ولا نعرف

ص: 48


1- البنج : نبت معروف مسبت مخدّر ، مخبّط للعقل ، مجنّن ، مسكّن لأوجاع الأورام والبثور وأوجاع الأذن ، طلاء وضمادا. أنظر : تاج العروس 300/3 ، مجمع البحرين 279/2 ، مادّة «ينج» ، وأنظر أيضاً : ألف باء الأعشاب والنباتا الطبية 313/1 رقم 150.

أمرا - غير الحياة في مبدأ الفطرة - يقتضي العلم بالذات ، أو سائر الوجدانيّات.

ولو سلّم ، فتعميم الإدراك للجميع أقرب من تخصيصه بالذات.

ثمّ إنّ المصنّف رحمه اللّه أراد بقوله : « أنكروا قضايا محسوسة » أنّهم أنكروا أصل ثبوتها ، كإنكارهم كون شرائط الرؤية وسائر الإحساسات الظاهريّة ، شرائط واقعيّة لها ، لإحالتهم كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، وقولهم :

« إنّ تلك الشرائط لا دخل لها بالمشروط ، وإنّ الترتّب بينها عاديّ فقط ».

وقد اختلف كلام الخصم هنا.

فمرّة قال : أراد أنّهم أنكروا وجوب تحقّق الرؤية.

ومرّة قال : أراد أنّهم يمنعون الاعتماد على القضايا المحسوسة.

وكلاهما غير مراد للمصنّف ، لكنّه تعرّض لأوّلهما - في المباحث الآتية - من حيث تفرّعه على إنكار أصل القضايا.

ولعلّه توهّم أنّ المصنّف أشار إلى ثانيهما بقوله : « فالطعن في الأصل طعن في الفرع » .. وهو خطأ!

فإنّ المصنّف أراد الطعن في القضايا المحسوسة ، من حيث إنكارها ، لا من حيث وقوع الغلط في المحسوسات ، وعدم صحّة الاعتماد عليها ، مع أنّه لا فرق بينهما في أنّ القول بهما موجب لإنكار المعقولات ؛ لتفرّعها عليها.

ولا يرفع الإشكال ما ذكره من أنّ مبادئ البرهان أشياء متعدّدة ؛ لرجوع أكثر غير المحسوسات إليها.

وبالجملة : ليس للإنسان من القوى المدركة إلّا قوى الحواسّ

ص: 49

الظاهريّة والباطنيّة والقوّة العاقلة ، ولا شكّ أنّ القوّة العاقلة إنّما تدرك الكلّيّات بواسطة الحواسّ الظاهرية والباطنية ، كما إنّ الباطنيّة إنّما تدرك متعلّقاتها بواسطة الظاهريّة ، فإذا أبطلنا حكم الحسّ الظاهري فقد أبطلنا حكم الحسّ الباطني وحكم العقل ، فلا يعتمد على جميع المعقولات.

ص: 50

شرائط الرؤية

اشارة

قال المصنّف - طيّب اللّه مرقده - (1) :

المبحث الثاني : في شرائط الرؤية
اشارة

أطبق العقلاء بأسرهم - عدا الأشاعرة - على إنّ الرؤية مشروطة بأمور ثمانية ، ( لا تحصل بدونها ) (2) :

الأوّل : سلامة الحاسّة.

الثاني : المقابلة أو [ ما في ] (3) حكمها ، ( كما ) (4) في الأعراض ، والصور في المرآة ، فلا تبصر شيئا لا يكون مقابلا ، ولا في حكم المقابل.

الثالث : عدم القرب المفرط ، فإنّ الجسم لو التصق بالعين ، لم تمكن رؤيته.

الرابع : عدم البعد المفرط ، فإنّ البعد إذا أفرط لم تمكن رؤيته.

الخامس : عدم الحجاب ، فإنّه مع [ وجود ] الحجاب بين الرائي

ص: 51


1- نهج الحقّ : 40 - 41.
2- ما بين القوسين لم يرد في « نهج الحقّ » المطبوع.
3- ليست في المصدر ، وقد أضفناها من نسخة إحقاق الحقّ.
4- ليست في المصدر.

والمرئي ، لا تمكن رؤيته.

السادس : عدم الشفّافية ، فإنّ الجسم الشفّاف الذي لا لون له - كالهواء - لا تمكن رؤيته.

السابع : تعمّد الرائي للرؤية.

الثامن : وقوع الضوء عليه ، فإنّ الجسم الملوّن لا يشاهد في الظلمة.

وحكموا بذلك حكما ضروريا لا يرتابون فيه.

وخالفت الأشاعرة في ذلك جميع العقلاء - من المتكلّمين والفلاسفة - ولم يجعلوا للرؤية شرطا من هذه الشرائط! (1).

وهو مكابرة محضة لا يشكّ فيها عاقل!

* * *

ص: 52


1- انظر : تمهيد الأوائل : 315 - 316 ، الملل والنحل 1 / 87 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 278 ، الأربعين في أصول الدين 1 / 297 ، شرح المقاصد 4 / 197 ، شرح المواقف 8 / 136.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ شرط الشيء ما يكون وجوده موقوفا عليه ، ويكون خارجا عنه ، فمن قال : شرط الرؤية هذه الأمور ؛ ما ذا يريد من هذا؟!

إن أراد أنّ الرؤية لا يمكن أن تتحقّق عقلا إلّا بتحقّق هذه الأمور ، واستحال عقلا تحقّقه بدون هذه الأمور ..

فنقول : لا نسلّم الاستحالة العقليّة ، لأنّا وإن نرى في الأسباب الطبيعيّة وجود الرؤية عند تحقّق هذه الشرائط ، وفقدانها عند فقدان شيء منها ، إلّا أنّه لا يلزم بمجرّد ذلك - من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط - محال ، وكلّما كان كذلك لا يكون محالا عقليّا.

وإن أراد أنّ في العادة جري تحقّق المشروط - الذي هو الرؤية - عند حصول هذه الشرائط ، ومحال عادة أن تتحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط مع جوازه عقلا .. فلا نزاع للأشاعرة في هذا.

بل غرضهم إثبات جواز الرؤية عقلا عند فقدان الشرائط.

ومن ثمّة تراهم يقولون : إنّ الرؤية أمر يخلقه اللّه في الحيّ ، ولا يشترط بضوء ، ولا مقابلة ، ولا غيرهما من الشرائط التي اعتبرها الفلاسفة (2) ، وغرضهم - من نفي الشرطية - ما ذكرنا ، لا أنّهم يمنعون جريان العادة.

ص: 53


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 92 - 93.
2- انظر : شرح المواقف 8 / 116.

على إنّ تحقّق الرؤية إنّما يكون عند تحقّق هذه الشرائط ، ومن تتبّع قواعدهم علم أنّهم يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار وعموم قدرته ، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة كالفلاسفة ، ومن يلحس فضلاتهم كالمعتزلة ومن تابعهم.

فحاصل كلامهم : إنّ اللّه تعالى قادر على أن يخلق الرؤية في حيّ مع فقدان هذه الشرائط ، وإن كان [ هذا ] خرقا للعادة!

فأين هذا من السفسطة ، وإنكار المحسوسات ، والمكابرة ، التي نسب هذا الرجل إليهم؟!

وسيأتي عليك ( في ) (1) باقي التحقيقات.

ص: 54


1- ليست في إحقاق الحقّ ، والظاهر أنّها زائدة.
وأقول :

لا يخفى أنّ الإمكان والامتناع عقلا ربّما يكونان ضروريّين ، وربّما يكونان كسبيّين ، فإذا كانا ضروريّين استغنى مدّعي ثبوتهما عن الدليل ، ولم تصحّ مقابلته بالردّ والتشكيك.

ولذا لا يحتاج مدّعي امتناع جعل العالم - على سعته - في بيضة على ضيقها ، إلى دليل.

ولا مدّعي امتناع اجتماع الضدّين ، أو النقيضين ، إلى دليل.

ولا ريب أنّ العقلاء يرون وجود الرؤية بدون شرائطها من الممتنعات العقليّة ، كاجتماع الضدّين والنقيضين ، وكرؤية الأعدام.

وكما لا يسوغ عندهم دعوى إمكان هذه الأمور ونحوها ، لا يسوغ مثلها في الرؤية المعروفة الخاصة إذا لم تجتمع شرائطها.

وما ذكره من أنّهم « يحيلون كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، وعموم قدرته ، ولا يعتبرون في خلق الأشياء توقّفه على الأسباب الطبيعيّة » خطأ ظاهر ؛ لاستلزامه جواز تحقّق الرؤية بلا راء ؛ لأنّ الرائي جزء السبب كالشروط.

فلو جاز عقلا وجود المسبّبات بلا أسبابها الطبيعيّة ، لجاز وجود الرؤية بلا راء ، والقيام بلا قائم ، والعرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وهو خلاف ضرورة العقلاء.

وأمّا عموم القدرة ، فهو لا يقتضي إلّا تأثيرها في المقدور ، لا في الممتنع ، كجعل الشريك له سبحانه ؛ لأنّ الممتنع ليس متعلّقا للقدرة ،

ص: 55

ولا محلّا لها ؛ وليس هذا نقصا في القدرة ألبتّة.

وبالجملة : تأثير الأسباب الطبيعية في مسبّباتها ، وتوقّفها عليها عقلا ، ضروريّ عند العقلاء ، بلا نقص في قدرة القادر ؛ لأنّ محلّ القدرة هو المسبّب بسببه ، لا بدونه.

لكنّ الأشاعرة أنكروا سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، وتوقّف المسبّبات عليها عقلا ، وادّعوا تأثّر المسبّبات عن القادر بلا توسّط أسبابها الطبيعيّة واقعا ، فخالفوا ضرورة العقلاء ، ولزمهم أن يمكن وجود الأسباب الطبيعيّة بلا مسبّباتها ، وبالعكس!

ويترتّب عليه عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، وعدم صحّة الاستدلال بالمقدّمات على النتائج.

أمّا الأوّل : فلاستلزام تلك الدعوى جواز وجود الجسم بلا حركة ولا سكون ؛ لأنّهما أثران طبيعيان للجسم ، وإذا جاز وجوده بدونهما لم يثبت حدوثه ؛ لأنّ الدليل على حدوثه هو استلزامه عقلا للحركة والسكون الحادثين.

وأمّا الثاني : فلأنّ أجزاء المركّب سبب طبيعي له ، فلو جاز عقلا تحقّق المسبّب بدون سببه الطبيعي ، لجاز وجود المركّب بغير أجزائه ، فلم يناف التركيب وجوب الوجود ، وجاز أن يكون المركّب واجبا ، والواجب مركّبا ، وهو باطل.

اللّهمّ إلّا أن يقال : إنّ محاليّة وجود المركّب بلا أجزائه ، من حيث منافاته لحقيقة التركيب ، لا من حيث السببية ، حتّى يضرّ في المدّعى.

وفيه : إنّ المنافاة إنّما نشأت واقعا من جهة السببيّة ، إذ لو لاها لم تحصل المنافاة.

ص: 56

وأمّا الثالث : فلأنّ المقدّمات سبب طبيعي للنتيجة ، فلو لم تؤثّر فيها لجاز عقلا تخلّف النتيجة عنها ، ويبطل الاستدلال كما سيذكره المصنّف رحمه اللّه في أوّل مباحث النظر.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ دعوى إمكان الرؤية بلا شرائطها تحتاج إلى دليل ، إذ ليس ذلك ضروريا ، فعليهم إثبات الإمكان.

ولا ينافيه قول الرئيس ابن سينا : « ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ، حتّى يذودك عنه واضح البرهان » (1).

فإنّ المراد بالإمكان فيه هو الاحتمال ، لا مقابل الامتناع.

وأمّا قول الخصم : « لا يلزم من فرض تحقّق الرؤية بدون هذه الشرائط محال ».

فإن أراد به أنّ تحقّق الرؤية بدون شرائطها ليس بمحال ؛ فهو عين الدعوى.

وإن أراد به أنّه لا يلزم منه محال آخر فلا يكون محالا ..

ففيه : إنّ محالية الشيء لا تتوقّف على أن يلزم منه محال آخر ، وإلّا لم يكن اجتماع الضدّين أو النقيضين - كأكثر المحالات - محالا.

فإن قلت : لعلّهم يريدون بالرؤية - التي ينكرون توقّفها عقلا على الشرائط - غير الرؤية المعروفة الحاصلة بالانطباع ، أو بخروج الشعاع القائمة بالقوّة المودعة بالآلة الخاصّة.

قلت : لو أرادوا غيرها - كالانكشاف العلمي - لكان النزاع لفظيا ، وهو خلاف البديهة ، ولما احتاج الخصم إلى ذكر أنّ قاعدتهم إحالة كلّ

ص: 57


1- الإشارات والتنبيهات 3 / 418 النمط العاشر في أسرار الآيات.

شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، بل كان يكفيه أن يقول : الرؤية التي نجوّزها بلا هذه الشرائط هي غير الرؤية المعروفة المخصوصة.

هذا ، ولا يخفى أنّه لا فرق بين دعوى القوم إمكان الرؤية المعروفة بدون شرائطها ، وبين دعوى امتناعها وجواز إيجاد اللّه تعالى للمحال ، كما زعمه - في بعض المحالات - ابن حزم في « الملل والنحل » فحكم بأنّ اللّه تعالى قادر على أن يجعل المرء قائما قاعدا معا في وقت واحد ، وقاعدا لا قاعدا ، وأن يجعل الشيء موجودا معدوما في وقت واحد ، والجسم الواحد في مكانين ، والجسمين في مكان واحد ، بل جوّز أن يتّخذ اللّه ولدا! (1) تعالى عن ذلك علوّا كبيرا .. إلى نحوها من الطامّات.

ويظهر من شيخهم الأشعري تجويز مثل تلك الأمور ، فقد نقل السيّد السعيد رحمه اللّه عن « شرح [ جمع ] الجوامع » للفناري (2) الرومي (3) أنّه قال : « أمّا المستحيلات فلعدم قابليّتها للوجود لم تصلح أن تكون محلّا لتعلّق الإرادة » ...

إلى أن قال : « ولم يخالف في ذلك إلّا ابن حزم فقال في ( الملل

ص: 58


1- الفصل في الملل والنحل 2 / 21 - 22.
2- كان هنا في الأصل : « للنفاوي » وكذا في المواضع التالية ، وهو تصحيف ، انظر الهامش التالي.
3- هو : شمس الدين محمّد بن حمزة بن محمّد الفناري الرومي ، ولد سنة 751 ، وتوفّي سنة 834 ه ، كان عارفا بالعربية والمعاني والقراءات والمنطق والأصول ، كثير المشاركة في الفنون ، رحل إلى مصر ، ثمّ رجع إلى الروم ، له مصنّفات عديدة ، منها : فصول البدائع في أصول الشرائع ، تفسير سورة الفاتحة ، شرح مفتاح الغيب في التصوّف للقونوي ، أنموذج العلوم. أنظر : مفتاح السعادة ومصباح السيادة 109/2 ، شذرات الذهب 209/7 ، هدية العارفين 188/6 ، الأعلام - للزكلي - 110/6.

والنحل ) : إنّ اللّه عزّ وجلّ قادر على أن يتّخذ ولدا ، إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزا »!

ثمّ قال الفناري : « وذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني (1) أنّ أوّل من أخذ منه ذلك : إدريس علیه السلام ، حيث جاءه إبليس في صورة إنسان ، وهو يخيط ويقول في كلّ دخلة وخرجة : سبحان اللّه والحمد لله ؛ فجاءه بقشرة وقال : هل اللّه يقدر أن يجعل الدنيا في هذه القشرة؟ فقال : اللّه قادر أن يجعل الدنيا في سمّ هذه الإبرة ؛ ونخس (2) بالإبرة إحدى عينيه ، فصار أعور.

وهذا وإن لم يرو عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد اشتهر وظهر ظهورا

ص: 59


1- هو : ركن الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني الشافعي ، فقيه متكلّم أصولي ، رحل إلى العراق في طلب العلم ، له مناظرات مع المعتزلة ، وله مصنّفات عديدة ، منها : جامع الجلي والخفي في أصول الدين والردّ على الملحدين ، نور العين في مشهد الحسين ، وأدب الجدل ، ومسائل الدور ، وتعليقة في أصول الفقه ؛ عاش نيّفا وثمانين عاما ، وتوفّي بنيسابور يوم عاشوراء سنة 418 ه ، وصلّوا عليه في ميدان الحسين ، وحمل إلى إسفرايين فدفن بها. أنظر : الأنساب - للسمعاني - 144/1 «الإسفراييني - بكسر الألف كذب المفتري : 240 ، معجم البلدان 211/1 رقم 601 «أسفرايين - بفتح الألف» - ، المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور : 127 رقم 269 ، طبقات الفقهاء الشافعية - لابن الصلاح - 312/1 رقم 87 ، تهذيب الأسماء واللغات 169/2 رقم 271 ، وفيات الأعيان 28/1 رقم 4 ، سير أعلام النبلاء 353/17 رقم 220 ، طبقات الشافعية الكبرى - للسبكي - 256/4 رقم 358 ، طبقات الشافعية - للأسنوي - 40/1 رقم 39 ، شذرات الذهب 209/3 ، هدية العارفين 8/5 ، الأعلام - للزركلي - 61/1.
2- نخس الدابّة وغيرها ، ينخسها وينخسها وينخسها ، نخسا : غرز جنبها أو مؤخّرها بعود أو نحوه ، وهو النخس ؛ انظر : الصحاح 3 / 981 ، لسان العرب 14 / 83 ، تاج العروس 9 / 7 ، مادّة « نخس ».

لا ينكر.

وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس علیه السلام أجوبة في مسائل كثيرة من هذا الجنس » (1).

فهذا - كما ترى - دالّ على تجويز الأشعري جعل الدنيا في قشرة ؛ لأنّ الأخذ منه فرع القول به ، ودالّ على تجويزه ما نقلناه عن ابن حزم ، فإنّه من جنس الجواب الذي افتعلوه على إدريس علیه السلام .

وليت شعري ، إذا كان ذلك ثابتا عن إدريس عند الفناري ، فلم لم يلتزم بجواز خلق المستحيلات؟! ولكنّ الغلط غير ممنوع عندهم على الأنبياء!

هذا ، ولا يخفى أنّ جعل بعض شروط الرؤية المذكورة شرطا ، مبنيّ على إنّ عدم المانع - كالحجاب - شرط ، كما أنّ ذكر حكم المقابلة فضلة ؛ لأنّ المرئيّ حقيقة هو الصورة التي في المرآة ، وهي مقابلة لا ذو الصورة.

واعلم أنّه كما للرؤية شروط ، فلغيرها من الإحساسات الظاهرية شروط ، ولم يعتبرها القوم أيضا بمقتضى إحالتهم كلّ شيء إلى القادر المختار ، وإنّما خصّ المصنّف الكلام هنا بالرؤية ، لأنّها أظهر ما به الكلام ، وأوضح حالا وشروطا من سائر الإحساسات الظاهرية.

ص: 60


1- إحقاق الحقّ 1 / 101 - 102.

وجوب الرؤية عند حصول شروطها

اشارة

قال المصنّف (1) :

المبحث الثالث : في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط
اشارة

أجمع العقلاء كافّة - عدا الأشاعرة - على ذلك ؛ للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وارتكبوا السفسطة فيه ، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة ، من الأرض إلى عنان السماء ، محيطة بنا من جميع الجهات ، ملاصقة لنا ، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ، ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ، ولا نبصرها ، ولا شيئا منها ألبتّة!

وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض ، بحيث ينزعج (2) منها كلّ أحد يسمعها ، أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة ، ولا حجاب بيننا وبينها ، ولا بعد ألبتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!

ص: 61


1- نهج الحقّ : 41 - 42.
2- كان في الأصل : « يتزعزع » ، وفي المصدر : « يدعّج » ، وكلاهما تصحيف ؛ وما أثبتناه من إحقاق الحقّ هو المناسب للسياق.

وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محميّة بالنار حتّى تبيضّ ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يرمى في تنّور أذيب فيه الرصاص أو الزيت ، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه! (1).

ولا شكّ أنّ هذا [ هو ] عين السفسطة ، والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [ عندنا ].

* * *

ص: 62


1- انظر مؤدّى ذلك - مثلا - في : تفسير الفخر الرازي 13 / 135 - 136 ، شرح المقاصد 4 / 198 - 200 ، شرح العقائد النسفية - للتفتازاني - : 131.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية (2).

ومعنى نفي [ هذا ] الوجوب : إنّ اللّه تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأمور المذكورة.

ومن أنكر هذا وأحاله عقلا ، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء.

فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب - من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية - أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين ، غير نائمين ولا غافلين (3).

فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط ، بأن يمنع اللّه [ تعالى ] البصر بقدرته عن الرؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.

ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط : بأنّا

ص: 63


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 104 - 106.
2- انظر : شرح المواقف 8 / 136.
3- انظر : الشفا - للقاضي عياض - 1 / 349 ، تفسير القرطبي 15 / 8 - 9 ، زاد المعاد 3 / 43 - 44 ، السيرة النبوية - لابن كثير - 2 / 230 ، السيرة الحلبية 2 / 193 ، مجمع البيان 8 / 229.

نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذلك إلّا لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط (1).

والتحقيق ما قدمناه [ من ] أنّهم يريدون من عدم الوجوب : جواز عدم الرؤية عقلا ، وإمكان تعلّق القدرة به.

فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!

ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة - مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات (2) الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي تميل بها خواطر القلندرية (3) والعوامّ إلى مذهبه الباطل ، ورأيه الكاسد الفاسد - فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.

بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية ، وإلّا جاز أن يكون بحضرتنا جبال

ص: 64


1- انظر : شرح المواقف 8 / 136.
2- التقعقع : التحرّك ، وتقعقع الشيء : صوّت عند التحريك أو التحرّك ، واضطرب وتحرّك. أنظر : الصحاح 1269/3 ، لسان اله=عرب 247/11 ، تاج العروس 392/11 ، مادّة «قعع».
3- القلندرية : كلمة أعجمية بمعنى المحلّقين ، وهم فرقة صوفية يحلقون رؤوسهم وشواربهم ولحاهم وحواجبهم ، وكانت هذه الفرقة مكروهة من الفقهاء المسلمين وعلمائهم ، وقد نشأت في عهد الظاهر بيبرس ، وهو الذي شجّعها ، وكان سبب انتشارها في مصر والشام ، ومن مشاهير رجالها الشيخ عثمان كوهي الفارسي ، وقال بعضهم : إنّ هذه الفرقة أوّل ما ظهرت بدمشق سنة 616 ه وكان لها عدّة زوايا في الشام ومصر. أنظر : معجم الألفاظ التاريخية : 125.

شاهقة ونحن لا نراها.

هذا هو الاعتراض.

وأجاب الأشاعرة عنه : بأنّ هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها ، ولا سفسطة هاهنا.

فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها ، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ؛ وذلك لأنّ الجواز لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة (1).

وحاصل كلام الأشاعرة - كما أشرنا إليه سابقا - : أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.

ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها ، فكلّها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك البيان.

ص: 65


1- انظر : شرح المواقف 8 / 137 - 138.
وأقول :

سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، ونسبة المسبّبات حقيقة إلى فعل القادر ، بلا دخل للأسباب ، ولا توقّف للمسبّبات عليها عقلا.

وحينئذ فيجوز عقلا وواقعا - مع تمام السبب واجتماع الشرائط - عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا ، موصوفة بما وصفها المصنّف ، وعدم سماع الأصوات ، وإحساس حرارة الحديدة ، على ما وصفهما المصنّف رحمه اللّه .

وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة ، وهو خطأ ؛ لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع ، والاطّلاع عليه غير ثابت.

بل على قولهم بالجواز العقلي ، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال ، إلّا أنّا لم نطّلع عليها ، فإنّ مجرّد عدم مشاهدتها لا يدلّ على عدمها ؛ لإمكان أن تكون موجودة دائما ونحن لا نشاهدها!

كما أنّ عدم لمسنا لها. وعدم مصادمتها لنا حال السير ، لا يدلّان على انتفائها ؛ لجواز أن لا يخلق اللّه تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سببهما الطبيعي!

وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم ، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف رحمه اللّه .

ص: 66

فالحقّ أن لا منشأ للجزم بالعدم سوى ارتكاز وجوب الرؤية والسماع وإحساس الحرارة بالبديهية العقلية عند اجتماع الشرائط ، لكنّ الأشاعرة كابروا ارتكازهم.

وأمّا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ اللّه تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، فليس تفسيرا صحيحا.

وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر ، بخلاف الأشاعرة ، وهو ممّا لا يروج على عارف ؛ لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعا.

وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلّا للقدرة ، بلا نفي لها عن محالّها ، ولا نقص فيها.

فالفرق بيننا وبينهم هو أنّا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سببها الطبيعي ، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ؛ وضرورة العقلاء هي الحاكمة.

وأمّا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء ، كالمعجزة المذكورة لنبيّنا صلی اللّه علیه و آله فغير مفيد له ؛ لأنّهذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة ، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.

كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ صلی اللّه علیه و آله حين خروجه لسورة يس ، فإنّ قوله تعالى : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (1) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.

ص: 67


1- سورة يس 36 : 9.

وقد يستفاد من تفريع عدم الإبصار على وجود الغشاوة ، أنّ الإبصار محتاج في ذاته إلى عدم الحاجب ، الذي هو أحد الشروط المتقدّمة.

وأمّا ما نقله عن بعض الأشاعرة ، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد ، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها ، ففيه :

إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل.

فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها ، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.

وإنّما يرى كبيرا في القرب ، صغيرا في البعد ، لأمور محتملة ..

أحدها : إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بالانطباع.

أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بخروج الشعاع.

وأورد عليه صاحب « المواقف » بما هو مبنيّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ، وعلى إنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع (1).

وكلاهما باطل.

واعلم أنّ قول المصنّف رحمه اللّه : « وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة » دالّ على ما ذكرناه سابقا ، من أنّه أراد بالإدراك - في عنوان المسألة - مطلق الإحساس الظاهري ، لا خصوص الرؤية.

ص: 68


1- انظر : المواقف : 307 - 308 ، شرح المواقف 8 / 136 - 137.

وإنّما لم يتعرّض هنا لتجويزهم عدم إدراك الطعوم والروائح - البالغة في الظهور منتهاه - مع سلامة الذائقة والشامّة ، واجتماع سائر الشرائط ؛ استغناء عنه ببيان أخواتهما.

ص: 69

ص: 70

امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

اشارة

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

المبحث الرابع : في امتناع الإدراك مع فقد الشرائط
اشارة

فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق ، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء ، على صخرة سوداء ، في طرف المغرب ، في الليل المظلم! [ وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ] ، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.

ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغرب! (2).

وكفى من اعتقد ذلك نقصا ، ومكابرة للضرورة ، ودخولا في السفسطة.

[ هذا اعتقادهم! وكيف (3) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا

ص: 71


1- نهج الحقّ : 42 - 44.
2- انظر : شرح المواقف 8 / 139 ، شرح التجريد - للقوشجي - : 436 المقصد الثالث.
3- كان في المصدر : « وكيف من ... » ولا يستقيم الكلام بإثبات « من » هنا ، فحذفناها.

اعتقاده؟! ].

وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم (1) مشاهدة أعظم الأجسام قدرا ، وأشدّها لونا وإشراقا ، وأقربها إلينا ، مع ارتفاع الموانع ، وحصول الشرائط! و [ من ] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة ، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!

فهل بلغ أحد من السوفسطائية - في إنكار المحسوسات - إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النهاية؟!

مع إنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان ، حال خروجه ، أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم ، حال الغيبة!

وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ، ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك!

فلينظر العاقل المنصف المقلّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ، ويجعلهم واسطة بينه وبين اللّه تعالى ، ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم ، أو لا؟!

فإن جوّز ذلك لنفسه - بعد تعقّل ذلك وتحصيله - فقد خلّص المقلّد من إثمه ، وباء هو بالإثم ؛ نعوذ باللّه من مزالّ الأقدام!

وقال بعض الفضلاء (2) - ونعم ما قال - : كلّ عاقل جرّب الأمور

ص: 72


1- ليست في المصدر.
2- انظر مؤدّاه في الرسالة السعدية : 43.

فإنّه لا يشكّ في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضاؤه.

ومحالّ أن يكون أهل بغداد - على كثرتهم وصحّة حواسّهم - يجوز عليهم جيش عظيم ، ويقتلون ، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ، ويرتفع الريح ، وتشتدّ الأصوات ، ولا يشاهد ذلك أحد منهم ، ولا يسمعه!

ومحال أن يرفع أهل الأرض - بأجمعهم - أبصارهم إلى السماء ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون في السماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون لإنسان واحد ، مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!

ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة ، بمحضر ألف نفس ، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله ، بأنّ زيدا ما قام ، ويكون قد أخبر بالنفي ، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي ، مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!

بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني - التي فيها - أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة.

وأنّ ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن.

وأنّه لم (1) يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثمّ تعدم عند

ص: 73


1- سقطت من المصدر.

فتحها.

مع إنّ اللّه تعالى قادر على ذلك كلّه (1) ، وهو في نفسه ممكن.

وأنّ المولود الرضيع - الذي يولد في الحال - إنّما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة ، مع إمكانه في نفسه ، وبالنظر إلى قدرة اللّه تعالى.

وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط ، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة ، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات؟!

ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم ، وأفضل متأخّريهم ، فخر الدين الرازي في هذا الموضع ، حيث قال :

« يجوز أن يخلق اللّه تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة ، واللون الذي فيها ، والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه اللّه تعالى في الجسم البارد » (2).

وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ؛ لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟!

* * *

ص: 74


1- ليست في المصدر.
2- انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي 3 / 283.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل - بعد وضع القعقعة - : أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.

ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية ، لتعرف أنّ هذا الرجل - مع فضيلته - قد أخذ [ سبل (2) ] التعصّب عين بصيرته! فنقول :

ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنار ليست بالنار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار ، وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ما ، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء أو غير ذلك.

وهذا هو السفسطة.

ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات ، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.

وأمّا حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها - ممّا ذكره هذا الرجل - فهو : أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة

ص: 75


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 111 - 114.
2- السبل : داء في العين شبه غشاوة كأنّها نسج العنكبوت بعروق حمر ؛ انظر : الصحاح 5 / 1724 ، لسان العرب 6 / 164 ، تاج العروس 14 / 327 ، مادّة « سبل ».

الفاعل المختار وقدرته ، التي هي العلّة التامّة لوجود الأشياء.

فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة ، فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود (1) عند فقدان الأسباب والشرائط.

ولكن جرت عادة اللّه تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها ، وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب.

فالشيء الذي له شرائط في الوجود ، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط ، وانتفاؤه عند انتفائها ، بحسب ما جرى من العادة.

وإن كان ذلك الشيء - بالنسبة إلى القدرة - غير واجب ، لا في صورة التحقّق ، لتحقّق الشرائط ، ولا في صورة الانتفاء ، لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء ، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط ، إذ لم يلزم منه محال عقلي ، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ ، الذي هو الفاعل المختار.

مثلا : الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط ، وجب تحقّقها عند تحقّقها ، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.

كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة اللّه تعالى في خلق بعض الموجودات ، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة ، دون انتفائها.

فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط ، [ أ ] وتحقّقها عند فقدان الشرائط ، محالّ عاديّ (2) ؛ لأنّه جار على خلاف عادة اللّه تعالى ، وإن كان

ص: 76


1- في المصدر : الوجوب.
2- في المصدر : عادة.

جائزا عقلا إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته علّة تامّة لوجود الأشياء.

هذا حاصل مذهب الأشاعرة.

فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!

وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات.

وأمّا جواب الإمام الرازي فهو واقع بإزاء الاستبعاد ، فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنوّر يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا.

فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق اللّه تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ؛ فيكون جوابه صحيحا.

واللّه أعلم بالصواب.

وأمّا قوله : « إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ».

فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ، ولكن لا يلزم منه محال عقلي - كاجتماع الوجود والعدم - ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية ، وتمنع الحرارة عن التأثير.

ومن أنكر هذا ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم.

* * *

ص: 77

وأقول :

ما ذكره من مغايرة الأشاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال ، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة ، كما هو مطلوب المصنّف رحمه اللّه .

فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية ، وغلطهم فيها غلطا بيّنا يستوضحه كلّ ذي عقل.

وأمّا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة ، فهو تكرير لما سبق ، وقد عرفت أنّ قولهم بنفي سببية الأسباب الطبيعية واقعا ، وجواز تخلّف المسبّبات عنها ، وجواز وجود المسبّبات بدونها ، مخالف للضرورة ، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث ، وعلى المركّب بالإمكان .. إلى غير ذلك ممّا سبق.

مع إنّ تجويز رؤية الأعمى ، وسماع الأطرش - العادمين لقوّتي البصر والسمع - مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض ، وهو محال.

وفرض قوّة أخرى يجعل النزاع لفظيا ، وهو ليس كذلك ، فلا يمكن تخلّف المسبّب عن سببه الطبيعي ، ولا وجوده بدونه ، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة ، لاعتبار الإمكان في محلّها ، كما سبق.

فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه ، وبالجمع بين الوجود والعدم ، لا يصحّ تعلّقها بالمسبّب بدون السبب المفروض السببية.

وأمّا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء ، فخطأ

ص: 78

ظاهر ، لاستلزامه قدم الحادثات ، أو حدوث القدرة.

ولمّا أنكر الأشاعرة علّيّة الأسباب الطبيعية - والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات - لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية - من المحسوسات وغيرها - ودخلوا في السوفسطائية ، المخالفين للبديهة.

وأمّا ما ذكره في توجيه جواب الرازي ، فمنحلّ إلى أنّه إقناعيّ خارج عن محلّ الكلام ، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.

وأمّا قوله : « ومن أنكر ذلك ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم » ، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار بردا - كما في فرض الرازي - ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حرارتها.

* * *

ص: 79

ص: 80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف - عطّر اللّه ضريحه - (1) :

المبحث الخامس : في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

اشارة

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية - كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة - ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر - كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة - (2).

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر (3) ، والحرارة - وغيرها من الكيفيات الملموسة - إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

ص: 81


1- نهج الحقّ : 44 - 45.
2- انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 61 - 63 ، تمهيد الأوائل : 302 ، شرح المقاصد 4 / 188 - 189 ، شرح العقائد النسفية : 126 ، شرح المواقف 8 / 123.
3- كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر ...

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟! (1).

ص: 82


1- اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية اللّه تعالى (2).

وتقرير الدليل - كما ذكر في « المواقف » وشرحه - : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

ص: 83


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 118 - 122.
2- انظر : الإبانة عن أصول الديانة : 66 الدليل 81 ، الملل والنحل 1 / 87 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 357 ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : 301 ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين 1 / 268 والمسائل الخمسون : 56 الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : 126.

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ اللّه تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم - كما ذكره هذا الرجل - ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من اللّه تعالى بذلك - أي بعدم رؤيتها - فإنّ اللّه تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق اللّه فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

ص: 84

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات (1).

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط - كما حقّق في محلّه - ، بل هي حالة أخرى يخلقها اللّه تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة ) (2) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

ص: 85


1- المواقف : 302 - 303 ، شرح المواقف 8 / 122 - 124 ملخّصا.
2- في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.
وأقول :
اشارة

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر » (1).

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد » (2) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ » (3).

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

ص: 86


1- شرح المواقف 8 / 129.
2- كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين 6 / 429 - 430 ، معجم المؤلّفين 3 / 849 رقم 16856.. و «مطالع الأنوار في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي - المتوفى سنة 682 ه- - ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمد ابن محمد الرازي - المتوفى سنة 766 ه- - أحد تلامذة العلامة الحلي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمد - حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفى سنة 842 ه- - ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ ! انظر : كشف الظنون 1715/2 - 1717 ، أمل الآمل 2/ 300 - 301 رقم 908 . رياض العلماء 5/ 170 ، لؤلؤة البحرين : 194 - 198 رقم 74 .
3- شرح المقاصد 4 / 191.

لا يمكن دفعها (1).

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد رحمه اللّه (2).

فحينئذ يكون ذكر الفضل له - بدون إشارة إلى ذلك - تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه ..

أو ببعضه ..

أو لا يلاقي شيئا منها ..

أو يلاقي بعضا دون بعض.

ص: 87


1- انظر : شرح التجريد : 433 و 437 - 438.
2- كتاب الأربعين 1 / 268 - 277 ، وانظر : إحقاق الحقّ 1 / 122.

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين قدس سره وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع (1).

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها - كما صرّح به الدليل - موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

ص: 88


1- انظر : تجريد الاعتقاد : 145 ، أوائل المقالات : 96 - 97 رقم 87 ، النكت الاعتقادية : 28 ، الذخيرة في علم الكلام : 146 وما بعدها ، المنقذ من التقليد 1 / 34 و 43 - 48 ، كشف المراد : 145 - 146 المسألة 6.

إرادة اللّه تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن - أيضا - أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

ص: 89

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية اللّه سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها - كما زعم - شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية اللّه تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

ص: 90

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا - في خصوص المقام - إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر - في الصدر الأوّل - ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

ص: 91

ص: 92

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

اشارة

قال المصنّف - طيّب اللّه مثواه - (1) :

المبحث السادس : في أنّ الإدراك ليس لمعنى
اشارة

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط! (2).

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك (3) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

ص: 93


1- نهج الحقّ : 45 - 46.
2- انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : 302 ، الإرشاد - للجويني - : 157 - 158 ، شرح المقاصد 4 / 197.
3- في المصدر : بالمرئي.

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى (1) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

ص: 94


1- في المصدر : الشيء.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك (2) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » ... استدلال باطل على معنى (3) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم ..

ص: 95


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 124 - 125.
2- في المصدر : بالمرئي.
3- في المصدر : مدّعى.

فقد ذكرنا أنّه إن أراد - بهذه - الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم .. والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين (1) :

وذي سفه يواجهني بجهل *** وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

ص: 96


1- ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ علیه السلام : 28 ، ديوان الشافعي : 144.
وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف رحمه اللّه هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » .. وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء - بالوجود ونحوه - إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد .. إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم - من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار - يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

ص: 97

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ... » إلى آخره ...

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد - بهذه - الاستحالة العقلية ، فممنوع ... » إلى آخره .. لا ربط له بكلامه ، اللّهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل ..

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

ص: 98

- كما سبق - وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل - بناء على هذا - هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية - كما هو واضح من كلامه -.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

* * *

ص: 99

ص: 100

إنّه تعالى لا يرى

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

المبحث السابع : في أنّه تعالى يستحيل أن يرى
اشارة

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في هذه المسألة ، حيث حكموا بأنّ اللّه تعالى مرئيّ للبشر! (2).

أمّا الفلاسفة [ وإلمعتزلة ] والإمامية : فإنكارهم لرؤيته تعالى ظاهر ولا شكّ فيه (3).

ص: 101


1- نهج الحقّ : 46 - 48.
2- الإبانة عن أصول الديانة : 58 - 71 ، تمهيد الأوائل : 301 - 307 ، الاعتقاد على مذهب السلف : 58 - 67 ، الاقتصاد في الاعتقاد : 41 - 48 الدعوى 9 ، بحر الكلام : 137 ، الملل والنحل 1 / 87 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 356 - 357 ، الأربعين في أصول الدين 1 / 266 - 304 المسألة 19 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 272 - 278 ، المسائل الخمسون في أصول الدين : 56 - 58 المسألتان 31 و 32 ، شرح المقاصد 4 / 179 ، شرح المواقف 8 / 115.
3- انظر رأي الفلاسفة والمعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : 232 ، بحر الكلام : 137 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 356 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 272. وأنظر رأي الإمامية في : أوائل المقالات : 57 رقم 25 ، شرح جمل العلم والعمل : 76 ، تجريد الاعتقاد : 194 ، المنقذ من التقليد 114/1 - 130.

وأمّا المشبّهة والمجسّمة : فإنّهم إنّما جوّزوا رؤيته تعالى ؛ لأنّه [ عندهم ] جسم ، وهو مقابل للرائي (1).

( فلهذا قالوا بإمكان رؤيته تعالى ، ولو كان تعالى مجرّدا عندهم لحكموا بامتناع رؤيته ) (2).

فلهذا خالفت الأشاعرة باقي العقلاء ، وخالفوا الضرورة أيضا ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ ما ليس بجسم ، ولا حالّ في جسم ، ولا في جهة ، ولا مكان ، ولا حيّز ، ولا يكون مقابلا ، ولا في حكم المقابل ، فإنّه لا يمكن رؤيته.

ومن كابر في ذلك فقد أنكر الحكم الضروري ، وكان في ارتكاب هذه المقالة سوفسطائيا.

وخالفوا أيضا آيات الكتاب العزيز الدالّة على امتناع رؤيته تعالى ، فإنّه قال عزّ من قائل : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ... ) (3) تمدّح بذلك ؛ لأنّه ذكره بين مدحين ، فيكون مدحا ، لقبح إدخال ما لا يتعلّق بالمدح بين مدحين ، فإنّه لا يحسن أن يقال : فلان عالم فاضل ، يأكل الخبز ، زاهد ورع.

وإذا تمدّح بنفي الإبصار له ، كان ثبوته له نقصا ، والنقص عليه تعالى محال.

ص: 102


1- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 34 ، الملل والنحل 1 / 93 - 99 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 272.
2- ما بين القوسين ليس في نهج الحقّ ؛ وأثبته المصنّف قدس سره من إحقاق الحقّ.
3- سورة الأنعام 6 : 103.

وقال تعالى في حقّ موسى : ( لَنْ تَرانِي ... ) (1) .. و ( لن ) للنفي المؤبّد.

وإذا امتنعت الرؤية في حقّ موسى علیه السلام ففي حقّ غيره أولى.

وقال تعالى : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... ) (2) .. ولو جازت رؤيته لم يستحقّوا الذمّ ، ولم يوصفوا بالظلم.

وإذا كانت الضرورة قاضية بحكم ، ودلّ محكم القرآن أيضا عليه ، فقد توافق العقل والنقل على هذا الحكم .. و [ الأشاعرة ] (3) قالوا بخلافه ، وأنكروا ما دلّت الضرورة عليه ، وما قاد القرآن إليه.

ومن خالف الضرورة والقرآن ، كيف لا يخالف العلم النظري والأخبار؟!

وكيف يجوز تقليده ، والاعتماد عليه ، والمصير إلى أقواله ، وجعله إماما يقتدون به؟!

وهل يكون أعمى قلبا ممّن يعتقد ذلك؟!

وأيّ ضرورة تقود الإنسان إلى تقليد هؤلاء الّذين لم يصدر عنهم شيء من الكرامات ، ولا ظهر عنهم ملازمة التقوى ، والانقياد إلى ما دلّت الضرورة عليه وقطعت به الآيات القرآنية؟! بل اعتمدوا مخالفة نصّ

ص: 103


1- سورة الأعراف 7 : 143.
2- سورة النساء 4 : 153. وقد جاءت الآية الكريمة مشوّشة في المصدر ، هكذا : «فقالوا لن نؤمن لك حتی نری اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم» ، وهو خلط بين ثلاث آيات وقع من الناسخ قطعا؛ والمثبت في المتن من الأصل وإحقاق الحق ؛ فلاحظ.
3- أثبتناه من إحقاق الحقّ.

الكتاب ، وارتكبوا ضدّ ما دلّت الضرورة عليه!

ولو جاز ترك إرشاد المقلّدين ، ومنعهم من ارتكاب الخطأ الذي ارتكبه مشايخهم إن أنصفوا ، لم نطوّل الكلام بنقل [ مثل ] هذه الطامّات ، بل أوجب اللّه تعالى علينا إهداء العامة ، لقوله تعالى : ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) ...

( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) (2).

* * *

ص: 104


1- سورة التوبة 9 : 122.
2- سورة يونس 10 : 108.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ذكر في هذا المبحث خلاف الناس في رؤية اللّه تعالى ، وما اختصّ به الأشاعرة من إثباتها مخالفة للباقين.

وذكر أنّهم خالفوا الضرورة ؛ لأنّه لا يمكن رؤية ما ليس بجسم ..

فقد علمت أنّ الرؤية - بالمعنى الذي ذكرناه - ليست مختصّة بالأجسام ، ولا تشترط بشرط ، لكن جرى في العادة اختصاصها بالجسم المقابل.

وقد علمت أنّ اللّه تعالى ليس جسما ، ولا في جهة ، ويستحيل عليه مقابلة ، ومواجهة ، وتقليب حدقة ، ونحوه ..

ومع ذلك يصحّ أن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر - كما ورد في الأحاديث الصحيحة (2) - وأن يحصل لهوية العبد بالنسبة إليه هذه الحالة المعبّر عنها ب : الرؤية.

فمن عبّر عن الرؤية بما ذكرناه ، وجوّز حصوله في حقّه تعالى على الوجه المذكور ، فأين هو من المكابرة ومخالفة الضرورة؟!

ثمّ إنّ ما استدلّ به على عدم جواز الرؤية من قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (3) ، فإنّ الإدراك في لغة العرب هو : الإحاطة ؛ ألا

ص: 105


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 130 - 133.
2- (2) مرّت الإشارة إلى مثل هذه الأحاديث في الجزء الأوّل ، ص 49 ه 1 ؛ والأحاديث المرويّة في صحاحهم في مثل ذلك كثيرة!
3- سورة الأنعام 6 : 103.

ترى في قوله تعالى : ( قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (1) .. فلا شكّ أنّه يريد به الإحاطة!

وأمّا الإدراك بالمعنى المرادف للعلم ، فهو من اصطلاحات الحكماء ؛ لا أنّ في كلام العرب يكون الإدراك بمعنى : العلم والإحساس.

ولا شكّ أنّ الإحاطة به [ تعالى ] نقص ، فيكون نفيه مدحا ، والرؤية التي نثبتها ليست إحاطة.

ثمّ الاستدلال بجواب موسى ، وهو قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) (2)لمّا سأل الرؤية ، و ( لن ) للنفي المؤبّد ، فامتنعت الرؤية في حقّ موسى ، ففي حقّ غيره من باب الأولى ...

فقد أجاب عنه الأشاعرة بمنع كونه للنفي المؤبّد (3) [ بل هو للنفي المؤكّد ].

وعندي أنّه للنفي المؤبّد ، وهذا ظاهر على من يعرف كلام العرب.

ولكنّ التأبيد المستفاد منه بحسب مدّة الحياة ؛ مثلا : إذا قال أحد لغيره : لن أكلّمك ؛ فلا شكّ أنّه يقصد التأبيد في زمن حياته ، لا التأبيد الحقيقي الذي يشمل زمان الآخرة ، وهذا معلوم في العرف.

فالمراد ب : ( لَنْ تَرانِي ) نفي الرؤية في مدّة الدنيا ، وهذا لا ينافي رؤية موسى علیه السلام في الآخرة.

ص: 106


1- سورة الشعراء 26 : 61.
2- سورة الأعراف 7 : 143.
3- تفسير الفخر الرازي 14 / 242 ، الأربعين في أصول الدين - للرازي - 1 / 300 جواب الشبهة الثانية ، شرح المقاصد 4 / 207 ، شرح المواقف 8 / 118.

وكذا في قوله تعالى : ( لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ... ) (1) فإنّ المراد منه [ تأبيد ] نفي التمنّي مدّة الحياة ، للعلم بأنّ اليهود في الآخرة يتمنّون الموت للتخلّص من عذاب الآخرة.

ثمّ ما ذكره من إعظام اللّه تعالى سؤال الرؤية من اليهود في القرآن ، والذمّ لهم بذلك السؤال ، ولو جاز ذلك لما استحقّوا الذمّ بالسؤال ..

فالجواب : إنّ الاستعظام إنّما كان لطلبهم الرؤية تعنّتا وعنادا ، ولهذا نسبهم إلى الظلم.

ولو كان لأجل الامتناع ، لمنعهم موسى عن ذلك كما منعهم حين طلبوا أمرا ممتنعا ، وهو أن يجعل لهم إلها.

فلمّا علمت أنّ العقل لا ينافي صحّة رؤية اللّه تعالى ، والنصوص لا تدلّ على نفيه ، فقد تحقّقت أنّ ما ادّعاه هذا الرجل من دلالة الضرورة والنصّ ، وتوافقهما على نفي الرؤية ، دعوى كاذبة خاطئة.

ولو لا أنّ الكتاب غير موضوع لبسط الدلائل على المدّعيات الصادقة الأشعرية ، بل هو موضوع للردّ على ما ذكر من القدح والطعن عليهم ، لذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة الرؤية ، بل وقوعها! ما تحير به ألباب العقلاء ، لرزانتها ومكان رصانتها!

ولكن لا شغل لنا في هذا الكتاب إلّا كسر طامّات (2) ذلك الرجل ومزخرفاته ، وباللّه التوفيق.

ص: 107


1- سورة البقرة 2 : 95.
2- الطامّة : الداهية تغلب ما سواها ، والأمر العظيم ؛ انظر : لسان العرب 8 / 202 - 203 مادّة « طمم ».

ثمّ اعلم أنّه سنح لي - بعد التأمّل في مسألة الرؤية - أنّ المنازعة فيها قريبة بالمنازعات اللفظية ، وهذا شيء ما أظنّ سبقني إليه أحد من علماء السلف.

وذلك أنّ المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، من نفاة الرؤية ، يذكرون في معنى الحديث المشهور ، وهو

قوله صلی اللّه علیه و آله : « سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر » (1)

أنّ المراد الانكشاف التامّ العلمي ، الذي لم يحصل في هذه النشأة الدنيوية ، وسيحصل هذا الانكشاف في النشأة الثانية.

والأشاعرة - المثبتون للرؤية - ذكروا : أنّ المراد بالرؤية حالة يخلقها اللّه في الحيّ ، ولا تشترط بضوء ، ولا مقابلة ، ولا غيرهما من الشرائط (2).

ثمّ ذكر الشيخ الأشعري في إدراكات الحواسّ [ الخمس ] الظاهرة :

أنّها علم بمتعلّقاتها (3).

فالإبصار - الذي هو عبارة عن الإدراك بالباصرة - يكون علما بالمبصرات ، وليست الرؤية إلّا إدراكا بالباصرة.

فعلى هذا تكون الرؤية علما خاصّا وانكشافا تامّا ، غاية الأمر أنّه حاصل من هذه الحاسّة المخصوصة.

فظهر اتّفاق الفريقين على إنّ رؤية اللّه تعالى - التي دلّت عليها الأحاديث - هي : العلم التامّ ، والانكشاف الكامل.

ص: 108


1- انظر : صحيح البخاري 1 / 230 ح 31 وج 9 / 228 ح 62 ، صحيح مسلم 1 / 112 وج 2 / 114 ، الإبانة عن أصول الديانة : 64 ، تفسير البغوي 3 / 199 ، تفسير الرازي 13 / 139.
2- شرح المواقف 8 / 116.
3- انظر : شرح المواقف 7 / 202 - 204.

وبقي النزاع في محلّ حصولها ، فكما يجوز أن يكون محلّ حصول هذا الانكشاف قلبا ، فليجوّز المجوّز أن يكون محلّه عضوا آخر ، هو البصر ، فيرتفع النزاع بالكلّيّة.

واللّه أعلم.

* * *

ص: 109

وأقول :
اشارة

قد سبق أنّ الرؤية - بالمعنى الذي ذكره - ليست محلّ النزاع بوجه (1) ، وقد أحدثوه فرارا ممّا لزمهم من الإشكالات ، وإنّما محلّ النزاع هو الرؤية المعروفة ، كما عرفته من دليل الأشعري.

على إنّهم إذا أقرّوا بامتناع رؤية الباري سبحانه ، فقد امتنع هذا المعنى ؛ لما سبق من أنّ الصورة الحاصلة عند التغميض إنّما تكون بعد الرؤية ، ومن توابعها ، ومحلّها الحسّ المشترك ، أو الخيال ، فلا وجه للقول بإمكانها دون الرؤية.

ولو فرض أنّهم أرادوا معنى ليس هو الرؤية المعروفة ، ولا موقوفا عليها ؛ فنحن لا نعرفه ، ولا أظنّهم يعرفونه!

فكيف يقع النزاع بيننا وبينهم فيه؟!

كما لا نحكم بامتناعه - عقلا أو عادة - قبل المعرفة.

[ جواب الإيراد على الآية الأولى : ]

وأمّا ما أورده الفضل على الآية الأولى ؛ من أنّ الإدراك في اللغة :

الإحاطة ، وأنّ النقص من جهتها ، والمدح لنفيها ..

ص: 110


1- راجع الصفحة 47 من هذا الجزء.
ففيه :

إنّه لا شاهد له في كتب اللغة والآثار العربية ، بل الظاهر خلافه.

فإنّ الجدار محيط بالدار ، والصندوق محيط بما فيه ، ولا يقال : إنّهما مدركان لهما.

وعن الصحاح أنّ معنى أدركته ببصري : رأيته (1).

ولعلّه لأنّه لا يفهم من الإدراك إلّا الرؤية إذا قرن بالبصر - وإن كان بمعنى اللحاق (2) - ، كما لا يفهم منه إلّا السماع إذا قرن بآلة السمع ، وقيل :

أدركته بأذني ، ولا يفهم منه إلّا أثر الحواسّ الأخر إذا قرن بشيء منها.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (3) فليس في محلّه ؛ لأنّ الإدراك فيه هو : اللحاق ، فمعنى مدركون : ملحوقون.

وقد أقرّ في « المواقف » وشرحها ، والتفتازاني في « شرح المقاصد » بأنّ الإدراك بمعنى اللحاق (4).

لكن زعموا أنّ اللحاق والوصول يقتضي الإحاطة ، فيكون الإدراك في الآية بمعنى : الرؤية المحيطة (5)!!

ولا أعرف وجها للاقتضاء والاستلزام!

ص: 111


1- الصحاح 4 / 1582 مادّة « درك ».
2- انظر : الصحاح 4 / 1582 ، لسان العرب 4 / 334 ، تاج العروس 13 / 552 ، مادّة « درك ».
3- سورة الشعراء 26 : 61.
4- المواقف : 309 ، شرح المواقف 8 / 140 ، شرح المقاصد 4 / 201 الشبهة الرابعة.
5- المواقف : 309 ، شرح المواقف 8 / 140 ، شرح المقاصد 4 / 201 الشبهة الرابعة.

نعم ، استشهد لذلك في « شرح المقاصد » بقوله : « ولذا يصحّ :

رأيت القمر وما أدركه بصري لإحاطة الغيم به ؛ ولا يصحّ : أدركه بصري وما رأيته » (1).

وهو بظاهره غير تامّ ، لأنّه إن حصل الغيم والحاجب عن القمر ، لم يصحّ أيضا « رأيته » كما لا يصحّ « أدركه بصري » ؛ وإن لم يحصل الحاجب صحّ أن يقال : « رأيته وأدركه بصري » معا.

على إنّ أخذ الإحاطة في معنى الإدراك ، بقوله سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (2) غير متصوّر ، سواء أريد الإحاطة بحقيقة المرئي وماهيّته ، أم بجوانبه وباطنه ، إذ ليس من شأن الأبصار إحدى هاتين الإحاطتين حتّى يتمدّح تعالى بنفي إحاطة الأبصار به هذه الإحاطة.

على إنّ إحاطة الأبصار بجوانب المرئي إنّما تكون مع صفائه ، كالزجاج ، فإذا فرض أنّ اللّه سبحانه نفاها عنه ، وجعلها نقصا في حقّه - وهي أشبه بالكمال - ، فرؤيته بلا إحاطة أولى بالانتفاء ؛ لأنّها لا تكون إلّا مع كثافة المرئي.

هذا ، وقد أورد القوم على الاستدلال بالآية بأمور أخر :

الأوّل :

ما عن الفخر الرازي ، وهو : إنّ التمدّح إنّما يحصل بنفي الرؤية إذا

ص: 112


1- شرح المقاصد 4 / 204.
2- سورة الأنعام 6 : 103.

كانت جائزة عليه تعالى ، وكان قادرا على منع الأبصار عن رؤيته تعالى ، كالمدح بنفي الظلم والعبث .. فتدلّ الآية على جواز رؤيته تعالى لا على امتناعها (1).

وفيه :

إنّ اعتبار ذلك إنّما يتمّ في ما يرجع إلى الفعل ؛ لأنّه لا يصحّ المدح فيه إلّا مع إمكانه والقدرة عليه ، لتعلّقه بالقصد.

وأمّا ما يرجع إلى الذات والصفات الذاتية فلا ، كالعلم ، والقدرة ، والوحدانية.

ولذا يصحّ تمدّحه تعالى بأنّه لا شريك له ، ولا ولد له ، مع عدم جواز جعله للشريك والولد ، وعدم تعلّق قدرته بهما.

ويصحّ تمدّحه بأنّه غير عاجز ، مع عدم جواز العجز عليه ، وعدم تعلّق قدرته به.

الثاني :

إنّه لو صحّ المدح بنفي الرؤية لامتناعها ، لصحّ مدح المعدوم به ؛ وهو باطل (2).

ص: 113


1- الأربعين في أصول الدين 1 / 300 ، تفسير الفخر الرازي 13 / 135 الوجه السادس من المسألة الثانية ، وانظر : شرح المقاصد 4 / 204 - 205.
2- الأربعين في أصول الدين 1 / 300 ، شرح المقاصد 4 / 205 - 206 ، شرح المواقف 8 / 141.

وكذا الكيفيات النفسانية ونحوها ، ممّا تمتنع رؤيتها عندكم.

وفيه :

إنّه إنّما تمدّح بمجموع الأمرين ، أعني أنّه يدرك الأبصار ولا تدركه ، فإنّ ذلك مختصّ به ، كما تمدّح في آية أخرى بقوله : ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) (1) ، مع إنّ مدحه تعالى بامتناع رؤيته لا يستلزم صحّة مدح غيره به وإن ثبت له ، فإنّه تعالى يمدح بأنّه جبّار متكبّر ، ولا يصحّ مدح غيره به ، على إنّ المطلوب لا يتوقّف على اختصاص المدح به تعالى.

الثالث :

إنّ ( اللام ) في الْأَبْصارُ إن كانت للعموم ، كان النفي في قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (2) موجبا لسلب العموم ، وهو سلب جزئي.

وإن كانت ( اللام ) للجنس ، كان قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة ، وهي في قوّة الجزئية ..

ونحن نقول بموجب الجزئية ؛ لأنّ الكفّار لا يرونه تعالى في الآخرة إجماعا.

بل نقول : تخصيص البعض بالنفي يدلّ على الثبوت للبعض الآخر ،

ص: 114


1- سورة الأنعام 6 : 14.
2- سورة الأنعام 6 : 103.

فتكون الآية حجّة لنا لا علينا (1).

ولو سلّم أنّ مدلول الآية عموم السلب ، فلا نسلّم عمومه في الأحوال والأوقات ، حتّى في يوم القيامة.

وفيه :

إنّ الجمع المحلّى ب ( اللام ) ظاهر في العموم بلا ريب ، فيتعيّن الوجه الأوّل.

كما إنّ النسبة نسبتان : إيجابية ، وسلبية ؛ وخصوصهما وعمومهما تابعان لخصوص متعلّقهما وعمومه ، بلا فرق بينهما ، إلّا أنّ النفي قد يتوجّه إلى نفس العموم لا النسبة ، فيفيد سلب العموم ، لكنّه أجنبيّ عن قوله سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) ، فلا يراد به إلّا عموم السلب كغيره من الآيات المستفيضة ، كقوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (2) ..

( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (3) ..

( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (4) ..

( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (5) ..

ص: 115


1- الأربعين في أصول الدين 1 / 299 ، شرح المقاصد 4 / 201 - 203 ، شرح المواقف 8 / 139 - 141.
2- سورة آل عمران 3 : 108.
3- سورة فصّلت 41 : 46.
4- سورة هود 11 : 83.
5- سورة النساء 4 : 105.

( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) (1) ..

( لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (2).

.. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

وقد أقرّ التفتازاني بذلك ، فقال في « شرح المقاصد » عند الكلام في قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) : كون الجمع المعرّف ب ( اللام ) - في النفي لعموم السلب - هو الشائع في الاستعمال ، حتّى لا يوجد - مع كثرته - في التنزيل إلّا بهذا المعنى ، وهو اللائق بالمقام كما لا يخفى (3).

وقال في « شرح المطوّل » في بحث تعريف المسند إليه ب ( اللام ) ، في شرح قول الماتن : « واستغراق المفرد أشمل » : « وبالجملة : فالقول بأنّ الجمع المحلّى ب ( اللام ) يفيد تعلّق الحكم بكلّ واحد من الأفراد - مثبتا كان أو منفيا - ممّا قرّره الأئمّة ، وشهد به الاستعمال ..

وصرّح به صاحب ( الكشّاف ) في غير موضع » (4).

على إنّ مقابلة قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) بقوله : ( وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) المفيد للعموم ، دالّة على إرادة العموم في الأوّل أيضا ؛ لأنّ المقصود به الامتياز والافتخار على كلّ بصر.

ولو سلّم أنّ ( اللام ) للجنس ، فلا معنى لجعل قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة ؛ لأنّ وقوع الجنس في حيّز النفي

ص: 116


1- سورة يونس 10 : 77.
2- سورة النمل 27 : 10.
3- شرح المقاصد 4 / 203.
4- شرح المطوّل : 86.

أظهر في إرادة العموم (1) ..

مع إنّ ما زعمه المعترض من أنّ تخصيص البعض بالنفي يفيد الإثبات للبعض الآخر ؛ باطل بالضرورة ، فإنّ قولنا : ما قام ( زيد ؛ لا يدلّ على قيام غيره ) (2).

وأمّا عدم تسليمه لعموم الأحوال والأوقات ، فليس في محلّه ؛ لحكم العقل بأنّ الإطلاق في مورد البيان ، وعدم القرينة على التقييد ، يفيد العموم (3) ، وإلّا لنافي الحكمة ، لا سيّما في مقام المقابلة وإظهار الامتياز على العامّ.

[ جواب الإيراد على الآية الثانية : ]

وأمّا ما أورده على الآية الثانية ، من أنّ ( لن ) تفيد التأبيد المقيّد بمدّة الحياة ..

ففيه :

إنّ التقييد بها منتف وضعا بالضرورة ؛ وغير ثابت بالقرينة ، لعدمها ظاهرا ، فينبغي الحكم بالتأبيد بلا قيد ، كما هو الظاهر.

ص: 117


1- انظر : المحصول في علم الأصول 1 / 369 ف 4 ، الإحكام في أصول الأحكام - للآمدي - 1 / 415 ، كفاية الأصول : 217 و 246.
2- في المطبوعتين بدل ما بين القوسين : بعض الناس ؛ لا يدلّ على قيام البعض الآخر.
3- انظر : كفاية الأصول : 248.

على إنّ النفي إذا تعلّق بالمطلق ، أفاد نفيه مطلقا.

وهذا بخلاف قوله تعالى : ( لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) (1) فإنّ القرينة فيه على التأبيد في الدنيا موجودة ، وهي قوله تعالى : ( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) (2) ، فإنّه دالّ على أنّهم يخافون في الدنيا الموت فيها ، فلا يتمنّونه بها ، لتقديمهم ما يستحقّون به العذاب في الآخرة.

على إنّه يكفي هنا القرينة العقلية ، وهي ما ذكره الخصم من القطع بأنّهم يتمنّون الموت في الآخرة تخلّصا من العقاب.

فإن قلت :

غاية ما يدلّ عليه قوله تعالى : ( لَنْ تَرانِي ) (3) هو نفي الرؤية خارجا ، ومدّعاكم امتناعها ذاتا!

قلت :

إذا ثبت تأبيد النفي ، ثبت بطلان قول الأشاعرة بالرؤية في الآخرة ؛ وهو المطلوب.

على إنّ المراد بالنفي - هنا - : الامتناع ، بقرينة قول موسى علیه السلام بعد الإفاقة : ( سُبْحانَكَ ) (4) فإنّه للتنزيه ، والتنزيه عن الرؤية دليل على أنّها نقص ، فتمتنع ؛ كما ستعرفه إن شاء اللّه.

ص: 118


1- سورة البقرة 2 : 95.
2- سورة البقرة 2 : 95.
3- سورة الأعراف 7 : 143.
4- سورة الأعراف 7 : 143.
[ جواب الإيراد على الآية الثالثة : ]

وأمّا ما أجاب به عن الآية الثالثة ، من أنّ الاستعظام إنّما هو لطلبهم الرؤية تعنّتا وعنادا ...

ففيه :

أوّلا : إنّ الاستعظام إنّما هو - ظاهرا - لعظم المسؤول (1) ، المعبّر عنه في الآية ب : ( أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) .

وثانيا : إنّ استدلال المصنّف بالآية ليس من جهة الاستعظام ، حتّى يقال : إنّه لأجل التعنّت ؛ بل من حيث ذمّهم ونسبتهم إلى الظلم بطلبهم الرؤية ، ولا يكون طلبهم ظلما إلّا بكون الرؤية نقصا ممتنعا عليه تعالى.

ودعوى أنّها لو كانت ممتنعة لمنعهم موسى من طلبها كما منعهم من جعل الآلهة ، باطلة ؛ لجواز علمه بعدم امتناعهم بمنعه في المقام ..

أو أنّه منعهم فلم يمتنعوا ، كما يقرّ به إصرارهم وقولهم : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ) (2) ..

ولو كان منعه مؤثّرا فيهم لمنعهم من طلب الرؤية حتّى لو كانت ممكنة ؛ لعلمه بأنّها لا تقع في الدنيا.

وأمّا ما تحمّس به من قوله : « لذكرنا من الدلائل العقلية على صحّة

ص: 119


1- في المطبوعتين : السؤال.
2- سورة البقرة 2 : 55.

الرؤية ، بل وقوعها » ..

فإنّه كلام لا يحتمل الصدق ، وفيه إزراء بحقّ أشياخه.

فإنّهم أفنوا أعمارهم ولم يأتوا بما يمكن أن يذكر بصورة الدليل ، إلّا ما حكوه عن الأشعري كما سمعت ، وقد جعلوه - هم وغيرهم - هدفا لسهام النقد!

على إنّهم إنّما يستدلّون به للإمكان ، فكيف يأتي بالأدلّة العقليّة على الوقوع؟!

ومن العجيب أنّه بعد ما تحمّس هذه الحماسة ، مدّ يد المسالمة وحمل قول المتخاصمين على العلم التامّ ، إلّا أنّ محلّه العين!!

فإن أراد بالعلم التامّ باللّه سبحانه ، والانكشاف الكامل له : انكشاف حقيقته تعالى ؛ فنحن لا نقول به ، ولا أظنّ أصحابه يرتضونه.

وإن أراد به : العلم التامّ بوجوده وصفاته ؛ فنحن نقول به ، وكذلك أصحابه.

لكنّ حمل الرؤية عليه بعيد ، بل مقطوع بخلافه ، لا سيّما وهذا العلم لا يختصّ بالمؤمن ، بل يثبت في القيامة للمؤمن والكافر بلا فرق ، فكيف يحمل عليه كلامهم ، وأخبارهم الدالّة على انكشافه سبحانه للمؤمنين خاصّة؟!

وما نسبه إلى الأشعري - من أنّ إدراك الحواسّ الظاهرة علم بمتعلّقاتها - ، فمسامحة ، أو سفسطة!

وأمّا ما نسبه إلى الإمامية - من حملهم لما سمّاه حديثا مشهورا على الانكشاف الكامل التامّ - ، فهو فرية عليهم ، إذ لا يخطر ببال أحد منهم اعتباره حتّى يحتاج إلى التأويل والحمل.

ص: 120

[ أدلّة الأشاعرة وإبطالها ]

اشارة

هذا ، وينبغي التعرّض لأدلّة الأشاعرة ، وإبطالها ، تتميما للفائدة ، فنقول :

استدلّوا على مذهبهم بالعقل - وقد تقدّم بما فيه (1) - وبالنقل ، وهو أمران :

[ الأمر ] الأوّل :

ما يدلّ على إمكان الرؤية ، وهو قوله تعالى حكاية عن موسى علیه السلام : ( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) (2) ..

والحجّة به من جهتين :

[ الجهة ] الأولى :
اشارة

إنّ موسى علیه السلام سأل الرؤية لنفسه ، ولو امتنعت لما سألها (3).

وأجيب عنه بأمور ..

ص: 121


1- راجع الصفحة 63 وما بعدها من هذا الجزء.
2- سورة الأعراف 7 : 143.
3- انظر : الإبانة عن أصول الديانة : 60 - 61 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 277 - 278 ، شرح المقاصد 4 / 182.

أحسنها : أنّه إنّما سألها على لسان قومه ، ويشهد لصحّته أمور :

الأوّل : الآيات الدالّة على طلبهم لها من موسى علیه السلام .

الثاني : قوله في هذه الآية : ( سُبْحانَكَ ) (1) فإنّه ظاهر في تنزيه اللّه عن الرؤية ، وهو يقتضي كونها نقصا ممتنعا عليه سبحانه ، فإذا كان عالما بكونها نقصا ، لم يجز أن يكون قد سألها من نفسه.

واحتمال عدم علمه بالنقص قبل السؤال - لو تمّ بالنسبة إلى موسى - كان لنا لا علينا ؛ لأنّه لا يصلح حينئذ الاستدلال بسؤاله الرؤية!

على إنّه يكفينا علمه في ثاني الحال بامتناع الرؤية ، ولذا قال : ( سُبْحانَكَ ) .

الثالث : قوله تعالى حكاية عن موسى علیه السلام : ( قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) (2) فإنّ المراد ب : ( بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ ) هو سؤال الرؤية ، كما عن جماعة من المفسّرين (3).

فإن قلت :

على هذا كان ينبغي أن يقول : أرهم ينظرون إليك.

ص: 122


1- سورة الأعراف 7 : 143.
2- سورة الأعراف 7 : 155.
3- انظر مثلا : تفسير الطبري 6 / 77 ، تفسير الماوردي 2 / 265 ، الكشّاف 2 / 121 ، زاد المسير 3 / 206 ، تفسير الفخر الرازي 15 / 20 ، تفسير القرطبي 7 / 187 ، تفسير البيضاوي 1 / 362 ، البحر المحيط 4 / 299 ، تفسير ابن كثير 2 / 239 ، الدرّ المنثور 3 / 569.
قلت :

إنّما قال : ( أَرِنِي ) لأنّه أثبت لظلمهم ، وأقوى حجّة عليهم ؛ لأنّهم إذا استحقّوا نزول الصاعقة بمجرّد تسبيبهم طلب الرؤية - والحال أنّ سائلها لنفسه موسى ، وهو المقرّب عند اللّه تعالى - فكيف لو طلبها لهم؟! وليس سؤاله تقريرا للباطل ، بل هو نوع من بيان الامتناع بلحاظ ما يتعقّبه من أخذ الصاعقة ، الكاشف عن كون طلب الرؤية ظلما فتمتنع.

الجهة الثانية :
اشارة

إنّه تعالى علّق الرؤية على أمر ممكن في نفسه ، وهو استقرار الجبل ، والمعلّق على الممكن ، ممكن (1).

وفيه :

منع الكبرى إذا كان المقصود مجرّد فرض الطرفين أو أحدهما ، لا الحقيقة.

ولو سلّمناها فيحتمل أن يكون استقرار الجبل ممتنعا بالغير ، وهو كاف في صحّة تعليق الممتنع عليه ، ولذلك صحّ العكس ، وتعليق الممكن بالذات على الممتنع في قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (2).

ص: 123


1- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 281 ، شرح المقاصد 4 / 182.
2- سورة الأنبياء 21 : 22.

على إنّه يكفي في صحّة التعليق على الممكن ، إمكان الرؤية في اعتقاد السائلين ، ليترتّب عليه معرفة الامتناع بالعقاب على السؤال ، الذي هو أدلّ من القول ، مضافا إلى قول موسى بعد ذلك : ( سُبْحانَكَ ) الدالّ على الامتناع كما عرفت.

الأمر الثاني :
اشارة

ما دلّ على وقوع الرؤية ، وهو آيات وأخبار عندهم.

أمّا الآيات ، فهي :

قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (1).

وقوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (2) ، حيث حقّر الكفّار وخصّهم بالحجب ، فكان المؤمنون غير محجوبين ، وهو معنى الرؤية (3).

وقوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (4) ؛ لأنّ المراد بالزيادة : الرؤية ، كما رواه صهيب عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وذهب إليه كثير من المفسّرين (5).

ص: 124


1- سورة القيامة 75 : 22 و 23.
2- سورة المطفّفين 83 : 15.
3- انظر : الإبانة عن أصول الديانة : 59 و 63 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 292 و 295 ، شرح المقاصد 4 / 192 و 195.
4- سورة يونس 10 : 26.
5- انظر مثلا : تفسير الطبري 6 / 551 ح 17641 ، تفسير البغوي 2 / 296 ، تفسير الفخر الرازي 17 / 81 ، تفسير القرطبي 8 / 210.
وأمّا الأخبار :

فروايات كثيرة (1) ، حتّى قال القوشجي : « روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة » (2).

وفيه :

إنّه بعدما قام الدليل العقلي على امتناع رؤيته سبحانه ، يجب التصرّف في الظواهر كما في قوله تعالى : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (3) ، لا سيّما وقد أقرّ الخصم وغيره بأنّهم لا يقولون بالرؤية المعهودة القائمة بالشرائط ، التي هي المستفادة من تلك الظواهر ، فيلزم التصرّف فيها عند الفريقين.

ولا معيّن لحملها على المعنى الذي زعموه (4) ، لا سيّما وهو إلى الآن لم يعرف ما هو؟! ولم يحك الاستعمال عليه في مورد!

على إنّ أخبارهم ليست حجّة علينا ، خصوصا وجلّها - أو كلّها - مطعون بأسانيدها عندهم ، ومجرّد الرواية عن صحابي لا تثبت روايته لها ، مع إنّهم إن كانوا أمثال أبي هريرة فباب الطعن أوسع!!

ص: 125


1- انظر : التصديق بالنظر إلى اللّه تعالى في الآخرة - للآجري - : 37 - 113 ح 1 - 64.
2- شرح التجريد : 433 - 434.
3- سورة الفجر 89 : 22.
4- وهو كون الرؤية معنى يحصل في الرائي أو يحدثه اللّه فيه وإن فقدت جميع شروط الرؤية ، من المقابلة وسلامة الحاسّة وقصد الرؤية وعدم البعد المفرط وغيرها ، وقد لا تحدث الرؤية وإن توفّرت جميع هذه الشروط.

وأمّا الآية الأخيرة : فلا ظهور لها في المدّعى ، والرجوع في تفسيرها إلى رواية صهيب عمل بالرواية ، وقد عرفت ما فيه.

وأمّا الآية الثانية : فظاهرها الحجب عن اللّه تعالى بلحاظ المكان ، وهو غير مراد قطعا ؛ لأنّ اللّه سبحانه لا يحويه مكان ، ولا معيّن لإرادة الحجب عن الرؤية حتّى يلزم عدم حجب المؤمنين عنها ، بل يحتمل - كما هو الأقرب - إرادة الحجب عن رحمته ، ومحلّ القرب المعنوي منه (1).

وأمّا الآية الأولى : فيمكن أن تكون فيها ( ناظِرَةٌ ) بمعنى : منتظرة ، كما هو المرويّ عن أمير المؤمنين علیه السلام ، ونسب إلى مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحّاك (2).

وأورد عليه :

أوّلا : بإنكار استعمال النظر بمعنى : الانتظار ، لا سيّما مع التعدية ب ( إلى ).

وثانيا : بأنّ انتظار النعمة غمّ فلا يقع في الجنّة.

والجواب عن الأوّل : إنّ إنكار الاستعمال لا يلتفت إليه مع نصّ علماء اللغة على الوقوع ، كصاحب « القاموس » (3) ، وعن « الصحاح » وغيره (4).

ص: 126


1- انظر : شرح الأصول الخمسة : 267 ، الكشّاف 4 / 232 ، مجمع البيان 10 / 263.
2- مجمع البيان 10 / 177 ، وانظر : تفسير الطبري 12 / 343 - 334 ح 35656 - 35663 ، شرح الأصول الخمسة : 247 وما بعدها.
3- القاموس المحيط 2 / 150 مادّة « نظر ».
4- الصحاح 2 / 830 ، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 78 ، لسان العرب 14 / 192 ، تاج العروس 7 / 539 ، مادّة « نظر ».

وقد ورد به الكتاب العزيز وغيره ...

قال تعالى. ( فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (1) .. ( انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) (2) .. ( غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ) (3).

وقال الشاعر (4) :

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمن يأتي بالفلاح

وقال آخر (5) :

كلّ الخلائق ينظرون سجاله (6) *** نظر الحجيج إلى طلوع هلال

فإنّ المراد به الانتظار لمناسبة المقام ، ولو أريد به الرؤية لعدّاه إلى ( سجال ) ب ( إلى ) كما قيل.

والجواب عن الثاني : إنّه لا غمّ في انتظار النعم لمن يتيقّن بحصولها عند إرادته ، وطوع مشيئته ، بل ذلك زيادة في نعيمه.

على إنّه لم يظهر من الآية أنّ النظر في الجنّة ، فلعلّه يوم القيامة ، كما

ص: 127


1- سورة النمل 27 : 35.
2- سورة الحديد 57 : 13.
3- سورة الأحزاب 33 : 53.
4- نسبه الباقلّاني في تمهيد الأوائل : 312 إلى حسّان بن ثابت ، ولم نجده في ديوانه ؛ فلاحظ ، فلعلّه ممّا أسقط من أشعاره فلم يذكر في ديوانه. وأنظر : تبصرة الأدلة في أصول الدين - للنسفي - 397/1 ، مجمع البيان 175/10 ، تفسير الفخر الرازي 228/30 و 230 ، شرح المواقف 132/8 ، باختلاف يسير في بعضها.
5- انظر : شرح المواقف 8 / 132.
6- السجال : الخير والكرم والجود هنا على المجاز ، ورجل سجل : جواد ، وأشجل الرجل : كثر خيره وبرّه وعطاؤه للناس ؛ انظر مادّة « سجل » في : لسان العرب 6 / 181 ، تاج العروس 14 / 334.

يناسبه ما بعدها ، وهو قوله تعالى : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) (1).

ولو سلّم أنّ ( ناظِرَةٌ ) ليس بمعنى : منتظرة ، فلا يتّجه استدلالهم بالآية ؛ لأنّ النظر : تأمّل العين للشيء ، لا الرؤية كما في « القاموس » وغيره (2) ..

ولذا يتحقّق بدون الرؤية ، قال تعالى : ( وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (3) مع إنّه قال : ( تَراهُمْ يَنْظُرُونَ )

والرؤية لا ترى ، وإنّما يرى تأمّل العين وتقليب الحدقة.

وأيضا : يقال : نظرت إلى الهلال فرأيته ؛ ولو كان النظر بمعنى الرؤية ، لما صحّ تفريعها عليه.

وأيضا : يصحّ وصف النظر بما لا توصف به الرؤية ، كالشزر والخشوع ، ونحوهما ، فلا يكون بمعناها.

فحينئذ لا تدلّ الآية على تعلّق الرؤية به تعالى.

ودعوى : إنّ النظر ، وإن لم يكن بمعنى الرؤية ولا يستلزمها ، إلّا أنّ تأمّل عيونهم ، وتقليب أحداقهم إلى ربّهم ، يدلّ على رجائهم رؤيته تعالى ، فيلزم أن تكون ممكنة ، وإن لم تلزم فعليّتها.

إذ لو كانت نقصا عليه تعالى ، وممتنعة ، لنهوا عن التأمّل إليه ..

باطلة ؛ لأنّ صريح الآية أنّ نظرهم إليه تعالى نعمة وفائدة لهم.

ص: 128


1- سورة القيامة 75 : 24 و 25.
2- القاموس المحيط 2 / 149 ، الصحاح 2 / 830 ، لسان العرب 14 / 191 ، تاج العروس 7 / 538 ، مادّة « نظر ».
3- سورة الأعراف 7 : 198.

ومن الواضح أنّ التأمّل ليس بنفسه نعمة وفائدة .. فلا بدّ :

إمّا من حمل النظر إليه تعالى على رؤيته ، فيكون مجازا في المفرد ، ويثبت مطلوبهم ...

أو من حذف مضاف ، أي : ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابه ، فيكون مجازا في الحذف.

ولا معيّن للأوّل ، بل المتعيّن الثاني ، لتعديته ب ( إلى ) ، إذ لو كان بمعنى الرؤية لتعدّى بنفسه رعاية للمعنى.

فمع هذه الأمور كلّها ، كيف يمكنهم الاستدلال بالآية؟! والحال أنّه يكفينا في منع دلالتها أنّها على تقدير ظهورها في الرؤية ، تكون ظاهرة في الرؤية المعروفة ذات الشرائط الخاصة ، وهم لا يقولون بها كما ذكروا ، فلا بدّ من حمل النظر في الآية على أمر آخر ، ولا معيّن للمعنى الذي يدّعونه.

هذا ، وقد نسب القوشجي إلى أمير المؤمنين علیه السلام أنّ المعنى : ناظرة إلى ثواب ربّها (1).

فمن الغرائب إعراصه عنه بعد النسبة ، وأخذه بغيره!!

فإذا تركوا قول عالم علم الكتاب ، وباب مدينة علم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وعديل القرآن ، الذي أمروا بالتمسّك به ، فنحن لرواية صهيب وأبي هريرة وأمثالهما أترك!

واعلم أنّ استدلال القوم على الإمكان والوقوع بالظواهر التي لا تفيد اليقين ، ليس في محلّه ما لم يثبت الإمكان بدليل يقيني ، فتكون مؤيّدة له ؛

ص: 129


1- شرح التجريد : 435.

لأنّ احتمال الامتناع - ما دام باقيا - لا ترفعه الظواهر الظنّية.

والمسألة ممّا يطلب فيها اليقين ، فلا وجه للاستدلال بالظواهر لمن عجز عن إثبات الإمكان بدليل عقلي ، أو ضرورة ، كالرازي والتفتازاني وشارح « المواقف » وغيرهم(1).

ونحن لمّا أثبتنا الامتناع بضرورة العقل ، ساغ لنا الاستدلال بالظواهر تأييدا لحكم العقل.

ص: 130


1- الأربعين في أصول الدين 1 / 268 و 277 ، شرح المقاصد 4 / 181 و 191 ، شرح المواقف 8 / 115 و 116 و 129 ، شرح التجريد : 433 و 437 - 438.

مباحث النظر

اشارة

ص: 131

ص: 132

العلم بالنتيجة واجب بعد المتقدّمتين

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

المسألة الثانية : في النظر

اشارة

وفيه مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : إنّ النظر الصحيح يستلزم العلم
اشارة

الضرورة قاضية بأنّ كلّ من عرف أنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الاثنين نصف الأربعة ، فإنّه يعلم أنّ الواحد نصف نصف الأربعة.

وهذا الحكم لا يمكن الشكّ فيه ، ولا يجوز تخلّفه عن المقدّمتين السابقتين ، وأنّه لا يحصل من تينك المقدّمتين : أنّ العالم حادث ، و [ لا ] أنّ النفس جوهر ، [ أ ] وأنّ الحاصل أوّلا أولى من حصول هذين.

وخالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في ذلك (2) ، فلم يوجبوا حصول

ص: 133


1- نهج الحقّ : 49 - 50.
2- انظر : شرح العقائد النسفية : 69 - 70 ، شرح المقاصد 1 / 240 - 247 ، شرح المواقف 1 / 207 - 224.

العلم عند حصول المقدّمتين ، وجعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل!

ولا فرق بين حصول العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة » ؛ وبين حصول العلم بأنّ العالم محدث ، أو أنّ النفس جوهر ، أو أنّ الإنسان حيوان ، أو أنّ العدل حسن ، عقيب قولنا : « الواحد نصف الاثنين ، والاثنان نصف الأربعة »!

وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقاد أنّ من علم أنّ الواحد نصف الاثنين ، والاثنين نصف الأربعة ، يحصل له علم أنّ العالم محدث؟!

وأنّ من علم أنّ العالم متغيّر ، وأنّ كلّ متغيّر محدث ، يحصل له العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، وأنّ زيدا يأكل ، ولا يحصل له العلم بأنّ العالم محدث؟!

وهل هذا إلّا عين السفسطة؟!

* * *

ص: 134

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أنّ حصول العلم - الذي هو النتيجة - عقيب النظر الصحيح ، بالعادة.

وإنّما ذهب إلى ذلك بناء على إنّ جميع الممكنات مستندة - عنده - إلى اللّه سبحانه ابتداء ، أي بلا واسطة ، وعلى إنّه قادر مختار ، فلا يجب عنه صدور شيء منها ، ولا يجب عليه ، ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلّا بإجراء العادة ، بخلق بعضها عقيب بعض ، كالإحراق عقيب مماسّة النار ، والريّ بعد شرب الماء ، فليس للمماسّة والشرب مدخل في وجود الإحراق والريّ ، بل الكلّ واقعة بقدرته واختياره تعالى ، فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وأن يوجد الإحراق بدون المماسّة ، وكذا الحال في سائر الأفعال.

وإذا تكرّر صدور الفعل منه ، وكان دائما أو أكثريّا ، يقال : إنّه فعله بإجراء العادة ؛ وإذا لم يتكرّر ، أو تكرّر قليلا ، فهو خارق العادة أو نادر.

ولا شكّ أنّ العلم بعد النظر ممكن ، حادث ، محتاج إلى مؤثّر ، ولا مؤثّر إلّا اللّه ، فهو فعله الصادر عنه بلا وجوب منه ، ولا عليه ، وهو دائم أو أكثريّ ، فيكون عاديّا (2).

هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة.

ص: 135


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 148 - 149.
2- شرح المواقف 1 / 241 - 243 ، وانظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين : 66.

وقد بيّنّا في ما سبق أنّ المراد من العادة ماذا (1).

فالخصم إمّا أن يقول : إنّ استلزام النظر الصحيح للعلم واجب ، وتخلّفه عنه محال عقلا ؛ فهذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط [ عقلا ] ، فلا يكون التخلّف محالا عقلا.

وإن أراد الوجوب عادة - بمعنى استحالة التخلّف عادة وإن جاز عقلا - ، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بيّنّا.

وأمّا قوله : إنّ الأشاعرة « جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا » ، فافتراء محض ؛ لأنّ من قال بالاستلزام عادة - على حسب ما ذكرناه من مراده - لم يكن قائلا بكونه اتّفاقيا ، كما صوّره هو في الأمثلة على شاكلة طامّاته وترّهاته ، وكأنّه لم يفرّق بين اللزوم العادي ، وكون الشيء اتّفاقيا ؛ أو يفرّق ولكن يتعامى ليتيسّر له التشنيع والتنفير.

واللّه العالم.

* * *

ص: 136


1- انظر الصفحة 63 من هذا الجزء.
وأقول :

قد عرفت ممّا سبق في المبحث الثاني من المسألة الأولى (1) أنّه لو قلنا باستناد الممكنات كلّها إلى اللّه تعالى بلا واسطة ، وأنكرنا العلاقة والسببية بين الحوادث المتعاقبة خارجا ، أو طبعا ، لزم عدم الحكم على الجسم بالحدوث ، ولا على المركّب بالإمكان ، ولزم جواز وجود العرض بلا معروض ، والجسم بلا مكان ؛ وكلّها باطلة ... إلى غير ذلك ممّا مرّ.

ومنه يعلم ما في قوله : « لا مؤثّر إلّا اللّه تعالى » كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا قوله : « فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وإن يوجد الإحراق بدون المماسّة ».

فإن أراد به أنّ له أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، مع كون النار والمماسّ لها على طبيعتهما ، فممنوع ؛ إذ ليس محلّا للقدرة ، لكونه محالا.

وإن أراد به أنّ له الإيجاد ، مع تغيير الطبيعة ، فمسلّم ؛ ولكنّه خارج عن محلّ الكلام.

كما أنّ إيجاد الإحراق بلا مماسّة إن أراد به الإحراق المطلق ، فمسلّم.

وإن أراد به الإحراق الذي ينشأ بشخصه من النار ، فممنوع.

ولا يخفى أنّ التوقّف على الأسباب لا ينافي القدرة ؛ لأنّ المقدور

ص: 137


1- انظر الصفحة 51 وما بعدها من هذا الجزء.

بالواسطة مقدور.

كما أنّ وجوب المسبّب بعد اختيار السبب لا ينافي القدرة والاختيار ، فظهر وجوب العلم بالنتيجة عند حصول النظر الصحيح.

وقوله : « هذا باطل ؛ لإمكان عدم التفطّن للنتيجة مع حصول جميع الشرائط » ..

واضح البطلان ؛ لأنّه إن أراد بالشرائط الأعمّ من شرائط القياس وشرائط العلم - من العقل ، والحياة ، وعدم النوم ، والغفلة - فإمكان عدم التفطّن مع اجتماع الشرائط من أظهر المحالات.

وإن أراد بها خصوص شرائط القياس ، فإمكان عدم التفطّن مسلّم ، لكن اعتبار وجود شرائط العلم مفروغ عنه في كلام كلّ مباحث بمثل المقام.

وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة المصنّف إلى الأشاعرة أنّهم جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيا ، افتراء محض ؛ فغريب!

إذ لم يرد المصنّف بكون الحصول اتّفاقيا الحصول في بعض الأوقات دون بعض ، بل أراد به الحصول بلا لزوم ؛ لأنّه قال : « اتّفاقيا ، يمكن أن يحصل ، وأن لا يحصل » فوصف الاتّفاقي بما يمكن حصوله وعدمه ، لا بالحصول في وقت دون آخر ؛ وهو صريح في ما قلنا.

على إنّه لو أراد بالحصول الاتّفاقي الحصول في بعض الأوقات ، لم يبعد عن الصدق ؛ لأنّ الخصم لم يجعل في أوّل كلامه حصول العلم بعد النظر دائميا ، بل قال : هو دائم أو أكثري ، كما هو عين كلام شارح « المواقف ».

ص: 138

فإنّه نقل لفظ « المواقف » وشرحها بعينه ، من قوله : « بناء » إلى قوله : « فيكون عاديّا » (1) ، وحينئذ فأيّ الأمرين أراده المصنّف يكون ما صوّره من الأمثلة واردا عليهم ؛ وهو ظاهر.

ص: 139


1- المواقف : 27 ، شرح المواقف 1 / 241 - 243.

ص: 140

النظر واجب بالعقل لا بالسمع

اشارة

قال المصنّف - طاب رمسه - (1) :

المبحث الثاني : في أنّ النظر واجب بالعقل

اشارة

الحقّ أنّ مدرك وجوب النظر عقليّ لا سمعي ، وإن كان السمع قد دلّ عليه أيضا بقوله تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا ) (2).

وقال الأشاعرة قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء ، وظهور المعاندين عليهم ، وهم معذورون في تكذيبهم! مع إنّ اللّه تعالى قال : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (3) ...

فقالوا : إنّه واجب بالسمع لا بالعقل ، وليس يجب بالعقل شيء ألبتّة! (4).

فيلزمهم إفحام الأنبياء ، واندحاض حجّتهم ؛ لأنّ النبيّ إذا جاء إلى المكلّف فأمره بتصديقه واتّباعه ، لم يجب ذلك عليه إلّا بعد العلم بصدقه ،

ص: 141


1- نهج الحقّ : 50 - 51.
2- سورة يونس 10 : 101.
3- سورة النساء 4 : 165.
4- الملل والنحل 1 / 88 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 64 - 65 ، شرح المقاصد 1 / 262 ، شرح المواقف 1 / 270 - 271.

إذ بمجرّد الدعوى لا يثبت صدقه ، بل ولا بمجرّد ظهور المعجزة على يده ما لم ينضمّ إليه مقدّمات ..

منها : إنّ هذه المعجزة من عند اللّه تعالى.

[ ومنها : إنّه تعالى ] فعلها لغرض التصديق.

ومنها : إنّ كلّ من صدّقه اللّه تعالى فهو صادق ..

لكنّ العلم بصدقه حيث يتوقّف على هذه المقدّمات النظرية ، لم يكن ضروريا ، بل يكون نظريّا.

فللمكلّف أن يقول : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه ، ولم أعرف وجوبه إلّا بقولك ، وقولك ليس بحجّة عليّ قبل العلم بصدقك!

فتنقطع حجّة النبيّ ، ولا يبقى له جواب يخلص به ، فتنتفي فائدة بعثة الرسل ، حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم ، ويكون المخالف لهم معذورا.

وهذا هو عين الإلحاد والكفر! نعوذ باللّه منه.

فلينظر العاقل المنصف [ من نفسه ] ، هل يجوز له اتّباع من يؤدّي مذهبه إلى الكفر؟!

وإنّما قلنا بوجوب النظر ؛ لأنّه دافع للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

* * *

ص: 142

وقال الفضل :
اشارة

وقال الفضل (1) :

إعلم أنّ النظر في معرفة اللّه واجب بالإجماع ، والاختلاف في طريق ثبوته.

فعند الأشاعرة طريق ثبوته : السمع ، لقوله تعالى : ( انْظُرُوا ) (2) ؛ ولأنّ معرفة اللّه واجبة إجماعا ، وهي لا تتمّ إلّا بالنظر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب ، ومدرك هذا الوجوب هو السمع كما سيتحقّق بعد هذا.

وأمّا المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية (3) ، فهم أيضا يقولون بوجوب النظر ، لكن يجعلون مدركه العقل لا السمع (4).

ويعترضون على الأشاعرة بأنّه لو لم يجب النظر إلّا بالشرع لزم إفحام

ص: 143


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 151 - 155.
2- سورة يونس 10 : 101.
3- إنّ القول بأنّ الإمامية تبع للمعتزلة في علم الكلام ، وأنّهم متّفقون معهم في العقيدة ، قول باطل لا أساس له من الصحّة جملة وتفصيلا ... فللإمامية رأيهم المستقل ، ومن الخطأ في التعليل والاعتباط في الرأي أن نجعل موافقة الإمامية للمعتزلة دليلاً على تأثرهم بهم ، أو حضور إمامي عند معتزليّ شاهداً على استجداء العقيدة وأستماحة الفكر ، بل إنّ الاحتكاك الفكري هو الذي ينمي التفكير ويصحح طرق الاستدلال ويقصر السبل ويسهلها ؛ وقد نشأ علم الكلام واستقرت طرقه ومناهجه عند الإمامية قبل غيرهم . وقد فصل البحث في ذلك سماحة الشيخ محمد رضا الجعفري - حفظه اللّه - مقاله : «الكلام عند الإمامية» المنشور في مجلة «تراثنا » ، العددين 30 - 31 ، ص 144 - 299 ؛ فراجع .
4- شرح الأصول الخمسة : 42 - 43 ، الذخيرة في علم الكلام : 167 - 171.

الأنبياء ، وعجزهم عن إثبات نبوّتهم في مقام المناظرة كما ذكره من الدليل.

والجواب من وجهين :

[ الجواب ] الأوّل : النقض :

وهو : إنّ ما ذكرتم من إفحام الأنبياء ، مشترك بين الوجوب الشرعي - الذي هو مذهبنا - ، والوجوب العقلي - الذي هو مذهبكم - ، فما [ هو ] جوابكم فهو جوابنا!

وإنّما كان مشتركا ، إذ لو وجب النظر بالعقل فوجوبه ليس ضروريا ، بل بالنظر فيه ، والاستدلال عليه بمقدّمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أنّ المعرفة واجبة ، وأنّها لا تتمّ إلّا بالنظر ، وأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ..

فيقول المكلّف حينئذ : لا أنظر أصلا ما لم يجب ، ولا يجب ما لم أنظر ، فيتوقّف كلّ واحد من وجود النظر مطلقا ، ووجوبه على الآخر.

لا يقال : إنّه يمكن أن يكون وجوب النظر فطريّ القياس ، فيضع النبيّ للمكلّف مقدّمات ينساق ذهنه إليها بلا تكلّف ، ويفيده العلم بذلك - يعني بوجوب النظر ضرورة - ، فيكون الحكم بوجوب النظر ضروريا محتاجا إلى تنبيه على طرفيه.

لأنّا نقول : كونه فطريّ القياس مع توقّفه على ما ذكرتموه من المقدّمات الدقيقة الأنظار ، باطل.

وعلى تقدير صحّته - بأن يكون هناك دليل آخر - فللمكلّف أن لا يستمع إليه وإلى كلامه الذي أراد تنبيهه به ، ولا يأثم بترك النظر أو الاستماع ، إذ لم يثبت بعد وجوب شيء أصلا ، فلا يمكن الدعوة وإثبات

ص: 144

النبوّة ، وهو المراد بالإفحام.

والجواب الثاني : الحلّ :

وهو أن يقال : [ النبيّ له أن يقول ] - إذا قال المكلّف : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه -:

إنّ الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر ، ولكن لا يلزم أن تعرف ذلك الوجوب.

فإن قال : الوجوب موقوف على علمي به.

قلنا : لا يتوقّف ؛ إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم بالوجوب.

فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر.

قلنا : ماذا تريد بالوجوب الذي ما لم تعرفه لم تنظر؟!

فإن قال : أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا.

قلنا : فقد أثبتّ الشرع حيث قلت بالثواب ، وإلّا فبطل قولك :

« ووجوبه لا أعرفه إلّا بقولك » ، فاندفع الإفحام.

وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون ترك الواجب به قبيحا لا يستحسنه العقلاء ، ويترتّب عليه المفسدة ، فيرجع إلى استحسان العقل.

قلنا : فأنت تعرف هذا الوجوب إذا راجعت العقلاء ، وتأمّلت فيه بعقلك ، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النظر في معرفة خالقه - مع بثّ النعم -

ص: 145

قبيح ، وفيه مفسدة ، فبطل قوله : « ولم أنظر ما لم أعرف الوجوب » ، واندفع الإفحام.

لا يقال : هذا الوجه الثاني هو عين [ القول ب ] الحسن والقبح العقليّين ، وليس هذا مذهب الأشاعرة ، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم.

قلنا : لأنّا نقول : ليس هذا من الحسن والقبح اللذين وقع فيهما المنازعة أصلا ؛ لأنّ الحسن والقبح ، بمعنى تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، هو محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعيّ ، وعند المعتزلة عقليّ.

وأمّا الحسن والقبح ، بمعنى ملاءمة الغرض ومنافرته ، وترتّب المصلحة والمفسدة عليهما ، فهما عقليّان بالاتّفاق ؛ وهذا من ذاك الباب ، وسنبيّن لك [ حقيقة ] هذا المبحث في فصل الحسن والقبح إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ اعلم أنّا سلكنا في دفع لزوم الإفحام [ عن الأنبياء ] مسلكا لم يسلكه قبلنا أحد من السلف ، وأكثر ما (1) اطّلعنا عليه من كلامهم لم يفد دفع الإفحام ، كما هو ظاهر على من يراجع كلامهم ، واللّه العالم.

إذا عرفت هذا ، علمت أنّ الإفحام مندفع على تقدير القول بالوجوب الشرعي في هذا المبحث ، فأين الانجرار إلى الكفر والإلحاد؟!

ثمّ إنّ من غرائب طامّات هذا الرجل أنّه أورد شبهة على كلام الأشاعرة ، وهي مندفعة بأدنى تأمّل ، ثمّ رتّب عليه التكفير والتفسيق ، وهذا

ص: 146


1- كان في الأصل : « من » ، وهو تصحيف ؛ والمثبت في المتن من المصدر.

غاية الجهل والتعصّب ، وهو رجل يريد ترويج طامّاته ليعتقده القلندرية والأوباش (1) ورعاع الحلّة من الرفضة والمبتدعة.

ص: 147


1- الأوباش من الناس : الأخلاط والضروب المتفرّقون والسفلة ؛ انظر : الصحاح 3 / 1024 ، لسان العرب 15 / 200 ، تاج العروس 9 / 219 ، مادّة « وبش ».
وأقول :
اشارة

إنّ الجواب النقضي إنّما يتوجّه إذا كان الدليل العقلي على الوجوب - نظريا أو ضروريا - محتاجا إلى تنبيه.

وأمّا إذا كان ضروريا غنيا عن التنبيه ، فلا ، كالدليل الذي ذكره المصنّف.

فإنّ المقدّمة الأولى منه ، وهي :

« إنّ النظر دافع للخوف » وجدانية ؛ لأنّ النظر إمّا أن يحصل به القطع المؤمّن للقاطع ، أو يوجب الأمان من جهله لو لم يقطع ؛ لأنّ النظر غاية المقدور.

والمقدّمة الثانية ، وهي :

« إنّ دفع الخوف واجب » ضرورية أوّلية ، لا تحتاج إلى التنبيه كالأولى.

فإن قلت :

أين الخوف حتّى يوجب دفعه؟!

قلت :

لا ريب أنّ كلّ عاقل يحتمل بالضرورة أنّ له ربّا لازم العبادة ، وأنّه يعاقبه بجهله فيه ، وترك النظر في معرفته ، والإخلال بعبادته ، فيحصل له الخوف بالضرورة ، فيحتاج إلى النظر ، ويجب عليه عقلا.

ص: 148

ولا يخفى أنّ الخصم أخذ هذا الجواب النقضي بعينه من « المواقف » وشرحها ، من غير تدبّر بعدم انطباقه على المورد ؛ لأنّ المصنّف ذكر لوجوب النظر دليلا ضروريا ، وما ذكره في « المواقف » دليل آخر نظريّ!

فرأى الخصم أنّ صاحب « المواقف » ذكر جوابا سمّاه نقضيا ، فأخذه بلفظه من غير معرفة بعدم انطباقه على الدليل الذي في الكتاب ، وأنّه لا يكون نقضا عليه ، وإنّما يكون نقضا على ما بيّنه في « المواقف ».

ثمّ إنّه قد ذكر في « المواقف » نظير الدليل البديهي المذكور ، وجعله دليلا على وجوب المعرفة عقلا ، لا على وجوب النظر ، فقال : « المعرفة دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، وهو - أي الخوف - ضرر ، ودفع الضرر عن النفس واجب [ عقلا ] » (1).

ولو قال : المعرفة دافعة للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة ؛ لكان أولى.

وأمّا ما ذكره في الحلّ :
اشارة

فيرد عليه أمور :

الأوّل :

إنّ قوله : « الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر » كلام غير نافع ، وهو الذي اقتصر عليه علماء الأشاعرة ؛ لأنّ تحقّق وجوب النظر في الواقع وإن لم يتوقّف على العلم ، لكن لا يؤثّر في لزوم إطاعة المكلّف له

ص: 149


1- المواقف : 28 - 31 ، شرح المواقف 1 / 269 - 270.

ما لم يعلمه ، فإنّ من لا يعرف الوجوب يكون معذورا في مخالفته وترك النظر ، فيلزم الإفحام.

ولو ادّعيت عدم المعذورية عقلا في مخالفة الوجوب الشرعي الواقعي ، بمجرّد احتمال المكلّف له ، رجعت إلى حكم العقل ، وصار المحرّك للمكلّف على النظر هو العقل لا الشرع.

وبالجملة : إنّما يرتفع الإفحام بعلم المكلّف بالوجوب ، لا بمجرّد وجوده في الواقع ، وقول مدّعي النبوّة لا يفيده العلم ، فلا يرتفع الإفحام ، بخلاف الدليل العقلي ، فإنّه يثبت الوجوب ، ويفيد العلم به ، فيرتفع الإفحام.

الثاني :

إنّه لا يلزم من قول المكلّف : « أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا » أن يكون مثبتا للشرع ، مذعنا به ؛ لأنّ استعمال اللفظ في معنى لا يستلزم اعتقاد المستعمل بالمعنى ، بل يكفيه سماعه له مستعملا به عند أهل الشرع ، فإذا أراده صحّ كلامه من غير اعتقاد به ، ولزم الإفحام.

الثالث :

إنّ نتيجة قوله : « وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون الواجب به قبيحا ... » إلى آخره ، أن يكون الوجوب عقليا ، وحينئذ - لو تمّ - لا يكون جوابا حلّيا عن إشكال الإفحام بناء على الوجوب الشرعي.

فظهر أنّ زيادة الخصم على جواب الأشاعرة بقوله : « فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر ... » إلى آخر جوابه ، زيادة لاغية لا تنفع

ص: 150

الأشاعرة ؛ لاشتمالها على مقدّمتين :

أولاهما : لا تدفع الإفحام.

والثانية : تجعل الوجوب عقليا كما عرفته في الأمرين الأخيرين.

واعلم أنّ دليل المصنّف العقلي كما يثبت وجوب النظر لمعرفة اللّه تعالى ، يثبت وجوب النظر لمعرفة النبيّ ، إلّا أنّ وجه الخوف مختلف ، ولا يبعد أنّ المصنّف أراد الأمرين كما هو ظاهر من كلامه.

واللّه العالم.

* * *

ص: 151

ص: 152

المعرفة واجبة بالعقل

اشارة

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :

المبحث الثالث : في أنّ معرفة اللّه تعالى واجبة بالعقل

الحقّ أنّ وجوب معرفة اللّه تعالى مستفاد من العقل ، وإن كان السمع [ قد ] دلّ عليه ؛ لقوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (2) ؛ لأنّ شكر النعمة (3) واجب بالضرورة ، وآثار النعمة علينا ظاهرة ، فيجب علينا أن نشكر فاعلها ، وإنّما يحصل بمعرفته ؛ ولأنّ معرفة اللّه دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

وقالت الأشاعرة : إنّ معرفة اللّه واجبة بالسمع لا بالعقل (4) ، فلزمهم ارتكاب الدور ، المعلوم بالضرورة بطلانه ؛ لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجب ، فإنّ من لا نعرفه بشيء من الاعتبارات ألبتّة ، نعلم - بالضرورة - أنّا لا نعرف أنّه أوجب ، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال.

ص: 153


1- نهج الحقّ : 51 - 52.
2- سورة محمّد صلی اللّه علیه و آله 47 : 19.
3- في المصدر : المنعم.
4- الملل والنحل 1 / 88 ، المواقف : 28 ، شرح المواقف 1 / 270 - 271.

وأيضا : لو كانت المعرفة إنّما تجب بالأمر ، لكان الأمر بها إمّا أن يتوجّه إلى العارف باللّه تعالى ، أو إلى غير العارف ، والقسمان باطلان ، فتعليل الإيجاب بالأمر محال.

أمّا بطلان الأوّل ؛ فلأنّه يلزم منه تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأمّا بطلان الثاني ؛ فلأنّ غير العارف باللّه يستحيل أن يعرف : أنّ اللّه قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.

وإذا استحال أن يعرف أنّ اللّه تعالى قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب ، استحال أمره ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، وسيأتي بطلانه إن شاء اللّه تعالى.

* * *

ص: 154

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

لا بدّ في هذا المقام من تحرير محلّ النزاع أوّلا ، فنقول :

وجوب معرفة اللّه تعالى - الذي اختلف فيه - هل إنّه مستفاد من الشرع أو العقل؟

إن أريد به الاستحسان ، وترتّب المصلحة ، فلا يبعد أن يقال : إنّه مستفاد من العقل ؛ لأنّ شكر المنعم موقوف على معرفته ، والشكر واجب - بهذا المعنى - بالعقل ، ولا نزاع للأشاعرة في هذا.

وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع ؛ لأنّ العقل ليس له أن يحكم بما يوجب الثواب عند اللّه.

والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح - بهذا المعنى - مركوزان في العقل ، ولكنّ الشرع كاشف عنهما.

ففي المذهبين لا بدّ وأن يؤخذ (2) من الشرع ، إمّا لكونه حاكما ، أو لكونه كاشفا (3).

فكلّ ما يرد على الأشاعرة في هذا المقام بقولهم : « إنّ الشرع حاكم بالوجوب دون العقل » يرد على المعتزلة بقولهم : « إنّ الشرع كاشف للوجوب » ؛ لأنّ في القولين لا بدّ من الشرع ليحكم أو يكشف.

ص: 155


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 160 - 161.
2- كان في الأصل : « يوجد » ، وهو تصحيف ؛ والمثبت في المتن من المصدر.
3- أي كاشفا عن حكم العقل بوجوب النظر.

ثمّ ما ذكر من أنّ معرفة اللّه دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة ..

فنحن نقول فيه - بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح في الأفعال ، وما يتفرّع عليهما من الوجوب والحرمة وغيرهما - : نمنع حصول الخوف المذكور ؛ لعدم الشعور بما جعلتم الشعور به سببا له من الاختلاف وغيره.

ودعوى ضرورة الشعور من العاقل ممنوعة ؛ لعدم الخطور في الأكثر ، فإنّ أكثر الناس لا يخطر ببالهم أنّ هناك اختلافا بين الناس في ما ( ذكروا : أنّ ) (1) لهذه النعم منعما قد طلب منهم الشكر عليها ، بل هم ذاهلون عن ذلك ، فلا يحصل لهم خوف أصلا.

وإن سلّم حصول الخوف ، فلا نسلّم أنّ العرفان - الحاصل بالنظر - يدفعه ، إذ قد يخطئ فلا يقع العرفان على وجه الصواب ؛ لفساد النظر ، فيكون الخوف حينئذ أكثر.

ثمّ ما ذكر من لزوم الدور ، مندفع بأنّ وجوب المعرفة بالشرع في نفس الأمر ، لا يتوقّف على معرفة الإيجاب [ وإن توقّف على الإيجاب ] في نفس الأمر ، فلا يلزم الدور.

ثمّ ما ذكر من أنّ المعرفة لا تجب إلّا بالأمر ، والأمر إمّا أن يتوجّه إلى العارف أو الغافل ؛ وكلاهما باطل ..

فنقول في جوابه : المقدّمة الثانية القائلة : بأنّ تكليف غير العارف باطل لكونه غافلا ؛ ممنوعة ..

ص: 156


1- في المصدر : « ذكر ، وأنّ ... ».

إذ شرط التكليف : فهمه وتصوّره ، لا العلم والتصديق به ؛ لأنّ الغافل من لا يفهم الخطاب ، أو لم يقل له : إنّك مكلّف ؛ فتكليف غير العارف ليس من المحال في شيء ؛ واللّه أعلم.

ص: 157

وأقول :

اشارة

لا يخفى أنّ معنى الوجوب هو : لزوم الفعل ، وعبّر بعضهم بطلب الفعل مع المنع من الترك ، وهذا ممّا لا يشتبه في نفسه على أحد ، ولا في كونه - هو دون غيره - محلّ النزاع ، فأيّ وجه لتركه؟!

والترديد في معنى الوجوب بين أمرين لا ربط لهما بالمقصود ، اللّهمّ إلّا أن يريد الترديد في سبب الوجوب العقلي ودليله ، لا في معناه ، فهو حسن إذا كان غرضه - من الشقّ الأوّل في الترديد - تسليم الدليل الأوّل الذي استدلّ به المصنّف ، مع إرادة الخصم بالاستحسان هو الاستحسان على وجه اللزوم.

لكنّ دعوى تسليم الأشاعرة لهذا الدليل ، وعدم النزاع لهم في وجوب شكر المنعم ، غير صحيحة ، لا سيّما إذا أريد به إثبات وجوب المعرفة عقلا.

فإنّهم أنكروا وجوب المعرفة عقلا - كما سمعت - ، وأنكروا وجوب شكر المنعم عقلا ، مدعين :

أوّلا : إنّه تصرّف في ملك الغير ، فلا يجوز بدون إذنه.

وثانيا : إنّه لو وجب عقلا ، فإن كان لا لفائدة ، يلزم العبث ؛ وإن كان لفائدة : إمّا في الدنيا ، وأنّه مشقّة ؛ أو في الآخرة ، ولا استقلال للعقل فيها.

ويرد على الأوّل : إنّهم إن أرادوا بملك الغير : الجوارح والقوى المدركة ؛ ففيه : إنّ اللّه سبحانه إنّما خلقها ليتصرّف بها صاحبها ، إلّا أن

ص: 158

يثبت منع الشرع في مورد فيستثنى.

وإن أرادوا به أفعال العبد ؛ فهي عندهم مخلوقة لله تعالى ، فلا تصرّف للعبد فيها ، على إنّ الأصل الإباحة عند الشكّ كما حقّق في أصول الفقه (1).

ويرد على الثاني : إنّا نختار أنّه لفائدة الشاكر ، سواء قلنا : إنّها في الدنيا ؛ لأنّ المشقّة لا يلتفت إليها في جنب الفائدة ، كيف؟! ولا تحصل فائدة غالبا بدون مشقّة ..

أم في الآخرة ؛ لأنّ العقل مستقلّ بها ، وحاكم بالثواب عند اللّه تعالى ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا قوله : « وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع » ..

فهو خارج عن المقام ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في أصل الوجوب العقلي ودليله ، ولا ربط له بمسألة استحقاق الثواب والعقاب على طاعة التكاليف الشرعية ومخالفتها.

كما إنّ قولنا بالاستحقاق لا يتوقّف على كشف الشرع بالضرورة.

وكيف كان ، فإن أقرّ الخصم بوجوب معرفة اللّه تعالى عقلا ، وأنّ العقل ملزم للإنسان بالمعرفة وإن لم يعرف الشرع ، لوجوب شكر المنعم عقلا ، الموقوف على المعرفة ، فهو المطلوب.

ص: 159


1- انظر : المستصفى من علم الأصول 1 / 75 ، إرشاد الفحول : 473 ، المواهب السنية - المطبوع بهامش الأشباه والنظائر ، للسيوطي - : 83 ، العدّة في أصول الفقه 2 / 741 - 751 ، كفاية الأصول : 338 و 355.

ولكنّ أصحابه لا يعترفون به وإن أنكر ذلك تبعا لأصحابه! فما هذه التفاصيل الخارجة عن المقصود ، والأغاليط التي لا يعرف معناها ، ولا نتيجة لها ، إلّا تشويش الكلام وتلبيس الحقّ!

ومن جملة الخبط في كلامه قوله : « والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح بهذا المعنى مركوزان في العقل » ..

فإنّ حقّ العبارة أن يقول : « ثابتان بالشرع » ، بدلا عن قوله :

« مركوزان في العقل » ؛ لأنّ الأشاعرة لا يقولون بالثواب والعقاب عقلا (1).

وأمّا ما أجاب به عن الدليل الثاني الذي ذكره المصنّف ، فهو عين لفظ « المواقف » وشرحها ، من قوله : « نحن نقول بعد تسليم » إلى قوله :

« فيكون الخوف حينئذ أكثر » (2) ..

ويرد عليه أوّلا : إنّ منع حصول الخوف بدعوى عدم شعور الناس بسببه وهو « الاختلاف » خطأ ظاهر ، سواء أراد المصنّف بالاختلاف ، الاختلاف في وجود اللّه تعالى ، أم في أنّ لهذه النعم منعما.

وذلك لأنّ الاختلاف في الأمرين أظهر الوجدانيات والمشاهدات ، وأبين محالّ الخلاف في الديانات ، فكيف يمكن أن لا يشعر به الناس؟!

نعم ، ربّما لا يبالي الناس بالجهل ومقتضى الخوف ، وهو أمر آخر.

ويرد عليه ثانيا : إنّ تقييد المنعم بأنّه قد طلب الشكر عليها ، خطأ آخر ؛ لمنافاته لمذهبنا ، وهم يريدون حكاية دليلنا ، فإنّا نقول : إنّ وجوب شكر المنعم عقلي لا شرعي ، وإنّما الشرع مؤكّد (3).

ص: 160


1- الملل والنحل 1 / 88 ، شرح المواقف 8 / 183.
2- المواقف : 31 ، شرح المواقف 1 / 270.
3- انظر : الذخيرة في علم الكلام : 170 - 171.

وثالثا : إنّ عدم تسليم كون العرفان الحاصل بالنظر دافعا للخوف ، لاحتمال فساد النظر ، خطأ ثالث ؛ لأنّ كلّ قاطع لا يتصوّر حين قطعه أنّه مخطئ ، ولا يحتمل فساد نظره ، إذ يرى أنّه قد انكشف له الواقع ، وإلّا لم يكن قاطعا (1) ، فكيف لا يرتفع خوفه وإن كان مخطئا في نفس الأمر والواقع؟!

بل عرفت في المبحث السابق (2) أنّ النظر دافع للخوف وإن لم يؤدّ إلى القطع ؛ لأنّه غاية المقدور.

فإن قلت :

المقصود : إنّ من يريد النظر يحتمل أنّه على تقدير قطعه يكون مخطئا ، فلا يكون الإقدام على النظر مؤمّنا من الخطأ ودافعا للخوف حتّى يجب.

قلت :

إنّه وإن احتمل ذلك ، إلّا أنّه يعلم بانتفاء الخوف معه ، لعلمه بكون القاطع معذورا وإن أخطأ ، فالإنسان بدون النظر في خوف ، ومع النظر يحصل له الأمان ، لعلمه بأنّه إمّا أن يحصل له القطع ، أو لا.

وعلى التقديرين يكون معذورا آمنا ؛ لأنّ ذلك غاية مقدوره.

وأمّا ما ذكره في دفع الدور ، فلا ربط له بمقدّمتي الدور اللتين

ص: 161


1- انظر : كفاية الأصول : 258.
2- انظر الصفحة 148.

ذكرهما المصنّف ..

لأنّ الأولى قائلة : إنّ معرفة الإيجاب متوقّفة على معرفة الموجب.

والثانية قائلة : إنّ معرفة الموجب متوقّفة على معرفة الإيجاب.

وصريح ما ذكره الفضل منع توقّف وجوب المعرفة على معرفة الإيجاب ، وهو أجنبي عن المقدّمتين.

وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى تكليف غير العارف ، فممّا تلقّنه من « المواقف » وشرحها بلفظه ، من دون معرفة بعدم صلوحه للجواب ، فإنّه يرد عليه أمور :

الأوّل : إنّه غير مرتبط بمراد المصنّف ؛ لأنّه أراد بغير العارف من لم يعرف اللّه تعالى ، لا الغافل عن التكليف.

الثاني : إنّه زعم أنّ شرط التكليف فهمه ، وفسّر الغافل بمن لا يفهم الخطاب ، ثمّ حكم بأنّ تكليفه غير محال ؛ وهو تناف ظاهر ؛ لأنّه إذا اشترط في التكليف فهمه ، وكان الغافل لا يفهم الخطاب ، فكيف يجوز تكليفه؟!

الثالث : إنّ كلام المصنّف اشتمل على مقدّمتين لا ربط لجواب الفضل بهما :

الأولى : إنّ غير العارف باللّه - بما هو غير عارف به - يستحيل أن يعرف أنّ اللّه قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.

الثانية : إنّه إذا استحال ذلك استحال أمر اللّه تعالى ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.

ومن الواضح أنّ ما ذكره لا يصلح أن يكون ردّا لإحدى المقدّمتين لو كان له معنى!

ص: 162

مباحث الصفات الإلهيّة

اشارة

ص: 163

ص: 164

اللّه تعالى قادر على كلّ مقدور

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المسألة الثالثة : في صفاته تعالى

اشارة

وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل : إنّه تعالى قادر على كلّ مقدور
اشارة

الحقّ ذلك ؛ لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، فيكون اللّه تعالى قادرا على جميع المقدورات.

وخالف في ذلك جماعة من الجمهور :

فقال بعضهم : إنّه لا يقدر على مثل مقدور العبد (2).

ص: 165


1- نهج الحقّ : 53 - 54.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 260 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 340 ، المواقف : 284 ، شرح العقائد النسفية : 100 ، شرح المواقف 8 / 63 ؛ والقول لأبي القاسم البلخي.

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على غير (1) مقدور العبد (2).

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يقدر على القبيح (3).

وقال آخرون : إنّه لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا يتعلّق بما علمناه مكتسبا (4).

وكلّ ذلك بسبب سوء فهمهم ، وقلّة تحصيلهم!

والأصل في هذا أنّه تعالى واجب الوجود ، وكلّ ما عداه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه إنّما يصدر عنه ، ( أو يصدر عمّا يصدر عنه ) (5).

ولو عرف هؤلاء اللّه تعالى حقّ معرفته لم تتعدّد آراؤهم ، ولا تشعّبوا بحسب ما تشعّبت أهواؤهم.

* * *

ص: 166


1- (1) كذا في الأصل والمصدر ، وفي أغلب المصادر المنقول عنها : « عين » ، وفي بعضها : « نفس » ؛ فلاحظ!
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 260 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 341 ، المواقف : 284 ، شرح المواقف 8 / 64 ؛ والقول لأبي علي وأبي هاشم الجبّائيّين.
3- الملل والنحل - للبغدادي - : 91 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 130 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 47 - 48 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 340 ، المواقف : 284 ، شرح العقائد النسفية : 100 ، شرح المواقف 8 / 63 ؛ والقول للنظّام.
4- لعلّ هذا هو قول عبّاد بن سليمان ، تلميذ هشام الفوطي ؛ فانظر مؤدّاه في : الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 133.
5- ما بين القوسين ليس في المصدر.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ قدرته تعالى تعمّ سائر المقدورات ، والدليل عليه : إنّ المقتضي للقدرة هو الذات ، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت على كلّها (2).

هذا مذهبهم ، وقد وافقهم الإمامية في هذا وإن خالفهم المعتزلة.

فقوله : « خالف في ذلك جماعة من الجمهور » إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس ، وإراءة للطالبين أنّ مذهبهم هذا ؛ لأنّ « الجمهور » - في هذا الكتاب - لا يطلقه إلّا على الأشاعرة ، وبالجملة : تعصّبه ظاهر ، وغرضه غير خاف.

وأمّا قول بعضهم : إنّ اللّه تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد ؛ فهو مذهب أبي القاسم البلخي (3).

ص: 167


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 164 - 165.
2- المواقف : 283 ، شرح المواقف 8 / 60.
3- وأبو القاسم البلخي هو : عبد اللّه بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، ولد عام 273 ه ، من متكلّمي المعتزلة البغداديّين ، ومن نظراء أبي علي الجبّائي ، صنّف في الكلام كتبا كثيرة ، منها : كتاب المقالات ، وكتاب الغرر ، والتفسير الكبير ، وغيرها. يقال إنّه كان رئيساً لفرقة من المعتزلة تدعی الكعبية نسبت إليه ، أقام في بغداد ، وعاد إلی بلخ خراسان حتی توفي فيها سنة 319 وقيل 329 ه. أنظر : تاريخ بغداد 384/9 رقم 4968 ، وفيات الأعيان 45/3 رقم 330 ، سير أعلام النبلاء 313/14 رقم 204 ، لسان الميزان 255/3 رقم 1103 ، شذرات الذهب 281/2 حوادث سنة 319 ه.

وأمّا أنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما ضروريا ، فهو مذهب جماعة مجهولين ، ولم أعرف من نقله سوى هذا الرجل ، والحقّ ما قدّمناه.

* * *

ص: 168

وأقول :
اشارة

لا يخفى أنّ المقدّمة الأولى من دليلهم - المذكور - القائلة : « إنّ المقتضي للقدرة هو الذات » مبنية على إنّ صفاته تعالى غير ذاته ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى أنّها عين ذاته.

كما أنّ المقدّمة الثانية القائلة : « المصحّح للمقدورية هو الإمكان » مستلزمة للدور أو التسلسل ؛ لأنّ صفاته سبحانه عندهم ممكنة ، ومنها القدرة ، فيلزم أن تكون القدرة مقدورة ، وهو دور أو تسلسل.

وأمّا المقدّمة الثالثة القائلة : إنّ نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فمحلّ إشكال ؛ كيف؟! واقتضاء الذات لصفاتها الممكنة عندهم بالإيجاب ، ولباقي الممكنات بالاختيار ؛ فتختلف النسبة.

وعليه : فمن الجائز أن تكون مقدورية بعض الممكنات للذات مشروطة بشرط منتف ، أو أنّ لمقدوريّتها لها مانعا ، فلا يثبت عموم قدرته.

فالأولى الاستدلال عقلا لعموم قدرته تعالى ، بما ذكره المصنّف من أنّ المقتضي - أي العلّة - لتعلّق القدرة بالمقدور هو الإمكان ، ضرورة توقّف ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على القدرة.

فإن قلت :

إنّما يثبت بهذا الدليل عموم مقدورية الممكنات لا عموم قدرته تعالى ، إذ لو أثبت عمومها لأثبت عموم قدرة العبد أيضا ، لجريان الدليل بعينه فيها ، فيجوز أن يكون بعض الممكنات مقدورا لله تعالى ، وبعضها

ص: 169

مقدورا للعبد خاصة لاختلاف الخصوصيات.

قلت :

الإمكان يستدعي الحاجة إلى المؤثّر والانتهاء إلى الواجب تعالى ، فيصلح هذا الدليل دليلا لعموم قدرته تعالى ، بلحاظ ما يستتبعه الإمكان من حاجة كلّ ممكن إليه عزّ وجلّ ، لا بلحاظ ذات الإمكان فقط حتّى يلزم عموم قدرة العبد أيضا.

فإن قلت :

الحاجة إنّما تقتضي تأثّر الممكن عن الواجب - ولو بنحو الإيجاب - فلا يلزم عموم قدرته لكلّ ممكن ، لجواز كونه سبحانه موجبا لبعض الممكنات كما يقوله الأشاعرة في صفات الباري سبحانه (1) ، والإيجاب مناف للقدرة على الصحيح ، لاعتبار أن تكون صالحة للفعل والترك.

قلت :

لا يصحّ فرض كونه تعالى موجبا ، لاستلزامه تعدّد القدماء ، وهو باطل ، كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا قوله : « إن أراد به الأشاعرة فهو افتراء ، وإن أراد به غيرهم فهو تلبيس » ..

ص: 170


1- المواقف : 282 - 283 ، شرح المواقف 8 / 56 - 59.
ففيه :

إنّه أراد به من قدّموا على أمير المؤمنين علیه السلام غيره ، لتصريحه في المبحث الآتي بأنّ أبا هاشم (1) من الجمهور ، وفي مباحث البقاء ، بأنّ النظّام (2) منهم ، مع إنّهما من المعتزلة ، فلا تلبيس منه.

هذا ، وللقوم أقوال أخر لم يتعرّض لها المصنّف ، ذكر في « المواقف » بعضها (3) ، وذكر ابن حزم في أواخر الجزء الثاني من « الملل والنحل » جملة منها (4).

ص: 171


1- هو : عبد السّلام بن أبي علي محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام الجبّائي المعتزلي ، ولد سنة 247 ، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ، له تصانيف كثيرة ، منها : كتاب الجامع الكبير ، كتاب العرض ، وكتاب المسائل العسكرية ، توفّي في بغداد سنة 321 ه. أنظر : تاریخ بغداد 11/ 55 - 56 رقم 5735 ، وفيات الأعيان 183/3 - 184 رقم 383 ، سیر أعلام النبلاء 63/15 - 64 رقم 32 ، شذرات الذهب 289/2 حوادث سنة 321 ه- .
2- هو : أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري ، كان مولى للزياديّين ، وهو من ولد العبيد قد جرى عليه الرقّ في أحد آبائه ، كان من شيوخ المعتزلة ، وهو شيخ الجاحظ ، له تصانيف ، منها : الطفرة ، الجواهر والأعراض ، حركات أهل الجنّة ، كتاب الوعيد ، وكتاب النبوّة. كان متكلّماً أديباً ، وشاعراً بليغاً ، وله شعر دقيق المعاني على طريقة المتكلمين ، وقيل : إنه كان نظاماً للخرز في سوق البصرة ، توفي سنة بضع وعشرين ومائتين ، وقيل : سنة 231 ه- . أنظر : الفهرست - للنديم: 287 - 288 ، الفرق بين الفرق : 113 - 114 ، تاريخ بغداد 97/6 - 98 رقم 3131 ، سير أعلام النبلاء 541/10 رقم 172 ، لسان الميزان 67/1 رقم 173 .
3- المواقف : 283 - 284 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 63.
4- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 68 - 70 وج 3 / 128 وما بعدها.

وحكى نصير الدين الطوسي في كتاب « قواعد العقائد » القول بأنّه تعالى لا يقدر أن يخلق فينا علما يتعلّق بما علمناه مكتسبا (1).

واعلم أنّ قولنا : بأنّه تعالى قادر على القبيح ؛ لا دخل له بالوقوع ، فإنّ القدرة على الشيء بما هو ممكن بالذات لا تنافي امتناعه أو وجوبه بالغير ، وهو ظاهر.

ويدلّ من النقل على عموم قدرته تعالى ، مثل قوله تعالى : ( وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2).

ص: 172


1- انظر مؤدّاه في قواعد العقائد : 446 ، وراجع الصفحة 166 الهامش 4 من هذا الجزء.
2- سورة البقرة 2 : 284 ، سورة آل عمران 3 : 29 و 189 ، سورة المائدة 5 : 17 و 19 و 40 ، سورة الأنفال 8 : 41 ، سورة التوبة 9 : 39 ، سورة الحشر 59 : 6.

اللّه تعالى مخالف لغيره

اشارة

قال المصنّف - طيّب اللّه ضريحه - (1) :

المبحث الثاني : في أنّه تعالى مخالف لغيره

اشارة

العقل والسمع متطابقان على عدم ما يشبهه تعالى ، فيكون مخالفا لجميع الأشياء بنفس حقيقته.

وذهب أبو هاشم - من الجمهور - وأتباعه إلى أنّه تعالى يخالف ما عداه بصفة الإلهية ، وأنّ ذاته مساوية لغيره من الذوات (2).

وقد كابر الضرورة - ها هنا - الحاكمة بأنّ الأشياء المتساوية يلزمها لازم واحد ، لا يجوز اختلافها فيه.

فلو كانت ذاته تعالى مساوية لغيره من الذوات ، لساواها في اللوازم ، فيكون القدم ، أو الحدوث ، أو التجرّد ، أو المقارنة .. إلى غير ذلك من اللوازم ، مشتركا بينها وبين اللّه ؛ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ثمّ إنّهم ذهبوا مذهبا غريبا عجيبا! وهو : إنّ هذه الصفة الموجبة

ص: 173


1- نهج الحقّ : 54.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 138 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 223 ، المواقف : 269 ، شرح المواقف 8 / 15.

للمخالفة غير معلومة ، ولا مجهولة ، ولا موجودة ، ولا معدومة! (1).

وهذا الكلام غير معقول ، وفي غاية السفسطة (2).

* * *

ص: 174


1- الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 69.
2- في المصدر : السقوط.

وقال الفضل (1) :

مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : إنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، والمخالفة بينه وبينها لذاته المخصوصة لا لأمر زائد عليه (2).

وهكذا ذهب إلى أنّ : المخالفة بين كلّ موجودين من الموجودات إنّما هي بالذات ، وليس بين الحقائق اشتراك إلّا في الأسماء والأحكام دون الأجزاء المقوّمة (3).

وقال قدماء المتكلّمين : ذاته تعالى مماثلة لسائر الذوات في الذاتية والحقيقة ، وإنّما يمتاز عن سائر الذوات بأحوال أربعة : الوجوب ، والحياة ، والعلم التامّ ، والقدرة التامّة (4).

وأمّا عند أبي هاشم : فإنّه يمتاز عمّا عداه من الذوات بحالة خاصة خامسة ، هي الموجبة لهذه الأربعة ، تسمّى ب « الإلهيّة »(5) ، وهذا مذهب أبي هاشم ، وهو من المعتزلة.

ص: 175


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 171 - 172.
2- تجد هذه الآراء في الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 138 - 139 المسألة الخامسة ، المواقف : 269 ، شرح المواقف 8 / 14 - 15.
3- تجد هذه الآراء في الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 138 - 139 المسألة الخامسة ، المواقف : 269 ، شرح المواقف 8 / 14 - 15.
4- تجد هذه الآراء في الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 138 - 139 المسألة الخامسة ، المواقف : 269 ، شرح المواقف 8 / 14 - 15.
5- تجد هذه الآراء في الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 138 - 139 المسألة الخامسة ، المواقف : 269 ، شرح المواقف 8 / 14 - 15.
وأقول :

هذا كلّه من كلام « المواقف » وشرحها إلى قوله : « تسمّى ب :

الإلهية » (1) ، فكأنّه جاء ناقلا لكلامهما بلا فائدة تتعلّق بالجواب عن أبي هاشم وغيره من مثبتي الأحوال.

وقوله : « هو من المعتزلة » لا ينفعه ؛ لأنّ بعض مثبتي الأحوال من الأشاعرة (2) ، وهم قائلون بمقالة أبي هاشم! على إنّ المصنّف بصدد الردّ على الجمهور مطلقا من دون خصوصية للأشاعرة.

ثمّ إنّ الأشعري يقول : إنّ الاشتراك بالأحكام يستلزم الاشتراك بالذات والذاتيّات (3) ؛ فما معنى حكمه بالمخالفة بين الموجودات في الذات مع اشتراكها في الأحكام؟! اللّهمّ إلّا أن يريد ب « الأحكام » الأمور الاعتبارية لا الحقيقية.

هذا ، واستدلّ - أيضا - أصحابنا وغيرهم على المخالفة ، بأنّه تعالى لو شاركه غيره في الذات والحقيقة لخالفه بالتعيين ، لضرورة التعدّد ، ولا ريب أنّ ما به الافتراق غير ما به الاتّفاق (4) ، فيلزم التركيب في هويّة الواجب تعالى ، وهو باطل.

ص: 176


1- المواقف : 269 ، شرح المواقف 8 / 14 - 15.
2- كالقاضي أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني ، المتوفّى سنة 403 ه. أنظر : الملل والنحل - للشهرستاني - 82/1.
3- انظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 140 - 141.
4- انظر : المراسلات بين القونوي والطوسي : 99 وما بعدها ، نهاية الحكمة : 18.

وبقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (1).

واستدلّ أبو هاشم وأتباعه على المساواة ، بأنّ الذات تنقسم إلى : الواجب والممكن ، ومحلّ القسمة مشترك بين أقسامه (2).

وردّ بأنّ « المشترك » هو مفهوم الذات ، وهو اعتباري ، فلا ينفع الاشتراك فيه في إثبات الاشتراك بالحقيقة والماهيّة.

* * *

ص: 177


1- سورة الشورى 42 : 11.
2- تقدّم في الصفحة 171.

ص: 178

إنّه تعالى ليس بجسم

اشارة

قال المصنّف - ضاعف اللّه ثوابه - (1) :

المبحث الثالث : في أنّه تعالى ليس بجسم

اشارة

أطبق العقلاء على ذلك ، إلّا أهل الظاهر كداود (2) ، والحنابلة كلّهم ، فإنّهم قالوا : إنّ اللّه تعالى جسم يجلس على العرش ، ويفضل عنه من كلّ جانب ستّة أشبار بشبره (3)!!

وإنّه ينزل في كلّ [ ليلة ] جمعة على حمار [ و ] ينادي إلى الصباح :

ص: 179


1- نهج الحقّ : 55 - 56.
2- هو : داود بن علي بن خلف الكوفي ، أبو سليمان الأصفهاني ، المعروف بالظاهري ، ولد سنة 202 ، وتوفّي سنة 270 ه ، وهو إمام أهل الظاهر. رحل إلى نيسابور ، ثمّ قدم بغداد فسكنها وصنّف كتبه بها ، ومنها : إبطال التقليد ، إبطال القياس ، كتاب المتعة ، كتاب مسألتين خالف فيهما الشافعي . أنظر : تاریخ بغداد 369/8 - 375 رقم 4473 ، وفيات الأعيان 255/2 رقم 223 ، طبقات الشافعية - للسبكي - 2 / 284 رقم 62 ، هديّة العارفين 359/5 . أو هو : داود الجَوَارِبي ، الذي هو رأس في التجسيم . أنظر : لسان الميزان 427/2 رقم 1757 .
3- انظر : التوحيد - لابن خزيمة - : 107 ، الكامل في التاريخ 7 / 114 في ذكر فتنة الحنابلة سنة 323 ه.

هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ (1)!!

وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها.

والسبب في ذلك قلّة تمييزهم ، وعدم تفطّنهم بالمناقضة التي تلزمهم ، وإنكار الضروريات التي تبطل مقالتهم.

فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ جسم لا ينفكّ عن الحركة والسكون ، وقد ثبت في علم الكلام أنّهما حادثان ، والضرورة قاضية بأنّ ما لا ينفكّ عن المحدث فإنّه يكون محدثا ، فيلزم حدوث اللّه تعالى.

والضرورة [ الثانية ] قاضية بأنّ كلّ محدث فله محدث ، فيكون واجب الوجود مفتقرا إلى مؤثّر ، ويكون ممكنا ، فلا يكون واجبا [ وقد فرض أنّه واجب ] ، وهذا خلف.

وقد تمادى أكثرهم فقال : إنّه تعالى يجوز عليه المصافحة ، وإنّ المخلصين ( في الدنيا ) (2) يعانقونه في الدنيا (3).

وقال داود (4) : أعفوني عن الفرج واللحية ، واسألوني عمّا وراء ذلك!! (5).

ص: 180


1- انظر : شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 3 / 227 ، التوحيد - لابن خزيمة -: 126 ، الأسماء والصفات - للبيهقي - 2 / 196.
2- ليس في المصدر.
3- مقالات الإسلاميّين : 214 ، شرح المواقف 8 / 399.
4- هو داود الجواربي ، وقد تقدّمت الإشارة إليه في الصفحة السابقة ه 2.
5- الفرق بين الفرق : 216 ، التبصير في الدين - للإسفرايني - : 120 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 93 ، الأنساب - للسمعاني - 5 / 643 ( الهشامي ) ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 3 / 224 ؛ وانظر : شرح المواقف 8 / 399 ولم يصرّح باسم القائل ، بل نسبه إلى : « بعضهم ».

وقال : إنّ معبوده جسم ذو لحم ودم وجوارح وأعضاء!! (1).

وإنّه بكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه ؛ وعادته الملائكة لمّا اشتكت عيناه!! (2).

فلينصف العاقل [ المقلّد ] من نفسه ، هل يجوز له تقليد مثل هؤلاء [ في شيء ]؟!

وهل للعقل مجال في تصديقهم في هذه المقالات الرديّة (3) ، والاعتقادات الفاسدة؟!

وهل تثق النفس بإصابة هؤلاء في شيء ألبتّة؟!

* * *

ص: 181


1- مقالات الإسلاميّين : 209 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 94 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 3 / 224.
2- الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 96.
3- في المصدر : الكاذبة.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ما ذكره من مذهب المشبّهة والمجسّمة ، وهم على الباطل ، وليسوا من الأشاعرة وأهل السنّة والجماعة.

وأمّا ما نسبه إلى الحنابلة فهو افتراء عليهم ، فإنّ مذهب الإمام أحمد ابن حنبل في المتشابهات : ترك التأويل ، وتوكيل العلم إلى اللّه تعالى.

ولأهل السنّة والجماعة هاهنا طريقان :

أحدهما : ترك التأويل ؛ وهو ما اختاره أحمد [ ابن حنبل ] ..

وتوكيل العلم إلى اللّه تعالى (2) ، كما قال اللّه تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) (3) ، فهؤلاء يتركون آيات التشبيه على ظواهرها ، مع نفي الكيفية والنقص عن ذاته وصفاته تعالى ، لا أنّهم يقولون بالجسمية المشاركة للأجسام ، كما ذهب إليه المشبّهة.

فلم لا يجوز تقليد هؤلاء؟!

وأيّ فساد يلزم من هذا الطريق؟! مع إنّ نصّ القرآن يوافقهم في توكيل العلم إلى اللّه تعالى!

وما ذكره من الطامّات والترّهات فليس من مذهب أهل الحقّ ؛ والرجل معتاد بالطامّات.

ص: 182


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 174.
2- وهذا هو ثاني الطريقين.
3- سورة آل عمران 3 : 7.
وأقول :

المفهوم من كلامه : إنّ اسم أهل السنّة والجماعة مخصوص بالأشاعرة ، وهو غير مسلّم عند المعتزلة والمجسّمة وغيرهم ، فهم في هذا الاسم سواء.

وكيف يختصّ هذا الاسم بالأشاعرة وهو قد حدث قبل شيخهم الأشعري ، في أيّام معاوية؟! (1).

ونسب الشهرستاني في « الملل والنحل » القول بالجسمية إلى الكرّامية وعدّهم من الصفاتية ، وهم من أهل السنّة (2).

ص: 183


1- (1) فقد أطلقت هذه التسمية بعد صلح الإمام السبط الحسن بن عليّ علیهماالسلام مع معاوية ابن أبي سفيان في سنة 41 ه ، فسمّيت هذه السنة ب : عام الجماعة ، وهي السنة التي سنّ فيها لعن الإمام عليّ علیه السلام على المنابر! ومن ذلك انتزع اسم أهل السنّة والجماعة لمخالفي أمير المؤمنين الإمام عليّ علیه السلام ، المتّبعين لمعاوية ، المجتمعين على سنّته! أنظر : العبر في خبر من غبر 36/1 حوادث سنة 41 ه- ، البداية والنهاية 18/8 حوادث سنة 41 ه- ، تطهير الجنان واللسان - المطبوع مع الصواعق المحرقة - : 22 .
2- الملل والنحل 1 / 99. والكرامية - بفتح الكاف وتشديد الراء المهملة - : أصحاب أبي عبد اللّه محمد ابن كرام النيسابوري ، كان والده يحفظ الكَرْم ، فقيل له : الكرام ، وقيل : إنه من بني تراب . ولد بقرية من قرى زرنج ، ونشأ بسجستان ، ثم دخل بلاد خراسان بعد المجاورة بمكة خمس سنين ، وأنصرف إلى سجستان ، ثم إلى نيسابور ، فلمّا شاعت بدعته - وهي أن الإيمان باللسان ، فهو مؤمن وإن اعتقد الكفر بقلبه ! - حبسه طاهر بن عبد اللّه بن طاهر ، ولما أفرج عنه خرج إلى ثغور الشام ، وعند عودته إلى نيسابور سجنه محمد بن طاهر بن عبد اللّه ثمانية أعوام لأجل بدعته . وخرج من نيسابور سنة 251 ه- متوجهاً إلى بيت المقدس ، وتوفّي فيها سنة 255 ه- ، وقيل سنة 256 ه- ، ودفن بباب أريحا ، وقيل أيضاً : إنه مات بالشام سنة 255 ه- . أنظر : الأنساب - للسمعاني - 43/5 «الكرامي » ، ميزان الاعتدال 314/6 رقم 8109 ، لسان الميزان 353/5 رقم 1158 ، البداية والنهاية 18/11 حوادث سنة 255 ه- .

ونسبه في « المواقف » (1) إليهم أيضا ، وإلى مقاتل بن سليمان (2) وغيره (3).

ص: 184


1- المواقف : 273 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 25 المقصد الثاني.
2- هو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني ، أبو الحسن البلخي ، صاحب التفسير ، وقال العسقلاني : قال ابن حبّان : كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان مشبّها يشبّه الربّ سبحانه وتعالى بالمخلوقين ، وكان يكذب مع ذلك في الحديث ، أصله من بلخ ، وانتقل إلى البصرة فمات بها عام 150 ه. أنظر : میزان الاعتدال 505/6 رقم 8747 ، تهذيب التهذيب 320/8 - 325 رقم 7146، وفيات الأعيان 255/5 رقم 733 ، شذرات الذهب 227/1 حوادث سنة 150 ه- .
3- مثل : معاذ العنبري ( 208 - 288 ه ) ، الذي سأله أحدهم عن اللّه : أله وجه؟ فقال : نعم ! حتى سأله عن جميع الأعضاء ، من أنف وفم وصدر وبطن ... ، فأثبتها جميعاً! قال السائل : فاستحييت أن أذكر الفرج ؛ فأومأت بيدي إلى فَرْجي .. فقال : نعم ! فقلت : أذكر أم أنثى ؟ فقال : ذكر ! وسئل عن أمور كهذه، فأجاب بما تقشعر منه الأبدان ! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً. أنظر : شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 224/3 - 225 ، طبقات الحنابلة - لابن أبي يعلی - 312/1 رقم 489.

وذكر فيها وفي « الملل والنحل » مثل ما ذكره المصنّف رحمه اللّه من خرافات المجسّمة وأضعافه (1).

وأمّا ما ذكره من أنّ مذهب أحمد بن حنبل ليس كذلك ..

ففيه ما قاله السيّد السعيد رحمه اللّه أنّه كذلك بشهادة فخر الدين الرازي ، حيث قال في رسالته المعمولة لتفضيل مذهب الشافعي : إنّ أحمد بن حنبل كان في نهاية الإنكار على المتكلّمين في التنزيه ، ولمّا كان في غاية المحبّة للشافعي ، ادّعت المشبّهة أنّه [ كان ] على مذهبهم (2).

ولو سلّم سلامة أحمد من القول بالتشبيه ، فالمصنّف رحمه اللّه إنّما نقل القول بالجسمية عن الحنابلة ، ولا ملازمة بينهم وبينه في المسائل الأصولية ، بل وبعض الفرعية ، كغيره من مذاهبهم مع أتباعه.

ثمّ ما ذكره من أنّ أحمد يترك آيات التشبيه على ظواهرها مع نفي الكيفية والنقص ، تناقض ظاهر ، فإنّ إبقاءها على ظواهرها يقتضي الجسمية ، وإثبات كيفية ما ، وذلك نقص.

على إنّ أقلّ ما يقتضيه ترك التأويل : التوقّف في نفي التشبيه

ص: 185


1- المواقف : 273 و 429 ، الملل والنحل 1 / 92 - 100 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 25 - 26 و 399.
2- إحقاق الحقّ 1 / 176 ، وانظر : مناقب الإمام الشافعي - للرازي - : 138. أي أن الفخر الرازي جعل قول أحمد بالتجسيم من المسلمات ؛ لأن المشبهة قد ادعت أن الشافعي على مذهبهم ؛ لأنّ أحمد - القائل بالتجسيم - كان في نهاية المحبة والتعظيم للشافعي ، وكان - كذلك - في غاية الإنكار لمذاهب المتكلمين في التنزيه !

والجسمية ، ولذا أنكر على أهل التنزيه كما ذكره الرازي ، وذلك كاف في نقص أحمد ، إذ صار من المشكّكين في ما لا يشكّ فيه ذو معرفة.

وأمّا ما ذكره من أنّ نصّ القرآن يوافقهم ..

فحاصله : إنّ الآية الكريمة نصّ في أنّ الراسخين في العلم جاهلون بالمتشابهات ، ويكلون علمها إلى اللّه تعالى ، بدعوى أنّ قوله تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ) (1) جملة مستأنفة ، ولا أظنّ عارفا يرضى به وينكر أن يكون ( الرَّاسِخُونَ ) عطفا على لفظ الجلالة.

كيف؟! وذلك يستلزم - بعد مخالفة الظاهر - أن يكون علم التأويل مختصّا باللّه تعالى ، فيكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرسلا بما يجهله وما يخلو عن الفائدة له ولأمّته! ومخطئا في قوله بحقّ أمير المؤمنين علیه السلام : إنّه عالم علم الكتاب (2).

وظنّي أنّ الداعي لهم إلى مخالفة الظاهر ، والتزام هذه المحاذير ، هو إنكار فضل آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فإنّهم لو أقرّوا بأنّ قوله : ( وَالرَّاسِخُونَ ) عطف على لفظ الجلالة ، لم يمكنهم إنكار أنّ العترة من الراسخين في العلم ، العالمين بمتشابه القرآن ، بعد أن أخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأنّهم قرناء

ص: 186


1- سورة آل عمران 3 : 7.
2- هذا إشارة إلى تفسير قوله تعالى : ( قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) سورة الرعد 13 : 43. أنظر : مناقب الإمام علي عليه السلام - للمغازلي - : 262 ح 258 ، شواهد التنزيل - للحسكاني - : 1/ 307 - 310 ح 422 - 427 ، زاد المسير 261/4 ، تفسير القرطبي 220/9 ، مجمع البيان 50/6 ، وأنظر : ينابيع المودة 305/1 - 308 ح 1 - 13.

القرآن ، ولا يفارقونه حتّى يردا عليه الحوض (1) ، فإنّه يقتضي علمهم بكلّ ما فيه ، وإلّا لفرّق بينهم وبينه الجهل به.

ص: 187


1- إشارة إلى الحديث الشريف المتواتر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » ، المرويّ في أمّهات مصادر الجمهور ، فانظر مثلا : صحیح مسلم 122/7 - 123 ، سنن الترمذي 621/5 ح 3786 ، و ص 622 ح 3788 ، مسند أحمد 14/3 و 17 و 26 و 59 و ج 4 / 367 و 371 و ج 182/5 و 189 ، فضائل أحمد : 76 ح 114 ، الطبقات الكبرى 2 / 150 ، سنن الدارمي 292/2 ح 3311 ، السنة - لابن أبي عاصم - : 628 - 631 ح 1548 - 1558 ، أنساب الأشراف 357/2 ، خصائص الإمام علي عليه السلام - للنسائي - : 69 - 70 ح 74 ، مسند أبي يعلى 297/2 ح 1021 و ص 303 ح 1027 و ص 376 ح 1140 ، المعجم الصغير - للطبراني - 1 / 131 و 135 ، المعجم الأوسط 81/4 ح 3439 و ص 155 ح 3542 ، المعجم الكبير 3/ 65 ح 2678 وج 153/5 و 154 ح 4921 - 4923 و ص 166 ح 4969 وص 169 - 170 ح 4980 و 4981 و ص 182 ح 5025 و 5026 و ص 183 ح 5028 و ص 186 ح 5040 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576 و 4577 و ص 160 - 161 ح 4711 ووافقه الذهبي في التلخيص ، حلية الأولياء 355/1 رقم 57 وج 64/9 ، السنن الكبرى - للبيهقي - 2 /148 و ج 30/7 - 31 و ج 10 / 114 ، تاریخ بغداد 442/8 رقم 4551 وقد بتر الحديث فلم يذكر إلا الثقل الأوّل فقط !! ، مناقب الإمام علي عليه السلام للمغازلي - : 214 - 215 ح 281 - 284 ، مناقب الإمام علي عليه السلام - للخوارزمي - : 154 ح 182 ، تاریخ دمشق 42 / 216 ح 8702 و ص 220 ح 8714، فردوس الأخبار 53/1 ح 197 ، تفسير الفخر الرازي 179/8 ، كفاية الطالب : 53 ، ذخائر العقبى : 47 - 48 ، مختصر تاریخ دمشق 17 / 120 ، تفسير الخازن 257/1 وقد ذكر الثقل الأوّل فقط ولم يتم الحديث !! ، فرائد السمطين 142/2 - 147 ح 436 - 441 ، مجمع الزوائد 163/9 - 165 ، الدرّ المنثور 2/ 285 ، الجامع الصغير : 2631 ، كنز العمّال 1 / 172 - 173 ح 870 - 873 و ص 178 ح 898 . هذا ، وقد توسع العلّامة السيد علي الحسيني الميلاني - حفظه اللّه ورعاه - في دراسة هذا الحديث الشريف من كل جوانبه - ألفاظه وطرقه وأسانيده ودلالته - في الأجزاء 1 - 3 من موسوعته «نفحات الأزهار » ، فجزاه اللّه خيراً ؛ فراجع .

فالحقّ أنّ الراسخين في العلم ، عالمون بالمتشابه كلّه ، وأنّهم مخصوصون بالعترة ، ولذا خصّهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعدم المفارقة للقرآن ، وأوجب على أمّته التمسّك به وبهم.

* * *

ص: 188

إنّه تعالى ليس في جهة

اشارة

قال المصنّف - شرّف اللّه منزلته - (1) :

المبحث الرابع : في أنّه تعالى ليس في جهة

اشارة

العقلاء كافّة على ذلك ، خلافا للكرّامية ، حيث قالوا : « إنّه تعالى في جهة الفوق » (2).

ولم يعلموا أنّ الضرورة قضت بأنّ كلّ ما هو في جهة ، فإمّا أن يكون لابثا فيها ، أو متحرّكا عنها ، فهو [ إذا ] لا ينفكّ عن الحوادث ، وكلّ ما لا ينفكّ عن الحوادث فهو حادث ، كما تقدّم.

* * *

ص: 189


1- نهج الحقّ : 56 - 57.
2- الملل والنحل 1 / 99 ، المواقف : 429 ، شرح المواقف 8 / 19.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذا القول للكرّامية ؛ لأنّهم من جملة من يقول : إنّه جسم ؛ ولكن قالوا : غرضنا من الجسم أنّه موجود ، لا أنّه متّصف بصفات الجسم.

فعلى هذا ، لا نزاع معهم إلّا في التسمية ، ومأخذها التوقيف ، ولا توقيف ها هنا (2).

وكونه تعالى في جهة الفوق - على وجه الجسمية - باطل بلا خلاف ، لكن جرت العادة في الدعاء بالتوجّه إلى جهة الفوق ؛ وذلك لأنّ البركات الإلهية إنّما تنزل من السماء إلى الأرض.

وقد جاء في الحديث أنّ امرأة بكماء أتي بها إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من إلهك؟ فأشارت إلى السماء ، فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إيمانها (3)

وذلك لجريان العادة بالتوجّه إلى السماء عند ذكر الإله ، وهذا يمكن أن يكون مبنيا على إرادة العلوّ والتفوّق ، فيعبّرون عن العلوّ العقلي بالعلوّ

ص: 190


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 177 - 178.
2- ورد مؤدّاه في : الملل والنحل 1 / 100 ، المواقف : 273 ، شرح المواقف 8 / 25 و 26.
3- انظر : صحيح مسلم 2 / 71 ، مسند أحمد 2 / 291 ، الموطّأ : 678 ح 8 ، المعجم الكبير 19 / 398 ح 937 وج 22 / 116 ح 297 ، مجمع الزوائد 4 / 244 ، إتحاف السادة المتّقين 2 / 105 ، كنز العمّال 1 / 411 ح 1744 وص 412 ح 1746 ، المواقف : 272 ؛ وفيها : « أين اللّه؟ » بدل « من إلهك؟ ».

الحسّي.

فإن أراد الكرّامية هذا المعنى فهو صحيح ، وإن أرادوا ما يلزم الأجسام من الكون في الجهة والحيّز ، فهو باطل.

ص: 191

وأقول :

ذكر الشهرستاني في « الملل والنحل » الكرّامية ، وعدّهم من الصفاتية وأهل السنّة ، وقال : هم أصحاب أبي عبد اللّه محمّد بن كرّام ، وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة.

ثمّ قال : نصّ أبو عبد اللّه على إنّ لمعبوده على العرش استقرارا ، وعلى إنّه بجهة فوق ذاتا ، وأطلق عليه اسم « الجوهر » ، فقال في كتابه المسمّى « عذاب القبر » : إنّه أحديّ الذات ، أحديّ الجوهر ، وإنّه مماسّ للعرش من الصفحة العليا ، ويجوز عليه الانتقال والتحوّل والنزول!

ومنهم من قال : إنّه على بعض أجزاء العرش! وقال بعضهم : امتلأ العرش به! وصار المتأخّرون منهم إلى أنّه تعالى بجهة فوق ومحاذ للعرش.

ثمّ اختلفوا ، فقال العابدية منهم : إنّ بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدّر مشغولا بالجواهر لاتّصلت به (1).

... إلى غير ذلك ممّا ذكره من خرافاتهم وضلالاتهم التي صاروا إليها بمجرّد الهوى وعدم المبالاة باللّه سبحانه.

وقال في « المواقف » وشرحها : ذهب أبو عبد اللّه محمّد بن كرّام إلى أنّه تعالى في الجهة ككون الأجسام فيها ، وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنّه هاهنا أو هناك ، وهو مماسّ للصفحة العليا من العرش ، ويجوز عليه

ص: 192


1- الملل والنحل 1 / 99 - 100.

الحركة والانتقال وتبدّل الجهات (1).

فعلى هذا ، كيف يقول الفضل : كونه تعالى في جهة الفوق - على جهة الجسمية - باطل بلا خلاف؟!

ثمّ بعد هذا ناقض نفسه وردّد في مرادهم ، فإنّه لا يناسب الحكم بعدم الخلاف!

ثمّ إنّ اللازم - بمقتضى التصريح بأنّه تعالى جوهر ، وإثباتهم الجهة والحيّز والمماسّة لله تعالى ، وتجويزهم الحركة والانتقال عليه سبحانه - أن يكون مرادهم بالجسم هو الجسم الحقيقي ، لا الموجود.

لكن قال في « المواقف » وشرحها : « الكرّامية - أي بعضهم - قالوا :

هو جسم - أي : موجود - ، وقوم آخرون منهم قالوا : هو جسم - أي : قائم بنفسه - ؛ فلا نزاع معهم على التفسيرين إلّا في التسمية [ أي : إطلاق لفظ الجسم عليه ] ، ومأخذها التوقيف ، ولا توقيف هاهنا » (2).

فلاحظ وتدبّر!

وأمّا حديث « البكماء » ، ففي « المواقف » أنّ السؤال وقع فيه ب : « أين اللّه؟ » لا : « من إلهك؟ (3) » كما ذكره الخصم! وذلك أنسب في مقام الاستشهاد لو صحّ الحديث!

ص: 193


1- المواقف : 271 ، شرح المواقف 8 / 19.
2- المواقف : 273 ، شرح المواقف 8 / 25.
3- المواقف : 272 ، شرح المواقف 8 / 24.

ص: 194

إنّه تعالى لا يتّحد بغيره

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المبحث الخامس : في أنّه تعالى لا يتّحد بغيره

اشارة

الضرورة قاضية ببطلان الاتّحاد ، فإنّه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئا واحدا.

وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور ، فحكموا بأنّه تعالى يتّحد بأبدان العارفين (2) ، حتّى تمادى بعضهم وقال : إنّه تعالى نفس الوجود ، وكلّ موجود هو اللّه تعالى!

وهذا عين الكفر والإلحاد.

الحمد لله الذي فضّلنا باتّباع أهل البيت ، دون اتّباع أهل الأهواء الباطلة.

* * *

ص: 195


1- نهج الحقّ : 57.
2- انظر : كتاب التجلّيات - لابن عربي - : 13 ، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 3 / 232 ، شرح التجريد - للقوشجي - : 425.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى لا يتّحد بغيره ؛ لامتناع اتّحاد الاثنين (2).

وأمّا ما نسبه إلى الصوفية من القول بالاتّحاد ، فإن أراد به محقّقي الصوفية ، ك :

أبي يزيد البسطامي (3) ،

وسهل بن عبد اللّه التستري (4) ،

ص: 196


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 179 - 181.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 225 ، المواقف : 274 ، شرح المواقف 4 / 60 - 62 وج 8 / 28.
3- هو : طيفور بن عيسى بن سروشان البسطامي ، الصوفي الزاهد ، كان جدّه مجوسيا فأسلم ، ولد في بسطام - وهي بلدة من أعمال خراسان ، بين دامغان ونيسابور - وتوفّي سنة 261 وقيل : 264 ه. أنظر : طبقات الصوفية : 67 رقم 8 ، معجم البلدان 500/1 رقم 1901 ، وفيات الأعيان 531/2 رقم 312، سیر أعلام النبلاء 86/13 رقم 49 ، شذرات الذهب 2 / 143 وفيات سنة 261 ه- .
4- هو : أبو محمّد ، سهل بن عبد اللّه بن يونس بن عيسى التستري ، الصوفي الزاهد ، ولد سنة 200 أو 201 ه في مدينة تستر - وهي تعريب شوشتر - من كور الأهواز في إقليم خوزستان بإيران ، له مصنّفات عديدة ، منها : دقائق المحبّين ، ومواعظ العارفين ، وجوابات أهل اليقين ؛ توفّي بالبصرة سنة 283 ه. أنظر : الفهرست - للنديم - : 322 المقالة الخامسة / الفن الخامس ، طبقات الصوفية : 206 رقم 10 ، معجم البلدان 2 / 34 رقم 2517 ، وفيات الأعيان 429/2 رقم 281 ، سیر أعلام النبلاء 13 / 330 رقم 151 ، شذرات الذهب 182/2 وفيات سنة 283 ه- .

وأبي القاسم الجنيد البغدادي (1) ،

والشيخ السهروردي (2) .

فهذا نسبة باطلة ، وافتراء محض ، وحاشاهم عن ذلك!

بل صرّحوا كلّهم في عقائدهم ببطلان الاتّحاد ؛ فإنّه مناف للعقل والشرع.

بل هم أهل محض التوحيد ، وحقيقة الإسلام ناشئة من أقوالهم ، ظاهرة على أعمالهم وعقائدهم ، وهم أهل التوحيد والتمجيد.

وفي الحقيقة : هم الفرقة الناجية ، ولهم في مصطلحاتهم عبارات تقصر عنها أفهام غيرهم ، وفي اصطلاحاتهم البقاء والفناء.

ص: 197


1- هو : الجنيد بن محمّد بن الجنيد الخزّاز البغدادي القواريري الصوفي ، أصله من نهاوند ، ومولده ومنشؤه بالعراق ، كان شيخ وقته في الصوفية ، ولد سنة بضع وعشرين ومائتين ، وتفقّه على يد أبي ثور - صاحب الشافعي - ، وقيل : كان على مذهب سفيان الثوري ؛ توفّي ببغداد سنة 298 ه. أنظر : طبقات الصوفية : 155 رقم 1 ، وفيات الأعيان 373/1 رقم 144 ، سير أعلام النبلاء 66/14 رقم 34 ، طبقات الشافعية - للسبكي - 2 / 260 رقم 60 ، شذرات الذهب 2/ 228 وفيات سنة 298 ه .
2- (2) هو : شهاب الدين عمر بن محمّد بن عبد اللّه التيمي السهروردي ، يرجع نسبه إلى محمّد بن أبي بكر ، ولد سنة 539 في سهرورد - وهي قرية قريبة من زنجان - قدم بغداد وهو شابّ وسمع فيها الحديث ، وكانت له صحبة مع الشيخ عبد القادر ، كان شافعي المذهب ، وكان شيخ شيوخ الصوفية ببغداد ، له عدّة تصانيف ، منها : «عوارف المعارف» في بيان طريقة الصوفية ، حكمة الإشراق ، النفحات السماوية ؛ توفّى ببغداد سنة 632 ه- . أنظر : معجم البلدان 329/3 رقم 6811 ، وفيات الأعيان 446/3 رقم 496 ، سير أعلام النبلاء 373/22 رقم 239 ، طبقات الشافعية - للسبكي - 338/8 رقم 1232 ، شذرات الذهب 153/5 وفيات سنة 632 ه- ، الكواكب الدرية 144/3 رقم 574 .

والمراد من « الفناء » : محو العبد صفاته وهويّته التعينية بكثرة الرياضات (1) ، والاصطلام (2) من الوارد الحقّ.

و« البقاء » : هو تجلّي الربوبية على العبد بعد السلوك والمقامات ، فيبقى العبد بربّه (3).

وهذه أحوال لا يطّلع عليها إلّا أربابها ، ومن سمع شيئا من مقالاتهم ولم يفهم إرادتهم من تلك الكلمات ، حمل كلامهم على الاتّحاد والحلول.

عصمنا اللّه من الوقيعة في أوليائه ، فقد ورد في الحديث الصحيح القدسي : « من عادى لي وليّا فقد آذنته بحرب » (4)

وأمّا ما نقل عنهم أنّهم يقولون : إنّه تعالى نفس الوجود ؛ فهذه مسألة دقيقة لا تصل حوم (5) فهمها (6) أذهان مثل هذا الرجل.

وجملتها أنّهم يقولون : إنّه لا موجود إلّا اللّه.

ويريدون به أنّ الوجود الحقيقي لله تعالى ؛ لأنّه من ذاته لا من غيره ، فهو الموجود في الحقيقة ، وكلّ ما كان موجودا غيره فوجوده من اللّه ، وهو

ص: 198


1- انظر : اصطلاحات الصوفية - لابن عربي - : 9 رقم 38.
2- الاصطلام : نوع وله يرد على القلب فيسكن تحت سلطانه ، أو : هو الوله الغالب على القلب ، وهو قريب من الهيمان ؛ انظر : اصطلاحات الصوفية - لابن عربي - : 15 رقم 93 ، معجم اصطلاحات الصوفية - للكاشاني - : 55.
3- انظر : اصطلاحات الصوفية - لابن عربي - : 9 رقم 37 ، معجم اصطلاحات الصوفية - للكاشاني - : 367.
4- صحيح البخاري 8 / 189 ح 89.
5- حام فلان على الأمر حوما وحومانا وحياما : رامه وطلبه ودار عليه ؛ انظر : تاج العروس 16 / 187 مادّة « حوم ». والمراد هنا هو : الطرف والحدّ ، فكأنّه قال : لا يصل إلی شيء من فهمها...
6- كانت الجملة في الأصل هكذا : « لا يصل حول فهمه » ؛ والمثبت من المصدر.

في حدّ ذاته لا موجود ولا معدوم ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّ نسبة الوجود والعدم إليه على السواء ، فوجوده من اللّه ، فهو موجود بوجود ظلّيّ هو من ظلال الوجود الحقيقي ، فالموجود حقيقة هو اللّه تعالى.

وهذا عين التوحيد ، وكمال التفريد ، فمن نسبهم مع فهمه هذه العقيدة إلى الكفر ، فهو الكافر ؛ لأنّه كفّر مسلما بجهة إسلامه.

ص: 199

وأقول :

لا ريب في قول جماعة من الصوفية بالاتّحاد ، كما يشهد له إنكار الخصم لصحّة النسبة إذا أراد المصنّف محقّقي الصوفية ، فلو أراد غيرهم لم ينكره الخصم.

وقال في « المواقف » : « إنّ المخالف في هذين الأصلين - يعني [ عدم ] الحلول و [ عدم ] الاتّحاد - طوائف ثلاث - إلى أن قال : - الثالثة : بعض الصوفية ، وكلامهم مخبّط بين الحلول والاتّحاد » (1).

ثمّ قال : « ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ، ويقول : لا حلول ولا اتّحاد ، إذ كلّ ذلك يشعر بالغيرية ، ونحن لا نقول بها ، بل نقول : ليس في دار الوجود غيره ديّار ؛ وهذا العذر أشدّ قبحا وبطلانا من ذلك الجرم (2) ، إذ يلزم تلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل ، ولا مميّز أدنى تمييز » (3).

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد » بعد إبطال الحلول والاتّحاد : « والمخالفون : منهم نصارى ... - إلى أن قال : - ومنهم بعض المتصوّفة ، القائلون : بأنّ السالك إذا أمعن في السلوك ، وخاض لجّة الوصول (4) ، فربّما يحلّ اللّه فيه! تعالى [ اللّه ] عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ، كالنار في

ص: 200


1- المواقف : 274 - 275 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 29 - 31.
2- في المواقف وشرحها : الجزم.
3- المواقف : 275 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 31.
4- في المصدر : « وخاصة لجهة الأصول » ؛ وهو تصحيف.

الجمر (1) ، بحيث لا تمايز ؛ أو يتّحد به ، بحيث لا اثنينية ولا تغاير ، وصحّ أن يقول : هو أنا ، وأنا هو ، وحينئذ يرتفع الأمر والنهي ، ويظهر من الغرائب والعجائب ما لا يتصوّر من البشر » (2)!

وقال القوشجي في « شرح التجريد » عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الاتّحاد : « قال بعض الصوفية : إذا انتهى العارف نهاية مراتب العرفان ، انتفى هويّته ، فصار الموجود هو اللّه وحده ، وهذه المرتبة هي الفناء في التوحيد » (3).

وحينئذ فمعنى « الفناء » : هو نفي الشخص هويّته ، وصيرورته هويّة أخرى ، فيصير الموجود هو اللّه وحده ، ويتّحد وجود العبد بوجوده تعالى!

وعليه : فمعنى « البقاء » : هو بقاء العبد بلحاظ ترقّيه إلى الرتبة العالية ، واتّحاده مع ربّه ، فتكون كثرة الرياضات مفنية للعبد من جهة هويّته الناقصة ، مبقية له من جهة كماله واتّحاده مع اللّه سبحانه!

وهذا هو الكفر الصريح ، وعين الإلحاد.

فإذا صدق المصنّف في نقله عن بعض الصوفية ، فما وجه تلك القعقعة التىّ ارتكبها الفضل؟!

وما ذلك الإنكار والوقيعة بوليّ اللّه المصنّف ، الصادق في نقله عن الخارجين عن الدين ، المخالفين لنهج سيّد المرسلين في عبادته وجميع أحواله؟!

وأمّا ما ذكره في تحقيق وحدة الوجود ، من أنّ نسبة الوجود والعدم

ص: 201


1- في المصدر : « الحجر ».
2- شرح المقاصد 4 / 57 و 59.
3- شرح التجريد : 425 المقصد الثالث.

إلى الممكن على السواء ؛ فهو لا يقتضي إلّا نفي الرجحان الذاتي للممكن بالنسبة إلى الوجود والعدم ، وأمّا نفي الوجود الحقيقي للممكن كما زعمه ، فلا ؛ اللّهمّ إلّا أن يكون بنحو المسامحة ، وعدّ وجود الممكن ك « لا وجود » بالنسبة إلى وجود الواجب ؛ لأنّه الأصل ، ووجود الممكن فرعه وأثره.

فعبّر عن هذا بتلك الاصطلاحات الفارغة الهائلة ، لكنّه غير ما يريده القائلون بوحدة الوجود من الصوفية وغيرهم ..

فإنّهم يريدون أنّ الوجود المطلق عين الواجب تعالى ، وأنّ الممكنات تعيّنات له ، فيلزم منه نفي الماهية ، وأن يكون وجود الممكنات من معيّنات وجود الباري ومصاديقه.

فيتمّ ما نقله المصنّف عنهم ، من أنّ اللّه تعالى نفس الوجود ، وأنّ كلّ موجود هو اللّه!!(1).

تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ص: 202


1- تجد عقيدة المتصوّفة في الحلول والاتّحاد في أقوالهم المبثوثة في تراجمهم ، إذا راجعت مظانّها ، فمثلا : قال المحقّق نصير الدين الطوسي رحمه اللّه : ذهب بعض النصارى إلى حلول اللّه تعالى في المسيح ، وبعض المتصوّفة إلى حلوله في العارفين الواصلين! ونقل الفخر الرازي أنّ أبا يزيد البسطامي قال : سبحاني ما أعظم شأني! وأنّ الحسين بن منصور الحلّاج قال : أنا الحقّ! وقال : ما في الجبّة إلّا اللّه! وأنشد شعرا قال فيه : أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته *** وإذا أبصرته أبصرتنا انظر : المنتظم 8 / 30 حوادث سنة 309 ه ، المسائل الخمسون : 41 - 42 المسألة 12 ، تلخيص المحصّل : 260 - 261 ، وفيات الأعيان 2 / 140 رقم 189 ، سير أعلام النبلاء 14 / 347 و 352 ، شذرات الذهب 2 / 255 حوادث سنة 309 ه.

إنّه تعالى لا يحلّ في غيره

اشارة

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

المبحث السادس : في أنّه تعالى لا يحلّ في غيره

اشارة

من المعلوم القطعي أنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ ، والضرورة قضت بأنّ كلّ مفتقر إلى الغير ممكن ..

فلو كان اللّه تعالى حالّا في غيره لزم إمكانه ، فلا يكون واجبا ، وهذا خلف.

وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك ، وجوّزوا عليه الحلول في أبدان العارفين (2) ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

فانظر إلى هؤلاء المشايخ الّذين يتبرّكون بمشاهدهم ، كيف اعتقادهم في ربّهم ، وتجويزهم عليه : تارة الحلول ، وأخرى الاتّحاد ، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء (3)؟!

ص: 203


1- نهج الحقّ : 58 - 59.
2- انظر : شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 3 / 232 ، تلخيص المحصّل : 261 ، شرح التجريد - للقوشجي - : 425.
3- انظر في ذلك : إحياء علوم الدين 2 / 398 - 420 ، شرح ديوان ابن الفارض 1 / 10.

وقد عاب اللّه على الجاهلية الكفّار في ذلك ، فقال عزّ من قائل : ( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً ) (1).

وأيّ تغفّل أبلغ من تغفّل من يتبرّك بمن يتعبّد اللّه بما عاب عليه الكفّار؟! ( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (2).

ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين صلوات اللّه عليه ، وقد صلّوا المغرب سوى شخص واحد منهم ، كان جالسا لم يصلّ ، ثمّ صلّوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص ، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص ، فقال : وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟!

أ يجوز أن يجعل بينه وبين اللّه حاجبا؟!

فقلت : لا.

فقال : الصلاة حاجب بين العبد والربّ!

فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء! وعقائدهم في اللّه تعالى كما تقدّم ، وعبادتهم ما سبق ، واعتذارهم في ترك الصلاة كما مرّ ، ومع ذلك فإنّهم عندهم الأبدال ، فهؤلاء أجهل الجهّال.

* * *

ص: 204


1- سورة الأنفال 8 : 35. والمكاء : الصفير ؛ الصحاح 2495/6 ، لسان العرب 164/13 مادّة «مكا». والتصدية : التصفيق ؛ انظر : الصحاح 2399/6 ، لسان العرب 298/7 ، مادّة «صدي / صدد».
2- سورة الحجّ 22 : 46.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : أنّه تعالى لا يجوز أن يحلّ في غيره ؛ وذلك لأنّ الحلول هو الحصول على سبيل التبع ، وأنّه ينفي الوجوب الذاتي.

وأيضا : لو استغنى عن المحلّ لذاته (2) لم يحلّ فيه ، وإلّا لاحتاج إليه لذاته ، ولزم حينئذ قدم المحلّ ، فيلزم محالان معا (3).

وأمّا ما ذكر أنّ الجمهور من الصوفية جوّزوا عليه الحلول ، فقد ذكرنا في الفصل السابق أنّه إن أراد بهذه الصوفية مشايخنا المحقّقين ، فإنّ اعتقاداتهم مشهورة ، ومن أراد الاطّلاع على حقائق عقائدهم فليطالع الكتب التي وضعوها لبيان الاعتقادات ..

كالعقائد المنسوبة إلى سهل بن عبد اللّه التستري (4) ...

وكاعتقادات الشيخ أبي عبد اللّه محمّد بن الخفيف ، المشهور بالشيخ الكبير (5) ..

ص: 205


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 186 - 190.
2- في إحقاق الحقّ : بذاته.
3- المواقف : 274 ، شرح المواقف 8 / 28 - 29 مختصرا.
4- مرّت ترجمته في الصفحة 196.
5- هو : أبو عبد اللّه محمّد بن خفيف بن إسفكشاد الشيرازي الشافعي ، شيخ الصوفية ، قيل : هو من أولاد الأمراء في إقليم فارس ، وكان شاعرا ، لقي الحلّاج وصحب ابن عطاء وغيره ، ولد سنة 276 ه ، وتوفّي سنة 371 ه ، له تصانيف عديدة ، منها : المعتقد الصغير ، المعتقد الكبير ، آداب المريدين ، الفصول في الأصول ، جامع الإرشاد ، اختلاف الناس في الروح. أنظر : طبقات الصوفية : 462 رقم 9 ، تلبيس إبليس : 326 ، سیر أعلام النبلاء 342/16 رقم 249 ، طبقات الشافعية - للسبكي - 149/3 رقم 135 ، البداية والنهاية 255/11 حوادث سنة 371 ه- ، هديّة العارفين 49/6 - 50 .

وكاعتقادات الشيخ حارث بن أسد المحاسبي (1) ..

وك « التعرّف » للكلاباذي (2) ..

و« الرسالة » للقشيري (3) ..

ص: 206


1- هو : أبو عبد اللّه الحارث بن أسد المحاسبي البصري البغدادي ، أحد مشايخ الصوفية ، وينسب إليه أكثر متكلّمي الصفاتية ، قيل : إنّ أحمد بن حنبل هجره لأنّه تكلّم في شيء من الكلام ، فاستخفى المحاسبي من العامة حتّى أنّه لمّا مات سنة 243 ه لم يصلّ عليه إلّا أربعة نفر ؛ ووصف أبو زرعة كتبه بأنّها كتب بدع وضلالات وخطرات ووساوس ؛ ومن مصنّفاته العديدة : رسالة المسترشدين في التصوّف ، وكتاب التفكير والاعتبار ، وكتاب الرعاية لحقوق اللّه. أنظر : طبقات الصوفية : 56 رقم 6 ، الأربعين في شيوخ الصوفية : 142 رقم 15 ، تاریخ بغداد 211/8 رقم 4330 ، وفيات الأعيان 57/2 رقم 152 ، سیر أعلام النبلاء 12 / 110 رقم 35، تهذيب التهذيب 106/2 107 رقم 1056 ، هدية العارفين 264/5.
2- هو : أبو بكر محمّد بن إبراهيم بن يعقوب الحنفي البخاري الكلاباذي ؛ وكلاباذ محلّة ببخارى ، كان أحد شيوخ الصوفية ، له من المصنّفات : الأربعين في الحديث ، والأسفار والأوتار ، والتعرّف لمذهب التصوّف ، توفّي سنة 380 أو 384 ه. أنظر : معجم البلدان 536/4 رقم 10331 ، هدية العارفين 54/6 ، معجم المؤلفين 37/3 رقم 11511.
3- هو : أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي الصوفي ، ولد سنة 376 ه ، قدم بغداد سنة 448 ه وحدّث بها ، أديب شاعر ، أخذ التصوّف عن أستاذه أبي عليّ الدقّاق ، وتوفّي سنة 465 ه ، وله تصانيف عديدة ، منها : الأربعين في الحديث ، والرسالة - وهو كتاب مشهور في التصوّف - ، والتيسير في علم التفسير. أنظر : تاریخ بغداد 83/11 رقم 5763 ، وفيات الأعيان 205/3 رقم 394 ، سير أعلام النبلاء 227/18 رقم 109 ، طبقات الشافعية - للسبكي - 153/5 رقم 473 ، شذرات الذهب 319/3 سنة 465 ه- .

وك « العقائد » للشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي (1) ..

[ وك « عوارف المعارف » للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي (2) ] ..

ليظهر عليه عقائدهم المطابقة للكتاب والسنّة ، وما بالغوا فيه من نفي الحلول والاتّحاد.

وأمّا ما ذكره من أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فو اللّه إنّه أراد أن يفضح فافتضح ، فإذا لم يكن المشايخ الصوفية من أهل العبادات - مع جهدهم في العبادة وتعمير الأوقات بوظائف الطاعات ، وترك اللذّات ، والإعراض عن المشتهيات - فمن هو قادر على أن يعدّ نفسه من أهل الطاعات بالنسبة إليهم؟!

نعم ، هذا الرجل الطامّاتي الذي يصنّف الكتاب ، ويردّ على أهل

ص: 207


1- هو : أبو النجيب عبد القاهر بن عبد اللّه بن محمّد بن عمّويه السهروردي ، وهو عمّ شهاب الدين عمر السهروردي ، أحد شيوخ الصوفية ، ولد سنة 490 ه في قرية سهرورد ، وهي قرية قريبة من زنجان ، ثمّ قدم بغداد ودرس فيها ، ودخل أصفهان ، توفّي سنة 563 ه ، له عدّة مصنّفات ، منها : آداب المريدين - في التصوّف والأخلاق - ، ومختصر مشكاة المصابيح للبغوي. انظر : معجم البلدان 329/3 رقم 6811 ، سير أعلام النبلاء 475/20 رقم 302، طبقات الشافعية - للسبكني - 173/7 رقم 881 ، الطبقات الكبرى - للشعراني - 1 / 140 رقم 261 ، شذرات الذهب 208/4 سنة 563 ه- ، هدية العارفين 606/5 .
2- مرّت ترجمته في الصفحة 197.

الحقّ ، ويبالغ في إنكار العلماء والأولياء طلبا لرضا السلطان محمّد خدا بنده ليعطيه إدرارا (1) ، ويفيض عليه مدرارا (2) ، فله أن لا يستحسن عبادة المشايخ ، المعرضين عن الدنيا ، الزاهدين عن الشهوات ، القاطعين بادية الرياضات ، كما نقل أنّ أبا يزيد البسطامي ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه ، حيث دعته نفسه إلى شيء من اللذّات (3).

شاهت وجوه المنكرين ، وكلّت ألسنتهم ، وعميت أبصارهم.

وأمّا ما ذكر أنّ اللّه عاب على أهل الجاهلية بالتصدية ؛ فما أجهله بالتفسير ، وبأسباب نزول القرآن! وقد ذكر أنّ طائفة من جهلة قريش كانوا يؤذون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمكاء والتصدية عند البيت ليوسوسوا عليه صلاته ، فأنزل اللّه هذه الآية.

وقد أحلّ اللّه ورسوله اللّهو في مواضع كثيرة ، منها : الختان والعرس والإملاك وأيّام العيد ؛ والسماع الذي يعتاده الصوفية مشروط بشرائط كلّها من الشرع ، ولهم فيها آداب وأحوال لا يعرفها الجاهل فيقع فيها.

ثمّ ما نقل من قول واحد من القلندرية (4) الفسقة ، الّذين يزورون مشهد مولانا الحسين بأيّام الموسم والزيارة ، وجعله مستندا للردّ على كبار المشايخ المحقّقين المشهورين ..

ص: 208


1- إدرارا : عطاء مستمرّا على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « درر » في : لسان العرب 4 / 326 - 327 ، تاج العروس 6 / 400.
2- المدرار : الكثير المتتابع المتوالي على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « درر » في : لسان العرب 4 / 326 ، تاج العروس 6 / 397 ، مجمع البيان 5 / 261.
3- انظر : وفيات الأعيان 2 / 531 رقم 312 ، البداية والنهاية 11 / 30 حوادث سنة 261 ه.
4- مرّت ترجمتها في الصفحة 64.

فيا للعجب انسلّ إلى الناس من كلّ حدب من حال هذا الرجل الطامّاتي! أنّه لم ينظر إلى كتاب « عوارف المعارف » و« الرسالة القشيرية » ليعرف اهتمام القوم بمحافظة الصلوات ودقائق الآداب ، الذي لا يشقّ أحد من الفقهاء - من أهل جميع المذاهب - غبارهم في رعاية دقائق الآداب والخشوع والاهتمام بحفظها ومحافظتها ، ليعتقد في كمالاتهم ، ويجعل قول قلندري فاسق [ فسّيق ] سندا في جرحهم وإنكارهم.

وهذا غاية التعصّب والخروج عن قواعد الإسلام ، نعوذ باللّه من عقائده الفاسدة الكاسدة.

* * *

ص: 209

وأقول :
اشارة

لعلّ الفضل بعدوله عن دليل المصنّف على بطلان الحلول ، إلى الدليلين المذكورين الموجودين بلفظهما في « المواقف » وشرحها (1) ؛ تخيّل أنّ الأشاعرة سلكوا طريقة أخرى في الاستدلال على بطلان الحلول ، ولم يعلم أنّ الأدلّة متكرّرة الذكر في كتب المتكلّمين ، وأنّ المناط - في هذه الأدلّة حتّى الأخير - على استلزام الحلول : الحاجة إلى المحلّ ، والافتقار إليه ؛ إذ لو منعه مانع لما تمّ شيءّ من هذه الأدلّة.

فقد ذكر في « شرح المواقف » وجه قول الماتن في الدليل الأخير :

« لو استغنى عن المحلّ لذاته لم يحلّ فيه » (2) ، بقوله : « إذا لا بدّ في الحلول من حاجة ، ويستحيل أن يعرض للغنيّ بالذات ما يحوجه إلى المحلّ ؛ لأنّ ما بالذات ... لا يزول بالغير » (3).

على إنّ دليل « المواقف » الأوّل هو عين ما ذكره المصنّف ، والاختلاف في التعبير ، فالأولى الاقتصار على ما ذكره المصنّف.

ثمّ إنّه لا ريب في قول جماعة بالحلول ، كما يدلّ عليه كلام « المواقف » و« شرح المقاصد » (4) اللذان ذكرناهما في المبحث السابق (5) ،

ص: 210


1- المواقف : 274 ، شرح المواقف 8 / 28.
2- المواقف : 274.
3- شرح المواقف 8 / 28 المقصد الخامس.
4- المواقف : 274 - 275 ، شرح المقاصد 4 / 57 و 59.
5- انظر الصفحة 200 وما بعدها.

وقول القوشجي عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الحلول ؛ قال : « وذهب بعض الصوفية إلى أنّه تعالى يحلّ في العارفين » (1).

ويشهد له ترديد الخصم في مراد المصنّف ، وإن أغفل فيه ذكر القائلين بالحلول تلبيسا للأمر! وليتسنّى له الكلام والطعن على وليّ اللّه وداعي الحقّ : المصنّف أعلى اللّه مقامه!

وأمّا إنكاره على المصنّف في أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فهو إنكار بارد ..

قال في « الكشّاف » في تفسير قوله تعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (2) : « وأمّا ما يعتقده أجهل الناس ، وأعداهم للعلم وأهله ، وأمقتهم للشرع ، وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا واحدا ، وهم الفرقة المفتعلة من التصوّف (3) ، وما يدينون به من المحبّة والعشق والتغنّي على كراسيّهم - خرّبها اللّه تعالى - وفي مراقصهم - عطّلها اللّه - بأبيات الغزل المقولة في المردان (4) الّذين يسمّونهم : شهداء ، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عند دكّ الطور!! فتعالى اللّه عنه علوّا كبيرا » (5).

ص: 211


1- شرح التجريد : 425.
2- سورة المائدة 5 : 54.
3- في المصدر : « وهم الفرقة المتفعّلة المفتعلة من الصوف » وهو الأنسب بالسياق.
4- المردان : جمع أمرد على غير قياس ، كأسود وسودان ، وقياسه : مرد. والأمرد : هو الشابّ الذي طرَّ شاربه ولم تنبت ، ولم تبدُ لحيته بعد. أنظر مادّة «مرد» في : لسان العرب 70/13 ، تاج العروس 251/5 ، القاموس المحيط 350/1 ، المصباح المنير : 217.
5- تفسير الكشّاف 1 / 621 - 622.

وكيف ينكر على المصنّف؟! والحال أنّ ابن الفارض (1) ، وهو من أكبر مشايخهم ، قد كان جلّ فضائله عندهم : الرقص والغناء والصعقة في اللّهو واللعب!

فلو لم يكن ذلك طريقة مألوفة عندهم ، وشرفا كبيرا بينهم ، لما مدحوه بتلك الجهالات.

نقل شارح ديوانه عن ولده ، أنّه قال : رأيت الشيخ نهض ورقص طويلا ، وتواجد وجدا عظيما ، وتحدّر منه عرق كثير ، حتّى سال تحت قدميه ، وخرّ إلى الأرض واضطرب اضطرابا عظيما ..

إلى أن قال : فسألته عن سبب ذلك ، فقال : يا ولدي! فتح اللّه عليّ بمعنى في بيت لم يفتح عليّ مثله ، وهو [ من الكامل ] :

ص: 212


1- هو : عمر بن علي بن مرشد بن علي ، الحموي الأصل ، المصري المولد والدار والوفاة ، ولد سنة 576 وتوفّي سنة 632 ه ، أشعر المتصوّفين ، له ديوان شعر ، وفي شعره فلسفة تتّصل بما يسمّى « وحدة الوجود » ، وكان يلقّب بسلطان العاشقين. وقد كانت له جوار بالبهنسا - وهي مدينة بمصر في الصعيد الأدنى غربي النيل - يذهب إليهن فيغنّين له بالدفّ والشبابة وهو يرقص ويتواجد ! فماتت إحداهن فاشترى جارية تغني له بدلها . قال عنه الذهبي : صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية ، فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده ، فما في العالم زندقة ولا ضلال ! . . شيخ «الاتحادية» .. ينعق بالاتحاد الصريح في شعره ، وهذه بلية عظيمة ! فتدبّر نظمه .. وما ثَمّ إلا زي الصوفية وإشارات مجملة ، وتحت الزي والعبارة فلسفة وأفاعي ! أنظر : معجم البلدان 612/1 رقم 2284 ، وفيات الأعيان 454/3 رقم 500 ، سير أعلام النبلاء 22 / 368 رقم 232 ، میزان الاعتدال 258/5 رقم 6179 ، لسان الميزان 317/4 رقم 902 ، الكواكب الدرّية في تراجم السادة الصوفية 147/2 رقم 575 ، شذرات الذهب 149/5 سنة 632 ه- ، الأعلام 55/5 .

وعلى تفنّن واصفيه بحسنه *** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف(1)

وقال ولده : كان الشيخ ماشيا في السوق بالقاهرة ، فمرّ على جماعة من الحرس يضربون بالناقوس ويغنّون بهذين البيتين ، وهما [ من المواليا(2) ] :

مولاي [ سهرنا ] نبتغي منك وصال *** مولاي فلم تسمح فنمنا بخيال

مولاي فلم يطرق فلا شكّ بأن *** ما نحن إذا عندك مولاي ببال

فلمّا سمعهم الشيخ صرخ صرخة عظيمة ، ورقص رقصا كثيرا في

ص: 213


1- شرح ديوان ابن الفارض 1 / 10 ، وقد كان في الأصل : « ما لا يوصف » بدل « ما لم يوصف » وهو تصحيف أصلحناه من الديوان وشرحه ؛ انظر : ديوان ابن الفارض : 147.
2- المواليا : هو من فنون الشعر المتأخّرة الموضوعة للغناء ، ولا يلزم فيه مراعاة قوانين العربية ، وهو من بحر البسيط لو لا أنّ له أضربا تخرجه عنه ، أوّل من اخترعه أهل واسط ، اقتطعوا من البسيط بيتين وقفوا شطر كلّ بيت بقافية ، تعلّمه عبيدهم المتسلّمون عمارتهم والغلمان ، وصاروا يغنّون به في رؤوس النخل وعلى سقي المياه ، ويقولون في آخر كلّ صوت : « يا مواليا » إشارة إلى ساداتهم ، فسمّي بهذا الاسم ، ثمّ استعمله البغداديّون فلطّفوه حتّى عرف بهم دون مخترعيه ثمّ شاع. وقيل : إنّ أوّل من تكلّم بهذا النوع بعض أتباع البرامكة بعد نكبتهم ، فكانوا ينوحون عليهم ويكثرون من قولهم : « يا مواليّا » ، فصار يعرف بهذا الاسم. ونسج عليه كثير من شعراء الفترة المظلمة ، وبالأخصّ في مصر ، وهو يتركّب في الغالب من بيتين تختتم أشطرهما الأربعة برويّ واحد ، وكثيرا ما تسكّن بالحشو أواخر الألفاظ ، ويدخل فيه من كلام العامة ، ومنه قول صفي الدين الحلّي : من قال جودة كفوفك والحيا مثلين *** أخطا القياس وفي قوله جمع ضدّين ما جدت إلّا وثغرك مبتسم يا زين *** وذاك ما جاد إلّا وهو باكي العين انظر : تاج العروس 20 / 316 - 317 مادّة « ولي » ، ميزان الذهب : 240 - 241.

وسط الطريق ، ورقص جماعة كثيرة من المارّين في الطريق ، حتّى صارت جولة وإسماع عظيم [ وتواجد الناس إلى أن سقط أكثرهم إلى الأرض ] والحرس يكرّرون ذلك ، وخلع الشيخ كلّ ما [ كان ] عليه من الثياب ورمى بها إليهم ، وخلع الناس معه ثيابهم ، وحمل بين الناس إلى الجامع الأزهر وهو عريان مكشوف الرأس ... وأقام في هذه السكرة أيّاما ملقى على ظهره مسجّى كالميّت ..

وفي تتمّة الواقعة أنّهم اتّخذوا ثيابه للتبرّك (1)!

وحكى ولده ، قال : « حجّ الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية - إلى أن قال : - فصرخ الشيخ شهاب الدين ، وخلع كلّ ما كان عليه ، وخلع المشايخ والقوم الحاضرون كلّ ما كان عليهم » (2).

فهذه فضائلهم ، بين تجنّن ، ورقص ، وغناء ، وكشف العورات ، وترك الصلاة أيّاما ، يدّعون بذلك حبّ اللّه وذكره وعبادته [ من الوافر ] :

أقال اللّه : صفّق لي وغنّ *** وقل كفرا ، وسمّ الكفر ذكرا؟! (3)

وأمّا ما وصفهم به من ترك اللذّات والشهوات ، فالظاهر أنّه من قبيل ما انتقاه من ترك شرب الماء سنة ، الذي لا يصدّق به عاقل ، وهو ممّا لم ترد به الشريعة المطهّرة ، بل حرّمته ؛ لأنّه من الإلقاء باليد إلى التهلكة ، وإضرار النفس وتأليمها.

فليت شعري أكان نبيّنا الأطيب ، والأنبياء قبله ، وخواصّهم ، على

ص: 214


1- شرح ديوان ابن الفارض 1 / 10 ، وانظر : ج 2 / 197 بتفصيل آخر قريب منه.
2- شرح ديوان ابن الفارض 1 / 13.

تلك الآداب والأحوال السخيفة والعبادات الساخرة؟!

أو كان المشايخ أفضل منهم وأعرف باللّه وأعبد له؟!

أو كانت الأحوال والعبادات ممّا زيّنها الشيطان والهوى ، ودعت إليها النفس الأمّارة ، للسمعة والامتياز على الناس؟!

وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف صنّف هذا الكتاب طلبا لرضا السلطان ، فمن المضحكات ؛ لأنّ ذلك السلطان الرشيد ، إنّما نال سعادة الإيمان بسعي الإمام المصنّف وإرشاده ، وهو أمسّ من السلطان بمذهب الإمامية ، فكيف يطلب رضاه بتصنيف هذا الكتاب؟!

وأعجب من ذلك قوله : « ليعطيه إدرارا » فإنّ هذا ليس من عادة علماء الإمامية ، لا سيّما المصنّف ، الذي طلّق الدنيا بعد أن جاءته ، وهجر الرئاسة بعد أن واتته وعاد إلى بلاده!

وأعجب من الجميع نسبة الجهل بالتفسير إلى المصنّف ، وذكره أحد الوجهين في نزول الآية ؛ ليروّج فيه تأييد طريقة الصوفية ، وإلّا فالمذكور عند أصحابه في نزول الآية وجهان :

أحدهما : ما ذكره (1).

والثاني : ما عن ابن عبّاس : كانت بطون قريش يطوفون بالبيت عراة ، يصفّرون ويصفّقون (2).

ص: 215


1- مرّ في الصفحة 204.
2- تفسير الطبري 6 / 239 ح 16048 ، تفسير البغوي 2 / 208 ، الكشّاف 2 / 156 ، تفسير القرطبي 7 / 254 ، تفسير البيضاوي 1 / 383 ، تفسير البحر المحيط 4 / 491 ، تفسير ابن كثير 2 / 293 ، الدرّ المنثور 4 / 61.

ونحوه عن ابن عمر (1).

فهم يقيمون الصفير والتصفيق مقام الصلاة بحسب طريقتهم (2).

وهذا الوجه أنسب بتعبير الآية بالصلاة ، وأرجح عند المفسّرين ، وهو دالّ على إنّ اللّه سبحانه عاب أهل الجاهلية بجعل التصفيق عبادة ، فكيف إذا انضمّ إليه الرقص والغناء والصياح؟!

والمصنّف قد بيّن الإيراد على هذا الوجه الظاهر الراجح ، وإلّا فأيّ وجه لتسمية الآية لذلك العمل بالصلاة؟!

على أنّه لا تنافي بين الوجهين ؛ لجواز أن تكون قريش - بعبادتها السخيفة - أرادت أن توسوس على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في صلاته.

وأمّا قوله : « وقد أحلّ اللّه ورسوله اللّهو في مواضع ».

فلو سلّم ، فلهو الصوفية خارج عن هذه المواضع عادة ، وهو دائم للعبادة في كراسيّهم ومراقصهم ، كما يستفاد من كلام « الكشّاف » السابق (3) ، ولا يتوقّف على وقت وشرط كاستماعهم للغناء.

روى ابن خلّكان في ترجمة الجنيد من « وفيات الأعيان » ، وهو من أكبر مشايخ الصوفية ، أنّه قال : ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها! قيل له : وما هي؟ قال : مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغنّي من

ص: 216


1- تفسير الطبري 6 / 238 - 239 ح 16040 - 16043 و 16046 و 16047 ، أسباب النزول - للنيسابوري - : 131 ، لباب النقول : 111.
2- تنوير المقباس : 192 ، تفسير الطبري 6 / 238 ح 16038 ، تفسير الماوردي 2 / 316 ، زاد المسير 3 / 269 ، تفسير الفخر الرازي 15 / 165 ، الدرّ المنثور 4 / 61.
3- تقدّم في الصفحة 211.

دار ، فأنصتّ لها ، فسمعتها تقول [ من الطويل ] :

إذا قلت : أهدى الهجر لي حلل البلى (1) *** تقولين : لولا الهجر لم يطب الحبّ

وإن قلت : هذا القلب أحرقه الهوى *** تقولي : بنيران الهوى شرف القلب

وإن قلت : ما أذنبت! قلت مجيبة : *** حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

فصعقت وصحت (2)!

وليت شعري كيف حسن له الإنصات إلى غناء الأجنبية؟!

وكيف لم ينتفع بكتاب اللّه العظيم ، وكلمات نبيّه الكريم مثل ما انتفع بشعر المغنّية؟!

وظنّي أنّه لو انضمّ إلى غناها رقصها معه لكان أنفع!!

وأمّا ما شاهده المصنّف في حضرة سيّد الشهداء علیه السلام ، فغير عجيب من جهة ترك الصلاة ، فهذا ابن الفارض - المعظّم عندهم - قد أقام أيّاما في سكرته بلا صلاة ، كما عرفت.

وقال شارح ديوانه : « حكى جماعة ممّن يوثق بهم ، ممّن صحبوه وباطنوه ، أنّه لم ينظمها - أي قصيدته التي زعم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله في المنام

ص: 217


1- البلى : التلف والهلاك ، وبلي الثوب : خلق فهو بال ، وإخلاق الثوب : تقطيعه ، وبلي الميّت : أفنته الأرض. أنظر : المصباح المنير : 24 مادّة «بلی» ، لسان العرب 195/4 - 196 ، مادّة «خلق».
2- وفيات الأعيان 1 / 374 رقم 144.

سمّاها ب : نظم السلوك - على حدّ نظم الشعراء أشعارهم ، بل كانت تحصل له جذبات يغيب فيها عن حواسّه [ نحو ] الأسبوع والعشرة أيّام ؛ فإذا أفاق أملى ما فتح اللّه عليه منها من الثلاثين والأربعين والخمسين بيتا! ثمّ يدع حتّى يعاوده (1) ذلك الحال » (2).

والظاهر أنّ المراد بغيبوبة حواسّه مجرّد تعطيل حركاته الظاهرية عن فعل الواجبات ونحوها ، وإلّا فكيف يقدر على نظم الشعر ، ولا يمكن دعوى الكرامة - بفتح اللّه عليه - من دون شعوره أصلا؟! فإنّ الكرامة لا تكون مع عدم التوفيق للصلاة التي هي عمود الدين.

وكذا ما شاهده المصنّف غير عجيب من جهة دعوى الوصول إلى اللّه تعالى ، فإنّ عليها جماعة من الصوفية كما صرّح به ابن القيّم الحنبلي في « شرح منازل السائرين » - على ما نقله السيّد السعيد عنه - قال : « ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب ومهالك ، لا ينجيه منها إلّا بصيرة العلم ... ، منها : [ أنّه ] إذا اقتحم عقبة الفناء ظنّ أنّ صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي ، ... ويقول قائلهم : من شهد الحقيقة سقط عنه الأمر ؛ ويحتجّون بقوله تعالى : ( اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (3) ، ويفسّرون ( اليقين ) بشهود الحكم التكويني (4) ، وهي الحقيقة عندهم ؛ ... وهذا زندقة ونفاق وكذب منهم على أنفسهم ونبيّهم وإلههم » (5).

ص: 218


1- في الأصل : يعتاده.
2- شرح ديوان ابن الفارض 1 / 8.
3- سورة الحجر 15 : 99.
4- في المصدر : الكوني.
5- مدارج السالكين في شرح منازل السائرين 1 / 160 - 164 ، وعنه في إحقاق الحقّ 1 / 199 - 200.

وعن الغزّالي في « الإحياء » أنّه أنكر على دعواهم بلوغ العبد بينه وبين اللّه إلى حالة أسقطت عنه الصلاة ، وأحلّت له شرب الخمر ، ولبس الحرير ، وترك الصلاة ، ونحوها ، وحكم بأنّ قائل هذا يجب قتله ، وإن كان في خلوده في النار نظر (1).

وعن اليافعي اليمني الشافعي (2) ، أنّه انتصر لهم في كتابه الموسوم ب : « روض الرياحين » (3) ، وردّ على الغزّالي ، فقال : « ولو أنّ اللّه تعالى أذن

ص: 219


1- فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة - المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي - : 248 ، وعنه في إحقاق الحقّ 1 / 201. ولم نجده في «إحياء علوم الدين» ، ولعلّ الكتاب المذكور كان ملحقاً بكتاب «الإحياء» في إحدى طبعاته فنسب النص إليه دونه سهواً ، أو كان فصلاً أو باباً من «الإحياء» ثمّ انتسخ وكثرت نسخه على شكل رسالة مستقلة ، وكم له من نظير! كما حكم ابن حزم بكفرهم حين ذكر شنائع عقائدهم ، فانظر : الفصل 166/3 - 167.
2- هو : أبو السعادات عبد اللّه بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني الشافعي ، ويافع قبيلة باليمن من قبائل حمير ، ولد سنة 698 ه ، وتوفّي بمكّة المكرّمة سنة 768 ه ، صوفي شاعر ، كان يتعصّب للأشعري ، وله مبالغة في تعظيم ابن عربي ، مشارك في العلوم ، له تصانيف كثيرة ، منها : مرآة الجنان وعبرة اليقظان ، روض الرياحين في حكايات الصالحين ، مرهم العلل المعضلة في أصول الدين ، الإرشاد والتطريز في التصوّف ، ديوان شعر. انظر : طبقات الشافعية - للسبكي - 33/10 رقم 1354 ، طبقات الشافعية - للأسنوي - 2 / 330 رقم 1289 ، الكواكب الدرّية في تراجم السادة الصوفية 24/3 رقم 635 ، شذرات الذهب /6 / 210 سنة 768 ه- ، البدر الطالع : 385 رقم 255 ، هدية العارفين 465/5 ، معجم المؤلفين 229/2 رقم 7833 .
3- (3) كان في الأصل : « رفض الصالحين » وفي إحقاق الحقّ : « روض الصالحين » ، وكلاهما تصحيف بيّن من اسم كتابه « روض الرياحين في حكايات الصالحين » ، وقد أثبتنا الصحيح وفق ما ورد في ترجمته من كتب التراجم ؛ أنظر الهامش السابق.

لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا ، وعلم العبد ذلك الإذن يقينا فلبسه ، لم يكن منتهكا (1) للشرع »!

ثمّ قال : « فإن قيل : من أين يحصل له علم اليقين؟!

قلت : من حيث حصل للخضر حيث قتل الغلام ، وهو وليّ لا نبيّ - على القول الصحيح - عند أهل العلم ، كما إنّ الصحيح عند أهل الجمهور [ منهم ] أنّه الآن حيّ ، وبهذا قطع الأولياء ، ورجّحه الفقهاء والأصوليّون وأكثر المحدّثين » (2).

وفيه :

أنّه لو جاز هذا ، لجاز نسخ أحكام الشريعة بلا نبوّة!

ومن سوّغ هذا فقد أعطى منزلة الأنبياء لغيرهم ، وأثبت أنبياء بلا خاصّة نبوّة - من العصمة ، والنصّ من اللّه تعالى ، ونحوهما - ، ونفى الحاجة إلى النبيّ في الأحكام!

وهذا مخالف لضرورة الدين ،

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حلال محمّد حلال [ أبدا ] إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام [ أبدا ] إلى يوم القيامة » (3).

ص: 220


1- كان في الأصل وإحقاق الحقّ : « متهتّكا » وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر.
2- روض الرياحين : 555 ، وعنه في إحقاق الحقّ 1 / 201.
3- الكافي 1 / 79 ح 175 والحديث فيه عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام . وقد ورد مضمون هذا الحديث ومعناه في مصادر الجمهور ، فانظر مثلا : صحيح مسلم 102/4 ، سنن ابن ماجة 3/1 - 4 ح 1 - 3 ، مسند أحمد 2 / 258 ، سنن الدارقطني 2/ 220 ذح 2679 ، السنن الكبرى 388/1 و ج 326/4 وج 103/7 ، تفسير القرطبي 13/18 ، تفسير ابن كثير 337/4 في تفسير آية (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [ سورة الحشر 59 : 7] .

وأمّا ما صدر عن الخضر - لو سلّم عدم نبوّته - فليس من القطع بالأحكام ، بل في الموضوعات ، وهو خارج عن المقام ، فإنّ قتل مثل الغلام جائز في شريعة موسى علیه السلام لكنّ موسى لم يعلم أنّه من الأشخاص الّذين يجوز قتلهم ؛ ولذا ، بعد العلم ترك الإنكار.

مع إنّ كلام اليافعي خارج عن محلّ النزاع ؛ لأنّ الكلام في دعوى أنّ من شهد الحقيقة سقطت عنه الأحكام بحسب الشرع الأحمدي ، ويكون شرعا كالطفل في عدم التكليف له ، لا في إمكان أن يحصل لشخص يقين بأنّه غير مكلّف بأحكام المسلمين ، كنبيّ جاءه شرع جديد!

ولا ريب أنّ الأوّل ، بل الثاني ، مخالف لضرورة الدين ، وقائله كافر واجب القتل ، كما قال الغزّالي.

هذا ، وينقل عن الصوفية ضلال آخر ، وهو القول بالتناسخ (1) ، قاتلهم اللّه تعالى ، وعطّل ديارهم.

* * *

ص: 221


1- انظر : دائرة معارف القرن العشرين 10 / 177 مادّة « نسخ ».

ص: 222

في حقيقة الكلام

اشارة

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :

المبحث السابع : في أنّه تعالى متكلّم

اشارة

وفيه مطالب :

[ المطلب ] الأوّل : في حقيقة الكلام
اشارة

الكلام عند العقلاء : عبارة عن المؤلّف من الحروف المسموعة.

وأثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا ، مغايرا لهذه الحروف والأصوات ، ( وهذه الحروف والأصوات ) (2) دالّة عليه (3).

وهذا غير معقول ، فإنّ كلّ عاقل إنّما يفهم من الكلام ما قلناه ..

ص: 223


1- نهج الحقّ : 59 - 60.
2- ما بين القوسين ليس في المصدر.
3- الأربعين في أصول الدين - للرازي - 1 / 249 - 250 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 250 ، شرح العقائد النفسية : 108 ، شرح المواقف 8 / 93 - 94.

فأمّا ما ذهبوا إليه ، فإنّه غير معقول لهم ولغيرهم ألبتّة ، فكيف يجوز إثباته لله تعالى؟!

وهل هذا إلّا جهل عظيم؟! لأنّ الضرورة قاضية بسبق التصوّر على التصديق.

وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم ، على معنى أنّه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة ، قائمة بالأجسام الجمادية ، كما كلّم اللّه موسى من الشجرة ، فأوجد فيها الحروف والأصوات.

والأشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافّة البشر ، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم.

وإثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه - مع إنّه غير متصوّر ألبتّة ، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه - معلوم البطلان ؛ ومع ذلك ، فإنّه صادر منّا أو فينا [ عندهم ] ، ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوته!

* * *

ص: 224

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى متكلّم ؛ والدليل عليه : إجماع الأنبياء علیهم السلام عليه ، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يثبتون له الكلام ، ويقولون : إنّه تعالى أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ، فثبت المدّعى (2).

ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك ، تارة يطلقونه على المؤلّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون : هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته [ تعالى ] (3).

ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلّا المؤلّف من الحروف والأصوات ..

فنقول أوّلا : ليرجع الشخص إلى نفسه ، أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر (4) ويرتّب معاني ، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم ، فإنّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ، ويقول في نفسه : سأتكلّم بهذا.

ص: 225


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 203 - 206.
2- شرح المواقف 8 / 91.
3- الأربعين في أصول الدين - للرازي - 1 / 248 و 249 ، شرح العقائد النسفية : 108 ، شرح المواقف 8 / 93.
4- تزوير الكلام : إصلاح الكلام أو تهيئته وتقديره ؛ انظر : لسان العرب 6 / 112 - 113 مادّة « زور ».

فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتّة ؛ فهذا هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول - على طريقة الدليل - : إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها ، لها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول : هذه المدلولات هي الكلام النفسي.

فإن قال الخصم : تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني.

قلنا : هي غير العلم ؛ لأنّ من جملة الكلام الخبر ، وقد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالخبر عن الشيء غير العلم به.

فإن قال : هو الإرادة.

قلنا : هو غير الإرادة ؛ لأنّ من جملة الكلام الأمر ، وقد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ؛ وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه.

واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ؛ إذ لا طلب فيهما أصلا ، كما لا إرادة قطعا.

وأقول : لا نسلّم عدم الطلب فيهما ؛ لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب ، وهو الطلب.

ثمّ إنّ في الصورتين لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر ؛ لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين : الطلب منه ، مع عدم الفعل من المأمور ؛ وكلاهما لا بدّ [ من ] أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار.

قال صاحب « المواقف » هاهنا : « ولو قالت المعتزلة : إنّه - أي المعنى

ص: 226

النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر - هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلّم بما أخبر به ، أو يصير سببا لاعتقاده إرادته - أي إرادة المتكلّم - لما أمر به ، لم يكن بعيدا ؛ لأنّ إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ، ومغايرة لما يدلّ عليها من الأمور المتغيّرة والمختلفة ، وليس يتّجه عليه أنّ الرجل قد يخبر بما لا يعلم ، أو يأمر بما لا يريد ، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدلّ عليه بالعبارات مغاير للإرادة كما تدّعيه الأشاعرة » (1).

هذا كلام صاحب « المواقف ».

وأقول : من أخبر بما لا يعلمه ، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا ، بل يصدر عنه الإخبار وهو يدلّ على مدلول ؛ هو الكلام النفسي ، من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء.

وأمّا في الأمر ، وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب ، الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب.

فإذا تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي ، الذي هو الطلب في هذا الأمر ، وهو المطلوب.

ولمّا ثبت أنّ ها هنا صفة هي غير الإرادة والعلم ، فنقول : هو الكلام النفساني ؛ فإذا هو متصوّر عند العقل ، ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور ، فمن ادّعى بطلانه وعدم كونه متصوّرا ، فهو مبطل.

وأمّا من ذهب إلى أنّ كلام اللّه تعالى هو أصوات وحروف يخلقها اللّه

ص: 227


1- المواقف : 294 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 95.

تعالى في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرئيل ، أو النبيّ ، وهو حادث (1) ..

فيتّجه عليه : إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، وخالق الكلام لا يقال : إنّه متكلّم ، كما إنّ خالق الذوق لا يقال : إنّه ذائق.

وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف ، فضلا عن أهل التحقيق.

نعم ، الأصوات والحروف دالّة على كلام اللّه تعالى ، ويطلق عليها « الكلام » أيضا ، ولكنّ « الكلام » في الحقيقة : هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتناه.

* * *

ص: 228


1- انظر : شرح الأصول الخمسة : 528 ، المنقذ من التقليد 1 / 215 - 216 ، وانظر : المواقف : 293 - 294 ، شرح المواقف 8 / 92 - 93.
وأقول :

لا يخفى أنّه إذا صدر من المتكلّم خبر فليس هناك إلّا خمسة أمور :

الأوّل : اللفظ الصادر عنه.

الثاني : معاني مفردات اللفظ ، ومعنى هيئته.

الثالث : تصوّر الألفاظ والمعاني.

الرابع : مطابقة النسبة للواقع ، وعدمها.

الخامس : التصديق ، والعلم بالنسبة الثبوتية والسلبية حيث يكون معتقدا بها.

كما أنّه إذا صدر منه أمر أو نهيّ لم يكن هناك إلّا أربعة أمور : الثلاثة الأول ، ورابع هو : الإرادة والكراهة ، ومقدّماتهما ؛ كتصوّر المرجّحات والتصديق بها.

ومن الواضح أنّ الكلام النفسي الذي يعنونه في الخبر مخالف للأمر الأوّل.

وكذا للثاني ؛ لأنّ معاني المفردات والهيئة أمور خارجية غالبا غير قديمة ، فكيف تكون هي المراد بالكلام النفسي؟!

ومخالف أيضا للرابع ، ضرورة أنّه غير المطابقة للواقع وعدمها.

وللثالث والخامس ؛ لأنّه غير تصوّر الأطراف والعلم بالنسبة بإقرارهم.

فلا يكون الكلام النفسي في الخبر معقولا.

ص: 229

وأمّا ما ذكره من صورة التزوير ، فلا يدلّ على وجود غير المذكورات الخمسة ، فإنّ ترتيب أجزاء الكلام أو معانيه في الذهن لا يقتضي أكثر من تصوّرها قبل النطق.

كما إنّ انتفاء العلم عن المخبر الشاكّ أو العالم بالخلاف لا يقتضي إلّا انتفاء التصديق بالمخبر به ، لا ثبوت أمر آخر غير الخمسة.

وكذا الحال في الكلام النفسي في الأمر والنهي ؛ لأنّه لا يصحّ أن يراد به الأوّلان ، أعني : اللفظ ومعاني مفرداته وهيئته ، وهو ظاهر ...

ولا الثالث ، أعني : تصوّر الألفاظ والمعاني ..

ولا الرابع ، أعني : الإرادة والكراهة ومقدّماتهما ؛ لأنّ هذين الأمرين ليسا بكلام نفسي عندهم ، ولا نعقل أمرا غير المذكورات يكون كلاما نفسيا.

وأمّا خلوّ صورتي الاعتذار والاختبار عن الإرادة والكراهة ، فلا يدلّ على وجود طلب آخر حتّى يكون كلاما نفسيا ، فإنّا لا نجد في الصورتين طلبا في النفس أصلا ، كما لا نجد في غيرهما إلّا طلبا واحدا يعبّر عنه بالطلب مرّة ، وبالإرادة والكراهة أخرى.

وأمّا ما قاله من وجود الطلب في الصورتين ، بدليل وجوده عند المخاطب ، وبدليل صحّة اعتذار المتكلّم واختباره الدالّة على حصولطلب منه ..

ففيه : إنّ معنى وجود الطلب عند المخاطب إنّما هو تصوّره وفهمه إيّاه ، فلا يتوقّف على حصوله عند المتكلّم في الواقع ، نظير ما يفهمه السامع للخبر الكاذب ، فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في الواقع.

ص: 230

وأمّا صحّة الاعتذار والاختبار ، فلا تتوقّف إلّا على إظهار ثبوت الطلب ، فلا يكون الموجود في الصورتين إلّا صيغة الطلب وصورته لا حقيقته.

فإن قلت : فعلى هذا يخلو الأمر والنهي عن المعنى واقعا في الصورتين.

قلت : إن أريد من الخلوّ عن المعنى انتفاء ذاته واقعا وعند المتكلّم ، فنحن نلتزم به ، ولا يضرّ في الدلالة ، كما في الخبر الكاذب.

وإن أريد انتفاؤه في مقام الدلالة عند السامع ، فهو ممنوع ؛ لأنّ ثبوت المعنى عند السامع إنّما يكون بتصوّره له ، وهو حاصل عند سماع اللفظ للعالم بمعناه ، ولا يتوقّف على العلم بإرادة المتكلّم له.

على إنّه قد يقال : إنّ معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة القائمتين بالنفس حتّى يلزم انتفاء المعنى في صورتي الاختبار والاعتذار ، بل هو الإرادة والكراهة القائمتان باللفظ بإنشائه لهما ؛ لأنّ صيغ الإنشاء منشئة وموجدة لمعانيها ، لا حاكية عن أمور نفسية.

غاية الأمر : إنّ الأمور النفسية إذا ثبتت في الواقع تكون داعية لإنشاء الطلب والإرادة والكراهة ... وإذا لم تثبت ، يكون الداعي غيرها ، كالاختبار وإظهار العذر في الصورتين.

فحينئذ يكون المعنى في الصورتين موجودا حقيقة ، كغيرهما ، إلّا أنّه موجود بوجود إنشائي في الجميع ، ومثله الكلام في سائر الصيغ الإنشائية.

وكيف كان ، فنحن في غنى عمّا ذكره الفضل عن « المواقف » ، فلا حاجة إلى الإطالة بتحقيق أمره والنظر في ما أورده عليه.

ص: 231

وأمّا قوله : « إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم » ..

فقد خالف به الأشاعرة ، حيث قالوا : « المتكلّم من قام به الكلام » كما ذكره القوشجي (1) ، وقد فرّ بذلك عمّا أورد عليهم ، وذكره الشريف الجرجاني - على ما نقل عنه - وهو أنّ الكلام هيئات وكيفيات عارضة للصوت القائم بالهواء (2).

فيكون الكلام قائما بالهواء ، والهواء ليس قائما بالمتكلّم حتّى يقال :

ما قام به قائم بالمتكلّم بالوساطة.

فإذا ، نسبة الكلام إلى المتكلّم ليست لقيامه فيه ، بل بأن يعيّن حروفه وكلماته ، ويميّز بعضها عن بعض .. فلو كان المتكلّم من قام به الكلام ، لم يصحّ إطلاقه على الإنسان.

فالتجأ الشريف وتبعه الفضل إلى القول بأنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، ولم يعلما أنّ التكلّم حينئذ يكون بمعنى تعيين الحروف وإيجادها ، والمتكلّم بمعنى موجدها.

فيكون التكلّم قائما بذاته تعالى قيام صدور ، بلا حاجة إلى المعنى النفسي ، كما يقوم بالبشر ، ويوصف كلّ منهما بالمتكلّم بمعنى واحد.

هذا لو حملنا كلامه على ما أراده الشريف.

وأمّا إذا أخذنا بظاهره ، حيث عرّف « المتكلّم » - بحسب النسخ التي وجدناها - بمن قامت به صفة المتكلّم ، بصيغة اسم الفاعل لا المصدر ،

ص: 232


1- شرح التجريد : 419.
2- انظر مؤدّاه في تعريف الصوت من كتابه التعريفات : 135.

كانت هذه المقدّمة لاغية ، والمدار على قوله بعدها : « وخالق الكلام لا يقال إنّه متكلّم » ، وهو دعوى مجرّدة يردّها أيضا ما سبق.

فالحقّ أنّ المتكلّم من تلبّس بالتكلّم ، وتلبّسه به من حيث إيجاده للكلام في الهواء بمباشرة لسان المتكلّم - كما في كلام الإنسان - ، أو بمباشرة شجرة ونحوها - كما في كلام اللّه تعالى - ، وهذا نحو من أنحاء التلبّس ، فإنّها مختلفة :

إذ قد تكون بنحو الإيجاد ، كما عرفت ، ومثله الخطّاط والصبّاغ ، فإنّ تلبّسهما بالخطّ والصبغ ، بإيجادهما لهما في الثوب والقرطاس مثلا.

وقد تكون بنحو الحلول ، كالحيّ والميّت.

وقد تكون بنحو الانتزاع ، كما في صفات الباري جلّ وعلا ، بناء على قول أهل الحقّ من كون صفاته تعالى عين ذاته خارجا ، منتزعة منها مفهوما.

.. إلى غير ذلك من أنحاء التلبّس ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.

فلا يلزم أن يكون التلبّس مخصوصا بالحلول ، حتّى يقال بثبوت الكلام النفسي بناء على تصوّره.

ثمّ إنّ هذه الملابسات لا تجعل المشتقّات قياسية ، بل تتبع الورود ، فربّ مشتقّ يستعمل مع ملابسة لا يستعمل الآخر معها ، ولا يستعمل هو بدونها.

فلا يرد على دعوى إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى بملابسة الإيجاد ، النقض بالذائق والمتحرّك ، حيث لا يطلقان عليه تعالى مع إيجاده الذوق والحركة.

ص: 233

على إنّه لو تمّ ما ذكره الفضل من كون « المتكلّم » وضعا هو من قام المبدأ به قيام حلول ، فهو بحث لفظي لا يلتفت إليه مع امتناعه عقلا ، فيلزم أن يراد به معنى الموجد.

مضافا إلى أنّه لم يعلم إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى في الكتاب والسنّة ، وإن أطلق عليه فيهما أنّه أخبر وأمر ونهى وقال وكلّم ويكلّم ..

بل إطلاق « المتكلّم » عليه عرفيّ مستفاد من إطلاق تلك الأمور في الكتاب والسنّة عليه تعالى ، فلا ينفع الخصم بوجه سديد ألبتّة.

ثمّ إنّه على ما ذكرنا من كون المتكلّم موجد الكلام ، يكون التكلّم من الصفات الإضافية الآتية من جهة القدرة : كالرازق والخالق ، لا من الصفات الذاتية القديمة التي هي في عرض القدرة : كالحيّ والعالم ، خلافا للأشاعرة.

هذا ، والأعجب من الأشاعرة : الحنابلة ، فإنّهم وافقوا الأشاعرة في قدم كلامه ، لكن قالوا : هو حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ؛ كما نقله عنهم في « المواقف » و« شرح التجريد » للقوشجي (1).

ونقلا عن بعضهم أنّه قال : « الجلد والغلاف قديمان » أيضا (2).

وهذا هو الجهل المفرط!

وسيذكر المصنّف رحمه اللّه دلالة العقل على حدوث الحروف ، فانتظر.

* * *

ص: 234


1- المواقف : 293 ، شرح التجريد : 416.
2- المواقف : 293 ، شرح التجريد : 416 ؛ أي : « فضلا عن المصحف » كما جاء في شرح التجريد وشرح المواقف 8 / 92.

كلامه تعالى متعدّد

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

[ المطلب ] الثاني : في أنّ كلامه تعالى متعدّد
اشارة

المعقول من الكلام - على ما تقدّم - أنّه الحروف والأصوات المسموعة ، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام ، وذلك بأن يكون : خبرا ، أو أمرا ، أو نهيا ، أو استفهاما ، أو تنبيها ؛ وهو الشامل للتمنّي ، والترجّي ، والتعجّب ، والقسم ، والنداء ؛ ولا وجود له إلّا في هذه الجزئيات.

والّذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا ، فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه [ تعالى ] واحد مغاير لهذه المعاني ؛ وذهب آخرون : إلى تعدّده (2).

والّذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيء

ص: 235


1- نهج الحقّ : 60 - 61.
2- انظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 249 - 251 ، شرح العقائد النسفية - للتفتازاني - : 110 - 111 ، شرح المواقف 8 / 91 - 94 ، شرح التجريد : 418 - 419.

لا يتصوّرونه هم ولا خصومهم!

ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره ، كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ، ويناط به الأحكام؟!

* * *

ص: 236

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات ، مثل :

العلم والقدرة ، فكما إنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة ، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء.

وهذا بحسب التعلّق ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر [ أ ] وعلى وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي.

وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يكون متعدّدا عنده.

فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني ، فإن ثبت ، فهو قديم واحد كسائر الصفات ؛ وإن انحصر الكلام في اللفظي ، فهو حادث متعدّد ؛ وقد أثبتنا الكلام النفسي ... ، فطامّات الرجل ليست إلّا التّرّهات.

* * *

ص: 237


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 216.
وأقول :

صرّح الفضل وغيره أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي ، ومعه كيف يكون اللفظي متعدّدا دون النفسي؟! وإلّا لخرج عن كونه مدلولا مرتّبا في النفس على حسب ترتيب اللفظي!

على إنّه لا وجه لأن يحصل مفهوم الكلام بمجرّد تعلّقه بأنواع الكلام من دون أن يكون في نفسه على أحد الهيئات المخصوصة.

ثمّ ما أراد بتعلّقه بالأمر والنهي وأخواتهما؟!

فإن أراد به إيجاده لها ، فلا نعرف صفة ذاتية بها الإيجاد سوى القدرة.

وإن أراد كونه جنسا لها ، لزم وجود الجنس في القدم بدون الفصل ، وهو باطل.

وإن أراد به عروضه عليها ، لزم عروض القديم في قدمه على الحادث في حدوثه ، وهو ممتنع ؛ ولا يمكن وجوده قبلها ؛ لامتناع قيام العرض بلا معروض.

وإن أراد العكس ، وأنّه معروض لها ، فإن كان عروضها في القدم ، نافى فرض حدوثها ، ولزم عروض الحادث في حدوثه على القديم في قدمه .. وإن كان عروضها حال حدوثها ، لزم أن لا يكون في القدم كلاما لعدم العروض حينئذ ؛ ولا نتصوّر وجها لكونه كلاما حقيقيا قبل العروض.

وإن أراد به ما هو من نحو الانكشاف وتعلّق العلم بالمعلوم ، فقد

ص: 238

صار علما ؛ وهو كما ترى.

وإن أراد غير ذلك ، فليبيّنه أصحابه حتّى نعرف صحّته من فساده.

وبالجملة : كما لا نعقل معنى للكلام النفسي ، لا نعقل وجها صحيحا لتعلّقه ، لا سيّما مع حفظ دلالة الكلام اللفظي عليه على نحو دلالة اللفظ على معناه المطابقي.

* * *

ص: 239

ص: 240

حدوث الكلام

اشارة

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

المطلب الثالث : في حدوثه
اشارة

العقل والسمع متطابقان على إنّ كلامه تعالى محدث ليس بأزلي ؛ لأنّه مركّب من الحروف والأصوات ، ويمتنع اجتماع حرفين في السماع دفعة واحدة ، فلابدّ أن يكون أحدهما سابقا على الآخر ، والمسبوق حادث بالضرورة ، والسابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضرورة ، وقد قال اللّه تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (2).

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، فجعلوا كلامه تعالى قديما لم يزل معه ، وأنّه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين! (3).

وإثبات ذلك في غاية السفه والنقص في حقّه تعالى ، فإنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفردا وقال : يا سالم قم ، ويا غانم اضرب ،

ص: 241


1- نهج الحقّ : 61 - 62.
2- سورة الأنبياء 21 : 2.
3- انظر : اللمع - للأشعري - : 36 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 82 ، الأربعين - للرازي - 1 / 250 - 258 ، شرح العقائد النسفية - للتفتازاني - : 108 وما بعدها.

ويا سعد كل ، ولا أحد عنده من هؤلاء ، عدّه كلّ عاقل سفيها جاهلا عادما للتحصيل ، فكيف يجوز منهم نسبة هذا الفعل (1) الدالّ على السفه والجهل والحمق إليه تعالى؟!

وكيف يصحّ منه تعالى أن يقول في الأزل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (2) ولا مخاطب هناك ، ولا ناس عنده؟!

[ ويقول : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) (3) ] (4) ويقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) (5) [ و ] (6) ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (7) و ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ) (8) و ( لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ) (9) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (10)!

وأيضا : لو كان كلامه قديما لزم صدور القبيح منه تعالى ؛ لأنّه إن لم يفد بكلامه في الأزل [ شيئا ] كان سفها ، وهو قبيح عليه [ تعالى ] ، وإن أفاد فإمّا لنفسه ، أو لغيره ..

ص: 242


1- في المصدر : « العقل ».
2- سورة البقرة 2 : 21.
3- سورة النساء 4 : 1 ، سورة الحجّ 22 : 1 ، سورة لقمان 31 : 33.
4- ما بين القوسين المعقوفتين ليس في المصدر ولا في الأصل ، وأثبتناه من إحقاق الحقّ 1 / 219.
5- سورة البقرة 2 : 104 و 153 و 172 ، سورة آل عمران 3 : 130 ، سورة النساء 4 : 19 و 29 ، سورة المائدة 5 : 1 و 2 ، وآيات كثيرة أخرى في سور القرآن الكريم.
6- أثبتناه لضرورة النسق.
7- سورة البقرة 2 : 43 و 110 ، سورة الأنعام 6 : 72 ، سورة النور 24 : 56 ، سورة الروم 30 : 31 ، وغيرها من الآيات في سور أخرى.
8- سورة البقرة 2 : 188 ، سورة النساء 4 : 29.
9- سورة الأنعام 6 : 151 ، سورة الإسراء 17 : 31.
10- سورة المائدة 5 : 1.

والأوّل باطل ؛ لأنّ المخاطب إنّما يفيد نفسه لو كان يطرب في كلامه ، أو يكرّره ليحفظه ، أو يتعبّد به كما يتعبّد (1) اللّه بقراءة القرآن ؛ وهذه في حقّه محال لتنزّهه عنها.

والثاني باطل ؛ لأنّ إفادة الغير إنّما تصحّ لو خاطب غيره ليفهمه مراده ، أو يأمره بفعل ، أو ينهاه عن فعل.

ولمّا لم يكن في الأزل من يفيده بكلامه شيئا من هذه ، كان كلامه سفها وعبثا!

وأيضا : يلزم الكذب في إخباره تعالى ؛ لأنّه قال في الأزل :

( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (2) [ و ] (3) ( إِنَّا ... أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ ) (4) و ( أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ ) (5) و ( ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ ) (6) ، مع إنّ هذه إخبارات عن الماضي ، والإخبار عن وقوع ما لم يقع في الماضي كذب ؛ تعالى اللّه عنه.

وأيضا : قال اللّه تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (7) ، وهو إخبار عن المستقبل ، فيكون حادثا.

* * *

ص: 243


1- كذا في الأصل ، وهو تصحيف ؛ لأنّ قوله : « تعبّد اللّه » لا يصحّ تعديته مباشرة بغير حرف الجرّ ، بل يقال : « تعبّد لله » ؛ لأنّ قول القائل : « تعبّد فلان فلانا » أي اتّخذه عبدا ؛ وفي المصدر : « يعبد » وهو الصحيح.
2- سورة نوح 71 : 1.
3- أثبتناها لتوحيد النسق.
4- سورة النساء 4 : 163.
5- سورة يونس 10 : 13.
6- سورة إبراهيم 14 : 45.
7- سورة النحل 16 : 40.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق الإشارة إلى أنّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإمامية في إثبات الكلام النفساني (2).

فمن قال بثبوته ، فلا شكّ أنّه يقول بقدمه ؛ لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى.

ومن قال بأنّه مركّب من الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يقول بحدوثه ، ونحن نوافقه فيه.

فكلّ ما أورده على الأشاعرة ، فهو إيراد على غير محلّ النزاع ؛ لأنّه يقول : إنّ الكلام مركّب من الحروف ، ثمّ يقول بحدوثه ؛ وهذا ممّا لا نزاع فيه.

نعم ، لو قال بإثبات الكلام النفساني ثمّ يثبت حدوثه يكون محلّ النزاع.

وأمّا ما استدلّ به على الحدوث من قوله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (3) ، فهو يدلّ على حدوث اللفظ ، ولا نزاع فيه.

وأمّا الاستدلال بأنّ الأمر والخبر في الأزل ولا مأمور ولا سامع ، فيه سفه - كما ذكره في طامّاته - ..

فالجواب أنّ ذلك السفه الذي ادّعيتموه إنّما هو في اللفظ ، وأمّا كلام

ص: 244


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 220 - 221.
2- تقدّم في الصفحة 237.
3- سورة الأنبياء 21 : 2.

النفس فلاسفه فيه ، ومثاله - على وفق ما ذكر - أنّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفردا ، ورتّب في نفسه أنواع الأوامر لجماعة سيأتون عنده ، ولا يتلفّظ به ، فلا يكون سفها ولا حماقة ، بل السفيه من نسبه إلى السفه.

فالكلام النفسي : هو المعنى القائم بذات اللّه تعالى في الأزل ، ولا تلفّظ بذلك الكلام ، بل هو لجماعة سيحدثون ، ويكون التلفّظ به بعد حدوثهم وحدوث أفعالهم التي تقتضي الأمر والنهي والإخبار والاستفهام ، فلاسفه ولا حماقة كما ادّعاه.

وبهذا الجواب - أيضا - يندفع ما ذكره من لزوم صدور القبيح من اللّه تعالى ؛ لأنّ ذلك في التلفّظ بالكلام النفسي ، ونحن نسلّم أن لا تلفّظ في الأزل ، بل هناك معان قائمة بذات اللّه تعالى ، قديمة.

وأيضا : يندفع ما ذكره من لزوم الكذب ؛ لأنّ الصدق والكذب صنفان للكلام الذي يتلفّظ به ، لا المعاني المزوّرة (1) في النفس ، المقولة بعد هذا لمن سيحدث.

وأمّا الاستدلال على حدوث الكلام بقوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2) لأنّه إخبار عن المستقبلفيكون حادثا ..

فالجواب عنه أنّ لفظ ( كُنْ ) حادث ، ولا نزاع لنا فيه.

إنّما النزاع في المعنى الأزلي النفساني ، ولا يلزم من كون مدلول [ لفظة ] ( كُنْ ) في ذات اللّه تعالى : حدوثه.

ص: 245


1- كان في الأصل : « المزبورة » وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر.
2- سورة النحل 16 : 40.
وأقول :

غاية المصنّف من الدليل العقلي هو إثبات حدوث ما يتعقّل من كلامه تعالى ، ولا يتعقّل إلّا اللفظي ، ولا محلّ لإثبات حدوث النفسي عقلا ؛ لأنّه فرع المعقولية.

وأمّا الأدلّة السمعية ، فإنّما تذكر لإثبات الانحصار باللفظي ، أو لإثبات حدوث النفسي على فرض المعقولية.

على إنّه قد يقال : إنّ الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام اللفظي ، فينبغي أن يكون مركّبا في النفس كتركيب اللفظي ، ومرتّبا كترتيبه ، فيلزم تقدّم بعض أجزائه على بعض ، وهو يقتضي الحدوث.

هذا ، وحكى شارح « المواقف » عن الماتن في مقالة مفردة ، أنّه فسّر الكلام النفسي بالأمر القائم بالغير ، الشامل للّفظ والمعنى جميعا ، وزعم أنّه قائم بذات اللّه تعالى ، وأنّه قديم ؛ لأنّ الترتيب إنّما هو في التلفّظ ، بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفّظ حادث دون الملفوظ (1).

وأورد عليه القوشجي بأنّ هذا خارج عن طور العقل ، وما هو إلّا مثل أن يكون حركة مجتمعة الأجزاء في الوجود ، لا يكون لبعضها تقدّم على بعض (2) ؛ وهو حسن.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن قوله تعالى : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ

ص: 246


1- شرح المواقف 8 / 103 - 104.
2- انظر : شرح التجريد : 421.

رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) (1).

ففيه : أنّ المراد بالذكر هو القرآن - الذي هو كلام اللّه تعالى - من دون لحاظ أنّه لفظي.

فإذا دلّت الآية على حدوث كلامه من حيث هو كلامه ، ثبت حدوثه حتّى لو كان نفسيا ، أو يثبت الانحصار باللفظي.

ومثل الآية المذكورة قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (2) ، فإنّ المنزّل المحفوظ لا يكون إلّا محدثا ؛ لأنّ تنزيله على التدريج ، ولا تنزيل إلّا للّفظ!

وأمّا ما أجاب به عن السفه ، بأنّه إنّما هو باللفظ ، فمردود بأنّ الطلب مطلقا سفه حتّى لو كان في النفس!

وأمّا مثاله فلا طلب فيه فعلا ، وإنّما الموجود فيه هو العزم على الطلب ، أو تصوير الطلب ، وإلّا كان سفها بالضرورة!

ومنه يعلم ما في جوابه عن لزوم صدور القبيح منه تعالى.

فإن قلت : إنّما يلزم السفه إذا خوطب المعدوم ، وطلب منه إيقاع الفعل في حال عدمه ؛ وأمّا إذا طلب منه على تقدير وجوده ، فلا ، كما في طلب الرجل تعلّم ولده الذي يعلم أنّه سيولد ، وكما في خطاب النبيّ كلّ مكلّف يولد إلى يوم القيامة.

قلت : البديهة حاكمة بسفه من يخاطب معدوما ويطلب منه ، سواء طلب منه في حال عدمه أم على تقدير وجوده ، وسواء خاطبه خاصّة أم في

ص: 247


1- سورة الأنبياء 21 : 2.
2- سورة الحجر 15 : 9.

ضمن جماعة حاضرين ؛ لأنّ أصل التوجّه إليه بالطلب سفه!

وأمّا مثال الولد ، فليس فيه إلّا الميل والعزم على الطلب ..

قال في « شرح المواقف » : « أمّا نفس الطلب ، فلا شكّ في كونه سفها ، بل قيل : هو غير ممكن ؛ لأنّ وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال » (1).

كما إنّ خطاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما هو للحاضرين ، ويثبت لمن عداهم بأدلّة اشتراك الأمّة في التكليف.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم الكذب ، فمناقشة لفظيّة ، ليس لها - لو صحّت - أثر في دفع الإشكال ؛ لأنّ المقصود أنّ قوله تعالى في الأزل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) (2) .. ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) (3) حكم غير مطابق للواقع ، ينزّه اللّه تعالى عن مثله ، فلا أثر لعدم تسميته كذبا في الاصطلاح.

ومنه يعلم بطلان ما أجيب به ، من أنّ كلامه تعالى في الأزل لا يتّصف بالماضي والحال والاستقبال ؛ لعدم الزمان ، وإنّما يتّصف بذلك بحسب التعلّقات بعد حدوث الأزمنة.

وذلك لأنّ عدم صحّة اتّصافه في الأزل بالماضي لا يجعل قوله تعالى في الأزل : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) حكما صادقا مطابقا للواقع حتّى يرتفع الإشكال.

بل هذا الجواب قد كشف عن إشكال آخر عليهم ، وهو عدم صحّة قولهم : إنّ النفسي مدلول اللفظي ، إذ لا يمكن أن يكون ما ليس له زمان

ص: 248


1- شرح المواقف 8 / 97.
2- سورة الحجر 15 : 9.
3- سورة نوح 71 : 1.

عين مدلول ما هو مقيّد بالزمان ، اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ مراد المجيب أنّ الكلام النفسي - المدلول للّفظي - هو ما قيّد بالتعلّقات الحادثة ، فلا يرد شيء من ذلك ، ولكنّه لا يتمّ على مذهبهم لقولهم بقدم النفسي.

ثمّ لا يخفى أنّ مثل قوله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ) لا يصحّ أن يكون الكلام النفسي فيه من قبيل : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) (1) ممّا ليس بماض ونزّل منزلة الماضي ، حتّى يرتفع الكذب.

وذلك لأنّ التنزيل للمعنى يستدعي دلالة اللفظ على المنزّل ، ومن المعلوم أنّ لفظ قوله تعالى : ( أَرْسَلْنا نُوحاً ) دالّ على الماضي حقيقة ، لا الماضي تنزيلا.

وأمّا ما أجاب به عن قوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ ) .. الآية (2).

ففيه : إنّ الآية تدلّ على حدوث الأمر التكويني في المستقبل ، بما هو حامل للمعنى - الذي هو الكلام النفسي عندهم - ، إذ ليس المقصود مجرّد حدوث لفظ ( كُنْ ) ؛ لأنّ الأثر في التكوين ليس للّفظ نفسه ، بل لما تحمل من المعنى القائم بالنفس ، وهو الذي يتفرّع عليه كون الشيء وحدوثه في المستقبل ، وتفرّعه عليه هنا ظاهر في حدوثه بعد انقضائه ، ولا ينقضي إلّا الحادث ؛ لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه!

* * *

ص: 249


1- سورة يس 36 : 51 ، وسورة ق 50 : 20.
2- سورة النحل 16 : 40.

ص: 250

استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة

اشارة

قال المصنّف - قدّس اللّه نفسه - (1) :

المطلب الرابع : في استلزام الأمر والنهي : الإرادة والكراهة
اشارة

كلّ عاقل يريد من غيره شيئا على سبيل الجزم فإنّه يأمره به ، وإذا كره الفعل فإنّه ينهى عنه.

وإنّ الأمر والنهي دليلان على الإرادة والكراهة.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وقالوا : إنّ اللّه تعالى يأمر دائما بما لا يريده ، بل بما يكرهه ، وإنّه ينهى عمّا لا يكرهه ، بل عمّا يريده (2)!

وكلّ عاقل ينسب من يفعل هذا إلى السفه والجهل ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

ص: 251


1- نهج الحقّ : 63.
2- انظر ذلك تصريحا أو مؤدّى في : الإبانة عن أصول الديانة : 126 - 131 ، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 56 - 58 ، تمهيد الأوائل : 319 - 322 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 168 - 170 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 83 - 84 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 343 - 344 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 288 - 289 ، المسائل الخمسون : 60 ، شرح المقاصد 4 / 274 ، شرح العقائد النسفية : 138 - 141 ، شرح المواقف 8 / 173 - 174.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات ، غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد له ، وما ليس بكائن ليس بمراد له (2).

ومذهب المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد للمأمور به ، كاره للمعاصي والكفر (3).

ودليل الأشاعرة : إنّه تعالى خالق الأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة (4) ، والصفة المرجّحة لأحد المقدورين هو الإرادة ، ولا بدّ منها.

فإذا ثبت أنّه مريد لجميع الكائنات.

وأمّا المعتزلة ، فإنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم ، وأثبتوا في الوجود تعدّد الخالق ، يلزمهم نفي الإرادة العامّة ، فاللّه تعالى عندهم يريد الطاعات ويكره المعاصي ، فيأمر بالطاعات وينهى عن المعاصي لأنّها ليست من خلقه.

وعند الأشاعرة : إنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها - وهذا ظاهر - ،

ص: 252


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 223 - 224.
2- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 170 ، الأربعين في أصول الدين 1 / 343 ، شرح المواقف 8 / 173.
3- انظر ذلك صراحة أو مضمونا في : شرح الأصول الخمسة : 456 - 457 ، شرح جمل العلم والعمل : 56 - 60 ، شرح المواقف 8 / 173.
4- المسائل الخمسون : 59 - 60 ، شرح المواقف 8 / 174.

ويريد المعاصي وينهى عنها (1).

والأمر غير الإرادة - كما مرّ في الفصل السابق - ، وليس المراد من الإرادة الرضا والاستحسان ..

فقوله : إنّ الأشاعرة يقولون : « إنّ اللّه تعالى يأمر بما لا يريده » أراد به أنّ اللّه تعالى يأمر بإيمان الكافر ولا يريده.

فالمحذور الذي ذكره من مخالفة العقلاء ناشئ من عدم تحقّق معنى الإرادة ..

فإنّ المراد بالإرادة هاهنا هو التقدير والترجيح في الخلق ، لا الرضا والاستحسان كما هو المتبادر ، فذهب إلى اعتبار معنى الإرادة بحسب العرف.

وإذا تحقّقت معنى الإرادة علمت مراد الأشاعرة ، وأنّه لا نسبة للجهل والسفه إلى اللّه ، تعالى عن ذلك كما ذكره.

* * *

ص: 253


1- شرح المواقف 8 / 173 - 174.
وأقول :

لا يخفى أنّ المصنّف رحمه اللّه قد ذكر أمرا ضروريا ، وهو : أنّ أمر العاقل بشيء دليل على رضاه به ، وإرادته له من الغير ؛ وأنّ نهيه عن شيء دليل على عدم رضاه به ، وكراهته له.

وذكر أنّ الأشاعرة خالفوا العقلاء في ذلك فقالوا : إنّ اللّه سبحانه يأمر بما لا يرضى ولا يريد ، وينهى عمّا يرضى ويريد ...

ووجهه : إنّ الأفعال عندهم مخلوقة لله تعالى ، وبالضرورة أنّ الفاعل القادر المختار إنّما يفعل ما يرضى ويريد ، ويترك ما لا يرضى ولا يريد.

فإذا فرض أنّه سبحانه أمر بما ترك ، فلا بدّ أن يكون قد أمر بما لا يرضى ولا يريد ..

وإذا فرض أنّه نهى عمّا فعل ، فلا بدّ أن يكون قد نهى عمّا رضي وأراد.

وهذا يستوجب السفه ، تعالى اللّه عنه وعن كلّ نقص.

وحاصل جواب الفضل - بعدما أطال في فضول الكلام - أنّ معنى الإرادة في كلام الأشاعرة : هو التقدير.

فيكون معنى قولهم : يأمر بما لا يريد ، وينهى عمّا يريد ؛ أنّه يأمر بما لا يقدّر ، وينهى عمّا يقدّر ؛ وهذا لا يستلزم السفه.

وفيه : إنّ تقدير الشيء وإيجاده فرع الرضا به والإرادة له ، وإنّ عدم تقدير الشيء وعدم إيجاده فرع عدم الرضا به وعدم الإرادة له.

ص: 254

فإذا فرض أنّ اللّه سبحانه أمر بما لم يقدّر ونهى عمّا قدّر ، فقد لزم أن يكون آمرا بما لا يرضى ولا يريد ، وناهيا عمّا يرضى ويريد ؛ وهو السفه ، تعالى اللّه عنه وجلّ شأنه.

على إنّ تفسيره للإرادة بالتقدير خطأ ؛ لأنّها صفة ، والتقدير فعل!

ثمّ إنّ قوله : « وعند الأشاعرة أنّه تعالى يريد الطاعات ويأمر بها ».

غير متّجه ؛ لأنّه إن قصد كلّ الطاعات فغير صحيح ؛ لأنّه تعالى عندهم إنّما أراد بعضها ، وهو ما أوجده خاصة.

وإن أراد بعضها ، فذكره له فضلة ؛ لأنّ كلام المصنّف رحمه اللّه تعالى ليس في المراد عندهم من الطاعات ، بل في غير المراد الذي لم يتعلّق به الوجود.

وإنّما قيّد المصنّف بالدوام في ما نقله عنهم بقوله : « قالوا : إنّ اللّه تعالى يأمر دائما بما لا يريد » للإشارة إلى استمرار ترك الطاعات باستمرار الأزمنة ، أو إلى أنّ أمره بما لا يريده دائم بدوام ذاته على ما زعموه من الكلام النفسي!

واللّه العالم.

* * *

ص: 255

ص: 256

كلامه تعالى صدق

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

المطلب الخامس : في أنّ كلامه تعالى صدق
اشارة

إعلم أنّ الحكم بكون كلام اللّه صادقا لا يجوز عليه الكذب ، إنّما يتمّ على قواعد العدلية (2) ، الّذين أحالوا صدور القبيح عنه تعالى من حيث الحكمة.

ولا يتمشّى على مذهب الأشاعرة لوجهين :

الأوّل : إنّهم أسندوا جميع القبائح إليه تعالى ، وقالوا : لا مؤثّر في الوجود - من القبائح بأسرها ، وغيرها - إلّا اللّه تعالى (3) ، ومن يفعل أنواع

ص: 257


1- نهج الحقّ : 63 - 64.
2- هو اسم يطلق على الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة ؛ لأنّهم قائلون بالعدل الإلهي .. إلّا أنّ مراد المصنّف قدس سره هنا هو الإمامية ؛ لاقتضاء مقام البحث.
3- (3) خلق أفعال العباد - للبخاري - : 25 - 26 ، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 71 - 72 ، الإبانة عن أصول الديانة : 126 - 131 المسألة 194 - 205 وص 142 ذيل المسألة 226 وص 146 جواب 233 ، تمهيد الأوائل : 317 - 319 ، الإنصاف - للباقلّاني - : 43 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 99 ، الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - : 115 - 116 الدعوى الرابعة ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 83 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 320 الفرقة الرابعة ، المسائل الخمسون :1. 60 المسألة 34 ، شرح العقائد النسفية : 135 ، شرح المقاصد 4 / 223 و 238 وما بعدها ، شرح المواقف 8 / 145 - 146 و 173 - 174 ، شرح العقيدة الطحاوية : 120 - 121.

[ الشرك و ] الظلم والجور والعدوان وأنواع المعاصي [ وإلقبائح المنسوبة إلى البشر ] كيف يمتنع أن يكذب في كلامه؟! وكيف يقدر الباحث على إثبات وجوب كونه صادقا؟!

الثاني : إنّ الكلام النفساني عندهم مغاير للحروف والأصوات (1) ، ولا طريق لهم إلى إثبات كونه تعالى صادقا في الحروف والأصوات!

* * *

ص: 258


1- الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - : 75 ، المسائل الخمسون في أصول الدين : 54 المسألة 29 ، شرح العقائد النسفية : 108 - 109 ، شرح المقاصد 4 / 143 - 146 ، شرح المواقف 8 / 93 - 94.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى يمتنع عليه الكذب ، ووافقهم المعتزلة في ذلك ..

أمّا عند الأشاعرة : فلأنّه نقص ، والنقص على اللّه تعالى محال ..

وأمّا عند المعتزلة : فلأنّ الكذب قبيح ، وهو سبحانه لا يفعل القبيح (2).

وقال صاحب « المواقف » : إعلم أنّه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه ، فإنّ النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها ، وإنّما تختلف العبارة (3).

أقول :

الفرق أنّ النقص هنا يراد به النقص في الصفات ، فإنّه على تقدير جواز الكذب عليه تتّصف ذاته بصفة النقص ، وهم لم يقولوا هاهنا بالنقص في الأفعال ؛ حتّى لا يكون فرقا بينه وبين القبح العقلي كما ذكره صاحب « المواقف ».

فحاصل استدلال الأشاعرة : إنّه تعالى لو كان كاذبا لكان ناقصا في

ص: 259


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 229 - 230.
2- شرح الأصول الخمسة : 318 - 319 ، شرح المواقف 8 / 100.
3- المواقف : 296 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 101.

صفته .. كما إنّهم يقولون : لو كان عاجزا أو جاهلا ، لكان ناقصا في صفته.

ولم يعتبروا ما يلزم ذلك النقص من القبح الذي يقول به المعتزلة.

فتأمّل ، والفرق دقيق!

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّ عدم جواز الكذب عليه لا يتمشّى على قواعد الأشاعرة ، فهذا كلام باطل عار عن التأمّل!

فإنّ القول بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه ، لا يستلزم إسناد القبائح إليه ؛ لأنّ فعل القبائح من مباشرة العبد ، فهو غير مستند إلى الخالق.

ثمّ من خلق القبائح فلا بدّ أن يكذب ، ولا يجوز أن يكون صادقا.

هذا غاية الجهل والعناد والخروج عن قاعدة البحث ، بحيث لو نسب هذا الكلام إلى العوامّ استنكفوا منه.

وأمّا ثاني الاستدلالين على عدم التمشّي ؛ فهو أيضا باطل صريح ، فإنّ من قال : امتنع الكذب عليه للزوم النقص ، فهذا الكذب يتعلّق بالدالّ على المعنى النفساني ، وهو أيضا نقص ، فكيف لا يتمشّى؟!

* * *

ص: 260

وأقول :
اشارة

إعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا بلزوم النقص من الكذب على صدق كلامه تعالى مطلقا ، نفسيا ولفظيا ، لا خصوص اللفظي ، مع إنّه لو وقع الكذب في كلامه تعالى لكنّا أكمل منه في بعض الأوقات ؛ أعني وقت صدقنا وكذبه سبحانه (1).

فأورد عليهم صاحب « المواقف » في عبارته المذكورة بأنّ هذا الدليل لا يثبت صدقه في الكلام اللفظي ؛ لأنّ اللفظ فعل ، والنقص في الأفعال عين القبح العقلي فيها (2) ، والأشاعرة لا يقولون به فيها ..

فتخيّل الفضل أنّ مقصود صاحب « المواقف » أنّ المراد بالنقص في هذا الدليل هو النقص في الأفعال خاصة ، فأورد عليه بأنّ المراد هوالنقص في الصفة.

ومن العجب أنّه بعد إقراره بأنّ الأشاعرة لم يقولوا بالنقص في الأفعال ، أجاب بحسب ظاهر كلامه عن ثاني إيرادي المصنّف بأنّ الكذب في الكلام اللفظي أيضا نقص ؛ وهو تخليط ظاهر!

هذا ، وأجاب القوشجي عن إيراد صاحب « المواقف » بأنّ « مرجع الصدق والكذب إنّما هو المعنى دون اللفظ » (3).

ولمّا كان الكلام النفسي عندهم عين مدلول الكلام اللفظي ومعناه ،

ص: 261


1- انظر : شرح المواقف 8 / 101.
2- المواقف : 296 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 101.
3- شرح التجريد : 421.

كان كذب الكلام اللفظي راجعا إلى كذب الكلام النفسي ، ولزم النقص في صفته تعالى.

وهو حسن لو لزم أن يكون لكلّ كلام لفظي مدلول نفسي ، حتّى اللفظي الكاذب ، وهو محلّ نظر ؛ لجواز أن يوجد اللفظ الخبري الكاذب ولا يحكم في نفسه على طبق معناه ، فلا يثبت حكم نفسي حتّى يكذّب ، فإنّ المدار في الكذب على الحكم.

نعم ، يكذّب اللفظي لاشتماله على الحكم الكاذب.

هذا ، ويشكل على الدليل المذكور - حتّى في إثبات صدقه تعالى في الكلام النفسي - أنّ محالية النقص عليه تعالى في صفته إنّما أثبتوها بالإجماع لا بالعقل .. ولذا قال القوشجي - في تقرير هذا الدليل - أنّ الكذب « نقص ، والنقص على اللّه تعالى محال إجماعا » (1).

ولمّا قال صاحب « المواقف » في تقريره النقص على اللّه تعالى محال ، قيّد شارحها الحكم بالمحاليّة بقوله : « إجماعا » (2).

ومن المعلوم أنّ حجّية الإجماع إنّما تستند عندهم إلى قول النبيّ ، الموقوف اعتباره على ثبوت صدقه ، وثبوته يعلم من تصديق اللّه تعالى إيّاه ، الموقوف اعتباره على ثبوت صدق كلام اللّه تعالى ، فيتوقّف ثبوت صدق كلامه تعالى على ثبوته (3) ، وهو دور!

وقد يجاب عنه بما أجابوا به عن نفس الإشكال ، حيث أورد به على دليلهم الآخر لصدق كلام اللّه تعالى ، وهو خبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله به ، بل إجماع

ص: 262


1- شرح التجريد : 421.
2- المواقف : 296 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 101.
3- أي ثبوت صدق النبيّ.

الأنبياء على صدق كلامه تعالى ..

فقالوا في الجواب : إنّ ثبوت صدق النبيّ غير موقوف على تصديق اللّه له بكلامه حتّى يلزم الدور ، بل على تصديق اللّه له بالمعجزة ، وهو تصديق فعلي لا قولي (1).

وفيه : إنّ المعجزة إنّما تدلّ على إنّه مرسل من اللّه تعالى ، وأنّ ما جاء به من عنده ، لا على إنّ كلام النبيّ صدق مطابق للواقع مطلقا ، وإن كان من نفسه.

على إنّ إفادة المعجزة لليقين برسالته محلّ منع على مذهبهم كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى.

وبالجملة : العلم بصدق النبيّ موقوف على تصديق اللّه تعالى إيّاه.

فإن ادّعوا تصديقه له بكلامه تعالى جاء الدور ..

وإن ادّعوا تصديقه بالمعجزة ، فإن كان اقتضاؤها - لصدق النبيّ في خبره بصدق كلام اللّه تعالى - ناشئا من إخبار اللّه بصدق نفسه ، رجع الدور إلى حاله ، وإلّا فلا تدلّ المعجزة على صدق النبيّ في خبره من نفسه.

على إنّ المعجزة ليست بأعظم من التصديق القولي ، وقد فرض الشكّ في صدقه.

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا بدليل ثالث على امتناع الكذب عليه تعالى ، وهو : إنّه تعالى لو اتّصف بالكذب لكان كذبه قديما ، إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى ، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب ، وإلّا جاز زوال ذلك الكذب ، وهو محال ؛ فإنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

ص: 263


1- انظر : المواقف : 296 ، شرح المواقف 8 / 102 - 103.

واللازم : وهو امتناع الصدق عليه ، باطل ؛ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ من علم شيئا أمكنه أن يخبر عنه على ما هو عليه (1).

وفيه :

أوّلا : إنّ المقدّمة الأخيرة مبنية على اعتبار قياس الغائب على الشاهد ، وهو ممنوع ، كما ستعرف.

وثانيا : إنّ امتناع الصدق المقابل للكذب ليس ذاتيا ، بل لقدم هذا الكذب كما ذكر في الدليل ، فيكون امتناعا بالغير ، ولا نسلّم بطلانه ، إذ لا ضرورة تقضي بخلافه ، وإنّما تقضي الضرورة بإمكانه الذاتي ، وهو لا ينافي الامتناع بالغير.

وثالثا : إنّه يرد عليهم النقض بما ذكره القوشجي ، قال : « لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع صدقه تعالى أيضا بأن يقال : إنّ اللّه تعالى لو اتّصف بالصدق لكان صدقه قديما ، فيمتنع عليه الكذب المقابل لذلك الصدق ، ولكنّا نعلم بالضرورة أنّ من علم شيئا أمكنه أن يخبر عنه لا على ما هو عليه » (2).

ورابعا : إنّه لم تمّ هذا الدليل ، وأعرضنا عمّا يرد عليه ، لم يثبت به إلّا صدق كلامه النفسي ؛ لأنّه هو القديم ، والحال أنّ الأهمّ بيان صدق كلامه اللفظي ، كما بيّن هذا في « المواقف » وشرحها (3).

فقد ظهر أنّه لا دليل للأشاعرة على امتناع الكذب على اللّه تعالى في

ص: 264


1- انظر : المواقف : 296 ، شرح المواقف 8 / 101 - 102.
2- شرح التجريد : 422.
3- انظر : المواقف : 296 ، شرح المواقف 8 / 102.

كلامه مطلقا ، نفسيا ولفظيا ، فما حال مذهب يعجز أهله - بحسب قواعده - عن إثبات امتناع أقبح الأشياء على اللّه تعالى؟!

والحال أنّ امتناعه من أوّل الضروريّات ، بل بمقتضى إسنادهم جميع القبائح إليه سبحانه ، يكون صدور الكذب منه تعالى مستقربا ، بل هو واقع عندهم ؛ لأنّه الخالق لكذب الناس في الإخبار عنه تعالى!

فكما يكون كذبا منه أن يخلق الكلام الكاذب على لسان ملك أو نبيّ أو شجرة ، يكون كذبا منه أن يخلقه على ألسنة سائر الناس.

وليس كذبه سبحانه في الكلام اللفظي إلّا بهذا النحو ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا قوله : « إنّ القول بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه ، لا يستلزم إسناد القبائح إليه ؛ لأنّ فعل القبائح من مباشرة العبد » ..

فهو سفسطة عند العقلاء ، إذ كيف يصحّ عند عاقل نسبة القبح إلى المحلّ الذي لا أثر له فيه ألبتّة وعدم نسبته إلى خالقه وموجده؟!

على إنّه يلزم منه أن لا يمتنع الكذب منه تعالى على لسان ملك أو نبيّ ؛ لأنّه بمباشرتهما ، فكيف التزموا بامتناع الكذب منه تعالى في الكلام اللفظي؟!

ولا يخفى أنّ المصنّف لم ينسب إلى القوم أنّه تعالى لا بدّ أن يكذب في كلامه ، فلا معنى لقول الخصم : « ثمّ من خلق القبائح فلا بدّ أن يكذب ».

ولو نسب إليهم وقوع الكذب منه سبحانه لكان حقّا ؛ لخلقه سبحانه - عندهم - للكذب في الإخبار عنه على ألسنة العاصين ، كما عرفت.

* * *

ص: 265

ص: 266

صفاته عين ذاته

اشارة

قال المصنّف - طيّب اللّه رمسه - (1) :

المبحث الثامن : في أنّه تعالى لا يشاركه شيء في القدم

اشارة

العقل والسمع متطابقان على إنّه تعالى مخصوص بالقدم ، وإنّه ليس في الأزل سواه ؛ لأنّ كلّ ما عداه سبحانه [ وتعالى ] ممكن ، وكلّ ممكن حادث (2).

وقال تعالى : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (3).

وأثبت الأشاعرة معه معاني قديمة ثمانية ، هي علل في الصفات : كالقدرة والعلم والحياة .. إلى غير ذلك (4).

ص: 267


1- نهج الحقّ : 64 - 65.
2- انظر مثلا : أوائل المقالات - المطبوع ضمن المجلّد 4 من « مصنّفات الشيخ المفيد » - : 51 رقم 18 ، شرح جمل العلم والعمل : 50 ، تقريب المعارف : 75 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 59 ، المنقذ من التقليد 1 / 70 ، تلخيص المحصّل : 123 ، المسائل الخمسون : 27 المسألة 3.
3- سورة الحديد 57 : 3.
4- (4) لا خلاف بينهم في ثبوت تلك المعاني ، غير إنّهم اتّفقوا على سبعة منها ، هي : الحياة ، العلم ، القدرة ، الإرادة ، السمع ، البصر ، الكلام ، واختلفوا في تسمية ما زاد عليها ؛ انظر ذلك في : تمهيد الأوائل : 227 ، الاقتصاد في الاعتقاد - للغزالي -: 84 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 82/1 ، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين : 120 و 270 ، شرح المقاصد 69/4 - 70 ، شرح المؤلف 44/8 - 45 و 104.

ولزمهم من ذلك محالات :

منها : إثبات قديم غير اللّه تعالى .. قال فخر الدين الرازي : النصارى كفروا بأنّهم أثبتوا ثلاثة قدماء ، وأصحابنا قد أثبتوا تسعة (1)!

ومنها : إنّه يلزمهم افتقار اللّه تعالى - في كونه عالما - إلى إثبات معنى ، هو : العلم ، ولولاه لم يكن عالما ، وافتقاره في كونه تعالى قادرا إلى القدرة ، ولولاها لم يكن قادرا ؛ وكذلك باقي الصفات.

واللّه تعالى منزّه عن الحاجة والافتقار ؛ لأنّ كلّ مفتقر إلى الغير فهو ممكن.

ومنها : إنّه يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى ، وهو محال.

بيان الملازمة : إنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بما عداه ، فإنّ من شرط العلم : المطابقة ؛ ومحال أن يطابق الشيء الواحد أمورا متغايرة متخالفة في الذات والحقيقة.

لكنّ المعلومات غير متناهية ، فيكون له علوم غير متناهية ، لا مرّة واحدة ، بل مرارا غير متناهية ، باعتبار كلّ علم يفرض في كلّ مرتبة من المراتب الغير المتناهية ؛ لأنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء.

ص: 268


1- انظر مؤدّاه في : الأربعين في أصول الدين 1 / 224 ، وعقّب الفخر الرازي على ذلك قائلا : وكان كفره أعظم من كفر النصارى بثلاث مرّات!

ثمّ العلم بالعلم بالشيء مغاير للعلم بالعلم بالعلم بذلك الشيء ..

وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وفي كلّ واحدة من هذه المراتب علوم غير متناهية.

وهذا عين السفسطة لعدم تعقّله بالمرّة.

ومنها : إنّه تعالى لو كان موصوفا بهذه الصفات ، وكانت قائمة بذاته تعالى ، كانت حقيقة الإلهية مركّبة ، وكلّ مركّب محتاج إلى جزئه ، وجزؤه غيره ، فيكون اللّه تعالى محتاجا إلى غيره ، فيكون ممكنا.

وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين علیه السلام حيث قال : « أوّل الدّين معرفته ، وكمال معرفته التّصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه [ سبحانه ] فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (1).

ومنها : إنّهم ارتكبوا هنا ما هو معلوم البطلان ، وهو أنّهم قالوا : إنّ هذه المعاني لا هي نفس الذات ، ولا مغايرة لها (2).

وهذا غير معقول! لأنّ الشيء إذا نسب إلى آخر ، فإمّا أن يكون هو هو ، أو غيره ، ولا يعقل سلبهما معا!

* * *

ص: 269


1- نهج البلاغة : 39 خطبة رقم 1 ، في ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم علیه السلام .
2- الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 82 ، شرح المقاصد 4 / 70.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى له صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته ، فهو عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، ومريد بإرادة .. وعلى هذا القياس (2).

والدليل عليه : إنّنا نفهم الصفات الإلهية من صفات الشاهد ، وكون علّة (3) الشيء عالما - في الشاهد - هي العلم ؛ فكذا في الغائب.

وحدّ العالم - هاهنا - من قام به العلم ، فكذا حدّه هناك ، وشرط صدق المشتقّ على واحد منّا : ثبوت أصله ؛ فكذا [ شرط ] في ما (4) غاب عنّا ، وكذا القياس في باقي الصفات.

ثمّ نأخذ هذا من عرف اللغة وإطلاقات العرف ، فإنّ العالم لا شكّ أنّه من يقوم به العلم ، ولو قلنا بنفي الصفات لكذّبنا نصوص الكتاب والسنّة ، فإنّ اللّه تعالى في كتابه أثبت الصفات [ لنفسه ، كقوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ ) (5) ..

فإذا ثبت في النصوص إثبات الصفات ] له ، فلا بدّ لنا من الإثبات من غير تأويل ، فإنّ الاضطرار إلى التأويل إنّما يكون بعد العجز عن الإجراء على حسب الواقع ؛ وذلك لدلالة الدلائل العقلية على امتناع إجرائه على

ص: 270


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 234 - 236.
2- شرح المواقف 8 / 44 - 45 ، وانظر أيضا : الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 82.
3- كذا في الأصل والمصدر ، والظاهر أنّها : « وعلّة كون ... » كما سيأتي في أوّل كلام الشيخ المظفّر قدس سره الصفحة 274.
4- في المصدر : من.
5- سورة البقرة 2 : 255.

حسب ظاهره ، وها هنا ليس كذلك ، فوجب الإجراء على الظاهر من غير تأويل.

وعندي : إنّ هذا هو العمدة في إثبات الصفات الزائدة ، فإنّ الاستدلالات العقليّة على إثباتها مدخولة ، واللّه أعلم.

ثمّ ما استدلّ به هذا الرجل - على نفي الصفات الزائدة - من الوجوه ، فكلّها مجاب :

الأوّل : استدلاله بأنّ كلّ ما عداه ممكن ، وكلّ ممكن حادث.

فنقول : سلّمنا أنّ كلّ ما عداه ممكن ، ولكن نقول في المقدّمة الثانية :

إنّ كلّ ممكن ممّا عدا صفاته فهو حادث ؛ لأنّ صفاته لا هو ولا غيره ، كما سنبيّن بعد هذا.

الثاني : الاستدلال بلزوم إثبات قديم غير اللّه تعالى ، وإثبات القدماء كفر ، وبه كفرت النصارى.

الجواب : إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة ، لا إثبات ذات وصفات قدماء (1) ، هي ليست غير الذات مباينة كلّية ، مثلا : علم زيد ليس غير زيد بالكلّية ، فلو كان علم زيد قديما فرضا مثل زيد ، فأيّ نقص يعرض من هذا لزيد إذا كان متّصفا بالقدم؟! لأنّ علمه ليس غيره بالكلّية ، بل هو من صفات كماله.

الثالث : الاستدلال بلزوم افتقار اللّه تعالى في كونه عالما إلى إثبات معنى هو العلم ، ولولاه لم يكن عالما ، وكذا في باقي الصفات.

والجواب : إن أردتم باستكماله بالغير ثبوت صفات الكمال الزائدة

ص: 271


1- المواقف : 280 ، شرح المواقف 8 / 48.

على ذاته لذاته ، فهو جائز عندنا ، وليس فيه نقص ، وهو المتنازع فيه.

وإن أردتم به غيره ، فصوّروه أوّلا حتّى تفهموه (1) ، ثمّ تثبّتوا (2) لزومه لما ادّعينا.

والحاصل : إنّ المحال هو استفادته صفة كمال من غيره ، لا اتّصافه لذاته بصفة كمال هي غيره ؛ واللازم من مذهبنا هو الثاني لا الأوّل (3).

الرابع : الاستدلال بلزوم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القديمة (4) بذاته تعالى ؛ وذلك لأنّ العلم بالشيء مغاير للعلم بما عداه .. إلى آخر الدليل.

والجواب : إنّ العلم صفة واحدة قائمة بذاته تعالى ، ويتعدّد بحسب التعلّق بالمعلومات الغير المتناهية ، فله بحسب كلّ معلوم تعلّق ، فكما يتصوّر أن تكون المعلومات غير متناهية ، كذلك يجوز أن تكون تعلّقات العلم - الذي هو صفة واحدة - غير متناهية بحسب المعلومات ، وليس يلزم منه محال ، ولا (5) يلزم التسلسل المحال ؛ لفقدان شرط ( الترتّب في ) (6) الوجود (7).

الخامس : الاستدلال بأنّه لو كان موصوفا بهذه الصفات ، لزم كون الحقيقة الإلهية مركّبة ، ويلزم منه الاحتياج.

ص: 272


1- في شرح المواقف : نفهمه.
2- في المصدر : بيّنوا.
3- شرح المواقف 8 / 48.
4- في المصدر : القائمة.
5- في المصدر : فلا.
6- في المصدر : الترتّب و.
7- انظر : المواقف : 288 ، شرح المواقف 8 / 73 و 79.

والجواب : إنّ المراد بالحقيقة الإلهية إن كان الذات ، فلا يلزم من إثبات الصفات الزائدة تركّب في الذات.

وإن كان المراد أنّ هناك ذاتا وصفات متعدّدة قائمة بتلك الذات ، فليس إلّا ملاحظة الموصوف مع الصفات.

ثمّ إنّ احتياج الواجب إلى ما هو غيره يوجب الإمكان كما قدّمنا.

وأمّا ما استدلّ به من كلام أمير المؤمنين علیه السلام ، فالمراد من نفي الصفات يمكن أن يكون صفات تكون هي غير الذات بالكلّية ، وليس ها هنا كذلك.

السادس : الاستدلال بلزوم ارتكاب ما هو معلوم البطلان ها هنا ...

وهو أنّ هذه المعاني لا هي عين الذات ، ولا غيرها ؛ وهذا غير معقول.

والجواب : إنّ المراد بعدم كون الصفات عين الذات ، أنّها مغايرة للذات في الوجود ؛ وكونها غير مغايرة لها ، أنّها صفات للذات ، فليس بينهما مغايرة كلّية بحيث يصحّ إطلاق كونها مغايرة للذات بالكلّية ، كما يقال : إنّ علم زيد ليس عين زيد ؛ لأنّه صفة له ، وليس غيره بالكلّية ؛ لأنّه قائم به ، وهذه الواسطة على هذا المعنى صحيحة ؛ لأنّ سلب العينيّة باعتبار ، وسلب الغيرية باعتبار آخر ، فكلا السلبين يمكن تحقّقهما معا.

* * *

ص: 273

وأقول :

لا ريب ببطلان قياس الغائب على الشاهد ؛ لأنّ القياس لا يصحّ إلّا بإثبات علّة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه ، وإثباتها في المقام باطل ؛ لاختلاف الشاهد والغائب بالحقيقة.

فيمكن أن تكون خصوصية الشاهد شرطا في الحكم ، أو كون خصوصية الغائب مانعة عنه.

على إنّ دعوى أنّ علّة كون الشاهد عالما هي العلم ، فتكون علّة كون الغائب عالما هي العلم ، فيكون علمه زائدا على ذاته ، موقوفة على اتّحاد علم الغائب وعلم الشاهد ، واتّحاد كيفية ثبوتهما ، ليصحّ إثبات العلّيّة لعلم الغائب.

فلو أريد إثبات معرفة حقيقة علم الغائب ، أو كيفية ثبوته له ، من علّيّته ، جاء الدور!

وكيف يصحّ الحكم بالاتّحاد وبصحّة القياس؟! والحال أنّ أهل هذا القياس قائلون باختلاف مقتضى صفات الشاهد والغائب ؛ لأنّهم يزعمون أنّ القدرة في الشاهد لا تؤثّر إيجادا ، والإرادة فيه لا تخصّص أصلا ، بخلافهما في الغائب.

وكذا الحال في بقية الصفات.

هذا ، ومن القبيح على الفضل وأصحابه ذكره لهذا الدليل الواضح البطلان ، مع علمه بإبطالهم له ؛ لأنّه أخذه من « المواقف » وشرحها ، وقد

ص: 274

أبطلاه ببعض ما ذكرناه وغيره (1).

وأقبح من ذلك قوله : « ثمّ نأخذ هذا من عرف اللغة وإطلاقات العرف » ..

إذ كيف يأخذه منهما والمسألة عقليّة؟! إلّا أن يدّعي أنّ أخذه منهما بلحاظ دلالتهما ظنّا على المراد الشرعي المستلزم لحكم العقل! لكنّ الشأن في الدلالة ؛ لما سبق من أنّ المشتقّ إنّما يدلّ وضعا على الملابسة بين المبدأ والذات ، وهي أعمّ من أن تكون بنحو الحلول كما في الحيّ والميّت ، وبنحو الإيجاد كما في الخالق والرازق .. إلى غير ذلك ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.

فمن أين علم أنّ ملابسة الغائب للقدرة ، والعلم ، والحياة ، والإرادة ، ونحوها ، مثل ملابسة الشاهد لها؟! فلعلّها بالانتزاع ، ومجرّد اتّحاد اللفظ لا أثر له ، لا سيّما وقد دلّ النقل على إرادة الانتزاع ..

قال تعالى : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (2) ، فإنّه دالّ على إنّه تعالى مخصوص بالقدم ، فلا يمكن أن تكون ملابسته لتلك الصفات بالحلول في القدم.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ) (3) ، فخطأ ظاهر ؛ إذ لا يقتضي إثبات العلم له تعالى أن يكون العلم أمرا خارجيا زائدا على ذاته ، فإنّه كما تثبت له الأمور الخارجية ، تثبت له الأمور الاعتبارية والانتزاعية ، كالملكية ، والوحدانية ، والقدم ، ووجوب

ص: 275


1- المواقف : 279 - 280 ، شرح المواقف 8 / 45 - 48.
2- سورة الحديد 57 : 3.
3- سورة البقرة 2 : 255.

الوجود ، ونحوها.

فظهر أنّ عمدة الخصم واهية ، ولا سيّما مع النصّ بقوله تعالى : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) ، الذي تغافل الخصم عنه مع ذكر المصنّف له!

وأمّا إنكاره لكلّية الكبرى القائلة : « كلّ ممكن حادث » - بحجّة أنّ صفاته ليست عينه ولا غيره - فممّا لا معنى له ؛ لأنّ كون صفاته تعالى لا هو ولا غيره لا يقتضي إمكانها وقدمها ، على إنّه اصطلاح محض لا ينفي المغايرة الواقعية ، ولذا التزموا بزيادة صفاته تعالى وجودا على ذاته!

ثمّ إنّه لو كانت صفاته تعالى ممكنة زائدة على ذاته لاحتاجت إلى تأثيره فيها.

وتأثيره فيها إمّا بالاختيار ، وهو يستلزم الدور ، أو التسلسل ؛ لتوقّف إيجاد كلّ صفة على الحياة والعلم والقدرة والإرادة ، فإن توقّفت على أنفسها دار ، وإلّا تسلسل ، مع استلزام التسلسل لحدوثها.

وإمّا بالإيجاب - كما هو مذهبهم - فيلزم عدم مقدورية صفاته له تعالى مع إمكانها ؛ لأنّ ذاته تعالى واجبة ، فما يجب عنها لنفسها يمتنع أن تتعلّق به القدرة ، ويلزم أن يكون البسيط فاعلا وقابلا ، وهو ممتنع ؛ لتنافي الفعل والقبول مع وحدة النسبة حقيقة - كما في المقام - ، فإنّ نسبة الفعل قائمة بين المنتسبين اللذين وقعت بينهما نسبة القبول ، فالنسبة واحدة بالذات وإن تعدّدت بالاعتبار.

وإنّما قلنا بتنافيهما لتنافي لازميهما ؛ لأنّ نسبة الفعل ضرورية لكون الفاعل موجبا فرضا ، ونسبة القبول ممكنة بالإمكان الخاصّ ، إذ لا يتصوّر استقلال القابل بالقبول حتّى يمكن أن تكون نسبته ضرورية.

ص: 276

وأجيب بأنّ الجهة متعدّدة ، وهي جهة الفاعلية والقابلية ، فلا محذور في اجتماع الضرورة وعدمها ؛ لكونهما من جهتين.

وفيه : إنّ تعدّد الجهات لا يصحّح اجتماع المتنافيين في نسبة واحدة شخصية.

نعم ، إذا استوجب تعدّد الجهة ، تعدّد النسبة حقيقة ، لا اعتبارا فقط ، كان نافعا لهم ، لكنّه خلاف الواقع.

وبالجملة : يلزم من كونه تعالى موجبا أن يكون فاعلا قابلا ، فتكون نسبة الصدور بينه وبين صفاته واجبة وغير واجبة ؛ وهو ممتنع.

وأيضا : يلزم صدور المتعدّد - وهو صفاته - من الموجب الواحد من جميع الجهات - وهو ذاته تعالى - ، وهو باطل ؛ لأنّ كون الشيء موجبا وعلّة لشيء ، ليس إلّا لخصوصية فيه تقتضي الإيجاب والعلّيّة لذلك المعلول ، وإلّا لصحّ أن يكون كلّ شيء موجبا وعلّة لكلّ شيء.

ولا ريب أنّ فرض وحدة الموجب من جميع الجهات يستدعي وحدة خصوصيّته ، وتلك الخصوصية الواحدة لا يمكن أن تقتضي أمرين مختلفين ، لعدم إمكان مناسبتها لهما على اختلافهما ، ولا يتصوّر - بناء على زيادة الصفات - أن تكون في الذات البسيطة من جميع الجهات ، جهات اعتبارية ، بسبب تعدّدها تصدر الصفات المتعدّدة عن الذات ، وفرض تعدّد الجهات بتعدّد السلوب باطل ؛ لأنّ السلوب لا تستلزم تكثّر الواحد الحقيقي ولو اعتبارا.

ولو سلّم ، فليس في السلوب معان وخصوصيات تناسب تأثير الذات في صفاتها حتّى ينفع تعدّدها اعتبارا.

ص: 277

هذا ، ومن العجب التزامهم بكونه تعالى موجبا لصفاته مع قول أكثرهم بأنّ علّة الحاجة إلى التأثير هو الحدوث لا الإمكان!!

إذ بناء على هذا يمكن أن تكون صفاته تعالى موجودة في القدم بلا إيجاده ، بل بالاستقلال!

وأمّا ما أجاب به عن المحال الأوّل ، فباطل ؛ إذ لا أثر لتسمية القدماء ذوات في الكفر ، بل الأثر للقول بتعدّد القدماء ، ضرورة أنّهم يقولون بتعدّد الوجود حقيقة.

نعم ، يفترق الأشاعرة عن النصارى بأنّهم لا يقولون : إنّ القدماء آلهة ، بخلاف النصارى.

ولكن فيه : إنّ مذهب الأشاعرة يقتضي أن تكون حقيقة الإله مركّبة من الذات والصفات (1) ؛ لأنّ الذات المجرّدة خالية عن جهة الإلهية بدون الصفات ، فيقاربون النصارى ، بل لعلّهم متّفقون ، إذ لعلّ النصارى أيضا يجعلون الإله مركّبا ، ولذا يقولون : الثلاثة واحد ؛ فالتعدّد عند الفريقين بالأجزاء لا بالجزئيات ، واللّه أعلم.

وأمّا جوابه عن ثاني المحالات ، فلا ربط له بإشكال المصنّف ؛ لأنّ المصنّف رتّب إمكان الواجب على افتقاره إلى صفاته ، لا نقصه على استكماله بها ؛ لكن لمّا كانت عادته أخذ ما في « المواقف » وشرحها ، أورد لفظهما بعينه جهلا بعدم انطباقه على المورد (2)!

على إنّ إنكار النقص مكابرة ظاهرة! كيف؟! وحقيقة مذهبهم أنّ

ص: 278


1- انظر : الأربعين في أصول الدين 1 / 230 - 231 ، شرح المواقف 8 / 47 - 48.
2- انظر : المواقف : 280 ، شرح المواقف 8 / 48.

ذاته تعالى بنفسها خالية عن جهات الكمال ؛ وإلّا لما احتاجت إلى الاستكمال!

ومجرّد كون المكمّل له : صفات له ، لا يؤثّر في دفع النقص عنه بعد أن كانت غيره في الوجود ، كما لا ترفع النقص الحقيقي عن الحجر لو اتّصف بها ، سواء كان اتّصافه بها من نفسه بالإيجاب أم من غيره ؛ غاية الأمر أنّه إذا كان من غيره يكون بقاء النقص أشدّ.

وأمّا جوابه عن ثالث المحالات ، فيظهر ما فيه بعد بيان مراد المصنّف رحمه اللّه ، فنقول :

قد ذكر في هذا المحال إشكالين :

الأوّل : إنّه بناء على كون العلم صفة زائدة وجودية ، يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى ، لتعدّد العلوم بتعدّد المعلومات ؛ والمعلومات غير متناهية.

أجاب الأشاعرة بأنّ العلم واحد ، والتعدّد في التعلّقات ، والتعلّقات إضافية (1) ، فيجوز لا تناهيها كما ذكره الخصم في المقام.

وهو غير صحيح ؛ لما بيّنه المصنّف من أنّ شرط العلم : المطابقة ؛ ومحال أن يطابق الشيء الواحد مطابقة حقيقية أمورا مختلفة ، فلا بدّ أن يكون المتعدّد هو العلوم لا التعلّقات فقط ، ولمّا لم يدر الخصم ما هذا وما الجواب عنه ، ترك التعرّض له!!

الثاني : إنّه لو كان العلم صفة وجودية زائدة على ذاته تعالى ، لزم أن

ص: 279


1- انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 147 ، شرح المقاصد 4 / 87 - 88 ، شرح المواقف 8 / 73.

يكون علمه بعلمه زائدا على علمه ، وتتسلسل العلوم الموجودة إلى ما لا نهاية له.

وقد جمع المصنّف الإشكالين معا بما حاصله : إنّه يلزمهم إثبات علوم وجودية قائمة بذاته تعالى غير متناهية ، بتسلسلات غير متناهية ، فيثبت في كلّ مرتبة من مراتب التسلسل علوم غير متناهية ، وهو غير معقول.

وقد أحسّ الخصم بإشكال التسلسل ، ولكن لم يعرف وجهه!

فأجاب بأنّه لا يلزم التسلسل المحال ؛ لفقدان شرط الترتّب في الوجود ؛ فإنّه لو فهم كيفية التسلسل لما أنكر الترتّب.

وقد يجاب عن إشكال التسلسل بما يستفاد من « المواقف » وشرحها ، بأنّه تسلسل في الإضافات لا في الأمور الوجودية ؛ لأنّ علمه تعالى واحد ، وله تعلّقات بمعلومات لا تتناهى ، من جملتها علمه الذي يخالفه العلم به بالاعتبار دون الذات (1).

ويرد عليه : إنّه إذا اتّحد علمه تعالى ، وعلمه بعلمه ، واختلفا بالاعتبار ، كان الأولى في الجواب أن يقال : إنّه تسلسل في العلوم الاعتبارية ، إذ لا وجه للعدول عنه والجواب بأنّه تسلسل في الإضافات.

والحال : إنّ الإشكال إنّما هو في تسلسل العلوم ..

وكيف كان ، فكلا الجوابين باطل!

أمّا الجواب بأنّه تسلسل في الإضافات ، فلما عرفت من أنّ شرط العلم المطابقة ، ولا يعقل مطابقة العلم الواحد لمعلومات مختلفة ،

ص: 280


1- المواقف : 289 ، شرح المواقف 8 / 78.

فلا يمكن الالتزام بتسلسل الإضافات والتعلّقات دون العلوم.

وأمّا الجواب بتسلسل العلوم الاعتبارية ، فلأنّه - بعد فرض أنّ علمه تعالى صفة وجودية - لم يدرك العقل فرقا بين علمه تعالى ، و [ بين ] (1) علمه بعلمه ، حتّى يقال : إنّ الأوّل حقيقي وغيره اعتباري ، فإنّ الجميع علمه ، وعلمه صفة وجودية عندهم ، والتحكّمات الباردة لا أثر لها عند ذي المعرفة.

ولا يرد النقض علينا بعلمه تعالى على مذهبنا ؛ لأنّ علمه تعالى عندنا عين ذاته ، وليس هناك إلّا انكشاف المعلومات له ، فلا يتصوّر اعتبار مطابقة ذاته للمعلومات.

نعم ، يمكن فرض مطابقة علمه لها بمجرّد الاعتبار الذي لا تضرّ معه المطابقة ، لأمور غير متناهية ، في مراتب غير متناهية.

وأمّا ما أجاب [ به ] (2) عن المحال الرابع ، فغير منطبق بكلا شقّي الترديد فيه على مراد المصنّف رحمه اللّه ، فإنّه أراد أنّه لو كانت الصفات زائدة على ذاته تعالى لزم التركيب في حقيقة الإله ؛ لأنّ الذات في نفسها - مع قطع النظر عن الحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من الصفات - خالية عن مقتضيات الإلهية ، فإذا كان الإله هو المركّب من الذات والصفات ، ولا إله إلّا اللّه ، كان اللّه سبحانه مركّبا ، والتركيب ينفي الوجوب ...

مع إنّ القول بإلهية المركّب - لا الذات - في نفسها كفر بالإجماع والضرورة.

وأمّا تخصيصه لكلام أمير المؤمنين علیه السلام بصفات هي غير الذات

ص: 281


1- أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.
2- أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.

بالكلّيّة ، فتخصيص بلا شاهد ، مع إنّه إنّما ينفع إذا كان القول بأنّ صفاته ليست عين ذاته ولا غيرها رافعا لإشكال التركيب والخروج عن الوجوب ، وهو بالضرورة ليس كذلك ؛ لأنّه اعتذار لفظي فقط لا يغيّر قولهم بزيادة الصفات على الذات الذي جاء الإشكال من قبله.

هذا ، ويمكن أن يشير أمير المؤمنين علیه السلام بكلامه المذكور إلى المحال الثاني ، ويكون حاصله :

من وصف اللّه سبحانه فقد قرنه بغيره ؛ وهو صفاته ..

ومن قرنه بغيره فقد ثنّاه بواجب آخر ؛ لما عرفت من أنّ صفاته تعالى لا يمكن أن تصدر عنه بالاختيار أو الإيجاب ، فتكون واجبة الوجود بنفسها ، أو منتهية إلى واجب آخر صفاته عين ذاته ، فيتعدّد الواجب ..

ومن عدّده وثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد صيّره ممكنا وجهله.

واللّه ووليّه أعلم.

وأمّا ما أجاب به عن المحال الخامس ، فحاصله :

إنّ قولنا : « الصفات ليست عين الذات ، ولا غيرها » اصطلاح لفظي ناشئ من اعتبارين.

وفيه : إنّا رأيناهم يجيبون به عن الإلزامات الحقيقية المبنيّة على مغايرة الذات للصفات حقيقة - كما سمعت بعضها - ، فكيف يكون اصطلاحا واعتبارا مجرّدا؟!

وبالجملة : إن أرادوا به الحقيقة ، فهو غير معقول ، كما بيّنه المصنّف رحمه اللّه .

وإن أرادوا به الاعتبار والاصطلاح ، فلا مشاحّة.

ص: 282

لكن ما بالهم يجيبون به عن الأمور المبنيّة على الحقائق؟! فلا بدّ أنّهم أخطأوا على أحد الوجهين!

* * *

ص: 283

ص: 284

البقاء ليس زائدا على الذات

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المبحث التاسع : في البقاء

اشارة

وفيه مطلبان :

[ المطلب] الأوّل : إنّه ليس زائدا على الذات
اشارة

وذهب الأشاعرة إلى أنّ الباقي إنّما يبقى ببقاء زائد على ذاته ، وهو عرض قائم بالباقي ، وأنّ اللّه تعالى باق ببقاء قائم بذاته (2).

ولزمهم من ذلك المحال - الذي تجزم الضرورة ببطلانه - من وجوه :

الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزمهم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال بالضرورة.

بيان الملازمة : إنّ الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود ، كذا

ص: 285


1- نهج الحقّ : 65 - 67.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 259 وما بعدها ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 252 ، شرح المقاصد 4 / 164 - 168 ، شرح المواقف 8 / 106 ، شرح التجريد : 422 - 423.

يتحقّق في جانب العدم ؛ لإمكان تقسيم المستمرّ إليهما ، ومورد القسمة مشترك ؛ ولأنّ معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر.

وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار ، فإن احتاج كلّ منهما إلى صاحبه ؛ دار ..

وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر ، أمكن تحقّق كلّ منهما بدون صاحبه ، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس ؛ وهو باطل بالضرورة ..

وإن احتاج أحدهما [ إلى صاحبه ] خاصة ، انفكّ الآخر عنه ؛ وهو ضروري البطلان.

الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ؛ لأنّ البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر ..

فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر - الذي فرض باقيا - كان كلّ من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه ؛ وهو عين الدور المحال.

وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره ، لزم قيام الصفة بغير الموصوف ؛ وهو غير معقول.

أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، فجاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني ، وهو خطأ ؛ لأنّه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا [ مجرّدا ] ، والبقاء لا يعقل إلّا عرضا قائما بغيره.

وأيضا : يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات ، وتكون الذات بالوصفيّة أولى منه ؛ لأنّه مجرّد مستغن عن الذات ، والذات محتاجة إليه ..

والمحتاج أولى بالوصفيّة من المستغني ، والمستغني أولى بالذاتية من

ص: 286

المحتاج ؛ ولأنّه يقتضي بقاء جميع الأشياء ؛ لعدم اختصاصه بذات دون أخرى.

الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا عن هذا البقاء ، كان وجوده في الزمان الثاني كذلك ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء وبعض أفرادها غنيا عنه.

* * *

ص: 287

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

اتّفق المتكلّمون على إنّه تعالى باق ، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتيّة زائدة أو لا؟

فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه ، وجمهور معتزلة بغداد (2) إلى أنّه صفة ثبوتية زائدة على الوجود ، إذ الوجود متحقّق دونه [ أي دون البقاء ] كما في أوّل الحدوث ، بل يتجدّد بعده صفة هي البقاء (3).

ونفى كون البقاء صفة موجودة زائدة كثير من الأشاعرة ، كالقاضي أبي بكر ، وإمام الحرمين ، والإمام الرازي (4) ، وجمهور معتزلة

ص: 288


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 247 - 249.
2- منهم : بشر بن المعتمر الهلالي ( ت 210 ه ) ، وثمامة بن الأشرس البصري ( ت 213 ه ) ، وأبو جعفر محمّد بن عبد اللّه الإسكافي ( ت 240 ه ) ، وعيسى بن الهيثم الصوفي الخيّاط ( ت 245 ه ) ، وأبو القاسم عبد اللّه بن أحمد البلخي الكعبي ( ت 319 ه ).
3- انظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 259 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 252 ، شرح المواقف 8 / 106.
4- أمّا القاضي أبو بكر فهو : محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلّاني ، المتكلّم ، المالكي مذهبا ، الأشعري اعتقادا وطريقة. ولد سنة 338 ه- ، وسكن بغداد وتوفّي بها سنة 403 ه- ، من تصانيفه : إعجاز القرآن ، الملل والنحل ، وهداية المسترشدين في الكلام ، وتمهيد الأوائل ، والإنصاف . أنظر في ترجمته : ترتيب المدارك 2 / 585 ، وفيات الأعيان 269/4 رقم 608 ، سیر أعلام النبلاء 17 / 190 رقم 110 ، شذرات الذهب 168/3 ، هدية العارفين 59/6. وأما إمام الحرمين فهو : ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد اللّه بن يوسف الجويني ، الفقيه الشافعي . ولد سنة 419 ه- ، قدم بغداد ثم سافر وجاور مكة والمدينة ، ورجع إلى نيسابور يدرس العلم ، ويعظ ، إلى أن توفّي بها سنة 478ه- ؛ من تصانيفه : الإرشاد في علم الكلام ، البرهان في الاصول، غياث الامم ، نهاية المطلب . أنظر في ترجمته : وفيات الأعيان 167/3 رقم 378 ، سير أعلام النبلاء 18 / 468 رقم 240 ، طبقات الشافعية - للسبكي - 5/ 165 رقم 477 ، شذرات الذهب 3 / 358 ، هدية العارفين 626/5 . وأما الرازي فهو : أبو عبد اللّه فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن ، الفقيه الشافعي ، المعروف بابن الخطيب . ولد بالري سنة 543 ه- أو 544 ه- ، وتوفّي بمدينة هراة سنة 606 ه- ، له تصانيف كثيره في فنون عديدة ، منها : تفسير القرآن الكريم ، المطالب العالية ، نهاية العقول ، الأربعين في أصول الدين ، المحصل ، إبطال القياس . أنظر في ترجمته : وفيات الأعيان 248/4 رقم 600 ، سير أعلام النبلاء 21 / 500 رقم 261 ، طبقات الشافعية - للسبكي - 81/8 رقم 1089 ، شذرات الذهب 21/5 ، هدية العارفين 107/6 .

البصرة (1) ، وقالوا : البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني ، لا أمر زائد عليه (2).

ونحن ندفع ما أورده هذا الرجل على مذهب الشيخ الأشعري ، فنقول : أورد عليه ثلاث إيرادات :

الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ... إلى آخر الدليل.

ص: 289


1- منهم : واصل بن عطاء ( ت 131 ه ) ، وعمرو بن عبيد ( ت 141 ه ) ، وأبو بكر الأصمّ ( ت 200 ه ) ، وإبراهيم النظّام ( ت 231 ه ) ، وأبو الهذيل العلّاف ( ت 235 ه ) ، وأبو علي الجبّائي ( ت 303 ه ) ، وأبو هاشم الجبّائي ( ت 321 ه ).
2- انظر : الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 259 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 252 ، شرح المواقف 8 / 106.

والجواب : إنّ البقاء عني به استمرار الوجود ، لا الاستمرار المطلق حتّى يلزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ، فاندفع ما قال.

الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ...

ثمّ ذكر أنّ الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، ورتّب عليه أنّه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ...

وهذا الجواب افتراء عليهم! (1).

بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه ، وما قيل [ من ] أنّ وجوده في الزمان الثاني معلّل به ، ممنوع ؛ غاية ما في الباب أنّ وجوده فيه لا يكون إلّا مع البقاء ، وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علّة لوجوده فيه ، إذ يجوز أن يكون تحقّقهما معا على سبيل الاتّفاق (2).

فاندفع كلّ ما ذكر من المحذور.

الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا ، كان في الثاني كذلك.

والجواب : إنّ جميع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء في الزمان الثاني ، غنيّ عنه في الزمان الأوّل ، فلا يختلف أفراد الطبيعة في الاحتياج والغنى الذاتيّين ..

وهو حسب أنّ الوجود في الزمان الأوّل فرد ، وفي الزمان الثاني فرد آخر ، وهذا غاية جهله وعدم تدرّبه في شيء من المعقولات!

ص: 290


1- بل حكاه الفخر الرازي في : الأربعين في أصول الدين 1 / 260 - 261 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 253.
2- انظر : شرح المواقف 8 / 108.
وأقول :
اشارة

ما نقله عن الأشعري وأتباعه من أنّ تحقّق الوجود في أوّل الحدوث دون البقاء ، يدلّ على تجدّد صفة ثبوتية زائدة على الوجود هي البقاء ، ضروري البطلان ؛ لجواز أن يكون البقاء عين الوجود المستمرّ لا صفة زائدة متجدّدة.

ولو سلّم ، فلا يدلّ على كونها وجودية ، بل يجوز أن تكون اعتبارية - كما هو الحقّ - كمعيّة الباري سبحانه مع الحوادث المتجدّدة بتجدّد الحوادث.

وذكر شارح « المواقف » الجواب الأخير وعلم به الخصم (1) ، فإنّ ما ذكره من كيفية الخلاف قد أخذه من « المواقف » وشرحها (2) ، فكان الأحرى به تركه.

وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الأوّل ، ففيه :

إنّ حقيقة البقاء هي الاستمرار ، لكن إذا كان البقاء صفة للوجود ، كان عبارة عن استمرار الوجود من باب تعيين المورد ، لا أنّ حقيقة البقاء هي خصوص استمرار الوجود ، فإنّه لا يدّعيه عاقل ، وذلك نظير الوجود ، فإنّه عبارة عن الثبوت ، فإذا كان وصفا لزيد ، كان عبارة عن ثبوته ، ولا يصحّ أن يقال : إنّ معنى الوجود ثبوت زيد ؛ فحينئذ يتمّ كلام المصنّف.

ص: 291


1- شرح المواقف 8 / 107.
2- المواقف : 296 - 297 ، شرح المواقف 8 / 106 - 108.

وأمّا ما نقله عن الأشاعرة في الجواب عن الإيراد الثاني ، ففيه : إنّه لو لم تحتج الذات إلى البقاء ، وجاز أن يكون تحقّقهما على سبيل الاتّفاق ، لجاز انفكاك كلّ منهما عن صاحبه ؛ وهو غير معقول ؛ لا من طرف الذات ؛ لاستلزامه جواز أن لا تبقى ، فتكون ممكنة ؛ ولا من طرف البقاء ؛ لأنّ افتقار العرض إلى المعروض ضروري.

وأيضا : لو جاز أن يكون تحقّقهما اتّفاقيا ، لكان البقاء مستغنيا في نفسه عن الذات ، فيكون جوهرا ، وهو غير معقول ؛ ويكون واجبا إن استغنى عن غيرها أيضا ؛ أو ممكنا إن احتاج إليه ؛ ولا بدّ أن ينتهي إلى واجب آخر ، فيكون مع الذات واجب آخر ، ويلزم التركيب ويخرجان عن الوجوب.

وأيضا : لو استغنى البقاء عنها ، لكانت نسبته إلى جميع الأشياء على حدّ سواء ، فيثبت لجميع الأشياء ولا يختصّ بالذات.

فظهر أنّ ما نقله الخصم مشتمل على أكثر المفاسد التي ذكرها المصنّف وزيادة - وإن كان بعض ما زدناه واردا أيضا على ما نقله المصنّف عنهم - فأيّ حاجة للمصنّف في تغيير الجواب؟!

لكنّ الخصم لمّا لم يعرف غير « المواقف » ، يرى أنّ كلّ ما ليس فيها كذب ، على إنّ جواب « المواقف » وشرحها - الذي ذكره - مشتمل على ما نقله المصنّف ؛ لأنّهما إذا أجازا أن يكون اجتماع الذات والبقاء اتّفاقيا ، فقد قالا بعدم حاجة البقاء إلى المحلّ.

وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الثالث ، فأجنبيّ عن الإشكال .. لأنّ صريح كلام المصنّف هو أنّ الوجود المستمرّ لا يصحّ أن يكون في الزمن الأوّل غنيا عن البقاء ، وفي الزمن الثاني محتاجا إليه ..

ص: 292

وقد تخيّل أنّ مراد المصنّف هو اختلاف أفراد الوجود ، فبعضها غني عن البقاء في الزمن الأوّل ، محتاج إليه في الزمن الثاني ، والبعض الآخر ليس كذلك ، فأشكل عليه بعدم اختلاف أفراد الوجود بالغنى والاحتياج.

نعم ، مبنى الإشكال في كلام المصنّف على كون الوجود المستمرّ فردين للوجود : أحدهما : الوجود في الزمن الأوّل ، وثانيهما : الوجود في الزمن الثاني ..

فإنّه حينئذ لا يمكن احتياج ثانيهما إلى البقاء مع غنى أوّلهما عنه ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء ، وبعض أفرادها مستغنيا عنه ، وإنّما بنى الإشكال على كونهما فردين ؛ لأنّ التعدّد مقتضى قول الأشاعرة باختلاف الوجود في الزمانين بالغنى والحاجة إلى صفة البقاء ذاتا (1) ، فيكونان فردين من طبيعة واحدة حسب الفرض.

ولو بنى المصنّف رحمه اللّه الإشكال على القول بأنّ الوجود المستمرّ فرد واحد لا تزايد فيه ولا اشتداد ، لكان بطلان مذهب الأشعري أظهر ، إذ يمتنع أن يكون الفرد الواحد مختلفا بذاته بالاستغناء والحاجة في زمانين.

وقد كان الأولى بالمصنّف أن يذكر بطلان مذهب الأشعري على كلا الوجهين.

* * *

ص: 293


1- انظر مؤدّاه في شرح المواقف 8 / 106 - 107.

ص: 294

إنّه تعالى باق لذاته

اشارة

قال المصنّف - نوّر اللّه ضريحه - (1) :

المطلب الثاني : في أنّ اللّه تعالى باق لذاته

اشارة

الحقّ ذلك ؛ لأنّه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ، فلا يكون واجبا ؛ للتنافي الضروري بين الواجب والممكن.

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، وذهبوا إلى أنّه تعالى باق بالبقاء (2).

وهو خطأ لما تقدّم (3) ؛ ولأنّ البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثّره واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى ، مع إنّ ذاته محتاجة إلى البقاء ، فيدور.

وإن قام بغيره كان وصف الشيء حالّا في غيره ؛ ولأنّ غيره محدث.

وإن قام البقاء بذاته كان مجرّدا.

وأيضا : بقاؤه تعالى باق لامتناع تطرّق العدم إلى صفاته تعالى ؛ ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ، فيكون له بقاء آخر ، ويتسلسل.

ص: 295


1- نهج الحقّ : 67.
2- شرح المواقف 8 / 106 - 108.
3- راجع : المبحث التاسع ، الصفحة 285 وما بعدها.

وأيضا : صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى.

* * *

ص: 296

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت في ما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل ..

قوله : « لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ».

قلنا : الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان ، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا.

قوله : « ولأنّ البقاء إن قام بذاته لزم تكثّره ».

قلنا : لا يلزم التكثّر ؛ لأنّ الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلّيّة.

قوله : « احتاج البقاء إلى ذاته ، وذاته محتاجة إلى البقاء ، فيلزم الدور ».

قلنا : مندفع بعدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان معا كما سبق (2) ، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذات إليه ، بل هما متحقّقان معا.

قوله : « بقاؤه باق ».

قلنا : مسلّم ، فالبقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء ، كاتّصاف الوجود بالوجود.

قوله : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ».

قلنا : ممنوع ؛ لأنّا قائلون بقدمه.

قوله : « يكون له بقاء آخر ، ويتسلسل ».

قلنا : مندفع بما سبق من أنّ بقاء البقاء نفس البقاء.

ص: 297


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 252.
2- تقدّم في الصفحة 290 من هذا الجزء.

قوله : « صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى ».

قلنا : قد سبق أنّ الصفات ليست مغايرة للذات بالكلّيّة ، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات ، وتبقى الصفات ببقاء الذات ، فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى.

ص: 298

وأقول :

ما أجاب به عن لزوم إمكان الواجب مبنيّ على قولهم : إنّ صفاته ليست غير ذاته بالكلّيّة.

وقد عرفت أنّه لا طائل تحته ، إذ لا يرجع إلّا لإصلاح لفظي ، فإنّهم يقولون بزيادة الصفات في الوجود ، فتغاير الذات بالكلّيّة ، فيلزم إمكان الذات ، لحاجتها في الوجود إلى غيرها ، وهو البقاء ، ويلزم التكثّر.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم الدور ، من عدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان على سبيل الاتّفاق ، فقد عرفت في المبحث السابق ما فيه من المفاسد الكثيرة.

وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « بقاؤه باق » ، من أنّ بقاء البقاء عينه ، ففيه :

إنّه لو ساغ ذلك فلم لا يكون بقاء الذات عينها؟! مع إنّه باطل على مذهبهم ؛ لأنّهم زعموا أنّ القول بالعينية راجع إلى النفي المحض (1) ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن يكون تعالى عالما لا علم له ، وقادرا لا قدرة له ، وباقيا لا بقاء له ، وهكذا ...

فإذا قالوا : إنّ بقاء البقاء عينه ، كان البقاء باقيا لا بقاء له ، وهو باطل بزعمهم (2).

ص: 299


1- المواقف : 280.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 252 - 253 ، المواقف : 296 - 297 ، شرح المواقف 8 / 106 - 108.

وأيضا : دليلهم السابق الذي استدلّوا به على إنّ البقاء صفة ثبوتية زائدة على الذات وارد مثله في بقاء البقاء ..

فيقال : تحقّق البقاء في أوّل حدوثه دون بقاء البقاء ، دليل على تجدّد صفة بقاء البقاء وزيادتها على البقاء ، فيلزمهم أيضا أن يكون بقاء البقاء أيضا صفة ثبوتية متجدّدة زائدة على البقاء ، لا أنّها عينه.

وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث » ..

فهو دالّ على إنّه لم يفهم مراده ، فإنّه لم يدّع أنّ البقاء حادث حتّى يجيب بأنّا قائلون بقدمه ، بل أراد أن يستدلّ على قوله : « بقاؤه باق » بأمرين :

الأوّل : امتناع طرق العدم إلى صفاته.

الثاني : إنّه لو جاز عدم بقاء البقاء ، لكان البقاء حادثا ؛ لأنّ ما يجوز عدمه حادث ، ولو كان البقاء حادثا لكان الواجب محلّا للحوادث ، فلا بدّ أن يكون البقاء باقيا ، وهكذا .. ويتسلسل.

وغرض الخصم في ما أجاب به عن التسلسل أنّه تسلسل في الاعتباريات ، وهو ليس بمحال ؛ لأنّ بقاء البقاء نفس البقاء واقعا وإن خالفه اعتبارا.

وفيه : إنّه مستلزم لكون البقاء أيضا اعتباريا ، فلم قالوا : إنّه صفة وجوديّة؟! (1) وذلك لأنّ التماثل في الأفراد المتسلسلة يستدعي وحدة حقيقتها.

ص: 300


1- انظر : شرح المواقف 8 / 106.

قال في « شرح المواقف » بعد ذكر الماتن لهذا الجواب - أعني أنّ بقاء البقاء نفسه - : « ويرد على هذا الجواب أنّ ما تكرّر نوعه يجب كونه اعتباريا كما مرّ » (1).

ولا يخفى أنّ ما نسبه الخصم إلى قومه من قدم البقاء غير صحيح بمقتضى تعليلهم لزيادة البقاء على الذات ، فإنّهم علّلوه - كما سبق - بأنّ الوجود متحقّق دونه كما في أوّل الحدوث ؛ وهذا يدلّ على اعتبار المسبوقية بالعدم في ذات البقاء ، وهو يقتضي حدوثه.

وأمّا ما أجاب به عن إيراد المصنّف الأخير ، ففيه ما عرفت سابقا من أنّ نفي المغايرة اصطلاح محض ، فإنّهم إذا قالوا بزيادة الصفات على الذات في الوجود كانت المغايرة بينهما كلّيّة ، فيكون بقاء البقاء صفة للبقاء لا للذات ، وقائما به لا بالذات ، فيلزم قيام المعنى بالمعنى.

وهذا من المصنّف إلزامي لهم ، من حيث إنّ البقاء عندهم عرض وجودي ، وزعمهم أنّ العرض لا يقوم بالعرض (2) - كما ستعرفه قريبا إن شاء اللّه تعالى - ، وإلّا فهو لا يمنع من قيام العرض بالعرض - كما ستعرف -.

على إنّ كلّ بقاء عند المصنّف والإمامية أمر اعتباري (3) ، فيجوز أن يفرض قيامه بمثله حتّى لو منعنا قيام العرض بالعرض.

* * *

ص: 301


1- شرح المواقف 8 / 107.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 161 ، طوالع الأنوار : 104 ، مطالع الأنظار في شرح طوالع الأنوار : 73.
3- تلخيص المحصّل : 293.

ص: 302

البقاء يصحّ على الأجسام

اشارة

قال المصنّف - طيّب اللّه ثراه - (1) :

خاتمة

اشارة

تشتمل على حكمين :

[ الحكم ] الأوّل : البقاء يصحّ على الأجسام [ بأسرها ]
اشارة

البقاء يصحّ على الأجسام (2) [ بأسرها ]

وهذا حكم ضروري لا يقبل التشكيك ، وخالف فيه النظّام من الجمهور ، فذهب إلى امتناع بقاء الأجسام بأسرها ، بل كلّ آن يوجد فيه جسم ما ، يعدم ذلك الجسم في الآن الذي بعده ، ولا يمكن أن يبقى جسم من الأجسام - فلكيّها وعنصريّها ، بسيطها ومركّبها ، ناطقها وغيره - آنين (3).

ولا شكّ في بطلان هذا القول ؛ لقضاء الضرورة بأنّ الجسم الذي شاهدته حال فتح العين ، هو الذي شاهدته قبل تغميضها ، والمنكر لذلك

ص: 303


1- نهج الحقّ : 68.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 188 ، المواقف 250 ، شرح المواقف 7 / 231 ، أوائل المقالات : 98 ، تجريد الاعتقاد : 153.
3- الفرق بين الفرق : 126 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 188 ، المواقف : 103 ، أوائل المقالات : 98.

سوفسطائي.

بل السوفسطائي لا يشكّ في أنّ بدنه الذي كان بالأمس هو بدنه الذي كان الآن ، وأنّه لم يتبدّل بدنه من أوّل لحظة إلى آخرها ؛ وهؤلاء جزموا بالتبدّل.

* * *

ص: 304

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الجسم عند النظّام مركّب من مجموع أعراض مجتمعة (2) ، والعرض لا يبقى زمانين (3) لما سنذكر بعد هذا ، فالجسم أيضا يكون كذلك عنده.

والحقّ أنّ ضرورية موجودية البقاء ، وعدم جواز قيام العرض بالعرض (4) ، دعانا إلى الحكم بأنّ الأعراض لا تبقى زمانين ، وليست هذه الضرورة حاصلة في الأجسام ؛ لجواز قيام البقاء بالجسم.

وأمّا ما ذهب إليه النظّام أنّ الجسم مجموع الأعراض المجتمعة ، فباطل ؛ فمذهبه في عدم صحّة البقاء على الأجسام يكون باطلا ، كما ذكره.

* * *

ص: 305


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 256.
2- انظر : مقالات الإسلاميّين : 304 ، الفرق بين الفرق : 137 ، الملل والنحل 1 / 49 المسألة السابعة ، المواقف : 185.
3- الملل والنحل 1 / 84 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 162 - 163 ، المواقف : 101 و 245 ، شرح المقاصد 2 / 160 ، شرح المواقف 7 / 222.
4- انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 161 - 162 ، طوالع الأنوار : 104 ، المواقف : 100 - 103 ، شرح المقاصد 2 / 160.
وأقول :

قد عرفت أنّ دعوى موجودية البقاء زائدا على الوجود من أوضح الأمور بطلانا ، وأكثرها فسادا ، حتّى عند جملة من الأشاعرة (1) ، فكيف يدّعي ضرورة موجوديّته؟!

وأعجب منها دعوى الضرورة في عدم جواز قيام العرض بالعرض! والحال أنّ قيام البطء والسرعة بالحركة من أوضح الضروريات (2) ؛ وسيظهر لك الحال في المبحث الآتي إن شاء اللّه تعالى.

فمذهب الأشاعرة ، من أنّ العرض لا يبقى زمانين ، مخالف للضرورة.

وأعظم منه مخالفة لها مذهب النظّام ؛ لاشتماله على مذهب الأشاعرة ، وعلى إنّ الجسم مركّب من الأعراض.

* * *

ص: 306


1- راجع : الأربعين في أصول الدين 1 / 264 - 265 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 252 - 253 ، شرح المقاصد 4 / 166 - 167.
2- انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 289 ، منهاج اليقين في أصول الدين : 129.

البقاء يصحّ على الأعراض

اشارة

قال المصنّف - عطّر اللّه مثواه - (1) :

الحكم الثاني : في صحّة بقاء الأعراض

اشارة

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأعراض غير باقية ، بل كلّ لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحركة وسكون ، وحصول في مكان ، وحياة ، وعلم ، وقدرة ، وتركيب ، وغير ذلك من الأعراض ، فإنّه لا يجوز أن يوجد آنين متّصلين ، بل يجب عدمه في الآن الثاني من آن وجوده (2).

وهذه مكابرة للحسّ ، وتكذيب للضرورة الحاكمة بخلافه ، فإنّه لا حكم أجلى عند العقل من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ، وأنّه لم يعدم ولم يتغيّر.

وأيّ حكم أجلى عند العقل من هذا وأظهر منه؟!

ثمّ إنّه يلزم منه محالات :

ص: 307


1- نهج الحقّ : 68 - 71.
2- تمهيد الأوائل : 38 ، الملل والنحل 1 / 84 و 3 / 604 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 162 ، شرح المقاصد 4 / 43 ، شرح العقائد النسفية : 79 وما بعدها ، شرح المواقف 7 / 222 - 223.

الأوّل : أن يكون الإنسان وغيره يعدم في كلّ ان ثمّ يوجد في آن بعده ؛ لأنّ الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد التي فيه عندهم ، بل لا بدّ في تحقّق كونه إنسانا من أعراض قائمة بتلك الجواهر ، من لون ، وشكل ، ومقدار ، وغيرها من مشخّصاته.

ومعلوم بالضرورة أنّ كلّ عاقل يجد نفسه باقية لا تتغيّر في كلّ آن ، ومن خالف ذلك كان سوفسطائيا.

وهل إنكار السوفسطائيّين للقضايا الحسّية عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كلّ أحد بقاء ذاته وبقاء جميع المشاهدات آنين من الزمان؟!

فلينظر المقلّد المنصف في هذه المقالة التي ذهب إليها إمامه الذي قلّده ، ويعرض على عقله حكمه بها ، وهل يقصر حكمه ببقائه ، وبقاء المشاهدات عن أجلى الضروريات؟!

ويعلم أنّ إمامه الذي قلّده إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة ، فقد قلّد من لا يستحقّ التقليد ، وأنّه قد التجأ إلى ركن غير شديد ، وإن لم يقصر ذهنه فقد غشّه وأخفى عنه مذهبه ...

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من غشّنا فليس منّا » (1)

الثاني : إنّه يلزم تكذيب الحسّ الدالّ على الوحدة وعدم التغيّر ، كما تقدّم.

الثالث : إنّه لو لم يبق العرض إلّا آنا واحدا لم يدم نوعه (2) ، وكان

ص: 308


1- صحيح مسلم 1 / 69 ، المعجم الصغير - للطبراني - 1 / 261 ، المصنّف - لابن أبي شيبة - 5 / 383 ح 1 كتاب البيوع والأقضية / باب رقم 522 ، المستدرك على الصحيحين 2 / 11 ح 2155 وص 12 ح 2156.
2- وفي نسخة : لم يلزم تأييد نوعه ؛ منه قدس سره .

السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر ، بل جاز أن يحصل عقيبه بياض أو حمرة أو غير ذلك وأن لا يحصل شيء من الألوان ، إذ لا وجه لوجوب ذلك الحصول ، لكنّ دوامه يدلّ على وجوب بقائه.

الرابع : لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ ، لجوّز ذلك في الجسم ، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ.

وهذا الدليل لا يتمشّى ؛ لانتقاضه بالأعراض عندهم ، فيكون باطلا ، فلا يمكن الحكم ببقاء شيء من الأجسام آنين ، لكن الشكّ في ذلك عين السفسطة.

الخامس : إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي ضروري ، وإلّا لم يبق وثوق بشيء من القضايا البديهية.

وجاز أن ينقلب العالم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود ، فيستغني عن المؤثّر فيسدّ باب إثبات الصانع تعالى ، بل ويجوز انقلاب واجب الوجود إلى الامتناع (1) ، وهو ضروري البطلان.

وإذا تقرّر ذلك فنقول :

الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، فتكون كذلك في الآن الثاني ، وإلّا لزم الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ، وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء.

وقد احتجّوا بوجهين :

ص: 309


1- راجع : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 162 ، شرح التجريد : 43 ، ومؤدّاه في : طوالع الأنوار : 89.

الأوّل : البقاء عرض فلا يقوم بالعرض (1).

الثاني : إنّ العرض لو بقي لما عدم ؛ لأنّ عدمه لا يستند إلى ذاته ، وإلّا لكان ممتنعا ، ولا إلى الفاعل ؛ لأنّ أثر الفاعل الإيجاد ، ولا إلى طريان الضدّ ؛ لأنّ طريان الضدّ على المحلّ مشروط بعدم الضدّ الأوّل عنه.

فلو علّل ذلك العدم به دار ، ولا إلى انتفاء شرطه ؛ لأنّ شرطه الجوهر لا غير وهو باق ، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض (2).

والجواب عن الأوّل : المنع من كون البقاء عرضا زائدا على الذات ، سلّمنا ؛ لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله ، فإنّ السرعة والبطء عرضان قائمان بالحركة وهي عرض.

وعن الثاني : إنّه لم لا يعدم لذاته في الزمان الثالث ، كما يعدم عندكم لذاته في الزمان الثاني؟! سلّمنا ؛ لكن جاز أن يكون مشروطا بأعراض لا تبقى ، فإذا انقطع وجودها عدم ، سلّمنا ؛ لكن يستند إلى الفاعل ونمنع انحصار أثره في الإيجاد ، فإنّ العدم ممكن لا بدّ له من سبب ، سلّمنا ؛ لكن يعدم بحصول المانع ونمنع اشتراط طريان الثاني بعدم الضدّ الأوّل ، بل الأمر بالعكس.

وبالجملة : فالاستدلال على نقيض الضروري باطل ، كما في شبه السوفسطائية ، فإنّها لا تسمع لمّا كانت الاستدلالات في مقابل الضرورات.

* * *

ص: 310


1- المواقف : 101 ، شرح المقاصد 2 / 157.
2- انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 162 ، المواقف : 101 - 103.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ذهب الأشعري ومن تبعه من الأشاعرة إلى أنّ العرض لا يبقى زمانين (2).

فالأعراض جملتها غير باقية عندهم ، بل هي على التقضّي والتجدّد ينقضي منها واحد ويتجدّد آخر مثله (3).

وتخصيص كلّ من الآحاد المتقضّية المتجدّدة بوقته الذي وجد فيه ، إنّما هو للقادر المختار ، فإنّه تخصيص بمجرّد إرادته كلّ واحد منها بوقته الذي خلقه فيه ، وإن كان يمكن خلقه قبل ذلك الوقت وبعده.

وإنّما ذهبوا إلى ذلك ؛ لأنّهم قالوا : بأنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث ، فلزمهم استغناء العالم حال بقائه عن الصانع ، بحيث لو جاز عليه العدم - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - لما ضرّ عدمه في وجوده ، فدفعوا ذلك بأنّ شرط بقاء الجوهر هو العرض.

ولمّا كان هو متجدّدا محتاجا إلى المؤثّر دائما كان الجوهر أيضا حال بقائه محتاجا إلى ذلك المؤثّر بواسطة احتياج شرطه إليه ، فلا استغناء أصلا.

واستدلّوا على هذا المدّعى بوجوه :

منها : إنّها لو بقيت لكانت باقية متّصفة ببقاء قائم بها ، والبقاء عرض ،

ص: 311


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 259.
2- تمهيد الأوائل : 38 ، الملل والنحل 1 / 84 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 162 ، شرح المواقف 7 / 222.
3- ذكر ذلك الإيجي في المواقف : 101 عن الأشعري وغيره ، وانظر : شرح المقاصد 2 / 161 ، شرح المواقف 5 / 37.

فيلزم قيام العرض بالعرض ، وهو محال عندهم ؛ هذا هو المدّعى والدليل.

وذهبت الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والإمامية إلى بقاء الأعراض (1).

ودليلهم - كما ذكر هذا الرجل - أنّ القول بخلافه مكابرة للحسّ وتكذيب للضرورة.

والجواب : أن لا دلالة للمشاهدة ، على إنّ المشاهد أمر واحد مستمرّ ؛ لجواز أن يكون أمثالا متواردة بلا فصل ، كالماء الدافق من الأنبوب ، يرى أمرا واحدا مستمرّا بحسب المشاهدة ، وهو في الحقيقة أمثال تتوارد على الاتّصال ، فمن قال : إنّه أمثال متواردة ، كان ينبغي - على ما يزعمه هذا الرجل - أن يكون سوفسطائيا منكرا للمحسوسات.

وكذا جالس السفينة ، إذا حكم بأنّ الشطّ ليس بمتحرّك ، كان ينبغي أن يحكم بأنّه سوفسطائي ؛ لأنّه يحكم بخلاف الحسّ.

وقد صوّرنا قبل هذا مذهب السوفسطائية (2) ، ويا ليت هذا الرجل كان لم يعرف لفظ السوفسطائي ، فإنّه يطلقه في مواضع لا ينبغي أن يطلقه فيه وهو جاهل بمعنى السفسطة.

ثمّ ما قال : « أن لا حكم عند العقل أجلى من أنّ اللون الذي شاهدته في الثوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ».

فنقول : حكم العقل ها هنا مستند إلى حكم الحسّ ، ويمكن ورود الغلط للحسّ ؛ لأنّه كان يحسب المثل عين الأوّل ، كما ذكرنا في مثال الماء الدافق من الأنبوب.

ص: 312


1- انظر : تلخيص المحصّل : 180 ، المواقف : 101.
2- انظر الصفحة 75 من هذا الجزء.

وكثير من الأحكام يكون عند العقل جليّا بواسطة غلط الحسّ ، فمن خالف ذلك الحكم كيف يقال : إنّه مكابر للضرورة؟!

ثمّ ذكر خمس محالات ترد على مذهبهم :

الأوّل : « إنّ الإنسان وغيره يعدم في كلّ آن ، ثمّ يوجد في آن بعده ؛ لأنّ الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد ، بل لا بدّ في إنسانيّته من اللون والشكل ، وكلّ هذه أعراض ، ومعلوم أنّ كلّ أحد يجد من نفسه أنّها باقية لا تتبدّل في كلّ آن ، ومخالفة هذا سفسطة ».

والجواب : إنّ الأشخاص في الوجود الخارجي يتمايزون بهويّاتها لا بمشخّصاتها كما يتبادر إليه الوهم في الهوية الخارجية ، التي بها الإنسان إنسان باق في جميع الأزمنة ، وإن توارد عليه الأمثال من الأعراض.

فهذه المشخّصات ليست داخلة في ذاته وهويّته العينية ، حتّى يلزم من تبدّلها تبدّل الإنسان ، فذات الإنسان وهويّته المشخّصة له باقية في جميع الأحوال ويتوارد عليه الأعراض ، وأيّ سفسطة في هذا؟! والطامات والخرافات التي يريد أن يميل بها خواطر السفهة إلى مذهبه غير ملتفت إليها!

الثاني : « إنّه يلزم تكذيب الحس ».

وقد عرفت جوابه.

الثالث : « إنّه لو لم يبق العرض إلّا آنا واحدا لم يلزم تأبيد نوعه ، فكان السواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر » .. إلى آخر الدليل.

والجواب : إنّ السواد إذا فاض على الجسم أعدّ الجسم لأن يفيض عليه سواد مثله ، والمفيض للسواد هو الفاعل المختار ، لكن جرى عادته بإفاضة المثل بوجود الاستعداد وإن جاز التخلّف ، ولزوم النوع يدلّ على

ص: 313

وجوب إفاضة المثل.

وهذا لا ينافي قاعدة القوم في إسناد الأشياء إلى اختيار الفاعل القادر.

الرابع : « لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثاني من وجوده مع استمراره في الحسّ ، لجوّز ذلك في الجسم ، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ ».

والجواب : إنّ الأصل بقاء كلّ موجود مستمرّ ، فالحكم ببقاء الجسم لأنّه على الأصل ، وتخلّف حكم الأصل في الأعراض لدليل خارجي ، فعدم الحكم ببقاء الأعراض لم يكن منافيا للحكم ببقاء الأجسام.

وأمّا ما قال : « إنّ الشكّ في ذلك عين السفسطة ».

فقد مرّ جوابه.

الخامس : « إنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ضروري » .. إلى آخر الدليل.

والجواب : إنّ الأعراض كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، وكذلك في الآن الثاني.

قوله : « وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء ».

قلنا : إمكان الوجود غير إمكان البقاء ، فجاز أن يكون العرض ممكن الوجود في الآن الثاني ولا يكون ممكن البقاء ، وليس على هذا التقرير شيء من الانقلاب الذي ذكره ، وهذا استدلال في غاية الضعف كما هو ديدنه في الاستدلالات المزخرفة.

ثمّ إنّ ما ذكر من الدليلين اللذين احتجّ بهما الأشاعرة ، فأوّل الدليلين قد ذكرناه.

ص: 314

وما أورد عليه من منع امتناع قيام العرض بالعرض ، ومنع كون البقاء زائدا وثبوتهما مذهب للشيخ الأشعري ، وقد استدلّ عليهما في محلّه ، فليراجع.

وثاني الدليلين مدخول بما ذكر وبغيره من الأشياء ، وقد ذكره علماء السنّة والأشاعرة ، منهم صاحب « المواقف » وغيره ، فاعتراضاته على ذلك الدليل منقولة من كتب أصحابنا.

* * *

ص: 315

وأقول :

لا يخفى أنّه إنّما ذكر قوله : « إنّ السبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث » لزعمه - تبعا لغيره - أنّ ذلك مبرّر لقولهم بعدم بقاء الأعراض ؛ لأنّ دفع لزوم استغناء العالم - بناء على كون سبب الحاجة هو الحدوث - يتوقّف على القول بتجدّد العرض وعدم بقائه.

وفيه - مع فساد المبنى - : منع التوقّف ؛ لأنّ الباقي حادث وإن لم يكن متجدّدا ، فيحتاج إلى المؤثّر.

نعم ، لو أريد بالحدوث الخروج من العدم إلى الوجود ، كان للالتجاء إلى القول بعدم بقاء الأعراض وجه.

وأمّا ما أنكره من اعتبار حكم المشاهدة ، فخطأ ؛ فإنّا لو جوّزنا الغلط على جميع الحواسّ في جميع الأوقات ، بإحساسها لبقاء الأعراض ، ولم نعتبر دلالة المشاهدة ، لم يمكن أن نستفيد حكما عقليا من الحسّ ؛ لأنّ الأحكام العقليّة النظرية والضرورية لا تؤخذ إلّا من الحسّ الظاهري ، أو الحسّ الباطني بواسطة الظاهري - كما عرفته في أوّل الكتاب (1) - ، فلو لم نعتبر مثل تلك المشاهدة العامة لم يصحّ التعويل على حسّ ظاهري.

وأمّا ما استشهد به من غلط الحسّ في الماء الدافق من الأنبوب وجالس السفينة ، فخطأ آخر ؛ لأنّ الحسّ لا يحكم بوحدة الماء الدافق كما يحكم بوحدة السواد في الثوب ، بل يرى مياها متّصلة متدافعة تسمّى في

ص: 316


1- انظر الصفحات 48 - 50 من هذا الجزء.

العرف ماء واحدا باعتبار اتّصالها وصدق اسم الماء على المتّصل ، كماء الشطّ.

ولم سلّم ، فالعقل الضروري يحكم بأنّه من توارد الأمثال ، وأنّ الوحدة خيالية بسبب إدراك البصر أو غيره من الحواسّ للمادّة وتدافعها.

وأمّا جالس السفينة ، فهو وإن رأى أحيانا سكون الماء لاتّفاق السفينة والماء في السير ، لكنّ البصر نفسه يراه متحرّكا في أغلب الأوقات ، بل يراه متحرّكا فعلا عند التدقيق ، فيحكم العقل بأنّ ذلك السكون الاتّفاقي خيالي ؛ فكيف يقاس على ذلك مشاهدة البصر لوحده ، مثل السواد في الثوب ، التي لا يخالفها الحسّ في وقت أو حال؟!

وبالجملة : لا ننكر غلط الحسّ أحيانا ، ولكن ننكر عدم اعتباره في أجلى الأمور وأوضحها عند العقل.

وأمّا ما صوّر به سابقا مذهب السوفسطائية ، فقد عرفت فيه الكلام (1).

وأمّا ما أجاب به عن أوّل المحالات ، من أنّ الأشخاص تتمايز بهويّاتها لا بمشخّصاتها ... ففيه :

إنّ إيراد المصنّف إنّما هو من باب الإلزام لهم ، إذ يقولون بالجواهر الفردة (2) ، فلم يكن لذات الإنسان هويّة واحدة ، وكذلك كلّ جسم ، فلا بدّ أن يكون تمايز الأفراد بالمشخّصات الخارجة.

أمّا إذا التزم بتمايز الأشخاص بتمايز الهويّات ، فلينكر الجواهر

ص: 317


1- انظر الصفحة 78 من هذا الجزء.
2- انظر : طوالع الأنوار : 133 ، شرح المقاصد 3 / 5 ، شرح العقائد النسفية : 77.

الفردة ، إذ يكون الشخص موجودا واحدا ، لا مركّبا من موجودات متعدّدة ، هي الجواهر الفردة.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن ثاني المحالات ، فقد عرفت ما فيه.

وأمّا جوابه عن ثالثها ، ففيه :

إنّ الجسم لذاته مستعدّ لإفاضة كلّ لون عليه ، فلو فرض أنّ اللون لا يبقى به ، كان بعد زواله عنه على استعداده لعروض أي لون عليه ، لا خصوص ما عرض أوّلا ، فدعوى ثبوت العادة على إفاضة خصوص المثل لأجل اختصاص الاستعداد به خطأ.

وأمّا ما أجاب به عن رابع المحالات ، ففيه :

إنّه لا مستند للأصل الذي ادّعاه إلّا ظهور حال المستمرّ في البقاء بمقتضى ما يشاهده الحسّ ، وحينئذ فإن أفاد هذا الظهور اليقين بالبقاء فلا وجه لمخالفته في الأعراض ، وإن لم يفد اليقين فلا يمكن الحكم اليقيني لهم أيضا ببقاء شيء من الأجسام ، والشكّ فيه عين السفسطة.

مضافا إلى أنّه لا دليل لهم على التخلّف عن الأصل في الأعراض سوى ثلاثة أدلّة باطلة - حتّى عندهم - ، واختار المصنّف للذكر أقواها ، وهو : الدليلان اللذان أبطلهما (1).

وأمّا ما أجاب به عن خامسها ، من أنّ إمكان الوجود غير إمكان البقاء ، ففيه :

إنّ البقاء عبارة عن استمرار الوجود - كما ذكره نفسه سابقا -

ص: 318


1- والدليل الثالث هو : جواز خلق مثله في محلّه في الحالة الثانية إجماعا ؛ انظر : المواقف : 101 ، شرح المواقف 5 / 39.

وبالضرورة أنّه إذا امتنع استمرار الوجود ، امتنع الوجود في الزمن الثاني وإن اختلفا مفهوما ، بل جعل البقاء سابقا من الأمثال المتواردة ، فإذا فرض إمكان الوجود في الزمن الأوّل وامتناع البقاء ، لزمه امتناع الوجود في الزمن الثاني ولزم الانقلاب ، كما ذكره المصنّف.

فلا بدّ أن نقول : الأعراض متى كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل ، كانت ممكنة البقاء والوجود في الآن الثاني ، وإلّا لزم الانقلاب.

وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى دليلي الأشاعرة ، فليس فيه إلّا تسليم بطلان ثانيهما ، والإحالة في ترويج أوّلهما على غيره ، مع علمه بأنّه قد أبطله في « المواقف » وشرحها (1) بما أبطله به المصنّف.

وأمّا ما زعمه من أنّ المصنّف نقل اعتراضاته على الدليل الثاني عن الأشاعرة ، كصاحب « المواقف » وغيره ، فهو جهل ؛ لأنّ « المواقف » وغيرها - ممّا قارنها زمانا أو تأخّر عنها - متأخّرة عن زمان المصنّف (2).

وإنّما حرّر صاحب « المواقف » التي هي أجمع كتاب لهم ، تلك الاعتراضات وغيرها آخذا من المصنّف رحمه اللّه وغيره من علماء الإمامية ، وإلّا فالأشاعرة غالبا مقلّدون لشيخهم الأشعري تقلّيدا أعمى.

* * *

ص: 319


1- المواقف : 101 - 103 ، شرح المواقف 5 / 39 - 50.
2- فقد ألّف العلّامة الحلّي قدس سره كتابه « نهج الحقّ وكشف الصدق » بطلب من السلطان أولجايتو خدا بنده محمّد الذي توفّي في شهر رمضان من سنة 716 ه ، وولد صاحب « المواقف » عبد الرحمن بن أحمد الإيجي سنة 708 ه ، وعليه : فإنّ العلّامة الحلّي كان قد فرغ من كتابه هذا وللإيجي آنذاك أقلّ من ثماني سنوات. أنظر : البداية والنهاية 62/14 ، معجم المؤلفين 76/2 رقم 6756 ، الذريعة إلی تصانيف الشيعة 416/24 رقم 2183.

ص: 320

القدم والحدوث اعتباريّان

اشارة

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

المبحث العاشر : في أنّ القدم والحدوث اعتباريّان

اشارة

ذهب بعض الأشاعرة إلى أنّ القدم وصف ثبوتي قائم بذات اللّه تعالى (2).

وذهبت الكرّامية إلى أنّ الحدوث وصف ثبوتي قائم بذات الحادث (3).

وكلا القولين باطل ؛ لأنّ القدم لو كان موجودا مغايرا للذات ، لكان إمّا قديما ، أو حادثا ..

فإن كان قديما كان له قدم آخر ويتسلسل.

وإن كان حادثا كان الشيء موصوفا بنقيضه ، وكان اللّه تعالى محلّا

ص: 321


1- نهج الحقّ : 71.
2- هو قول عبد اللّه بن سعيد الكلابي ، انظر : مقالات الإسلاميّين : 169 - 170 ، شرح الأصول الخمسة : 183 ، تلخيص المحصّل : 126 ، المواقف : 297 ، شرح المواقف 8 / 109.
3- الملل والنحل - للبغدادي - : 150 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 101 ، شرح العقائد النسفية : 102 ، شرح التجريد - للقوشجي - : 425.

للحوادث ، وكان اللّه تعالى قبل حدوثه ليس بقديم ...

والكلّ معلوم البطلان.

وأمّا الحدوث ، فإن كان قديما لزم قدم الحادث الذي هو شرطه ، وكان الشيء موصوفا بنقيضه ؛ وإن كان حادثا تسلسل.

والحقّ : إنّ القدم والحدوث من الصفات الاعتباريّة.

* * *

ص: 322

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

ليس كون القدم وصفا ثبوتيا مذهب الشيخ الأشعري ، وما اطّلعت على قوله فيه.

وأمّا قوله : « لو كان القدم وصفا ثبوتيا ، فإمّا أن يكون قديما فيكون له قدم آخر ويتسلسل ».

فالجواب عنه : إنّا لا نسلّم لزوم التسلسل ، إذ قد يكون قدم القدم بنفسه.

وأيضا : جاز أن يكون قدم القدم أمرا اعتباريا ، فإنّ وجود فرد من أفراد الطبيعة لا يستلزم وجود جميعها.

* * *

ص: 323


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 269.
وأقول :

من المضحك اختلاف كلامه في سطر واحد ، فإنّه زعم أنّ كون القدم وصفا ثبوتيا ليس مذهب الأشعري ، ثمّ عقّبه بقوله : « ما اطّلعت على قوله فيه »!

ولا يخفى أنّ جوابيه عن التسلسل راجعان إلى جواب واحد ؛ لأنّ إضافة القدم إلى القدم تستدعي التعدّد حقيقة أو اعتبارا ، فإذا انتفى الحقيقي لحكمه بأنّ قدم القدم نفسه ، تعيّن التعدّد الاعتباري ، وأن يكون قدم القدم اعتباريا ، فيكون الجواب الأوّل عين الثاني.

وفيه : إنّ القدم سلبي ؛ لأنّه عبارة عن عدم المسبوقية بالغير أو بالعدم ، فلا يمكن أن يكون ثبوتيا مع إنّه قد سبق أنّ التماثل في الأفراد يستدعي وحدة حقيقتها ، وأنّ ما تكرّر نوعه يجب كونه اعتباريا.

وبالجملة : الماهيّة الحقيقية لا يمكن أن يكون بعض أفرادها خارجيا والآخر ممتنعا ذاتا - كما هو ظاهر - ، فكيف يمكن أن يكون بعض أفراد القدم ثبوتيا والبعض الآخر اعتباريا ممتنع الوجود في الخارج ، للزوم التسلسل؟!

وبهذا يعلم بطلان الجواب عن إشكال التسلسل في الحدوث لو أجيب عنه بنحو ما أجاب الخصم عن إشكال التسلسل بالنسبة إلى قدم القدم.

* * *

ص: 324

نقل الخلاف في مسائل العدل

اشارة

قال المصنّف قدس سره (1) :

المبحث الحادي عشر : في العدل

اشارة

وفيه مطالب :

[ المطلب ] الأوّل : في نقل الخلاف في مسائل هذا الباب
اشارة

إعلم أنّ هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية ، بل الأحكام الدينية مطلقا ، وبدونه لا يتمّ شيء من الأديان ، ولا يمكن أن يعلم صدق نبيّ من الأنبياء على الإطلاق إلّا به ، على ما نقرّره في ما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وبئس ما اختاره الإنسان لنفسه مذهبا خرج به عن جميع الأديان ، ولم يمكنه أن يتعبّد اللّه تعالى بشرع من الشرائع السابقة واللاحقة ، ولم يجزم به على نجاة نبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو مطيع في جميع أفعاله من

ص: 325


1- نهج الحقّ : 72.

أولياء اللّه وخلصائه ، ولا على عذاب أحد من الكفّار والمشركين وأنواع الفسّاق والعاصين.

فلينظر العاقل المقلّد ، هل يجوز له أن يلقى اللّه تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة ، والآراء الباطلة المستندة إلى اتّباع الشهوة والانقياد إلى المطامع؟!

* * *

ص: 326

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

عقد هذا المبحث لإثبات العدل الذي ينتسبون إليه هم والمعتزلة ..

وحاصله : إنّهم يقولون باختيار العبد في الأفعال ، وإنّه خالق أفعاله ، وإلّا لم يكن تعذيب العبد عدلا عند عدم الاختيار ؛ ويقولون بوجوب جزاء العاصي ، وبالحسن والقبح العقليّين ، وغيرهما ممّا يذكره في هذا الفصل.

ويدّعي أنّ الخروج عن هذا يوجب عدم متابعة نبيّ من الأنبياء.

وهذا دعوى باطلة فاسدة.

ونحن إن شاء اللّه تعالى نذكر في هذا البحث كلّ مقالة من قولي الإمامية والأشاعرة على حدة ، ونذكر حقيقة تلك المسألة قائمين بالإنصاف إن شاء اللّه تعالى.

* * *

ص: 327


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 272.
وأقول :

ستعرف ما في دعواه القيام بالإنصاف كما يشهد لذلك قوله هنا :

« يقولون بوجوب جزاء العاصي » .. فإنّه لا يريد به إلّا التهويل ومجانبة الإنصاف ؛ لأنّا نقول : إنّ العقاب حقّ اللّه تعالى ، وله العفو عن حقّه ، كما ستعرف.

نعم ، لو أراد بوجوبه وجوب جعل أصل الجزاء على المعصية بلحاظ الاستحقاق وإن كان له العفو ، كان صدقا ، وهو مذهبنا ، ولكنّه لا يريده كما سيتّضح إن شاء اللّه تعالى.

* * *

ص: 328

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته -:

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

قالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة : إنّ الحسن والقبح عقليّان مستندان إلى صفات قائمة بالأفعال ، أو وجوه واعتبارات تقع عليها (2).

وقالت الأشاعرة : إنّ العقل لا يحكم بحسن شيء ألبتّة ولا يقبّحه ، بل كلّ ما يقع في الوجود من أنواع الشرور : كالظلم ، والعدوان ، والقتل ، والشرك ، والإلحاد ، وسبّ اللّه تعالى ، وسبّ ملائكته وأنبيائه وأوليائه ، فإنّه حسن (3).

* * *

ص: 329


1- نهج الحقّ : 72.
2- انظر رأي الإمامية في : الذخيرة في علم الكلام : 105 - 106 ، المنقذ من التقليد 1 / 161 ، تجريد الاعتقاد : 197. وأنظر رأي المعنزلة في : شرح الأصول الخمسة : 301 وما بعدها ، الملل والنحل 39/1 ، شرح المواقف 183/8.
3- الأربعين في أصول الدين - للفخر للرازي - 1 / 346 - 349 ، المواقف : 323 ، شرح المقاصد 4 / 282.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة :

الأوّل : صفة الكمال والنقص ... يقال : العلم حسن ... والجهل قبيح ... ولا نزاع في أنّ هذا ... ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل ، ولا تعلّق له بالشرع.

الثاني : ملاءمة الغرض ومنافرته ... وقد يعبّر عنهما بهذا ... المعنى بالمصلحة والمفسدة ، فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ... ؛ وذلك أيضا عقلي ، أي يدركه العقل كالمعنى الأوّل ...

الثالث : تعلّق المدح والثواب بالفعل عاجلا وآجلا ، أو الذمّ والعقاب كذلك ...

فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى : حسنا ..

وما تعلّق به الذمّ في العاجل والعقاب في الآجل يسمّى : قبيحا ...

وهذا المعنى ... هو محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعي ؛ وذلك لأنّ أفعال العباد كلّها ... ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ، ولا ذمّ فاعله وعقابه ، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها ..

وعند المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : عقلي (2).

ص: 330


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 274.
2- إلى هنا أخذ الفضل - كعادته - مناقشته نصّا من شرح المواقف 8 / 182 - 183.

وإدراك الحسن والقبح موقوف على حكم الشرع ، والشرع كاشف عنهما في ما لا يستقلّ العقل بإدراكه ، فالعقل حاكم.

فيا معشر العقلاء : بأيّ مذهب يلزم أن يكون الظلم والعدوان والقتل والشرك وسبّ اللّه ورسوله وما ذكره من الترّهات والطامات حسنا؟!

هل الشرع حسّن هذه الأشياء وحكم بحسنه؟!

وعلى تقدير أن يكون حاكما بالحسن ، هل يقول الأشاعرة : إنّ الشرع حكم بحسن هذه الأشياء حتّى يلزم ما يقول؟!

فعلم أنّ الرجل كودن (1) طامّاتي متعصّب ، فتعصّب لنفسه لا لله ورسوله!

والعجب أنّه كان لا يأمل أنّ العقلاء ربّما ينظرون في هذا الكتاب فيفتضح عندهم ، ما أجهله من رجل متعصّب ، نعوذ باللّه من شرّ الشيطان وشركه!

* * *

ص: 331


1- الكودن : هو البرذون من الدوابّ ، وقيل : هو الفيل ، وقيل : البغل ، ويشبّه به البليد. أنظر مادّة «كدن» في : الصحاح 2187/6 ، لسان العرب 48/12 ، تاج العروس 475/18.
وأقول :

نسب المصنّف أوّلا إلى الأشاعرة : إنّ العقل لا يحكم بحسن شيء من الأفعال ولا بقبحه ، فعارضه الخصم بأنّهم يقولون بالحسن والقبح بالمعنيين الأوّلين - وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في أوّل المطلب الثاني - أنّ هذا التفصيل ممّا أحدثه المتأخّرون تقليلا للشناعة ، وستعرف ما فيه ، وأنّه لا ينفعهم.

ثمّ نسب إليهم القول بأنّ كلّ فعل يقع في الوجود من أنواع الشرور كالظلم ، والشرك ، وغيرهما ، حسن ، وهو مبنيّ على تعريفهم للفعل القبيح بما نهي عنه شرعا وللفعل الحسن بما لم ينه عنه ، فإنّه على هذا تكون هذه الأفعال حسنة ؛ لأنّها فعل اللّه تعالى ، ولا نهي عن فعله.

ولكنّ المتأخّرين تخلّصوا عنه بالقول بأنّ الفعل الحسن ما أمر به شرعا ، وما يستحقّ فاعله المدح في العاجل ، والثواب في الآجل فلا يشمل فعله تعالى.

ولكن على تقديره فنحن نسألهم عن فعل اللّه تعالى ، فإن أقرّوا بحسنه لزمهم القول بحسن هذه الشرور ، وإن لم يقرّوا بحسنه فقد خرجوا عن الإسلام!

ودعوى أنّ هذه الشرور حسنة بلحاظ انتسابها إلى اللّه تعالى بالخلق ، قبيحة ، بلحاظ انتسابها إلى العبد بالوصفيّة ، وكونه محلّا لها باطلة ، لعدم معقوليّة حسنها من الفاعل ، وقبحها من المحلّ والموصوف بها من دون أن

ص: 332

يكون له أثر فيها أصلا ، وإنّما الأثر لله وحده.

وبالجملة : أصل الفعل ومحلّه وجميع جهاته صادرة من اللّه تعالى ، فكلّها حسنة ، فبأيّ شيء يكون قبيحا؟!

* * *

ص: 333

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته -

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

وقالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة : إنّ جميع أفعال اللّه تعالى حكمة وصواب ، وليس فيها ظلم ، ولا جور ، ولا كذب ، ولا عبث ، ولا فاحشة.

والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد ، واللّه تعالى منزّه عنها وبريء منها (2).

وقالت الأشاعرة : ليس جميع أفعاله تعالى حكمة وصوابا ؛ لأنّ الفواحش والقبائح كلّها صادرة عنه تعالى ؛ لأنّه لا مؤثّر غيره (3).

* * *

ص: 334


1- نهج الحقّ : 73.
2- انظر مضمون ذلك في : أوائل المقالات : 56 رقم 24 ، تصحيح الاعتقاد : 42 - 45 ، شرح جمل العلم والعمل : 85 - 89 ، المنقذ من التقليد 1 / 179 - 181 ، تجريد الاعتقاد : 198 - 199. وأنظر آراء المعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : 301 وما بعدها ، الملل والنحل 39/1 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 350/1 ، شرح المواقف 175/8 - 176.
3- انظر مضمون ذلك في : الإبانة في أصول الديانة : 126 - 154 ، تمهيد الأوائل : 317 - 319 ونقل قولهم : « إنّ أفعال اللّه ليست معلّلة بالأغراض » ، الأربعين في أصول الدين - للغزّالي - : 18 ، المسائل الخمسون - للفخر الرازي - : 59 - 60 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - : 320 - 352 ، شرح المقاصد 4 / 274 - 275 ، شرح المواقف 8 / 173 - 174 ، شرح العقيدة الطحاوية : 61 - 63.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب ؛ وذلك من جهة أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه ، فلا يتصوّر منه فعل قبيح ولا ترك واجب (2) ، وجميع أفعاله تعالى حكمة وصواب.

والفواحش والقبائح من مباشرة العبد للأفعال ولا يلزم من قولنا :

« لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه » أن تكون الفواحش والقبائح صادرة عنه ، بل هي صادرة من العبد ومن مباشرته وكسبه.

واللّه تعالى خالق للأفعال ، ولا قبيح بالنسبة إليه ، بل قبح الفعل من مباشرة العبد ، كما سيجيء في مبحث خلق الأعمال ..

فما نسبه إليهم هو افتراء محض ناشئ من تعصّب وغرض فاسد!

* * *

ص: 335


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 276.
2- المواقف : 328 ، شرح المواقف 8 / 195.
وأقول :

من أعجب العجب وأوضح المحال نفي صدورها عن اللّه سبحانه وإثباتها للعبد.

والحال : إنّ الخالق الفاعل لها بزعمهم هو اللّه تعالى ، والعبد محلّ صرف لا أثر له ولا تصرّف بوجه أصلا.

وما أدري كيف يكون كسبها من العبد؟! والكسب بأيّ معنى فسّر إنّما هو من فعل اللّه تعالى.

وكيف يكون قبحها من مباشرة العبد ، والمباشرة أثر لله تعالى؟! إذ لا مؤثّر في الوجود سواه ، وكلّ أثره حسن.

فهل يعقل أن يكون الشيء بجهة حسنه قبيحا ، إذ أيّ جهة تفرض للقبح إنّما هي من فعل اللّه ، وفعله - بما هو فعله - حسن.

لكن بنى القوم أمرهم على المكابرة وناطوا الحقائق بالتمويه.

وأمّا قوله : « ولا واجب عليه » فستعرف ما فيه إن شاء اللّه تعالى.

* * *

ص: 336

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

وقالت الإمامية : نحن نرضى بقضاء اللّه تعالى كلّه ، حلوه ومرّه ؛ لأنّه لا يقضي إلّا بالحقّ (2).

وقالت الأشاعرة : لا نرضى بقضاء اللّه كلّه ؛ لأنّه قضى بالكفر ، والفواحش ، والمعاصي ، والظلم ، وجميع أنواع الفساد (3).

* * *

ص: 337


1- نهج الحقّ : 73.
2- انظر : تصحيح الاعتقاد - المطبوع ضمن المجلّد 5 من « مصنّفات الشيخ المفيد » - : 54 - 59 ، المنقذ من التقليد 1 / 193.
3- انظر مضمونه في : تمهيد الأوائل : 368 - 369 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 345 ، شرح العقائد النسفية : 138.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

تقول الأشاعرة : نحن نرضى بقضاء اللّه كلّه ، والكفر ، والفواحش ، والمعاصي ، والظلم ؛ وجميع أنواع الفساد ليست هي القضاء ، بل هي المقضيّات (2).

والفرق بين القضاء والمقضي ظاهر ؛ وذلك لأنّه ليس يلزم من وجوب الرضا بالشيء باعتبار صدوره عن فاعله ، وجوب الرضا به باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر ؛ إذ لو صحّ ذلك لوجب الرضا بموت الأنبياء ، وهو باطل إجماعا.

والإنكار المتوجّه نحو الكفر إنّما هو بالنظر إلى المحلّيّة ، لا إلى الفاعلية.

وللكفر نسبة إلى اللّه تعالى باعتبار فاعليّته له وإيجاده إيّاه ..

ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محلّيّته له واتّصافه به ، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأولى.

ثمّ إنّهم قائلون بأنّ التمكين على الشرور من اللّه تعالى ، والتمكين بالقبيح قبيح ، فيلزمهم ما يلزمون به الأصحاب (3).

* * *

ص: 338


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 279.
2- الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 345 ، المواقف : 322 ، شرح المواقف 8 / 176 - 177.
3- شرح المقاصد 4 / 294 - 295 ، شرح المواقف 8 / 188.
وأقول :

لا يعقل التفكيك بين القضاء والمقضي في الرضا وعدمه ، ضرورة أنّ من رضي بأمر فقد رضي بصدوره عن فاعله ، ومن سخطه فقد سخط صدوره عن فاعله.

فإذا زعم الأشاعرة أنّ اللّه سبحانه قد قضى بالفواحش وخلقها ، فقد لزمهم من عدم الرضا بها عدم الرضا بقضاء اللّه تعالى.

وأمّا موت الأنبياء فلا نسلّم عدم وجوب الرضا به إذا قضاه اللّه تعالى ، كيف؟! وهو سبحانه لا يقضي إلّا بالحقّ والصواب!

نعم ، لا نحبّ موتهم حبّا لهم وطمعا في مصالحنا بهم.

وما زعمه من توجّه الإنكار إلى الكفر باعتبار المحلّية لا الفاعلية ، فمكابرة خارجة عن حيّز العقل إذا كانت المحلّية قهرية.

وأمّا ما ذكره من أنّ التمكين من القبيح قبيح ، فممنوع إذا اقترن التمكين منه ببيان قبحه والنهي عنه ، فإنّه حينئذ يكون التمكين منه حسنا ؛ إذ بطاعته لنهي مولاه وتركه اختيارا ينال السعادتين.

* * *

ص: 339

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

وقالت الإمامية والمعتزلة : لا يجوز أن يعاقب اللّه الناس على فعله ، ولا يلومهم على صنعه (2) ، ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (3).

وقالت الأشاعرة : لا يعاقب اللّه الناس إلّا على ما لم يفعلوه ، ولا يلومهم إلّا على ما لم يصنعوه ، وإنّما يعاقبهم على فعله فيهم ، يفعل فيهم سبّه وشتمه ، ثمّ يلومهم عليه ويعاقبهم لأجله ..

ويخلق فيهم الإعراض ، ثمّ يقول : ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ... ) (4) ..

ويمنعهم من الفعل ويقول : ( ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ... ) (5) (6).

* * *

ص: 340


1- نهج الحقّ : 73.
2- أوائل المقالات : 61 رقم 31 ، تصحيح الاعتقاد : 48 - 53 ، الذخيرة في علم الكلام : 239 - 242 ، المنقذ من التقليد 1 / 348 - 352 ، الملل والنحل 1 / 39 ، شرح المقاصد 4 / 274.
3- سورة الإسراء 17 : 15 ، سورة فاطر 35 : 18.
4- سورة المدّثّر 74 : 49.
5- سورة الإسراء 17 : 94.
6- انظر أقوال الأشاعرة هذه في : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 114 - 116 ، تمهيد الأوائل : 376 - 378.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه تعالى ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (2) ، كما نصّ عليه في كتابه ، ولا خالق سواه ..

ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي ، ويلوم العباد بالكسب الذميم ، وهو يخلق الأشياء ، واللّه يخلق الإعراض ، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو معرض ، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق ، وكذا المنع (3).

* * *

ص: 341


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 282.
2- سورة الأنعام 6 : 102 ، سورة الرعد 13 : 16 ، سورة الزمر 39 : 62 ، سورة غافر 40 : 62.
3- انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 69 - 91 ، تمهيد الأوائل : 341 - 345 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 86 - 93 ، المسائل الخمسون : 59 - 61 ، شرح العقائد النسفية : 135 - 139.
وأقول :

لا يخفى أنّ قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد ...

الأوّل : قوله تعالى في سورة الأنعام : ( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ... ) (1).

وهو ظاهر في غير أفعال العباد ؛ لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعا عن وحدانيّته وخلقه للكائنات.

ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد ، إذ لا معنى لقولنا : لا إله إلّا هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبدوه.

الثاني : قوله تعالى في سورة الرعد : ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (2).

وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم ، وعلى إنكار من يخلق كخلقه (3).

وأجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار ، فلو أريد بها العموم

ص: 342


1- سورة الأنعام 6 : 102.
2- سورة الرعد 13 : 16.
3- تمهيد الأوائل : 345 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 88 - 89 ، تفسير الفخر الرازي 19 / 38.

لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ؛ لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به ، وكان لهم أن يقولوا : إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلم تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!

مضافا إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّتهم ، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.

وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض ، فيكون عموم قوله تعالى : ( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات ، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها ، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأمور وبديع السماوات والأرضين.

ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية ، الكتابية وغيرها ، الدالّة على إنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم ، كما ستعرف إن شاء اللّه.

وأمّا قوله : « ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ».

ففيه : إنّ الكسب إن كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه ، وإن كان من فعل اللّه تعالى فالإشكال بحاله ؛ إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!

وأمّا قوله : « والمعرض من يباشر الإعراض لا من يخلق ».

ففيه : إنّ المصنّف لم يدّع صدق المعرض على اللّه تعالى بناء على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك ، بل يقول في تقرير مذهبهم : إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس ، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض ، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.

ص: 343

وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل ، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.

ومثله الكلام في قوله تعالى : ( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ... ) (1) ؛ إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!

* * *

ص: 344


1- سورة الإسراء 17 : 94.
قال المصنّف - عطّر اللّه ثراه - :

قال المصنّف - عطّر اللّه ثراه - (1) :

وقالت الإمامية : إنّ اللّه تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة ، وإنّما يمرض لمصالح العباد ، ويعوّض الثواب ، بحيث ينتفي العبث والظلم (2).

وقالت الأشاعرة : لا يجوز أن يفعل اللّه تعالى شيئا لغرض من الأغراض ، ولا لمصلحة ، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض (3).

بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا (4).

* * *

ص: 345


1- نهج الحقّ : 74.
2- أوائل المقالات : 57 - 58 رقم 26 ، الذخيرة في علم الكلام : 108 وما بعدها ، تقريب المعارف : 114 وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : 110 ، تجريد الاعتقاد : 198.
3- الاقتصاد في الاعتقاد - للغزّالي - : 115 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 296 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 350 - 354 ، تفسير الفخر الرازي 28 / 233 - 234 ، المواقف : 331 ، شرح المواقف 8 / 202.
4- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 115 - 117 ، تمهيد الأوائل : 382 - 386 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 134.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال اللّه تعالى ليست معلّلة بالأغراض.

وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض (2) - كما سيجيء بعد هذا - ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّين.

وهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ، ولا تأثير للعصيان في أفعاله ، بل هو المؤثّر المطلق.

* * *

ص: 346


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 284.
2- المسائل الخمسون : 62 المسألة 37 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 350 ، طوالع الأنوار : 203 المسألة 5 ، المواقف : 331 المقصد 8 ، شرح المواقف 8 / 202.
وأقول :

ليس في كلامه إلّا ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدل الرحمن ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان ، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيده بلا غرض ولا مصلحة ، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية ، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.

وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعا لإنسان خطأه أكثر من صوابه؟!

وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ؛ إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض (1) ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

* * *

ص: 347


1- انظر مثلا : تهافت التهافت : 491 ، شرح التجريد : 443.
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

وقالت الإمامية : لا يحسن في حكمة اللّه تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين ، ولا يصدّق المبطلين ، ولا يرسل السفهاء والفسّاق والعصاة (2).

وقالت الأشاعرة : يحسن كلّ ذلك (3).

* * *

ص: 348


1- نهج الحقّ : 74.
2- النكت الاعتقادية : 37 ، تنزيه الأنبياء - للشريف المرتضى - : 17 - 18 ، المنقذ من التقليد 1 / 424 - 425.
3- مقالات الإسلاميّين : 226 ، المواقف : 341 و 358 - 365 ، شرح المقاصد 4 / 238 ، شرح المواقف 8 / 228 - 229 و 265 و 281.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة ، بل جرى عادة اللّه تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ، لا لقبحه في العقل ، وهو يرسل الرسل ، وهم الصادقون.

ولو شاء اللّه أن يبعث من يريد من خلقه ، فهو الحاكم في خلقه ، ولا يجب عليه شيء ، ولا شيء منه قبيح ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

* * *

ص: 349


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 286.
وأقول :

لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب - عقلا - مناف لما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء ، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب ، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن اللّه تعالى.

ولكن إذا كان الكلام تبعا للهوى ومبنيّا على شفا جرف هار ، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.

وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يقبح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب ، ولم يطّلع على أحوالهم ، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذبا ، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا صلی اللّه علیه و آله - إذ لعلّه لم يكن نبيّا - وإن تواتر ظهور المعجزات على يده ، على إنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.

ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم ، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهوا ، بل عمدا (1) ، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا تجويزهم أن يرسل اللّه السفهاء والفسّاق ، فأفظع من ذلك ، وسيجيء تحقيقه إن شاء اللّه تعالى.

* * *

ص: 350


1- انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 284 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 320.
قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه منزلته - (1) :

وقالت الإمامية : إنّ اللّه سبحانه لم يكلّف أحدا فوق طاقته (2).

وقالت الأشاعرة : لم يكلّف اللّه أحدا إلّا فوق طاقته ، وما لا يتمكّن من تركه وفعله ، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.

وجوّزوا أن يكلّف اللّه مقطوع اليد الكتابة ، ومن لا مال له الزكاة ، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء ، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام ، وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما.

وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ، ويأمرهم بالكتابة الحسنة ، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات ، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحد (3).

وقالت الإمامية : ربّنا أعدل وأحكم من ذلك (4).

* * *

ص: 351


1- نهج الحقّ : 75.
2- أوائل المقالات : 57 رقم 26 ، الذخيرة في علم الكلام : 100 ، شرح جمل العلم والعمل : 98 ، المنقذ من التقليد 1 / 202 - 203 ، تجريد الاعتقاد : 202 - 203.
3- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 98 - 100 و 112 ، تمهيد الأوائل : 328 - 329 و 332 - 333 ، المواقف : 330 - 331 ، شرح المقاصد 4 / 296 ، شرح المواقف 8 / 200.
4- النكت الاعتقادية : 32 ، أوائل المقالات : 56 - 57 رقم 24 و 26.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ؛ لأنّه لا يجب على اللّه شيء ، ولا يقبح منه فعل ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا (2).

والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ اللّه أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان ، فهذا تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ؛ لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر اللّه تعالى ، وهو محال اتّفاقا.

وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.

ثمّ ما لا يطاق على مراتب : أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا ، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي .. فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة ، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (3).

وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سبق.

* * *

ص: 352


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 287.
2- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 293 و 295 ، المواقف : 330 - 331 ، شرح المقاصد 4 / 294.
3- سورة البقرة 2 : 286.
وأقول :

لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!

ليت شعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى اللّه العبد عن الفعل ، ويخلقه فيه اضطرارا ، ويعاقبه عليه ، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!

قيل : اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة ، فقال له النجّار : لم يدفع أن يكلّف اللّه عباده ما لا يطيقون؟!

فسكت النظّام ، فقيل له : لم سكتّ؟!

قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح فبم ألزمه؟! (1).

وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء اللّه تعالى.

وكفاك إنكارهم أن يجب على اللّه شيء ، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته ، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخرة؟!

ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل ، كتكليف ما لا يطاق ؛ تعالى اللّه عن ذلك.

ص: 353


1- انظر مضمونه في : شرح الأصول الخمسة : 400.

وأمّا قوله : « والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ اللّه أخبر بعدم إيمان أبي لهب » ..

فمدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى نارا ، وهو لا يستلزم الكفر ؛ لجواز تعذيب المسلم الفاسق ..

والأولى أن يقول : إنّ اللّه سبحانه أخبر نبيّه صلی اللّه علیه و آله ، بقوله : ( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (1) ونحوه في القرآن كثير ، ومع ذلك كلّف الناس جميعا بالإيمان ، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعة.

والجواب : إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه ، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان ، والممكن مطاق في نفسه ، يصحّ التكليف به أو بخلافه ، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.

فيكون صدق الخبر تابعا لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس ، نظير تبعية العلم للمعلوم ، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعا ، بل هو تابع للمعلوم ؛ لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.

ولو كان المعلوم تابعا للعلم لما صحّ التكليف أصلا ؛ لصيرورة كلّ مكلّف به ، إمّا واجبا حيث يعلم بوقوعه ، أو ممتنعا حيث يعلم بعدم وقوعه ، ولا يقوله عارف.

وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب ، أوسطها .. إلى قوله :

ص: 354


1- سورة يوسف 12 : 103.

« هذا شيء نجوّزه » فهو مشعر بأنّهم لا يجوّزون التكليف بالرتبة العليا ، وهي ما يمتنع لنفس مفهومه ، كالجمع بين الضدّين وإعدام الواجب.

والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة ، وإلّا فالمناط عندهم في جواز التكليف بالرتبة الوسطى والسفلى ، هو أنّه تعالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا - كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن - ، وكلام القوم في المقام مضطرب ؛ ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى ، والحال أنّ بعضها من العليا ، كجعل القديم محدثا.

ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (1) ، وهو مناف لقوله سابقا بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.

ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه اللّه تعالى بالطامّاتي ، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم ، وقد اعترف بها ، وليس للمصنّف إلّا النقل عنهم!

* * *

ص: 355


1- سورة البقرة 2 : 286.
قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - :

قال المصنّف - أجزل اللّه ثوابه - (1) :

وقالت الإمامية : ما أضلّ اللّه أحدا من عباده عن الدين ، ولم يرسل رسولا إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة (2).

وقالت الأشاعرة : قد أضلّ اللّه كثيرا من عباده عن الدين ، ولبّس عليهم ، وأغواهم ، وأنّه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس.

فيكون من سبّ اللّه تعالى ومدح الشيطان ، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّا للثواب والتعظيم.

ويكون من مدح اللّه تعالى طول عمره ، وعبده بمقتضى أوامره ، وذمّ إبليس دائما ، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.

وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره من لم تكن شريعته إلّا هذا (3).

* * *

ص: 356


1- نهج الحقّ : 75.
2- شرح نهج البلاغة - لابن ميثم - 5 / 278 - 280 ، وانظر مؤدّى ذلك في : الذخيرة في علم الكلام : 323 ، شرح جمل العلم والعمل : 169 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 124 - 125 ، المنقذ من التقليد 1 / 373 ، تجريد الاعتقاد : 202 و 211 و 212.
3- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 168 - 170 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 346 - 349 ، المواقف : 320 - 330 ، شرح المقاصد 4 / 282.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة : إنّ اللّه خالق كلّ شيء ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ، بل يقولون : هو الهادي وهو المضلّ ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ... ) (2) ، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.

وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية ، فقد علمت معنى هذا التجويز ، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.

وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء ، بل هم أهل السنّة والجماعة والهداية.

* * *

ص: 357


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 291.
2- سورة النحل 16 : 93 ، سورة فاطر 35 : 8.
وأقول :

لا يخفى أنّ قوله : « لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء » من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي (1) عندما دخل القاضي عبد الجبّار المعتزلي (2) دار الصاحب بن عبّاد (3) فرأى أبا إسحاق جالسا ، فقال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء! - تعريضا بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى اللّه تعالى - .. فقال أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء (4).

ص: 358


1- تقدّمت ترجمته في صفحة 59 من هذا الجزء.
2- هو : أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي ، أحد كبار متكلّمي المعتزلة ، ولد سنة 359 ه ، كان ينتحل مذهب الشافعية في الفروع ، وهو من كبار فقهائهم ، ولّي القضاء بالريّ ، وله تصانيف كثيرة منها : المغني في علم الكلام ، شرح الأصول الخمسة ، طبقات المعتزلة ، وغيرها ، توفّى بالريّ سنة 415 ه. انظر : تاریخ بغداد 113/11 - 115 رقم 5806 ، سير أعلام النبلاء 17 / 244 - 245 رقم 150 ، لسان الميزان 386/3 - 387 رقم 1539 ، شذرات الذهب 202/3 - 203 ، هديّة العارفين 5 / 498 - 499 .
3- هو : أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس الطالقاني ، كان نادرة الدهر في فضائله ومكارمه وكرمه ، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي - صاحب كتاب « المجمل في اللغة » - وكذا عن ابن العميد ، وغيرهما. كان مولده سنة 320 ه- بإصطخر ، وقيل بالطالقان ، وتوفّي ليلة الرابع والعشرين من صفر سنة 385 ه- بالري ، ثمّ نُقل إلى أصبهان ودفن هناك. أنظر : معجم الأدباء 213/2 ، وفيات الأعيان 228/1 رقم 96 . سير أعلام النبلاء 511/16 رقم 377 ، شذرات الذهب 113/3 .
4- شرح المقاصد 4 / 275 ، شرح العقائد النسفية : 140 - 141 ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد : 42.

وحاصله : إنّ كلّ ما يجري في ملكه من أنواع الفواحش ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، والكذب ، والظلم ، والغواية ، ونحوها ، إنّما هو بإساءته ومن فعله!

فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسبّحه وينزّهه؟!

وأمّا قوله : « ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ».

فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد ، وينزّهون اللّه سبحانه عنها.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة ، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم ، ففعلوها بتمكينه لهم ، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة ، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته ، وقدمها مثله ، وحاجته إليها في الخلق ، بحيث لولاها لما خلق شيئا فهي شريكته في الإلهية ؛ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (1).

ففيه : إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال : خلق الضلال ، وبالهداية : خلق الهدى ؛ وهو ممنوع ؛ لجواز أن يراد بالإضلال : الخذلان والإضاعة ، وبالهداية : التوفيق ، كما قال علیه السلام : « تطاع بتوفيقك وتجحد بخذلانك » (2).

ص: 359


1- سورة النحل 6 : 93 ، سورة فاطر 35 : 8.
2- إقبال الأعمال 1 / 299 ب 20 دعاء الليلة 16 ، وفيه « تعبد » بدل « تطاع ».

فإنّ الإنسان إذا اجتهد بفعل الخير كان محلّا للتوفيق ، وإذا أصرّ على الشرّ كان أهلا للخذلان ، وآل أمره إلى النفاق والكفر ، كما قال تعالى : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً ) (1) وقال تعالى : ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ ... ) (2) ، ولا قرينة على إنّ المراد بالإضلال والهداية في الآية ما ادّعاه ، بل القرينة على خلافه عقلا ونقلا ..

أمّا العقل : فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب ، ونفي العدل ، وفائدة الرسل والكتب ، والأوامر والنواهي - كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى - ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله ، ولذا قال شعيب : ( ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ) (3) ..

وقال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (4)

وأمّا النقل : فقوله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (5) ، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟! ..

وقوله تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ... )(6).

ص: 360


1- سورة التوبة 9 : 77.
2- سورة الروم 30 : 10.
3- سورة هود 11 : 88.
4- البيت من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي ، مطلعها : حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداء له وخصوم أنظر : ديوان أبي الأسود الدؤلي : 129 - 132 ، خزانة الأدب 8 / 568.
5- سورة الليل 92 : 12.
6- سورة فصّلت 41 : 17.

.. إلى غير ذلك من الكتاب والسنّة.

وأمّا ما ذكره من أنّ المراد بهذا التجويز نفي وجوب شيء عليه ، فلا يرفع الإشكال ؛ لأنّه إذا لم يجب عليه بعدله وحكمته أن يرسل الرسل بالحكمة والموعظة الحسنة ، فقد جاز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس - إلى غير ذلك ممّا بيّنه المصنّف - ، وتجويزهم مثل ذلك على اللّه سبحانه دليل على عدم معرفتهم به ، وأنّهم ما قدروه حقّ قدره.

ولو جوّزت أشباه هذه الأمور على أحد منهم لعدّها من أكبر النقص عليه ، والذنب إليه ، فكيف تجوز في حقّ الملك الجامع لصفات الكمال؟!

* * *

ص: 361

قال المصنّف - قدّس اللّه سرّه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه سرّه - (1) :

وقالت الإمامية : قد أراد اللّه الطاعات وأحبّها ورضيها واختارها ، ولم يكرهها ولم يسخطها ، وأنّه كره المعاصي والفواحش ولم يحبّها ولا رضيها ولا اختارها (2).

وقالت الأشاعرة : قد أراد اللّه من الكافر أن يسبّه ويعصيه ، واختار ذلك ، وكره أن يمدحه (3).

وقال بعضهم : أحبّ وجود الفساد ، ورضي وجود الكفر (4).

* * *

ص: 362


1- نهج الحقّ : 76.
2- النكت الاعتقادية : 26 - 27 ، تصحيح الاعتقاد : 49 - 50 ، تجريد الاعتقاد : 199.
3- الإبانة في أصول الديانة : 127 ، تمهيد الأوائل : 317 - 318 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 99 ، المسائل الخمسون : 60 المسألة 35 ، المواقف : 320 - 323 ، شرح المواقف 8 / 173 - 174 و 178 و 179 ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد : 42 ، شرح العقيدة الطحاوية : 130.
4- المواقف : 320 - 323 ، شرح المواقف 8 / 173.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

مذهب الأشاعرة - كما سبق - : إنّ اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات ، فهو يريد الطاعات ويرضى بها للعبد ، ويريد المعاصي بمعنى التقدير ؛ لأنّ اللّه تعالى مريد للكائنات.

فلا بدّ أن يكون كلّ شيء بتقديره وإرادته ، ولكن لا يرضى بالمعاصي ، والإرادة غير الرضا ، وهذا الرجل يحسب أنّ الإرادة هي عين الرضا ، وهذا باطل.

وأمّا قوله : « كره أن يمدحه » فهذا عين الافتراء.

وكذا قوله : « أحبّ الفساد ورضي بوجود الكفر » ولا عجب هذا من الشيعة ، فإنّ الكذب والافتراء طبيعتهم ، وبه خلقت غريزتهم.

* * *

ص: 363


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 300.
وأقول :

قوله : « يريد الطاعات ويرضى بها » ليس بصحيح على عمومه ، فإنّ الطاعات التي لم تقع ليست مرادة ولا مرضية له ، وإلّا لوقعت.

وقوله : « ويريد المعاصي بمعنى التقدير » ، ليس بصحيح أيضا ، فإنّ الإرادة سبب التقدير لا نفسه.

ولو سلّم ، فلا بدّ من إرادة المعاصي ؛ لأنّ التقدير بدون إرادة غير ممكن ؛ لأنّها هي المخصّصة.

قوله : « ولكن لا يرضى بالمعاصي » باطل ، إذ لو لم يرض بها فما الذي ألزمه بفعلها.

قوله : « والإرادة غير الرضا » مسلّم ، لكنّ إرادة الفعل تتوقّف على الرضا به ، كما إنّ إرادة الترك تتوقّف على كراهة الفعل ومرجوحيّته من جهة.

وعلى هذا يبتني كلام المصنّف ، لا على إنّ الإرادة نفس الرضا ، كما زعمه الخصم.

وبالجملة : الفعل بالاختيار يستلزم الرضا به ، وتركه بالاختيار يستلزم كراهته ، وإلّا لخرج العمل عن كونه عقلائيا ، فيكون اللّه سبحانه - بناء على تقديره وتكوينه لأفعال العباد - راضيا ومحبّا لسبّه والفساد الواقعين ، كارها لمدحه والصلاح المتروكين ؛ وهذا ما قاله المصنّف.

وأمّا ما رمى به الخصم الشيعة من الكذب والافتراء ، فنحن نكله إلى المصنف إذا عرف أحوال رجالنا ورجالهم ، ونظر إلى ما كتبناه في المقدّمة.

ص: 364

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

وقالت الإمامية : قد أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله من الطاعات ما أراد اللّه تعالى ، وكره من المعاصي ما كرهه اللّه تعالى (2).

وقالت الأشاعرة : بل أراد النبيّ كثيرا ممّا كرهه اللّه تعالى ، وكره كثيرا ممّا أراده اللّه تعالى (3).

* * *

ص: 365


1- نهج الحقّ : 76.
2- إنقاذ البشر من الجبر والقدر - المطبوع ضمن رسائل الشريف المرتضى - 2 / 236 ، مجمع البيان 7 / 399 ، المنقذ من التقليد 1 / 185.
3- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 310 - 311.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

غرضه من هذا الكلام - كما سيأتي - أنّ اللّه تعالى يريد كفر الكافر ، والنبيّ يريد إيمانه وطاعته ، فوقعت المخالفة بين الإرادتين ، وإذا لم يكن أحدهما مريدا لشيء يكون كارها له ؛ هكذا زعم.

وقد علمت أنّ معنى الإرادة من اللّه ها هنا هو : التقدير ، ومعنى الإرادة من النبيّ : ميله إلى إيمانهم ورضاه به.

والرضا والميل غير الإرادة بمعنى التقدير ، فاللّه تعالى يريد كفر الكافر بمعنى : يقدّر له في الأزل هكذا ، والنبيّ لا يريد كفره ، بمعنى أنّه لا يرضى به ولا يستحسنه ، فهذا جمع بين إرادة اللّه وعدم إرادة النبيّ ولا محذور فيه.

نعم ، لو رضي اللّه بشيء ، ولم يرض رسوله بذلك الشيء وسخطه ، كان ذلك محذورا ، وليس هذا مذهبا لأحد.

* * *

ص: 366


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 305.
وأقول :

أيصحّ في العقل أن يقال : إنّ اللّه تعالى يقدّر شيئا ويفعله ، ولا يرضى به النبيّ ولا يستحسنه؟!

مضافا إلى ما عرفت من أنّ تقدير الفعل يستلزم الرضا به ، وتقدير الترك يستلزم الكراهة له.

فيكون اللّه سبحانه بتقديره للكفر والمعصية ، راضيا بهما وقد كرههما النبيّ ..

وبتقديره لترك الإيمان والطاعة ، كارها لهما وقد رضي النبيّ بهما وأرادهما ، فاختلف اللّه ورسوله.

* * *

ص: 367

قال المصنّف - أعزّ اللّه منزلته - :

قال المصنّف - أعزّ اللّه منزلته - (1) :

وقالت الإمامية : قد أراد اللّه من الطاعات ما أراده أنبياؤه ، وكره ما كرهوه ، وأراد ما كره الشياطين من الطاعات ، وكره ما أرادوه من الفواحش (2).

وقالت الأشاعرة : بل قد أراد اللّه ما أرادته الشياطين من الفواحش ، وكره ما كرهوه من كثير من الطاعات ، ولم يرد ما أرادته الأنبياء من كثير من الطاعات ، بل كره ما أرادته منها (3).

* * *

ص: 368


1- نهج الحقّ : 77.
2- مجمع البيان 7 / 399 ، المنقذ من التقليد 1 / 182 - 185.
3- الإبانة عن أصول الديانة : 123 - 124 ، تمهيد الأوائل : 317 - 321 ، المواقف : 315 - 316.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذا يرجع إلى معنى الإرادة التي ذكرناها في الفصل السابق (2) ، وهذا الرجل لم يفرّق بين الإرادة والرضا ، وجلّ تشنيعاته ناش من عدم هذا الفرق.

وأمّا قوله : « كره اللّه ما كره الشياطين من الطاعات » فهذا افتراء على الأشاعرة.

* * *

ص: 369


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 306.
2- انظر الصفحة 363.
وأقول :

قد عرفت أنّ المختار لا يفعل شيئا إلّا لإرادته له ورضاه به ، ولا يترك أمرا إلّا لكراهته له ، وإلّا لخرج العمل عن كونه عقلائيا.

فإذا فرض أنّ اللّه تعالى هو الفاعل لأفعال البشر ، فلا بدّ أن يكون مريدا لما يقع من الفواحش كما هو مراد للشياطين ، وأن يكون كارها لما يقع من الطاعات كما هو مكروه للشياطين ؛ فتمّ ما ذكره المصنّف.

* * *

ص: 370

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

وقالت الإمامية : قد أمر اللّه عزّ وجلّ بما أراده ونهى عمّا كرهه (2).

وقالت الأشاعرة : قد أمر اللّه بكثير ممّا كره ونهى عن كثير ممّا أراد (3).

* * *

ص: 371


1- نهج الحقّ : 77.
2- النكت الاعتقادية : 25 ، شرح جمل العلم والعمل : 56 ، المنقذ من التقليد 1 / 85 و 179 - 180 ، تجريد الاعتقاد : 199.
3- الإبانة عن أصول الديانة : 123 - 124 ، تمهيد الأوائل : 317 - 320 ، الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 168 ، الملل والنحل - للشهرستاني - 1 / 83 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 343 وما بعدها ، المسائل الخمسون : 60 و 61 ، شرح المقاصد 4 / 274 وما بعدها ، شرح المواقف 8 / 173 - 174.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد عرفت ممّا سلف أنّ اللّه تعالى لا يجب عليه شيء ، ولا قبيح بالنسبة إليه ، فله أن يأمر بما شاء وينهى عمّا يشاء (2).

فأخذ المخالفون من هذا أنّه يلزم على هذا التقدير أن يأمر بما يكرهه وينهى عمّا يريده ؛ وقد عرفت جوابه.

وإنّ المراد بهذا : عدم وجوب شيء عليه ، وهذا التجويز لنفي الوجوب وإن لم يقع شيء من الأمور المذكورة في الوجود.

فالأمر بالمكروه والنهي عن المراد جائز ، ولا يكون واقعا ، فهو محال عادة وإن جاز عقلا بالنسبة إليه - كما مرّ غير مرّة - ، وسيجيء تفاصيل هذه الأجوبة عند مقالاته في ما سيأتي.

* * *

ص: 372


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 307.
2- انظر الصفحة 349 من هذا الجزء.
وأقول :

لم نأخذ ذلك ممّا ذكره وإن كان صالحا للأخذ منه ، بل أخذناه من قولهم : إنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى (1) ؛ لأنّ خلق الشيء وتقديره يستلزم الإرادة له والرضا به ، وتقدير عدم الشيء يستلزم كراهته - كما سبق - ، فإذا أمر اللّه سبحانه بما قدّر عدمه ، فقد أمر بما لا يريده وكرهه ، وإذا نهى عمّا قدّر وجوده ، فقد نهى عمّا أراده ورضيه - كما ذكره المصنّف - ، وهذا على مذهبهم واقع جار على العادة.

ولو سلّم أنّا أخذناه ممّا ذكره ، فمن أين أحرز عادة اللّه تعالى في عدم وقوع شيء من الأمور المذكورة وهي غيب؟!

على إنّ تجويز ذلك على اللّه سبحانه نقص في حقّه وأيّ نقص!! لأنّه من الجهل أو العجز ، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون.

* * *

ص: 373


1- خلق أفعال العباد - للبخاري - : 25 ، الإبانة عن أصول الديانة : 46 ، الإنصاف - للباقلّاني - : 28 و 43 ، تمهيد الأوائل : 318 و 341 وما بعدها ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 319 وما بعدها و 343 ، المواقف : 311 - 315.
قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - :

قال المصنّف - شرّف اللّه قدره - (1) :

فهذا خلاصة أقاويل الفريقين في عدل اللّه عزّ وجلّ.

وقول الإمامية في التوحيد يضاهي قولهم في العدل ، فإنّهم يقولون :

إنّ اللّه تعالى واحد لا قديم سواه ، ولا إله غيره ، ولا يشبه الأشياء ، ولا يجوز عليه ما يصحّ عليها من التحرّك والسكون ، وإنّه لم يزل ولا يزال حيّا قادرا عالما مدركا ، لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها ، ويقدّر ويحيي ، وإنّه لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم ، ولم يكن آمرا ولا ناهيا قبل خلقه لهم (2).

وقالت المشبّهة : إنّه يشبه خلقه ؛ فوصفوه بالأعضاء والجوارح ، وإنّه لم يزل آمرا وناهيا إلى ما بعد خراب العالم وبعد الحشر والنشر ، دائما بدوام ذاته (3).

وهذه المقالة في الأمر والنهي ودوامهما مقالة الأشعرية أيضا (4).

ص: 374


1- نهج الحقّ : 77.
2- أوائل المقالات : 51 - 53 ، شرح جمل العلم والعمل : 78 - 79 ، تقريب المعارف : 88 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 78 ، المنقذ من التقليد 1 / 131 ، تجريد الاعتقاد : 193 - 194.
3- الملل والنحل 1 / 94 ، شرح المواقف 8 / 25 - 26.
4- التقريب والإرشاد - للباقلّاني - 2 / 306 ، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 36 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 304 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 256 - 257 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 266 ، إرشاد الفحول : 31.

وقالت الأشاعرة أيضا : إنّه تعالى قادر ، عالم ، حيّ .. إلى غير ذلك من الصفات بذوات قديمة ، ليست هي اللّه ولا غيره ولا بعضه ، ولولاها لم يكن قادرا ، عالما ، حيّا (1).

تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

ص: 375


1- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 25 - 32 ، تمهيد الأوائل : 227 - 229 و 298 - 299 ، الإنصاف : 38 - 39 ، الملل والنحل 1 / 82 ، المسائل الخمسون : 43 وما بعدها.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

أكثر ما في هذا الفصل قد مرّ جوابه في ما سبق من الفصول على أبلغ الوجوه بحيث لم يبق للمرتاب ريب.

وما لم يذكر جوابه من كلام هذا الفصل - في ما سبق - هو ما قال في الأمر والنهي ، وأنّ الأشاعرة يقولون : بدوامهما.

فالجواب : إنّهم لمّا قالوا بالكلام النفسي ، وإنّه صفة لذات اللّه تعالى ، فيلزم أن تكون هذه الصفة أزلية وأبدية ..

والكلام لمّا اشتمل على الأمر والنهي يكون الأمر في الكلام النفسي أزلا وأبدا ، ولكن لا يلزم أن يكون آمرا وناهيا بالفعل قبل وجود الخطاب والمخاطبين حتّى يلزم السفه - كما سبق - ، بل الكلام بحيث لو تعلّق الخطاب عند التلفّظ به يكون المتكلّم آمرا وناهيا ، وهذا فرع لإثبات الكلام النفساني ، فأيّ غرابة في هذا الكلام؟!

* * *

ص: 376


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 309.
وأقول :

قد عرفت بطلان أجوبته ، ومنه تعرف بطلان جوابه هنا ، ولا أدري لم التزم بعدم الخطاب في القدم والأزل ، وقد أجازوا خطاب المعدوم (1) وقالوا : لا يقبح منه شيء؟! (2).

نعم ، لمّا علم أنّ خطاب المعدوم سفه بالضرورة ، التزم بعدم الخطاب غفلة عن مذهبه!

ولو التفت لكابر في نفي السفه ، كما كابر في نفي الأمر والنهي الفعليّين ، مع الالتزام بثبوت الأمر والنهي النفسيّين ، والحال أنّ النفسي مدلول الفعلي ، وكابر في ثبوت الأمر والنهي النفسيّين بدون الخطاب ، مع إنّهما لا يحصلان بدونه.

* * *

ص: 377


1- التقريب والإرشاد - للباقلّاني - 2 / 298 وما بعدها ، المستصفى من علم الأصول 1 / 85 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 304 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 266.
2- انظر : المسائل الخمسون : 61 المسألة 36 ، المواقف : 328.
قال المصنّف قدس سره :

قال المصنّف قدس سره (1) :

وقالت الإمامية : إنّ أنبياء اللّه وأئمّته منزّهون عن المعاصي ، وعمّا يستخفّ وينفّر (2).

ودانوا بتعظيم أهل البيت الّذين أمر اللّه بمودّتهم وجعلها أجر الرسالة ، فقال تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (3).

وقال أهل السنّة كافّة : إنّه يجوز عليهم الصغائر (4).

وجوّزت الأشاعرة عليهم الكبائر (5).

* * *

ص: 378


1- نهج الحقّ : 78.
2- أوائل المقالات 4 / 62 و 65 ، تصحيح الاعتقاد : 129 ، الذخيرة في علم الكلام : 337 و 429 ، شرح جمل العلم والعمل : 192 ، تنزيه الأنبياء - للشريف المرتضى - : 15 ، المنقذ من التقليد 1 / 424 ، تجريد الاعتقاد : 213 و 222.
3- سورة الشورى 42 : 23.
4- (4) التقريب والإرشاد 1 / 438 - 439 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 321 وقال : « وأمّا أنّه هل يجب كونهم معصومين عن الصغائر قبل البعثة وبعدها؟
5- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 320 ، المواقف : 359 ، شرح المواقف 8 / 264 و 265.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

أجمع أهل الملل والشرائع كلّها على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة وما يبلّغونه عن اللّه ... وأمّا سائر الذنوب فأجمعت الأمّة على عصمتهم من الكفر (2).

وجوّز الشيعة إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك ؛ لأنّ إظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنفس في التهلكة ، وذلك باطل ؛ لأنّه يقضي إلى إخفاء الدعوة بالكلّيّة وترك تبليغ الرسالة ، إذ أولى الأوقات بالتقيّة وقت الدعوة ، للضعف بسبب قلّة الموافق وكثرة المخالفين (3).

وأمّا غير الكفر من الكبائر ، فمنعه الجمهور من الأشاعرة والمحقّقين.

وأمّا الصغائر عمدا ، فجوّزه الجمهور إلّا الصغائر الخسيسة كسرقة حبّة أو لقمة (4) ، للزوم المخالفة لمنصب النبوّة.

هذا مذهبهم ، فنسبة تجويز الكبائر إلى الأشاعرة افتراء محض.

وأمّا ما ذكر من تعظيم أنبياء اللّه وأهل بيت النبوّة ، فهو شعار أهل السنّة ، والتعظيم ليس عداوة الصحابة ، كما زعمه الشيعة والروافض ، بل

ص: 379


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 312.
2- شرح المواقف 8 / 263 - 264.
3- شرح المواقف 8 / 264.
4- انظر : شرح المواقف 8 / 264.

التعظيم أداء حقوق عظم قدرهم في المتابعة ، وذكرهم بالتفخيم ، واعتقاد قربهم من اللّه ورسوله ، وهذه خصلة اتّصف بها أهل السنّة والجماعة.

* * *

ص: 380

وأقول :

لا معنى لعصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في دعوى الرسالة ، فإنّه بعد فرض النبوّة والرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم الأنبياء عنه.

وأمّا بالنظر إلى ما قبل الرسالة ، فلا تقتضي المعجزة اللاحقة عصمتهم عن الكذب قبلها ، ولكن لمّا كانت المعجزة تدلّ على صدقهم في دعوى الرسالة استنتج صاحب « المواقف » عصمتهم عن الكذب في دعواها (1) ، وأخذه منه الخصم بلا تدبّر ليقال : إنّهم ممّن يقول بعصمة الأنبياء في الجملة.

ثمّ إنّ دعوى إفادة المعجزة القطع لا تتمّ على مذهب الأشاعرة ، إذ يجوز عقلا - بناء على قولهم : « لا يقبح منه شيء » (2) - أن يظهرها على يد الكاذب.

ودعوى العادة على عدم ظهورها على يد الكاذب موقوفة على الاطّلاع على كلّ من ظهرت على يده المعجزة ، وأنّه غير كاذب ، وهو غير حاصل ، بل لعلّ كلّ من ظهرت على يده المعجزة كاذب!

على إنّ التخلّف عن العادة ليس قطعي العدم ، لا سيّما في مورد التخلّف عن العادة بصدور المعجزة.

ص: 381


1- المواقف : 358.
2- انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : 116 ، المسائل الخمسون : 61 المسألة 36 ، المواقف : 328. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 320/1 - 321 بلفظ «لو لم أبعث فيكم لبعث عمر» بطريقين ، أولهما عن زكريا بن يحيى ، وثانيهما عن مشرح بن هاعان . وقال : «هذان حديثان لا يصحان عن رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم. أما الأول : فإنّ زكريا بن يحيى كان من الكذابين الكبار . قال ابن عدي : كان يضع الحديث . وأما الثاني : فقال أحمد ويحيى : عبد اللّه بن واقد ليس بشيء . وقال النسائي : متروك الحديث . وقال ابن حبان : انقلبت على مشرح بن هاعان صحائفه فبطل الاحتجاج به » . وقال ابن حبان أيضاً بترجمة مشرح بن هاعان في الثقات 452/5: يخطئ ويخالف .

وأمّا ما زعمه من الإجماع على عصمتهم عن الكفر ، فمناف لما سيأتي في بحث النبوّة من أنّ بعض الأشاعرة وغيرهم من السنّة يجوّزون عليهم الكفر ، بل قال بعضهم بوقوعه (1) ..

ومناف أيضا لمام يروونه عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر » (2) ، فإنّ العصمة عن الكذب لا تجامع صلاحية عمر للنبوّة وهو كافر أكثر عمره.

فلا بدّ إمّا من منع وجوب العصمة عندهم عن الكفر ، أو الحكم بكذب هذه الرواية وأنّها من مفتعلات القوم.

وأمّا ما نسبه إلى الشيعة تبعا ( للمواقف ) من أنّهم يجوّزون إظهار الكفر تقيّة (3) ، فكذب عليهم ، وإلّا فليسندوه إلى كتاب من كتبهم!

ص: 382


1- انظر : شرح المواقف 8 / 264 ، وسيأتي تخريج ذلك مفصّلا في بحث النبوّة.
2- سنن الترمذي 5 / 578 ح 3686 وقال : « هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلّا من حديث مشرح بن هاعان » ، تاريخ دمشق 44 / 114 - 116 ح 9564 - 9569 ، أسد الغابة 3 / 658 ، مختصر تاريخ دمشق 18 / 290 ، تحفة الأحوذي 10 / 119 ح 3933.
3- المواقف : 359 ، وانظر : شرح المواقف 8 / 264.

ومجرّد قول الشيعة بالتقيّة لا يستلزم تعميمها في جميع المقامات ، بل ذلك مذهب بعض السنّة - كما ستعرفه في مباحث النبوّة - ، وهو الأنسب بهم ، فإنّهم إذا نسبوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قصّة الغرانيق حيث أظهر الكفر تأليفا لقومه ، فتجويزهم عليه وعلى الأنبياء إظهاره تقيّة أولى (1).

ونسبوا إليه صلی اللّه علیه و آله وإلى إبراهيم الشكّ حيث قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم » (2) كما سيجيء.

ومن المعلوم أنّ الشاكّ ليس بمؤمن ، فإظهار الكفر للتقيّة أولى ؛ لأنّ الشكّ أسوأ.

وأمّا تكذيبه للمصنّف رحمه اللّه في نسبته إلى الأشاعرة تجويز الكبائر على الأنبياء ، فسيأتي ما فيه في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا ما ادّعاه من أنّ تعظيم الأنبياء وأهل البيت شعارهم ، فستعرف كذبه من نسبتهم إلى الأنبياء ما لا يليق بشأنهم ، وتأويلهم ما لا يقبل التأويل من النصوص على إمامة أمير المؤمنين علیه السلام ، وجعلهم أهل البيت من سائر المسلمين ، وفضّلوا الأداني عليهم ، مع إنّ اللّه تعالى ميّزهم بالطهارة من الرجس (3) ، وأوجب على الأمّة التمسّك بهم ، وجعلهم عدل القرآن المجيد

ص: 383


1- المعجم الكبير 9 / 34 ح 8316 وج 12 / 42 ح 12450 ، مجمع الزوائد 7 / 71 و 115 ، وستأتي القصّة بتمامها في مبحث النبوّة.
2- صحيح البخاري 4 / 290 ح 174 كتاب الأنبياء ، صحيح مسلم 7 / 98 باب فضائل إبراهيم الخليل علیه السلام ، فتح الباري 6 / 507 كتاب أحاديث الأنبياء ؛ وسيأتي تمام الحديث في مبحث النبوّة.
3- إشارة إلى قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) سورة الأحزاب 33 : 33.

إلى يوم الدين (1).

وأمّا قوله : « والتعظيم ليس عداوة الصحابة » ، ففيه :

إنّا لا نعادي إلّا المنقلبين على أعقابهم ، الّذين ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، و

يقول فيهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « سحقا سحقا حتّى لا يخلص من النار إلّا مثل همل النعم » (2) ..

وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (3).

* * *

ص: 384


1- إشارة إلى حديث الثقلين ؛ وقد مرّ تخريجه مفصّلا في الصفحة 187 ه 1 من هذا الجزء.
2- انظر : صحيح البخاري 8 / 216 ح 164 باب في الحوض ؛ باختلاف يسير.
3- سورة المجادلة 58 : 22.

ترجيح أحد المذهبين

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

فلينظر العاقل في المقالتين ، ويلمح المذهبين ، وينصف في الترجيح ، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح ، ويترك تقليد الآباء ، والمشايخ الآخذين بالأهواء ، وغرّتهم الحياة الدنيا ، بل ينصح نفسه ، ولا يعوّل على غيره ، فلا يقبل عذره يوم القيامة ، أنّي قلّدت شيخي الفلاني ، ووجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة ، فإنّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة ، يوم يتبرّأ المتبوعون من أتباعهم ، ويفرّون من أشياعهم.

وقد نصّ اللّه تعالى على ذلك في كتابه العزيز (2) ، ولكن أين الآذان السامعة والقلوب الواعية؟!

وهل يشكّ العاقل في الصحيح من المقالتين ، وأنّ مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل ، وأنّها أشبه بالدين ، وأنّ القائلين بها هم الّذين قال اللّه تعالى فيهم : ( فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (3)؟!

فالإمامية هم الّذين قبلوا هداية اللّه واهتدوا بها ، وهم أولوا الألباب.

ص: 385


1- نهج الحقّ : 79.
2- إشارة إلى قوله تعالى : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... ) سورة البقرة 2 : 166.
3- سورة الزمر 39 : 17 و 18.

ولينصف العاقل من نفسه أنّه لو جاء مشرك وطلب شرح أصول دين المسلمين في العدل والتوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم ، هل كان الأولى أن يقال له - حتّى يرغب في الإسلام ويتزيّن في قلبه أنّه من ديننا - : إنّ جميع أفعال اللّه تعالى حكمة وصواب ، وإنّا نرضى بقضائه ، وإنّه منزّه عن فعل القبائح والفواحش ، لا تقع منه ، ولا يعاقب الناس على فعل يفعله فيه ، ولا يقدرون على دفعه عنهم ، ولا يتمكّنون من امتثال أمره ..

أو يقال : ليس في أفعاله حكمة وصواب ، وإنّه يفعل السفه والفاحشة ، ولا نرضى بقضاء اللّه تعالى ، وإنّه يعاقب الناس على ما فعله فيهم ، بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما ، ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذّبهم عليها؟!

وهل الأولى أن يقول : من ديننا أنّ اللّه لا يكلّف الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون ..

أو نقول : إنّه يكلّف الناس ما لا يطيقون ، ويعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى يكره الفواحش ولا يريدها ولا يحبّها ولا يرضاها ..

أو نقول : إنّه يحبّ أن يشتم ويسبّ ويعصى بأنواع المعاصي ، ويكره أن يمدح ويطاع ، ويعذّب الناس لمّا كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كره؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولا يجوز عليه ما يجوز عليها ..

ص: 386

أو نقول : إنّه يشبهها؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ اللّه تعالى يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته ..

أو نقول : إنّه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم إلّا بذوات قديمة ، ولولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصفات؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم ...

أو نقول : إنّه لم يزل في القدم ، ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، لا يخلّ بذلك أصلا؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته ..

أو نقول : يرى بالعين ، إمّا من جهة من الجهات له أعضاء وصورة : أو يرى بالعين لا في جهة؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ أنبياءه وأئمّته منزّهون عن كلّ قبيح وسخيف ..

أو نقول : إنّهم اقترفوا المعاصي المنفّرة عنهم ، وإنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة والذلّة ، كسرقة درهم وكذب وفاحشة ، ويداومون على ذلك مع إنّهم محلّ وحيه وحفظة شرعه وإنّ النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة والفعليّة؟!

فإذا عرفت أنّه لا ينبغي أن يذكر لهذا السائل عن دين الإسلام إلّا مذهب الإمامية دون قول غيرهم ، عرفت عظم موقعهم في الإسلام!

وتعلم أيضا بزيادة بصيرتهم ؛ لأنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلّا من أمير المؤمنين علیه السلام وأولاده علیهم السلام أخذ ، وكان جميع العلماء

ص: 387

يستندون إليه على ما يأتي.

فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلوّ منزلتهم؟!

فإذا سمعوا شبهة في توحيد اللّه أو في عبث بعض أفعاله ، انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم ، فلا تسكن نفوسهم ولا تطمئنّ قلوبهم حتّى يتحقّق الجواب عنها.

ومخالفهم إذا سمع دلالة قطعية على إنّ اللّه تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح ، ظلّ ليله ونهاره مهموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها ، حذرا أن يصحّ عنده أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبيح ، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلّت الشبهة عليه.

فشتّان ما بين الفريقين ، وبعد ما بين المذهبين!

ولنشرع في تفصيل المسائل ، وكشف الحقّ فيها بعون اللّه تعالى ولطفه ...

* * *

ص: 388

وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم الإنصاف ، والرجوع إلى الوجدان ، والدليل في ترجيح مذهب الإمامية ، وأنّ المنصف إذا ترك التقليد ، ونظر إلى المذهبين نظر الإنصاف ، علم أنّ مذهب الإمامية مرجّح.

ومثل هذا في حال من أراد دخول الإسلام وحاول أن يتبيّن عنده ترجيح مذهب من المذاهب ، فلا شكّ أنّ معتقدات الإمامية أبين وأظهر عند العقول ، وأقرب من سائر المذاهب إلى التلقّي والقبول.

ونحن إن شاء اللّه تعالى في هذا الفصل نحذو حذوه ، ونجاريه فصلا بفصل ، وعقيدة بعقيدة ، على شرط تجنّب التهمة والافتراء ، ومحافظة شريطة الصدق والإنصاف ..

فنقول : لو استجار مشرك في بلاد الإسلام ، وأراد أن يسمع كلام اللّه رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه إلى الإسلام ، فطلب من العلماء أصول دين الإسلام في العدل والتوحيد ، ليرغب بفهمه إلى الملّة البيضاء ..

فيا معشر العقلاء :

هل الأولى أن يقال له - حتّى يرغب ويتزيّن الإسلام في قلبه - : إنّ الإله الذي ندعوك إلى طاعته وعبوديّته هو خالق كلّ الأشياء ، وهو الفاعل المختار ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، وهو يحكم ما يريد ، ولا شريك له في الخلق والتصرّف في الكائنات ، ولا تسقط ورقة ولا تتحرّك نملة إلّا

ص: 389


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 317.

بحكمه وإرادته وقضائه وقدره ، دبّر أمور الكائنات في أزل الآزل ، وقدّر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم وإيجادهم ، ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ، وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ، ولا يجب عليه شيء ..

وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، وهو منزّه عن فعل القبائح ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، ونحن نرضى بقضائه ، والقضاء غير المقتضي ..

هل الأولى هذا؟! أو يقال : الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق ، فأنت تخلق أفعالك والناس يخلقون أفعالهم ، وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار ، بل هو كالنار إذا صادف الحطب يجب عليه الإحراق.

والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه الثواب ، فهذه الحسنة كالدين على رقبته يجب عليه ثوابها ، وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها ، وليس له أن يتفضّل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذنب ، بل الواجب واللازم عليه عقابه ، كالنار الواجب عليها الإحراق.

وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق وعلم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق ، وله الشركاء في الخلق ، وهو يخلق والناس يخلقون؟!

وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار ، يكلّف الناس كيفما شاء ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ، فإذا أراد كلّفهم حسب طاقتهم ، وجاز له ولا يمتنع عليه أن يكلّف فوق الطاقة ، لكن بفضله وكرمه لم يكلّف الناس فوق الطاقة ولم يقع هذا ..

ص: 390

أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم ، وليس له التصرّف فيهم ، ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته ، ولكنّ الخير والطاعة برضاه وحبّه ، والشر والمعصية بغير رضاه ..

أو نقول : إنّه مغلول اليد ، فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو خالقه ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره ، وله شركاء في الملك والتصرّف؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك ، غير إنّ صفات نفسك حادثة وصفاته قديمة ..

أو نقول : إنّه لا صفات له ، ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ اللّه تعالى عالم بعلم أزلي ، قادر بقدرة أزلية ، حيّ بحياة سرمدية ، متكلّم بكلام أزلي ..

أو يقال له : إنّ الصفات مسلوبة عنه ، وليس له علم ولا قدرة ، بل ذاته تعلم الأشياء بلا علم ؛ فيتحيّر ذلك المسكين ، أنّ العالم كيف يعلم بلا علم ، وكيف يقدر بلا قدرة؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ اللّه تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي هو صفة ذاته ، وبعد ما خلق الخلق خاطب الرسل بذلك الكلام ، وأمر الناس ونهاهم ..

أو يقال له : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ، فإنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما ، وإنّه أحدث الأمر والنهي بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟!

ص: 391

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة لعباده ، ليزداد بذلك شغفه في عبادة ربّه ، رجاء أن ينظر إليه يوم القيامة ، ولكن هذه الرؤية بلا كيفية كما سترى وتعلم ..

أو يقال له : هذا الربّ لا ينظر إليه في الدنيا ولا في الآخرة؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء اللّه تعالى مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر ، ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر عنهم ، فلا تيأس أنت من عفو اللّه وكرمه ، إن صدر عنك معصية فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب ، فأنت لا تقنط من الرحمة ..

أو يقال له : الأنبياء كالملائكة يستحيل عليهم الذنب ، فإذا سمع بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ ) (1) يتردّد في نبوّة آدم ؛ لأنّه وقع منه المعصية فلا يكون نبيّا؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه ، وأقاموا في خدمته وصحبته طول أعمارهم ، وقاسوا الشدائد والبلايا في إقامة الدين ودفع الكفرة ، وذكرهم اللّه في القرآن وأثنى عليهم بكلّ خير ورضي عنهم ..

ثمّ بعده قاموا بوظائف الخلافة ، ونشروا الدين ، وفتحوا البلاد ، وأظهروا أحكام الشريعة ، وأحكموا قواعد الحدود ، حتّى بقي منهم الدين ، وانحفظت من سعيهم الشريعة إلى يوم الدين ..

أو يقال له : إنّ هؤلاء الأصحاب بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خالفوه ، ورجعوا إلى الكفر ، ولم يهد محمّد صلی اللّه علیه و آله إلّا سبعة عشر نفرا؟!

ص: 392


1- سورة طه 20 : 121.

فيا معشر العقلاء : انظروا إلى المذهبين! وتأمّلوا وأمعنوا في عقائد الفريقين! ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ) (1) .. ( الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2).

وأمّا ما ذكر أنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب شبهة إلّا ومن أمير المؤمنين عليّ ؛ فإنّ هذا لا يختصّون به دوننا ، بل كلّ ما نأخذه من العقائد ، ونتلقّى من الأدلّة ، فإنّها مأخوذة من تلك الحضرة ومن غيره من أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين سواء ، وككبار الصحابة الّذين شهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعلمهم واجتهادهم وأمانتهم.

وهم يذكرون الأشياء من الأئمّة ويمزجون كلّ ما ينقلون عنهم بألف كذبة كالكهنة السامعة لأخبار الغيب ، ونحن لا نرويه ولا ننقله إلّا بالأسانيد الصحيحة المعتبرة المعتمدة ، والحمد لله على ذلك التوفيق.

* * *

ص: 393


1- سورة هود 11 : 24.
2- سورة العنكبوت 29 : 63.

وأقول :

لا يخفى أنّه قد دلّس في مذهب قومه ، وموّه ما شاء ولبّس في مذهب الإمامية ، وافترى من غير حياء - كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى - ، فخالف ما اشترطه من الصدق والإنصاف ، اتّباعا للهوى ، وتعصّبا لدين الأسلاف.

ونحن بعون اللّه تعالى نكشف عن وجه الحقيقة غشاءها ، ونعيد إلى مرآة الحقّ صفاءها.

أمّا ما ذكره أوّلا في تقرير مذهب الأشاعرة بقوله : « خالق كلّ الأشياء » ..

فهو أوّل تمويه ؛ لأنّ مورد النزاع هو أفعال العباد ، وأنّها مفعولة لله سبحانه أو للعبد ، فكان اللازم النصّ عليها ليتّضح حال المذهبين ، ولم يكف ذكر ما ينصرف لغيرها ، فينبغي أن يقال للمشرك المتحيّر : إنّه تعالى خالق كلّ الأشياء ، حتّى الزنا ، واللواط ، والكذب ، والظلم ، والنهب ، والسرقة ، والقتل ، ونحوها.

ولا ريب أنّه حينئذ يستنكره ويستكرهه ويعدّه من منافيات وجدانه لأنّه يجد أنّه فاعل فعله.

ولو ذكر له الشرك الذي هو عليه وقيل : إنّه مخلوق لله تعالى ، لقال هذا دليل رضاه به ؛ لأنّ الفعل بالاختيار لا يصدر بدون رضا الفاعل فلا داعي للعدول عنه.

ولو اجتهدوا في ترغيبه وإقناعه لقال : ما لكم خرجتم عن مذهبكم؟!

ص: 394

فإنّه لا فعل لي بزعمكم ، والخالق لشركي هو اللّه فرغّبوه دوني!

وكذا الكلام في بقية الفقرات التي أراد بها أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وموّه فيها بإظهار ما ينصرف إلى غيرها.

ويزيد إشكالا قوله : « هو الفاعل المختار » ؛ لأنّ اللّه سبحانه عندهم موجب لصفاته فلا يكون مختارا على الإطلاق.

وبالجملة : هذه الفقرات بالنظر إلى ما عدا أفعال العباد مشتركة بين المذهبين ، وبالنظر إلى أفعال العباد قد موّه بها ، فلا معنى لذكرها في مقام التفاضل.

وأمّا قوله : « دبّر أمور الكائنات في أزل الآزال » ..

فإن أراد به أنّه أجراها على موازينها وقام بشؤونها ، فهو ليس في الأزل ، بل حين خلقها وأوجدها ، وإن أراد أنّه تروّى بها ورتّب كيفية خلقها ، فهو باطل ؛ لأنّه غني عن التروّي ، عالم بكلّ شيء في الأزل ، فإذا أراد شيئا قال له : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (1) ، بلا إجالة فكر.

وأمّا قوله : « ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ».

فهو من الفضول في مقام التفاضل ؛ لاشتراك القول به بين الجميع.

وأمّا قوله : « وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ».

فهو ممّا أريد به خلاف ظاهره ، فإنّ ظاهره تنزيه وخير ، ولكنّه تأبّط شرّا ؛ لأنّه لو صرّح للمشرك بأنّ من أفعاله الزنا ، واللواط ، وظلم الناس بعضهم بعضا ، والإفساد في الأرض ، وجميع الفتن ، لجزم بأنّها ليست

ص: 395


1- سورة البقرة 2 : 117 ، سورة آل عمران 3 : 47 و 59 ، سورة الأنعام 6 : 73 ، سورة النحل 16 : 40 ، سورة مريم 19 : 35 ، سورة يس 36 : 82 ، سورة غافر 40 : 68.

حكمة وصوابا.

وكذا قوله : « لا يجب عليه شيء ».

فإنّه لو فهم أنّ المقصود منه أنّه لا يجب عليه الرحمة وجزاء عبده بالطاعة وفعل الجميل ، وأنّه يجوز أن يعذّب المطيع المحسن بلا ذنب ، لأنكر صلاحيّته للربوبية ، وحكم بعدم عدله وحكمته ، ولم ير بالدخول بالإسلام على تقدير أحقّيّته فائدة تقتضي إتعاب النفس في اتّباع أحكامه.

وكذا قوله : « وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، لا يسأل عمّا يفعل ».

فإنّه لو علم أنّ المراد أنّه يجوز عقاب من آمن به وعبده طول عمره ولم يذنب قطّ ، وثواب من كفر به وسبّه مدّة حياته ، وأنّه لا يسأل عن ذلك ، لحكم بأنّ تجويز ذلك تجويز للجور والسفه عليه سبحانه ، وبادر إلى الاعتراض والسؤال عن هذا العمل الوحشي.

ومعنى قوله تعالى : ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (1) على مذهب أهل العدل ، أنّه لمّا علمت حكمته وعدله فلا يسأل عن فعله إذا خفي وجهه ، لا أنّه لا يسأل عن فعله وإن نافى الرحمة والعدل والحكمة (2).

وأمّا قول الخصم : « وهم يسألون ».

فممّا يزيد المتحيّر حيرة ؛ لأنّه بعد ما ذكر له أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لا يتصوّر وجها لمسؤوليّتهم عن شيء لا تأثير لهم فيه أصلا.

ص: 396


1- سورة الأنبياء 21 : 23.
2- انظر : تفسير الكشّاف 2 / 568 ، مجمع البيان 7 / 70 ، تفسير الفخر الرازي 22 / 157 - 158.

وكذا يزيده حيرة قوله : « وهو منزّه عن فعل القبائح ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ».

إذ كيف لا يقبح فعل القبيح في حقّه وهو أحقّ من تنزّه عن القبيح.

وأمّا قوله : « ونحن نرضى بقضائه ».

فهو - لو صحّ - ممّا يشترك به الفريقان ، إلّا إنّه بإضافة قوله :

« والقضاء غير المقضي » يترك السامع متعجّبا من إرادته به وجوب الرضا بالقضاء دون المقضي ، والحال أنّ الرضا بأحدهما لا ينفكّ عن الرضا بالآخر.

وأمّا ما ذكره في تقرير مذهب الإمامية من أنّ : « الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق » ..

فتلبيس ظاهر ؛ لأنّ إسناد أفعال العباد إليهم لا يستلزم الشركة ، كإسناد الملكية والقدرة لهم ، بل ذلك من مظاهر القدرة الربّانية وتوابع العبودية ؛ لأنّه تعالى أعطانا قدرة على أفعالنا ومكّننا من الاختيار ، ولا قدرة لنا من عند أنفسنا ففعلناها بإرادتنا مع احتياجنا في كلّ آن إليه.

وهذا هو الصنع العجيب ، حيث خلق ما يؤثّر الآثار بلا مباشرة منه تعالى للأثر ، ولا حاجة له إلى المؤثّر ، بل لنزاهته عن إتيان فواحش الأعمال وحكمته في جعل القدرة والاختيار للعبد ، ففي هذا إطراء لقدرته تعالى وتنزيه له عن القبيح.

وأمّا قوله : « وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار » ..

فهو من أظهر الكذب ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ مذهب أهل العدل أنّ اللّه تعالى متصرّف بأفعاله من خلق السماوات والأرض والأجسام

ص: 397

والأعراض بإرادته واختياره ، وإنّما الذي يصف اللّه سبحانه بالموجب هو الأشاعرة ؛ لأنّه عندهم موجب لصفاته ؛ ومجرّد قولنا : إنّه تعالى يجب عليه برحمته وعدله إعطاء العوض ؛ لا يقتضي أن يكون موجبا لا مختارا حتّى لو سمّينا العوض دينا عليه ، فإنّ أداء الدين اختياري للعبد ، فكيف لله تعالى؟! وهذا من جهالات الخصم وخرافاته.

وأمّا قوله : « وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها وليس له أن يتفضّل » ..

فأكذب من الأوّل ، كما ستعرف.

قال نصير الدين قدس سره في ( التجريد ) : « والعفو واقع ؛ لأنّه حقّه تعالى ... ولا ضرر عليه في تركه ... ولأنّه إحسان ، وللسمع والإجماع على الشفاعة » (1).

وقال القوشجي في شرحه : « اتّفقت الأمّة على إنّه تعالى يعفو عن الأمّة وعن الصغائر مطلقا ، وعن الكبائر بعد التوبة ، ولا يعفو عن الكفر قطعا ، واختلفوا في جواز العفو عن الكبائر بدون التوبة ، فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنّه جائز عقلا غير جائز سمعا ، وذهب الباقون إلى وقوعه عقلا وسمعا ، واختاره المصنّف » (2).

فأين ما اشترطه الفضل من الصدق والإنصاف؟!

وأمّا قوله : « وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق ولا علم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق » ..

فأكذب من الأوّلين ؛ لأنّا نقول : إنّه تعالى عالم لذاته في الأزل وهو

ص: 398


1- تجريد الاعتقاد : 304 - 305.
2- شرح التجريد : 501.

ظاهر ، وقد قضى - أي حكم - بالأزل بكلّ شيء من الكائنات سوى أفعال عباده كما يظهر من أخبار أهل البيت علیهم السلام .

نعم ، لم يكن بالأزل القضاء ببعض معانيه كالخلق والإعلام والتكليف ، ومجرّد قولنا بعدم زيادة صفاته تعالى على ذاته لا يستلزم عدم علمه في الأزل بالأشياء ، كيف؟! وعلمه عين ذاته!

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثانيا : « وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار » ..

فهو لا يختصّ بمذهبه ، بل هم يرونه سبحانه موجبا لصفاته.

وأمّا قوله : « يكلّف الناس كيف ما يشاء » إلى تمام ما ذكره في بيان جواز التكليف بما لا يطاق ..

ففيه : إنّه لو سمعه المشرك لقال : على هذا يكون الإله الذي تدعون إليه غير منزّه عن السفه والجهل ، ولا مأمون الجور ، ولا يؤمنه دعوى عدم الوقوع ، ولا ضمان أن لا يقع.

وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية : « أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم » ..

فلا ريب أنّه أنسب بالحكمة والعلم والعدل ، وأقوى في رغبة السامع من القول بأنّه يجوز أن يكلّف بما لا يطاق.

وأمّا قوله : « ليس له التصرّف فيهم » ..

فظاهره كذب صريح ، وقد أراد به أنّه يمتنع عليه أن يكلّف بما لا يطاق ، كما ذكره بعبارته بعدها ، لكن قال فيها : « ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد » .. وهو كذب صريح ؛ لأنّ التكليف بما لا يطاق ليس من مراده ، وهو ممتنع الفعل والإرادة بالغير ، أعني الحكمة والعدل.

ص: 399

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثالثا : « وهل الأولى أن يقال : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته » ..

ففيه : إنّه لو صرّح بأنّ من جملة ما جرى بتقديره وإرادته أفعال الإنسان ، حسنها وقبيحها ، لعدّه السامع مكابرة لوجدانه ، واستنكر من نسبة القبيح إلى من يريد معرفة ربوبيّته ، وحكم بمناقضة نسبة الأفعال إليه مع الحكم بأنّه لا يرضى بالمعصية ؛ لأنّ فعل المختار يستلزم رضاه ..

على إنّا أولى بأن نقول : الطاعة برضاه والمعصية بغير رضاه ، فلا وجه لتخصيص الأشاعرة به.

وأمّا ما نسبه إلى الإمامية من أنّهم يقولون : إنّه سبحانه مغلول اليد ..

فكذب بجرأة عظيمة على جلال اللّه وقدسه ، فإنّ غلّ اليد إنّما يناسب القصور عن الفعل لا التنزّه عنه ، أو كونه جورا وظلما كعذاب من لا ذنب له والتكليف بما لا يطاق ، فيكون ممتنعا بالغير ، وإن كان سبحانه أقدر كلّ قادر عليه.

فعلى رأي الخصم : إنّه سبحانه لمّا وصف نفسه بأنّه ليس بظلّام للعبيد ، كان معناه أنّه سبحانه مغلول اليد ، ولا موجب لهذا الكذب علينا على الوجه الأشنع إلّا الانتصار لدين الأسلاف.

وأمّا قوله : « فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو فاعله ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره ... » إلى آخره ..

فهو من الجهل الفاضح ، لأنّا نقول : إنّا فاعلون لأفعالنا خيرا وشرّا ، فلا وجه للتفصيل.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن

ص: 400

له صفات تأخذ معرفتها ... » إلى آخره ..

ففيه : مع إنّ القول بعدم المشابهة مشترك ظاهرا بين الفريقين ، لا يجتمع مع القول بأخذ صفاته من صفات البشر ؛ لأنّ أخذ معرفة صفة من صفة يقتضي المشابهة بينهما ويلزمه أن يكون الموصوفان متشابهين ؛ لأنّ اقتضاء الذاتين للأمرين المتشابهين ، دليل على تشابه الذاتين ، فلا معنى لقوله : « لا يشبه الأشياء ».

وأمّا قوله : « أو نقول : إنّه لا صفات له » ..

فإن أراد به أنّه لا صفات له زائدة على ذاته ، مغايرة له في الوجود ، فهو قولنا ، وهو الحقّ الصريح.

وإن أراد به انتفاء العلم عنه ، أي انكشاف الأشياء له وحضورها عنده ، وانتفاء القدرة وباقي الصفات عنه فهو باطل ، بعد أن تكون ذاته تعالى بنفسها مصدرا لآثار العلم ، والقدرة ، والإرادة ، وغيرها من الصفات ، بلا حاجة منه إلى الصفات المغايرة له ، فلا يشبه مخلوقاته في الحاجة إلى غيرها في صدور الآثار عنها.

نعم ، لمّا كانت ذاته المقدّسة مصدرا لآثار الصفات ، صحّ أن ينتزع له وصف الحيّ القادر العالم .. إلى غيرها من صفاته ، فهو سبحانه حيّ قادر عالم أزلا وأبدا ، وهذا معنى جليّ لا يحير فيه إلّا من لا إدراك له.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ اللّه تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي صفة ذاته » ..

ففيه : إنّ هذا لا يكفي في البيان ، بل ينبغي أن يضاف إليه أنّه صفة مغايرة لسائر الصفات ، فعنده يحير ذلك الطالب للمعرفة في فهم معناه ولا يجده معقولا ، ويرى الطلب في الأزل والأبد حيث لا مطلوب ،

ص: 401

ولا مطلوب منه من السفه.

وأمّا قوله : « أو يقال : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ؛ لأنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما » ..

فغير صحيح ؛ لصحّة انتزاع وصف المتكلّم له تعالى من خلقه للكلام ، لاختلاف أنحاء تلبّس الذات بالمبدأ - كما مرّ - على إنّ ذلك مناقشة لفظية في كلمة لم تثبت في الكتاب ، ولم يلزم الحكم بصحّة إطلاقها عليه تعالى ، إلى غير ذلك ممّا عرفته سابقا (1).

وأمّا قوله : « وإنّه أحدث الأمر والنهي ... بلا تقدير وإرادة سابقة » ..

فكذب ظاهر ؛ لأنّا لا ننكر التقدير والإرادة في السابق ، وقولنا بعدم زيادة صفاته تعالى لا يستدعي عدم الإرادة الأزلية المنتزعة من ذاته تعالى ، كالعلم والقدرة والحياة الأزليّات ، وإنّما يتأخّر المراد لوقته ، كما هو كذلك على قولهم.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة » إلى قوله : « ولكن هذه الرؤية بلا كيفية ، كما سترى وتعلم » ..

ففيه : إنّه يستلزم إنكار السامع من وجهين :

الأوّل : إنّه تعالى لو كان صالحا لتعلّق الرؤية به ، فلم لا يرى في الدنيا ، والرؤية فيها أولى ، ليحصل اليقين به وجدانا ، فيطلبها السامع حينئذ فيقع القائل في الحيرة.

الثاني : إنّه لا يتصوّر معنى معقولا للرؤية بلا كيفية ، فينفر المتحيّر عن الدين المشتمل على ما لا يعقل ، فيقع بدل ما أرادوا من الشغف في

ص: 402


1- راجع ردّ الشيخ المظفّر قدس سره في الصفحة 229 من هذا الجزء.

العبادة النفرة عنها وعن أصل الدين ، ويعدّ وعدهم في الرؤية غير المعقولة مسخرة ؛ وكاف في شغفه في العبادة أن يعرف ما يستحقّ بها من الثواب الجزيل والقرب من رحمة ربّه الكريم.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء اللّه مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر » ..

ففيه :

أوّلا : إنّه لا معنى للعصمة عن الكذب في دعوى الرسالة كما هو مراده ، وقد سبق.

وثانيا : إنّهم لا ينزّهون الأنبياء عن الكبائر قبل النبوّة ، وبعضهم لا ينزّههم حتّى عن الكفر قبلها! وأمّا بعد النبوّة فلا ينزّهونهم عن الكبائر سهوا ، بل عمدا عند بعضهم ، كما ستسمع إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا قوله : « ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر » ..

ففيه : إنّ هذا موجب للنفرة منهم ؛ لأنّ من جاء لتأسيس شرع أو تقوية شرع سابق ، لا يحسن أن يخالفه ، ولا يكون مع المخالفة محلّا للوثوق والاتّباع.

فكيف يسكن إليه الحائر وقد قرعوا سمعه - قبل الإيمان به - بأنّه يفعل المعاصي ويخالف ما جاء به؟!

ولا يخفى أنّ لفظ « الإمكان » في كلامه فضلة لا محلّ لها!

وأمّا قوله : « فلا تيأس أنت من عفو اللّه وكرمه ، إن صدر منك ذنب » ..

ففيه : إنّ هذا قبل السؤال إغراء بالمعصية ودعوة إليها!

وقوله : « فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب » ..

ص: 403

متناقض المفاد ؛ لأنّ الأسوة هو المتّبع ، ومن يقع منه الذنب يحرم اتّباعه ، مع إنّ العاصي لا يكون أسوة حسنة.

وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية ، أنّ : « الأنبياء كالملائكة ، يستحيل عليهم الذنب » ..

فهو افتراء عليهم ؛ لأنّ العصمة عندهم عن الذنب لا تنافي القدرة عليه ، وإلّا لم يصحّ التكليف ؛ على أنّه منقوض بالعصمة عن الكبائر عندهم ، فإنّهم يقولون بها كما زعم.

وأمّا ما ذكره من أنّه : « إذا سمع المتحيّر بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) (1) ، يتردّد في نبوّة آدم » ..

ففيه : إنّه إذا تردّد قيل له : إنّ المراد بالمعصية ترك الأولى (2) ، وإرادة خلاف الظاهر غير عزيزة في كلام العرب ، وإلّا لم يمكن أن يذكر له أنّ اللّه ليس بجسم ؛ لأنّه يتردّد في ربوبيّته إذا سمع قوله تعالى : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (3) ، ونحوه.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه ... » إلى آخره ..

ففيه : إنّ هذا خارج عمّا نحن بصدده ؛ لأنّ الكلام في ما هو أقرب إلى العقل المتحيّر من الأمور العقليّة ، لا في الأمور التاريخية التي تتبع

ص: 404


1- سورة طه 20 : 121.
2- انظر : تنزيه الأنبياء - للشريف المرتضى - : 25 ، عصمة الأنبياء - للفخر الرازي - : 29 - 30.
3- سورة طه 20 : 5.

واقعها وتحتاج إلى السبر والاطّلاع ، فالذي ينبغي أن يذكر في مسألة الإمامة ، أنّه :

هل الأولى أن يقال له : إنّ أئمّتنا معصومون مطهّرون من الذنوب ، عالمون بكلّ ما جاء به النبيّ من عند اللّه ، حافظون لكلّ حكم أراده اللّه ، منصوص عليهم كأوصياء الأنبياء ، قادرون على سياسة الأمّة على حسب القانون الإلهي ، لا يخطئون ولا يجهلون ..

أو يقال له : إنّ أئمّتنا ممّن يختارهم الأمّة ، ولو واحد ، حتّى إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ترك أمّته سدى ، وأوكل الأمر إلى اختيارهم مع قرب عهدهم بالكفر ، وإن أدّى الحال إلى اختيار مثل : معاوية ، ويزيد ، وعبد الملك ، والوليد ، والمنصور ، والرشيد ، وأشباههم من ملوك الجور والضلال والجهل والفساد ، فهم أئمّتنا ويجب علينا اتّباعهم وتعظيمهم؟!

ولو سلّم أنّ للأمور التاريخية دخلا في ما نحن فيه ، بلحاظ أنّ منها ما يستقرّ به العقل ، ومنها ما يستبعده ، فاللازم أن نذكر في مذهب الإمامية كما ذكر في مذهبه شيئا من التفصيل ..

فنقول :

لمّا بعث اللّه تعالى رسوله صلی اللّه علیه و آله وصدع بأمره ، تبعه الناس اختيارا واضطرارا ، وكان فيمن صحبه أناس أخبرهم الرهبان والكهنة بعلوّ أمره ، وبعد صيته ، فصحبوه طلبا للدنيا ، وصحبه آخرون للخوف ، ولكثير منهم ترات (1) عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله وابن عمّه ووزيره ، فلمّا أراد اللّه تعالى

ص: 405


1- التّرات ، جمع التّرة : وهي الثأر ؛ انظر : لسان العرب 5 / 27 - 28 مادّة « ذحل » وج 15 / 205 مادّة « وتر ».

قبض نبيّه صلی اللّه علیه و آله إليه أوصى ابن عمّه - المعدود أخاه ونفسه بأمر اللّه - كما هي عادة الأنبياء وأهل الولاية.

ولمّا قبضه اللّه إليه وجد أولئك المتصنّعون فرصة الأطماع والثارات ، واغتنم بعضهم مشغولية الوصي بجهاز النبيّ صلی اللّه علیه و آله فبادروا لعقد البيعة لواحد منهم ، وأعانهم أهل المكر والخداع ، واتّبعهم الرعاع!

فكان الأمر كما قال تعالى منكرا عليهم : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ... ) (1) ، وكما أخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّهم يرتدّون على أدبارهم القهقرى (2) ، وأنّه يكون في هذه الأمّة مثل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل (3) ، الذي من جملته مخالفة أخيه وإرادة قتله ، ولم يبق مع وصيّه إلّا من امتحن اللّه قلبه للإيمان ( ... وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (4).

فلمّا تمّ الأمر لأولئك القوم وقد كانوا سمعوا من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقوع الفتح بعده لبلاد كسرى وقيصر ، والنفس أمّارة بالإمارة ، ساروا لفتح تلك البلاد ، ووقع الفتح على أيديهم ، فساسوا البلاد على حسب أهوائهم ، وغيّروا الأحكام بآرائهم ، واستأثر ثالثهم بالفيء حتّى كبت به بطنته ، ولو تركوا الأمر لأهله لعمّ الإسلام والعدل وفتحوا الدنيا بأسرها.

فهل ترى أنّ هذا التاريخ أقرب إلى الاعتبار ، أو التأريخ الذي ذكره الخصم؟!

ص: 406


1- سورة آل عمران 3 : 144.
2- انظر مثلا : صحيح البخاري 8 / 216 - 217 ح 164 - 166.
3- انظر : المستدرك على الصحيحين 1 / 218 ح 444 ، تاريخ دمشق 13 / 98 ، مختصر تاريخ دمشق 6 / 337 ، كنز العمّال 1 / 211 ح 1060.
4- سورة يوسف 12 : 103.

وأمّا ما زعمه من أنّ الأخذ من أمير المؤمنين علیه السلام لا يختصّ به الإمامية ؛ فالحاكم فيه هو الإنصاف ، كيف؟! وقد خالفه عامّة السنّة بكلّ ما قدروا عليه من أصول الدين وفروعه ، ونبذوه وراء ظهورهم ، ورجعوا إلى من عرفوه بخلافه وانحرافه عنه وعن أبنائه الطاهرين!

وأمّا ما زعمه من أنّهم أخذوا أيضا العقائد من الخلفاء وأكابر الصحابة ؛ فنحن لم نسمع لمن عناهم شيئا من المعارف ، ولم نعلم أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله شهد لأحد منهم بالعلم والاجتهاد والأمانة! ولكن روى لهم بعض أوليائهم شيئا من ذلك كذبا على النبيّ صلی اللّه علیه و آله (1) ..

وإنّما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » (2)

ص: 407


1- انظر مثلا : الموضوعات - لابن الجوزي - 1 / 303 - 335.
2- (2) ورد هذا الحديث الصحيح في كثير من كتب الجمهور ، فانظر مثلا : معرفة الرجال - ليحيى بن معين - 79/1 رقم 231 و ج 242/2 رقم 831 و 832 وصححه ، سنن الترمذي 5 / 596 ح 3723 ، المعجم الكبير - للطبراني - 54/11 ح 11061 ، المستدرك على الصحيحين 3/ 137 ح 4637 وقال : «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» وح 4638 و ص 137/3 ح 4639 ، حلية الأولياء 64/1، تاریخ بغداد 337/2 و ج 4 / 348 و ج 7 / 173 و ج 48/11 - 50 ، الاستيعاب 3/ 1102 ، مناقب الإمام علي عليه السلام - للمغازلي - : 115 - 120 ح 120 - 129 ، مصابيح السنة 174/4 ح 4772 ، مناقب الإمام علي عليه السلام - للخوارزمي -: 83 ح 69 ، تاریخ دمشق 42 / 378 - 384 - 1974 - 8987 ، أسد الغابة 597/3 ، جامع الأصول 657/8 ح 6501 ، تذكرة الخواص : 52 ، كفاية الطالب : 220 - 222 ، الرياض النضرة 159/3 ، ذخائر العقبى : 141 - 142 ، مختصر تاریخ دمشق 16/18 - 17 ، البداية والنهاية 286/7 ، مشكاة المصابيح 3/ 357 ح 6096 ، مجمع الزوائد 114/9 ، لسان الميزان 432/1 رقم 1342 ، الجامع الصغير - للسيوطي - 161/1 ح 2704 و 2705 ، جامع الأحاديث - للسيوطي - 282/3 ح 8649 ، تاریخ الخلفاء : 202 ، كنز العمّال 11 / 600 . 32889 و 32890 و ص 614 ح 32978 و 32979 وج 13 /1. 148 ح 36463 ، إتحاف السادة المتّقين 6 / 244. وقد صنف الحافظ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني كتاب «فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي» جمع فيه طرقه ، وسلك فيه مسلكاً مبتكراً أثبت فيه صحة الحديث بتسعة مسالك ، وأبطل جميع الأكاذيب والادعاءات بعدم صحة سند الحديث ؛ فراجع .

ولا تؤتى المدينة إلّا من بابها ، فمن أتاها من غيره فهو سارق.

وأمّا ما ادّعاه من أنّا نمزج ما ننقله بألف كذبة ، وأنّهم ينقلون بالأسانيد الصحيحة ؛ فيكفي المنصف في ردّه ما ذكرناه في مقدّمة الكتاب.

والحمد لله الذي جعلنا ممّن يأخذ عن نبيّه وباب مدينة علمه ، وجعلنا ممّن تمسّك بالثقلين ، ونسأله جوارهم في الدارين.

* * *

ص: 408

إثبات الحسن والقبح العقليّين

اشارة

قال المصنّف قدس سره (1) :

المطلب الثاني : في إثبات الحسن والقبح العقليّين

اشارة

ذهب الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة إلى أنّ من الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ.

فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وإنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

ومنها : ما هو معلوم بالاكتساب أنّه حسن أو قبيح ، كحسن الصدق الضارّ ، وقبح الكذب النافع.

ومنها : ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه ، كالعبادات (2).

ص: 409


1- نهج الحقّ : 82.
2- شرح جمل العلم والعمل : 85 - 89 ، تقريب المعارف : 97 - 99 ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : 84 - 87 ، المنقذ من التقليد 1 / 161 وما بعدها ، تجريد الاعتقاد : 197 ، شرح الأصول الخمسة : 302 وما بعدها ، المحيط بالتكليف : 234.

وقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيّان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء ولا قبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع ، فما حسّنه فهو حسن ، وما قبّحه فهو قبيح (1).

* * *

ص: 410


1- الفصل في الملل والأهواء والنحل 2 / 98 - 99 ، الإرشاد - للجويني - : 228 و 234 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 370 ، الأربعين في أصول الدين - للفخر الرازي - 1 / 346 ، شرح المقاصد 4 / 282 - 283 ، شرح المواقف 8 / 181.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق أنّ الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة (2) :

الأوّل : صفة الكمال والنقص ، يقال : العلم حسن ، والجهل قبيح ، ولا نزاع في أنّ هذا أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل ، ولا تعلّق له بالشرع.

الثاني : ملاءمة الغرض ومنافرته ، وقد يعبّر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة ، وذلك أيضا عقلي ، أي يدركه العقل ، كالمعنى الأوّل.

الثالث : تعلّق المدح والثواب بالفعل ، عاجلا وآجلا ، والذمّ والعقاب كذلك ، فما تعلّق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمّى حسنا ، وما تعلّق به الذمّ في العاجل والعقاب في الآجل يسمّى قبيحا.

وهذا المعنى الثالث محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعي ؛ وذلك لأنّ أفعال العباد كلّها ليس شيء منها بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذمّ فاعله وعقابه ، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها.

وعند المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية عقلي ، كما ذكر هذا الرجل.

ص: 411


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 341.
2- انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 293 ، شرح المواقف 8 / 182 - 183.

هذا هو المذهب ، وكثيرا ما يشتبه على الناس أحد المعاني الثلاثة بالآخر ، ويحصل منه الغلط فتحفظ عليه ، وإنّما كرّرنا هذا المبحث وأعدناه في الموضع ليتحفّظ عليه.

* * *

ص: 412

وأقول :

ضاق على القوم طريق الاعتذار ، واتّسع عليهم سبيل الانتقاد ، فأقرّوا بالحسن والقبح العقليّين في الأفعال بالتزامهم بالمعنى الأوّل على إطلاقه وهم لا يشعرون ؛ لأنّ العلم - ونحوه ممّا جعلوه صفة - هو في الحقيقة من الأفعال ، ولذا يكلّف الإنسان بالعلم ومعرفة الأحكام.

لكن إذا ثبت للإنسان قيل : إنّه صفة له ، وكذا كلّ ما هو من نحوه من الأفعال ؛ كالصدق ، والكذب ، والإحسان ، والإساءة ، والعدل ، والظلم ، ونحوها.

وحينئذ فيكون معنى حسنها : إنّه ممّا ينبغي فعلها ، ويستحقّ فاعلها المدح عند العقلاء ، ومعنى قبحها : إنّها ممّا ينبغي تركها ، ويستحقّ فاعلها الذمّ عند العقلاء.

وأمّا ما ذكروه من المعنى الثاني ، فغير متّجه ؛ لأنّ دعوى أنّ الحسن والقبح عقليّان بهذا المعنى غير صحيحة ، إذ إنّ الملاءمة والمنافرة إنّما يستلزمان الحبّ والبغض ، والتحسين والتقبيح الطبعيّين ، لا الحسن والقبح العقليّين ، كما هو ظاهر.

هذا ، وقد أطلق القوم على ملاءمة الغرض ومنافرته : المصلحة والمفسدة ، والظاهر إرادة المصلحة والمفسدة عند الفاعل باعتبار ميله وعدمه ، ولا يمكن أن يريدوا بهما المصلحة والمفسدة الواقعيّتين ، فإنّه لا يصحّ جعلهما تعبيرا آخر عن الملاءمة والمنافرة.

وأمّا المعنى الثالث ، فإنّ معنى الحسن فيه : إنّه ما يستحقّ فاعله

ص: 413

المدح عند العقلاء ، ومعنى القبيح : ما يستحقّ فاعله الذمّ عند العقلاء ، وهذا هو محلّ النزاع ، فإنّا نثبته ، وهم ينكرونه ، فإدخال كلمة « الثواب والعقاب » في تعريفهما خطأ ظاهر.

فالحقّ أنّ النزاع بيننا وبينهم في أنّ الفعل هل فيه جهة تحسّنه أو تقبّحه عقلا ، أو لا؟ بل يتبع في حسنه وقبحه أمر الشارع ونهيه ، ولا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، فما نهي عنه شرعا قبيح ، وما لم ينه عنه حسن ، كالواجب والمندوب ، وكالمباح عند أكثرهم ، وكفعل اللّه سبحانه ؛ لأنّها جميعا لم ينه عنها شرعا.

وأمّا فعل الصبي فقد قال في « شرح المواقف » : « مختلف فيه » (1).

وأمّا فعل البهائم فقد قال : « قيل : إنّه لا يوصف بحسن ولا قبح باتّفاق الخصوم » (2).

وكيف كان! فقد اختار الأشاعرة الثاني (3).

والحقّ عندنا : الأوّل ؛ ضرورة أنّه - مع قطع النظر عن الشرع - نرى الفرق الواضح بين السجود والتعظيم للملك القهّار ، والسجود والتعظيم لخسيس الأحجار ، وبين الصدق النافع والكذب الضارّ.

وعلى رأي الأشاعرة لا فرق بينهما عقلا ، مع قطع النظر عن الشرع (4) ، وهو حقيق بالعجب.

* * *

ص: 414


1- شرح المواقف 8 / 181.
2- شرح المواقف 8 / 181.
3- شرح المواقف 8 / 181.
4- الإرشاد - للجويني - : 230 ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : 294 ، شرح المواقف 8 / 182.
قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

وهو باطل لوجوه ..

الأوّل : إنّهم أنكروا ما علمه كلّ عاقل من حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ ، سواء كان هناك شرع أم لا (2) ، ومنكر الحكم الضروري سوفسطائي.

* * *

ص: 415


1- نهج الحقّ : 83.
2- الإرشاد - للجويني - : 231 - 232 ، المواقف : 324 ، شرح المقاصد 4 / 282 - 283.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّ حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ ؛ إن أريد بهما صفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة فلا شكّ أنّهما عقليّان ، كما سبق.

وإن أريد بهما تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، فلا نسلّم أنّه ضروري ، بل هو متوقّف على إعلام الشارع.

وكيف يدرك تعلّق الثواب وهو من اللّه ، وبالشرع والإعلام من الشارع؟!

* * *

ص: 416


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 363.
وأقول :

قد عرفت أنّ الصدق والكذب فعلان في أنفسهما ، وأنّ الحسن والقبح ثابتان لهما عقلا مع قطع النظر عن لحاظ الوصفيّة والملاءمة والمنافرة ؛ فيتمّ المطلوب.

ولا دخل للثواب والعقاب في محلّ النزاع حتّى يقال : لا دخل للعقل في إدراكهما!

* * *

ص: 417

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - :

قال المصنّف - رفع اللّه درجته - (1) :

الثاني : لو خيّر العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولا علم شيئا من الأحكام ، بل نشأ في بادية خاليا من العقائد كلّها ، بين أن يصدق ويعطى دينارا ، وبين أن يكذب ويعطى دينارا ، ولا ضرر عليه فيهما ، فإنّه يتخيّر الصدق على الكذب.

ولو لا حكم العقل بقبح الكذب وحسن الصدق لما فرّق بينهما ولا اختار (2) الصدق دائما.

* * *

ص: 418


1- نهج الحقّ : 83.
2- في طبعة القاهرة : وما اختار.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

قد سبق جواب هذا (2) ، وأنّ مثل هذا الرجل لو فرضنا أنّه يختار الصدق بحكم عقله ، فإنّه يختاره لكونه صفة كمال ، أو موجب مصلحة.

وهذا لا نزاع في أنّهما عقليّان ، لا أنّه يختاره لكونه موجبا للثواب والعقاب ، وكيف وهو لا يعرف الثواب ولا العقاب؟!

* * *

ص: 419


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 367.
2- انظر الصفحة 416.
وأقول :

قد عرفت ما فيه ممّا سبق (1) ، فلا حاجة إلى الإعادة ، ولا أدري متى كان إيجاب الثواب والعقاب معنى للحسن والقبح العقليّين حتّى يدّعيه الإمامية ، ويكون محلّا للنزاع.

وإنّما نقول في المثال : إنّ الصدق - بما هو فعل صادر من الشخص - حسن عقلا ، والكذب - كذلك - قبيح عقلا ، وهم ينكرونه.

ولا يخفى أنّ جعله لاختيار الصدق فرضيا دليل على تكلّفهم في إثبات الحسن والقبح العقليّين بالمعنيين اللذين زعم عدم النزاع بهما.

* * *

ص: 420


1- انظر الصفحتين 413 - 414.
قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لما حكم بهما من ينكر الشرائع ، والتالي باطل ؛ فإنّ البراهمة (2) بأسرهم ينكرون الشرائع والأديان كلّها ، ويحكمون بالحسن والقبح ، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك (3).

* * *

ص: 421


1- نهج الحقّ : 83.
2- البراهمة أو البرهمانية : نسبة إلى برهمان أو برهام ، وهو اسم مؤسّس هذه الطريقة ، وقيل : هم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ، ويقولون : إنّهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم ؛ ولهم علامة ينفردون بها ، وهي خيوط ملوّنة بحمرة وصفرة يتقلّدونها تقلّد السيوف ، وقيل : إنّهم قائلون بالتوحيد! ومن أصول هذه الطائفة - كذلك - نفي النبوّات أصلا وقرّروا استحالتها في العقول ، وقد تفرّقوا أصنافا ، فمنهم : أصحاب البددة ، وهم البوذيّون ؛ وأصحاب الفكر والوهم ، وهم العلماء منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم ؛ وأصحاب التناسخ. أنظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل 86/1 ، الملل والنحل 706/3 - 716.
3- الإرشاد - للجويني - : 230 - 231 ، نهاية الإقدام في علم الكلام : 371 ، شرح المواقف 8 / 192.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّ البراهمة المنكرين للشرائع يحكمون بالحسن والقبح للأشياء لصفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة ، لا تعلّق الثواب والعقاب.

وكيف يحكمون بالثواب والعقاب وهم لا يعرفونهما؟!

* * *

ص: 422


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 368.
وأقول :

البراهمة يحكمون بحسن الأفعال وقبحها بما هي أفعال ، كما هو محلّ الكلام على الصحيح ..

وما اختلقه بعض الأشاعرة من تعدّد المعاني والتفصيل فيها فإنّما قصدوا به الفرار لكن في غير الطريق المستقيم ، أو تسليم للحقّ لكن بوجه المعارضة.

* * *

ص: 423

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - :

قال المصنّف - أعلى اللّه مقامه - (1) :

الرابع : الضرورة قاضية بقبح العبث ، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات في دجلة ، ويبيع متاعا - أعطي في بلده عشرة دراهم - في بلد يحمله إليه بمشقّة عظيمة ، ويعلم أنّ سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا.

وقبح تكليف ما لا يطاق كتكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتعذيبه دائما على ترك هذا الفعل.

وقبح ذمّ العالم الزاهد على علمه وزهده ، وحسن مدحه ، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه ، وحسن ذمّه عليهما.

ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات ؛ لأنّ هذا الحكم حاصل للأطفال ، والضروريات قد لا تحصل لهم.

* * *

ص: 424


1- نهج الحقّ : 83.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على المفسدة ، لا لكونه موجبا لتعلّق الذمّ والعقاب ، وهذا ظاهر.

وقبح مذمّة العاقل ، وحسن مدحة الزاهد ؛ للاشتمال على صفة الكمال والنقص.

فكلّ ما يذكر هذا الرجل من الدلائل هو إقامة الدليل على غير محلّ النزاع ، فإنّ الأشاعرة معترفون بأنّ كلّ ما ذكره من الحسن والقبح عقليّان ، والنزاع في غير هذين المعنيين.

* * *

ص: 425


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 370.
وأقول :

ليت شعري أكان محلّ الكلام في حسن الأفعال وقبحها عقلا مشروطا بأن لا تكون فيها مصلحة ومفسدة حتّى يقول : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على مفسدة؟!

ومنشأ اشتباهه أنّه رأى أصحابه يعبّرون عن ملاءمة الغرض ومنافرته بالمصلحة والمفسدة (1) ، فتخيّل ذلك ولم يعلم أنّهم إنّما جعلوا الحسن والقبح - اللذين بمعنى الملاءمة والمنافرة ، والمصلحة والمفسدة - خارجين عن محلّ النزاع ؛ لا أنّه يشترط في محلّ النزاع عدم المصلحة والمفسدة في الفعل واقعا.

على إنّ قبح العبث ضروري وإن لم يشتمل على مفسدة ، بل لو اشتمل عليها لم يثبت القبح عندهم بمعنى المنافرة للغرض ، إذ لا غرض للعابث ، فيلزم أن لا يقبح العبث عندهم وقد أقرّوا بقبحه!

وأمّا قوله : « وقبح مذمّة العالم ، وحسن مدحة الزاهد » ..

ففيه : تسليم للحقّ باسم المعارضة ، والوفاق بصورة الخلاف ، فما ضرّهم لو أنصفوا؟!

واعلم أنّ الخصم لم يجب عن قبح تكليف ما لا يطاق عجزا عن الجواب ؛ لأنّ التكليف المذكور ليس عندهم صفة نقص ولا مفسدة ، وإلّا لما أجازوه على اللّه تعالى.

ص: 426


1- شرح المواقف 8 / 182.
قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - :

قال المصنّف - قدّس اللّه روحه - (1) :

الخامس : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من اللّه تعالى شيء.

ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة (2).

فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة.

* * *

ص: 427


1- نهج الحقّ : 84.
2- انظر : شرح الأصول الخمسة : 318 و 321 ، ومؤدّاه في : المحيط بالتكليف : 235.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّه لم يقبح من اللّه شيء.

قوله : « لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على يد الكاذبين ».

قلنا : عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه مقبحا عقلا ، بل لعدم جريان عادة اللّه تعالى ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك.

قوله : « تجويز هذا يسدّ باب معرفة النبوّة ».

قلنا : لا يلزم هذا ؛ لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار ، فلا ينسدّ ذلك الباب.

* * *

ص: 428


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 371.
وأقول :

كيف تصحّ دعوى العادة؟! والحال أنّه لا اطّلاع له على كلّ من ادّعى النبوّة!

ولو فرض الاطّلاع فمن المحتمل كذب كلّ من جاء بمعجزة ، فلا تثبت نبوّة صادقة فضلا عن جريان العادة بها.

على إنّه كيف يقطع بعدم تخلّف العادة في مقام تخلّف العادة بإظهار المعجزة؟!

* * *

ص: 429

قال المصنّف قدس سره :

قال المصنّف قدس سره (1) :

السادس : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لحسن من اللّه تعالى أن يأمر بالكفر ، وتكذيب الأنبياء ، وتعظيم الأصنام ، والمواظبة على الزنا والسرقة ، والنهي عن العبادة والصدق ؛ لأنّها غير قبيحة في أنفسها ، فإذا أمر اللّه بها صارت حسنة ؛ إذ لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة ، فإنّ شكر المنعم ، وردّ الوديعة ، والصدق ، ليست حسنة في أنفسها ، ولو نهى اللّه عنها كانت قبيحة (2).

لكن لمّا اتّفق أنّه تعالى أمر بهذه مجانا لغير غرض ولا حكمة ، صارت حسنة ، واتّفق أنّه نهى عن تلك فصارت قبيحة ، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينها.

ومن أدّاه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك فهو أجهل الجهّال ، وأحمق الحمقاء ، إذا علم أنّ معتقد رئيسه ذلك!

ومن لم يعلم ووقف عليه ثمّ استمرّ على تقليده فكذلك!

فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم لئلّا يضلّ غيرهم وتستوعب البلية جميع الناس.

* * *

ص: 430


1- نهج الحقّ : 84.
2- انظر : شرح الأصول الخمسة : 318 - 320.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جوابه : إنّه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيّين ، بمعنى أنّ الشرع حاكم بالحسن ، والقبح أن يحسن من اللّه الأمر بالكفر والمعاصي ؛ لأنّ المراد بهذا الحسن : إن كان استحسان هذه الأشياء ، فعدم هذه الملازمة ظاهر ؛ لأنّ من الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم ، وقد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها.

وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ، لكن جرى عادة اللّه على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال ، والنهي عمّا اشتمل على مفسدة من الأفعال.

فالعلم العادي حاكم بأنّ اللّه تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قطّ ، ولم ينه عن شكر المنعم وردّ الوديعة ، فحصل الفرق بين هذا الأمر والنهي بجريان عادة اللّه الذي يجري مجرى المحال العادي ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر هذا الرجل ، فقد زعم أنّه فلق الشعر في تدقيق هذا السؤال الظاهر دفعه عند أهل الحقّ ، حتّى رتّب عليه التشنيع والتفظيع ، فيا له من رجل ما أجهله!

* * *

ص: 431


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 372.
وأقول :

قد سبق أنّ القبيح عندهم ما نهي عنه شرعا ، والحسن ما لم ينه عنه كما في « المواقف » (1).

وحينئذ فالأفعال كلّها ليست حسنة أو قبيحة بالنظر إلى ذواتها وقبل تعلّق التكاليف بها ، وإنّما تكون حسنة أو قبيحة بعد تعلّقها بها.

فلو تعلّق أمره تعالى مثلا بالكفر وتكذيب الأنبياء وتعظيم الشياطين كانت حسنة وكان أمره أيضا حسنا ؛ لأنّ أمره من فعله ، وفعله حسن ؛ لأنّه لم ينه عنه فيشمله تعريف الحسن المذكور ، كما صرّح به في « شرح المواقف » (2) وذكرناه سابقا (3) ..

وحينئذ يتمّ ما ذكره المصنّف قدس سره بقوله : « لو كان الحسن والقبح شرعيّين لحسن من اللّه تعالى أن يأمر بالكفر » فإنّ الكفر - مثلا - ليس قبيحا قبل التكليف ، فيصحّ تعلّق الأمر به ، وإذا تعلّق به صار حسنا كما يحسن الأمر به.

وبذلك يعلم أنّه لا محلّ لتفسير الخصم للحسن والقبح الشرعيّين بأنّ الشرع حاكم بهما ، ولا لترديده في مراد المصنّف رحمه اللّه بالحسن بين أمرين لا دخل لهما بمقصود المصنّف ولا بمصطلح الأشاعرة.

على إنّه لو أراد المصنّف الشقّ الأوّل فهو لازم لهم على مذهبهم ؛

ص: 432


1- المواقف : 323.
2- شرح المواقف 8 / 182.
3- انظر الصفحتين 413 - 414 من هذا الجزء.

لأنّ الأمور التي ذكرها المصنّف ، من الكفر وتكذيب الأنبياء وأشباههما مخلوقة لله تعالى عندهم ومن أفعاله ، فلو كانت مخالفة للمصلحة ولا يستحسنها الحكيم لما فعلها.

ودعوى أنّ فعله لها إنّما يدلّ على استحسانه لها من حيث فاعليّته لها ، لا من حيث كسب العبد إيّاها ومحلّيّته لها ، غير ضارّة في المطلوب لو سلّمت ، إذ لا يهمّنا إلّا إثبات ما أنكره الخصم من استحسانها على مذهبهم من أيّ حيثية كانت.

وقوله : « قد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها ... » ..

خطأ ظاهر ؛ لأنّ الذي ذكره هو حصول المصلحة والمفسدة بمعنى الملاءمة والمنافرة لا الذاتيّين (1).

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني بقوله : « وإن كان المراد عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ».

ففيه : إنّه بعد ما بيّن في الشقّ الأوّل أنّ الحكيم لا يستحسن ما يكون مخالفا للمصلحة ، كيف لا يمتنع عليه الأمر به؟! فإنّ الحكيم لا يجوز عليه أن يأمر بما يكون مخالفا للمصلحة ولا يستحسنه.

ثمّ ما ذكره من جريان العادة غير مفيد له ، فإنّه لو سلّم العلم بالعادة مع عدم الاطّلاع على أديان جميع الأنبياء ، فالإشكال إنّما هو من جهة جواز أمره تعالى بالكفر ونحوه وحسنه ، لا من جهة الوقوع حتّى يجيب بعدم جريان العادة.

ص: 433


1- انظر الصفحة 411 من هذا الجزء.

وبالضرورة : إنّ تجويز مثله على الحكيم إخراج له عن الحكمة ، وهو كفر!

فظهر أنّ المصنّف قد فلق الشعر بتدقيقه ، فجزاه اللّه تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين ، وجعلنا من أعوانه على الحقّ ، إنّه أكرم المسؤولين.

* * *

ص: 434

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - :

قال المصنّف - أعلى اللّه درجته - (1) :

السابع : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لزم توقّف وجوب الواجبات على مجيء الشرع ، ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء ؛ لأنّ النبيّ إذا ادّعى الرسالة وأظهر المعجزة كان للمدعوّ أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ، فأنا لا أنظر حتّى أعرف صدقك ، ولا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، وقبله لا يجب عليّ امتثال الأمر ؛ فينقطع النبيّ ولا يبقى له جواب!

* * *

ص: 435


1- نهج الحقّ : 84.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جواب هذا قد مرّ في بحث النظر (2) ..

وحاصله : إنّه لا يلزم الإفحام ؛ لأنّ المدعوّ ليس له أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ؛ بل النظر واجب عليه بحسب نفس الأمر.

ووجوب النظر لا يتوقّف على معرفته له ؛ للزوم الدور كما سبق ، فلا يلزم الإفحام.

* * *

ص: 436


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 375.
2- انظر الصفحة 145 من هذا الجزء.
وأقول :

قد سبق أنّ ارتفاع الإفحام إنّما يكون بعلم المدعوّ بالوجوب لا بمجرّد ثبوته واقعا ، كما ذكرناه موضّحا فراجع (1).

* * *

ص: 437


1- انظر الصفحتين 149 - 150 من هذا الجزء.
قال المصنّف - طاب ثراه - :

قال المصنّف - طاب ثراه - (1) :

الثامن : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لم تجب المعرفة ؛ لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ، المتوقّفة على معرفة الإيجاب ، فيدور

* * *

ص: 438


1- نهج الحقّ : 84.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

جواب هذا أيضا قد مرّ في ما سبق (2) ، وأنّ توقّف وجوب المعرفة على الإيجاب ممنوع.

* * *

ص: 439


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 376.
2- انظر الصفحة 143 من هذا الجزء.
وأقول :

قد مرّ فساد جوابه بما لا يخفى على ذي معرفة ، فراجع (1).

* * *

ص: 440


1- انظر الصفحة 148 - 150 من هذا الجزء.
قال المصنّف قدس سره :

قال المصنّف قدس سره (1) :

التاسع : الضرورة قاضية بالفرق بين من أحسن إلينا دائما ، ومن أساء إلينا دائما ، وحسن مدح الأوّل وذمّ الثاني ، وقبح ذمّ الأوّل ومدح الثاني ، ومن شكّ في ذلك فقد كابر مقتضى عقله.

* * *

ص: 441


1- نهج الحقّ : 85.
وقال الفضل :

وقال الفضل (1) :

هذا الحسن وهذا القبح ممّا لا نزاع فيه بأنّهما عقليّان ؛ لأنّهما يرجعان إلى الملاءمة والمنافرة ، أو الكمال والنقص.

على إنّه قد يقال : جاز أن يكون هناك عرف عامّ هو مبدأ لذلك الجزم المشترك ، وبالجملة : هو من إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، واللّه تعالى أعلم.

هذه جملة ما أورده من الدلائل على رأيه العاطل ، وقد وفّقنا اللّه لأجوبتها كما يرتضيه أولو الآراء الصائبة.

ولنا في هذا المبحث تحقيق نريد أن نذكره في هذا المقام ، فنقول :

اتّفقت كلمة الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة على إنّ من أفعال العباد ما يشتمل على المصالح والمفاسد ، وما يشتمل على الصفات الكمالية والنقصانية ، وهذا ممّا لا نزاع فيه.

وبقي النزاع في أنّ الأفعال التي تقتضي الثواب أو العقاب ، هل في ذواتها جهة محسّنة ، صارت تلك الجهة سبب المدح والثواب ، أو جهة مقبّحة ، صارت سببا للذمّ والعقاب ، أو لا؟

فمن نفى وجود هاتين الجهتين في الفعل ، ماذا يريد من هذا النفي؟!

إن أراد عدم هاتين الجهتين في ذوات الأفعال ، فيرد عليه أنّك

ص: 442


1- إبطال نهج الباطل - المطبوع ضمن إحقاق الحقّ - 1 / 377.

سلّمت وجود الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة في الأفعال ، وهذا عين التسليم بأنّ الأفعال في ذواتها جهة الحسن والقبح ؛ لأنّ المصلحة والكمال حسن ، والمفسدة والنقص قبح.

وإن أراد نفي كون هاتين الجهتين مقتضيتان للمدح والثواب بلا حكم الشرع بأحدهما ؛ لأنّ تعيين الثواب والعقاب للشارع والمصالح والمفاسد في الأفعال التي تدركهما العقول ، لا يقتضي تعيين الثواب والعقاب بحسب العقل ؛ لأنّ العقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد في الأفعال ، ومزج بعضها ببعض ، حتّى يعرف الترجيح ويحكم بأنّ هذا الفعل حسن لاشتماله على المصلحة ، أو قبيح لاشتماله على المفسدة ، فهذا الحكم خارج عن طوق العقل فتعيّن تعيّنه للشرع.

فهذا كلام صالح صحيح لا ينبغي أن يردّه المعتزلي.

مثلا : شرب الخمر كان مباحا في بعض الشرائع ، فلو كان شرابه حسنا في ذاته بالحسن العقلي ، كيف صار حراما في بعض الشرائع الأخر؟! هل انقلب حسنه الذاتي قبحا؟!

وهذا ممّا لا يجوز ، فبقي أنّه كان مشتملا على مصلحة ومفسدة ، كلّ واحد منهما بوجه ، والعقل كان عاجزا عن إدراك المصالح والمفاسد بالوجوه المختلفة.

فالشرع صار حاكما بترجيح جهة المصلحة في زمان ، وترجيح جهة المفسدة في زمان آخر ، فصار حلالا في بعض الأزمنة حراما في البعض الآخر.

فعلى الأشعري أن يوافق المعتزلي ؛ لاشتمال ذوات الأفعال على جهة المصالح والمفاسد ، وهذا يدركه العقل ولا يحتاج في إدراكه إلى الشرع.

ص: 443

وهذا في الحقيقة هو الجهة المحسّنة والمقبّحة في ذوات الأفعال.

وعلى المعتزلي أن يوافق الأشعري أنّ هاتين الجهتين في العقل لا تقتضي حكم الثواب والعقاب والمدح والذمّ باستقلال العقل ؛ لعجزه عن مزج جهات المصالح والمفاسد في الأفعال.

وقد سلّم المعتزلي هذا في ما لا يستقلّ العقل به ، فليسلّم في جميع الأفعال ، فإنّ العقل في الواقع لا يستقلّ في شيء من الأشياء بإدراك تعلّق الثواب.

فإذا كان النزاع بين الفريقين مرتفعا ، تحفّظ بهذا التحقيق ، وباللّه التوفيق.

* * *

ص: 444

وأقول :

قد عرفت في أوّل المطلب أنّ الملاءمة والمنافرة جهتان تقتضيان الحبّ والبغض ، والرضا والسخط ، لا الحسن والقبح العقليّين ، فلا معنى لعدّهما من معاني الحسن والقبح.

وعرفت أنّ كثيرا من صفات الكمال والنقص ، كالإحسان والإساءة أفعال حقيقية ، والحسن والقبح فيها لا يناطان بلحاظ الوصفية ، فإذا أقرّ الخصم بحسن الإحسان وقبح الإساءة فقد تمّ المطلوب.

على إنّه لا ريب بصحّة مدح المحسن وذمّ المسيء ، فيكون الإحسان حسنا والإساءة قبيحة بالمعنى الثالث الذي فيه النزاع ، فلا معنى لإرجاعه إلى أحد المعنيين الأوّلين.

وأمّا ما ذكره في العلاوة المأخوذة من « شرح المواقف » (1) ..

ففيه : إنّه إذا أريد من العرف العامّ اتّفاق آراء العقلاء على حسن شيء أو قبحه ، فهو الذي تذهب إليه العدلية ، ولكن لا معنى لتسميته بالعرف العامّ ، ولا يتصوّر تحقّق العرف العامّ من دون أن يكون هناك حسن وقبح عقليّان ، فإنّه ليس أمرا اصطلاحيا.

وأمّا ما بيّنه في تحقيقه فهو رجوع إلى قول العدلية بثبوت الحسن والقبح العقليّين ، بسبب جهات محسّنة أو مقبّحة ، ولا نزاع لأهل العدل معهم إلّا بهذا كما سبق.

ص: 445


1- شرح المواقف 8 / 192.

كما إنّ ظاهره تسليم اقتضائهما للمدح والذمّ عقلا ، لكنّه قال : « إنّ العقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد ، وعاجز عن إدراك استحقاق الثواب والعقاب على الأفعال من حيث هي » وهو مسلّم في الجملة عند العدليّين ، فإنّهم لا يقولون : إنّ جميع الأفعال يدرك العقل حسنها أو قبحها ، بل منها ما هو علّة للحكم بالحسن والقبح ، كالعدل والظلم ..

ومنها ما هو مقتض للحكم كالصدق أو الكذب ..

ومنها ما هو يختلف بالوجوه والاعتبارات ، والعقل قد يعجز عن إدراك الوجوه.

وأمّا تمثيله بشرب الخمر ، فغير صحيح عند الإمامية ؛ لما أخبرهم به أهل البيت من أنّ الخمر لم يحلّ في شرع من الشرائع (1) ، وأهل البيت أدرى بما فيه.

* * *

ص: 446


1- الكافي 6 / 395 ح 1 ، تهذيب الأحكام 9 / 102 ح 445.

فهرس المحتويات

من هم الفرة الناجية

مقدمة العلامة الحلي... 7

مقدمة الفضل بن روزبهان... 11

رد الشيخ المظفر... 25

المحسوسات أصل الاعتقادات

المسألة الأولى : الإدراك

المبحث الأوّل : الإدراك أعرف الأشياء ... 41

ردّ الفضل بن روزبهان... 44

ردّ الشيخ المظفّر... 47

المبحث الثاني : شرائط الرؤية... 51

ردّ الفضل بن روزبهان... 53

ردّ الشيخ المظفّر... 55

المبحث الثالث : وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط... 61

ردّ الفضل بن روزبهان... 63

ردّ الشيخ المظفّر... 66

المبحث الرابع : امتناع الإدراك مع فقد الشرائط... 71

ردّ الفضل بن روزبهان... 75

ردّ الشيخ المظفّر... 78

المبحث الخامس : الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية... 81

ردّ الفضل بن روزبهان... 83

ردّ الشيخ المظفّر... 86

المبحث السادس : هل يحصل الإدراك لمعنىً في المدرك؟... 93

ص: 447

ردّ الفضل بن روزبهان... 95

ردّ الشيخ المظفّر... 97

المبحث السابع : في أنّه تعالى يستحيل أن يرى... 101

ردّ الفضل بن روزبهان... 105

ردّ الشيخ المظفّر... 110

مباحث النظر

المسألة الثانية : النظر... 133

المبحث الأوّل : إنّ النظر الصحيح يستلزم العلم... 133

ردّ الفضل بن روزبهان... 135

ردّ الشيخ المظفّر... 137

المبحث الثاني : أنّ النظر واجب بالعقل... 141

ردّ الفضل بن روزبهان... 143

ردّ الشيخ المظفّر... 148

المبحث الثالث : معرفة اللّه واجبة بالعقل... 153

ردّ الفضل بن روزبهان... 155

ردّ الشيخ المظفّر... 158

مباحث الصفات الإلهيّة

المسألة الثالثة : في صفاته تعالى

المبحث الأوّل : إنّه تعالى قادر على كلّ مقدور... 165

ردّ الفضل بن روزبهان... 167

ردّ الشيخ المظفّر... 169

المبحث الثاني : في أنّه تعالى مخالف لغيره... 173

ردّ الفضل بن روزبهان... 175

ردّ الشيخ المظفّر... 176

ص: 448

المبحث الثالث : في أنّه تعالى ليس بجسم... 179

ردّ الفضل بن روزبهان... 182

ردّ الشيخ المظفّر... 183

المبحث الرابع : في أنّه تعالى ليس بجهة... 189

ردّ الفضل بن روزبهان... 190

ردّ الشيخ المظفّر... 192

المبحث الخامس : في أنّه تعالى لا يتّحد بغيره... 195

ردّ الفضل بن روزبهان... 196

ردّ الشيخ المظفّر... 200

المبحث السادس : في أنّه تعالى لا يحلّ في غيره... 203

ردّ الفضل بن روزبهان... 205

ردّ الشيخ المظفّر... 210

حقيقة الكلام

المبحث السابع : في أنّه تعالى متكلّم... 223

المطلب الأوّل : في حقيقة الكلام... 223

ردّ الفضل بن روزبهان... 225

ردّ الشيخ المظفّر... 229

كلام اللّه تعالى متعدّد

المطلب الثاني : في أنّ كلامه تعالى متعدّد... 235

ردّ الفضل بن روزبهان... 237

ردّ الشيخ المظفّر... 238

حدوث الكلام

المطلب الثالث : في حدوثه... 241

ص: 449

ردّ الفضل بن روزبهان... 244

ردّ الشيخ المظفّر... 246

استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة

المطلب الرابع : في استلزام الأمر والنهي : الإرادة والكراهة... 251

ردّ الفضل بن روزبهان... 252

ردّ الشيخ المظفّر... 254

كلام اللّه تعالى صدق

المطلب الخامس : في أنّ كلامه تعالى صدق... 257

ردّ الفضل بن روزبهان... 259

ردّ الشيخ المظفّر... 261

صفات اللّه تعالى عين ذاته

المبحث الثامن : في أنّه تعالى لا يشاركه شيء في القدم... 267

ردّ الفضل بن روزبهان... 270

ردّ الشيخ المظفّر... 274

البقاء ليس زائداً على الذات

المبحث التاسع : في البقاء... 285

المطلب الأوّل : البقاء ليس زائدا على الذات... 285

ردّ الفضل بن روزبهان... 288

ردّ الشيخ المظفّر... 291

إنّ اللّه تعالى باقٍ لذاته

المطلب الثاني : أنّه تعالى باق لذاته... 295

ص: 450

ردّ الفضل بن روزبهان... 297

ردّ الشيخ المظفّر... 299

البقاء يصحّ على الأجسام

خاتمة... 303

الحكم الأوّل : البقاء يصحّ على الأجسام... 303

ردّ الفضل بن روزبهان... 305

ردّ الشيخ المظفّر... 306

البقاء يصحّ على الأعراض

الحكم الثاني : في صحّة بقاء الأعراض... 307

ردّ الفضل بن روزبهان... 311

ردّ الشيخ المظفّر... 316

القدم والحدوث اعتباريّان

المبحث العاشر : في أنّ القدم والحدوث اعتباريّان... 321

ردّ الفضل بن روزبهان... 323

ردّ الشيخ المظفّر... 324

نقل الخلاف في مسائل العدل

المبحث الحادي عشر : في العدل... 325

المطلب الأوّل : في نقل الخلاف في مسائل هذا الباب... 325

ردّ الفضل بن روزبهان... 327

ردّ الشيخ المظفّر... 328

الحسن والقبح عليّان... 329

ردّ الفضل بن روزبهان... 330

ص: 451

ردّ الشيخ المظفّر... 332

جميع أفعال اللّه حكمة وصواب... 334

ردّ الفضل بن روزبهان... 335

ردّ الشيخ المظفّر... 336

الرضا بقضاء اللّه تعالى... 337

ردّ الفضل بن روزبهان... 338

ردّ الشيخ المظفّر... 339

لا يجوز أن يعاقب اللّه الناس على فعله... 340

ردّ الفضل بن روزبهان... 341

ردّ الشيخ المظفّر... 342

إن اللّه تعالى لا يفعل شيئاً عبثاً... 345

ردّ الفضل بن روزبهان... 346

ردّ الشيخ المظفّر... 347

عد إظهار المعجزات على يد الكذّابين... 348

ردّ الفضل بن روزبهان... 349

ردّ الشيخ المظفّر... 350

إن اللّه لا يكلف أحداً فوق طاقته... 351

ردّ الفضل بن روزبهان... 352

ردّ الشيخ المظفّر... 353

إن اللّه لا يضل أحداً عن الدين... 356

ردّ الفضل بن روزبهان... 357

ردّ الشيخ المظفّر... 358

إن اللّه يحب الطاعات ويكره المعاصي... 362

ردّ الفضل بن روزبهان... 363

ردّ الشيخ المظفّر... 364

إن إرادة النبي تبع لإرادة اللّه وكراهته تبع لكراهته تعالى... 365

ص: 452

ردّ الفضل بن روزبهان... 366

ردّ الشيخ المظفّر... 367

إرادة اللّه ما أراده الأنبياء وكراهته لما كرهوه... 368

ردّ الفضل بن روزبهان... 369

ردّ الشيخ المظفّر... 370

أمر اللّه بما أراد ونهيه عمّا كره... 371

ردّ الفضل بن روزبهان... 372

ردّ الشيخ المظفّر... 373

التوحيد... 374

ردّ الفضل بن روزبهان... 376

ردّ الشيخ المظفّر... 377

أنبياء اللّه وأئمّته منزّهون عن المعاصي... 378

ردّ الفضل بن روزبهان... 379

ردّ الشيخ المظفّر... 381

ترجيح أحد المذهبين... 385

ردّ الفضل بن روزبهان... 389

ردّ الشيخ المظفّر... 394

إثبات الحسن والقبح العقليّين

المطلب الثاني : في إثبات الحسن والقبح العقليّين... 409

ردّ الفضل بن روزبهان... 411

ردّ الشيخ المظفّر... 413

بطلان القول بأنّ الحسن والقبح شرعيان... 415

ردّ الفضل بن روزبهان... 416

ص: 453

ردّ الشيخ المظفّر... 417

الوجه الثاني :... 418

ردّ الفضل بن روزبهان... 419

ردّ الشيخ المظفّر... 420

الوجه الثالث... 421

ردّ الفضل بن روزبهان... 422

ردّ الشيخ المظفّر... 423

الوجه الرابع... 424

ردّ الفضل بن روزبهان... 425

ردّ الشيخ المظفّر... 426

الوجه الخامس... 427

ردّ الفضل بن روزبهان... 428

ردّ الشيخ المظفّر... 429

الوجه السادس... 430

ردّ الفضل بن روزبهان... 431

ردّ الشيخ المظفّر... 432

الوجه السابع... 435

ردّ الفضل بن روزبهان... 436

ردّ الشيخ المظفّر... 437

الوجه الثامن :... 438

ردّ الفضل بن روزبهان... 439

ردّ الشيخ المظفّر... 440

الوجه التاسع :... 441

ردّ الفضل بن روزبهان... 442

ردّ الشيخ المظفّر... 445

فهرس المحتويات... 447

ص: 454

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.