نفحات الرحمن في تفسیر القرآن جلد 4

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان واسم المؤلف: نفحات الرحمن في تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندي ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیة ، موسسة البعثه قم .

تفاصيل المنشور: قم : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1386.

مواصفات المظهر: 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج. 3 و 4 (الطبعة الأولى: 1428 ق. = 1386).

ملحوظة : ج. 5 (الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة : فهرس .

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

المعرف المضاف: موسسة البعثة. قسم الدراسات الاسلامیة

المعرف المضاف: موسسة البعثة. مركز النشر

ترتيب الكونجرس: BP98 /ن9ن7 1386

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-37490

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الرابع

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

في تفسير سورة الإسراء

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم اللّه تعالى سورة النحل المحتوية لاثبات التوحيد بالبراهين القاطعة، و ردّ شبهات المشركين فيه و في صدق القرآن العظيم و نبوة خاتم النبيين، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله باتّباع إبراهيم عليه السّلام، أردفها بسورة الاسراء المشتملة على جلّ تلك المطالب العالية و إظهار شرف نبيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله على إبراهيم عليه السّلام، حيث بيّن فيها أنّه تعالى أسرى بحبيبه و عبده إلى قاب قوسين أو أدنى ليريه من آياته الكبرى، و إنما أرى خليله ملكوت السماوات و الأرض و هو في مكانه من الأرض، إلى غير ذلك من المناسبات التي توجب تعاقبهما، فابتدأ فيها بذكر أسمائه الحسنى على حسب دأبه تعالى و رسمه تعليما للعباد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (1)ثمّ شرع فيه بتنزيه ذاته المقدّسة من الشرك و المعجز بقوله: سُبْحانَ اَلَّذِي فعل بقدرته الكاملة أعجب العجائب و أبدع البدائع، و هو أنّه أَسْرى بِعَبْدِهِ و حبيبه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أعرج به (1)لَيْلاً.

قيل: ذكر الليل و تنكيره للدلالة على قلّة مدّة الإسراء، و هو بعض الليل (2).

و قيل: لما وصل النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى الدرجات العالية و المراتب الرفيعة في معراجه، أوحى اللّه إليه: يا محمّد، بم أشرّفك؟ قال: «يا ربّ بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية» فأنزل اللّه فيه (3): سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و مكة المعظّمة إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى قيل: هو بيت المقدس (4)اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالثّمار و الأزهار و قرار الأنبياء و هبوط الملائكة فيه لِنُرِيَهُ بعضا مِنْ آياتِنا العظام التي لم نره غيره من الأنبياء إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقواله اَلْبَصِيرُ بنورانيته و مسانحته لعالم الأنوار و بأحواله و أخلاقه و أعماله.

ص: 5


1- . في النسخة: و أعرجه.
2- . تفسير الرازي 20:146، تفسير روح البيان 5:103.
3- . تفسير الرازي 20:146.
4- . تفسير الرازي 20:146.

و قيل: إنّ المراد السميع لما يقولون للرسول عند دعواه المعراج، البصير بما يعملون في هذه الواقعة (1).

روى بعض العامة أنّه بات ليلة الاثنين السابع و العشرين من رجب في بيت امّ هانئ بنت أبي طالب، و نام بعد أن صلّى الركعتين اللتين كان يصليهما في وقت العشاء، ففرج عن سقف بيتها و نزل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل، و مع كلّ واحد منهم سبعون ألف ملك فأيقظه جبرئيل بجناحه، قال عليه السّلام: «فقمت إلى جبرئيل، فقلت: أخي جبرئيل ما لك؟ فقال: يا محمّد، إنّ ربّي تعالى بعثني إليك، و أمرني بأن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك و لا يكرم بها أحد بعدك، فانّك تريد أن تكلّم ربّك و تنظر إليه و ترى في هذه الليلة من عجائب ربّك و عظمته و قدرته» قال: «فتوضّأت و صليت ركعتين» .

قال الراوي: و شقّ جبرئيل صدره الشريف من الموضع المنخفض بين التّرقوتين إلى أسفل بطنه، فجاء بطشت من ماء زمزم، و استخرج قلبه فغسله ثلاث مرات، و نزع ما كان فيه من أذى، ثمّ جاء بطشت من ذهب يمتلئ إيمانا و حكمة، فأفرغ فيه، ثمّ أعاد القلب إلى مكانه، و التأم صدره الشريف، فكانوا يرون أثرا كأثر الخيط (2)في صدره.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «ثمّ جاء جبرئيل بدابة بيضاء، فقلت: يا جبرئيل، ما هذه الدابة؟ فقال: هذا البراق فاركب عليه حتى تمضي إلى دعوة ربّك، فأخذ جبرئيل بلجامها و ميكائيل بركابها و إسرافيل من خلفها، فقصدت أن أركبها فجمحت الدابة و أبت، فوضع جبرئيل يده على وركها، و قال لها: ألا تستحين ممّا فعلت؟ ! فو اللّه ما ركبك أحد أكرم على اللّه من محمّد، فرشحت عرقا من الحياء، فقالت: يا جبرئيل، لم أستصعب منه إلاّ ليضمن أن يشفع لي يوم القيامة، لأنّه أكرم الخلائق على اللّه، فضمن لها ذلك» (3).

روي أنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لمّا عرج بي إلى السماء، بكت الأرض من بعدي، فنبت الأصفر من نباتها، فلمّا رجعت قطر عرقي على الأرض، فنبت ورد أحمر، ألا من أراد أن يشمّ رائحتي فليشمّ الورد الأحمر» .

قال: فركبه (4)، فانطلق البراق يهوي به يضع حافره حيث أدرك طرفه، حتى بلغ أرضا، فقال له جبرئيل: انزل فصلّ ركعتين هاهنا. ففعل، ثمّ ركب فقال له جبرئيل: أتدري أين صلّيت؟ قال: «لا» . قال: صلّيت بمدين، فانطلق البراق يهوي به، فقال له جبرئيل: انزل فصلّ ففعل، ثم ركب، فقال: أتدري أين صلّيت؟ قال: «لا» . قال: صلّيت ببيت لحم، و هي قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد

ص: 6


1- . تفسير الرازي 20:147.
2- . في تفسير روح البيان: المخيط.
3- . تفسير روح البيان 5:106.
4- . في النسخة: فركبتها.

عيسى عليه السّلام.

و بينا هو على البراق إذ رأى عفريتا من الجنّ يطلبه بثعلة من نار، كلّما التفت رآه، فقال له جبرئيل: ألا اعلّمك كلمات تقولهنّ، إذا أنت قلتهنّ طفئت شعلته و خرّ لفيه؟ فقال: «بلى» . فقال جبرئيل: قل أعوذ بوجه اللّه الكريم، و بكلمات اللّه التامّات اللاّتي لا يجاوزهنّ برّ و لا فاجر، من شرّ ما ينزل من السماء، و من شرّ ما يعرج فيها، و من شرّ ما ذرأ في الأرض، و من شرّ ما يخرج منها، و من فتن الليل و النهار، و من طوارق الليل و النهار، إلاّ طارقا يطرق بخير يا رحمن.

فقال صلّى اللّه عليه و آله ذلك، فانكبّ لفيه، و طفئت شعلته، فرآى صلّى اللّه عليه و آله قوما يزرعون و يحصدون من ساعته، و كلّما حصدوا عاد كما كان، فقال: «يا جبرئيل، ما هذا؟» قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل اللّه، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة، و ما انفقوا من خير فهو يخلفه.

فنادى مناد عن يمينه: يا محمّد، انظرني اسألك، فلم يجبه، فقال: «ما هذا يا جبرئيل؟» قال: هذا داعي اليهود، أما إنّك لو أجبته لتهوّدت امّتك، و نادى مناد عن يساره كذلك، فلم يجبه، فقال: «ما هذا يا جبرئيل؟» فقال: هذا داعي النصارى، أما إنّك لو أجبته لتنصّرت امّتك، فرأى امرأة حاسرة عن ذراعها، فقالت: يا محمّد، انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: «من هذه يا جبرئيل؟» فقال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

إلى أن قال: و مضى صلّى اللّه عليه و آله حتى أتى إيليا من أرض الشام، فاستقبله من الملائكة جمّ غفير لا يحصى عددهم، فدخلها من الباب [اليماني]الذي فيه مثال الشمس و القمر، ثمّ انتهى إلى بيت المقدس، و كان بباب المسجد حجر، فأدخل جبرئيل يده فيه فخرقه، فكان فيه كهيئة الحلقة و ربط به البراق.

ثمّ دخل عليه السّلام المسجد، و نزلت الملائكة، و أحيا اللّه له آدم و من دونه من الأنبياء، فسلّموا عليه و هنّأوه بما أعطاه اللّه من الكرامة، و قالوا: الحمد للّه الذي جعلك خاتم الأنبياء، فنعم النبيّ أنت، و نعم الأخ أنت، و امّتك خير الامم. ثمّ قال جبرئيل: تقدّم يا محمّد و صلّ باخوانك من الأنبياء ركعتين، فصلّى بهم ركعتين، و كان خلف ظهره إبراهيم، و عن يمينه إسماعيل، و عن يساره إسحاق، و كانوا سبعة صفوف؛ ثلاثة [صفوف]من الأنبياء المرسلين، و أربعة من سائر الأنبياء.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا وصلت إلى بيت المقدس و صلّيت فيه ركعتين، أخذني العطش أشدّ ما أخذني، فأتيت بإناءين؛ في أحدهما لبن، و في الآخر خمر، فأخذت الذي فيه اللبن-و كان ذلك بتوفيق ربّي- فشّربته إلاّ قليلا منه، و تركت الخمر، فقال جبرئيل: أصبت الفطرة يا محمد، أما إنّك لو شربت الخمر لغوت امّتك كلّها، و لو شربت اللبن كلّه لما ضلّ أحد من امّتك بعدك. فقلت: يا جبرئيل: اردد عليّ

ص: 7

اللبن حتى أشربه كلّه. فقال جبرئيل: قضي الأمر ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، و يحيى من حيي عن بيّنة.

ثمّ قال جبرئيل: قم يا محمّد، فقمت فاذا بسلّم من ذهب قوائمه من فضّة، مركّب من اللؤلؤ و الياقوت، يتلألأ نوره، و أسفله على صخرة بيت المقدس، و رأسه في السماء، فقيل لي: يا محمّد، اصعد. فصعدت فانتهيت إلى بحر أخضر عظيم أعظم ما يكون من البحار، فقلت: يا جبرئيل، ما هذا البحر؟ فقال: يا محمّد، هذا بحر في الهواء لا شيء فوقه يتعلّق به، و لا شيء تحته يقرّ فيه، و لا يدري قعره و عظمته إلاّ اللّه، و لو لا أنّ هذا البحر كان حائلا لاحترق ما في الدنيا من حرّ الشمس» .

قال: «ثمّ انتهيت إلى سماء الدنيا، و اسمها رقيع، فأخذ جبرئيل بعضدي، و ضرب بابها به (1)، و قال: افتح الباب. قال الحارس: من أنت؟ قال: جبرئيل. قال: و من معك؟ قال: محمّد. قال: أو قد بعث محمّد؟ قال: نعم. قال: الحمد للّه. ففتح [لنا]الباب و دخلنا، فلمّا نظر إليّ قال: مرحبا بك يا محمّد، و لنعم المجيء مجيئك. فقلت: يا جبرئيل، من هذا؟ قال: هذا إسماعيل خازن سماء الدنيا، و هو ينتظر قدومك، فادن و سلّم عليه، فدنوت و سلّمت، فردّ عليّ السّلام و هنّأني، فلمّا صرت إليه قال: أبشر يا محمّد، فإنّ الخير كلّه فيك و في امّتك. قال: و إذا جنوده قائمون صفوفا، و لهم زجل بالتسبيح يقولون: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الرّوح، قدّوس قدّوس لربّ الأرباب، سبحان العظيم الأعظم» .

قال: «ثمّ انتهيت إلى آدم، فاذا هو كهيئته يوم خلقه اللّه، و كان تسبيحه: سبحان الجليل الأجلّ، سبحان الواسع الغنيّ، سبحان [اللّه]العظيم و بحمده، فاذا هو تعرض عليه أرواح ذريّته المؤمنين، فيقول: روح طيبة و نفس طيبة خرجت من جسد طيب، اجعلوها في علّيين، و تعرض عليه أرواح ذرّيته الكفّار، فيقول: روح خبيثة و نفس خبيثة خرجت من جسد خبيث، اجعلوها في سجّين» قال صلّى اللّه عليه و آله: «فتقدّمت إليه و سلّمت عليه، فقال: مرحبا بالابن الصالح و النبيّ الصالح» .

قال صلّى اللّه عليه و آله: «و رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل (2)، في أيديهم قطع من نار كالأفهار-أي الحجارة التي [كلّ]واحد منها ملء الكفّ-يقذفونها في أفواههم ثمّ تخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: أكلة أموال اليتامى ظلما.

ثمّ رأيت رجالا لهم بطون أمثال البيوت، فيها حيّات ترى من خارج البطون بطريق آل فرعون يمرّون عليهم كالابل المهيومة (3)حين يعرضون على النّار، لا يقدرون أن يتحوّلوا من مكانهم ذلك-

ص: 8


1- . في النسخة: و ضرب بابه.
2- . مشفر الإبل: بمثابة الشفة للانسان.
3- . أي العطشى.

و في رواية: كلّما نهض أحدهم خرّ-قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.

ثمّ رأيت أخونة (1)عليها لحم طيب، ليس عليها أحد، و اخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون منه. قلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تركوا الحلال و يأكلون الحرام.

ثمّ رأيت نساء معلّقات بثديهنّ، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن [على] الرجال ما ليس من أولادهم.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبرئيل، قال الحارس: من أنت؟ قال: جبرئيل. قال: و من معك؟ قال: محمد. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فاذا أنا بابني الخالة؛ عيسى بن مريم، و يحيى بن زكريا، و معهما نفر من قومهما، فرحّبا بي و دعوا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبرئيل، فقيل: من أنت؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف و معه نفر من قومه، و إذا هو أعطي شطر الحسن، فرحّب بي، و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبرئيل قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قيل: و قد بعث؟ قال. نعم، ففتح لنا، فاذا أنا بإدريس، فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبرئيل، قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون و نصف لحيته بيضاء و نصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرّته من طولها، و حوله قوم من بني إسرائيل، و هو يقصّ عليهم، فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبرئيل، قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قيل: أو قد بعث؟ قال: نعم، ففتح لنا، فاذا أنا بموسى، فرحّب بي و دعا لي بخير، فلمّا جاوزت بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنّ غلاما بعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممّن يدخل الجنّة من امّتي.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرئيل، قيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل: و من معك؟ قال: محمّد. قيل: أو قد بعث؟ قال: نعم. ففتح لنا، فاذا أنا بابراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلّم عليه و سلّمت عليه، فردّ السّلام ثمّ قال: مرحبا بالابن الصالح، و النبي الصالح، و إذا إبراهيم رجل أشمط (2)

ص: 9


1- . جمع خوان: ما يؤكل عليه.
2- . في النسخة: أمشط، و الأشمط: الذي يختلط سواد شعره ببياض.

جالس عند باب الجنّة على كرسيّ، مسندا ظهره إلى البيت المعمور، و هو من عقيق محاذ للكعبة بحيث لو سقط سقط عليها، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون، و إذا أنا بامّتي شطرين: شطر عليهم ثياب بيض كأنّها القراطيس، و شطر عليهم ثياب رمدة (1). فدخلت البيت المعمور، و دخل معي الذين عليهم الثياب البيض، و حجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرّمدة، فصليت أنا و من معي في البيت المعمور» .

و في رواية: «أنّ أطفال المؤمنين و الكافرين في كفالة إبراهيم، فلمّا رآهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع إبراهيم، قال: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا. قال له: و أولاد الكافرين؟ قال: و أولاد الكافرين» .

و قال إبراهيم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقرأ امّتك منّي السّلام، و أخبرهم أنّ الجنّة طيبة التربة عذبة الماء، و أن غرسها: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «استقبلتني جارية لعساء (2)، قد أعجبتني، فقلت لها: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة» .

قال: «و رأيت فوجا من الملائكة نصف أبدانهم [من]النار، و نصفها من الثلج، فلا النار تذيب الثلج، و لا الثلج يطفئ النار، و هم يقولون: اللهمّ كما ألّفت بين النار الثلج ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين» .

قال: صلّى اللّه عليه و آله: «ثمّ ذهب بي جبرئيل إلى سدرة المنتهى، و هي شجرة فوق السماء السابعة في أقصى الجنّة، إليها ينتهي الملائكة بأعمال أهل الأرض من السعداء، و إليها تنزل الأحكام، و إذا أرواقها كآذان الفيلة» (3).

قيل: إنّه عرج من السماء السابعة إلى السّدرة على جناح جبرئيل (4)، و إنّه عليه السّلام رأى جبرئيل عند السّدرة على الصورة التي خلقه اللّه عليها (5)، ثمّ عرج منها على الرّفرف-و هو بساط عظيم على قول، أو هو كالمحفّة (6)-و رأى أنّ جبرئيل لمّا وصل إلى السّدرة التي هي مقامه تأخّر فلم يتجاوز، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أفي مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ !» فقال: لو تجاوزت لأحترقت بالنور (7). و في رواية قال: لو دنوت أنملة لاحترقت (8).

فقال: «يا جبرئيل، هل لك [من]حاجة إلى ربّي؟ قال: يا محمّد، سل اللّه لي أنّ أبسط جناحي على

ص: 10


1- . الرّمد: الكدر الذي صار على لون الرماد.
2- . جارية لعساء: في لونها أدنى سواد مشربة من الحمرة.
3- . تفسير روح البيان 5:108-120.
4- . تفسير روح البيان 5:121.
5- . تفسير روح البيان 5:120.
6- . تفسير روح البيان 5:121، و المحفّة: هودج لا قبّة له، تركب فيه المرأة. (7 و 8) . تفسير روح البيان 5:120.

الصراط لامّتك حتّى يجوزوا عليه (1).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «ثمّ زجّ بي في النور، فخرق بي سبعون ألف حجاب، ليس [فيها]حجاب يشبه حجابا، غلظ كلّ حجاب خمسمائة عام، و انقطع عنّي حسّ كلّ ملك، فلحقني عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر: قف فانّ ربك يصلّي (2)» ، أي يقول: سبحاني سبحاني، سبقت رحمتي غضبي.

أقول: العجب كلّ العجب أنّ المنادي في ذلك المقام لم يجد لغة و لسانا لم ينطق بالشرك، و اختار لغة و لسانا نطق بالشّرك دهرا دهيرا.

«و جاء نداء من العليّ الأعلى: ادن يا خير البرية، ادن يا أحمد ادن يا محمد، فأدناني ربيّ حتى كنت كما قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (3)و نادى جبرئيل من خلفه: يا محمّد، إنّ اللّه يثني عليك، فاسمع و أطع، و لا يهولنّك كلامه. فبدأ بالثناء و هو قوله: التحيات للّه و الصلوات و الطيّبات» . فقال تعالى: السّلام عليك أيّها النبي و رحمة اللّه و بركاته. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «السّلام علينا و على عباد اللّه الصالحين» . فقال جبرئيل: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و تابعه جميع الملائكة (4).

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «سألني ربّي فلم أستطع أن اجيبه، فوضع يده بين كتفي بلا تكييف و لا تحديد، فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين و الآخرين، و علّمني علوما شتّى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنّه لا يقدر على حمله غيري، و علم خيّرني فيه، و علم أمرني بتبليغه إلى العامّ و الخاصّ من امّتي» (5).

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «فرض اللّه عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم و ليلة، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا، ثمّ أتيت موسى فقال: ما فرض ربك على امّتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فانّ امّتك لا تطيق ذلك، فانّي و اللّه قد جرّبت الناس قبلك، و عالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، و لقيت الشدّة في ما أردت فيهم من الطاعة» .

قال صلّى اللّه عليه و آله: «فرجعت إلى ربّي، فخررت له ساجدا، فقلت: أي ربّي، خفّف عن امّتي، فحطّ عنّي خمسا، فرجعت إلى موسى و أخبرته، فقال: إنّ امّتك لا تطيق ذلك، قال: فلم أزل اراجع بين ربي و موسى و يحطّ خمسا خمسا حتّى قال موسى: بم أمرت؟ قلت بخمس صلوات كلّ يوم. قال: ارجع

ص: 11


1- . تفسير روح البيان 5:121.
2- . تفسير روح البيان 5:121.
3- . النجم:53/8 و 9.
4- . تفسير روح البيان 5:121.
5- . تفسير روح البيان 5:122.

إلى ربك فاسأله التخفيف. فقلت: قد راجعت ربّي حتّى استحييت، و لكن أرضى و اسلّم، فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي يا محمّد، و هي خمس صلوات في كلّ يوم و ليلة بكلّ صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، و من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، و من علمها كتبت له عشر، و من همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيء، و إن عملها كتبت سيئة واحدة» (1).

و روي أنّه كانت الصلاة خمسين، و الغسل من الجنابة سبع مرات، و غسل البول من الثوب سبع مرات، و لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يسأل ربه حتى جعلت الصلاة خمسا، و غسل الجنابة مرة واحدة، و غسل البول من الثوب مرّة (2).

و عن أنس، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رأيت ليلة اسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة، كلّ مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة، مملوءة من الملائكة، يسبّحون اللّه و يقدّسونه، و يقولون في تسبيحهم: اللهمّ اغفر لمن شهد الجمعة، اللهمّ اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة.

و رأيت ليلة اسري بي إلى السماء مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، و القرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبرئيل، ما بال القرض أفضل من الصدقة. قال: لأنّ السائل يسأل و عنده شيء، و المستقرض لا يستقرض إلاّ من حاجة.

و رأيت رضوان خازن الجنة، فلمّا رآني فرح بي و رحّب بي، و أدخلني الجنة، و أراني فيها من العجائب ما وعد اللّه فيها لأوليائه ممّا لا عين رأت و لا اذن سمعت، و رأيت فيها درجات أصحابي، و رأيت فيها الأنهار و العيون، و سمعت فيها صوتا و هو يقول: آمنّا بربّ العالمين. فقلت: ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال: هم سحرة فرعون و أزواجهم.

و سمعت آخر يقول: لبّيك اللهمّ لبّيك فقلت: من هو؟ قال: أرواح الحجّاج، و سمعت التكبير، فقال: هؤلاء الغزاة. و سمعت التسبيح، فقال: هؤلاء الأنبياء. و رأيت قصور الصالحين.

و عرضت النار عليّ، و إن كانت في الأرض السابعة، فاذا على بابها مكتوب: و إنّ جهنم لموعدهم أجمعين. قال: و أبصرت ملكا لم يضحك في وجهي، فقلت: يا أخي جبرئيل، من هذا؟ قال: مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلقه اللّه، و لو ضحك إلى أحد لضحك إليك، فقال له جبرئيل: يا مالك، هذا محمّد فسلّم عليه. فسلّم عليّ و هنّأني بما صرت إليه من الكرامة و الشرف.

قال: فسألته أن يعرض عليّ النار بدركاتها، فعرضها عليّ بما فيها، و إذا فيها غضب اللّه، لو طرحت فيها الحجارة و الحديد لأكلتها، و إذا قوم يأكلون الجيف، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء

ص: 12


1- . تفسير روح البيان 5:123.
2- . تفسير روح البيان 5:123.

الذين يأكلون لحوم الناس-أقول: يعني يغتابونهم-و رأيت قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم، فقلت: من هم؟ قال: هم الذين يحلفون باللّه كاذبين. و رأيت جماعة من النساء علّقن بشعورهنّ، فقلت: من هنّ؟ قال: هنّ اللاتي لا يستترن من غير محارمهنّ. و رأيت جماعة منهنّ لباسهنّ [من]القطران. فقلت: من هنّ؟ قال: نائحات» .

فلمّا نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه، فاذا هو بهرج و دخّان و أصوات، فقال: «ما هذه يا جبرئيل؟» قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا إلى العلامات، و لا يتفكّروا في ملكوت السماوات، و لو لا ذلك لرأوا العجائب. و نزل صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت المقدس، و توجّه إلى مكّة و هو على البراق حتّى وصل إلى بيته، أو إلى بيت امّ هانئ (1).

قيل: كان ذهابه و إيابه ثلاث ساعات، أو أربع ساعات (2). و قيل: إنّه كان قدر لحظة (3).

القمي، عن الباقر عليه السّلام: أنه كان جالسا في المسجد الحرام، فنظر إلى السماء مرّة، و إلى الكعبة مرّة، ثم قال: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى و كرّر ذلك ثلاث مرات، ثمّ التفت إلى إسماعيل الجعفي، فقال: «أيّ شيء يقول أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟» قال: يقولون اسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس.

فقال: «ليس كما يقولون، و لكنّه أسرى به من هذه إلى هذه» و إشار بيده إلى السماء، و قال: «ما بينهما حرم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المساجد التي لها فضل، فقال: «المسجد الحرام، و مسجد الرسول» قيل: و المسجد الاقصى؟ فقال: «ذاك في السماء، إليه أسرى رسول اللّه» .

فقيل: إنّ الناس يقولون إنّه بيت المقدس؟ فقال: «مسجد الكوفة أفضل منه» (5).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل كم عرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «مرتين» (6).

و عن الباقر صلّى اللّه عليه و آله: «أتى جبرئيل بالبراق أصغر من البغل و أكبر الحمار، مضطرب الاذنين عيناه في حافره و خطامه مدّ بصره» (7).

و زاد في (الكافي) : «أنّه إذا انتهى إلى جبل قصرت يداه و طالت رجلاه، فاذا هبط طالت يداه

ص: 13


1- . تفسير روح البيان 5:123.
2- . تفسير روح البيان 5:125.
3- . تفسير روح البيان 5:125.
4- . تفسير القمي 2:243، تفسير الصافي 3:166.
5- . تفسير العياشي 3:35/2457، تفسير الصافي 3:166.
6- . الكافي 1:367/13، تفسير الصافي 3:167.
7- . تفسير العياشي 3:31/2447، تفسير الصافي 3:167، و في تفسير العياشي: في حوافره، خطوه مدّ بصر.

و قصرت رجلاه، أهدب العرف (1)الأيمن، له جناحان من خلفه» (2).

و عن (العيون) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ [اللّه]سخّر لي البراق، و هي دابة من دوابّ الجنّة ليست بالقصير و لا بالطويل، فلو أنّ اللّه أذن لها لجالت الدنيا و الآخرة في جرية واحدة، و هي أحسن الدوابّ لونا» (3).

القمي عن الصادق عليه السّلام: «جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأخذ واحد باللّجام، و واحد بالرّكاب، و سوّى الآخر عليه ثيابه، فتضعضعت البراق، فلطمها جبرئيل، ثمّ قال [لها]: اسكني يا براق، فما ركبك نبي قبله، و لا يركبك بعده مثله» قال: «فترقّت (4)فرفعته ارتفاعا ليس بالكثير، و معه جبرئيل يريه الآيات من السماء و الأرض. قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: [فبينا]أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمّد، فلم أجبه، و لم ألتفت إليه، ثمّ نادى مناد عن يساري: يا محمّد، فلم أجبه، و لم التفت إليه، ثمّ استقبلتني امرة كاشفة عن ذراعيها و عليها من كلّ زينة الدنيا، فقالت: يا محمّد، انظرني حتّى اكلّمك فلم التفت إليها.

ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني [فجاوزت به]، فنزل بي جبرئيل فقال: صلّ، فنزلت و صليت، فقال لي: تدري أين صليت؟ فقلت: لا. فقال: صلّيت بطيبه و إليها مهاجرك. ثمّ ركبت و مضينا ما شاء اللّه، ثمّ قال لي: إنزل فصلّ، فنزلت و صليت، فقال لي: تدري أين صليت؟ فقلت: لا. قال: صليت [بطور سيناء حيث كلم اللّه موسى تكليما، ثمّ ركبت فمضينا ما شاء اللّه، ثمّ قال لي: انزل فصلّ، فنزلت و صليت، فقال لي: تدري أين صليت؟ فقلت: لا، قال: صليت في]بيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثمّ ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء يربطون بها، فدخلت المسجد و معي جبرئيل إلى جنبي، فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى في من شاء اللّه من أنبياء اللّه قد جمعوا إليّ، و أقمت الصلاة، و لا أشكّ أن جبرئيل يستقدمنا (5)، فلمّا استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني و أممتهم و لا فخر، ثمّ أتاني الخازن بثلاث أوان: إناء فيه لبن، و إناء فيه ماء، و إناء فيه خمر، و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرقت امّته، و إنّ أخذ الخمر غوى و غوت امّته، و إن أخذ اللّبن هدي و هديت امّته. قال: فأخذت اللّبن و شربت منه، فقال لي جبرئيل: هديت و هديت امّتك.

ص: 14


1- . أي طويل العرف.
2- . الكافي 8:376/567، تفسير الصافي 3:167.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:32/49، تفسير الصافي 3:167.
4- . في المصدر: فرقت به.
5- . في المصدر: و لا أشك إلا و جبرئيل استقدمنا.

ثمّ قال لي: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني مناد عن يميني. فقال لي: أو أجبته. قلت: لا و لم التفت إليه. قال: ذلك داعي اليهود، و لو أجبته لتهوّدت امّتك من بعدك. ثمّ قال: ماذا رأيت؟ فقلت: ناداني مناد عن يساري. فقال لي: أو أجبته؟ فقلت: لا، و لم التفت إليه. فقال: ذاك داعي النصارى، و لو أجبته لتنصّرت امتك من بعدك. ثمّ قال: ماذا استقبلك؟ فقلت: لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا. فقالت: يا محمّد، انظرني حتّى اكلّمك. فقال لي: أفكلّمتها؟ فقلت: لم اكلّمها و لم التفت إليها. فقال: تلك الدنيا، و لو كلّمتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

ثمّ سمعت صوتا أفزعني، فقال لي [جبرئيل:]تسمع يا محمّد؟ قلت: نعم. قال: هذه صخرة قذفتها على شفير جهنّم منذ سبعين عاما، فهذا حين استقرّت. قالوا: فما ضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى قبض.

قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له إسماعيل، و هو صاحب الخطفة التي قال اللّه تعالى: إِلاّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (1)و تحته سبعون ألف ملك، تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك: فقال: يا جبرئيل، من معك؟ فقال: محمّد. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ثمّ فتح الباب، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالأخ الناصح و النبيّ الصالح، و تلقّتني الملائكة حتى دخلت سماء الدنيا، فما لقيني ملك إلاّ كان ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر خلقا أعظم منه، كريه المنظر، ظاهر الغضب. فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلاّ أنّه لم يضحك، و لم أر فيه [من]الاستبشار ما رأيت ممّن ضحك من الملائكة.

فقلت: من هذا يا جبرئيل، فإنيّ قد فزعت منه؟ فقال: يحقّ أن تفزع منه، و كلّنا نفزع منه، إن هذا مالك خازن النار، لم يضحك قطّ، و لم يزل منذ ولاّه اللّه جهنّم يزداد غضبا و غيظا على أعداء اللّه و أهل معصيته، فينتقم اللّه به منهم، و لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك، لضحك إليك، و لكنّه لا يضحك. فسلّمت عليه فردّ السّلام عليّ، و بشّرني بالجنة.

فقلت لجبرئيل و هو بالمكان الذي وصفه اللّه: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (2): ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك، أر محمّدا النار. فكشف عنها غطاءها، و فتح بابا منها، [فخرج]لهيب ساطع في السماوات، و فارت و ارتفعت حتى ظننت ليتناولني ممّا رأيت. فقلت: يا جبرئيل، قل له فليردّ عليها غطاءها، فأمرها و قال: ارجعي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه.

ثمّ مضيت فرأيت رجلا آدما (3)جسيما فقالت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم. فاذا هو

ص: 15


1- . الصافات:37/10.
2- . التكوير:81/21.
3- . الآدم من الناس: الأسمر.

تعرض عليه ذرّيته فيقول: روح طيب و ريح طيبة من جسد طيّب ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (1): إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ (2)إلى آخرها. قال: فسلّمت على أبي آدم و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالابن الصالح، و النبي الصالح، و المبعوث في الزمن الصالح.

ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس (3)، و إذا جميع الدنيا بين ركبتيه، و إذا بيده لوح من نور ينظر إليه مكتوب فيه، كتاب ينظر فيه و لا يلتفت يمينا و لا شمالا إلا و هو مقبل عليه كهيئة الحزين، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح. فقلت: يا جبرئيل ادنني منه حتّى اكلّمه، فأدناني منه فلّسمت عليه، فقال له جبرئيل: هذا نبي الرحمة الذي أرسله اللّه إلى العباد، فرحّب بي و حيّاني بالسلام، و قال: أبشر يا محمّد، فإنّي أرى الخير في امتك. فقلت: الحمد للّه المنّان ذي النّعم على عباده، ذلك من فضل رّبي و رحمته عليّ.

فقال جبرئيل: هو أشدّ الملائكة عملا. فقلت: أكلّ من مات أو هو ميت فيما بعد هذا يقبض روحه؟ فقال: نعم: قلت: و يراهم حيث كانوا و يشهدهم بنفسه؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّرها اللّه لي و مكّنني منها إلاّ كالدرهم في كفّ الرجل يقلّبه كيف يشاء، و ما من دار إلاّ و أنا أتصفّحها كلّ يوم خمس مرات، و أقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه، فانّ لي فيكم عودة و عودة حتى لا يبقى منكم أحد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالموت طامّة يا جبرئيل. فقال جبرئيل: إنّ ما بعد الموت أطمّ و أطمّ من الموت.

قال: ثمّ مضيت فاذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب و لحم خبيث يأكلون الخبيث و يدعون الطيب، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال، و هم من امّتك يا محمد.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل اللّه أمره عجبا، نصف جسده نار، و النصف الأخر ثلج، فلا النار تذيب الثلج، و لا الثلج يطفىء النار، و هو ينادي بصوت رفيع يقول: سبحان الذي كفّ حرّ هذه النار فلا تذيب الثلج، و كفّ برد [هذا]الثلج فلا يطفئ حرّ هذه النار، اللهمّ يا مؤلّف بين الثلج و النار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك وكّله اللّه بأكناف السماوات و أطراف الأرضين، و هو أنصح ملائكة اللّه لأهل الأرضين من عباده المؤمنين،

ص: 16


1- . زاد في المصدر: سورة المطففين على رأس سبعة عشر آية.
2- . المطففين:83/18-21.
3- . في المصدر: الملائكة و هو جالس.

يدعو لهم بما تسمع منه منذ خلقه، و ملكان يناديان في السماء؛ أحدهما يقول: اللهمّ أعط كلّ منفق خلفا، و الآخر يقول: اللهمّ أعط كلّ ممسك تلفا.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل (1)، يقرض اللحم من جنوبهم و يلقى في أفواههم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤوسهم بالصخر، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، إنّما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا.

ثمّ مضيت فاذا أنا باقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، فإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّا و عشيّا، و يقولون: ربّنا متى تقوم الساعة؟

قال: ثمّ مضيت فإذا أنا بنسوان معلّقات بثديهنّ، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم. ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اشتدّ غضب اللّه على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم، فاطّلع على عوراتهم و أكل خزائنهم.

قال: ثم مررت بملائكة من ملائكة اللّه عزّ و جلّ خلقهم كيف شاء، و وضع وجوههم كيف شاء، ليس شيء من أطباق أجسادهم إلاّ و هو يسبّح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة، أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية اللّه، فسألت جبرئيل عنهم، فقال: كما ترى خلقوا، إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قطّ، و ما رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها، و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفا من اللّه و خشوعا، فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برؤوسهم لا ينظرون إليّ من الخشوع. فقال لهم جبرئيل، هذا محمّد نبي الرحمة، أرسله اللّه إلى عباده رسولا نبيا، و هو خاتم الأنبياء و سيّدهم، أفلا تكلّمونه [قال:]فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام، و أكرموني، و بشّروني بالخير لي و لامّتي.

قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية، فاذا فيها رجلان متشابهان، فقلت: من هذان يا جبرئيل؟ قال: أبنا الخالة يحيى و عيسى، فسلّمت عليهما و سلّما عليّ، و استغفرت لهما و استغفرا لي، و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح، و إذا فيها من الملائكة [مثل ما في السماء الاولى]و عليهم الخشوع، و قد

ص: 17


1- . المشفر للبعير بمثابة الشّفة للانسان.

وضع اللّه وجوههم كيف شاء، ليس منهم ملك إلاّ يسبّح اللّه و يحمده بأصوات مختلفة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثالثة، فإذا [فيها رجل]فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي. و قال: مرحبا بالأخ الصالح، و النبيّ الصالح، و المبعوث في الزمان الصالح. و إذا فيها ملائكة [عليهم]من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى و السماء الثانية، فقال له جبرئيل في أمري ما قال للآخرين، و صنعوا مثل ما صنع الآخرون.

ثمّ صعدنا إلى السماء الرابعة، و إذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا إدريس رفعه اللّه مكانا عليا، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات، فبشّروني بالخير لي و لامتّي.

ثمّ رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون ألف ألف (1)ملك، تحت كلّ ملك سبعون ألف ألف (2)ملك، فوقع في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه هو، فصاح به جبرئيل، فقال: قم، فهو قائم إلى يوم القيامة.

ثمّ صعدنا الى السماء الخامسة، فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أكهل (1)منه، حوله ثلّة من امّته، فأعجبتني كثرتهم، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المجيب لقومه (2)هارون بن عمران. فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة، و إذا فيها رجل آدم كأنّه من شعره لو (3)أنّ عليه قميصين لنفذ شعره فيهما، و سمعته يقول: زعم بنو إسرائيل أنّي أكرم ولد آدم على اللّه، و هذا رجل أكرم على اللّه منّي. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: [هذا]أخوك موسى بن عمران. فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السابعة، فما مررت بملك من الملائكة إلاّ قالوا: يا محمد، احتجم و أمر أمّتك بالحجامة، و إذا فيها رجل أشمط (4)الرأس و اللّحية جالس على كرسيّ، فقلت: يا جبرئيل، من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار اللّه؟ فقال: هذا يا محمد أبوك إبراهيم،

ص: 18


1- . في المصدر: أعظم.
2- . في المصدر: المحبب في قومه.
3- . في المصدر: آدم طويل عليه سمرة و لو لا.
4- . الشّمط: بياض يخالطه سواد في الشعر.

و هذا محلّك و محلّ من اتّقى من امّتك، ثمّ قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ (1)فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و قال: مرحبا بالنبي الصالح، و الابن الصالح، و المبعوث في الزمن الصالح. و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات، فبشّروني بالخير لي و لامّتي.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و رأيت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ يكاد تلألؤها يخطف بالابصار، و فيها بحار مظلمة و بحار ثلج ترعد (2)، فلمّا فزعت و رأيت هؤلاء سألت جبرئيل، فقال: أبشر يا محمد، و اشكر كرامة ربك، و اشكر اللّه ما صنع إليك [قال:]فثبّتني اللّه بقوّته و عونه حتى كثر قولي لجبرئيل و تعجّبي، فقال جبرئيل: يا محمّد أتعظّم ما ترى؟ إنّما هذا خلق من خلق ربك، فكيف بالخالق الذي خلق ما ترى و ما لا ترى من خلق ربك أعظم من هذا؟ إنّ بين اللّه و بين خلقه تسعين (3)ألف حجاب، و أقرب الخلق إلى اللّه أنا و إسرافيل، و بيننا و بينه أربعة [حجب]: حجاب من نور، و حجاب من ظلمة، و حجاب من غمام، و حجاب من ماء.

قال: و رأيت من العجائب التي خلق اللّه و سخّره على ما أراد ديكا رجلاه في تخوم الأرضين السابعة، و رأسه عند العرش، و ملكا من ملائكة اللّه خلقه اللّه كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة، ثمّ أقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة، و انتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش و هو يقول: سبحان ربي حيث ما كنت، لا تدري أين ربّك من عظم شأنه، و له جناحان في منكبيه إذا نشرهما جاوزوا المشرق و المغرب، فاذا كان في السّحر (4)نشر جناحيه و خفق بهما، و صرخ بالتسبيح، يقول: سبحان اللّه الملك القدّوس، سبحان اللّه الكبير المتعال، لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم. فاذا قال ذلك سبّحت ديوك الأرض كلّها، و خفقت بأجنحتها، و أخذت بالصّراخ، فاذا سكت ذلك الديك في السماء سكتت ديوك الأرض كلّها، و لذلك الدّيك زغب أخضر و ريش أبيض كأشدّ بياضا ما رأيته قطّ، و له زغب أخضر أيضا تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة ما رأيتها قطّ.

قال: ثمّ مضيت مع جبرئيل، فدخلت البيت المعمور فصلّيت فيه ركعتين و معي اناس من أصحابي عليهم ثياب جدد، و آخرون عليهم ثياب خلقان (5)، فدخل أصحاب الجدد، و حبس أصحاب الخلقان.

ثمّ خرجت فانقاد لي نهران: نهر يسمّى الكوثر، و نهر يسمّى الرحمة، فشربت [من]الكوثر، و اغتسلت من الرحمة، ثمّ انقادا إليّ حتى دخلت الجنة، فإذا على حافتيها بيوتي و بيوت أزواجي، و إذا

ص: 19


1- . آل عمران:3/68.
2- . في المصدر: ثلج و رعد.
3- . في المصدر: سبعون.
4- . زاد في المصدر: ذلك الديك.
5- . الخلقان: جمع خلق، أي بال.

ترابها كالمسك، و إذا جارية تنغمس في أنهار الجنة، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشّرته بها حين أصبحت، و إذا بطيرها كالبخت (1)، و إذا رمّانها مثل الدّلاء العظام، و إذا شجرة لو ارسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة (2)سنة، و ليس في الجنة منزل إلاّ و فيه فرع منها، فقلت: ما هذه يا جبرئيل. فقال: هذه شجرة طوبى، قال اللّه تعالى: طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (3).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فلما دخلت الجنّة، رجعت إلى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار و هولها و أعاجيبها، فقال: هي سرادقات الحجب التي احتجب اللّه تبارك و تعالى بها، و لو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كلّ شيء فيه.

فانهيت إلى سدرة المنتهى، فاذا الورقة منها تظلّ أمّة من الامم، فكنت [منها]كما قال اللّه تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (4)فناداني آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ (5)و قد سبق ذلك في آخر سورة البقرة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا ربّ، أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني. فقال: قد أعطيتك في ما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول و لا قوة إلاّ باللّه، و لا منجى منك إلاّ إليك.

قال: و علّمتني الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت و أمسيت: اللهم إن ظلمي أصبح مستجيرا بعفوك، و ذنبي أصبح مستجيرا بمغفرتك، و ذلّي أصبح مستجيرا بعزّك، و فقري أصبح مستجيرا بغناك، و وجهي [الفاني]البالي أصبح مستجيرا بوجهك الباقي (6)الذي لا يفنى.

ثمّ سمعت الأذان، فإذا ملك يؤذّن لم ير في السماء قبل تلك الليلة، فقال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، فقال اللّه: صدق عبدي، أنا أكبر. فقال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه. فقال اللّه: صدق عبدي أنا اللّه لا إله غيري. فقال: أشهد أن محمّدا رسول اللّه، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه. فقال اللّه: صدق عبدي إنّ محمّدا عبدي و رسولي. أنا بعثته و أنا انتجبته. فقال: حيّ على الصلاة، [حيّ على الصلاة]فقال: صدق عبدي، و دعا إلى فريضتي، فمن مشى [إليها]راغبا فيها محتسبا، كانت كفارة لما مضى من ذنوبه. فقال: حيّ على الفلاح، [حيّ على الفلاح.]فقال اللّه: هي الصلاح و النجاح و الفلاح، ثمّ أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس.

قال: ثمّ غشيتني ضبابة، فخررت ساجدا، فناداني ربّي: إنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة، و فرضتها عليك و على أمّتك، فقم بها أنت في أمّتك فقال: رسول اللّه: فانحدرت حتّى مررت بابراهيم فلم يسألني عن شيء، ثمّ انتهيت إلى موسى، فقال: ما صنعت يا محمّد؟ فقلت:

ص: 20


1- . البخت: الإبل الخراسانية.
2- . في المصدر: تسعمائة.
3- . الرعد:13/29.
4- . النجم:53/9.
5- . البقرة:2/285.
6- . في المصدر: الدائم.

قال ربّي: فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة، و فرضتها عليك و على أمّتك. فقال: [موسى]يا محمّد، إنّ امتّك آخر الامم و أضعفها، و إن ربّك لا يردّ عليك شيئا، و إنّ امّتك لا تستطيع أن تقوم بها، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامّتك. فرجعت إلى ربي فانتهيت إلى سدرة المنتهى، فخررت ساجدا، ثمّ قلت: فرضت عليّ و على امّتي خمسين صلاة، و لا اطيق ذلك و لا امّتي، فخفّف عني. فوضع عنّي عشرا، فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع لا تطيق. فرجعت، فوضع عنّي عشرا، فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: لا تطيق ارجع، و في كلّ رجعة أرجع إليه أخرّ ساجدا حتى رجع إلى عشر صلوات، فرجعت إلى موسى و أخبرته، فقال لا تطيق. فرجعت إلى ربّي فوضع عني خمسا، فرجعت إلى موسى و أخبرته، فقال: لا تطيق. فقلت: قد استحييت من ربّي، و لكن أصبر عليها. فناداني [مناد:]كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين، كلّ صلاة بعشر، و من همّ من امّتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا، و إنّ لم يعمل كتبت له واحدة، و من همّ من امّتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة، و إن لم يعملها لم أكتب عليه [شيئا]، فقال الصادق عليه السّلام: جزى اللّه موسى عن هذه الامة [خيرا]فهذا تفسير قوله تعالى: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الآية» (1).

و عن (كشف الغمة) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه سئل بأيّ لغة خاطبك ربّك ليلة المعراج؟ فقال «خاطبني بلغة علي بن أبي طالب، فألهمت أن قلت: يا ربّ [أنت]خاطبتني أم عليّ؟ فقال: يا محمّد (2)، أنا شيء ليس كالأشياء، و لا اقاس بالناس، و لا أوصف بالأشياء، خلقتك من نوري، و خلقت عليا من نورك، فأطلعت على سرائر قلبك، فلم أجد إلى قلبك أحبّ من علي بن أبي طالب، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئنّ قلبك» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق، فأتيا بيت المقدس، و عرض عليه محاريب الأنبياء، و صلّى بها، و ردّه فمرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في رجوعه بعير لقريش، و إذا لهم ماء في آنية، و قد أضلّوا بعيرا لهم، و كانوا يطلبونه، فشرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك الماء، و أهريق باقيه.

فلمّا أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لقريش: إن اللّه تعالى قد أسرى بي إلى بيت المقدس، و أراني آثار الأنبياء و منازلهم، و إنّي مررت بعير في موضع كذا و كذا، و قد أضلّوا بعيرا لهم، فشربت من مائهم، و أهرقت باقيه. فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة [منه]، فاسألوه كم الأساطين فيها و القناديل؟

ص: 21


1- . تفسير القمي 2:3، تفسير الصافي 3:167.
2- . في المصدر: يا أحمد.
3- . كشف الغمة 1:106، تفسير الصافي 3:177.

فقالوا: يا محمّد، إنّ هاهنا من دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه و قناديله و محاريبه، فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه، فلمّا أخبرهم قالوا: حتى تجيء العير و نسألهم عمّا قلت، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق (1)فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة، و يقولون: هذه الشمس تطلع الساعة، فبيناهم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق، فسألوهم عمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: لقد كان هذا ضلّ جمل لنا في موضع كذا و كذا، و وضعنا ماء فأصبحنا و قد اهريق الماء، فلم يزدهم إلاّ عتوّا» (2).

روت العامة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من ليلته قصّ القصّة على امّ هانئ، و قال: «إنّي اريد أن أخرج إلى قريش و اخبرهم بذلك» . فقالت: أنشدك باللّه يابن عمّ أن لا تحدّث بهذا قريشا فيكذّبك من صدّقك. فلمّا كان الغداة تعلّقت بردائه، فضرب يده على ردائه فانتزعه من يدها، و انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم و هو ما بين باب الكعبة و الحجر الأسود، و اولئك النفر: مطعم بن عديّ، و أبو جهل بن هشام، و الوليد بن المغيرة. فقال: «إنّي صلّيت العشاء في هذا المسجد، و صلّيت به الغداة، و أتيت فيما بين ذلك بيت المقدس» و أخبرهم عمّا رأى في السماء من العجائب، و أنّه لقي الأنبياء، و بلغ البيت المعمور و سدرة المنتهى (3).

و روي أنه لمّا دخل المسجد الحرام، و عرف أنّ الناس يكذّبونه، و ما أحبّ أن يكتم ما هو دليل على قدرة اللّه، و علوّ مقامه الباعث على اتّباعه، قعد حزينا، فمرّ به أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه صلّى اللّه عليه و آله، فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال: «نعم اسري بي الليلة» . قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا؟ ! قال: «نعم» . قال: أ رأيت أن دعوت قومك تحدّثهم بما حدّثتني؟ قال: «نعم» . قال: يا معشر كعب بن لؤي، فانفضّت إليه المجالس و جاءوا حتّى جلسوا إليهما، فقال: «إنّي اسري بي» . قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس، فنشر لي الأنبياء و صلّيت به و كلّمتهم» .

فقال أبو جهل كالمستهزئ: صفهم لنا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أمّا عيسى ففوق الرّبعة (4)دون الطويل عريض الصدر جاعد الشعر» [أي في شعره تثنّي و تكسّر] «تعلوه صهبة» أي [يعلو شعره شقرة «ظاهر الدم» أي يعلوه]حمرة «كأنّما خرج من ديماس» أي حمام «أمّا موسى فضخم آدم» أي أسمر طويل «كأنّه رجال شنوءة» و هم طائفة من اليمن معروفون بالطول «كثير الشعر، غائر العينين، متراكم الاسنان،

ص: 22


1- . الأورق من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد.
2- . أمالي الصدوق:533/719، تفسير الصافي 3:176.
3- . تفسير روح البيان 5:125.
4- . الرّبعة: الوسيط القامة.

متقلّص الشفتين، خارج اللّثة، عابس. و أمّا إبراهيم فو اللّه إنّه لأشبه الناس بي خلقا و خلقا» .

فضجّوا و عظموا ذلك، و صار بعضهم يصفّق، و بعضهم يضع يده على رأسه متعجّبا و منكرا، قالوا: نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا و منحدرا شهرا، أتزعم أنّك أتيته في ليلة واحدة، و اللات و العزّى لا نصدّقك. و ارتدّ ناس ممّن كان آمن به، و سعى رجال إلى أبي بكر، فقال: إن كان قد قال ذلك فلقد صدق. قالوا: أتصدّقه على ذلك؟ قال: إنّي أصدّقه على أبعد من ذلك، فإنّي أصدّقه في خبر السماء في غدوة و روحة.

و كان فيهم من يعرف بيت المقدس، فقالوا: صف لنا بيت المقدس، كم له [من]باب؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله [قطّ]، لأنّهم سألوني عن أشياء لم أثبتها، و كنت دخلته ليلا و خرجت منه ليلا، فقمت في الحجر، فجلّى اللّه لي بيت المقدس، فطفقت اخبرهم عن آياته و أنا أنظر إليه» ، فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب. فقالوا: ما آية ذلك يا محمّد؟ فقال عليه السّلام: «[آية ذلك]إنّي مررت بعير بني فلان بوادي الروحاء» و هو محلّ قريب من المدينة «قد أضلّوا ناقة لهم، و انتهيت إلى رحالهم، و إذا قدح ماء فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك» . قالوا: فأخبرنا عن عيرنا. قال: «مررت بها في التنعيم» و هو محلّ قريب من مكة «فأخبرهم بعدد جمالها و أحوالها، و أنها تقدم مع طلوع الشمس، يتقدّمها جمل أورق عليه غرارتان» أي جوالقان (1)«أحداهما سوداء، و الاخرى برقاء (2)» فابتدر القوم الثنية، فقال قائل منهم: هذه و اللّه الشمس قد أشرقت. فقال آخر: هذه و اللّه العير قد أقبلت، يتقدّمها جمل أورق، كما قال محمد، عليه غرارتان، فتاب المرتدّون و أصرّ المشركون، و قالوا: إنّه ساحر (3).

ثمّ اعلم أنّ معراج النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّة ببدنه العنصري من ضروريات دين الاسلام، و الأخبار به متواترة، و إن كان تفصيل خصوصياته و قضاياه منقول بخبر الواحد، فلا شبهة في أنّ إنكار أصله-كما نسب إلى عائشة و معاوية-كفر و خروج عن ربقة الاسلام، و التشكيك فيه بأن صعود الجسم الثقيل إلى السماوات و سرعة حركته إلى هذا الحدّ و خرق الأفلاك غير معقول، إنّما نشأ عن الجهل بقدرة اللّه تعالى الكاملة. و أمّا في بعض الروايات من الامور البعيدة عن الأنظار فمطروح أو موجّه بوجوه قريبة إلى الاعتبار.

ص: 23


1- . الجوالق: وعاء من صوف أو شعر أو غيرهما.
2- . برقاء: لعلّه يريد بيضاء مشرقة كالبرق، و في روح البيان: أي فيها بياض و سواد، أي جوالق مخطط ببياض.
3- . تفسير روح البيان 5:126.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إكرام نبيه صلّى اللّه عليه و آله بإسرائه إلى السماوات، بيّن إكرام موسى بإسرائه إلى الطور و إيتائه التوراة بقوله: وَ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ المعهود-و هو التوراة-بعد إسرائه إلى الطور، و كان من فضائل ذلك الكتاب أنّا قرّرناه وَ جَعَلْناهُ هُدىً و رشادا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إلى كلّ حقّ و خير، لاحتوائه للعلوم الكثيرة و الأحكام الوفيرة، و كان أهمّ ما فيه أنّا كتبنا فيه أَلاّ تَتَّخِذُوا يا بني إسرائيل لأنفسكم مِنْ دُونِي و ممّا سواي وَكِيلاً و إلها تفوّضون إليه الامور،

و ترجعون إليه في الحوائج يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا ه مَعَ نُوحٍ في السفينة يوم الطّوفان، و أنعمنا عليه بالنجاة حين هلاك جميع ما في الأرض من الحيوان و النبات، فانّ نجاة آبائكم من أعظم النّعماء عليكم؛ لأنّه لو لم يكونوا لم تكونوا، فيجب أن يقابلوه بالشكر كما شكر نوح إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً مبالغا في أداء حقّ (1)النعمة، و مجدّا إلى القيام بوظائف العبودية.

وَ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)روي أنّه عليه السّلام كان إذا أكل قال: «الحمد للّه الذي أطعمني، و لو شاء أجاعني» . و إذا شرب قال: «الحمد للّه الذي سقاني، و لو شاء أظمأني» و إذا اكتسى قال: «الحمد للّه الذي كساني، و لو شاء جرّدني» . و إذا تغوّط قال: «الحمد للّه الذي أخرج عنّي أذاه في عافية، و لو شاء حبسه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنه سئل ما عنى بقوله في نوح: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً؟ فقال: «كلمات بالغ فيهنّ» قيل: و ما هنّ؟ قال: «كان إذا أصبح قال: أصبحت اشهدك ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فانّها منك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد على ذلك، و لك الشكر كثيرا. كان يقولها إذا أصبح ثلاثا، و إذا أمسى ثلاثا» (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 4 الی 6

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي اَلْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ اَلدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)

ص: 24


1- . في النسخة: حقه.
2- . تفسير روح البيان 5:131.
3- . تفسير العياشي 3:36/2463، الكافي 2:388/38، تفسير الصافي 3:177.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أن إيتاء التوراة كان لهداية بني إسرائيل، بيّن عدم هدايتهم بها بقوله: وَ قَضَيْنا و حكمنا حكما مبتوتا مرسلا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ بكتبه فِي ذلك اَلْكِتابِ المنزل على موسى عليه السّلام أنّكم يا بني إسرائيل و اللّه لَتُفْسِدُنَّ بالكفر و قتل الأنبياء فِي اَلْأَرْضِ المقدسة و البيت المقدّس و حواليه مَرَّتَيْنِ أولاهما: مخالفتهم، التوراة و قتل أشعيا (1)، و حبس أرميا وَ لَتَعْلُنَّ و تستكبرنّ عن طاعة اللّه عُلُوًّا و استكبارا كَبِيراً و طغيانا عظيما فَإِذا جاءَ وَعْدُ العقوبة على المرة السابقة من الإفسادتين، و حان (2)حين المجازاة على أُولاهُما بَعَثْنا و سلّطنا عَلَيْكُمْ لعقوبتكم على معاصيكم عِباداً و ناسا مخلوقين لَنا حال كونهم أُولِي بَأْسٍ و ذوي بطش شَدِيدٍ فقتلوكم و نهبوا أموالكم، فلمّا لم يجدوا من تظاهر منكم و ما ظهر من أموالكم فَجاسُوا و فتّشوا خِلالَ اَلدِّيارِ و فرج البيوت و ما بين جدرها ليقتلوا من استخفى منكم، و ينهبوا ما سترتم من أموالكم وَ كانَ وعد تعذيبكم وَعْداً لا بدّ من كونه مَفْعُولاً و منجزا غير مخلف.

قيل: إنّ المراد من العباد المبعوثين جالوت و جنوده (3). و قيل: بخت نصّر المجوسي ملك بابل، حارب بني إسرائيل و غلب عليهم و أكثر القتل فيهم، حتى قتل أربعين ألفا من علمائهم، و أسر سبعين ألفا منهم، و غنم أموالهم، و أحرق التوراة، و خرّب المسجد، فبقوا في الذلّ و الشدّة إلى قريب من مائة سنة، فضجّوا و تابوا من عصيانهم و إفسادهم و عتوّهم (4).

ثُمَّ رَدَدْنا و أعدنا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ و الدولة و الغلبة عَلَيْهِمْ بعد كونكم مقهورين مغلوبين تحت سلطنتهم و سطوتهم وَ أَمْدَدْناكُمْ و قوّيناكم بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَ بَنِينَ و أولاد بعد ما سبوا وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً و عددا مما كنتم، أو من أعدائكم.

قيل: إنّ كورش الهمداني غزا أهل بابل، فظهر عليهم، و سكن ديارهم، ثمّ تزوجّ امرأة من بني إسرائيل، فطلبت من زوجها أن يردّ بني إسرائيل إلى أرضهم، فردّهم كورش إلى بيت المقدس و قتل بخت نصّر، و خرج بنو إسرائيل من الأسر، و رجع إليهم الملك، و صاروا إلى أحسن ممّا كانوا عليه (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 7

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)

ص: 25


1- . في روح البيان 5:132: شعيا.
2- . في النسخة: و أحان.
3- . تفسير الرازي 20:156.
4- . تفسير الرازي 20:155، تفسير روح البيان 5:132.
5- . تفسير روح البيان 5:133.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية شدّة بلائهم بعد عصيانهم، و حسن حالهم بعد توبتهم و إنابتهم، نبّه على أن نفع الإيمان و الطاعة عائد إليهم، و ضرر الكفر و العصيان وارد عليهم لا يتعدّاهم بقوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ يا بني إسرائيل في العقائد و الأعمال، فقد تبيّن لكم أنّكم أَحْسَنْتُمْ و حصّلتم الخير و الثواب الدنيوي و الاخروي لِأَنْفُسِكُمْ و استفتحتم أبواب البركات على ذواتكم وَ إِنْ أَسَأْتُمْ بالكفر و الطّغيان فَلَها ضررها من الذّلّ و الشدّة في الدنيا و العذاب في الآخرة، و في ذكر فعل الاحسان مرتين دون الاساءة، إشارة بغلبة رحمته تعالى على غضبه فَإِذا جاءَ وَعْدُ العقوبة على المرّة اَلْآخِرَةِ من طغيانكم كقتل يحيى و زكريا و الاجتماع لقتل عيسى، بعثنا عليكم جمعا آخر لِيَسُوؤُا و يغيّروا وُجُوهَكُمْ من شدّة الحزن و الكآبة فتسودّ أو تتغيّر وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ الأقصى و يخرّبوه كَما أنّ أعداءكم دَخَلُوهُ و خرّبوه أَوَّلَ مَرَّةٍ عقوبة على طغيانكم الأول وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا و استولوا عليه من النفوس و الأموال تَتْبِيراً و إهلاكا فظيعا لا يوصف.

قيل: إنّ الذين بعثهم اللّه لعقوبة بني إسرائيل ططوس النصراني (1)، حاصر بلادهم، و قتل نفوسهم، و نهب أموالهم، و خرّب بيت المقدس (2).

و قيل: إنّ هردوس ملك بابل غزا بني إسرائيل، و قال لرئيس جنده: كنت حلفت بالهي لأن ظفرت بأهل بيت المقدس لأقتلنّهم حتى تسيل دماؤهم وسط عسكري، فاقتلهم أنت. فدخل بيت المقدس، و قام في البقعة التي كانوا يقرّبون فيها القربان، فوجد فيها دما يغلي فسألهم عنه فقالوا: دم قربان لم يقبل منّا. فقال: ما صدقتموني. فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من رؤسائهم و علمائهم (3)و أزواجهم، فلم يسكن الدم.

ثمّ قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا: إنّه دم نبي [كان]ينهانا عن المعاصي، و يخبرنا بأمركم، فلم نصدّقه فقتلناه، فهذا دمه. فقال: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا. قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا ينتقم ربّكم منكم.

و كان قتل يحيى بيد ملك من بني إسرائيل يقال له لاحت (4)حمله على قتله امرأة اسمها إربيل، و كانت قتلت سبعة من الأنبياء، و قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، فلمّا رأى أنهم صدقوا خرّ ساجدا، ثمّ قال: يا يحيى، قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك من أجلك و ما قتل منهم، فاهدأ باذن اللّه قبل أن لا أبقي أحدا منهم، فهدأ فرفع عنهم القتل، و قال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، و أيقنت أنه لا ربّ

ص: 26


1- . في روح البيان: طرطوس الرومي.
2- . تفسير روح البيان:5:133.
3- . في تفسير روح البيان: و غلمانهم.
4- . في تفسير روح البيان: لاخت.

غيره.

و قال لبني إسرائيل: إن هردوس أمرني أن اقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، و لست أستطيع أن أعصيه. قالوا: أفعل ما امرت، فأمر أن يحفر خندقا و يذبحوا دوابّهم حتى سال الدم في العسكر، فلمّا رأى هردوس ذلك أرسل إليه أن ارفع عنهم القتل، فسلب عنهم الملك و الرئاسة، و ضربت عليهم الذلة و المسكنة، ثمّ أنصرف إلى بابل (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 8

ثمّ رغّبهم اللّه تعالى في الإيمان و الطاعة و الأعمال الصالحة، و رهّبهم عن الفساد و الطّغيان بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد الانتقام منكم إن بقيتم على الايمان و الأعمال الصالحة، أو إن تبتم توبة اخرى و كففتم عن العصيان و الطّغيان وَ إِنْ عُدْتُمْ مرة ثالثة إلى ما كنتم عليه من العصيان عُدْنا إلى الانتقام منكم بالقتل و الأسر في الدنيا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً و محبسا، أو مقرّا و مهادا في الآخرة، و لا يمكنهم الخروج منها أبدا، و كان من خبث ذاتهم أنّهم بعد ما رأوا من العقوبات و سمعوا من التهديد، عادوا إلى العصيان بتكذيب النبي و كتمان علائمه و نعوته المذكورة في التوراة و الانجيل و تحريفهما، فعاد اللّه عليهم بالتعذيب على أيدي المسلمين، فقتلوا كثيرا منهم، و أجلوا كثيرا، و ضرب اللّه على سائرهم الجزية و الذلة إلى يوم القيامة.

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)و القمّي قال: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي اَلْكِتابِ أي أعلمناهم، ثمّ انقطعت مخاطبة بني إسرائيل، و خاطب اللّه امة محمّد فقال: لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ يعني فلانا و فلانا و أصحابهما، و نقضهم العهد وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً يعني ما ادّعوه من الخلافة فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني يوم الجمل بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني أمير المؤمنين و أصحابه فَجاسُوا خِلالَ اَلدِّيارِ أي طلبوكم و قتلوكم وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً يعني يتمّ و يكون ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ يعني لبني أمية على آل محمد وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً من الحسن و الحسين ابني علي عليه السّلام و أصحابهما [فقتلوا الحسين بن عليّ]و سبوا نساء آل محمّد فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ يعني القائم و أصحابه لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ يعني تسوّد وجوهكم وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه و أمير المؤمنين عليه السّلام وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (2)أي يعلو عليكم فيقتلوكم.

ص: 27


1- . تفسير روح البيان 5:134.
2- . الإسراء:17/4-7.

ثمّ عطف على آل محمّد فقال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي ينصركم على عدوكم. ثمّ خاطب بني امية فقال: وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا يعني إن عدتم بالسفياني عدنا بالقائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [أي]حبسا يحصرون فيها (1).

عن (الكافي) و (العياشي) عن الصادق عليه السّلام في تأويل الإفسادتين بقتل عليّ عليه السّلام و طعن الحسن عليه السّلام، و العلوّ الكبير بقتل الحسين عليه السّلام، و العباد اولى البأس بقوم يبعثهم اللّه قبل خروج القائم، فلا يدعون واترا لآل محمّد إلاّ قتلوه، و وعد اللّه بخروج القائم عليه السّلام و الكرّة عليهم بخروج الحسين عليه السّلام في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهّب حين كان الحجّة القائم (2)بين أظهرهم (3).

و عن (العياشي) : «ثمّ يملكهم الحسين عليه السّلام حتى يقع حاجباه على عينيه» (4).

و عنه عليه السّلام: «أول من يكرّ إلى الدنيا الحسين بن علي عليه السّلام [و أصحابه]و يزيد بن معاوية و أصحابه، فيقتلهم حذو القذّة (5)بالقذّة» ثمّ تلا هذه الآية (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ العباد أولي بأس شديد هم القائم عليه السّلام و أصحابه» (7).

أقول: الظاهر أنّ المراد من الروايات تطبيق ما يقع في هذه الامّة على ما وقع في بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل، لا صرف الآية عن ظاهرها و حصر المراد منها فيما وقع بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 9

ثمّ لمّا وصف اللّه التوراة بكونها هدى لبني إسرائيل، وصف القرآن بكونه هدى لكافّة الناس إلى أحسن الأديان بقوله: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ الذي انزل إليك يا محمّد يَهْدِي الناس كافة إلى يوم القيامة لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ من سائر الملل، و إلى الشريعة التي هي أسدّ و أتقن من سائر الشرائع بحيث لا يمكن أن تساويها ملّة و شريعة في الاستقامة و الاتقان.

إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)

ص: 28


1- . تفسير القمي 2:14، تفسير الصافي 3:179.
2- . هذه عبارة تفسير الصافي، و في الكافي: «المذهّب لكل بيضة و جهان، المؤدّون إلى الناس أنّ هذا الحسين قد خرج حتى لا يشكّ المؤمنون فيه، و أنه ليس بدجال و لا شيطان و الحجة القائم. . .» و في تفسير العياشي نحوه.
3- . تفسير العياشي 3:37/2464، الكافي 8:206/250، تفسير الصافي 3:179.
4- . تفسير العياشي 3:37/2464، تفسير الصافي 3:179.
5- . القذّة: ريشة الطائر بعد تسويتها و إعداها لتركّب في السّهم، و القول يضرب مثلا للشيئين يستويان و لا يتفاوتان.
6- . تفسير العياشي 3:39/2467، تفسير الصافي 3:179.
7- . تفسير العياشي 3:38/2465، تفسير الصافي 3:179.

و عن الصادق: «يدعو إلى الإمام» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «يهدي إلى الولاية» (2).

و عن السجاد عليه السّلام: «الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوما، و ليست العصمة في ظاهر الخلقة [فيعرف بها،] و لذلك لا يكون إلاّ منصوصا» فقيل: ما معنى العصمة؟ قال: هو الاعتصام (3)بحبل اللّه، و حبل اللّه هو القرآن، و القرآن يهدي إلى الإمام، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (4).

ثمّ أخبر سبحانه بأتمّ النفع الذي يكون للعمل بالشريعة الاقوم بقوله: وَ يُبَشِّرُ هذا القرآن اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ آمنوا به و يَعْمَلُونَ بما فيه من الأعمال اَلصّالِحاتِ من أداء الواجبات و ترك المحرّمات أَنَّ لَهُمْ في الدنيا و الآخرة أَجْراً كَبِيراً و ثوابا عظيما.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ أخبر سبحانه بأعظم الضرر على مخالفته بقوله: وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كأغلب المشركين و اليهود على ما قيل من أنّهم منكرون للمعاد الجسماني (5)أَعْتَدْنا و هيّئنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً في الآخرة، و جعل الإخبار بالعذاب من البشارة إمّا من باب التهكّم، أو الازدواج، أو لأنّ تعذيب أعداء المؤمنين ممّا تسرّ به قلوبهم.

وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ اَلْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ عَجُولاً (11)

ثمّ ذمّ سبحانه من لا يعرف قدر القرآن و عظمة هذه النعمة بكونه غير مميّز بين الخير و الشرّ بقوله: وَ يَدْعُ اَلْإِنْسانُ لنفسه بِالشَّرِّ و يبالغ في طلبه بلسانه باعتقاد أنّه خيره و صلاحه، أو يطلب الأعمال السيئة المفضية إلى الشرّ بنحو يشابه دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ لغاية جهله و عدم تميّزه نفعه عن ضرّه، و ما يصلحه عمّا يفسده، و كون نظرة إلى العاجل وَ كانَ اَلْإِنْسانُ جنسه بالطبع عَجُولاً و مسارعا في الامور بلا تأنّ فيها و تدبّر في عواقبها.

عن الصادق عليه السّلام: «و اعرف طريق نجاتك و هلاكك، كيلا تدعو اللّه بشيء عسى أن يكون فيه هلاكك و أنت تظنّ أنّ فيه نجاتك، قال اللّه تعالى: وَ يَدْعُ اَلْإِنْسانُ الآية» (6).

قيل: إنّ المراد بالانسان الداعي بالشرّ النّضر بن الحارث القائل: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من

ص: 29


1- . الكافي 1:169/2، تفسير الصافي 3:180.
2- . تفسير العياشي 3:39/2469، تفسير الصافي 3:180.
3- . في معاني الأخبار: فقيل له: يا ابن رسول اللّه، فما معنى المعصوم؟ فقال: «هو المعتصم. . .» .
4- . معاني الأخبار:132/1، تفسير الصافي 3:180.
5- . تفسير الرازي 20:162.
6- . مصباح الشريعة:132، تفسير الصافي 3:181.

عندك فأمطر علينا حجارة، فضربت عنقه بدعائه، و القائلون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: آتنا بعذاب اللّه، أو متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ (1)

و قيل: هو الذي يلعن نفسه و أهله و ولده عند الغضب (2).

و روت العامة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا، فأقبل يئنّ بالليل، فقالت له سودة: مالك تئنّ؟ فشكا ألم القيد، فأرخت له من كتافه، فلمّا نامت أخرج يده و هرب، فلمّا أصبح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعا به، فاعلم بشأنه، فقال: «اللهمّ اقطع يدها» ، فرفعت سودة يدها تتوقّع أن يقطع اللّه يدها بدعائه صلّى اللّه عليه و آله، فقال النبيّ: «إنّي سألت اللّه أن يجعل دعائي على من لا يستحقّ عذابا من أهلي رحمة، لأنّي بشر أغضب كما تغضبون، فلتردّ سودة يدها» (3). هذا ما رواه بعض المفسرين، و فيه ما لا يخفى من منافاته لغاية حلمه و عصمته.

و قيل: إنّ المراد بالانسان العجول هو آدم (4). روى بعض العامة أنّه لمّا انتهت الروح إلى سرّة آدم، نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قوله: وَ كانَ اَلْإِنْسانُ عَجُولاً (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «قال: لمّا خلق اللّه آدم و نفخ فيه من روحه، وثب ليقوم قبل أن يستتمّ خلقه فسقط، فقال اللّه عز و جل: وَ كانَ اَلْإِنْسانُ عَجُولاً» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 12

ثمّ لمّا مدح اللّه التوراة و القرآن بكونهما هدى شبّههما في تعاقبهما و أفضلية القرآن على التوراة و أنفعيته منها، و كونه ناسخا لها بالليل و النهار، بقوله: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ بسبب تعاقبهما و اختلافهما طولا و قصرا آيَتَيْنِ و دليلين على وجود الصانع القادر الحكيم للعالم، يهتدي المتأمّل فيهما إلى معارف اللّه و كمال قدرته و حكمته، فكأنّه سبحانه قال: جعلنا التوراة و القرآن آيتين على الحقّ و الصواب، ثمّ نسخنا التوراة بالقرآن الذي هو أفضل و أنفع، كما جعلنا الليل و النهار آيتين على وجود الصانع الواحد القديم فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ و أذهبناها بضوء النهار، كما نسخنا التوراة بنزول القرآن الذي هو كضوء النهار وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً و مضيئة يرى بضوئها كلّ شيء

وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

ص: 30


1- . تفسير العياشي 3:40/2471، تفسير الصافي 3:181.

لِتَبْتَغُوا و تطلبوا في ضوئها فَضْلاً و رزقا مقدّرا مِنْ رَبِّكُمْ بمقتضى ربوبيته لكم وَ لِتَعْلَمُوا بتعاقبهما عَدَدَ اَلسِّنِينَ المتوقّف عليه صلاحكم وَ اَلْحِسابَ الراجع إلى الدقائق و الساعات و الأيام و الشهور، كما جعل القرآن مبصرا، يرى بنوره كلّ ما تحتاجون إليه من مصالح الدين و الدنيا، لتبتغوا فضلا كثيرا من ربّكم في الدنيا و الآخرة وَ كُلَّ شَيْءٍ ممّا تحتاجون إليه في المعاش و المعاد فَصَّلْناهُ و بيّناه في القرآن تَفْصِيلاً و أضحا و تبيينا بليغا وافيا.

و قيل: إنّ وجه النّظم أنّ هذا القرآن سبب هداية جميع الناس إلى أحسن الأديان، و كان التوحيد من أهمّ العقائد، شرع في الاستدلال عليه بقوله: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ الآية.

و قيل: إن الوجه أنه تعالى بعد ذكر منّته على الخلق بإعطائهم نعمة القرآن الذي هو أتمّ النعم الدينية، ذكر منّته عليهم بإعطائهم النعمة العظيمة الدنيوية، و هي اختلاف الليل و النهار، لتشابه النّعمتين، أو أنّ القرآن كما هو مركّب من المحكم و المتشابه، كذلك الدهر مركّب من الليل و النهار، فالمتشابه هو الليل، و المحكم هو النهار، و كما أنّ الغرض من التكليف لا يتمّ إلاّ بوجود المحكم و المتشابه، كذلك الانتفاع بالوقت و الزمان لا يكمل إلاّ بوجود الليل و النهار (1).

و قيل: إنّ المراد بآية الليل القمر، و بآية النهار الشمس، و محو القمر انتقاصه قليلا قليلا إلى المحاق (2).

و قيل: محوه: الكلف: الذي يظهر في وجهه (3). روت العامة أنّ الشمس و القمر كانا سواء في النور و الضوء، فأرسل اللّه جبرئيل فأمرّ جناحه على وجه القمر، فطمس عنه الضوء (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في (النهج) : «و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها، و أجراهما و قدّر مسيرهما في تدرّج مدرجهما (2)، ليميّز بين الليل و النهار بهما، و ليعلم عدد السنين و الحساب بمقاديرهما» (3).

و في (العلل) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: ما بال الشمس و القمر لا يستويان في الضوء و النور؟ قال: «لمّا خلقهما اللّه عز و جل أطاعا و لم يعصيا شيئا، فأمر اللّه جبرئيل أن يمحو ضوء القمر، فمحاه فأثر المحو في القمر خطوطا سوداء، و لو أنّ القمر ترك على حاله بمنزلة الشمس و لم يمح، لما عرف الليل من النهار، و لا النهار من الليل، و لا علم الصائم كم يصوم، و لا عرف الناس عدد السنين، و ذلك

ص: 31


1- . تفسير الرازي 20:163. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 20:164.
2- . في المصدر: و أجراهما في مناقل مجراهما، و قدر سيرهما في مدارج درجهما.
3- . نهج البلاغة:128-الخطبة 91، تفسير الصافي 3:181.

قول اللّه تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية» (1).

و عن (الاحتجاج) : قال ابن الكوّاء لأمير المؤمنين عليه السّلام: أخبرني عن المحو الذي يكون في القمر. فقال: «اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، رجل أعمى يسأل عن مسألة عمياء! أما سمعت اللّه يقول: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا خلق اللّه القمر كتب عليه: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، عليّ أمير المؤمنين، و هو السواد الذي ترونه» (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ وصف اللّه القرآن بكونه هاديا للملّة الأقوم، و نهارا مبصرا و مفصّلا لكلّ شيء و متمّما للحجّة، هدّد المخالفين له بقوله: وَ كُلَّ فرد من أفراد إِنسانٍ مكلّف من العرب و العجم و الأسود و الأحمر أَلْزَمْناهُ و قلّدناه طائِرَهُ و عمله، خيرا أو شرّا فِي عُنُقِهِ فان كان خيرا يكون له زينة، و إن كان شرا كان غلاّ و شينا على رقبته.

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)عن الباقر عليه السّلام: «خيره و شرّه معه حيث كان لا يستطيع فراقه» (4).

وَ نُخْرِجُ لَهُ من قبره، أو نظهر له من ستر الخفاء و من مكتب الآخرة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و وقت المحاسبة كِتاباً مسطورا فيه عمله من النّقير و القطمير بيد الرقيب و العتيد و هو يَلْقاهُ و يجده مَنْشُوراً و مبسوطا،

و حينئذ يقول اللّه بلسان الملائكة: يا فلان اِقْرَأْ كِتابَكَ.

قيل: إنّ الكافر يقول: يا ربّ إنك [قضيت أنك]لست بظلام للعبيد، فاجعلني احاسب نفسي. فيقال له: اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (5)و محاسبا.

و قال بعض العامة: إنّ الكتاب هي النفس التي انتقشت فيها الأحوال و الأعمال الدنيوية و الاخروية، فما دامت الروح مشغولة بتدبير البدن، كانت تلك الآثار مخفية عنها، فكأنه كان ذلك الكتاب مطويا، فبعد انقطاع علاقة الروح من الجسد، و قيامها من مكانها، و صعودها إلى العالم العلوي، تشاهد القوة العاقلة تلك الآثار المكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح و النفس، فكأنّ الكتاب صار منشورا بعد ما كان مطويا، فقال للانسان في تلك الحالة: اِقْرَأْ كِتابَكَ (6).

ص: 32


1- . علل الشرائع:470/33، تفسير الصافي 3:181.
2- . الاحتجاج:260، تفسير الصافي 3:181.
3- . الاحتجاج:158، تفسير الصافي 3:181.
4- . تفسير القمي 2:17، تفسير الصافي 3:182.
5- . تفسير الرازي 20:169.
6- . تفسير الرازي 20:170.

أقول: لا مجال للشكّ في ما دلّت عليه الآيات و الروايات من وجود كتاب مكتوب فيه الأعمال يؤتى كّل نفس من المؤمن و الفاسق يوم القيامة بيمينها أو شمالها، و يقول: ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها، و لا منافاة بينها و بين وجود الكتاب النفساني الذي ذكر، فيجب الالتزام بظاهر الآية و تفسيرها بما كتبه الملكان.

عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية، قال: «يذكّر العبد جميع ما عمل و كتب (1)عليه حتى كأنّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا اَلْكِتابِ الآية» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم انفكاك الانسان عن عمله، بيّن اختصاص نتائجه بعامله بقوله: مَنِ اِهْتَدى إلى الحقّ و الصواب بهداية القرآن و عمل بما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي و يكون نفع هدايته و عمله لِنَفْسِهِ و عائدا إلى شخصه لا يتعدّى إلى غيره وَ مَنْ ضَلَّ عن الحقّ و انحرف عن طريق الصواب، و لم يؤمن بالقرآن، و لم يعمل بأحكامه فَإِنَّما يَضِلُّ و ضرر ضلاله عَلَيْها و تبعاته راجعة إليها لا تتجاوز إلى غيرها، ثمّ قرر ذلك بقوله: وَ لا تَزِرُ و لا تحمل نفس وازِرَةٌ و حاملة للوزر و الثقل أو للإثم وِزْرَ نفس أُخْرى و إثمها كي تتخلّص النفس الاخرى من الإثم، أو يخفّف عنها، و حاصل المراد عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره.

مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الظلم عن نفسه بأحد بذنب غيره، أثبت لنفسه اللّطف بعباده بقوله: وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ أحدا من الناس، و ما صحّ لنا بمقتضى اللطف عقوبة أحد منهم حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً من البشر يبلّغهم أحكامنا و يبيّن لهم تكاليفنا.

و اعلم أنّ هذا التفسير مبنيّ على القول بصحة العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية، إلاّ أنّ مقتضى اللطف تأييدها بالأحكام الشرعية، كما ذهب إليه بعض.

و أما إذا قلنا بترتّب العقوبة على مخالفة الأحكام العقلية، فلا بدّ إما من القول بكون المراد من الرسول في الآية مطلق البيان، سواء كان بتوسّط الرسول الظاهر أو الرسول الباطن، و إنّما عبّر [عن] مطلق البيان ببعث الرسول لأنّ الغالب تحقّق البيان به، أو المراد من الرسول مطلقه سواء أكان عقلا أو

ص: 33


1- . في مجمع البيان: جميع أعماله و ما كتب.
2- . تفسير العياشي 3:41/2477، مجمع البيان 6:622، تفسير الصافي 3:182، و الآية من سورة الكهف:18/49.

بشرا، أو خصوص الرسول الظاهر، و تخصيص عموم النفي بالأدلة الدالة على حجيّة الأحكام العقلية بما إذا لم يحكم العقل بالوجوب أو الحرمة. و على هذه الوجوه الثلاثة يكون مدلول الآية نفي الظلم عن ذاته المقدسة، و قبح العقاب بلا بيان، فيكون دليلا على البراءة عند الشكّ في التكليف و عدم وجدان الحجّة عليه.

و ما قيل: من أنّ المراد بالعذاب في الآية العذاب الدنيوي، و المقصود من قاعدة البراءة نفي العذاب مطلقا دنيويا كان أم اخرويا، و نفي العذاب الدنيوي لا يدلّ على نفي العذاب الاخروي منه إلاّ بالفحوى، و هو ممنوع. فيه: أن قوله تعالى: ما كُنّا دالّ على تنزيه ذاته المقدسة من ارتكاب هذا الفعل لقبحه و عدم لياقته بمقام حكمته و الوهيته، و لا يتفاوت في ذلك بين كون العذاب دنيويا أو اخرويا.

ثمّ لا يخفى أنّ نفي العذاب إلى الغاية لا يدلّ على وقوعه بعدها و إن لم يتحقّق عصيان كما توهّم، بل الظاهر أنّه بيان كون البعث من شرائط صحة العذاب إذا وجد مقتضية و ارتفعت موانعه من التوبة و الشفاعة و أمثالهما.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ بيّن اللّه أنّ العذاب الدنيوي لا يكون إلاّ بعد كمال الاستحقاق بالطغيان بقوله: وَ إِذا أَرَدْنا و عزمنا على أَنْ نُهْلِكَ و نعدم قَرْيَةً من القرى و نعذّب أهلها بعذاب الاستئصال، لخبث ذاتهم و سوء أخلاقهم أَمَرْنا بتوسط الرسول مُتْرَفِيها و جبابرتها و المتنعّمين من أهلها و رؤوسها المتّبعين فيهم بالطاعة و التسليم لأحكامنا.

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)و قيل: إنّ المراد أكثرنا مترفيها و فسّاقها و طغاتها (1)، أو المراد: إذا أردنا أن نهلك قرية بسبب عصيان أهلها، لا نعاجلهم بالعقوبة، بل أمرناهم بالرجوع عن العصيان و التوبة عن السيئات (2)، أو المراد من الأمر تسبيب أسباب الفسق من توفير النعم و تهيئة المرغّبات إلى العصيان و ما يفضيهم إليه (3).

فَفَسَقُوا و تمرّدوا و خرجوا عن طاعتنا فِيها و تبعهم سائر أهلها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ و ثبتت

ص: 34


1- . تفسير الرازي 20:175.
2- . تفسير الرازي 20:176.
3- . تفسير الرازي 20:175،176.

عليهم كلمة العذاب بسبب كمال استحقاقهم له فَدَمَّرْناها و أفنينا أهلها و دورها، و محونا آثارها بالعذاب تَدْمِيراً و فناء عجيبا بديعا.

ثم بيّن سبحانه أنّ عادته من أول الخلقة أخذ المتمردين بالعذاب بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا و كثيرا ما عذّبنا مِنَ اَلْقُرُونِ و الامم المتمرّدة مِنْ بَعْدِ عصر نُوحٍ و إهلاك امّته بالطّوفان كعاد و ثمود و قوم لوط و أضرابهم، و إنّما خصّ إكثار العذاب بمن بعد نوح؛ لأنّه أوّل نبي بالغ قومه في تكذيبه.

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار قدرته على التعذيب، بيّن كمال علمه بالمعاصي الباطنية و الظاهرية بقوله: وَ كَفى يا محمّد بِرَبِّكَ اللطيف بك بِذُنُوبِ عِبادِهِ الخفية و الجلية و الباطنية و الظاهرية خَبِيراً بَصِيراً فيعاقب عليها، فليحذر مكذّبوك من المشركين و أهل الكتاب من أن يبتلوا بمثل ما ابتلي به الامم الماضية المهلكة بتكذيبهم الرسل.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 18 الی 21

ثمّ لما هدّد اللّه الكفار بالعذاب، و كان كثير منهم متنعّمين في الدنيا مستدلّين بتنعّمهم على كرامتهم على اللّه، ردّهم سبحانه بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ النّعم اَلْعاجِلَةَ و اللّذات الدنيوية السريعة الزوال بأعماله الحسنة كإعانة الضعفاء و إغاثة الملهوفين و نظائرهما عَجَّلْنا لَهُ في إعطاء النعم الدنيوية، و أسرعنا فِيها و لكن لا نعطي الكلّ للكلّ، بل نعطي ما نَشاءُ إعطاءه منها لِمَنْ نُرِيدُ أن نعطيه منها، فلا يفوز كلّهم بكلّ مطالبهم، بل كثير منهم محرومون عن الدنيا، فمن فاز منهم بها أخذناها منه سريعا ثُمَّ جَعَلْنا بدل النعم التي عجّلناها لَهُ جَهَنَّمَ و فنون العذاب الذي فيها.

مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)ثمّ إن كان أشدّ العذاب هو الآلام المقرونة بالذلّ و البعد، بيّن غاية ذلّ الكافر المتنعّم المتكبّر و بعده بقوله: يَصْلاها ذلك المترف المتكبّر، و يدخلها حال كونه مَذْمُوماً و مهانا باللوم و مَدْحُوراً و مطرودا من ساحة رحمة اللّه.

ثمّ قيل: إنّ هذه الآية تقرير لقوله: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (1)و المقصود أنّ من يريد

ص: 35


1- . الإسراء:17/13.

بعمله الدنيا و الرئاسة و يستنكف من طاعة الأنبياء تكبّرا و خوفا من زوال رئاسته، جعل طائره شؤما (1)سائقا له إلى أشدّ العذاب وَ مَنْ أَرادَ بعمله اَلْآخِرَةَ و ثوابها الدائم وَ سَعى لَها في مدّة عمره سَعْيَها الائق بها، و اجتهد في الأعمال المفيدة فيها من أداء الواجبات الالهية و ترك المحرّمات الاسلامية بنيّة التقرّب إلى اللّه وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و رسوله إيمانا لا شرك معه و لا تكذيب فَأُولئِكَ المؤمنون العاملون المخلصون كانَ سَعْيُهُمْ و جهدهم في طاعة اللّه مَشْكُوراً و مثابا عليه عند اللّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أراد الآخرة فليترك زينة الحياة الدنيا» (2).

كُلاًّ من الفريقين: المريدين للدنيا، و المريدين للآخرة نُمِدُّ هم و نزيدهم من النّعم سواء هؤُلاءِ المعجّل لهم وَ هَؤُلاءِ المشكورون سعيهم، و نوسّع في أرزاقهم و نكثّر أموالهم و أولادهم بالقدر الذي يقتضيه الصلاح، و إنّما يكون ذلك الامداد و الزيادة مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ و فضله الذي لا تناهي له حسب ما اقتضته الحكمة البالغة وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ و تفضّله على عباده بالنعم الدنيوية و الاخروية مَحْظُوراً و ممنوعا عن أحد من قبله، و إنما يمنع العصاة النّعم الاخروية عن أنفسهم بعصيانهم و سوء اختيارهم.

اُنْظُرْ يا محمّد، أو أيّها الناطر بنظر الاعتبار الى الفريقين، إنّا كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الأمداد و العطايا الدنيوية، فترى مؤّمنا موسرا و مؤمنا معسرا، و مؤمنا مالكا و مؤمنا مملوكا، و كذلك الكفّار، فاذا كان مراتب التفاضل في متاع الدنيا و حظوظها بهذه الكثرة التي تكون فوق حدّ الإحصاء، و تفاوت درجات الخلق فيه أكثر من أن تدرى، فكيف بدرجات الآخرة؟ وَ و اللّه لَلْآخِرَةُ و نعمها و حظوظها أَكْبَرُ دَرَجاتٍ من الدنيا وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً و أعظم تفاوتا، فانّ نسبة عظم درجاتها و كثرة تفاضلها و تفاوتها إلى درجات الدنيا و التفاضّل فيها، كنسبة الدنيا و الآخرة، فمن كان راغبا في فضيلة الدنيا و علوّ الدرجة فيها، فلتكن رغبته في تحصيل فضيلة الآخرة و علوّ الدرجة أزيد و أكثر.

روي أنّ ما بين أعلى درجات الجنّة و أسفلها مثل ما بين السماء و الأرض (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا تقولنّ الجنة واحدة، إنّ اللّه يقول: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (4)و لا تقولن درجة واحدة، إنّ اللّه يقول: (درجات بعضها فوق بعض) إنّما تفاضل القوم بالأعمال» .

قيل له: إنّ المؤمنين يدخلان الجنّة، فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر، فيشتهي أن يلقى

ص: 36


1- . تفسير الرازي 20:178.
2- . روضة الواعظين:434، تفسير الصافي 3:183.
3- . مجمع البيان 6:628، تفسير الصافي 3:184.
4- . الرحمن:55/62.

صاحبه؟ قال: «من كان فوقه فله أن يهبط، و [من]كان تحته لم يكن له أن يصعد؛ لأنّه لم يبلغ ذلك المكان، و لكنّهم إذا أحبّوا ذلك و استهووه التقوا على الأسرّة» (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنما يرتفع العباد غدا في الدرجات، و ينالون الزّلفى من ربّهم على قدر عقولهم» (2).

و عن ابن عبّاس: يرفع درجة العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كلّ درجتين، كما بين السماء و الأرض (3).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أن في الجنة مدينة من نور، لم ينظر إليها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، جميع ما فيها من القصور و الغرف و الأزواج و الخدم من النور، أعدّها اللّه للعاقلين، فاذا ميّز اللّه أهل الجنّة من أهل النار، ميّز أهل العقل فجعلهم في تلك المدينة، فيجزي كلّ قوم على قدر عقولهم، فيتفاوتون في الدرجات، كما بين المشارق و المغارب بألف ضعف» (4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أن في الجنة درجة لا ينالها إلاّ أصحاب الهموم» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ في الجنّة درجة لا ينالها إلاّ ثلاثة أقسام: عادل، و ذو رحم واصل، و ذو عيال صبور» فقال [علي عليه السّلام: «ما صبر ذي العيال؟» قال:] «لا يمنّ على أهله ما ينفق عليهم» (6).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 22

ثمّ لمّا بين اللّه سبحانه أنّ شرط فائدة الأعمال في الآخرة هو الإيمان، بيّن أنّ أهمّ ما يجب الإيمان به التوحيد بقوله مخاطبا لنبيه صلّى اللّه عليه و آله لاظهار غاية الاهتمام به: لا تَجْعَلْ و لا تختر يا محمّد بهوى نفسك، أو لا تعتقد أنّ مَعَ اَللّهِ الواجب الوجود إِلهاً آخَرَ مشاركا في الالوهية و العبادة فَتَقْعُدَ و تصير، أو تمكث في العالم، أو في جهنّم حال كونك مَذْمُوماً و ملاما عند العارفين باللّه من العقلاء و المؤمنين و الأنبياء و الملائكة و مَخْذُولاً عند اللّه، ممنوعا عنك ألطافه، فلا ينصرك أحد بدفع العذاب عنك، و إنّما عبّر سبحانه عن الصيرورة أو المكث بالقعود؛ لأنّ فيه معنى الذلّ و الهوان و العجز، أو لأنّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد في ناحية متفكّرا نادما على ما فرّط، أو لأنّ من لا يقدر على طلب خير يقعد آيسا منه.

لا تَجْعَلْ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)

ص: 37


1- . تفسير العياشي 3:155/61، تفسير الصافي 3:184.
2- . تفسير الصافي 3:184.
3- . تفسير روح البيان 5:145.
4- . تفسير روح البيان 5:145.
5- . تفسير روح البيان 5:146.
6- . تفسير روح البيان 5:146.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن اعتقاد الوهية غيره، أمر بتخصيص العبادة به بقوله: وَ قَضى رَبُّكَ و حكم حكما بتيّا أَلاّ تَعْبُدُوا أيّها الناس شيئا إِلاّ إِيّاهُ لاختصاص استحقاق العبادة به ذاتا و نعمة وَ بأن تحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كاملا لكونهما بعد اللّه سبحانه أعظم إحسانا إليكم، و أكثر حقّا عليكم، حيث إنّهما من مبادئ وجودكم، و متكفّل تربيتكم و حفظكم و معاشكم بلا توقّع عوض منكم.

وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالاحسان إليهما، نهى عن الإساءة إليهما بقوله: إِمّا يَبْلُغَنَّ و إن يصلن عِنْدَكَ و في كنفك و كفالتك اَلْكِبَرَ في السّنّ و الضّعف في القوى الموجبين لضيق صدرهما و ثقل مؤنتهما و كثرة زحماتهما أَحَدُهُما أبا أم أمّا أَوْ كِلاهُما و إن أضجراك بما تستقذر منهما و تشتغل من مؤنتهما و خدمتهما فَلا تَقُلْ لَهُما في حال الاجتماع، أو لأحدهما حال الانفراد أُفٍّ و لا تظهر عندهما الانضجار من نفسك.

عن الصادق عليه السّلام: «إن أضجراك فلا تقل لهما أفّ» (1).

و عنه عليه السّلام: «لو علم اللّه شيئا أدنى من الافّ لنهى عنه، و هو من أدنى العقوق» (2).

قيل: يعني لا تتقذّر منهما شيئا، كما لم يتقذّرا منك حين كنت تخرأ و تبول في حجرهما (3).

و قال مجاهد: يعني إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أفّ (4).

وَ لا تَنْهَرْهُما و لا تضجر قلوبهما بكلمة غير ملائمة لطبعهما من ردّ أو تكذيب. عن الصادق عليه السّلام: «و لا تنهرهما، إن ضرباك» (5).

و قيل: إنّ المعنى لا تنههما من شيء أراداه (6).

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن استقبالهما بكلمة مؤذية لهما، أمر بأن يواجههما بالكلام الطيب بقوله:

ص: 38


1- . تفسير العياشي 3:42/2483، الكافي 2:126/1، تفسير الصافي 3:185.
2- . تفسير العياشي 3:42/2482، الكافي 2:261/7، تفسير الصافي 3:185.
3- . تفسير الرازي 20:189.
4- . تفسير الرازي 20:189.
5- . تفسير العياشي 3:42/2483، الكافي 2:126/1، تفسير الصافي 3:185.
6- . مجمع البيان 6:631، جوامع الجامع:254، و فيهما: لا تمتنع من شيء أراداه منك.

وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً و كلاما حسنا جميلا.

سئل [سعيد]بن المسيب عن القول الكريم فقال: «هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ» .

و عن عطاء: هو أن تتكلّم معهما، و لا ترفع عليهما صوتك، و لا تشدّ إليهما نظرك (1).

ثمّ بعد الأمر بتكريمهما قولا، أمر سبحانه بالتواضع لهما في الفعل بقوله: وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ و أظهر لهما غاية التواضع مِنَ فرط اَلرَّحْمَةِ عليهما، و الرأفة بهما، لافتقارهما إليك بعد ما كنت أفقر الخلق إليهما.

عن ابن عبّاس: كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل الضعيف للسيد الفظّ الغليظ (2).

قيل: ينظر إليهما بنظر المحبّة [و الشّفقة]و الترحّم (3).

و في الحديث: «ما من ولد ينظر إلى الوالد و إلى والدته نظر رحمة إلاّ كان له بها حجّة و عمرة» . قيل: و إن نظر في اليوم ألف مرّة؟ قال: «نعم، و إن نظر في اليوم مائة ألف» (4).

عن الصادق عليه السّلام: «لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة و رقّة، و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما، و لا يديك فوق أيديهما، و لا تقدّم قدّامهما» (5).

و عنه عليه السّلام: «من العقوق أن ينظر الرجل [إلى]والديه، فيحدّ النظر إليهما» (6).

و عن الكاظم عليه السّلام: «سأل رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما حقّ الوالد على ولده؟ قال: لا يسمّيه باسمه، و لا يمشي بين يديه، و لا يجلس قبله، و لا يستسبّ له» (7).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «رغم أنفه» ثلاث مرات، قالوا: من يا رسول اللّه؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر-أحدهما أو كلاهما-و لم يدخل الجنّة» (8).

ثمّ أضاف سبحانه إلى ما ذكر الأمر بالدعاء لهما بقوله: وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما و اشمل رحمتك الواسعة لهما في الدنيا و الآخرة كَما رحماني و رَبَّيانِي حين كنت صَغِيراً.

روي أنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن أبويّ بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا مّني في الصغر، فهل قضيت حقّهما؟ قال: «لا، فانّهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبّان بقاءك، و أنت تفعل ذلك و أنت

ص: 39


1- . تفسير الرازي 20:190.
2- . تفسير روح البيان 5:147.
3- . تفسير روح البيان 5:148.
4- . تفسير روح البيان 5:148.
5- . تفسير العياشي 3:43/2483، الكافي 2:126/1، تفسير الصافي 3:185.
6- . الكافي 2:261/7، تفسير الصافي 3:185.
7- . الكافي 2:127/5، تفسير الصافي 3:185، و استسبّ له: عرّضه للسبّ، يقال: استسبّ لأبيه: إذا سبّ أبا غيره فجلب بذلك السبّ إلى أبيه.
8- . جوامع الجامع:254، تفسير الصافي 3:185.

تريد موتهما» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ أنّه تعالى بعد الامر بإخلاص العبادة و عدم التضجّر من الوالدين، حذّر الناس من المخالفة بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ منكم بِما فِي نُفُوسِكُمْ و ضمائركم من الاخلاص في العبادة و عدمه، و التضجّر من الوالدين و عدمه.

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ غَفُوراً (25) وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)ثمّ رغّبهم في تزكية أنفسهم بقوله: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ و منزّهين عن رذائل الأخلاق و سيئات الأعمال، تكونوا من الأوابين و الراجعين إلى اللّه في ما فرط منكم من خطور غير اللّه في قلوبكم، أو صدور أذيّة قولية أو عملية منكم، و التائبين إليه من زلاتكم، و اعلموا أنّ اللّه يغفر لكم فَإِنَّهُ تعالى كانَ لِلْأَوّابِينَ و التائبين-كما عن الصادق عليه السّلام (2)- غَفُوراً لا يؤاخذهم بما صدر منهم من الهفوات و الزلاّت التي لا يخلو منها البشر،

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من حقوق الوالدين، بيّن حقّ الأرحام و غيرهم من الناس بقوله: وَ آتِ يا محمّد ذَا اَلْقُرْبى و صاحب الرّحم حَقَّهُ المقرّر من اللّه. قيل: هو النفقة إذا كانوا فقراء (3). و قيل: هو المودّة و الزيارة و حسن العشرة و المساعدة في حوائجهم (4).

وَ آت اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ حقّهم. عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أنزل اللّه وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، [قد]عرفت المسكين، فمن ذو القربى؟ قال: هم أقاربك، فدعا حسنا و حسينا و فاطمة، فقال: إنّ ربّي أمرني أن أعطيكم مّما أفاء عليّ. قال: أعطيتكم فدك» (5).

و عن السجاد عليه السّلام: أنّه قال لبعض الشاميين: «أما قرأت هذه الآية وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ؟» قال: نعم. قال: «فنحن اولئك الذين أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعطيهم حقّهم» (6).

و عن الرضا عليه السّلام-في حديث له مع المأمون-: «و الآية الخامسة: وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ خصوصية خصّهم اللّه صلّى اللّه عليه و آله العزيز الجبار بها، و اصطفاهم على الامّة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول

ص: 40


1- . تفسير روح البيان 5:148.
2- . تفسير العياشي 3:44/2486، تفسير الصافي 3:186.
3- . تفسير روح البيان 5:150.
4- . تفسير روح البيان 5:150.
5- . تفسير العياشي 3:45/2490، تفسير الصافي 3:187.
6- . الاحتجاج:307، تفسير الصافي 3:187.

اللّه قال: ادعوا لي فاطمة فدعيت له، فقال يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول اللّه. فقال: هذه فدك، و هي ممّا لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، و هي لي خاصّة دون المسلمين، فقد جعلتها لك لما أمرني اللّه به، فخذيها لك و لولدك» (1).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى لمّا فتح على نبيّة صلّى اللّه عليه و آله فدك و ما والاها لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، فأنزل اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه و آله وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ فلم يدر رسول اللّه من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، و راجع جبرئيل ربّه، فأوحى اللّه إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة، فدعاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال [لها:]يا فاطمة، إنّ اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك. فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه و منك» (2).

و قال العلاّمة في (نهج الحق) : روى الواقدي و غيره من نقلة الأخبار و ذكروه في أخبارهم الصحيحة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح خيبر اصطفى قرى من قرى اليهود، فنزل جبرئيل بهذه الآية وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ فقال محمّد صلّى اللّه عليه و آله: و من ذو القربى، و ما حقّه؟ قال: فاطمة، فدفع (3)إليها فدك و العوالي، فاستغلّتها حتى توفّي أبوها، فلمّا بويع أبو بكر منعها، فكلّمته في ردّها عليها، و قالت: إنّهما لي [و إنّ أبي دفعهما لي]فأبى عمر دفعهما إليها، فقال أبو بكر: لا أمنعك ما دفع إليك أبوك. فأراد أن يكتب [لها]كتابا، فاستوقفه عمر بن الخطاب، و قال: إنّها امرأة، فطالبها بالبيّة علىّ عليه السّلام ما ادّعت، فأمرها بها أبو بكر، فجاءت بامّ أيمن و أسماء بنت عميس مع علي، فشهدوا بذلك، فكتب لها أبو بكر فبلغ ذلك عمر، فأخذ الصحيفة (4)فمحاها، فحلفت أن لا تكلمهما، و ماتت ساخطة عليهما» (5). انتهى.

و نسب السيد الأجلّ القاضي نور اللّه هذه الرواية إلى ابن مردويه (6)و صدر الأئمّة أيضا.

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «ثمّ قال جلّ ذكره: وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ و كان عليّ عليه السّلام، و كان حقّه الوصية التي جعلت له و الاسم الأكبر و ميراث العلم و آثار (7)النبوة» (8).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر ببذل المال للأقارب، نهى عن التبذير و إفساد المال و صرفه في المصارف السفهية بقوله: وَ لا تُبَذِّرْ و لا تفسد المال بصرفه فيما لا ينبغي تَبْذِيراً يسيرا، فكيف بالكثير.

روي عن ابن عمر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لسعد و هو يتوضأ: «ما هذا أتسرف يا سعد؟» فقال: أو في الوضوء سرف؟ قال: «نعم، و إن كنت على نهر جار» (9).

ص: 41


1- . أمالي الصدوق:619/843، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:233/1، تفسير الصافي 3:186.
2- . الكافي 1:456/5، تفسير الصافي 3:186.
3- . في المصدر: تدفع.
4- . زاد في المصدر: و مزقها.
5- . نهج الحق:357.
6- . إحقاق الحق 3:549.
7- . زاد في الكافي و تفسير الصافي: علم.
8- . الكافي 1:233/3، تفسير الصافي 3:187.
9- . تفسير الرازي 20:193.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال لرجل: «اتق اللّه و لا تسرف و لا تقتّر، و كن بين ذلك قواما، إنّ التبذير من الأسراف، قال [اللّه]: وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» (1).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «من أنفق شيئا في غير طاعة اللّه فهو مبذّر، و من أنفق في سبيل اللّه فهو مقتصد» (2).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل أفيكون تبذير في حلال؟ قال: «نعم» (3).

و عنه عليه السّلام: أنّه دعا برطب فأقبل بعضهم يرمي بالنّوى، فقال: «لا تفعل، إن هذا من التبذير، و إن اللّه لا يحبّ الفساد» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ ذمّ سبحانه المبذّرين بقوله: إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ و الموافقين له في الصفة و العمل، أو أعوانهم في إهلاك أنفسهم تابعين لهم في كفران النعمة وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغا في صرف نعم اللّه من عقله و حياته و قواه في المعصية.

إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ اَلشَّياطِينِ وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)و عن مجاهد: أنّه رفع رأسه إلى أبي قبيس و قال: لو أنّ رجلا أنفق مثل هذا في طاعة اللّه لم يكن من المسرفين، و لو أنفق درهما واحدا في معصية اللّه كان من المسرفين (5).

ثمّ أمر سبحانه بمواجهة الأقارب و المساكين بالبشر و جميل القول إذا لم يتمكّن الانسان من مساعدتهم بالمال بقوله: وَ إِمّا تُعْرِضَنَّ و صرفت وجهك عَنْهُمُ حياء من التصريح بردّهم بسبب كونك صفر اليد عديم المال اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ و طلب السعة مِنْ رَبِّكَ إذا كنت تَرْجُوها منه تعالى فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً و كلاما لينا جميلا، كأن تعدهم بوعد يودع قلوبهم راحة و سرورا.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا سئل شيئا و ليس عنده سكت حياء، و أمر بالقول الجميل لئلا يعتريهم الوحشة بسكوته (6).

و قيل: القول الميسور الدعاء لهم باليسر (7).

ص: 42


1- . تفسير العياشي 3:47/2499، الكافي 3:501/14، تفسير الصافي 3:188.
2- . تفسير العياشي 3:46/2497، تفسير الصافي 3:188.
3- . تفسير العياشي 3:46/2498، تفسير الصافي 3:188.
4- . تفسير العياشي 3:47/2502، تفسير الصافي 3:188.
5- . تفسير الرازي 20:193.
6- . تفسير أبي السعود 5:168، تفسير روح البيان 5:151.
7- . تفسير البيضاوي 1:569، تفسير أبي السعود 5:168، تفسير روح البيان 5:151.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان لمّا نزلت [هذه]الآية إذا سئل و لم يكن عنده ما يعطي قال: «يرزقنا اللّه و إياكم من فضله» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 29

ثمّ علّمه اللّه تعالى أدب الانفاق بقوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ منقبضة و ممسكة عن الانفاق، كأنّها تكون مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ لا تقدر على مدّها و إعطاء شيء بها وَ لا تَبْسُطْها و لا توسعها كُلَّ اَلْبَسْطِ و كمال السعة بحيث لا يستقرّ فيها شيء فَتَقْعُدَ و تمكث بين أهلك و معارفك مَلُوماً يلومونك (2)بسوء التدبير و إضاعة المال و إلقاء الأهل و الأولاد في المحنة و المشقّة و مَحْسُوراً و منقطعا عن الحيل و التدابير في تنظيم أمورك و أمور عيالك.

وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يسألة احد من الدنيا شيئا إلا أعطاه، فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: انطلق إليه فاسأله فان قال [لك:]ليس عندنا شيء، فقل: أعطني قميصك. قال: فأخذ قميصه و أعطاه، فأدّبه اللّه على القصد» (3).

و القمي، قال: كان سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يردّ أحدا يسأله شيئا عنده، فجاءه رجل فسأله فلم يحضره شيء، فقال: «يكون إن شاء اللّه» . فقال: يا رسول اللّه، أعطني قميصك، فأعطاه قميصه، فأنزل اللّه: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ نهاه اللّه أن يبخل أو يسرف و يقعد محسورا من الثياب. فقال الصادق عليه السّلام: «المحسور: العريان» (4).

و عنه عليه السّلام-في حديث- «علّم اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله كيف ينفق، و ذلك أنّه كان عنده اوقية من ذهب، فكره أن تبيت عنده فتصدّق بها، فأصبح و ليس عنده شيء، و جاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل، و اغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه، و كان رحيما رفيقا (5)، فأدّب اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأمره فقال: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ الآية. يقول: [إنّ النّاس]قد يسألونك و لا يعذرونك، فاذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال» (6).

و عنه عليه السّلام: «الإحسار: الفاقة» (7).

ص: 43


1- . مجمع البيان 6:634، تفسير الصافي 3:188.
2- . في النسخة: يلامونك.
3- . تفسير العياشي 3:48/2503، الكافي 4:55/7، تفسير الصافي 3:189.
4- . تفسير القمي 2:18، تفسير الصافي 3:189.
5- . في الكافي و تفسير الصافي: رقيقا.
6- . الكافي 5:67/1، تفسير الصافي 3:189.
7- . الكافي 4:55/6، تفسير الصافي 3:189.

و عنه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: الإحسار، الإقتار» (1).

و عنه عليه السّلام، في قوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قال: ضمّ يده فقال: «هكذا» وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ، قال: و بسط راحته و قال: «هكذا» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 30

ثمّ بيّن سبحانه أن مقتضى ربوبيته رعاية صلاح العباد في توسعة المعاش و تضييقه تسكينا لقلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ توسعة رزقه وَ يَقْدِرُ و يضيق على من يشاء التضييق عليه على حسب اختلاف مصالح الأشخاص و نظام العالم إِنَّهُ تعالى كانَ بِعِبادِهِ و مصالحهم خَبِيراً بَصِيراً فالتفاوت بينهم في الغنى و الفقر إنّما هو لاختلافهم في الأحوال و المصلحة، و اللّه العالم بها، فلا تغتمّ لفقر أحد.

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)في الحديث القدسي: «أنّ من عبادي من لا يصلحه إلاّ الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلاّ الغنى، و لو أفقرته لأفسده ذلك» و قال: «و إنّي لأعلم بمصالح عبادي» (3).

و في (نهج البلاغة) : «و قدّر الأرزاق، فكثّرها و قلّلها، و قسّمها على الضيق و السّعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها، و ليختبر بذلك الشّكر و الصبر من غنيّها و فقيرها» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 31

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الرزق و التوسعة و التضييق فيه بتقدير اللّه، و كان العرب على ما قيل يقتلون أولادهم خوفا من الفقر (5)، نهاهم عن ذلك بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا أيّها العرب أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ و لمخافة الفقر، فانّ رزقهم ليس عليكم حتى تخافوا منه، بل نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ لا غيرنا إِنَّ قَتْلَهُمْ لأيّ داع كانَ خِطْأً كَبِيراً و ذنبا عظيما.

وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)قيل: إنّ هرم بن حيّان قال لأويس: أين تأمرني أن أكون؟ فأومأ إلى الشام، فقال هرم كيف المعيشة

ص: 44


1- . تفسير العياشي 3:48/2505، تفسير الصافي 3:189.
2- . تفسير العياشي 3:48/2504، التهذيب 7:236/1031، تفسير الصافي 3:189.
3- . الكافي 2:263/8 «نحوه» ، تفسير الصافي 3:189.
4- . نهج البلاغة:134/91، تفسير الصافي 3:190.
5- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:190، تفسير روح البيان 5:153.

بها؟ فقال أويس: افّ لهذه القلوب التي قد خالطها الشكّ فما تنفعها العظة (1).

قيل: إنّ العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن التكسّب، و لأنّ فقرها ينفّر أكفاءها عن تزويجها، فيحتاجون إلى تزويجها بغير أكفائها، و هو عار شديد (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 32

ثمّ لمّا وصف سبحانه قتل الأولاد بالذنب الكبير، أردفه بذكر بعض الكبائر التي منها الزنا بقوله: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى و لا ترتكبوه أبدا إِنَّهُ كانَ فعله فاحِشَةً شديدة القباحة وَ ساءَ سَبِيلاً سبيله، و بئس طريقا طريقه، فانّه موجب لاختلال الأنساب و هيجان الفتن و شيوع الفساد.

وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)و عن الباقر عليه السّلام-في حديث-قال: «وَ ساءَ سَبِيلاً و هو أشدّ الناس عذابا، و الزنا من أكبر الكبائر» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن جدّه، عن علي عليهم السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيته له: «يا علي، في الزنا ست خصال؛ ثلاث منها في الدنيا، و ثلاث في الآخرة، فأمّا التي في الدنيا: فيذهب بالبهاء، و يعجّل الفناء، و يقطع الرزق. و أمّا التي في الآخرة: فسوء الحساب، و سخط الرحمن، و الخلود في النّار» (4).

و روى بعض العامة عن بعض الصحابة: «إياكم و الزنا، فانّ فيه ستّ خصال؛ ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فنقصان الرزق، و نقصان العمر، و البغض في قلوب الناس. و أما الثلاث التي في الآخرة: فغضب الربّ، و شدّة الحساب، و الدخول في النّار» (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 33

ثمّ ذكر سبحانه قتل النفس المحترمة التي هي أكبر الكبائر العملية بقوله: وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ قتلها بوجه من الوجوه إِلاّ بِالْحَقِّ المقرّر في الشرع المطهّر من القصاص و الحدّ و الدفاع.

وَ لا تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)

ص: 45


1- . تفسير روح البيان 5:154.
2- . تفسير الرازي 20:196-197.
3- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:190.
4- . الخصال:321/3، من لا يحضره الفقيه 4:266/824، تفسير الصافي 3:190.
5- . تفسير أبي السعود 5:170، تفسير روح البيان 5:154.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إني امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فاذا قالوا عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها، و حسابهم على اللّه» (1).

قيل: و ما حقّها، يا رسول اللّه؟ قال: «زنا بعد إحصان، و كفر بعد إيمان، و قتل نفس فيقتل بها» (2).

ثمّ ذكر حكم القصاص بقوله: وَ مَنْ قُتِلَ من المؤمنين حال كونه مَظْلُوماً و محترما دمه بأن لم يصدر منه ما يجوّز قتله فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ و وارث دمه من ورّاث ماله إن كانوا، و من الإمام الذي هو وارث من لا وارث له سُلْطاناً و استيلاء على القاتل إن شاء قتله، و إن شاء أخذ الدّية، فان اختار القتل فَلا يُسْرِفْ و لا يتجاوز الحدّ المقرّر فِي اَلْقَتْلِ بأن يقتل غير القاتل مع القاتل، أو يمثّل بالمقتصّ منه، أو يقتل عوض القاتل أشراف قومه، و ليس لأحد مزاحمة القاتل في استيفاء حقّه إِنَّهُ في شرع الاسلام كانَ مَنْصُوراً من قبل اللّه.

القمي: يعني ينصر ولد المقتول على القاتل (3).

عن الكاظم عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، و قيل له: فما هذا الاسراف الذي نهى اللّه [عنه؟]قال: «نهى أن يقتل غير قاتله، أو يمثّل بالقاتل» .

قيل: فما معنى قوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً؟ قال: «و أيّ نصرة أعظم من أن يدفع القاتل [إلى]أولياء المقتول فيقتله، و لا تبعة تلزمه من قتله في دين أو دنيا» (4).

عن العياشي [عن أبي عبد اللّه عليه السّلام]: «إذا اجتمع العدّة على قتل رجل واحد، حكم الوالي أن يقتل أيّهم شاءوا، و ليس لهم أن يقتلوا أكثر من واحد، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً إلى قوله: فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في الحسين عليه السّلام، لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا» (6).

و قيل: إنّ الاسراف في القتل ترجيحه على أخذ الدّية، و المراد بالنهي النهي عن اختيار القتل (7)، و إنّما قدّم النهي عن الزنا على النهي عن القتل، مع أنّ القتل أكبر الكبائر العملية؛ لأنّ الجماع مقدّمة وجود الانسان، و القتل إعدامه بعد الوجود، و بيان حكم مقدمة وجود الانسان مقدّم بالطبع على حكم مترتّب

ص: 46


1- . سنن الترمذي 5:439/3341، مسند أحمد 4:8.
2- . تفسير الرازي 20:200، تفسير روح البيان 5:155.
3- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:191.
4- . الكافي 7:370/7، تفسير الصافي 3:191، و فيهما: و لا دنيا.
5- . تفسير العياشي 3:49/2510، الكافي 7:284/9، تفسير الصافي 3:191.
6- . الكافي 8:255/364، تفسير الصافي 3:191.
7- . تفسير الرازي 20:202.

على وجوده، كذا قيل (1).

ثمّ أعلم أنّ بالتفسير الذي ذكرنا للمظلوم، يندفع الاعتراض على الآية بأنّها تدل على أن موجب جواز القتل منحصر في كون المقتول مظلوما، مع أنّ سببه غير منحصر فيه، بل له أسباب كثيرة كالكفر بعد الايمان و كثير من المعاصي التي حدّها (2)القتل.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 34

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن إتلاف النفوس نهى عن إتلاف مال اليتامى الذين هم أضعف الضعفاء بقوله: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ و لا تتصرّفوا فيه بطريقة من الطرق و خصلة من الخصال إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الطّرق و الخصال، و هو التصرّف الذي لا يكون فيه إفساد و الذي تكون فيه الغبطة، و كونوا مستمرّين على ذلك حَتّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ و كمال قواه و عقله و رشده.

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)ثمّ أكّد العمل بالأحكام المذكورة التي هي عهود اللّه بقوله: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ الذي بينكم و بين ربّكم من العمل بأحكامه و النّذر و اليمين، أو بينكم و بين الناس كالبيوع و غيرها من المعاملات.

ثمّ هدّد سبحانه على مخالفته بقوله: إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ يوم القيامة عنه مَسْؤُلاً حين المحاسبة قيل: إنّه بتقدير المضاف، و المعنى أنّ صاحب العهد (3).

و قيل: المسؤول بمعنى المطلوب، و المراد أنّه يطلب من المعاهد أن يفي به (4). و قيل: إنّه فرض العهد شخصا عاقلا يسأل عنه، و يقال له: لم يوف بك، تبكيتا للناكث (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 35 الی 36

ثمّ بعد إيجاب الوفاء بالعهد، أوجب سبحانه إيفاء الحقوق بقوله: وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ و أتمّوه إِذا كِلْتُمْ لمستحقّه و لا تخسروه حين عاملتم بالكيل وَ زِنُوا ما عاملتموه بالوزن بِالْقِسْطاسِ و الميزان اَلْمُسْتَقِيمِ و العدل السويّ.

وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)

ص: 47


1- . تفسير الرازي 20:199.
2- . في النسخة: حدّه. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:206.
3- . تفسير الرازي 20:206.

عن الباقر عليه السّلام: «هو الميزان الذي له لسان» (1). ذلِكَ الايفاء بالكيل و الوزن خَيْرٌ لكم في الدنيا؛ لأنّه موجب لرغبة الناس في معاملتكم، و لذكركم بالجميل في الناس وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً و عاقبة في الآخرة.

ثمّ لمّا نهى سبحانه عن قتل النفوس و إتلاف أموال اليتيم، و أمر بتأدية حقوق الناس، نهى عن إتلاف نفوسهم و أموالهم و أعراضهم بالقول بقوله: وَ لا تَقْفُ و لا تقل، كما عن القمي (2)ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عن محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور (3). و عن ابن عباس: يعني لا تشهد إلاّ بما رأته عيناك و سمعته اذناك، و وعاه قلبك (4).

و قيل: إن المراد [منه: النهي عن]القذف و رمي المحصنين و المحصنات بالأكاذيب (5).

و قيل: المراد النهي عن الكذب. و قيل: إنّ المراد النهي عن البهتان (6).

و عن القمي: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم، قال رسول اللّه: «من بهت مؤمنا أو مؤمنة أقيم في طينة خبال، أو يخرج ممّا قال» (7). قيل: إنّ طينة خبال صديد جهنّم.

و قيل: إنّ المراد مطلق القول بما لا علم به، سواء أكان على اللّه، أو على الناس. و قيل: إنّ المعنى لا تتبع ما لا تعلم.

و استدلّ جماعة بهذه الآية بناء على حرمة العمل بالظنّ و الخبر غير العلمي في الأحكام الشرعية، و فيه أنّه صحيح لو لم يكن على حجيتهما دليل قطعي، و إلاّ كان العمل بهما عملا بالعلم، أو كان عموم النهي مخصصا به.

ثمّ هدّد اللّه على القول أو العمل بغير العلم بقوله: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ واحد من أُولئِكَ الأعضاء التي رئيسها الفؤاد كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً في القيامة، فيشهد بأعمالكم و معاصيكم، فلا تستطيعون ردّها، فانّ جميع الأعضاء في الآخرة حيّة بحياة مستقلة شاعرة ناطقة، كما قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (8).

عن الصادق عليه السّلام: في هذه الآية: «يسأل السمع عمّا سمع، و البصر عمّا نظر إليه، و الفؤاد عمّا عقد عليه» (9).

و عنه عليه السّلام، قال له رجل: إنّ لي جيرانا و لهم جوار يتغنّين و يضربن بالعود، فربما دخلت المخرج

ص: 48


1- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:192.
2- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:192.
3- . تفسير الرازي 20:207.
4- . تفسير الرازي 20:207.
5- . تفسير الرازي 20:207.
6- . تفسير الرازي 20:208.
7- . تفسير القمي 2:19، تفسير الصافي 3:192.
8- . النور:24/24.
9- . تفسير العياشي 3:75/2519، الكافي 2:31/2، تفسير الصافي 3:192.

فاطيل الجلوس استماعا منّي لهن؟ قال عليه السّلام: «لا تفعل» .

فقال: و اللّه ما هو شيء آتيه برجلي، إنما هو سماع أسمعه باذني؟ فقال عليه السّلام: «تاللّه كذبت (1)، أما سمعت اللّه يقول: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» (2)الخبر.

و عن السجاد عليه السّلام: «ليس لك أن تتكلّم بما شئت؛ لأنّ اللّه يقول: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: رحم اللّه عبدا قال خيرا فغنم، أو صمت فسلم، و ليس لك أن تسمع ما شئت؛ لأنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 37 الی 38

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الكبائر الموبقة، و الأمر بالوفاء بالعهد و إيفاء الحقوق، و كلّها من وظائف اليد و اللسان و القلب، و بيان مسؤولية الأعضاء و الجوارح، نهى عن مشي الخيلاء (4)و التكبّر الذي هو وظيفة الرّجلين بقوله: وَ لا تَمْشِ أيّها الانسان فِي وجه اَلْأَرْضِ مَرَحاً و تكبّرا، أو فخرا، أو بطرا، أو فرحا، كما عن القمي رحمه اللّه (5).

وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)ثمّ نبّه سبحانه على عدم لياقته للتعظّم و التكبّر بقوله: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ و لن تنقب حال انخفاضك في المشي اَلْأَرْضِ بقوة قدميك و شدّة وطئك وَ لَنْ تَبْلُغَ حال ارتفاعك اَلْجِبالَ و لن تصل إلى رؤوسها طُولاً و بتطاولك، فمع هذا العجز يكون التكبّر عين الحماقة، إذ التكبّر إنّما يكون بكثرة القوة و عظم الجثّة، و كلاهما مفقودان فيك.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لمحمّد بن الحنفية: «و فرض على الرّجلين أن تنقلهما في طاعته، و أن لا تمشي بهما مشية عاص، فقال عزّ و جلّ: وَ لا تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً (6)» .

ثمّ بيّن سبحانه علّة النهي عن الخصال الاثني عشر بقوله: كُلُّ ذلِكَ المذكور في تضاعيف الآيات المشتملة على الأوامر و النواهي من الخصال الخمس و العشرين كانَ سَيِّئُهُ و قبيحه، و هو الذي نهى عنه، و هي اثنتا عشرة خصلة عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً و مبغوضا.

ص: 49


1- . في الكافي و العياشي: للّه أنت، و في من لا يحضره الفقيه و التهذيب: ياللّه أنت. و في الصافي: تاللّه أنت.
2- . تفسير العياشي 3:52/2520، من لا يحضره الفقيه 1:45/177، التهذيب 1:116/304، الكافي 6:432/10، تفسير الصافي 3:192.
3- . علل الشرائع:606/80، تفسير الصافي 3:192.
4- . في النسخة: المشي عن الخيلاء.
5- . تفسير القمي 2:20، تفسير الصافي 3:193.
6- . من لا يحضره الفقيه 2:383/1627، تفسير الصافي 3:193.

قيل: إنّما وصف المنهيات بمطلق الكراهة مع كون جميعها أو جلّها من أكبر الكبائر، إيذانا بكفاية مجرّد كراهة اللّه تعالى لشيء في وجوب الالتزام بتركه (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 39

ثمّ حثّ سبحانه في العمل بالتكاليف المفصّلة بقوله: ذلِكَ المذكور من التكاليف مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ و ما يستقلّ بحسنه و صلاحة العقل السليم، أو من الأحكام المحكمة التي لا تقبل النّسخ، أو من الأحكام التي كانت في ألواح موسى، كما عن بن عباس (2).

ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)و لمّا كانت دليلا على الوحدانية، ختم سبحانه الأحكام بما بدأها بقوله: وَ لا تَجْعَلْ أيّها الانسان مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ تنبيها على أنّ التوحيد أول المقاصد و آخرها، و أنّ عمدة الغرض منها تكميله.

ثمّ أنّه تعالى بعد التهديد أولا على الشّرك بالعذاب الدنيوي، هدّد عليه آخرا بالعذاب الاخروي بقوله: فَتُلْقى في الآخرة فِي جَهَنَّمَ حال كونك مَلُوماً عند نفسك و غيرك على ما كنت عليه من الشّرك مَدْحُوراً و مطرودا من رحمة اللّه.

عن القمي: المخاطبة للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى للناس (3).

عن الباقر عليه السّلام-في حديث- «ثم بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكة عشر سنين، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه إلا أدخله اللّه الجنة بإقراره، و هو إيمان التصديق، و لم يعذّب اللّه أحدا ممن مات و هو متّبع لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله على ذلك إلاّ من أشرك بالرحمن، و تصديق ذلك أنّ اللّه عز و جل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل آية (4)وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إلى قوله: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (5)أدب و عظة و تعلّم و نهي خفيف، و لم يعد عليه، و لم يتواعد على اجتراح شيء ممّا نهى عنه، و أنزل نهيا عن أشياء حذّر عليها و لم يغلظ فيها، و لم يتواعد عليها، و قال: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ و تلا الآيات إلى قوله: مَلُوماً مَدْحُوراً (6).

ص: 50


1- . تفسير أبي السعود 5:172، تفسير روح البيان 5:159.
2- . تفسير الرازي 20:214، تفسير أبي السعود 5:173، تفسير الصافي 3:193.
3- . تفسير القمي 2:20، تفسير الصافي 3:193.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: بمكة.
5- . الإسراء:17/23-30.
6- . الكافي 2:25/1، تفسير الصافي 3:194، و الآيات من سورة الإسراء:17/31-39.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الاشراك، ذمّ المشركين القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه على هذا القول الفضيع، و أنكر عليهم بقوله: أَ فَأَصْفاكُمْ و خصّكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ و فضّلكم على نفسه بأفضل الأولاد في اعتقادكم وَ اِتَّخَذَ لنفسه مِنَ اَلْمَلائِكَةِ أولادا إِناثاً و بنات مع اعتقادكم بأنهنّ أخسّ الأولاد، و هذا ممّا تنكره العقول، فانّ الموالي لا يختارون لأنفسهم الأردأ و يعطون الأجود الأصفى للعبيد إِنَّكُمْ أيّها الجهّال الحمقاء، و اللّه لَتَقُولُونَ بقولكم: إنّ اللّه اتّخذ لنفسه ولدا، و هو إناث قَوْلاً عَظِيماً و كلاما شنيعا في الغاية، بحيث لا يقول به من له أدنى مسكة، لبداهة أن الولادة من خصائص الجسم، و اللّه تعالى مجسّم الأجسام و خالق الوالد و الولد، و لا يعقل أن يكون جسما، و من لوازم الحاجة، و هو تعالى غني بالذات. و على فرض المحال لا يمكن أن يختار لنفسه أخسّ الأولاد، و هو موجد لهم، فيالها من ضلالة، و ما أقبحها!

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً (41)

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا و بيّنا أو كررنا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ الحجج و الحكم و العبر لِيَذَّكَّرُوا و ليتنبّهوا و يتدبّروا وَ ما يَزِيدُهُمْ هذا القرآن و تصريف البراهين و المواعظ التي منه إِلاّ نُفُوراً و اشمئزازا منه و من الحقّ.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الشرك، استدلّ على بطلانه بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين لَوْ كانَ مَعَهُ تعالى آلِهَةٌ اخرى من الأصنام و الكواكب و غيرها كَما هم يَقُولُونَ: إنّ للّه شركاء في الالوهية إِذاً البتة لاَبْتَغَوْا و لطلبوا إِلى معارضة ذِي اَلْعَرْشِ و خالق الموجودات و الغلبة عليه في الالوهية و الايجاد و التدبير في العالم سَبِيلاً و وسيلة، كما هو دأب الملوك بعضهم مع بعض، و لو طلبوا لفسد نظام العالم. و قيل: يعني لطلبوا لأنفسهم إلى التقرّب إليه تعالى سبيلا بتحصيل الكمالات الفائقة و المراتب العالية، حتى يمكنهم أن يقرّبوكم إليه و يشفعوكم لديه (1).

قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشرك بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى و تنزّه و ارتفع بذاته عَمّا يَقُولُونَ من وجود الشريك و الولد له عُلُوًّا كَبِيراً و ارتفاعا عظيما لا غاية له، لأنّ المنافاة بين وجوب الوجود

ص: 51


1- . تفسير الرازي 20:217.

لذاته و القديم و الحادث و الباقي و الفاني و الغني المطلق و المحتاج المطلق بحدّ لا تعقل الزيادة عليه.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 44

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ تسبيحه لا ينحصر بذاته المقدسة بل تُسَبِّحُ لَهُ ما في اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ من الملائكة و الأرواح المقدّسة، و تنزّهه عن جميع النقائص الامكانية و الضدّ و الندّ و الولد، ثمّ عمّم تسبيحه لجميع الموجودات بقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأشياء، و ما من موجود من الموجودات إِلاّ و هو يُسَبِّحُ ربّه ملابسا بِحَمْدِهِ على نعمه وَ لكِنْ أنتم لا تَفْقَهُونَ و لا تفهمون تَسْبِيحَهُمْ لقصور فهمكم و احتجاب أسماعكم و عدم التدبّر في آيات حدوثهم و إمكانهم.

تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)عن الصادق عليه السّلام: «تنقّض الجدر تسبيحها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: سئل هل تسبّح الشجرة اليابسة؟ فقال: «نعم، أما سمعت خشب البيت كيف ينقض، و ذلك تسبيحه للّه، فسبحان اللّه على كلّ حال» (2).

أقول: ظاهر الروايتين أنّ طروّ النقص على الموجودات، و ظهور التغيير فيها، دالّ على تنزّه خالقها من النقص و التغيير، و كون جميعها تحت قدرة موجدها و تدبيره و إرادته، و لمّا لم يتدبّر المشركون في تلك الآيات لغفلتهم و جهلهم و انهماكهم في الشهوات، صاروا مستحقّين للعذاب، و لكن لا يعاجلهم اللّه به إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غير عجول في تعذيب العصاة غير الأهلين للغفران غَفُوراً لذنوب الأهلين له.

و قيل: إن التسبيح في الآية على معناه الحقيقي، و هو قول: سبحان اللّه، كما عن ابن مسعود، قال: لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام و هو يؤكل (3).

و عن ابن عبّاس، في قوله تعالى: إِنّا سَخَّرْنَا اَلْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْراقِ (4)كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح (5).

و عن مجاهد: كلّ الأشياء تسبح اللّه، حيّا كان أو جمادا، و تسبيحها: سبحان اللّه و بحمده (6).

ص: 52


1- . تفسير العياشي 3:54/2523، الكافي 6:531/4، تفسير الصافي 3:195.
2- . تفسير العياشي 3:54/2528، تفسير الصافي 3:195.
3- . تفسير روح البيان 5:163.
4- . سورة ص:38/18.
5- . تفسير روح البيان 5:163.
6- . تفسير روح البيان 5:163.

و روي أنّ الحصاة سبّحت في كفّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1). و في الحديث: «ما من طير يصاد إلاّ بتضييعه التسبيح» (2).

أقول: الحقّ أنّ جميع الموجودات لها تسبيح تكويني و تسبيح اختياري، و إنّما يسمعه من له اذن سامعة كالنبيّ و الكمّلين من المؤمنين.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن ابعث» (3).

و يمكن أن يكون المراد من الآية المباركة كلا التسبيحين بإرادة القدر المشترك، أو عموم المجاز.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ لمّا بيّن سبحانه آيات توحيده و كمال ذاته، و ذمّ المشركين بعدم فهمهم و تفقّههم لها، ذمّهم بإعراضهم عن القرآن المبين لمعارفه و للبراهين الدالة على توحيدة، و تنزّهه عما لا يليق بوجوب وجوده و كمال ذاته، و عدم فهمهم و تفقّههم ما فيه، و معاداتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا قَرَأْتَ يا محمّد اَلْقُرْآنَ الحاوي للحكم و المعارف جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ المشركين اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و البعث بعد الموت حِجاباً و سترا يسترك عنهم حتّى لا يؤذونك، و كان ذلك الحجاب أيضا مَسْتُوراً عن أعينهم، أو المراد حجابا ذا ستر يسترك عنهم وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً و أغطية كراهة أَنْ يفهموا القرآن و يَفْقَهُوهُ حقّ فهمه و فقهه، و يعرفوا جهات إعجازه و دلائل صدقه وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً و ثقلا عن سماعة اللائق به، قيل: إنّ الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ القرآن على الناس (4).

وَ إِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كلّما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان، و عن يساره آخران من ولد قصيّ، يصفّقون و يصفرون و يخلّطون عليه بالأشعار (5).

و عن أسماء: أنه صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و معه أبو بكر، إذ أقبلت امرأة أبي لهب و معها فهر (6)تريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي تقول:

مذمّما أتينا *** و دينه قلينا

ص: 53


1- . تفسير روح البيان 5:164.
2- . تفسير العياشي 3:54/2527، تفسير الصافي 3:195.
3- . تفسير روح البيان 5:163.
4- . تفسير الرازي 20:220.
5- . تفسير الرازي 20:220، تفسير أبي السعود 5:176.
6- . الفهر: الحجر.

و امره عصينا

فقال أبو بكر، يا رسول اللّه، معها فهر، أخشاها عليك: فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، هذه الآية، فجاءت فما رأت رسول اللّه، و قالت: إنّ قريشا [قد]علمت أنّي ابنة سيّدها، و أنّ صاحبك هجاني (1).

و روي أنّها نزلت في أبي سفيان و النضير (2)و أبي جهل و امّ جميل امرأة أبي لهب، كانوا يؤذون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ القرآن، فحجب اللّه أبصارهم إذا قرأ، و كانوا يمرّون به و لا يرونه (3).

و قيل: إنّ المشركين كانوا يطلبون موضع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الليالي، لينتهوا إليه و يؤذونه، و يستدلّون على موضعه باستماع قراءته، فآمنه اللّه من شرّهم، و ذكر له أنّه جعل بينه و بينهم حجابا لا يمكنهم الوصول إليه معه، و بيّن أنّه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن، و في آذانهم ما يمنع من سماع صوته. و يجوز أن يكون ذلك مرضا شاغلا يمنعهم عن المصير إليه (4).

و قيل: إنّ القوم لشدّة امتناعهم عن قبول دلائل نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، صاروا كأنّه حصل بينهم و بين تلك الدلائل حجاب و ساتر، و إنّما نسب [اللّه]سبحانه ذلك الحجاب إلى نفسه؛ لأنّه لمّا خلاّهم مع أنفسهم و ما منعهم عن ذلك الاعراض، صارت تلك التخلية كأنّها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة (5).

و قيل: إنّ المراد من القرآن هو الصلاة، تسمية للكلّ باسم جزئه (6).

روي أنّ المشركين كانوا يؤذون النبي عليه السّلام مصلّيا، و جاءت امّ جميل امرأة أبي لهب بحجر لترضخه فنزلت (7).

ثمّ ذمّهم اللّه بالنّفر عن ذكر اللّه وحده بقوله: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ بأن سمعوا منك آية فيها ذكر اللّه و ذمّ الشرك، أو لم تذكر مع اسم اللّه اسم آلهتهم وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ و هربوا و نفروا من استماعه نُفُوراً و اشمئزازا، و قيل: إنّ المراد أعرضوا عنك حال كونهم نافرين (4).

عن الصادق عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا دخل إلى منزله، و اجتمعت عليه قريش، يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم و يرفع بها صوته، فتولّي قريش فرارا، فأنزل اللّه في ذلك: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ الآية» (5).

و القمي، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا تهجّد بالقرآن تسمع له قريش لحسن صوته، فكان إذا قرأ

ص: 54


1- . تفسير الرازي 20:221، تفسير أبي السعود 5:175.
2- . كذا في المصدر أيضا، و لعلّه النّضر بن الحارث.
3- . تفسير روح البيان 5:167. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:222. (6 و 7) . تفسير روح البيان 5:167.
4- . تفسير روح البيان 5:168.
5- . الكافي 8:266/387، تفسير الصافي 3:195.

(بسم اللّه الرحمن الرحيم) فروا عنه (1).

و عن العياشي، عنه عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا صلّى بالناس جهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، فتخلّف من خلفه من المنافقين عن الصفوف، فاذا جازها في السورة عادوا إلى مواضعهم، و قال بعضهم لبعض: إنّه ليرّدد اسم ربّه تردادا، إنّه ليحبّ ربّه، فأنزل اللّه وَ إِذا ذَكَرْتَ الآية» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ هدّد اللّه المستهزئين بالقرآن بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ و بالوجه الذي يصغون بِهِ من الاستهزاء و التكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ و حين يصغون إِلَيْكَ و أنت تتلو القرآن وَ إِذْ هُمْ نَجْوى و حين يسارّون في شأنك إِذْ يَقُولُ اَلظّالِمُونَ و المتجاوزون عن حدّ العقل في نجواهم و مسارّتهم: إنكم إن اتّبعتم محمّدا فيما يدعوكم إليه إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً و مجنونا أو مخدوعا خدعه الذين علّموه، أو خدعه الشيطان، فأوهمه أنّه ملك.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ اَلظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)

ثمّ أظهر التعجّب من مقالاتهم الواهية بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد نظر التعجّب إلى هؤلاء الحمقاء كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ و قالوا فيك ما لا يجوز أن يقال من قولهم: هو شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو ساحر فَضَلُّوا عن منهاج الحقّ أو الحجاج فَلا يَسْتَطِيعُونَ أن يجدوا سَبِيلاً إليه، و لا يمكنهم الطعن فيك بما يقبله العقل.

نقل الفخر الرازي عن المفسّرين أنّه أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام أن يتّخذ طعاما و يدعو إليه أشراف قريش، ففعل و دخل عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قرأ عليهم القرآن، و دعاهم إلى التوحيد، و قال: «قولوا لا اله إلاّ اللّه حتى تطيعكم العرب، و تدين لكم العجم» ، فأبوا ذلك عليه، و كانوا عند استماعهم القرآن و الدعوة إلى اللّه يقولون بينهم متناجين: هو ساحر، أو هو مسحور، و ما أشبه ذلك، فنزلت الآية (3).

و عن ابن عبّاس: أنّ أبا سفيان و النّضر بن الحارث و أبا جهل و غيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى اللّه عليه و آله و يستمعون إلى حديثه، فقال النّضر يوما: ما أدري ما يقول محمّد، غير أنّي أرى شفتيه تتحرّك بشيء.

ص: 55


1- . تفسير القمي 2:20، تفسير الصافي 3:195.
2- . تفسير العياشي 3:55/2531، تفسير الصافي 3:196.
3- . تفسير الرازي 20:223.

و قال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقا. و قال أبو جهل: هو مجنون. و قال أبو لهب: هو كاهن. و قال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 49 الی 51

ثمّ لمّا وصف اللّه المشركين بأنّهم لا يؤمنون بالآخرة، حكى شبهتهم في المعاد بقوله: وَ قالُوا إنكارا للبعث، و تقريرا لكون النبي فاسد العقل: يا محمّد أَ إِذا متنا و كُنّا عِظاماً بالية وَ رُفاتاً و أجزاء متفتّته أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ من القبور حال كوننا مخلوقين خَلْقاً جَدِيداً و محيين بحياة ثانية مع تفّرق تراب أجسادنا في العالم و اختلاطه بغيره و عدم تميّزه؟ هيهات، لا يمكن ذلك أبدا، فردّهم اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: كُونُوا في المثل حِجارَةً صلبة أَوْ حَدِيداً الذي هو أصلب منها أَوْ خَلْقاً آخر مِمّا يَكْبُرُ و يعظم فِي صُدُورِكُمْ قبوله للحياة لغاية بعده عنها في نظركم، فانّكم تحيون و تبعثون لا محالة.

وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)قيل: إنّ المراد ممّا يكبر في صدورهم السماوات و الجبال (2). و قيل: إنّه الموت، و نسب إلى جمهور المفسرين، إذ ليس في النفس شيء أكبر من الموت (3).

و القمي عن الباقر عليه السّلام: «الخلق الذي يكبر في صدوركم الموت» (2). و المعنى لو كنتم عين الموت لأميتكم و احييكم لا محالة، لإمكانه و عدم القصور في القدرة، و اقتضاء الحكمة البالغة وجوبه، إذ لو لا البعث لكان الخلق الأول عبثا، و تعالى اللّه من العبث علوا كبيرا، فإذا أجبتهم عن شبهتهم تلك (3)فَسَيَقُولُونَ إنكارا و استبعادا: مَنْ يُعِيدُنا و يبعثنا مع كمال المباينة بين ترابنا و بين الإعادة و البعث قُلِ يا محمّد، يعيدكم القادر اَلَّذِي فَطَرَكُمْ و اخترع خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ و في بدو خلقكم في هذا العالم من غير مثال يحتذيه من تراب لم يشمّ رائحة الحياة، فإذا أجبتهم و عيّنت معادهم (4)فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ و يحرّكون نحوك رُؤُسَهُمْ تعجبا و انكارا وَ يَقُولُونَ استهزاء مَتى البعث، و في أي وقت هُوَ قُلْ لهم عَسى و أرجو أَنْ يَكُونَ ذلك الوقت قَرِيباً

ص: 56


1- . تفسير الرازي 20:221. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:170.
2- . تفسير القمي 2:21، تفسير الصافي 3:196.
3- . في النسخة: ذلك.
4- . في النسخة: معيدهم.

لأنّ كلّ آت قريب، أو لأنه مضى أكثر الزمان و بقي أقلّه.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 52

ثمّ عيّن اللّه وقت الاعادة و سهولتها بقوله: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ اللّه ببعثكم من القبور أو إسرافيل بنفخه الأخير في الصّور فَتَسْتَجِيبُونَ الدعوة، و تمتثلون [أمر]

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً (52)الداعي [سواءأ]كان هو اللّه أو إسرافيل فيما دعاكم إليه، و تخرجون من الأجداث سراعا منقادين للّه رافعين أصواتكم بِحَمْدِهِ على قدرته على إعادتكم.

عن سعيد بن جبير: أنّهم ينفضون التراب عن رؤوسهم و يقولون: سبحانك اللهم و بحمدك، و يقدّسونه و يحمدونه حين لا ينفعهم ذلك (1)، أو تستجيبون بأمره على القول بمجئ الحمد بمعنى الأمر، أو منقادين لاسرافيل حامدين لما فعل بكم غير مستعصين وَ تَظُنُّونَ بعد البعث و رؤية الأهوال إِنْ لَبِثْتُمْ و ما مكثتم في الدنيا، أو في القبور إِلاّ قَلِيلاً اقتصارا للمدّة الماضية، أو تقريبا لوقت البعث.

عن ابن عبّاس: يريد ما بين النفختين الأولى و الثانية، فإنّه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، قال: و الدليل عليه قوله في سورة يس: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا (2)فظنّهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين (3)الأولى و الثانية.

و قيل: يوم يدعوكم خطاب للمؤمنين، فانّهم يحمدون اللّه على إحسانه إليهم (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 53 الی 55

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة الحجّة على التوحيد و المعاد و بيان معارضة المشركين للرسول و شدّة عداوتهم للحق، أمر المؤمنين بمداراتهم و مجادلتهم بالتي هي أحسن صونا من الفساد (5)بقوله: وَ قُلْ

وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

ص: 57


1- . تفسير الرازي 20:227، تفسير روح البيان 5:170.
2- . يس:36/52.
3- . تفسير الرازي 20:227.
4- . تفسير الرازي 20:228.
5- . في النسخة: صونا للفساد، و يريد صونا من الفساد المترتّب على المخاشنة في القول و السبّ و الشتم لأنّ المشركين سيقابلونهم بمثله.

لِعِبادِي المؤمنين الذين يجادلون المشركين يَقُولُوا عند محاورتهم معهم الكلمة اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الكلم و لا يخاشنونهم في القول، و لا يخلطون حجّتهم بالشّتم و السّبّ.

ثمّ نبّه سبحانه على فائدة تحسين الكلام بقوله: إِنَّ اَلشَّيْطانَ يَنْزَغُ و يثير الفتن بَيْنَهُمْ و بين المشركين، و يغري بعضهم على بعض، و تشتدّ العداوة بينهم، و يزداد الغضب و التنافر فيهم، فيمتنع حصول المقصود، و هو هدايتهم إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ من بدو خلقتهم عَدُوًّا مُبِيناً في عداواته، و مبغضا متجاهرا ببغضه.

ثمّ علّم سبحانه المؤمنين تحسين الكلام مع المشركين بقوله: رَبُّكُمْ أيّها المشركون أَعْلَمُ بِكُمْ و أخبر بعقائدكم و أعمالكم إِنْ يَشَأْ الرحمة عليكم بالتوفيق للايمان و العمل الصالح يَرْحَمْكُمْ بلا مزاحم و لا رادّ أَوْ إِنْ يَشَأْ تعذيبكم باماتتكم على الكفر يميتكم و يُعَذِّبْكُمْ بلا عجز و لا دافع، و لا تصرّحوا لهم بأنّكم أهل النار، فانّه يهيجهم على الشرّ مع أنّه لا يعلم عاقبة أحد إلاّ اللّه وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً نكل إليك امورهم من الرحمة و التعذيب، فتجبرهم على الايمان، و إنّما أرسلناك بشيرا و نذيرا، فدارهم و مر أصحابك بالمداراة و ترك المخاصمة.

عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه أمرني بمداراة الناس، كما أمرني باقامة الفرائض» (1).

و قيل: إنّ المراد من العباد في الآية الكفّار، عبّر عنهم به جذبا لقلوبهم و ميلا لطباعهم إلى دين الاسلام (2)، و المعنى: قل-يا محمّد-للذين يقرّون بكونهم عبادا لي يعتقدوا بالعقائد التي هي أحسن من التوحيد و المعاد، و لا يصرّوا على العقائد الباطلة، فانّ الشيطان يحملهم على التعصّب، و الشيطان عدوّ لهم، فلا ينبغي أن يلتفتوا إلى قوله و تسويلاته، و قل لهم: ربّكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم بأن يوفقكم للايمان و الهداية، و إن يشأ يميتكم على الكفر، و أنتم لا تطّلعون على تلك المشيئة، فاجتهدوا أنتم في طلب الحقّ، و لا تقيموا على الباطل، لئلا تحرموا من السعادات الأبدية، ثمّ قال: وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً حتّى تشدّد عليهم و تغلظ لهم في القول، فانّ اللّين و الرّفق آثر في قلوبهم، و أفيد في حصول المقصود من هدايتهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد قوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ بيّن سعة علمه، و عدم قصره بأحوال المشركين، بل محيط بأحوال جميع أهل العالم بقوله: وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و أحوالهم و خصالهم و ما يليق بكلّ واحد منهم وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى بالكتاب و الشرع و عموم الرسالة و كثرة المعجزات عَلى بَعْضٍ آخر لعلمنا بتفاوت مراتبهم في

ص: 58


1- . تفسير روح البيان 5:172.
2- . تفسير الرازي 20:229.

الفضائل النفسانيّة و الكمالات الروحانيّة.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ التفضيل إنّما هو بالفيوضات المعنوية من العلم و الكتاب لا بالسلطنة بقوله: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً و فضلّناه به لا بالملك و السلطنة، فاذا كان كذلك فلا بعد في أن نفضّل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على جميع الخلق من الأولين و الآخرين بإتيانه القرآن الذي هو أفضل الكتب السماوية، و تعميم رسالته إلى يوم القيامة.

و قيل: إن وجه تخصيص داود و كتابه بالذكر أنّ في الزّبور أنّ محمّدا خاتم الأنبياء، و أن امّته خير الامم (1).

و قيل: إنّ وجهه أنّ اليهود كانوا يقولون: إنّه لا نبيّ بعد موسى، و لا كتاب بعد التوراة. فنقض اللّه كلامهم بإنزال الزبور على داود (2).

أقول: الظاهر أنّ اليهود ينكرون بعث رسول بعد موسى له شرع غير شرعه، و نزول كتاب ناسخ لكتابه، لا بعث مطلق الرسول و نزول مطلق الكتاب.

عن الصادق عليه السّلام: «سادة النبيين و المرسلين خمسة، و هم اولو العزم من الرسل، و عليهم دارت الرحى: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد، و فضله على جميع الأنبياء» (3).

و في (العلل) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى فضّل الأنبياء المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النبيين و المرسلين، و الفضل بعدي لك يا عليّ و للأئمّة من ولدك، و إنّ الملائكة لخدّامنا و خدّام محبّينا» (4).

و عن ابن عباس: أنّه جلس ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يتذاكرون، و هم ينتظرون خروجه، فخرج حتى دنا منهم، فسمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجبا إنّ اللّه اتّخذ إبراهيم من خلقه خليلا! و قال آخر: ماذا بأعجب من أنّ اللّه كلّم موسى تكليما؟ و قال آخر: ماذا بأعجب من جعل عيسى كلمة اللّه و روحه؟ فقال آخر: ماذا بأعجب من آدم اصطفاه اللّه عليهم؟ فسلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أصحابه، و قال: «قد سمعت كلامكم و عجبكم من أنّ ابراهيم خليل اللّه و هو كذلك، و أن موسى كليم اللّه و هو كذلك، و أن عيسى روح اللّه و كلمته و هو كذلك، و أنّ آدم اصطفاه اللّه و هو كذلك، ألا و أنا حبيب اللّه و لا فخر، و أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة و لا فخر، و أنا أكرم الأولين و الآخرين على

ص: 59


1- . تفسير الرازي 20:230.
2- . تفسير الرازي 20:230.
3- . الكافي 1:134/3، تفسير الصافي 3:198.
4- . علل الشرائع:5/1، تفسير الصافي 3:198.

اللّه و لا فخر، و أنا أوّل من يحرّك حلقة الجنّة فيفتح اللّه لي فأدخلها و معي فقراء المهاجرين [و لا فخر]» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 56

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام و قولهم بانكار المعاد، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّ قول عبدة الملائكة و الجنّ و المسيح و العزير بقوله: قُلِ يا محمّد، للذين يعبدون الملائكة و الجنّ و المسيح و العزير اُدْعُوا أيّها المشركون اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ و تخيّلتم بأهوائكم أنّهم آلهتكم مِنْ دُونِهِ تعالى و ممّا سواه لحوائجكم، فانّ المعبود لابّد أن يكون قادرا على إزالة الضرر من عابديه، و إيصال النفع إليهم، و أما آلهتكم فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ من المرض و الفقر و غيرهما، و لا يقدرون على إزالته عَنْكُمْ بوجه من الوجوه وَ لا تَحْوِيلاً و نقلا له منكم إلى غيركم.

قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً (56)قيل: إنّها نزلت في الذين كانوا يعبدون الملائكة (2). و قيل: في الذين عبدوا المسيح (3). و قيل: في الذين عبدوا نفرا من الجّن، فأسلم النفر، و بقي اولئك متمسّكين بعبادتهم (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 57

ثمّ بيّن سبحانه عجز آلهتهم و احتياجهم إلى اللّه بقوله: أُولئِكَ الآلهة اَلَّذِينَ يَدْعُونَ هم يَبْتَغُونَ و يطلبون إِلى رَبِّهِمُ و مالك أمورهم اَلْوَسِيلَةَ و القربة بالطاعة و العبادة له أَيُّهُمْ و كلّ واحد منهم فرض أنّه أَقْرَبُ إليه تعالى بكون (3)شغله ذلك الابتغاء و الطلب وَ هم يَرْجُونَ و يأملون رَحْمَتَهُ تعالى بالوسيلة وَ يَخافُونَ عَذابَهُ بتركها كدأب سائر العباد، فكيف بمن دونهم؟ فأين هم من كشف الضرّ فضلا عن الالوهية إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً و حقيقا بأن يحترز منه كلّ أحد حتى الرسل و الملائكة، و إن لم يحذره المشركون لغاية غفلتهم و انهماكهم في الشهوات، و إنّما استدلّ سبحانه بعجز الملائكة و غيرهم ممّن ادّعوا ألوهيتهم عن كشف الضرّ و بابتغائهم الوسيلة لتسليم المشركين كونهم عبادا للّه مخلوقين بقدرته مربوبين بتربيته.

أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 58

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي اَلْكِتابِ مَسْطُوراً (58)

ص: 60


1- . تفسير روح البيان 5:174.
2- . تفسير الرازي 20:231. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:231.
3- . في النسخة: يكون.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كون عذابه حقيقا بأن يحذر منه، بيّن ابتلاء الكفّار في الدنيا بشديد عذابه بقوله: وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ من قرى المشركين، و ما من بلدة من بلادهم إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها بعذاب الاستئصال المفني لجميع أهلها قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً دون عذاب الاستئصال من قبل أكابرهم و تسليط المسلمين عليهم بالسبي و اغتنام الأموال و أخذ الجزية كانَ ذلِكَ الحكم و الدأب الالهي فِي اَلْكِتابِ المبين و اللوح المحفوظ مَسْطُوراً و مكتوبا لا يتطرّق إليه التغيير.

و قيل: إنّ المراد به القرية (1)الصالحة و الطالحة، أما الصالحة فتهلك بالموت، و أما الطالحة فبالعذاب (2).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «بالقتل أو الموت و غيره» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هو الفناء بالموت» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما امّة محمد من الامم، فمن مات فقد هلك» (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 59

ثمّ لمّا ذكر سبحانه ابتلاء بعض القرى بعذاب الاستئصال لتكذيبهم الرسل مع ظهور المعجزات القاهرة، أظهر منّته على هذه الامّة بعدم تعذيبهم بقوله: وَ ما مَنَعَنا من أَنْ نُرْسِلَ و ننزل بِالْآياتِ القاهرة و المعجزات المقترحة من المشركين شيئا إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا العتاة اَلْأَوَّلُونَ و الكفّار السابقون، كقوم عاد و ثمود و أضرابهما، فاستحقّوا لذلك عذاب الاستئصال، فلو أرسلنا المعجزات التي اقترحها المشركون و كذّبوا بها، لاستوجبوا عذاب الاستئصال كسابقيهم، فمننّا على هذه الامة ببركة نبي الرحمة بأن لا نستأصلهم بالعذاب، ألم يسمعوا أنّا أرسلنا صالحا بالنبوة، و اقترح قومه عليه و سألوه معجزة قاهرة فأجبناهم وَ آتَيْنا ثَمُودَ اَلنّاقَةَ بأن أخرجناها من الصخرة لتكون لهم معجزة مُبْصِرَةً و موجبة لليقين بصدق صالح و صحّة دينه بحيث لم يبق معها لأحد مجال الشكّ في كونها معجزة، و في صدق نبوة صالح فَظَلَمُوا الناقة بأن عقروها و كذّبوا بِهَا و عرّضوا

وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ اَلنّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً (59)

ص: 61


1- . في النسخة: المراد بالقرية.
2- . تفسير الرازي 20:233.
3- . تفسير العياشي 3:57/2536، و فيه: و الموت أو غيره، تفسير الصافي 3:198.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:118/562، تفسير الصافي 3:198.
5- . تفسير العياشي 3:56/2534، تفسير الصافي 3:198.

أنفسهم للهلاك، و إنما ذكر سبحانه من الامم المهلكة خصوص ثمود لأنّهم كانوا من العرب مثلهم، و كانوا عالمين بحالهم و مشاهدين آثار هلاكهم.

عن القمي، عن الباقر عليه السّلام: «أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله سأله قومه أن يأتيهم بآية، فنزل جبرئيل و قال: إنّ اللّه يقول: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ و كنّا إذا أرسلنا إلى قرية آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم، فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات» (1).

وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ غير المقترحة من القرآن و سائر المعجزات إِلاّ لتكون تَخْوِيفاً و إنذارا لهم بعذاب الآخرة، فإنّ أمر أمّتك التي بعثت إليهم مؤخّر إلى يوم القيامة كرامة لك.

عن سعيد بن جبير: أنّ القوم قالوا: يا محمّد، إنّك تزعم أنّه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخّرت له الريح، و منهم من كان يحيي الموتى، فأتنا بشيء من هذه المعجزات، فأجاب اللّه عن هذه الشبهة بقوله: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الآية (2).

و عن ابن عباس: أنّ أهل مكة سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله أن يجعل لهم الصفا ذهبا، و أن يزيل الجبال لهم حتى يزرعوا [تلك]الأراضي التي تحتها، فطلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك من اللّه تعالى، فقال اللّه تعالى: إن شئت فعلت ذلك، لكن بشرط أنّهم إن كفروا أهلكتهم. فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله: «لا اريد ذلك بل نتأنّى (3)بهم» ، فنزلت (4).

و قيل: إنّ وجه الجواب أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات، و كذّبوا بها، فعلم اللّه منكم أنّكم لو شاهدتموها لكذّبتم، فكان إظهارها عبثا (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 60

ثمّ لمّا صار عدم إجابة الرسول مسألة المشركين في ما اقترحوه من الآيات سببا لجرأتهم عليه و طعنهم في رسالته، قوّى سبحانه قلبه الشريف بوعده النصر عليهم بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لَكَ بتوسّط جبرئيل: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ قدرة و علما، فلا يقدر أحد على أمر إلاّ بقضائه و إرادته، فلا تنال بهم و لا تخف منهم فانّهم لن يضرّوك شيئا، و إنّ ربك سينصرك عليهم، و يؤيّدك حتى يظهر دينك

وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنّاسِ وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

ص: 62


1- . تفسير القمي 2:21، تفسير الصافي 3:199.
2- . تفسير الرازي 20:234.
3- . في تفسير الرازي: تتأنّى.
4- . تفسير الرازي 20:234.
5- . تفسير الرازي 20:234.

على سائر الأديان.

و قيل: إنّ المراد من الناس أهل مكّة، و المعنى: و إذ بشّرناك بأنّ اللّه أحاط بأهل مكة بالقهر و الغلبة، و يظهر دولتك عليهم، فهو نظير قوله: سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ (1).

روي أنّه لمّا تزاحف الفريقان يوم بدر، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العريش، كان يدعو و يقول: اللهم إنّي أسألك عهدك و وعدك لي، ثمّ خرج و عليه الدرع يحرّض الناس و يقول: سيهزم الجمع و يولّون الدّبر (2).

في ذكر رؤيا

النبي صلّى اللّه عليه و آله

ثمّ قيل: إنّ اللّه أرى النبي صلّى اللّه عليه و آله فى المنام مصارع الكفّار، فأخبرهم بها فكذّبوه، فذكّره اللّه تلك الرؤيا (3)بقوله: وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ لغرض من الأغراض إِلاّ لتكون فِتْنَةً و ابتلاء لِلنّاسِ و سببا لتكذيبهم.

و قيل: إنّ المراد بالرؤيا الرؤيا التي رآها أنه يدخل مكة، و أخبر بذلك أصحابه، فلمّا منع [عن البيت الحرام]عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم، و قال عمر لأبي بكر: أ ليس قد أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّا ندخل البيت و نطوف به؟ فقال أبو بكر: [إنّه]لم يخبر أنّا نفعل ذلك في هذه السنة، فسنفعل ذلك في سنة اخرى، رواها الفخر الرازي (4).

و قيل: المراد رؤياه المعراج (5)، فإنّه كما كان له معراج في اليقظة كان له معراج في النوم.

و عن سعيد بن المسيب: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني امية ينزون على منبرة نزو القردة، فساءه ذلك، قال الفخر: هذا قول ابن عباس في رواية عطاء. ثمّ قال: و اعترضوا على هذين القولين، بأن هذه السورة مكية، و هاتان الواقعتان مدنيتان، ثمّ ردّه بأنّ الواقعتين مدنيتان، أمّا رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولهما في مكّة (6).

و عن ابن عباس: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره (7).

و عن العياشي، عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الرؤيا. فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اري أن رجالا من بني تيم و عديّ على المنابر يردّون الناس عن الصراط القهقرى» (8).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد رأى رجالا من نار على منابر من نار، يردّون الناس

ص: 63


1- . تفسير الرازي 20:235، و الآية من سورة القمر:54/45.
2- . تفسير الرازي 20:235.
3- . تفسير الرازي 20:236، تفسير أبي السعود 5:182.
4- . تفسير الرازي 20:236.
5- . تفسير الرازي 20:236، تفسير أبي السعود 5:181، تفسير روح البيان 5:178.
6- . تفسير الرازي 20:236، و فيه: حصولها في مكة.
7- . تفسير الرازي 20:237.
8- . تفسير العياشي 3:58/2544، تفسير الصافي 3:199.

على أعقابهم القهقرى، قال: و لسنا نسمّي أحدا» (1).

و في رواية اخرى: «إنّا لا نسمّي الرجال، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأى قوما على منبره يضلّون الناس بعده عن الصراط القهقرى» (2).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «رأيت الليلة صبيان بني امية يرقون على منبري هذا، فقلت: يا ربّ معي؟ فقال: لا و لكن بعدك» (3).

و عن (الكافي) عن أحدهما عليه السّلام: «أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كئيبا حزينا، فقال له علي عليه السّلام: ما لي أراك يا رسول اللّه كئيبا حزينا؟ فقال: و كيف لا أكون و قد رأيت في ليلتي هذه أنّ بني تيم و بني عديّ و بني امية يصعدون منبري هذا، يردّون الناس عن الاسلام القهقرى. فقلت: يا ربّ في حياتي أو بعد موتي؟ فقال: بعد موتك» (4).

و في رواية مضمرة أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نام فرأى أنّ بني اميّة يصعدون المنابر، فكلما صعد منهم رجل رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذلّة و المسكنة، فاستيقظ جزوعا من ذلك، فكان الذين رآهم اثني عشر رجلا من بني اميّة، فأتاه جبرئيل بهذه الآية، ثمّ قال جبرئيل: [إنّ بني امية] لا يملكون شيئا إلاّ ملك أهل البيت [ضعفيه]» (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث-قال: «أمّا معاوية و ابنه سيليانها بعد عثمان، ثمّ يليها سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص واحدا بعد واحد تكملة اثني عشر إمام ضلالة، و هم الذين رآهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على منبره يردّون الناس على أدبارهم القهقرى، عشرة منهم من بني اميّة، و رجلان أسّسا ذلك لهم، و عليهما (6)أوزار هذه الأمّة إلى يوم القيامة» (7).

إلى غير ذلك من الروايات الخاصة المتوافقة على أنّ الرؤيا كانت نزو بني امية على منبر النبي صلّى اللّه عليه و آله، وَ ذكرنا اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ لذلك، قيل: هي شجرة الزّقّوم، و سمّيت ملعونة لأنّها في أصل الجحيم، و هو أبعد الأمكنة من رحمة اللّه (8). أو لأنها طعام الكفّار الملعونين، أو لأنّها مكروهة مبغوضة، كما يقال: طعام ملعون، أي ضارّ مكروه. قيل: انّ أبا جهل قال: إنّ صاحبكم يزعم أنّ نار

ص: 64


1- . تفسير العياشي 3:57/2540، تفسير الصافي 3:199.
2- . تفسير العياشي 3:58/2541، تفسير الصافي 3:200.
3- . تفسير العياشي 3:58/2542، تفسير الصافي 3:200.
4- . الكافي 8:345/543، تفسير الصافي 3:200.
5- . تفسير العياشي 3:59/2545، تفسير الصافي 3:200.
6- . زاد في الاحتجاج: مثل جميع.
7- . الاحتجاج:155، تفسير الصافي 3:200.
8- . تفسير روح البيان 5:178.

جهنم تحرق الحجر حيث قال: وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ (1)ثمّ يقول: إنّ في النار شجرا، و النار تأكل الشجر، فكيف تولّد فيها الشجر؟ (2).

و قال ابن الزّبعري: ما نعلم الزّقوم إلاّ التمر و الزّبد، فتزقّموا منه، فأنزل اللّه إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ (3).

و قيل: إنّ المراد بها أبو جهل أو [الحكم بن أبي]العاص (4). و قيل: إنّها شجرة اليهود (5).

و عن ابن عباس: الشجرة الملعونة: بنو اميّة (6).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-قيل: وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ؟ قال: «هم بنو اميّة» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان افتتان الناس بهما (6)، بيّن أنه يخوّف الناس بالمعجزات و الآيات بقوله: وَ نُخَوِّفُهُمْ بالعذاب الدنيوي و الآخروي فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً و عتوا عظيما و تماديا في الكفر و الضلال.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 61 الی 64

ثمّ لمّا كان سبب عتوّ المشركين و معارضتهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و إيذائه الكبر و الحسد، بيّن أنّ هاتين الرذيلتين أوّل ما عصي اللّه به، و أقوى الأسباب للكفر في بدو الخلقة بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ تكبرا و تعجبا من أمره بالسجود له: أَ أَسْجُدُ يا رب، و أنا مخلوق من نار لِمَنْ خَلَقْتَ و كان مبدأ خلقته طِيناً قيل: إن طِيناً منصوب بنزع الخافض، و المعنى لمن خلقته من طين (7).

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً (62) قالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (64)

ثمّ لمّا رأى اللعين تبعيده و طرده من الرحمة و تقريب آدم و تكريمه قالَ حسدا و عدوانا لآدم:

ص: 65


1- . البقرة:2/24.
2- . تفسير الرازي 20:237.
3- . تفسير الرازي 20:237، و الآية من سورة الصافات:37/63.
4- . تفسير البيضاوي 1:575. (5 و 6) . تفسير الرازي 20:237.
5- . تفسير العياشي 3:57/2537، تفسير الصافي 3:199.
6- . كذا، و لعلّ المراد الرؤيا و الشجرة الملعونة.
7- . تفسير أبي السعود 5:183.

يا رب أَ رَأَيْتَكَ و أخبرني عن هذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ و فضلّته عَلَيَّ بأن أمرتني بالسجود له مع ملائكتك، لم كرّمته عليّ و شرّفته بالخلافة و أنا خير منه بعزّتك؟ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ حيا و أنظرتني إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ، و قيل: يعني إن أبقيتني على صفة الإغواء و الضلالة (1)لَأَحْتَنِكَنَّ و لأستأصلنّ ذُرِّيَّتَهُ بالعذاب، أو لأستولينّ عليهم بالإغواء إِلاّ قَلِيلاً منهم، و هم المخلصون الذين عصمتهم من اتّباع الشهوات و الخطايا و الزلات.

قالَ اللّه تعالى تبعيدا و إهانة أو تهديدا له: اِذْهَبْ يا ملعون و افعل ما شئت فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ على الضلالة و العصيان و أطاعك في الكفر و الطغيان فَإِنَّ جَهَنَّمَ يا إبليس و يا أتباع إبليس جَزاؤُكُمْ على مخالفتي حال كونها جَزاءً مَوْفُوراً كاملا تاما وَ اِسْتَفْزِزْ و حرّك إلى المعصية، أو استزلّ مَنِ اِسْتَطَعْتَ أن تستفزّه أو تزلّه من ذرية آدم و قدرت أن تهيجه لمخالفتي مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ و دعائك و وسوستك.

و قيل: إنّ المراد بصوته: الغناء و المزامير (2). و قيل: الأصوات التي ليس فيها رضا اللّه. وَ أَجْلِبْ و صح، أو اجمع، أو استعن عَلَيْهِمْ و على إغوائهم بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و فرسانك و مشاتك. و قيل: بجميع جندك. و قيل: بجميع قواك و غاية جهدك (3).

عن ابن عباس: كلّ راكب أو راجل في معصية اللّه فهو من خيل إبليس و جنوده (4). وَ شارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوالِ بترغيبهم إلى تحصيلها من الوجه المحرّم، أو إلى التصرّفات المحرّمة فيها، أو إلى جعل البحيرة و السائبة و أخواتهما، أو إلى أن يجعلوا فيها نصيبا لغير اللّه وَ في اَلْأَوْلادِ بتهييجهم إلى الزنا، أو تسميتهم بعبد اللات، أو عبد العزّى، أو الى دعوة أولادهم إلى اليهودية أو النصرانية أو سائر الأديان الباطلة، أو إلى الاقدام في قتلهم، أو إلى ترغيبهم في الفحش أو القتل و القتال و الحرف الخبيثة.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قرئت عليه هذه الآية ثمّ قال: «إنّ الشيطان ليجيئ حتى يقعد من المرأة كما يقعد الرجل منها، و يحدث كما يحدث، و ينكح كما ينكح» قيل: بأيّ شيء يعرف؟ قال: «بحبنّا و بغضنا، فمن أحبنا كان نطفة العبد، و من أبغضنا كان نطفة الشيطان» (5).

و عنه عليه السّلام: «إذا ذكر اسم اللّه تنحّى الشيطان، و إن فعل و لم يسمّ أدخل ذكره، و كان العمل منهما

ص: 66


1- . تفسير روح البيان 5:180، و فيه: و الإضلال.
2- . تفسير روح البيان 5:181.
3- . تفسير روح البيان 5:181.
4- . تفسير الرازي 21:6، تفسير أبي السعود 5:184.
5- . الكافي 5:502/2، تفسير الصافي 3:203.

[جميعا]و النطفة واحدة» (1).

و القمي قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان، فاذا اشترى به الإماء و نكحهنّ و ولد له فهو شرك الشيطان، كلّما (2)تلد [يلزمه]منه، و يكون مع الرجل إذا جامع فيكون الولد من نطفته و نطفة الرجل (3). و الأخبار في هذا المعنى كثيرة.

وَ عِدْهُمْ يا إبليس بالمنافع الدنيوية، و الأمن من الضرر بها، بأن ينكر المعاد و الجنّة و النار، أو وعدهم بتسويف التوبة، أو بالأماني الباطلة، أو بشفاعة الأصنام عند اللّه، أو بالأنساب الشريفة، ثم زجر عن قبول وعده بقوله: وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً و كذبا مزينا في قلوبهم متعقّبا بالندامة و الخسران.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 65

ثمّ عيّن اللّه القليل الذي استثناه الشيطان من عموم إغوائه بقوله: إِنَّ عِبادِي المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ من حيث الإغواء سُلْطانٌ و استيلاء، لعدم تأثير دعوتك و تسويلك في قلوبهم، لأنّهم يتوكّلون على ربّهم وَ كَفى بِرَبِّكَ لهم وَكِيلاً و حافظا من كيد الشيطان، و مدبّرا امورهم على وفق الصلاح، و مسببا لأسباب سعادتهم و موفّقا لهم لجميع الخيرات.

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)و قيل: لمّا أخبر سبحانه باستيلاء الشيطان على من سوى المخلصين خاف المؤمنون منه خوفا عظيما، فأخبرهم عن كمال قدرته و لطفه بهم بقوله: وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً و المعنى: أنّ الشيطان، و إن كان قادرا على الاضلال، و لكنّ اللّه أقدر و أرحم بعباده من الكلّ، فهو يدفع كيد الشيطان و يعصمهم من إغوائه (4)إذا توكّلوا عليه.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ استشهد سبحانه على لطفه الخاص بعباده بلطفه العام لجميع الناس بقوله: رَبُّكُمُ هو القادر اللطيف اَلَّذِي يُزْجِي و يسيّر أو يسوق نفعا لَكُمُ و لطفا بكم اَلْفُلْكَ و السّفن فِي اَلْبَحْرِ

رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ كَفُوراً (67)

ص: 67


1- . الكافي 5:501/3، تفسير الصافي 3:203.
2- . في تفسير القمي: كما.
3- . تفسير القمي 2:22، تفسير الصافي 3:204.
4- . تفسير الرازي 21:9.

بقدرته الكاملة لِتَبْتَغُوا و تطلبوا لأنفسكم بعضا مِنْ فَضْلِهِ و نعمه بالتجارة إِنَّهُ كانَ من بدو خلقكم بِكُمْ رَحِيماً و عطوفا حيث هيّأ لكم جميع ما تحتاجون إليه، و سهّل عليكم أسباب معيشتكم، و حفظكم من خطرات البحر و مهالكه.

ثمّ استدلّ على توحيده بقوله: وَ إِذا مَسَّكُمُ و أصابكم اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ و ظهرت لكم أمارات الغرق من تلاطم البحر و تراكم الأمواج من كلّ مكان و ضَلَّ و ذهب من خواطركم مَنْ تَدْعُونَ و تلتجئون إليه في حوائجكم إِلاّ إِيّاهُ تعالى وحده لارتكاز التوحيد و انحصار القدرة و التصّرف في عالم الوجود في اللّه الذي هو خالق جميع الموجودات في فطرة الانسان.

روي أن رجلا قال للصادق عليه السّلام: يابن رسول اللّه، دلّني على اللّه، فقد أكثر عليّ المجادلون و حيّروني. فقال [له:] «يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟» قال: بلى. قال: «فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك؟» قال. بلى: قال: «فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟» قال: بلى. قال عليه السّلام: «فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي» (1).

فَلَمّا نَجّاكُمْ من الغرق و أوصلكم إِلَى اَلْبَرِّ و الساحل سالمين (2)أَعْرَضْتُمْ عنه تعالى و كفرتم تلك النّعمة و سائر نعمه باشراككم له في العبادة غيره وَ كانَ اَلْإِنْسانُ بجنسه و طبعه كَفُوراً لنعم ربّه، و مبالغا في مقابلتها بالعصيان، و إنّما يصير شاكرا بتوفيق اللّه و هدايته.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ هدّدهم على الكفران بقوله: أَ فَأَمِنْتُمْ من أن يهلككم اللّه بسبب أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ اَلْبَرِّ و قطعته التي تحتكم، و حسبتم أنّها المأمن لكم مثل قارون أَوْ يُرْسِلَ في البرّ عَلَيْكُمْ من فوقكم ريحا حاصِباً مراميا بالأحجار الصغار، فيكون أشدّ من الغرق، كما أرسل على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا أحدا يكون لَكُمْ وَكِيلاً و حافظا و منجيا منه.

أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)و حاصل المراد كما تحتاجون إليه تعالى في أن يحفظكم من الغرق و أنتم في البحر، كذلك تحتاجون إليه في أن يحفظكم من الهلاك و أنتم في البرّ، إذ كما أنّه قادر على أن يغرقكم في الماء

ص: 68


1- . التوحيد:231/5، و فيه: حيث لا منجي، تفسير الصافي 1:68.
2- . في النسخة: سالما.

قادر على أن يهلككم من جانب التحت، بأن يغيّبكم في التراب، أو من جانب الفوق بأن يمطر عليكم الحجارة.

أَمْ أَمِنْتُمْ بعد خروجكم و نجاتكم من البحر من أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ بسبب إيجاد الحوائج المهمّة التي لا يمكنكم صرف النظر عنها تارَةً و مرّة أُخْرى بعد المرّة الاولى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ و أنتم في البحر قاصِفاً و شديدا مِنَ اَلرِّيحِ فيكسر فلككم فَيُغْرِقَكُمْ في البحر جزاء بِما كَفَرْتُمْ باللّه و بنعمة إنجائه الأول، و أشركتم به غيره في العبادة ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ بسبب إغراقكم، و لا تألفوا عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً و حاميا يتبعنا بمطالبة العلّة و السبب.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 70

ثمّ أنّه تعالى بعد المنّة بتسهيل سير الانسان في البحر، و حفظه من المهالك، و كفرانهم تلك النعمة، بالغ في إظهار منّته عليهم بعد إهانة عدوهم إبليس بإكرامهم و تفضيلهم بالنّعم بقوله: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ و أعلينا شأنهم كرامة و تعلية شأن شاملة لجميع أفرادهم برّهم و فاجرهم، حيث خصصناهم بأحسن الصّور، و أشرف الأرواح، و اعتدال القامة، و الأخذ باليدين، و الأكل بالأصابع، و زينة اللحى و الذوائب، و قابلية الكتابة، و التكلّم باللسان، و تعلّم الصنائع و الحرف و العلوم، و وجدان العقل المدرك للكليات، و المميّز بين الخير و الشرّ، و ملاحظة عواقب الامور، و غير ذلك من الخصائص.

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ على الحيوانات الحمولة وَ في اَلْبَحْرِ على السّفن و الزوارق وَ رَزَقْناهُمْ و أطعمناهم مِنَ أنواع النّعم اَلطَّيِّباتِ و المستلذّات ممّا يوجد بصنعهم و بغير صنعهم وَ فَضَّلْناهُمْ بالمعارف الالهية و الأخلاق النفسانية عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا في عالم الوجود، و هم ما عدا الملائكة، كما عن ابن عبّاس (1). أو ماعدا العقول المجرّدة و الأنوار الاسفهبدية (2)، أو ما عدا آدم و حواء تَفْضِيلاً عظيما ظاهرا.

عن الصادق عليه السّلام: «يقول فضلّنا بني آدم على سائر الخلق وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ يقول: على الرّطب و اليابس وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ يقول: من طيّبات الثّمار كلّها وَ فَضَّلْناهُمْ يقول: ما من دابة و لا طائر إلاّ و هي تأكل و تشرب بفمها، لا ترفع بيدها إلى فيها طعاما و لا شرابا، إلاّ ابن آدم

ص: 69


1- . تفسير الرازي 21:16.
2- . الاسفهبد: معرب كلمة (اسپهبد) فارسية، لها معان عدة، و لعلّ المراد هنا النفس الناطقة، أو القوة المتكلمة في الإنسان، كما عرّفها الفلاسفة الاشراقيون من الفرس. راجع: لغت نامة دهخدا 6:2083 و 2331.

فانّه يرفع إلى فيه بيده طعامه» (1).

عن الباقر عليه السّلام: وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ قال: «خلق كلّ شيء منكبّا غير الانسان، فانّه خلق منتصبا» (2).

و قيل: إنّ المراد ببني آدم خصوص المؤمنين (3).

القمي عنه عليه السّلام (4): «أنّ اللّه لا يكرم روح الكافر، و لكن اللّه أكرم (5)أرواح المؤمنين» إلى أن قال: «و الرزق الطيب: هو العلم» (6).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 71

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كرامة الإنسان في الدنيا ردعا لهم من الشرك، بيّن درجاتهم في الآخرة تهديدا لهم على العصيان بقوله: يَوْمَ و التقدير: اذكروا يوم القيامة فانّه يوم نَدْعُوا فيه كُلَّ أُناسٍ و امّة و أهل عصر من بني آدم الذين أكرمناهم و فضّلناهم في الدنيا و نضمّهم في الدعوة بِإِمامِهِمْ و مقتداهم و خليفته. و قيل: يعني ندعوهم باسم إمامهم (7). فيقال: يا امّة إبراهيم، و يا امّة موسى، و يا امّة عيسى، و يا امّة محمّد، و يا شيعة عليّ و المعصومين من ذرّيته.

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)عن الصادق عليه السّلام، قال: «بامامهم الذي بين أظهرهم، و هو قائم أهل زمانه» (8).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية، قال: «يجيء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قومه (9)، و عليّ عليه السّلام في قومه، و الحسن عليه السّلام في قومه، و الحسين عليه السّلام في قومه، و كلّ من مات بين أظهر (10)قوم جاءوا معه» (11).

و عنه عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول اللّه، أ لست إمام [الناس]كلهم أجمعين؟ فقال: أنّا رسول اللّه إلى الناس أجمعين، و لكن سيكون بعدي أئمة على الناس (12)من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذّبون و يظلمهم أئمة الكفر و الضلال و أشياعهم، فمن والاهم و اتّبعهم

ص: 70


1- . أمالي الطوسي:489/1072، عن زيد بن علي، عن أبيه عليه السّلام، تفسير الصافي 3:205.
2- . تفسير العياشي 3:63/2557، تفسير الصافي 3:206.
3- . تفسير روح البيان 5:185.
4- . أي عن الباقر عليه السّلام.
5- . في المصدر: و لكن يكرم.
6- . تفسير القمي 2:22، تفسير الصافي 3:206.
7- . مجمع البيان 6:663.
8- . الكافي 1:451/3، تفسير الصافي 3:206.
9- . في تفسير القمي: في فرقة، و كذا ما بعدها.
10- . في تفسير القمي: ظهراني.
11- . تفسير القمي 2:23، تفسير الصافي 3:206.
12- . زاد في تفسير العياشي و الكافي: من اللّه.

و صدّقهم فهو مني و معي و سيلقاني، ألا و من ظلمهم و كذّبهم فليس منّي و لا معي و أنا منه برئ» (1).

و عن الحسين عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «إمام دعا إلى الهدى فأجابوه إليه، و إمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، و هؤلاء في النار، و هو قوله: فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «سيدعى كلّ اناس بإمامهم، أصحاب الشمس بالشمس، و أصحاب القمر بالقمر، و أصحاب النار بالنار، و أصحاب الحجارة بالحجارة» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنتم و اللّه على دين اللّه» ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال: «عليّ إمامنا، و رسول اللّه إمامنا، و كم من إمام يجيئ يوم القيامة يلعن أصحابه و يلعنونه» (4).

و عن (المجمع) عنه عليه السّلام: «ألا تحمدون اللّه، إذا كان يوم القيامة يدعى (5)كلّ قوم إلى من يتولّونه، و فزعنا (6)إلى رسول اللّه، و فزعتم إلينا، فإلى أين ترون أن يذهب بكم؟ إلى الجنّة و ربّ الكعبة» قالها ثلاثا (7).

و قيل: إنّ المراد بالإمام الكتاب، فيدعى: يا أهل التوراة، و يا أهل الانجيل، و يا أهل القرآن (8).

و قيل: إنّ المراد بالامام هو الدّين، فيقال يا يهود، يا نصارى، يا أهل الاسلام (9).

و قيل: إنّ الامام جمع امّ، كخفاف جمع خفّ، فيقال: يابن فلانة، إجلالا لبعض الناس كعيسى و الحسنين، و سترا على أولاد الزنا (10).

عن ابن عباس و عائشة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إن اللّه يدعو الناس يوم القيامة بامهاتهم سترا منه على عباده» (11).

و على أي تقدير فَمَنْ أُوتِيَ و اعطي كِتابَهُ و صحيفة أعماله من السّعداء و الصّلحاء بِيَمِينِهِ تشريفا و تبشيرا له فَأُولئِكَ السعداء يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ مسرورين بما فيه من الحسنات وَ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقصون من أجور أعمالهم المكتوبة فيه فَتِيلاً و قدرا قليلا.

ص: 71


1- . تفسير العياشي 3:65/2564، الكافي 1:168/1، تفسير الصافي 3:206.
2- . أمالي الصدوق:217/239، تفسير الصافي 3:206، و الآية من سورة الشورى:42/7.
3- . تفسير العياشي 3:64/2561، تفسير الصافي 3:206.
4- . تفسير العياشي 3:64/2563، تفسير الصافي 3:207.
5- . في المصدر: فدعا.
6- . في المصدر: و دعانا.
7- . مجمع البيان 6:663، تفسير الصافي 3:207.
8- . تفسير الرازي 21:17، تفسير روح البيان 5:187.
9- . تفسير روح البيان 5:187.
10- . تفسير أبي السعود 5:187، تفسير روح البيان 5:187.
11- . تفسير روح البيان 5:187.

عن ابن عباس الفتيل: هو الوسخ الذي يظهر بفتل الانسان إبهامه بسبابته (1).

قيل: إنّما خصّ أصحاب اليمين بالقراءة؛ لأنّ أصحاب الشمال إذا أطّلعوا على ما في كتابهم أخذهم الحياء و الخجل و العجز عن إقامة حروف الكتاب، أو يستولى الخوف و الوحشة على قلوبهم، و يثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة، و أمّا أصحاب اليمين فهم يقرأون كتابهم على أحسن الوجوه، ثمّ لا يكتفون بقراءتهم وحدهم، بل يقولون لأهل المحشر: هاؤُمُ اِقْرَؤُا كِتابِيَهْ (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمته العظيمة على الإنسان في الدنيا و إحسانه إليه (3)في الآخرة، هدّد الكافرين لنعمه بقوله: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ النعم الجسيمة الدنيوية، أو في هذه الدنيا أَعْمى القلب عن معرفة منعمه و رؤية نعمه عليه، أو بطريق تقربّه إليه فَهُوَ فِي أمر اَلْآخِرَةِ و معرفة أحوالها و طريق السلامة فيها، أولى بأن يكون أَعْمى القلب و فاقد البصيرة.

وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)عن عكرمة، قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس، فسأله رجل عن هذه الآية، فقال: اقرأ ما قبلها، فقرأ رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ إلى قوله: تَفْضِيلاً (4)قال ابن عباس: من كان في هذه النّعم التي قد رأى و عاين أعمى، فهو في أمر الآخرة التي لم ير و لم يعاين أعمى (5). وَ أَضَلُّ سَبِيلاً.

و في نقل آخر عنه قال: من كان في الدنيا أعمى عمّا يرى من قدرة اللّه في خلق السماوات و الأرض، و البحار و الجبال، و الناس و الدوابّ، فهو عن أمر الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا، و أبعد عن تحصيل العلم به (6).

و قيل: يعني من كان في الدنيا ضالا كافرا، فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا، لأنّه في الدنيا يهتدي إلى التخلّص من أنواع الآفات، و في الآخرة لا يهتدي إلى ذلك، و في الدنيا تقبل توبته، و في الآخرة لا تقبل (7).

و قيل: يعني من كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة اللّه، فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنّة (6).

و قيل: يعني من كان في هذه الدنيا منهمكا في الشهوات، و منغمرا في ظلمات الجهل، فهو في الآخرة أعمى ليس معه شيء من أنوار معرفة اللّه، فيكون منغمرا في ظلمات شديدة و حسرة

ص: 72


1- . تفسير الرازي 21:18.
2- . تفسير الرازي 21:18، و الآية من سورة الحاقة:69/19.
3- . في النسخة: إليهم.
4- . الإسراء:17/66-70.
5- . تفسير الرازي 21:18. (6 و 7) . تفسير الرازي 21:19.
6- . تفسير الرازي 21:19.

عظيمة.

و قيل: يعني من كان في هذه الدنيا أعمى القلب، حشر يوم القيامة أعمى العين و البصر، فيقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ (1)

و عن الباقر عليه السّلام: «من لم يدلّه خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و دوران الشمس و القمر و الآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمرا أعظم منه، فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «إياك و قول الجهّال [من]أهل العمى و الضلال الذين يزعمون أنّ اللّه جلّ و تقدّس موجود في الآخرة للحساب و الثواب و العقاب، و ليس بموجود في الدنيا للطاعة و الرجاء، و لو كان في الوجود للّه عزّ و جلّ نقص و اهتضام لم يوجد في الآخرة أبدا، و لكن القوم تاهوا و عموا و صمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً يعني أعمى عن الحقائق الموجودة» (3).

و عن (الخصال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أشدّ العمى من عمي عن فضلنا و ناصبنا العداوة بلا ذنب سبق إليه منّا، إلاّ أن دعوناه إلى الحقّ، و دعاه من سوانا إلى الفتنة في الدنيا فأتاها، و نصب البراءة منّا و العداوة [لنا]» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ذلك الذي يسوّف نفسه الحجّ-يعني حجّة الاسلام-حتى يأتيه الموت» (5).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 73 الی 74

ثمّ لمّا كان من لوازم عمى القلب الاغترار بوساوس أهل الضلال، نهى المؤمنين عنه بتهديد نبيه المعصوم من كلّ زلل عليه بقوله: وَ إِنْ كادُوا و المعنى و إن الشأن أنّ المشركين قربوا لَيَفْتِنُونَكَ و يصرفونك بخدعهم و مكرهم عَنِ تبليغ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأحكام و الوعد و الوعيد لِتَفْتَرِيَ و تختلق عَلَيْنا غَيْرَهُ ممّا يلقونه إليك وَ إِذاً و اللّه لاَتَّخَذُوكَ و اختاروك لأنفسهم

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)

ص: 73


1- . تفسير الرازي 21:19، و الآية من سورة طه:20/125.
2- . التوحيد:455/6، تفسير الصافي 3:207.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:175/1، التوحيد:438/1، تفسير الصافي 3:207.
4- . الخصال:633/10، تفسير الصافي 3:207.
5- . تفسير القمي 2:24، تفسير العياشي 3:66/2570، الكافي 4:268/2، تفسير الصافي 3:207.

خَلِيلاً و صديقا مع أنّك تكون لنا حبيبا وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحقّ و عصمناك من الزلل بالملكة القدسية و تأييدك بروح القدس لَقَدْ كِدْتَ و قربت من أنّه تَرْكَنُ و تميل إِلَيْهِمْ و تعزم على موافقة مرادهم بمقتضى الطبيعة البشرية شَيْئاً قَلِيلاً و ركونا يسيرا لقوّة مقتضياته من كثرة خدعهم و شدّة احتيالهم.

عن ابن عبّاس: نزلت في وفد ثقيف، أتو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه شططا، و قالوا: متّعنا باللات سنة، و حرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها و طيرها و وحشها، فأبى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يجبهم، فكرّروا ذلك الالتماس، و قالوا: إنا نحبّ أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول و خشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا. فقل: اللّه أمرني بذلك، فأمسك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنهم، و داخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر، و قال: أما ترون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [قد]أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

و روي أنّهم جاءوا بكتابهم فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم . هذا كتاب [من]محمّد رسول اللّه إلى ثقيف لا يعشّرون و لا يحشرون. فقالوا: و لا يجبون. فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قالوا للكاتب: اكتب و لا يجبون، و الكاتب ينظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقام عمر و سلّ سيفه، و قال: أسعرتم قلب نبينا أسعر اللّه قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلّمك، إنّما نكلّم محمّدا، فنزلت (2).

و روي أنّ قريشا قالوا له: اجعل آية العذاب آية رحمة (1). حتى نؤمن بك، فنزلت (4).

و قيل: إنّ كفّار مكّة أخذوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة بمكة قبل الهجرة، فقالوا: كف يا محمّد عن ذمّ آلهتنا و شتمها، فلو كان ذلك حقّا كان فلان و فلان بهذا الأمر أحقّ منك. فوقع في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ يكفّ عن شتم آلهتهم، فنزلت (5).

و عن سعيد بن جبير أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يستلم الحجر، فمنعه قريش و قالوا: لا ندعك حتى تستلم آلهتنا، فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية، فنزلت (6).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «لمّا كان يوم الفتح، أخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصناما من المسجد، و كان منها صنم على المروة، و طلبت قريش أن يتركه، و كان صلّى اللّه عليه و آله مستحييا، فهمّ بتركه، ثمّ أمر بكسره، فنزلت» (2).

ص: 74


1- . في تفسير الرازي: اجعل آية رحمة آية عذاب، و آية عذاب آية رحمة. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 21:20.
2- . تفسير العياشي 3:68/2574، تفسير الصافي 3:208.

عن الصادق عليه السّلام: «ما عاتب اللّه نبيّه فهو يعني به من قد مضى في القرآن، مثل قوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ إلى أن قال: عنى بذلك غيره» (1).

و عن الرضا عليه السّلام، في حديث المأمون في عصمة الأنبياء حيث سأله عن قوله: عَفَا اَللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (2)قال: «هذا ممّا نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة، خاطب اللّه بذلك نبيه صلّى اللّه عليه و آله و المراد به امّته، و كذلك قوله عزّ و جلّ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (3)و قوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ الآية» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ هدّد على الركون إلى الكفار بقوله: إِذاً و اللّه لَأَذَقْناكَ عذابا يكون ضِعْفَ العذاب الذي يكون لغيرك و مثليه بهذا العمل في اَلْحَياةِ الدنيا وَ ضِعْفَ ذلك في اَلْمَماتِ لكونك أعرف الخلق بعظمة اللّه و حقوقه ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً و مدافعا عنك.

إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ اَلْحَياةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)روى الثعلبي: أنّه لمّا نزلت الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ لا تكلني إلى نفسي و لو طرفة عين» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حيل المشركين في افتتان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن تبليغ الوحي و الاضرار به في دينه، ذكر همّهم باخراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكة و الاضرار به في دنياه بقوله: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ و ليزعجونك و لينزعونك سريعا مِنَ اَلْأَرْضِ التي هي وطنك، و هي مكة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها.

قيل: إنّ أهل مكة شاوروا في إخراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منها، فاتّفق رأيهم على أن يفرطوا في إظهار عداوته و إيذائه حتى يضطرّ إلى الخروج، فنزلت (6).

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ و لا يمكثون و لا يحيون خِلافَكَ و بعد خروجك في الدنيا إِلاّ زمانا قَلِيلاً و مدّة يسيرة، و قد كان كذلك،

فانّ الذين توافقوا على إخراجه من مكة و اضطرّوه إلى المهاجرة إلى المدينة، اهلكوا ببدر بعد مدة قليلة، و ذلك الاهلاك كان سُنَّةَ اللّه و دأبه على قانون الحكمة البالغة لأجل مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا مع أعدائهم الذين أخرجوهم من بين أظهرهم وَ لا تَجِدُ يا محمّد، في شأنك و شأن مخرجيك من أعدائك لِسُنَّتِنا و عادتنا القديمة من إهلاكهم تَحْوِيلاً و تغييرا.

ص: 75


1- . تفسير العياشي 1:84/29، الكافي 2:461/14، تفسير الصافي 3:209.
2- . التوبة:9/43.
3- . الزمر:39/65.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:202/1، تفسير الصافي 3:208. (5 و 6) . تفسير روح البيان 5:190.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 78

ثمّ لمّا ذكر سبحانه منّته على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بحفظه من كيد أعدائه و فتنتهم، و وعده باهلاك مخرجيه من مكة و نصرته عليهم، أمره بالاقبال إليه و القيام بوظائف العبوديّة التي أهمّها الصلاة بقوله: أَقِمِ اَلصَّلاةَ و أدمها كما قيل لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ و زوالها عن خطّ نصف النهار إلى غسق الليل و ظلمته الشديدة الحاصلة بعد زوال الحمرة المغربية.

أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)عن جابر، قال: طعم عندي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، ثمّ خرجوا حين زالت الشمس، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هذا حين دلكت الشمس» (1).

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أتاني جبرئيل لدلوك الشمس، حين زالت الشمس، فصلى بي الظهر» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عمّا فرض اللّه من الصلاة؟ فقال: «خمس صلوات في الليل و النهار» فقيل: هل سمّاهنّ و بينهنّ في كتابه؟ فقال: «نعم، قال اللّه تعالى لنبيه: أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ و دلوكها زوالها، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سمّاهن اللّه و بينهنّ و وقتهنّ، و غسق الليل: انتصافه، ثمّ قال: وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً فهذه الخامسة» (3).

و العياشي عنهما عليهما السّلام، في هذه الآية، قال: «جمعت الصلوات كلّهن، و دلوك الشمس: زوالها، و غسق الليل: انتصافه» و قال: «إنّه ينادي مناد من السماء كلّ ليلة إذا انتصف [الليل]: من رقد عن صلاة العشاء إلى هذه الساعة فلا نامت عيناه وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ قال: صلاة الصبح. و أمّا قوله: كانَ مَشْهُوداً قال: تحضره ملائكة الليل و النهار» (4).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر، فقال: «مع طلوع الفجر، إنّ اللّه يقول: وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يعني صلاة الفجر يشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار، فاذا صلّى العبد الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرّتين؛ أثبتتها ملائكة الليل و ملائكة النهار» (5).

ص: 76


1- . تفسير الرازي 21:25.
2- . تفسير الرازي 21:25.
3- . تفسير العياشي 3:70/2578، الكافي 3:271/1، من لا يحضره الفقيه 1:124/600، التهذيب 2:241/954، تفسير الصافي 3:210.
4- . تفسير العياشي 3:72/2583، تفسير الصافي 3:210.
5- . الكافي 3:283/2، تفسير الصافي 3:210.

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ دلوك الشمس غروبها» (1). و رووه أيضا عن ابن عباس و ابن مسعود و ابن جبير (2)، و رووا عن ابن عباس: أنّ غسق الليل: دخوله بظلمته (1).

أقول: على هذين القولين يكون المراد من الصلاة صلاة المغرب، أو هي مع العشاء، و قيل: إنّ تسمية صلاة الفجر بقرآن الفجر تدلّ على استحباب إكثار تلاوة القرآن فيها (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 79

ثمّ خصّ سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بفريضة زائدة بقوله: وَ مِنَ اَللَّيْلِ و في بعض منه فَتَهَجَّدْ بالقرآن و أترك النوم مشتغلا بصلاة الليل المصحوبة أو المقرونة بِهِ و اعلم أنّ هذه الصلاة تكون فريضة نافِلَةً و زائدة على الصلوات الخمس لَكَ خاصة لا يشاركك في وجوبها أحد من امّتك.

وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن النوافل فقال: «فريضة» ففزع السامعون، فقال: «إنّما أعني صلاة الليل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنّ اللّه يقول: وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ» الخبر (3).

ثمّ حثّ نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: عَسى و يرجى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ من قبرك و يقيمك أو يعطيك مَقاماً مَحْمُوداً عند جميع الأولين و الآخرين من الأنبياء و غيرهم، و هو مقام الشفاعة. و في الدعاء المشهور: و ابعثه المقام المحمود الذي وعدته (4)، يغبطه به الأولون و الآخرون (5).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في هذه الآية: «هو المقام الذي أشفع [فيه]لأمّتي» (6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من امّتي، فيشفّعني اللّه فيهم، و اللّه لا تشفّعت فيمن آذى ذرّيتي» (7).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في أبي و أمّي (8)و أخ لي كان في الجاهلية» (9).

و عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الآية، قال: «هي الشفاعة» (10).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن شفاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة، فقال: «يلجم الناس يوم القيامة العرق،

ص: 77


1- . تفسير الرازي 21:27.
2- . تفسير الرازي 21:27، تفسير أبي السعود 5:189.
3- . التهذيب 2:242/959، تفسير الصافي 3:210.
4- . زاد في مصباح المتهجد: مقاما.
5- . مصباح المتهجد:446.
6- . روضة الواعظين:500، تفسير الصافي 3:211، تفسير الرازي 21:31.
7- . روضة الواعظين:273، تفسير الصافي 3:211.
8- . زاد في تفسيري القمي و الصافي: و عمي.
9- . تفسير القمي 2:25، تفسير الصافي 3:211.
10- . تفسير العياشي 3:78/2590، تفسير الصافي 3:211.

فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا، فيأتون آدم، فيقولون: [يا آدم]اشفع لنا عند ربّك. فيقول: إنّ لي ذنبا و خطيئة، فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردّهم إلى من يليه، و يردّهم كلّ نبي إلى من يليه حتى ينتهوا إلى عيسى، فيقول: عليكم بمحمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فيعرضون أنفسهم عليه و يسألونه فيقول: أن انطلقوا، فينطلق بهم إلى باب الجنة، و يستقبل باب الرحمن و يخرّ ساجدا، فيمكث ما شاء اللّه، فيقول اللّه: ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط، و ذلك قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (1).

و بهذا المعنى روايات كثيرة، و ادّعى بعض العامة إجماع المفسرين عليه، و ادّعى الفخر الرازي اتّفاق الناس عليه (2).

و قيل: إنّه مقام القرب من اللّه، عن حذيفة: يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلّم نفس، فأوّل مدعوّ محمد صلّى اللّه عليه و آله، فيقول: «لبيك و سعديك، و الشرّ ليس إليك، و المهدي من هديت، و عبدك بين يديك، و بك و إليك، لا ملجأ و لا منجى منك إلاّ إليك، تباركت و تعاليت سبحانك ربّ البيت» . فهذا هو المراد من قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلى آخره (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث يذكر أهل المحشر: «ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد، و هو المقام المحمود، فيثني على اللّه بما لم يثن عليه أحد من قبله، ثمّ يثني على كلّ مؤمن و مؤمنة، يبدأ بالصديقين و الشهداء ثمّ الصالحين، فيحمده أهل السماوات و الأرض، فذلك قوله عزّ و جلّ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلى آخره، فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم (2)حظّ و نصيب، و ويل لمن لم يكن له في ذلك اليوم حظّ و [لا]نصيب» (3).

أقول: لا منافاة بين الروايات، فانّ مقام القرب و المقام الذي يحمده جميع الخلق هو مقام الشفاعة، كما يشعر به قوله: «طوبى لمن كان له» إلى آخره.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 80

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره باقامة الصلاة، أمره بالتوجّة و التوسّل إليه في حفظه عن التوجه إلى غيره و عن شرّ الأعداء بقوله: وَ قُلْ حين إرادتك الدخول في الصلاة رَبِّ أَدْخِلْنِي فيها مُدْخَلَ

وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)

ص: 78


1- . تفسير القمي 2:25، تفسير الصافي 3:211. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:32.
2- . في التوحيد: المقام، و كذا التي بعدها.
3- . التوحيد:261/5، تفسير الصافي 3:211.

صِدْقٍ و إدخالا حسنا ممدوحا وَ أَخْرِجْنِي من الصلاة مُخْرَجَ صِدْقٍ و إخراجا حسنا ممدوحا وَ اِجْعَلْ لِي في دعوتي إلى دينك و عبادتك مِنْ لَدُنْكَ و برحمتك سُلْطاناً نَصِيراً و بيّنة قاهرة تغلبني بها على من خالفني.

و قيل: إنّه تعالى لمّا بشّره بالبعث للمقام المحمود، أمره بأن يسأل حسن الحال عند دخوله في القبر و خروجه منه (1).

و قيل: إنّه لمّا أخبره بتصميم المشركين بإخراجه من مكة بقوله: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ (2)أمره بالهجرة، و أن يسأله أن يجعل دخوله في المدينة و خروجه من مكة، أو دخوله في مكة بعد الهجرة و العود إليها بعد فتحها، و خروجه منها و رجوعه إلى المدينة، دخولا و خروجا مرضيا، ملقى بالكرامة، و آمنا من كلّ مكروه (3).

القمي: قال: نزلت يوم فتح مكة، لمّا أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخولها أنزل اللّه: قُلْ يا محمّد أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الآية (4).

أقول: الأقوى نزولها قبل الهجرة، و لا يبعد النزول ثانيا حين دخوله مكة و فتحها.

و قيل: إن المراد ربّ ادخلني في القيام بمهمات أداء دينك و شريعتك، و أخرجني (5)منها إخراجا لا يبقى عليّ منها تبعة و بقيّة (6).

و قيل: يعني ربّ أدخلني في بحار دلائل توحيدك و تنزيهك و تقديسك (7)، ثمّ أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفتك. (8)

أقول: لا يناسب هذا المعنى مقام خاتميته.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 81

ثمّ لمّا سأل اللّه النّصرة على الأديان الباطلة، أمره سبحانه بالاعلان بدينه الحقّ و اضمحلال الأديان الباطلة، تبشيرا باستجابة دعائه بقوله: وَ قُلْ يا محمّد، للناس و كافّة أهل الأديان الباطلة جاءَ الدين اَلْحَقُّ و ملّة التوحيد و شريعة الاسلام من جانب اللّه وَ زَهَقَ و اضمحلّ الدين اَلْباطِلُ

وَ قُلْ جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)

ص: 79


1- . تفسير الرازي 21:33، تفسير أبي السعود 5:190.
2- . الإسراء:17/76.
3- . تفسير الرازي 21:32 و 33 تفسير أبي السعود 5:190.
4- . تفسير القمي 2:26، تفسير الصافي 3:212.
5- . زاد في تفسير الرازي: منها بعد الفراغ.
6- . تفسير الرازي 21:33.
7- . في تفسير الرازي: و قدسك.
8- . تفسير الرازي 21:33.

و مذهب الشرك و البدع المخترعة بالأهواء الزائغة إِنَّ اَلْباطِلَ كائنا ما كان كانَ زَهُوقاً و مضمحلاّ.

روى الفخر الرازي و غيره من العامة عن ابن مسعود: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله دخل مكة يوم الفتح، و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما، فجعل ينكت بمخصرة كانت بيده [في]عين واحد واحد و يقول: جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ فينكبّ لوجهه حتّى ألقى جميعها، و بقي صنم خزاعة فوق الكعبة، و كان من صفر، فقال: يا علي ارم به، فصعد فرمى به فكسره (1).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة و الأصنام حول الكعبة، و كانت ثلاثمائة و ستين صنما، فجعل يطعنها (2)بمخصرة في يده و يقول: جاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً و ما يبدي و ما يعيد، فجعلت تنكبّ لوجهها» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل» (4).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 82

ثمّ لمّا أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتلاوة القرآن و التهجّد به، بيّن فضيلة القرآن و فوائده بقوله: وَ نُنَزِّلُ السور و الآيات التي مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من الأمراض الجسمانية و الروحانية، كالشكّ و الزّيغ و الأخلاق الرذيلة وَ ما هو رَحْمَةٌ و هداية و رشاد إلى العقائد الحقّة و الأخلاق الفاضلة و الأعمال المحمودة لِلْمُؤْمِنِينَ به و المتمسّكين بما فيه و العاملين بأحكامه.

وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ اَلظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً (82)عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «إنما الشّفاء في علم القرآن، لقوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لأهله لا شكّ فيه و لا مرية، و أهله أئمة الهدى» (5).

و عنه عليه السّلام: «ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاية (6)قطّ و قال بإخلاص نيّة و مسح موضع العلّة: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ اَلظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً إلاّ عوفي من تلك العلّة أية علّة كانت، و مصداق ذلك في الآية حيث يقول: شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (7).

و عنه عليه السّلام: «لا بأس بالّرقية و العوذة و النّشرة إذا كانت من القرآن، و من لم يشفه القرآن فلا شفاه اللّه،

ص: 80


1- . تفسير الرازي 21:33، تفسير روح البيان 5:194، تفسير أبي السعود 5:191.
2- . في أمالي الطوسي: يطفّها.
3- . أمالي الطوسي:336/683، تفسير الصافي 3:212.
4- . الكافي 8:287/432، تفسير الصافي 3:212.
5- . تفسير العياشي 3:79/2596، تفسير الصافي 3:213.
6- . في طب الأئمة عليهم السّلام: شكاة.
7- . طب الأئمة عليهم السّلام:28، تفسير الصافي 3:213.

و هل شيء أبلغ من هذه الأشياء من القرآن؟ ! أ ليس اللّه يقول: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» الخبر (1).

وَ لا يَزِيدُ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالشرك و الكفر به إِلاّ خَساراً و هلاكا و كفرا باصرارهم على تكذيبه و الطعن فيه.

و عن الباقر عليه السّلام: «نزل جبرئيل عليه السّلام على محمّد صلّى اللّه عليه و آله [بهذه الآية]و لا يزيد الظالمين آل محمّد حقّهم إلاّ خسارا» (2).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 83

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الظلم إنّما هو بكفران النعم بقوله: وَ إِذا أَنْعَمْنا النّعم الدنيوية من الصحّة و المال و الجاه عَلَى نوع اَلْإِنْسانِ و بني آدم أَعْرَضَ و حوّل وجهه عن الحقّ، و لم يعتن بدعوة الرسول، و لم يقبل دين اللّه وَ نَأى و تباعد من الهدى بِجانِبِهِ و نفسه، أو لوى عنه عطفه و ولاّه ظهره استكبارا و تعظّما، و امتنع عن طاعة اللّه و رسوله حبا للدنيا و غفلة عن العقبى وَ إِذا مَسَّهُ و أصابه اَلشَّرُّ من المرض و الفقر و سائر الشدائد كانَ يَؤُساً و منقطع الرجاء من رحمة اللّه جهلا بسعة كرمه و فضله، فلا يذكر اللّه و لا يقبل إليه، و لا يقبل دعوة الرسول، و لا يطيعه في حال من الأحوال، و هذا غاية من هو في الضلال، و دونه من إذا مسّه الشّر فذو دعاء عريض.

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى اَلْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)و في إسناد الإنعام إلى نفسه دون الشرّ إيذان بأنّ النعمة من فضله، دون الشرّ فانّه بذنوب الخلق، أو بأنّ الأول هو المقصود بالذات، و الثاني مقصود بالتّبع.

عن ابن عباس: أنّ المقصود بالانسان هنا الوليد بن المغيرة (3).

قال الفخر الرازي: هذا بعيد، بل المراد أنّ نوع الانسان [من]شأنه ذلك (4).

أقول: فيه أنّ المراد أنّ مورده خاص، و إن كان موضوع الحكم عاما، كما في قوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 84 الی 85

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (85)

ص: 81


1- . طب الأئمة عليهم السّلام:48، تفسير الصافي 3:213.
2- . تفسير العياشي 3:79/2597، تفسير الصافي 3:213. (3 و 4) . تفسير الرازي 21:35.
3- . الحجرات:49/6.

ثمّ بيّن سبحانه أن اختلاف النفوس ناشيء عن اختلاف طيناتهم و قلوبهم المستلزمة لاختلاف نياتهم و قصورهم بقوله: قُلْ يا محمّد كُلٌّ من المؤمن و الكافر يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ و سجيته و جبلته (1)التي اختلافها يلازم اختلاف النية و الطريقة، فاستعمل اللازم في الملزوم.

عن الصادق عليه السّلام: «النية أفضل من العمل، ألا و إن النيّة هي العمل، ثمّ تلا: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ يعني على نيّته» (2).

و عنه عليه السّلام: «إنّما خلّد أهل النار في النار، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا، و إنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبدا، فبالنيّات خلّد هؤلاء و هؤلاء» ثمّ تلا: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ (3).

و عنه عليه السّلام أنه سئل عن الصلاة في البيع و الكنائس، فقال: «صلّ فيها» قلت: اصلّي فيها و إن كانوا يصلّون فيها؟ قال: «نعم، أما تقرأ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» (4).

ثمّ بشّر سبحانه المهتدين و هدّد الضالين بقوله: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً و أصوب طريقا، و بمن هو أضلّ سبيلا و أسوء منهجا، فيجازي كلا بطريقته و سيرته،

ثمّ لمّا كان اختلاف الطينات ملازما لاختلاف الأرواح المتعلّقة بها، حكى سبحانه سؤال الناس عن الروح بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ جوهرة شريفة قدسية مخلوقة مِنْ أَمْرِ رَبِّي و قدرته في عالم الملكوت، لا مادّة لها و لا مدّة، بل هي من الابداعيات الموجودة بصرف الإرادة المعبرة عنها بلفظ (كن) كسائر المجرّدات البسيطة، و يعبّر عن عالمها بعالم الأمر و البقاء، كما يعبّر عن عالم الماديات و الأجسام بعالم الخلق و الفناء، و عليه يكون الجواب بينا و مفصلا لا إبهام فيه.

في بيان الروح

و تجرده

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الروح، فقال: «هي من قدرته من الملكوت» (5).

و عنه عليه السّلام: «مثل روح المؤمن و بدنه كجوهرة في صندوق، إذا أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق و لم يعبأ به» . و قال: «إنّ الأرواح لا تمازج البدن و لا تداخله، إنّما هي كالكلل للبدن محيطة به» (6).

أقول: أي متعلّقة به تعلّق التدبير و التصرّف.

ص: 82


1- . الجبلة: الخلقة و الطبيعة.
2- . الكافي 2:13/4، تفسير الصافي 3:214.
3- . تفسير العياشي 3:80/2600، الكافي 2:69/5، تفسير الصافي 3:214.
4- . تفسير العياشي 3:80/2599، من لا يحضره الفقيه 1:157/731، التهذيب 2:222/876، تفسير الصافي 3:214.
5- . تفسير العياشي 2:428/2324، تفسير الصافي 3:108.
6- . بصائر الدرجات:483/13، تفسير الصافي 3:108.

[في (الاحتجاج) عن الصادق عليه السّلام: «الروح لا يوصف بثقل و لا خفّة، و هي جسم رقيق ألبس قالبا كثيفا]فهي بمنزلة الريح في الزّق (1)، فاذا نفخت فيه امتلأ الزّقّ منها، فلا يزيد في وزن الزّق ولوجها، و لا ينقصه خروجها، و كذلك الروح ليس لها ثقل و لا وزن» .

قيل: افيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال: «بل هو باق إلى يوم ينفخ في الصّور، فعند ذلك تبطل الأشياء و تفنى، فلا حسّ و لا محسوس، ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها، و ذلك أربعمائة سنة يسبت (2)فيها الخلق، و ذلك بين النّفختين» .

و قال: «إنّ الروح مقيمة في مكانها؛ روح المؤمن (3)في ضياء و فسحة، و روح المسيء في ضيق و ظلمة، و البدن يصير ترابا» (4).

و عن كميل بن زياد، قال: سألت مولانا أمير المؤمنين عليا عليه السّلام، فقلت: يا أمير المؤمنين، اريد أن تعرّفني نفسي. قال: «يا كميل، و أيّ الأنفس تريد أن اعرّفك؟» قلت: يا مولاي، هل هي إلاّ نفس واحدة؟ قال: «يا كميل، إنّما هي أربعة: النامية النباتية، و الحسية الحيوانية، و الناطقة القدسية، و الكلية الالهية-إلى أن قال: -و الناطقة القدسية لها خمس قوى: فكر، و ذكر، و علم، و حلم، و نباهة، و ليس لها انبعاث، و هي أشبه الأشياء بالنفوس الفلكية، و لها خاصيتان: النزاهة و الحكمة.

و الكلية الالهية لها خمس قوى: بقاء في فناء، و نعيم في شقاء، و عزّ في ذلّ، و فقر في غناء، و صبر في بلاء، و لها خاصيتان: الرضا، و التسليم، و هذه هي التي مبدؤها من اللّه، و إليه تعود، قال اللّه: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (5)و قال تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ* اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (6)و العقل [في]وسط الكلّ» (7).

و عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الآية، سئل ما الروح؟ قال: «التي في الدوابّ و الناس» ؟ قيل: و ما هي؟ قال: «هي من الملكوت و القدرة» (8)

و قيل: إنّ المراد أن الروح و حقيقته من الأسرار الخفية التي استأثر اللّه بعلمه لا يكاد يحوم حولها عقول البشر (9).

وَ ما أُوتِيتُمْ أيها الناس مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً في جنب علم اللّه، و إن كان كثيرا بالنسبة إليكم،

ص: 83


1- . الزّقّ: وعاء من جلد يجزّ شعره و لا ينتف.
2- . سبت: نام و استراح و سكن.
3- . في المصدر: المحسن.
4- . الاحتجاج:350، تفسير الصافي 3:109.
5- . الحجر:15/29.
6- . الفجر:89/27 و 28.
7- . بحار الأنوار 61:85، تفسير الصافي 3:111.
8- . تفسير العياشي 3:81/2605، تفسير الصافي 3:214، و فيهما: من القدرة.
9- . تفسير أبي السعود 5:192.

فانّ كثيرا من الامور لا يمكنكم العلم بحقيقته و حدوده، و منها الروح، فانّه لا يعرف إلاّ بآثاره و عوارضه الخاصة به.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قال ذلك قالوا: نحن مختصّون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال: «بل نحن و أنتم لم نؤت من العلم إلاّ قليلا» فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (1)و ساعة تقول: هذا؟ ! فنزلت وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية» (2).

القمي، قال: إنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الروح، فقال: اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً قالوا: نحن خاصة؟ قال: بل النّاس [عامّة]قالوا: فكيف يجتمع هذان يا محمّد؛ تزعم أنّك لم تؤت [من]العلم إلاّ قليلا، و قد اوتيت القرآن، و أوتينا التوراة، و قد قرأت وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فأنزل اللّه: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلى آخره (3). يقول: علم اللّه أكبر من ذلك، و ما أوتيتم كثير فيكم قليل عند اللّه (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «تفسيرها في الباطن أنه لم يؤت العلم إلا اناس يسير فقال: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً منكم» .

و عن الصادق عليه السّلام-في حديث- «و وصف الذين لم يؤتوا من اللّه فوائد العلم، فوصفوا ربّهم بأدنى الأمثال، و شبّهوه بالمتشابه منهم فيما جهلوا به، فلذلك قال: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً فليس له شبه و لا مثل و لا عدل» (5).

و قيل: إنّ نظر السائلين إلى السؤال عن حقيقة الروح و قدمه و حدوثه، فأجاب عن كليهما بكون الروح خالية عن العلوم، ثمّ تحدث فيها العلوم قليلا قليلا، فلا تزال في التغيير من حال إلى حال، و من النقص إلى الكمال، و هو آية الحدوث (6).

و قيل: إن المراد بالروح هنا هو القرآن، حيث إنه تعالى سمّاه في آيات عديدة روحا، لأنّ به تحصل حياة القلوب، و هو المناسب لما قبل الآية من قوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ (7)الآية، و لما بعده من قوله: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ (8)الآية، و قوله: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ (9)الآية، فيكون المراد أنّ القرآن هل هو سحر أو كهانة أو شعر أو نازل من اللّه؟ (10)

ص: 84


1- . البقرة:2/269.
2- . تفسير الرازي 21:53، و الآية من سورة لقمان:31/27.
3- . تفسير القمي 2:166، تفسير الصافي 4:150.
4- . تفسير العياشي 3:82/2606، تفسير الصافي 3:215.
5- . التوحيد:324/1، تفسير الصافي 3:215.
6- . تفسير الرازي 21:38.
7- . الإسراء:17/82.
8- . الإسراء:17/86.
9- . الإسراء:17/88.
10- . تفسير الرازي 21:38.

في وصف الملك

المسمى بالروح

و قيل: إنّ المراد به جبرئيل (1)، و قيل: إنّ المراد به الملك الذي هو أعظم من سائر الملائكة قدرا و قوة (2).

و روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال: «هو ملك له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة، يسبّح اللّه بتلك اللغات كلّها، و يخلق اللّه من كلّ تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة» .

قال (3): و لم يخلق اللّه خلقا أعظم من الروح غير العرش، و لو شاء أن يبتلع السماوات السبع و الأرضين السبع و من فيهنّ بلقمة واحدة لفعل (4).

ثمّ اعترض الناصب عليه بوجوه لا يليق بالمؤمن العاقل نقلها و الجواب عنها.

القمي عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «خلق (5)أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو مع الأئمة، و هو من الملكوت» (6).

و عنه عليه السّلام أيضا أنّه سئل عنه فقال: «خلق عظيم، أعظم من جبرئيل و ميكائيل، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد و [هو]مع الأئمة يسدّدهم، و ليس كلّما طلب وجد» (7).

و عنهما عليهما السّلام: «إنّما الروح خلق من خلقه، له بصر و قوة و تأييد يجعله في قلوب المؤمنين و الرّسل» (8).

أقول: يحتمل أن يكون المراد بذلك الملك النفس الكلية التي تتحرّك بها المتحرّكات من الأفلاك و الملائكة و الكواكب و الحيوانات، و المراد من رؤوسها الموجودات التي تعلّق بها، و من تكلّمه باللغات الكثيرة، نطق تلك الموجودات بالتسبيح و غيره، و من كونها مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام قوة ظهورها فيهم بحيث لم يكن في غيرهم هذا الظهور و الآثار.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 86 الی 87

ثمّ لمّا ذكر سبحانه قلّه علم الناس بالنسبة إلى علمه، نبّه على أنّ هذا القليل بفضل منه تعالى و إنعامه

وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)

ص: 85


1- . تفسير الرازي 21:39.
2- . تفسير الرازي 21:39.
3- . في المصدر: قالوا.
4- . تفسير الرازي 21:39.
5- . في المصدر: ملك.
6- . تفسير القمي 2:26، الكافي 1:215/3، تفسير الصافي 3:214.
7- . تفسير العياشي 3:81/2603، الكافي 1:215/4، تفسير الصافي 3:214.
8- . تفسير العياشي 3:81/2602، تفسير الصافي 3:214.

بتوسط إنزاله القرآن، و لو شاء لسلبه عنهم بقوله: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن العظيم الذي فيه تبيان كلّ شيء و نمحوه من صدورهم و صحفهم بحيث لا يبقى منه في العالم أثر ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بعد ذهاب القرآن بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً و وليا يردّه إليك و يعيده في الصدور و الدفاتر إِلاّ رَحْمَةً كائنة مِنْ رَبِّكَ فانّها هي التي تردّه إليك، كما أنّها هي التي أبقته في حفظك و حفظ غيرك إِنَّ فَضْلَهُ و إحسانه كانَ عَلَيْكَ من بدو خلقك في العوالم إلى الآن كَبِيراً و عظيما حيث ختم بك الرسل، و أتاك بالقرآن، و أعطاك أفضل الأوصياء في الدنيا، و المقام المحمود في الآخرة.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 88

ثمّ لمّا بيّن تفضّله على النبي صلّى اللّه عليه و آله بإنزاله القرآن عليه، أمره بالتحدّي به بقوله: قُلْ يا محمّد للذين يقولون إنّه كلام البشرك و اللّه: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ و اتّفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ في الفصاحة و البلاغة، و جزالة المعنى، و بداعة الاسلوب و كثرة العلوم لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ و لا يقدرون على ترتيب مشابه وَ لَوْ فرض أنه كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ آخر منهم ظَهِيراً و معاضدا و معاونا في الاتيان بمثله مع أنّ فيهم الفصحاء و مهرة البيان و الخطباء و الشعراء.

قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)عن (العيون) عن أمير المؤمنين عليه السّلام «أنّ اللّه تعالى نزّل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب» ثمّ قال: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ الآية» (1).

و روي أن ابن أبي العوجاء و ثلاثة نفر من الدهرية (2)اتفّقوا على أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن، و كانوا بمكة، و عاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل، فلمّا حال الحول و اجتمعوا في مقام إبراهيم، قال أحدهم: إني لمّا رأيت قوله: يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي (3)الآية، كففت عن المعارضة. و قال الآخر: و كذا أنا لمّا وجدت قوله فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (4)

أيست عن المعارضة. و كانوا يسرّون ذلك، إذ مرّ عليهم الصادق عليه السّلام و قرأ عليهم قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ الآية، فبهتوا (5).

إن قيل: إنّه ظهر عجز الإنس عن الاتيان بمثله، فمن أين يعلم عجز الجنّ عنه مع احتمال أن يكون

ص: 86


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:130/26، تفسير الصافي 3:216.
2- . الدّهرية: قوم يقولون: لا ربّ و لا جنّة و لا نار، و يقولون: ما يهلكنا إلاّ الدهر.
3- . هود:11/44.
4- . يوسف:12/80.
5- . الخرائج و الجرائح 2:710/5، تفسير الصافي 3:216.

القرآن من كلام الجنّ و نظمهم، و إنّما ألقوه إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله لإضلال الناس، و إن قلنا: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخبر بعجزهم يلزم الدور.

قلنا: إنّ قاعدة اللّطف مقتضية لاظهار معارضه بنحو من الانحاء، فلمّا لم يظهر علمنا أنّهم أيضا عاجزون عن إتيان مثله و أنّه من اللّه تعالى.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 89

ثمّ وصف سبحانه القرآن بجامعية العلوم بقوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا و كرّرنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ نحو من أنحاء التحدّي، و برهان من براهين المبدأ و المعاد و صحّة النبوة و ردّ شبهات المشركين فيها، و كلّ صنف من أصناف العلوم و الأحكام و الوعد و الوعيد، و أحوال الأنبياء، و كيفية دعواهم و بيان معاجزهم، و معارضة اممهم و إصرارهم على التمرّد و العناد، و ابتلائهم بالعذاب، و ذكر الوعظ و النّصح و غيرها ممّا يحتاج إليه الناس ببيان يكون بمنزلة مَثَلٍ في الغرابة و الوقع في النفس فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ من مشركي مكة إِلاّ كُفُوراً و جحودا للحقّ و إنكارا للنعمة العظيمة من القرآن و رسالة الرسول.

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ إِلاّ كُفُوراً (89)عن الباقر عليه السّلام: «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ -بولاية علي- إِلاّ كُفُوراً» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 90 الی 93

ثمّ بيّن اللّه سبحانه كفران المشركين نعمة القرآن بعدم اكتفائهم به في الاعجاز و التماسهم المعجزات الاخر تعنّتا و لجاجا بقوله: وَ قالُوا يا محمّد لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ و لا نعترف بنبوتك أبدا حَتّى تَفْجُرَ و تخرج لَنا مِنَ هذه اَلْأَرْضِ التي نسكنها يَنْبُوعاً و عينا كثيرة الماء أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ و بستان كثير الأشجار، و كانت أشجارها مِنْ جنس نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً (93)

ص: 87


1- . تفسير العياشي 3:82/2608، الكافي 1:351/64، تفسير الصافي 3:216.

و تجري اَلْأَنْهارَ العديدة (خلالها) و فيما بين أشجارها (تفجيرا) و إجراء كثيرا أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّماءَ كَما زَعَمْتَ و مثلما توهّمت أنك نبيّ ذو معجزة، أو أن اللّه يفعل ما يشاء عَلَيْنا كِسَفاً و قطعا، أو كما قلت، أو يسقط عليهم كسفا من السماء فيقولون: سحاب مركوم أَوْ تَأْتِيَ إلينا بِاللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ قَبِيلاً و مقابلا لنا بحيث نراهم، أو فوجا كما عن ابن عباس (1)، أو ضامنا أو كفيلا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ و ذهب تسكن فيه و تخلص من الفقراء أَوْ تَرْقى و تصعد فِي معارج اَلسَّماءِ و مدارجها و نحن ننظر إليك وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ و لا نصدّق نبوتك أبدا لأجل عروجك في السماء حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا من السماء كِتاباً فيه تصديق نبوتك و نحن نَقْرَؤُهُ كي لا يبقى لنا فيه شبهة السحر.

قُلْ يا محمد، لهؤلاء المقترحين تعجبا من اقتراحهم، أو تنزيها لساحة الربوبية من أن يكون محكوما بحكمهم، أو من ما لا يفيد في إيمانهم: سُبْحانَ رَبِّي و تنزّه عمّا لا ينبغي له من إجابتكم فيما تسألونه تعنّتا و لجاجا، و إن تسألوني أن أفعل تلك الامور بقوّة نفسي و قدرتي، فأخبروني هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً عاجزا مثلكم؟ و إنّما أكون رَسُولاً و الرسول ليس فاعلا لما يشاء، و لا حاكما على اللّه، و إنّما عليه أن يأتي معجزة كافية في إثبات نبوته، و قد أتيتكم فوق ما فيه الكفاية.

عن ابن عباس: أنّ عتبة و شيبة و أبا سفيان و النّضر بن الحارث و أبا البختري و الوليد بن المغيرة و أبا جهل و عبد اللّه بن أبي امية [و امية]بن خلف و رؤساء قريش، اجتمعوا عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد فكلّموه و خاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك اجتمعوا لك ليكلّموك، فجاءهم سريعا و هو يظنّ أنّه بدا لهم في أمره بداء، و كان عليهم حريصا يحبّ رشدهم و يعزّ عليه عتبهم، حتّى جلس إليهم فقالوا: يا محمّد، إنا لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، و عبت الدين، و سفّهت الأحلام، و شتمت الآلهة، و فرّقت الجماعة، و ما بقي أمر قبيح إلاّ و قد جئته فيما بيننا و بينك، فإن كنت إنّما جئت بهذا تطلب به مالا جعلنا لك من الأموال ما تكون به أكثرنا مالا، و إن كنت إنّما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، و إن [كنت] تريد ملكا ملّكناك علينا، و إن كان هذا الرّئيّ (2)الذي يأتيك قد غلب عليك-و كانوا يسمّون التابع من الجنّ الرأي-بذلنا أموالنا في طلب الطبّ لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، و لا للشرف فيكم،

ص: 88


1- . تفسير الرازي 21:57.
2- . الرّئيّ: الجنّي يعرض للانسان و يطلعه على ما يزعم من الغيب. و يقال: به رئيّ من الجنّ: أي مسّ.

و لا للملك عليكم، و لكنّ اللّه بعثني إليكم رسولا، و أنزل عليّ كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا، فبلّغتكم رسالة ربي و نصحت لكم، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردّوه عليّ أصبر لأمر اللّه حتّى يحكم اللّه بيني و بينكم» .

قالوا: يا محمّد، فان كنت غير قابل منّا ما عرضناه، فقد علمت أنه ليس من النّاس أحد أضيق بلادا و لا أقلّ مالا و لا أشدّ عيشا منّا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت [علينا]، أو يبسط [لنا]بلادنا، و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من مضى من آبائنا، و ليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنّه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عمّا تقول أحقّ هو أم باطل، فإن فعلت ما سألناك صدّقناك و عرفنا به منزلتك عند اللّه و أنّه بعثك رسولا كما تقول.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «ما بهذا بعثت، و إنّما جئتكم من عند اللّه بما بعثني به، فقد بلّغتكم ما ارسلت به، فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردّوه أصبر لأمر اللّه» .

قالوا: فإن لم تفعل هذا، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك، و سله أن يجعل لك جنّات و كنوزا و قصورا من ذهب و فضّة، و يغنيك بها عمّن سواك، فانك تقوم في الأسواق، و تلتمس المعاش.

فقال: «ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا، و لكن اللّه بعثني بشيرا و نذيرا» .

قالوا: سله أن يسقط علينا السماء، كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل. فقال عليه السّلام: «ذلك إلى اللّه، إن شاء فعل» و قال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا باللّه و الملائكة قبيلا.

و قام عبد اللّه بن أبي امية بن المغيرة المخزومي، [و هو]ابن عاتكة بنت عبد المطلب، ابن عمّة النبي، ثمّ أسلم بعد و حسن إسلامه، فقال: لا اؤمن بك أبدا حتى تتّخذ إلى السماء سلّما و ترقى فيه، و أنا أنظر حتى تأتينا و تأتي بنسخة منشورة معك و نفر من الملائكة يشهدون لك أنّك كما تقول. فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه، و لما رأى من مباعدتهم عنه، فأنزل اللّه الآيات (1).

و عن تفسير الإمام عليه السّلام، عن أبيه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش، منهم: الوليد بن المغيرة المخزومي، و أبو البختري بن هشام، و أبو جهل بن هشام، و العاص بن وائل السّهمي، و عبد اللّه بن أبي امية المخزومي، و كان معهم جمع ممّن يليهم كثير، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب اللّه، و يؤدّي إليهم من اللّه أمره

ص: 89


1- . تفسير روح البيان 5:202، أسباب النزول للواحدي:166.

و نهيه. فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمّد، و عظم خطبه، فتعالوا نبدأ بتقريعه و تبكيته و توبيخه، و الاحتجاج عليه، و إبطال ما جاء به، ليهون خطبه على أصحابه، و يصغر قدره عندهم، و لعله ينزع عمّا هو فيه من غيّه و باطله و تمرّده و طغيانه، فإن انتهى و إلاّ عاملناه بالسيف الباتر.

قال أبو جهل: فمن الذي يلي كلامه و مجادلته؟ قال عبد اللّه بن أبي امية: أنا إلى ذلك، أفما ترضاني له قرنا حسيبا و مجادلا كفيا؟ قال أبو جهل: بلى. فأتوه بأجمعهم، فابتدأ عبد اللّه بالكلام، فقال: يا محمّد، لقد ادّعيت دعوى عظيمة، و قلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول رب العالمين، و ما ينبغي لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسولا [له]، و أنت بشر مثلنا تأكل كما نأكل و تمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا ملك الرّوم، و هذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلاّ كثير المال عظيم الخطر (1)له قصور و دور و فساطيط و خيام و عبيد و خدّام، و ربّ العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده، و لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدّقك و نشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبيا، لكان يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمّد إلاّ مسحور و لست بنبي.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هل بقي [من كلامك]شيء؟ فقال: بلى، لو أراد اللّه أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجلّ من [فيما]بيننا مالا و أحسنه حالا، فهلاّ نزل القرآن الذي تزعم أنّ اللّه أنزله عليك و بعثك به رسولا على رجل من القريتين عظيم؛ إمّا الوليد بن المغيرة بمكة، و إما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هل بقي من كلامك شيء؟ فقال: بلى، لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه، فإنّها ذات حجارة و عرة و جبال، تكسح أرضها و تحفرها و تجري فيها العيون، فإننا إلى ذلك محتاجون، أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتأكل منهما و تطعمنا، فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فانّك قلت لنا: وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ اَلسَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (2)فلعلنا نقول ذلك، و قال: أو تأتي باللّه و الملائكة قبيلا، تأتي به و بهم و هم لنا مقابلون، أو يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه و تغنينا به، فلعلنا نطغى، فأنّك قلت لنا: إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى (3).

ثمّ قال: أو ترقى في السماء، أي تصعد في السماء، و لن نؤمن لرقيك، أي لصعودك، حتى تنزل علينا كتابا نقرأه فيه: من اللّه العزيز الحكيم إلى عبد اللّه بن أبي امية المخزومي و من معه، أن آمنوا بمحمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فانه رسولي و صدّقوه في مقاله فانه من عندي، ثمّ لا أدري يا

ص: 90


1- . في المصدر: عظيم الحال.
2- . الطور:52/44.
3- . العلق:96/6 و 7.

محمّد إذا فعلت هذا كلّه أؤمن بك أم لا أؤمن بك، و لو رفعتنا إلى السماء و فتحت أبوابها و أدخلتناها لقلنا: إنّما سكّرت أبصارنا و سحرتنا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أبقي شيء من كلامك يا عبد اللّه؟ قال: أو ليس فيما أوردته عليك كفاية و بلاغ؟ ! ما بقي شيء، فقل ما بدا لك، و أفصح عن نفسك إن كانت لك حجّة، و آتنا بما سألناك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهمّ أنت السامع لكلّ صوت، و العالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل عليه وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ الآية إلى قوله: قُصُوراً (1)، و انزل عليه فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ (2)الآية، و أنزل عليه وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً (3)الآية.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما ما ذكرت من أنّي آكل الطعام، إلى أن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و أما قولك لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، إلى آخر ما قلت، فانّك اقترحت على محمّد رسول ربّ العالمين أشياء منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا على نبوته، و رسول اللّه يرتفع من أن يغتنم جهل الجاهلين و يحتجّ عليهم بما لا حجة فيه.

و منها ما لو جاءك به لكان فيه هلاكك، و إنّما يؤتى بالحجج و البراهين ليلزم عباد اللّه الايمان لا بما يهلكون به، و إنّما اقترحت هلاكك، و ربّ العالمين أرحم بعباده و أعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما يقترحون.

و منها المحال الذي لا يصحّ و لا يجوز كونه، و رسول اللّه يعرّفك ذلك، و يقطع معاذيرك، و يضيّق عليك سبيل مخالفته، و يلجئك بحجج اللّه إلى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد و لا محيص.

و منها ما قد اعترفت على نفسك أنّك فيه معاند متمرد، لا تقبل حجة، و لا تصغي إلى برهان، و من كان كذلك فداؤه عذاب النار النازل من سمائه أو في جحيمه، أو سيوف أوليائه.

و أمّا قولك يا عبد اللّه لن نؤمن لك حتى تفجر [لنا]من الأرض ينبوعا بمكة هذه، فانّها ذات أحجار و صخور و جبال تكسح أرضها و تحفرها و تجري فيها العيون، فانّنا إلى ذلك محتاجون، فانّك سألت هذا و أنت جاهل بدلائل اللّه. يا عبد اللّه، أ رأيت لو فعلت كنت من أجل ذلك نبيا، أ رأيت الطائف التي [لك]فيها بساتين، أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها و ذلّلتها و كسحتها و أجريت فيها عيونا استنبطتها؟ قال: بلى. قال: و هل لك في هذا نظراء؟ قال: بلى، قال: أفصرت بذلك أنت و هم أنبياء! قال: لا. قال: فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمّد لو فعله على نبوته، فما هو إلاّ كقولك لن نؤمن لك

ص: 91


1- . الفرقان:25/7-10.
2- . هود:11/12.
3- . الأنعام:6/8.

حتى تقوم و تمشي على الأرض، أو حتى تأكل الطعام كما ياكل الناس.

و أما قولك يا عبد اللّه: أو تكون لك جنّة من نخيل و عنب فتأكل منها و تطعمنا، فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو ليس لك و لأصحابك جنان من نخيل و عنب بالطائف تأكلون و تطعمون منها، و تفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، أفصرتم بهذا أنبياء؟ قال: لا. قال: فما بال اقتراحكم على رسول اللّه أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلّت على صدقه، بل لو تعاطاها لدلّ تعاطيه على كذبه؛ لأنّه حينئذ يحتجّ بما لا حجّة فيه، و يخدع الضعفاء عن عقولهم و أديانهم، و رسول ربّ العالمين يجلّ و يرتفع عن هذا.

ثمّ قال عليه السّلام: يا عبد اللّه، و أمّا قولك: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، فانّك قلت: وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ اَلسَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ فإنّ في سقوط السماء عليكم هلاككم و موتكم، و إنما تريد بهذا أن تهلك، و رسول رب العالمين أرحم بك من ذلك و لا يهلكك، و لكنّه يقيم عليك حجج اللّه، و ليس حجج اللّه لنبيه على حسب اقتراح عباده؛ لأنّ العباد جهّال بما يجوز من الصلاح و بما لا يجوز منه من الفساد (1)، و قد يختلف اقتراحهم و يتضادّ حتى يستحيل وقوعه، فإنّه لو كان إلى اقتراحاتهم [واقعة]لجاز أن تقترح أنت أن تسقط السماء عليكم، و يقترح غيرك أن لا تسقط السماء عليكم، بل أن ترتفع الأرض إلى السماء و تقع [السماء]عليها، و كان ذلك تضادّ و تنافي و يستحيل وقوعه، و اللّه لا يجري تدبيره على ما يلزمه المحال.

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: و هل رأيت يا عبد اللّه طبيبا كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحاتهم، و إنّما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبّه العليل أو كرهه، فأنتم المرضى و اللّه طبيبكم، فان انقدتم لدوائه شفاكم، و إن تمردّتم عليه أسقمكم، و بعد فمتى رأيت يا عبد اللّه مدّعي حقّ من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكّامهم فيما مضى بيّنة [على]دعواه على حسب اقتراح المدّعى [عليه]إذن ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى و لا حقّ، و لا كان بين ظالم و مظلوم، و لا صادق و لا كاذب فرق.

ثمّ قال: يا عبد اللّه، و أمّا قولك: أو تأت باللّه و الملائكة قبيلا يقابلوننا و نعاينهم. فانّ هذا من المحال الذي لا خفاء به، إنّ ربي عز و جل ليس كالمخلوقين يجيئ و يذهب و يتحرّك و يقابل شيئا حتى يؤتى به، فقد سألتم بهذا المحال، و إنّما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع و لا تبصر، و لا تعلم و لا تغني عنك شيئا و لا عن أحد.

يا عبد اللّه، أو ليس لك جنان و ضياع بالطائف و عقار بمكة و قوّام عليها؟ قال: بلى. قال: أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك و بين معامليك؟ قال: بسفراء، قال: أ رأيت لو قال معاملوك

ص: 92


1- . في المصدر: و بالفساد.

و أكرتك و خدمك لسفرائك: لا نصدّقكم في هذه السفارة إلاّ أن تأتونا بعبد اللّه بن أبي امية لنشاهده و نسمع ما تقولون عنه شفاها، أكنت تسوّغهم هذا، أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟ قال: لا. قال: فما الذي يجب على سفرائك؛ أ ليس عليهم أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلّهم على صدقهم؟ قال: بلى. قال: يا عبد اللّه، أ رايت سفيرك لو أنّه لمّا سمع منهم هذا، عاد إليك فقال: قم معي، فإنّهم قد اقترحوا عليّ مجيئك، أ ليس يكون هذا لك مخالفا، و تقول لهم: إنّما أنت رسول لا مشير و لا آمر؟ قال: بلى.

قال: فكيف صرت تقترح على رسول ربّ العالمين ما لا تسوّغ لأكرتك و معامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم، فكيف أردت من رسول ربّ العالمين أن يستذمّ (1)إلى ربّه بأن يأمر عليه و ينهى، و أنت لا تسوّغ مثل ذلك لرسول لك إلى أكرتك و قوّامك؟ ! هذه حجّة قاطعة لابطال جميع ما ذكرت في كلّ ما اقترحته [يا عبد اللّه].

و أمّا قولك يا عبد اللّه: أو يكون لك بيت من زخرف-و هو الذّهب-أما بلغك أن لعزيز مصر بيوتا من زخرف؟ قال: بلى. قال: أفصار بذلك نبيا؟ قال: لا. قال: فكذلك لا يوجب لمحمّد لو كان له نبوة، و محمّد لا يغتنم جهلك بحجج اللّه.

و أمّا قولك: يا عبد اللّه، أو ترقى في السماء، ثمّ قلت: و لن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه [يا عبد اللّه الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها، و إذا اعترفت على نفسك بأنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول.

ثمّ قلت: «حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه]، و من بعد ذلك لا أدري اؤمن بك أو لا أؤمن بك. فأنت يا عبد اللّه مقر بأنّك تعاند بعد حجّة اللّه عليك، فلا دواء لك إلاّ تأديبه على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية، و قد أنزل اللّه عليّ كلمة (2)جامعة لبطلان كلّ ما اقترحته.

فقال اللّه تعالى: قل يا محمّد سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً ما أبعد ربّي من أن يفعل الأشياء على قدر ما يقترحه الجهّال بما يجوز و بما لا يجوز! و هل كنت إلاّ بشرا رسولا، لا يلزمني إلاّ إقامة حجّة اللّه التي أعطاني، و ليس لي أن آمر على ربّي و لا أنهى و لا اشير، فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه، فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما أقترحوه عليه» (3).

أقول: لا شبهة في أنّ عبارة عبد اللّه من مقترحاته لم تكن عبارة الآيات؛ لأنّه لو كانت عين عبارات

ص: 93


1- . استذمّ إليه: فعل ما يذّمه عليه.
2- . في المصدر: حكمة.
3- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:501/314، الاحتجاج:29، تفسير الصافي 3:217.

الآيات لزم أنهم أتوا بمثل بعض القرآن، بل إنّما عبّر الامام عن مطالبهم بعبارات القرآن، و القول بأنّ العبارات قليلة، و القليل لا ينافي التحدّي، ضعيف غايته.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 94 الی 96

ثمّ لمّا حكى سبحانه اقتراحات البشر على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، حكى بعض شبهاتهم في نبوته بقوله: وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ من أَنْ يُؤْمِنُوا بالحقّ إِذْ جاءَهُمُ سبب اَلْهُدى و الرّشاد إليه من النبي و الكتاب، أو ما منعهم من الايمان بالرسول بعد ظهور دلائل صدقه و وفور معجزاته مانع إِلاّ أَنْ قالُوا تعجّبا و إنكارا: أَ بَعَثَ اَللّهُ بَشَراً فينا رَسُولاً إلينا مع قدرته على بعث الملك، و كونه أقرب قبولا؟

وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اَللّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)

قُلْ يا محمّد في جوابهم: لمّا كنتم بشرا لا تقدرون على رؤية الملك على صورته، و لا تستأنسون به، وجب على اللّه بمقتضى حكمته البالغة أن يبعث الرسول إليكم من البشر حتى يمكنكم مجالسته و الاستفادة منه و لَوْ كانَ فِي اَلْأَرْضِ مكان البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ على أقدامهم و لا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء، فيسمعوا من أهلها و يتعلّموا منهم ما يجب عليهم علمه، و كانوا مُطْمَئِنِّينَ و مستقرّين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ مَلَكاً ليكون رَسُولاً منّا إليهم يبلّغهم المعارف و الأحكام، و يهديهم إلى وظائف العبودية.

و قُلْ لهم: إن تريدوا الشاهد و الدليل على صدق دعواي كَفى بِاللّهِ شَهِيداً و مصدّقا لدعواي بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ حيث أظهر المعجزات القاهرات الدالة على صدقي، بحيث لم يبق لأحد مجال الشكّ فيه إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ ظواهرهم و بواطنهم خَبِيراً بَصِيراً فيجازي من صدقني و أطاعني بقلبه و لسانه و ظاهره و باطنه بأفضل الجزاء، و يعاقب من أنكرني أشدّ العقاب.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 97 الی 98

ص: 94

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ وفور الدلائل لا يوجب الايمان إلاّ مع توفيقه بقوله: وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يوفّقه لتبعية الرسول فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ بالخصوص وَ مَنْ يُضْلِلْ اللّه بسلب التوفيق منه و يخذله و يكله إلى نفسه فَلَنْ تَجِدَ يا محمّد لَهُمْ في الدنيا أَوْلِياءَ و أحبّاء مِنْ دُونِهِ تعالى يهدونهم إلى الحقّ.

وَ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)في الحديث: «إنّما أنا رسول، و ليس إليّ من الهداية شيء، و لو كانت الهداية إليّ لآمن كلّ من في الأرض، و إنّما إبليس مزيّن و ليس له من الضلالة شيء، و لو كانت الضلالة إليه لأضلّ كلّ من في الأرض، و لكن اللّه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء» (1).

ثمّ هدّد الضالين بقوله: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ماشين عَلى وُجُوهِهِمْ بدلا من أقدامهم.

عن أبي هريرة: أنّ رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله: يا نبي اللّه، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «إنّ الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام: عَلى وُجُوهِهِمْ قال: «على جباههم» (3)حال كونهم عُمْياً مكفوفي الأبصار وَ بُكْماً خرس الألسن وَ صُمًّا مسدودي الآذان، لأنّهم غضّوا أعينهم في الدنيا عن النظر في الآيات، و تصامموا عن استماع الحقّ و النّصح، و أبوا عن النّطق بما فيه رضا اللّه.

عن ابن عباس قال: لا يرون ما يسرّهم، و لا ينطقون بما يقبل منهم، و لا يستمعون ما يلذّ مسامعهم (4). نقل أنّ رجلا قال لابن عباس: أ ليس أنّه تعالى يقول: وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنّارَ (5)و قال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (6)و قال: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (7)و قال: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها (8)و قال حكاية عن الكفار: وَ اَللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (9)فثبت بهذه الآيات أنهم يرون و يسمعون و يتكلّمون، فكيف قال هاهنا: عميا و بكما و صما؟

قال ابن عباس: عميا عن النظر إلى ما جعله اللّه لأوليائه، بكما عن مخاطبه اللّه و مخاطبة الملائكة المقربين، صمّا عن سماع ثناء اللّه تعالى على أوليائه (10).

ص: 95


1- . تفسير روح البيان 5:205.
2- . تفسير الرازي 21:60، مجمع البيان 6:682، عن أنس بن مالك.
3- . تفسير العياشي 3:82/2610، تفسير الصافي 3:224.
4- . تفسير روح البيان 5:206.
5- . الكهف:18/53.
6- . الفرقان:25/12.
7- . الفرقان:25/13.
8- . النحل:16/111.
9- . الأنعام:6/23.
10- . تفسير الرازي 21:61.

و قال مقاتل: إنّه حين يقال لهم: اِخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (1)يصيرون عميا و بكما و صمّا، أمّا قبل ذلك فهم يرون و يسمعون و ينطقون (2).

و قيل: إنّهم راؤون سامعون ناطقون في الموقف، فاذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار، جعلهم اللّه عميا و بكما و صمّا (3).

و يمكن القول بأنهم حال حشرهم عمي و بكم و صمّ، ثمّ عند ظهور أهوال القيامة من ظهور لهب النار و تغيّظ جهنم و زفيرها، و عتاب اللّه لهم، يصيرون رائين سامعين ناطقين.

ثمّ يكون مَأْواهُمْ و منزلهم جَهَنَّمُ فيستقرّون فيها أبدا كُلَّما خَبَتْ و سكنت بسكون لهبها، و هو حين أكلت جلودهم و لحومهم بحيث لم يبق ما تتعلق به النار زِدْناهُمْ سَعِيراً و لهيبا بتبديل جلودهم بجلود غيرها ذلِكَ العذاب ليس بسبب التشفّي بل جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا و براهين توحيدنا و معجزات نبينا، وَ بأنهم قالُوا إنكارا للمعاد أَ إِذا متنا و كُنّا عِظاماً نخرة بالية وَ رُفاتاً و أجزاء متفرّقة أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ من القبور إلى المحشر حال كوننا مخلوقين خَلْقاً جَدِيداً و محيون حياة ثانية.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ لمّا كان منشأ استبعادهم المعاد الجهل بقدرة اللّه، أنكر عليهم ترك التفكّر فيها بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا قيل: إنّ التقدير ألم يتفكّروا، و لم يعلموا (4)أَنَّ اَللّهَ القادر اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ مع غاية عظمهما، و كون خلقهما أعجب من خلق الكفّار البتة قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ و يوجدهم ثانيا بصورتهم الاولى بعد صيرورتهم رمما و رفاتا وَ لكن جَعَلَ اللّه بحكمته البالغة لا عادته لَهُمْ و بعثه إياهم أَجَلاً معينا و وقتا محققا لا رَيْبَ للعقلاء فِيهِ أنّه آت، و هو يوم القيامة.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى اَلظّالِمُونَ إِلاّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفاقِ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ قَتُوراً (100)و قيل: إنّ المراد بالأجل وقت الموت (5)فَأَبَى اَلظّالِمُونَ و امتنع الكافرون عن الانقياد للحقّ، و لم يرضوا لأنفسهم إِلاّ كُفُوراً و نفورا عنه و جحودا به.

ص: 96


1- . المؤمنون:23/108.
2- . تفسير الرازي 21:61، تفسير روح البيان 5:206.
3- . تفسير الرازي 21:61.
4- . تفسير أبي السعود:5:197، تفسير روح البيان 5:206.
5- . تفسير البيضاوي 1:583، تفسير الصافي 3:224.

ثمّ لمّا سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله تفجير العيون لهم و تكثير أموالهم، ذمّهم سبحانه بأن كثرة الأموال لا تزيدهم إلاّ بخلا بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المقترحين عليك المنكرين للمعاد: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ على سبيل الفرض خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي و رزقه الذي يقسمه بين الموجودات إِذاً و اللّه لَأَمْسَكْتُمْ عن بذل شيء منه و بخلتم خَشْيَةَ اَلْإِنْفاقِ و مخافة النّفاد لطول أملكم، و توهّم بقائكم و خلودكم في الدنيا و غفلتكم عن الموت وَ كانَ اَلْإِنْسانُ لجهله بفنائه و توهّم دوام حاجته قَتُوراً و مبالغا في البخل و الضّنّة.

القمي في هذه الآية، قال: لو كانت الامور (1)بيد الناس، لما أعطوا شيئا مخافة الفناء (2)وَ كانَ اَلْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا (3).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 101 الی 104

ثمّ لما سأل المشركون من النبي صلّى اللّه عليه و آله معجزات عديدة اقتراحا و تعنّتا، سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و بالغ في ردّ المشركين ببيان عدم إيمان معاندي موسى مع رؤيتهم المعجزات العظيمة منه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ و معجزات قاهرات فَسْئَلْ يا محمّد في حضور المشركين بَنِي إِسْرائِيلَ عن ذلك حتى يصدّقوك، و يعلم المشركون صدق قولك بتصديقهم إياك، و شهادتهم بصحة خبرك إِذْ من المعلوم أن موسى جاءَهُمْ بتلك الآيات و هم مطّلعون عليها.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)و قيل: يعني سل مؤمني بني إسرائيل كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه لتزداد [يقينا و طمأنينة، أو ليظهر صدقك] (4)، أو المراد فقلنا لموسى اسأل من فرعون أن يرسل معك بني إسرائيل (5)، أو المراد فأسأل يا محمّد من بني إسرائيل عمّا جرى بين موسى و فرعون.

قيل: إنها صيرورة العصا ثعبانا، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الضّفادع، و الجراد، و القمّل، و الدم، و الطّمس (6).

ص: 97


1- . في المصدر: الأموال.
2- . في المصدر: النفاد.
3- . تفسير القمي 2:29، تفسير الصافي 3:224.
4- . أثبتناه من تفسير أبي السعود 5:198.
5- . تفسير روح البيان 5:208.
6- . تفسير الرازي 21:64، تفسير البيضاوي 1:583، تفسير أبي السعود 5:198، تفسير روح البيان 5:208، و قد ذكر في المتن ثمان آيات.

و عن الصادق عليه السّلام: «هي: الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و الطّوفان، و البحر، و الحجر، و العصا و يده» (1).

و عن الكاظم عليه السّلام و قد سأله يهودي عنها، فقال: «العصا، و إخراج يده من جيبه بيضاء و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و رفع الطّور، و المنّ و السّلوى آية واحدة [و فلق البحر]» (2).

روى الفخر الرازي عن صفوان بن عسال أنه قال: إنّ يهوديا قال لصاحبه: أذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فسألاه عنها، فقال: «هنّ أن لا يشركوا باللّه شيئا، و لا يسرفوا، و لا يزنوا، و لا يقتلوا، و لا يسحروا، و لا يأكلوا الرّبا، و لا يقذفوا المحصنة، و لا يولّوا الفرار يوم الزحف، و عليكم يا يهود أن لا تعدوا في السبت» . فقام اليهوديان فقبّلا يديه و رجليه، و قالوا: نشهد أنّك نبي، و لو لا نخاف القتل لاتبعناك، الخبر (3).

فلم ينفع في إيمان المعاندين، فانّه عليه السّلام لما أظهرها فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ عنادا و لجاجا و استكبارا: إِنِّي لَأَظُنُّكَ و اتخيّل يا مُوسى أنّك صرت مَسْحُوراً و مجنونا، أو مختلّ العقل بسحر السّحرة، و لذا تتكلّم بمثل هذه الكلمات.

و قيل: يعني أتوهّم أنك ذو السّحر (4)، و إنّما تفعل هذه الأفاعيل بالسّحر قالَ له موسى: و اللّه لَقَدْ عَلِمْتَ أنّه ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التي أظهرتها إِلاّ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مدبّرهما حال كونها، أو لتكون للناس بَصائِرَ و دلائل واضحّة على صدقي فيما أقول، و إنّما أنت معاند و مكابر وَ إِنِّي و اللّه لَأَظُنُّكَ و أعتقد أنّك يا فِرْعَوْنُ تصير مَثْبُوراً و هالكا،

أو تكون مصروفا من كلّ خير مطبوعا على الشرّ، أو غير بصير و ناقص العقل فَأَرادَ فرعون على حسب ظنّه الكاذب في حقّ موسى عليه السّلام و أتباعه من بني إسرائيل أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ و يزعجهم مِنَ وجه اَلْأَرْضِ بالقتل، أو يخرجهم من أرض مصر، كما أرادت قريش أن يخرجوك من مكة فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ و اتّبعه من القبط جَمِيعاً في البحر، و نجّينا موسى عليه السّلام و من معه جميعا منه.

عن الباقر عليه السّلام: «أراد فرعون أن يخرجهم من الأرض، و قد علم فرعون و قومه ما أنزل تلك الآيات إلاّ اللّه» (5).

وَ قُلْنا غب (6)إغراق فرعون و قومه و إهلاكهم مِنْ بَعْدِهِ بتوسّط موسى لِبَنِي إِسْرائِيلَ التابعين لموسى اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ التي أراد أعداءكم أن يخرجوكم منها و تعيشوا فيها برفاه و سعة

ص: 98


1- . تفسير القمي 2:29، الخصال:423/24، تفسير الصافي 3:225.
2- . قرب الإسناد:318/1228، تفسير الصافي 3:225.
3- . تفسير الرازي 21:64.
4- . تفسير روح البيان 5:208.
5- . تفسير القمي 2:29، تفسير الصافي 3:226.
6- . أي بعد.

مدّة أعماركم في الدنيا فَإِذا جاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ و وقت قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ في عرصة القيامة أنتم و أعداؤكم حال كونكم لَفِيفاً و مختلطا بعضكم ببعض، ثمّ يمتاز المؤمن من الكافر، فنحكم بينهم بما يستحقّون.

عن الباقر عليه السّلام: «لَفِيفاً يقول، جميعا» . و في رواية «أي من كلّ ناحية» (1).

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 105 الی 106

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر معجزات موسى عليه السّلام و امتناع قومه من الايمان به، بيّن عظم شأن القرآن الذي هو أعظم معجزات حبيبه بقوله: وَ بِالْحَقِّ و معه، أو بغرض إظهار الحقّ محضا أَنْزَلْناهُ عليك وَ بِالْحَقِّ و معه، أو على النبي الحقّ نَزَلَ من عندنا، و إنّ اقترح الكفّار المعاندين عليك غيره و تمرّدوا من الايمان بك، فليس عليك شيء، فانّما بعثناك وَ ما أَرْسَلْناكَ إلى الناس إِلاّ لتكون مُبَشِّراً للمؤمنين بالثواب وَ نَذِيراً للكافرين، و مخوفا لهم من العقاب وَ أنزلنا قُرْآناً عظيم الشان، و إنّما فَرَقْناهُ و جعلناه مميزا للحق عن الباطل، أو أقساما من الخبر و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و الأمثال و العبر، أو متفرّقا و متدرّجا في النزول لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّاسِ عَلى مُكْثٍ و مهل و تأنّ حتى يكون أيسر للحفظ و أعون للفهم وَ نَزَّلْناهُ عليك تَنْزِيلاً خاصا موافقا للحكمة و مناسبا للمقامات.

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105) وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106)

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 107 الی 109

ثمّ هدّد سبحانه المنكرين بقوله: قُلْ يا محمّد، للجاحدين للقرآن المقترحين عليك غيره من المعجزات: إنّ اللّه قد أتمّ عليكم بنزوله الحجّة إن شئتم آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا به لا يتفاوت في علوّ شأنه و عظم قدره و تمامية الحجّة به.

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ و المعرفة بمعنى النبوة و دلائلها (2)بقرائتهم الكتب السماوية، و تمكّنوا من التمييز بين الحقّ و الباطل، و المعجز و السحر، و بشّروا ببعثة محمّد و نزول القرآن مِنْ قَبْلِهِ و هم

ص: 99


1- . تفسير القمي 2:29، تفسير الصافي 3:226.
2- . في النسخة: و دلائله.

الخصيصون من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلاّم و ورقة بن نوفل و أضرابهما إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ هذا القرآن الذي تستهزئون به و تقولون إنّه كلام البشر و أساطير الأولين يَخِرُّونَ على الأرض لِلْأَذْقانِ و يسقطون على الوجوه حال كونهم سُجَّداً للّه تشكّرا على إنجاز وعده و إتمام نعمته

وَ يَقُولُونَ في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا و تنزّه إلهنا اللطيف بنا عن الخلف في الوعد إِنْ الشأن كانَ وَعْدُ رَبِّنا ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله في آخر الزمان، و إنزال الكتاب الذي هو أفضل الكتب عليه، أو وعده بالمعاد و الحشر للحساب كما قيل لَمَفْعُولاً و منجزا البتة و واقعا لا محالة، لاستحالة الخلف منه (1)

وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ عند استماع القرآن و هم يَبْكُونَ من خشية اللّه و مواعظه، وَ يَزِيدُهُمْ سماع القرآن خُشُوعاً و ضراعة، كما يزيدهم علما و عرفانا باللّه، و يقينا بصدق نبيه و جلالة كتابه، فاذا كان حال العلماء عند استماع القرآن و تلاوته هذا، فأيّ اعتناء بتكذيب هؤلاء السّفلة الحمقاء؟

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 110

ثمّ لمّا ذكر سبحانه خضوع العلماء و تضرّعهم إليه، بيّن كيفية الدعاء و تسميته بقوله: قُلِ يا محمّد، لمن يدعو اللّه اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ لا تفاوت بين الاسمين أَيًّا من الاسمين ما تَدْعُوا و تقولوا في دعائكم كان حسنا مرضيا عند اللّه، بل عليكم أن تخصّوه بهذين الاسمين فَلَهُ بالخصوص اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى لأنّ له الصفات العليا.

قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)روي أنّ اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لتقلّ ذكر الرحمن، و قد أكثره اللّه في التوراة، فنزلت (2).

و قيل: إنها نزلت حين سمع المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «يا اللّه، يا رحمن» فقالوا: إنّه ينهانا أن نعبد إلهين و هو يدعو إلها آخر (3).

ثمّ أنه تعالى بعد تعليم كيفية دعائه و تسميته، بيّن كيفية قراءة القرآن بقوله: وَ لا تَجْهَرْ و لا تعل بصوتك بِصَلاتِكَ و قراءتك فيها وَ لا تُخافِتْ بِها بحيث لا تسمع نفسك وَ اِبْتَغِ و اطلب في كيفية القراءة بَيْنَ ذلِكَ المذكور من النحوين سَبِيلاً و طريقة.

عن ابن عبّاس، في هذه الآية، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يرفع صوته بالقرآن (4)، فاذا سمعه المشركون

ص: 100


1- . تفسير روح البيان 5:211.
2- . تفسير روح البيان 5:212.
3- . تفسير الصافي 3:227، تفسير روح البيان 5:212.
4- . في تفسير الرازي: بالقراءة.

سبّوه و سبّوا من جاء به، فأوحى اللّه إليه وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون فيسبّوا اللّه عدوا بغير علم وَ لا تُخافِتْ بِها فلا تسمع أصحابك وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (1).

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله طاف بالليل على دور الصحابة، و كان أبو بكر يخفي صوته بالقرآن (2)في صلاته، و كان عمر يرفع صوته، فلمّا جاء النهار و جاء أبو بكر و عمر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي بكر: «لم تخفي صوتك؟» فقال: اناجي ربي، و قد علم حاجتي. و قال لعمر: «لم ترفع صوتك؟» فقال: أزجر الشيطان، و اوقظ الوسنان، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، و أمر عمر أن يخفض صوته قليلا (3).

و عنهما عليهما السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا كان بمكة جهر بصوته، فيعلم بمكانه المشركون، فكانوا يؤذونه، فأنزل اللّه الآية عند ذلك» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «نسختها فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (5).

و عن الباقر عليه السّلام، أنه قال للصادق عليه السّلام: «يا بني عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوهما. قال: و كيف ذلك يا أبه؟ قال: مثل قول: اللّه: وَ لا تَجْهَرْ الآية، و مثل قوله: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً (6)الآية» الخبر (7).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل: أعلى الامام أن يسمع من خلفه و إن كثروا؟ قال: «ليقرأ (8)وسطا» ثمّ تلا هذه الآية (9).

و قيل: إنّ المعنى و لا تجهر بصلواتك كلّها، و لا تخافت بها كلّها، و ابتغ بين ذلك سبيلا، بأن تجهر بصلاة الليل و لا تخافت بصلاة النهار (10).

و قيل: إنّ المراد بالصلاة الدعاء، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه قال في هذه الآية: «إنّما ذلك في الدعاء و المسألة، لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعيّر بها» (11).

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «الجهر بها: رفع الصوت، و المخافتة: ما لا تسمع نفسك (12)، و اقرأ ما بين ذلك» (13).

و عن الباقر عليه السّلام: «الاجهار: أن ترفع صوتك تسمعه من بعد عنك، و الاخفات أن لا تسمع [من]

ص: 101


1- . تفسير الرازي 21:70.
2- . في تفسير الرازي: بالقراءة.
3- . تفسير الرازي 21:70، تفسير روح البيان 5:213.
4- . تفسير العياشي 3:84/2617، تفسير الصافي 3:228.
5- . تفسير العياشي 2:439/2358، تفسير الصافي 3:228 و الآية من سورة الحجر:15/94.
6- . الإسراء:17/29.
7- . تفسير العياشي 3:84/2621، تفسير الصافي 3:228.
8- . في تفسير العياشي: يقرأ قراءة.
9- . تفسير العياشي 3:83/2614، تفسير الصافي 3:228.
10- . تفسير الرازي 21:70.
11- . تفسير الرازي 21:71.
12- . في تفسير القمي: بإذنك.
13- . تفسير القمي 2:30، تفسير الصافي 3:227.

معك إلاّ يسيرا» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «الجهر بها: رفع الصوت، و الاخفات: ما لم تسمع اذناك، و ما بين ذلك: قدر ما تسمع اذنيك» (2).

و عنه عليه السّلام: «المخافتة: ما دون سمعك، و الجهر: أن ترفع صوتك شديدا» (3).

و عنه عليه السّلام: «تفسيرها لا تجهر بولاية علي و ما أكرمته به حتى آمرك بذلك وَ لا تُخافِتْ بِها يعني لا تكتمها عليا، و أعلمه بما أكرمته به وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً يعني سلني أن آذن لك أن تجهر بأمر علي و بولايته، فأذن له باظهار ولايته يوم غدير خمّ» (4).

أقول: المراد بالتفسير هنا هو التأويل.

سوره 17 (الإسراء): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد تعليم كيفية الدعاء و قراءة القرآن، علّم كيفية تحميده بقوله: وَ قُلِ يا محمّد، إذا أردت تحميد ربك على نعمه و إفضاله، فاحمده بصفاته التي فيها تنزيهه عن أعظم النقائص بأن تقول: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ و لم يختر لنفسه (5)وَلَداً ذكورا أو إناثا، لأنّ إيجاد الولد من صفات الأجسام و من شؤون الحاجة، و هو تعالى خالق الاجسام و غنيّ بالذات، و فيه ردّ على اليهود القائلين بأن العزيز ابن اللّه، و على النصارى القائلين بأنّ المسيح ابن اللّه، على بني مدلج القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه.

وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)وَ لَمْ يَكُنْ في الأزل، و لا يكون إلى الأبد لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ و السلطنة في عالم الوجود، لاستلزام وجود الشريك التعدّد و التحدّد في الذات، و يمتنع التعدّد و التحدّد في واجب الوجود، و فيه ردّ على النصارى القائلين بأنّ اللّه ثالث ثلاثة، و على عبدة الكواكب و الأصنام.

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ و صديق و معاون مِنَ أجل دفع اَلذُّلِّ عن نفسه بموالاته، لأنّ له العزّة جميعا، و فيه ردّ على الصابئين القائلين بأنه لو لا أولياء اللّه لذلّ، فلمّا عرفته بكمال الذات و الصفات فعظّمه وَ كَبِّرْهُ من جميع النقائص تعظيما و تَكْبِيراً كثيرا.

ص: 102


1- . تفسير القمي 2:30، تفسير الصافي 3:227.
2- . تفسير العياشي 3:84/2619، تفسير الصافي 3:227.
3- . تفسير العياشي 3:83/2615، تفسير الصافي 3:228.
4- . تفسير العياشي 3:85/2622، تفسير الصافي 3:228.
5- . في النسخة: يختار نفسه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه أمر من قرأ هذه الآية أن يكبّر ثلاثا (1).

و عنه عليه السّلام قال رجل عنده: (اللّه أكبر) فقال: «اللّه أكبر من أيّ شيء؟» فقال: من كلّ شيء. فقال: «حدّدته» فقال الرجل: كيف أقول؟ قال: «قل اللّه أكبر من أن يوصف» (2).

و في رواية أخرى قال: «أو كان شيء فيكون أكبر منه؟» فقيل: و ما هو؟ قال: «أكبر من أن يوصف» (3).

و روى بعض العامة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية، و يسمّيها آية العزّة (4).

و عن معاذ بن جبل: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «عليكم بآية العزّة» . قيل: يا رسول اللّه، ما هي؟ قال: قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي إلى أخرها (5).

و في (الفقيه) في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: «أمان لامّتى من السّرق قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ (6)» إلى أخر السورة (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة، لم يمت حتى يدرك القائم عجّل اللّه فرجه الشريف [و يكون من أصحابه]» (8).

الحمد للّه الذي منّ عليّ بالتوفيق لاتمام تفسير سورة الاسراء المباركة و أسأله أن يديمه عليّ.

ص: 103


1- . التهذيب 2:297/1195، تفسير الصافي 3:229.
2- . الكافي 1:91/8، تفسير الصافي 3:228.
3- . الكافي 1:91/9، تفسير الصافي 3:228.
4- . تفسير البيضاوي 1:586، تفسير روح البيان 5:213.
5- . تفسير روح البيان 5:213، الجامع للقرطبي 10:345.
6- . الإسراء:17/110.
7- . من لا يحضره الفقيه 4:268/824، تفسير الصافي 3:229.
8- . ثواب الاعمال:107، تفسير الصافي 3:229.

ص: 104

في تفسير سورة الكهف

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة المبتدأة بثناء ذاته بقدرته على تكميل محمد صلّى اللّه عليه و آله و أسرائه إلى أعلى مراتب العبودية، و رفعه إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، المختومة بحمد نفسه و ثنائها بالصفات الكمالية، و نزاهته من اتخاذ الولد و الشريك و الولي، أردفها بسورة الكهف المبدوءة. بحمد ذاته المقدسة على أعظم نعمائه، و هو بعث خاتم الانبياء صلّى اللّه عليه و آله لهداية الناس و إنزال أعظم الكتب إليه المختومة بأمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بدعوة الناس إلى توحيده و تنزيهه من الشريك، و القيام بوظائف العبودية و الأعمال الصالحة، فابتدأ فيها على حسب دأبه في الكتاب العزيز بذكر اسمائه المباركة، بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ اَلَّذِينَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً (5)

ثمّ افتتحها بحمد ذاته على أعظم النّعم بقوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمّد صلّى اللّه عليه و آله، بتوسّط جبرئيل اَلْكِتابَ الّذي هو أفضل الكتب وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً و اختلالا في اللّفظ، و تناقضا في الآيات، و اختلافا في المطالب، و انحرافا عن الحقّ،

و جعله قَيِّماً و مستقيما، كما عن ابن عبّاس (1)، أو كافلا لمصالح الخلق إلى يوم القيامة.

و عن القمي، قال: هذا مقدّم و مؤخّر، لأنّ معناه: الذي أنزل على عبده الكتاب قيّما و لم يجعل له عوجا (2).

ص: 105


1- . تفسير الرازي 21:75.
2- . تفسير القمي 2:30، تفسير الصافي 3:230.

أقول: نسب الواحدي هذا القول إلى جميع المفسّرين (1).

و قيل: إنّ المقصود من قوله: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أنّه كامل في نفسه، و من قوله: قَيِّماً أنّه قائم بامور غيره و مكمّل للناس، و من المعلوم أنّ كماله في نفسه مقدّم بالطبع على مكمّليته لغيره، فالترتيب المذكورة موافق للعقل (2).

و قيل: إنّ المعنى: و لم يجعل لعبده عوجا و توجّها إلى غير ذاته المقدّسة، بل جعله مستقيما في جميع أحواله (3).

ثمّ بيّن سبحانه الغرض من إنزاله بقوله: لِيُنْذِرَ الذّين كفروا و عملوا السيّئات بَأْساً و عذابا شَدِيداً صادرا مِنْ لَدُنْهُ تعالى من عذاب الاستئصال في الدنيا، أو العقوبة بالنّار في الآخرة وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ بوحدانيّة اللّه و رسالة رسوله و صدق كتابه اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال اَلصّالِحاتِ و العبادات الخالصات لوجه اللّه أَنَّ لَهُمْ في مقابل إيمانهم و أعمالهم أَجْراً حَسَناً من الجنّة و النّعيم الدّائمة حال كونهم مقيمين في ذلك الأجر

ماكِثِينَ و باقين فِيهِ أَبَداً لا زوال له و لا نفاد له

وَ يُنْذِرَ بالخصوص، أكفر الكفرة و أجهلهم؛ و هم المشركون اَلَّذِينَ قالُوا و اعتقدوا أنّه اِتَّخَذَ اَللّهُ و اختار لنفسه وَلَداً ذكورا، كاليهود القائلين بأنّ العزيز ابن اللّه، و النّصارى القائلين بأنّ المسيح ابن اللّه، أو إناثا، كبني مدلج القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه.

و الحال أنّ القائلين بهذا القول السخيف ما لَهُمْ بِهِ أقلّ مرتبة مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ الذين قلّدوهم في ذلك، بل قالوا به بمحض الجهل، و هوى النفس، و عدم التفكّر في كونه ما لا يحتمله العاقل كَبُرَتْ و عظمت تلك المقالة من حيث كونها كَلِمَةً باطلة و مقالة فاسدة في غاية القباحة و الشّناعة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ جرأة على اللّه.

و قيل: إنّ فيه معنى التعجّب، و المراد: ما أكبرها كلمة (4)و مقالة! إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً فظيعا.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 6 الی 8

ثمّ لمّا بيّن سبحانه فضيلة القرآن، و غاية جهل المشركين و شدّة حمقهم الموجبة لتأثّر قلب

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)

ص: 106


1- . تفسير الرازي 21:75.
2- . تفسير الرازي 21:75.
3- . تفسير روح البيان 5:215.
4- . تفسير الرازي 21:78.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حزنه، سلاّه سبحانه بقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ و قاتل أو متعب نَفْسَكَ الشريفة عَلى آثارِهِمْ و مفارقتهم حين فارقوك، أو للتحسّر عليهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا القرآن الّذي هو أحسن اَلْحَدِيثِ و أفضل الكتب، لأجل أنّك تأسف أَسَفاً و تحزن حزنا شديدا.

و حاصل المراد أنّه تعالى شبّه حال نبيه صلّى اللّه عليه و آله في شفقته و رحمته على الأمّة بمن يتوقّع منه إهلاك نفسه من شدّة الحزن على مفارقة الأحبّة، فسلاّه بأنّه لا يعظم حزنك بسبب كفرهم، فإنّه ليس عليك إلاّ الإنذار و التبشير، لا إيجاد الإيمان في قلوبهم، و إنّما المقصود من إرسال الرسل، و جعل التكاليف، و الإنذار و التبشير، امتحان الخلق و تميّز النفوس الطيّبة من النفوس الخبيثة، فعامل معهم بالمداراة و الإمتحان كما نعامل معهم (1).

إِنّا جَعَلْنا و خلقنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ من المعادن، و النباتات، و الحيوانات، لأجل أن يكون زِينَةً لَها و لأهلها لِنَبْلُوَهُمْ و نمتحنهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً و أخلص عبادة، و أزهد في الدنيا، و أقنع بالكفاف منها، و أيّهم أقبح عملا، و أرغب في الدنيا، و أحرص على جمع زخارفها.

ثمّ أنّهم يكفرون و يتمرّدون، و مع ذلك لا أقطع عنهم النّعم، و أداري بهم (2)، فأنت يا محمّد أيضا دار بهم و لا تترك-لحزنك على كفرهم و لجاجهم-دعوتهم إلى الحقّ وَ إِنّا بعد انقضاء الدنيا و اللّه لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً و أرضا بلا نبات، كما عن الباقر عليه السّلام، أو خرابا، كما عن القمي (3).

و عن السجّاد عليه السّلام: «أنّ اللّه لم يحبّ زهرة الدنيا و عاجلها لأحد من أوليائه، و لم يرغّبهم فيها و في عاجل زهرتها و ظاهر بهجتها، و إنّما خلق الدنيا و أهلها ليبلوهم أيّهم أحسن عملا» (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 9

ذكر أصحاب الرقيم

ثمّ استشهد على غاية لطفه بالمؤمنين المعرضين عن الدنيا طلبا للآخرة بقصّة أصحاب الكهف فقال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ اَلْكَهْفِ و ساكني الغار الواسع في الجبل وَ اَلرَّقِيمِ قيل: هو اسم كلبهم، أو اسم قريتهم، أو جبلهم، أو الوادي الذي كان الجبل فيه، أو اللّوح الذي كتب فيه أسماؤهم و نسبهم و ترجمة أحوالهم (5).

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ اَلْكَهْفِ وَ اَلرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)و عن الصادق عليه السّلام «هم قوم فقدوا، و كتب ملك تلك الديار بأسمائهم و أسماء آبائهم و عشائرهم في

ص: 107


1- . كذا، و الظاهر: فعاملهم بالمداراة و الامتحان كما نعاملهم.
2- . كذا، و الظاهر: و أداريهم.
3- . تفسير القمي 2:31، تفسير الصافي 3:231.
4- . الكافي 8:75/29، تفسير الصافي 3:231.
5- . تفسير البيضاوي 2:4، تفسير أبي السعود 5:206، تفسير روح البيان 5:218.

صحف من رصاص» (1).

و روي أنّ أصحاب الرّقيم كانوا ثلاثة نفر غير أصحاب الكهف، خرجوا من بلدهم لحاجة فأخذهم المطر، فالتجأوا إلى غار، فلمّا دخلوا فيه سقط حجر عظيم من الجبل، فسّد باب الغار بحيث لم يمكنهم الخروج منه، فيأسوا من الحياة، فتضرّعوا إلى اللّه، فتوسّل كلّ منهم إلى عمل خالص للّه صدر منه، فشفّعوه عند اللّه فنجّاهم اللّه به (2).

و على أيّ تقدير كانُوا مِنْ آياتِنا أمرا عَجَباً لا تحسب ذلك، فإنّ واقعتهم في جنب عجائب آياتنا-من خلق السماوات و الأرض و تزيينها بالمعادن و النباتات و الحيوانات-لا عجب فيها.

القمي: يقول قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب [منه] (3).

قيل: إنّ أهل مكّة تعجبوا من قصة أصحاب الكهف فسألوا عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امتحانا، فنزلت (4).

و قيل: إنّ النّضر بن الحارث كان من شياطين قريش، و كان يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ينصب له العداوة، و كان قد قدم الحيرة و تعلّم بها أحاديث رستم و إسفنديار، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا جلس مجلسا ذكر فيه اللّه و حدّث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، و كان النّضر يخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا و اللّه-يا معشر قريش-أحسن حديثا منه، فهلمّوا فأنا احدّثكم بأحسن من حديثه؛ ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس.

ثمّ أنّ قريشا بعثوه و بعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، و قالوا لهما: سلوهم عن محمّد و صفته، فأخبروهم بقوله، فإنّهم من أهل الكتاب الأول، و عندهم [من]العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما إلى المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدّهر الأوّل، ما كان من أمرهم؟ فإنّ حديثهم عجيب. و عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبؤه؟ و سلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبيّ، و إلاّ فهو متقوّل.

فلمّا قدم النّضر و صاحبه مكّة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا و بين محمّد، و أخبروا بما قاله اليهود، فجاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سألوه. فقال رسول اللّه: «أخبركم بما شئتم غدا» و لم يستثن (5)، فانصرفوا. و مكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكّة به و قالوا: وعدنا محمّد

ص: 108


1- . تفسير العياشي 3:88/2629، تفسير الصافي 3:232.
2- . مجمع البيان 6:697.
3- . تفسير القمي 2:31، تفسير الصافي 3:231.
4- . تفسير الرازي 21:81.
5- . أي لم يقل: إن شاء اللّه تعالى.

غدا، و اليوم خمس عشرة ليلة، فشقّ ذلك عليه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ جاء جبرئيل من عند اللّه بسورة أصحاب الكهف، و فيها معاتبة اللّه إيّاه على حزنه عليهم، و خبر أولئك الفتية، و خبر الرجل الطوّاف (1).

و القمي عن الصادق عليه السّلام: «كان سبب نزول سورة كهف أنّ قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضّر بن الحارث بن كلدة، و عقبة بن أبي معيط، و العاص بن وائل السّهمي، ليتعلّموا من اليهود و النصارى مسائل يسألونها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فخرجوا إلى نجران، إلى علماء اليهود، فسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل، فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق.

ثمّ سلوه عن مسألة واحدة، فإن ادّعى علمها فهو كاذب، قالوا: و ما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزّمن الأوّل، فخرجوا و غابوا و ناموا، كم بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ و كم كان عددهم؟ و أيّ شيء كان معهم من غيرهم؟ و ما كان قصّتهم؟ و اسألوه عن موسى حين أمره اللّه تعالى أن يتّبع العالم و يتعلّم منه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما كان قصّته معه؟ و اسألوه عن طائف طاف مغرب الشّمس و مطلعها حتى بلغ سدّ يأجوج و مأجوج، من هو؟ و كيف كان قصّته؟ ثمّ أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل، و قالوا لهم: إن أجابكم بما أملينا عليكم فهو صادق، و إن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدّقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة؟ فإن ادّعى علمها فهو كاذب، فإنّ قيام الساعة لا يعلمه إلاّ اللّه تبارك و تعالى.

فرجعوا إلى مكة، و اجتمعوا إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك يدّعي أنّ خبر السماء يأتيه، و نحن نسأله عن مسائل، فإن أجابنا عنها علمنا أنّه صادق، و أن لم يخبرنا علمنا أنّه كاذب، فقال أبو طالب: سلوه عمّا بدا لكم. فسألوه عن الثلاث مسائل.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: غدا أخبركم، و لم يستثن، فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما حتى اغتمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و شكّ أصحابه الذين كانوا آمنوا به، و فرحت قريش و استزؤوا به و آذوه، و حزن أبو طالب، فلمّا كان بعد أربعين يوما نزل عليه جبرئيل بسورة الكهف.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، لقد أبطأت؟ فقال: إنّا لا نقدر أن ننزل إلاّ بإذن اللّه تعالى، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ اَلْكَهْفِ وَ اَلرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» الخبر (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 10 الی 13

إِذْ أَوَى اَلْفِتْيَةُ إِلَى اَلْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي اَلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13)

ص: 109


1- . تفسير الرازي 21:82.
2- . تفسير القمي 2:31، تفسير الصافي 3:232.

قصة أصحاب

الكهف

ثمّ حكى سبحانه قصّتهم بقوله: إِذْ أَوَى و التقدير: أذكر إذ أوى و التجأ اَلْفِتْيَةُ الذين كانوا من أشراف بلدة أفسوس (من بلاد الروم) و أبناء أشرافها بعدما أكرههم دقيانوس أو طغيانوس (ملك الروم) على الشّرك و عبادة الأصنام، فأبوا عن ذلك و هربوا منه إِلَى اَلْكَهْفِ و الغار الواسع الذي كان في جبل كان بنواحي بلدتهم يقال له: ينجلوس (1)على ما قيل (2)، فاختفوا من خوف القتل فيه، فاشتغلوا فيه بالعبادة و المناجاة فَقالُوا تضرّعا إلى اللّه: رَبَّنا أي مليك أمرنا آتِنا و أعطنا مِنْ لَدُنْكَ و من خزائن رحمتك الواسعة العامة رَحْمَةً خاصّة من المغفرة، و الأمن من الأعداء، و السلامة في الدين، و السّعة في الرّزق وَ هَيِّئْ و أصلح و أتمم لَنا بلطفك مِنْ أَمْرِنا الذي نحن فيه من هجر الوطن المألوف، و الفرار من الكفّار، و القيام لطاعتك، و الاهتمام بتحصيل رضاك رَشَداً و وصولا إلى أعلى المقاصد، من الاهتداء إليك و التقرّب لديك، فاستجبنا دعاءهم فَضَرَبْنا حجابا من النوم عَلَى آذانِهِمْ يمنعها من سماع الأصوات: فناموا جميعا فِي ذلك اَلْكَهْفِ و استراحوا فيه سِنِينَ كثيرة، كانت تعدّ عَدَداً معينا ثُمَّ بَعَثْناهُمْ و أيقظناهم من نومهم المشابه للموت لِنَعْلَمَ و نختبر أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ و الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم في النوم أَحْصى و أضبط لِما لَبِثُوا و بقوا في النوم أَمَداً و زمانا، أو غاية لزمان بعثهم.

عن ابن عبّاس: المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك، فالملوك حزب، و أصحاب الكهف حزب (3).

و قيل: الحزبان من الفتية، لأنهم اختلفوا بعد انتباههم في أنّهم كم ناموا؟ (4)

و قيل: إنّهما المسلمون، فإنّهم اختلفوا (3)في مدّة لبث أصحاب الكهف (4).

ثمّ بيّن سبحانه سبب التجائهم إلى الكهف، و سؤالهم الرشد بقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ و نبيّن لك خبر أصحاب الكهف و نَبَأَهُمْ حال كون ذلك النبأ مقرونا بِالْحَقِّ و دلائل الصدق، من إعجاز البيان، و مطابقته للكتب، أو متلبّسا بالمطابقة للواقع من غير زيادة و نقصان إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ و شبّان

ص: 110


1- . ينجلوس: اسم الجبل الذي فيه أصحاب الكهف.
2- . بحار الأنوار 14:432. (3 و 4) . تفسير الرازي 21:84.
3- . في تفسير الرازي: قال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا.
4- . تفسير الرازي 21:84.

آمَنُوا بِرَبِّهِمْ و رفضوا عبادة الأصنام، و اهتدوا إلى الحقّ بالنظر و الاستدلال وَ زِدْناهُمْ هُدىً على هدى و يقينا على يقين، و نورا في القلب على نور، و ثباتا على ثبات، برؤية آثار توحيد اللّه و قدرته، و العلم بنتائج الإيمان و حسن عاقبته.

قيل: إنّ سبب إيمانهم أنّ حواريّا من حواريي عيسى أراد أن يدخل مدينتهم، فقيل له: إنّ على بابها صنما لا يدخلها أحد إلاّ سجد له، فامتنع من خولها، و أتى حمّاما كان قريبا من المدينة، فآجر نفسه فيه، فكان يعمل فيه، فتعلّق به فتية من أهل المدينة، فجعل يخبر خبر السّماء و خبر الآخرة حتى آمنوا به و صدّقوه.

ثمّ إن ابن الملك أراد دخول الحمّام بامرأة، فنهاه الحواري فانتهره ابن الملك، فلمّا دخل مع المرأة ماتا في الحمّام، فقيل للملك: إنّ العامل في الحمّام قتله، فهرب الحواري فطلبه الملك و لم يجده، فقال: من كان يصحبه؟ فسمّوا الفتية، فهربوا إلى الكهف (1).

و قيل: إنّ دقيانوس سخّر ممالك الرّوم، ثمّ جاء إلى بلد يقال له أفسوس فاتّخذه دار سلطنته و بنى فيه مذبحا للأصنام، و أمر أهل البلد بعبادتها، و كان يقتل كلّ من تمرّد عن طاعته، و كان في المدينة ستّة شبّان كلّهم من عظماء البلد و من أولاد العظماء، و كانوا مؤمنين باللّه، فاعتزلوا عن الناس، و اشتغلوا بعبادة اللّه، و سألوا اللّه أن يحفظهم من فتنة الملك الجبّار و أن يأمنهم من شرّه، فأخبر دقيانوس بدينهم و اعتزالهم، فأمر بإحضارهم و أصرّ في انصرافهم عن التوحيد و التزامهم بعبادة الأصنام، فامتنعوا عن طاعته (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 14 الی 16

فأخبر اللّه عن تأييده لهم بقوله: وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ و ثبّتناهم على الدين و ألهمناهم الصبر، و شرحنا صدورهم للإيمان حتى اقتحموا مضايق الصبر على القتل، أو هجر الأقارب و الأهل، و تركوا

وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ فَأْوُوا إِلَى اَلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

ص: 111


1- . تفسير روح البيان 5:221.
2- . تفسير روح البيان 5:219.

الجاه و النّعم، و اجترأوا على الصدع بالحقّ من غير خوف و حذر (1)من بأس دقيانوس الجبّار إِذْ قامُوا بين يديه فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وحده لَنْ نَدْعُوَا أو لا نعبد أبدا مِنْ دُونِهِ إِلهاً و معبودا آخر، لا استقلالا و لا اشتراكا، فأمّا إن قلنا بألوهية غيره لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً و قولا متجاوزا عن حدود العقل.

قيل: إنّ دقيانوس لمّا رأى تمرّدهم أمر أن ينزع منهم الحلل و قال: أنتم شبّان ليس لكم كثير سنّ و لا تجربة، و إنّي أمهلكم أيّاما قلائل لكي تتفكّروا في صلاحكم من طاعتي و مخالفتي، فخرج الملك من البلد فاغتنم الفتية الفرصة (2)، و قالوا: هؤُلاءِ قَوْمُنَا و أهل بلدنا أعرضوا عن اللّه و اِتَّخَذُوا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ آلِهَةً و عبدوا الأصنام لفرط جهلهم و غاية ضلالهم، مع أنّ الألوهيّة لا بدّ لها من دليل قاطع، و هؤلاء القوم الذين يعبدون الأصنام لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ و لم لا يقيمون على صحّة عبادتهم حجّة واضحة؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً بنسبة الشّرك إليه.

عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: قامُوا قال: إنّهم كانوا عظماء مدينتهم، فخرجو فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم أكبر القوم: إنّي لأجد في نفسي شيئا ما أظنّ أحدا يجده. قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أنّ ربّي ربّ السماوات و الأرض (3).

و قيل: إنّهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم في الكهف (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أصحاب الكهف و الرّقيم كانوا في زمان ملك جبّار عات، و كان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام، و كانوا هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون اللّه عزّ و جلّ و وكّل الملك بباب المدينة وكلاء، و لم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بعلّة الصيد» (5).

و عنه عليه السّلام أيضا: «خرج أصحاب الكهف على غير معرفة و لا ميعاد، فلمّا صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود و المواثيق، فأخذ هذا على هذا، و هذا على هذا، ثمّ قالوا: أظهروا أمركم، فأظهروه فإذا هم على أمر واحد» (6).

و عنه: «ما بلغت تقيّة أحد تقيّة أصحاب الكهف، إنّهم كانوا يشهدون الأعياد، و يشدو الزنانير (7)، فأعطاهم اللّه أجرهم مّرتين» (8).

ص: 112


1- . في النسخة: و حذار.
2- . تفسير روح البيان 5:219.
3- . تفسير الرازي 21:97.
4- . تفسير الرازي 21:98.
5- . تفسير القمي 2:32، تفسير الصافي 3:232.
6- . تفسير العياشي 3:88/2630، تفسير الصافي 3:235.
7- . الزّنانير: جمع زنّار، و هو شيء يشدّه الذمّي على وسطه.
8- . تفسير العياشي 3:89/2633، تفسير الصافي 3:234.

و عنه عليه السّلام أنّه ذكر أصحاب الكهف فقال: «لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم!» فقيل: ما كلّفهم قومهم؟ فقال: «كلّفوهم الشّرك باللّه العظيم، فأظهروا لهم الشّرك و أسروّا الإيمان حتى جاءهم الفرج» (1).

و عنه: «أنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف: أسرّوا الإيمان و أظهروا الشّرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين» (2).

أقول: مقتضى هذه الروايات أنّهم لم يظهروا إيمانهم في بلدهم، لا عند دقيانوس و لا عند القوم، فلا بدّ من كون المراد من (قيامهم) إقدامهم على إظهار التّوحيد بعضهم لبعض.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّهم مرّوا في طريقهم براع، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، [و كان مع الرّاعي كلب]فأجابهم الكلب و خرج معهم» (3).

و روى بعض العامّة أنّ الراعي قال لهم: لا تخافوا منّي فإنّي أحبّ اللّه، فوافقهم و صاحبهم في الطّريق مع كلبه، فذهبوا حتى قربوا من جبل قريب من بلدهم يقال له ينجلوس، فقال له تمليخا كبيرهم حين أمنوا من كيد قومهم (4): وَ إِذِ فارقتم قومكم و اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ و جانبتموهم و اعتزلتم وَ ما يَعْبُدُونَ من الأصنام إِلاَّ اَللّهَ فَأْوُوا و التجأوا إِلَى اَلْكَهْفِ الذي يكون في هذا الجبل، و اتّخذوه مأوى و مسكنا، و اعبدوا ربّكم فيه يَنْشُرْ و يبسط لَكُمْ و يوسّع عليكم رَبُّكُمْ و مالك أمركم اللطيف بكم بعضا مِنْ رَحْمَتِهِ الواسعة في الدارين، وَ يُهَيِّئْ و يسهّل لَكُمْ موافقا لصلاحكم مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم عليه من الفرار بدينكم مِرفَقاً و مستراحا.

قيل: إنّهم لمّا قربوا من الجبل قال لهم الرّاعي: إنّ في هذا الجبل كهفا فأووا إليه، فتوجّهوا الى الغار، و لمّا سكنوا فيه أنطق اللّه الكلب فقال لهم بلسان فصيح: إنّي احبّ من أحبّ اللّه، فناموا أنتم و أنا أحرسكم، فسلّط اللّه عليهم النّوم فناموا (5).

قيل: إنّ دقيانوس رجع إلى بلد أفسوس بعد أيّام، فسأل عن الشّبّان فأخبروه بفرارهم، فأحضر آباءهم و كلّفهم أن يحضروا أبناءهم، فقالوا: إنّهم أخذوا أموالنا و هربوا (6).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 17

وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَّزوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ اَلْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ اَلشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اَللّهِ مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)

ص: 113


1- . تفسير العياشي 3:88/2632، تفسير الصافي 3:234.
2- . الكافي 1:373/28، تفسير الصافي 3:234.
3- . تفسير القمي 2:32، تفسير الصافي 3:233.
4- . تفسير روح البيان 5:219.
5- . تفسير روح البيان 5:219.
6- . تفسير روح البيان 5:224.

ثمّ بيّن اللّه كيفية حفظهم أحياء (1)في الغار مدّة طويلة بقوله: وَ تَرَى اَلشَّمْسَ يا محمّد لو رأيتهم إِذا طَلَعَتْ من افق المشرق تَتَزاوَرُ و تميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي يكونون فيه ذاتَ اَلْيَمِينِ و جهته من الكهف، فلا يقع عليهم شعاعها فيؤذيهم وَ إِذا غَرَبَتْ الشّمس و مالت إلى افق المغرب تراها تَقْرِضُهُمْ و تعدل من سمت رؤوسهم ذاتَ اَلشِّمالِ و جانبه من الكهف وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ و متّسع مِنْهُ، فصان اللّه أجسادهم من الفساد بعدم وصول حرّ الشّمس إليهم في حال من الأحوال، و وصول الهواء الطيّب و النّسيم إليهم.

قيل: إنّ ذلك كان لأجل أنّ باب الكهف كان في طرف الجنوب (2). و قيل: إنّه كان بقدرة اللّه و خرقه للعادة كرامة لهم (3)، و إليه أشار سبحانه بقوله: ذلِكَ الصّنع الذي صنع اللّه بهم من تزاور الشّمس و قرضها حالتي الطّلوع و الغروب مع كونهم في معرض شعاعها آية مِنْ آياتِ اَللّهِ العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى و قدرته و إكرامه المؤمنين به الموحّدين له.

ثمّ بيّن سبحانه حسن نتائج التوحيد و الإيمان ترغيبا إليه، و سوء تبعات الشّرك زجرا عنه بقوله: مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يوفّقه لقبول توحيده و معارفه فَهُوَ بالخصوص اَلْمُهْتَدِ إلى كلّ فلاح و نجاح و خير و سعادة في الدارين وَ مَنْ يُضْلِلْ عن الحقّ و يحرفه إلى الطريق الباطل بخذلانه فَلَنْ تَجِدَ يا محمّد لَهُ أبدا وَلِيًّا و ناصرا و مُرْشِداً و هاديا يهديه إلى الحقّ و طريق الصّواب. و فيه التّنبيه على أنّ إيمانهم حدوثا و بقاء بلطف اللّه و توفيقه.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أنّ اللّه تبارك و تعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته و يهدي أهل الإيمان و العمل الصالح إلى جنّته» . الخبر (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 18 الی 20

وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ اَلْيَمِينِ وَ ذاتَ اَلشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اِطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)

ص: 114


1- . في النسخة: حيّا.
2- . تفسير روح البيان 5:224.
3- . تفسير روح البيان 5:225.
4- . معاني الأخبار:20/1، التوحيد:241/1، تفسير الصافي 3:235.

ثمّ بعد بيان كيفيّة حفظهم بيّن سبحانه حالهم في الكهف بقوله: وَ تَحْسَبُهُمْ لو رأيتهم يا محمّد فيه أَيْقاظاً منتبهين لانفتاح عيونهم كأنّهم ناضرين وَ هُمْ رُقُودٌ و نيام وَ نُقَلِّبُهُمْ و نحوّل أجسادهم ذاتَ اَلْيَمِينِ و جانبه تارة وَ ذاتَ اَلشِّمالِ و ناحيته اخرى في كلّ سنة، كما قال أبو هريرة (1). أو في كلّ تسع سنين، كما عن مجاهد (2). لئلاّ تأكل الأرض لحومهم و لا تبليهم، كما عن ابن عباس (3). وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ و مفترش ذِراعَيْهِ و يديه بِالْوَصِيدِ و فناء الكهف، أو بابه كأنّه يحرسهم.

قد سبق القول بأنّه كلب الرّاعي، و قيل: إنّه كلب صيدهم (4)، و قيل: إنّه كلب نبح عليهم في الطريق فطردوه مرارا، فقال لهم الكلب: لا تخشوا منّي فإنّي احبّ أحبّاء اللّه، فناموا حتى أحرسكم. (5)و روى بعض العامة أنّه كان أسدا (1).

عن الصادق عليه السّلام: «لا يدخل الجنّة من البهائم إلاّ ثلاثة: حمار بلعم بن باعورا، و ذئب يوسف، و كلب أصحاب الكهف» (2).

و روى بعض العامّة أنّه يدخل مع المؤمنين في الجنّة عشرة من الحيوانات: ناقة صالح، و عجل إبراهيم، و كبش إسماعيل، و بقرة موسى، و حوت يونس، و حمار عزير، و نملة سليمان، و هدهد بلقيس، و كلب أصحاب الكهف، و ناقة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فكلّهم يصيرون على صورة كبش و يدخلون الجنّة (8).

و روى الثعلبي أنّ من سلّم على نوح كلّ يوم و ليلة أمن من لدغ العقرب، و من كتب: وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ و جعله معه، أمن من ضرر الكلب (9).

ثمّ بيّن سبحانه هيبتهم الحافظة لهم بقوله: لَوِ اِطَّلَعْتَ يا محمّد و أشرفت عَلَيْهِمْ بالمعاينة لَوَلَّيْتَ و فررت مِنْهُمْ فِراراً من هيبة صورتهم وَ لَمُلِئْتَ و امتلأ صدرك مِنْهُمْ رُعْباً و خوفا، لطول شعورهم و أظفارهم، و فتح أعينهم كاليقظان الذي يريد أن يتكلّم، كما قيل (3).

ص: 115


1- . تفسير روح البيان 5:226.
2- . تفسير القمي 2:33، تفسير الصافي 3:233. (8 و 9) . تفسير روح البيان 5:226.
3- . تفسير الرازي 21:101، تفسير روح البيان 5:227.

نقل أنّ معاويّة مرّ بالكهف فقال: لو كشف عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عبّاس له: ليس لك ذلك، قد منع اللّه من هو خير منك. فقال: لَوِ اِطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ الآية، فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم. فبعث أناسا و قال لهم: اذهبوا فانظروا، فلمّا دخلوا الكهف جاءت ريح فأخرجتهم (1).

ثمّ قيل: إنّه مات دقيانوس و انقضى ملكه، و تعاقبت ملوك كثيرة بعده إلى أن وصل الملك إلى رجل يقال له تندروس، و كان مؤمنا صالحا، و اختلف أهل مملكته في صحة الحشر، و أنكره أكثرهم، كلّما نصحهم الملك لم يقبلوا. فأراد اللّه أن يقيم لهم دليلا على الحشر، فايقظ أصحاب الكهف (2).

فحكى اللّه سبحانه ذلك لأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله تأكيدا للحجّة عليهم بقوله: وَ كَذلِكَ الإنامة لأصحاب الكهف في المدّة الطويلة، مع حفظ أجساهدهم و ثيابهم من البلى بَعَثْناهُمْ و أيقظناهم من نومهم لِيَتَسائَلُوا فيما بَيْنَهُمْ و كان تساؤلهم أن قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ و هو رئيسهم يقال له مكشلينا أو مكسلمينا، أو تمليخا، كما عن ابن عباس (3)للفتية لما رأى من طول شعورهم و أظفارهم: كَمْ لَبِثْتُمْ في النوم يا أصحابي؟ فأجاب الآخرون و قالُوا نظرا إلى أنّ دخولهم في الكهف كان أوّل النّهار و حسبانهم الوقت آخره: لَبِثْنا يَوْماً فلمّا رأوا أنّ الشمس لم تغرب بعد قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ و قيل: إنّهم انتبهوا حين ارتفاع الشمس فقالوا: إن نمنا أمس كانت مدّة نومنا يوما، و إن نمنا في اليوم كانت مدّته بعض يوم، فلمّا رأى بعضهم أمارات طول المدّة، من طول الشعر و الأظفار و لا يمكنهم تعيينها (4)قالُوا أعرضوا عن البحث رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ و اشتغلوا بما يهمّكم، فإن تريدون قوت اليوم فَابْعَثُوا و أرسلوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ و الفضّة المضروبة هذِهِ التي عندكم إِلَى اَلْمَدِينَةِ التي كنّا فيها فَلْيَنْظُرْ المبعوث في أهل المدينة من بائعي الطّعام أَيُّها و من يكون فيها أَزْكى و أطيب و أجلّ طَعاماً و مأكولا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ و قوت تقومون به مِنْهُ.

قيل: كان في زمان كون الفتية في المدينة جماعة مؤمنون يكتمون إيمانهم، و كانت ذبيحتهم محلّلة (5)، و كان غرضهم الشراء منهم.

وَ لْيَتَلَطَّفْ و ليبالغ في الاختفاء و عدم التعرّف، من حين الدخول في المدينة إلى الخروج منها وَ لا يُشْعِرَنَّ البتة بِكُمْ ذلك المبعوث أَحَداً من أهل المدينة؛ لأنّه إن عرفكم واحد منهم شاع خبركم فيها.

ص: 116


1- . تفسير البيضاوي 2:7، تفسير روح البيان 5:227، و فيهما: ريح فأحرقتهم.
2- . تفسير روح البيان 5:228.
3- . تفسير الرازي 21:103، و فيه: يمليخا.
4- . تفسير البيضاوي 2:7.
5- . تفسير روح البيان 5:229.

ثمّ حكى سبحانه مبالغتهم في الاختفاء بذكر علّته بقوله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا و يطّلعوا عَلَيْكُمْ و يظفروا بكم يَرْجُمُوكُمْ و يقتلوكم بالرّمي بالأحجار إن ثبتّم على دينكم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ من عبادة الأصنام، و يدخلوكم فيها إن لم توطّنوا أنفسكم على القتل وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً لا في الدنيا و لا في الآخرة. فإنّ الإجابة الظّاهريّة قد تؤدّى إلى الإجابة الحقيقيّة الواقعيّة.

ثمّ قيل: إنّهم بعثوا تمليخا-و كان له كمال عقل و فطانة-إلى المدينة، فلمّا وصل إليها رأى بابها متغيّرا، فلمّا دخلها رأى أسواقها و سككها و أوضاع أهلها على غير النحو الذي رآها سابقا، فغلبت الحيرة عليه، فجاء إلى دكّة الخبّاز فأعطاه درهما ليشتري به الخبز، و كان عليه اسم دقيانوس أو صورته، فتخيّل أنّه وجد كنزا فأراه أهل السوق، فانتشر الخبر فيه حتى اتّصل الخبر بحاكم المدينة، فطلب تمليخا و هدّده و قال: جئني ببقيّة الكنز، فقال تمليخا: إنّا ما وجدنا كنزا، إنّما أخذت هذا الدّرهم من دار أبي بالأمس، و جئت اليوم لأشتري به من السوق طعاما. فسألوه عن اسم أبيه و حليته فأخبرهم، فلم يعرفه أحد فكذّبوه، فأخذته الدهشة. فقال: أذهبوا بي إلى دقيانوس الملك. فإنّه عارف بي و بأبي فاستهزءوا به (1)و قالوا: إنّ دقيانوس مات قريبا من ثلاثمائة سنة، فقال تمليخا: أنا و جماعة من أصحابي فررنا منه بالأمس إلى جبل قريب من هذا البلد، و اليوم بعثني أصحابي لأشتري لهم الطعام، لا أعلم غير هذا الذي أقول.

فذهب الحاكم به إلى الملك، فاستخبره الحال، فأخبره تمليخا بمثل ما أخبر به غيره، فتوجّه الملك و أشراف البلد مع تمليخا إلى الغار، فتقدّمهم تمليخا، و أخبر أصحابه بالقضيّة، فلمّا وصل الملك إلى الكهف رأى لوحا منصوبا على بابه، مكتوب فيه أسامي أصحاب الكهف و قصّتهم، فقرءوه و أطّلعوا على أحوالهم (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 21

ثمّ بيّن سبحانه علّة إطّلاع النّاس عليهم بقوله: وَ كَذلِكَ الإنامة، و البعث الدالّين على كمال قدرتنا و حكمتنا أَعْثَرْنا النّاس و اطّلعناهم عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا بتلك الإنامة و البعث أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالإحياء بعد الموت للحساب حَقٌّ و صدق، لا خلف فيه لوقوع نظيره في الفتية وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ

وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا اِبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ اَلَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)

ص: 117


1- . في النسخة: فاستهزؤه.
2- . تفسير روح البيان 5:230.

و القيامة آتية لا رَيْبَ فِيها و لا مجال للشّك في وقوعها، اذكر يا محمّد إِذْ الناس يَتَنازَعُونَ فيما بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ و في تدبير إخفاء مكانهم فَقالُوا اِبْنُوا عَلَيْهِمْ و على باب كهفهم بُنْياناً و جدارا يمنع من تطرّق الناس إليهم، و من إطّلاع النّاس على مكانهم رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ و بشأنهم، لا حاجة إلى إطّلاع الغير بمكانهم.

و قيل: إنّ الكفار قالوا: إنّهم منّا فابنوا عليهم صومعة (1). ثمّ قال سبحانه: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ منهم، فتكون الجملة معترضة.

قالَ الملك و المؤمنون اَلَّذِينَ غَلَبُوا و اطّلعوا عَلى أَمْرِهِمْ و حالهم: و اللّه لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ و نبنينّ على باب كهفهم مَسْجِداً يصلّي فيه المسلمون، و يتبرّكون بمكانهم. و قيل: إنّ كلمة (إذ) متعلّقة بأعثرنا، و المعنى: أعثرنا عليهم حين يتنازعون في أمر البعث (2).

روي أنّ ملك ذلك الوقت كان ينكر البعث إلاّ أنّه مع كفره كان منصفا، فجعل اللّه أمر الفتية دليلا للملك (3). و قيل: بل اختلفت الأمّة في ذلك الزمان، فقال بعضهم: الجسد و الروح يبعثان، و قال آخرون: الروح تبعث، و أمّا الجسد فتأكله الأرض (4).

و روي أنّ قوم تندروس لمّا اختلفوا في البعث مقرّين و جاحدين، دخل الملك بيته و أغلق بابه، و لبس مسحا (1)، و جلس على رماد، و سأل ربّه أن يظهر الحقّ، فألقى اللّه في قلب رجل من الرّعاة، فهدّ السدّ الذي بناه دقيانوس على باب الكهف لإهلاك الفتية ليتّخذ حظيرة لغنمه، فعند ذلك بعثهم اللّه تعالى. فلمّا انتشر خبرهم و اطّلع عليهم الملك و أهل المدينة مسلمهم و كافرهم، كلّموهم و حمدوا اللّه على الآية الدالّة على البعث.

ثم قالت الفتية للملك: نستودعك اللّه و نعيذك به من شرّ الجن و الإنس، ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا و ماتوا، فألقى الملك عليهم ثيابه، و أمر فجعل لكلّ واحد تابوتا من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذّهب فجعلها من الساج، و بنى على باب الكهف مسجدا (2).

و قيل: إنّهم كانوا يتنازعون في أنّ أصحاب الكهف ماتوا بعد العود إلى الكهف، أو ناموا كنومهم السابق؟ (3)و قيل: يتنازعون في أنّهم على أيّ دين؟ قال الكفّار: إنّهم كانوا على ديننا، فنبني عليهم بنيانا، و قال المؤمنون: إنّهم على ديننا و نتّخذ عليهم مسجدا. و قيل: إنّ التنازع كان في مدّة لبثهم. و قيل: في عددهم، و أسمائهم، و أحوالهم، و مدّة لبثهم، فلمّا لم يهتدوا إلى شيء منه قالوا: ربّهم أعلم بهم. و قيل:

ص: 118


1- . المسح: الكساء من شعر.
2- . تفسير روح البيان 5:232.
3- . تفسير الرازي 21:105.

إنّ هذا اعتراض و كلام من اللّه، ردّا للخائضين في حديثهم (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 22

ثمّ حكى سبحانه التنازع في عددهم بقوله: سَيَقُولُونَ إنّ أصحاب الكهف عددهم ثَلاثَةٌ لا أزيد و رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ و ظاهر الآية أنّ هذا التنازع كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما روي أنّ السيّد و العاقب و أصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيّد- و كان يعقوبيّا-: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، و قال العاقب-و كان نسطوريّا-: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، و قال المسلمون: كانوا سبعة و ثامنهم كلبهم (2)، فنزل: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ و هذان القولان يكونان رَجْماً بِالْغَيْبِ و رميا بما يخفى على الناس، و كلاما من غير دليل، أو ظنّا به وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)قيل: في تعقيب القولين الأوّلين بقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ دلالة على أنّ القول الثالث ليس كذلك (1).

و قيل: إنّ ذكر الواو هنا دالّ على إثبات هذا القول و تصحيحه (2).

عن ابن عباس قال: حين وقعت الواو انقطعت العدّة، يعني لم يبق بعدها عدّة عادّ يعتدّ بها، و ثبت أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم قطعا و جزما (3).

قُلْ يا محمّد تحقيقا للحقّ و ردّا على القولين الأوّلين: رَبِّي أَعْلَمُ من أهل الكتاب، من اليهود و النصارى بِعِدَّتِهِمْ و عددهم، و بعده تعالى ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ من النّاس كالنبيّ و الوصيّ و الذين وفّقهم اللّه للاستشهاد بالقرائن على الحقّ. قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل (4).

روى الفخر الرازي و بعض العامة عن علي عليه السّلام: «أنّهم سبعة نفر و أسماؤهم هذا: يمليخا، و مكسلمينا، و مسلثينا، و هؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك، و كان عن يساره مرنوس، و دبرنوس، و سادنوس، و كان الملك يستشير هؤلاء الستّة في مهمّاته، و السابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم، و اسمه كفشططيوش أو كفيشيططيوش، و اسم كلبهم قطمير (5).

ص: 119


1- . تفسير الرازي 21:106.
2- . تفسير الرازي 21:106.
3- . جوامع الجامع:264، تفسير روح البيان 5:233.
4- . جوامع الجامع:264، تفسير الرازي 21:106، تفسير روح البيان 5:233.
5- . تفسير الرازي 21:106، تفسير أبي السعود 5:216، تفسير روح البيان 5:233.

و عن (المجمع) : أسماؤهم: مكسلمينا، تمليخا، و مرطولس، و نينونس، و سارينونس، و دربرنس، و كشوطبنونس (1).

و قيل: مكشلينا، و تمليخا، و مثلنيا، و دبرنوش، و مرنوش، و شادنوش، و مرطونس (2).

و قيل: مكشلينا، و نملسا، و تمليخا، و مرطونس، أوبسوطولس، و نيورس أوبسرطوس، و بكريوس، و بطيوس (3).

عن ابن عبّاس: أنّ أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب، و الهرب، و إطفاء الحريق، تكتب في خرقة و يرمى بها في وسط النار، و لبكاء الطفل تكتب و توضع تحت رأسه في المهد، و للحرث تكتب في قرطاس و ترفع على خشب منصوب في وسط الزرع، و للضربان و للحمّى المثلّثة (2)، و الصّداع، و الغنى، و الجاه، و الدخول على السلاطين تشدّ على الفخذ اليمنى، و لعسر الولادة تشدّ على الفخذ اليسرى، و لحفظ المال، و الركوب في البحر، و النجاة من القتل (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه يخرج مع القائم عليه السّلام من ظهر الكعبة سبعة و عشرون رجلا، خمسة عشر من قوم موسى الذين كانوا يهدون بالحقّ و به يعدلون، و سبعة من أهل الكهف، و يوشع بن نون، و سلمان، و أبو دجانة الأنصاري، و المقداد، و مالك الاشتر، فيكونون بين يديه أنصارا و حكّاما» (4).

ثمّ لمّا أخبر اللّه نبيّه بعدد أصحاب الكهف، نهاه عن مناظرة أهل الكتاب فيهم بقوله: فَلا تُمارِ و لا تجادل يا محمّد أهل الكتاب فِيهِمْ و في شأنهم إِلاّ مِراءً و جدالا ظاهِراً غير متعمّق فيه، بأن تخبرهم بما اوحي إليك من غير تجهيل لهم و الردّ عليهم، لظهور جهلهم به، فإنّ الجدال مع وضوح بطلان قول الخصم مناف لمكارم الأخلاق وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ و لا تسأل شأنهم مِنْهُمْ و من غيرهم من الخائضين فيه أَحَداً بعد ما علّمك اللّه أحوالهم بالوحي، فلا حاجة لك إلى الاستفتاء و السؤال، خصوصا مع جهل غيرك.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 23 الی 26

وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ اِزْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)

ص: 120


1- . مجمع البيان 6:710. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:233.
2- . التي تعاود المريض كل ثلاثة أيام مرّة.
3- . تفسير روح البيان 5:233.
4- . روضة الواعظين:266، تفسير الصافي 3:237.

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بنهيه عن المجادله و السؤال، نهاه عن الاعتماد على نفسه في الامور المستلزمة لأمره بالاعتماد على مشيئته تعالى بقوله: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ من الأشياء و أمر من الامور إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً اعتمادا على استقلالك في فعله في حال من الأحوال إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ ذلك الشّيء و الأمر. و عن الصادق عليه السّلام قال: «ما لم ينقطع الكلام» . (1)

و قد مرّت رواية العامة و الخاصة في أنّه احتبس الوحي عنه صلّى اللّه عليه و آله لعدم تعليقه الوعد بالجواب على مشيئة اللّه (2). تفسير العياشي 3:90/2639، تفسير الصافي 3:239.(3).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاه ناس من اليهود فسألوه عن أشياء فقال لهم: تعالوا غدا احدّثكم، و لم يستثن، فاحتبس جبرئيل أربعين يوما، ثمّ أتاه فقال: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ الآية» (4).

ثمّ أمره اللّه بذكره بقوله: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ بقول: إن شاء اللّه إِذا نَسِيتَ و تركت ذكره. و في رواية عن الصادق عليه السّلام قال: «ذلك في اليمين، إذ قلت و اللّه لأفعل كذا، فإذا ذكرت أنّك لم تستثن فقل: إن شاء اللّه» (5).

و عنه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الاستثناء في اليمين متى ما ذكر، و إن كان بعد أربعين صباحا، ثمّ تلا هذه الآية» (6).

و عنه عليه السّلام: «للعبد أن يستثن ما بينه و بين أربعين يوما إذا نسي» (7).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-قال: «و قد قال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله في الكتاب: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ أن لا أفعله، فان سبقت (8)مشيئة اللّه في أن لا افعله فلا أقدر على أن أفعله، فلذلك قال عزّ و جلّ: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أي استثن مشيئة اللّه في فعلك» (9).

و عنه عليه السّلام: «إنّ آدم لمّا أسكنه اللّه الجنّه فقال له: يا آدم. لا تقرب هذه الشجرة. فقال: نعم، و لم يستثن، فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إلى قوله: إِذا نَسِيتَ و لو بعد سنة» (9).

ص: 121


1- . جوامع الجامع:264، تفسير الصافي 3:238.
2- . مرّت الرواية في تفسير الآية
3- من هذه السورة.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:229/1081، و تفسير الصافي 3:238، عن الصادق عليه السّلام.
5- . الكافي 7:448/3، تفسير الصافي 3:238.
6- . تفسير العياشي 3:92/2646، الكافي 7:448/6، تفسير الصافي 3:238.
7- . من لا يحضره الفقيه 3:229/1081، تفسير الصافي 3:238.
8- . في الكافي: أفعله، فتسبق.
9- . الكافي 7:448/2، تفسير الصافي 3:239.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه أمر بكتاب في حاجة فكتب، ثمّ عرض عليه و لم يكن فيه استثناء فقال: كيف رجوتم أن يتمّ هذا و ليس فيه استثناء؟ انظروا كلّ موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه» (1).

و قيل: إنّ المراد اذكر ربّك بالتسبيح و الاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء (2).

و قيل: يعني اذكر ربّك إذا نسيت شيئا، فإنّ ذكر اللّه يذكّر المنسي (3).

و يحتمل أن يكون المراد: إذا نسيت شيئا فلا تنسينّ ذكر اللّه، بل اذكره في كلّ حال.

و قيل: إنّ المراد من ذكر اللّه الصلاة: و المعنى صلّ الصلاة المنسيّة إذا ذكرتها (4).

ثمّ لمّا أعطاه اللّه آية عظيمة دالة على نبوّته، و هو إخباره بقصة أصحاب الكهف، أمره سبحانه بسؤال (2)آيات أعظم منها بقوله: وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا النبأ المعجب، من الآيات الدالّة على نبوّتي رَشَداً و دلالة للنّاس على صدقي، و قد فعل ذلك سبحانه حيث أعطاه من الآيات ما هو أعظم من ذلك كإخباره بقصص الأنبياء المتباعدة أيّامهم، و الحوادث النازلة في الأعصار الآتية إلى يوم القيامة.

و قيل: لمّا جعل اليهود حكاية أصحاب الكهف دليلا على نبوّته، هوّن اللّه أمره و قال: قُلْ عَسى الآية، كما هوّن أمر أصحاب الكهف بقوله: أَمْ حَسِبْتَ الآية (3).

و قيل: إنّ المعنى إذا وعدت بشيء قل: إن شاء اللّه، و قل: عسى أن يهديني ربّي لشيء أحسن و أكمل ممّا وعدتكم به (4).

و قيل: إنّ المراد أنّ ذكر ربّك عند نسيان شيء أن تقول: عسى ربّي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشدا أو أدنى خيرا و منفعة (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بعدد الفتية أخبر بمدّة لبثهم في الكهف بقوله: وَ لَبِثُوا في النوم فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ كانت من سِنِينَ شمسيّة وَ العرب اِزْدَادُوا عليها تِسْعاً لأنّ سنتهم قمريّة، و كلّ مائة سنة قمريّة تزيد على مائة سنة شمسيّة بثلاث سنين.

هذا هو الواقع في مدّة لبثهم، فإن نازعوك فيها فلا تجادلهم و قُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ منكم و من كلّ أحد بِما لَبِثُوا من المدّة إذ لَهُ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و العلم بخفياتهما لا يشركه فيه أحد من الملائكة و الرسل فضلا عن غيرهم.

ص: 122


1- . الكافي 2:494/7، تفسير الصافي 3:239. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 21:111، تفسير أبي السعود 5:217.
2- . في النسخة: لسؤال.
3- . تفسير روح البيان 5:234، و الآية 9 من هذه السورة.
4- . تفسير الرازي 21:111.
5- . تفسير روح البيان 5:235.

روي أنّ يهوديّا سأل عليّا عليه السّلام عن مدّة لبثهم، فأخبره بما في القرآن فقال: إنّا نجد في كتابنا ثلاثمائة، فقال عليه السّلام: «ذلك بسنيّ الشمس، و هذا بسنيّ القمر» (1).

و قال القميّ و بعض العامّة: قوله تعالى: وَ لَبِثُوا من قول القائلين بأنّهم ثلاثة أو خمسة، و المعنى: و قالوا لبثوا في كهفهم، فردّ اللّه عليهم بقوله: قُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا الآية (2). لأنّه محيط بجميع الموجودات، و مدبّر للعالم، فاذا كان كذلك كان عالما بهذه الواقعة لا محالة (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إحاطته على الخلق علما، بيّن إحاطته على الناس قدرة و تدبيرا بقوله: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ و مدبّر أمر. و قيل: إنّ المعنى ما لأصحاب الكهف [من دون اللّه]من وليّ (4). و على كلّ تقدير لا يعلم أحد واقعتهم إلاّ بإعلامه، فاذا حكم بأنّ مدّة لبثهم مقدارا معيّنا، فإنّه مستقلّ في الحكم وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً فليس لغيره الحكم بخلافه.

قيل: اختلف النّاس في زمان أصحاب الكهف، قيل: إنّهم كانوا قبل موسى لذكر خبرهم في التوراة، و لذا سأل اليهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قصّتهم. و قيل: إنّهم دخلوا الكهف قبل المسيح، و أخبر المسيح بهم. ثمّ بعثوا بعد رفع المسيح. و قيل: إنّهم دخلوا الكهف بعد المسيح (5).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد الجواب عن سؤال قريش و اليهود عنهم امتحانا و اقتراحا، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتلاوة كتابه المتضمّن لكلّ شيء و عدم الاعتناء باقتراحات القوم بقوله: وَ اُتْلُ يا محمّد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ الذي هو أحسن الحديث و أفضل الكتب، و أستأنس به، و لا تلتفت إلى اقتراحات المشركين و ترّهاتهم من قولهم: إئت بقرآن غير هذا أو بدّله، فإنّه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ و لا مغيّر لآياته من الجنّ و الإنس، و إن تظاهروا على ذلك، لأنّا له لحافظون وَ لَنْ تَجِدَ أبدا و إن أجهدت نفسك في الطلب أحدا مِنْ دُونِهِ تعالى يكون لك مُلْتَحَداً و ملجأ يلتجئ إليه في مهمّاتك، و في البليّات التي تنزل عليك.

وَ اُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

ص: 123


1- . مجمع البيان 6:715، تفسير الصافي 3:239.
2- . نحوه في: تفسير القمي 2:34، و تفسير الصافي 3:240، و تفسير الرازي 21:111.
3- . لم يذكر تفسير قوله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ.
4- . تفسير الرازي 21:112.
5- . تفسير الرازي 21:113.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 28

ثمّ لمّا كان من أباطيل الكفّار و ترّهاتهم التماسهم من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طرد المؤمنين الخلّصين من مجلسه، أمره سبحانه بمجالستهم و صحبتهم و عدم الاعتناء بقول أعدائهم بقوله: وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ و احبسها على المجالسة و المصاحبة مَعَ المؤمنين اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و يتضرّعون إليه بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ و أوّل النهار و آخره لطلب التوفيق و التيسير و العفو عن التقصير.

وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اِتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)و قيل: و الغداة و العشيّ كناية عن جميع الأوقات و المداومة على العبادة (1). و قيل: إنّ المراد بالدعاء في الغداة صلاة الصبح، و بالدعاء بالعشيّ صلاة العصر (2).

و عنهما عليهما السّلام: «إنّما عنى بهما الصلاة» (1).

حال كونهم يُرِيدُونَ بدعائهم أو صلاتهم وَجْهَهُ تعالى و رضاه وَ لا تَعْدُ و لا تجاوز عَيْناكَ عَنْهُمْ إلى غيرهم من أهل الدنيا و طالبي زخارفها حال كونك تُرِيدُ من النظر إلى غيرهم من المترفين و المجالسة معهم زِينَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و حطامها وَ لا تُطِعْ في طرد الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا بالخذلان و الطّبع وَ اِتَّبَعَ هَواهُ و أطاع تسويلات نفسه و انهمك في شهواته وَ كانَ أَمْرُهُ و فعله أو شأنه فُرُطاً و ظلما على النفس و تجاوزا عن الحدّ و نبذا للحقّ.

روي أنّ رؤساء الكفّار طلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طرد فقراء المسلمين من مجلسه، كعمّار، و صهيب، و خبّاب و غيرهم، و قالوا: اطرد هؤلاء الذين ريحهم ريح الصّنان حتى نجالسك، فإن أسلمنا أسلم النّاس، و ما يمنعنا من اتّباعك إلاّ هؤلاء، فإنّهم قوم أرذلون (2).

القمي: نزلت في سلمان الفارسي، كان عليه كساء من صوف، فدخل عيينة بن حصين على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلمان عنده، فتأذّى عيينة بريح كساء سلمان، و كان عرق فيه، و كان يوم شديد الحرّ، فعرق في الكساء، فقال: يا رسول اللّه، إذا نحن دخلنا عليك فاخرج هذا و أضرابه من عندك، فإذا نحن خرجنا فادخل من شئت، فأنزل اللّه وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا الآية. و هو عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري (3).

و عن (المجمع) : نزلت في سلمان و أبي ذرّ و صهيب و خبّاب و غيرهم من فقراء أصحاب

ص: 124


1- . تفسير العياشي 3:93/2649، تفسير الصافي 3:240.
2- . تفسير روح البيان 5:238.
3- . تفسير القمي 2:34، تفسير الصافي 3:240.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ عيينة بن حصين و الأقرع بن حابس و ذووهم، فقالوا: يا رسول اللّه، إن جلست في صدر المجلس و نحّيت عنّا هؤلاء و روائح صنانهم (1)-و كانت عليهم جباب الصّوف-جلسنا نحن إليك، و أخذنا عنك، و لا يمنعنا من الدخول عليك إلاّ هؤلاء. فلمّا نزلت الآية قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، يلتمسهم، فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللّه عزّ و جلّ فقال: الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معهم المحيا و معهم الممات (2).

عن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين، و إنّ بعضهم ليستر بعضا من العري، و قارئ يقرأ القرآن، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ماذا كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول اللّه، كان واحد يقرأ من كتاب اللّه و نحن نستمع، فقال: الحمد للّه الذي جعل من أمّتي من امرت أن أصبر نفسي معهم. ثمّ جلس وسطنا و قال: أبشروا يا صعاليك (3)المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة، تدخلون الجنّة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 29

ثمّ لمّا علّق الكفّار إيمانهم على طرد فقراء المسلمين، أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعلان بعدم اعتنائه بإيمانهم بقوله: وَ قُلِ يا محمّد لهؤلاء المتكبّرين الغافلين اَلْحَقُّ الذي جئتكم به يكون مِنْ رَبِّكُمْ لا منّي، و نفعه و ضرره راجع إليكم، لا إليّ و لا إلى آخر، و أنا لا أدعوكم إليه لأنتفع من إيمانكم حتى اطيعكم فيما تحبّون فَمَنْ كان من أهل السّعادة و شاءَ الإيمان و خير الدّارين فَلْيُؤْمِنْ بالدّين الحقّ، لتماميّة الحجّة، و وضوح البراهين وَ مَنْ كان من أهل الشّقاوة و شاءَ الكفر و الضّرر على نفسه فَلْيَكْفُرْ فإنّي لا ابالي بإيمان من آمن، و كفر من كفر، و لا أطلب إيمانكم بطرد أولياء اللّه من مجلسي.

وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ بِئْسَ اَلشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)ثمّ هدّدهم اللّه بضرر كفرهم و وخامة عاقبتهم بقوله: إِنّا أَعْتَدْنا و هيّئنا لِلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر في الآخرة ناراً خارجة [في]حرّها عن الوصف، مشتملة عليهم و محيطة بهم

ص: 125


1- . الصّنان: النّتن، الريح الكريهة.
2- . مجمع البيان 6:717، تفسير الصافي 3:240.
3- . الصعلوك: الفقير، و جمعه: صعاليك.
4- . تفسير الرازي 21:118.

كأنها سرادق و أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها و فساطيطها. قيل: إن سرادق ستر يدار به حول الخيمة (1).

عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «سرادق النار أربعة جدر كثف، كلّ جدار مسيرة أربعين سنة» (2).

و عن ابن عبّاس: هو الدّخان الذي قال اللّه: اِنْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (1).

وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا و يطلبوا الماء من العطش يُغاثُوا و يؤتوا بعد استغاثتهم بِماءٍ جار كَالْمُهْلِ و الحديد المذاب، أو النحاس، أو الذهب المذاب، أو الصّديد و قيح أهل جهنّم، أو القطران، أو درديّ (2)الزيت المغلي، يعني يجعل المهل لهم مكان الماء الذي طلبوه، و إطلاق الماء عليه من باب التهكّم، فإذا قدّم إليهم ليشربوه يَشْوِي و يحرق اَلْوُجُوهَ من فرط حرارته. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه» (3). بِئْسَ اَلشَّرابُ ذلك الماء المحرق وَ ساءَتْ النّار من حيث كونها مُرْتَفَقاً و متّكأ، أو منزلا، أو مستراحا.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بسوء عاقبة الكفر بشّر المؤمنين بحسن عاقبة الإيمان بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و الدّار الآخرة وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و فعلوا العبادات الخالصات، نؤتيهم أجرا عظيما إِنّا لا نُضِيعُ و لا نبطل أَجْرَ كلّ مَنْ أَحْسَنَ و أخلص عَمَلاً لمنافاته الحكمة المقتضية لإعطاء كلّ مستحقّ حقّه.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى اَلْأَرائِكِ نِعْمَ اَلثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

ثمّ شرح الأجر بقوله: أُولئِكَ المؤمنون الصالحون لَهُمْ بالاستحقاق جَنّاتُ عَدْنٍ و خلد تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ و تحت غرفهم و قصورهم اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المعهودة يُحَلَّوْنَ و يزيّنون فِيها بأنواع مِنْ أَساوِرَ جنسها مِنْ ذَهَبٍ عن سعيد بن جبير: يحلّى

ص: 126


1- . مجمع البيان 6:719، تفسير الرازي 21:120، و نسبه إلى بعضهم، و الآية من سورة المرسلات:77/30.
2- . الدرديّ: ما رسب أسفل الزيت أو نحوه من كل شيء مائع.
3- . تفسير أبي السعود 5:220، تفسير روح البيان 5:241، و الفروة: الجلدة ذات الشعر.

كلّ واحد منهم ثلاثة أساور (1).

أقول: لعلّ كلّ سوار له شكل خاصّ، و هو ما يلبس في الذّراع وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأنّ الخضرة-على ما قيل-أحسن الألوان و أكثرها طراوة (2)، و جنس الثياب مِنْ سُنْدُسٍ و حرير رقيق وَ من إِسْتَبْرَقٍ و ديباج غليظ حال كونهم مُتَّكِئِينَ كالملوك فِيها عَلَى اَلْأَرائِكِ و السّرر الموضوعة في البيوت المزيّنة.

عن الباقر عليه السّلام: «الأرائك، السّرر، عليها الحجال» (3).

ثمّ مدح سبحانه ذلك الأجر العظيم بقوله: نِعْمَ اَلثَّوابُ تلك الجنّات و نعمها وَ حَسُنَتْ تلك الأرائك من حيث كونها مُرْتَفَقاً و متّكأ، أو مقرّا للاستراحة، و قد قال سبحانه ما قال في حقّ الكفّار من قوله: بِئْسَ اَلشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً بهذا التذييل. و إنّما أتى (يحلّون) بصيغة المبنّي للمفعول، و (يلبسون) بصيغة المبني للفاعل؛ لأنّ العروس يلبس ثيابه بنفسه، و أمّا تحليته فغالبا [ما] يكون بيد الغير، أو للاشارة إلى أنّ لبس الثياب يكون بسبب أعمالهم، و أمّا التّحلية فإنّها من كرامات اللّه الزائدة تفضّلا به.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 32 الی 33

ثمّ لمّا كان الكفار المتنفّرون من فقراء المؤمنين مفتخرين عليهم بكثرة أموالهم و أتباعهم، بيّن اللّه سبحانه زوال الغنى و الثروة في الدنيا و دوام المعارف و الأعمال الصالحة للمؤمنين في الدّارين، للكافر الغنيّ و المؤمن الفقير بقوله: وَ اِضْرِبْ يا محمّد لَهُمْ مَثَلاً بديعا، و بيّن لهم بهذا المثل حالهم بيانا واضحا، و هو أنّ رَجُلَيْنِ كان واحد منهما مؤمنا و الآخر كافرا و جَعَلْنا لِأَحَدِهِما الكافر جَنَّتَيْنِ و بستانين كانت أشجارهما مِنْ أَعْنابٍ متنوّعة و كروم مختلفة و أحطنا بالجنّتين وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ.

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33)قيل: هذه الصفة ممّا يؤثرها الدهاقين في كرومهم، فإنّهم يجعلونها محفوفة بالأشجار المثمرة (4).

وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كثيرا من أنواع الحبوبات، و في ذكر الصفات دلالة على اتّساعها

ص: 127


1- . مجمع البيان 6:720، تفسير روح البيان 5:243.
2- . تفسير روح البيان 5:243.
3- . تفسير القمي 2:216، تفسير الصافي 3:242، و الحجال: جمع حجلة: ساتر كالقبّة يزيّن بالثياب و السّتور للعروس.
4- . تفسير الرازي 21:124.

و استجماعها لأنواع الأقوات و الفواكة الفائقة كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها و ثمرها المترقّب منها في جميع الأوقات وَ لَمْ تَظْلِمْ و لم تنقص مِنْهُ شَيْئاً و لو يسيرا، مع أنّ المعهود من سائر البساتين إتمام الثمر في عام و تنقيصه في عام وَ فَجَّرْنا و شققنا، أو أجرينا فيما بين كلّ من الجنّتين و خِلالَهُما نَهَراً على حدة، ليدوم شربهما و يكثر بهاؤهما.

قيل: إنّما قدّم إيتاء الأكل على تفجير النهر للدّلالة على استقلال كلّ منهما في حسن الجنّتين، و للدّلالة على أنّ إتيان الأكل لم يكن متوقّفا على السقي، كقوله يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 34 الی 38

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف الجنّتين ذكر حال الكافر بقوله: وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ و مال كثير غير الجنّتين، من الذّهب و الفضّة، أو فواكه اخر غير العنب و الرّطب.

وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ اَلسّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اَللّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)عن تفسير الجلالين: أنّ الرّجلين كانا ابني ملك في بني إسرائيل، اسم أحدهما يهودا و كان مؤمنا، و اسم الآخر قطروس و كان كافرا، مات أبوهما فورثا منه ثمانية آلاف دينارا، فتقاسماها بينهما، فاشترى الكافر أرضا بألف دينار و بنى دارا بألف دينار، و تزوّج امرأة بألف دينار، و اشترى خدما و متاعا بألف دينار، فقال المؤمن: اللّهم إنّ أخي اشترى أرضا بألف دينار، و أنا اشتري منك أرضا في الجنّة، فتصدّق بألف دينار، و إنّ أخي بنى دارا بألف دينار، و أنا أشترى منك دارا في الجنّة فتصدّق به، و إنّ أخي تزوّج امرأة بألف دينار و أنا أجعل ألفا صداقا للحور، فتصدّق به، و إنّ أخي اشترى خدما و متاعا بألف دينار، و أنا أشتري منك ولدانا مخلّدين بألف، فتصدّق به. ثمّ أصابته الحاجة، فجلس لأخيه على طريقه، فمرّ به أخوه في حشمه، فقام إليه فنظر أخوه إليه و قال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني حاجة، فأتيت لتصيبني بخير. فقال: و ما فعلت بمالك و قد اقتسمنا مالا و أخذت شطره؟ فقصّ عليه

ص: 128


1- . تفسير أبي السعود 5:221، و الآية من سورة النور:24/35.

القصّة، قال: إنّك إذا لمن المتصدّقين بهذا، إذهب لا أعطيك شيئا، فطرده و وبّخه (1).

فَقالَ الكافر لِصاحِبِهِ و أخيه وَ هُوَ يُحاوِرُهُ و يكالمه مفتخرا عليه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً و ثروة وَ أَعَزُّ نَفَراً من البنين و الخدم و الأعوان وَ دَخَلَ يوما جَنَّتَهُ مع أخيه المؤمن وَ هُوَ بكفره ظالِمٌ و ضارّ لِنَفْسِهِ و معجب بماله قالَ ما أَظُنُّ و لا احتمل أَنْ تَبِيدَ و تفنى هذِهِ الجنّة أَبَداً و ما دمت حيّا وَ ما أَظُنُّ اَلسّاعَةَ التي يبعث من في القبور قائِمَةً و آتية فيما بعد وَ لَئِنْ رُدِدْتُ و رجعت بعد الموت إِلى رَبِّي بالبعث على الفرض و زعمك، و اللّه لَأَجِدَنَّ يومئذ بعد انقطاعي من هذه الجنّة خَيْراً مِنْها في الآخرة مُنْقَلَباً و مرجعا قالَ لَهُ صاحِبُهُ و أخوه المؤمن وَ هُوَ يُحاوِرُهُ و يكالمه و يجادله منكرا عليه، و متعجّبا من مقالاته الفاسدة أَ كَفَرْتَ يا أخي بِالَّذِي خَلَقَكَ من أصل مخلوق مِنْ تُرابٍ بقدرته الكاملة و حكمته البالغة ثُمَّ بعد خلق أصلك منه خلقك مِنْ نُطْفَةٍ أمشاج و منيّ دافق في الرّحم ثُمَّ سَوّاكَ و خلقك معتدلا في الخلق و القامة، و جعلك رَجُلاً و إنسانا ذكرا بالغا، فمن كان له القدرة و الحكمة و النّعمة هل يساويه غيره في الصفات؟ و هل يعجز عن إعادة خلقك مع اقتضائها الحكمة؟ حاشا وكلاّ لكِنَّا قالوا: أصله لكن أنا (2)مؤمن موحّد معتقد و قائل بأنّه هُوَ اَللّهُ تعالى رَبِّي و مالك أمري وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي في الألوهيّة و الربوبيّة أَحَداً من خلقه.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 39 الی 41

ثمّ لامه على كفرانه النعمة بقوله: وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ و هلاّ حين وردت في بستانك قُلْتَ ما شاءَ اَللّهُ -من إبقاء الجنّة و إفنائها-كان، و هلاّ قلت حين رأيت جنّتك في غاية الحسن و البهاء و كثرة المنفعة اعترافا بعجزك عن تعميرها و أنّه بقدرة اللّه و معونته، و أنّ ما فيها من الأشجار و الثّمار و العمارة بمشيّة اللّه لا قُوَّةَ بشيء من الحيوانات و النباتات إِلاّ بِاللّهِ.

وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اَللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ اَلسَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)في الحديث: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه، لم تضرّه العين» (3).

و في حديث آخر: «من رأى أحدا اعطي خيرا من أهل أو مال، فقال عنده: ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه،

ص: 129


1- . تفسير روح البيان 5:245.
2- . تفسير أبي السعود 5:222، تفسير روح البيان 5:247.
3- . تفسير روح البيان 5:247.

لم ير فيه مكروها» . و روي أنّها دواء من تسعة و تسعين داء أيسرها الهمّ (1).

ثمّ أنّ المؤمن بعد إنكاره على الكفر و لومه على كفرانه النعمة، أجابه عن فخره عليه بالمال و النّفر بقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً الآن، فلا تغترّ بحسن حالك و كثرة مالك و لا تشمت (2)بسوء حالي و شدّة فقري فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ و يعطيني في الدنيا أو في الآخرة جنّة خَيْراً و أفضل مِنْ جَنَّتِكَ التي تفتخر بها وَ يُرْسِلَ عَلَيْها عقوبة على كفرك و كفرانك حُسْباناً و عذابا مِنَ اَلسَّماءِ من برد أو صاعقة فَتُصْبِحَ و تصير جنّتك بذلك البلاء صَعِيداً زَلَقاً و أرضا لا نبات فيها أَوْ يُصْبِحَ و يصير ماؤُها الذي يجري فيها غَوْراً و ذاهبا في الأرض بحيث لا تناله الأيدي و الدلاء، بل لا يبقى منه أثر فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً بوجه من الوجوه فضلا عن وجدانه و ردّه.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 42 الی 44

ثمّ أخبر سبحانه بوقوع بعض ما توقّعه المؤمن في أموال الكافر بقوله: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ و أهلك أمواله بأن أرسل اللّه عليها النار فأهلكتها و غار ماؤها كما عن (المجمع) (3)فَأَصْبَحَ الكافر و صار يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا لبطن تأسّفا و تحسّرا عَلى ما أَنْفَقَ و صرف فِيها و في تعميرها من الأموال حيث رأى الجنّة وَ هِيَ خاوِيَةٌ و ساقطة عَلى عُرُوشِها و دعائمها المصنوعة لكرومها، لمّا رأى الكافر صدق أخيه فيما هدّده على شركه و غروره، و كان يتمنّى التوحيد وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً و لم ينفعه النّدم و التمنّي.

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ اَلْوَلايَةُ لِلّهِ اَلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

ثمّ لمّا كان كثرة أعوانه بسبب كثرة ماله، تفرّق عنه أعوانه و خدمه وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ و جماعة يَنْصُرُونَهُ بدفع الهلاك عن ماله، أو إعطائه مثله مِنْ دُونِ اَللّهِ لأنّه القادر على نصره، و هو لم ينصره لاستحقاقه العذاب و الخذلان وَ ما كانَ بنفسه مُنْتَصِراً و مدافعا عن ماله بقدرته و قوّته.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه نصرته للمؤمن على أخيه الكافر المفتخر عليه، بيّن أنّ دأبه تعالى كذلك في كلّ مورد يكون الكافر بصدد إذلال المؤمن بقوله: هُنالِكَ و في ذلك الوقت الذي يكون الكافر بصدد

ص: 130


1- . تفسير روح البيان 5:247.
2- . في النسخة: و لا تشمتني.
3- . مجمع البيان 6:728، تفسير الصافي 3:243.

إذلال المؤمن تكون اَلْوَلايَةُ و نصرة المؤمن لِلّهِ اَلْحَقِّ و المعبود الصدق، فيوالي أولياءه و يغلبهم على أعدائة في الدنيا، و أمّا في الآخرة هُوَ تعالى خَيْرٌ ثَواباً و أفضل أجرا لأوليائه وَ خَيْرٌ عُقْباً و مآلا لهم، و أسوأ عقوبة و عاقبة لأعدائه و أعدائهم.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ ضرب اللّه مثلا آخر لحقارة الدنيا و سرعة زوالها بقوله: وَ اِضْرِبْ يا محمّد، لقومك و اذكر لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و نظيرها في زهرتها و نضارتها و سرعة زوالها لئلاّ يطمئنّوا بها، و لا يعكفوا عليها، فإنّها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بسبب ذلك الماء، و التفّ و تكاثف بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ من رياحينها، و زرعها، و غيرهما فَأَصْبَحَ ذلك النبات، و صار بعد غاية بهجته و نضارته هَشِيماً و مكسورا ليبسه، بحيث تَذْرُوهُ و تفرّقه اَلرِّياحُ الخفيفة حتّى لا يبقى منه أثر. كذلك الإنسان ينمو و يشبّ و يقوى، فإذا انقضى أجله أتاه صرصر الموت، فجعله كأن لم يكن شيئا مذكورا وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإيجاد و الإبقاء و الإفناء مُقْتَدِراً

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان زوال حياة الدنيا، بيّن زوال المال و الأولاد الذين هما أعظم زينتها بقوله: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ اللّذان يفتخرون بهما ممّا به زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ينقطعان عنكم بانقضائها وَ اَلْباقِياتُ معكم في جميع العوالم من البرزخ و المعاد، هي الأعمال اَلصّالِحاتُ و العبادات الخالصات من الصّوم و الحجّ و الصلاة و غيرهما خَيْرٌ من الفانيات الفاسدات التي منها المال و الأولاد عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً و أجرا و عائدة وَ خَيْرٌ أَمَلاً و مأمولا؛ لأنّ صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل في الدنيا.

عن الصادق عليه السّلام: «إن كان اللّه عزّ و جلّ قال: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا إنّ الثماني ركعات يصلّيها العبد آخر اللّيل زينة الآخرة» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ من الباقيات [الصالحات]القيام لصلاة الليل» (2). و قيل: هنّ الصلوات الخمس (3).

ص: 131


1- . تفسير العياشي 3:95/2657، التهذيب 2:120/455، تفسير الصافي 3:244.
2- . مجمع البيان 6:731، تفسير الصافي 3:244.
3- . تفسير الرازي 21:131، تفسير أبي السعود 5:225.

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ الباقيات الصالحات هي الصلوات، فحافظوا عليها» (1).

و عنه عليه السّلام: «هي الصلوات الخمس» (2).

و قال جمع من العامة: هي التسبيحات الأربع (3).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خذوا جنّتكم (4)، قالوا: يا رسول اللّه عدّو حضر؟ قال: لا، و لكن خذوا جنّتكم من النار، قالوا: فبم نأخذ جنّتنا، يا رسول اللّه؟ قال: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر، فإنّهنّ يأتين يوم القيامة و لهنّ مقدّمات و مؤخّرات، و هنّ الباقيات الصالحات» (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله برجل يغرس غرسا في حائط له، فوقف عليه و قال: ألا أدلّك على غرس أثبت أصلا، و أسرع إيناعا، و أطيب ثمرا و أبقى؟ قال: بلى، فدلّني يا رسول اللّه، فقال: إذا أصبحت و أمسيت فقل: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر، فإنّ لك إن قلته بكلّ تسبيحة عشر شجرات في الجنّة من أنواع الفاكهة، و هنّ من الباقيات الصالحات» (6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال للحصين بن عبد الرحمن: «لا تستصغر مودّتنا، فإنّها من الباقيات الصالحات» (7).

أقول: الجمع بين الأخبار أنّ كلّ عمل و اعتقاد فيه رضا اللّه، فهو من الباقيات الصالحات.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خساسة الدنيا، و ذكر ما يوجب التزهيد منها و ترغيبهم في الصالحات، ذكر بعض أهوال القيامة تنبيها على كثرة الحاجة بها فيها بقوله: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ اَلْجِبالَ في الهواء و الجوّ على هيئتها بعد قلعها من الأرض، أو [نسيّر]

أجزاءها بعد جعلها هباء منبثّا وَ تَرَى اَلْأَرْضَ يا محمّد بارِزَةً و ظاهرة من تحت الجبال، و العمارات، و الأشجار. أو بارزة الجوف لا يبقى في بطنها شيء من الموتى و الكنوز، و بعثنا الناس من القبور وَ حَشَرْناهُمْ و جمعناهم إلى عرصة القيامة و موقف الحساب، مؤمنيهم و كفّارهم فَلَمْ نُغادِرْ و لم نترك مِنْهُمْ تحت الأرض أَحَداً.

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ اَلْجِبالَ وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)

ص: 132


1- . تفسير العياشي 3:94/2655، تفسير الصافي 3:244.
2- . مجمع البيان 6:731، تفسير الصافي 3:244.
3- . تفسير أبي السعود 5:225، تفسير روح البيان 5:251.
4- . في تفسير العياشي: جننكم، و كذا ما بعدها.
5- . تفسير العياشي 3:94/2656، تفسير الصافي 3:244.
6- . الكافي 2:367/4، تفسير الصافي 3:245.
7- . مجمع البيان 6:731، تفسير الصافي 3:244.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة حشر الخلق بقوله: وَ عُرِضُوا بعد حشرهم عَلى رَبِّكَ كما يعرض الجند على الملك حال كونهم صَفًّا صفّا، و مجتمعين غير متفرّقين و لا مختلطين يرى جميعهم كما يرى واحدهم.

عن الصادق عليه السّلام: «هم يومئذ عشرون و مائة ألف صفّ في عرض الأرض» (1).

فيقول اللّه لهم: لَقَدْ جِئْتُمُونا من الدنيا بلا مال و أولاد و أعوان حفاة عراة كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

عن عائشة قلت: يا رسول اللّه، كيف يحشر النّاس يوم القيامة؟ قال: «عراة حفاة» قلت: و النساء؟ ! قال: «نعم» قلت: يا رسول اللّه، نستحيي! قال: «يا عائشة، الأمر أشدّ من ذلك، لن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض» (2).

ثمّ يخاطب المنكرين للبعث و يقول سبحانه لهم توبيخا و تقريعا: بَلْ زَعَمْتُمْ و ادّعيتهم بالكذب في الدنيا أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ أبدا مَوْعِداً و وقتا ننجز فيه ما وعدناه على ألسنة الرّسل من البعث و تبعاته، فاليوم قد تعيّن لكم صدق ما أخبروكم، و شاهدتم أنّ السّاعة حقّ، و البعث صدق، و تركتم في الدنيا ما كنتم تفتخرون به من الأموال و الأولاد و الأعوان.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 49

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة المحاسبة بقوله: وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ الذي فيه أعمال الخلق في أيديهم فَتَرَى يا محمّد، أو أيّها الرائي اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة مُشْفِقِينَ و خائفين مِمّا هو مكتوب فِيهِ من العقائد الفاسدة، و الأعمال السيّئة، و الذنوب الصغيرة و الكبيرة، فينادون وَ يَقُولُونَ حين اطّلاعهم على أعمالهم المكتوبة فيه نقيرها (3)و قطميرها (4)تعجّبا و تحسّرا: يا وَيْلَتَنا و هلكتنا احضري فهذا أوانك ما لِهذَا اَلْكِتابِ و أيّ شيء له، فإنّه لا يُغادِرُ و لا يترك فعلة صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها و ضبطها وَ وَجَدُوا جميع ما عَمِلُوا في الدنيا حاضِراً و مثبوتا فيه، و إنّما يعترفون به لأنّهم يجدونه مطابقا لما كتبوه في صحائف نفوسهم بقلم

وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ فَتَرَى اَلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا اَلْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

ص: 133


1- . الاحتجاج:350، تفسير الصافي 3:245.
2- . تفسير روح البيان 5:252.
3- . النّقير: النّكتة في ظهر النّواة.
4- . القطمير: القشرة الرقيقة بين النّواة و التمر.

أعمالهم.

قيل: إنّما قدّم ذكر الصغيرة لكونها جارّة إلى الكبيرة (1)، و يحتمل أن يكون [المراد]من حضور الأعمال تجسّمها في نظرهم مضافا إلى رؤيتها في كتابها. أو يكون المراد رؤية جزائها و شهوده وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً بكتابة ما لم يعمل، أو العقوبة زائدا على الاستحقاق.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 50 الی 51

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر افتخار المشركين على فقراء المؤمنين و تكبّرهم عليهم، ذكر تكبّر إبليس عن السجود لآدم ردعا لهم و بيانا لسوء عاقبة الكبر بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا له إِلاّ إِبْلِيسَ فانّه أبى و استكبر؛ لأنّه كانَ مِنَ اَلْجِنِّ المخلوق من النار المجبول على الترفّع، و لم يكن من الملائكة المخلوقين من النّور فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (2).

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)ثمّ وبّخ اللّه سبحانه المتكبّرين على اتّباعه ما غاية عداوته لآدم و ذريّته بقوله: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ لأنفسكم أَوْلِياءَ و أحبّاء متبوعين مِنْ دُونِي و بدلا منّي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ مبغض، و حقّهم أن تعادوهم و تبغضوهم لا أن توالوهم، و أن تخالفوهم لا أن تطيعوهم بِئْسَ لِلظّالِمِينَ و الكافرين المتكبّرين بَدَلاً من اللّه إبليس و ذريّته.

ثمّ بيّن سبحانه تعالى فقدانهم لما يوجب التكبّر على غيرهم، و هو كونهم أعوان اللّه و شركاءه في الخلق بقوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و ما أحضرتهم حينئذ لأستعين بهم في خلقهما، أو أشاورهم في إيجادهما وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ مع كمال حقارتهم بأن يعيننا بعضهم في خلق بعض آخر، و ما شاورتهم في تدبير العالم وَ ما كُنْتُ من قبل خلق الموجودات إلى الأبد مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ من الشيطان و ذرّيته و أتباعه من الجنّ و الإنس لنفسي في الخلق و التدبير عَضُداً و عونا.

قيل: إنّ المراد ما أشهدت الذين اتّخذتموهم أولياء خلق السماوات و الأرض، و لا أشهدت بعضهم

ص: 134


1- . تفسير الرازي 21:134.
2- . لم يرد تفسيرها عن المصنف.

خلق بعض (1). و قيل: إنّ المراد أنّه ليس لهم العلم بالمغيبات و لا بخلق أنفسهم، فكيف تعبدونهم و تدّعون أنّهم شركائي في العبادة (2)؟

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 52 الی 53

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ المشركين المتكبّرين على اتّباعهم الشيطان و نفي أهليّة التكبّر عنهم، عاد إلى تهويلهم بأهوال القيامة و تقريعهم على الشّرك فيها بقوله: وَ يَوْمَ يَقُولُ اللّه للمشركين تقريعا و تهكّما: أيّها المشركون نادُوا شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّهم شركائي في الالوهيّة و العبادة، و أنّهم شفعاؤكم في هذا اليوم، كي ينجوكم من العذاب بالقهر، أو يشفعوا لكم (3)فَدَعَوْهُمْ و نادوهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ و استغاثوا بهم فلم يغيثوهم وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ من الداعين و المدعوّين مَوْبِقاً و مهلكا و هو النار، أو واديا من جهنّم، أو برزخا بعيدا يهلك فيه السائر، أو عداوة شديدة مهلكة.

وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)و قيل: إنّ البين بمعنى المواصلة، و المعنى: جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكهم في الآخرة (4).

وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ و المشركون بعد يأسهم من آلهتهم اَلنّارَ التي اعدّت لهم فَظَنُّوا و أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها و مخالطوها.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام «يعني: أيقنوا أنّهم داخلوها» (5).

و عنه عليه السّلام: «و قد يكون بعض ظنّ الكافر يقينا، و ذلك قوله تعالى: وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنّارَ الآية، أي: أيقنوا أنّهم مواقعوها» (6).

وَ لَمْ يَجِدُوا لأنفسهم عَنْها مَصْرِفاً و معدلا إلى غيرها أو مهربا؛ لأنّ الملائكة يسوقونهم إليها، أو لأنّها محيطة بهم من كلّ جانب.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 54

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ اَلْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)

ص: 135


1- . تفسير الرازي 21:138.
2- . مجمع البيان 6:735، تفسير روح البيان 5:256.
3- . في النسخة: يشفعوكم.
4- . تفسير روح البيان 5:258.
5- . التوحيد:267/5، تفسير الصافي 3:247.
6- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 3:247.

ثمّ أنّه تعالى بعد ردع الكفّار المفتخرين على فقراء المؤمنين بكثرة المال و الولد بالبيانات التي كلّها كالمثل في الغرابة و الحسن، و ذكر المثلين المتقدّمين، بيّن سبحانه شدّة شقاوتهم و قساوتهم و عدم تأثّرهم بها بقوله: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا و كرّرنا أو أوردنا على وجوه كثيرة من النظم فِي هذَا اَلْقُرْآنِ صلاحا و نفعا لِلنّاسِ كافة الى يوم القيامة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بديع و معنى عجيب و شبيه و نظير و عبر و دلائل على الحقّ وَ مع ذلك كانَ اَلْإِنْسانُ بجنسه و طبعه أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً و أشدّه خصومة بالباطل.

قيل: من طبيعة الإنسان المجادلة و المخاصمة، و بها يقطعون الطريق على أنفسهم، فتارة يجادلون الأنبياء و لا يقبلون النبوّة و الرسالة حتى يقاتلوهم، و تارة يجادلون في الكتب المنزلة و يقولون: ما أنزل اللّه على بشر من شيء، و تارة يجادلون في محكماتها، و تارة يجادلون في متشابهاتها، و تارة يجادلون في ناسخها و منسوخها، و تارة يجادلون في تفسيرها و تأويلها، و تارة يجادلون في أسباب نزولها، و تارة يجادلون في قراءتها، و تارة يجادلون في قدمها و حدوثها، إلى غير ذلك حتى لم يفرغوا من المجادلة إلى المجاهدة، و من المخاصمة إلى المعاملة، و من المنازعة إلى المطاوعة، فلهذا قال تعالى: وَ كانَ اَلْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ القرآن جامع لجميع الدلائل و العبر و العلوم، بيّن تمامية الحجّة على النّاس به، و عدم تصوّر العذر لهم في ترك الإيمان بقوله: وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ من أَنْ يُؤْمِنُوا باللّه و رسوله و دينه الحقّ إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى و حين أتاهم الرسول، و قرّر لهم دلائل التوحيد و رسالته، و جميع ما يجب الإيمان به بما لا مزيد عليه وَ من أن يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ و يتوبوا إليه من شركهم و معاصيهم إِلاّ انتظار أَنْ تَأْتِيَهُمْ العقوبة الدنيويّة التي هي سُنَّةُ اللّه و دأبه في القرون اَلْأَوَّلِينَ و الامم الماضين الجاحدين لكلّ حقّ، المعارضين للرسل أَوْ أن يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ الاخروي قُبُلاً و عيانا، أو أنواعا.

وَ ما مَنَعَ اَلنّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ قُبُلاً (55) وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)

ص: 136


1- . تفسير روح البيان 5:259.

و حاصل المعنى-و اللّه أعلم-أنّهم لا يؤمنون إلاّ عند نزول عذاب الاستئصال، أو حين تواصل عذاب الدنيا عليهم بعذاب الآخرة، و حينئذ لا ينفعهم الإيمان.

ثمّ لمّا بيّن اللّه أنّ جبلّة الإنسان على الجدال بيّن أنّهم يجادلون و يقترحون على الرسل مع أنّ وظيفتهم التبشير و الإنذار بقوله: وَ ما نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إلى الناس لغرض من الأغراض إِلاّ لغرض واحد و هو أن يكونوا مُبَشِّرِينَ للمؤمنين المطيعين بالثواب وَ مُنْذِرِينَ للكافرين و العصاة بالعذاب، لا لموافقتهم أهواء النّاس و إتيانهم بمقترحاتهم و عملهم بمتوقّعاتهم، من طرد الفقراء، و مجالسة المتكبّرين وَ يُجادِلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رسلهم بِالْباطِلِ كقولهم: لا يكون الرسول إلاّ ملكا، أو من يكون له بيت من زخرف، إلى غير ذلك لِيُدْحِضُوا بجدالهم و يزيلوا بِهِ اَلْحَقَّ الذي جاءهم به الرسول عن مقرّه و يبطلوه و يطفئوا نوره وَ اِتَّخَذُوا آياتِي الدالّة على الحقّ و معجزات الرسول وَ ما أُنْذِرُوا و خوّفوا به من العذاب على الكفر هُزُواً و سخريّة.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 57

ثمّ ذمّهم سبحانه بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ و هل يكون أحد، أكثر إساءة على نفسه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ و تليت عليه حجج اللّه و مواعظه بالعبارات التي تكون في أعلى درجة الإعجاز فَأَعْرَضَ و لوى رأسه عَنْها و ألقاها وراء ظهره و لم يتدبّرها و لم يتفكّر فيها وَ مع ذلك نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ و تغافل عمّا أرتكبه من السيّئات و عن سوء عاقبتها.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى اَلْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)ثمّ بيّن سبحانه علّة إعراضهم و تناسيهم بقوله: إِنّا جَعَلْنا بسبب كفرهم و عصيانهم عَلى قُلُوبِهِمْ الخبيثة المظلمة أَكِنَّةً و أغطية حين تلاوة القرآن عليهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ و يفهموا ما فيه من الأعجاز و الحكم و المعارف و الأحكام وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً و ثقلا و صمما وَ كراهة أن يستمعوه حقّ الاستماع وَ لذا إِنْ تَدْعُهُمْ يا محمّد إِلَى اَلْهُدى الذي هو دين الإسلام فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً لعدم تأثّر قلوبهم بقولك، كعدم تأثّرهم بالقرآن، فلا تتعب في دعوتهم و لا تحزن على ضلالتهم.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 58 الی 59

ص: 137

ثمّ ذكر سبحانه علّة إمهالهم بقوله: وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ للذّنوب و ذُو اَلرَّحْمَةِ على العباد يحلم و يرحم و لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا و لا يحلم عنهم لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذابَ بالصّاعقة، أو الخسف، أو غيرهما ممّا يهلكهم بالاستئصال في الدنيا، أو بإماتتهم و إحراقهم بالنّار في الآخرة بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ و وقت معيّن لمؤاخذتهم فيه لَنْ يَجِدُوا حين مجيئ ذلك الموعد مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه تعالى مَوْئِلاً و ملجأ يلتجئون إليه.

وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَ تِلْكَ اَلْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

ثمّ استشهد على إمهاله الكفّار و أخذهم في موعده بالقرى المهلكة بقوله: وَ تِلْكَ اَلْقُرى المهلكة من قرى عاد و ثمود و أضرابهما أَهْلَكْناهُمْ بعذاب الاستئصال لَمّا ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و الطغيان و تكذيب الرسل و الإعراض عن الآيات، و لكن لم نعاجلهم، بل قرّرنا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ و إنزال العذاب عليهم مَوْعِداً و وقتا معيّنا ممتدّا لم يتقدّم إهلاكهم عليه و لم يتأخّر عنه.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 60 الی 61

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الفخر و الكبر خلق الشّيطان، بيّن أنّ صفة التواضع و تبعيّة العالم من كرائم أوليائه و رسله، بذكر قصّة موسى عليه السّلام و تبيعته الخضر بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى بن عمران بن يصهر لِفَتاهُ و خادمه يوشع بن نون، أو أخي يوشع، أو عبده لا أَبْرَحُ و لا أزال أسير و أذهب حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ بحر فارس و بحر روم و ملتقاهما على ما قيل (1)، و هو الموضع الذي وعده اللّه بلقاء الخضر فيه. أو مجمع موسى و الخضر، فإنّ موسى بحر العلم الظاهر، و الخضر بحر العلم الباطن أَوْ أَمْضِيَ و أسير في الأرض حُقُباً و مدّة طويلة، أو ثمانون سنة على ما قيل (2)، و رواه القمي عن الباقر عليه السّلام (3).

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً (61)و قال القمي: لمّا أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا بخبر أصحاب الكهف قالوا: أخبرنا عن العالم الذي أمر اللّه موسى أن يتّبعه و ما قصّته؟ فأنزل اللّه: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ (4).

ص: 138


1- . تفسير الرازي 21:145، تفسير روح البيان 5:263.
2- . تفسير الرازي 21:146، تفسير روح البيان 5:264.
3- . تفسير القمي 2:40، تفسير الصافي 3:248.
4- . تفسير القمي 2:37، تفسير الصافي 3:248.

في قصة موسى

و الخضر

و روى بعض العامة أنّه لمّا ظهر موسى عليه السّلام على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط، أمره اللّه أن يذكّر قومه أنعام اللّه عليهم، فخطب خطبة بليغة رقّت بها القلوب، و ذرفت العيون، فقال واحد من علماء بني إسرائيل: يا موسى، من أعلم؟ قال: أنا، فعتب اللّه عليه إذ لم يردّ العلم إلى اللّه تعالى، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين، و هو الخضر، و كان في أيّام أفريدون الملك العادل العاقل قبل موسى عليه السّلام، و كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر، و بقي إلى أيّام موسى عليه السّلام، و قد بعث هو في أيّام كشتاسب بن لهراسب-على ما قيل- فقال موسى عليه السّلام: يا ربّ، أين أطلبه، و كيف يتيسّر لي الظّفر به و الاجتماع معه؟ قال: اطلبه على ساحل البحر عند الصخرة، و خذ حوتا مملوحا في مكتل يكون زادا لك، فحيث فقدته فهو هناك. فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني. قال: و زعم أهل التوراة أنّ موسى هذا هو موسى بن ميشاء بن يوسف، و كان نبيّا قبل موسى بن عمران (1).

و قال بعضهم: إنّ موسى عليه السّلام لمّا أعطى الألواح و كلّمة اللّه قال: من الذي أفضل منّي و أعلم؟ فقيل: عبد للّه يسكن جزائر البحر (2).

و في رواية عامية أخرى: أنّ موسى عليه السّلام لمّا اوتي من العلم ما اوتي، ظنّ أنّه لا أحد مثله، فأتاه جبرئيل و هو بساحل البحر فقال: يا موسى، انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثمّ يرتفع، فأنت فيما اوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر (3).

و في رواية عامية: أنّ موسى عليه السّلام سأل ربه أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الذي يذكرني و لا ينساني. قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحقّ و لا يتّبع الهوى. قال: فأيّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى، أو تردّه عن ردى. فقال موسى عليه السّلام: إن كان في عبادك أعلم منّي فادللني عليه، فقال: أعلم منك الخضر. قال: فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا ربّ، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني (2).

و القمي رحمه اللّه لمّا كلّم اللّه موسى عليه السّلام تكليما، فأنزل اللّه الألواح عليه، و فيها كما قال اللّه تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (3)رجع موسى عليه السّلام إلى بني إسرائيل، فصعد المنبر، فأخبرهم أنّ اللّه قد أنزل عليه التوراة و كلّمه، قال في نفسه: ما خلق اللّه خلقا أعلم منّي. فأوحى اللّه إلى جبرئيل:

ص: 139


1- . تفسير روح البيان 5:262. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:144.
2- . تفسير الرازي 21:145.
3- . الاعراف:7/145.

أدرك موسى فقد هلك، و أعلمه أنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجل أعلم منك، فسر إليه و تعلّم من علمه. فنزل جبرئيل إلى موسى فأخبره، و ذلّ موسى في نفسه، و علم أنّه أخطأ و دخله الرّعب، و قال لوصيّه يوشع: إنّ اللّه قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين و أتعلّم منه، فتزوّد يوشع حوتا مملوحا (1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «بينا موسى عليه السّلام قاعد في ملأ من بني إسرائيل، إذ قال له رجل: ما أرى [أحدا]أعلم باللّه منك، قال موسى عليه السّلام: ما أرى. فأوحى اللّه إليه: بل عبدي الخضر. فسأل السبيل إليه، فكان له آية الحوت إن افتقده، و كان من شأنه ما قصّ اللّه» (2).

فذهب موسى و يوشع عليهما السّلام حتى بلغا مجمع البحرين فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما و مكانا يلتقي وسط ما امتدّ من البحرين، أو الموضع الذي يجتمع فيه موسى و الخضر الذي كان في طلبه، جلس هو و فتاه على الصخرة التي كانت قريبة من عين الحياة.

ثمّ نام موسى عليه السّلام، و توضّأ يوشع من العين، فوقعت قطرة من ماء العين على الحوت المملوح فحيي، فذهب في البحر، فتحيّر يوشع من هذا الأمر، فقام موسى عليه السّلام من النوم، و توجّه إلى الطريق، و أسرع في السير و تبعه يوشع و نَسِيا حُوتَهُما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب، أمّا موسى عليه السّلام فنسى تذكّر الحوت لصاحبه، و أمّا صاحبه فنسي الإخبار بأمر الحوت فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً و مسلكا.

القمي: فلمّا خرجا و بلغا ذلك المكان، وجدا رجلا مستلقيا على قفاه فلم يعرفاه، فأخرج وصيّ موسى الحوت و غسله بالماء، و وضعه على الصخرة و مضيا و نسيا الحوت، و كان ذلك الماء ماء الحيوان، فحيي الحوت و دخل في الماء، فمضى موسى و يوشع معه حتى عييا (3).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه قال لبعض اليهود و قد سأله عن مسأئل: «أمّا قولك أوّل عين نبعت على وجه الأرض، فإنّ اليهود يزعمون أنّها العين التي ببيت المقدس تحت الحجر و كذبوا، هي عين الحيوان التي انتهى موسى عليه السّلام و فتاه إليها، فغسل فيها السمكة المالحة فحييت، و ليس من ميت يصيبه ذلك الماء إلاّ حيي، و كان الخضر في مقدّمة ذي القرنين يطلب عين الحياة فوجدها و شرب منها، و لم يجدها ذو القرنين» (4).

و في رواية: أنّ موسى و يوشع عليهما السّلام انطلقا يمشيان، فانتهيا إلى شيخ مستلق معه عصاه موضوعة إلى

ص: 140


1- . تفسير القمي 2:37، تفسير الصافي 3:248.
2- . تفسير العياشي 3:103/2672، تفسير الصافي 3:249.
3- . تفسير القمي 2:37، تفسير الصافي 3:249.
4- . إكمال الدين:298/5، تفسير الصافي 3:250.

جانبه عليه كساء، إذا قنّع رأسه خرجت رجلاه، و إذا غطّى رجليه خرج رأسه، فقام موسى يصلّي و قال ليوشع: احفظه (1)عليّ، قال: فقطرت قطرة من السماء في المكتل فاضطرب الحوت، ثمّ جعل يثب من المكتل إلى البحر، و هو قوله تعالى: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً ثمّ جاء طير فوقع في (2)ساحل البحر، ثمّ أدخل منقاره في البحر فقال: يا موسى، ما أخذت من علم ربّك ما حمل [ظهر] منقاري من جميع ماء البحر (3).

و في رواية عنهما عليهما السّلام: «لمّا كان من أمر موسى عليه السّلام ما كان، اعطي مكتلا فيه حوت مملّح، و قيل له: هذا يدلّك على صاحبك عند مجمع البحرين صخرة عندها عين (4)لا يصيب منها شيء ميّتا إلاّ حيي، يقال لها عين الحياة، فانطلقا حتى بلغا الصخرة، فانطلق الفتى يغسل الحوت في العين، فاضطرب في يده فخدشه و تفلّت منه و نسيه الفتى» (5).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 62 الی 65

فَلَمّا جاوَزا مجمع البحرين قالَ موسى لِفَتاهُ يوشع: آتِنا غَداءَنا و الحوت الذي أعددناه لأكلنا أوّل النهار، باللّه لَقَدْ لَقِينا و أصبنا مِنْ سَفَرِنا هذا الذي نحن فيه نَصَباً و تعبا شديدا و عيّا كثيرا.

فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً (65)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لم يجد موسى النّصب حتى جاوزا (6)المكان الذي أمره به» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما أعيى حيث جاوزا (8)الوقت» (9).

فلمّا جاء يوشع بالسفرة تذكّر قصّة الحوت و قالَ: يا موسى أَ رَأَيْتَ و هل اطّلعت على الأمر العجيب، فإنّا إِذْ أَوَيْنا و وصلنا إِلَى اَلصَّخْرَةِ و نزلنا عندها فَإِنِّي نَسِيتُ و تركت

ص: 141


1- . في تفسير العياشي: احفظ.
2- . في تفسير العياشي: فوقع على.
3- . تفسير العياشي 3:101/2671، تفسير الصافي 3:249.
4- . في تفسير العياشي: عين مجمع البحرين.
5- . تفسير العياشي 3:97/2665، تفسير الصافي 3:250.
6- . في تفسير روح البيان: جاوز.
7- . تفسير روح البيان 5:265.
8- . في تفسير العياشي: جاوز.
9- . تفسير العياشي 3:101/2671، تفسير الصافي 3:250.

اَلْحُوتَ على الصخرة، أو نسيت أن أذكر لك أمره و ما شاهدت من العجب، و هو أنّه حيي و اضطرب و وقع في الماء.

قيل: إنّ علّة نسيانه-و إن كان أمره من شدّة غرابته ممّا لا ينسى اعتياده مشاهدة أمثال ذلك من موسى عليه السّلام، فقلّ اهتمامه به، أو استغراقه في أنوار جمال الالوهيّة و انجذاب شراشره (1)إلى جناب قدس الربوبية (2).

ثمّ لمّا كان نسيانه ذلك سببا لتجاوز موسى عليه السّلام من ذلك المكان و ارتفاعه في التعب، اعتذر إليه بقوله: وَ ما أَنْسانِيهُ شيء إِلاَّ اَلشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ لك و اخبرك به وَ اِتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سبيلا أو اتخاذا عَجَباً.

قيل: إنّ وجه التعجّب حياته بعد الموت و التّشويه، و انقلابه من المكتل، و إلقاء نفسه في البحر، و جعل اللّه تعالى الماء على الحوت كالطاق و السّرب (3). و إنّما نسب يوشع النسيان إلى الشيطان لكونه نقصا أو لإظهار هضم النفس.

و قيل: إنّ بعد إخبار يوشع بأمر الحوت قالَ موسى: عجبا ذلِكَ الذي ذكرت من أمر الحوت (4)ما كُنّا نَبْغِ و نطلب لكونه أمارة الفوز بالمقصود من لقاء الخضر فَارْتَدّا و رجعا من مكانهما إلى مكان الصخرة عَلى آثارِهِما و طريقهما الذي جاءا منه، و هما يقصّان قَصَصاً و يتفحّصان تفحّصا عن أثرهما و طريقهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت،

فأتيا الصخرة فَوَجَدا عندها عَبْداً عظيم الشّأن مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ الوحي و النبوّة اللّتين تكونان رَحْمَةً و تفضّلا مِنْ عِنْدِنا.

و قيل: إنّ الصوفية قالوا: إنّ المراد من الرحمة طول العمر لا النبوّة (5). و قيل: إنّه كان نبيّا و لم يكن مرسلا (6)وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً خاصّا بنا و هو علم الغيب.

أقول: ذهب الأكثرون إلى أنّه الخضر، كما في الروايات السابقة؛ و إنّما سمّي خضرا لأنّه لا يقف موقفا إلاّ اخضرّ ذلك الموضع (7).

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ الخضر كان نبيّا مرسلا، بعثه اللّه إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده، و الإقرار

ص: 142


1- . الشّراشر: النفس، و المحبّة، و قيل: جميع الجسد، يقال: ألقى عليه شراشره، أي نفسه حرصا و محبّة.
2- . تفسير البيضاوي 2:17، تفسير روح البيان 5:266.
3- . تفسير الرازي 21:147، و السّرب: الطريق. و السّرب: حفير تحت الأرض لا منفذ له، و القناة الجوفاء.
4- . تفسير روح البيان 5:267.
5- . تفسير روح البيان 5:270.
6- . تفسير روح البيان 5:268.
7- . تفسير الرازي 21:149.

بأنبيائه و رسله و كتبه، و كانت آيته أنّه كان لا يجلس على خشبة يابسة و لا أرض بيضاء إلاّ اهتزّت خضراء، و إنّما سمّي الخضر لذلك، و كان اسمه بليا بن ملكا بن عامر (1)بن أرفخشد بن سام بن نوح (2). و قال بعض العامّة: إنّه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالح (3)بن أرفخشد بن سام بن نوح (4).

و روى أبو الليث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «أنّه كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فلم يقبل و هرب منه، و لحق بجزائر البحر» (5).

و قيل: إنّ أباه كان ملكا، و أمّه كانت بنت فارس، و اسمها الها، و أنّها ولدته في مغارة، و أنّه ترك هنالك و شاة ترضعه في كلّ يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فربّاه، فلمّا شبّ طلب الملك أبوه كاتبا، فجمع أهل المعرفة و النبالة ليكتب الصحف التي نزلت على إبراهيم و شيث. فدخل الخضر فيمن قدم عليه من الكتّاب، فلمّا استحسن خطّه و معرفته و نجابته سأله عن جليّة أمره، فعرف أنّه ابنه، فضمّه لنفسه و ولاّه أمر الناس. ثمّ فرّ الخضر من الملك و زهد في الدنيا، و سار إلى أن وجد عين ماء الحياة فشرب منها (6).

و عن ابن عبّاس: أنّ الخضر بن آدم لصلبه، و نسئ له في أجله حتّى يكذّب الدجّال (7).

و عن ابن العساكر: أنّ آدم لمّا حضره الموت أوصى بنيه أن يكون جسده معهم في غار، فكان جسده في مغارة معهم، فلمّا بعث اللّه نوحا ضمّ ذلك الجسد في السفينة بوصيّة آدم، فلمّا خرج منها قال لبنيه: إنّ آدم دعا بطول العمر لمن يدفنه من أولاده إلى يوم القيامة، فذهب أولاده إلى الغار ليدفنوه، و كان فيهم الخضر، فكان هو الذي تولّى دفن آدم، فأنجز اللّه ما وعده (8).

و قيل: إنّه ابن خالة ذي القرنين، و كان في سفره معه، و شرب من ماء الحياة، فمدّ اللّه عمره (9).

و قيل: إنّه كان من ذريّة إسحاق (10).

و عن البغوي: أربعة من الأنبياء أحياء إلى يوم القيامة، اثنان في الأرض و هما الخضر و إلياس عليهما السّلام، [و إثنان في السماء إدريس و عيسى عليهما السّلام] (11).

و قال بعض العامة: أنّ أبا عمر إمام الحديث في وقته روى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين غسّل و كفّن سمعوا قائلا يقول: السّلام عليكم يا أهل البيت، إنّ في اللّه خلفا من كلّ هالك، و عوضا من كلّ تالف، و عزاء من كلّ مصيبة، فعليكم بالصّبر فاصبروا و احتسبوا. ثمّ دعا لهم، و لا يرون شخصه، فكانوا يرون

ص: 143


1- . في علل الشرائع: باليا بن ملكا بن عابر.
2- . علل الشرائع:59/1، تفسير الصافي 3:251.
3- . في تفسير روح البيان: شالخ.
4- . تفسير روح البيان 5:267.
5- . تفسير روح البيان 5:267.
6- . تفسير روح البيان 5:267.
7- . تفسير روح البيان 5:268.
8- . تفسير روح البيان 5:268.
9- . تفسير روح البيان 5:268.
10- . تفسير روح البيان 5:268.
11- . تفسير روح البيان 5:268.

أنّه الخضر (1).

و عن كتاب (الهواتف) لبعض العامّة: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لقي الخضر و علّمه الدعاء، و ذكر فيه ثوابا عظيما، و مغفرة لمن قاله في أثر كلّ صلاة و هو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، و يا من لا تغلّطه المسائل، و يا من لا يتبرّم من إلحاح الملحّين، أذقني برد عفوك و حلاوة مغفرتك (2).

و روى بعض أكابر العامة أنّ الخضر يظهر مع أصحاب الكهف عند ظهور المهدي عليه السّلام و يستشهد، و يكون من أفضل شهداء عسكر المهدي عليه السّلام (1).

و عن الصادق عليه السّلام في الحديث السابق: «فرجع موسى عليه السّلام فقصّ أثره حتى انتهى إليه و هو على حاله مستلق، فقال له موسى عليه السّلام: السّلام عليك، [فقال: و عليك السّلام]يا عالم بني إسرائيل. قال: ثمّ وثب فأخذ عصاه بيده» الخبر (2).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 66 الی 70

قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى شرط، أو بانيا على أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ علما يكون هو رُشْداً لي في ديني، و دلالة لي إلى خيري، أو علّمت و ارشدت به قالَ الخضر: يا موسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لأنّي وكّلت بأمر (5)لا تطيقه، و وكّلت بأمر (6)لا اطيقه. كما عن الصادق عليه السّلام (3).

قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)ثمّ بالغ في صرفه عن مصاحبته باستبعاد الصّبر على ما يرى بقوله: وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً و علما، و لم تقف على حقيقته قالَ موسى عليه السّلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ صابِراً معك غير معترض عليك وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً و لا اخالفك فيما تطلب منّي.

عن الصادق عليه السّلام «فلمّا استثنى المشيئة قبله» (4).

و في حديث عن أحدهما عليهما السّلام: «فلمّا سأل العالم علم العالم أنّ موسى عليه السّلام لا يستطيع صحبته و لا

ص: 144


1- . تفسير روح البيان 5:269.
2- . تفسير العياشي 3:102/2671، تفسير الصافي 3:251. (5 و 6) . في علل الشرائع: بعلم.
3- . تفسير العياشي 3:98/2665، علل الشرائع:60/1، تفسير الصافي 3:252.
4- . علل الشرائع:60/1، تفسير الصافي 3:252.

يحتمل علمه و لا يصبر معه، فعند ذلك قال: فكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟ فقال له موسى عليه السّلام و هو خاضع يستلطفه (1)على نفسه كي يقبله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ صابِراً (2).

عن الصادق عليه السّلام: «كان موسى عليه السّلام أعلم من الخضر» (3).

ثمّ قالَ الخضر إيذانا للرّضا بصحبته: فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي و صحبتني فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ حكمة شَيْءٍ و فعل تشاهده من أفعالي و تنكره في نفسك منّي حَتّى أُحْدِثَ لَكَ و أبتدؤك مِنْهُ ذِكْراً و بيانا، فإنّ كلّما أفعله له مصلحة تامّة و غاية حميدة أطلعك عليها.

عن الرضا عليه السّلام: «يقول: لا تسألني عن شيء أفعله و لا تنكره عليّ حتى اخبرك بخبره، قال: نعم» (4).

قيل: إنّ موسى عليه السّلام صرف يوشع إلى بني إسرائيل، و بقي هو مع الخضر (5).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 71 الی 77

فَانْطَلَقا و ذهبا: قيل: و تبعهما يوشع (6)حَتّى إِذا رَكِبا البحر فِي اَلسَّفِينَةِ روي أنّهما مرّا بالسفينة فاستحملا ملاحيّها، فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير أجرة (7). فبينما تسير السفينة قام الخضر و خَرَقَها و شقّها لمّا بلغوا وسط البحر.

فَانْطَلَقا حَتّى إِذا رَكِبا فِي اَلسَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)عن الرضا عليه السّلام في حديث: «فمرّوا ثلاثتهم حتّى انتهوا إلى ساحل البحر، و قد شحنت سفينة و هي تريد أن تعبر: فقال أرباب السفينة: نحمل هؤلاء الثلاثة نفر فإنّهم قوم صالحون فحملوهم، فلمّا

ص: 145


1- . في تفسير العياشي: يستعطفه.
2- . تفسير العياشي 3:100/2670 عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 3:252.
3- . تفسير العياشي 3:98/2667، تفسير الصافي 3:252.
4- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:253.
5- . تفسير أبي السعود 5:235، تفسير روح البيان 5:277. (6 و 7) . تفسير روح البيان 5:277.

جنحت السفينة في البحر قام الخضر إلى جوانب السفينة فكسرها فحشاها بالخرق (1)و الطين، فغضب موسى عليه السّلام غضبا شديدا و قالَ للخضر معترضا عليه: أَ خَرَقْتَها و شققتها لِتُغْرِقَ أَهْلَها (2)مع أنّهم محسنون بنا حيث حملونا بلا اجرة؟ ! باللّه لَقَدْ جِئْتَ و فعلت شَيْئاً و فعلا إِمْراً و شنيعا، أو عظيما، أو عجيبا.

القمي: هو المنكر، و كان موسى ينكر الظلم فأعظم ما رأى (3)قالَ الخضر لموسى عليه السّلام إنكارا عليه، أو تقريرا: أَ لَمْ أَقُلْ لك إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً و أنت وعدتني الصبر، فلم خالفت؟

قالَ موسى معتذرا إلى الخضر: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وصيّتك بترك السؤال من شدّة الغضب، و لا مؤاخذة على الناسي وَ لا تُرْهِقْنِي و لا تعنتني مِنْ أَمْرِي الذي أنا عليه من متابعتك عُسْراً و مشقّة، بل يسّر متابعتك عليّ بالإغضاء و ترك المناقشة، فإنّي مشتاق إلى صحبتك، و لا يمكنني ذلك إلاّ بأن ترفق بي و تسامحني فيما يصدر منّي.

فقبل الخضر عذر موسى، و خرجا من السفينة فَانْطَلَقا و ذهبا معا حَتّى إِذا مرّا بقرية و لَقِيا في خارجها-على ما قيل (4)- غُلاماً صبيحا، فأخذه الخضر و ذهب به خلف الجدار فَقَتَلَهُ.

و عن ابيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّهما خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده» (5).

و عن الرضا عليه السّلام في الحديث السابق: «فخرجوا من السفينة، فنظر الخضر إلى غلام يلعب بين الصبيان حسن الوجه، كأنّه قطعة قمر، و في اذنيه درّتان، فتأمّله الخضر ثمّ أخذه و قتله، فوثب موسى عليه السّلام على الخضر و جلد به الأرض» (6). قالَ انكارا لفعله أَ قَتَلْتَ يا خضر نَفْساً زَكِيَّةً طاهرة من الذنوب بِغَيْرِ قتل نَفْسٍ محترمة يوجب القصاص؟ !

قيل: إنّ الغلام كان بالغا، لأنّ الصغير لو قتل أحدا لا يقتصّ منه (7). و فيه: لعلّ المراد بيان إنحصار مجوّز القتل في الحدود و القصاص، و إن لم يكن في الصغير أحد موجباته.

و قيل: لعلّ الصغير كان يقاد في شرع موسى، كما أنّ الصغار كانوا مكلّفين قبل الهجرة، و في عام

ص: 146


1- . في النسخة: بالخزف.
2- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:254.
3- . تفسير القمي 2:40، تفسير الصافي 3:253.
4- . تفسير روح البيان 5:279.
5- . تفسير روح البيان 5:279.
6- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:254، و جلد به الأرض: صرعه.
7- . تفسير روح البيان 5:279.

خيبر رفع القلم عنهم (1).

و روت العامّة أنّ عليا عليه السّلام أسلم و هو ابن ثماني سنين، و قد أجمعوا على صحّة إسلامه (2).

ثمّ بالغ موسى عليه السّلام في توبيخ الخضر بقوله: لَقَدْ جِئْتَ و فعلت يا خضر شَيْئاً و فعلا نُكْراً و قبيحا غايته، و منكرا أنكر من الفعل الأوّل، لأنّ خرق السفينة و إن كان تعريضا للتلف إلاّ أنّه قابل للتّدارك، بخلاف قتل الغلام فإنّه إتلاف غير قابل للتدارك.

قالَ الخضر توبيخا لموسى على عدم وفائه بالعهد و تركه العمل بالوصيّة: يا موسى أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ مرارا إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.

عن الصادق عليه السّلام: «قال الخضر: إنّ العقول لا تحكم على أمر اللّه، بل أمر اللّه يحكم عليها، فسلّم لما ترى منّي و اصبر عليه، فقد كنت علمت أنّك لن تستطيع معي صبرا» (3)قالَ موسى: اعف يا خضر عن خطئي في هذه المرّة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها و خالفتك مّرة ثالثة فَلا تُصاحِبْنِي و إن سألت صحبتك، و أبعدني و إن التمست قربك قَدْ بَلَغْتَ و وجدت في تبعيدي و عدم قبول التماسي مِنْ لَدُنِّي و من قبلي عُذْراً مقبولا لا أقدر [على]

ردّه. و في الحديث: «رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك، و لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» (4).

فَانْطَلَقا و ذهبا معا بعد ما شرطا ذلك حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ يقال لها أنطاكية، و كانت ذات أعين و سور عظيم من صخر داخلة خمسة أجبل، و دورها اثنا عشر ميلا. كذا قيل (5). و قيل: إنّها أيلة (6). و قيل: البصرة (7). و قيل: جردان من أرمينية (8). و قيل: برقة من الروم (9). و عن الصادق و الرضا عليهما السّلام: «هي الناصرة، و إليها تنسب النصارى» (10).

قيل: كانت عادة أهل البلد أنهم يسدّون أبوابها في أوّل الليل و لا يفتحونها لأحد، فجاء موسى و الخضر حتّى وصلا إلى القرية عند العشاء، فوجدا أبوابها مسدودة، فسألوا أهلها أن يفتحوا لهما الباب فأبوا ذلك (11)، و لمّا كانا جائعين اِسْتَطْعَما أَهْلَها و طلبا منهم الضيافة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما

ص: 147


1- . تفسير روح البيان 5:279-280.
2- . تفسير روح البيان 5:280.
3- . علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:253.
4- . تفسير الصافي 3:254، تفسير روح البيان 5:280.
5- . تفسير روح البيان 5:281.
6- . تفسير الرازي 21:156، تفسير أبي السعود 5:237.
7- . تفسير البيضاوي 2:19.
8- . تفسير البيضاوي 2:19، و فيه: باجروان، و في مراصد الاطلاع 1:60، و في معجم البلدان 1:192: جرزان.
9- . تفسير أبي السعود:5:237.
10- . تفسير العياشي 3:102/2671، علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:254.
11- . تفسير روح البيان 5:281.

و يطعموهما.

قيل: ذكر أهلها في موضع ضمير الجمع، للدلالة على التأكيد و زيادة التشنيع على سوء صنيعهم، فإنّ الإباء عن الإطعام و الضيافة مع كونهم أهل القرية و قادرين عليها أقبح و أشنع (1).

و قيل: إنّهما لم يسألا، و إنّما كان نزولهما عليهم بمنزلة السؤال (2).

ثمّ قيل: إنّهم باتو خارج القرية إلى الصباح، فلمّا فتحوا في النهار أبوابها، دخلوها و ساروا في سككها (3)فَوَجَدا فيها جِداراً يُرِيدُ و يشرف أَنْ يَنْقَضَّ و يسقط لزيادة ميله فَأَقامَهُ الخضر و سوّاه بالاشارة بيده، كما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله (2). أو بوضع يده عليه، كما عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا. و عن الصادق عليه السّلام في (العلل) (3).

قيل: كان طول الجدار في السماء مائة ذراع (4)، فلمّا رأى موسى عليه السّلام هذا الإحسان من الخضر إلى أهل القرية مع غاية لآمتهم و شدّة ضرورتهما إلى الطعام، اعترض على الخضر و قالَ له: لم عملت هذا العمل مجانا؟ إنّك لَوْ شِئْتَ و اللّه لاَتَّخَذْتَ من أهل القرية عَلَيْهِ أَجْراً حتى نشتري به طعاما نسدّ به الرمق.

عن الرضا عليه السّلام في الحديث السابق: «حتى إذا أتيا بالعشيّ قرية تسمّى الناصرة، و لم يضيّفوا أحدا قطّ، و لم يطعموا غريبا، فاستطعموهم فلم يطعموهم و لم يضيّفوهم» (5).

و في رواية: «و لم يضيّفوا أحدا بعدهما حتى تقوم الساعة» (6).

فنظر الخضر إلى حائط قد مال (7)لينهدم، فوضع يده عليه و قال: قم بإذن اللّه فقام، فقال موسى عليه السّلام: لم ينبغ أن تقيم الجدار حتى يطعمونا و يأوونا، و هو قوله: لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (8).

قيل: لمّا قال موسى عليه السّلام أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها (9)قال: أ ليس كنت في البحر و لم تغرق من غير سفينة؟ و لمّا قال: أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ (10)قال الخضر: أ ليس قتلت القبطيّ بغير ذنب؟ و لمّا قال: لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال: أنسيت سقياك لبنات شعيب من غير اجرة؟ (11)

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 78 الی 79

قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا اَلسَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي اَلْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)

ص: 148


1- . تفسير أبي السعود 5:237، تفسير روح البيان 5:282. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:281.
2- . تفسير روح البيان 5:282.
3- . علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:254.
4- . تفسير روح البيان 5:282.
5- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:255.
6- . تفسير العياشي 3:102/2671، تفسير الصافي 3:255.
7- . في تفسير القمي: زال.
8- . تفسير القمي 2:39، تفسير الصافي 3:255.
9- . الكهف:18/71.
10- . الكهف:18/74.
11- . تفسير روح البيان 5:282.

ثمّ لمّا خالف موسى عليه السّلام العهد مرّة ثالثة قالَ الخضر: هذا الفراق فِراقُ أو هذا السؤال موجب للفراق بَيْنِي وَ بَيْنِكَ و سبب انقطاع وصلي و وصلك سَأُنَبِّئُكَ و اخبرك بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً و حكمة الامور المسؤول عنها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «[وددنا]أنّ موسى كان صبر حتى يقصّ علينا من خبرهما» (1).

ثمّ شرع الخضر في بيان الحكم بقوله: أَمَّا اَلسَّفِينَةُ التي خرقتها فَكانَتْ ملكا لِمَساكِينَ و عدّة ضعفاء عجزة عن دفع الظلم عن أنفسهم.

قيل: كانوا عشرة إخوة، خمسة منهم زمنى (2)، و خمسة منهم يَعْمَلُونَ بها فِي اَلْبَحْرِ مؤاجرة، للكسب (3)و المعيشة فَأَرَدْتُ بأمر اللّه أَنْ أَعِيبَها و أنقضها (4)بالكسر وَ كانَ وَراءَهُمْ و خلفهم، أو أمامهم مَلِكٌ كافر يقال له جلندى: بجزيرة الأندلس ببلدة قرطبة على ما قيل (5). و هو يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة جيّدة وجد غَصْباً و ظلما، من أربابها. فكان الخرق بقصد التعييب لتسلم السفينة من الغصب لا بقصد الإغراق.

قيل: إنّ الملك كان من وراء الموضع الذي ركبوا في السفينة (6). و روي أنّ الخضر اعتذر إلى القوم، و ذكر لهم شأن الملك، و لم يكونوا يعلمون بخبره (7).

قيل: فبينما هم كذلك استقبلتهم سفينة فيها جنود الملك، و قالوا: إنّ الملك يريد أن يأخذ سفينتكم إن لم يكن بها عيب، ثمّ صعدوا إليها و كشفوها، فوجدوا موضع اللّوح مفتوحا فانصرفوا، فلمّا بعدوا عنهم أخذ الخضر ذلك اللّوح و ردّه إلى مكانه (8).

أقول: كلّ ذلك مناف لما ذكره اللّه من إطّلاع موسى عليه السّلام على الحكمة حين إرادة الخضر مفارقته.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 80 الی 82

وَ أَمَّا اَلْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا اَلْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

ص: 149


1- . تفسير الصافي 3:255، تفسير روح البيان 5:283.
2- . أي مرضى.
3- . تفسير أبي السعود 5:237، تفسير روح البيان 5:283.
4- . نقض الشيء: أفسده بعد إحكامه.
5- . تفسير روح البيان 5:284.
6- . تفسير الرازي 21:160.
7- . تفسير روح البيان 5:284.
8- . تفسير روح البيان 5:284.

ثمّ قال: وَ أَمَّا اَلْغُلامُ الذي قتلته فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ موحّدين فَخَشِينا و خفنا من أَنْ يُرْهِقَهُما و يغشيهما أو يكلّفهما طُغْياناً على اللّه وَ كُفْراً بوحدانيّته فيتّبعانه فيكفران و يطغيان لشدّة حبّهما إيّاه فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما اللّه و يعوّضهما عنه ولدا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً و طهارة من الذّنوب، و دينا و صلاحا-و إنّما قال ذلك في مقابل قول موسى عليه السّلام، قتلت نفسا زكيّة- وَ أَقْرَبَ منه رُحْماً و أكثر عطفا و أوصل بولديه و أبويهما.

عن ابن عباس: أبدلهما [اللّه]

جارية، تزوّجها نبيّ من الأنبياء، فولدت سبعين نبيّا (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّهما ابدلا بالغلام المقتول ابنة، فولد منها سبعون نبيّا» (2).

وَ أَمَّا اَلْجِدارُ المائل الذي أقمته فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ اسمهما أصرم و صريم على ما قيل (3). وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من الذهب و الفضّة على قول، و قيل: كان لوحا من ذهب أو من رخام مكتوب فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن يؤمن بالرّزق كيف ينصب، و عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، و عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، و عجبت لمن يعرف الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها. لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، و عجبت لم يؤمن بالنار كيف يضحك. و في الجانب الآخر مكتوب: أنا اللّه لا إله إلاّ أنا، وحدي لا شريك لي، خلقت الخير و الشرّ، فطوبى لمن خلقته للخير و أجريته على يديه، و الويل لمن خلقته للشرّ و أجريته على يديه (4).

و عن أمير المؤمنين و الصادق عليهما السّلام: «كان ذلك الكنز لوحا من ذهب فيه مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه، عجبت لمن يعلم أنّ الموت حقّ كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يذكر النار كيف يضحك، عجبت لم يرى الدنيا و تصرّف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئنّ إليها» (5).

ص: 150


1- . تفسير روح البيان 5:285.
2- . الكافي 6:7/11، من لا يحضره الفقيه 3:317/1542، تفسير الصافي 3:256.
3- . تفسير أبي السعود 5:238، تفسير روح البيان 5:286.
4- . تفسير روح البيان 5:286.
5- . معاني الأخبار:200/1، تفسير القمي 2:40، تفسير الصافي 3:257.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذا الكنز فقال: «أما إنّه ما كان ذهبا و لا فضّة، و إنّما كان أربع كلمات: لا إله إلاّ أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنّه، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلاّ اللّه» (1).

و عن الرضا عليه السّلام: «كان [في الكنز الذي قال اللّه: وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما لوح من ذهب]فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم [محمّد رسول اللّه،]عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح قلبه، و عجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن رأى الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يركن إليها. و ينبغي لمن عقل عن اللّه [أن]لا يتّهم اللّه في قضائه و لا يستبطئه في زرقه» (2).

وَ كانَ أَبُوهُما المسمّى بكاشح-على ما قيل (3)- صالِحاً تقيّا أمينا، يضع الناس ودائعهم عنده فيردّها إليهم سالمة-كما قيل (4)-فحفظا بصلاح أبيهما في أنفسهما و مالهما.

عن ابن عبّاس قال: حفظا بصلاح أبيهما (5)و ما ذكر منهما صلاح. روت العامّة عن الصادق عليه السّلام: «كان بينهما و بين الأب الصالح سبعة آباء» (6).

و العياشي عنه عليه السّلام: «إنّ اللّه ليحفظ ولد المؤمن [لأبيه]إلى ألف سنة، و إنّ الغلامين كان بينهما و بين أبيهما سبعمائة سنة» (7).

و عنه عليه السّلام: «إنّ اللّه ليصلح بصلاح الرّجل المؤمن ولده و ولد ولده، و يحفظه في دويرته و دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ اللّه؛ لكرامته على اللّه» ثمّ ذكر الغلامين و قال: «أ لم تر أنّ اللّه شكر صلاح أبويهما لهما» (8).

قال بعض العامّة: فما بالك بسيّد الأنبياء بالنسبة إلى قرابته الطّاهرة الطيّبة المطهّرة؟ (9).

أقول: ويل لم غصب فدك، الذي كان كنزا لهم، و لم يرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهم.

نقل بعضهم: أنّ هارون همّ بقتل بعض العلوية، فلمّا دخل عليه العلوي أكرمه و خلّى سبيله، فقيل له: بماذا دعوت حتى أنجاك اللّه منه؟ قال: قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيّين بصلاح أبيهما، احفظني لصلاح آبائي (10).

ص: 151


1- . تفسير العياشي 3:108/2690، الكافي 2:48/6، تفسير الصافي 3:256.
2- . تفسير العياشي 3:108/2691، الكافي 2:48/9، تفسير الصافي 3:257.
3- . تفسير روح البيان 5:286.
4- . تفسير روح البيان 5:287.
5- . تفسير روح البيان 5:288.
6- . تفسير الرازي 21:162، تفسير روح البيان 5:287.
7- . تفسير العياشي 3:109/2694، تفسير الصافي 3:257.
8- . تفسير العياشي 3:106/2687، تفسير الصافي 3:257.
9- . تفسير روح البيان 5:288.
10- . تفسير روح البيان 5:289.

فَأَرادَ رَبُّكَ بأمره بتسوية جدار الغلامين أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما و يصلا إلى حدّ كمالهما من البلوغ و كمال العقل و حسن التدبير في المال وَ يَسْتَخْرِجا من تحت الجدار كَنزَهُما بسهولة، و لو لا إقامته لخرب و خرج الكنز و ظهر قبل اقتدارهما عليه وضاع بالكليّة، و إنّما كانت تلك الإرادة منه تعالى رَحْمَةً عظيمة لهما مِنْ رَبِّكَ و لذا فعلت ما رأيت وَ ما فَعَلْتُهُ أو ما فعلت جميع ما رأيت من خرق السفينة و غيره عَنْ أَمْرِي و رأيي، بل فعلته بأمر اللّه تعالى و وحيه ذلِكَ المذكور تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

قيل: إنّ الخضر في تأويل خرق السفينة نسب إرادة التعييب إلى نفسه، لكون التعييب ظاهر القبح، و في تأويل القتل إلى ضمير «نا» لكون الكفر ممّا يجب أن يخشاه كلّ أحد، و في تأويل إقامة الجدار إلى الربّ لكون بلوغ الأشدّ ليس إلاّ بإرادته تعالى وحده (1).

قيل: لمّا أسند الخضر الإرادة إلى نفسه أوّلا، ألهم بأنّه من أنت حتى تكون لك الإرادة؟ ثمّ جمع في الثانية حيث قال: فأردنا، فألهم بأنّه من أنت و موسى حتى تكون لكما الإرادة؟ فخصّ في الثالثة الإرادة باللّه (2).

و قيل: إنّه في خرق السفينة ذكر العيب فأضافه إلى نفسه، و في قتل الغلام عبّر عن نفسه بضمير الجمع تنبيها على عظمته في العلم و الحكمة، و لذا لم يقدم على القتل إلاّ لحكمة بالغة، و لمّا ذكر في الغلامين رعاية صلاحهما أضاف الإرادة إلى اللّه تنبيها على أنّ المراعي لصلاح الخلق هو اللّه (1).

و عن الصادق عليه السّلام في قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها (2): «نسب الإرادة إلى نفسه لعلّة ذكر العيب» (3)إلى أن قال: «و في قوله: فَخَشِينا إنّما اشترك في الأنانيّة، لأنّه خشي و اللّه لا يخشى؛ لأنّه لا يفوته شيء، و لا يمتنع عليه أمر أراده. و إنّما خشي الخضر من أن يحال بينه و بين ما أمر به، فلا يدرك ثواب الإمضاء فيه، و وقع في نفسه أنّ اللّه جعله سببا لرحمة أبوي الغلام، فعمل فيه وسط الأمرين من البشرية مثل ما كان عمل في موسى عليه السّلام لأنّه صار في الوقت مخبرا، و كليم اللّه مخبرا» (4).

أقول: لمّا كان فهم الرواية في غاية الإشكال تركت نقل بقيّتها.

روي أنّ موسى عليه السّلام لمّا أراد أن يفارق الخضر قال له الخضر: لو صبرت لأتيت ألف عجيبة، كلّ عجيبة أعجب ممّا رأيت. فبكى موسى عليه السّلام على فراقه و قال له: أوصني يا نبيّ اللّه. قال: لا تطلب

ص: 152


1- . تفسير الرازي 21:162.
2- . الكهف:18/79.
3- . في علل الشرائع: التعييب.
4- . علل الشرائع:61/1، تفسير الصافي 3:257.

العلم لتحدّث به الناس و اطلبه لتعمل به، و كن نفّاعا و لا تكن ضرّارا، و كن بشّاشا و لا تكن عبوسا غضابا، و إيّاك و اللّجاجة، و لا تمش في غير حاجة، و لا تضحك من غير عجب، و لا تعيّر المذنبين لعلّ اللّه يغفر خطاياهم بعد الندم، وابك على خطيئتك ما دمت حيّا، و لا تؤخّر عمل اليوم إلى الغد، و اجعل همّك في معادك، و لا تخض في ما لا يعنيك، و تدبّر الأمور في علانيتك، و لا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له موسى عليه السّلام: قد أبلغت في الوصيّة.

إلى أن قال: فقال له الخضر: أوصني أنت يا موسى. فقال موسى عليه السّلام له: إيّاك و الغضب إلاّ في اللّه، و لا تحبّ الدنيا، فإنّها تخرجك من الإيمان إلى الكفر. فقال الخضر: قد أبلغت في الوصيّة، الخبر (1).

أقول: في هذه القصّة فوائد من شرف العلم و حسن طلبه، و تبعيّة العالم و التذلّل له و عدم المبادرة في الاعتراض عليه، و معرفة لطف اللّه بعباده، و رعايته تعالى حقوقهم في ذريّتهم و أموالهم، و حسن الاعتذار من المقصّر و قبول عذره، و مداراة المعلّم مع المتعلّم، إلى غير ذلك ممّا يعرفه المتأمّل فيها.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 83

ثمّ ذكر سبحانه القصّة الثالثة التي سأل اليهود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها امتحانا لنبوّته بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ الأكبر الذي ملك الدنيا بأسرها. و اسمه إسكندر بن فيلقوس اليوناني قُلْ يا محمّد سَأَتْلُوا و أقرأ من القرآن عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً و خبرا، أو المعنى سأتلو ما في شأنه من قبل اللّه قرآنا عليكم. قيل: كان بعد نمرود في عهد إبراهيم، و عاش ألفا و ستّمائة سنة (2).

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83)و عن العيّاشي، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ اسمه عيّاش، اختاره اللّه و بعثه إلى قرن من قرون الأولى في ناحية المغرب، و ذلك بعد طوفان نوح» (3).

و عن ابن عبّاس: أنّه في زمان إبراهيم (4).

و عنه: أنّ إبراهيم كان بمكّة، فأقبل إليها ذو القرنين، فلمّا كان بالأبطح قيل له: في هذا البلد إبراهيم خليل الرحمن، فقال ذو القرنين: ما كان ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم. فنزل و مشى إليه، فسلّم عليه إبراهيم و اعتنقه، و هو أوّل من عانق بعد السّلام (5).

و قيل: إنّه إسكندر الرومي، و كان وزيره و استاذه أرسطاطاليس، و كان بعد إسكندر إبراهيم بأكثر من

ص: 153


1- . تفسير روح البيان 5:287.
2- . تفسير روح البيان 5:290.
3- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الصافي 3:260.
4- . تفسير روح البيان 5:291.
5- . تفسير روح البيان 5:291، و فيه: عند السّلام.

ألفي سنة، و قبل المسيح بما يقرب من ثلاثمائة سنة (1).

عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ نفرا من اليهود أتوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا لأبي الحسن جدّي: إستأذن على ابن عمّك نسأله، إلى أن قال: فدخلوا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: أتسألوني عمّا جئتم له، أم أنبّئكم؟ قالوا: أنبئنا، قال: قد جئتم تسألوني عن ذى القرنين. قالوا: نعم، قال: كان غلاما من أهل الروم، ثمّ ملك و أتى مطلع الشمس و مغربها» الخبر (2).

قيل: كان بعد ثمود، و كان الخضر على مقدّمة جيشه و وزيره (3).

في نكتة تسمية

إسكندر بذي

القرنين

و إنّما لقّب بذي القرنين؛ لأنّه بلغ قرني الشمس و جانبيها: مشرقها و مغربها. و هو مرويّ عن النبي (4).

أو لأنّه رأى في المنام كأنّه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها و غربها، فقصّ رؤياه على قومه فلقّبوه به. و هو مرويّ عن الباقر عليه السّلام (5).

أو لأنّه كان في رأسه قرنان كالظّلفين يتحرّكان، فلبس العمامة لذلك، و هو أوّل من لبسها (6). أو لأنّه انقرض في زمانة قرنان (7). أو لأنّه كان لتاجه قرنان (8). أو لأنّ اللّه سخّر له النور و الظلمة، فكان إذا سرى يهديه النور من أمامه، و تمدّه الظلمة من ورائه (9). أو لأنّه دخل في النور و الظلمة (10). أو لأنّه جمع بين علم الظاهر و علم الباطن (11). أو كان له ذؤابتان (12)من يمين رأسه و يساره. أو لأنّه كان كريم الطرفين (13). أو كان يقاتل بيده و ركابه (14). أو لأنّه ضرب على قرنه الأيمن في طاعة اللّه فمات، ثمّ بعثه اللّه بعد مائة عام. ثمّ بعثه اللّه إلى قرن من القرون الأولى في ناحية المشرق، فضربوه ضربة على قرنه الأيسر فمات، ثمّ أحياه اللّه بعد مائة عام. كما عن أمير المؤمنين (15).

و في رواية عنه عليه السّلام: «أنّ قومه ضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب، ثمّ بعثه اللّه الثانية فضربوه على قرنه الأيسر، فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب، ثمّ بعثه اللّه الثالثة» إلى أن قال:

ص: 154


1- . تفسير روح البيان 5:290.
2- . قرب الاسناد:321/1228، تفسير الصافي 3:258.
3- . تفسير روح البيان 5:290.
4- . تفسير الرازي 21:164.
5- . الخرائج و الجرائح 3:1175/68، و تفسير الصافي 3:261، عن أمير المؤمنين عليه السّلام.
6- . تفسير روح البيان 5:290.
7- . تفسير أبي السعود 5:241.
8- . تفسير أبي السعود 5:240.
9- . تفسير الرازي 21:164، تفسير أبي السعود 5:241.
10- . تفسير الرازي 21:165.
11- . جامع الاحكام 11:48.
12- . تفسير أبي السعود 5:240.
13- . مجمع البيان 6:756، جامع الاحكام 11:48.
14- . جامع الاحكام 11:48.
15- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الرازي 21:164، تفسير الصافي 3:260.

«و فيكم مثله» أو قال: «لو فيكم مثله» و أراد نفسه (1).

و قالت العامة: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لقّب بذي القرنين لما كانت شجّتان في رأسه، أحدهما عن عمرو بن عبدودّ لعنه اللّه، و الآخر من ابن ملجم لعنه اللّه (2).

و قالوا: إنّه ملك الدنيا (3).

قيل: إنّه لمّا مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف، ثمّ جمع ملوك المغرب و قهرهم، و أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثمّ عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية، و سمّاها باسم نفسه، ثمّ دخل الشام، و قصد بني إسرائيل، و ورد بيت المقدس، و ذبح في مذبحه، ثمّ انعطف إلى أرمينية، و باب الأبواب (4)، و دانت له العراقيون و القبط و البربر، ثمّ توجّه إلى دار ابن دارا و هزمه مرّات إلى أن قتله صاحب حرسه، فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس، ثمّ قصد الهند و الصين، و غزا الامم البعيدة، و رجع إلى خراسان، و بنى المدن الكثيرة، و رجع إلى العراق، و مرض بشهرزور و مات بها (5). و قيل: إنّه كان نبيّا (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه لم يبعث أنبياء ملوكا إلاّ أربعة بعد نوح؛ أوّلهم ذو القرنين، و اسمه عيّاش» إلى أن قال: «فأمّا عيّاش فإنّه ملك ما بين المشرق و المغرب» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية: «و عوّضه [اللّه]من الضربتين اللتين على رأسه قرنين في موضع الضّربتين أجوفين، فجعل عزّ ملكه و آيه نبوّته في قرنه» (8).

و قيل: إنّه لم يكن نبيّا (9).

و عن الباقر عليه السّلام «أنّه لم يكن نبيّا، و لكنّه كان عبدا صالحا أحبّ اللّه فأحبّه» (10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه سئل عن ذي القرنين، أ نبيّا كان، أم ملكا؟ فقال: «لا نبيّ و لا ملك، بل عبد أحبّ اللّه فأحبّه» (11).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 84 الی 90

إِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَ أَمّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً اَلْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90)

ص: 155


1- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:259.
2- . تفسير روح البيان 5:290.
3- . جوامع الجامع:270.
4- . باب الأبواب: مدينة على بحر طبرستان، و هو بحر الخزر.
5- . تفسير الرازي 21:163، تفسير أبي السعود 5:240.
6- . تفسير الرازي 21:165.
7- . تفسير العياشي 3:110/2699، تفسير الصافي 3:259.
8- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الصافي 3:260.
9- . تفسير أبي السعود 5:240، تفسير روح البيان 5:290.
10- . كمال الدين:393/1، تفسير الصافي 3:259.
11- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:259.

ثمّ شرع سبحانه في ذكر قصته بقوله: إِنّا مَكَّنّا و أقدرنا لَهُ من حيث القوى و الأسباب فِي اَلْأَرْضِ كلّها مشرقها و مغربها وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و كلّ أمر من الأمور التيّ لها دخل في قدرته و سلطانه سَبَباً و وسيلة توصله إليه من العلم و التدبير و الرأي و المال و الجند،

فإذا أراد شيئا فَأَتْبَعَ و اتّخذ له سَبَباً و طريقا يوصله إليه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: ثمّ رفعه اللّه إلى السماء الدنيا، فكشط له عن الأرض كلّها جبالها و سهولها و فجاجها حتى أبصر ما بين المشرق و المغرب، و آتاه اللّه من كلّ شيء فعرف به الحقّ و الباطل، و أيّده في قرنه بكسف من السماء فيه ظلمات و رعد و برق، ثمّ أهبطه إلى الأرض، و أوحى إليه: أن سر في ناحية غرب الأرض و شرقها، فقد طويت لك البلاد، و ذلّلت لك العباد، فأرهبتهم منك. فسار إلى ناحية المغرب، فكان إذا مرّ بقرية يزأر فيها كما يزأر الأسد المغضب، فينبعث من قرنيه ظلمات و رعد و برق و صواعق تهلك من ناواه و خالفه» (1).

و عن ابن عبّاس: أنّه عند ما تواضع لإبراهيم و عانقه، سخّر له السّحاب (2).

قيل: كانت السّحاب تحمله و عساكره و جميع آلاتهم إذا أرادوا غزوة قوم (3).

و قال بعض العامة: أنّه سخّر له السّحاب، و بسط له النور، و كان الليل و النهار عليه سواء (4). و قد مرّ أنّهم قالوا: سخّر له النور و الظلمة، فكان إذا سرى يهديه النّور من أمامه، و تمدّه الظلمة من ورائه (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن ذي القرنين، فقال: «سخّر له السّحاب، و قرّبت له الأسباب، و بسط له النور، و قال: كان يضيء (6)[بالليل كما يضيء]بالنهار» الخبر (7).

فسار طلبا لماء الحياة حَتّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ و منتهى الأرض من جهتها المتّصلة (8)بالبحر المحيط بحيث إذا نظر إلى

ص: 156


1- . تفسير العياشي 3:112/2703، تفسير الصافي 3:260.
2- . تفسير روح البيان 5:291.
3- . تفسير روح البيان 5:291.
4- . تفسير روح البيان 5:291.
5- . تفسير الرازي 21:164، تفسير أبي السعود 5:241 و قد تقدّم آنفا في تفسير الآية (83) من هذه السورة.
6- . في تفسير العياشي: يبصر، و كذا التي بعدها.
7- . تفسير العياشي 3:112/2702، تفسير الصافي 3:260.
8- . في النسخة: من جهته المتّصل.

الشمس وَجَدَها حين غروبها تَغْرُبُ و تغيب فِي عَيْنٍ ذات حَمِئَةٍ و طين أسود و ماء كدر.

قيل: لمّا بلغ موضعا لم يبق بعده عمارة في جانب المغرب، وجد الشّمس كأنّها تغرب في وهدة مظلمة، كما أنّ الراكب في البحر يراها كأنّها تغرب في البحر إذا لم ير الساحل، و في الحقيقة تغرب وراء البحر، و إلاّ فإنّه كان من علماء النّجوم، و كان معلوما عنده أنّ الأرض كرويّة، و السماء محيطة بها، و الشمس في الفلك الرّابع، و لا يمكن جلوس قوم عند الشّمس كما حكاه اللّه بقوله: وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً مع أنّ الشّمس أعظم من الأرض مرّات كثيرة، فكيف يمكن دخولها في عين من الأرض؟ ! (1)

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «في عين حامية، في بحر دون المدينة التي تلي المغرب» يعني جابلقا (2).

و عنه عليه السّلام: «لمّا انتهى مع الشّمس إلى العين الحامية، وجدها تغرب فيها، و معها سبعون ألف ملك يجرّونها بسلاسل الحديد و الكلاليب، يجرّونها من (3)قعر البحر في قطر الأرض الأيمن، كما تجري السفينة على ظهر الماء» (4).

قال الفخر الرازي: قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة، قال ابن جريج: هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لو لا أصوات أهلها سمع النّاس وجبة الشّمس حين تغيب (5).

أقول: و قال بعض العامة: هم أهل جابلص، و هي مدينة يقال لها بالسريانية جرجليسا (6)، لها عشرة آلاف باب، بين كلّ بابين فرسخ، يسكنها قوم من بقية ثمود الذين آمنوا بصالح و آمنوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا مرّ بهم في ليلة الاسراء (7).

و قال بعض علمائهم: حديث جابلصا و جابلقا، و إيمان أهاليهما ليلة المعراج، و أنّهما من الإنسان الأوّل، فمشهور (8).

و قيل: إنّ القوم الذين وجدهم ذو القرنين كانوا عبدة الأصنام، لهم أعين خضر و شعور حمر، يلبسون جلود الحيوانات، و يأكلون لحوم البحر (9).

قُلْنا بطريق الإلهام: يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ هم بالقتل على كفرهم وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ

ص: 157


1- . تفسير روح البيان 5:292.
2- . تفسير العياشي 3:123/2707، تفسير الصافي 3:261، و في معجم البلدان عن ابن عباس: أن جابلقا مدينة بأقصى المغرب، و أهلها من ولد عاد. معجم البلدان 2:105.
3- . في النسخة: في.
4- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:261.
5- . تفسير الرازي 21:167.
6- . في تفسير روح البيان: جرجيسا. و الذي في معجم البلدان: جابرس: مدينة بأقصى المشرق، و أن بها بقايا المؤمنين من ثمود، و في مادة (جابلق) عن ابن عباس: أن أهل جابرس من ولد ثمود. معجم البلدان 2:105.
7- . تفسير روح البيان 5:293.
8- . تفسير روح البيان 5:293.
9- . تفسير روح البيان 5:293.

فِيهِمْ و تسلك معهم طريقا حُسْناً.

أقول: هو مبالغة في (ذي حسن) . أو محذوف المضاف، و المعنى أمرا ذا حسن، بإبقائهم أحياء (1)، و إرشادهم إلى التوحيد، و تعليمهم الشرائع، فاختر ما تراه الأصلح من الأمرين فيهم قالَ ذو القرنين: أدعوهم إلى التوحيد و العمل الصالح أَمّا مَنْ ظَلَمَ على نفسه بالإصرار على الكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل، قيل: كان يطبخ الكافر في القدر (2)ثُمَّ يُرَدُّ في الآخرة إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً و منكرا و شديدا لا يتصوّره أحد.

عن الصادق عليه السّلام: «أي في النّار» (3). وَ أَمّا مَنْ أجاب دعوتي و آمَنَ باللّه وَ عَمِلَ عملا صالِحاً و خالصا للّه و مرضيّا عنده فَلَهُ منّي في الدنيا و من اللّه في الدّارين جَزاءً و مثوبة اَلْحُسْنى أو جزاء عظيما على فعلته الحسنى.

قيل: كان يعطي المؤمن و يكسيه (4)وَ سَنَقُولُ لَهُ بعضا مِنْ أَمْرِنا و حكمنا ما يراه يُسْراً و سهلا عليه لا مشقّة فيه في أمر الخراج و الزكاة.

ثُمَّ أَتْبَعَ و سلك بعد الفراغ من بلاد المغرب سَبَباً و طريقا موصلا له إلى بلاد المشرق،

فسار بجنده حَتّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ و منتهى الأرض من جهته.

قيل: بلغه في اثنتي عشرة سنة (5). و قيل: أقلّ من ذلك (6). فرأى الشّمس في ذلك الموضع و وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً و حجابا من النبات و الأبنية و الأشجار و الجبال، فكانوا عراة لا يستظلّون بشيء.

عن الباقر عليه السّلام: «لم يعلموا صنعة البيوت» (5).

و القمي: لم يعلموا صنعة الثّياب (6).

قيل: كانوا إذا طلعت الشّمس دخلوا في الأسراب أو البحر من شدّة الحرّ، فإذا غربت أو زالت عن سمت رؤوسهم خرجوا و اصطادوا السّمك و الحيوانات البحريّة لمعيشتهم (9).

و قيل: لم يكن على رؤوسهم و أجسادهم شعر، كأنّما سلخت من شدّة الحرّ (10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّه ورد على قوم قد أحرقتهم الشمس و غيّرت أجسادهم و ألوانهم حتى

ص: 158


1- . في النسخة: حيّا.
2- . تفسير روح البيان 5:293.
3- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:262.
4- . تفسير روح البيان 5:293. (5 و 6) . تفسير أبي السعود 5:243، تفسير روح البيان 5:294.
5- . تفسير العياشي 3:123/2708، مجمع البيان 6:758، تفسير الصافي 3:262.
6- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:262. (9 و 10) . تفسير روح البيان 5:294.

صيّرتهم كالظلمة» (1).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 91 الی 98

كَذلِكَ السّلوك الذي كان لذي القرنين مع أهل المغرب، سلك مع هؤلاء القوم الذّين كانوا في جهة المشرق، أو كذلك السلطان و الاقتدار الذي كان له في ناحية المغرب كان له في ناحية المشرق وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من أمر القوم، أو بما عنده من الصلاحيّة للملك العظيم و الاستقلال، أو بما عنده من الأسباب و العدّة و العدد و القدرة خُبْراً و علما،

بحيث لا يخفى علينا شيء من أمره ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين و أخذ بعد الفراغ من اولئك القوم سَبَباً و طريقا ثالثا إلى ناحية الشّمال كما قيل (2).

كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ قالَ اُنْفُخُوا حَتّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اِسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اِسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سببا في ناحية الظلمة» (3). فسار بأسبابه حَتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ و الجبلين العاليين اللذين كانا في منقطع أرض التّرك ممّا يلي المشرق، على قول (4). أو في ما بين أرمينية و أذربيجان على آخر (5).

و قيل: إنّ موضع السدّين في الرّبع الشّمالي (6)إلى الغربي من المعمورة.

إذن وَجَدَ ذو القرنين مِنْ دُونِهِما و عندهما، أو من ورائهما قَوْماً و جماعة من النّاس و كانوا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ و لا يقربون أن يفهموا قَوْلاً و كلاما من غيرهم إلاّ بمشقّة من إشارة

ص: 159


1- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:262.
2- . تفسير الصافي 3:262، تفسير روح البيان 5:296.
3- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:262.
4- . تفسير الرازي 21:169، تفسير أبي السعود 5:244. (5 و 6) . تفسير الرازي 21:169.

و نحوها.

قالُوا بلسان ترجمانهم أو بإلهامهم لغة اسكندر، أو بإلهامه لغتهم. قيل: كان ذو القرنين ملهما باللّغات (1)يا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ بالقتل و الغارة و إتلاف الزّروع و الثّمار. و هما قبيلتان من التّرك على قول (2). أو يأجوج من التّرك، و مأجوج من الجبل و الدّيلم على آخر (3).

و قيل: إنّ المؤرّخين قالوا إنّه كان لنوح ثلاثة أولاد: بسام، و حام، و يافث، فسام أبو العرب و العجم و الروم، و حام أبو الحبش و الزّنج و النّوبة (2)، و يافث أبو التّرك و الخزر و الصّقالبة و يأجوج و مأجوج (3).

و عن الهادي عليه السّلام: «جميع الترك و الصقالب و يأجوج و مأجوج و الصين من يافث حيث كانوا» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قالوا: يا ذا القرنين، إنّ يأجوج و مأجوج خلف هذين الجبلين، و هم يفسدون في الأرض، إذا كان إبّان زروعنا و ثمارنا خرجوا علينا، فرعوا في ثمارنا و في زروعنا حتى لا يبقوا منها شيئا» (5)فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً و مقدارا من أموالنا عَلى شرط أَنْ تَجْعَلَ بتلك الأموال التي نعطيك بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا و حاجزا يمنعهم من الخروج علينا قالَ ذو القرنين: لا حاجة لي إلى أموالكم، فإنّ ما مَكَّنِّي فِيهِ و أقدرني عليه رَبِّي من المال

و الأسباب و الملك خَيْرٌ ممّا عندكم من الأموال و [ما]تبذلونه من الخرج، فإن تريدوا (6)السدّ فَأَعِينُونِي و ساعدوني عليه بِقُوَّةٍ من العمّال و الصنّاع لا بالأموال أَجْعَلْ إذن بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً و حاجزا عظيما، أكبر و أوثق من السدّ.

ثمّ كأنّهم قالوا: فأمرنا بما تريد قال آتُونِي بعوض ما أعطيكم من المال زُبَرَ اَلْحَدِيدِ و قطعات عظيمة منه.

قيل: إنّهم قالوا ليس لنا من الحديد ما يسع هذا العمل، فدلّهم على معدن الحديد و النّحاس (9)، ثمّ قاس ما بين الصدفين فوجده ثلاثة أميال (10). و قيل: مائة فرسخ (11).

ثمّ أمر بحفر ما بين السدّين فحفروه حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الأساس من الصخر و النّحاس المذاب بدل الطين، و جعل البنيان من زبر الحديد، بين كلّ زبرتين الحطب و الفحم (12)حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ و جانبي الجبلين بتنضيد الزبر بعضها فوق بعض، أمر بوضع المنافخ حوله فوضعوها، ثمّ قالَ للعملة: اُنْفُخُوا على زبر الحديد، فنفخوا في السدّ المنضود من الحديد

ص: 160


1- . تفسير روح البيان 5:297. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:170.
2- . النّوبة: جيل من الناس، موطنهم جنوب مصر.
3- . تفسير روح البيان 5:297.
4- . علل الشرائع:32/1، تفسير الصافي 3:263.
5- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:263.
6- . في النسخة: تريدون. (9 و 10 و 11 و 12) . تفسير روح البيان 5:298.

و الحطب حَتّى إِذا جَعَلَهُ محمى كأنّه صار ناراً قالَ للذين أذابوا النّحاس: آتُونِي النحاس المذاب أُفْرِغْ على السدّ و أصبّ عَلَيْهِ قِطْراً و نحاسا مذابا.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فاحتفروا له جبل حديد، فقطعوا له أمثال اللّبن، فطرح بعضه على بعض في ما بين الصّدفين، ثمّ جعل عليه الحطب، و ألهب فيه النار، و وضع عليه المنافخ فنفخوا عليه، فلمّا ذاب قال: ائتوني بقطر، فاحتفروا جبلا من نحاس، فطرحوه على الحديد، فذاب معه و اختلط به» (1).

فلمّا تمّ السدّ جاء يأجوج و مأجوج فَمَا اِسْطاعُوا و ما قدروا أَنْ يَظْهَرُوهُ و يعلوه لارتفاعه و ملاسته وَ مَا اِسْتَطاعُوا أن يجعلوا لَهُ نَقْباً و خرقا من أسفله لثخانته و صلابته قالَ ذو القرنين: هذا السدّ و الاقتدار على تسويته رَحْمَةٌ و نعمة عظيمة مِنْ رَبِّي على عباده فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي بقيام الساعة و قرب يوم القيامة و ظهرت مباديه من خروج الدجّال، و نزول عيسى، هدم اللّه السدّ و جَعَلَهُ دَكّاءَ و أرضا مستوية وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي بقيام الساعة، أو بغيره حَقًّا و صدقا البتّة، لا خلف فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه عدّ من الآيات التي تكون قبل الساعة خروج يأجوج و مأجوج (2).

و عن القمي: إذا كان قبل يوم القيامة انهدم السدّ، و خرج يأجوج و مأجوج إلى الدنيا و أكلوا الناس (3).

أقول: في كيفيّة خلق يأجوج و مأجوج و طول أعمارهم و كثرة عددهم و تخريبهم السدّ و أعمالهم بعد الخروج، روايات كثيرة من طرق الخاصة و العامة، أعرضنا عن نقلها لطولها و بعدها عن الأذهان.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ بيّن سبحانه حال يأجوج و مأجوج بعد إندكاك السدّ و خروجهم منه بقوله: وَ تَرَكْنا و خلّينا، أو جعلنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ و يختلط أو يضطرب فِي بَعْضٍ كأمواج البحر، لا يمرّون على إنسان إلاّ قتلوه، و لا على شيء إلاّ أكلوه، و لا على ماء إلاّ شربوه، ثمّ يرسل اللّه عليهم دودا بعد نزول عيسى فيقتلهم دفعة كنفس واحدة، على ما في الروايات (4).

وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100)و قيل: إنّ المراد باليوم في الآية يوم السدّ و منعهم من الخروج (5).

ص: 161


1- . تفسير العياشي 3:113/2703، تفسير الصافي 3:264.
2- . الخصال:447/46، تفسير الصافي 3:264.
3- . تفسير القمي 2:41، تفسير الصافي 3:264.
4- . تفسير روح البيان 5:299 و 300.
5- . تفسير الرازي 21:172.

و قيل: يوم القيامة، كما عن أمير المؤمنين عليه السّلام (1).

و قيل: إنّ ضمير الجمع في بعضهم راجع إلى جميع الخلق (2).

ثمّ ذكر سبحانه الآية الثانية بقوله: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ النفخة الثانية التي عندها الحشر فَجَمَعْناهُمْ في صعيد واحد بعد تفتّت أعضائهم جَمْعاً عجيبا للحساب و الجزاء وَ عَرَضْنا و أبرزنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ بحيث تكون مكشوفة بأهوالها لِلْكافِرِينَ منهم عَرْضاً و إبرازا هائلا، حيث يرون لهبها، و يسمعون تغيّظها و زفيرها.

في الحديث: «يؤتى بجهنّم يومئذ و لها سبعون ألف زمام، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» (3).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 101 الی 102

ثمّ وصف الكفّار بأذمّ صفاتهم بقوله: اَلَّذِينَ كانَتْ في الدنيا أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ و حجاب غليظ مانع عَنْ رؤية الآيات المؤدّية بالتفكّر فيها إلى ذِكْرِي بالتوحيد و التمجيد وَ كانُوا مع ذلك لا يَسْتَطِيعُونَ لفرط إعراضهم عن الحقّ و عداوتهم للرّسول سَمْعاً لذكري و استماعا لكلامي، و فيه دلالة على أنّهم أسوء حالا من الأصمّ، حيث إنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، و هؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة.

اَلَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: أتستطيع النفس المعرفة؟ فقال: «لا» . [فقيل:]يقول اللّه اَلَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ الآية؟ قال: «هو كقوله: و ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (4)» . قيل: فعابهم؟ قال: «لم يعبهم بما صنع هو بهم، [و لكن]

عابهم بما صنعوا، و لو لم يتكلّفوا لم يكن عليهم شيء» (5).

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّ غطاء العين لا يمنع من الذّكر، و الذّكر لا يرى بالعين، و لكن اللّه شبّه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب بالعميان؛ لأنّهم كانوا يستثقلون قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيه، و لا يستطيعون له سمعا» (6).

ص: 162


1- . تفسير العياشي 3:114/2703، تفسير الصافي 3:266.
2- . مجمع البيان 6:766.
3- . تفسير روح البيان 5:302.
4- . هود:11/20.
5- . تفسير العياشي 3:123/2712، تفسير الصافي 3:266.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:136/33، تفسير الصافي 3:266.

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «يعني بالذّكر ولاية أمير المؤمنين» قال: «كانوا لا يستطيعون إذا ذكر عندهم عليّ عليه السّلام أن يسمعوا ذكره، لشدّة بغضهم له، و عداوة منهم له و لأهل بيته» (1).

ثمّ وبّخ اللّه الكافرين المعرضين عن آيات التوحيد على شركهم بقوله: أَ فَحَسِبَ و التقدير لا شرك (2)اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا بي أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي كالملائكة و عيسى و عزير و الأصنام و الشياطين و يختاروهم لأنفسهم مِنْ دُونِي و ممّا سواي، أو متجاوزين إيّاي أَوْلِياءَ و معبودين، أو ناصرين لهم، و منجيهم من عذابي، فقد ضلّوا و أخطأوا في حسبانهم و توهّمهم إِنّا أَعْتَدْنا و هيّئنا جَهَنَّمَ و ما فيها منن أنواع العذاب لِلْكافِرِينَ بوحدانيّتي، و رسالة رسولي، و الدّار الآخرة نُزُلاً و مأوى، أو تشريفا لورودهم عليّ، كما تعدّ التشريفات لورود الضّيف ذي الشأن (3)، و فيه غاية التهكّم.

و عن ابن عباس: أنّه موضع النزول و المأوى (4).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 103 الی 106

ثمّ بيّن اللّه غاية جهلهم و خسرانهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ و أخبركم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً و بالأقوام الذين هم أشدّ الخلق ضررا على أنفسهم من جهة أعمالهم.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106)

ثمّ كأنّه قيل: من هم؟ (5)بيّنهم لنا، فأجابهم بقوله: اَلَّذِينَ ضَلَّ و بطل سَعْيُهُمْ و اهتمامهم في الأعمال التي هي في أنفسها حسنة فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها وَ هُمْ يَحْسَبُونَ و يتوهّمون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً و يعملون صالحا ينفعهم في الآخرة، بجهلهم بشرائط صحّة العمل و اعتقادهم أنّهم على الحقّ مع عدم النظر في دلائله، و تقصيرهم فيه.

قيل: اريد بهم الرّهبان (6). و عن مجاهد: هم أهل الكتاب (7).

ص: 163


1- . تفسير القمي 2:47، تفسير الصافي 3:266.
2- . كذا.
3- . في النسخة: الضيف الشئون.
4- . تفسير روح البيان 5:303.
5- . تفسير روح البيان 5:304. (6 و 7) . تفسير الرازي 21:174.

و روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سأله ابن الكوّاء عنهم فقال: «هم أهل حروراء» أي الخوارج.

و عن القمي: نزلت في اليهود، و جرت في الخوارج (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم النصارى و القسّيسون و الرّهبان، و أهل الشبهات و الأهواء من أهل القبلة، و الحروريّة و أهل البدع» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «كفرة أهل الكتاب: اليهود و النصارى، و قد كانوا على الحقّ فابتدعوا في أديانهم، و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا» . ثمّ قال: «و ما أهل النّهروان منهم ببعيد» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ضلالتهم في الأعمال و غاية خسرانهم فيها، بيّن سبحانه سوء عقائدهم الذي كان سببا لخسرانهم فيها بقوله: أُولئِكَ الخاسرون هم اَلَّذِينَ كَفَرُوا و جحدوا بِآياتِ وحدانيّة رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ بعد الموت و الحضور في محضر عدله في الآخرة للحساب و جزاء الأعمال فَحَبِطَتْ و ضاعت بسبب ذلك أَعْمالُهُمْ التي عملوها في الدنيا باعتقاد انتفاعهم بها في الآخرة فَلا نُقِيمُ و لا ننصب لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً و ميزانا، لعدم ترتّب الثواب عليها حتى يحتاج إلى تعيين مقداره، أو ترجيحها على سيّئاتهم.

و قيل: إنّ المراد لا نجعل لأنفسهم مقدارا أو اعتبارا (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه ليأتي الرجل السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث يذكر فيه أهل الموقف و أحوالهم-: «و منهم أئمّة الكفر و قادة الضّلالة، فاولئك لا يقيم لهم وونا، و لا يعبأ بهم، لأنّهم لم يعبؤوا بأمره تعالى و نهيه يوم القيامة، فهم في جهنّم خالدون، تلفح وجوههم النّار و هم فيها كالحون» (4).

و عن القمي: وزنا، أي حسنة (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خسرانهم و عدم الاعتناء بشأنهم في الآخرة، بيّن جزاءهم على كفرهم و أعمالهم الباطلة السيّئة بقوله: ذلِكَ الجزاء الذي نذكر جَزاؤُهُمْ في الآخرة، و هو جَهَنَّمُ فإنّا ندخلهم فيها بِما كَفَرُوا بتوحيدي وَ اِتَّخَذُوا آياتِي من القرآن و معجزات الرسول صلّى اللّه عليه و آله

ص: 164


1- . الاحتجاج:261، تفسير الصافي 3:267.
2- . تفسير الصافي 3:267، تفسير روح البيان 5:305.
3- . مجمع البيان 6:767، تفسير الصافي 3:267.
4- . الاحتجاج:244، تفسير الصافي 3:267.
5- . تفسير القمي 2:46، تفسير الصافي 3:268.

وَ رُسُلِي جميعا هُزُواً و سخرية.

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 107 الی 108

ثمّ لمّا ذكر سبحانه وعيد الكفّار بإعداد جهنّم نزلا، أتبعه بوعد المؤمنين الصّالحين بجعل الفردوس نزلا لهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و رسالة رسوله وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ التي هي من لوازم الإيمان و دليل صدقه في الدنيا كانَتْ لَهُمْ في الآخرة جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ التي هي أفضل الجنّات نُزُلاً و مأوى، أو تشريفا،

حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا لا يَبْغُونَ و لا يطلبون عَنْها حِوَلاً و انتقالا إلى أحسن و أعلى منها، إذ لا مزيد عليها و لا ملالة من الإقامة فيها.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)قيل: إنّ الفردوس ربوة خضراء في الجنّة أعلاها و أحسنها، و يقال لها سرّة الجنّة (1).

و في الحديث: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء و الأرض، و الفردوس أعلاها، فيها تتفجّر الأنهار الأربعة، و فوقها عرش الرحمن، فإذا سألتم اللّه فأسألوا الفردوس» (2).

و في حديث آخر: «جنّات الفردوس أربع؛ جنّتان من فضّة، أبنيتهما (3)و ما فيهما من فضّة، و جنّتان من ذهب، أبنيتهما و ما فيهما من ذهب» (4).

و عن كعب: ليس في الجنان أعلى من جنّة الفردوس، و فيها الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر (5).

القمي رحمه اللّه: هذه الآية نزلت في أبي ذرّ، و المقداد، و سلمان الفارسي، و عمّار بن ياسر، جعل اللّه عزّ و جلّ لهم جنّات الفردوس نزلا، أي: مأوى و منزلا (6).

سوره 18 (الكهف): آیه شماره 109 الی 110

قُلْ لَوْ كانَ اَلْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

ص: 165


1- . مجمع البيان 6:769، تفسير الصافي 3:268، تفسير روح البيان 5:306.
2- . تفسير الرازي 21:175، تفسير روح البيان 5:306.
3- . في تفسير روح البيان: آنيتها، و كذا التي بعدها.
4- . تفسير روح البيان 5:306.
5- . تفسير أبي السعود 5:250.
6- . تفسير القمي 2:46، تفسير الصافي 3:268.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه في السورة المباركة دلائل التوحيد و الرسالة و الأمثال العالية و المواعظ الشافية و قصص الأوّلين، نبّه على كمال القرآن و فضله بقوله: قُلْ يا محمّد، لقومك لَوْ كانَ اَلْبَحْرُ الذي في الدنيا و ماؤه مِداداً و حبرا لِكَلِماتِ علم رَبِّي و حكمته، و اللّه لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ و فني ماؤه بحيث لم يبق منه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي و تفنى معلوماته و حكمه وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ و خلقنا ضعفه كي يكون البحر الموجود في العالم مَدَداً و معونة لنفد أيضا، و لا تنفد الكلمات، لأنّ كلّما وجد و يوجد من البحر يكون محدودا و متناه، و هنا علم اللّه تعالى غير محدود و لا متناه.

قيل: نزلت حين قال حيي بن أخطب: في كتابكم وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (1)ثمّ تقرأون وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (2)[فنزلت هذه الآية]، و المراد: و ما اوتيتم و إن كان كثيرا و لكنّه قطرة من بحار كلمات اللّه (3).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كمال كلامه الموحى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، أمره بالتّواضع و الإعلان بأنّ كلّما علمه إنّما هو بفضل اللّه و وحيه بقوله: قُلْ يا محمّد، لقومك إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أحتاج إلى ما تحتاجون إليه، و أتضرّر بما تضرّرون به، لا ميز بيني و بينكم في لوازم الجسمانية، و إنّما الميز في الكلمات الروحانية و الفضائل المعنوية التي أهّلتني لأن يُوحى إِلَيَّ من قبل ربّي العلوم الكثيرة و المعارف الوفيرة التي أهمّها أَنَّما إِلهُكُمْ و معبودكم إِلهٌ و معبود واحِدٌ يستحقّ العبادة، و لا يأهل غيره لها.

عن العسكري عليه السّلام قال: «يعني قل لهم أنّا في البشريّة مثلكم، و لكن ربّي خصّني بالنبوة دونكم، كما يخصّ بعض البشر بالغنى و الجمال دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصّني أيضا بالنبوّة» (4).

فَمَنْ كانَ يؤمن باللّه و رسوله و يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ و ثوابه و كرامته فَلْيَعْمَلْ لذلك المطلوب عَمَلاً صالِحاً و مرضيّا عند اللّه، و ليعبده عبادة خالصة من الشرك الجليّ و الخفيّ و الأغراض النفسانية وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً من خلقه.

عن الباقر عليه السّلام: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير هذه الآية فقال: من صلّى مراءاة النّاس فهو مشرك، و من زكّى مراءاة النّاس فهو مشرك، و من صام مراءاة النّاس فهو مشرك، و من حجّ مراءاة النّاس فهو

ص: 166


1- . البقرة:2/269.
2- . الاسراء:17/85.
3- . تفسير الرازي 21:176.
4- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:504، الإحتجاج:31، تفسير الصافي 3:269.

مشرك، و من عمل عملا ممّا أمر اللّه به مراءاة النّاس فهو مشرك، و لا يقبل اللّه عمل مرّاء» (1).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسّره ذلك؟ قال: «لا بأس، ما من أحد إلاّ و يحبّ أن يظهر له في النّاس الخير، إذا لم يصنع ذلك لذلك» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: إنّه كان يتوضّأ للصّلاة، فأراد رجل أن يصبّ الماء على يديه، فأبى و قرأ هذه الآية، و قال: «و ها أنا ذا أتوضّأ للصّلاة و هي العبادة، فأكره أن يشركني فيها أحد» (3).

أقول: هذه الرواية تدلّ على أنّ المراد بالإشراك في الآية مطلق الإشراك سواء أشرك الغير في نيّته أو في نفس عمله.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «العمل الصالح المعرفة بالأئمّة وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً التسليم لعلي عليه السّلام، لا يشرك معه في الخلافة من ليس ذلك له، و لا هو أهله» (4).

و القمي عنه عليه السّلام وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، قال: «لا يتّخذ مع ولاية آل محمّد غيرهم، و ولايتهم العمل الصالح، من أشرك بعبادة ربّه فقد أشرك بولايتنا و كفر بها، و جحد أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه و ولايته» (5).

و في (الفقيه) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ هذه الآية عند منامه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلى آخرها، سطع له نور إلى (6)المسجد الحرام، حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتى يصبح» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما من عبد يقرأ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلى آخر السورة، إلاّ كان له نور من مضجعه إلى بيت اللّه الحرام، فإن كان من أهل بيت اللّه الحرام كان له نور إلى بيت المقدس» (8).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «ما من عبد يقرأ آخر الكهف عند نومه إلاّ تيقّظ في الساعة التي يريد» (9).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة، كانت كفّارة ما بين الجمعة إلى الجمعة» .

قال: و روي في من قرأها يوم الجمعة بعد الظهر و العصر مثل ذلك (10).

و في (المجمع) عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلاّ شهيدا، و بعثه اللّه

ص: 167


1- . تفسير القمي 2:47، تفسير الصافي 3:269.
2- . الكافي 2:225/18، تفسير الصافي 3:269.
3- . الكافي 3:69/1، تفسير الصافي 3:269.
4- . تفسير العياشي 3:126/2722، تفسير الصافي 3:270.
5- . تفسير القمي 2:47، تفسير الصافي 3:270.
6- . في النسخة و تفسير الصافي: من.
7- . من لا يحضره الفقيه 1:297/1358، تفسير الصافي 3:270.
8- . ثواب الاعمال:107، تفسير الصافي 3:270.
9- . الكافي 2:462/21، تفسير الصافي 3:270.
10- . الكافي 3:429/7، تفسير الصافي 3:270.

مع (1)الشّهداء، و وقف يوم القيامة مع الشّهداء» (2).

اللّهم لك الحمد و المنّة على توفيقك إيّاي لإتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 168


1- . في النسخة: و يبعثه اللّه من.
2- . مجمع البيان 6:691، ثواب الأعمال:107، تفسير الصافي 3:270.

في تفسير سورة مريم

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 19 (مريم): آیه شماره 1 الی 6

ثمّ لمّا ختمت سورة الكهف التي فيها بيان الرحمة الخاصّة على أصحاب الكهف بقوله: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ و على الخضر بقوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا و على ذي القرنين بقوله: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي و إظهار قدرته الكاملة في قصّة أصحاب الكهف و سائر القصص، و فيها إثبات النبوّة و المعاد، ثمّ ختمها بتهديد المشركين و تبشير المؤمنين، أردفت بسورة مريم التي فيها بيان رحمته الخاصّة على زكريا و مريم و كثير من الأنبياء، و إظهار قدرته الكاملة في ولادة يحيى و عيسى و إثبات النبوّة و المعاد، ثمّ ختمها بما ختم به السورة السابقة، فابتدأها بذكر أسمائه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله: كهيعص جلبا لتوجّه الناس إلى المطالب التّي بعدها، و قد سبق تأويلها في طرفة بيان المتشابهات (1).

و قيل: إنّها اسم هذه السورة (2)التي فيها ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا بن أرزين (3)بن رجعيم بن سليمان بن داود، من سبط يهودا، على ما قيل (4).

و قيل: إنّه من ولد هارون أخي موسى، و هما من سبط لاوي (5).

ص: 169


1- . راجع: الطرفة (18) من مقدمة المؤلف.
2- . تفسير روح البيان 5:312.
3- . في تفسير روح البيان: آزر. (4 و 5) . تفسير روح البيان 5:313.

قيل: إنّ التقدير هذا المتلوّ عليك ذكر رحمة ربّك التي رحم بها عبده زكريّا (1).

و قيل: إنّ التقدير أعني عبده (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا فرحمه» (3)،

إِذْ نادى رَبَّهُ و دعاه نِداءً و دعاء خَفِيًّا في محراب بيت المقدس من بعد تقريب القربان، على ما قيل (4).

و إنّما أخفى دعاءه؛ لأنّه أقرب إلى الإخلاص و الإجابة. كما في الحديث: «خير الدّعاء ما خفي» (5).

أو لخوفه من اطّلاع مواليه الذين كان يخافهم (6). أو لكونه في الصلاة (7). أو لئلاّ يلام على طلب الولد في الشيخوخة. أو لضعفه و هرمه (8).

و قالَ في دعائه: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ و ضعف اَلْعَظْمُ مِنِّي.

قيل: اشتكى سقوط أضراسه (9)وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً و ابيضّ شعوره هرما وَ لَمْ أَكُنْ من بدو عمري إلى الآن بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا و خائبا، بل كلّما دعوتك استجبت لي، فعوّدتني إنجاح مسألتي حين كنت قويّا، فكيف تردّني عن بابك مع كمال رجائي بكرمك و نهاية ضعفي و شدّة حاجتي إلى رحمتك؟ فتوسّل برحمته السابقة عليه بعد ذكر ما يستدعي الإجابة و الرأفة من كبر السنّ و ضعف الحال.

ثمّ ذكر ارتباط حاجته بأمر الدّين المقتضي لقضائها بقوله: وَ إِنِّي أرى نفسي مشرفة على الموت و خِفْتُ اَلْمَوالِيَ و بني العمومة مِنْ وَرائِي و بعد موتي أن لا يحسنوا خلافتي على بني إسرائيل، فيغيّروا دينهم. قيل: كان بنو عمّه شرار بني إسرائيل (10).

و عن الباقر عليه السّلام في تفسير الموالي قال: «هم العمومة و بنو العمّ» (11).

و القمي يقول: خفت الورثة بعدي (12)وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي و زوجتي إيشاع بنت فاقوذ على قول (13). أو بنت عمران على آخر (14)عاقِراً لم تلد أبدا فَهَبْ لِي و أعطني مِنْ لَدُنْكَ و من محض رحمتك و فضلك و سعة قدرتك بطريق الإختراع و خرق العادة وَلِيًّا و ولدا من صلبي يَرِثُنِي جميع تركتي من المال و العلم و الدين و النبوّة، كما رواه الفخر الرازي عن ابن عباس و الحسن

ص: 170


1- . تفسير الرازي 21:180.
2- . تفسير الرازي 21:179.
3- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:273.
4- . تفسير روح البيان 5:313.
5- . مجمع البيان 6:776، تفسير الصافي 3:273.
6- . تفسير الرازي 21:180، تفسير روح البيان 5:313.
7- . تفسير الرازي 21:180.
8- . تفسير الرازي 21:180، تفسير البيضاوي 2:27.
9- . تفسير روح البيان 5:313.
10- . تفسير روح البيان 5:314.
11- . مجمع البيان 6:776، تفسير الصافي 3:273.
12- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:273. (13 و 14) . تفسير روح البيان 5:314.

و الضحّاك (1).

وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ بن إسحاق، أو يعقوب بن ماثان أخي عمران بن ماثان أبي مريم الملك، كما عن الكلبي و مقاتل (2)وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا و مرضيّا عندك قولا و فعلا.

في أن الانبياء

يورثون المال خلافا

للعامة

و العجب من بعض العامة أنّهم خصّوا الإرث في الآية بالعلم و النبوّة و الدّين، للرواية المجعولة عندنا المقبولة عندهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة» (3). مع أنّ الفخر الرازي روى عن ابن عبّاس و الحسن و الضحّاك أنّهم خصّوا الإرث في الموضعين بالمال (4).

و عن ابن عباس و السّدي و مجاهد و الشّعبي و الحسن و الضحّاك أنّ الميراث في يَرِثُنِي المال، و في وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوّة (5).

و لا يخفى أنّ قول هؤلاء الأعاظم ينافي الرواية التي رواها أبو بكر و تفرّد بنقلها، مضافا إلى أنّ فاطمة عليها السّلام استدلّت بهذه الآية و نظائرها ممّا تدلّ على أنّ الأنبياء يورّثون المال على كذب الرواية (4)، و قرّرها أمير المؤمنين (5)، و لا يمكن القول بكونهما جاهلين بتفسير الآية، مع أنّ الرسول زقّهما العلم زقّا، خصوصا علم القرآن، مع أنّ زكريّا جعل وجود الولد له مأمنا من خوفه من مواليه، و لا يكون ذلك الأمر إذا كان خوفه من أن يكون بنو عمّه وارثين لماله، فيصرفوه في الصرف عن الحقّ و تغيير الدّين، و إلاّ فكم من نبيّ كان مغلوبا للأشرار و مغموما و خائفا من الكفّار.

و دعوى أنّه لو كان المراد من الإرث إرث المال، لزم القول بعدم استجابة دعاء زكريّا؛ لأنّ يحيى قتل في حياة زكريّا و لم يرث ماله، فباطل جدّا. للمنع من قتله في حياة أبيه، بتصريح جمع من الأعاظم كالزمخشري و محمّد بن جرير الطبري و غيرهما بخلافه (6). مع أنّ الاعتراض مشترك الورود؛ لأنّ إرث العلم و النبوّة أيضا لا يكون إلاّ بعد موت المورّث. و على ما ذكره المدّعي لم يصر يحيى وارثا لنبوّة زكريّا أيضا، مع أنّ النبوة لم يمكن أن يرثها الأشرار، و أن تنقطع من وجه الأرض، فكان لزكريّا ورثة النبوّة، و إن لم يكن له ولد من صلبه. مع أنّه روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «رحم اللّه زكريّا،

ص: 171


1- . تفسير الرازي 21:184.
2- . تفسير الرازي 21:185.
3- . تفسير الرازي 21:184، تفسير أبي السعود 5:255. (4 و 5) . تفسير الرازي 21:184.
4- . الاحتجاج 1:102.
5- . كشف الغمة 1:477.
6- . ذكر الطبري في تفسيره 16:37 أنّ معنى الآية: يرثني بعد وفاتي مالي، و يرث من آل يعقوب النبوة. ثمّ عدّد جمعا من المفسرين القائلين بهذا، و هو صريح في الدلالة على بقاء يحيى بعد وفاة زكريا عليه السّلام.

لم يكن له من ورثة» (1)يعني ورثة المال.

مضافا إلى أنّه سأل اللّه أن يجعل وارثه مرضيا، و لو كان المراد من الأرث إرث النبوّة، كان هذا السؤال مستدركا و لغوا؛ لأنّ النبيّ لا يكون إلاّ مرضيّا، و القول بأنّ الأنبياء و إن كانوا مرضيّين إلاّ أنّ الرضا منهم مفضل عليهم. أو أنّ المراد بالمرضيّ المرضيّ لأمّته لا يتلقّى بالتكذيب و الردّ، أو أنّ المراد أن لا يكون متّهما في شيء، و لا يوجد فيه مطعن، و لا ينسب إليه شيء من المعاصي. أو أنّ المراد ثبّته على كونه مرضيّا، كما قال إبراهيم و إسماعيل: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ (2)أي ثبّتنا (3)على إسلامنا، فكلّها خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلاّ بدليل معتبر. و ليست الرواية المجعولة أو الظنّية على قول العامة قابلة لصرف الآية عن ظاهرها.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 7 الی 9

ثمّ أخبر سبحانه باستجابة دعائه و قال بالإلهام، أو بتوسّط الملك: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ و ولد ذكر (4)يكون من كرامته عليّ أن سمّيناه قبل ولادته اِسْمُهُ يَحْيى لأنّه أحيا به عقر امّه، كما عن ابن عبّاس (5). أو لأنّه أحيا قلبه بالإيمان و الطاعة (6). أو لأنّه استشهد و الشّهداء أحياء (7). أو لأنّ الدين به يحيا (8). أو لأنّه ذابح الكبش الأملح الذي هو صورة الموت في القيامة فيذبحه فيحيا الفريقان (9). أو لجميع الوجوه و لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ و لا في الأزمنة السابقة سَمِيًّا و موافقا في الاسم، كما عن ابن عبّاس (10). عن القمي: لم يسمّ باسمه أحد قبله (11).

يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9)

قالَ زكريّا استعظاما لقدرة اللّه و استعجابا من وقوع الخارق للعادة: رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي و كيف يتولّد منّي غُلامٌ وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً لم تلد في شبابها! فكيف و هي الآن عجوز وَ قَدْ بَلَغْتُ أنا مِنَ أجل اَلْكِبَرِ في السنّ عِتِيًّا و منتهاه.

و إنّما ذكر ذلك للاعتراف بأنّ وجود الولد منه مع كونه شيخا فانيا، و من امرأته مع كونها عجوزا

ص: 172


1- . تفسير الرازي 21:184.
2- . البقرة:2/128.
3- . تفسير الرازي 21:185.
4- . في النسخة: ذكور.
5- . تفسير الرازي 21:186.
6- . تفسير الرازي 21:186.
7- . تفسير الرازي 21:186.
8- . تفسير الرازي 21:187.
9- . لم نجد رواية في هذا المعنى في تفسير هذه الآية أو في سبب تسمية يحيى عليه السّلام، لكن وردت عدة روايات و بنفس المضمون دون ذكر اسم يحيى في تفسير الآية 39 من هذه السورة، و سيأتي بعضها في هذا التفسير، راجع: تفسير أبي السعود 5:266، تفسير روح البيان 5:335، تفسير الرازي 21:221.
10- . تفسير الرازي 21:186.
11- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:274.

عاقرا، لا يكون إلاّ بقدرته القاهرة و إلغاء الأسباب الظاهرة.

و قيل: إنّ المقصود من السؤال عن وجود الغلام منهما أنّه يكون بردّهما إلى الشّباب؟ أو مع إبقائهما على حال الهرم؟ (1)

قالَ سبحانه بالإلهام، أو بتوسّط الملك: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ لا خلف فيه و لا غلط. قيل: إنّ المعنى: الأمر كذلك، تصديقا له. ثمّ ابتدء بقوله: قالَ رَبُّكَ (2)هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ و سهل. و قيل: ذلك إشارة إلى مبهم يفسّره بقوله: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (3).

قيل: إنّ معنى قوله: أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ هو أنّك تعطيني الغلام على حالنا من الشيخوخة؟ قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ يعني نعم يهب لك الغلام، و انتما على تلك الحالة (4).

ثمّ استدلّ على قدرته بقوله: وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً مذكورا، فمن كان قادرا على خلقك من العدم قادر على خلق الولد من الشيخ و الشيخة بطريق أولى.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ لمّا لم يبيّن سبحانه وقت الولادة، سأل اللّه آية تدلّ على وقتها بقوله: قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً و دلالة تدلّ على تحقّق الولد لأتلقّى نعمتك بالشّكر بدو حدوثها قالَ اللّه تعالى: آيَتُكَ و دليلك على ذلك أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ بكلام دنيوي، و لا تقدر على التنطّق بغير ذكر اللّه ثَلاثَ لَيالٍ بأيامها مع كونك سَوِيًّا و سالما من الأمراض و الآفات الموجبة لاعتقال اللّسان.

قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11)

قيل: إنّه رجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها، فانعقدت النّطفة في رحمها، ثمّ اشتغل بالعبادة و الصلاة في محرابه المختصّ به، فلمّا أصبح امتنع عليه التكلّم مع الناس (5)فَخَرَجَ في صبيحة ليلة، حملت فيها امرأته عَلى قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرابِ و المصلّى.

قيل: إنّ القوم كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوا و يصلّوا، إذ خرج زكريا عليهم متغيّر اللّون صامتا فأنكروه و قالوا: مالك يا زكريا (6)فَأَوْحى و أشار إِلَيْهِمْ بيده أو بغيرها أَنْ سَبِّحُوا للّه و صلّوا بُكْرَةً و بين الطّلوعين وَ عَشِيًّا و بين الزوال و المغرب، على ما قيل (7).

ص: 173


1- . تفسير الرازي 21:188، تفسير روح البيان 5:317.
2- . تفسير الرازي 21:188.
3- . تفسير الرازي 21:188.
4- . تفسير الرازي 21:189.
5- . تفسير روح البيان 5:318.
6- . تفسير أبي السعود 5:258، تفسير روح البيان 5:318.
7- . تفسير روح البيان 5:318.

و قيل: كان القوم يصلّون في الوقتين بإذنه (1). ثمّ مضى الحال على زكريّا كذلك ثلاثة أيّام بلياليها، ثمّ عاد إلى حالته الأولى.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ تولّد يحيى عليه السّلام بعد مضيّ مدّة حمله و نما، و كان في صغره يلبس الصوف و يوافق الأخيار في الرياضة و العبادة، حتى نزل عليه الوحي، و خاطبه اللّه إلهاما بقوله: يا يَحْيى خُذِ اَلْكِتابَ المنزّل على موسى و اعمل به بِقُوَّةٍ و جدّ و استظهار بالتوفيق و التأييد، و اصبر على مشاقّ النبوّة و تحمّل أعباء الرسالة.

يا يَحْيى خُذِ اَلْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا (13) وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا (14)

في ذكر صفات

يحيى و فضائله

ثمّ أخبر سبحانه بجلالة شأنه في الصبى بقوله: وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ من العقل الكامل و فهم حقائق التوراة و الفقه في الدين و النبوّة و الرسالة في وقت كونه صَبِيًّا غير بالغ الحلم وَ آتيناه حَناناً و عطوفة عظيمة و رحمة خاصّة مِنْ لَدُنّا و بسعة فضلنا وَ زَكاةً و طهارة من كلّ ذنب و نقص وَ كانَ تَقِيًّا و خائفا من ربّه، أو محترزا من كلّ ما لا يليق بمقامه، وَ كان بَرًّا و رحيما بِوالِدَيْهِ و محسنا إليهما وَ لَمْ يَكُنْ في آن من أوان عمره جَبّاراً و متكبّرا عليهما، أو على أحد من النّاس، أو مسيئا إليهما، أو إلى أحد و عَصِيًّا و عاقا لهما، أو عاصيا لربّه.

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: «ما ألحق اللّه صبيّا برجال كاملي العقول إلاّ هؤلاء الأربعة: عيسى بن مريم، و يحيى بن زكريّا، و الحسن، و الحسين» .

ثمّ ذكر قصّتهم، و ذكر في قصّة يحيى قوله تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا قال: «و من ذلك الحكم أنّه كان صبيّا فقال له الصبيان: هل تلعب؟ قال: و اللّه ما للّعب خلقنا، و إنّما خلقنا للجدّ لأمر عظيم. ثمّ قال: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا يعني تحنّنا و رحمة على والديه و سائر عبادنا وَ زَكاةً يعني طهارة لمن آمن به و صدّقه وَ كانَ تَقِيًّا يتّقي الشّرور و المعاصي وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ محسنا إليهما مطيعا لهما وَ لَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا يقتل على الغضب، و يضرب على الغضب، [لكنّه]ما من عبد للّه تعالى إلاّ و قد أخطأ أو همّ بخطيئة إلاّ يحيى بن زكريّا فلم يذنب و لم يهمّ بالذّنب (2).

ص: 174


1- . تفسير الرازي 21:191.
2- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:659، تفسير الصافي 3:275.

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل ما عنى بقوله: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا؟ قال: «تحنّن اللّه» ثمّ سئل فما بلغ من تحنّن اللّه عليه؟ قال: «كان إذا قال: يا ربّ، قال اللّه عزّ و جلّ: لبيك يا يحيى» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه كان إذا قال في دعائه: يا ربّ يا اللّه، ناده اللّه من السماء: لبّيك يا يحيى سل حاجتك» (2).

و عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «مات زكريّا فورثه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبيّ صغير» ثمّ تلا هذه الآية (3).

و عن الجواد عليه السّلام: «أنّ اللّه احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال: «وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا» (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 15

ثمّ أخبر اللّه بإكرامه و تعطّفه عليه في جميع الأحوال بقوله: وَ سَلامٌ و أمان من اللّه عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ من أن يناله من الشّيطان ما ينال سائر بني آدم وَ يَوْمَ يَمُوتُ من عذاب القبر وَ يَوْمَ يُبْعَثُ من القبر حَيًّا إلى المحشر من عذاب القيامة و أهوالها.

وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)روى بعض العامة: «أنّ أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا ممّا كان فيه، و يوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قطّ، و يوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. فأكرم اللّه يحيى فحيّاه (5)بالسّلام عليه في هذه المواطن الثلاثة» (6).

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد و يخرج من بطن امّه فيرى الدنيا، و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها، و يوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في الدنيا، و قد سلّم اللّه عزّ و جلّ على يحيى في هذه الثلاثة المواطن و آمن روعته» و تلا الآية (7).

ثمّ اعلم أنّ في ذكر القصّة فوائد كثيرة: منها تعليم آداب الدعاء، أوّلها: الإخفاء فيه، كما قال تعالى: اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً (8)، الثاني: ذكر عجز النفس و ضعفها قبل سؤال الحاجة، الثالث: ذكره كثرة نعم اللّه عليه، الرابع: نداء اللّه بوصف الربوبيّة، الخامس: إظهار عدم كون قصده بالدعاء محض الدنيا بل صلاح الدين.

ص: 175


1- . الكافي 2:389/38، تفسير الصافي 3:275.
2- . المحاسن:35/30، تفسير الصافي 3:275.
3- . الكافي 1:313/1، تفسير الصافي 3:275.
4- . الكافي 1:315/7، تفسير الصافي 3:275.
5- . في تفسير الرازي: فخصّه.
6- . تفسير الرازي 21:193.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:257/11، تفسير الصافي 3:276.
8- . الأعراف:7/55.

و منها: بيان رفعة مقام زكريّا و يحيى عليهما السّلام، و كونهما نبيّين مع كونهما من البشر. و منها: بيان كمال قدرته تعالى. و منها: بيان غاية لطفه بأوليائه. و منها: وجوب البرّ بالوالدين، إلى غير ذلك.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 16 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بيّن (1)كمال قدرته على خلق الولد من غير فحل بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد للنّاس فِي هذا اَلْكِتابِ العظيم مَرْيَمَ بنت عمران بن ماثان و قصّة احتبالها بعيسى و وقته بقوله: إِذِ اِنْتَبَذَتْ و تنحّت مِنْ أَهْلِها و أقاربها و أتت مَكاناً شَرْقِيًّا من بنت خالتها، أو اختها ابشاع زوجة زكريّا.

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا اَلْمَخاضُ إِلى جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

قيل: احتاجت يوما إلى الغسل، و كان وقت الشّتاء، فجاءت إلى ناحية شرقيّة من الدّار مقابل للشمس (2)فَاتَّخَذَتْ و أرخت للستر من أهلها مِنْ دُونِهِمْ و أدنى مكان منهم حِجاباً و سترا يسترها منهم إذا تعرّت.

و قيل: إنّها طلبت خلوة للعبادة لئلاّ تشتغل عنها (3).

و القمي: خرجت إلى النّخلة اليابسة (4)فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا جبرئيل فَتَمَثَّلَ و تصوّر لَها

ص: 176


1- . في النسخة: بعد بيان.
2- . تفسير روح البيان 5:321.
3- . تفسير الرازي 21:196.
4- . تفسير القمي 2:48، تفسير الصافي 3:276.

بصورة البشر فرأته بَشَراً شابّا أمرد حسن الوجه سَوِيًّا و معتدلا في الخلقة و القامة.

و قيل: كان لها في منزل زكريّا محراب مخصوص تسكنه، و كان إذا خرج أغلق عليها بابه، فتمنّت أن تتّخذ خلوة في الجبل لتفلّي (1)رأسها، فانفرج (2)السقف فخرجت إلى المفازة، فجلست في المشرفة. وراء الجبل، فأتاها الملك (3)في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشّعر.

و قيل: إنّه ظهر لها في صورة يوسف أحد خدّام بيت المقدس (4)، فلمّا رأته قالَتْ تعفّفا و تورّعا: يا شابّ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ و ألتجأ إليه برحمته الواسعة مِنْكَ و من سوء قصدك و صنيعك إِنْ كُنْتَ مؤمنا تَقِيًّا تبالي بالاستعاذة بالرحمن،

فلا تتعرّض لي و اتّعظ بتعويذي قالَ جبرئيل: لا تخافي (5)منّي و لا تتوهّمي (6)السّوء في حقّي إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الذي استعذت به جئتك لِأَهَبَ لَكِ و أعطيك بالنّفخ في روعك غُلاماً زَكِيًّا طاهرا من كلّ لوث و دنس، و مبرّءا من كلّ نقص و شين،

فلمّا سمعت ذلك قالَتْ تعجّبا من وقوع الأمر الخارق للعادة، لا استبعادا من قدرة اللّه: أَنّى يَكُونُ لِي و كيف يتولّد منّي غُلامٌ وَ الحال أنّه لَمْ يَمْسَسْنِي و لم يباشرني بَشَرٌ بالنّكاح لَمْ أَكُ بَغِيًّا و فاجرة!

قالَ جبرئيل: كَذلِكِ الذي قلت قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. قد مرّت الوجوه في كَذلِكِ و ما بعده.

ثمّ ذكر سبحانه علّة خرق العادة بوهب الغلام بغير فحل بقوله: وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً و برهانا قاطعا للنّاس على قدرتنا و رسالة هذا الغلام.

قيل: إنّ التقدير لنبيّن به قدرتنا (7)لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً عظيمة مِنّا عليهم، هداية لهم بهدايته وَ كانَ ذلك الخلق العجيب أَمْراً مَقْضِيًّا و مقدّرا في علمي السابق لا بدّ من وقوعه.

ثمّ قيل: إنّ جبرئيل نفخ في جيبها (8)، أو ذيلها (9)، أو أخذ بكمّها و نفخ في درعها (10).

عن ابن عباس: فاطمأنّت مريم إلى قول جبرئيل، فدنا منها فنفخ في جيب درعها (11)فَحَمَلَتْهُ عقيب نفخ جبرئيل.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّه تناول جيب درعها (12)فنفخ فيه نفخة، فكمل الولد في الرّحم في ساعته، كما يكمل في أرحام النساء في تسعة أشهر، فخرجت من المستحمّ و هي حامل فحجج (13)مثقل، فنظرت

ص: 177


1- . في النسخة: لتضل.
2- . في النسخة: فانفجر.
3- . تفسير الرازي 21:196.
4- . تفسير الرازي 21:196.
5- . في النسخة: تخف.
6- . في النسخة: و لا تتوهم.
7- . تفسير أبي السعود 5:261.
8- . تفسير الرازي 21:201.
9- . تفسير الرازي 21:201.
10- . تفسير الرازي 21:201.
11- . تفسير روح البيان 5:324.
12- . في مجمع البيان: مدرعتها.
13- . كذا، و في مجمع البيان: محج، و في الصافي: محج، و لعلها تصحيف: تفحج، أي تباعد بين رجليها، كما هو شأن النساء المثقلات بالحمل.

إليها خالتها فانكرتها، و مضت مريم على وجهها مستحيية من خالتها و من زكريّا» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ مريم حملت بعيسى تسع ساعات» (2).

فَانْتَبَذَتْ مريم و اعتزلت من أهلها و عيسى في بطنها و تباعدت بِهِ مَكاناً قَصِيًّا و موضعا بعيدا من قومها.

روى بعض العامة عن وهب: أنّ مريم لمّا حملت بعيسى عليه السّلام كان معها ابن عمّ لها يقال له يوسف النجّار، و كانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، و كانا يخدمان ذلك المسجد، و لا يعلم في زمانهما أحد أشدّ اجتهادا و عبادة منهما، و أوّل من عرف حمل مريم يوسف، فتحيّر في أمرها، فكلّما أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها و عبادتها و أنّها لم تغب عنه ساعة قطّ، و إذا أراد أن يبرّءها رأى الذي ظهر منها من الحمل، فأوّل ما تلكّم أن قال: إنّه وقع في قلبي من أمرك شيء، و قد حرصت على كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت أنّ الكلام فيه أشفى لصدري. فقالت: قل قولا جميلا. قال: أخبريني-يا مريم-هل ينبت زرع بغير بذر؟ و هل تنبت شجرة بغير غرس؟ و هل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أنّ اللّه أنبت الزّرع يوم خلقه من غير بذر، و هذا البذر إنّما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر. ألم تعلم أنّ اللّه تعالى أنبت الشجر من غير غيث، و بالقدرة جعل الغيث حياة الشّجر بعدما خلق كلّ واحد منهما على حدة؟ أو تقول أنّ اللّه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، و لو لا ذلك لم يقدر على إنباتها؟

فقال يوسف: لا أقول هذا، و لكنّي أقول: إنّ اللّه قادر على ما يشاء، فيقول له كن فيكون. فقالت له مريم: ألم تعلم أنّ اللّه خلق آدم و امرأته من غير ذكر و لا انثى؟ فعند ذلك زالت التّهمة عن قلبه، و كان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضّعف عليها بسبب الحمل و ضيق القلب، فلمّا دنا نفاسها أوحى اللّه إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلاّ يقتلوا ولدك، فاحتملها يوسف إلى أرض [مصر] على حمار له، فلمّا بلغت تلك البلاد أدركها النّفاس، فألجأها إلى أصل نخلة، و ذلك في زمان برد، فاحتضنتها فوضعت عندها (3).

و قيل: إنّها استحيت من زكريّا، فذهبت إلى مكان بعيد، لا يعلم بها زكريا (4).

و قيل: إنّها خافت من قومها على ولدها (5). و على أيّ تقدير خرجت من بين قومها، أو من منزل

ص: 178


1- . مجمع البيان 6:789، تفسير الصافي 3:277.
2- . الكافي 8:332/516، تفسير الصافي 3:277.
3- . تفسير الرازي 21:201. (4 و 5) . تفسير الرازي 21:202.

زكريّا في جوف اللّيل إلى خارج بيت المقدس على ما قيل (1). أو من دمشق إلى كربلاء، كما عن السجّاد عليه السّلام (2).

فأخذها الطّلق فَأَجاءَهَا و ألجأها اَلْمَخاضُ و وقع الولادة إِلى جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ اليابسة لتستتر بها و تعتمد عليها عند الولادة، إذ لم يكن لها قابلة تعينها، أو لإظهار المعجزة في الجذع، و هو ما بين العرق و الغصن، و كان مجيئها إلى الجذع بإلهام اللّه.

القمي: كان ذلك اليوم سوق، فاستقبلها الحاكة، و كانت الحياكة أنبل صناعة في ذلك الزمان، فاقبلوا على بغال شهب، فقالت لهم مريم: أين النّخلة اليابسة؟ فاستهزءوا بها و زجروها. فقالت لهم: جعل اللّه كسبكم بورا، و جعلكم في النّاس عارا؛ ثمّ استقبلها قوم من التجّار فدلّوها على النخلة اليابسة، فقالت لهم: جعل اللّه البركة في كسبكم، و أحوج النّاس إليكم؛ فلمّا بلغت النّخلة أخذها المخاض فوضعت بعيسى، فلمّا نظرت إليه قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا (3)الأمر، أو هذا اليوم، أو هذا الحمل وَ كُنْتُ نَسْياً و شيئا من حقّه أن يطرح لحقارته و دناءته كخرقة الطمث و مَنْسِيًّا عند النّاس لا يذكرني أحد.

قيل: إنّما قالت ذلك كي لا يقع أحد في المعصية، للتكلّم فيها، و إلاّ فإنّها كانت راضية مسرورة بوقوع ما بشّرت به (4).

و القمي: قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ماذا أقول لخالتي (5)، و لبني إسرائيل (6)؟

فَناداها عيسى مِنْ تَحْتِها و من مكان أسفل منها، أو من تحت النّخلة تطييبا لقلبها و إزالة للوحشة عنها: أَلاّ تَحْزَنِي بسبب ولادتي و قحط الطعام و الشراب قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ و في مكان أسفل منك سَرِيًّا و نهرا صغيرا جاريا.

عن ابن عبّاس: أنّ جبرئيل ضرب برجله الأرض، فظهرت عين ماء عذب، فجرى جدولا (7).

و قيل: إنّ السريّ سيّد القوم و شريفهم (8)وَ هُزِّي و اجذبي إِلَيْكِ و نحوك بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ التي فوق رأسك تُساقِطْ عَلَيْكِ إسقاطا متواترا رُطَباً جَنِيًّا طريّا، أو صالحا للاجتناء.

قيل: كان من العجوة، و هي أفضل التمر (9)فَكُلِي يا مريم من الرّطب وَ اِشْرَبِي من ماء السّريّ وَ قَرِّي عَيْناً و طيبي نفسا، و ارفضي عنك ما أحزنك و أهمّك، فإنّ اللّه نزّه ساحتك بالخوارق: من جري

ص: 179


1- . تفسير روح البيان 5:326.
2- . التهذيب 6:73/139، تفسير الصافي 3:277.
3- . تفسير القمي 2:49، تفسير الصافي 3:278.
4- . تفسير الرازي 21:203.
5- . في المصدر: لخالي.
6- . تفسير القمي 3:49، تفسير الصافي 3:278.
7- . تفسير أبي السعود 5:262، تفسير روح البيان 5:327.
8- . تفسير أبي السعود 5:262، جوامع الجامع:273.
9- . تفسير روح البيان 5:328.

النّهر، و اخضرار النّخلة اليابسة، و إثمارها قبل وقتها.

قيل: إنّ المنادي كان جبرئيل (1)، فإنّه كان لها كالقابلة.

قيل: إنّما قدّم الأكل لكون حاجتها إليه أشدّ (2)، و أخّر تأمينه عن الخوف لقلّته ببشارة جبرئيل، و إنّما جاء رزقها في المحراب من الجنّة حال طفوليّتها لعدم تعلّق قلبها بشيء هنالك، و امرت بهزّ النخلة هنا لعلاقتها بالولد، و إنّما امرت بهزّ النخلة لأنّها تعجّبت من وجود الولد بلا فحل، فأراها اللّه الرّطب من النخلة اليابسة لأنّها لا تثمر إلاّ بالتّأبير (3)من لقاح الذّكر.

في الحديث: «إذا ولدت امرأة فليكن أوّل ما تأكل الرّطب، فإن لم يكن رطب فتمر، فإنّه لو كان شيء أفضل منه لأطعمه اللّه تعالى مريم بنت عمران حين ولدت عيسى» (4).

قيل: إنّ اللّه أرسل الملائكة ليكونوا عند مريم حين ولادة عيسى عليه السّلام، فلمّا تولّد حفّوا به و قمّطوه في حرير الجنّة، و وضعوه عند مريم (5).

ثمّ علّمها عيسى عليه السّلام طريق التخلّص من اعتراض بني إسرائيل عليها بقوله: فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً و إن رأيت من الآدميّين شخصا اعترض عليك فَقُولِي في جوابه بالاشارة: إِنِّي لا أتكلّم و لا اجيبك لأنّي نَذَرْتُ و جعلت على نفسي أن أصوم لِلرَّحْمنِ صَوْماً و إمساكا من الكلام، أو منه و من غيره من المفطرات فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا قيل: كان صيام عبّاد بني إسرائيل الإمساك من الطعام و الكلام، و قد نسخ في هذه الأمّة (6).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده» ثمّ قال: «قالت مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم، و غضّوا أبصاركم» (7). ثمّ احتضنت مريم ولدها، و رجعت إلى بيت المقدس.

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها عن ابن عبّاس: أنّ مريم خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، و جاءتهم عند الظهر و معها صبيّ (8)تَحْمِلُهُ روي أنّ زكريّا افتقد مريم، فلم يجدها في محرابها، فاغتمّ غمّا شديدا، و قال لابن خالها يوسف: اخرج في طلبها، فخرج يقتصّ أثرها حتى لقيها تحت النخلة، فلمّا رجعت إلى قومها، و هم أهل بيت صالحون، و زكريّا جالس معهم، بكوا و حزنوا (9)و قالُوا توبيخا

ص: 180


1- . تفسير الرازي 21:204.
2- . تفسير الرازي 21:206.
3- . أبّر النخل: لقحه و أصلحه.
4- . تفسير روح البيان 5:328.
5- . تفسير روح البيان 5:328.
6- . تفسير روح البيان 5:328.
7- . الكافي 4:87/3، تفسير الصافي 3:279.
8- . تفسير روح البيان 5:329.
9- . تفسير روح البيان 5:329.

لها: يا مَرْيَمُ و اللّه لَقَدْ جِئْتِ و فعلت شَيْئاً و فعلا فَرِيًّا و عظيما،

أو منكرا عجيبا يا أُخْتَ هارُونَ الصالح و نظيره في العبادة و التقوى، و قيل: كان لها أخ صالح اسمه هارون (1)، و قيل: إنّ المراد هارون أخو موسى (2).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما عنوا هارون النبيّ، و كانت من أعقابه، و إنّما قيل يا اخت هارون كما يقال يا أخا همدان، أي يا واحدا منهم» (3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: أنّه بعث المغيرة بن شعبة إلى نجران، فقالوا: أ لستم تقرءون: يا أُخْتَ هارُونَ و بينهما كذا و كذا، فذكر ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «ألا قلت: إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم (4)و الصّالحين منهم» (5).

قال بعض العامّة: إنّ هارون كان رجلا معلنا بالفسق فشبّهوها به (6).

و عن القمي: أنّ هارون كان رجلا فاسقا زانيا، فشبّهوها به (7).

ثمّ بالغوا في توبيخها بقولهم: ما كانَ أَبُوكِ عمران اِمْرَأَ سَوْءٍ و رجلا فاسقا زانيا، كما عن ابن عبّاس (8). قيل: كان أشرف الأحبار (9)وَ ما كانَتْ أُمُّكِ حنة بَغِيًّا و زانية، فلم كنت سيئة العمل، و من أين جئت بهذا الولد؟

سوره 19 (مريم): آیه شماره 29 الی 34

فلمّا بالغ القوم في توبيخها، بل قيل إنّهم همّوا برجمها، و كان عيسى عليه السّلام في حجرها يرتضع (10)فَأَشارَتْ مريم إِلَيْهِ و أجابتهم بالإيماء: أنّ هذا الرضيع في حجرى يجيبكم و أنا صائمة لا أتكلّم، فغضبوا غضبا شديدا و قالُوا: لسخريّتها بنا أشدّ من زناها كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ شأنه أن يكون فِي اَلْمَهْدِ أو من كان في حجر امّه يرتضع حال كونه صَبِيًّا لا يفهم السؤال و لا يقدر

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا (32) وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)

ص: 181


1- . تفسير الرازي 21:208.
2- . تفسير الرازي 21:208.
3- . تفسير الرازي 21:208.
4- . في النسخة: بآبائهم.
5- . سعد السعود:221، تفسير الصافي 3:279.
6- . تفسير الرازي 21:208.
7- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:279.
8- . تفسير روح البيان 5:330.
9- . تفسير روح البيان 5:330.
10- . تفسير الرازي 21:208.

على الجواب؟ فلمّا سمع عيسى عليه السّلام منهم ذلك ترك الرّضاع، و اتّكا على يساره، و أشار إلى نفسه بسبّابته.

و قيل: إنّ زكريّا عليه السّلام أتى مريم عند ذلك، و قال لعيسى عليه السّلام: انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها (1). فعند ذلك قالَ عيسى: إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ ردّا على من يقول إنّه اللّه أو شريكه أو ولده آتانِيَ اَلْكِتابَ المسمّى بالإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا في الصبى، كما هو قول بعض العامّة، و مدلول بعض رواياتنا (2).

و عن ابن عباس أنّه قال: المراد أنّه حكم و قضى بأنّه سيبعثني من بعد، ثمّ سكت عيسى و عاد إلى الصّغر، و لمّا بلغ ثلاثين سنة بعثه اللّه (3)، ثمّ قال: وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً و نفّاعا كما عن القمي، و جمع من العامة (4)، أو ثابتا على الحقّ و الدّين (5). أو مستعليا بالحجّة و غالبا مفلحا (6)، أو معلّما للبشر دينهم (7)و جميع ما فيه خيرهم أَيْنَ ما كُنْتُ في برّ أو بحر أو سهل أو جبل وَ أَوْصانِي و أمرني أمرا مؤكّدا بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ.

عن الصادق عليه السّلام قال: «زكاة الرؤوس، لأنّ كلّ الناس ليست لهم أموال، و إنّما الفطرة على الغني و الفقير و الصغير و الكبير» (8). ما دُمْتُ حَيًّا في الدنيا وَ جعلني بَرًّا و محسنا بِوالِدَتِي مريم وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً و متكبّرا و شَقِيًّا و عاصيا بالعقوق و غيره.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه عدّ من الكبائر العقوق قال: «لأنّ اللّه جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي» الآية (9)، أعلن فيه بتبرئة امّه، و أنّه ولد بغير أب، ثمّ سأل السّلامة التي بشّر اللّه بها يحيى عليه السّلام بقوله: وَ اَلسَّلامُ و الأمان الذي بشّر اللّه به يحيى عليه السّلام يكون عَلَيَّ أيضا يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا و قد مرّ تفسيره (10).

و قيل: إنّ اللاّم في (السّلام) للاستغراق، و المعنى: كلّ السّلام عليّ، و لا يكون لأعدائي الّذين اتّهموا مريم، بل عليهم اللّعن (11).

روي أنّ عيسى عليه السّلام قال ليحيى: أنت خير منّي، سلّم اللّه عليك، و سلّمت على نفسي (12). و قيل: إنّ تسليمه على نفسه بتسليم اللّه عليه (13).

ص: 182


1- . تفسير الرازي 21:208.
2- . راجع: تفسير روح البيان 5:331، الكافي 1:313-314/1 و 2.
3- . تفسير الرازي 21:213.
4- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:280، تفسير البيضاوي 2:30، تفسير أبي السعود 5:264.
5- . تفسير الرازي 21:214.
6- . تفسير الرازي 21:214.
7- . تفسير الرازي 21:214.
8- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:280.
9- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:286/33، تفسير الصافي 3:281.
10- . في الآية (15) من هذه السورة.
11- . تفسير الرازي 21:216.
12- . تفسير الرازي 21:216.
13- . تفسير الرازي 21:216.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ولادة عيسى عليه السّلام و حكاية اعترافه بالعبوديّة للّه، بيّن بطلان قول النصارى بأنّه ابن اللّه بقوله: ذلِكَ المتولّد من مريم بنفخ جبرئيل المعترف بالعبوديّة للّه و رسالته هو عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ لا الذي قالت النصارى بألوهيّته، أو إنّه ابن اللّه، قلنا لكم قَوْلَ اَلْحَقِّ و الصدق. و قيل: إنّ المعنى أنّ عيسى كان قول الحقّ (1)و كلمة اللّه و روحه اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ و في شأنه يشكّون و يختلفون.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 35 الی 39

ثمّ بيّن امتناع كونه ولدا للّه بقوله: ما كانَ و ما صحّ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ لنفسه مِنْ وَلَدٍ لأنّ الولد لا بدّ أن يكون مسانخا لوالده، و لا تعدّد لواجب الوجود سُبْحانَهُ و تنزّه من أن يكون له جنس و جسم و حاجة إلى الولد، لأنّه إِذا قَضى و أراد أَمْراً من الامور و شيئا من الأشياء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و يشاءه بالمشيئة التكوينيّة فَيَكُونُ ذلك الأمر و يوجد ذلك الشيء بصرف إرادته و مشيئته بلا ريث، كالمأمور المطيع للآمر المطاع.

ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَ إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ اَلظّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39)

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان بقيّة ما قال عيسى عليه السّلام في المهد، أو بعد بعثته، بقوله: وَ إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فإذا كان كذلك فَاعْبُدُوهُ وحده و لا تشركوا به شيئا من خلقه في الالوهيّة و العبادة، و اعلموا أنّ هذا التوحيد الذي دعوتكم إليه و أمرتكم به صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل لكم إلى كلّ خير و سعادة،

لا يضلّ و لا يشقى سالكه فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزابُ و الجماعات الكثيرة من النّاس المتحزّبين مِنْ بَيْنِهِمْ فقال حزب: إنّه اللّه، و حزب: إنّه ابن اللّه، و حزب: إنّه شريك اللّه و ثالث ثلاثة، و حزب: إنّه عبد اللّه و نبيّه فَوَيْلٌ ثابت و هلاك دائم لِلَّذِينَ كَفَرُوا من المختلفين مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ و معاينة أهوال القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ و ما أسمعهم للهدى! وَ أَبْصِرْ و ما أبصرهم بالحقّ! يَوْمَ هم يَأْتُونَنا فيه للحساب و جزاء الأعمال، فيصير الحقّ عندهم أبين من الشّمس.

و قيل: إنّ المعنى أسمع يا محمّد بهم و أبصرهم و عرّفهم حالهم في اليوم الذي يأتوننا (2)فيه و لكِنِ

ص: 183


1- . تفسير الرازي 21:217.
2- . تفسير الرازي 21:221.

اَلظّالِمُونَ اَلْيَوْمَ الذي تنفعهم البصيرة و تمييز الحقّ من الباطل-و هو الدنيا-مستقرّون فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و مصرّون على الخطأ الواضح،

و يكون عليهم حسرة وَ أَنْذِرْهُمْ يا محمّد و خوّفهم من يوم القيامة الذي يكون لهم يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ و وقت الندامة على الضلالة في الدنيا، و ذلك الوقت إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ و حتم عليهم العذاب، و لم يبق لهم مجال التدارك.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن قوله تعالى: إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح، فيذبح و الفريقان ينظران، فيزداد أهل الجنّة فرحا على فرح، و أهل النّار غمّا على غمّ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ينادي مناد من عند اللّه عزّ و جلّ، و ذلك بعد ما صار أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار: يا أهل الجنّة و أهل النار، هل تعرفون الموت في صورة من الصّور؟ فيقولون: لا، فيؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنّة و النار، ثمّ ينادون جميعا: أشرفوا و انظروا إلى الموت، فيشرفون، ثمّ يأمر اللّه عزّ و جلّ به فيذبح، ثمّ قال: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، و يا أهل النار خلود فلا موت أبدا، و هو قوله تعالى: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ أي قضي على أهل الجنّة بالخلود فيها، و قضي على أهل النّار بالخلود فيها» (2).

و في رواية: «فيفرح أهل الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا» (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بإنذارهم من ذلك اليوم ذمّهم بقوله: وَ هُمْ اليوم فِي غَفْلَةٍ من ذلك، و من شدّة حسراته، و ممّا يفعل بهم فيه وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ بذلك اليوم حتى يرونه، أو لا يؤمنون بك حتى يقبلوا إنذارك.

و قيل: إنّ الجملتين حاليتين من الضمير المستتر في قوله: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و المعنى هم مستقرّون في ضلال، و هم في غفلة، و هم لا يؤمنون، و ما بين الحال و ذي الحال اعتراض (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 40 الی 43

إِنّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43)

ص: 184


1- . تفسير الرازي 21:221، تفسير روح البيان 5:335.
2- . تفسير القمي 2:50، تفسير الصافي 3:282.
3- . مجمع البيان 6:795، تفسير الصافي 3:282.
4- . تفسير أبي السعود 5:266، تفسير روح البيان 5:335.

ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب القلوب ببيان كمال قدرته و عظمته بقوله: إِنّا نَحْنُ خاصّة لا غيرنا نَرِثُ و نملك اَلْأَرْضَ كلّها وَ مَنْ عَلَيْها و ما فيها، فلا يبقى لأحد ملك و سلطان غيرنا بعد النّفخة الاولى في الصّور وَ إِلَيْنا و إلى حكمنا يُرْجَعُونَ و يردّون، فنحاسب أعمالهم و نجزيهم حسب استحقاقهم، و فيه تخويف عظيم و إنذار بليغ.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نبوة عيسى عليه السّلام و دعوته إلى التوحيد، ذكر نبوّة إبراهيم عليه السّلام و دعوته إليه بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد فِي هذا اَلْكِتابِ الكريم لقومك جدّك إِبْراهِيمَ و اتل عليهم نبأه، فإنّهم مفتخرون بالانتساب إليه، مقرّون بفضله و حسن طريقته، و قل لهم: إِنَّهُ عليه السّلام كانَ موحّدا أو صِدِّيقاً و ملازما للحقّ و مبالغا في تصديق الأنبياء، و كتبهم و دينهم، و كان هو أيضا نَبِيًّا عظيم الشّأن رفيع المنزلة.

و اذكر إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر بلين و لطف و أدب يا أَبَتِ لا بدّ في حكم العقل من كون المعبود قادرا على كلّ شيء، سميعا لدعاء الداعين و مسألة المحتاجين، بصيرا بأحوال عباده و أفعالهم و عباداتهم، مغنيا عنهم، و نافعا لهم حتى تكون عبادته جالبة للنفع، و لا يكون لغوا و لا عبثا، فإذا كان كذلك لِمَ تَعْبُدُ أنت ما لا يَسْمَعُ دعاءك و تضرّعك وَ لا يُبْصِرُ عبادتك و خضوعك وَ لا يُغْنِي عَنْكَ و لا ينفعك في حوائجك شَيْئاً يسيرا لا في الدنيا و لا في الآخرة

يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي من قبل ربّي بالوحي و الإلهام مِنَ اَلْعِلْمِ بالواقعيات و حقائق الامور ما لَمْ يَأْتِكَ إذن فَاتَّبِعْنِي و وافقني في العقائد و الأعمال، و اقبل نصحي، و لا تستنكف عن التّعلّم منّي، فإن فعلت ذلك أَهْدِكَ و ارشدك صِراطاً سَوِيًّا و طريقا مستقيما، يوصلك إلى السعادة الأبديّة و خير الدنيا و الآخرة، و فيه من حسن الدعوة ما لا يخفى، حيث لم يدّع لنفسه العلم الفائق و لأبيه الجهل المفرط، و إن كانا كذلك، بل ادّعى لنفسه زيادة العلم بالنسبة إليه، و سأله الرّفاقة في مسلك يكون أعرف به.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 44 الی 50

ص: 185

ثمّ بعد توبيخ أبيه على عبادة الأوثان زجره عنها بقوله: يا أَبَتِ إنّ عبادة الأصنام في الحقيقة عبادة الشيطان لكونها بتسويله، و لا تَعْبُدِ اَلشَّيْطانَ و لا تتّبع خطواته و تسويلاته إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ في بدو خلقة أبيك آدم لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا حيث أمره بالسجود له فأبى و استكبر، ثمّ أعلن بعداوته لذرّيته، و من الواضح أنّ طاعة العاصي مع شدّة عداوته تورث النقم و تزيل النعم.

يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ اَلشَّيْطانَ إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ اَلرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

ثمّ خوّفه مع إظهار المودّة له (1)بقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ إن متّ على ما أنت عليه من عبادة الأصنام من أَنْ يَمَسَّكَ و يصيبك عَذابٌ عظيم مِنَ اَلرَّحْمنِ مع سعة رحمته فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ بسبب طاعتك له وَلِيًّا و قرينا في العذاب الدّائم، أو قريبا يليك و تليه.

فلمّا سمع أبوه منه عليه السّلام هذه النصائح، غضب و أنكر عليه اعتزاله عبادة الأصنام بقوله: قالَ أَ راغِبٌ و معرض أَنْتَ عَنْ عبادة آلِهَتِي و الأصنام التي أعبدها يا إِبْراهِيمُ فإنّ الإعراض عن عبادتها لا ينبغي من عاقل فضلا عن أن يقدم أحد على صرف الغير عنها، فباللات و العزّى لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ و لم تنصرف من هذا القول الذي نهيتك عنه و عن إعراضك عن عبادة الأصنام الذي أزجرك عنها لَأَرْجُمَنَّكَ و لأقتلنّك برمي الأحجار، و قيل: يعني لأشتمنّك (2)، إذن فاحذرني وَ اُهْجُرْنِي و تباعد منّي مَلِيًّا و زمانا طويلا، لتسلم من بأسي، و لا تنطق عندي بهذه الخرافات.

فلمّا رأى إبراهيم عليه السّلام شدّة غضب آزر عليه، و عدم قبوله الهداية و النّصح قالَ: يا أبت سَلامٌ منّي عَلَيْكَ لا اصيبك بمكروه، و لا اقابلك بما يؤذيك، بل أحسن إليك في مقابل إساءتك. و قيل: إنّه سلام توديع و متاركة (3)، و المعنى أنا الآن أهجرك و افارقك، و لكن سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي و أسأله أن يوفّقك للهداية و قبول الحقّ، و أرجو أن يجيب دعائي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا و لطيفا في الغاية و بليغا في البرّ و العناية

وَ أَعْتَزِلُكُمْ و أتباعد عنكم يا عبدة الأصنام لمّا لا تقبلون نصحي و لا تهتدون بقولي وَ أعتزل ما تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه وَ أَدْعُوا رَبِّي وحده و أعبده عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي اللّطيف بي شَقِيًّا و خائبا، كما أنتم أشقياء خائبون في دعائكم الأصنام، و في إظهار الرجاء باستجابة دعائه إظهار للتّواضع و الأدب، و أنّ الاجابة بالتفضّل و الكرم لا بالاستحقاق.

فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ و فارقهم في المكان بعد اليأس من اجتماعهم معه في الدين و تركهم وَ ما

ص: 186


1- . في النسخة: به.
2- . تفسير الرازي 21:228، تفسير روح البيان 5:337.
3- . جوامع الجامع:275، تفسير الرازي 21:228، تفسير روح البيان 5:337.

يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و لم يعارضهم، بل هاجر من بلدهم و ذهب إلى الأرض المقدّسة وَهَبْنا لَهُ بدل أقربائه الكفرة إِسْحاقَ من صلبه بعد إسماعيل وَ يَعْقُوبَ من إسحاق وَ كُلاًّ من إبراهيم و إسحاق و يعقوب جَعَلْنا نَبِيًّا و هذا من أفضل المواهب و أعظم النّعم

وَ وَهَبْنا لَهُمْ مع منصب النبوّة كلّ خير مِنْ رَحْمَتِنا و فضلنا.

و عن العسكري عليه السّلام: «و وهبنا لهم-يعني لإبراهيم و إسحاق و يعقوب-من رحمتنا رسول اللّه» وَ جَعَلْنا لَهُمْ في النّاس إلى آخر الدهر لِسانَ صِدْقٍ و ثناء جميلا عَلِيًّا و رفيعا. عن العسكري عليه السّلام: «يعني أمير المؤمنين عليه السّلام» (1).

فلم يتضرّر إبراهيم عليه السّلام من هجر الأقارب في اللّه، بل انتفع به أعلى المنافع الدنيويّة و الاخروية.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 51 الی 53

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مواهبه لابراهيم عليه السّلام و إلطافه به، ذكر مواهبه لموسى عليه السّلام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد لقومك، و اتل عليهم فِي اَلْكِتابِ الكريم مُوسى بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً أخلصه اللّه للعبوديّة و برّأة من الشرك و الأخلاق الرّذيلة و النقائص الخلقيّة و الخلقية وَ كانَ رَسُولاً من اللّه إلى عباده و نَبِيًّا ينبّئهم بما اوحي إليه، و إنّما أخّر ذكر نبوّته عن ذكر رسالته مع كونها أخصّ و أرفع؛ لأنّ الإنباء بما اوحي إليه بعد إرساله، و لرعاية الفواصل.

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: ما الرسول و ما النبيّ؟ فقال: «النبيّ الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يرى الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يرى في المنام و يعاين الملك» (2).

وَ نادَيْناهُ حين رجوعه من مدين يريد مصر، و كلّمناه بصوت عال مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ و ناحيته التي كانت في الطّرف اَلْأَيْمَنِ منه، أو من موسى عليه السّلام وَ قَرَّبْناهُ إلينا تقريب تشريف حيث اخترناه لرفعة مقامه و علوّ منزلته عندنا نَجِيًّا و مخاطبا بنحو المناجاة و المسارّة، فشبّه سبحانه حال موسى عليه السّلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته و اصطفاه لمصاحبته.

و قيل: إنّ المنجي من النّجاة، و المعنى قرّبناه حال كونه نجيّا من أعدائه (3)، مستخلصا من مكائدهم

ص: 187


1- . تفسير القمي 2:51، تفسير الصافي 3:284.
2- . الكافي 1:134/1، تفسير الصافي 3:284.
3- . تفسير الرازي 21:231.

وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا و بتفضّلنا عليه و رأفتنا به أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا حيث قال: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1).

عن ابن عبّاس: كان هارون أكبر من موسى عليه السّلام، و إنّما وهب اللّه له نبوّته لا شخصه و اخوّته (2).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 54 الی 55

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إسحاق و يعقوب اللذين كانا شجرة الانبياء، و ذكر موسى عليه السّلام الذي كان أفضل فرعهما، ذكر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد فِي هذا اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ قيل: إنّما فصل ذكره عن ذكر أبيه و أخيه إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه (3)، و المعنى اتل يا محمّد على قومك قصّة جدّك إسماعيل عليه السّلام، و بيّن لهم علوّ مقامه إِنَّهُ كانَ صادِقَ اَلْوَعْدِ فيما بينه و بين اللّه، لم يخالف شيئا ممّا أمر به، و فيما بينه و بين النّاس.

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)عن ابن عبّاس: إنّ إسماعيل عليه السّلام وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره [سنة] (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما سمّي صادق الوعد لأنّه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه اللّه عزّ و جلّ صادق الوعد، ثمّ إنّ الرجل أتاه بعد ذلك، فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك» (5).

و قيل: إنّه وعد نفسه الصبر على الذبح، فوفى به (6).

وَ كانَ مع ذلك رَسُولاً و مبلّغا من اللّه إلى جرهم و العماليق و قبائل اليمن على ما قيل (7). و نَبِيًّا القمي: [و هو إسماعيل بن حزقيل (8). و في المجمع:]قال: هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام، كان إذا وعد لم يخلف، و كان مع ذلك رسولا نبيّا إلى جرهم، قال: و قيل: إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه، و أنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل (9).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ إسماعيل الذي قال اللّه في كتابه: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِسْماعِيلَ الآية، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيّا من الأنبياء بعثه اللّه إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه،

ص: 188


1- . طه:20/29-32.
2- . تفسير الرازي 21:231.
3- . تفسير روح البيان 5:340.
4- . تفسير الرازي 21:232، تفسير روح البيان 5:340.
5- . الكافي 2:86/7، تفسير الصافي 3:285.
6- . تفسير الرازي 21:232، تفسير روح البيان 5:340.
7- . تفسير روح البيان 5:341.
8- . تفسير القمي 2:51، و تفسير الصافي 3:285.
9- . مجمع البيان 6:800، تفسير الصافي 3:285.

فأتاه ملك فقال: إنّ اللّه بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال: لي اسوة بما صنع بالأنبياء» (1).

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ و أقاربه بِالصَّلاةِ التي هي أفضل العبادات البدنيّة وَ اَلزَّكاةِ التي هي أفضل العبادات المالية وَ كانَ هو عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا و محبوبا لنيله بأعلى درجات العبودية و الطاعة و الانقياد.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 56 الی 58

في ذكر ترجمة

إدريس النبي عليه السّلام

ثمّ لمّا كان إدريس-على ما قيل-أوّل من تظاهر بالنبوّة، ذكره اللّه بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد فِي هذا اَلْكِتابِ لقومك إِدْرِيسَ و إنّما لقّب به لكثرة دراسته، نزل عليه ثلاثون صحيفة، و كان اسمه اخنوخ، و ولد قبل موت آدم عليه السّلام بمائة سنة، أو بعد موته بمأئة سنة، و كان جدّ أبي نوح، و هو أوّل من وضع الميزان و المكيال، و اتّخذ السّلاح و جاهد في سبيل اللّه، و سبى و استرقّ بني قابيل، و خطّ بالقلم، و نظر في علم الحساب و النّجوم، و خاط الثياب، و لبس القطن و كانوا يلبسون الجلود (2).

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اِجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ اَلرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا (58)

وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا رفيعا. عن ابن عبّاس: إنّه رفع إلى السّماء حيّا، ثمّ قبض روحه فيها (3). و قيل: إنّه بقي حيّا في السماء الرابعة (4).

و قيل: إنّ أربعة من الأنبياء في الأحياء؛ اثنان في الأرض: الخضر و إلياس، و اثنان في السماء: إدريس و عيسى (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح كلّ واحد من الأعاظم المذكورين بالتفصيل، جمعهم في الثناء و التجليل بقوله: أُولئِكَ الأعاظم المذكورون بعض من اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النّعم الدينيّة و الدنيويّة و أصناف المواهب الصورية و المعنوية مِنَ بين اَلنَّبِيِّينَ الذين هم مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ و نسله كإدريس و من قبله في الذّكر وَ مِمَّنْ كان في أصلاب من حَمَلْنا هم في السفينة مَعَ

ص: 189


1- . علل الشرائع:77/2، تفسير الصافي 3:285.
2- . لم يذكر المصنف تفسير قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا و قد تقدّم القول فيه عند الآية (41) من هذه السورة.
3- . تفسير روح البيان 5:342.
4- . تفسير روح البيان 5:342.
5- . تفسير روح البيان 5:342.

نُوحٍ كمن عدا إدريس وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ كإسحاق و من بعده وَ ذريّة إِسْرائِيلَ كموسى و هارون و زكريا و يحيى و عيسى. و فيه دلالة على أنّ ولد البنت كعيسى من الذّرية وَ هم مِمَّنْ هَدَيْنا هم إلى الحقّ و الحقيقة و الدين وَ اِجْتَبَيْنا هم للرّسالة، و اصطفيناهم لأنواع الكرامة، و هم كانوا في العبودية و الخضوع للّه بحيث إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ اَلرَّحْمنِ المنزلة في بيان عظمته و البشارة بثوابه و التهديد بعقابه خَرُّوا و سقطوا على الأرض سُجَّداً و واضعين جباههم عليها خشوعا للّه وَ بُكِيًّا مسبلي الدموع من الرّهبة و الخوف و الشوق، فإذا كانوا مع علوّ مقامهم و رفعة منزلتهم و قربهم من اللّه، و كونهم من ذراري النبيّين و من أعظام المرسلين عند سماع الآيات بتلك المثابة، فغيرهم أولى بأن يكونوا كذلك.

قيل: إنّ المراد بالسجود هو الصلاة (1). و قيل: هو سجود التلاوة (2). و قيل: هو كناية عن غاية الخضوع و الخشوع (3)، و فيه دلالة على كون البكاء من آداب التّلاوة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اتلوا القرآن و ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» (4).

و عن ابن عبّاس: إذا قرأتم (5)سجدة سبحان فلا تعجّلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه (6).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ لمّا مدح اللّه سبحانه أنبياءه بالقيام بالعبوديّة و غاية الخضوع للّه، ذمّ أعقابهم من اليهود و النصارى الذين هم من بني إسرائيل و مشركي العرب، الذين هم من ولد إسماعيل بقوله: فَخَلَفَ الأنبياء المذكورون و عقّبوا مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ و عقب سوء أَضاعُوا اَلصَّلاةَ و تركوها و أخّروها عن وقتها المقرّر لها، أو أضاعوا ثوابها بالمعاصي وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ و سعوا في استعمال اللّذات النفسانيّة كشرب الخمر و الزنا و نظائرهما.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)عن ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة، و شربوا الخمر، و استحلّوا نكاح الاخت من الأب (7).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير إضاعة الصلاة قال: أضاعوها بتأخيرها عن وقتها من غير أن تركوها (8).

ص: 190


1- . تفسير الرازي 21:234.
2- . تفسير الرازي 21:234.
3- . تفسير الرازي 21:234.
4- . تفسير الرازي 21:234، تفسير روح البيان 5:343.
5- . في النسخة: قرء.
6- . تفسير الرازي 21:234.
7- . تفسير الرازي 21:235.
8- . مجمع البيان 6:802، تفسير الصافي 3:287.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير اتّباع الشهوات: «من بنى المشد، و ركب المنظور، و لبس المشهور» (1)فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ في القيامة غَيًّا و شرّا.

و قيل: إنّ غيّا اسم واد في جهنم يستعيذ من حرّه أوديتها، أعدّ للزاني، و شارب الخمر، و آكل الربا، و شاهد الزّور، و لأهل العقوق، و تارك الصلاة (2).

إِلاّ مَنْ تابَ من الشّرك و المعاصي إلى اللّه وَ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ عَمِلَ صالِحاً بعد التوبة و الإيمان فَأُولئِكَ التّائبون المؤمنون الصّالحون يَدْخُلُونَ في الآخرة اَلْجَنَّةَ الموعودة وَ لا يُظْلَمُونَ و لا ينقصون من جزاء إيمانهم و أعمالهم شَيْئاً و قليلا، و في إطلاق الظّلم على تنقيص الجزاء دلالة على أنّه بالاستحقاق.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 61 الی 63

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الجنّة لا تكون واحدة موقّتة بقوله: جَنّاتِ عَدْنٍ و بساتين دائمة لا خروج منها، و قد سبق القول بأنّ عدن اسم تلك الجنّات اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمنُ عِبادَهُ بها و هي بِالْغَيْبِ عنهم لم يروها في الدنيا إِنَّهُ تعالى كانَ ما تعلّق وَعْدُهُ به مَأْتِيًّا و جائيا لا يمكن الخلف فيه،

و من صفات الجنّات أنّ المؤمنين لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً و كلاما باطلا لا فائدة فيه إِلاّ سَلاماً قيل: يعني لكن يسمعون تسليم الملائكة، أو تسليم بعضهم على بعض (3)وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ و غذاؤهم فِيها بُكْرَةً و أوّل النّهار وَ عَشِيًّا و آخره.

جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (62) تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)قيل: إنّ البكرة و العشّي كناية عن الدوام، أو المراد مقدار البكرة و العشيّ، إذ لا ليل فيها و لا صباح، بل هم في النّور أبدا، و إنّما وصف الجنّة بذلك لأنّ العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق في الوقتين (4).

ثمّ بيّن عظمة شأن الجنّة بقوله: تِلْكَ اَلْجَنَّةُ الموصوفة بالصفات الفائقة اَلَّتِي نُورِثُ و نملّك بعضا مِنْ عِبادِنا و هو مَنْ كانَ في الدّنيا تَقِيًّا و محترزا من الشّرك و العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة، فالتقوى سبب لصيرورة المتّقي مالكا للجنّة، كما أنّ موت المورّث سبب لصيرورة

ص: 191


1- . تفسير روح البيان 5:344.
2- . تفسير روح البيان 5:345.
3- . تفسير أبي السعود 5:273، تفسير روح البيان 5:345.
4- . تفسير روح البيان 5:345.

وارثه مالكا لما تركه.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 64 الی 65

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان المطالب العالية و الأخبار الغيبيّة، بيّن أنّ جميعها كلامه المنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتوسط الملائكة بحكاية اعتذار الملك من تأخير نزوله على نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما نَتَنَزَّلُ عليك يا محمّد إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ و إذنه.

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)قيل: إنّ المعنى قال اللّه لجبرئيل: قل لمحمّد ما نتنزّل وقتا من الأوقات إلاّ بأمر اللّه على ما تقتضيه حكمته (1)، و ليس لنا استقلال في أمر من الامور، لأنّنا تحت قدرته و سلطانه حيث إنّ لَهُ تعالى ما بَيْنَ أَيْدِينا و كلّ شيء يكون قدّامنا وَ ما خَلْفَنا و وراءنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الجهتين، فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة و من مكان إلى مكان إلاّ بإذنه و إرادته.

و قيل: إنّ المراد من ما بَيْنَ أَيْدِينا ما قبل وجودهم، و من ما خَلْفَنا ما بعد فنائهم (2)، وَ من ما بَيْنَ ذلِكَ زمان وجودهم و بقائهم.

و قيل: إنّ المعنى ما مضى من أعمارنا و ما بقي منها و ما نحن فيه (3).

و قيل: يعني له تعالى الأرض التي بين أيدينا، و السماء التي وراءنا و ما بين السماء و الأرض (4).

و على أي تقدير المقصود أنّ اللّه محيط بنا و بكلّ شيء بحيث لا تخفى عليه خافية وَ ما كانَ رَبُّكَ حين عدم إذنه لنا بالنّزول إليك نَسِيًّا و تاركا لك، أو غافلا عنك.

قيل: إنّه أبطأ جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: ما حبسك يا جبرئيل؟ فنزلت (5).

و قيل: إنّه أبطأ عليه لتركه الاستثناء في الوعد بجواب اليهود عن المسائل الثلاث التي مرّ ذكرها في سورة الكهف (6)، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أبطأت عليّ حتى ساء ظنّي، و اشتقت إليك» فقال جبرئيل: إنّي كنت أشوق، و لكنّي عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، و إذا حبست احتبست (7). فأنزل اللّه هذه، فعلى هذا يكون ذلك من وجوه النّظم.

ص: 192


1- . تفسير أبي السعود 5:273، تفسير روح البيان 5:347.
2- . تفسير الرازي 21:239.
3- . تفسير الرازي 21:239.
4- . تفسير الرازي 21:239.
5- . تفسير روح البيان 5:346.
6- . في تفسير الآية (9) من سورة الكهف.
7- . تفسير الرازي 21:238، تفسير روح البيان 5:347.

و عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجبرئيل: «ما منعك أن تزورنا؟» فنزلت (1).

و قيل: يجوز كون الآية من كلام أهل الجنّة بعضهم مع بعض، و المعنى: وَ ما نَتَنَزَّلُ الجنّة إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا أي في الجنّة مستقبلا وَ ما خَلْفَنا ممّا كان في الدنيا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ [أي ما بين]الوقتين، وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا لشيء ممّا خلق فيترك إعادته؛ لأنّه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة (2).

و قيل: إنّ قوله: ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول تقريرا لكلام أهل الجنّة،

و يتّصل به قوله: رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ (3)و الحقّ أنّ الكلّ كلام الملك، و كأنّه قال: و ما كان ربّك يا محمّد نسيّا لك، و جائزا عليه الغفلة و السهو، حتى يضرّك إبطاؤنا بالنزول عليك، و إنّما لا يجوز عليه النسيان لأنّه رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما و خالقهما و مدبّرهما، و لو كان نسيّا لاختلّ نظام العالم و تدبيره لامور الموجودات، فإذا كان ربّك كذلك فَاعْبُدْهُ و اجتهد في طاعته وَ اِصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ و احبس نفسك على مشاقّها، و لا تحزن بإبطاء الوحي و نزولنا عليك، و باستهزاء الكفرة و شماتة الأعداء بك، فإنّه تعالى يراقبك و يراعيك و يلطف بك في جميع الأحوال و العوالم هَلْ تَعْلَمُ أحدا يكون ربّا للموجودات و رحمانا في الدنيا و الآخرة حتى يكون لَهُ تعالى سَمِيًّا و مشاركا في الأسماء و الصفات.

عن ابن عبّاس: لا يسمّى بالرحمن غيره (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تأويله هل تعلم أحدا اسمه اللّه غير اللّه» (3).

قيل: إنّ المشركين كانوا يطلقون اسم الإله على الصنم و الوثن، و لا يطلقون اسم اللّه على غيره تعالى (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 66 الی 67

ثمّ لمّا ذكر اللّه كمال قدرته و حكمته و تدبيره في الموجودات، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بعبادته، و لا فائدة في العبادة إذا لم يعتقد العابد بالحشر و الحساب، مع كونهما من لوازم حكمته بحكم العقل، وبّخ المشركين المنكرين للحشر المستبعدين له بقوله: وَ يَقُولُ اَلْإِنْسانُ الذي ينكر الحشر و المعاد استبعادا له و تعجّبا من مدّعيه: أَ إِذا ما مِتُّ و أدخلت في القبر و صرت ترابا و رفاتا لَسَوْفَ

وَ يَقُولُ اَلْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَ وَ لا يَذْكُرُ اَلْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67)

ص: 193


1- . مجمع البيان 6:805، تفسير الصافي 3:288. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:239.
2- . تفسير الرازي 21:240.
3- . التوحيد:288/5، تفسير الصافي 3:288.
4- . تفسير البيضاوي 2:36.

أُخْرَجُ من القبر حال كوني حَيًّا سويّا و إنسانا كاملا؟

ثمّ أنكر سبحانه عليهم القول بقوله: أَ وَ لا يَذْكُرُ اَلْإِنْسانُ مع عقله و فطنته، و لا يتفكّر أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ و في بدو وجوده في هذا العالم وَ الحال أنّه لَمْ يَكُ شَيْئاً مذكورا، بل كان عدما صرفا؟

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام قال «لا مقدّرا و لا مكونا» (1).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «لم يكن شيئا في كتاب و لا علم» (2).

و عن القمي: أي لم يكن ثمّة ذكره (3).

و من الواضح أنّ القادر على خلقه أوّلا بلا مثال قادر على خلقه ثانيا بتلك الصورة، بل يكون خلقه أهون و أسهل عند العاقل.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 68 الی 72

ثمّ أنّه تعالى بعد نقل إنكار منكري الحشر، و استبعاد إمكانه، و استدلاله تعالى على إمكانه، أخبر بوقوعه، و هدّد منكرية بتعذيبهم بقوله: فَوَ رَبِّكَ لنحيينّهم في القبور ثمّ لَنَحْشُرَنَّهُمْ منها، و لنسوقنّهم إلى عرصة القيامة وَ اَلشَّياطِينَ المغوين لهم معهم ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ البتّة حَوْلَ جَهَنَّمَ و في أطرافها حال كونهم جِثِيًّا و جلوسا على ركبهم لشدّة هولهم بحيث لا يمكنهم القيام على أرجلهم.

فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)قيل: إنّ عادة النّاس أنّهم في مواقف المطالبات من الملوك يجلسون على ركبهم، لما في ذلك من الاستظهار و القلق (4)و غاية التذلّل.

و عن ابن عباس «جثيّا» يعني: جماعات (5).

قيل: إنّ الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، كل مع شيطانه في سلسلة (6)ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ و نجذبنّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ و فرقة من الفرق الذين تابعوا (7)غاويا من الغواة الذين يقال فيهم:

ص: 194


1- . الكافي 1:114/5، تفسير الصافي 3:288.
2- . المحاسن:243/234، تفسير الصافي 3:288.
3- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:288.
4- . تفسير الرازي 21:241 و 242.
5- . تفسير روح البيان 5:349.
6- . تفسير أبي السعود 5:275.
7- . في النسخة: تابعت.

أَيُّهُمْ أَشَدُّ.

و قيل: إنّ التقدير أيّهم هو اشد و أزيد عَلَى اَلرَّحْمنِ و خالق الموجودات برحمته العامة عِتِيًّا و تمرّدا و ظغيانا، ليعلم أنّ عذابه أشدّ حتى يخصّه به.

و حاصل المراد-و اللّه العالم-أنّه تعالى يحضر جميع الفرق الضالّة أوّلا حول جهنّم، ثمّ يميّز بعضهم من بعض، فمن كان أزيد منهم تمرّدا و أصرّ على الكفر، يلقى أوّلا في جهنّم، و يخصّ بأشدّ العذاب، ثمّ تميّز من دونهم في التمرّد و هكذا.

و الحاصل أنّه يبدأ بالأعصى فالأعصى على الترتيب إلى آخرهم، كما قال: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بجهنّم و أحقّ بِها صِلِيًّا و إلقاء أو دخولا وَ إِنْ مِنْكُمْ أيّها النّاس مؤمنكم و كافركم إِلاّ وارِدُها كانَ إنجاز ذلك الوعد عَلى رَبِّكَ أمرا حَتْماً و واجبا و مَقْضِيًّا و محكوما به بحكم مبرم،

لا يمكن عدم نفوذه ثُمَّ نُنَجِّي و نخلّص من النّار المؤمنين اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشّرك و المعاصي وَ نَذَرُ و نترك اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و العتوّ فِيها حال كونهم جِثِيًّا و جميعا، أو جالسين على ركبهم، للعجز عن القيام و الحراك.

قال بعض العامة: المراد بالورود الحضور حولها، مستدلا بما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أنّه قال: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا و الحديبيّة» فقالت حفصة: أ ليس اللّه يقول: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها فقال صلّى اللّه عليه و آله: «[فمه؟] ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا» (1). فعلم أنّ المراد من الورود القرب منها، و إلاّ لم يكن ما قاله صلّى اللّه عليه و آله جوابا عن سؤال حفصة، و هذا كقول العرب: وردت بلد كذا و ماء كذا، يعني أشرفت عليه، دخلت فيه أو لم تدخله، و كقوله تعالى: وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أما تسمع الرّجل يقول: وردنا ماء بني فلان، فهو الورود و لم يدخل» (3)و أستدل بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (4).

و قيل: إنّ المراد منه الدخول فيها (5)، ثمّ يبعد المؤمنين منها و يذر الظّالمين فيها.

روي أنّ عبد اللّه بن رواحة قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أخبر اللّه عن الورود، و لم يخبر عن الصدور؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «يابن رواحة، اقرأ ما بعدها: ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا» (6).

و عن جابر بن عبد اللّه، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: الورود الدخول،

ص: 195


1- . تفسير الرازي 21:243.
2- . القصص:28/23.
3- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:289.
4- . تفسير القمي 2:52، و الآية من سورة الأنبياء:21/101.
5- . تفسير الرازي 21:243.
6- . تفسير الرازي 21:243.

لا يبقى برّ و لا فاجر إلاّ دخلها، فتكون على المؤمنين بردا و سلاما، حتى إنّ للنّاس ضجيجا من بردها» (1).

و عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون بأعمالهم، فأوّلهم كلمع البرق، ثمّ كمرّ الريح، ثمّ كحضر الفرس، ثمّ كالرّاكب، ثمّ كشدّ الرّجل، ثمّ كمشيه» (2)

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي» (3)

و روي أنّ اللّه يجعل النار كالسّمن الجامد، و يجمع عليها الخلق، ثمّ ينادي المنادي: خذي أصحابك و ذري أصحابي، قال: و الذي نفسي بيده، لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها (4).

قيل: حكمة ورود المؤمنين في النّار أنّهم إذا علموا الخلاص منها زادهم سرورا و زاد الكفّار غمّا، حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين، و أنّه إذا كان المؤمنين مع العصاة في النّار يقرعونهم و يبكّتونهم فيزيد ذلك غمّا للكفّار و سرورا للمؤمنين، و أنّ المؤمنين يظهرون للكفّار صدق قولهم في الحشر و التعذيب و كذب الكفّار في الإنكار، و أنّ المؤمنين إذا شاهدوا العذاب صار سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنّة (5).

و عن الصدوق: أنّه لا يصيب أحدا من أهل التوحيد ألم في النّار إذا دخلوها، و إنّما يصيبهم الألم عند الخروج منها، فتكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم و ما اللّه بظلاّم للعبيد (6).

أقول: إنّما التألّم عند الخروج يكون للذين اكتسبوا السيّئات، و لم يغفر لهم دون المؤمنين الذين شملتهم المغفرة و الشّفاعة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد وردتموها و هي خامدة» (7).

و عن ابن مسعود: ورودها الجواز على الصراط الممدود عليها، و ذلك لأنّه لا طريق إلى الجنّة سوى الصّراط، فالمرور في حكم الورود (8)، و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها (9)فالمراد البعد من عذابها، و لا يسمعون حسيسها لأنّ حسيسها كسائر أهوال القيامة محجوب عنهم.

و عن ابن عبّاس: إنّ الآية مختصّة بالكفّار كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ

ص: 196


1- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
2- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
3- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
4- . مجمع البيان 6:812، تفسير الصافي 3:289.
5- . تفسير الرازي 21:244.
6- . اعتقادات الصدوق:77/29، تفسير الصافي 3:290.
7- . تفسير الرازي 21:244.
8- . تفسير روح البيان 5:350.
9- . الأنبياء:21/101 و 102.

جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (1) .

و عن مجاهد، قال: ورود المؤمن في النّار [هو]مسّ الحمّى جسده في الدنيا، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «الحمّى من فيح (2)جهنم، فأبردوها بالماء» (3).

و في الحديث: «الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النار» (4).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 73 الی 74

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات بطلان الشرك و وعيد المشركين بالعذاب عليه، حكى استدلالهم على صحّة قولهم بحسن مآلهم في الدنيا و سوء حال المؤمنين الموحّدين فيها بقوله: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية الدالة على التوحيد و الوعد و الوعيد مع كونها معجزات بَيِّناتٍ من حيث العبارات و المعاني قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على الشّرك و العناد كالنّضر بن الحارث و أضرابه لِلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية اللّه الفقراء منهم انظروا أيّها المؤمنون أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ منّا و منكم خَيْرٌ و أفضل مَقاماً و مسكنا وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا و مجلسا من حيث اجتماع الأشراف و وجوه قريش فيه.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (74)روي أنّ المشركين كانوا يرجّلون (3)شعورهم و يدهنونها و يتطيّبون و يتزيّنون بالزّينة الفاخرة، فإذا سمعوا الآيات الواضحات و عجزوا عن معارضتها أو الطعن فيها، قالوا مفتخرين بالحظوظ الدنيويّة على فقراء المؤمنين: لو كنتم على الحقّ و كنّا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن، لأنّ الحكيم لا ينبغي له أن يوقع أولياءه في العذاب و الذلّ، و أعداءه في العزّ و الرّاحة، و لكن الأمر بالعكس (4).

ثمّ ردّ عليهم سبحانه بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال بسبب الكفر و الشّرك من قَبْلَهُمْ كثيرا مِنْ أهل قَرْنٍ و أهل عصر كانوا هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً و متاعا يزيّنون به بيوتهم وَ أحسن رِءْياً و منظرا منكم.

عن الباقر عليه السّلام: «الأثاث المتاع، و رئيا الجمال و المنظر الحسن» (5). فلو كانت الأمتعة الدنيويّة و حظوظها التي تفتخرون بها دليلا على الكرامة عند اللّه لم يهلكوا بالعذاب.

ص: 197


1- . تفسير الرازي 21:243، تفسير الجامع 11:138، و الآية من سورة الأنبياء:21/98.
2- . الفيح: سطوع الحر و فورانه، و في النسخة: قيح. (3 و 4) . تفسير روح البيان 5:351.
3- . رجّل الشعر: سرّحه.
4- . تفسير روح البيان 5:351.
5- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:291.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 75 الی 76

ثمّ بيّن سبحانه أنّ النّعم الدنيوية خذلان من اللّه و استدراج لا لطف و كرامة بقوله: قُلْ يا محمّد، لقريش المفتخرين بالحطام الدنيوية مَنْ كانَ مستقرا فِي اَلضَّلالَةِ و الشّرك و البعد عن الحقّ فَلْيَمْدُدْ و ليمهل لَهُ اَلرَّحْمنُ و ليعينه على ما هو فيه بطول العمر و كثرة المال و النّعم مَدًّا و إمهالا كثيرا مستمرّا حَتّى إِذا رَأَوْا و عاينوا ما يُوعَدُونَ بلسان الأنبياء، و ذلك الموعود إِمَّا اَلْعَذابَ الدنيوي وَ إِمَّا اَلسّاعَةَ و القيامة و ما فيها من الأهوال و النّكال فَسَيَعْلَمُونَ حين وقوع أحدهما مَنْ هُوَ من الفريقين شَرٌّ مَكاناً و من هو خير مقاما وَ من أَضْعَفُ جُنْداً و أقلّ أنصارا و أقوى أعوانا، هم أم المؤمنون، فإن قتلوا و غلب المسلمون عليهم علموا أنّهم أضعف جندا.

قُلْ مَنْ كانَ فِي اَلضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمنُ مَدًّا حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذابَ وَ إِمَّا اَلسّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75) وَ يَزِيدُ اَللّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (76)القمي: العذاب: القتل، و الساعة: الموت (1).

و قيل: إنّ العذاب عذاب اللّه عند الموت (2). و قيل: عذاب القبر (3). و قيل: تغيّر حالهم في الدنيا من الغنى إلى الفقر، و من العزّ إلى الذّلّ، و من الأمن إلى الخوف (4).

ثمّ بيّن سبحانه معاملته مع المؤمنين بقوله: وَ يَزِيدُ اَللّهُ المؤمنين اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا بهدايته إلى التوحيد و دين الحقّ هُدىً و إيمانا و يقينا. و قيل: يعني ثوابا (5).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ يَزِيدُ اَللّهُ، قال: «يزيدهم يوم خروج القائم هدى على هدى بإتّباعهم القائم حيث لا يجحدونه و لا ينكرونه» (6).

وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ التي مرّ تفسيرها في سورة الكهف (7)خَيْرٌ و أفضل عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً و أجرا في الدنيا و الآخرة ممّا يفتخر به المشركون من الحطام و الحظوظ العاجلة وَ خَيْرٌ مَرَدًّا و مآلا؛ لأنّ مآلها النّعم الدائمة، و مآل حظوظ الكفّار العذاب الأبديّ (8).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 77 الی 80

أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذابِ مَدًّا (79) وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (80)

ص: 198


1- . تفسير القمي 2:52، تفسير الصافي 3:291.
2- . تفسير الرازي 21:247.
3- . تفسير الرازي 21:247.
4- . تفسير الرازي 21:247.
5- . تفسير الرازي 21:248.
6- . الكافي 1:357/90، تفسير الصافي 3:292.
7- . في الآية (46) من سورة الكهف.
8- . في النسخة: الأبدية.

ثمّ بيّن اللّه غاية غرور المشركين بمآلهم عند اللّه بقوله: أَ فَرَأَيْتَ يا محمّد اَلَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا الدالّة على التوحيد في الالوهية و رسالة رسولنا و يوم جزائنا وَ قالَ غرورا: و اللّه لَأُوتَيَنَّ في القيامة مالاً كثيرا وَ وَلَداً كما اوتيتهما في الدنيا حتى تتعجّب من غاية حمقه و جهالته.

روي أنّ الآية نزلت في العاص بن وائل. و قيل: في الوليد بن المغيرة، فإنّه كان لخبّاب بن الأرتّ دين عليه فاقتضاه فقال: لا و اللّه حتى تكفر بمحمّد. فقال خبّاب: لا و اللّه لا أكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، لا حيّا و لا ميّتا و لا حين نبعث، فقال العاص أو الوليد: فإنّي إذا متّ بعثت؟ ! قال خبّاب: نعم، قال: إذا بعثت و جئتني فسيكون لي ثمّة مال و ولد فأعطيك.

و قيل: صاغ خبّاب له حليّا فاقتضاه، فطلب الأجرة منه، فقال: إنّكم تزعمون أنّكم تبعثون، و أنّ في الجنّة ذهبا و فضّة و حريرا، فأنّا أقضيك ثمّ، فإنّي اوتى مالا و ولدا حينئذ (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ العاص بن وائل بن هشام القرشي ثمّ السّهمي، و هو أحد المستهزئين، و كان لخبّاب بن الأرتّ عليه حقّ فأتاه يتقاضاه، فقال له العاص: أ لستم تزعمون أنّ في الجنّة الذهب و الفضّة و الحرير؟ قال: بلى، قال: فموعد [ما]بيني و بينك الجنّة، فواللّه لاوتينّ فيها خيرا ممّا اوتيت في الدنيا» (2).

فردّ اللّه عليه بقوله: أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ و هل بلغ من القرب عند اللّه إلى أن اوتي العلم الذي لا يعلمه إلاّ اللّه أَمِ اِتَّخَذَ من اللّه العالم بالمغيبات، و كان له عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً و ميثاقا على أن يعطيه ما يقول

كَلاّ ليس شيء من الأمرين بل سَنَكْتُبُ عليه و نثبّت و نحفظ ما يَقُولُ من الكذب وَ نَمُدُّ لَهُ بدل ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال و الولد، و نعطيه أو نطوّل له مِنَ اَلْعَذابِ في الآخرة مَدًّا و عطاء و طولا لا نهاية له

وَ نَرِثُهُ و نأخذ منه بموته ما يَقُولُ من المال و الولد الذي يكون له في الدنيا وَ يَأْتِينا فَرْداً و واحدا لا يكون معه شيء ممّا يفتخر به في الدنيا.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 81 الی 82

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

ص: 199


1- . تفسير الرازي 21:249.
2- . تفسير القمي 2:54، تفسير الصافي 3:292.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اغترارهم بالنّعم الآخرة، أو استهزائهم بها، بيّن غرورهم بالأصنام و غاية حمقهم بقوله: وَ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ و من مخلوقاته آلِهَةً و معبودين لِيَكُونُوا تلك الآلهة لَهُمْ في الدنيا و الآخرة عِزًّا و سببا للنيل بالمقاصد، أمّا في الدنيا فبإنجاح حوائجهم، و أمّا في الآخرة فبشفاعتهم عند اللّه، و نصرتهم لهم، و إنجائهم إيّاهم من العذاب،

فردعهم اللّه عن هذا التوهّم الفاسد بقوله: كَلاّ ليس كما توهّموه، بل سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ و ينكرون ولايتهم حين يرون سوء عاقبتهم، و يقولون: ما كنّا مشركين وَ يَكُونُونَ حين مشاهدة أصنامهم عَلَيْهِمْ ضِدًّا و أعداء بعد أن كانوا لهم محبّين كحبّ اللّه.

قيل: إنّ ضمائر الصّيغ كلّها راجعة إلى الأصنام، و المعنى ستكفر الأصنام، و يجحدون عبادتهم، لأنّهم كانوا جمادات لم يشعروا بعبادتهم، و يكونون أعوانا على ضررهم، و ذلك أنّ اللّه تعالى يركّب فيهم العقول فينطقهم فيقولون: يا ربّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا (1).

و قيل: إنّ المراد من الضدّ ضدّ العز [و هو الذّلّ و الهوان] (2)، و المعنى: يكونون عليهم ذلا و هوانا، و إنّما أفرد الضدّ لفرض وحدة الكلّ.

و قيل: إنّ المراد بالآلهة الملائكة، لأنّهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم (3)، و يقولون: سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجنّ.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أي يكونون هؤلاء الّذين اتّخذوا آلهة من دون اللّه ضدّا يوم القيامة، و يتبرؤون منهم و من عبادتهم» ثمّ قال: «ليس العبادة هي السجود و الرّكوع، و إنّما هي طاعة الرجال، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده» (2).

أقول: يعني ليس العبادة منحصرة في الرّكوع و السّجود، فالآية تعمّ عبادة الأصنام و طاعة رؤساء الضلال.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 83 الی 84

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ استيلاء الشياطين عليهم بعثهم إلى عبادة الأصنام بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تعلم يا محمّد أَنّا أَرْسَلْنَا و سلّطنا اَلشَّياطِينَ عَلَى اَلْكافِرِينَ بسبب خبث ذاتهم و سوء اختيارهم، و خلّينا بينهم و بينهم تَؤُزُّهُمْ و تغريهم و تهيّجهم على المعاصي و الشّرور و عبادة الأصنام أَزًّا

أَ لَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا اَلشَّياطِينَ عَلَى اَلْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

ص: 200


1- . تفسير روح البيان 5:355. (2 و 3) . تفسير الرازي 21:250.
2- . تفسير القمي 2:55، تفسير الصافي 3:292.

و تهييجا شديدا بأنواع الوساوس و التسويلات.

و عن القمي: نزلت في مانعي الخمس و الزكاة و المعروف، يبعث اللّه عليهم شيطانا، فينفق ما يجب عليه من الزكاة في غير طاعة اللّه، ثمّ يعذّبه على ذلك (1).

فَلا تَعْجَلْ في نزول العذاب عَلَيْهِمْ و هلاكهم حتى تستريح أنت و المؤمنون من شرّهم، و تطهّر الأرض من لوث وجودهم، و تأمنها من فسادهم إِنَّما نَعُدُّ أيّام آجالهم و أنفاسهم لَهُمْ عَدًّا فإنّه لم يبق من عمرهم إلاّ أيّام قليلة و أنفاس محصورة.

روي أن ابن عباس إذا قرأها بكى، و قال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك (2).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن قول اللّه تعالى: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا قال: «ما هو عندك؟» قال السائل: عدد الأيّام، قال: «إنّ الآباء و الامّهات يحصون ذلك، [لا]و لكنّه عدد الأنفاس» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نفس المرء خطاه إلى أجله» (4).

و قيل: إنّ المعنى إنّما نعدّ [أنفاسهم و]أعمالهم عدّا، فنجازيهم على قليلها و كثيرها (5).

و قيل: يعني إنّما نعدّ الأوقات إلى وقت الأجل المقدّر لكلّ منهم (6)، ثمّ نعذّبهم على أعمالهم.

سوره 19 (مريم): آیه شماره 85 الی 87

ثمّ عيّن سبحانه وقت كفرهم بعبادة الأصنام و ابتلائهم بالعذاب بقوله: يَوْمَ نَحْشُرُ فيه اَلْمُتَّقِينَ و المحترزين من الشّرك و العصيان، و نخرجهم من قبورهم أحياء، أو نجمعهم إِلَى محلّ كرامة اَلرَّحْمنِ و ربّهم الرّحيم بهم حال كونهم وَفْداً و قادمين عليه راجين لثوابه و إنعامه، كما ينزل المحتاجون على الملوك طامعين لجوائزهم.

يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً (87)و قيل: إنّ المعنى أذكر يا محمّد اليوم الذي نميّز بين المتّقين و المجرمين، بأن نحشر أهل الإيمان و الطاعة إلى رحمة الرّحمن كالأضياف النّازلين على الملك الكريم.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: قال: «ما يحشرون و اللّه على أرجلهم، و لكن على نوق رحالها ذهب، و على نجائب سرجها ياقوت، و أزمّتها زبرجد، ثمّ ينطلق بهم حتى يقرعوا باب

ص: 201


1- . تفسير القمي 2:53.
2- . تفسير روح البيان 5:355.
3- . الكافي 3:259/33، تفسير الصافي 3:293.
4- . نهج البلاغة:480 الحكمة 74، تفسير الصافي 3:293. (5 و 6) . تفسير الرازي 21:252.

الجنّة» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «سأل علي عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير هذه الآية، قال: يا علي، إنّ الوفد لا يكونون إلاّ ركبانا، اولئك رجال اتقوا اللّه، فأحبّهم اللّه و اختصّهم و رضى أعمالهم فسمّاهم المتّقين، ثم قال: يا علي، أما و الّذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، إنّهم ليخرجون من قبورهم و إنّ الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق العزّ عليها رحال الذّهب مكلّلة بالدّر و الياقوت، و جلالها الاستبرق و السّندس، و خطامها جدل الأرجوان، و زمامها من زبرجد، فتطير بهم إلى المحشر، مع كلّ رجل منهم ألف ملك من قدّامة و عن يمينه و عن شماله، يزفّونهم زفّا حتى ينتهوا بهم إلى باب الجنّة الأعظم.

و على باب الجنّة شجرة، الورقة منها يستظلّ تحتها مائة ألف من النّاس، و عن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكّية، يسقون منها شربة شربة، فيطهّر اللّه بها قلوبهم من الحسد، و يسقط عن أبشارهم الشّعر، و ذلك قوله: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (2)من تلك العين المطهّرة، ثمّ ينصرفون إلى عين اخرى عن يسار الشجرة فيغتسلون فيها، و هي عين الحياة فلا يموتون أبدا.

ثمّ يوقف بهم قدّام العرش، و قد سلموا من الآفات و الأسقام و الحرّ و البرد أبدا، فيقول الجبّار للملائكة الذين معهم: احشروا أوليائي إلى الجنّة فلا توقفوهم مع الخلائق فقد سبق رضائي عنهم، و وجبت رحمتي لهم، فكيف اريد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات و السيّئات، فتسوقهم الملائكة إلى الجنّة، فإذا انتهوا إلى باب الجنّة الأعظم ضرب الملائكة الحلقة ضربة فتصرّ صريرا، فيبلغ صوت صريرها كلّ حوراء خلقها اللّه و أعدّها لأوليائه، فيتباشرن إذا سمعن (3)صرير الحلقة، و تقول بعضهنّ لبعض: قد جاءنا أولياء اللّه، فيفتح لهم الباب، فيدخلون الجنّة، فيشرف عليهم أزواجهم من الحور العين و الآدميين، فيقلن: مرحبا بكم، فما أشوقنا إليكم! و يقول لهنّ أولياء اللّه مثل ذلك» (4).

و عن القمي-في رواية-فقال علي عليه السّلام: «من هؤلاء يا رسول اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: هؤلاء شيعتك يا علي، و أنت إمامهم، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً (5)على الرحائل وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة كما تساق البهائم بإهانة و استخفاف إِلى جَهَنَّمَ حال كونهم وِرْداً و مشاة عطاشا، و عباد اللّه لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ لأحد و لا يقدرون عليها إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً و إذنا، فكيف بالأصنام التي لا قدر لها عند اللّه حتى تقبل شفاعتها، و يأذن لها

ص: 202


1- . تفسير روح البيان 5:356.
2- . الانسان:76/21.
3- . في النسخة: فيتباشرون بهم إذا سمعوا.
4- . تفسير القمي 2:53، تفسير الصافي 3:294.
5- . تفسير القمي 2:54، تفسير الصافي 3:295.

فيها في حقّ أحد.

و قيل: يعني لا يملك المشركون الشّفاعة لأحد، و لكنّ الشفاعة لمن اتّخذ عند الرحمن عهدا، و هو الإيمان، فإنّ المؤمنين هم الشّفعاء فيشفعون (1).

عن ابن مسعود: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا؟» . قالوا: و كيف ذلك؟ قال: «يقول كلّ صباح و مساء: اللّهم فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلاّ أنت، وحدك لا شريك [لك]، و أنّ محمّدا عبدك و رسولك، و أنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ، و تباعدني من الخير، و إنّي لأثق برحمتك، فاجعل لي عهدا توفّينيه يوم القيامة، إنّك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع [اللّه]عليه بطابع، و وضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد؟ فيدخلون الجنّة» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا يشفع لهم و لا يشفعون إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً يعني إلاّ من أذن له بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة عليهم السّلام من بعده، فهو العهد عند اللّه» (3).

و عنه عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته. قيل: يا رسول اللّه، كيف يوصي عند الموت؟ قال: إذا حضرته الوفاة و اجتمع الناس إليه قال: اللّهم فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم، إنّي أعهد في دار الدنيا، أنّي أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، و أنّ محمدا عبدك و رسولك، و أنّ الجنّة حقّ، و أنّ النار حقّ، و أنّ البعث حقّ، و الحساب حقّ، [و القدر]و الميزان حقّ، و أنّ الدّين كما وصفت، و أنّ الإسلام كما شرّعت، و أنّ القول كما حدّثت، و أن القرآن كما أنزلت، و أنّك أنت اللّه [الملك]الحقّ المبين، جزى اللّه محمّدا خير الجزاء، و حيّى اللّه محمّدا و آل محمّد بالسّلام.

اللّهمّ يا عدّتي عند كربتي، و يا صاحبي عند شدّتي، و يا وليي في نعمتي، إلهي و إله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، فإنّك إن تكلني إلى نفسي طرفة عين كنت أقرب من الشرّ و أبعد من الخير، فآنس في القبر وحشتي، و اجعل لي عهدا يوم القاك منشورا.

ثمّ يوصي بحاجته، و تصديق هذه الوصيّة في سورة مريم، في قوله عزّ و جلّ: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ

ص: 203


1- . تفسير روح البيان 5:356، تفسير أبي السعود 5:282، و فيهما لا يملك المجرمون بدل المشركون.
2- . تفسير الرازي 21:253، تفسير روح البيان 5:356.
3- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:295.

إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً فهذا عهد الميت، و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم، و حقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة و يتعلّمها، و قال علي عليه السّلام: علّمنيها رسول اللّه، و قال: علّمنيها جبرئيل» (1).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 88 الی 95

ثمّ أنّه تعالى بعد ردّ عبدة الأصنام، ردّ القائلين بأنّ للّه ولدا من اليهود و النصارى و طائفة من قريش بقوله: وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً.

وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ آتِي اَلرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَرْداً (95)عن الصادق عليه السّلام: «هذا حيث قالت [قريش]: إنّ اللّه عزّ و جلّ اتّخذ ولدا من الملائكة إناثا» (2).

ثمّ وجّه الخطاب إليهم توبيخا لهم بقوله: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا و أدّعيتهم ادّعاء عجيبا، و قلتم قولا منكرا فظيعا تَكادُ و تقرب من فظاعة هذا القول اَلسَّماواتُ من أن يَتَفَطَّرْنَ و ينقطعن مِنْهُ من فوقكم وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ و تنصدع أجزاؤها من تحتكم وَ تَخِرُّ و تنهدّ اَلْجِبالُ الرواسي هَدًّا و تنهدم هدما شديدا.

و المعنى أنّ عظم تلك الكلمة بحيث لو تصوّرت بصورة محسوسة جسمانية لا تتحمّلها هاتيك الأجرام العظام، بل لتفتّتت (3)من ثقلها، أو المراد أنّ فظاعتها في استجلاب الغضب و استيجاب السّخط بحيث لو لا حلم اللّه تعالى لخرب العالم و بدّد قوائمه (4)غضبا على المتفوّهين بها لأجل أَنْ دَعَوْا و سمّوا لِلرَّحْمنِ الخالق لكلّ شيء وَلَداً من ذكر أو إناث وَ الحال أنّه ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ و ما يليق به أَنْ يَتَّخِذَ لنفسه مع كمال قدرته و غناه وَلَداً لاستحالته كاستحالة أخذ الشريك، لوضوح أنّه

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الملائكة و الأنبياء و غيرهما، و ما أحد منهم إِلاّ أنّه آتِي اَلرَّحْمنِ و ملتجئ إليه حال كونه عَبْداً مملوكا منقادا خاضعا، راجيا منه الإنعام و التفضّل، و لا يكون الولد عبدا لوالده، و كلّهم محاطون بعلمه و قدرته، بحيث إنّه تعالى

لَقَدْ أَحْصاهُمْ و حصرهم وَ عَدَّهُمْ بالأشخاص و الأنفاس و الآجال عَدًّا بالغا وَ كُلُّهُمْ

ص: 204


1- . تفسير القمي 2:55، من لا يحضره الفقيه 4:138/482، الكافي 1:2/1، التهذيب 9:174/711، تفسير الصافي 3: 295.
2- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:296.
3- . في النسخة: تفتتت.
4- . في النسخة: قوائمها.

آتِيهِ واحدا بعد واحد، كما عن الصادق عليه السّلام (1)يَوْمَ اَلْقِيامَةِ للعرض عليه فَرْداً وحيدا، لا ناصر لهم و لا تابع.

في الحديث القدسي: «كذّبني ابن آدم و لم يكن له ذلك، و شتمني و لم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، و أمّا شتمه إيّاي فقوله: إتّخذ اللّه ولدا» (2).

أقول: إنّما يكون شتما لأنّ فيه نسبة الاحتياج.

و عن أمير المؤمنين: «أنّ الشجر لم يزل حصيدا كلّه حتى دعا للرحمن ولدا» إلى أن قال: «فعند ذلك اقشعرّ الشّجر، و صار له شوك حداد» (3).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 96

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء عقائد المشركين و سوء حالهم و عداوتهم للمؤمنين، ذكر حسن حال المؤمنين و محبوبيّتهم عند اللّه و عند خلقه بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و رسالة رسوله و دار جزائه وَ عَمِلُوا الأعمال اَلصّالِحاتِ و المرضيّات عند اللّه سَيَجْعَلُ و يحدث البتّة لَهُمُ اَلرَّحْمنُ برحمته الواسعة وُدًّا في القلوب و حبّا في الصدور بلا سبب ظاهر سوى الإيمان و العمل الصالح، كما جعل في قلوب أعدائهم الرّعب و الهيبة منهم.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا (96)قيل: كان المؤمنون ممقوتين في مكّة عند المشركين، فوعدهم اللّه ذلك بعد قوّة الإسلام (4).

و قيل: إنّ ذلك في القيامة، فإنّه تعالى يحبّبهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم (5)، و ينشر من ديوان أعمالهم.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية: «إذا أحبّ اللّه عبدا نادى جبرئيل: قد أحببت فلانا فأحبّوه، فينادي جبرئيل بذلك في السماء و الأرض، و إذا أبغض فمثل ذلك» (6).

و عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة و الإنجيل: لا محبّة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من اللّه تعالى، ينزّلها على أهل السماء، ثمّ على أهل الأرض، و تصديق ذلك في القرآن قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا (7).

و قال العلامة رضوان اللّه عليه في (نهج الحقّ) : روى الجمهور عن ابن عباس، قال: نزلت في أمير

ص: 205


1- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:297.
2- . تفسير روح البيان 5:358.
3- . تفسير القمي 1:85 و 86، تفسير الصافي 3:297، و فيهما زيادة: حذار أن ينزل به العذاب.
4- . تفسير الرازي 21:255، تفسير روح البيان 5:359.
5- . تفسير الرازي 21:255.
6- . تفسير الرازي 21:255.
7- . تفسير الرازي 21:255.

المؤمنين عليّ عليه السّلام، قال: الودّ المحبّة في قلوب المؤمنين (1).

و قال القاضي في (إحقاق الحقّ) : الرواية مذكورة في (تفسير الرازي و النيشابوري) و كتاب (الصواعق المحرقة) لابن حجر، و نقل عنه أنّه قال: و صحّ أنّ العبّاس شكا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يلقون من قريش [من]تعبيسهم وجوههم، و قطعهم حديثهم عند لقائهم، فغضب صلّى اللّه عليه و آله غضبا شديدا حتى احمرّ وجهه و درّ عرق بين عينيه، و قال: «و الّذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبّكم (2)للّه و رسوله» (3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «سبب نزول هذه الآية أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان جالسا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: قل يا عليّ: اللهمّ اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا، فأنزل اللّه [الآية]» (4).

و عنه عليه السّلام: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام في آخر صلاته، رافعا به صوته، يسمع الناس، يقول: اللهمّ هب لعليّ المودّة في صدور المؤمنين، و الهيبة و العظمة في صدور المنافقين، فأنزل اللّه إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا الآية» (5).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية، قال: «ولاية أمير المؤمنين هي الودّ الذي قال اللّه» (6).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام قل: اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا، و اجعل [لي] في قلوب المؤمنين ودّا، فقالهما، فنزلت الآية» (7).

و قيل: إنّ المراد سيجعل لهم الرحمن ودّهم، أي محبوبهم في الجنّة (8).

سوره 19 (مريم): آیه شماره 97 الی 98

ثمّ أنّه تعالى بعد وعيد المشركين على الشّرك و العصيان، و وعد المؤمنين على الإيمان و العمل الصالح، بيّن أنّهما الغرض من إنزال القرآن بلغة العرب بقوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ و سهّلنا عليك فهمه و تلاوته بأن جعلناه بِلِسانِكَ و لغتك.

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)و قيل: إنّ باء (بلسانك) بمعنى على، و التيسير متضمّن معنى الإنزال، و الفاء في (إنّما) فاء التعليل، و المعنى بلّغ يا محمّد هذا المنزل، أو بشّر به و أنذر، لأنّا يسّرناه منزّلين له بلسانك و لغتك (9)لِتُبَشِّرَ بِهِ

ص: 206


1- . نهج الحق:180.
2- . في النسخة: يحبهم.
3- . إحقاق الحق 3:87.
4- . تفسير القمي 2:56، تفسير الصافي 3:297.
5- . تفسير العياشي 2:302/1997، تفسير الصافي 3:297.
6- . الكافي 1:358/90.
7- . مجمع البيان 6:822، تفسير الصافي 3:297.
8- . تفسير الرازي 21:256.
9- . تفسير أبي السعود 5:284.

اَلْمُتَّقِينَ من الشّرك و العصيان بما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب العظيم وَ تُنْذِرَ و تخوّف بِهِ قَوْماً لُدًّا و جمعا لجوجا عنودا أو أشدّاء الخصومة، و في الحديث: «أبغض الرّجال الألدّ الخصم» (1).

عن الصادق عليه السّلام: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ يعني القرآن، و قَوْماً لُدًّا يعني أصحاب الكلام و الخصومة» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا قال: «هو عليّ و قَوْماً لُدًّا قال: بنو اميّة قوما ظلمة» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «فإنّما يسّره اللّه على لسانه حين أقام أمير المؤمنين علما، فبشّر به المؤمنين، و أنذر به الكافرين، و هم الذين ذكرهم اللّه في كتابه لدّا أي كفّارا» (4).

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر لجاج القوم، هدّدهم و وعظهم بحال الامم الماضية المهلكة بقوله: وَ كَمْ أَهْلَكْنا بالعذاب أو بالموت قَبْلَهُمْ و في الأزمنة السابقة على زمانهم مِنْ قَرْنٍ و أهل عصر من المكابرين للرّسل بحيث لم يبق منهم عين و لا أثر، فانظر يا محمّد هَلْ تُحِسُّ و تدرك بحواسّك مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ من أولئك القرون أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً و صوتا خفيّا.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية، قال: «أهلك اللّه من الامم ما لا تحصون، فقال: يا محمّد هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي ذكرا» (5).

عنه عليه السّلام: «من أدمن قراءة سورة مريم، لم يمت حتى يصيب ما يغنيه (6)في نفسه و ماله و ولده، و كان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم، و اعطي (7)من الأجر مثل ملك سليمان في الدنيا» (8).

ص: 207


1- . تفسير روح البيان 5:360.
2- . تفسير القمي 2:56، تفسير الصافي 3:298.
3- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 3:298.
4- . الكافي 1:358/90، تفسير الصافي 3:298.
5- . تفسير القمي 2:57، تفسير الصافي 3:298.
6- . في النسخة: يغنيه ما يصيب.
7- . زاد في ثواب الأعمال: في الآخرة.
8- . ثواب الأعمال:108، تفسير الصافي 3:298.

ص: 208

في تفسير سورة طه

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 20 (طه): آیه شماره 1 الی 5

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة ببيان تيسير القرآن على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله للتّبشير و الإنذار، و هدّد معارضيه بذكر إهلاكه الامم الماضية بالشرك و الطغيان، أردفها بسورة طه المبتدئة بالتّأكيد في بيان غرض إنزال القرآن، المتضمّنة لذكر هلاك فرعون و قومه و غيره من المطالب المناسبة للسّورة السابقة المختتمة بتهديد المشركين، فابتدء فيها بذكر أسمائه المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّماواتِ اَلْعُلى (4) اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى (5)

ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله: طه و قد مرّ في الطرفة الثامنة عشرة تأويلها، و ذكر أنّها من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما روي أنّه قال: «أنا محمّد، و أنا أحمد، و الفاتح، و القاسم، و الحاشر، و العاقب، و الماحي، و طه، و يس» (1).

و عن بعض العامة: أنّ الصادق عليه السّلام قال: «إنّه قسم بطهارة أهل البيت و هدايتهم» (2).

و قيل: إنّه قسم بطوبى و الهاوية. و قيل: بطيبة و مكّة. و قيل غير ذلك (3).

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ يا محمّد لِتَشْقى و تقع في تعب الأسف و الحزن على كفر قومك، أو في تعب الجهد في إيمانهم، أو في تعب العبادة بحيث تشرف على الهلاك.

روت العامة أنّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى باللّيل حتى تورّمت قدماه فقال له جبرئيل: أبق على نفسك، فإنّ لها عليك حقّا (4).

و رووا أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قام في (5)اللّيل، ربط صدره بحبل حتى لا ينام (6).

ص: 209


1- . تفسير روح البيان 5:361.
2- . تفسير الرازي 23:3، تفسير روح البيان 5:361.
3- . تفسير روح البيان 5:361.
4- . تفسير الرازي 22:4.
5- . في تفسير الرازي: من.
6- . تفسير الرازي 22:4.

و قيل: كان يقوم على رجل واحدة. و قيل: كان يسهر طول الليل (1).

و القمي عنهما عليهما السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا صلّى قام على أصابع رجليه [حتى تورّمت]فأنزل اللّه طه بلغة طي يا محمّد ما أَنْزَلْنا الآية» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول اللّه، لم تتعب نفسك و قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ فقال: أ فلا أكون عبدا شكورا؟»

قال: «و كان صلّى اللّه عليه و آله يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل اللّه: طه ما أَنْزَلْنا الآية» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «لقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه، يقوم الليل [أجمع]حتى عوتب عليه في ذلك، فقال اللّه عزّ و جلّ: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقى بل لتسعد به» (4).

و قيل: إنّ السورة من أوائل ما نزل بمكّة، و كان صلّى اللّه عليه و آله حينئذ مقهورا لأعدائه، فأنزلت تسلية له، و المراد أنّك لا تبقى على هذه الحالة من التعب و المشقّة من مكابدة الأعداء، فإنّا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا و موهونا بينهم، بل لتصير معظّما مكرّما (5).

و قيل: إنّ جماعة من قريش قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك لتشقى حيث تركت دين آبائك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل بعثت رحمة للعالمين» قالوا: بل أنت تشقى. فنزلت الآية ردّا عليهم، و تعريفا لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله بأنّ دين الإسلام هو السّلام، و القرآن سبب لكلّ سعادة، و الكفر هو الشقاء (6).

ثمّ بيّن سبحانه حكمة إنزال القرآن بقوله: إِلاّ ليكون تَذْكِرَةً و عظة لِمَنْ يَخْشى سوء العاقبة، و يتأثّر بالآيات و النّذر، فإنّه المنتفع بها.

و قيل: إنّ (إلاّ) بمعنى (لكنّ) (7).

ثمّ بيّن عظم شأن القرآن بقوله: تَنْزِيلاً قيل: أي نزّل تنزيلا (8)متدرّجا بديعا مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّماواتِ اَلْعُلى و المرفوعات،

و هو اَلرَّحْمنُ الّذي عَلَى اَلْعَرْشِ و سرير الملك، أو عالم الوجود اِسْتَوى و استولى بقدرته، أو بعلمه و تدبيره، أو بفيضه المنبسط على جميع الذرّات.

عن الصادق عليه السّلام يقول: «على الملك احتوى» (9).

ص: 210


1- . تفسير الرازي 22:4.
2- . تفسير القمي 2:58، تفسير الصافي 3:299.
3- . الكافي 2:77/6، تفسير الصافي 3:299.
4- . الاحتجاج:219، تفسير الصافي 3:299.
5- . تفسير الرازي 22:4.
6- . تفسير الرازي 22:3.
7- . تفسير الرازي 22:4.
8- . تفسير الرازي 22:4.
9- . التوحيد:321/1، تفسير الصافي:3:300.

سوره 20 (طه): آیه شماره 6 الی 7

و إنّما وصف ذاته بالرحمانيّة إشعارا بأنّ مبدأ خلق الموجودات رحمته الواسعة لَهُ تعالى ما فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة و الكواكب و غيرهما وَ ما فِي اَلْأَرْضِ من الحيوان و النبات و غيرهما، وَ ما بَيْنَهُما من المخلوقات في الجوّ كالهواء و السّحاب و غيرهما وَ ما تَحْتَ اَلثَّرى قيل: إنّه ما تحت الأرضين السبع (1). و قيل: ما تحت الصخرة التي عليها الأرض [السابعة]

(2).

لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ اَلثَّرى (1) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى (7)عن الصادق عليه السّلام: «الأرض على الحوت، و الحوت على الماء، و الماء على الصخرة التي عليها، و الصخرة على قرن ثور أملس، و الثور على الثّرى، و عند ذلك ضلّ علم العلماء» (2).

أقول: الرواية من المتشابهات المفوّض علمها إليهم عليهم السّلام.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «كلّ شيء على الثرى، و الثرى على القدرة، و القدرة تحمل كلّ شيء» (3).

ثمّ بيّن سبحانه سعة علمه بقوله: وَ إِنْ تَجْهَرْ و تعلن بِالْقَوْلِ من الذّكر و الدعاء، فاعلم أنّه تعالى غني عن الجهر فَإِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ اَلسِّرَّ و المكتوم وَ أَخْفى منه.

عن الصادق عليه السّلام: «السرّ: ما أكننته في نفسك، و أخفى: ما خطر ببالك ثمّ نسيته» (4).

و قيل: إنّ الأخفى ما ستسرّه فيما بعد و لا تعلمه (6).

سوره 20 (طه): آیه شماره 8 الی 12

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كماله في الذات و الصفات، أعلن بتوحيده في الألوهيّة بقوله: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لا تنحصر أسماؤه و صفاته فيما ذكر، بل لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى و الصفات العليا كلّها، و في الإتيان بضمير الغائب مع حضوره عند كلّ شيء، إشعار بغيبة ذاته و حقيقته عن درك الحواسّ

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى (8) وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنّارِ هُدىً (10) فَلَمّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً (12)

ص: 211


1- . تفسير روح البيان 5:366، و فيه: ما ستسرّه فيما سيأتي، أي ما يلقيه اللّه في قلبك من بعد، و لا تعلم أنك ستحدّث به نفسك.
2- . تفسير القمي 2:59، تفسير الصافي 3:300.
3- . الخصال:597/1، تفسير الصافي 3:300.
4- . معاني الأخبار:143/1، تفسير الصافي 3:300.

و العقول.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله ذكر ألطافه بموسى بن عمران الذي هو دونه في القرب منه، تقوية لقلبه الشريف، و تحريضا له على تحمّل أعباء الرسالة، و تقريرا لأمر التوحيد بقوله: وَ هَلْ أَتاكَ و بلغك حَدِيثُ مُوسى عن ابن عباس: أ ليس قد أتاك خبره؟ (1)و في هذا الاستفهام المبالغة في إعجاب قصّته إِذْ رَأى ناراً روي أنّ موسى عليه السّلام تزوّج صفوراء بنت شعيب، ثمّ أستأذن منه في الخروج من مدين لزيارة امّه و أخيه هارون في مصر، فخرج بأهله، و أخذ على غير طريق خوفا من ملوك الشام، فلمّا أتى وادي طوى، و هو بالجانب الغربي من الطّور، ولد له ولد في ليلة مظلمة ذات برد و شتاء و ثلج، و كانت ليلة الجمعة، فقدح زنده، فلم تخرج منه نار (2).

و قيل: كان موسى عليه السّلام غيورا يصحب الناس بالليل و يفارقهم بالنهار، لئلاّ يروا امرأته، فلذا أخطأ الرّفقة و الطّريق، فبينما هو في ذلك، إذ رأى نارا من بعيد على يسار الطريق من جانب الطّور، فظنّ أنّها من نيران الرّعاة (3)فَقالَ لِأَهْلِهِ و صحبه من امرأته و ولده و خدمه: اُمْكُثُوا و توقّفوا في مكانكم، و لا تتّبعوني إِنِّي آنَسْتُ و شاهدت من البعيد ناراً فأذهب إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ و شعلة أو جذوة أَوْ أَجِدُ بالسّؤال من القاعدين و المشرفين عَلَى اَلنّارِ عن الطريق هُدىً و رشادا إليه،

أو ما اهتدي به من دليل و علامة فَلَمّا فارق أهله، و أسرع إلى النار و أَتاها و انتهى سيره إليها.

عن ابن عبّاس: رأى شجرة خضراء، أحاطت بها من أسفلها و أعلاها نار بيضاء تتّقد كأضوء ما يكون، و لم ير هناك أحدا، فوقف متعجّبا من شدّة ضوء تلك النار، و شدّة خضرة تلك الشجرة، فلا النّار تغيّر خضرتها، و لا كثرة ماء الشجرة تغيّر ضوء النار، فسمع تسبيح الملائكة، و رأى نورا عظيما تكلّ الأبصار عنه، فوضع يديه على عينيه، و خاف و بهت، فالقيت عليه السكينة و الطّمأنينة (2)، فعند ذلك نُودِيَ و قيل: يا مُوسى لا تخف و لا تحزن و ليطمئنّ قلبك إِنِّي أَنَا رَبُّكَ اللّطيف بك.

و عن وهب: ظنّ موسى عليه السّلام أنّها نار أوقدت، فأخذ من دقائق الحطب ليقتبس من لهبها، فمالت إليه كأنّها تريده، فتأخّر عنها وهابها، ثمّ لم تزل تطمعه و يطمع فيها، ثم لم يكن أسرع من خمودها كأنّها لم تكن، ثمّ رمى موسى عليه السّلام بنظره إلى فرعها، فإذا خضرتها ساطعة في السّماء، و إذا نور بين السماء و الأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار، فلمّا رأى موسى عليه السّلام ذلك وضع يده على عينيه، فنودي:

ص: 212


1- . تفسير الرازي 22:14. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:369.
2- . تفسير روح البيان 5:369.

يا موسى (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «فأقبل نحو النار يقتبس، فإذا شجرة و نار تلتهب عليها، فلمّا ذهب نحو النار يقتبس منها أهوت إليه ففزع [منها]وعدا، و رجعت النّار إلى الشجرة، فالتفت إليها و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع الثانية ليقتبس، فأهوت إليه فعدا و تركها، ثمّ التفت و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع إليها الثالثة فأهوت إليه فعدا و لم يعقّب، أي لم يرجع، فناداه اللّه عزّ و جلّ» الخبر (2).

روي أنّه لمّا نودي موسى عليه السّلام قال عليه السّلام: من المتكلّم؟ فقال اللّه عزّ و جلّ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فوسوس إليه إبليس: لعلّك تسمع كلام الشيطان، فقال عليه السّلام: أنا عرفت أنّه كلام اللّه تعالى بأنّي أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء (3).

قيل: تلقّى موسى عليه السّلام كلام ربّه تلقّيا روحانيا، ثمّ تمثّل ذلك الكلام لبدنه، و انتقل إلى الحسّ المشترك، فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة (4).

ثمّ قال: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ من رجليك إِنَّكَ تكون بِالْوادِ اَلْمُقَدَّسِ المطهّر من كلّ دنس و سوء، اسمه طُوىً و قيل: طوى كثنى لفظا و معنا، و المعنى نودي مرّتين، أو المقدّس قدّس مرّة بعد اخرى (3).

و عن ابن عبّاس: يعني الوادي المقدّس الذي طويته (4).

في تأويل قوله

تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ

روي أنّه عليه السّلام خلعهما و ألقاهما وراء الوادي (5). و إنّما أمر بالحفوة لأنّها ادخل في التواضع و حسن الأدب، أو لتعظيم الوادي، أو ليباشر الوادي بقدميه تبرّكا به.

و قيل: لكون نعليه من جلد حمار غير مذبوح، روته العامة عن أمير المؤمنين عليه السّلام و جمع من المفسّرين (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّه امر بخلعهما لأنّهما كانتا من جلد حمار ميّت» (7).

و قيل: خلع النعلين كناية عن تفريغ القلب من حبّ الأهل و المال (8).

و عن القائم عليه السّلام-في حديث-قيل له: أخبرني يا [ابن]رسول اللّه عن أمر اللّه لنبيّه موسى عليه السّلام فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً فإنّ فقهاء الفريقين يزعمون أنّها كانت من إهاب الميتة؟

ص: 213


1- . تفسير الرازي 22:16.
2- . تفسير القمي 2:140، تفسير الصافي 3:301. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 6:7.
3- . تفسير الرازي 22:18، تفسير أبي السعود 6:7.
4- . تفسير الرازي 22:18.
5- . تفسير أبي السعود 6:7، تفسير روح البيان 5:371.
6- . مجمع البيان 7:10، جوامع الجامع:280، تفسير الرازي 22:17، تفسير ابن كثير 3:151، الدر المنثور 5:558.
7- . تفسير القمي 2:60، علل الشرائع:66/1، تفسير الصافي 3:301.
8- . تفسير أبي السعود:6:7.

قال عليه السّلام: «من قال ذلك فقد افترى على موسى عليه السّلام و استجهله في نبوّته؛ لأنّه ما خلا الأمر فيها من خصلتين (1): إمّا أن تكون صلاته فيها جائزة [أو غير جائزة]، فان كانت صلاته جائزة جاز له لبسها في تلك البقعة إذا لم تكن مقدّسة، و إن كانت مقدّسة مطهّرة فليست بأقدس و أطهر من الصلاة. و إن كانت صلاته [غير]جائزة فيها، فقد أوجب على موسى أنّه لا يعرف الحلال من الحرام، و لم يعلم ما جاز فيه الصلاة و ما لم يجز، و هذا كفر» .

قيل: فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيها. قال (صلوات اللّه عليه) : «إنّ موسى ناجى ربّه بالوادي المقدّس فقال: يا ربّ إنّي [قد]أخلصت لك المحبّة منّي، و غسلت قلبي عمّن سواك، و كان شديد الحبّ لأهله، فقال اللّه: اخلع نعليك، أي انزع حبّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصة، و قلبك من الميل إلى سواي مغسولا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني ارفع خوفيك؛ يعني خوفه من ضياع أهله و قد خلّفها تمخض، و خوفه من فرعون» (3).

و قيل: يعني فاترك الالتفات إلى الدنيا و الآخرة، و كن مستغرقا في محبّة اللّه، و يكون المراد بالواد المقدّس قدس اللّه تعالى (4).

و قيل: إنّ موسى كان يلبس النّعلين لحفظ رجليه عن النّجاسة و عن هوامّ الأرض، فقال سبحانه: اخلع نعليك فإنّ هذا الوادي مقدّس و مطهّر من النجاسات، و آمن من لدغ الهوام (5).

سوره 20 (طه): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ نصبه اللّه سبحانه للرسالة بقوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ و اصطفيتك لرسالتي و لمناجاتي فَاسْتَمِعْ يا موسى لِما يُوحى إليك من قبلي.

وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)قيل: في قوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ إظهار لغاية لطفه، و في قوله: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إظهار لغاية مهابته، فكأنّه قال: قد جاءك أمر عظيم من قبلنا، فتأهّب له و اصرف جميع قواك و جوارحك إليه (6).

و يحتمل تعلّق قوله: لِما يُوحى بقوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ و كون (ما) مصدريّة، و المعنى: أنا اخترتك لوحيي،

و أهمّه إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ و لا معبود بالاستحقاق في عالم الوجود إِلاّ أَنَا

ص: 214


1- . في كمال الدين: خطيئتين.
2- . كمال الدين:460/21، تفسير الصافي 3:302.
3- . علل الشرائع:66/2، تفسير الصافي 3:302.
4- . تفسير الرازي 22:17، تفسير روح البيان 5:370.
5- . مجمع البيان 7:10.
6- . تفسير الرازي 22:19.

وحدي لا شريك لي في العبادة، فإذا كان كذلك فَاعْبُدْنِي و خصّني بالعبادة وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ خصوصا لِذِكْرِي و توجّه بقلبك (1)إليّ في الأوقات، فإنّها أهمّ العبادات، فإنّها ذكر و دعاء و ركوع و سجود.

و قيل: يعني لأنّي ذكرتها في الكتب السماوية و أمرت بها (2). و قيل: يعني لإخلاص ذكري و طلب وجهي، لا تراني بها و لا تقصد غرضا آخر بفعلها (3).

و قيل: يعني لأن أذكرك بالمدح و الثناء (4). و قيل: لأوقات ذكري، و هي مواقيت الصلاة (5). و قيل: يعني أقم الصّلاة حين تذكرها (6).

عن أنس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها، لا كفّارة لها إلاّ ذلك» (7).

أقول: و عليه يكون في الكلام حذف، و التقدير: لذكر صلاتي.

عن الباقر عليه السّلام: «إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت اخرى، فإن كنت تعلم [أنّك]إذا صلّيت التي فاتتك كنت من الاخرى في وقت، فابدأ بالتي فاتتك فإنّ اللّه يقول: أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِذِكْرِي» (8).

و عنه عليه السّلام: «معناه أقم الصّلاة متى ذكرت أنّ عليك صلاة، كنت في وقتها أو لم تكن» (9).

سوره 20 (طه): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ نبّه سبحانه على علّة وجوب العبادة و الصلاة بقوله: إِنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة آتِيَةٌ و كائنة لا محالة، و هي لكثرة أهوالها و غاية عظمها أَكادُ أُخْفِيها و استرها عن كلّ أحد، و لكنّ اللّطف و لزوم قطع الأعذار اقتضى إظهارها.

إِنَّ اَلسّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)و قيل: يعني اريد أخفي وقتها، ليكون الناس على حذر منها في جميع الأوقات (10).

و قيل: يعني لو صحّ إخفاؤها من نفسي لأخفيتها عنّي، فكيف اظهرها لكم؟ و فيه غاية المبالغة في لزوم إخفائها عن النّاس (11).

و قيل: يعني أكاد اظهرها (12)بإتيانها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ في تلك الساعة بِما تَسْعى و تعمل إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

ص: 215


1- . في النسخة: قلبك.
2- . تفسير الرازي 22:19.
3- . تفسير الرازي 22:19.
4- . تفسير الرازي 22:19.
5- . تفسير الرازي 22:20.
6- . تفسير الرازي 22:20.
7- . تفسير الرازي 22:20.
8- . الكافي 3:293/4، تفسير الصافي 3:302.
9- . مجمع البيان 7:10، تفسير الصافي 3:303.
10- . تفسير روح البيان 5:371.
11- . تفسير الرازي 22:22.
12- . تفسير الرازي 22:22.

و قيل: يعني لتجزي كلّ نفس بسعيها في الامور ألمأمور بها (1).

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها و لا يمنعك عن تذكّرها و التهيئة لها، أو لا يمنعك عن الصلاة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ و سعى في موافقة ميل نفسه فَتَرْدى و تهلك، إذن فإنّ الغفلة عن تحصيل ما ينجى من أهوال الساعة، أو عن الصلاة و القيام بوظيفة العبوديّة، موجبة للهلاك في الآخرة.

و قيل: إنّ المخاطب من قوله: وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ إلى هنا هو خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 17 الی 21

ثمّ قيل: إنّ المهابة لمّا عظمت في قلب موسى عليه السّلام، أراد سبحانه استئناسه (3)بقوله: وَ ما تِلْكَ مأخوذة بِيَمِينِكَ و يدك، و في السؤال تنبيه له على ما سيبدو له من التعاجيب (4).

وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا اَلْأُولى (21)ثمّ كرّر الخطاب بقوله: يا مُوسى ازديادا للتأنيس و إظهارا لغاية اللطف قالَ موسى: يا ربّ هِيَ عَصايَ و فائدتها إنّي أَتَوَكَّؤُا و أعتمد عَلَيْها و عند الإعياء، أو حين الوقوف على رأس القطيع وَ أَهُشُّ و أسقط بِها الورق من الأشجار عَلى غَنَمِي لتأكل منه.

القميّ: ثمّ من الفرق لم يستطع الكلام فجمع كلامه (5)و قال: وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ و حوائج و منافع أُخْرى غير ذلك.

و قيل: إنّه عليه السّلام أجمل في الجواب رجاء أن يسأله ربّه عن تلك المآرب فيسمع كلام اللّه مرّة اخرى (6).

و قيل: إنّه قال موسى عليه السّلام: إلهي ما هذه العصا إلاّ كغيرها لكنّك لمّا سألت عنها عرفت أنّ لي فيها مآرب اخرى منها: أنّك كلّمتني بسببها (7).

روي أنّه كان إذا سار وضعها على عاتقه فعلّق بها أدواته، و إذا أقام في البريّة ركزها و عرض الزّندين على شعبتيها فاشتعلتا، و ألقى عليها كساءه و استظلّ به، و إذا تعرّضت السباع لغنمه قاتلها بها (6).

قيل: إنّه فهم من السؤال بيان حقيقتها و تفصيل منافعها، حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقة،

ص: 216


1- . تفسير أبي السعود 6:8.
2- . تفسير أبي السعود 6:8.
3- . تفسير روح البيان 5:374.
4- . أي العجائب، و في النسخة: التعاجب.
5- . تفسير القمي 2:60، تفسير الصافي 3:304. (6 و 7) . تفسير الرازي 22:27.
6- . تفسير أبي السعود 6:10.

و بدت منها خواص بديعة، علم أنّها آيات باهرة (1). أو كان المقصود إزالة الرهبة و المهابة من قلب موسى عليه السّلام و الاستئناس به.

ثمّ كأنّه قيل: ماذا قال اللّه إذن؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالَ اللّه أَلْقِها من يدك يا مُوسى على الأرض، لترى منها ما لم يخطر بقلبك

فَأَلْقاها من غير ريث فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ عظيمة و ثعبان جسيم، و هي مع غاية عظم جثّتها تَسْعى و تمشي على الأرض بسرعة و جلادة كالحيّة الصغيرة.

و في رواية: أنّه عليه السّلام لمّا ألقاها انقلبت حيّة صفراء في غلظ العصا، ثمّ انتفخت و عظمت، فلذلك سمّيت بالجانّ تارة، و بالثعبان اخرى (2).

قيل: كان لها عرف كعرف الفرس، و كان بين لحييها أربعون ذراعا، و ابتلعت كلّما مرّت به من الصخور و الأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها و جوفها (3)، فخافها و ولّى مدبرا، فناداه ربّه و

قالَ : يا موسى خُذْها بيدك وَ لا تَخَفْ منها إنّا سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا و حالتها اَلْأُولى التي كانت عليها.

قيل: لمّا قال اللّه: لا تَخَفْ بلغ اطمئنان موسى إلى أن أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها (4).

و في رواية: أنه أدخل يده بين أسنانها، فانقلبت خشبة (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «ففزع منها موسى وعدا، فناداه اللّه عزّ و جلّ: خُذْها وَ لا تَخَفْ الآية» (6).

قيل: إنّ حكمة قلب العصا حيّة في ذلك الوقت معرفة موسى نبوّة نفسه بها (7)، لاحتمال كون النداء من باب إظهار غاية اللّطف و عدم خوفه بعد مشاهدة ذلك الأمر من وقوعه عند فرعون و قوّة قلبه في الدعوة، و علمه بأنّ اللّه القادر على قلب العصا ثعبانا، قادر على نصرته في إظهار الدين و إعلاء كلمة الحقّ.

سوره 20 (طه): آیه شماره 22 الی 28

ثمّ أراه اللّه آية اخرى على نبوّته بقوله: وَ اُضْمُمْ و مدّ يَدَكَ اليمنى إِلى جَناحِكَ و إبطك و أدخلها في جيبك تَخْرُجْ يدك إذن منه حال كونها بَيْضاءَ بقدرة اللّه مِنْ غَيْرِ سُوءٍ

وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا اَلْكُبْرى (23) اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)

ص: 217


1- . تفسير أبي السعود 6:10.
2- . تفسير أبي السعود 6:10.
3- . تفسير الرازي 22:28.
4- . تفسير الرازي 22:29.
5- . تفسير الرازي 22:29.
6- . تفسير القمي 2:140، تفسير الصافي 3:304.
7- . تفسير الرازي 22:28.

و مرض برص تكون هذه آيَةً أُخْرى على قدرتي، و نبوّتك، و معجزة قاهرة غير انقلاب العصا حيّة.

روي أنّه عليه السّلام كان شديد الادمة، فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه و تحت إبطه الأيسر و أخرجها كانت تبرق مثل البرق-و قيل: مثل الشمس-من غير برص، ثمّ إذا ردّها عادت إلى لونها الأول بلا نور (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير علّة، و ذلك أنّ موسى عليه السّلام كان شديد السّمرة، فأخرج يده من جيبه، فأضاءت له الدنيا» (2).

و إنّما فعلنا ما فعلنا من إظهار الآيتين لِنُرِيَكَ بها بعضا مِنْ آياتِنَا اَلْكُبْرى قيل: إنّ المعنى لنريك الكبرى من آياتنا (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد إعطائه الآيتين أمره بالرّسالة بقوله: اِذْهَبْ يا موسى، للدعوة إلى التوحيد و التحذير من الطّغيان إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر بهاتين الآيتين إِنَّهُ طَغى و تجاوز عن الحدّ في الكفر و الطغيان.

عن وهب، أنّه قال: قال اللّه تعالى لموسى: إسمع كلامي، و احفظ وصيّتي، و انطلق برسالتي، فإنّك بعيني و سمعي، و إنّ معك يدي و نصري (4)، و إنّي ألبستك جنّة من سلطاني (5)لتستكمل بها القوّة في أمري، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر بنعمتي، و أمن مكري، و غرّته الدنيا حتى جحد حقّي، و أنكر ربوبيتي، و سقط عن عيني، فبلّغه عنّي رسالتي، و ادعه إلى عبادتي، و حذّره نقمتي، إلى أن قال: فسكت موسى سبعة أيّام لا يتكلّم، ثمّ جاءه ملك فقال: أجب ربّك في ما أمرك (6).

فلمّا كلّف موسى عليه السّلام بهذا التكليف الشاقّ قالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي و وسّع قلبي بحيث لا يضيق بسفاهة المعاندين و لجاج العاتين، أو زد حفظي و ذكائي و جودة ذهني حتى أحفظ ما تنزل من الوحي و أفهمه، أو قوّ قلبي حتى أجترئ على مخاطبة فرعون و قومه و معارضتهم.

وَ يَسِّرْ لِي و سهّل عليّ أَمْرِي من الدعوة و التبليغ بتهيئة الأسباب و رفع الموانع وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً قليلة، و أزل لكنة يسيرة مِنْ لِسانِي كي يَفْقَهُوا و يفهموا قَوْلِي و كلامي عند تبليغ الرسالة، و لا يشقّ عليّ مكالمة فرعون و ملئه.

ص: 218


1- . تفسير الرازي 22:30.
2- . تفسير القمي 2:140، تفسير الصافي 3:304.
3- . جوامع الجامع:280.
4- . في تفسير الرازي: و بصري.
5- . في النسخة: جبّة سلطاني.
6- . تفسير الرازي 22:30.

قيل: كانت اللّكنة بخلقة اللّه تعالى (1). و قيل: كانت من جمرة أدخلها فاه (2).

روي أنّ فرعون حمله يوما، فأخذ لحيته و نتفها، لمّا كانت مرصّعة بالجواهر، فغضب و قال: إنّ هذا عدوّي المطلوب، و أمر بقتله، فقالت آسية زوجته: أيّها الملك، إنّه صبيّ لا يفرّق بين الجمر و الياقوت، فأحضرا بين يدي موسى، بأن جعل الجمر في طشت و الياقوت في آخر، فقصد إلى أخذ الجوهر، فأمال جبرئيل يده إلى الجمر، فرفعه إلى فيه، فاحترق لسانه، فكانت منه لكنة و عجمة (1).

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية-: «و لمّا درج موسى عليه السّلام كان يوما عند فرعون فعطس فقال: الحمد للّه ربّ العالمين، فأنكر فرعون ذلك عليه و لطمه، و قال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى عليه السّلام على لحيته عليه السّلام و كان طويل اللحية، فهلبها-أي قلعها-فآلمه ألما شديدا، فهمّ فرعون بقتله، فقالت له امرأته: هذا غلام حدث ما يدري ما يقول. فقال فرعون: بل يدري. فقالت له: ضع بين يديك تمرا و جمرا، فإن ميّز بين الجمر و التّمر فهو الذي تقول، فوضع بين يديه تمرا و جمرا و قال له: كل، فمدّ يده إلى التّمر فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر، فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه، و صاح و بكى. فقالت آسية: ألم أقل لك أنّه لم يعقل؟ فعفا عنه» (2).

ثمّ أنّ بعض العامة قال: لم يحترق بيده و لا لسانه، لكون يده آلة أخذ العصا، و لسانه آلة ذكر اللّه، و منهم من قال: احترقت يده و لم يحترق لسانه، و منهم من قال بالعكس، و منهم من قال احترقا معا (3).

أقول: الأظهر من الروايتين هو القول الثالث.

سوره 20 (طه): آیه شماره 29 الی 36

ثمّ أنّه تعالى بعد سؤال قوّة قلبه و لسانه، سأل تقويته في تحمّل أعباء الرسالة بجعل المعين له بقوله: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً و معينا كائنا مِنْ أَهْلِي و أقربائي و خواصّي المنتسبين إليّ في تحمّل أعباء الرسالة،

و لمّا كان التعاون في أمر دينك درجة عظيمة يكون الأحقّ به هارُونَ الذي يكون أَخِي من أبي و امّي اُشْدُدْ و احكم بِهِ أَزْرِي و قوّتي على التبليغ، أو قوّ به ظهري وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و منصبي و شغلي من الرسالة و التبليغ كَيْ نُسَبِّحَكَ و ننزّهك عمّا لا يليق بك تسبيحا

وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)

ص: 219


1- . تفسير روح البيان 5:379.
2- . تفسير القمي 2:136، تفسير الصافي 3:305.
3- . تفسير الرازي 22:47.

و تنزيها كَثِيراً دائما وَ نَذْكُرَكَ بصفات الجلال و الجمال ذكرا كَثِيراً فإنّ التعاون يهيّج الرّغبات و يؤثّر في تكاثر الخيرات إِنَّكَ يا مولاي كُنْتَ بِنا و بمصالحنا، أو بما في قلوبنا من الخلوص في الطاعة، أو بغرضنا من الاستعانة بَصِيراً و عليما.

قال العلامة (رضوان اللّه عليه) في (نهج الحق) : و في (مسند أحمد) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهم إنّي أقول كما قال أخي موسى: إجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري» (1).

في ردّ بعض روايات

العامة و إبطالها

أقول: و قد اشتهر بين العامّة و الخاصّة قوله صلّى اللّه عليه و آله لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» (2)و من العجب أنّه مع ذلك روى بعض العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ لي في السّماء وزيرين، و في الأرض وزيرين، فاللّذان في السّماء: جبرئيل و ميكائيل، و اللّذان في الأرض: أبو بكر و عمر» (3)،

فإنّ هذه الرواية تنافي الخبرين المعتبرين السابقين المعتضدين بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله» (4)و قوله في حديث الطائر: «اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك» (5).

و الحاصل: أنّه لا شبهة أنّ عليا عليه السّلام كان أخا الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و أخصّ أهله، و أحبّ الخلق إليه، لكونه أحبّ الخلق إليه تعالى، و وصيّة كما كان يوشع بن نون وصيّ موسى، و كانا من شجرة واحدة، و كان نورهما واحدا، و كان أعلم الصحابة و أعقلهم و أقضاهم بحيث قال عمر: «لا قضيّة لا يكون فيها أبو الحسن» «و لو لا عليّ لهلك عمر» (6)، و كان من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة هارون من موسى، و لم يكفر باللّه طرفة عين، و قال: «سلوني» (7)و لم يسأل هو عن أحد غير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان حامل لوائه و مبلّغ براءة عنه، و لم يخالفه في شيء، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من محامده، و مع ذلك كيف يمكن أن تكون وزارته

ص: 220


1- . نهج الحق:229، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2:678/1158.
2- . صحيح البخاري 5:89/202، صحيح مسلم 4:1870/2404، سنن الترمذي كتاب المناقب 5/3730، مستدرك الحاكم 3:337، مسند احمد 1:173،175،182،184،331، مصابيح السنة 4:70/4762، جامع الأصول 9: 468/6477، أمالي المفيد:57/2، أمالي الطوسي:253/453، الكافي 8:107/80.
3- . تفسير الرازي 22:48، تفسير روح البيان 5:380.
4- . صحيح البخاري 5:87/197 و 198، و ص 279/231، صحيح مسلم 4:1871/32-34، سنن الترمذي 5: 638/3724، سنن ابن ماجة 1:43/117، مسند أحمد 1:185 و 5:358 و غيرها.
5- . سنن الترمذي 5:636/3721، خصائص النسائي:5، فضائل الصحابة لأحمد 2:560/945، مستدرك الحاكم 3:130-132، مصابيح السنّة 4:173/4770، أسد الغابة 4:30.
6- . الاستيعاب بهامش الاصابة 3:39.
7- . نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح:280 الخطبة 189، الاستيعاب 3:43.

للأبعدين الأجهلين، اللذين عبد الصّنم في أكثر عمرهما، و كانا يتعلّمان من كعب الأخبار و أبي هريرة و أضرابهما، و كانت النساء أفقه منهما (1)، إلى غير ذلك من مثالبهما، ثمّ كيف كان أبو بكر معينا له في التبليغ مع عدم أهليّته لتبليغ براءة؟

ثمّ قالَ اللّه إجابة لدعائه: قَدْ أُوتِيتَ و اعطيت من قبلنا سُؤْلَكَ و مطلوبك يا مُوسى قيل: أزال اللّه لكنة لسانه بالكليّة (2)، و قيل: أزال أكثرها (3)، و جعل له هارون وزيرا، و كان أكبر سنّا و أفصح لسانا منه.

سوره 20 (طه): آیه شماره 37 الی 39

ثمّ قوّى سبحانه قلبه و هيّجه على القيام بوظيفته بقوله: وَ لَقَدْ مَنَنّا و أنعمنا عَلَيْكَ لطفا و تفضّلا بالنعم الكثيرة مَرَّةً أُخْرى في بدو ولادتك إِذْ أَوْحَيْنا بعد ولادتك إِلى أُمِّكَ و ألهمناها، أو قلنا لها في الرؤيا، أو بتوسّط الملك الذي تمثّل لها كما تمثّل لمريم ما يجب أن يُوحى و ينبّه من الأمر العظيم اللازم الوقوع، أو ما لا يمكن أن تعلم به إلاّ بالوحي، و هو أنّه لمّا خافت امّك عليك من فرعون،

أوحينا إليها أَنِ اِقْذِفِيهِ وضعيه فِي اَلتّابُوتِ و الصّندوق فَاقْذِفِيهِ و ألقيه مع التّابوت فِي اَلْيَمِّ و نهر النّيل فَلْيُلْقِهِ بعد ذلك اَلْيَمِّ و النهر بموجه بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عند ذلك فرعون الذي هو عَدُوٌّ لِي لكفره و طغيانه وَ عَدُوٌّ لَهُ لكونه من الخوف منه بصدد قتله.

وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)روي أنّ امّ موسى جعلت في التابوت قطنا، و وضعت موسى فيه، ثمّ أحكمته بالقير لئلاّ يدخل فيه الماء، و ألقته في اليمّ، و كان يدخل منه إلى بستان فرعون نهر، فدفعه الماء إليه، فأتى به إلى بركة في البستان، و كان فرعون جالسا ثمّة مع آسية بنت مزاحم، فأمر به فاخرج، ففتح فإذا هو صبيّ أصبح الناس وجها، و سمّاه موسى لمّا وجده في الماء عند الشجرة، فإنّ كلمة (مو) على ما قيل بالقبطيّة الماء، و كلمة (سا) هو الشجر (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ موسى عليه السّلام لمّا حملته امّه لم يظهر حملها إلاّ عند وضعه، و كان فرعون قد

ص: 221


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1:182، و 12:208، و 17:171. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:48.
2- . تفسير روح البيان 5:283.

وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط تحفظهنّ، و ذلك لمّا كان بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون إنّه يولد فينا رجل يقال له موسى يكون هلاك فرعون و أصحابه على يديه، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون، و فرّق بين الرجال و النساء، و حبس الرجال في المحابس، فلمّا وضعت امّ موسى بموسى نظرت إليه فحزنت و اغتمّت و بكت، و قالت: يذبح الساعة، فعطف اللّه قلب الموكّلة بها عليه، فقالت لامّه: مالك قد اصفر لونك؟ قالت: أخاف أن يذبح ولدي، قالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلاّ أحبّه» .

إلى أن قال: «و أنزل اللّه على امّ موسى التابوت، و نوديت: ضعيه فِي اَلتّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ و هو البحر وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (1)فوضعته في التابوت، و أطبقت عليه، و ألقته في النيل، و كان لفرعون قصور على شطّ النّيل متنزّهات، فنظر من قصره-و معه آسية امرأته-إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرّياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون، فأمر فرعون بأخذه، فاخذ التابوت و رفع إليه، فلما فتحه وجد فيه صبيّا فقال: هذا إسرائيلي» (2). قيل: كما أنجاه اللّه من البحر في الابتداء، أنجاه منه في الانتهاء بغرق فرعون (3).

ثمّ ذكر منتّه الاخرى بقوله: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً عظيمة كائنة مِنِّي و بقدرتي، قد زرعتها في القلوب، ليتعطّف عليك كلّ من نظر إليك وَ لِتُصْنَعَ و تربّى حال كونك عَلى عَيْنِي و حفظي و حراستي، أو على علمي بحالك.

روي أنّه كان على وجهه مسحة جمال، و في عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان موسى لا يراه أحدا إلاّ أحبّه، و هو قوله: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي فأحّبته القبطيّة الموكلة به» إلى أن قال: «فألقى اللّه في قلب فرعون لموسى محبة شديدة، و كذلك في قلب آسية، و أراد فرعون قتله فقالت آسية: لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (5)أنّه موسى، و لم يكن لفرعون ولد فقال: أن آتوا له ظئرا (6)لتربيته، فجاءوا بعدّة نساء قد قتل أولادهنّ فلم يشرب لبن أحد من النساء، و هو قوله: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ (7)و بلغ امّه أنّ فرعون قد أخذه فحزنت و بكت كما قال اللّه: وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ (8)» .

قال عليه السّلام: «كادت أن تخبر بخبره أو تموت، ثمّ حفظت نفسها، فكانت كما قال اللّه: لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا

ص: 222


1- . القصص:28/7.
2- . تفسير القمي 2:135، تفسير الصافي 3:306.
3- . تفسير روح البيان 5:382.
4- . تفسير روح البيان 5:383.
5- . القصص:28/9.
6- . الظّئر: المرضعة لغير ولدها.
7- . القصص:28/12.
8- . القصص:28/10.

عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (1) ثمّ قالت لأخته: قُصِّيهِ أي أتبعيه (2)، فجاءت أخته إليه فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي بعد وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (3)فلمّا لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء اغتمّ فرعون غمّا شديدا» (4)الخبر.

سوره 20 (طه): آیه شماره 40

ثمّ ذكر منّته عليه بردّه إلى امّه بقوله: إِذْ تَمْشِي و تذهب أُخْتُكَ مريم إلى بيت فرعون فَتَقُولُ لفرعون و امرأته حين رأتهما يطلبان له مرضعة يقبل ثديها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ و يحضنه و يربّيه من المرضعات؟

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ اَلْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)روي أنّه فشا الخبر بمصر أنّ آل فرعون أخذوا غلاما من النّيل لا يرضع من ثدي امرأة، و اضطرّوا إلى تتبّع النساء، فخرجت مريم لتعرف [خبره]فجاءتهم منكّرة فقالت ما قالت، فقالوا: من هي؟ قالت: امّي، قالوا: لها لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون، فجاءت بها فقبل ثديها (5)، فحكى اللّه ذلك بقوله: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بالوعد حيث قلنا: إنّا رادّوه إليك كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها و يسرّ قلبها بلقائك وَ لا تَحْزَنَ بفراقك و بار تضاعك من ثدي غيرها.

عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «فلمّا أخذته بحجرها و ألقمته ثديها، التقمه و شرب، ففرح فرعون و أهله، و أكرموا امّه، فقال لها: ربّيه لنا، فإنّا نفعل بك ما نفعل» (6). فسأله الراوي: كم كان موسى غائبا عن امّه حتى ردّه اللّه عليها؟ قال: «ثلاثة أيّام» (7).

ثمّ ذكر اللّه منّته الاخرى بقوله: وَ قَتَلْتَ نَفْساً من القبط بوكزه حين استغاث بك الإسرائيلي عليه، فاغتممت لذلك خوفا من تظاهر القبط عليك، و اقتصاص فرعون منك فَنَجَّيْناكَ مِنَ ذلك اَلْغَمِّ بالهجرة إلى مدين وَ فَتَنّاكَ و امتحنّاك بهذه المذكورات و المتاعب التي صبرت عليها في طريق مدين فُتُوناً و امتحانا تامّا، أو امتحانات عديدة، أو المعنى أخلصناك من الأخلاق الرّذيلة تخليصا كاملا فَلَبِثْتَ و أقمت سِنِينَ كثيرة فِي أَهْلِ مَدْيَنَ عند شعيب تخدمه و ترعى أغنامه ثُمَّ جِئْتَ الوادي المقدّس لاكلّمك و أريك الآيات عَلى قَدَرٍ قدّرته و قضاء قضيته، أو

ص: 223


1- . القصص:28/10.
2- . في النسخة: ابتغيه.
3- . القصص:28/11.
4- . تفسير القمي 2:135، تفسير الصافي 3:306.
5- . تفسير روح البيان 5:384.
6- . في النسخة: و نفعل.
7- . تفسير القمي 2:136، تفسير الصافي 3:306.

على وقت معيّن، أو على مقدار معيّن من عمرك، و هو أربعون سنة يا مُوسى و إنّما كرّر نداءه لإظهار غاية لطفه به، و انتهاء ذكر منّته في المرّة الاخرى.

سوره 20 (طه): آیه شماره 41 الی 44

ثمّ صرّح بإجابة مسؤوله الأهمّ بقوله: وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي و اصطفيتك على النّاس برسالاتي و بكلامي، و أكرمتك بأعظم كراماتي، أو اخترتك لتتصرّف على عادتي، و تشتغل بأمري من تبليغ الرسالة، و تتقلّب لوجهي لا لنفسك و لا لغيري

اِذْهَبْ يا موسى أَنْتَ وَ أَخُوكَ معا حسب استدعائك إلى فرعون متمسّكين بِآياتِي و المعجزات التي أعطيتك بقدرتي وَ لا تَنِيا و لا تفترا فِي ذِكْرِي و ثنائي بما يليق بعظمتي و جلالي في حال و وقت، فإنّه بذكر اللّه تطمئنّ القلوب.

وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)و قيل: يعني لا تفترا في تبليغ رسالتي (1)، أو لا تنسياني حيثما تقلّبتما، و استمدّا بذكري و اسألاني به العون و التأييد (2).

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بذهابهما و قيامها بوظيفة الرسالة بقوله: اِذْهَبا معا إِلى فِرْعَوْنَ و ادعواه إلى توحيدي و عبادتي إِنَّهُ طَغى و تجاوز عن حدّ العبوديّة بدعوى الالوهيّة.

قيل: إنّ الخطاب مع غيبة هارون على التغليب (3)، أو كان بعد اجتماعهما (4).

روي أنّه تعالى لمّا نادى موسى عليه السّلام بالواد المقدّس، و أرسله إلى فرعون، و أعطاه سؤله، انطلق من ذلك الموضع إلى فرعون، و شيّعته الملائكة يصافحونه، و خلّف أهله في الموضع الذي تركهم فيه، فبقوا فيه ينتظرونه ليلا و نهارا، فلم يجدوا منه خبرا، فلم يزالوا مقيمين متحيّرين حتى مرّ بهم راع من أهل مدين فعرفهم، فحملهم إلى شعيب، فمكثوا عنده حتى بلغهم خبر موسى بعد ما جاوز بنو إسرائيل البحر و غرق فرعون و قومه، فبعث بهم شعيب إلى موسى عليه السّلام (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بذهابهما إلى فرعون، و بيان شدّة طغيانه، علّمهما كيفيّة دعوته ليسلما من شرّه بقوله: فَقُولا لَهُ بعد ملاقاته قَوْلاً لَيِّناً و كلاما رقيقا لا خشونة فيه و لا تعنيف، كقوله: هل لك أن تزكّى، و أهديك إلى ربّك، فإنّه دعوة بصورة المشورة، أو كلاما فيه حسن الأدب كالخطاب بالكنى و الألقاب دون الاسم، و قيل: يعني عداه شبابا لا هرم له، و بقاء لذّة المطعم و المشرب و النّكاح،

ص: 224


1- . تفسير روح البيان 5:387.

و دوام السّلطنة إلى الموت (1)لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ و يتنبّه على ما يحكم به عقله أَوْ يَخْشى من عذابي و نكالي.

عن الكاظم عليه السّلام قال: «أمّا قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً أي ليّناه في القول، أو قولا له (2): يا أبا مصعب، و كان [اسم]فرعون أبا مصعب، و أمّا قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فإنّما قال ذلك ليكون أحرص لموسى على الذّهاب، و قد علم اللّه عزّ و جلّ أنّه لا يتذكّر و لا يخشى إلاّ عند رؤية البأس» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب منه (4).

سوره 20 (طه): آیه شماره 45 الی 47

روي أنّه أوحي إلى هارون و هو بمصر أن يتلقّى موسى عليه السّلام (5). و قيل: سمع بإقباله فتلقّاه (6)، فلمّا أخبره موسى عليه السّلام بالأمر قالا عند ذلك: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ من أَنْ يَفْرُطَ و يعجّل عَلَيْنا بالعقوبة، و لا يصبر إلى تمام الدعوة و إظهار المعجزة أَوْ أَنْ يَطْغى زيادة على طغيانه السابق إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جرأته و قساوته.

قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ اَلسَّلامُ عَلى مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدى (47)

قالَ اللّه تسلية لهما: لا تَخافا منه إِنَّنِي بحفظي و نصرتي مَعَكُما و إنّي أَسْمَعُ كلامكم وَ أَرى عملكم فَأْتِياهُ و احضرا عنده فَقُولا له بدو الملاقاة: إِنّا رَسُولا رَبِّكَ إليك ليعرف شأنكما، ثمّ قولا له: إذا عرفتنا بالرسالة فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أطلقهم من قيد الأسر و العبوديّة حتى نذهب بهم إلى الأرض المقدّسة التي كانت موطن آبائهم وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بتذليلهم و تبعيدهم و تحميل المشاقّ عليهم، فإن تكن في شكّ من رسالتنا فإنّا قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ عظيمة و معجزة قاهرة مِنْ رَبِّكَ للدّلالة على صدقنا في ادّعائنا، ثمّ رغّبوه في الإيمان بقولهم: وَ اَلسَّلامُ و التحيّة المستتبعة بسلامة الدارين و العافية الأبديّة من اللّه تعالى عَلى مَنِ استسلم لما جاءنا و اِتَّبَعَ اَلْهُدى و الرّشاد الذي جاءه من ربّه.

روي أنّ موسى عليه السّلام وعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم، و ملكا لا ينزع منه إلاّ بالموت، و بقاء لذّة المطعم و المشرب و المنكح عليه إلى انقضاء أجله، فإذا مات دخل الجنّة، فأعجبه ذلك، و كان

ص: 225


1- . تفسير الرازي 22:58، تفسير أبي السعود 6:18.
2- . في العلل: أي كنّياه و قولا له.
3- . علل الشرائع:67/1، تفسير الصافي 3:308.
4- . الكافي 7:460/1، تفسير الصافي 3:308. (5 و 6) . تفسير أبي السعود 6:17.

هامان غائبا، و كان لا يقطع أمرا بدونه، فلمّا قدم أخبره بمقالة موسى عليه السّلام و إرادته الإيمان به، فقال له هامان: كنت أرى أنّ لك عقلا و رأيا، أنت الآن ربّ، و تريد أن تكون مربوبا؟ ! فأبى عن الإيمان (1).

سوره 20 (طه): آیه شماره 48 الی 52

ثمّ هدّده موسى عليه السّلام بترك الإيمان بقوله: إِنّا قَدْ أُوحِيَ من قبل ربّنا إِلَيْنا بتوسط جبرئيل أَنَّ اَلْعَذابَ الشديد الدائم عَلى مَنْ كَذَّبَ بآيات ربّه و بما جاء به أنبياؤه وَ تَوَلّى و أعرض عن قبول دعوة رسله و تصديق الحقّ

قالَ فرعون: إن كنتما رسولي ربّكما فَمَنْ رَبُّكُما الذي أرسلكما يا مُوسى و إنّما خصّ النداء بموسى عليه السّلام لكونه أصلا و هارون تابعه، أو لعلمه برثّة في لسانه، فأراد استنطاقه لتوهينه دون هارون لعلمه بفصاحته، أو لكون موسى عليه السّلام في تربيته، فتعجّب من دعوى كونه مربوبا لغيره، فكأنّه قال: أنا ربّك، فلم تدعو ربّا غيري، و إضافة الربّ إليهما لغاية عتوّه.

إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ اَلْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52)

قالَ موسى عليه السّلام في جوابه: رَبُّنَا هو اللّه القادر اَلَّذِي بقدرته و رحمته أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء خَلْقَهُ و الصورة المناسبة له و الشكل اللائق به، الموافق لما يترتّب عليه من الخواصّ و المنافع ثُمَّ هَدى كلّ واحد إلى ما يصدر و ما ينبغي له، طبعا كما في الجمادات و النباتات، و اختيارا كما في الحيوانات.

و قيل: إنّ الخلق عبارة عن تركيب الأجزاء و تسوية القوالب، و الهداية عبارة عن إبداع القوى المحرّكة و المدركة فيها، و لذا قدّم الخلق (2)و عطف عليه الهداية بكلمة (ثمّ) الدالة على التراخي.

و يحتمل أن يكون المراد بالهداية الهداية إلى معرفته بقدر إدراكه و استعداده، فإنّ لكلّ شيء حياة و شعورا على حدّ وجوده من الضّعف و القوّة، كما مرّ بيانه غير مرّة، أو المراد أنّه تعالى هداه إلى مصالح نفسه و لوازم معيشته، و عرّفه الضار و النافع، كما ألهم النّحل تركيب البيوت المسدّسة، و معرفة ما يضرّه و ما ينفعه من النباتات، و ألهم الحيوانات ما به قوامها من المطعوم و المشروب و الملبوس و المنكوح، و كيفيّة الانتفاع بها، و عرّف الذكر الانثى و بالعكس، و هداه إلى كيفيّة المقاربة ليدوم النسل، و هدى الأولاد إلى أخذ الثّدي و مصّ اللبن منها.

ص: 226


1- . تفسير روح البيان 5:389.
2- . تفسير الرازي 22:64.

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «ليس شيء من خلق اللّه إلاّ و هو يعرف من شكله الذّكر و الانثى» . و سئل ما معنى ثُمَّ هَدى قال: «هداه للنّكاح و السّفاح من شكله» (1).

ثمّ قال فرعون: إن كان ربوبيّة ربّك بهذا الحدّ من الظهور فَما بالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولى و الامم الكثيرة في الأعصار السابقة أنّهم لم يعترفوا بربوبيته و عبدوا غيره؟ فقدح اللّعين في الحجّة القاطعة التي أقامها موسى عليه السّلام بغفلة الناس عنها و عملهم بخلافها.

و قيل: إنّه عليه السّلام لمّا هدّده بالعذاب على الشّرك و تكذيب الرّسل، قال: فما بال الأمم الماضية أنّهم أشركوا و كذّبوا و لم يعذّبوا؟ (2)

و قيل: إنّ الخبيث لمّا رأى إتقان حجّة موسى عليه السّلام على التوحيد، خاف أن يزيد في تقريرها فيظهر للناس صدقه و فساد مذهب نفسه، أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام و يشغله بذكر قضايا الامم الماضية كعاد و ثمود و أضرابهما، فلم يلتفت موسى عليه السّلام إلى سؤاله (3)،

بل قالَ: إنّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لأنّه من الغيوب التي تختص به تعالى، و لا أعلم إلاّ ما علّمنيه من الامور المتعلّقة بما ارسلت به، و إنّما أحوالهم مثبتة فِي كِتابٍ و لوح محفوظ، بل لا يحتاج إلى كتاب لأنّه لا يَضِلُّ رَبِّي و لا يخطئ في علمه، بل يعلم كلّ شيء على ما هو في الواقع وَ لا يَنْسى و لا يغفل عن شيء بعد العلم به.

سوره 20 (طه): آیه شماره 53 الی 54

ثمّ عاد إلى بيان شؤونه تعالى بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ بقدرته و تفضّله اَلْأَرْضَ مَهْداً و معدّا للسّكونة و الراحة وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها من جبالها و أوديتها و براريها سُبُلاً و طرقا تسلكونها من قطر إلى قطر و بلد لحوائجكم و قضاء مآربكم وَ أَنْزَلَ برحمته مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ أو جهة العلوّ ماءً نافعا بطريق الإمطار.

اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتّى (53) كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي اَلنُّهى (54)ثمّ نبّه عليه السّلام على زيادة اختصاص الإنبات بذاته القادرة، و كون النباتات طائعات له بأن قال: يقول اللّه: فَأَخْرَجْنا بِهِ و أنبتنا بسببه أَزْواجاً و أصنافا مِنْ نَباتٍ و ناميات شَتّى و متفرّقات في الطعوم و الألوان و الروائح و الأشكال، أو متفرّقات في وجه الأرض ممّا يأكل الناس و الأنعام، و قلنا:

ص: 227


1- . الكافي 5:567/49، تفسير الصافي 3:309.
2- . تفسير الرازي 22:66.
3- . تفسير الرازي 22:66-67.

كُلُوا أيّها الناس منها و من ثمارها وَ اِرْعَوْا فيها أَنْعامَكُمْ فإنّها مباحة لكم مخلوقات لانتفاعكم إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات و جعل الاختلافات الكثيرة فيها مع وحدة الأرض و الماء و الهواء، أو في تلك (1)النّعم الجسيمة و الموجودات البديعة و اللّه لَآياتٍ عظيمة و براهين واضحة على وجود الصانع القادر الحكيم لِأُولِي اَلنُّهى و ذوي العقول السليمة الرادعة عن القبائح.

و قيل: إنّ كلام موسى عليه السّلام قد انقطع عند قوله: وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً ثمّ أخبر سبحانه عن صفة نفسه (2).

و قيل: إنّ المراد من ضمير المتكلّم في (أخرجنا) موسى عليه السّلام و غيره من الناس، و المعنى فأخرجنا معاشر العباد بذلك الماء المنزل و بالحراثة أزواجا (3).

و الحقّ هو الوجه الذي فسّرنا، لعدم مناسبة الوجه الآخر لقوله: كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعامَكُمْ و الوجه الأوّل أيضا غير صحيح لدلالة (الفاء) في قوله فَأَخْرَجْنا على ارتباطه بالسابق. نعم يمكن أن يقال إنّ كلام موسى قد تمّ عند قوله: لا يَنْسى.

عن الباقر عليه السّلام: قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ خياركم اولو النّهى. قيل: يا رسول اللّه، من اولوا النهي؟ قال: هم أولوا الأخلاق الحسنة، و الأحلام الرّزينة، و صلة الأرحام، و البررة بالامّهات و الآباء، و المتعاهدون للفقراء و الجيران و اليتامى، و يطعمون الطّعام، و يفشون السّلام في العالم، و يصلّون و الناس نيام غافلون» (2).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «نحن و اللّه أولوا النّهى» (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 55 الی 57

ثمّ لمّا كان فرعون في غاية التكبّر و التجبّر حتى ادّعى الربوبيّة، بين مبتدئه و منتهاه، إظهارا لغاية ذلّته بقوله: مِنْها خَلَقْناكُمْ بخلق آدم الذّي هو أبو البشر من تراب، أو بخلق الأغذية التي تتولّد النّطف منها من الأرض وَ فِيها بعد الموت نُعِيدُكُمْ بالدّفن و الإقبار وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ بالخلق و الإحياء تارَةً أُخْرى و مرّة ثانية بعد خلقكم في هذا العالم، و نبعثكم إلى المحشر للحساب و جزاء الأعمال.

مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56) قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57)

ص: 228


1- . في النسخة: ذلك. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:68.
2- . الكافي 2:188/32، تفسير الصافي 3:310.
3- . تفسير القمي 2:61، تفسير الصافي 3:310.

عن ابن مسعود: أنّ اللّه يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل و الرّزق و الأرض التي يدفن فيها، و أنّه يأخذ من تراب تلك البقعة، و يذرّه على النّطفة، ثمّ يدخلها في الرّحم (1).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النطفة إذا وقعت في الرّحم، بعث اللّه عزّ و جلّ ملكا يأخذ من التّربة التي يدفن فيها فماثّها (2)في النّطفة، فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتى يدفن فيها» (3).

ثمّ بيّن اللّه شدّة لجاج فرعون بقوله: وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ و بصّرناه آياتِنا الدالّة على التوحيد و النبوّة كُلَّها من البراهين العقلية و المعجزات الباهرة كالعصا و اليد البيضاء و غيرها فَكَذَّبَ بها و نسبها إلى السّحر من فرط عناده و لجاجه وَ أَبى و امتنع من قبولها و الإيمان بها،

و كان من إبائه أنّه قالَ إنكارا على موسى عليه السّلام و تقبيحا لدعوته: أَ جِئْتَنا بعد غيابك عنّا، و رجعت إلينا بعد هجرتك من بلدنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا و سلطاننا، و تستولى على مملكتنا بِسِحْرِكَ و شعبذتك و تخييلات لا واقع و لا حقيقة لها يا مُوسى فإنّ العاقل لا يتخيّل ذلك فضلا عن أن يقصده.

قيل: كان غرضه من هذا القول حمل القبط على غاية مقته، و بعثهم على معارضته حيث أظهر لهم أنّه ليس غرض موسى عليه السّلام إنجاء بني إسرائيل، بل إخراج القبط من وطنهم و حيازة أموالهم و أملاكهم (4)، و هذا أصعب عليهم من القتل.

سوره 20 (طه): آیه شماره 58 الی 64

ثمّ لمّا نسب معجزات موسى عليه السّلام إلى السحر قال: فَلَنَأْتِيَنَّكَ و نعارضنّ سحرك بِسِحْرٍ مِثْلِهِ حتى يتّضح للنّاس أنّك ساحر، إذن فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً و وقتا معيّنا، أو مكانا معلوما نحضر فيه للمعارضة لا نُخْلِفُهُ و لا نتخلّف عنه نَحْنُ وَ لا أَنْتَ و ليكن الموعد مَكاناً سُوىً

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ اِفْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلى (64)

ص: 229


1- . تفسير الرازي 22:70.
2- . أي خلطها.
3- . الكافي 3:203/2، تفسير الصافي 3:310.
4- . تفسير روح البيان 5:398.

متوسّطا بيننا و بينك مسطّحا مستويا لا يحجب العين ارتفاعه و انخفاضه

قالَ موسى: نعم مَوْعِدُكُمْ و زمان اجتماعكم معنا للمعارضة يَوْمُ العيد الذي هو يوم اَلزِّينَةِ لقومك، قيل: هو يوم النّيروز (1). و قيل: يوم سوق لهم (2). و عن ابن عباس: يوم عاشوراء (3).

وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنّاسُ و يجتمعون من كلّ مكان في ضُحًى و حين ارتفاع الشمس، ليشهد عموم الناس تلك الوقعة، و لا يمكن إنكار ما وقع فيها من الغلبة،

و ينسدّ باب الرّيبة فَتَوَلّى و أعرض فِرْعَوْنُ عن موسى عليه السّلام، و خرج من المجلس، و أرسل إلى البلاد و المدائن، و أمر بحضور من كان فيها من السّحرة في الموعد فَجَمَعَ كَيْدَهُ و ما يحتال به في إبطال دعوى موسى عليه السّلام من السّحرة و الآلات و الأدوات ثُمَّ أَتى الموعد هو مع ملئه،

و أتى موسى أيضا و قالَ لَهُمْ مُوسى نصحا و زجرا عن معارضتهم الحقّ: وَيْلَكُمْ يا قوم، ارتدعوا عمّا أنتم فيه من الكفر و العناد مع الحقّ و لا تَفْتَرُوا و لا تكذّبوا عَلَى اَللّهِ كَذِباً بيّنا بنسبة الشريك إليه و السّحر إليّ فَيُسْحِتَكُمْ و يهلككم اللّه و يستأصلكم بِعَذابٍ عظيم لا يقادر قدره وَ قَدْ خابَ و حرم من كلّ خير مرجوّ مَنِ اِفْتَرى و بهت على اللّه كان من كان.

قيل: أثّر قول موسى عليه السّلام في بعض السّحرة دون بعض (2)فَتَنازَعُوا و اختلفوا في معارضته.

و قيل: إنّ قول موسى عليه السّلام غاظ السّحرة، فتنازعوا (3)أَمْرَهُمْ الذي أرادوه من معارضة موسى عليه السّلام و تشاوروا بَيْنَهُمْ في كيفيّتها، و أطالوا القول في ذلك وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى و بالغوا في إخفاء مذاكراتهم، لئلاّ يقف عليها موسى عليه السّلام فيدفعها،

و كان من نجواهم أنّهم قالُوا أيّها الرّفقة إِنْ هذانِ الرجلان لَساحِرانِ.

و قيل: إنّ كلمة (إن) نافية، و اللام في (لساحران) بمعنى (إلاّ) ، و المعنى: ما هذان إلاّ ساحران (4)، يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ و أوطانكم، و يستوليا على مملكتكم بِسِحْرِهِما الذي أظهراه من قبل وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى و مذهبكم الذي هو أفضل المذاهب، و هو مذهب فرعون، و يشيعا دينهما بينكم.

و قيل: إنّ الطريقة اسم لوجوه القوم و أشرافهم، لكونهم قدوة لغيرهم (5).

ثمّ أنّهم بعد ذكر مضارّ غلبة موسى عليه السّلام كأنّهم قالوا: إذا علمتم ذلك فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ و آراءكم،

ص: 230


1- . تفسير الرازي 22:73، تفسير أبي السعود 6:24. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:73.
2- . مجمع البيان 7:30.
3- . تفسير أبي السعود 6:25، تفسير روح البيان 5:400.
4- . تفسير الرازي 22:75، مجمع البيان 7:28.
5- . تفسير الرازي 22:80، تفسير أبي السعود 6:25.

و أجعلوها واحدا لا يخالف فيه أحد، أو أدوات سحركم و رتّبوها كما ينبغي ثُمَّ اِئْتُوا في الموعد حال كونكم صَفًّا واحدا، فإنّ إتيانكم مجتمعين في الموعد أشدّ مهابة في نظر الخصم وَ قَدْ أَفْلَحَ و فاز اَلْيَوْمَ المقصد الأعلى، و هو القرب من فرعون و الشرف بين الناس مَنِ اِسْتَعْلى منكم و غلب على موسى.

قيل: كان الموعد مكانا متّسعا، و خاطبهم موسى عليه السّلام في قطر منه، و تنازعوا أمرهم في قطر آخر، ثمّ امروا بأن يأتوا وسطه على الوجه المذكور (1).

قيل: كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه السّلام: ما هذا ساحر، و إن غلبنا اتّبعناه، أو قالوا: إن كان ساحرا غلبناه، و إن كان من السماء فله أمر. ثمّ رجعوا بعد تلك المقالات و الاختلافات إلى الإتّفاق على المعارضة (2).

قيل: كانوا سبعين ألفا مع كلّ منهم حبل و عصا، و أقبلوا على موسى عليه السّلام إقبالة واحدة في سبعين صفّا كلّ صفّ ألف (3).

و قيل: كانوا بضعة و ثلاثين ألفا (4). و قيل: خمسة عشر ألفا (5). و قيل: تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفرس، و ثلاثمائة من الروم، و ثلاثمائة من الإسكندريّة (6). و قيل: كانوا اثنين و سبعين؛ اثنان من القبط، و الباقي من بني إسرائيل (7).

و قيل: إنّ المراد بالصفّ المصلّى لاجتماع الناس فيه في الأعياد للصلاة (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 65 الی 68

ثمّ أنّهم بعد اجتماعهم و حضورهم قالُوا تأدّبا و إظهارا لعدم المبالاة بموسى عليه السّلام و صنيعه: يا مُوسى لك الخيار إِمّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك على الأرض أوّلا وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما نلقيه

قالَ موسى عليه السّلام مقابلة لأدبهم بأدب، أو إظهارا للجلادة و عدم الاعتناء بسحرهم، أو علما بأنّ إلقاءهم أوّلا أدخل في عظمة إعجازه حيث إنّ عصاه تلقف ما ألقوه: بَلْ أَلْقُوا أنتم أوّلا ما تلقون، فبادروا في الإلقاء فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ لتلطّخها بالزّئبق و إشراق الشّمس عليها، اضطربت

قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى (68)

ص: 231


1- . تفسير روح البيان 5:400.
2- . تفسير أبي السعود 6:26. (3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 22:83، تفسير أبي السعود 6:26. (6 و 7) . تفسير الرازي 22:83، تفسير أبي السعود 6:26.
3- . تفسير الرازي 22:81، تفسير أبي السعود 6:26.

و اهتزّت بحيث كان موسى عليه السّلام يُخَيَّلُ إِلَيْهِ و يتوهّم مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها حيّات تَسْعى و تمشي بسرعة على الأرض فَأَوْجَسَ و أضمر فِي نَفْسِهِ بمقتضى البشرية خِيفَةً مُوسى من مفاجأة رؤية الحيّات المخيّلة و ضررها.

فلمّا خاف قُلْنا له: لا تَخَفْ ممّا رأيت من السّحر إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى منهم و الغالب القاهر عليهم.

و قيل: إنّ موسى عليه السّلام خاف من أن يظنّ الناس أنّ السّحرة ساووا موسى عليه السّلام (1)، فينصرفوا قبل أن يشاهدوا معجزته، فيدوموا على باطلهم.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم يوجس موسى خيفة على نفسه، و إنّما أشفق من غلبة الجهّال و دول الضّلال» (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 69 الی 73

ثمّ أمر اللّه موسى عليه السّلام بمعارضة السّحرة بقوله: وَ أَلْقِ أنت أيضا ما فِي يَمِينِكَ من الخشب اليابس الصغير، فإنّها بقدرة اللّه تَلْقَفْ و تبتلع بسرعة ما صَنَعُوا ه و موّهوه من الحبال المحشوّة بالزّئبق و العصيّ المربوطة بها إِنَّما أصنع معجزة باهرة، و ما صَنَعُوا ه و موّهوه و زوّروه (3)كَيْدُ ساحِرٍ و حيلته التي لا حقيقة لها وَ لا يُفْلِحُ و لا يفوز اَلسّاحِرُ بمطلوبه و لا يدرك بغيته حَيْثُ أَتى من الأرض و عمل فيها بالسّحر، أو حيث أتى مصنوعي و كيدي؛ لأنّ صنعي حقّ و كيدي متين.

وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ اَلسّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا (72) إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73)عن ابن عبّاس: ألقوا حبالهم و عصيّهم ميلا من هذا الجانب، و ميلا من هذا الجانب، فخيّل إلى

ص: 232


1- . تفسير الرازي 22:84.
2- . نهج البلاغة:51 الخطبة 4، تفسير الصافي 3:311، و في النسخة: و ذوي الضلال.
3- . في النسخة: و رودوه، راجع: تفسير روح البيان 5:403.

موسى عليه السّلام أنّ الأرض كلّها حيّات، و أنّها تسعى فخاف، فلمّا قيل له: أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ألقى موسى عصاه، فإذا هي حيّة أعظم من حيّاتهم، ثمّ أخذت تزداد عظما حتى ملأت الوادي، ثمّ صعدت و علت حتى علّقت ذنبها بطرف القبّة، ثمّ هبطت فأكلت كلّ ما عملوا في الميلين، و النّاس ينظرون إليها لا يحسبون إلاّ أنّه سحر، ثمّ أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعا، فصاح بموسى فأخذها و هي عصا [كما]كانت، و نظرت السّحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم و عصيّهم شيئا إلاّ أكلته، فعرفت السّحرة أنّه ليس بسحر، و قالوا: أين حبالنا و عصيّنا؟ لو لم تكن (1)سحرا لبقيت (2)

فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ و خرّوا على الأرض بسرعة و شدّة، كأنّه ألقاهم غيرهم حال كونهم سُجَّداً للّه خاضعين لعظمته و قدرته بعد ما رأوا من إعجاز العصا.

قيل: ما أعجب [أمر]هم ألقوا حبالهم للكفر و الجحود، و ألقوا نفوسهم للتّعظيم و السّجود (3)بعد ساعة، فما أعظم الفرق بين القائلين! و قالُوا في سجودهم بصوت عال: آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى.

قيل: إنّما لم يقولوا بربّ العالمين، لأنّ موسى و هارون دعياهم إلى الإيمان به، و كيلا يتوهّم أنّ مرادهم فرعون، لأنّه كان مربّي موسى عليه السّلام (4).

روي أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنّة و النّار (5).

و عن عكرمة: لمّا خرّوا سجّدا أراهم اللّه منازلهم التي يصيرون إليها في الجنّة (6).

ثمّ قيل: لمّا شاهد فرعون إيمانهم بموسى عليه السّلام، خاف من أن يقتدي بهم سائر الناس (5)، فادّعى أنّ إيمانهم كان للتّباني مع موسى عليه السّلام، و لذا قالَ توبيخا لهم آمَنْتُمْ لَهُ و اتّبعتموه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان له، مع أنّي ربّكم و أميركم، و إنّما كان إيمانكم لأنّكم تلامذته و إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ و استاذكم اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فواطأتم معه على أن يظهروا العجز من أنفسكم عن معارضته ترويجا لأمره، و تعظّما لشأنه، و أداء لحقّ تعليمه.

ثمّ هدّدهم بقوله فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ بأن أقطع من شقّ يدا، و من شقّ رجلا وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ و أعلّقنّكم فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ و على اصوله، لتكونوا عبرة لغيركم وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى و أدوم نكالا أنا أو موسى، أو أنا أو ربّه، و في كلامه هذا إيماء إلى أنّ إيمانهم لم

ص: 233


1- . في النسخة: لو كانت.
2- . تفسير الرازي 22:82.
3- . تفسير روح البيان 5:405.
4- . تفسير الرازي 22:87، تفسير أبي السعود 6:28. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:86.
5- . تفسير الرازي 22:87.

يكن على بصيرة، بل كان عن خوف من قهر موسى و سلطانه، و إظهارا للجلادة و الوقاحة مع غاية خوفه من موسى عليه السّلام حفظا لناموسه و ترويجا لأمره، فتجلّد السّحرة في الجواب عن تهديده و

قالُوا غير مكترثين بوعيده: إنّا لَنْ نُؤْثِرَكَ و لا نختارك بالإيمان و الاتّباع أبدا عَلى ما جاءَنا من اللّه على يد موسى مِنَ المعجزات اَلْبَيِّناتِ و البراهين الواضحات التي لا ريب في حقّانيّتها وَ حقّ اَلَّذِي فَطَرَنا و خلقنا لا نؤثرك.

و قيل: إنّ (الواو) في وَ اَلَّذِي عاطفة، و المعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا و على الّذي فطرنا و خلقنا و خلق سائر المخلوقات (1)فَاقْضِ يا فرعون في حقّنا ما أَنْتَ قاضٍ و احكم فيه ما أنت حاكم، أو افعل بنا ما أنت فاعله، فإنّا لا نخاف و لا نبالي، و كيف نخاف منك و لا نخاف من اللّه؟ أو كيف نؤثرك و لا نؤثر اللّه؟ و الحال أنّه إِنَّما تَقْضِي و تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذِهِ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا التي تزول بسرعة، و إن لم تقض، و ليس لك علينا بعد انقضائها قضاء، فاللّه يقضي في الدنيا و الآخرة، و قضاء اللّه و عذابه أشدّ و أبقى، بل لا انقضاء له و لا نجاة منه.

و أمّا ما نبّهت عليه و أشرت إليه من أنّ إيماننا كان للمواطأة مع موسى أو للخوف منه، فليس كذلك، بل إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا و ذنوبنا التي سلفت منّا قبل إيماننا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ عمل اَلسِّحْرِ و معارضة الرسول، أو تعلّمه و تعليمه، كما عن ابن عباس (2)، لا للأغراض الدنيويّة حتى يصرفنا عنه وعيدك بالقطع و الصّلب وَ اَللّهُ خَيْرٌ و أنفع لنا منك و من كلّ أحد وَ أَبْقى جزاء، ثوابا كان أو عقابا، أو خير منك ثوابا إن آمنّا به و أطعناه، و أبقى منك عذابا إن كفرنا به و عصيناه.

و إنّما خصّوا السّحر الذي أكرههم عليه فرعون بالذّكر-مع كونه داخلا في عموم الخطايا-لإظهار غاية نفرتهم منه، و للإيذان بأنّ معارضة الرسول-و إن كان بالإكراه-ممّا يجب أن يفرد بالاستغفار.

روى بعض العامة أنّ رؤساء السّحرة كانوا اثنين و سبعين؛ اثنان منهم من القبط، و الباقي من بني إسرائيل، و كان فرعون أكرههم على تعلّم السّحر (3). و قيل: أكرههم على معارضة موسى (4).

و روي أنّهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر، فإنّ الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى فرعون إلاّ أن يعارضوه (5).

سوره 20 (طه): آیه شماره 74 الی 76

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجاتُ اَلْعُلى (75) جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى (76)

ص: 234


1- . تفسير روح البيان 5:406.
2- . تفسير الرازي 22:89.
3- . تفسير الرازي 22:89، تفسير أبي السعود 6:30.
4- . تفسير الرازي 22:89، تفسير أبي السعود 6:30.
5- . تفسير الرازي 22:89، تفسير أبي السعود 6:30.

ثمّ بيّنوا كون عذاب اللّه أشدّ و أبقى، ردّا على قول فرعون: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى بقولهم: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ يوم القيامة حال كونه مُجْرِماً و عاصيا له بالكفر و الطغيان فَإِنَّ لَهُ بالاستحقاق جَهَنَّمَ و هو لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العذاب وَ لا يَحْيى حياة منتفعا بها، بل في كلّ آن يتمنّى الموت من شدّة العذاب و النّكال و لا يتيسّر له.

ثمّ بيّنوا حسن حال المؤمنين بقولهم: وَ مَنْ يَأْتِهِ و يلقاه في المحشر حال كونه مُؤْمِناً بوحدانيّته و برسوله و بآياته التي منها ما شاهدناه و قَدْ عَمِلَ الأعمال اَلصّالِحاتِ و أتى بما كلّف به من الواجبات، و احترز المحرّمات فَأُولئِكَ المؤمنون الصّالحون لَهُمُ جزاء على إيمانهم و طاعتهم اَلدَّرَجاتُ اَلْعُلى و المنازل الرفيعة،

و هي جَنّاتُ عَدْنٍ و بساتين دائمة لا فناء لها و لا خراب لها، قصور و أشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ و يكون المؤمنون خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا وَ ذلِكَ المذكور من الدّرجات العالية في تلك الجنان جَزاءُ مَنْ تَزَكّى و طهّر (1)نفسه من دنس الكفر و العصيان بالإيمان و التوبة و الطاعة.

عن ابن عباس: كانوا [في]أوّل النهار سحرة و [في]آخره شهداء (2).

و قال بعض العامة: إنّ كلام السّحرة ختم بقوله: خَيْرٌ وَ أَبْقى و الآيات الثلاث ابتداء كلام اللّه تعالى (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 77 الی 79

ثمّ أنّه تعالى بعد طي ذكر ما جرى على فرعون و ملئه من الآيات المفصّلات الظاهرة على يد موسى في نحو من عشرين أو أربعين سنة من قتله السّحرة، بيّن ما انتهى إليه أمر فرعون و نجاة بني إسرائيل من ظلمه بقوله: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى و قلنا له بتوسّط جبرئيل: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي الّذين استعبدهم فرعون، و استذلّهم بالأسر، و استضعفهم بتحميل المشاقّ، و سر بهم ليلا من مصر فَاضْرِبْ و اتّخذ لَهُمْ أو اضرب بعصاك، و اجعل لهم بعد الخروج من مصر طَرِيقاً كائنا

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79)

ص: 235


1- . في النسخة: تطهّر.
2- . تفسير الرازي 22:88.
3- . تفسير أبي السعود 6:31.

فِي اَلْبَحْرِ القلزم (1)على قول، أو الأصاف (2)على آخر، يكون يَبَساً و جافّا لا وحل فيه و لا نداوة فضلا عن الماء، و جز منه آمنا بحيث لا تَخافُ دَرَكاً من العدوّ و وصولهم إليك وَ لا تَخْشى الغرق.

روي أنّ موسى عليه السّلام خرج بهم أوّل اللّيل، و كانوا ستمائة و سبعين ألفا، فاخبر فرعون بذلك (3)فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ و عساكره، و كانت مقدّمته سبعمائة ألف، فقصّ أثرهم فلحقهم بحيث تراءى الجمعان، فعند ذلك ضرب موسى عليه السّلام بعصاة البحر، فانفلق على اثني عشر فرقا كلّ فرق كالطّود العظيم، و بقي الماء قائما بين الطرق، فعبر موسى بمن معه من الأسباط سالمين، و تبعهم فرعون بجنوده فَغَشِيَهُمْ و سترهم مِنَ اَلْيَمِّ و البحر ما غَشِيَهُمْ و ما علاهم من الأمواج الهائلة التي لا يعلمها إلاّ اللّه.

عن ابن عبّاس قال: خرج فرعون في طلب موسى عليه السّلام، و على مقدّمته ألف ألف و خمسمائة ألف سوى الجنبين و القلب، فلمّا انتهى موسى عليه السّلام إلى البحر قال: ها هنا امرت، ثمّ قال موسى عليه السّلام للبحر: انفرق فأبى، فأوحى اللّه إليه: أن اضرب بعصاك البحر، فضرب فانفلق فقال لهم موسى عليه السّلام: ادخلوا فيه، فقالوا: كيف و أرضه رطبة؟ فدعا اللّه فهبّت عليه الصّبا (4)فجفّت، فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا، فدخلوا حتى جاوزوا البحر، فأقبل فرعون إلى تلك الطّرق، فقال قومه له: إنّ موسى سحر البحر فصار كما ترى، و كان على فرس حصان، و أقبل جبرئيل على فرس انثى في ثلاثة و ثلاثين من الملائكة، فصار جبرئيل بين يدي فرعون، و أبصر الحصان الفرس الحجر (5)، فاقتحم بفرعون على أثرها، و صاحت الملائكة في الناس: ألحقوا الملك، حتى إذا دخل آخرهم و كاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا، فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم فقالوا: ما هذا يا موسى؟ قال: قد أغرق اللّه فرعون و قومه، فرجعوا لينظروا إليهم، فقالوا: يا موسى، ادع اللّه أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل، و أصابوا سلاحهم (6).

قال ابن عبّاس: إنّ جبرئيل قال: يا محمّد، لو رأيتني و أنا أدسّ فرعون في الماء و الطّين مخافة أن يتوب (7).

وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ و سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخيبة و الخسران في الدّين و الدنيا حيث

ص: 236


1- . بحر القلزم: البحر الأحمر.
2- . كذا.
3- . تفسير أبي السعود 6:31، تفسير روح البيان 5:409.
4- . الصّبا: ريح مهبّها من مشرق الشمس إذا استوى الليل و النهار.
5- . الحجر: أنثى الخيل.
6- . تفسير الرازي 22:93.
7- . تفسير الرازي 22:94.

ماتوا على الكفر و الطّغيان بالعذاب الهائل الدنيوي المتّصل بالعذاب الشّديد الدّائم الاخروي وَ ما هَدى و ما أرشد إلى مطلوب و خير أبدا. و فيه تأكيد لغاية إضلاله و ردّ لقوله: وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ اَلرَّشادِ (1).

روى أنّ موسى لمّا ضرب بعصاه البحر حصل اثنى عشر طريقا يابسا، يتهيّأ طروقه، و بقي الماء قائما بين الطريق و الطريق كالطّود العظيم، فأخذ كلّ سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق (2). و قيل: بل حصل طريق واحد (3).

و قيل: إن فرعون لمّا خاف من دخول البحر، أمر مقدّمته بالدخول فيه، فلمّا دخلوا و ساروا فيه و ما غرقوا، غلب على ظنّه السلامة فدخل، فلمّا دخل الكلّ أغرقهم اللّه (4).

أقول: لا تنافي بين هذا و بين ما روي من تقدّم جبرئيل عليه و هو على رمكة (5)؛ لأنّه و إن كان ظنّ السلامة و لكن يمكن أنّه لو لم يجمح فرسه لكان يحتاط، و لمّا جمح فرسه و كان له ظن السلامة لم يبالغ في إمساك فرسه، فلا يرد على الرواية أنّ فرعون مع عقله و دهائه كيف ألقى نفسه في التّهلكة.

سوره 20 (طه): آیه شماره 80 الی 81

ثمّ رغّب اللّه سبحانه بني إسرائيل في طاعته بتذكريهم النّعم التي أنعم عليهم، مقدّما لنعمة دفع الضّرر عنهم على إيصال النفع إليهم، مخاطبا لهم بلسان موسى بعد إغراق فرعون و ابتلائهم بالتّيه بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون و قومه و خلّصناكم من ظلمهم.

يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)ثمّ ثنّاها بالنّعمة الدّينيّة التي هي أهمّ من النّعم الدّنيويّة بقوله: وَ واعَدْناكُمْ و دعوناكم بوساطة نبيّكم موسى عليه السّلام أن تأتوا جانِبَ اَلطُّورِ يعني جانبه اَلْأَيْمَنَ من السالك من مصر إلى الشام على ما قيل (6).

و إنّما أضاف الدّعوة إلى جميعهم مع كون المدعوّ خصوص موسى، أو هو مع السبعين المختارة، لكونهم منهم، و نفعها من المناجاة و أخذ التوراة عائدا إلى جميعهم.

ثمّ ثلّثهما بذكر النعمة العظيمة الدنيوية بقوله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى و قد مرّ تفسيرهما

ص: 237


1- . غافر:40/29.
2- . تفسير الرازي 22:94.
3- . تفسير الرازي 22:94.
4- . تفسير الرازي 22:94.
5- . الرّمكة: الفرس البرذونة تتّخذ للنسل.
6- . تفسير الرازي 22:96.

و تفصيل نزولهما في سورة البقرة،

و قلنا لكم بلسان الرّسول أو بدلالة الفعل: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و لذائذ ما أنعمنا عليكم من الطعام، أو من حلاله وَ لا تَطْغَوْا و لا تجاوزوا الحدّ فِيهِ بالسّرف و البطر، و المنع من المستحقّ، و الإدّخار منه لأكثر ممّا يحتاج إليه في اليوم و اللّيلة، و الإخلال بالشّكر فَيَحِلَّ عند تلك الامور عَلَيْكُمْ غَضَبِي و يلزمكم عقابي، و يجب لكم انتقامي.

ثمّ بالغ في تهديدهم ببيان شدّة غضبه و عظمة انتقامه بقوله: وَ مَنْ يَحْلِلْ و ينزل عَلَيْهِ غَضَبِي و عذابي فَقَدْ هَوى و هلك إلى الأبد، أو هوى في جهنّم و سقط فيها.

عن الباقر عليه السّلام سئل ما ذلك الغضب؟ فقال: «هو العقاب» (1).

سوره 20 (طه): آیه شماره 82

ثمّ بشّر سبحانه العصاة بقبول توبتهم بقوله: وَ إِنِّي و اللّه لَغَفّارٌ و ستار للذّنوب لِمَنْ تابَ و رجع عن الشّرك و الكفر، و ندم على العصيان الذي منه الطّغيان في ما رزق وَ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ عَمِلَ صالِحاً و عملا مستقيما عند العقل و الشّرع ثُمَّ اِهْتَدى و ثبت على الحقّ في العقائد و الأعمال إلى الخروج من الدّنيا، كما قيل عن ابن عبّاس: ثُمَّ اِهْتَدى أي علم أنّ ذلك بهداية اللّه و توفيقه، و بقي مستعينا باللّه في إدامة ذلك من غير تقصير (2).

وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى (82)و قيل: هذه الخطابات لبني إسرائيل الّذين كانوا في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على معنى أنّه تعالى قد منّ عليهم بما فعل بآبائهم أصالة و بهم تبعا، فإنّه لو لا تلك النّعم على آبائهم لم يبق منهم نسل و لم يوجد من كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قال المولى أبو السعود: و يردّه ما سيأتي من قوله تعالى: وَ ما أَعْجَلَكَ الآية ضرورة استحالة حمله على الإنشاء (3). و فيه: أنّه يمكن أن يكون قوله تعالى: وَ ما أَعْجَلَكَ رجوعا إلى القصّة بعد موعظة أهل عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «ألا ترى كيف اشترط و لم تنفعه التوبة و الإيمان و العمل الصالح حتى (4)اهتدى، و اللّه لو جهد أن يعمل [بعمل]ما قبل منه حتى يهتدي» . قيل: إلى من جعلني اللّه فداك؟ قال: «إلينا» (5).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في حديث لعلي عليه السّلام: «و لقد ضلّ من ضلّ عنك، و لن يهتديّ إلى اللّه من لم

ص: 238


1- . التوحيد:168/1، تفسير الصافي 3:314.
2- . تفسير الرازي 22:97.
3- . تفسير أبي السعود 6:32.
4- . في النسخة: الصالح و قال ثم.
5- . تفسير القمي 2:61، تفسير الصافي 3:314.

يهتد إليك و إلى ولايتك، و هو قول ربّي عزّ و جلّ: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ الآية، يعني: إلى ولايتك» (1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ثمّ اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت، فو اللّه لو أنّ رجلا عبد اللّه عمره ما بين الرّكن و المقام، ثمّ مات و لم يجئ بولايتنا، لأكبّه اللّه في النار على وجهه» (2).

و عنه عليه السّلام قال و هو مستقبل البيت: «إنّما أمر النّاس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثمّ يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، و هو قول اللّه تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى ثمّ أومأ إلى صدره و قال: «إلى ولايتنا» (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لهذه الآية تفسير يدلّ ذلك التفسير، على أنّ اللّه لا يقبل من أحد عملا إلاّ ممّن لقاه بالوفاء منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين» (4).

و عنه عليه السّلام قال: «إنّكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا، و لا تعرفون حتى تصدّقوا، و لا تصدّقون حتى تسلّموا أبوابا أربعة لا يصلح أوّلها إلاّ بآخرها، ضلّ أصحاب الثّلاثة و تاهو تيها عظيما (5)، إنّ اللّه لا يقبل إلاّ العمل الصّالح، و لا يقبل اللّه إلاّ الوفاء بالشّروط و العهود، فمن وفى للّه تعالى بشرطه، و استعمل ما وصف في عهده، نال ما عنده، و استكمل وعده، إنّ اللّه تعالى أخبر العباد بطرق الهدى، و شرع لهم فيها المنار، و أخبرهم كيف يسلكون، فقال: إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى و قال: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (6)فمن اتّقى اللّه في ما أمره، لقي [اللّه]مؤمنا بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله. هيهات هيهات فات قوم و ماتوا قبل أن يهتدوا، و ظنّوا أنّهم آمنوا و أشركوا من حيث لا يعلمون» (7).

سوره 20 (طه): آیه شماره 83 الی 85

ثمّ روي أنّ بني إسرائيل سألوا موسى عليه السّلام أن يأتيهم بشريعة و أحكام يعملون بها، فناجى موسى عليه السّلام ربّه في ذلك، فأوحى إليه: أن ائت الطّور مع أشراف بني إسرائيل حتى أعطيك كتابا فيه جميع أحكام شريعتك، فجاء موسى عليه السّلام إلى قومه و اختار منهم سبعين رجلا من أشرافهم و خيارهم،

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّامِرِيُّ (85)

ص: 239


1- . أمالي الصدوق:583/803، تفسير الصافي 3:314.
2- . مجمع البيان 7:39، تفسير الصافي 3:314.
3- . الكافي 1:323/3، تفسير الصافي 3:315.
4- . تفسير العياشي 1:377/904، تفسير الصافي 3:315.
5- . في الكافي: بعيدا.
6- . المائدة:5/27.
7- . الكافي 1:139/6 و 2:39/3، تفسير الصافي 3:315.

و خلّف أخيه هارون فيهم، فلمّا ذهب بمن معه و قرب من الطّور، أسرع في المشي، و سبقهم في الصّعود على الطّور شوقا إلى كلام ربّه، و أمرهم أن يتّبعوه، فخاطبه اللّه بقوله: وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ و دعاك إلى الإسراع إلى الصّعود على الطّور، و أن تخلّف النّقباء الّذين امرت أن تكون معهم يا مُوسى (1).

و قيل: إنّ المراد بقومه جملة بني إسرائيل الذين خلّف هارون فيهم (2)، فلمّا رأى موسى عليه السّلام إنكاره تعالى عليه تقدّمه على قومه و حضوره منفردا في الميقات، مع كونه مأمورا باستصحابهم و إحضارهم معه، و كون تعجيله منافيا للحزم اللائق باولي العزم، أخذته الهيبة،

فأخذ بالاعتذار و قالَ: ربّ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي و من ورائي، و إنّما سبقتهم بخطى يسيرة لا تخلّ بالمعيّة التي أمرتني بها وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ و سبقتهم يسيرا إلى الصعود على الطّور رَبِّ لِتَرْضى بمسارعتي إلى امتثال أمرك، و اهتمامي بالوفاء بوعدك، و اشتياقي إلى استماع كلامك.

عن الصادق عليه السّلام قال: «المشتاق لا يشتهي طعاما، و لا يلتذّ بشراب، و لا يستطيب رقادا، و لا يأنس حميما، و لا يأوي دارا، و لا يسكن عمرانا، و لا يلبس لباسا، و لا يقرّ قرارا، و يعبد اللّه ليلا و نهارا، راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه، و يناجيه بلسان شوقه، معبّرا عمّا في سريرته، كما أخبر اللّه عن موسى بن عمران عليه السّلام في ميعاد ربّه بقوله: وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى و فسّر النبي صلّى اللّه عليه و آله عن حاله أنّه ما أكل و لا شرب و لا نام و لا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه و مجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربّه» (3).

و إنّما ذكر اللّه بصفة الربوبيّة، لزيادة التضرّع و الابتهال رغبة في قبول عذره.

ثمّ أخبره اللّه بافتتان قومه بعد خروجه من بينهم، لتعجيلهم و عدم صبرهم لرجوع موسى عليه السّلام حيث قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا و ابتلينا قَوْمَكَ بني إسرائيل مع إخلافك هارون فيهم مِنْ بَعْدِكَ و زمان غيابك عنهم بعبادة العجل.

روى أنّهم أقاموا على ما وصّى به موسى عليه السّلام عشرين ليلة بعد ذهابه، فحسبوها مع أيّامها أربعين، و قالوا: قد أكملنا العدّة و ليس من موسى عليه السّلام عين و لا أثر (4)، وَ أَضَلَّهُمُ عند ذلك اَلسّامِرِيُّ بتدبيره و حيلته.

روي أنّ السّامري كان من بني إسرائيل، و تولّد في زمان كان فرعون يقتل أبناءهم، فألقته أمّه في جزيرة في النّيل، فأمر اللّه جبرئيل أن يربّيه و يحفظه، و يأتي بمأكوله و مشروبه، ثمّ جاء في قومه، و كان

ص: 240


1- . تفسير روح البيان 5:412.
2- . تفسير الرازي 22:99.
3- . مصباح الشريعة:196، تفسير الصافي 3:316.
4- . تفسير الرازي 22:101، تفسير روح البيان 5:414.

صائغا، فلمّا ذهب موسى عليه السّلام إلى الطّور جاء إلى هارون و قال: إنّ عند بني إسرائيل من زينة القبط حيث استعاروها منهم و لم يردّوها و يتصرّفون فيها، و هو حرام عليهم، فأمرهم أن يأتوا بها و أحرقها، فأمر هارون بني إسرائيل بأن يأتوا بما عندهم من زينة القبط، فأتوا بها، فحفر هارون حفرة فألقاها فيها، فأوقد عليها النّار، فلمّا رأى السامريّ أنّها ذابت، أتى بقالب فصبّ فيه ذلك الذّهب المذاب، فأخرج منه صورة عجل، ثمّ ذرّ فيه من تراب أخذه من تحت حافر رمكة جبرئيل، فحيي العجل و خار، ثمّ قال لبني إسرائيل: هذا إلهكم و إله موسى (1).

و عن ابن عباس: كان السامريّ علجا من أهل كرمان وقع إلى مصر، و كان من قوم يعبدون البقر (2).

و في رواية اخرى عنه: أنّه كان رجلا من القبط جارا لموسى عليه السّلام ثمّ آمن به (3). و الأكثرون على أنّه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة (4).

سوره 20 (طه): آیه شماره 86 الی 87

قيل: إنّ اللّه أخبر موسى عليه السّلام عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة [الكائنة]

على عادته (5)فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد استيفائه الأربعين و أخذه التوراة حال كونه غَضْبانَ عليهم أَسِفاً شديد الحزن على عصيانهم.

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى اَلسّامِرِيُّ (87)قيل: رآهم مجتمعين على العجل يضربون الدّفوف و يرقصون حوله فعاتبهم (6)و قالَ توبيخا: يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً و صدقا نافعا بأن يعطيكم التوراة التي فيها هدى و نور، و لا وعد أحسن من ذلك.

و قيل: إنّه الوعد بالثواب على الطاعة (7).

و قيل: إنّه العهد على أن لا يطغوا فيما رزقهم (8).

أَ فَطالَ قيل: أن أوعدكم فطال عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ و زمان الإنجاز فأخطأتم بسببه؟ (9)أو العهد بنعم

ص: 241


1- . تفسير روح البيان 5:414.
2- . تفسير الرازي 22:101.
3- . تفسير الرازي 22:101.
4- . تفسير الرازي 22:101.
5- . تفسير الرازي 22:101.
6- . تفسير روح البيان 5:415.
7- . تفسير الرازي 22:102.
8- . تفسير الرازي 22:102.
9- . تفسير أبي السعود 6:35، تفسير روح البيان 5:415.

اللّه من الإنجاء من فرعون و الغرق و غيرهما، و طوله كناية عن نسيانه أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ و ينزل، أو يجب عَلَيْكُمْ غَضَبٌ شديد و عذاب عظيم مِنْ رَبِّكُمْ و مالك أمركم اللّطيف بكم؟ فَأَخْلَفْتُمْ لذلك مَوْعِدِي و عهدي عليكم بالثّبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من ميقات ربّي.

قال العلماء: إنّ الغضب من صفات أفعاله تعالى، لا من صفات ذاته؛ لأنّ صفات الذات لا تحلل و لا تنزل في الأجسام (1).

عن الباقر عليه السّلام، قال في تفسير الغضب: «من زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، إنّ اللّه عزّ و جلّ لا يستفزّه شيء و لا يغيّره شيء» (2).

ثمّ أنّ الّذين عبدوا العجل من بني إسرائيل اعتذروا إلى موسى عليه السّلام من فعلهم الشنيع و قالُوا: يا موسى ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ و ما نقضنا عهدك علينا بالثبات على ما أمرتنا به بِمَلْكِنا و اختيارنا و ميل قلوبنا وَ لكِنّا غلبنا من كيد السامرىّ إذ حُمِّلْنا أَوْزاراً و أحمالا ثقيلة مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ و حليّ القبط التي استعرناها منهم بأن جعلها في عهدتنا إلى أن نؤدّيها إلى حيث تأمرنا، أو بأن ألزمنا فيه حكم الغنيمة فَقَذَفْناها و طرحناها في الحفيرة و في النار تخلّصا من ذنبها فَكَذلِكَ القذف و الإلقاء أَلْقَى اَلسّامِرِيُّ ما معه من الحليّ فيها.

سوره 20 (طه): آیه شماره 88 الی 90

ثمّ حكى سبحانه فتنة السّامري لزيادة تقريرها و ترتيب الإنكار و التوبيخ عليها بقوله: فَأَخْرَجَ السّامريّ من ذلك الحليّ الّذي جمعه بنو إسرائيل لَهُمْ عِجْلاً و ولد بقرة، و كان جَسَداً ذا دم و لحم و عظم، أو جسدا من ذهب لَهُ خُوارٌ و صوت عجل.

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90)عن ابن عبّاس: أنّ هارون مرّ بالسّامريّ و هو يصنع العجل فقال له: ما تصنع؟ قال: أصنع ما ينفع و لا يضرّ فادع لي، فقال: اللّهمّ أعطه ما سأل. فلمّا مضى هارون قال السامريّ: اللّهمّ إنّي أسألك أن يخور، فخار (3). فسجد له السامريّ و المفتتنون به فَقالُوا لغاية بلادتهم، أو اعتقادهم حلول اللّه فيه لغاية

ص: 242


1- . تفسير الرازي 22:102.
2- . التوحيد:168/1، تفسير الصافي 3:314.
3- . تفسير الرازي 22:104.

حمقهم: هذا العجل إِلهُكُمْ يا بني إسرائيل وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ موسى عليه السّلام أنّ هذا إلهه فذهب يطلبه في الطّور. و قيل: إنّه ردّ على السامريّ، و أنّ الإله لا يحلّ في شيء و لا يحلّ فيه شيء.

ثمّ استدلّ سبحانه على بطلان دعوى المفتتنين به بقوله: أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ هذا العجل إِلَيْهِمْ قَوْلاً و لا يردّ عليهم جوابا إذا سألوه وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إذا طلبوا منه دفع ضرر أو جلب نفع، و من المعلوم أنّ من لا يمكنه التكلّم و لا يقدر على الضرّ و النفع، لا يمكن أن يكون إلها.

ثمّ حكى سبحانه نصح هارون لهم في بدو ضلالتهم و عبادتهم العجل توضيحا لعتوّهم و حمقهم بقوله: وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ نصحا و شفقة عليهم، و تنبيها لهم على خطئهم مِنْ قَبْلُ و في بدو إقامتهم على عبادة العجل، أو قبل رجوع موسى عليه السّلام إليهم، أو قبل قول السامريّ: هذا إلهكم.

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا رأى العجل خطر في قلبه افتتان القوم به، فبادر في تحذيرهم (1)عن عبادته، و قال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ و أضللتم، أو امتحنتم من قبل اللّه بِهِ و بسببه وَ إِنَّ رَبَّكُمُ و الإله المنعم عليكم هو اَلرَّحْمنُ برحمته الواسعة لا العجل الّذي لا يضرّ و لا ينفع، فإذا كان الأمر كذلك فَاتَّبِعُونِي في الثّبات على التّوحيد و دين الحقّ وَ أَطِيعُوا أَمْرِي هذا و اتركوا عبادة من عرفتم شأنه.

نقل كلام للفخر

الرازي وردّه

قال الفخر الرازي: و اعلم أنّ هارون سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه، لأنّه زجرهم عن الباطل أوّلا بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، ثمّ دعاهم إلى معرفة اللّه ثانيا بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمنُ ثمّ دعاهم إلى معرفة النبيّ ثالثا بقوله: فَاتَّبِعُونِي ثمّ دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وَ أَطِيعُوا أَمْرِي.

أقول: لا يخفى ما في كلامه من الوهن. ثمّ قال: هاهنا دقيقة، و هي أنّ الرّافضة تمسّكوا بقوله صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» .

ثمّ أنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر، و صرّح بالحقّ، و دعا النّاس إلى متابعة نفسه و المنع من متابعة غيره، فلو كانت أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله على الخطأ، لكان يجب على علي أن يفعل ما فعله هارون، و أن يصعد المنبر من غير تقية و لا خوف، و أن يقول: فاتّبعوني و أطيعوا أمري، فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّ الامّة كانوا على الصّواب (2)، انتهى كلامه السخيف بطوله.

و فيه من الفساد ما لا يخفى، فإنّ بين النبيّ المؤسّس للشّرع و الإمام الحافظ له المجري لقوانينه

ص: 243


1- . تفسير البيضاوي 2:56، تفسير أبي السعود 6:37.
2- . تفسير الرازي 22:106.

فرق واضح لا يخفى على ذي مسكة (1)، فإنّ النبيّ المؤسس لا يجوز له التقيّة، لأنّ تقيّته موجبة لاختلال الغرض من بعثته، و لذا يجب على اللّه حفظه حتى يتمّ رسالته و تبليغه و لو بالأسباب الخارقة للعادة، كما حفظ نوح من القتل مع تفرّده و عداوة أهل الأرض له، و إبراهيم من نار نمرود و جعلها له بردا و سلاما، و حفظه نبيّنا من شرّ الكفّار مع انفراده في أوّل الدعوة، لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل، فأمره اللّه بالتّبليغ بقوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ (2)و آمنه بقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّهُ (3)و إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا (4)و وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ (5)فكان ينادي بين الأشرار مع غاية تعصّبهم و لجاجهم و عنادهم بقوله: «قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا» و لم يقدروا على قتله، و نصره اللّه بالرّعب و بجنود من الملائكة، و الرّيح، و بمن اتّبعه من المؤمنين.

و أمّا الإمام فوظيفته وظيفة العلماء، و هي حفظ الدين، و تعليم الأحكام الواقعيّة عن علم لا خطأ فيه، و إجراء السياسات الشرعيّة، و تربية النفوس القابلة، و رفع الاختلاف بين الناس، و كونه مرجعا في جميع المنازعات بعد إتمام الحجّة على النّاس بتبليغ الدين، و نصبه على رؤوس الأشهاد، بحيث لا يبقى لأحد عذر في عدم معرفته، كما نصب موسى هارون عليهما السّلام، و نبيّنا عليّا عليه السّلام يوم الغدير، فمن حيث إنّ هارون كان شريكا لموسى عليه السّلام في الرسالة لم يجز له التقيّة، و من حيث أنّه كان خليفته في غيبته جاز له التقيّة، و لذا أعلن بالحقّ، و لكن لم يشدّد على بني إسرائيل كما شدّد موسى عليه السّلام عليهم بعد رجوعه من الميقات، و اعتذر إلى موسى عليه السّلام من تركه التشدّد و عمله بالتقيّة بقوله: إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فظهر أنّ هارون اتّقى من قومه حيث لم يقاتلهم على عباده العجل، و لم يخرج من بينهم، مع أنّه كان أنصاره اثني عشر ألفا، كما أنّ عليّا عليه السّلام أظهر خلافته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في محافل كثيرة، و احتجّ على إمامته بالحجج القاطعة، مع أنّه لم يكن له ناصر إلاّ ثلاثة أو خمسة أو سبعة (6)، و لذا لم يقاتلهم على عبادتهم عجل هذه الامّة، و لو كان معه أربعون لقاتلهم و ردّهم عن ضلالتهم (7).

و أمّا قوله: إنّ هارون صعد على المنبر و أظهر الحقّ، فهو تخرّص بالغيب، لعدم دلالة آية أو رواية على صعوده على المنبر، مع أنّ عجل بني إسرائيل لم يشغل المنبر، و لذا تمكّن هارون من الصعود عليه، و أمّا عجل هذه الامّة فإنّه كان جالسا على منبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و شاغلا له، و لذا لم يتمكّن

ص: 244


1- . المسكة: العقل الوافر و الرأي.
2- . الحجر:15/94.
3- . البقرة:2/137.
4- . غافر:40/51.
5- . المائدة:5/67.
6- . راجع: تفسير العياشي 1:341/787 و 788، الكافي 8:245/241، رجال الكشي:6/12 و:8/17 و:11/24.
7- . الاحتجاج:191، كتاب سليم بن قيس:93.

عليّ عليه السّلام من الصّعود عليه.

و الحاصل أنّه كما أظهر هارون الحقّ مرّة مع إشراك أغلب بني إسرائيل بالشّرك الجليّ، أظهر عليّ عليه السّلام حقّه في المحافل الكثيرة، و أعلن بافتتان الامّة مرّات عديدة إلى أن استشهد كما تشهد بذلك احتجاجاته المرويّة بالتّضافر (1)، و خطبته الشّقشقية التي أذعن ابن أبي الحديد بصحتها (2)، مع إشراك هذه الامّة بالشّرك الخفيّ.

و كما لم يقاتل هارون قومه مع كثرة أنصاره، بل اكتفى بالنّصح و الموعظة، كذلك لم يقاتل عليّ عليه السّلام أهل المدينة لقلّة أنصاره، بل لكون الرّوم مع كمال قوّته و عظمته بصدد إذهاب الإسلام بعد غزوة مؤتة و تبوك.

و لذا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله في مرض موته مصرّا على بعث اسامة و جيشه إلى تبوك خوفا من تهاجم عسكر الرّوم على أرض المسلمين إن بلغهم خبر موته صلّى اللّه عليه و آله، فلو وقعت المقاتلة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله بين المسلمين ما كان يبقى من الإسلام أثر على وجه الأرض، و لذا اعتذر أمير المؤمنين عليه السّلام إلى فاطمة عليها السّلام حين شكت إليه غصب فدك من عدم معارضة الغاصبين و مقاتلتهم بأنّه لو قاتلهم لم يبق اسم الرّسول في وجه الأرض (3).

و قال في الخطبة الشّقشقيّة: «فطفقت (4)أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصّغير، و يهرم فيها الكبير، و يكدح فيها مؤمن، حتى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصّبر [على هاتا]أحجى، فصبرت و في العين قذى، و في الحلق شجى» (5).

و ممّا يدلّ على إظهار عليّ عليه السّلام حقّه، و مخالفته للأوّلين، و لجمع من الامّة في الخلافة، ما رواه هذا

ص: 245


1- . احتج عليه السّلام على أبي بكر في أمر البيعة في مناسبات عدة، كما ناشد أهل الشورى و اجتج عليهم بجملة فضائله و بين حقه في الخلافة، راجع: بحار الأنوار 29:3-67 و 77-79، ترجمة الامام عليّ عليه السّلام من تاريخ دمشق 3:113، المناقب للخوارزمي:221-224، مناقب ابن المغازلي:112، الاستيعاب 3:35. و في خلافته عليه السّلام جمع الناس في رحبة الكوفة و استشهدهم على حديث الغدير الذي هو نص على خلافته، فشهد أثنا عشر بدريا، راجع مسند أحمد 1:88،118/119، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2:585/991 و 992 و:682/1167، اسد الغابة 2:233 و 3:93 و 4:28، خصائص النسائي:22-25، الاصابة 4:182/5189(ترجمة عبد الرحمن بن مدلج) ، مجمع الزوائد 9:104- 105.
2- . نقل ابن أبي الحديد شيخة أبى الخير الواسطي أنه قرأ الخطبة الشقشقية على ابن الخشاب، و ذكر ابن الخشاب أنها من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و أنه وقف عليها في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة و أنها كتبت بخطوط لعلماء كانوا قبل أن يخلق النقيب والد الرضي، راجع شرح ابن أبي الحديد 1:205، مصادر نهج البلاغة- عبد الزهراء الخطيب 1:315.
3- . راجع: شرح ابن أبي الحديد 20:326/735.
4- . في النسخة: فجعلت.
5- . نهج البلاغة:48 الخطبة 3.

الناصب في تفسيره قبل هذه الآية قال: قال بعض اليهود لعلي عليه السّلام: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم، فقال عليه السّلام: «إنّما اختلفنا عنه، و ما اختلفنا فيه، و أنتم ما جفّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيّكم: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (1).

فإنّ معنى اختلفنا عنه الاختلاف في الرواية عنه، و لم تكن الرواية المختلف فيها في ذلك الوقت إلاّ الرواية الناصّة على الخلافة، و لم يكن أحد يدّعى النصّ على خلافته إلاّ عليّ عليه السّلام و الخلّصون من المؤمنين، و لم يخالفهم في ذلك إلاّ سامريّ هذه الامّة و المفتتنون بالعجل.

سوره 20 (طه): آیه شماره 91 الی 94

ثمّ بيّن سبحانه عتوّ بني إسرائيل و عدم قبولهم النّصح بقوله: قالُوا في جواب هارون بعد إبلاغه في نصحهم تعلّلا و تسويفا لترك عبادة العجل: لَنْ نَبْرَحَ على القول بالوهيّة العجل، و لا نزال أبدا عَلَيْهِ عاكِفِينَ و مقيمين و بعبادته ملتزمين حَتّى يَرْجِعَ من الطّور إِلَيْنا مُوسى فإذا رجع نطيع أمره، فإن أمرنا بعبادته و وافقنا عليها نستمرّ عليها، و لا نقبل قولك، و إن نهانا عنها نتركها.

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)روي أنّهم لمّا قالوه اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الّذين لم يعبدوا العجل، فلمّا رجع موسى سمع الصيّاح و كانوا يرقصون حول العجل، فقال عليه السّلام للسّبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلمّا جاءهم قال لهم ما قال، و سمع منهم ما سمع (2).

ثمّ توجّه إلى هارون مغضبا و قالَ له مغتاظا: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ و أيّ عذر لك إِذْ رَأَيْتَهُمْ أنّهم ضَلُّوا و انحرفوا عن طريق التوحيد إلى الشرك،

و عن طاعتك إلى مكابرتك و عصيانك أَلاّ تَتَّبِعَنِ في الغضب للّه عليهم، و في قتالهم على إشراكهم؟ !

و قيل «لا» مزيدة، و المعنى ما منعك من أن تتّبعني في ما ذكر، أو من أن تلحقني و تخبرني بما صنع القوم، و تترك المقام بين أظهرهم، كما عن ابن عبّاس (3).

و قيل: يعني ما منعك من أن تتّبعني في وصيّتي إذ قلت لك: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ

ص: 246


1- . تفسير الرازي 22:105، و الآية من سورة الأعراف:7/138.
2- . تفسير روح البيان 5:418.
3- . تفسير الرازي 22:108.

سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (1) فلم تركت قتالهم و تأديبهم (2)، ثمّ وبّخه بقوله: أَ فَعَصَيْتَ و خالفت أَمْرِي إيّاك بالصّلابة في الدّين و المحاماة عليه.

روي أنّه عليه السّلام أخذ بشعر رأسة بيمينه و لحيته بشماله من شدّة غيظه [و غضبه]للّه، و كان عليه السّلام حديدا متصلّبا في كلّ شيء، ففعل ما فعل بمرأى من قومه حين رآهم يعبدون العجل (3)،

فلمّا رأى هارون غضبه عليه قالَ ترقيقا لقلبه: يَا بْنَ أُمَّ ارفق بي وراع حقّ امّك فيّ، و لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي و شعره إِنِّي خَشِيتُ إن قاتلت بعضهم ببعض و تفرّقوا من أَنْ تَقُولَ لي حين رجوعك أنت فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ.

و قيل: يعني أنّي خشيت إن فارقتهم و اتّبعتك من أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضا، فتقول لي: أنت أوقعت الفرقة في ما بينهم وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي و لم تحفظ بحسن الخلافة عليهم (4).

قيل: لعلّ موسى عليه السّلام [إنّما]أمره بالذّهاب إليه إذا لم يؤدّ ذهابه إلى فساد القوم، فقال: إنّما أمرتني باتّباعك إذا لم يحصل الفساد، فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقبا لقولك (3).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل لم أخذ موسى عليه السّلام برأس هارون يجرّه إليه و بلحيته، و لم يكن له في اتّخاذهم العجل و عبادتهم له ذنب؟ فقال: «إنّما فعل ذلك لأنّه لم يفارقهم لمّا فعلوا ذلك، و لم يلحق بموسى عليه السّلام، و كان إذا فارقهم ينزل عليهم العذاب، ألا ترى أنّه قال لهارون: ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي؟ قال هارون: لو فعلت ذلك لتفرّقوا» (4).

ثمّ اعلم أنّ منكري عصمة الأنبياء استدلّوا بهاتين الآيتين بوجوه عديدة على مذهبهم الفاسد، و أجاب القائلون بعصمتهم عنه بوجوه منها: أنّ بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظنّ بموسى عليه السّلام، حتى أنّ هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى: أنت قتلته؟ فلمّا رجع موسى عليه السّلام من الميقات، و رأى في قومه ما رأى، أخذ برأس أخيه ليدنيه و يتفحّص من كيفيّة الواقعة، فخاف هارون من أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له، فقال إشفاقا على موسى عليه السّلام: لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي لئلاّ يظنّ بك القوم ما لا يليق بك، و الحقّ أنّ موسى عليه السّلام أظهر الغضب على أخيه مع علمه بأنّه لم يفعل إلاّ ما هو تكليفه و صلاح دينه، إظهارا لشدّة غضبه من عمل قومه، و إعظاما له، و إعلانا بغاية قبحه و شناعته.

سوره 20 (طه): آیه شماره 95 الی 97

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ اُنْظُرْ إِلى إِلهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً (97)

ص: 247


1- . الأعراف:7/142.
2- . تفسير الرازي 22:108. (3 و 4) . تفسير روح البيان 5:419.
3- . تفسير الرازي 22:109.
4- . علل الشرائع:68/1، تفسير الصافي 3:317.

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد قبول عذر هارون توجّه إلى السامري، و كان حاضرا، أو بعد إحضاره قالَ له: فَما خَطْبُكَ و ما شأنك، و أيّ شيء غرضك ممّا فعلت، أو ما الذي حملك عليه يا سامِرِيُّ؟

و كان غرضه من السؤال إثبات بطلان عمله و كيده باعترافه، قالَ السّامري لموسى عليه السّلام: بَصُرْتُ و أنا في القوم بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ و رأيت ما لم يروه، و هو أنّه رأى جبرئيل راكبا على فرس، و كان كلّما وضع فرسه يديه أو رجليه على الأرض اليابسة يخرج من تحته النبات في الحال فقال: فَقَبَضْتُ و أخذت قَبْضَةً و كفّا مِنْ تربة أَثَرِ فرس اَلرَّسُولِ و موضع حافره فَنَبَذْتُها و ألقيتها في فم العجل الذي صنعته من الحليّ، فكان ما كان وَ كَذلِكَ التّسويل من القبض و النبذ سَوَّلَتْ لِي أو مثل ذلك التّزيين زيّنت لي نَفْسِي في نظري، ففعلت ما فعلت بهواي، لا بحكم العقل،

و لا بأمر اللّه قالَ موسى عليه السّلام: إذن فَاذْهَبْ و اخرج من بين النّاس فَإِنَّ لَكَ فِي مدّة اَلْحَياةِ و زمان العمر أَنْ تَقُولَ للنّاس لا مِساسَ لأحد بي.

روي أنّه كان إذا ماسّ أحدا ذكرا كان أو انثى حمّ الماسّ و الممسوس جميعا حمى شديدة، فتحامى النّاس و تحاموه، و كان يصيح بأعلى صوته لا مساس، و حرّم عليهم ملاقاته و مكالمته و مواجهته، فصار وحيدا طريدا، يهيم في البريّة مع الوحش و السباع (1).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ موسى عليه السّلام همّ بقتل السّامري، فأوحى اللّه إليه: لا تقتله فإنّه سخيّ» (2).

ثمّ أوعده موسى عليه السّلام بالعذاب في الآخرة بقوله: وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً و وعدا بالعذاب الشّديد في الآخرة على الضّلال و الإضلال لَنْ تُخْلَفَهُ من قبل اللّه، ينجز البتّة بعد عقوبتك في الدنيا وَ اُنْظُرْ إِلى إِلهِكَ و معبودك اَلَّذِي صنعته بيدك و ظَلْتَ و بقيت، أو صرت عَلَيْهِ عاكِفاً و على عبادته مقيما، و اللّه لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنّار بناء على كون العجل ذا لحم و عظم، أو لنبردنّه بالمبرد بناء على كونه ذهبا ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ و لنذرّينّه فِي اَلْيَمِّ و البحر رمادا و مبرودا (3)نَسْفاً و ذرّا [بحيث]لا يبقى منه عين و لا أثر، حتى يعلم أنّ ما يحرق و يعدم آثاره لا يكون قابلا للعبادة.

ص: 248


1- . تفسير روح البيان 5:422.
2- . مجمع البيان 7:47، تفسير الصافي 3:318.
3- . في النسخة: مبردا، و ما أثبتناه من روح البيان 5:422.

سوره 20 (طه): آیه شماره 98 الی 101

ثمّ عرّفهم إلههم بقوله: إِنَّما إِلهُكُمُ المستحقّ للعبادة و التّعظيم اَللّهُ اَلَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ بدليل أنّه وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً و أحاط بكلّ شيء خبرا، يعلم عابده و عبادته، و مطيعه و مقدار استحقاقه من الثّواب، و عاصيه و مقدار استحقاقه من العقاب.

إِنَّما إِلهُكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ حِمْلاً (101)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قصّة موسى عليه السّلام و فرعون و هارون و السامري، بيّن عظمة شأن النبيّ و كتابه و أنّ جميعه بوحي اللّه بقوله: كَذلِكَ الحديث الذي قصصناه، أو كذلك القصّ البديع نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ يا محمّد بالوحي و بتوسّط جبرئيل بعضا مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ و الحوادث الواقعة على الامم السالفة وَ قَدْ آتَيْناكَ و أنزلنا إليك مِنْ لَدُنّا كتابا عظيم الشأن يكون ذِكْراً للعالمين و رشادا إلى مهامّ الدنيا و الدين، و تذكرة لنعم اللّه، و موعظة للمتّقين، أو يكون سببا لبقاء ذكرك إلى يوم الدين.

ثمّ هدّد سبحانه المعرضين عنه بقوله: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ و لم يؤمن به، و لم يهتد بهداه، و لم يتّعظ بمواعظه، و لم يعمل بأحكامه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وِزْراً و عقابا ثقيلا حال كون المعرضين

خالِدِينَ في العقاب و ماكثين فِيهِ أبدا وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ حِمْلاً وزرهم، و قيل: يعني ما أسوء هذا الوزر محمولا (1)! قيل: إعادة ذكر يوم القيامة لزيادة التقرير و التهويل (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 102 الی 104

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال القيامة بقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ قيل: إنّ التقدير أذكر يا محمّد لقومك يوم ينفخ إسرافيل في الصّور (3)وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة المتوغّلين في العصيان يَوْمَئِذٍ من قبورهم زُرْقاً و عميا.

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً (104)و قيل: إنّ الزرقة أسوء ألوان العين و أبغضها عند العرب (4). و روي أنّ الزرقة و سواد الوجه سيماء

ص: 249


1- . تفسير الرازي 22:114.
2- . تفسير أبي السعود 6:41، تفسير روح البيان 5:424.
3- . تفسير روح البيان 5:425.
4- . تفسير الصافي 3:319، تفسير روح البيان 5:425.

أهل النار (1).

و قيل: إنّهم يخرجون من قبورهم بصراء زرقا أوّل مرّة، و يعمون في المحشر (2).

و قيل: إنّه يتغيّر سواد أعينهم من شدّة العطش حتى تزرقّ (3).

و قيل: إنّ الزّرق يعني الطامعين في ما لا ينالونه (2).

و القمي، قال: تكون أعينهم مزرقّة لا يقدرون أن يطرفوها (3).

يَتَخافَتُونَ و يتسارّون بالقول فيما بَيْنَهُمْ من شدّة الرّعب و الهول، أو من غاية الضّعف بحيث لا يمكنهم الإجهار في الصّوت، و يقول بعضهم لبعض في إسراره: إِنْ لَبِثْتُمْ و ما مكثتم في الدنيا، أو في القبر إِلاّ عَشْراً من الأيّام، أو الساعات استقصارا لمدّة لبثهم فيها، و تحسّرا على إضاعتها، مع إمكان تحصيل الرّاحة الأبديّة فيها.

و قيل: يريدون ما بين النّفختين، و هو أربعون سنة يرفع العذاب عن الكفّار في تلك المدّة، و يستقصرون تلك المدّة إذا عاينوا أهوال القيامة، كما عن ابن عباس (4).

و قيل: إنّهم لمّا علموا بعمر الآخرة، استقصروا عمرهم في الدنيا بالنسبة إليه (5).

و قيل: إنّهم لمّا رأوا انقضاء عمر الدنيا و إتيان عمر الآخرة، استقصروا عمر الدنيا، لأنّ الذاهب قليل بالنسبة إلى الآتي و إن قصرت مدّته (6).

ثمّ حكى سبحانه مبالغتهم في الاستقصار بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ فيما بينهم إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ و أفضلهم طَرِيقَةً و أكملهم عقلا. القمي: أعلمهم و أصلحهم (7): (إنّ لبثتم) و ما مكثتم في الدنيا إِلاّ يَوْماً.

سوره 20 (طه): آیه شماره 105 الی 107

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف القيامة و ذكر بعض أهوالها، حكى سؤال بعض منكري الحشر بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ حال اَلْجِبالِ في الحشر، قيل: نزلت في مشركي مكّة حين قالوا استهزاء: يا

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107)

ص: 250


1- . تفسير روح البيان 5:425. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:114.
2- . تفسير الرازي 22:115.
3- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:319.
4- . تفسير روح البيان 5:425.
5- . تفسير الرازي 22:115.
6- . تفسير الرازي 22:115.
7- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:320.

محمّد، كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ (1)فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم بقوله: فَقُلْ في جوابهم يَنْسِفُها و يذرّها رَبِّي في ذلك اليوم نَسْفاً و ذرّا عجيبا بأن يجعلها هباء منثورا. و قيل: يعني يذهبها و يطيّرها (2)و يقلعها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة؟ فقال: «إنّ اللّه يسوقها بأن يجعلها كالرّمال، ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها» (1).

فَيَذَرُها و يترك مراكزها و محالّها حال كونها قاعاً و مكانا خاليا و صَفْصَفاً و مستويا بحيث

لا تَرى يا محمّد، مع قوة بصرك و بصيرتك، أو أيّها الرائي فِيها عِوَجاً و انخفاضا وَ لا أَمْتاً و ارتفاعا يسيرا، و هذا تأكيد غاية استواء الأرض، و دفع توّهم اجتماع فتاتها في موضع آخر.

و قيل: إنّ الأمت الانخفاض و الارتفاع (2).

القمي: القاع: الذي لا تراب فيه، و الصّفصف: الذي لا نبات له (3)، و العوج: الحزون، و الأمت: الإرتفاع (4).

و قيل: الأحوال الثلاثة مرتّبة، فالأوّلان باعتبار الإحساس، و الثالث باعتبار المقياس، و لذلك ذكر العوج بالكسر، و يخصّ المعاني (5)، فإنّ الاعوجاج الذي لا يدرك بالبصر و يدرك بالمقياس ملحق بالمعاني.

سوره 20 (طه): آیه شماره 108 الی 109

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان استواء الأرض بحيث لا يغيب أحد عن أحد، بيّن كيفيّة الحشر بقوله: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّاعِيَ الّذي يدعوهم إلى المحشر، و هو إسرافيل بالنفخة الثانية، أو ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي و يقول: أيّتها العظام النّخرة و الأوصال المتفرّقة و اللحوم الممزّقة، قومى إلى ربّك للحساب و الجزاء، فيسمعون صوت الداعي، فيقبلون من كلّ جانب إلى جهته لا عِوَجَ لَهُ و لا عدول عنه، لعدم ما يوجب التعويج في الأرض، و لا ما يمنع النفوذ للصّوت على السواء، فيتّبعون الصوت من غير انحراف وَ خَشَعَتِ و خفظت اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ من شدّة الفزع مع سعة

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)

ص: 251


1- . مجمع البيان 7:48، تفسير الصافي 3:320.
2- . تفسير روح البيان 5:428.
3- . تفسير القمي 2:67، تفسير الصافي 3:320.
4- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:320.
5- . تفسير الصافي 3:320، و في النسخة: بالمعاني.

رحمته، و خفتت لهيبته فَلا تَسْمَعُ أصواتهم إِلاّ هَمْساً و خفيّا.

قيل: لا يسمع إلاّ صوت أقدامهم (1).

و عن بعض العامة: ينفخ في الصور النفخة الاولى، فتتطاير الجبال، و تتفجّر الأنهار بعضها في بعض، فيمتلئ الهواء ماء، و تنثر الكواكب، و تتغيّر الأرض و السماء، و يموت العالمون، فتخلو الأرض و السماء، ثمّ يكشف سبحانه عن بيت في سقر، فيخرج لهب من النار فيشتعل في البحور فتنشف، و يدع الأرض حمأة (2)سوداء، و السماوات كأنّها عكر (3)الزيت و النحاس المذاب.

ثمّ يفتح اللّه تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض، و هو كمنيّ الرجال، فتنبت الأجسام على هيئتها، الصبيّ صبيّ و الشيخ شيخ و ما بينهما، ثمّ تهبّ من تحت العرش ريح لطيفة، فتبرز الأرض ليس فيها جبل و لا عوج و لا أمت، ثمّ يحيي اللّه إسرافيل، فينفخ من صخرة بيت المقدس، فتخرج الأرواح من ثقب في الصّور بعددها، و يحلّ كلّ روح في جسده حتّى الوحش و الطير، فإذا هم بالسّاهرة، أي بوجه الأرض بعد أن كانوا في بطنها (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عزّ و جلّ الناس في صعيد واحد حفاة عراة، فيوقفون في المحشر حتى يعرقوا عرقا شديدا و تشتدّ أنفاسهم، فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما، و هو قول اللّه تعالى: وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً ثمّ ينادي مناد من تلقاء العرش: أين النبيّ الامّي؟ فيقول الناس: سمّ باسمه، فينادي أين نبيّ الرحمة؟ أين محمّد بن عبد اللّه الامّي؟

فيتقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمام الناس كلّهم حتى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيله و صنعاء، فيقف عليه فينادي بصاحبكم، فيتقدم عليّ عليه السّلام أمام الناس فيقف معه، ثمّ يؤذن للناس فيمرّون فبين وارد على الحوض و بين مصروف عنه.

فإذا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من يصرف عنه من محبّينا بكى فيقول: يا رب شيعة عليّ أراهم صرفوا تلقاء أصحاب النار، و منعوا عن ورود الحوض! فيبعث اللّه إليه ملكا فيقول له: ما يبكيك يا محمّد؟ فيقول: لاناس من شيعة علي، فيقول الملك: إنّ اللّه يقول: يا محمّد، إنّ شيعة عليّ قد وهبتهم لك، و صفحت عن ذنوبهم لحبّهم لك و لعترتك، و ألحقتهم بك، و جعلتم في زمرتك فأوردهم حوضك» .

ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: «فكم من باك يومئذ و باكيّة ينادون: يا محمّد [اه]إذا رأوا ذلك» الخبر (5).

ص: 252


1- . تفسير الرازي 22:118، تفسير روح البيان 5:428.
2- . الحمأ: الطين الأسود المنتن.
3- . العكر: الراسب من كل شيء.
4- . تفسير روح البيان 5:428.
5- . تفسير القمي 2:64، تفسير الصافي 3:320.

يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ من الشّفعاء واحدا إِلاّ مَنْ أَذِنَ في أن يشفع لَهُ اَلرَّحْمنُ و أجاز وَ رَضِيَ لَهُ و لأجله قَوْلاً من الشّفيع في حقّه، أو المراد إلاّ شفاعة من أذن [له]

اللّه في الشفاعة، و رضي للشّافع قولا لمكانته عند اللّه، فإنّ الشفاعة منصب عظيم لا يحصل إلاّ لمن كان مأذونا فيها و مرضيّا عند اللّه.

سوره 20 (طه): آیه شماره 110 الی 112

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اشتراط قبول شفاعة الشّافع بكونه مأذونا فيها، أو كون المشفوع له مرضيّا عند اللّه، بيّن إحاطة علمه تعالى بأحوال العباد بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و ما تقدّمهم من الأحوال، أو من امور الآخرة وَ ما خَلْفَهُمْ و ما بعدهم ممّا يستقبلونه، أو ما وراءهم من امور الدنيا.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً (112)و قيل: ما بين أيديهم من أمر الدنيا، و ما خلفهم من أمر الآخرة و الثواب و العقاب (1).

و قيل: يعني يعلم ما مضى من امور الدنيا، و ما بقي منها، و متى تكون القيامة (2). وَ هم لا يُحِيطُونَ بِهِ تعالى، أو بما بين أيديهم و بما خلفهم عِلْماً.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يحيط الخلائق باللّه عزّ و جلّ علما، إذ هو تبارك و تعالى جعل على أبصار القلوب غطاء، فلا فهم يناله بالكيف، و لا قلب يثبته بالحدّ فلا نصفه إلاّ كما وصف نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (3)الأوّل، و الآخر، و الظّاهر، و الباطن، و الخالق، البارئ، المصوّر، خلق الأشياء و ليس من الأشياء شىء مثله (4).

وَ يومئذ عَنَتِ و ذلّت اَلْوُجُوهُ و صار النّاس كالأسارى (5)لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ و الموجد المؤثّر الدّائم، فلا يمكنهم الامتناع ممّا ينزل بهم من المجازاة، و لا يقدرون على معارضة خالقهم كما كانوا يتخيّلون لأنفسهم الاستقلال في الامور في الدنيا وَ قَدْ خابَ و حرم من الثواب و نيل النّعمة و الراحة مَنْ حَمَلَ و ارتكب ظُلْماً و عصيانا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اطلبوا اسم اللّه الأعظم في هذه السّور الثلاث: البقرة، و آل عمران، و طه» (6).

قال الرازي: فوجدنا المشترك في تلك السور اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (7).

ص: 253


1- . تفسير الرازي 22:119.
2- . تفسير الرازي 22:119.
3- . الشورى:42/11.
4- . التوحيد:263/5، تفسير الصافي 3:321.
5- . في النسخة: كالأسير.
6- . تفسير الرازي 22:120، تفسير روح البيان 5:431.
7- . تفسير الرازي 22:120.

ثمّ ختم اللّه تعالى بيان أحوال القيامة ببيان حسن حال المؤمنين بقوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ في الدنيا شيئا مِنَ اَلصّالِحاتِ و الأعمال الحسنات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ بما يجب الإيمان به فَلا يَخافُ في الآخرة ظُلْماً و عقابا بلا جرم، أو منع ثواب من القيام بالطّاعة وَ لا هَضْماً و نقص ثواب بما يستحقّه.

و قيل: يعني لا يخاف نقص الثّواب، و لا عدم توفية الإعظام و الإكرام، أو الزيادة على سيّئاته، و التنقيص من حسناته (1).

عن الباقر عليه السّلام: «هَضْماً يعني لا ينقص من عمله شيء، و أمّا ظُلْماً يقول لن يذهب به» (2).

سوره 20 (طه): آیه شماره 113 الی 114

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كثير من المطالب العالية، كأهوال القيامة، و حال المجرمين و المؤمنين فيها، بيّن لطفه على الناس بإنزال القرآن بقوله: وَ كَذلِكَ الإنزال لما سبق من الآيات المتضمّنة للوعد و الوعيد في هذا الكتاب أَنْزَلْناهُ بتمامه حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا لتفهمه العرب، فيقفوا على إعجازه و حسن نظمه و اسلوبه و خروجه من سنخ كلام البشر وَ صَرَّفْنا و كرّرنا أو فصّلنا فِيهِ مقدارا كثيرا مِنَ اَلْوَعِيدِ و التّهديد على الكفر و العصيان بالعذاب الدنيوي كالطّوفان و الغرق و الخسف و الرّجفة و أمثالها، و العذاب الاخري كأهوال القيامة و أنواع عذاب النار لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و يحترزون من الكفر و العصيان أَوْ يُحْدِثُ و يوجد لَهُمْ ذِكْراً و انتباها تتمّ به الحجّة عليهم.

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اَللّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)و قيل: إنّ المعنى: ليتّقوا، فإن لم تحصل لهم التقوى، فلا أقلّ من أن يحدث القرآن لهم ذكرا و شرفا وصيتا حسنا (3).

ثمّ أعظم ذاته المقتضي لتعظيم ما نزل منه بقوله: فَتَعالَى اَللّهُ و ارتفع بذاته و صفاته عن مماثلة مخلوقاته، و هو اَلْمَلِكُ و السّلطان النافذ الأمر و النّهي، الحقيق بأن يرجى بوعده، و يخشى من وعيده، و اَلْحَقُّ الثابت في ملكوته و الوهيّته بحيث يمتنع زوال ملكه، و تغيّر سلطانه، و استعانته بخلقه، و حاجته إلى إيمانهم و طاعتهم، و إنّما أنزل الكتاب لنفعهم، و تكميل نقصهم، و تهذيب

ص: 254


1- . تفسير روح البيان 5:431.
2- . تفسير القمي 2:67، تفسير الصافي 3:322.
3- . تفسير الرازي 22:121.

نفوسهم، و حصول استعدادهم لنيل فيوضاته و رحمته، فمن كان بهذه المرتبة من القدرة و الرّحمة و الإحسان، [فهو]قادر على حفظك من السّهو في وحيه و النسيان في كلامه وَ لذا لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ و لا تسرع إلى قراءته و حفظه خوفا من النسيان و الانفلات مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى و يؤدّى إِلَيْكَ وَحْيُهُ و يتمّ جبرئيل قراءته عليك وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً بالقرآن، و فهما لحقائقه و تنوّرا بأنواره.

عن ابن عباس قال: كان صلّى اللّه عليه و آله يحرص على أخذ القرآن من جبرئيل، فيعجل بقراءته قبل إتمام (1)جبرئيل مخافة النسيان، فقال تعالى: لا تعجل به إلى أن نستتمّ (2)وحيه، فيكون أخذك إيّاه عن تثبّت و سكون، و اللّه تعالى يزيدك فهما و علما (3).

و عن مجاهد: أي لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحي إليك بيان معانيه (4).

و عن الضحاك: أنّ أهل مكّة و اسقف نجران قالوا: يا محمّد، أخبرنا عن كذا و كذا، و قد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه، و فشت المقالة بأنّ اليهود [قد]غلبوا محمّدا، فأنزل اللّه تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللّوح المحفوظ إلى إسرافيل، و منه إلى جبرئيل، و منه إليك وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (5).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى اللّه، فلا بارك اللّه لي في طلوع شمسه» (6).

قيل: إنّ موسى عليه السّلام سأل اللّه تعالى زيادة العلم فأحاله اللّه إلى الخضر، و سأل نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله زيادة العلم و لم يحله إلى غيره، بل علّمه في مكتب (أدبنى ربى) و قال: عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (7).

سوره 20 (طه): آیه شماره 115

ثمّ لمّا أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بطلب ازدياد العلم المستلزم لحفظه من السهو و النسيان، ذكر سبحانه نسيان آدم و زلته، أو لمّا ذكر اهتمام النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتّحفظ في أمر الدين و حفظ القرآن، ذكر قلّة اهتمام آدم بالمحافظة لعهده بقوله: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ و وصّيناه بوصيّة لازمة الرّعاية، و هي النّهي عن الأكل من الشّجرة مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة. و عن ابن عباس: من قبل أن يأكل من الشجرة (8)

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)

ص: 255


1- . في تفسير الرازي: استتمام.
2- . في تفسير الرازي: يستتم.
3- . تفسير الرازي 22:122.
4- . تفسير الرازي 22:122.
5- . تفسير الرازي 22:122.
6- . مجمع البيان 7:52، تفسير الصافي 3:322.
7- . تفسير روح البيان 5:432.
8- . تفسير الرازي 22:124.

فَنَسِيَ و ترك الاهتمام بالعمل بالعهد وَ لَمْ نَجِدْ و لم نعلم لَهُ عَزْماً و ثباتا على العهد، و تصلّبا في امتثال النهى، فأزلّه الشيطان و غرّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه» و قد قال تعالى: وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً و المعنى أنّ آدم مع ذلك الحلم أثّرت فيه وسوسة الشيطان، فكيف في غيره؟ (1)

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها نسي فأكل منها» (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه قال لآدم و زوجته لا تقرباها، يعني لا تأكلا منها فقالا: نعم، و لا يستثنيا في قولهما فوكّلهما إلى أنفسهما و إلى ذكرهما» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى، قال اللّه: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ» (4).

و عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل: كيف أخذ اللّه آدم بالنسيان؟ فقال: «إنّه لم ينس، و كيف ينسى و هو يذكّره و يقول له إبليس: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ اَلشَّجَرَةِ إلى أخره» (5).

أقول: لا يمكن كون المراد بالنسيان ما يقابل الذّكر؛ لأنّه لا يجوز النسيان على النبيّ في وقت مع أنّ اللّه علّمه الأسماء كلّها، و أنّ الروايات الكثيرة دالة على تذكّره النّهي، فالأولى بل المتعيّن حمل النسيان على الترك.

عن الباقر عليه السّلام قال: «عهد اللّه إليه في محمّد و الأئمّة من بعده فترك، و لم يكن له عزم فيهم أنّهم هكذا، و إنّما سمّوا اولو العزم لأنّه عهد إليهم في محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الأوصياء من بعده و المهدي و سيرته، فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك و أقرّوا به» (6).

و عنه عليه السّلام-في حديث-قال: «و أخذ الميثاق على أولي العزم: أنّني ربّكم، و محمّد رسولي، و علي أمير المؤمنين و أوصياءه من بعده ولاة أمري و خزّان علمي، و أنّ المهديّ أنتصر به لديني، و أظهر به دولتي، و أنتقم به من أعدائي، و أعبد به طوعا و كرها. قالوا: أقررنا و شهدنا، و لم يجحد آدم و لم يقرّ، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، و لم يكن لآدم عزم على الإقرار به، و هو قوله تعالى:

ص: 256


1- . تفسير روح البيان 5:434.
2- . الكافي 8:113/92، كمال الدين:213/2، تفسير الصافي 3:323.
3- . الكافي 7:448/2، تفسير الصافي 3:323.
4- . علل الشرائع:15/1، تفسير الصافي 3:323.
5- . تفسير العياشي 2:138/1551، تفسير الصافي 3:323.
6- . بصائر الدرجات:90/1، علل الشرائع:122/1، تفسير الصافي 3:323.

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قال: إنّما هو فترك» (1).

أقول: لا بدّ من إيكال العلم بالمراد من هذه الروايات إلى الراسخين فيه.

سوره 20 (طه): آیه شماره 116 الی 127

ثمّ بيّن سبحانه قضية ترك عمل آدم بالعهد بقوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى.

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (122) قالَ اِهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (123) وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى (126) وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى (127)قيل: إنّ المراد اذكر يا محمّد حال آدم في ذلك الوقت ليتبيّن لك أنّه نسي و لم يكن من أولى العزم (2).

فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا الشيطان عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ حوّاء فَلا يُخْرِجَنَّكُما بتسويله مِنَ اَلْجَنَّةِ التي تسكنان فيها فَتَشْقى و تحرم عن نعمها و السّكونة فيها، و تبتليان بالمتاعب في الأرض، و إنّما أسند الشّقاء إلى آدم عليه السّلام مع أنّه و زوجته شريكان فيه، لاستلزام ابتلائه ابتلاءها من حيث كونه قيّما عليها، و كونها تابعة له.

ثمّ بيّن سبحانه السعادة التي يكون له فيها بقوله: إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ ما دمت فِيها لحضور أنواع المأكولات عندك وَ لا تَعْرى من الثّياب لكون الملبوسات موجودة لديك

وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا و لا تعطش فِيها لكون الأنهار جارية في أطرافك وَ لا تَضْحى و لا تصيبك حرارة

ص: 257


1- . بصائر الدرجات:90/2، تفسير الصافي 3:324.
2- . تفسير البيضاوي 2:59، تفسير روح البيان 5:434.

الشّمس؛ لأنّ الظلّ فيها ممدود

فَوَسْوَسَ مع ذلك إِلَيْهِ اَلشَّيْطانُ حيث قالَ بصورة النّصح: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ حتى تأكل منها فتدوم حياتك و راحتك وَ على مُلْكٍ و سلطنة لا يَبْلى و لا يزول، فيدوم انتظام معيشتك، فكأنّه قال آدم: نعم، فدلّه على الشجرة المنهيّة، فقرب هو و زوجته تلك الشجرة

فَأَكَلا مِنْها طمعا في ما وعدهما الشّيطان، فهبّت ريح فألقت التاج من رأسهما، و اختطفت الحلل من جسدهما فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما و ظهرت في نظرهما عوراتهما لعصيانهما نهي ربّهما وَ طَفِقا و شرعا يَخْصِفانِ و يلزقان عَلَيْهِما للسّتر مِنْ وَرَقِ تين اَلْجَنَّةِ.

قيل: كان ورق التّين مدوّرا، فصار بهذا الشكل من أصابعهما (1).

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ و خالف عهده فَغَوى و ضلّ عن مطلوبه، و هو الخلود أو التّباعد من الشجرة المنهيّة

ثُمَّ اِجْتَباهُ و اصطفاه رَبُّهُ بالتّوفيق للتّوبة فَتابَ عَلَيْهِ و قبل توبته و توبة زوجته حين تابا إليه وَ هَدى هما إلى الثّبات على التوبة و التمسّك بالعصمة،

ثمّ عاتب سبحانه آدم عليه السّلام و الشيطان و قالَ لهما: اخرجا من الجنّة و اِهْبِطا و انزلا إلى الأرض مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.

ثمّ خاطب ذرّيّة آدم بقوله: فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً من رسول و كتاب فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدايَ و أطاع رسولي و عمل بديني و كتابي فَلا يَضِلُّ عن الصّراط و دين الحقّ أبدا وَ لا يَشْقى في الآخرة بالابتلاء بالعقوبة.

و قيل: إنّ الخطاب في قوله: اِهْبِطا لآدم و حوّاء و قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ و ما بعده لذريّتهما (2).

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي و الرسول المبعوث من قبلي، و الكتاب المنزل منّي فَإِنَّ لَهُ في الدنيا، أو في القبر، أو فيها و في الآخرة مَعِيشَةً ضَنْكاً و ضيقا و ذات شدّة، أمّا في الدنيا فإنّه-ولو كان ذا ثروة و مال-مشغول القلب بجمعه و حفظه، و متالم دائما ممّا يرد عليه، و حريص على ازدياده و خائف من نقصه، و أمّا في الآخرة فإنّ مأواهم جهنّم، طعامهم فيها زقّوم و ضريع، و شرابهم حميم و صديد.

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «المعيشة الضّنك عذاب القبر و ضغطته» (3). و قيل: هو الكسب الحرام (4). و قيل: إنّه ضيق أبواب الخيرات عليه (3).

ص: 258


1- . تفسير روح البيان 5:437.
2- . تفسير الرازي 22:129. (3 و 4) . مجمع البيان 7:55.
3- . تفسير الرازي 22:131.

وَ نَحْشُرُهُ و نبعثه من قبره يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و هو أَعْمى و فاقد البصر لفقد بصيرته في الدنيا. و قيل: يعني أعمى عن طريق الخير، فيبقى متحيّرا (1).

قالَ ذلك المعرض عن الذّكر: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ في الدنيا بَصِيراً قالَ اللّه في جوابه: كَذلِكَ الجزاء كنت تستحقّه لأنّك أَتَتْكَ في الدنيا آياتُنا و الدلائل الدالّة على التوحيد و المعاد و رسالة الرّسل فَنَسِيتَها و تركت النّظر و التفكّر فيها و الإيمان بها.

و قيل: يعني مثل ذلك فعلت أنت (2)حيث إنّك أتتك آياتنا فنسيتها وَ كَذلِكَ النسيان الذي صدر منك في الدنيا اَلْيَوْمَ تُنْسى و تترك في العمى و العذاب

وَ كَذلِكَ الجزاء المناسب للعصيان نَجْزِي كلّ مَنْ أَسْرَفَ و أصرّ في إتيان القبائح و الآثام، و تجاوز عن الحدّ في العصيان، و كان من سرفه أنّه لم يصدّق وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ و براهين توحيد خالقه و منعمه وَ و اللّه لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ بالنّار و ما فيها من الشدائد، لغاية عظمته أَشَدُّ من عذاب الدنيا، و معيشة الضّنك وَ أَبْقى و أدوم منه لأنّه لا انقطاع له.

عن الصادق عليه السّلام: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قال: «هو و اللّه النّصّاب» قيل له: إنّا رأيناهم في دهرهم الأطول في الكفاية حتى ماتوا؟ قال: «ذلك في الرجعة، يأكلون العذرة» (3).

و عنه عليه السّلام في و قوله تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي قال: «ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام» أَعْمى قال: «يعني أعمى البصر في الآخرة، و أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و هو متحيّر في القيامة يقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى الآية» . قال: «الآيات الأئمّة فَنَسِيتَها تركتها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى أي تترك في النّار كما تركت الأئمّة فلم تطع أمرهم و لم تسمع قولهم» (4).

و عنه عليه السّلام: سئل عن رجل لم يحجّ قطّ و له مال. فقال: «هو ممّن قال اللّه: وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى» قيل: سبحان اللّه أعمى؟ فقال: «أعماه اللّه عن طريق الخير» (5).

و عن القمي: «عن طريق الجنّة» (6).

و عنه عليه السّلام في قوله: وَ كَذلِكَ نَجْزِي الآية «يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام غيره وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ترك الأئمّة معاندة، فلم يتّبع آثارهم و لم يتولّهم» (7).

ص: 259


1- . مجمع البيان 7:56.
2- . تفسير أبي السعود 6:48.
3- . تفسير القمي 2:65، تفسير الصافي 3:325، و في النسخة: يأكلون الغدق.
4- . الكافي 1:361/92، تفسير الصافي 3:325.
5- . من لا يحضره الفقيه 2:273/1332، مجمع البيان 7:56، تفسير الصافي 3:325.
6- . تفسير القمي 2:66، تفسير الصافي 3:326.
7- . الكافي 1:361/92، تفسير الصافي 3:326.

أقول: هذه الروايات في تأويل الآيات لا تفسيرها.

سوره 20 (طه): آیه شماره 128 الی 129

ثمّ وبّخ سبحانه المعرضين عن الآيات بعدم اعتبارهم بما نزل على الامم الماضية من العذاب بقوله: أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ قيل: إنّ المعنى أغفلوا فلم يتبيّن لهم (1)أنّا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ و في الأعصار السّابقة على عصرهم مِنَ اَلْقُرُونِ و الامم المكذّبة لرسلهم المعرضة عن آيات ربّهم و هم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ غافلين آمنين ممّا نزل بهم.

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي اَلنُّهى (128) وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129)و قيل: يعني و قريش المعرضون عن الآيات يمشون في مساكن اولئك الامم المهلكة و قراهم، كقرى ثمود، و قوم لوط، و أصحاب الحجر، حين مسافرتهم إلى الشّام، و يشاهدون الآثار الدالّة على ما كانوا عليه من النّعم، و ما حلّ بهم من أنواع العذاب و الهلاك (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب النازل على الامم السّابقة بتكذيبهم الرسل و إعراضهم عن معجزاتهم، و اللّه لَآياتٍ على توحيد اللّه و قهّاريته لِأُولِي اَلنُّهى و العقول السّليمة الناهية عن القبائح و الأعمال السيّئة.

ثمّ بيّن سبحانه علّة تأخير العذاب عن المعرضين عن الرسول و معجزاته بقوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ وعدة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير عذاب هذه الامّة إلى القيامة ببركة الرسول لَكانَ العذاب في هذه الدنيا على كفرهم و عنادهم للحقّ لِزاماً و واجبا فوريّا بحيث لم يتأخّر عن جناياتهم ساعة، كما صار لازما للماضين من الامم المكذّبة وَ لولا أَجَلٌ مُسَمًّى لأعمارهم، أو لنزول العذاب عليهم، و هو يوم بدر أو القيامة، لما تأخّر عنهم أصلا.

قيل: الفصل بين المعطوف و هو أَجَلٌ مُسَمًّى و المعطوف عليه و هو لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ للدّلالة على استقلال كلّ واحد منهما في مانعيّة نزول العذاب (3).

القمي قال: اللّزام الهلاك، قال: يعني كان ينزل بهم العذاب، و لكن قد أخّرهم إلى أجل مسمّى (4).

سوره 20 (طه): آیه شماره 130

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ اَلنَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)

ص: 260


1- . تفسير أبي السعود 6:49، تفسير روح البيان 5:443.
2- . تفسير الرازي 22:132، تفسير أبي السعود 6:49، تفسير روح البيان 5:443.
3- . تفسير أبي السعود 6:49، تفسير روح البيان 5:443.
4- . تفسير القمي 2:66، تفسير الصافي 3:326.

ثمّ لمّا أخبر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتأخير عذاب قومه، أمره بالصبر على أذاهم بقوله: فَاصْبِرْ يا محمّد عَلى ما يَقُولُونَ من أنّك ساحر أو كاهن أو مجنون أو شاعر أو غيرها وَ سَبِّحْ و نزّه مقارنا بِحَمْدِ رَبِّكَ أو صلّ حامدا له تعالى على ما أنعم عليك من الرسالة و دين الحقّ و التّوفيق للقيام بوظيفة العبوديّة و قوّة الصبر قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها.

في فضيلة ذكر اللّه

قبل طلوع الشمس

و قبل الغروب

روي أنّ الذّكر و التسبيح إلى طلوع الشمس أفضل من إعتاق ثمانين رقبة من ولد إسماعيل (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «فريضة على مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات و قبل غروبها عشر مرّات: لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت و يميت و يحيي و هو حيّ لا يموت، بيده الخير و هو على كلّ شيء قدير (2).

وَ بعضا مِنْ آناءِ اَللَّيْلِ و ساعاته فَسَبِّحْ اللّه و قدّسه وَ كذا أَطْرافَ اَلنَّهارِ فسبّحه، و إنّما قدّم الوقت للدّلالة على مزيد الفضل.

و قيل: إنّ المراد بالتّسبيح الصلاة التطوّعية (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «التطوّع بالنّهار» (4).

لَعَلَّكَ تنال عنده تعالى ما تَرْضى به من المقام المحمود، أو الشفاعة، أو النّعم العظيمة.

عن ابن عبّاس: دخلت الصّلوات الخمس فيه؛ فقبل طلوع الشمس: هو صلاة الفجر، و قبل غروبها: هو الظهر و العصر؛ لأنّهما جميعا قبل الغروب، و من آناء الليل فسبّح: المغرب و العشاء الآخرة (5).

و قيل: إنّ قوله: وَ أَطْرافَ اَلنَّهارِ يكون تأكيدا للصّلاتين (6)الواقعتين في طرفي النّهار، و هما صلاة الفجر و المغرب (7).

و إنّما أمره اللّه بعد الأمر بالصّبر بالتّسبيح و الصّلاة؛ لأنّ ذكر اللّه و التوجّه إليه يفيد السّكون و الراحة للقلوب، كما قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ (8).

سوره 20 (طه): آیه شماره 131

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (131)

ص: 261


1- . تفسير روح البيان 5:444.
2- . الخصال:452/58، تفسير الصافي 3:326.
3- . تفسير الصافي 3:327.
4- . الكافي 3:444/11، تفسير الصافي 3:327.
5- . تفسير الرازي 22:133.
6- . في النسخة: للصلاة.
7- . تفسير الرازي 22:133.
8- . الرعد:13/28.

ثمّ نهى سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن التوجّه إلى الزّخارف التي بيد المشركين و الرّغبة إلى دنياهم بقوله: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ و لا تطلن نظرك استحسانا و إعجابا إِلى ما مَتَّعْنا و نفعنا بِهِ من الزّخارف الدنيويّة أَزْواجاً من الكفّار و أصنافا مِنْهُمْ كالوثنيّ، و اليهود، و النصارى و غيرهم، إنّها تكون زَهْرَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و زينتها و بهجتها لِنَفْتِنَهُمْ و نختبرهم فِيهِ أو نعذّبهم به وَ رِزْقُ رَبِّكَ و عطاؤه من الكفاف في الدنيا و الثواب في الآخرة، أو الهدى و النبوّة خَيْرٌ و أفضل ممّا عند الكفرة من الأموال الوفيرة وَ أَبْقى و أدوم لعدم انقطاعه أبدا.

روي أنّه نزل ضيف بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال الراوي: فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف فقال: و اللّه لا أفعل ذلك إلاّ برهن، فأخبرته بقوله، فأمرني أن أذهب بدرعه إليه، فنزلت الآية (1).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم، و لا إلى أموالكم، و لكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت الآية استوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا ثمّ قال: من لم يتعزّ بعزاء اللّه تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات، و من اتّبع بصره ما في أيدي الناس طال همّه و لم يشف غيظه، و من لم يعرف أنّ للّه عليه نعمة إلاّ في مطعم أو مشرب قصر أجله و دنا عذابه» (3).

و عنه عليه السّلام: «إيّاك أن تطمح بصرك إلى من [هو]فوقك، و كفى بما قال اللّه عزّ و جلّ لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ (4)و قال: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية» (5).

سوره 20 (طه): آیه شماره 132

ثمّ بعد أمره تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّسبيح و الصلاة، أمره أن يأمر أقاربه بها بقوله: وَ أْمُرْ يا محمّد أَهْلَكَ و خاصّة أقاربك بِالصَّلاةِ كما أمرناك بها وَ اِصْطَبِرْ و داوم أنت و هم عَلَيْها و اجتهدوا فيها، فإنّا بأمرنا هذا لا نَسْئَلُكَ و لا نطلب منك رِزْقاً و نفعا لنا فإنّا نَحْنُ نَرْزُقُكَ.

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)و قيل: يعني لا نكلّفك أن ترزق نفسك و أهلك، بل نحن نرزقك و نرزق أهلك في الدنيا بوجوه النّعم، و في الآخرة بعظائم الثّواب (6)، ففرّغ بالك للعبادة و أمر الآخرة وَ اَلْعاقِبَةُ المحمودة من الجنّة

ص: 262


1- . تفسير الرازي 22:135، تفسير روح البيان 5:446.
2- . تفسير الرازي 22:135.
3- . تفسير القمي 2:66، تفسير الصافي 3:327.
4- . التوبة:9/55.
5- . الكافي 8:168/189، تفسير الصافي 3:327.
6- . تفسير الرازي 22:137.

و النّعم الدّائمة لِلتَّقْوى و أهلها لا لأهل الدنيا.

روى الفخر الرازي و غيره من العامة أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان بعد نزول [هذه]الآية يذهب إلى باب فاطمة و علي عليهما السّلام كلّ صباح و يقول: «الصّلاة» ، [و]كان يفعل ذلك أشهرا (1).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يخصّ أهل بيته و نفسه دون الناس، ليعلم الناس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست لغيرهم، فأمرهم مع الناس عامة، ثمّ أمرهم خاصّة» (2).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «خصّنا اللّه بهذه الخصوصية، إذ أمرنا مع الامّة بإقامة الصّلاة، ثمّ خصّنا من دون الامّة، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يجيئ إلى باب علي و فاطمة عليهما السّلام بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات، فيقول: الصلاة رحمكم اللّه، و ما أكرم اللّه أحدا من ذراريّ الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا [بها]و خصّنا من دون جميع أهل بيتهم» (3).

سوره 20 (طه): آیه شماره 133 الی 135

ثمّ لمّا أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصبر على أقوال المشركين، حكى اعتراضهم على الرسول و شبهتهم في رسالته بقوله: وَ قالُوا إضلالا للنّاس و إلقاء للشّبهة في قلوبهم: لَوْ لا و هلاّ يَأْتِينا محمّد بِآيَةٍ و معجزة ممّا اقترحنا عليه مِنْ رَبِّهِ لتكون دليلا على صدقه في دعوى نبوّته؟ ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ قيل: إنّ التقدير: ألم تأتهم المعجزات الكثيرة؟ ! و لم تأتهم بَيِّنَةُ ما فِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى و الكتب السماويّة السابقة من العقائد الحقّة و اصول الأحكام التي اجتمعت عليها كافّة الرسل و أخبار الامم السالفة، مع أنّه لم يشتغل بالدراسة و التعلّم، و لم يقرأ كتابا، و لم ير عالما، و هذا من أعظم المعجزات، لأنّه من الإخبار بالمغيبات (4).

وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى (133) وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ اَلصِّراطِ اَلسَّوِيِّ وَ مَنِ اِهْتَدى (135)و قيل: إنّ المراد ب(بيّنة ما في الصّحف الاولى) ما فيها من البشارة ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نبوته (5).

و قيل: إنّها أخبار الامم الّذين أهلكهم اللّه بعد سؤالهم الآيات من رسلهم و كفرهم بها، و إنّه تعالى

ص: 263


1- . تفسير الرازي 22:137، تفسير روح البيان 5:448.
2- . مجمع البيان 7:60، عوالي اللآلي 2:22/49 تفسير الصافي 3:327.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:240/1، تفسير الصافي 3:327. (4 و 5) . تفسير الرازي 22:137.

كيف عاجلهم بالعقوبة، فماذا يؤمّنهم من أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال اولئك، و على أيّ تقدير لمّا كان كلّ من الامور المذكورة في القرآن شاهدا على صدق نبوّته، وصفه اللّه بكونه بيّنة. و تذكير الضّمير الراجع إلى (البيّنة) لأنّها في معنى الدليل البرهان (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أتمّ الحجّة على الكفّار و المشركين ببعثة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ أيّ عذاب كان، أو بعذاب مستأصل في الدنيا سابقا على بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إتيان البيّنة و مِنْ قَبْلِهِ لكفرهم و شركهم، لكان العذاب قبل إتمام الحجّة و لَقالُوا يوم القيامة احتجاجا علينا: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا في الدنيا رَسُولاً يبلّغنا دينك، و يقرأ علينا كتابك، و يعلّمنا أحكامك فَنَتَّبِعَ بارشاده آياتِكَ المنزلة، و نطيع أحكامك المقرّرة المشروعة، و نكون من المؤمنين الصالحين مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالضلال و القتل و الأسر في الدنيا وَ نَخْزى بالابتلاء بالعذاب الشّديد، و الدخول في النار في الآخرة، و أمّا اليوم فقد تمّت عليهم الحجّة، و انقطع عذرهم في الكفر و الضلال، و انسدّ باب حجّتهم علينا ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إنزال القرآن، إن عذّبناهم في الدنيا أو في الآخرة فليس لهم أن يأمنوا من نزول العذاب عليهم كما نزل على الامم السابقة مع كمال استحقاقهم له.

ثمّ هدّدهم بالعذاب بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: كُلٌّ منّا و منكم مُتَرَبِّصٌ و منتظر لعاقبة الأمر و آثار العقائد و الأعمال في الدنيا و قبل الموت، فترى لأيّنا الدولة و الشوكة و نفوذ الكلمة، و في الآخرة يكون لأيّنا الثواب و الكرامة عند اللّه و العقاب و أنواع الهوان.

روي أنّ المشركين قالوا: نتربّص بمحمّد حوادث الدّهر، فإذا مات تخلّصنا منه (2)، فأجابهم اللّه بقوله: فَتَرَبَّصُوا و انتظروا أيّها المشركون فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب إذا جاء أمر اللّه تعالى مَنْ أَصْحابُ اَلصِّراطِ اَلسَّوِيِّ و الطريق المستقيم الموصل إلى كلّ خير دنيويّ و اخروي وَ مَنِ اِهْتَدى إلى دين الحقّ و طريق الصواب، أنحن أم أنتم؟ و فيه غاية التّهديد و الوعيد.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث «قيل: و من الوليّ يا رسول اللّه؟ قال: وليّكم في هذا الزمان أنا، و من بعدي وصيّي، و من بعد وصيّي لكلّ زمان حجج للّه، لكيلا يقولوا (3)كما قال الضّلاّل من قبلكم [حين]فارقهم نبيّهم: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً الآية، و إنّما كان تمام ضلالتهم جهالتهم بالآيات، و هم الأوصياء، فأجابهم اللّه بقوله: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ الآية، و إنّما كان

ص: 264


1- . تفسير الرازي 22:137.
2- . تفسير روح البيان 5:450.
3- . في كشف المحجة: كيما لا تقولون.

تربّصهم أن قالوا: نحن في سعة من معرفة الأوصياء حتى يعلن إمام علمه» (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «لا تدعوا قراءة سورة طه، فإنّ اللّه يحبّها [و يحبّ من قرأها]، و من أدمن قراءتها أعطاه اللّه يوم القيامة كتابه بيمينه، و لم يحاسبه بما عمل في الإسلام، و اعطي في الآخرة [من الأجر]حتى يرضى» (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة طه اعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين و الأنصار» (3).

و قال: «ما يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلاّ سورة طه و يس» (4).

وفقّنا اللّه لتلاوتها، و للّه الحمد و المنّة على توفيقنا لإتمام تفسيرها، و نسأله التوفيق لتفسير ما بعدها.

ص: 265


1- . كشف المحجة:273، تفسير الصافي 3:328.
2- . ثواب الأعمال:108، مجمع البيان 7:1، تفسير الصافي 3:329. (3 و 4) . مجمع البيان 7:1، تفسير أبي السعود 6:52.

ص: 266

في تفسير سورة الأنبياء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختم اللّه سورة طه بتهديد المعرضين عن القرآن بالعذاب الدنيوي و الاخروي، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالصّبر على مقالات المشركين، و ذكر شبهتهم في الرسالة و الجواب عنها، و تنبيههم بتماميّة الحجّة عليهم ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قطع عذرهم بما في الكتب السماوية، و تهديدهم بالعذاب بقوله: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ اَلصِّراطِ اَلسَّوِيِّ، أردفها بسورة الأنبياء المبدوءة بتهديد المعرضين عن التفكّر في أمر الآخرة، و غفلتهم عن قرب القيامة، و توبيخهم لإعراضهم عن الذّكر و القرآن، و استهزائهم به، و ذكر شبهتهم في رسالة الرسول بأنّه بشر، و نسبتهم معجزاته إلى السّحر، و طلبهم منه غير ما أتى به من المعجزات، و سائر أقاويلهم الباطلة التي لا تليق به، و تهديدهم بعذاب الاستئصال، و الاستدلال على التوحيد و البعث، و ذكر قصص الأنبياء الماضين و الامم المهلكة السابقة بقوله: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ (1)، إلى غير ذلك من المطالب المربوطة بالسورة السابقة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)فابتدء فيها بذكر الأسماء المباركات على حسب دأبه تعالى في كتابه المجيد بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها بتهديد المشركين المعرضين عن الآخرة بقوله: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ و دنا منهم اليوم الذي فيه حِسابُهُمْ لجزاء أعمالهم؛ لأنّ كلّ آت قريب و إن طالت مدّة ترقّبه، أو لأنّ كلّ ساعة أقرب إليهم منه في الساعة السابقة، أو لأنّ بعثه من أشراط الساعة حيث قال صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت أنا و الساعة كهاتين» (2)و ضمّ بين إصبعيه وَ هُمْ مستقرّون فِي غَفْلَةٍ تامّة منه، ساهون بالكليّة عنه، منكرون له،

ص: 267


1- . طه:20/99.
2- . مجمع البيان 7:62، تفسير الصافي 3:330، تفسير الرازي 22:139.

مع حكم العقل بوجوب إتيانه مُعْرِضُونَ عن الآيات المنبّهة لهم عن غفلتهم.

و في إسناد الاقتراب إلى الحساب لا إلى النّاس، للدّلالة على أنّه مقبل إليهم، كأنّه يطلبهم و يصل إليهم لا محالة، و تقديم لِلنّاسِ على حِسابُهُمْ للمسارعة إلى إرعابهم.

ثمّ وبّخهم على إعراضهم عن الآيات القرآنية بقوله: و ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ و وعظ مِنْ رَبِّهِمْ في القرآن يذكّرهم الحساب أكمل تذكير مُحْدَثٍ وقتا بعد وقت إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ به و يسخرون منه،

و هم (1)لاهِيَةً و متشاغلة قُلُوبُهُمْ عمّا يهمّهم من عواقب أمرهم و حال ما بعد موتهم بما لا يفيدهم من أمر الدنيا و جمع زخارفها و الالتذاذ بشهواتها.

ثمّ بيّن سبحانه علّة استهزائهم بالقرآن أنّها إنكارهم الرسالة الذّي هو أثر جناياتهم بقوله: وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى و بالغوا في إخفاء ما تناجوا به، أو أسرّوا نفس تناجيهم حتى لا يشعر أحد به، و هم اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بأفحش الظّلم في ما أسرّوا به، و قالوا في نجواهم قدحا في رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله: هَلْ هذا الرجل إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يأكل و يمشي فلا مزيّة له عليكم حتى يكون رسولا، و ما أتى بمعجزة، بل ما أتى به فهو سحر أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ و تحضرونه و تقبلونه منه وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ و تعاينون أنّه سحر؟ و إنّما قالوا ذلك لاعتقادهم أنّه لا يكون الرسول إلاّ ملكا، و لا يكون ما يأتي البشر إلاّ سحرا.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 4 الی 8

ثمّ حكى سبحانه قول نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بعد إطّلاعه على سرّهم بالوحي بقوله: قالَ الرسول: إن كنتم أخفيتم قولكم منّي، و طعنكم في رسالتي، لا تقدرون على إخفائه من اللّه، لأنّ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ الّذي يكون فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ سرّا كان أو جهرا وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ للمسموعات من الأقوال

قالَ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ اِفْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ (8)

ص: 268


1- . لا يصحّ موقع (و هم) الإعرابي مع لفظ الآية إلاّ على رفع (لاهية) و الرفع قراءة. قال صاحب الكشاف: (و هم يلعبون لاهية قلوبهم) حالان مترادفان، أو متداخلان، و من قرأ (لاهية) بالرفع فالحال واحدة؛ لأن (لاهية قلوبهم) خبر بعد خبر لقوله (و هم) . الكشاف 3:102.

اَلْعَلِيمُ بجميع المعلومات من الأحوال.

ثمّ عاد سبحانه إلى حكاية بعض أقوالهم الاخر بقوله: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ يعني أنّهم لم يكتفوا بنسبة القرآن إلى السّحر، بل قالوا: إنّه أباطيل يراها في المنامات الكاذبة، فتخيّل أنّها من اللّه، فأسندها إليه بَلِ اِفْتَراهُ على اللّه من قبل نفسه من غير وحي أو رؤية في المنام بَلْ هُوَ شاعِرٌ لفّق الكلام الفصيح المقفّى، فخيّل إلى الناس أنّه من اللّه، و على أيّ تقدير ليس كتابه معجزة مثبتة للنبوّة، و لو فرض أنّه مع كونه بشرا يكون رسولا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ و معجزة قاهرة لا تتطرّق إليها الاحتمالات المذكورة كَما أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ و الأنبياء السّابقون بآيات قاهرة و معجزات عظيمة كالعصا و اليد البيضاء و إحياء الموتى حتى نؤمن به.

ثمّ كذّبهم اللّه في وعدهم الإيمان عند إجابتهم في مقترحاتهم بقوله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ و بلدة كنّا أَهْلَكْناها بعذاب الاستئصال لعدم إيمانهم بعد إجابتهم في ما اقترحوه من الآيات أَ فَهُمْ مع شدّة لجاجهم و غاية عنادهم لك يا محمّد يُؤْمِنُونَ بك؟ كلاّ فإنّهم أعتى من الامم الماضية المهلكة.

ثمّ أجاب سبحانه عن شبهتهم في رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بكونه بشر بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمّد إلى قرية أو امّة إِلاّ رِجالاً ممتازين عن سائر الناس بالمعارف و كرامة الصفات، فخصّصناهم بأن نُوحِي إِلَيْهِمْ الشرائع و الأحكام بتوسّط الملك، كما نوحي إليك مع أنّك أوّل رجل في عالم الوجود، فإن لا يقبلوا قولك قل لهم: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ و العلماء بالكتب السماويّة و أحوال الرسل الماضيّة إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أحوالهم حتى تعلموا و تزول شبهتكم،

ثمّ أكّد كون عادته تعالى إرسال البشر دون الملك بقوله: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً ملكوتيّا لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ غنيّا عنه كالملائكة، بل جعلناهم محتاجين إليه كما تحتاجون وَ ما كانُوا خالِدِينَ في الدّنيا كالملائكة، بل كانوا ميّتين كما أنتم تموتون.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ أنّهم مع تفرّدهم و معارضة الناس وعدناهم النّصر على عموم الكفّار ثُمَّ صَدَقْناهُمُ اَلْوَعْدَ و وفينا بالعهد الذي عاهدناكم من نصرتهم و إهلاك أعدائهم فَأَنْجَيْناهُمْ من العذاب حين نزوله على مكذّبيهم وَ مَنْ نَشاءُ من المؤمنين بهم وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ المصرّين على الكفر

ص: 269

المجاوزين في الطّغيان بعذاب الاستئصال عقوبة لهم و عبرة لمن يأتي بعدهم و يسمع خبرهم.

ثُمَّ صَدَقْناهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10)

ثمّ بيّن اللّه سبحانه عظيم نعمته على هذه الامّة بقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيّها النّاس بواسطة محمّد كِتاباً عظيم الشأن يكون فِيهِ ذِكْرُكُمْ و عظتكم، لتحذّروا من موجبات هلاككم، أو فيه ذكر دينكم و بيان ما يلزمكم و ما لا يلزم عليكم، كي تفوزوا بالعمل به بالجنّة، أو فيه شرفكم وصيتكم أَ فَلا تَعْقِلُونَ. قيل: إنّ التقدير: ألا تفكّرون فلا تعقلون أنّ الأمر كذلك (1)؟ فإنّ تعقّله لا يكون إلاّ بالتّدبّر فيه، أو المعنى: ألا يكون لكم عقل يبعثكم إلى التدبّر في القرآن و الإتّعاظ و العمل بما فيه؟

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 11 الی 15

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة هلاك المسرفين إرعابا للقلوب بقوله: وَ كَمْ قَصَمْنا و كثيرا كسرنا كسرا فظيعا بحيث تفتّتت الأجزاء مِنْ قَرْيَةٍ و أهالي مدينة كانَتْ ظالِمَةً على أنفسهم بالإعراض عن الآيات و تكذيب الرسل وَ أَنْشَأْنا و أوجدنا بَعْدَها و وراء إهلاكها قَوْماً آخَرِينَ لم يكونوا منهم نسبا و دينا

فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا و استشعروا بعذابنا المستأصل و هم في القرية إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ و يهربون و يسرعون في العدو للخروج منها خوفا من المهالك.

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (14) فَما زاَلَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)قيل: هي قرية حضور باليمن، بعث اللّه إليهم نبيّا فقتلوه، فسلّط اللّه عليهم بخت نصّر فاستأصلهم (2).

روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء: يالثارات الأنبياء (3).

فقيل لهم توبيخا و تهكّما: لا تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ و أبطرتم فِيهِ من النّعم و رفاه العيش وَ مَساكِنِكُمْ المرضيّة لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ غدا عمّا جرى عليكم و نزل بأموالكم و مساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم و مشاهدة، أو يسألكم النّاس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب، و يستشيرونكم في المهمّات، و يستعينون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم و الطّامعون فيكم.

فلمّا يأسوا من الخلاص بالهرب، و أيقنوا بهلاكهم بالعذاب قالُوا تأسّفا و تحسّرا و ندما: يا وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر، فهذا أوانك إِنّا كُنّا بأعمالنا ظالِمِينَ على أنفسنا و مستحقّين لهذا

ص: 270


1- . تفسير أبي السعود 6:58، تفسير روح البيان 5:457. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:146.

العذاب،

و لكن لم ينفعهم الاعتراف بذنوبهم و النّدم عليها فَما زاَلَتْ تِلْكَ الكلمة و الدعوة بالويل دَعْواهُمْ و نداءهم حَتّى جَعَلْناهُمْ مثل الزّرع الذي صار حَصِيداً بالدّياس خامِدِينَ ميّتين لا حسّ لهم و لا حراك و لا أثر كالنّار الخامدة.

عن السجاد عليه السّلام: «لقذ أسمعكم اللّه في كتابه ما فعل بالقوم الظّالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، و إنّما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فقال عزّ و جلّ: فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يعني يهربون، قال: فلما آتاهم العذاب قالُوا يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ قال: و أيم اللّه إنّ هذه عظة لكم و تخويف إن اتّعظتم و خفتم» (1).

و عن الباقر عليه السّلام في تأويله: «إذا قام القائم و بعث إلى بني اميّة بالشام، هربوا إلى الرّوم، فيقول لهم الرّوم: لا ندخلنّكم حتى تتنصّروا فيعلّقون في أعناقهم الصّلبان فيدخلونهم، فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان و الصّلح، فيقول أصحاب القائم: لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منّا، فيدفعونهم إليهم، فذلك قوله: لا تَرْكُضُوا إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قال: يسألهم الكنوز و هو أعلم بها، فيقولون: يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ إلى قوله: خامِدِينَ أي بالسّيف» (2).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 16 الی 19

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعذيبه الظّالمين بيّن أنّ حكمة خلق العالم إقامة العدل و مجازاة أهل الظّلم بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من عجائب المخلوقات حال كوننا لاعِبِينَ و عابثين بالخلق، بل خلقناها لمعرفة بني آدم ربّهم بالنظر إليها و التفكّر فيها، و لتكميل نفوسهم، و قيامهم بوظيفة عبوديّة خالقهم، و شكر المنعم عليهم، و فعليّة استعدادهم و قابليّتهم للنّعم الأبديّة المعدّة لهم في الآخرة، و لإقامة العدل و مجازاة الظّالمين، فعليهم التفكّر في المخلوقات و الاجتهاد في الطاعة و الشكر، لا الانهماك في الشّهوات، و معارضة الحقّ، و مشاقّة الرّسل، و الظلم على النفس و العباد.

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ (18) وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19)

و لَوْ أَرَدْنا و أحببنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً و نشتغل بلعب لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا و من جهة قدرتنا

ص: 271


1- . الكافي 8:74/29، تفسير الصافي 3:332.
2- . الكافي 8:51/15، تفسير الصافي 3:332.

على ما نريد، أو من عندنا و ما يليق بشأننا من الرّوحانيات و المجرّدات إِنْ كُنّا فاعِلِينَ للّعب و اللّهو، لا من الأجسام المرفوعة كالسماوات و الأجرام الموضوعة كالأرضين مثل ديدن الجبابرة في رفع العروش و تحسينها و تسوية الفرش و تزيينها بغرض الالتذاذ و التشهّي، و لكنّا لا نريد اللّهو و اللّعب أبدا لمنافاته الحكمة البالغة التي تكون لنا.

و قيل: إنّ المراد باللّهو الولد أو الزّوجة (1).

و قيل: (إن) في قوله: إِنْ كُنّا فاعِلِينَ نافية، و المعنى ما كنّا فاعلين (2).

بَلْ نَقْذِفُ و نرمي بِالْحَقِّ الذي هو الجدّ و العدل و القرآن، كالحجر الصّلب عَلَى اَلْباطِلِ الذي من جملته اللّعب و الظّلم و الكفر و غيرها ممّا ينافي الحكمة، و لا ثبات له عند التحقيق فَيَدْمَغُهُ و يهلكه و يمحقه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ و ذاهب بالكلّية، و هالك بالفور، و إنّما استعار القذف الذي هو بمعنى الرمي الشديد البعيد المستلزم لصلابة المرميّ و إعدام ما وصل إليه و محوه، لتغليب الحقّ على الباطل، و استعارة الدّمغ الذي هو بمعنى كسر الدماغ بحيث يشقّ غشاؤه (3)المؤدّي إلى زهوق الروح، لمحق (4)الباطل، لغاية المبالغة و تمكين الهيئة المعقولة في ذهن السامع غاية التمكين.

عن الصادق عليه السّلام: «ليس من باطل يقوم بإزاء حقّ إلاّ غلب الحقّ الباطل، و ذلك قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ الآية» (5).

ثمّ هدّد قريشا بمثل ما لاولئك من العذاب بقوله: وَ لَكُمُ معشر قريش اَلْوَيْلُ و الهلاك (من) أجل ما تَصِفُونَ اللّه بما لا يليق بشأنه من اتخاذ الشريك و الولد،

ثمّ قرّر تفرّده منهما بقوله: وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا و تدبيرا، بلا دخل لغيره في شيء منها استقلالا و استتباعا وَ مَنْ عِنْدَهُ من الملائكة الّذين يزعمون أنّهم شركاؤه أو بناته، مع كمال شرفهم و عظمهم و قربهم و علوّ رتبتهم، كلّهم عبيده لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ و لا يتعظّمون عن طاعته وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ و لا يعيون عنها مع ثقلها و دوامها، و كانت عبادتهم أنّهم يُسَبِّحُونَ و ينزّهون اللّه اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ ممّا لا يليق به من الشريك و الولد و النقص و الحاجة و يعظّمونه على الدوام و لا يَفْتُرُونَ و لا يتوانون فيه طرفة عين، و لا يتخلّل تسبيحهم فراغ و لا شغل آخر.

قيل: إنّ التسبيح لهم كالتنفّس [لنا]فلا يمنعهم من عمل آخر، و إن كان لعن من استحقّ اللّعن (6).

ص: 272


1- . تفسير أبي السعود 6:60، تفسير روح البيان 5:460.
2- . تفسير أبي السعود 6:59.
3- . في النسخة: عصائه، راجع: تفسير روح البيان 5:461.
4- . في النسخة: تحق.
5- . المحاسن:226/152، تفسير الصافي 3:333.
6- . تفسير روح البيان 5:462.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 20 الی 23

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الملائكة أينامون؟ فقال: «ما من حيّ إلاّ و هو ينام ما خلا اللّه وحده، و الملائكة ينامون» فقيل: يقول اللّه تعالى: يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ قال: «أنفاسهم تسبيح» (1).

يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23)و في رواية اخرى: «ليس شيء من أطباق أجسادهم إلاّ و يسبّح اللّه عزّ و جلّ و يحمده من ناحيته بأصوات مختلفة» (2).

و قيل: يعني لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته لا دوام الاشتغال به (3). و فيه أنّه خلاف الظاهر.

ثمّ وبّخهم سبحانه على إشراكهم و ادّعائهم قدرة آلهتهم على إحياء الموتى بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا و اختاروا لأنفسهم آلِهَةً و معبودين مِنَ جنس ما في اَلْأَرْضِ كالخشب و الحجر و الذّهب و الفضّة و غيرها و قالوا: هُمْ يُنْشِرُونَ و يحيون الموتى مع كونهم في أنفسهم أموات لا يشعرون، و لا يقول به من له عقل و شعور.

و قيل: إنّ هذه الدعوى لازم قولهم بالوهيّتهم، لا أنّهم صرّحوا به؛ لأنّهم لا يثبتون الإنشار للّه، فكيف يثبتونه لالهتهم (4).

ثمّ أبطل قولهم الشنيع بقوله: لَوْ كانَ في السّماوات و الأرض و وجد فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ و غيره تعالى يكون كلّ واحد منهم متصرّفا فيها بالخلق و التدبير لَفَسَدَتا و خرجتا بما فيهما من الاعتدال و النّظام الأتمّ، سواء أكان اللّه معهم أو لا، أو المراد لبطلتا و تفطّرتا لأنّه مع فرض قدرة كلّ واحد منهم على الاستقلال في الخلق و التدبير و اتفاقهم في المراد و الإيجاد بالاستقلال، لزم توارد العلل على معلول واحد و هو محال، و مع تخالفهم في المراد و التزاحم يلزم التعاوق و عدم وجود موجود أصلا، و مع عدم التزاحم يلزم التعطيل في الواجب و الترجيح بلا مرجّح، و مع عجز كلّ واحد عن الاستقلال يلزم النقص في الواجب.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما الدّليل على أنّ اللّه واحد؟ قال: «إتّصال التدبير و كمال (5)الصّنع، كما قال

ص: 273


1- . كمال الدين:666/8، تفسير الصافي 3:334.
2- . التوحيد:280/6، تفسير الصافي 3:334.
3- . تفسير روح البيان 5:462.
4- . تفسير روح البيان 5:463.
5- . في التوحيد: و تمام.

اللّه عزّ و جلّ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا» (1).

ثمّ رتّب سبحانه على ذلك الدليل تنافي الالوهيّة للمشاركة فيها بقوله: فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ و نزّهوه تنزيها لا يقال إلاّ له [لأنه]المدبّر لجميع الموجودات لعلّة الوهيّته و ربوبيّته عَمّا يَصِفُونَ ذاته المقدّسة بما لا يليق به من النقائص التي من جملتها كون الشريك و الولد له.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات تفرّده في الالوهيّة بيّن كمال عظمته و قوّة سلطانه بقوله: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ و لا يناقشه أحد في ما يصدر منه من حكم و تقدير و إثابة و تعذيب وَ هُمْ لكونهم عبيده و تحت قدرته و سلطانه يُسْئَلُونَ عمّا يفعلون نقير أو قطمير، و فيه تهديد و وعيد للكفّار و المشركين.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني بذلك خلقه أنّهم يسألون» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل: و كيف لا يسأل عمّا يفعل؟ فقال: «لأنّه لا يفعل إلاّ ما كان حكمة و صوابا، و هو المتكبّر الجبّار و الواحد القهّار، فمن وجد في نفسه حرجا في شيء ممّا قضى [فقد]كفر، و من أنكر شيئا من أفعاله جحد» (3).

عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «قال اللّه تعالى: يابن آدم، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويّا، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذلك أنّي أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيّئاتك منّي، و ذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل و هم يسألون (4)» .

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 24 الی 27

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الوهيّة غيره بالبرهان، أعاد التّوبيخ عليهم بإشراكهم بلا دليل بقوله: أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً مع عرائها من خصائص الالوهيّة قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين تبكيتا

أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)

ص: 274


1- . التوحيد:250/2، تفسير الصافي 3:334.
2- . علل الشرائع:106/1، تفسير الصافي 3:334.
3- . التوحيد:397/13، تفسير الصافي 3:334.
4- . التوحيد:338/6، تفسير الصافي 3:335.

و إلقاما للحجر (1): هاتُوا بُرْهانَكُمْ و آتو بحجّتكم على ما تدّعون من جهة العقل أو النقل، لعدم صحّة الدعوى بغير حجّة خصوصا في الامور الدينيّة.

ثمّ بيّن سبحانه توافق الكتب السماويّة على التّوحيد و نفي الشرك بقوله: هذا الموجود بأيدينا من الكتب الثّلاثة التي أحدها القرآن الذي هو ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين بي وعظتهم، وَ إثنان منها ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الامم، و هما: التوراة و الإنجيل، بين أيديكم فراجعوها و انظروا فيها، هل تجدون فيها غير الأمر بالتوحيد و النهي عن الإشراك؟

و قيل: إنّ المعنى: هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمّن للبرهان القاطع العقلي ذكر امّتي و عظتهم، و ذكر الامم السابقة قد أقمته أنا، و استدللت به، فأقيموا أنتم أيضا برهانكم (2).

ثمّ أضرب اللّه تعالى عن الأمر بمحاجّتهم إعلانا بعدم قابليّتهم للخطاب و المحاجّة بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ البديهيّات، و لا يميّزون من غاية جهلهم و حمقهم بين اَلْحَقَّ و الباطل، و الدّليل الصّحيح و الفاسد، فعندهم ما هو أصل الفساد و هو الجهل فَهُمْ لذلك مُعْرِضُونَ عن التوحيد و آياته و اتّباع الرسول و معجزاته، مستمرّون على الإعراض غير منصرفين عمّا هم عليه من الضّلال، و إن كرّرت عليهم الحجج و البيّنات.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على التوحيد بتوافق الكتب السماويّة عليه، استدلّ باتّفاق كلمة الأنبياء الّذين هم أعقل عقلاء العالم عليه بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلى النّاس مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فإذا علمتم ذلك فَاعْبُدُونِ خاصّة و لا تعبدوا غيري.

ثمّ بعد إبطال الشّرك أبطل القول باتّخاذه الملائكة بنات بقوله: وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمنُ و الإله الواسع الرّحمة و النّعمة لنفسه وَلَداً مع غناه عن كلّ شيء. قيل: هم حيّ من خزاعة (3). و قيل: هم قريش و جهينة و بنو سلمة و بنو مليح و خزاعة (4).

ثمّ ردّهم اللّه بقوله: سُبْحانَهُ من أن يكون الملائكة أولاده بَلْ هم عِبادٌ له و العباد لا يمكن أن يكونوا أولاد و هم مُكْرَمُونَ عنده مقرّبون لديه منقادون لإرادته بحيث إنّهم

لا يَسْبِقُونَهُ تعالى بِالْقَوْلِ.

قيل: نزّل سبحانه سبقهم بالقول لقوله تعالى منزلة سبقهم له، للإشعار بمزيد تنزّههم منه (5)وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ و لحكمه مطيعون.

ص: 275


1- . ألقمه الحجر: أسكته عند المخاصمة.
2- . تفسير أبي السعود 6:62، تفسير روح البيان 5:466.
3- . تفسير الرازي 22:159، تفسير أبي السعود 6:63. (4 و 5) . تفسير أبي السعود 6:63.

نقل معجزة لأمير

المؤمنين عليه السّلام

في (الخرائج) عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه اختصم رجل و امرأة إليه، فعلا صوت الرجل على المرأة، فقال له عليّ عليه السّلام «اخسأ» -و كان خارجيّا-فإذا رأسه رأس الكلب، فقيل له: يا أمير المؤمنين، صحت بهذا الخارجي فصار رأسه رأس الكلب، فما يمنعك عن معاوية؟ فقال: «ويحك لو أشاء أن آتي بمعاوية إلى هنا بسريره لدعوت اللّه حتى فعل، و لكنّا للّه خزّانا (1)لا على ذهب و لا فضّة، و لكن على أسرار (2)، هذا تأويل ما تقرء: عِبادٌ مُكْرَمُونَ الآية» (3).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 28

ثمّ نبّه سبحانه على سبب طاعتهم و غاية انقيادهم بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و ما قدّموا من أعمالهم وَ ما خَلْفَهُمْ و ما أخّروا، كما عن ابن عباس (4).

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)و قيل: يعني يعلم أحوال آخرتهم و دنياهم أو بالعكس (5).

و قيل: يعني يعلم ما قبل خلقهم و ما بعد خلقهم، فيكون المراد أنّهم يتقلّبون تحت قدرته و محاطون بعلمه (6)، و هذا العلم يدعوهم إلى غاية الخضوع و الانقياد.

وَ لا يَشْفَعُونَ عنده تعالى إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى اللّه أن يشفعوا له من أهل التوحيد مهابة منه وَ هُمْ مع ذلك مِنْ خَشْيَتِهِ و الخوف منه مُشْفِقُونَ وجلون، أو مرتعدون، أو من عظمته و مهابته خائفون.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية اللّه (5).

عن ابن عبّاس: إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى أي إلاّ لمن قال لا إله إلاّ اللّه (6).

و عن الرضا عليه السّلام: «الاّ لمن ارتضى [اللّه]دينه» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «أصحاب الحدود فسّاق لا مؤمنون و لا كافرون، و لا يخلّدون في النّار،

ص: 276


1- . في النسخة: و لكن للّه خزائن.
2- . في المصدر: و لا إنكار على أسرار تدبير اللّه.
3- . الخرائج و الجرائح 1:172/3، تفسير الصافي 3:335.
4- . تفسير الرازي 22:160. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:160.
5- . تفسير الرازي 22:160، تفسير روح البيان 5:469. و الحلس: ما يبسط في البيت من حصير و نحوه.
6- . تفسير الرازي 22:160، تفسير روح البيان 5:468.
7- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:136/35، تفسير الصافي 3:336.

و يخرجون منها يوما، و الشّفاعة جائزة لهم و للمستضعفين إذا ارتضى اللّه دينهم» (1).

و عن الكاظم، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّما الشّفاعة لأهل الكبائر من امّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل» .

قيل: يا ابن رسول اللّه: كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه يقول: لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى و من يرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟

فقال: «ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلاّ ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالندم توبة. و قال صلّى اللّه عليه و آله: من سرّته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، و لم تجب له الشفاعة، و كان ظالما، و اللّه يقول: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» (2).

فقيل له: يا ابن رسول اللّه، و كيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه؟

فقال: «ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلاّ ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقّا للشّفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرّا، و المصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم، و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار.

و أمّا قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى فإنّهم لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى [اللّه] دينه، و الدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السّيّئات، فمن ارتضى [اللّه]دينه ندم على ما ارتكبه من الذّنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة» (3).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار غضبه على الإشراك و قولهم: إنّ الملائكة آلهة بقوله: وَ مَنْ يَقُلْ من الملائكة و يدّعي مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ و متجاوزين إيّاه تعالى فَذلِكَ القائل بهذا القول منهم على فرض المحال نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كغيره من المجرمين، و لا يغني عنهم ما ذكر من صفاتهم السنيّة و أعمالهم المرضيّة، فكيف بغيرهم؟ كَذلِكَ الجزاء نَجْزِي اَلظّالِمِينَ على اللّه بتضييع حقّه

وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلظّالِمِينَ (29) أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30)

ص: 277


1- . الخصال:608/9، تفسير الصافي 3:336.
2- . المؤمن:40/18.
3- . التوحيد:407/6، تفسير الصافي 3:336.

بالإشراك، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

في ذكر بدو خلق

السماوات و الأرض

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده و تنزيهه من الشّرك بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد اللّه و أشركوا به و لم يعلموا بالتّفكّر و الاستفسار من العلماء و مطالعة الكتب أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ في بدو خلقتهما كانَتا شيئا رَتْقاً و منضمّا لا فرجة بينهما و لا فضاء فَفَتَقْناهُما و فصلناهما و فرّقنا بينهم.

عن ابن عبّاس و جمع من المفسّرين: أن المعنى: كانتا شيئا واحدا ملتزقين، ففصل اللّه بينهما، فرفع السّماء إلى حيث هي، و أقرّ الأرض (1).

و عن كعب: خلق اللّه السماوات و الأرض ملتصقتين، ثمّ خلق ريحا توسّطتهما ففتقهما بها (2).

و قيل: إنّه جاء في التوراة: أنّ اللّه تعالى خلق جوهرة ثمّ نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثمّ خلق السّماوات و الأرض منها و فتق بينهما (1).

و عن مجاهد: أنّ السّماوات كانت مرتتقة و متّصلة، فجعلت سبع سماوات، و كذلك الأرضون (2).

و قيل: رتقهما: كونهما معدومين؛ لأنّه لا تمايز بين الإعدام، و فتقهما: إيجادهما.

و قيل: رتقهما: اتّصالهما بالظّلمة، و فتقهما: إظهار النّهار المبصر بينهما (3).

و عن ابن عباس و أكثر المفسّرين: أنّ السماوات و الأرض كانتا رتقا بالاستواء و الصلابة، ففتق اللّه السماء بالمطر، و الأرض بالنّبات (4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «لعلّك تزعم أنّهما كانتا رتقا ملتزقتين ملتصقتين، ففتقت إحداهما من الاخرى؟» فقال: نعم، فقال: «استغفر ربّك، فإنّ قول اللّه عزّ و جلّ كانَتا رَتْقاً يقول: كانت السّماء رتقا لا تنزل المطر، و كانت الأرض رتقا لا تنبت الحبّ، فلمّا خلق اللّه الخلق، و بثّ فيها من كلّ دابّة، فتق السماء بالمطر، و الأرض بنبات الحبّ» .

فقال السائل: أشهد أنّك من ولد الأنبياء، و علمك علمهم (5).

و في (الكافي) عنه عليه السّلام: أنّه سئل عنها، فقال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أهبط آدم عليه السّلام إلى الأرض، و كانت السماء رتقا لا تمطر، و كانت الأرض رتقا لا تنبت شيئا، فلمّا تاب اللّه عزّ و جلّ على آدم عليه السّلام

ص: 278


1- . تفسير الرازي 22:162، و فيه: و فتق بينها.
2- . تفسير الرازي 22:162، تفسير أبي السعود 6:64.
3- . تفسير الرازي 22:163.
4- . تفسير الرازي 22:163، تفسير أبي السعود 6:65.
5- . الكافي 8:95/67، تفسير الصافي 3:337.

أمر السّماء فتفطّرت بالغمام، ثمّ أمرها فأرخت عزاليها (1)، ثمّ أمر الأرض فأنبتت الأشجار و أثمرت الثّمار، و تفهّقت (2)بالأنهار، فكان ذلك رتقها، و هذا فتقها» (3).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: «هو كما وصف نفسه، كان عرشه على الماء، و الماء على الهواء، و الهواء لا يحدّ و لم يكن يومئذ خلق غيرهما، و الماء يومئذ عذب فرات، فلمّا أراد أن يخلق الأرض أمر الريّاح فضربت الماء حتى صار موجا، ثمّ أزبد و صار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلا من زبد، ثم دحا الأرض من تحته، فقال اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً (4)ثمّ مكث الربّ تبارك و تعالى ما شاء، فلمّا أراد أن يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتى أزبدتها، فخرج من ذلك الموج و الزّبد دخان ساطع من غير نار، فخلق منه السماء، و جعل فيها البروج و النجوم و منازل الشمس و القمر، و أجراها في الفلك، و كانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر، و كانت الأرض غبراء على لون الماء العذب، و كانتا مرتوقتين ليس لهما أبواب، و لم يكن للأرض أبواب، و هو النّبت، و لم تمطر السماء عليها فتنبت، ففتق السماء بالمطر، و فتق الأرض بالنّبات، و ذلك قوله: أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا الآية» (5).

أقول: رجح القائلون بهذا القول قولهم بقوله تعالى بعد ذلك: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ و المعنى ففتقنا السماء لإنزال المطر، و جعلنا منه كلّ شيء في الأرض من النبات و غيره حيّا.

و قيل: إنّ المراد بالماء النّطفة (6): فيكون المراد من كلّ شيء خصوص الحيوان، لأنّ النبات لا يسمّى حيّا. و فيه منع لإطلاق الحيّ على الأرض، فضلا عن النّبات.

عن الباقر عليه السّلام: «نسب كلّ شيء إلى الماء، و لم يجعل للماء نسبا إلى غيره» (7).

و عن الصادق: أنّه سئل عن طعم الماء فقال: «طعم الماء طعم الحياة، قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (8).

ثمّ أنكر عليهم عدم الإيمان بالتّوحيد مع دلالة هذه الآية عليه بقوله: أَ فَلا يُؤْمِنُونَ بتوحيد اللّه.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 31 الی 33

وَ جَعَلْنا فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

ص: 279


1- . العزالي: جمع عزلاء، و هو مصبّ الماء من القربة و نحوها، و يقال: أرسلت السماء عزاليها: انهمرت بالمطر.
2- . فهق الحوض: امتلأ حتى تصبّب.
3- . الكافي 8:121/93، تفسير الصافي 3:337.
4- . آل عمران:3/96.
5- . تفسير القمي 2:69، تفسير الصافي 3:338.
6- . تفسير روح البيان 5:471.
7- . الكافي 8:94/67، تفسير الصافي 3:338.
8- . مجمع البيان 7:72، تفسير الصافي 3:338.

ثمّ ذكر برهانا آخر بقوله: وَ جَعَلْنا فِي اَلْأَرْضِ و خلقنا فيها جبالا رَواسِيَ و ثوابت فيها، كراهة أَنْ تَمِيدَ و تميل بِهِمْ و تضطرب وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً و طرقا واسعة ليكون لهم سُبُلاً و مسالك إلى البلاد البعيدة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى مصالحهم و مهمّاتهم التي تكون في تلك البلاد، أو ليهتدوا إلى توحيد اللّه و معارفه.

و قيل: إنّ ضمير (فيها) راجع إلى الجبال، لأنّها المحتاجة إلى الطّرق (1).

ثمّ ذكر دليلا آخر بقوله: وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ لهم سَقْفاً مَحْفُوظاً من الوقوع و السّقوط و الزوال و الانحلال إلى الوقت المعلوم بغير عمد، و من استراق السمع بالشّهب.

و القمي: يعني من الشياطين، أي لا يسترقون السّمع (2)وَ هُمْ عَنْ آياتِها و عجائبها الدالّة على كمال قدرته و عظمته و وحدانيّته و علمه و حكمته مُعْرِضُونَ لا يتدبّرون فيها حتى يقفوا على فساد ما هم عليه من الشّرك و الضّلال.

ثمّ نبّه سبحانه على بعض آياتها بقوله: وَ هُوَ و اللّه اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته و حكمته اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ مختلفين وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دائبين كُلٌّ منهما فِي فَلَكٍ على حدة يَسْبَحُونَ و يسرعون في السير، كما يسبح السّمك في الماء.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 34 الی 36

ثمّ لمّا بيّن سبحانه النّعم الدنيويّة، نبّه المشركين الظّانّين بقاءهم في الدنيا على فنائها و زوالها بقوله: وَ ما جَعَلْنا و ما قدّرنا لِبَشَرٍ و فرد من بني آدم الذين كانوا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد اَلْخُلْدَ و الحياة الدائمة في الدنيا أَ فَإِنْ مِتَّ يا محمّد، و أنت سيّد البشر، و خاتم الأنبياء، و أقرب الخلق إلينا فَهُمُ اَلْخالِدُونَ و الباقون فيها؟ ! كلاّ، لا يكون ذلك أبدا، بل أنت و هم على سنّتنا و مقتضى الحكمة البالغة التي تكون لنا ميّتون لا محالة.

وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَ إِذا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَ هذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)

ص: 280


1- . تفسير الرازي 22:164.
2- . تفسير القمي 2:70، تفسير الصافي 3:339.

قيل: إنّ أناسا كانوا يقولون: إنّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله لا يموت، فنزلت (1).

و قيل: كانوا يقدّرون أنّه صلّى اللّه عليه و آله سيموت فيشمتون (2)بموته، فنفى اللّه عنه الشّماتة و بيّن أن حاله كحال الأنبياء قبله و حال سائر البشر، و المعنى: أفإن متّ فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك؟ ! (3)

و قيل: إنّها نزلت حين قال: المشركون: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ (4).

ثمّ أكّد سبحانه عموم الموت لكلّ أحد بقوله: كُلُّ نَفْسٍ من النفوس نبيّا كان أو وليّا، أو مؤمنا أو كافرا ذائِقَةُ و طاعمة طعم اَلْمَوْتِ و إنّما تكون حكمة تعيّشكم و حياتكم في الدنيا أن نختبركم وَ نَبْلُوكُمْ في مدّة حياتكم بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ و البلايا و النّعم فِتْنَةً و امتحانا ليتميّز الصابر و الشاكر من غيرهما وَ إِلَيْنا بعد الموت تُرْجَعُونَ لجزاء ما اختبرتم به من الأخلاق و الأعمال.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرض فعاده إخوانه، فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشرّ، قالوا: ما هذا كلام مثلك! قال: إنّ اللّه تعالى يقول: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً فالخير: الصحّة و الغنى، و الشرّ: المرض و الفقر» (5).

فحاصل الآية أنّ الغرض من حياة الدنيا الابتلاء، و التعريض للثواب و العقاب، و أنّ القول بنفي البعث و المعاد باطل مخالف للحكمة في خلق الإنسان.

ثمّ حكى سبحانه استهزاء المشركين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لقوله بالتوحيد و ذمّه الأصنام بقوله: وَ إِذا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد اللّه إِنْ يَتَّخِذُونَكَ و لا يفعلون بك إِلاّ هُزُواً و سخريّة لادّعائك النبوّة و دعوتك إلى التوحيد و ذمك الأصنام، و يقول بعضهم لبعض استهزاء: أَ هذَا الرجل الوحيد الفقير هو اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بالسّوء وَ هُمْ أحقّاء بالاستهزاء و التّعييب، لأنّهم بِذِكْرِ اَلرَّحْمنِ المنعم على عامّة الموجودات هُمْ كافِرُونَ و لحقوقه و صفاته الكماليّة من التوحيد و القدرة و الغناء عمّا سواه منكرون.

قيل: نزلت الآية في أبي جهل، مرّ به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو مع أبي سفيان، فقال لأبي سفيان: هذا نبيّ بني عبد مناف؟ ! فقال أبو سفيان: ما تنكر أن يكون نبيّا في بني عبد مناف، فسمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قولهما، فقال لأبي جهل: «ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمّك الوليد بن المغيرة، و أمّا أنت يا أبا سفيان فإنّما

ص: 281


1- . تفسير الرازي 22:169.
2- . في النسخة: فيشمتونه.
3- . تفسير الرازي 22:169.
4- . تفسير روح البيان 5:475، و الآية من سورة الطور:52/30.
5- . مجمع البيان 7:74، تفسير الصافي 3:339.

قلت ما قلت حميّة» فنزلت (1).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 37 الی 38

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين على استهزائهم بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذمّهم على تعجيلهم في العذاب الموعود استهزاء بقوله: خُلِقَ اَلْإِنْسانُ بنوعه مِنْ عَجَلٍ و السّرعة في طلب المطلوب، و قلّة الصّبر عليه، فنزّل سبحانه الخلق الذي طبع عليه منزلة مبدء خلقه إيذانا بعدم انفكاكه منه. و من عجلته استعجاله نزول العذاب الذي كان يعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إيّاه.

خُلِقَ اَلْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)روي أنّها نزلت في النّضر بن الحارث حين استعجل العذاب بقوله: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو آئتنا بعذاب أليم (2).

و عن ابن عباس: أنّ المراد بالإنسان آدم عليه السّلام، فإنّه حين بلغ الرّوح صدره أراد أن يقوم (3).

أقول: لعلّ المراد أنّ العجلة أوّلا كانت خلقه عليه السّلام، ثمّ سرى هذا الخلق في أولاده و ذريّته.

و قيل: إنّ المراد بالعجل الطّين (4)، و المعنى: خلق الإنسان من طين، و هذا المعنى في غاية البعد.

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى المستعجلين و هدّدهم بقوله: سَأُرِيكُمْ و أنزل عليكم عن قريب آياتِي و عقوباتي الدالّة على كمال قدرتي و قهّاريتي في الدنيا أو في الآخرة فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها، فإنّه استعجال في ما يضرّكم غاية الضّرر،

و هو خلاف العقل و عين السّفه وَ يَقُولُونَ استعجالا عن استهزاء بالنبيّ (5)و المؤمنين بعد وعدهم إيّاهم بالعذاب: مَتى يقع هذَا اَلْوَعْدُ الّذي تعدوننا به، فأتونا به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 39 الی 42

لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ مِنَ اَلرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)

ص: 282


1- . تفسير الرازي 22:170.
2- . تفسير أبي السعود 6:67.
3- . تفسير أبي السعود 6:67، تفسير روح البيان 5:480.
4- . تفسير أبي السعود 6:67.
5- . في النسخة: للنبيّ.

ثمّ أجابهم سبحانه بقوله: لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ و لا يقدرون أن يدفعوا عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ لإحاطتها بهم من كلّ جانب وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ من أحد في دفعها، و لا يعاونون من نفس عليها (1)لما استعجلوا به، أو يعلمون حقيقة الحال

بَلْ تَأْتِيهِمْ العدة أو النّار أو الساعة بَغْتَةً و غفلة عنه فَتَبْهَتُهُمْ و تحيّرهم أو تغلبهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ حين إتيانها رَدَّها و صرفها عن أنفسهم وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و يمهلون، كي يستريحوا منها طرفة عين، فإنّ الإمهال مختصّ بالدنيا، أو كي يعتذروا من معاصيهم، أو لا ينظر إليهم و إلى تضرّعهم.

ثمّ لمّا حكى سبحانه استهزاء المشركين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله سلاّه و وعده بالنّصر بقوله: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثيرة عظماء القدر كانوا مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ قومك بك فصبروا فَحاقَ و أحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ بعد سخريّتهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، فهلكوا جميعا، و كذلك حال المستهزئين بك.

ثمّ أنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديد المستهزئين به أمره بتقريعهم بقوله: قُلْ يا محمّد للمستهزئين: مَنْ الذي يَكْلَؤُكُمْ و يحفظكم بِاللَّيْلِ الذي هو أغلب مواقع البليّات وَ اَلنَّهارِ الذي يختصّ بالآفات مَنْ عذاب اَلرَّحْمنِ غيره برحمته الواسعة، فإنّه هو الذي يمهلكم مع شدّة استحقاقكم بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ بحيث لا يخطر ببالهم، فضلا عن أن يخافوا منه، و لا يعدّون ما هم عليه من الأمن و الدّعة حفظا و كلاءة حتى يسألوا عن الكالئ. و في إضافة الإعراض إلى الذّكر، و إضافة الذّكر إلى الربّ، تنبيه على كونهم في الغاية القصوى من الضّلال.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ بالغ سبحانه في تقريعهم بقوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ قيل: المعنى بل لهم (2)، أو ألهم (3)، أو بل ألهم (4)آلهة تَمْنَعُهُمْ و تحفظهم من العذاب و الآفات اللّيليّة و النّهاريّة التي تكون مِنْ دُونِنا و عندنا.

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ اَلْغالِبُونَ (44)و قيل: يعني تتجاوز منعنا (5)، أو آلهة يكونون من دوننا، و هم معوّلون عليها، مع أنّهم لغاية ضعفهم لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ و رفع الكسر و القطع و التّلويث عنها وَ لا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ بالنّصر،

ص: 283


1- . هكذا الظاهر، و في النسخة: عليه.
2- . تفسير روح البيان 5:483.
3- . تفسير الرازي 22:174.
4- . تفسير البيضاوي 2:71.
5- . تفسير أبي السعود 6:69.

أو يمنعون، كما عن ابن عبّاس (1).

و قيل: يعني لا يكون لهم من جهتنا ما يصحبهم من السّكينة و الرّوح و الرّفق و غير ذلك ممّا يصحب أولياءنا، فكيف يتوهّم أنّهم ينصرون غيرهم؟ (2)بَلْ مع أنّا حفظناهم من كلّ آفة مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ و أنعمنا عليهم بالنّعم الكثيرة الدنيويّة في المدّة الطويلة حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ في الغفلة فنسوا عهدنا، و جهلوا موقع نعمنا، و اغترّوا بها، مع أنّه لا وجه لاغترارهم بها مع أنّها تزول و تذهب بسرعة، و أنّهم مقهورون تحت قدرتنا، و يرون آثار عذابنا أَ فَلا يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ التي يسكنونها و نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها و جوانبها بتسليط المسلمين عليها، و فتحهم بلادها و قراها، و نزيدها في ملك محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: يعني: إنّما نميت رؤساءهم، أو ننقص من الشرّك بإهلاك أهله، فيعتبرون بما يرون. فيؤمنون بالرسول، و يعلمون أنّ نعمهم منّا و بقاءها و زوالها بيدنا، أو يعلمون أنّا قادرون على إنجاز وعدنا إيّاهم بالعذاب، و هم لا يقدرون على حفظه منه (3).

عن ابن عبّاس: تفسير نقص الأرض نقصها بفتح البلاد، أو نقصان أهلها و بركتها (4).

و قيل: تخريب قراها بموت أهلها (5).

و قيل: هو موت العلماء (6)، كما روي عن الصادق عليه السّلام (5)و اعترض عليه البعض بأنّ الآية نزلت في كفّار مكّة، فكيف يدخل فيها العلماء و الفقهاء؟

و فيه: أنّ المراد من الأرض على هذا التفسير مطلقها، و إن كان المقصود اعتبار أهل مكّة، و يمكن أن يكون المراد من النقص المعنى العامّ الشامل للجميع بإرادة عموم المجاز.

ثمّ أنكر سبحانه على المشركين توهّم غلبتهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين مع مشاهدتهم آثار قدرة اللّه عليهم بقوله: أَ فَهُمُ اَلْغالِبُونَ و القاهرون على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و على المؤمنين به مع رؤيتهم آثار قدرتنا و نصرتنا إيّاهم، أم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حزبه الذين هم حزب اللّه غالبون على اولئك الكفرة الطّغاة.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 45 الی 46

قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (46)

ص: 284


1- . تفسير روح البيان 5:483.
2- . تفسير روح البيان 5:483.
3- . تفسير الرازي 22:174.
4- . تفسير الرازي 22:175. (5 و 6) . مجمع البيان 7:79، تفسير الرازي 22:175.
5- . مجمع البيان 7:79، تفسير الصافي 3:341.

ثمّ أنّه تعالى بعد إكثار الأدلّة على بطلان الشّرك و تكرارها على التوحيد و عدم انتفاع المشركين بها، و الإبلاغ في وعدهم بالعذاب و عدم مبالاتهم به، و مبالغتهم في الاستعجال بوعد الرسول إستهزاء به، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتبليغ و الاهتمام بأداء وظيفة الرسالة، و عدم الاعتناء بترّهاتهم بقوله: قُلْ يا محمّد للمشركين المستهزئين بك إِنَّما أُنْذِرُكُمْ أيّها الطغاة على حسب وظيفتي من قبل ربّي بِالْوَحْيِ الذي جاءني بتوسّط جبرئيل، و بالقرآن الذي نزل إليّ، و ليس لي أن آتيكم بما انذركم به من العذاب، فإنّه بقدرة ربّي و مشيئته، و أنتم لعدم انتفاعكم بدعوتي و إنذاري كالصّمّ وَ لا يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعاءَ و نداء المنادي إِذا ما يُنْذَرُونَ و إنّما قيّد الدعاء بوقوعه وقت الإنذار؛ لأنّ المعتاد في إنذار الأصمّ الإفراط في رفع الصوت و تكريره و الإبلاغ في تفهيمه بالإشارة الدالّة عليه، فإذا لم يسمعوا مع ذلك يكون صممهم إلى حدّ لا وراء له.

ثمّ بيّن سبحانه أن تعجيلهم بالعذاب إنّما هو لجهلهم بشدّته و كيفيّته، و أنّهم إذا رأوه يعترفون على أنفسهم بالظّلم و يعتذرون من تصاممهم بقوله: وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ و واللّه إن أصابتهم أدنى مرتبة الاصابة نَفْحَةٌ و شيء يسير كالرائحة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لتنادوا بالويل و الثّبور و لَيَقُولُنَّ تذلّلا و تحسّرا و تندّما و اعترافا بفساد عقائدهم و أعمالهم: يا وَيْلَنا و هلاكنا إِنّا كُنّا في الدنيا ظالِمِينَ على اللّه بإثبات الشريك له، و على الرسول بالاستهزاء، و على أنفسنا بتعريضها للهلاك.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 47 الی 48

ثمّ بيّن سبحانه كمال العدل في تعذيبهم بقوله: وَ نَضَعُ و ننصب اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ و العدل لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ لوزن العقائد و الأعمال بها، ليعلم النّاس مقدار سيّئاتهم و حسناتهم، و ما يستحقّون من الثواب و العقاب، و قد مرّ تحقيق المراد من الموازين و ما يوزن بها في سورة الأعراف (1)فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ من النفوس شَيْئاً من حقّها، بل يوفّى حقّ كلّ ذي حقّ إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ وَ إِنْ كانَ عملها مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ و مقدارها في الصغر و الحقارة، أحضرنا ذلك العمل الّذي له وزن حبّة هي أصغر الحبوب و أَتَيْنا بِها للحساب، و نضعها في الموازين وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ للأعمال عادلين فيها.

وَ نَضَعُ اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ اَلْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)

ص: 285


1- . تقدّم في تفسير الآية 8 و 9 من سورة الأعراف.

عن ابن عبّاس: يعني عالمين حافظين (1)، إذ لا أعلم و لا أحفظ منّا.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الشّرك، و إثبات التوحيد و المعاد بالأدلّة القاطعة، و دفع شبهة المشركين في الرسالة، شرع في بيان أحوال الأنبياء العظام الّذين كانوا من البشر و دعاة إلى التوحيد و المعاد بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ أخاه هارُونَ التّوراة الّتي تكون هي اَلْفُرْقانَ و المميّز بين الحقّ و الباطل وَ ضِياءً يستضاء بها في ظلمات الحيرة و الجهالة وَ ذِكْراً و عظة عظيمة لِلْمُتَّقِينَ و المحترزين من القبائح و سوء العواقب، فإنّهم المستضيئون بأنواره المغتنمون بغنائم آثاره.

و قيل: إنّ الفرقان هو النّصر على الأعداء (2).

و قيل: هو البرهان الذي فرّق به الدين الحقّ عن الأديان الباطلة (3).

و قيل: هو فلق البحر (4).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ وصف اللّه المتّقين بقوله: اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و يخافون من عذابه الذي يكون بِالْغَيْبِ عنهم، و في السّتر عن أعينهم.

اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)و قيل: يعني يخشون ربّهم و هم غائبون عن الآخرة (5).

و قيل: يخشون ربّهم في الخلوات و الغياب عن الناس (6)وَ هُمْ مِنَ عذاب اَلسّاعَةِ و أهوالها مُشْفِقُونَ و وجلون، أو مرتعدون، فلذلك يحترزون عن اتّباع الشّهوات و ارتكاب السيّئات.

ثمّ لمّا مدح اللّه سبحانه التوراة، مدح القرآن بقوله: وَ هذا القرآن العظيم ذِكْرٌ و عظة للناس إلى يوم القيامة و مُبارَكٌ كثير الخير و النفع، أو ما يتبرّك به أَنْزَلْناهُ بتوسط جبرئيل كما أنزلنا التوراة من قبل أَ فَأَنْتُمْ يا معشر قريش لَهُ نزولا و بركة مُنْكِرُونَ مع عدم المجال لإنكاره لاشتماله على معجزات كثيرة.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 51 الی 58

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ اَلتَّماثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (56) وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

ص: 286


1- . تفسير روح البيان 5:486.
2- . تفسير الرازي 22:178، تفسير أبي السعود 6:71.
3- . تفسير الرازي 22:179.
4- . تفسير الرازي 22:179، تفسير أبي السعود 6:71. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:179.

ثمّ بيّن سبحانه عظم شأن إبراهيم عليه السّلام و رسالته و كيفيّة دعوته بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا إِبْراهِيمَ الخليل رُشْدَهُ و هدايته إلى الحقّ و مصالح الدين و الدنيا مِنْ قَبْلُ و في العصر السابق على عصر موسى عليه السّلام، كما عن ابن عباس (1). أو في عالم الذرّ حين أخذنا ميثاق النبيّين، كما عنه أيضا (2)وَ كُنّا بِهِ و بأهليّته لذلك العطاء عالِمِينَ و اذكر يا محمّد إِذْ قالَ حسب وظيفة الرسالة لِأَبِيهِ آزر وَ قَوْمِهِ قيل: هم أهل بابل (1): ما هذِهِ اَلتَّماثِيلُ و الصّور المجسّمة اَلَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ و إلى عبادتها مقبلون، و لخدمتها ملتزمون؟

قالُوا في و جوابه: إنّا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ و نحن لهم مقلّدون، و بهم مقتدون.

قالَ إبراهيم عليه السّلام: باللّه لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ أيّها المقلّدون وَ آباؤُكُمْ الّذين اقتديتم بهم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و خطأ ظاهر عظيم لا يخفى على ذي شعور

قالُوا تعجّبا و استبعادا منه لمخالفته أهل بلده: أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ و كلام صدق و عن جدّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّعِبِينَ و الهازلين بهذا القول المخالف للأكثرين و من المازحين معنا؟

قالَ إبراهيم: لست من اللاعبين و المازحين بَلْ أقول عن جدّ و حقيقة: رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ و خلقهنّ بقدرته و حكمته بلا مثال سابق، أو الذي خلق التماثيل وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ الذي ذكرته من كون الربّ و الإله ربّ جميع الموجودات وحده دون التماثيل و غيرها مِنَ اَلشّاهِدِينَ و العالمين به بالبراهين.

قيل: إنّ قومه كان لهم عيد يخرجون فيه من البلد إلى الصحراء للطّرب و البطر، ثمّ يعودون إلى بيوت أصنامهم و يزيّنونها و يعبدونها، فلمّا ناظر إبراهيم عليه السّلام بعضهم قالوا: غدا يوم العيد فاخرج معنا و انظر محاسن ديننا، فسكت إبراهيم عليه السّلام، فلمّا كان الغد جاءوا إليه و سألوه الخروج معهم، فاعتلّ و تمارض و قال: إِنِّي سَقِيمٌ يعني عن عبادة الأصنام (2)،

فلمّا ذهبوا قال إبراهيم في نفسه: وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ و احتالنّ و اجتهدنّ في كسرها، أو لأحتالنّ بكم في كسرها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا و ترجعوا مُدْبِرِينَ و ذاهبين من بيوتها إلى عيدكم.

ص: 287


1- . تفسير روح البيان 5:490.
2- . تفسير روح البيان 5:492.

و عن السّدّي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثمّ عادوا إلى منازلهم، فلمّا كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السّلام: لو خرجت معنا؟ فخرج معهم، فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه و قال: إِنِّي سَقِيمٌ و اشتكى رجله، فلمّا مضوا و بقي الضعفاء نادى وَ قال: تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (1).

و عن الكلبي: كان إبراهيم من أهل بيت ينظر [ون]في النجوم، و كانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلاّ مريضا، فلمّا همّ إبراهيم بكسر الأصنام، نظر قبل يوم العيد إلى السماء، فقال لأصحابه: أراني أشتكي غدا، فأصبح من الغد معصوبا رأسه، فخرج القوم لعيدهم و لم يتخلّف أحد غيره، فقال: أما و اللّه لأكيدنّ أصنامكم، فسمع قوله رجل منهم، فأخبر به غيره فانتشر ذلك (2).

و روي أنّ آزر خرج به في عيد لهم، فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه، و سجدوا لها و وضعوا بينها طعاما و خبزا، و قالوا: الآن ترجع بركة الآلهة على طعامنا، فذهبوا و بقي إبراهيم عليه السّلام فنظر إلى الأصنام فقال مستهزئا بهم: ما لكم لا تنطقون، ما لكم لا تأكلون؟ !

ثمّ التفت إلى فأس معلّق فتناوله، و كان هناك سبعين صنما، و كان صنم عظيم مستقبل الباب، و كان من ذهب، و كان في عينيه جوهرتان تضيئان، فكسر الكلّ بالفأس فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً و قطعا متفرّقة إِلاّ كَبِيراً كان لَهُمْ فإنّه عليه السّلام لم يكسره و علّق الفأس في عنقه (3)لَعَلَّهُمْ بعد رجوعهم من عيدهم و رؤيتهم فعل إبراهيم عليه السّلام إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ في تعيين الكاسر لتسامعهم إنكاره لدينهم و سبّه آلهتهم، أو إلى مقالته من التوحيد يرجعون، و عن دينهم الباطل يعدلون، لرؤيتهم أنّ أصنامهم لم يقدروا على أن يدفعوا عن أنفسهم ضرّا و لم ينل من أهانهم (4)و كسرهم ضرر.

و قيل: يعني لعلّهم إلى الصنم الكبير يرجعون، و إنّما قال عليه السّلام ذلك استهزاء بهم (5).

و قيل: يعني يرجعون إليه في حلّ مشكلهم من تعيين الكاسر، و علّة إبقاء الكبير و تعليق الفأس في عنقه و كسر ما عداه (6)، حتّى يظهر غاية جهالتهم و حماقتهم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 59 الی 65

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ اَلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

ص: 288


1- . تفسير الرازي 22:182.
2- . تفسير الرازي 22:182.
3- . تفسير أبي السعود 6:73.
4- . في النسخة: أهان بهم. (5 و 6) . تفسير الرازي 22:183.

ثمّ لمّا رجع القوم من عيدهم و دخلوا بيت الأصنام ليسجدوا لهم، رأوا ما فعل إبراهيم عليه السّلام بهم قالُوا تشنيعا على كاسرهم و تهديدا له: مَنْ فَعَلَ هذا الفعل بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك، أو على الآلهة المستحقّة للتعظيم بجرأته على كسرهم و توهينهم، فلمّا سمع هذا الكلام الذين علموا أنّه قال إبراهيم عليه السّلام: تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (1)،

قالُوا: يا قوم إنّا سَمِعْنا من النّاس أنّ فَتًى و شابّا يعيب الآلهة و يَذْكُرُهُمْ بسوء يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ فلعلّه فعل ذلك بهم.

فلمّا سمع القوم ذلك قالُوا -و قيل: إنّ نمرود و أشراف قومه قالوا في ما بينهم-: فَأْتُوا بِهِ و أحضروه عَلى أَعْيُنِ اَلنّاسِ (2)و بمرأى منهم و منظر، و فيهم الذين عرفوه لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بأنّه فعل ذلك، أو قال ذلك القول لئلاّ يأخذه بلا بيّنة،

فلمّا أحضروا إبراهيم عليه السّلام قالُوا تقريرا له: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا الفعل بِآلِهَتِنا و أصنامنا يا إِبْراهِيمُ قالَ في جوابهم تهكّما: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا الذي لم يكسر، لغضبه على أن تعبد معه هذه الأصنام الصّغار، كما قيل (3)، فان لم تقبلوا قولي فَسْئَلُوهُمْ عمّن فعل بهم ذلك إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ حتى يصدّقوني في ما اخبركم به.

روت العامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه لم يكذب إبراهيم عليه السّلام إلاّ ثلاث كذبات؛ أحدها أنّه قال: إِنِّي سَقِيمٌ، و الثانية أنّه قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا و الثالثة أنه [قال لسارة: هي أختي]» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما قال ابراهيم عليه السّلام: إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل، و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا، فما نطقوا، و ما كذب إبراهيم» (5).

و عنه عليه السّلام أيضا إنّما قال: «بل فعله كبيرهم، إرادة الإصلاح و دلالة على أنّهم لا يفعلون (6)» ، ثمّ قال: «و اللّه ما فعله و ما كذب» (7).

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ و راجعوا إلى عقولهم، و تذكّروا أنّ ما لا يقدر على دفع الضّرر عن نفسه، و لا على الإضرار بمن كسره، يستحيل أن يقدر على دفع الضّرر عن غيره، و ما يكون كذلك لا يجوز عبادته.

ص: 289


1- . الأنبياء:21/57.
2- . تفسير روح البيان 5:494.
3- . تفسير روح البيان 5:494.
4- . تفسير الرازي 22:185، تفسير روح البيان 5:494.
5- . معاني الأخبار:210/1، تفسير الصافي 3:343.
6- . الكافي 2:256/17، تفسير الصافي 3:343.
7- . الكافي 2:256/22، تفسير الصافي 3:343.

و قيل: يعني رجعوا إلى أنفسهم فلاموها (1)فَقالُوا فيما بينهم: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّالِمُونَ على أنفسكم بعبادتهم لا من كسرهم، أو ظالمون على إبراهيم عليه السّلام حيث تزعمون أنّه كسرهم، مع أنّ الفأس عند الصنم الكبير، أو الظالمون على أنفسكم حيث سألتم إبراهيم عليه السّلام عن ذلك، فأخذ يستهزئ بكم في الجواب

ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ و عادوا إلى ما كانوا عليه من الحمق و المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة إلى عقولهم.

و قيل: يعني ثمّ قلبوا على رؤوسهم لفرط إطراقهم خجلا و انكسارا بما بهتهم به إبراهيم عليه السّلام، فما أحاروا جوابا (2)إلاّ أنّهم قالوا: و اللّه لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم ما هؤُلاءِ الأصنام يَنْطِقُونَ فكيف تأمرنا بالسؤال، عنهم فاعترفوا بلزوم حجّة إبراهيم عليه السّلام عليهم.

و قيل: يعني قلبوا على رؤوسهم في الحجّة على إبراهيم عليه السّلام، و احتجّوا عليه بما هو الحجّة له، لغاية تحيّرهم، و المراد نكست حجّتهم، فأقاموا الحجّة عليهم مقام الحجّة لهم (3).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 66 الی 69

ثمّ قالَ إبراهيم عليه السّلام توبيخا عليهم و تبكيتا لهم: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً إن عبدتموه وَ لا يَضُرُّكُمْ إن لا تعبدوه، بل ولو أهنتموه؟ مع أنّ المعبود لا بدّ أن يكون قادرا على الإنفاع و الإضرار، كي لا تكون عبادته عبثا.

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)

ثمّ لمّا رأى إصرارهم على باطلهم قال تضجّرا منهم: أُفٍّ لَكُمْ و قبحا وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الجمادات الخسيسة أَ فَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم و شناعة عملكم.

ثمّ لمّا عجزوا عن الغلبة عليه بالحجّة تشاوروا في إهلاكه و قالُوا: إن أردتم إهلاكه حَرِّقُوهُ بالنار، فإنّه أشدّ العقوبات وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ فعلا في نصرتهم و الانتقام لهم.

قيل: إنّ القائل نمرود (4). و قيل: إنّه رجل من الكرد، من أعراب فارس (5). و قيل: إنّه رجل اسمه هبرين، خسف اللّه به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (6).

ص: 290


1- . تفسير الرازي 22:186.
2- . تفسير الرازي 22:186.
3- . تفسير الرازي 22:186.
4- . تفسير الرازي 22:187.
5- . تفسير الرازي 22:187.
6- . تفسير الرازي 22:187.

قصة إلقاء

إبراهيم عليه السّلام في

النّار

ثم لمّا اتّفقوا على إحراقه، حبسه نمرود و بنى بنيانا كالحظيرة، و اهتمّ الناس بجمع الحطب، حتى إنّ المرأة لو مرضت نذرت إن عافاها اللّه منه جمعت الحطب لإبراهيم، و كانوا على ذلك أربعين يوما.

و روي أنّ الدوابّ امتنعت من حمل الحطب إلاّ البغال، فعاقبها اللّه بأن أعقمها (1).

قيل: صبّوا على الحطب دهنا كثيرا، ثمّ أضرموا فيه النّار، و أوقدوها سبعة أيّام، فلمّا اشتعلت النّار صار الهواء بحيث لو مرّ الطير في أقصى الجوّ لاحترق (2).

روي أنّهم لم يعلموا كيف يلقون إبراهيم عليه السّلام فيها لعدم إمكان قربهم منها، فجاء إبليس في صورة شيخ و علّمهم عمل المنجنيق (3).

و قيل: تمثّل لهم في صورة نجّار فصنعه لهم، ثمّ نصبوه على رأس الجبل، و وضعوا إبراهيم عليه السّلام فيه مقيّدا مغلولا، فصاحت الّسماء و الأرض و من فيهما إلاّ الثقلين صيحة واحدة: أي ربّنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، و هو يحرق فيك! فأذن لنا في نصرته. فقال تعالى: إن استعان بأحد منكم لينصره، فقد أذنت له في ذلك، و إن لم يدع غيري فأنا أعلم به و أنا وليّه، فخلّوا بيني و بينه، فإنّه خليلي ليس لي خليل غيره، و أنا إلهه ليس له إله غيري.

فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن الرّياح فقال: إن شئت طيّرت النار في الهواء، و أتاه خازن المياه و قال: إن أردت أخمدت النار. فقال إبراهيم عليه السّلام: لا حاجة لي إليكم، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء فقال: أنت الواحد في السّماء و أنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض من يعبدك غيري، حسبي اللّه و نعم الوكيل.

و أقبلت الملائكة فلزموا كفّة المنجنيق، فرفعه أعوان نمرود، فلم يرتفع. فقال لهم إبليس: أتحبّون أن يرتفع؟ قالوا: نعم. قال: ائتوني بعشر نسوة، فأتوا بهنّ، إلى أن قال: فمدّت الأعوان المنجنيق، و ذهبت الملائكة، فلمّا القي في النار قال: لا إله إلاّ أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد و لك الملك لا شريك لك (4).

و روي أنّ جبرئيل أدركه في الهواء، و قال: هل لك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، فقال: سل ربّك حاجتك. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. فأخبر سبحانه عن إجابته له بقوله: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (5).

ص: 291


1- . تفسير روح البيان 5:497.
2- . تفسير روح البيان 5:497.
3- . تفسير روح البيان 5:497.
4- . تفسير روح البيان 5:497.
5- . تفسير روح البيان 5:498.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النّار قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحق محمّد و آله لمّا أنجيتني منها، فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما» (1).

و عن ابن عبّاس: لو لم يتّبع بردا سلاما لمات إبراهيم عليه السّلام من بردها، و لم يبق يومئذ في الدنيا نار إلاّ طفئت (2).

قيل: فأخذت الملائكة بضبعي (3)إبراهيم عليه السّلام، و أقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب، و ورد أحمر و نرجس، و لم تحرق النار منه إلاّ وثاقه (4).

و قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النّار كان فيها أربعين يوما أو خمسين، و قال: ما كنت أيّاما أطيب عيشا منّي إذ كنت فيها (5).

و قيل: بعث اللّه ملك الظلّ في صورة إبراهيم عليه السّلام، فقعد إلى جنبه يؤنسه، و أتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة و قال: يا إبراهيم، إنّ ربّك يقول: أما علمت أنّ النّار لا تضرّ أحبّائي؟ ثمّ نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم عليه السّلام، فرآه جالسا في روضة، و رأى الملك قاعدا إلى جنبه، و حوله نار تحرق الحطب، فناداه: يا إبراهيم، هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: قم فاخرج منها، فقام يمشي حتى خرج منها.

قال له نمرود: من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال: ذلك ملك الظلّ أرسله ربّي ليؤنسني فيها. فقال نمرود: إنّي مقرّب إلى ربّك قربانا لما رأيت من قدرته و عزّته في ما صنع بك، فإنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة.

فقال إبراهيم عليه السّلام: لا يقبل اللّه منك ما دمت على دينك. فقال نمرود: لا أستطيع أن أترك ملكي، و لكن سوف أذبحها له؛ ثمّ ذبحها له، ثمّ أوقدوا عليه النار سبعة أيّام، ثمّ أطبقوا عليه، ثمّ فتحوا عليه من الغد، فإذا هو [غير]محترق يعرق عرقا (6).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 70 الی 73

وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ (70) وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (73)

ص: 292


1- . الاحتجاج:48، تفسير الصافي 3:344.
2- . تفسير الرازي 22:188.
3- . الضّبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها، و هما ضبعان.
4- . تفسير الرازي 22:188، و الوثاق: ما يشدّ به، كالحبل و غيره.
5- . تفسير الرازي 22:188.
6- . تفسير الرازي 22:188.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إلقاءهم إبراهيم عليه السّلام في النّار صار معجزة قاهرة له بقوله: وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً و مكرا عظيما في الإضرار به و إهلاكه فَجَعَلْناهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ من كلّ خاسر حيث صار سعيهم في إهلاك إبراهيم عليه السّلام بالنار دليلا ظاهرا كالنّار على المنار على رسالته، و [صار]

اتّفاقهم على إطفاء نور الحقّ برهانا قاطعا على حقّانيّته.

و قيل: يعني جعلناهم الهالكين بتسليط البعوض عليهم و قتله إيّاهم مع كونه أضعف خلق اللّه تعالى، و ما برح نمرود حتى رأى أصحابه قد أكل البعوض لحومهم، و شرب دماءهم، و وقعت بعوضة في منخره، فلم تزل تأكل منه إلى أن وصلت إلى دماغه، و كان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة (1)من حديد، فأقام بهذا الحال نحوا من أربعمائة سنة ثمّ مات، كذا قيل (2).

ثمّ ذكر سبحانه سائر نعمه العظام على إبراهيم عليه السّلام بقوله: وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً الذي هو ابن أخيه، أو ابن خالته، من شرّ الكفّار و مجاورتهم مهاجرين من بابل و أرض العراق إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا و أكثرنا نعمنا فِيها لِلْعالَمِينَ من حيث إكثار المياه و الأشجار و الثّمار و الحطب، و طيب العيش للغنيّ و الفقير، و بعث الأنبياء و نشر الشّرائع، و هي أرض الشام.

و عن أبيّ بن كعب: سماها مباركة لأنّه ما من ماء عذب إلاّ و ينبع أصله من تحت الصّخرة التي ببيت المقدس (3).

قيل: خرج إبراهيم مع لوط و سارة من كوثى، و هو من بلاد أرض بابل، مهاجرا إلى ربّه، و فرارا بدينه، حتى نزل بحرّان، فمكث بها ما شاء اللّه، ثمّ ارتحل منها و نزل بفلسطين، ثمّ خرج منها مهاجرا حتى قدم مصرا، ثمّ خرج من مصر و عاد إلى أرض الشام، و نزل لوط بالمؤتفكة و بعثه اللّه نبيّا إلى أهلها (4).

و في الحديث: بيت المقدس أرض الحشر و النّشر، و الشام صفوة اللّه من بلاده يجيئ إليها صفوة خلقة (5).

و كان من المنن أنّا أنعمنا على إبراهيم عليه السّلام وَ وَهَبْنا لَهُ بعد هجرته إلى الأرض المباركة و نزوله فيها إِسْحاقَ من صلبه و رحم سارة وَ يَعْقُوبَ من صلب إسحاق عليه السّلام حال كونه نافِلَةً

ص: 293


1- . المرزبة: عصيّة من حديد، و مطرقة كبيرة تكسر بها الحجارة.
2- . تفسير روح البيان 5:500.
3- . تفسير روح البيان 5:501. (4 و 5) . تفسير روح البيان 5:501.

و عطيّة زائدة وَ كُلاًّ من الأربعة، أو من إسحاق و يعقوب عليهما السّلام جَعَلْنا هم بتوفيقنا صالِحِينَ و جامعين لخيرات الدّين و الدّنيا

وَ جَعَلْناهُمْ برحمتنا أَئِمَّةً للنّاس و مقتدين لهم في امور الدين، و هداة يَهْدُونَ الخلق إلى الحقّ بِأَمْرِنا لهم بذلك، و إرسالنا إيّاهم إليهم وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ ليحثّوا الناس عليها وَ كانُوا أنفسهم لَنا خاصّة عابِدِينَ و خاضعين و مطيعين.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 74 الی 77

ثمّ ذكر اللّه نعمته على لوط بإيمانه بإبراهيم عليه السّلام و تبعيّته له بقوله: وَ لُوطاً آتَيْناهُ من فضلنا حُكْماً و قضاء بين الناس، أو الحكمة التي هي أفضل النّعم، أو النبوّة التي هي أعلى المناصب وَ عِلْماً نافعا، و هو العلم بامور الدين و أحكام الشريعة وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ جماعة سكّانها تَعْمَلُ اَلْخَبائِثَ و تفعل الفواحش من قطع الطريق، و إتيان المنكر في الأندية، و نكاح الرجال إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ لم تكن فيهم جهة حسن، و كانوا فاسِقِينَ و خارجين عن حدود العقل و الشرع، منهمكين في الكفر و الطّغيان

وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا الخاصة، و هي النبوّة، و الثّواب العظيم، كما عن ابن عبّاس (1). إنّه كان واحدا مِنَ اَلصّالِحِينَ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى.

وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ (75) وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (76) وَ نَصَرْناهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على نوح عليه السّلام بقوله: وَ نُوحاً إِذْ نادى ربّه، و المعنى: اذكر نبأه الواقع حين دعائه على قومه بالهلاك مِنْ قَبْلُ و في الزمان السابق على إبراهيم فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه على قومه بقوله: «ربّ إنّي مغلوب فانتصر» فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أولاده و المؤمنين به مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ و الغمّ الشّديد،

من تكذيب القوم و إيذائهم، أو منه و من العذاب وَ نَصَرْناهُ نصرا مستتبعا للانتقام مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و دلائل توحيدنا، و رسالة رسلنا.

و قيل: يعني نصرناه من مكروه القوم (2)، أو عصمناه من مكرهم. و قيل: إنّ كلمة (من) بمعنى على (3)إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ و امّة رذيلة الأخلاق، و فاسدة العقائد و الأعمال فَأَغْرَقْناهُمْ بالطّوفان أَجْمَعِينَ بحيث لم ينفلت منهم أحد.

ص: 294


1- . تفسير الرازي 22:192. (2 و 3) . تفسير الرازي 22:194.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 78 الی 80

وَ اذكر داوُدَ وَ سُلَيْمانَ، أو التقدير: و آتينا داود و سليمان رشدهما إِذْ يَحْكُمانِ فِي قضية اَلْحَرْثِ و الزّرع إِذْ نَفَشَتْ و تفرّقت فِيهِ باللّيل غَنَمُ اَلْقَوْمِ و قطيعهم وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ و قضائهم في تلك القضيّة شاهِدِينَ و حاضرين علما و إحاطة فَفَهَّمْناها و ألهمناها سُلَيْمانَ و هو ابن أحد عشر سنة، على ما روته العامة (1).

وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ اَلْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنّا فاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)ثمّ دفع سبحانه توهّم اختصاص العلم بالحكم بسليمان عليه السّلام بقوله: وَ كُلاًّ من داود و سليمان عليه السّلام آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً كثيرا، لا سليمان وحده.

روت العامة: أنّه دخل رجلان على داود عليه السّلام، أحدهما صاحب حرث، و الآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إنّ غنم هذا دخلت حرثي، فما أبقت منه شيئا. فقال داود عليه السّلام: إذهب فإنّ الغنم لك. فخرجا فمرّا بسليمان عليه السّلام، فقال: كيف قضى بينكما؟ فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا، فأخبر بذلك داود عليه السّلام فدعاه و قال: كيف قضيت بينهما؟ فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له منافعها من الدّرّ و النّسل و الوبر، حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئتة يوم أكل، دفعت الغنم إلى أهلها، و قبض صاحب الحرث حرثه (2).

و عن ابن مسعود: إنّ راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم و هو لا يشعر، فأكلت القضبان، و أفسدت الكرم، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السّلام، فقضى له بالغنم، لأنّه لم يكن بين ثمن الكرم و ثمن الغنم تفاوت، فخرجوا فمرّوا بسليمان عليه السّلام فقال لهم: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه به، فقال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر داود بذلك، فدعا سليمان و قال له: بحقّ الابوّة و النبوّة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟

فقال: هو ردّ الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق (3)بمنافعها، و يعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان، ثمّ تردّ الغنم إلى صاحبها. فقال داود عليه السّلام: إنّما القضاء ما قضيت، و حكم بذلك (4).

ص: 295


1- . تفسير روح البيان 5:505.
2- . تفسير الرازي 22:195، تفسير روح البيان 5:505.
3- . ارتفق بالشيء: انتفع و استعان.
4- . تفسير الرازي 22:195.

و رووا أنّ حكم داود عليه السّلام لم يكن على البتّ، و حملوا حكمهما على الاجتهاد (1). و لا يخفى ما في هذا الحمل من الفساد.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه كان أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى النبيّين قبل داود عليه السّلام إلى أن بعث اللّه داود عليه السّلام: أيّ غنم نفشت في الحرث فان لصاحب الحرث رقاب الغنم، و لا يكون النّفش إلاّ باللّيل، فإنّ على صاحب الزرع أن يحفظ زرعه بالنّهار، و على صاحب الغنم أن يحفظ غنمه باللّيل. فحكم داود عليه السّلام بما حكم به الأنبياء من قبل، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى سليمان عليه السّلام: أيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلاّ ما خرج من بطونها، و كذلك جرت السنّة بعد سليمان عليه السّلام، و هو قول اللّه: وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً و حكم كلّ واحد بحكم اللّه عزّ و جلّ» (2).

و في رواية اخرى ما يقرب منه (3).

و عنه عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أن اتّخذ وصيّا من أهلك، فإنّه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبيّا إلاّ و له وصيّ من أهله، و كان لداود عليه السّلام عدّة أولاد و فيهم غلام كانت أمّه عند داود عليه السّلام، و كان لها محبّا، فدخل عليها داود عليه السّلام حين أتاه الوحي فقال لها: إنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إليّ أن أتّخذ وصيّا من أهلي، فقالت له امرأته: فليكن ابني، قال: ذلك أريد، و كان السابق في علم اللّه المحتوم عنده أنّه سليمان عليه السّلام، فأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري.

فلم يلبث داود عليه السّلام أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم و الكرم، و أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود عليه السّلام: أن اجمع ولدك، فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك، فجمع داود عليه السّلام ولده، فلمّا أن قصّ الخصمان قال سليمان عليه السّلام: يا صاحب الكرم، متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلا، قال: قد فضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك و أصوافها في عامك هذا.

ثمّ قال له داود عليه السّلام: فكيف لم تقض برقاب الغنم و قد قوّم ذلك علماء بني إسرائيل، فكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان عليه السّلام: إنّ الكرم لم يجتثّ من أصله، و إنّما أكل حمله و هو عائد من (4)قابل.

فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود عليه السّلام: إنّ القضاء في هذه القضيّة ما قضى سليمان عليه السّلام به، يا داود: أردت أمرا و أردنا أمرا غيره. فدخل داود عليه السّلام على امرأته فقال: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا غيره، و لم

ص: 296


1- . تفسير أبي السعود 6:79.
2- . الكافي 5:302/3، تفسير الصافي 3:348.
3- . الكافي 5:301/2، تفسير الصافي 3:348.
4- . في الكافي: في.

يكن إلاّ ما أراد اللّه، فقد رضينا بأمر اللّه عزّ و جل و سلّمنا. و كذلك الأوصياء ليس لهم أن يتعدّوا بهذا الأمر فيجاوزن صاحبه إلى غيره» (1).

و عنه عليه السّلام قال: «كان في بني إسرائيل رجل و كان له كرم، و نفشت فيه غنم لرجل [آخر]باللّيل، و قضمته و أفسدته، فجاء صاحب الكرم إلى داود عليه السّلام، فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود عليه السّلام: إذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما. فذهبا إليه، فقال سليمان عليه السّلام: إن كانت الغنم أكلت الأصل و الفرع، فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم و ما في بطنها، و إن كانت ذهبت بالفرع و لم تذهب بالأصل، فإنّه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم، و كان هذا ما حكم داود عليه السّلام، و إنّما أراد أن يعرف بني إسرائيل أنّ سليمان عليه السّلام وصيّة بعده، و لم يختلفا في الحكم، و لو اختلف حكمهما لقال: كنّا لحكمهما شاهدين» (2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لم يحكما، إنّما كانا يتناظران ففهّمناها سليمان» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام: «كان حكم داود رقاب الغنم، و الذي فهّم اللّه سليمان أنّ لصاحب الكرم اللّبن و الصّوف ذلك العام كلّه» (4).

أقول: هذه جملة الروايات الواردة، و تبيّن أنّ صريح جملة منها عدم صدور حكم من داود عليه السّلام كما عليه بعض مفسّري العامة، و من المعلوم أنّها مخالفة لظاهر الكتاب من قوله: إِذْ يَحْكُمانِ فِي اَلْحَرْثِ و قوله: وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ و ترتّب قوله: فَفَهَّمْناها على قوله: وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ و لازم التّرتّب سبق الحكم المخالف على التّفهيم، فلا بدّ من طرح الروايات المخالفة للكتاب، و حمل الموافقة له على حكم داود فيها بحكم سائر الأنبياء. ثمّ نسخه اللّه على لسان سليمان عليه السّلام إظهارا لعظمة شأنه و كونه نبيّا، أو بلسان داود عليه السّلام، و إنّما كان ما فهمه سليمان عليه السّلام حكمه الحكم الناسخ، و بيان أولويّته و أرجحيّته من الحكم المنسوخ، لوضوح عدم جواز الاجتهاد و الحكم بالظنّ و الاستحسان على الأنبياء، كما عليه العامة (5).

قال الفاضل المقداد في آيات أحكامه: هل كان حكمهما بوحي أو باجتهاد؟

الجواب: الوجه الحقّ عندنا أنّه بوحي، و الثاني ناسخ، كما هو قول الجبّائي (6).

ثمّ بيّن نعمته المختصّة بداود عليه السّلام بقوله: وَ سَخَّرْنا و دلّلنا مَعَ داوُدَ اَلْجِبالَ حال تسبيحه،

ص: 297


1- . الكافي 1:219/3، تفسير الصافي 3:348.
2- . تفسير القمي 2:73، تفسير الصافي 3:349.
3- . المحاسن:277/397، من لا يحضره الفقيه 3:57/198، تفسير الصافي 3:349.
4- . من لا يحضره الفقيه 3:57/199، تفسير الصافي 3:349.
5- . تفسير الرازي 22:196.
6- . كنز العرفان 2:379.

حيث إنّهنّ يُسَبِّحْنَ بتبعه. قيل: إنّ التقدير كيف سخّرها اللّه فقيل يسبّحن (1). وَ اَلطَّيْرَ بحيث يسمع كلّ أحد تسبيحها، و إنّما قدّم الجبال لكون تسبيحها أعجب.

قيل: كان داود عليه السّلام إذا وجد فترة سبّحت الجبال و الطّير بأمر اللّه ليزداد اشتياقا و نشاطا (2)وَ كُنّا بقدرتنا فاعِلِينَ ذلك الأمر العجيب.

و قيل: يعني كنّا فاعلين ذلك و أمثاله بالأنبياء، ليكون لهم معجزة (3).

عن ابن عبّاس: أنّ بني إسرائيل كانوا قد تفرّقوا قبل مبعث داود، و أقبلوا على ملاهي الشيطان، و هي العيدان و الطّنابير و المزامير و الصنوج (4)و ما أشبهها، فبعث اللّه داود عليه السّلام، و أعطاه من حسن الصّوت و نغمة الألحان حتى كان يتلو التّوراة بترجيع و خفض و رفع، فأذهل عقول بني إسرائيل، و شغلهم عن تلك الملاهي، و صاروا يجتمعون إلى داود عليه السّلام يستمعون ألحانه، و كان إذا سبّح تسبّح معه الجبال و الطّير و الوحش (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ داود خرج يقرأ الزّبور، و كان إذا قرأ الزّبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلاّ أجابه» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّ يهوديّا قال له: هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه. فقال: «إنّه كان كذلك» (7).

وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ و عمل دروع يكون ذلك التّعليم أو الدرع لَكُمْ أيّها الناس يعني لِتُحْصِنَكُمْ و تحفظكم اللّبوس و الدّروع مِنْ أن تصيبكم الجراحات في بَأْسِكُمْ و حربكم فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ لنعمة اللّه عليكم حيث سهّل عليكم المخرج من الشّدائد.

قيل: إنّ داود عليه السّلام خرج يوما متنكّرا ليطلب من يسأله عن سيرته في مملكته، فاستقبله جبرئيل على صورة آدمي و لم يعرفه داود عليه السّلام، فقال له: كيف ترى سيرة داود عليه السّلام في مملكته؟ فقال له جبرئيل: نعم الرجل هو لو لا أنّ فيه خصلة واحدة. قال: و ما هي؟ قال: بلغني أنّه يأكل من بيت المال، و ليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كدّ يمينه، فرجع داود عليه السّلام و سأل اللّه أن يجعل رزقه من كدّ يمينه،

ص: 298


1- . الكشاف 3:129، تفسير الرازي 22:200.
2- . تفسير الرازي 22:199.
3- . تفسير الرازي 22:200.
4- . الطّنابير: جمع طنبور و هو آلة من آلات اللهو و اللعب و الطرب، ذات عنق و أوتار. و المزامير: جمع مزمار، و هو آلة من خشب أو معدن تنتهي قصبتها ببوق صغير. و الصّنوج: جمع صنج، و هو صفيحة مدورة من صفر يضرب بها على أخرى، و صفائح صغيرة مستديرة تثبت في أطراف الدفّ، أو في الأصابع ليدقّ بها عند الطرب.
5- . تفسير روح البيان 5:507.
6- . إكمال الدين:524/6، تفسير الصافي 3:349.
7- . الاحتجاج:219، تفسير الصافي 3:350.

فألان له الحديد، و كان يتّخذ الدّرع من الحديد و يبيعها، و يأكل من ذلك (1).

و عن الصادق عليه السّلام «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام: أنّك نعم العبد لو لا أنّك تأكل من بيت المال، و لا تعمل بيدك شيئا. قال: فبكى داود عليه السّلام أربعين صباحا، فأوحى اللّه إلى الحديد: أن لن لعبدي داود. فألان اللّه له الحديد، فكان يعمل في كلّ يوم درعا، فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة و ستّين درعا، فباعها بثلاثمائة و ستّين ألفا، و استغنى عن بيت المال» (2).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 81 الی 82

ثمّ بيّن سبحانه نعمه الخاصّة على سليمان عليه السّلام بقوله: وَ لِسُلَيْمانَ سخّرنا اَلرِّيحَ التي تكون عاصِفَةً شديدة الهبوب بحيث تقطع المسافة البعيدة في المدّة القليلة، و كانت تَجْرِي من كلّ جانب بِأَمْرِهِ و إرادته إِلى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا و أكثرنا النّعم الدنيويّة و الاخرويّة فِيها.

وَ لِسُلَيْمانَ اَلرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَ مِنَ اَلشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)قيل: كانت تذهب به غدوة من الشام إلى ناحية من نواحي الأرض بينها و بين الشام مسيرة شهر إلى وقت الزّوال، ثمّ ترجع [به]منها إلى الشام بعد الزّوال عند الغروب (3).

قيل: عملت الشياطين لسليمان بساطا، فرسخا في فرسخ من ذهب و إبريسم، و كان يوضع له منبر في وسط البساط فيقعد عليه، و حوله كراسيّ من ذهب و فضّة، يقعد الأنبياء على كراسيّ الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة، و حولهم الناس، و حول النّاس الجنّ و الشياطين، و تظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تطلع عليه الشمس، و ترفع ريح الصّبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرّواح، و من الرواح إلى الغروب، و كان عليه السّلام امرءا قلّما يقعد عن الغزو، و لا يسمع في ناحية من الأرض ملكا إلاّ أتاه و دعاه إلى الحقّ (4).

و قيل: جريانها بأمره كونها مطيعة له، إن أرادها عاصفة كانت عاصفة، و إن أرادها لينة كانت لينة (3). و كانت تسير من إصطخر إلى الشّام (4). و قيل: إلى بيت المقدس (5).

ثمّ بيّن سعة علمه بالمصالح بقوله: وَ كُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ و لذا صحّ منّا أن ندبّر هذا التدبير في رسلنا و خلقنا، و أن نعطي هذه المعجزات لمن نراه أهلا لها، أو لعلمنا بكلّ شيء نجريه على ما

ص: 299


1- . تفسير روح البيان 5:508.
2- . الكافي 5:74/5، تفسير الصافي 3:350. (3 و 4) . تفسير روح البيان 5:510.
3- . تفسير الرازي 22:201.
4- . تفسير الرازي 22:201، تفسير أبي السعود 6:80.
5- . تفسير القمي 2:74، تفسير الصافي 3:350.

تقتضيه الحكمة

وَ له مِنَ اَلشَّياطِينِ و كفرة الجنّ مَنْ يَغُوصُونَ و يدخلون لَهُ في البحار و يستخرجون له من نفائسها وَ يَعْمَلُونَ له بأمره عَمَلاً دُونَ ذلِكَ و صنعة غير ما ذكر من بناء المدن و القصور و المحاريب و تماثيل و مخترعات الصنائع الغريبة وَ كُنّا لَهُمْ حافِظِينَ من إفساد ما عملوا.

قيل: كان دأبهم أن يعملوا بالنّهار و يفسدوا باللّيل، أو من أن يزيغوا عن أمره (1)، و أن يتمرّدوا عليه.

و قيل: إنّ حفظ كفرة الجنّ من التمرّد و الإفساد، بإلقاء الخوف الشّديد من سليمان، و الحبّ المفرط لطاعته في قلوبهم، أو بتوكّل جمع من الملائكة، أو جمع من مؤمني الجنّ عليهم (2)، و كان ذلك من معجزاته المختصّة به، و أمّا مؤمنو الجنّ فلم يكونوا محتاجين إلى الحفظ لأنّهم بإيمانهم له كانوا مطيعين له، منقادين لأوامره و نواهيه.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 83

ثمّ ذكر اللّه سبحانه نعمته على أيّوب بقوله: وَ أَيُّوبَ و التقدير اذكر أمر أيّوب إِذْ نادى و دعا رَبَّهُ و قال: ربّ أَنِّي مَسَّنِيَ و أصابني الضّرّ و البلاء العظيم، ارحمني وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ.

وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (83)روي عن وهب بن منبّه: أنّ أيّوب عليه السّلام كان رجلا من الروم، و هو ابن أنوص، من ولد عيص (3)بن إسحاق، و كانت امّه من ولد لوط، و كان اللّه [قد]اصطفاه و جعله نبيّا، و كان مع ذلك [قد]أعطاه من الدّنيا حظّا وافرا من النّعم و الدوابّ و البساتين، و كان له خمسمائة زوج من البقر للزّرع، و خمسمائة مملوك، كلّ واحد موكّل على زوج منها، و كان له أربعمائة مملوك، كلّ منهم راعي قطيع من الغنم، و كان له أهل و ولد من رجال و نساء، و كان رحيما بالمساكين، و كان يكفل الأيتام و الأرامل، و يكرم الضّيف، و كان معه ثلاثة نفر آمنوا به و عرفوا فضله.

و إنّ لجبرئيل بين يدي اللّه تعالى مقاما ليس لأحد من الملائكة مثله في القرب و المنزلة، و هو الذي يتلقّى الكلام، فإذا ذكر اللّه عبدا بخير تلقّاه جبرئيل، ثمّ تلقّاه ميكائيل، ثمّ من حوله من الملائكة المقرّبين، فإذا شاع ذلك فيهم يصلّون عليه، ثمّ صلّت ملائكة السماوات ثمّ ملائكة الأرض.

و كان إبليس لم يحجب عن شيء من السماوات و الأرض، و كان يقف فيهنّ حيثما أراد، و من هناك

ص: 300


1- . تفسير أبي السعود 6:81.
2- . تفسير الرازي 22:202.
3- . في النسخة: عيصوا.

وصل إلى آدم عليه السّلام حتى أخرجه من الجنّة، و لم يزل على ذلك حتى رفع عيسى فحجب عن أربع سماوات، فكان بعد ذلك يصعد إلى ثلاث إلى زمان نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فحجب عند ذلك عن جميع السماوات إلاّ من استرق السّمع.

فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب عليه السّلام، فأدركه الحسد، فصعد سريعا حتى وقف من السّماء موقفا كان يقفه، فقال: يا ربّ، إنّك أنعمت على عبدك أيّوب فشكرك، و عافيته فحمدك، و أنت لم تجرّبه بشدّة و لا بلاء، و أنّا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك.

فقال اللّه تعالى: إنطلق فقد سلطّتك على ماله، فانقضّ الملعون حتى وقع على الأرض، و جمع عفاريت الشياطين، و قال: ماذا عندكم من القوّة، فإنّي سلّطت على مال أيوب؟ فقال عفريت: اعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كلّ شيء آتي عليه. فقال إبليس: فأت الإبل و رعاءها. فذهب و لم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلاّ اخترق، فلم يزل يحرقها و رعاءها حتى أتى على آخرها.

فذهب إبليس على شكل بعض اولئك الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام، فوجده قائما يصلّي، فلمّا فرغ من صلاته قال: يا أيّوب، هل تدري ما صنع ربّك الذي اخترته بإبلك و رعائها؟

فقال أيّوب: إنّها ماله أعارنيه، و هو أولى به إذا شاء نزعه.

قال إبليس: إنّ ربّك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت و رعاؤها كلّها، و تركت الناس مبهوتين متعجّبين منها، فمن قائل يقول: ما كان أيّوب يعبد شيئا، و ما كان إلاّ في غرور. و من قائل يقول: لو كان إله أيّوب يقدر على شيء لمنع من وليّه، و من قائل آخر يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوّه به، و يفجع صديقه به.

فقال أيّوب: الحمد للّه حين أعطاني و حين نزع منّي، خرجت من بطن امّي عريانا، و أحشر إلى اللّه تعالى عريانا، و لو علم اللّه تعالى فيك خيرا أيّها العبد لنقل روحك مع تلك الأرواح، و صرت شهيدا و آجرني فيك، و لكنّ اللّه علم فيك شرّا فأخّرك.

فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا، فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلاّ خرجت روحه. فقال إبليس: فأت الغنم و رعاءها، فانطلق فصاح بها، فماتت و مات رعاؤها، فخرج إبليس متمثّلا بقهرمان الرعاة إلى أيّوب عليه السّلام، فقال له القول الأوّل، و ردّ عليه أيّوب عليه السّلام الجواب الاوّل.

فرجع إبليس صاغرا، فقال عفريت آخر: عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفة أقلع كلّ

ص: 301

شيء أتيت عليه قال: فاذهب إلى الحرث و الثّيران، فأتاها و أهلكها، ثمّ رجع إبليس متمثّلا حتى جاء أيّوب عليه السّلام و هو يصلّي، فقال مثل القول الأوّل، فردّ عليه أيّوب عليه السّلام مثل الردّ الأوّل.

فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا، حتى أتى على جميعها، فلمّا رأى إبليس صبره على ذلك، وقف الموقف الذي كان يقفه عند اللّه، و قال: يا إلهي، هل أنت مسلّطي على ولده، فإنّها الفتنة المضلّة؟ فقال اللّه تعالى: إنطلق فقد سلّطتك على ولده.

فأتى أولاد أيّوب في قصرهم، فلم يزل يزلزله من قواعده حتى قلب القصر عليهم، ثمّ جاء إلى أيّوب عليه السّلام متمثّلا بالمعلّم و هو جريح مشدوخ (1)الرأس يسيل دمه و دماغه، فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطّع قلبك. فلم يزل يقول هذا و يرقّقه حتى رقّ أيّوب عليه السّلام و بكى، و قبض قبضة من التراب و وضعها على رأسه، فاغتنم ذلك إبليس، ثمّ لم يلبث أيّوب عليه السّلام حتى استغفر و استرجع، ثمّ صعد إبليس حتى وقف موقفه و قال: يا إلهي، إنّما يهون خطر المال و الولد على أيّوب لعلمه أنّك تعيدهما له، فهل أنت مسلّطي على جسده، و إنّي لك زعيم لوابتليته في جسده ليكفرنّ بك. فقال اللّه تعالى: إنطلق فقد سلّطتك على جسده، و ليس لك سلطان على عقله و قلبه و لسانه.

فانقضّ عدوّ اللّه سريعا، فوجد أيّوب عليه السّلام ساجدا للّه تعالى، فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، و خرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل، و وقعت فيه حكّة لا يملكها، و كان يحكّ بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثمّ حكّها بالمسوح الخشنة، ثمّ حكّها بالفخّار و الحجارة و لم يزل يحكّها حتى تقطّع لحمه و تغبّر و نتن، فأخرجه أهل القرية، و جعلوه على كناسة، و جعلوا له عريشا، و رفضه الناس كلّهم غير امرأته [فكانت]تصلح أموره.

ثمّ أطال وهب في الحكاية إلى أن قال: إنّ أيّوب عليه السّلام أقبل على اللّه مستغيثا متضرّعا إليه، فقال: يا ربّ، لأيّ شيء خلقتني؟ يا ليتني كنت حيضة ألقتني امّي، و يا ليتني عرفت الذّنب الذي أذنبته و العمل الذي عملته حتى صرفت وجهك الكريم عنّي؟ ألم أكن للغريب دارا، و للمسكين قرارا، و لليتيم وليّا، و للأرامل قيّما؟

إلهي، أنا عبدك الذّليل إن أحسنت إليّ فالمنّ لك، و إن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا، و للفتنه نصبا، سلّطت عليّ ما لو سلّطته على جبل لضعف من حمله.

إلهي، تقطّعت أصابعي، و تساقطت لهواتي، و تناثر شعري، و ذهب مالي، و صرت أسأل اللّقمة

ص: 302


1- . في النسخة: مخدوش.

فأطعمني من يمنّ بها عليّ، و يعيّرني بفقري و هلاك أولادي (1). و بقي في البلاء ثلاث سنين (2).

و عن الحسن: أنّه عليه السّلام مكث بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين و أشهرا (3).

و عن مقاتل: بقي أيّوب عليه السّلام في البلاء سبع سنين و سبعة أشهر و سبعة أيّام و سبع ساعات (4).

و عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب و البعيد إلاّ رجلين من إخوانه كانا يغدوان و يروحان إليه، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: و اللّه لقد أذنب أيّوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه: و ما ذاك؟ فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه تعالى و لم يكشف ما به.

فلمّا راحا إلى أيّوب، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيّوب، فقال أيوب عليه السّلام: ما أدري ما تقولان غير أنّ اللّه تعالى يعلم أنّي كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه عزّ و جلّ، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهيّة أن يذكر اللّه إلاّ في حقّ» (5).

و في رواية: أنّ الرجلين لمّا دخلا عليه وجدا ريحا فقالا: لو كان لأيّوب عند اللّه خير ما بلغ إلى هذه الحالة، قال: فما شقّ على أيّوب شيء ممّا ابتلي به أشدّ ممّا سمع منهما، فقال: اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أبت شبعانا و أنا أعلم بمكان جائع فصدّقني. فصدّقه و هما يسمعان، ثمّ خرّ أيّوب، ساجدا. ثمّ قال: أللّهمّ إنّي لا أرفع رأسي حتى تكشف مابي (6).

و عن الحسن: أنّه لم يبق لأيّوب عليه السّلام مال و لا ولد و لا صديق إلاّ امرأته رحمة صبرت معه، و كانت تأتيه بالطّعام، و تحمد اللّه تعالى مع أيّوب عليه السّلام، و كان أيّوب مواظبا على حمد اللّه، و الثناء عليه، و الصبر على ما ابتلاه، فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيّوب، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض، و قالوا له: ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت اللّه أن يسلّطني عليه و على ماله و ولده، فلم أدع له مالا و لا ولدا، و لم يزدد بذلك إلاّ صبرا و حمدا للّه تعالى، ثمّ سلّطت على جسده، فتركته ملقى على كناسة و ما يقربه إلاّ امرأته، و هو مع ذلك لا يفتر عن الذّكر و حمد اللّه، فاستعنت بكم لتعينونني عليه.

فقالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كلّه في أيّوب، فأشيروا عليّ.

ص: 303


1- . تفسير الرازي 22:203.
2- . تفسير الرازي 22:207.
3- . تفسير الرازي 22:206.
4- . تفسير الرازي 22:207.
5- . تفسير الرازي 22:205.
6- . تفسير الرازي 22:206.

قالوا: أدليت آدم حين أخرجته من الجنّة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: إئت أيّوب أيضا من قبل امرأته، قالوا: فإنّه لا يستطيع أن يعصيها لأنّه لا يقر به أحد غيرها. قال: أصبتم.

فانطلق حتى أتى امرأته، فتمثّل لها في صورة رجل، فقال لها: أين بعلك يا أمّة اللّه؟ قالت: هو هذا الذي يحكّ قروحه و يتردّد الدوابّ في جسده. فلمّا سمع منها ذلك طمع أن يكون ذلك كلّه جزعا، فوسوس إليها و ذكّرها ما كان من النّعم و المال، و ذكّرها جمال أيّوب و شبابه فصرخت، فلمّا صرخت علم أنّها [قد]جزعت فأتاها بسخلة و قال: قولي لأيّوب ليذبح هذه لي و يبرأ.

فجاءت تصرخ إلى أيّوب فقالت: يا أيّوب حتى يعذّبك ربّك؟ ألا يرحمك؟ ! أين المال، أين الماشية، أين الولد، أين الصديق، أين اللّون الحسن، أين جسمك الذي قد بلى و صار مثل الرّماد و تردّد فيه الدوابّ؟ إذبح هذه و استرح.

فقال أيّوب عليه السّلام: أتاك عدوّ اللّه و نفخ فيك فأجبتيه، ويلك أترين ما تبكين عليه من المال و الولد و الصّحة، من أعطانا ذلك؟ قالت: اللّه. قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذكم ابتلانا اللّه بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين و أشهر،

قال: ويلك ما أنصفت ربّك، ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة، كما كنّا في الرّخاء ثمانين سنة؟ و اللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنّك مائة جلدة، أمرتيني أن أذبح لغير اللّه؟ حرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك و شرابك الذي تأتيني به، فطردها فذهبت، فلمّا نظر أيّوب عليه السّلام في شأنه و ليس عنده طعام و لا شراب و لا صديق، و قد ذهبت امرأته خرّ ساجدا و قال: ربّ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (1).

و عن وهب: لمّا غلب أيّوب إبليس، ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم و الجسم و الجمال، على مركب ليس كمراكب الناس، و قال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: أنا إله الأرض، أنا صنعت بأيّوب ما صنعت، لأنّه عبد إله السّماء و تركني فأغضبني، و لو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك و عليه جميع مالكما من مال و ولد فإنّ ذلك عندي.

قال وهب: و سمعت أنّه قال: لو أنّ صاحبك أكل طعاما و لم يسمّ اللّه لعوفي ممّا هو فيه من البلاء، و قيل: إنّه قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال و الولد و اعافي زوجك.

فرجعت إلى أيّوب، فأخبرته بما قال لها، فقال أيوب: أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك، ثمّ أقسم لئن

ص: 304


1- . تفسير الرازي 22:206.

عافاني اللّه لأجلدنّك مائة جلدة، و قال عند ذلك: ربّ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ يعني من طمع إبليس في سجودي له و سجود زوجتي و دعائه إيّاها و إيّايّ إلى الكفر (1).

و عنه أيضا: أنّ امرأة أيّوب كانت تعمل للنّاس و تأتيه بقوته، فلمّا طال عليه البلاء سئمها الناس و لم يستعملوها، فالتمست [ذات]يوم شيئا من الطّعام فلم تجد، فجزّت من رأسها قرنا فباعته برغيف فأتته به، فقال لها: أين قرنك؟ فأخبرته بذلك. فحينئذ قال: مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ (2).

و قيل: كان لها ثلاث ذوائب، فقطعت إحداهما، فباعتها بخبز و لحم، فجاءت إلى أيّوب عليه السّلام فقال: من أين هذا؟ فقالت: كل فإنّه حلال، فلمّا كان [من]الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية، و كذلك فعلت في اليوم الثالث، و قالت: كل، فقال: لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته، فبلغ ذلك من أيّوب ما اللّه أعلم به (3).

و قيل: إنّ إبليس تمثّل للقوم في صورة بشر و قال: لئن تركتم أيّوب في القرية تتعدّى إليكم علّته، فأخرجوه إلى باب القرية، ثمّ قال لهم: إنّ امرأته تدخل بيوتكم و هي تمسّ زوجها، فإن تعمل لكم تتعدّى إليكم علّته، و لذا لم يستعملها أحد، فباعت ضفيرتها (4).

و قيل: سقطت دودة من فخذ أيّوب، فرفعها و ردّها إلى موضعها، و قال: جعلني اللّه طعمة لك، فعضّته عضّة شديدة فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ فأوحى اللّه إليه: لو لا أنّي جعلت تحت كلّ شعرة منك صبرا لما صبرت (5).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 84

ثمّ أخبر سبحانه بإجابة دعائه بقوله: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَكَشَفْنا و أزلنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ و مرض.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)قيل: أوحى اللّه إليه: ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك الأرض. فركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، فلم تبق في بدنه دابّة إلاّ سقطت منه عليه السّلام، ثمّ ضرب برجله مرّة اخرى فنبعت عين اخرى، فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلاّ خرج، و قام صحيحا، و عاد إليه شبابه و جماله، حتى صار أحسن ما كان، ثمّ كسي حلّة (4).

وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ و ولده وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قيل: لمّا قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا من أهله و ولده

ص: 305


1- . تفسير الرازي 22:207.
2- . تفسير الرازي 22:207.
3- . تفسير الرازي 22:208. (4 و 5) . تفسير الرازي 22:208.
4- . تفسير الرازي 22:207.

و ماله إلاّ ضعّفه اللّه تعالى (1).

قيل: إنّه تطاير من الماء الذي اغتسل منه إلى صدره الجراد من ذهب، فجعل يضمّه بيده، فأوحى اللّه إليه: يا أيّوب، ألم أغنك؟ قال: بلى، و لكنّها بركتك، فمن يشبع منها؟ ثمّ جلس على مكان مشرف (2).

ثمّ أنّ امرأته قالت: هب إنّه طردني، أفأتركه حتى يموت جوعا و تأكله السباع؟ فرجعت، فما رأت تلك الكناسة (1)و لا تلك الحالة، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة و تبكي، و أيّوب عليه السّلام ينظر إليها، و هابت أن تأتيه و تسأله عنه، فأرسل إليها أيّوب و دعاها و قال لها: ما تريدين؟ قالت: أردت المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة، قال لها: ما كان هو منك؟ قالت: هو بعلي. قال: أتعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: و هل يخفى على أحد يراه؟ فتبسّم و قال: أنا هو، فعرفته بضحكه فاعتنقته (2).

روي أنّ اللّه ردّ على امرأته شبابها، فولدت له ستّة و عشرين ولدا (3).

و كان ذلك لأجل أنّه رحمنا عليه رَحْمَةً خاصة مِنْ عِنْدِنا و من قدرتنا وَ تكون ذِكْرى و عبرة لِلْعابِدِينَ و وسيلة لهم إلى معرفتنا بكمال القدرة و الرحمة حتى يصبروا كما صبر أيّوب، و يثابوا كما اثيب.

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل كيف اوتي مثلهم معهم؟ قال: «احيي له من ولده [الذين كانوا]ماتوا قبل ذلك بآجالهم» (4).

و عنه عليه السّلام قال: «ابتلي أيّوب سبع سنين بلا ذنب» (5).

[و في العلل عنه عليه السّلام قال]: «و إنّما كانت بليّة أيّوب لنعمة أنعم اللّه بها عليه فأدّى شكرها. . .» (6).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 85 الی 86

ثمّ ذكر سبحانه بعض الصابرين من الأنبياء بقوله: وَ إِسْماعِيلَ بن إبراهيم الذي قال لأبيه: ستجدني إن شاء اللّه من الصابرين وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ منهم مِنَ اَلصّابِرِينَ على طاعة اللّه

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصّابِرِينَ (85) وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّالِحِينَ (86)

ص: 306


1- . الكناسة: موضع القمامة.
2- . تفسير الرازي 22:207.
3- . تفسير روح البيان 5:514.
4- . الكافي 8:252/354، تفسير الصافي 3:351.
5- . الخصال:399/107، تفسير الصافي 3:351.
6- . علل الشرائع:75/1، تفسير الصافي 3:351، و للحديث تتمة في (العلل) ، و قد نقل المصنف هذا المقدار من تفسير الصافي، و أحال في الصافي إلى تتمة الحديث في سورة (ص) .

و أذى قومهم وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا الخاصّة من النبوة و الزّلفى إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّالِحِينَ و الكاملين في الصفات الحميدة و الأخلاق الكريمة و الأعمال الحسنة.

عن ابن عباس: أنّ نبيّا من أنبياء بني إسرائيل آتاه اللّه الملك و النبوّة، ثمّ أوحى اللّه إليه: أنّي اريد أن أقبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفّل لك أن يصلّي باللّيل حتى يصبح، و يصوم بالنّهار و لا يفطر، و يقضي بين الناس و لا يغضب، فادفع ملكك إليه.

فقام ذلك النبيّ في بني إسرائيل، و أخبرهم بذلك، فقام شابّ و قال: أنا أتكفّل لك بهذا. فقال: في القوم من هو أكبر منك فأقعد، ثمّ صاح الثانية و الثالثة فقام الرجل و قال: أنا أتكفّل لك بهذه الثلاث، فدفع إليه ملكه و وفى بما ضمن، فحسده إبليس، فأتاه في وقت يريد أن يقيل فقال: إنّ لي غريما مطلني حقّي، و [قد]دعوته إليك فأبى، [فأرسل معي من يأتيك به]فأرسل معه و قعد حتى فاتته القيلولة، و عاد إلى صلاته و صلّى ليله إلى الصبح، ثمّ أتاه من الغد عند القيلولة، فقال: إنّ الرجل الذي أستأذنتك له في موضع كذا، فلا تبرح حتى آتيك به، فذهب و بقي هو منتظرا حتى فاتته القيلولة، ثمّ أتاه فقال له: هرب منّى، فمضى ذو الكفل إلى صلاته، فصلّى ليلته حتى أصبح، فأتاه إبليس و عرّفه نفسه (1).

قال الفخر: ذكر عليّ عليه السّلام نحو ما ذكره ابن عبّاس، و زاد: «أنّ ذا الكفل قال للبوّاب في اليوم الثالث: قد غلب عليّ النّعاس، فلا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام، فإنّي قد شقّ عليّ النعاس، فجاء إبليس فلم يأذن له البوّاب، فدخل من كوّة في البيت، و تسوّر فيها، فإذا هو يدقّ الباب من داخل، فاستيقظ الرجل، و عاتب البوّاب، فقال: أمّا من قبلي فلم يأت، فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق، و إبليس على صورة شيخ معه في البيت، فقال له: أتنام و الخصوم على الباب فعرفه، فقال: أنت إبليس؟ قال نعم، أعييتني في كلّ شيء، ففعلت هذه الأفعال لأغضبنّك، فعصمك اللّه منّي، فسمّي ذا الكفل، لأنّه [قد]وفى بما تكفّل به» (2).

و عن مجاهد: لمّا كبر اليسع قال: لو أنّي استخلفت رجلا على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس و قال: من يتقبّل منّي ثلاثا حتى أستخلفه (3)، و ذكر الثلاث المذكورة.

و قيل: إنّه لقب زكريا (4). و قيل: لقب يوشع بن نون، كما عن الرضا، عن أمير المؤمنين عليهما السّلام (5). و قيل:

ص: 307


1- . تفسير الرازي 22:210.
2- . تفسير الرازي 22:211.
3- . تفسير الرازي 22:211.
4- . تفسير الرازي 22:211.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:245/1، تفسير الصافي 3:351.

لقب إلياس (1). و قيل: خمسة من الأنبياء سمّاهم اللّه باسمين: إسرائيل و يعقوب، إلياس و ذو الكفل، عيسى و المسيح، يونس و ذو النون، محمّد و أحمد (2).

و قيل: وجه تسميته ذي الكفل، أنّه تكفّل ضعف عمل الأنبياء في زمانه، و ضعف ثوابهم (1).

و قيل: إنّه لم يكن نبيّا، بل كان عبدا صالحا (2).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ ذكر اللّه نعمته على يونس عليه السّلام باستجابة دعائه و نجاته من بطن الحوت بقوله: وَ ذَا اَلنُّونِ و صاحب الحوت و هو يونس بن متّى، قيل: إنّ متّى اسم أبيه و اسم امه بذورة (3)، و قيل: متّى اسم امّه، و كانت من ولد هارون (6). و قيل: يعني اذكر خبره (7)إِذْ ذَهَبَ من بين قومه-و هم أهل نينوى-حال كونه مُغاضِباً و مراغما لهم إلى البحر.

وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي اَلظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (88)عن ابن عباس: كان يونس و قومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا و بقي سبطان و نصف، فأوحى اللّه إلى شعيب عليه السّلام: أن اذهب إلى حزقيل الملك، و قل له حتى يوجّه نبيّا قويّا أمينا، فإنّي ألقي في قلوب اولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى- و كان في ممكلته خمسة من الأنبياء؟ -فقال: يونس بن متّى، فإنّه قويّ أمين، فدعا الملك بيونس، و أمره أن يخرج، فقال يونس عليه السّلام: هل أمرك اللّه بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فها هنا أنبياء غيري، فألحّوا عليه، فخرج مغاضبا للملك و لقومه (4).

فَظَنَّ يونس عليه السّلام أَنْ لَنْ نَقْدِرَ و لن نضيّق عَلَيْهِ بإيجاب الإقامة في القوم، أو إيجاب الخروج إلى الملك، بل نوسّع عليه بتخييره بين الإقامة و الخروج، فكان هذا وجه عدم تعمّده المعصية حيث ظنّ أنّ الأمر في خروجه موسّع عليه، يجوز له تقديمه و تأخيره، و كان الصلاح خلافه. أو المراد تمثيل حاله بحال من يظنّ أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار أمر اللّه تعالى. أو المراد فظنّ أن لن نقضي عليه بالشدّة، كما عن ابن عباس و جمع من المفسرين (5).

ص: 308


1- . تفسير الرازي 22:210.
2- . تفسير الرازي 22:211.
3- . تفسير روح البيان 5:516، و فيه: امّه بدورة. (6 و 7) . تفسير روح البيان 5:516.
4- . تفسير الرازي 22:212.
5- . تفسير الرازي 22:215.

و قيل: إنّ الظنّ بمعنى الخطور بالبال، و إن دفعه بالحجّة (1). و قيل: إنّه استفهام توبيخي، و المعنى أفظنّ أن لن نقدر عليه؟ ! (2)

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ذاك يونس بن متّى، ذهب مغاضبا لقومه فَظَنَّ يعني استيقن أن لن نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيّق عليه رزقه» (3)الخبر.

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و لو ظنّ أنّ اللّه لا يقدر لكان قد كفر» (4).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً يقول: «من أعمال قومه فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول: ظنّ أن لن نعاقبه بما صنع» (5).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما وكّل اللّه يونس بن متّى إلى نفسه طرفة عين، فكان منه ما كان» (6).

و عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه (1).

و عن ابن عباس: أنّه أتى يونس بحر الروم، فوجد قوما هيّئوا سفينة فركب معهم، فلمّا تلجّجت (2)السفينة تكفّأت بهم، و كادوا أن يغرقوا، فقال الملاّحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق؛ لأنّ السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلاّ و فيها رجل عاص، و من رسمنا أنّا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقرع، فمن وقعت عليه القرعة القيناه في البحر، لأنّه إن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة، فأقرعوا ثلاث مرّات، فوقعت القرعة فيها كلّها على يونس عليه السّلام، فقال: أنا الرجل العاصي و العبد الآبق، و ألقى نفسه في البحر، فجاء حوت فابتلعه، فأوحى اللّه إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة، فإنّي حعلت بطنك سجنا له، و لم أجعله طعاما لك (3).

و في رواية: أنّ جبرئيل قال ليونس: انطلق إلى أهل نينوى، و أنذرهم أنّ العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السّلام: ألتمس دابّة. فقال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب و انطلق إلى السفينة. . . ثمّ ساق الكلام كما سبق، إلى أن قال: التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى، فألقاه هناك (4).

أقول: أكثر المفسرين و العلماء على أن قضيّة إلقائه في البحر، و ابتلاع الحوت إياه، كان بعد رسالته إلى أهل نينوى و دعوتهم و رفع العذاب عنهم بالتّوبة، كما مرّت القصّة في سورة يونس.

و عن امّ سلمة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا أراد اللّه حبس يونس عليه السّلام أوحى إلى الحوت أن خذه و لا تخدش له لحما، و لا تكسر له عظما. فأخذه و هوى به إلى أسفل البحر، فسمع يونس حسّا، فقال في

ص: 309


1- . الكافي 2:423/15.
2- . أي اضطربت.
3- . تفسير الرازي 22:212، روح البيان 5:517، و لم ينسبه إلى ابن عباس.
4- . تفسير الرازي 22:213.

نفسه: ما هذا؟ فأوحى اللّه إليه: هذا تسبيح دوابّ البحر» (1)الخبر.

فَنادى و دعا ربّه فِي اَلظُّلُماتِ الثلاث: ظلمة الليل، و ظلمة البحر، و ظلمة بطن الحوت، كما عن الرضا عليه السّلام (2)، و هذا على تقدير كون النّداء بالليل. أو المراد الظّلمة المتكاثفة، أو المراد: ظلمة البحر، و ظلمة بطن الحوتين، فإنّه ابتلع حوت يونس حوت آخر كما قيل (3).

و كان نداؤه أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ و انزّهك تنزيها لائقا بك عن كلّ نقص و عيب، و منه العجز عن إنفاذ إرادتك، أو من أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام، أو عجزا عن تخليصي من هذا الحبس، بل فعلته بحقّ الالوهيّة و بمقتضى الحكمة البالغة إِنِّي كُنْتُ مستحقّا لعقوبتك، لكوني مِنَ اَلظّالِمِينَ على النفس بفراري من قومي بغير إذنك، أو بتركي في المدّة التي كنت على وجه الأرض مثل هذه العبادة التي أشتغل بها حال فراغتي في بطن الحوت، كما عن الرضا عليه السّلام (4).

روي أنّ الملائكة سمعت تسبيحه فقالوا مثله (5).

فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه الذي في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف الوجوه وَ نَجَّيْناهُ و خلّصناه مِنَ اَلْغَمِّ الحاصل له من الذنب و الحبس في بطن الحوت، بأن عفونا عنه، و قذفه الحوت إلى الساحل القريب من نينوى بعد أربع ساعات، أو ثلاثة أيّام، أو سبعة، أو أربعين يوما، كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر و لا جلد، و أنبتنا عليه شجرة من يقطين ليستظلّ بها، و يأكل من ثمرها حتّى يشتدّ، كما عن ابن عبّاس (6)وَ كَذلِكَ الإنجاء الذي لا إنجاء أسرع منه نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ من الغموم التي يدعوننا فيها بالإخلاص.

عن سعد بن أبي وقّاص، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ ما دعا بها عبد مسلم قطّ و هو مكروب إلاّ استجاب اللّه دعاءه» (7).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، و إذا سئل أعطى لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ» إلى آخره (8).

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام قال: «عجبت ممّن يبتلى بأربع كيف يغفل عن أربع؟ !» إلى أن قال: «و عجبت ممّن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ فإنّي سمعت اللّه يقول بعقبها: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي

ص: 310


1- . تفسير الرازي 22:216، عن عبد اللّه بن رافع مولى أم سلمة.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:201/1، تفسير الصافي 3:352.
3- . تفسير الرازي 22:216.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:201/1، تفسير الصافي 3:352.
5- . تفسير الرازي 22:216، تفسير روح البيان 5:518.
6- . تفسير الرازي 22:213.
7- . تفسير الرازي 22:216.
8- . تفسير روح البيان 5:518.

اَلْمُؤْمِنِينَ (1) .

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 89 الی 90

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على زكريّا عليه السّلام باستجابة دعائه بقوله: وَ زَكَرِيّا بن آزر إِذْ نادى و دعا رَبَّهُ متضرّعا بقوله: يا رَبِّ لا تَذَرْنِي و لا تدعني في الدنيا فَرْداً وحيدا بلا ولد يرثني و يرث من آل يعقوب، و إن فرض أن لا تستجيب دعائي فلا ابالي، لأنّك أفضل الأولياء وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ من كلّ أحد بعد موته، ففيه إظهار غاية الاستسلام و الرضا برضاه،

و إيكال أمره إليه تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه في حقّ الولد وَ وَهَبْنا لَهُ من فضلنا يَحْيى ولدا و وليّا و وارثا تقرّ به عينه، و يحيا به ذكره و دينه وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ و صاحبته إيشاع في الأخلاق و الدّين، فإنّها على ما قيل كانت سيّئة الخلق (2)، و في الولادة فإنّها كانت عقيمة كبيرة السنّ.

وَ زَكَرِيّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)ثمّ مدح سبحانه زكريّا عليه السّلام و زوجه و ولده، أو مدح الأنبياء المذكورين في السورة بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا في مدّة أعمارهم يُسارِعُونَ فِي عمل اَلْخَيْراتِ و فعل الطاعات و العبادات الموجبة للمثوبات و الدرجات العاليات وَ يَدْعُونَنا و يتضرّعون إلينا رَغَباً في الثواب و شوقا إليه وَ رَهَباً من عظمتنا، و خوفا من العذاب و العتاب وَ كانُوا لَنا بقلوبهم و شراشر (3)وجودهم خاشِعِينَ و متواضعين، أو على الدّوام وجلين، و في الآية دلالة على غاية فضيلة المسارعة إلى الطاعة كالصّلوات الواجبة في أوّل أوقاتها.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 91 الی 93

ثمّ ذكر سبحانه نعمته على مريم بنت عمران بقوله: وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها و حفظت سوأتها من أن تمسّ بحرام أو حلال فَنَفَخْنا فِيها بتوسّط جبرئيل مِنْ رُوحِنا و وهبنا لها بذلك النّفخ

وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)

ص: 311


1- . تفسير روح البيان 5:518.
2- . تفسير الرازي 22:217.
3- . الشّراشر: الجسم بجملته.

ولدا زكيّا وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها عيسى آيَةً عظيمة و دلالة واضحة على قدرتنا الكاملة لِلْعالَمِينَ و أهالي الأعصار إلى يوم الدين حيث إنّ مريم ولدت من عجوز عقيم و تكلّمت في الصّبا كما قيل (1)، و ارتزقت ممّا يأتيها من عند ربّها الكريم، و احتبلت بغير فحل، و إنّ ابنها عيسى عليه السّلام ولد بنفخ الرّوح الأمين، و تكلّم في المهد كما تكلّم في الكهولة، و أظهر الآيات البيّنات، و رفع في السماء حيّا، و إنّما عدّهما آية واحدة مع تعدّدهما لكمال ارتباطهما.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قصص الأنبياء و اتّفاقهم على توحيد اللّه و عبادته، دعا الناس إليهما بقوله: إِنَّ هذِهِ الملّة الإسلاميّة و دين التوحيد أُمَّتُكُمْ و ملّتكم التي يجب عليكم المحافظة عليها أيّها الناس حال كونها أُمَّةً و ملّة واحِدَةً إتّفق عليها جميع الأنبياء و الرسل من أوّل الدنيا إلى فنائها وَ أَنَا وحدي رَبُّكُمْ و إلهكم المدبّر لاموركم، فإذا علمتم ذلك فَاعْبُدُونِ و اخضعوا لي، و تضرّعوا و لا تجاوزوا عنّي إلى غيري.

ثمّ صرف اللّه الخطاب عنهم إلى العقلاء، أو إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إعظاما لما ارتكبه المشركون من الإشراك بقوله: وَ تَقَطَّعُوا و فرّقوا أَمْرَهُمْ و دينهم الذي اتّفقت عليه كلمة الأنبياء بَيْنَهُمْ و صاروا فرقا مختلفة و أحزابا شتّى.

ثمّ هدّدهم بقوله: كُلٌّ من آحاد الفرق إِلَيْنا بعد موتهم راجِعُونَ فنجازيهم بحسب عقائدهم و أعمالهم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 94 الی 95

ثمّ بيّن سبحانه الفرقة الحقّة منهم بقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و رسله و خلفائهم و الدّار الآخرة فَلا كُفْرانَ منّا لِسَعْيِهِ و لا حرمان له من ثواب عمله، بل نشكره أعظم الشّكر، و نعطيه أفضل الأجر على عمله و إيمانه وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ في صحيفته و مثبتوه في دفتره.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير رجوع الناس إليه للمجازاة بقوله: وَ حَرامٌ و ممتنع عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بإهلاك أهلها أَنَّهُمْ في القيامة لا يَرْجِعُونَ إلينا للحساب و جزاء الأعمال، بل يجب رجوعهم بمقتضى العدل و الحكمة البالغة.

و قيل: إنّ المعنى و واجب على قرية أهلكناها أن لا يرجعوا إلى التوحيد، أو إلى الدنيا (2).

ص: 312


1- . تفسير روح البيان 22:218.
2- . تفسير الرازي 22:221.

و قيل: إنّ لفظ الحرام مستعمل في معناه لا في ضدّه، و كلمة (لا) في قوله: لا يَرْجِعُونَ زائدة و المراد: حرام عليهم أن يرجعوا إلى الدنيا (1).

و عن (الفقيه) عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة الجمعة. «أ لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، و الى الخلف الباقين منكم لا يبقون، قال اللّه تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» (2).

و عن القمي عنهما عليهما السّلام قالا: «كلّ قرية أهلك اللّه أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرّجعة» (3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «كلّ قرية أهلكها اللّه بالعذاب فإنّهم لا يرجعون» (4).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 96 الی 98

ثمّ بيّن سبحانه غاية حرمة رجوعهم بقوله: حَتّى إِذا فُتِحَتْ جهة يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ أو سدّة القبيلتين اللّتين مرّ تفصيلهما في الكهف (5)وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ و مرتفع من الأرض يَنْسِلُونَ و ينزلون بسرعة، روي أنّهم يسيرون في الأرض و يقبلون على الناس من كلّ موضع مرتفع (6).

حَتّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)القمي: إذا كان آخر الزمان خرج يأجوج و مأجوج إلى الدنيا و يأكلون النّاس (7).

وَ اِقْتَرَبَ عند ذلك اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ بالحشر للحساب بعد النّفخة الثانية فَإِذا القصّة هِيَ شاخِصَةٌ و منفتحة من غير طرف أَبْصارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ممّا يرون من الأهوال و الشّدائد قائلين تحسّرا و تندّما: يا وَيْلَنا و يا هلاكنا احضر إنّا قَدْ كُنّا في الدّنيا منغمرين فِي غَفْلَةٍ عظيمة مِنْ هذا الذي نرى من البعث و أهواله بَلْ لم نكن في غفلة عنه لكثرة الآيات الدالّة عليه، و إنّما كُنّا ظالِمِينَ على أنفسنا بتعريضها للهلاك بسبب الإعراض عن الآيات و تكذيب الرّسل.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان بعض أهوال القيامة صرف الخطاب إلى مشركي مكّة بقوله: إِنَّكُمْ يا معشر المشركين وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام كلّكم حَصَبُ جَهَنَّمَ و وقودها الذي يرمى به فيها لتشتعل أَنْتُمْ مع أصنامكم لَها وارِدُونَ.

ص: 313


1- . تفسير الرازي 22:221.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:276/1262، تفسير الصافي 3:354.
3- . تفسير القمي 2:76، تفسير الصافي 3:354.
4- . مجمع البيان 7:100، تفسير الصافي 3:355.
5- . في تفسير الآية (93) من سورة الكهف.
6- . تفسير روح البيان 5:523.
7- . تفسير القمي 2:76، تفسير الصافي 3:355.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 99 الی 103

ثمّ بيّن سبحانه امتناع كون الأصنام آلهة بقوله: لَوْ كانَ هؤُلاءِ المعبودون آلِهَةً على الحقيقة كما تزعمون ما وَرَدُوها و ما دخلوها البتّة وَ كُلٌّ من المعبودين و عابديهم فِيها بعد الورود خالِدُونَ لا خلاص لهم منها أبدا، هذا حال جميعهم،

و أمّا حال خصوص عبدتهم فهو أنّه (1)لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ و أنين و تنفّس شديد عن غمّ مالئ للصدور وَ هُمْ فِيها مع كونهم عميا و بكما لا يَسْمَعُونَ زفير أنفسهم فضلا عن زفير غيرهم.

لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)عن ابن مسعود قال: يجعل المشركون في توابيت من نار، ثمّ تجعل التوابيت في توابيت اخرى، ثمّ تجعل تلك في اخرى عليها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، و لا يرى أحد منهم أنّ في النّار أحدا يعذّب غيره (2).

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى يأتي يوم القيامة بكلّ شيء يعبد من دونه، من شمس أو قمر أو غير ذلك، ثمّ يسأل كلّ إنسان عمّا كان يعبد، فيقول كلّ من عبد غير اللّه: ربّنا إنّا كنّا نعبده ليقرّبنا إليك زلفى. فيقول اللّه تبارك و تعالى للملائكة: إذهبوا بهم و بما كانوا يعبدون إلى النّار ما خلا من استثنيت، فأولئك عنها مبعدون» (3).

و عنه عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة أتي بالشمس و القمر في صورة ثورين، فيقذف بهما و بمن عبدهما في النّار، و ذلك أنّهما عبدا فرضيا» (4).

أقول: فيه دلالة على أنّ الأجرام الفلكية لها حياة و شعور.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دخل المسجد و صناديد قريش في الحطيم (5)، و حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأفحمه، ثمّ تلا عليهم إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ الآية، فأقبل عبد اللّه بن الزّبعرى، فرآهم يتهامسون فقال: فيما خضتم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عبد اللّه: أما و اللّه لو وجدته لخصمته فدعوه، فقال ابن

ص: 314


1- . في النسخة: أنّ، و لا تناسب من حيث الإعراب.
2- . تفسير روح البيان 5:524.
3- . قرب الإسناد:85/279، تفسير الصافي 3:355.
4- . علل الشرائع:605/78، تفسير الصافي 3:355.
5- . الحطيم: بناء قبالة الميزاب من خارج الكعبة.

الزبعرى: أ أنت قلت ذلك؟ قال: «نعم» ، قال: قد خصمتك و ربّ الكعبة، أ ليس اليهود عبدوا العزير، و النّصارى عبدوا المسيح، و بنو مليح عبدوا الملائكة؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فضحك القوم، فنزل وَ لَمّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً (1)

و قوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ الآية (2).

و في رواية اخرى قال: «بل هم عبدوا الشياطين الذين أمروهم بذلك» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية، وجد منها أهل مكّة وجدا شديدا، فدخل عليهم عبد اللّه بن الزّبعرى و كفّار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزّبعرى: أتكلّم محمّد بهذه الآية؟ قالوا: نعم، قال: لئن اعترف بها لأخصمنّه، فجمع بينهما، فقال: يا محمّد، أ رأيت الآية التي قرأتها آنفا، أفينا و في آلهتنا خاصّة، أم في الامم و آلهتهم؟ قال: بل فيكم و في آلهتكم، و في الامم و آلهتهم إلاّ من استثنى [اللّه]. فقال ابن الزّبعرى: خصمتك و اللّه، أ لست تثنى على عيسى خيرا، و قد عرفت أنّ النصارى يعبدون عيسى و أمّه، و أنّ طائفة من النّاس يعبدون الملائكة؟ أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار؟ قال: لا، فضجّت قريش و ضحكوا و قالوا: خصمك ابن الزّبعرى؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: قلتم الباطل، أما قلت إلاّ من استثنى [اللّه]، و هو قوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ» الآية (4).

و قيل: لمّا كان الخطاب في الآية خطاب المشافهة لا يشمل غير مشركي مكّة، و هم كانوا يعبدون الأصنام، و أنّه تعالى قال: وَ ما تَعْبُدُونَ و لم يقل و من تعبدون (5)، فلا يشمل عيسى و العزير و الملائكة، و أنّه لم يقل أحد بالوهيّة الملائكة، و أن العموم المفترض (6)مخصّص بالأدلّة العقلية و النقلية في حقّ اولئك الكرام، فكان سؤال ابن الزّبعرى ساقطا.

و فيه: أنّ خطابات القرآن شاملة لجميع أهل عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا تختصّ بقريش، خصوصا مع قوله: «بل فيكم و في آلهتكم، و في الامم و آلهتهم» و كلمة (ما) كثيرا مّا تطلق على الأعمّ من ذوي العقول و لو تغليبا لغيرهم عليهم، أو لتحقير ذوي العقول، و عموم اللّفظ كاف لاعتراض الخصم اللّجوج.

و لذا صرّح سبحانه بالتخصيص بعد عموم الآية بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الخصلة اَلْحُسْنى و هي السعادة الأبديّة، أو الكلمة الحسنى، و هي البشارة بالثّواب، لا يرون جهنّم، بل أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لأنّهم في الجنّة، شتّان بينها و بين جهنّم، حيث إنّ الجنّة في أعلى علّيين، و جهنّم في أسفل السافلين،

و لذا يكون بعدهم من جهنّم بحيث لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها و الصوت

ص: 315


1- . الزخرف:43/57.
2- . تفسير الرازي 22:223.
3- . تفسير الرازي 22:223.
4- . تفسير القمي 2:76، تفسير الصافي 3:356.
5- . تفسير الرازي 22:223.
6- . في النسخة: الفرضية.

الخفيّ منها.

و روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «كيف يسمعون حسيسها و النّار تخمد لمطالعتهم و تتلاشى؟ !» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بشارتهم بخلاصهم من المهالك بشّرهم بالفوز بالحظوظ بقوله: وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ و اشتاقت إليه أَنْفُسُهُمْ من النّعم الرّوحانيّة و الجسمانيّة خالِدُونَ مقيمون لا يتصوّر زوالها و انقطاعها

لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ قيل: هو ذبح الموت بصورة الكبش الأملح (2). و قيل: النفخة الثانية (3). و قيل: إطباق النّار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة (4). و قيل: هو الفزع عند مشاهدة النّار، إذ لا فزع أعظم و أكبر منه، فمن أمن من ذلك أمن ممّا دونه بالأولويّة (5).

وَ تَتَلَقّاهُمُ و تستقبلهم اَلْمَلائِكَةُ الذين كانوا كتبة أعمالهم في الدنيا بالبشرى و يقولون لهم: هذا اليوم يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا تُوعَدُونَ و تبشّرون بما فيه من فنون الثواب على الإيمان و الطاعات.

في (المجالس) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لعلي عليه السّلام: «يا علي، أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم، و تمنعون من كرهتم، و أنتم الآمنون من الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون، و فيكم نزلت إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى الآية، و فيكم نزلت لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ الآية» (6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من الذّنوب أو غيره، مبيضّة وجوههم، مستورة عوارتهم، آمنة [روعتهم]، قد سهّلت لهم الموارد، و ذهبت عنهم الشّدائد، يركبون نوقا من ياقوت، فلا يزالون يدورون خلال الجنّة، عليهم شرك من نور يتلألأ، توضع لهم الموائد فلا يزالون يطعمون [و]الناس في الحساب، و هو قول اللّه: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى الآية» (7).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 104 الی 106

يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّماءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ (104) وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)

ص: 316


1- . تفسير روح البيان 5:525.
2- . تفسير الرازي 22:227.
3- . تفسير الرازي 22:227.
4- . تفسير الرازي 22:227.
5- . تفسير الرازي 22:227.
6- . أمالي الصدوق:657/891، تفسير الصافي 3:356.
7- . المحاسن:179/166، تفسير الصافي 3:357.

ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّماءَ طيّا كَطَيِّ الطاوي اَلسِّجِلِّ و الطّومار الموضوع لِلْكُتُبِ و ضبط المعاني الكثيرة فيه، قيل: إنّ معنى طيّ السّجلّ للكتاب كونه ساترا للكتابة (1)التي فيه، و مخفيا لها، و نشره: كشفه (2).

و عن ابن عباس: السجلّ اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه (3).

و رواه بعض العامة عن أمير المؤمنين (4).

و قيل: معنى طيّها إفناؤها فتتحوّل دخانا (5).

ثمّ وصف اليوم بإعادة الخلق فيه بقوله: كَما بَدَأْنا و ابتدأنا أَوَّلَ خَلْقٍ للإنسان في الدنيا نُعِيدُهُ في الآخرة، و نخلقه ثانيا للحشر و الحساب، و قد وعدنا إعادته وَعْداً حتميّا واجب الإنجاز عَلَيْنا بمقتضى الحكمة البالغة، و لذا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ للوعد و منجّزين له لا محالة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «تحشرون عراة حفاة كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» (6).

أقول: أي كما خلقتم في الدنيا عراة حفاة.

ثمّ أنّه تعالى بعد البشارة بحسن حال المؤمنين في الآخرة، بشّر بحسن مآل أمرهم في الدنيا بقوله: وَ لَقَدْ كَتَبْنا و أثبتنا فِي اَلزَّبُورِ الذي انزل على داود، أو في الكتب السماوية، أو في القرآن مِنْ بَعْدِ ما أثبتناه في اَلذِّكْرِ و اللّوح المحفوظ، أو في التوراة أَنَّ اَلْأَرْضَ كلّها، أو الأرض المقدّسة، أو أرض الجنّة يَرِثُها و يتسلّط عليها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ في زمان الرجعة و بعد ظهور الدولة الحقّة، أو في الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: ما الزّبور، و ما الذّكر؟ قال: «الذّكر عند اللّه، و الزّبور الذي أنزل على داود، و كل كتاب انزل فهو عند أهل العلم، و نحن هم» (7).

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ، قال: «هم أصحاب المهدي عليه السّلام في آخر الزمان» (8).

إِنَّ فِي هذا المذكور من الأخبار و المواعظ و اللّه لَبَلاغاً و كفاية في الهداية و التنبيه، و ما ينال به البغية و المطلوب لِقَوْمٍ عابِدِينَ و العالمين العاملين.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 107

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)

ص: 317


1- . في النسخة: لكتابة.
2- . تفسير الرازي 22:228.
3- . تفسير الرازي 22:228.
4- . تفسير الرازي 22:228.
5- . تفسير القمي 2:77، تفسير الصافي 3:357.
6- . مجمع البيان 7:105، تفسير الصافي 3:357.
7- . الكافي 1:176/6، تفسير الصافي 3:357.
8- . مجمع البيان،7:106، تفسير الصافي 3:357.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر رحمته و نعمته على المؤمنين، بيّن أنّ الرسول الذي أرسله إليهم أفضل النّعم عليهم و على جميع الخلق بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد لغرض من الأغراض إِلاّ لتكون رَحْمَةً و نعمة عظيمة لِلْعالَمِينَ و سببا لسعادة الدّارين للخلق أجمعين.

عن أبي هريرة: قيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ادع على المشركين. قال: «إنّما بعثت رحمة، و لم ابعث عذابا» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجبرئيل لمّا نزلت هذه الآية: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟» قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث مجيبا لبعض الزنادقة: «و أمّا قوله لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ و أنّك ترى أهل الملل المخالفة للإيمان و من يجري مجراهم من الكفّار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية، و أنّه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا و نجوا من عذاب السّعير، فإنّ اللّه تبارك و تعالى إنّما عنى بذلك أنّه جعله سبيلا لإنذار أهل هذه الدار؛ لأنّ الأنبياء قبله بعثوا بالتّصريح لا بالتّعريض، و كان النبيّ منهم إذا صدع بأمر اللّه و أجابه قومه سلموا و سلم أهل دارهم من سائر الخليقة، و إن خالفوا هلكوا و هلك أهل دارهم بالآفة التي كان نبيهم يتوعّد بها و يخوّفهم حلولها و نزولها بساحتهم من خسف أو قذف أو رجف أو ريح أو زلزلة أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الامم الخالية.

و إنّ اللّه علم من نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و من الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق من تقدّمهم من الأنبياء الصبر على مثله، فبعثه اللّه بالتعريض لا بالتصريح، و أثبت حجّة اللّه تعريضا لا تصريحا بقوله في وصيّة: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، و هو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.

و ليس من خليقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا شيمته أن يقول قولا لا معنى له، فلزم الامّة أن تعلم أنّه لمّا كانت النبوّة و الأخوّة موجودتين في خلقة هارون و معدومتين في من جعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمنزلته أنّه قد استخلفه على امّته كما استخلف موسى هارون حيث قال له: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي (3)و لو قال: لا تقلّدوا الإمامة إلاّ فلانا بعدي و إلاّ نزل بكم العذاب لأتاهم العذاب و زال باب الإنظار و الإمهال» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أما لو قام قائمنا ردّت إليه الحميراء (5)حتى يجلدها الحدّ و حتى ينتقم لابنة محمّد فاطمة منها» . قيل: لم يجلدها؟ قال: «لفريتها على امّ إبراهيم» ، قيل: فكيف أخّره اللّه للقائم؟ قال: «إنّ

ص: 318


1- . تفسير الرازي 22:231.
2- . تفسير روح البيان 5:527، الآية من سورة التكوير:81/20.
3- . الأعراف:7/142.
4- . الاحتجاج:255، تفسير الصافي 3:358.
5- . في النسخة: ردّت بالحميراء.

اللّه تبارك و تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رحمة، و بعث القائم نقمة» (1).

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 108 الی 111

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كانت رحمة للعالمين، و كان من آثار رحمته دعوة الناس إلى التوحيد الموجب لكمال سعادة الدارين، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إليه بألطف بيان و أبلغه بقوله: قُلْ يا محمّد إِنَّما يُوحى إِلَيَّ من ربّي أَنَّما إِلهُكُمْ و معبودكم المستحقّ للعبادة إِلهٌ و معبود واحِدٌ لا إله غيره، فبعد ما أخبرتكم بذلك مع دلالة المعجزات على صدقي، و بيّنت لكم الحجج القاطعة و البراهين الساطعة عليه و على بطلان الشّرك فَهَلْ أَنْتُمْ أيّها المشركون مُسْلِمُونَ له، و مخصّصون عبادتكم به، أم تصرّون على ما أنتم عليه من الشّرك و عبادة الأصنام؟

قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)

فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قولك، و لم يعتنوا إلى دعوتك فَقُلْ لهم إنذارا: إنّي آذَنْتُكُمْ و أعلمتكم ما أوحي إليّ و لم أقصّر فيه، أو أنذرتكم عذاب اللّه على كفركم حال كونكم عَلى سَواءٍ في الإعلام و الإبلاغ، بلا فرق بين القريب و البعيد، و الشريف و الوضيع، و الغني و الفقير، أو المراد آذنتكم بالحرب على مهل، و لا أعاجلكم فيه رجاء إسلامكم.

وَ إِنْ أَدْرِي و لا أعلم أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ و تنذرون به من القيامة، أو العذاب الدنيوي، أو الحرب و غلبة المسلمين، مع أنّه آت لا محالة، و اعلموا أن اللّه يعذّبكم على ما تجاهرتم به من الطعن في نبوّتي و كتابي، و الاستهزاء بي، و ما تسرّون من الحسد على ما آتاني من فضله و عداوتكم لي و للمؤمنين

إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ الصادر منكم وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ و تسرّون أيّ قول كان و أيّ سرّ

وَ إِنْ أَدْرِي و ما أعلم أنّ تأخير تعذيبكم أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بجهادكم، أو ما أدري ما بيّنت و أعلمت (2)لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ و امتحان لَكُمْ حتى يرى أنّكم تحدثون التوبة و تؤمنون أم لا، أو بليّة و زيادة عذاب لكم وَ مَتاعٌ و انتفاع بالحياة الدنيا و نعمها إِلى حِينٍ و أجل مقدّر تقتضيه مشيئة اللّه المبنيّة على الحكمة البالغة.

ص: 319


1- . علل الشرائع:579/10، تفسير الصافي 3:359.
2- . في النسخة: و أعلم.

سوره 21 (الأنبياء): آیه شماره 112

ثمّ لمّا دعاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله على حسب وظيفته المقرّرة، و تمرّد القوم عن إجابة دعوته و إطاعته، حكى سبحانه شكايته منهم إليه بقوله: قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله رَبِّ اُحْكُمْ بيني و بين قومي بِالْحَقِّ و العدل المقتضي لتعجيل نزول العذاب عليهم، فحكم اللّه عليهم بالقتل يوم بدر.

قالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمنُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)ثمّ حكى سبحانه توجّهه إلى قومه، و توعيده إيّاهم بالعذاب بقوله: وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمنُ و القادر الواسع الرحمة بالمؤمنين اَلْمُسْتَعانُ و المتوقّع منه النصر عَلى دفع ما تَصِفُونَ من الشرك و ما تعارضون من الأباطيل.

و قيل: إنّ الكفّار كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة و الغلبة، فكذّب اللّه ظنونهم، و خيّب آمالهم، و نصر رسوله صلّى اللّه عليه و آله [و المؤمنين]و خذلهم (1).

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقوله في حروبه (2).

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها، كان ممّن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم، و كان مهيبا في أعين النّاس حياة الدنيا» (1).

و عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة الأنبياء سهّل اللّه الحساب له يوم القيامة (2)، و صافحه جميع الأنبياء الذين ذكر اللّه اسمهم في القرآن و سلّموا عليه» (3).

الحمد للّه الذي وفّقني لإتمام تفسير سورة الأنبياء، و نسأله التوفيق لتفسير بقيّة الكتاب الكريم

ص: 320


1- . ثواب الاعمال:108، مجمع البيان 7:61، تفسير الصافي 3:360.
2- . في مجمع البيان و تفسير أبي السعود: حاسبه اللّه حسابا يسيرا.
3- . مجمع البيان 7:61، تفسير أبي السعود 6:90.

في تفسير سورة الحجّ

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 22 (الحج): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختم اللّه سورة الأنبياء المبتدئة بتهديد المشركين باقتراب القيامة، و ذمّهم على غفلتهم عنها، و إعراضهم عن آيات اللّه، و جدالهم في رسالة رسوله، و نسبة معجزاته إلى السحر، المختتمة بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بدعوة الناس إلى التوحيد، و تهديدهم على الشرك، و حكاية شكاية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ربّه من تمرّدهم، أردفت بسورة الحجّ المبتدئة بتحذير الناس عن الشرك، و تهديد المشركين بأهوال القيامة، و ذمّهم على مجادلة الرسول، و استدلاله تعالى على المعاد، المختتمة بتسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله في مجادلة قومه، و أمر المؤمنين بجهادهم، و توجّههم إلى عبادة اللّه و التوكّل عليه، و وعدهم بالنصر، فأبتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى اَلنّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اَللّهِ شَدِيدٌ (2)

ثمّ شرع سبحانه فيها بتحذير الناس عن الشّرك بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ و احذروا عذابه بقبول التوحيد و التوبة من الشرك و العصيان إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ التي تكون حين طلوع الشمس من مغربها، أو حين قيام الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ لا يحيط به الوصف، و أمر شديد لا يحويه البيان.

عن ابن عباس: أنّ زلزلة الساعة حين قيامها (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث الصّور: «أنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، و نفخة الصعقة، و نفخة [القيام]لربّ العالمين، و أنّ عند نفخة الفزع يسيّر [اللّه]الجبال، و ترجف الأرض الراجفة تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، و تكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلّق ترجرجه الرياح» (2).

ص: 321


1- . تفسير أبي السعود 6:91، تفسير روح البيان 6:2.
2- . تفسير الرازي 23:2.

و عنه عليه السّلام: «معاشر النّاس، التقوى التقوى، إحذروا الساعة كما قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» (1).

ثمّ بيّن سبحانه بعض آثار عظمة تلك الزّلزلة بقوله: يَوْمَ تشاهدون فيه الزّلزلة و تَرَوْنَها ترون تَذْهَلُ و تغفل لهول مطّلعها كُلُّ امرأة مُرْضِعَةٍ لولدها عَمّا أَرْضَعَتْ و عن الطّفل الذي ألقمت ثديها في فيه مع غاية جهالة اهتمامها (2)بإرضاعه وَ تَضَعُ و تلقى كُلُّ امرأة ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها و جنينها من بطنها لغير تمام.

القمي: كلّ امرأة تموت حاملة عند [زلزلة]الساعة تضع حملها يوم القيامة (3).

و الظاهر أنّ الامور الثلاثة تمثيل لتهويل الأمر وَ تَرَى أيّها السامع اَلنّاسَ في ذلك اليوم كأنّهم سُكارى من غاية البهت وَ ما هُمْ حقيقة بِسُكارى من الخمر وَ لكِنَّ عَذابَ اَللّهِ شَدِيدٌ فمن هوله تطير عقولهم و يسلب تمييزهم.

روي أنّ هاتين الآيتين نزلتا باللّيل في غزوة بني المصطلق، و هم حيّ من خزاعة، فنادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاجتمع النّاس حوله، فقرأهما عليهم، فلم ير أكثر باكيا من تلك اللّيلة، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السّروج، و لم يضربوا الخيام، و لم يطبخوا القدور، و الناس بين باك و جالس حزين متفكّر، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أتدرون أيّ ذلك اليوم [هو]؟» قالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: «ذلك يوم يقول اللّه لآدم: قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم: و ما بعث النار؟ يعني من كم [و كم]، فيقول اللّه عزّ و جلّ: من كلّ ألف تسعمائة و تسعة و تسعون إلى النّار و واحد إلى الجنّة، فعند ذلك يشيب الصّغير، و تضع كلّ ذات حمل حملها، و ترى النّاس سكارى» .

فكبر ذلك على المؤمنين، و بكوا و قالوا: فمن ينجو يا رسول اللّه؟ فقال: «ابشروا و سدّدوا و قاربوا، فإنّ معكم خليقتين ما كانا في قوم إلاّ كثّرتاه: يأجوج و مأجوج» .

ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة فكبّروا» . ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» فكبّروا و حمدوا اللّه، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، إنّ أهل الجنّة مائة و عشرون صفا، ثمانون منها امّتي، و ما المسلمون في الكفّار إلاّ كالشّامة في جنب البعير، أو كالشّعرة البيضاء في الثّور الأسود» .

ثمّ قال: «و يدخل من امّتي سبعون ألفا في الجنّة بغير حساب» فقال عمر: سبعون ألفا؟ قال: «نعم،

ص: 322


1- . الاحتجاج:65، تفسير الصافي 3:361.
2- . في النسخة: و اهتمامها.
3- . تفسير القمي 2:78، تفسير الصافي 3:361.

و مع كلّ واحد سبعون ألفا» الخبر (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالتّقوى و بيان أهوال القيامة، بيّن لجاج القوم الموجب لغاية استحقاقهم العذاب بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ كالنّضر بن الحارث و أضرابه من المشركين المنكرين للبعث مَنْ يُجادِلُ و يخاصم فِي صفات اَللّهِ و إنّما يكون جداله بِغَيْرِ عِلْمٍ و عرفان و حجّة و برهان وَ يَتَّبِعُ في جداله و أقواله كُلَّ شَيْطانٍ إنسيّ أو جنّي مَرِيدٍ مبالغ في الفساد و مجاوز الحدّ في الطّغيان و العناد

كُتِبَ و أثبت على ذلك الشيطان أو المجادل في اللّوح المحفوظ أو قضي عَلَيْهِ في الأزل، أو جعل في طبعه كأنّما كتب عليه أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ و اتّبعه فَأَنَّهُ بإغوائه و تسويلاته في قلب وليّه يُضِلُّهُ و يحرفه عن طريق الحقّ و الخير وَ يَهْدِيهِ بحمله على المعاصي إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ و النار الحريق.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ (4)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 5 الی 7

ثمّ لمّا هدّدهم اللّه بعذاب الآخرة، و كانوا منكرين للبعث و مجادلين فيه، استدلّ سبحانه عليه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ و شكّ ممّا وعدناكم مِنَ اَلْبَعْثِ و الإحياء بعد الموت، فأذكروا خلقكم الأوّل. و تفكّروا فيه حتى يزول ريبكم فَإِنّا بقدرتنا خَلَقْناكُمْ و جعلنا مبدأ تكوّنكم مِنْ تُرابٍ حيث خلق أبوكم آدم عليه السّلام منه ثُمَّ خلقنا كلّ فرد منكم مِنْ نُطْفَةٍ و ماء متكوّن في صلب الرّجل خارج منه بدفق و شهوة ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و قطعة دم جامدة مكوّنة من النّطفة ثُمَّ مِنْ

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اَللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ (7)

ص: 323


1- . مجمع البيان 7:112، تفسير الرازي 23:3، تفسير الصافي 3:361.

مُضْغَةٍ و قطعة لحم مكوّنة من علقة مُخَلَّقَةٍ و مصوّرة و تامّة الحواس و التخاطيط وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ و غير مصوّرة و ناقصة الحواسّ و التخاطيط، أو المراد تامّة الخلق و غير تامّة، أو خارجة من الرّحم حيّة، أو ساقطة منه ميتة، و إنّما نقلنا مبدأ وجودكم من حال إلى حال و من هيئة إلى هيئة لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أنّكم تتقلّبون تحت قدرتنا، و أن تغيير المضغة إلى المخلّقة إنّما هو باختيار الفاعل القادر الحكيم المختار، و لولاه لما صار بعضه مخلّقة و بعضه غير مخلّقة وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحامِ بعد ذلك ما نَشاءُ قراره فيها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت مضروب للولادة أدناه ستّة أشهر عند الكلّ، و أقصاه عند المشهور من الخاصة تسعة أشهر، و عند قليل منهم عشرة، و عند الأقلّ سنة، و عند أبي حنيفة سنتين، و عند الشافعي أربع سنين، و عند مالك خمس سنين (1).

عن الباقر عليه السّلام: «النّطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث [في الرّحم]إذا صارت فيه أربعين يوما، ثمّ تصير علقة، و هي علقة كعلقة دم المحجمة الجامدة، تمكث في الرّحم بعد تحويلها من النّطفة أربعين يوما، ثمّ تصير مضغة و هي مضغة لحم فيها عروق خضر مشتبكة، ثمّ تصير إلى عظم، و يشقّ له السمع و البصر، و ترتّب جوارحه» (2).

و سئل عن المخلّقة فقال: «المخلّقة هم الذرّ الذين خلقهم اللّه في صلب آدم، و أخذ عليهم الميثاق، ثمّ أجراهم في أصلاب الرجال و أرحام النساء، و هم الّذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. و أمّا قوله: وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فهم كلّ نسمة لم يخلقهم اللّه في صلب آدم حين خلق الذرّ و أخذ عليهم الميثاق، و هم النّطف من العزل و السّقط قبل أن ينفخ فيه الرّوح و الحياة و البقاء» (3).

و عنه عليه السّلام: «أنّ النّطفة تكون في الرّحم أربعين يوما، ثمّ تصير علقة أربعين يوما، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث اللّه ملكين خلاّقين فيقولان: يا ربّ، ما نخلقه ذكرا أم انثى؟ فيؤمران، و يقولان: يا ربّ شقيّا أم سعيدا؟ فيؤمران، فيقولان: يا ربّ ما أجله؟ و ما رزقه؟ و كلّ شيء من حاله، و عدّد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه، فإذا أكمل اللّه [له]الأجل بعث اللّه ملكا فزجره زجرة، فيخرج و قد نسي الميثاق» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تلد المرأة لأقلّ من ستّة أشهر» (5).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن غاية الحمل بالولد في بطن امّه كم هي، فإنّ الناس يقولون: ربما بقي

ص: 324


1- . راجع: كنز العرفان 2:235، و تفسير روح البيان 6:6.
2- . الكافي 7:345/10، تفسير الصافي 3:363.
3- . الكافي 6:12/1، تفسير الصافي 3:363.
4- . الكافي 6:13/3، تفسير الصافي 3:363.
5- . الكافي 5:563/32، تفسير الصافي 3:364.

في بطنها سنين؟ فقال: «كذبوا، أقصى حدّ الحمل تسعة أشهر لا يزيد لحظة، و لو زاد ساعة لقتل امّه قبل أن يخرج» (1).

ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ بعد ذلك من بطون امّهاتكم حال كونكم طِفْلاً ضعيفا لا تقومون باموركم ثُمَّ سهّل في تربيتكم و أغذيتكم امورا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و كمالكم في القوّة و العقل و التمييز وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى و يقبض روحه قبل بلوغ الأشدّ أو بعده وَ مِنْكُمْ مَنْ يبقى حيّا و يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ من الهرم و الخرف.

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه: «إذا بلغ العبد مائة سنة، فذلك أرذل العمر» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني خمسا و سبعين» (3). لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ كثير شَيْئاً من الأشياء، أو من العلم، لقلّة فهمه، و سخافة عقله، و غلبة النسيان عليه، كحاله في أوان طفوليّته.

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته على البعث بقوله: وَ تَرَى أيّها الرائي اَلْأَرْضَ أوّلا هامِدَةً و يابسة خالية من النبات فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ من السماء اِهْتَزَّتْ و تحرّكت بالنبات كما يتحرّك الشابّ النّشيط و زيّنت بالأزهار وَ رَبَتْ و انتفخت و نمت وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و نوع من الزّرع و صنف من الغرس بَهِيجٍ و ذي حسن و نضارة

ذلِكَ الصّنع البديع من خلق الإنسان على أطوار مختلفة، و إحياء الأرض بعد موتها كائن بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ و الموجود الثابت لذاته الذي لا عجز له و لا فناء وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى كما أمات الأحياء وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من بدء الخلق و إعادته قَدِيرٌ و إلاّ لما صدر منه تلك التعاجيب وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة التي تجزى فيها العباد آتِيَةٌ لا محالة بمقتضى حكمته و وعده الذي لا خلف فيه، و لا رَيْبَ فِيها لوضوح دليلها وَ أَنَّ اَللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ إلى المحشر، فإنّه لو لا الساعة و البعث لما خلق الإنسان و ما أحيا الأرض، بل لما خلق العالم أصلا، لكون خلقه عبثا.

و الحاصل: أنّ خلق الإنسان و إحياء الأرض، إنّما كان بسبب القدرة و ظهور شؤون الالوهيّة و حقّيته في كمال صفاته، و بسبب حكمته المقتضية لإتيان الساعة و البعث، و حقّيته في أفعاله.

و قيل: إنّ قوله: وَ أَنَّ اَلسّاعَةَ خبر لمبتدأ محذوف، و التقدير: الأمر أنّ الساعة آتية (4).

و قيل: إنّ الباء (5)في قوله: بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ ليس للسببيّة، بل متعلق بالفعل المحذوف (6)،

ص: 325


1- . الكافي 6:52/3، تفسير الصافي 3:364.
2- . تفسير القمي 2:78، تفسير الصافي 3:364.
3- . مجمع البيان 6:574، تفسير الصافي 3:364.
4- . تفسير أبي السعود 6:96.
5- . في النسخة: إن كلمة باء.
6- . تفسير أبي السعود 6:96.

و التقدير: ذلك لتعلموا أنّ اللّه هو الحقّ.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 8 الی 10

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أتباع شياطين الإنس ذمّ المتبوعين بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً و دليل واضح وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ و وحي موضح للحّق.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اَللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَذابَ اَلْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)و قيل: إنّ الآية السابقة نزلت في النضر بن الحارث، و هذه الآية نزلت في أبي جهل (1).

و عن ابن عباس: هذه الآية أيضا نزلت في النّضر (2)، و يكون التكرير للمبالغة في الذمّ (3).

و قيل: إنّ المراد بالعلم العلم الضروري، و بالهدى العلم النظري و الاستدلالي، و بالكتاب المنير الدليل السمعي (4)، و يحتمل أن يكون المراد بالعلم العلم الكشفي، و بالهدى البرهان العقلي، و بالكتاب الوحي السماوي.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذّمهم بضلالة أنفسهم ذمّهم بالتكبّر و إضلال الناس بقوله: ثانِيَ عِطْفِهِ تكبّرا، و لاوي عنقه و كتفه تعظّما، و يكون جداله لِيُضِلَّ النّاس و يحرفهم عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و دين الإسلام.

ثمّ هدّدهم بقوله: لَهُ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ و هوان و ذلّ و فضيحة وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَذابَ النار اَلْحَرِيقِ أو العذاب المحرق،

و يقال له: ذلِكَ المذكور من الخزي في الدنيا و العذاب الحريق في هذا اليوم هو ما تستحقّه بِما قَدَّمَتْ يَداكَ و اكتسبته بسعيك من الكفر و المعاصي وَ الأمر أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ بل هم ظالمون على أنفسهم.

قيل: إنّ ذكر (ظلاّم) المتضمّن للكثرة في موقع لفظ الظّلم للتنبيه على أنّ قليل الظلم منه تعالى كثير، أو باعتبار كثرة العبيد (5).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 11

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المتجاهرين بالكفر المصرّين عليه، ذمّ المنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللّهَ و يتديّن بدينه عَلى حَرْفٍ و طرف واحد من الدّين

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ (11)

ص: 326


1- . تفسير الرازي 23:11.
2- . تفسير الرازي 23:11.
3- . تفسير الرازي 23:11.
4- . تفسير الرازي 23:11.
5- . تفسير روح البيان 6:10.

و هو لسانه، لا على وسطه و هو قلبه، و هو كناية عن قلقه و اضطرابه في الدين، فهو كالذي يقوم على طرف الجيش ليسهل عليه الفرار، إن أحسّ بشرّ فهو لا سكون له و لا طمأنينة فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ من سعة (1)و راحة اِطْمَأَنَّ بسبب ذلك الخير و سكن بِهِ في الدين، و ثبت على ما كان عليه من الإيمان الظاهريّ اللّساني وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ و بليّة من شرّ و مكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله اِنْقَلَبَ و انصرف عَلى وَجْهِهِ و طريقه السابق من الكفر، و رجع إلى ما كان عليه من الضّلال خَسِرَ و فقد اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةَ و ذهبتا من يده و تضرّر فيهما بضياع مقصوده في الدنيا من العزّ و السلامة و سائر المنافع و التمتّعات و فوات غرضه في الآخرة من نيل الثواب و السّلامة من العقاب ذلِكَ الخسران هُوَ اَلْخُسْرانُ اَلْمُبِينُ و الضّرر الواضح عند العقلاء، إذ لا خسران أعظم منه.

عن ابن عباس: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ [بها]جسمه، و نتجت فرسه مهرا حسنا، و ولدت امرأته غلاما، و كثر ماله و ماشيته، رضي بالدّين و اطمئنّ إليه، و إن أصابه وجع، و ولدت امرأته جارية، أو أجهضت رماكه (2)، و ذهب ماله، و تأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان و قال له: ما جاءتك هذه الشّرور إلاّ بسبب هذا الدّين، فينقلب عن دينه (3).

و قيل: نزلت في المؤلّفة قلوبهم، منهم: عيينة بن بدر، و الأقرع بن حابس، و العبّاس بن مرداس، قال بعضهم لبعض: ندخل في دين محمّد، فإن أصبنا خيرا عرفنا أنّه حقّ، و إن أصبنا غير ذلك عرفنا أنّه باطل (4).

و قيل: أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره و ماله و ولده، فقال: يا رسول اللّه أقلني، فإنّي لم أصب من ديني هذا خيرا، ذهب بصري و ولدي و مالي. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ الاسلام لا يقال، إنّ الإسلام ليسبك كما تسبك النار خبث الحديد و الذّهب و الفضّة» فنزلت هذه الآية (5).

عن الباقر عليه السّلام قال: «هم قوم وحّدوا اللّه، و خلعوا عبادة من يعبد من دون اللّه، فخرجوا من الشّرك و لم يعرفوا أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، فهم يعبدون اللّه على شكّ في محمّد و ما جاء به، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: ننظر، فإن كثرت أموالنا و عوفينا في أنفسنا و أولادنا، علمنا أنّك صادق، و أنّك رسول اللّه، و إن كان غير ذلك نظرنا. قال اللّه: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ يعني عافية في الدنيا وَ إِنْ

ص: 327


1- . في النسخة: وسعة.
2- . الرماك: جمع رمكة، و هي الفرس أو البرذونة تتخذ للنسل.
3- . تفسير الرازي 23:13. (4 و 5) . تفسير الرازي 23:13.

أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ يعني بلاء في نفسه اِنْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي انقلب على الشّرك» (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ ذمّ سبحانه العابد على حرف على شركه المضمر بقوله: يَدْعُوا ذلك الضالّ في الباطن و يعبد مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه ما لا يَضُرُّهُ إن لم يعبده وَ ما لا يَنْفَعُهُ إن عبده ذلِكَ الدّعاء هُوَ اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ عن الحقّ و الصواب بحيث لا يرجى هدايته، لوضوح أنّ الجماد لا يليق بالدعاء و لا يجيىء منه الضّرر و النفع.

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلى وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ (13) إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)

ثمّ بالغ سبحانه في تقبيح عملهم و تسفيه أحلامهم بقوله: يَدْعُوا ذلك الأحمق الغبيّ لَمَنْ ضَرُّهُ بسبب عبادته و دعائه الموجب للقتل و الخذلان في الدنيا، و العذاب بالنّار في الآخرة أَقْرَبُ إليه مِنْ نَفْعِهِ المتوقّع من عبادته بزعمهم من الشفاعة و القرب من اللّه، و اللّه لَبِئْسَ اَلْمَوْلى و الناصر ذلك المعبود وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ و الصاحب، و إنّما ذكر كلمة (من) في قوله: لَمَنْ في مورد كلمة (ما) و صيغة التفضيل مماشاة للمشركين المنزّلين للأصنام منزلة العقلاء، و القائلين بأنّها الضارّات النافعات.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الأصنام، و أنّها لا تنفع و لا تضرّ، بيّن نفعه بالمؤمنين و تفضّله عليهم بقوله: إِنَّ اَللّهَ في الآخرة يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ بلطفه و تفضّله إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة الموحّدين و تعذيب المشركين لا دافع لها و لا مانع.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 15

ثمّ لمّا بيّن تفضّله على المؤمنين (2)، بيّن لطفه بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و تفضّله عليه بنصرته بقوله: مَنْ كانَ يَظُنُّ و يتوهّم في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا بإعلاء دينه، و قهر أعدائه، وَ

مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى اَلسَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)

ص: 328


1- . الكافي 2:303/2، تفسير الصافي 3:366.
2- . في النسخة: تفضّله بالمؤمنين.

في اَلْآخِرَةِ بإعلاء درجته و درجة المؤمنين به، و الانتقام من معارضيه و مكذّبيه، و يغيظه ما يرى من خلاف ما توهّمه فَلْيَمْدُدْ و ليربط عنقه بِسَبَبٍ و حبل إِلَى اَلسَّماءِ المطلّة، أو سقف بيته ثُمَّ لْيَقْطَعْ ذلك الحبل فيسقط على الأرض و يموت، أو ليقطع نفسه و يختنق فَلْيَنْظُرْ و ليتصوّر في نفسه هَلْ يُذْهِبَنَّ و يزيلنّ كَيْدُهُ و تدبيره و فعله ذلك بنفسه ما يَغِيظُ من نصرة اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله؟ كلاّ، لا يقدر على دفع نصرة اللّه له و إن أهلك نفسه من شدّة غضبه؛ لأنّ اللّه لا يعجزه شيء عن إنفاذ إرادته.

قيل: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على المشركين يستبطئون ما وعد اللّه رسوله من النصر، فنزلت (1).

و قيل: إنّ أعداءه كانوا يتوقّعون أن لا ينصره اللّه، فلمّا شاهدوا أنّ اللّه نصره غاظهم ذلك، فنزلت (2).

و حاصل المعنى أنّه تعالى ناصر رسوله لا محالة، فمن كان يغيظه ذلك أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته فليبالغ في الجدّ في دفعه، فقصارى أمره و عاقبة مكره أن يختنق ممّا يرى من بطلان سعيه في ذلك.

و قيل: إنّ المراد فليمدد حبلا إلى السماء المطلّة و ليصعد عليها، ثمّ ليقطع الوحي، أو فليقطع نصر اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله (1).

و قيل: إنّ ضمير (لن ينصره) راجع إلى الموصول، و المراد من النصرة الرزق، و المعنى من كان يظنّ أن لن يرزقه اللّه في الدنيا و الآخرة، و لذا يعدل عن التمسّك بدين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فليبالغ في الجزع، و غايته الاختناق، فإنّ ذلك لا يقلب القسمة و لا يجعله مرزوقا (2).

عن مقاتل: أنّها نزلت في نفر من أسد و غطفان، فإنّهم قالوا: نخاف أن لا ينصر اللّه محمّدا، فينقطع الذي بيننا و بين حلفائنا من اليهود، فلا يميروننا (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 16 الی 17

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المشركين و المؤمنين و عدم قدرة أحد على المنع من إنفاذ إرادته بأبلغ

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)

ص: 329


1- . تفسير الكشاف 3:148.
2- . مجمع البيان 7:121.
3- . تفسير الرازي 23:16.

بيان، بيّن أنّ جميع القرآن في البيان في درجة الإعجاز بقوله: وَ كَذلِكَ الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة في هذا القرآن أَنْزَلْناهُ كلّه حال كون جميعه آياتٍ بَيِّناتٍ و البيانات البالغة حدّ الإعجاز الواضحات الدلالة على المعاني الرائقة اللطيفة مع غاية الإيجاز وَ أَنَّ اَللّهَ يَهْدِي به إلى الحقّ و الدرجات العالية في الدنيا و الآخرة مَنْ يُرِيدُ هدايته إليها.

قيل: إنّ التقدير و لأنّ اللّه يهدي من يريد أنزله كذلك، أو الأمر أنّ اللّه يهدي، إلى آخره (1).

في الحديث: «أنّ اللّه يرفع بهذا الكتاب أقواما، و يضع به آخرين» (2).

ثمّ بيّن اللّه الفرقة المهديّة و الفرق الضّلاّل، و أخبرهم بإعطاء كلّ منهم ما يستحقّه بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ اَلَّذِينَ هادُوا و اتّخذوا الملّة اليهوديّة وَ اَلصّابِئِينَ و عبدة الملائكة و الكواكب الخارجين عن الأديان كلّها، و قيل: هم المتديّنون بدين نوح (3)وَ اَلنَّصارى الّذين اختاروا دين المسيح وَ اَلْمَجُوسَ الذين عبدوا النّار وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا و عبدوا الأصنام إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ و يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بإثابة المؤمنين، و تعذيب الفرق الخمس الاخر المتفقين على الكفر، و لا تخفى عليه بواطنهم و ظواهرهم و مقدار استحقاقهم و ما يستحقّون، بل إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خفيّات عوالم الملك و الملكوت و جليّاتها شَهِيدٌ و بها عليم.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 18

ثمّ بيّن سبحانه ما يوجب الفصل بينهم من التوحيد و الشّرك و الخضوع للّه و الاستنكاف منه بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تعلم أيّها الّذي من شأنك العلم أَنَّ اَللّهَ يَسْجُدُ و يخضع لَهُ وحده و ينقاد لحكمه طوعا أو كرها مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الثّقلين وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ كالوحوش و الطيور و نظائرهما وَ يسجد له كَثِيرٌ مِنَ اَلنّاسِ سجود طاعة و عبادة، أو يوحّده: كما عن ابن عباس (4). أو في الجنّة، أو حقّ له الثواب وَ كَثِيرٌ منهم حَقَّ و ثبت عَلَيْهِ اَلْعَذابُ بكفره و إشراكه و عصيانه وَ مَنْ يُهِنِ اَللّهُ و يشقيه بخذلانه و تعذيبه فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بإسعاده و إثابته أَنَّ اَللّهَ وحده هو الذي

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)

ص: 330


1- . تفسير أبي السعود 6:100.
2- . تفسير روح البيان 6:14.
3- . تفسير روح البيان 6:15.
4- . تفسير الرازي 23:20.

يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام و الإهانة و غيرهما.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 19 الی 22

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فرقة المؤمنين و فرقة الكفّار المنقسمة إلى خمس فرق، بيّن ما فيه اختلافهم و كيفيّة الفصل بينهم بقوله: هذانِ الفريقان خَصْمانِ متنازعان، الذين اِخْتَصَمُوا و تنازعوا فِي ذات رَبِّهِمْ و صفاته كما عن ابن عبّاس (1). أو في دينه المرضيّ عنده، و إنّما كان تخاصمهم [يتمثّل في]

بناء أقوالهم و أفعالهم على ما كانوا يعتقدون، و إن لم يجر بينهما تحاور.

هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ (22)قيل: تخاصمت اليهود و المؤمنون فقالت اليهود: نحن أحقّ باللّه، لأنّ كتابنا أقدم (2)، و نبيّنا قبل نبيّكم. و قال المؤمنون: نحن أحقّ باللّه، لأنّا آمنّا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بنبيّكم، و بما أنزل اللّه من كتاب، و أنتم تعرفون كتابنا و نبيّنا، ثمّ كفرتم به حسدا، فنزلت (3).

و روي أنّ تلك المحاجّة كانت بين عامّة أهل الكتاب و المؤمنين (4).

و روي أنّ أبا ذرّ رضوان اللّه عليه كان يحلف باللّه على أنّ الآية نزلت في ستّة من قريش تبارزوا يوم بدر: حمزة، و علي، و عبيدة، و عتبة، و شيبة، و الوليد. و قال عليّ عليه السّلام: «أنّا أوّل من يجثوا للخصومة بين يدي اللّه تعالى يوم القيامة» (5).

و قيل: إنّ الخصمين الجنّة و النار؛ قالت النار، خلقني اللّه لعقوبته، و قالت الجنّة: خلقني اللّه لرحمته، فقصّ اللّه خبرهما لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

و عن الحسين بن علي عليهما السّلام قال: «نحن و بنو اميّة، قلنا: صدق اللّه و رسوله، و قالت بنو اميّة: كذب اللّه و رسوله، فنحن الخصمان يوم القيامة» (5).

و أمّا كيفيّة الفصل فَالَّذِينَ كَفَرُوا من الفرق قُطِّعَتْ و قدّرت لَهُمْ على مقادير جثثهم ثِيابٌ مِنْ نارٍ يلبسونها.

ص: 331


1- . تفسير الرازي 23:21.
2- . في تفسير أبي السعود: و أقدم منكم كتابا.
3- . تفسير أبي السعود 6:101.
4- . تفسير الرازي 23:21. (5 و 6) . تفسير الرازي 23:21.
5- . الخصال:42/35، تفسير الصافي 3:368.

و قيل: شبّه اللّه إحاطة النّار بهم بإحاطة الثياب بلابسها (1).

و عن سعيد بن جبير: أي من نحاس اذيب بالنّار (2).

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ و الماء الحارّ المتناهي في الحرارة. عن ابن عباس: لو قطرت قطرة منه على جبال [الدنيا]لأذابها (3).

يُصْهَرُ و يذاب بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ من الأحشاء و الأمعاء وَ اَلْجُلُودُ فتأثيره في بواطنهم كتأثيره في ظواهر [هم]

.

القمي قال: تشويه النار، فتسترخي شفته السّفلى حتى تبلغ سرّته، و تتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه (4).

وَ أعدّ لَهُمْ مَقامِعُ و أعمدة كما قال القمي (5). أو سياط مِنْ حَدِيدٍ محماة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «و لهم مقامع من حديد لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثمّ اجتمع عليه الثّقلان ما أقلوه من الأرض» (4).

كُلَّما أَرادُوا و أيّ وقت أشرفوا على أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها و يتخلّصوا مِنْ غَمٍّ من غمومها الشديدة التي تصيبهم فيها، بأن يضربهم لهبها فيرفعهم إلى أعاليها أُعِيدُوا فِيها و ردّوا من أعاليها إلى أسافلها بضرب الأعمدة على رؤوسهم وَ قيل لهم: ذُوقُوا و أطعموا عَذابَ اَلْحَرِيقِ و ألم النار البالغة في الأحراق، أو ألم الغليظ من النّار.

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «أنّ أهل النّار [يعظّمون النار، و إنّ]أهل الجنّة [يعظّمون الجنّة] و النعيم، و إنّ أهل جهنّم إذا دخلوها هووا فيها [مسيرة]سبعين عاما، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد و اعيدوا في دركها، هذه حالهم، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ ثمّ تبدّل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم» (5)الخبر.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ لمّا بيّن سبحانه قضاءه في حقّ الكفّار و سوء حالهم في الآخرة، بيّن قضاءه في حقّ المؤمنين و حسن حالهم فيها بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ فعظّم اللّه شأنهم بإسناد إدخالهم الجنة إلى نفسه، ثمّ بيّن ما أعدّ للمؤمنين بدل ما أعدّ للكفّار

إِنَّ اَللّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ اَلْحَمِيدِ (24)

ص: 332


1- . تفسير أبي السعود 6:101، تفسير روح البيان 6:18.
2- . تفسير الرازي 23:22.
3- . تفسير الرازي 23:22، تفسير أبي السعود 6:101. (4 و 5) . تفسير القمي 2:80، تفسير الصافي 3:368.
4- . مجمع البيان 7:124، تفسير الصافي 3:368.
5- . تفسير القمي 2:81، تفسير الصافي 3:369.

من المقامع بقوله: يُحَلَّوْنَ و يزيّنون فِيها بأمر اللّه و تصدّي الملائكة مِنْ أَساوِرَ كائنة مِنْ ذَهَبٍ أحمر على ما قيل (1)وَ يحلّون لُؤْلُؤاً لتزيّنهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان لباس الكفّار في جهنّم، بيّن لباس المؤمنين في الجنّة بقوله: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ و ثوب من إبريسم محض، و إنّما غيّر الاسلوب، حيث لم يقل: و يلبسون حريرا، إشعار بأنّ لباسهم أمر غنيّ عن البيان،

و إنّما المحتاج إلى البيان تعيين جنسه وَ هُدُوا فيها إِلَى اَلطَّيِّبِ و الأحسن مِنَ اَلْقَوْلِ كقول: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا، و قوله: الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن، و قوله: الحمد للّه الّذي صدقنا وعده، كما عن ابن عباس (2).

و قيل: هو البشارة التي تأتيهم من قبل اللّه (3).

و قيل: يعني هدوا في الدّنيا إلى القول الطيّب، و هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه (4).

و قيل: هو القرآن (5).

وَ هُدُوا إِلى صِراطِ اَلْحَمِيدِ و الطّريق المحمود نفسه أو عاقبته. و قيل: إنّ الصّراط هو الإسلام، و الحميد هو اللّه المستحقّ للحمد بذاته، و إنّما أخّر هذه الهداية عن الهداية إلى القول الطيّب مع تقدّمها عليها رعاية للفواصل (6).

عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «ذاك حمزة و جعفر و عبيدة و سلمان و أبو ذرّ و المقداد بن الأسود و عمّار، هدوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام» (7).

و عن الباقر عليه السّلام: «هو و اللّه هذا الأمر الذي أنتم عليه» (8).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قضائه في حقّ الكفّار و شدّة عذابهم، ذكر أعظم جرائمهم بعد الكفر بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله وَ يَصُدُّونَ الناس و يمنعونهم عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دينه و طاعته و الهجرة إلى رسوله وَ عن دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و طواف البيت فيه، مع أنّه المكان اَلَّذِي جَعَلْناهُ و صيّرناه معبدا لِلنّاسِ كائنا من كان سَواءً اَلْعاكِفُ و المقيم فِيهِ

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ اَلَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)

ص: 333


1- . تفسير روح البيان 6:20.
2- . تفسير الرازي 23:22، تفسير أبي السعود 6:102، و لم ينسبه إلى ابن عباس.
3- . تفسير الرازي 23:22.
4- . تفسير الرازي 23:22.
5- . تفسير الرازي 23:22.
6- . تفسير أبي السعود 6:102.
7- . الكافي 1:352/71، تفسير الصافي 3:370.
8- . المحاسن:169/133، تفسير الصافي 3:369.

وَ اَلْبادِ و المسافر البعيد إليه من حيث السّكنى و الطّواف و التّعبّد.

عن ابن عباس: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب و أصحابه حين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبية عن المسجد الحرام، و أن يحجّ و يعتمر و ينحر الهدي، فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قتالهم، و كان محرما بعمرة، ثمّ صالحوه على أن يعود في العام القابل (1).

و عنه أيضا: أنّهما يستويان في سكنى مكّة و النزول بها، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل الّذي يكون فيه من الآخر إلاّ أن يكون واحد سبق إلى المنزل» (2).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «مكّة مباح لمن سبق إليها» (3).

القمي: نزلت في قريش حين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكّة، و قوله: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ قال: أهل مكّة و من جاء [إليهم]من البلدان، فهم فيه سواء، لا يمنع من النّزول و دخول الحرم (2).

في (نهج البلاغة) -في كتاب كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى قثم بن عبّاس، و هو عامله على مكّة-: «[و مر أهل مكّة]أن لا يأخذوا من ساكن أجرا، فإنّ اللّه يقول: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ فالعاكف المقيم به، و البادي الّذي يحجّ إليه من غير أهله» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه كره إجارة بيوت مكّة (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أوّل من علّق على بابه المصراعين بمكّة معاوية، فمنع حاجّ بيت اللّه، و قد قال اللّه عزّ و جلّ: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ، و كان النّاس إذا قدموا مكّة نزل البادي على الحاضر حتى يقضي حجّه» الخبر (5).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «لم يكن ينبغي أن يوضع على دور مكّة أبواب، لأنّ للحجّاج أن ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدّار حتى يقضوا مناسكهم، و إنّ أوّل من جعل لدور مكّة أبوابا معاوية» (6).

ثمّ بيّن سبحانه حرمة المسجد بقوله: وَ مَنْ يُرِدْ مرادا فِيهِ حال كونه متلبّسا بِإِلْحادٍ و عدول عن القصد ملتبسا بِظُلْمٍ. و قيل: إنّ المراد من يرد أن يأتي فيه بإلحاد، و هو الشرك باللّه، كما عن ابن عبّاس (9).

روي أنّ الآية نزلت في عبد اللّه بن سعد حيث استسلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فارتدّ مشركا، و في قيس بن ضبابة (10).

و عن مقاتل: نزلت في عبد اللّه بن خطل حين قتل الأنصاري و هرب إلى مكّة كافرا، فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله

ص: 334


1- . تفسير الرازي 23:23. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:24.
2- . تفسير القمي 2:83، تفسير الصافي 3:371.
3- . نهج البلاغة:458 كتاب 67، تفسير الصافي 3:371.
4- . قرب الإسناد:140/498، تفسير الصافي 3:371.
5- . الكافي 4:243/1، تفسير الصافي 3:371.
6- . علل الشرائع:396/1، تفسير الصافي 3:371. (9 و 10) . تفسير الرازي 23:25.

بقتله يوم فتح مكّة (1).

و قيل: إنّه قتل ما نهى اللّه عنه من الصّيد (2).

و قيل: إنّه دخول مكّة بغير إحرام و ارتكاب ما لا يحلّ للمحرم (3).

و قيل: إنّه الاحتكار (4).

و قيل: إنّه المنع من عمارته (5).

و قيل: هو قول الرجل: لا و اللّه، و بلى و اللّه (6).

و قيل: عامّ في كلّ المعاصي (7).

و عن ابن مسعود: لو أنّ رجلا بعدن همّ بأن يعمل سيّئة عند البيت أذاقه اللّه عذابا أليما (8).

و يحتمل أن يكون المراد من يرد فيه مرادا عادلا عن القصد بسبب ارتكابه الظّلم على نفسه أو غيره نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فالواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه و يسلك طريق السّداد و العدل في جميع ما يهمّ به و يقصده.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «من عبد فيه غير اللّه و تولّى فيه غير أولياء اللّه، فهو ملحد بظلم، و على اللّه تبارك و تعالى أن يذيقه من عذاب أليم» (1).

و عنه عليه السّلام فيها: «كلّ ظلم إلحاد، و ضرب الخادم من غير ذنب من ذلك الإلحاد» (2)، و سئل عن أدنى الإلحاد فقال: «إنّ الكبر أدناه» (3).

و عنه عليه السّلام: «كلّ ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظّلم، فإنّي أراه إلحادا، و لذلك كان ينهى عن أن يسكن [الحرم]» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه قيل له: إنّ سبعا من سباع الطّير على الكعبة، ليس يمرّ به شيء من حمام الحرم إلاّ ضربه؟ فقال: «انصبوا له و اقتلوه، فإنّه قد ألحد في الحرم» (5).

و عنه عليه السّلام قال: «نزلت فيهم حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا و تعاقدوا على كفرهم و جحودهم بما نزل في أمير المؤمنين عليه السّلام، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول و وليّه فبعدا للقوم الظّالمين» (6).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 26

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ (26)

ص: 335


1- . الكافي 8:337/533، تفسير الصافي 3:372.
2- . الكافي 4:277/2، تفسير الصافي 3:372.
3- . الكافي 2:233/1، تفسير الصافي 3:372.
4- . الكافي 4:227/3، علل الشرائع:445/1، تفسير الصافي 3:372.
5- . الكافي 4:227/1، علل الشرائع:453/4، تفسير الصافي 3:372.
6- . الكافي 1:348/44، تفسير الصافي 3:372.

ثمّ ذكر سبحانه جملة من تشريفات البيت الحرام بقوله: وَ إِذْ بَوَّأْنا و بيّنا لِإِبْراهِيمَ أن يبني مَكانَ اَلْبَيْتِ و قيل: إنّ المعنى اذكر وقت جعلنا مكان البيت مباءة و مرجعا لإبراهيم عليه السّلام يرجع إليه للعمارة و العبادة (1).

و قلنا له: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي يا إبراهيم في العبادة و عمل العمارة شَيْئاً من الأشياء، و غرضا من الأغراض وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ بعد بنائه من الأوثان و الأقذار لِلطّائِفِينَ به وَ اَلْقائِمِينَ العاكفين فيه وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ.

عن ابن عباس قال: للطّائفين بالبيت من غير أهل مكّة، و القائمين أي المقيمين بها، و الرّكّع السجود أي من المصلّين (2).

و قيل: إنّ المراد من الأوصاف الثلاثة المصلّون؛ لأنّ الصلاة جامعة للقيام و الرّكوع و السّجود (3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه يقول: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلاّ و هو طاهر قد غسل عرقه و الأذى و تطهّر» (2).

قيل: لعلّه كان ذلك المكان صحراء، و كانوا يرمون إليها الأقذار، فأمر إبراهيم عليه السّلام ببناء البيت في ذلك المكان، و تطهيره من الأقذار، أو كان معمورا، و كانوا قد وضعوا فيه الأصنام، فأمره اللّه بتخريبه و وضع بناء جديد (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 27

ثمّ أوحى اللّه إليه بعد إتمام البيت بقوله: وَ أَذِّنْ يا إبراهيم فِي اَلنّاسِ و أعلمهم بِالْحَجِّ فإذا أذّنت فيهم يَأْتُوكَ رِجالاً و مشاة على أرجلهم وَ ركبانا عَلى كُلِّ ضامِرٍ و بعير مهزول من بعد المسير يَأْتِينَ إلى هذا البيت مِنْ كُلِّ فَجٍّ و طريق واسع، أو طريق بين الجبلين عَمِيقٍ و بعيد منحدر إلى السفل (4).

وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)روي أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا فرغ من بناء البيت قال اللّه تعالى له: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ قال: يا

ص: 336


1- . تفسير الرازي 23:26. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:27.
2- . الكافي 4:400/3، التهذيب 5:98/322، تفسير الصافي 3:372.
3- . تفسير الرازي 23:27.
4- . السفل: نقيض العلو.

ربّ، و ما يبلغ صوتي؟ قال تعالى: عليك الأذان و عليّ البلاغ، فصعد إبراهيم عليه السّلام على الصّفا (1). و في رواية: على أبي قبيس (2). و في اخرى: على المقام (1)؛ فارتفع المقام حتى صار كطول الجبال، فأدخل إصبعيه في اذنيه، و أقبل بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و غربا و قال: أيّها النّاس، ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتا، و كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربّكم، و حجّوا بيته الحرام، ليثيبكم به الجنّة، و يجيركم من النّار.

و في رواية: قال إبراهيم عليه السّلام كيف أقول يا جبرئيل؟ قال جبرئيل: قل لبّيك أللّهم لبّيك، فهو أوّل من لبّى (4).

و في رواية اخرى قال: إنّ اللّه يدعوكم إلى حجّ البيت الحرام ليثيبكم به الجنّة، و يخرجكم من النّار، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرّجال و أرحام النساء، و كلّ من وصل إليه صوته من حجر أو شجر أو مدر أو أكمة أو تراب (5).

و في رواية: فسمعه أهل ما بين السماء و الأرض، فما [بقي شيء]سمع صوته إلاّ أقبل يقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، فأول من أجاب أهل اليمن، فهم أكثر النّاس حجّا (2).

و قال مجاهد: من أجاب مرّة حجّ مرّة، و من أجاب مرّتين أو أكثر يحجّ مرّتين أو أكثر بذلك المقدار (3).

و عن ابن عباس: لمّا أمر إبراهيم عليه السّلام بالأذان تواضعت له الجبال و خفضت، و ارتفعت له القرى (4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا امر إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام ببناء البيت، و تمّ بناؤه، قعد إبراهيم عليه السّلام على ركن ثمّ نادى: هلمّ الحجّ، هلمّ الحجّ، فلبى الناس في أصلاب الرجال و قالوا: لبّيك داعي اللّه، لبّيك داعي اللّه، فمن لبّى عشرا حجّ عشرا، و من لبّى خمسا حجّ خمسا، و من لبّى أكثر فبعدد ذلك، و من لبّى واحدا حجّ مرّة، و من لم يلبّ لم يحجّ» (5).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه جلّ جلاله لمّا أمر إبراهيم عليه السّلام ينادي في الناس بالحجّ، قام على المقام فارتفع به حتى صار بإزاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحجّ، فأسمع من في أصلاب الرجال و أرحام

ص: 337


1- . تفسير الرازي 23:27، تفسير روح البيان 6:25. (4 و 5) . تفسير الرازي 23:27.
2- . تفسير روح البيان 6:25.
3- . تفسير الرازي 23:27، تفسير روح البيان 6:25.
4- . تفسير الرازي 23:27.
5- . الكافي 4:206/6، علل الشرائع:419/1، تفسير الصافي 3:373.

النساء إلى أن تقوم الساعة» (1).

و قال القمي: لمّا فرغ إبراهيم عليه السّلام من بناء البيت، أمره اللّه أن يؤذّن في الناس بالحجّ، فقال: يا ربّ، ما يبلغ صوتي، فقال اللّه: أذّن، عليك الأذان، و عليّ البلاغ. و ارتفع على المقام و هو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع المقام حتى كان أطول من الجبال، فأدخل إصبعيه في اذنيه، و أقبل بوجهه شرقا و غربا، و نادى: أيّها الناس، كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربّكم؛ فأجابوه من تحت البحور السبعة، و من بين المشرق و المغرب إلى منقطع التّراب من أطراف الأرض كلّها، و من أصلاب الرجال و أرحام النساء بالتّلبية: لبّيك اللهمّ لبّيك، ألا ترون يأتون يلبّون، فمن حجّ يومئذ إلى يوم القيامة، فهم ممّن استجاب للّه سبحانه [و]ذلك [قوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ] (2).

و قال بعض العامّة: إنّ المأمور بقوله: أَذِّنْ هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و نسب ذلك القول إلى أكثر المعتزلة، و استدلّ عليه بأنّ الخطابات التي تكون في القرآن إذا أمكن حملها على كون المخاطب بها محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، وجب حملها على ذلك، لأنّه أولى (3). و عليه يكون معنى الآية: اذكر يا محمّد إذ بوّأنا لإبراهيم. . . إلى آخره، و أذّن أنت يا محمد بالحجّ يأتوك رجالا.

و قيل: إنّ المراد بالأذان إعلانه صلّى اللّه عليه و آله بالتّلبية حتى يعلم الناس أنّه حاجّ فيحجّوا معه و يقتدوا به (4).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، ثمّ أنزل اللّه تعالى: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ الآية، فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول اللّه يحجّ في عامة [هذا]فعلم به من حضر بالمدينة و أهل العوالي و الأعراب، و اجتمعوا لحجّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون فيتّبعونه، أو يصنع شيئا فيصنعونه» (3). و إنّما قدّم ذكر المشاة للإشعار بفضيلتهم على الرّكبان.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الحاجّ الراكب له بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، و للماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم» قيل: يا رسول اللّه، و ما حسنات الحرم؟ قال: «الحسنة بمائة ألف حسنة» (4).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 28 الی 29

لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْبائِسَ اَلْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ (29)

ص: 338


1- . علل الشرائع:419/2، تفسير الصافي 3:373.
2- . تفسير القمي 2:83، تفسير الصافي 3:373. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:28.
3- . الكافي 4:245/4، تفسير الصافي 3:373.
4- . تفسير الرازي 23:28.

ثمّ بيّن سبحانه حكمة الأمر بالحجّ بقوله: لِيَشْهَدُوا و ليحضروا مَنافِعَ مختصّة بهذه العبادة لَهُمْ من المنافع الدنيويّة، كالتجارة في أيّام الحجّ كما قيل (1)، أو منافع أخرويّة كما رواه بعض العامّة عن الباقر عليه السّلام (2)، أو هما كما عن الصادق عليه السّلام أنّه يطاف به حول الكعبة في محمل، و هو شديد المرض، فكان كلّما بلغ الرّكن اليماني أمرهم فوضعوه على الأرض، فأخرج يده من كوّة المحمل حتى يجرّها على الأرض، ثمّ يقول: «ارفعوني» فلمّا فعل ذلك مرارا في كلّ شوط، قيل له: يابن رسول اللّه، إنّ هذا يشقّ عليك؟ فقال: «إنّي سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ فقيل: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: «الكلّ» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه قيل له: لو أرحت بدنك من المحمل؟ فقال: «إنّي أحبّ أن أشهد المنافع التي قال اللّه عزّ و جلّ: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ إنّه لا يشهدها أحد إلاّ نفعه اللّه، أمّا أنتم فترجعون مغفورا لكم، و أمّا غيركم فيحفظون في أهاليهم و أموالهم» (2).

و في (المجمع) عنه عليه السّلام: «منافع الآخرة هي العفو و المغفرة» (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «و علّة الحجّ الوفادة على اللّه تعالى، و طلب الزيادة، و الخروج من كلّ ما اقترف، و ليكون تائبا ممّا مضى، و مستأنفا لما يستقبل، و ما فيه من استخراج الأموال و تعب الأبدان، و حظرها عن الشّهوات و اللذّات، و التقرّب بالعبادة إلى اللّه عزّ و جلّ، و الخضوع و الاستكانة و الذلّ، شاخصا [إليه]في الحرّ و البرد و الأمن و الخوف، دائبا في ذلك دائما، و ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع و الرغبة و الرّهبة إلى اللّه تعالى، و منه ترك قساوة القلب، و جسارة الأنفس، و نسيان الذكر، و انقطاع الرجاء و الأمل، و تجديد الحقوق، و حظر الأنفس عن الفساد، و منفعة من في شرق الأرض و غربها، و من في البرّ و البحر ممّن يحجّ و ممّن لا يحجّ من تاجر و جالب، و بائع و مشتر، و كاسب و مسكين، و قضاء حوائج أهل الأطراف و المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم» (4).

و في رواية: «مع ما فيه من التفقّه» (5)وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عند إعداد الهدايا و الضحايا و ذبحها فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ و هي أيّام النّحر، و قيل: عشر ذي الحجّة (6)عَلى ما رَزَقَهُمْ و أنعم عليهم مِنْ

ص: 339


1- . الكافي 4:422/1، تفسير الصافي 3:374.
2- . الكافي 4:263/46، تفسير الصافي 3:374.
3- . مجمع البيان 7:129، عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 3:374.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:90/1، علل الشرائع:404/5، تفسير الصافي 3:374.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:119/1، تفسير الصافي 3:375.
6- . تفسير الرازي 23:29.

بَهِيمَةِ و حيوان ذات أربع يكون من اَلْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم. قيل: كنّى عن الذّبح بذكر اللّه (1)، لعدم انفكاك المسلم عن ذكره تعالى عند الذّبح و النّحر، و للتّنبيه على أنّ الغرض الأصلي في ما يتقرّب به إلى اللّه أن يذكر اسم اللّه تعالى و أن يخالف المشركين في ذلك.

قيل: كان التقرّب بإراقة دمها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها، و يبذل تلك الذبيحة بدل مهجته، طلبا لمرضاة اللّه، و اعترافا بأنّ تقصيره موجب لاستحقاق مهجته (2).

قيل: إنّ ذكر اللّه عند الذبح: بسم اللّه و باللّه و اللّه أكبر، اللّهم منك و إليك، إنّ صلاتي و نسكي و محياي و مماتي للّه ربّ العالمين (3).

و عن الباقر عليه السّلام «ذكر اللّه هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة أوّلها ظهر العيد» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «الأيّام المعلومات عشر ذي الحجّة، و المعدودات أيّام التّشريق» (3).

أقول: نسب الفخر الرازي هذا القول إلى ابن عبّاس و كثير من المفسّرين و أكثر العلماء، و قالوا في وجه تسمية العشر بالمعلومات أنّها معلومة عند النّاس، لحرصهم على العلم بها، لكون الحجّ في آخرها (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «قال علي عليه السّلام: في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ أيّام العشر» (5).

أقول: الظاهر أنّ ما روي عنه عليه السّلام من عكس ذلك فهو سهو من الرّاوي.

ثمّ بيّن سبحانه مصرف الضحايا بقوله: فَكُلُوا أنفسكم مِنْها ندبا أو وجوبا وَ أَطْعِمُوا منها اَلْبائِسَ و من في شدّة العيش و اَلْفَقِيرَ و المحتاجين إلى مؤنة سنة.

عن ابن عباس: البائس: الّذي ظهر بؤسه في ثيابه و وجهه، و الفقير: الذي لا يكون كذلك، و تكون ثيابه نقيّة، و وجهه وجه غني (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «البائس هو الزّمن الّذي لا يستطيع أن يخرج لزمانته» (7).

و عنه أيضا: «البائس [هو]الفقير» (8).

ص: 340


1- . تفسير الرازي 23:29. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:29.
2- . عوالي اللآلي 2:88/237، عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 3:375، عنهما عليهما السّلام.
3- . جوامع الجامع:300، تفسير الصافي 3:375.
4- . تفسير الرازي 23:29.
5- . معاني الأخبار:296/1، تفسير الصافي 3:375.
6- . تفسير الرازي 23:29.
7- . الكافي 4:46/4، تفسير الصافي 3:375، و الزّمانة: مرض يدوم، و الزّمن: وصف من الزمانة.
8- . الكافي 4:500/6، تفسير الصافي 3:375.

ثُمَّ لْيَقْضُوا و ليزيلوا تَفَثَهُمْ و وسخهم بحلق الرأس و قصّ الشارب و قلم الأظفار و نتف الإبط. أو المراد: و ليؤدّوا مناسك الحجّ كلّها، كما عن ابن عبّاس (1)وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ و عهودهم بالنّذر من الحجّ و سائر الطاعات في تلك الأيّام، فيضاعف لهم الثواب.

عن الصادق عليه السّلام: «التفث هو الحلق و إزالة ما في جلد الإنسان» (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «هو تقليم الأظفار، و طرح الوسخ و طرح لباس الإحرام عنه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «التّفث حفوف الرّجل من الطّيب، فإذا قضى نسكه حلّ له الطّيب» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من التّفث أن تتكلّم في إحرامك بكلام قبيح، فإذا دخلت مكّة و طفت بالبيت [و]تكلّمت بكلام طيب فكان ذلك كفّارة» (5).

و عن ذريح المحاربي: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى أمرني في كتابه بأمر فاحبّ أن أعلمه، قال: «و ما ذاك؟» قلت: قول اللّه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ قال عليه السّلام: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لقاء الإمام وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ تلك المناسك» .

قال عبد اللّه بن سنان: فأتيت أبا عبد اللّه، فقلت: جعلت فداك، قول اللّه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ؟ قال: «أخذ الشّارب، و قصّ الأظفار و ما أشبه ذلك» .

قلت: جعلت فداك، إنّ ذريح المحاربي حدّثني عنك بأنّك قلت له: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لقاء الإمام وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ تلك المناسك» ؟ قال: «صدق و صدقت، إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا، و من يحتمل ما يحتمل ذريح؟» (6).

أقول: لا شبهة أنّ لقاء الإمام يزيل الأوساخ الباطنيّة من الذنوب و الأخلاق الرّذيلة، فإزالة الأوساخ الظّاهرية ظاهر القرآن، و إزالة الأوساخ الباطنية بلقاء الإمام باطنه.

و عن الباقر عليه السّلام يقول-و يرى الناس بمكّة و ما يعملون-: «فعالهم كفعال الجاهليّة، أما و اللّه ما امروا إلاّ أن يقضوا تفثهم و يوفوا نذورهم، فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم، و يعرضوا علينا نصرتهم» (7).

وَ لْيَطَّوَّفُوا وجوبا طواف النساء، كما عن الصادق عليه السّلام (8)، أو طواف الزيارة و النساء و العمرة

ص: 341


1- . مجمع البيان 7:130.
2- . الكافي 4:503/8، من لا يحضره الفقيه 2:290/1434، تفسير الصافي 3:376.
3- . الكافي 4:504/12، من لا يحضره الفقيه 2:290/1436، تفسير الصافي 3:376.
4- . من لا يحضره الفقيه 2:290/1435، تفسير الصافي 3:376.
5- . الكافي 4:337/3، تفسير الصافي 3:376.
6- . الكافي 4:549/4، تفسير الصافي 3:376.
7- . الكافي 1:323/2، تفسير الصافي 3:376.
8- . الكافي 4:513/2، تفسير الصافي 3:377.

بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ و القديم، أو الذي أعتقه اللّه من الغرق يوم الطوفان كما عن الصادق عليه السّلام (1)، أو من تسلّط الجبابرة عليه كما عن ابن عباس (2)، أو من أن يملكه أحد كما عن الباقر عليه السّلام (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر تشريفات بيته، قطع الكلام بقوله: ذلِكَ قيل: يعني الأمر أو الشّأن (4)ذلك الذي ذكر، ثمّ حثّ الناس على حفظ حرمته بقوله: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ و ما لا يحلّ هتكه من البيت الحرام، و المسجد الحرام، و البلد الحرام، و الشهر الحرام فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ثوابا عِنْدَ اللّه رَبِّهِ في الآخرة.

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ (30)ثمّ عاد سبحانه إلى بيان أحكام الحجّ، و لمّا كان مجال توهّم حرمة أكل لحوم الأنعام حال الإحرام كحرمة الصيد، صرّح بحلّيته بقوله: وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعامُ و جميع أجزائها إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في آية اخرى في المائدة، فلا تحرّموا منها ما أحلّه اللّه، و لا تجتنبوا منه، و إن كنتم مجتنبين عن شيء من القبائح فاحترزوا فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ و الخبيث القذر مِنَ اَلْأَوْثانِ و الأحجار التي يعبدها المشركون و يذبحون عندها، و احترزوا منها احترازكم من النّجس وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ و الكلام المنحرف عن الحقّ كالقول بالوهيّة الأصنام، و حرمة السائبة و أخواتها، و الشهادة بغير الحقّ، و سائر الأقوال المحرّمة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه تعالى، ثلاثا» و تلا هذه الآية (5).

و قيل: هو الكذب و البهتان (6).

و قيل: هو قول أهل الجاهليّة: لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه و ما ملك (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «الرّجس من الأوثان: الشّطرنج، و قول الزّور: الغناء» (6)[و زاد في المجمع] «و سائر أنواع القمار و الأقوال الملهية» (7).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 31

حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ اَلسَّماءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)

ص: 342


1- . تفسير القمي 2:84، المحاسن:336/113، علل الشرائع:399/1 و 4 و 5، تفسير الصافي 3:377.
2- . تفسير الرازي 23:30.
3- . الكافي 4:189/6، تفسير الصافي 3:377.
4- . تفسير الرازي 23:31.
5- . تفسير روح البيان 6:30. (6 و 7) . تفسير الرازي 23:32.
6- . تفسير القمي 2:84، الكافي 6:435/6، تفسير الصافي 3:377.
7- . مجمع البيان 7:131، تفسير الصافي 3:377.

ثمّ كأنّه تعالى قال: اعملوا بأحكامي حال كونكم حُنَفاءَ و مخلصين لِلّهِ مائلين عن كلّ باطل إلى التوحيد و الدين الحقّ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيئا في الالوهيّة و العبادة.

ثمّ بيّن سبحانه غاية ضرر الشرك و كونه سببا للهلاكة الأبديّة بضرب مثلين بقوله: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ غيره في الالوهيّة أو العبادة فَكَأَنَّما خَرَّ و سقط ذلك المشرك مِنَ اَلسَّماءِ على الأرض فهلك بالفور فَتَخْطَفُهُ و تختلسه اَلطَّيْرُ بسرعة من الأرض فتفرّقه و تمزّقه و تمحي أثره أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ العاصفة و تسقطه من جبل شامخ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ و بعيد عن محلّ سقط منه، أو عن من يغيثه فلا يراه أحد و لا يسمع صوته، فشبّه سبحانه التوحيد في علوّ رتبته بالسماء، و المشرك بالساقط منها على الأرض في تنزّله و هلاكه، و الأهواء التي تتوزّع أفكاره بالطّير الّذي تخطفه، و الشيطان المطرح له في وادي الضلال بالرّيح العاصفة التي عصفت به في المهاوي المتلفة.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 32

ثمّ قرّر سبحانه ذلك بقوله: ذلِكَ الذي ذكرت حقّ ثابت، أو الأمر أو الشأن ذلك الذي ذكرت، ثمّ حثّ سبحانه الناس على العمل و طاعة الأحكام بقوله: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ و يهتمّ بالعمل بمعالم الحجّ و علائم دينه من الهدايا و القلائد بأن يختار لها جساما حسانا سمانا غالية الأثمان، معتقدا بأنّ طاعة اللّه في التقرّب بها و إهدائها الى بيته المعظّم [فإنّها]

ناشئة (1)، مِنْ تَقْوَى الذّي مركزه في اَلْقُلُوبِ أو المراد أنّ تعظيمها من أعمال ذوي تقوى القلوب.

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ (32)القميّ قال: تعظيم البدن جودتها (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما يكون الجزاء مضاعفا فيما دون البدنة، فإذا بلغ البدنة فلا تضاعف؛ لأنّه أعظم ما يكون، قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ» إلى آخره (3).

و عنه عليه السّلام في قصّة حجّة الوداع: «و كان الهدي الذي جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة و ستّين أو ستّة و ستّين، و جاء علي عليه السّلام بأربعة و ثلاثين أو ستّة و ثلاثين» (4).

و روى بعض العامة أنّه أهدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مائة بدنة فيها جمل أبي جهل، و كان في أنفه برة (5)من

ص: 343


1- . في النسخة: ناش.
2- . تفسير القمي 2:84، تفسير الصافي 3:378، و فيها: وجودتها.
3- . الكافي 4:395/5، تفسير الصافي 3:378.
4- . الكافي 4:247/4، تفسير الصافي 3:378.
5- . البرة: حلقة تجعل في أنف الناقة.

ذهب (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 33

ثمّ بيّن سبحانه أحكام الهدايا بقول: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كثيرة من ظهرها و لبنها، فانتفعوا بها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و وقت معيّن، و هو وقت نحرها كما عن ابن عباس (2). أو وقت تسميتها أضحيّة و هديا، كما في رواية اخرى عنه (3).

لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ (33)ثُمَّ مَحِلُّها و وجوب نحرها أو وقت وجوبه منتهى إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ و هو هنا جميع الحرم كما قيل (2).

و قيل: إنّ الآية بيان علّة إيجاب تعظيم ذبح الأنعام، و المراد أنّ لكم في الهدايا منافع كثيرة في دينكم و دنياكم، و أعظمها كون محلّها إلى البيت العتيق (3).

عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» (4).

القمّي، قال: البدن يركبها المحرم من الموضع الّذي يحرم فيه غير مضرّ بها و لا معنف عليها، و إن كان لها لبن يشرب من لبنها إلى يوم النّحر (5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا احتاج إلى ظهرها ركبها من غير أن يعنف عليها، و إن [كان]لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها» (6).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ حثّ سبحانه الناس على إهداء الهدايا بقوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الامم السالفة من زمان إبراهيم عليه السّلام جَعَلْنا و شرعنا مَنْسَكاً و قربانا يتعبّدون به لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ وحده عَلى ما رَزَقَهُمْ و أنعم عليهم مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ عند ذبحها أو نحرها، و يجعلوا نسكهم و قربانهم لوجهه

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ (34) اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاةِ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

ص: 344


1- . تفسير الرازي 23:32. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:33.
2- . تفسير الرازي 23:34.
3- . تفسير الرازي 23:34.
4- . تفسير الرازي 23:33.
5- . تفسير القمي 2:84، تفسير الصافي 3:378.
6- . الكافي 4:492/1، تفسير الصافي 3:378.

الكريم، فالمقصود الأصليّ من القربان تذكّر المعبود فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و معبودكم فارد، و دينكم الإسلام، و إنّما اختلفت الأحكام لاختلاف الأزمنة و الأشخاص في المصالح، فإذا كان إلهكم واحدا فَلَهُ أَسْلِمُوا و انقادوا في جميع أحكامه و تكاليفه، و تواضعوا له، و أخلصوا ذكره بحيث لا يشوبه إشراك وَ بَشِّرِ يا محمّد، بالثواب العظيم الموحّدين اَلْمُخْبِتِينَ للّه المتواضعين له المخلصين في عبادته.

و عن القمي: أي العابدين له (1).

ثمّ وصف اللّه سبحانه المخبتين المتواضعين لعظمته بقوله: اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ عندهم و توجّهت إليه أفئدتهم، ظهرت لهم عظمته و مهابته، و لذلك وَجِلَتْ و ارتعدت قُلُوبُهُمْ من خشيته و هيبته و خوف عقابة.

ثمّ لمّا كان من آثار خوفه الصبر على المكاره و الشّدائد و الاجتهاد في عبادته و الإنفاق في سبيله، أردف توصيفهم بالخوف بقوله: وَ اَلصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصائب وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاةِ التي هي أهمّ العبادات و أفضلها وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من الأموال يُنْفِقُونَ و يبذلون في سبيله و مرضاته.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح المؤمنين بالبذل، حثّهم في إهداء البدنة التي هي أحبّ الأموال عند العرب بقوله: وَ اَلْبُدْنَ و الإبل جَعَلْناها و قرّرنا نحرها لَكُمْ بعضا مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ و معالم دينه التي شرّعها مع أنّه (2)لَكُمْ فِيها خَيْرٌ و نفع كثير دنيويّ اخرويّ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها عند نحرها حال كونها قائمات صَوافَّ أيديهنّ و أرجلهن فَإِذا نحرت و وَجَبَتْ و سقطت جُنُوبُها على الأرض، و خرجت روحها فَكُلُوا مِنْها ندبا وَ أَطْعِمُوا منها وجوبا الفقير

وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ (37)

ص: 345


1- . تفسير القمي 2:84، تفسير الصافي 3:378.
2- . في النسخة: مع أنّ، و لا تصحّ من حيث إعراب (خير) و (نفع) .

اَلْقانِعَ بما عنده الراضي بقسمة اللّه، أو الراضي بما أعطيته، و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا كما عن الصادق عليه السّلام (1)وَ الفقير اَلْمُعْتَرَّ المتعرّض للسؤال، و لم يسأل على قول (2)، أو يعتريك و لا يسأل كما عن الصادق عليه السّلام (3)، أو المارّ بك لتعطيه (4)كما عنه أيضا (5)كَذلِكَ التسخير البديع لها مع عظم جثّتها و قوّتها سَخَّرْناها لَكُمْ و ذلّلناها لمنافعكم بحيث يسهل عليكم التصرّف فيها كيف تشاءون لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النّعمة العظيمة التي تنتفعون بها في دينكم و دنياكم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ البدن من الشعائر و تعظيم الشعائر من التّقوى، رغّب المؤمنين إليها بقوله: لَنْ يَنالَ اَللّهَ و لا يصل إليه أبدا لُحُومُها وَ لا دِماؤُها بوجه من الوجوه وَ لكِنْ يَنالُهُ و يرتفع إليه اَلتَّقْوى و الطاعة مِنْكُمْ و يوجب رضاه عنكم فيثيبكم عليها.

في (الجوامع) : روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا نحروا لطّخوا البيت بالدّم، فلمّا حجّ المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت (6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل ما علّة الاضحيّة؟ قال: «إنّه يغفر لصاحبها عند أوّل قطرة قطرت (7)من دمها على الأرض، و ليعلم اللّه من يتّقيه بالغيب، قال اللّه عزّ و جلّ: لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها الآية» ثمّ قال: «انظر كيف قبل اللّه قربان هابيل و ردّ قربان قابيل» (8).

ثمّ حثّهم بتذكير نعمته و ذكر علّته بقوله: كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ و تعرفوا عظمته و قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحّدوه بالكبرياء، أو تكبّروه على إرشادكم إلى طريق تسخيرها و كيفيّة التقرّب بها وَ بَشِّرِ يا محمّد اَلْمُحْسِنِينَ في عقائدهم و أعمالهم المخلصين للّه في ما يأتون و يذرون بقبول الطاعات و الفوز بالدّرجات العاليات في الآخرة.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد ترغيب الناس في الحج، بشّرهم بتأمينهم من أذى المشركين مع كونهم صادّين عنه بقوله: إِنَّ اَللّهَ يُدافِعُ و يبالغ في دفع ضرر المشركين عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا و يحميهم أشدّ الحماية من أذاهم إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ و مبالغ في تضييع أحكامه التي هي أمانته، و كلّ

إِنَّ اَللّهَ يُدافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)

ص: 346


1- . الكافي 4:499/1، معاني الأخبار:208/1، تفسير الصافي 3:379.
2- . تفسير روح البيان 6:36.
3- . معاني الأخبار:208/2، تفسير الصافي 3:379.
4- . في معاني الأخبار: تطعمه.
5- . معاني الأخبار:208/1، تفسير الصافي 3:379.
6- . جوامع الجامع:301، تفسير الصافي 3:380.
7- . في علل الشرائع: تقطر.
8- . علل الشرائع:437/2، تفسير الصافي 3:380.

كَفُورٍ و مبالغ في تضييع حقوق نعمه حيث يصرفها في معاصيه، و يتقّرب بها إلى الأصنام، و يأكل نعمه، و يقرّ بأنّه صانعه و يعبد غيره، فإنّه تعالى لا يريد نصرهم، و لا يرضى فعلهم، و يدفع عن أحبّائه شرّهم.

قيل: نزلت حين أمر المؤمنين بالكفّ عن كفّار مكّة قبل الهجرة، و كانوا يؤذون المؤمنين، فاستأذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قتلهم سرّا، فنهاهم اللّه عنه، و بشّرهم بإعلائهم على الكفّار و دفع بوائقهم عنهم (1).

ثمّ رخّص سبحانه لهم في قتال الكفّار بعد الهجرة بقوله: أُذِنَ و رخّص من قبل اللّه في قتال الكفّار لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ من المؤمنين بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.

روي أنّ المشركين كانوا يؤذون المؤمنين، فيأتونه صلّى اللّه عليه و آله بين مضروب و مشجوج و يتظلّمون إليه، فيقول لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إصبروا فإنّي لم أومر بقتال» ، حتى هاجروا فنزلت، و هي أوّل آية نزلت في القتال (2).

عن الباقر عليه السّلام: «لم يؤمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتال، و لا اذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية و قلّده سيفا» (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بدفع أذى المشركين عنهم، وعدهم بالنصر بقوله: وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ و تغليبهم على المشركين لَقَدِيرٌ فينصرهم لا محالة. و قيل نزلت: في قوم خرجوا مهاجرين، فاعترضهم مشركو مكّة، فأذن في مقاتلتهم (4).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 40

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ سبب الإذن في قتال المشركين ظلمهم على المؤمنين، بيّن أعظم ظلمهم بقوله: اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و منازلهم، أو أوطانهم بِغَيْرِ حَقٍّ و موجب لإخراجهم إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ و سوى أن يقرّوا بتوحيده.

اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)عن الباقر عليه السّلام: «نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي و حمزة و جعفر، و جرت في الحسين عليهم السلام أجمعين» (5).

ص: 347


1- . تفسير الرازي 23:38.
2- . تفسير الرازي 23:39، مجمع البيان 7:138.
3- . مجمع البيان 1:354، تفسير الصافي 3:380.
4- . تفسير الرازي 23:39.
5- . الكافي 8:337/534، تفسير الصافي 3:381.

و عنه عليه السّلام: «نزلت في المهاجرين، و جرت في آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذين اخرجوا من ديارهم و اخيفوا» (1).

ثمّ بيّن سبحانه حكمة أمره بالقتال بقوله: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ يعني بَعْضَهُمْ المشركين بِبَعْضٍ المؤمنين في كلّ عصر لَهُدِّمَتْ و خرّبت بتعدّي الطغاة صَوامِعُ الرّهبان و معابدهم وَ بِيَعٌ النصارى و كنائسهم في مدّة بقاء شرع عيسى وَ صَلَواتٌ و معابد كانت لليهود في زمان بقاء شريعة موسى، قيل: هو معرّب، و بالعبرية صلواث (2)، بالثاء المثلثة (3)وَ مَساجِدُ تكون للمسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ ذكرا، أو وقتا كَثِيراً فبأمر اللّه بالقتال بقي الدين و معابد المتديّنين، و في توصيف المساجد بكونها محالّ ذكر اللّه دلالة على فضلها، و يجوز أن يكون الوصف للأربع وَ باللّه لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ و يؤيّد مَنْ يَنْصُرُهُ بنصر أوليائه و دينه، و لقد أنجز سبحانه وعده حيث سلّط المؤمنين على صناديد العرب و أكاسرة العجم و قياصرة الروم، و أورثهم أرضهم و ديارهم إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ بذاته قادر على إنفاذ إرادته عَزِيزٌ و غالب على كلّ شيء، لا يمانع و لا يدافع، فلا يحتاج إلى نصرة أحد، و إنّما كلّف المؤمنين بالقتال ليصلوا بامتثال أمره إلى منافعهم الدنيوية و الاخروية.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 41

ثمّ بيّن غاية شناعة الظّلم على المؤمنين الذين اخرجوا من دريارهم بمدحهم بقوله: اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ و سلّطناهم على أهلها، و أعطيناهم نفوذ القول أَقامُوا اَلصَّلاةَ بشرائطها و آدابها لتعظيمي، و حثّوا الناس عليها وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ أداء لحقّي و توسعة على عبادي وَ أَمَرُوا الناس بِالْمَعْرُوفِ و فعل المستحسن عند الشّرع و العقل وَ نَهَوْا هم عَنِ فعل اَلْمُنْكَرِ و القبيح عند اللّه و عند العقلاء، فإن كانوا اليوم عندكم أذلاّء مستحقرين، فهم أولياء اللّه وَ لِلّهِ وحده عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ و لذا لا يبعد أن يصيروا أعزّاء معظّمين و يجعلهم في الأرض متمكّنين.

اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ (41)

نقل كلام للفخر

الرازي و ردّه

قال الفخر الرازي: و لكن ثبت أنّ اللّه مكّن الأئمّة الأربعة في الأرض، و أعطاهم السلطنة عليها، فوجب كونهم آتين بالامور الأربعة، فإذا كانوا آمرين بكلّ معروف

ص: 348


1- . مجمع البيان 7:138، تفسير الصافي 3:381.
2- . في روح البيان: صلوثا.
3- . تفسير روح البيان 6:39.

[و]ناهين عن كلّ منكر، وجب أن يكونوا على الحقّ، فمن هذا الوجه دلّت الآية على إمامة الأئمّة الأربعة، و لا يجوز حمل الآية على علي عليه السّلام وحده، لأنّها دالّة على الجمع (1).

في رد كلام الفخر

الرازي

أقول: فيه أن الآية خاصّة بالذين اخرجوا من مكّة ظلما، و ابتلوا بأذى المشركين كعليّ عليه السّلام و جعفر و سلمان و عمّار و أضرابهم؛ و لا يشمل الذين خرجوا منها طوعا لخدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأبي بكر و عمر، فإنّهم لم يبتلوا بأذى المشركين، و لم يخرجوا من مكّة، و لو شملتهم الآية لشملت معاوية أيضا، لأنّه من المهاجرين إلى المدينة، و من كتّاب الوحي فيها، و من المتمكّنين في الأرض، مع ظهور كونه آتيا بالمنكرات التي لا تعدّ و لا تحصى.

مع أنّ الآية ظاهرة في مدح المؤمنين الذين كانوا حين إخراجهم من مكّة ملتزمين بالمعروف تاركين للمنكر مطلقا؛ بحيث لو مكّنوا في الأرض أمروا غيرهم أيضا بالمعروف، و نهوا غيرهم عن المنكر في ذلك الوقت، و لم يكن الثلاثة كذلك في ذلك الوقت، لوضوح كون عمر و عثمان بالإجماع و أبي بكر في اعتقادنا من الفارّين من الزّحف في احد؛ فلا بدّ من القول بكون الوصف لخصوص المخرجين الذين كان لهم هذه المرتبة من الكمال، و إن لم يتمكّنوا في الأرض، لأنّ صدق الشرطيّة لا يستلزم صدق مقدّمها، فيكون الممدوح فيها عليا عليه السّلام و حمزة و جعفرا و سلمان و أبا ذرّ و أضرابهم، لا المرتكبين للمنكر و إن كانوا من المخرجين.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 42 الی 44

ثمّ لمّا أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بدفع اللّه أذى المشركين عن المؤمنين و نصرته لهم على الكفّار، و كان المشركون يكذّبونه في ذلك، سلّى سبحانه قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ في ما تخبرهم عن اللّه، فليس تكذيبهم لك أمرا بديعا حتى يحزنك و يغمّك فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا وَ عادٌ هودا وَ ثَمُودُ صالحا وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ إبراهيم وَ قَوْمُ لُوطٍ لوطا وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ شعيبا وَ كُذِّبَ مُوسى مع وفور معجزاته و وضوح آياته، فما ظنّك بغيره؟ فَأَمْلَيْتُ و أمهلت لِلْكافِرِينَ المكذّبين لهم إلى أجل معلوم اقتضت المصلحة إمهالهم فيه ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب عقوبة على تكذيبهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ي و إنكاري عليهم بإنزال العذاب، حيث بدّلنا نعمتهم

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)

ص: 349


1- . تفسير الرازي 23:41.

نقمة، و حياتهم هلاكا، و عمارتهم خرابا، و صدّقنا الرّسل ما وعدتهم من النّصر و التمكين في الأرض، فاصبر أنت أيضا على تكذيب قومك كما صبر اولوا العزم من الرّسل، فإنّي اعامل مع مكذّبيك كما عاملت مع مكذّبيهم، و إنّما المصلحة و الحكمة اقتضت إمهالهم كما اقتضت إمهال الامم السابقة.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 45

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تكذيب الامم رسلهم و أخذهم بعد الإمهال، بيّن كيفيّة أخذه بقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كم من بلدة أَهْلَكْناها بالعذاب من الغرق و الصيحة و الصاعقة و نظائرها وَ هِيَ ظالِمَةٌ بالكفر و المعاصي و تكذيب الرسل بمقتضى العدل لا بالتشفّي و الجور فَهِيَ خربة أفضع الخراب حيث إنّ جدرانها خاوِيَةٌ و ساقطة عَلى عُرُوشِها و سقوفها بعد سقوطها وَ كم من بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ لا أهل لها يستسقى منها وَ كم من قَصْرٍ مَشِيدٍ و منزل مرتفع البنيان، أو محكمه، أو مبنيّ بالجصّ، أخليناه من ساكنيه.

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)روي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح النبيّ مع أربعة آلاف ممّن آمن به و هي بحضرموت، و إنّما سميّت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات، و كانت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء، بناها قوم صالح، و أمّروا عليهم جليس بن جلاس، و أقاموا بها زمانا، ثمّ كفروا و عبدوا صنما، فأرسل اللّه عليهم حنظلة بن صفوان نبيّا، و كان حمّالا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم اللّه، و عطّل بئرهم، و خرب قصورهم (1).

و قيل: إنّ البئر الرسّ، و كانت بعدن لأمّة من بقايا ثمّود، و كان لهم ملك عادل حسن السيرة، يقال له العلس، و كانت البئر تسقي المدينة كلّها و باديتها و جميع ما فيها من الدوابّ و الأنعام، لأنّها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، و رجال كثيرون موكلون بها، و حياض كثيرة تملأ للناس، و اخر للدّوابّ، و اخر للغنم و البقر و الهوام، يسقون عليها بالليل و النهار يتناوبون (2)، و لم يكن ماء غيره.

فطال عمر الملك، فلمّا مات طلي بدهن لتبقى صورته و لا يتغيّر، و كذلك يفعلون إذا مات منهم ميّت يكرم عليهم، فشقّ عليهم موته و فساد أمرهم، و ضجّوا جميعا بالبكاء، فاغتنمها الشيطان منهم، فدخل في جثّة الملك بعد موته بأيّام كثيرة فكلّمهم و قال: إنّي لم أمت، بل غبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي، ففرحوا فرحا شديدا، و أمر خاصّته أن يضربوا له حجابا بينه و بينهم، و يكلّمهم من

ص: 350


1- . تفسير روح البيان 6:43.
2- . في تفسير روح البيان: يتدالون.

ورائه، كيلا يعرفوا الموت من (1)صورته و وجهه، فنصبوه (2)صنما من وراء الحجاب لا يأكل و لا يشرب، و أخبرهم أنّي لا أموت أبدا، و أنّي إله لكم.

كلّ ذلك يتكلّم به الشيطان على لسانه، فصدّقه كثير منهم، و ارتاب بعضهم، و كان المؤمن المكذّب منهم أقلّ من المصدّق، و كلمّا تكلّم ناصح منهم زجر و قهر، فاتّفقوا على عبادته، فبعث اللّه لهم نبيّا كان الوحي ينزل عليه في النوم، و كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له، و أنّ الشيطان فيه، و قد أضلّهم، و أنّ اللّه لا يتمثّل بالخلق، و أنّ الملك لا يجوز أن يكون شريكا للّه، و أوعدهم و نصحهم و حذّرهم سطوة ربّهم و نقمته، فآذوه و عادوه حتى قتلوه، و طرحوه في بئر، فعند ذلك حلّت عليهم النقمة؛ فباتوا شباعا رواء [من الماء]و أصبحوا و البئر قد غار ماؤها، و تعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم، و ضجّ النساء و الولدان، و ضجّت البهائم عطشا حتى عمّهم الموت و شملهم الهلاك، و خلفهم في أرضهم السباع، و في منازلهم الثعالب و الضّباع، و تبدلّت بهم جنّاتهم و أموالهم بالسّدر و الشّوك، شوك العضاه و القتاد (3). و أمّا القصر المشيد فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله (4).

و عن (المجمع) : و في تفسير أهل البيت في قوله: وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ «أي و كم من عالم لا يرجع إليه و لا ينتفع بعلمه» (5).

و في (الاكمال) عن الصادق و [في الكافي عن]الكاظم: «البئر المعطّلة: الإمام الصامت، و القصر المشيد: الإمام الناطق» (6).

و عن [صالح بن سهل أنّه قال]: أمير المؤمنين عليه السّلام [هو]القصر المشيد، و البئر المعطّلة فاطمة عليه السّلام و ولدها معطّلون من الملك (7).

أقول: لا شبهة أنّ الروايات في بيان تأويل الآية لا تفسيرها.

و عن القمي: هو مثل لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بئر معطّلة: هي التي لا يستقى منها، و هو الإمام الّذي قد غاب، فلا يقتبس منه العلم إلى وقت ظهوره، و القصر المشيد: هو المرتفع، و هو مثل لأمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة و قال الشاعر:

ص: 351


1- . في تفسير روح البيان: في.
2- . في النسخة: و نصبوا.
3- . العضاه: كلّ شجر له شوك صغر أو كبر، و الواحدة عضاهة، و القتاد: نبات صلب له شوك كالإبر.
4- . تفسير روح البيان 6:43.
5- . مجمع البيان 7:141، تفسير الصافي 3:382.
6- . كمال الدين:417/10، معاني الأخبار:111/1، الكافي 1:353/75، تفسير الصافي 3:382.
7- . معاني الأخبار:111/3، تفسير الصافي 3:383.

بئر معطّلة و قصر مشرف *** مثل لآل محمّد مستطرف

فالقصر مجدهم الّذي لا يرتقى *** و البئر علمهم الّذي لا ينزف (1)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 46

ثمّ حثّ اللّه سبحانه المشركين على المسافرة و رؤية مصارع المهلكين من الامم كعاد و ثمود للاعتبار بها بقوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا و يسافروا فِي اَلْأَرْضِ و لم يذهبوا إلى اليمن و الشام، ليروا مصارع المهلكين بالعذاب، كعاد و ثمود و قوم لوط.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ (46)عن الصادق عليه السّلام: «أي أ فلم ينظروا في القرآن؟» (2)فَتَكُونَ لَهُمْ بسبب مشاهدة العبر و بلاد المكذّبين للرّسل و آثار هلاكهم بالعذاب قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب تعقّله من آيات التوحيد، و شدّة غضب اللّه على الشرك أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب استماعه من المواعظ الإلهيّة التي تكون في القرآن من هلاك الامم الطاغية و كيفية تعذيبهم فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ التي في الروؤس و لا تختلّ الحواسّ الظاهرة بالغفلة و الجهل و الكفر وَ لكِنْ تَعْمَى بألاهواء الزائغة و الشّهوات الباطلة و الغفلة و الجهل عن رؤية آيات التوحيد و النبوّة و ما فيه العظة و الاعتبار اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي تكون فِي اَلصُّدُورِ.

و في الحديث: «ما من عبد إلاّ و له أربع أعين؛ عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه، و عينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه و أكثر النّاس عميان بصر القلب، لا يبصرون [به]أمر دينهم» (3).

و عن السجاد عليه السّلام «انّ للعبد أربع أعين؛ عينان يبصر بهما أمر دينه و دنياه، و عينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح [له]العينين اللّتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب و أمر آخرته، و إذا أراد اللّه غير ذلك ترك القلب بما فيه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين؛ عينان في الرأس، و عينان في القلب، ألا و إنّ الخلائق كلّهم كذلك، ألا إنّ اللّه عزّ و جلّ فتح أبصاركم و أعمى أبصارهم» (5).

ص: 352


1- . تفسير القمي 2:85، تفسير الصافي 3:383.
2- . الخصال:396/102، تفسير الصافي 3:383.
3- . تفسير روح البيان 6:45.
4- . الخصال:240/90، التوحيد:367/4، تفسير الصافي 3:383.
5- . الكافي 8:215/260، تفسير الصافي 3:383.

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما العمى عمى القلب» ثمّ تلا الآية (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 47

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين بما نزّل على الامم المكذّبة للرّسل من العذاب، حكى عنهم الاستهزاء بوعيدهم به بقوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا محمّد بِالْعَذابِ الّذي تهدّدهم به استهزاء بتهديدك إيّاهم به مع أنّ اللّه وعدهم بعذاب الآخرة وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ وَعْدَهُ بذلك العذاب بأن يأتيهم به في الدنيا، بل يأتيه كما وعد بلا خلف و لا تغيير، و لم يعدهم بعذاب الدنيا، بل ذكر ما نزّل على الامم من باب العظة و الاعتبار وَ إِنَّ يَوْماً من أيّام الآخرة عِنْدَ رَبِّكَ يكون في كثرة الآلام و الشّدائد عندهم كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ و تحسبون من سنيّ الدنيا لو بقيتم و عذّبتم فيها.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ (47)و قيل: إنّ المراد بيان طول أيّام الآخرة (2)، فالمعنى أنّ العذاب الذي يكون طول أيّامه إلى هذا الحدّ لا ينبغي للعاقل أن يستعجله.

و قيل: إنّ المعنى أنّ اليوم الواحد و ألف سنة بالنسبة إليه تعالى سواء؛ لأنّه لا يخاف الفوت، فإذا لم تستبعدوا إمهال يوم واحد فلا تستبعدوا إمهال ألف سنة (3).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 48 الی 51

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ عادته الإمهال ثمّ الأخذ، أكّده بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كم من بلدة أَمْلَيْتُ و أمهلت لَها و أخّرت إهلاكها وَ هِيَ ظالِمَةٌ مستمرّة على الكفر و الطّغيان مستوجبة لتعجيل عقوبتها، كما أمهلت هؤلاء المستهزئين مع غاية ظلمهم و شدّة استحقاقهم للعذاب ثُمَّ أَخَذْتُها بالعقوبة الشديدة وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ و إلى حكمي المرجع في الآخرة، فأفعل بهم ما أفعل ممّا يليق بأعمالهم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (51)

ثمّ أمر اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالثّبات على الدّعوة و عدم المبالاة بتكذيب الكفّار بقوله: قُلْ يا محمّد:

ص: 353


1- . من لا يحضره الفقيه 1:248/1110، تفسير الصافي 3:384. (2 و 3) . تفسير الرازي 23:46.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ من قبل اللّه نَذِيرٌ و مخوّف بما يوحى إليّ من هلاك الامم المكذّبة للرسل مُبِينٌ و موضح لكم إنذاري، و ليس لي إتيانكم بالعذاب حتى تستعجلوني به

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ و ستر لما مضى من ذنوبه وَ رِزْقٌ من كلّ نوع و صنف من النّعم بلا كدّ و منّة كَرِيمٌ و جامع للفضائل

وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا و اجتهدوا فِي الطّعن في آياتِنا و معجزات رسولنا بنسبتها إلى السّحر أو الشّعر أو التّقوّل حال كونهم مُعاجِزِينَ و ظانين فينا العجز عن الأخذ و الانتقام منهم، أو في الأنبياء العجز عن إثبات نبوّتهم، أو معاندين لنا أو لهم، أو مسابقين لهم ليؤخّروهم و يعجزوهم أُولئِكَ السّاعون المعاجزون أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و ملازمو النّار.

و في بعض الروايات: أنّ الجحيم اسم لدركة من دركات جهنّم (1).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 52

ثمّ لمّا أثّر تكذيب المشركين و استهزاؤهم بما وعدهم الرّسول من الثّواب على الإيمان و أوعدهم من العقاب في قلبه الشريف غاية التأثير، بالغ سبحانه في تسليته بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ في امّة أو قرية مِنْ رَسُولٍ يوحى إليه بتوسّط جبرئيل وَ لا نَبِيٍّ يوحى إليه في منامه على قول بعض المفسرين (2)و مدلول بعض الروايات (3)إِلاّ إِذا تَمَنّى قبول دعوته و رواج دينه، أو إذا بلّغ عن اللّه ما أوحي إليه أَلْقَى اَلشَّيْطانُ الطّعن و القدح فِي أُمْنِيَّتِهِ و ما أخبر به عن اللّه، أو أحدث الموانع عن نفوذ دعوته فَيَنْسَخُ اَللّهُ و يبطل ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ في ألسنة معارضيه من الطّعن و الاعتراضات، و يرفع ما يبدعه من الموانع ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ و يثبت آياتِهِ و يسدّدها في القلوب بإظهار دلائل صدقها، و دفع الشّبهات عنها وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمقالات الأنبياء و الرّسل، و ما يورده الشّيطان عليها من الطّعن و الاستهزاء و التّكذيب على لسان العتاة و المردة من الإنس حَكِيمٌ في إنزال الآيات و تمكين الشّيطان على إلقاء ما يشاء في ألسنة أتباعه.

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللّهُ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 53 الی 54

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

ص: 354


1- . تفسير روح البيان 6:48.
2- . تفسير البيضاوي 2:93، تفسير أبي السعود 6:113.
3- . الكافي 1:134/1، و:135/3.

ثمّ بيّن اللّه بعض حكمه و مصالحه بقوله: لِيَجْعَلَ اللّه ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ في قلوب الكفّار و ألسنتهم فِتْنَةً و ابتلاء عظيما لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مهلك لا مرض أشدّ منه كالشّك و النّفاق و الكبر و الحسد و حبّ الدّنيا وَ للكفرة اَلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ الشّديدة الصّلابة أفئدتهم وَ إِنَّ الفرق اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الشّرك و النّفاق لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عن الحقّ و السّعادة و عداوة شديدة للرّسول و كتابه و دينه

وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ آمنوا و أُوتُوا اَلْعِلْمَ بجهات إعجاز القرآن و كمال دين الإسلام أَنَّهُ اَلْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّكَ علما لا يزول بتشكيك المشكّكين فَيُؤْمِنُوا بِهِ إيمانا كاملا فَتُخْبِتَ و تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ و تتواضع لعظمته أفئدتهم و جوارحهم وَ إِنَّ اَللّهَ بتوفيقه و تأييده لَهادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا في الامور الدّينية عند تراكم ظلمات الشّبهات و اختلاف شعب الضّلال إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و المنهج القويم الموصل إلى الحقّ.

و اعلم أنّ تفسير هذه الآيات من المشكلات التي زلّت فيها أقدام الأعلام من العامّة، حيث فسّروها بوجوه لا يمكن الالتزام بها للّذين شمّوا رائحة الإيمان، و لذا أعرضنا عن نقلها، بل لو كان الأمر إلينا لمحوناها من الدّفاتر و الكتب.

و أمّا أصحابنا الإماميّة فقد روى بعضهم عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية أنّه قال: «يعني ما من نبيّ تمنّى مفارقة ما يعانيه من نفاق قومه و عقوقهم، و الانتقال عنهم إلى دار الإقامة، إلاّ ألقى الشّيطان المعرض بعداوته عند فقده في الكتاب الذي أنزل عليه ذمّه و القدح فيه و الطّعن عليه، فينسخ اللّه ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله، و لا تصغي إليه غير قلوب المنافقين و الجاهلين. و يحكم اللّه آياته بأن يحمي أوليائه من الضّلال و العدوان و مشايعة أهل الكفر و الطّغيان الّذين لم يرض اللّه أن يجعلهم كالأنعام حتى قال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (1).

و روى القمي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصابه خصاصة (2)، فجاء إلى رجل من الأنصار فقال له: هل عندك من طعام؟ قال: نعم يا رسول اللّه، و ذبح له عناقا (3)و شواه، فلمّا أدناه منه تمنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يكون معه عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فجاء أبو بكر و عمر، ثمّ جاء علي عليه السّلام بعدهما، فأنزل اللّه في ذلك وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى

ص: 355


1- . الاحتجاج:257، تفسير الصافي 3:386، و الآية من سورة الفرقان:25/44.
2- . الخصاصة: الحاجة.
3- . العناق: الأنثى من أولاد المعز و الغنم من حين الولادة إلى تمام الحول.

اَلشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يعني أبا بكر و عمر فَيَنْسَخُ اَللّهُ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ يعني لمّا جاء عليّ عليه السّلام بعدهما ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ آياتِهِ يعني سينصر اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ فِتْنَةً يعني فلانا و فلانا لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: شكّ» (1).

أقول: أمّا الرواية الاولى ففهم المراد منها في غاية الإشكال، و أمّا الثانية فلا شبهة أنّها بيان التأويل لا التّنزيل.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 55 الی 57

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حال الكفار ثمّ حال المؤمنين، عاد إلى بيان إصرار الكفّار على الكفر، و استمرار شكّهم في صدق القرآن أو الرّسول بقوله: وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْهُ أو في مرية من صدق الرّسول حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ و القيامة بَغْتَةً و فجأة و على غفلة منهم أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ لا يوم بعده لأنّه لا ليل له، أو لا يوم بعده مثله لعظم أمره، أو المراد أنّه لا يرون لأنفسهم فيه خيرا، و هو يوم نزول العذاب عليهم.

وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (56) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)و قيل: إنّه يوم القيامة و السّاعة من مقدّماته، فلا تكرار في الآية (2).

اَلْمُلْكُ و السّلطنة التامّة الظاهريّة و الواقعيّة يَوْمَئِذٍ لِلّهِ وحده، و الحكومة بين العباد مختصّة به، لا حاكم فيهم سواه، و هو يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بالعدل، ثمّ فسّر حكمه بينهم بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا بالرّسول و القرآن، و لم يجادلوا في شيء من الحقّ بالباطل وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و أطاعوا أحكام اللّه المنزلة في كتابه، أولئك في الآخرة متمكّنون فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ و بساتين كثيرة النّعم

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله و كتابه وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة في القرآن، و أصرّوا و استمرّوا عليه فَأُولئِكَ لَهُمْ في ذلك اليوم عَذابٌ مُهِينٌ و مذلّ لهم، و مذهب بعزّهم و كبرهم.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 58 الی 59

وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

ص: 356


1- . تفسير القمي 2:85، تفسير الصافي 3:386.
2- . تفسير الرازي 23:56.

ثمّ فخّم شأن المهاجرين من المؤمنين بتخصيصهم بالذّكر و الوعد بالثّواب بقوله: وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا و خرجوا من أوطانهم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته، و ترويجا لدينه، و نصرة لرسوله ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد، أو في طريق المهاجرة أَوْ ماتُوا حتف الأنف فيه، باللّه لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّهُ رِزْقاً حَسَناً و ينعم عليهم بعيشة مرضيّة و نعمة عظيمة دائمة وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ حيث إنّه تعالى يرزق بلا عوض و لا منّة و لا حساب.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان رزقهم، بيّن مسكنهم بقوله: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً و ليسكننّهم مسكنا يَرْضَوْنَهُ و يفرحون به، و هو الجنّة التي فيها مالا عين رأت و لا اذن سمعت، و لا خطر في قلب بشر، فيرضونه و لا يبغون عنها حولا، كما عن ابن عباس (1).

و قيل: إنّه خيمة من درّة بيضاء لا فصم فيها و لا وصم، لها سبعون ألف مصراع (2).

وَ إِنَّ اَللّهَ لَعَلِيمٌ بما يستحقّونه أو يرضونه فيعطيهم و يزيدهم من فضله حَلِيمٌ لا يعجّل بعقوبة أعدائه و عصاة خلقه ليتوبوا.

روي أنّ طوائف من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالوا: يا رسول اللّه، هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير، و نحن نجاهد معك كما جاهدوا، فمالنا إن متنا معك؟ فأنزل اللّه هاتين الآيتين (3).

و عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال «المقتول في سبيل اللّه، و المتوفّى في سبيل اللّه بغير قتل [هما]في الخير و الأجر شريكان» (4).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ أكّد سبحانه الوعد بقوله: ذلِكَ قيل: يعني الأمر ما بيّنا لك من إنجاز الوعد للمهاجرين الّذين قتلوا أو ماتوا (5).

ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْباطِلُ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (62)ثمّ وعد سبحانه المهاجر الذي قاتل اضطرارا بالنّصر في الدّنيا و الأجر في الآخرة بقوله: وَ مَنْ

ص: 357


1- . تفسير الرازي 23:58، تفسير أبي السعود 6:116.
2- . تفسير الرازي 23:58.
3- . تفسير الرازي 23:58، تفسير روح البيان 6:52.
4- . تفسير الرازي 23:58.
5- . تفسير الرازي 23:59.

عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ و قاتل من يقاتله و جازي الظّالم عليه بمثل ظلمه و لم يزد ثُمَّ بُغِيَ و ظلم عَلَيْهِ بأن اضطرّ إلى الهجرة باللّه لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّهُ و يعينه على من (1)بغى عليه البتّة إِنَّ اَللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ للمنتصر.

قيل: نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحّرم، فقال بعضهم لبعض: إنّ أصحاب محمّد يكرهون القتال في الشّهر الحرام، فاحملوا عليهم. فناشدهم المسلمون أن يكفّوا عن قتالهم فأبوا و قاتلوهم، فذلك بغيهم عليهم، و ثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشّهر الحرام ما وقع، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و عفا عنهم و غفر لهم (2).

و عن القمّي: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخرجته قريش من مكّة، و هرب منهم إلى الغار، و طلبوه ليقتلوه، فعاقبهم اللّه يوم بدر. و قتل عتبة و شيبة و الوليد و أبو جهل و حنظلة بن أبي سفيان و غيرهم. فلمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طلب بدمائهم، فقتل الحسين عليه السّلام و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بغيا و عدوانا، و هو قول يزيد لعنه اللّه حين تمثّل بهذا الشعر: ليت أشياخي ببدر شهدوا. . . إلى آخره.

فقال اللّه تعالى: ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ يعني حين أرادوا أن يقتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّهُ يعني بالقائم من ولده (3).

قيل: إنّ توصيف ذاته المقدّسة بالعفوّ و الغفور مع أنّه لا ذنب للمعاقب؛ لأنّ العفو عن الباغي في غاية الحسن، فنزّل سبحانه تركه منزلة الإساءة، فنبّه على عفوه عنها، أو للتّنبيه على أنّ الإتّصاف بصفات اللّه غاية آمال المؤمنين، و من صفاته تعالى أنّه عفوّ غفور، فيحسن منهم العفو و الغفران.

ذلِكَ النصر بِأَنَّ اَللّهَ قادر على كلّ شيء، بدليل أنّه تعالى يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ و يغلب أحدهما على الآخر بالزّيادة و النّقص، فكيف بتغليب المؤمنين على المشركين وَ بسبب أَنَّ اَللّهَ مع كمال قدرته سَمِيعٌ لمقالات الظّالمين و المظلومين بَصِيرٌ بأعمالهم،

فيجازيهم على حسب أعمالهم و استحقاقهم ذلِكَ المذكور من القدرة الكاملة و العلم الشّامل بِأَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ الثابت و الواجب الوجود الّذي لا زوال له و لا نقص و لا عجز و لا جهل، و أنّه متفرّد بالالوهيّة و استحقاق العبادة وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِهِ من الكواكب و الأصنام هُوَ اَلْباطِلُ و الفاني العاطل، وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ الفائق بقدرته الغالب على

ص: 358


1- . في النسخة: ما.
2- . تفسير الرازي 23:59.
3- . تفسير القمي 2:86، تفسير الصافي 3:388.

كلّ بذاته اَلْكَبِيرُ و العظيم في سلطانه، المتعالي أن يكون له شريك في ملكه.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 63 الی 66

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على كمال قدرته بتصرّفه في أجزاء الزمان و تغييره اللّيل و النّهار، استدلّ عليه بتصرّفه في السّماء و الأرض بقوله: أَ لَمْ تَرَ أيّها الإنسان بعين قلبك و نور عقلك أَنَّ اَللّهَ بقدرته أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بالأمطار فَتُصْبِحُ و تصير اَلْأَرْضُ بنزول المطر عليها مُخْضَرَّةً بالنّبات و الزّرع، و إنّما قال فَتُصْبِحُ بدل أصبحت للدّلالة على التّجدّد و الحدوث و بقاء أثّر المطر زمانا بعد زمان إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ بعباده، و لذا فعل ذلك كي يعظم انتفاعهم خَبِيرٌ و عالم بمقادير مصالحهم.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (64) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ اَلسَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)و عن ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده، خبير بما في قلوبهم من القنوط (1).

و قيل: لطيف باستخراج النّبت، خبير بكيفيّة خلقه (2).

و قيل: لطيف في أفعاله، خبير بأعمال خلقه (3).

لَهُ تعالى وحده ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ خلقا و ملكا و تصرّفا وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ بذاته عن كلّ شيء اَلْحَمِيدُ المستوجب للثّناء عليه في صفاته و أفعاله

أَ لَمْ تَرَ أيّها الإنسان ببصيرة قلبك، و لم تعلم بهداية عقلك أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ من الموجودات، و ذلّلها تحت إرادتكم تتصرّفون فيها كيف شئتم وَ سخّر لكم اَلْفُلْكَ بأن تركبوها و تحملوا الأثقال عليها حال كونها تَجْرِي و تسير فِي اَلْبَحْرِ إلى البلاد البعيدة بِأَمْرِهِ تعالى و إرادته وَ يُمْسِكُ و يأخذ اَلسَّماءَ فوقكم، محفوظة من أَنْ تَقَعَ أو كراهة أن تقع، أو كيلا تقع عَلَى اَلْأَرْضِ بسبب من الأسباب إِلاّ بِإِذْنِهِ تعالى و مشيئته أَنَّ اَللّهَ أنعم بهذه النّعم العظام لأنّه بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ و شديد المحبّة رَحِيمٌ و عطوف بهم.

عن الصادق عليه السّلام [عن أبيه، عن آبائه]عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه بعد ذكر الأئمّة الاثني عشر بأسمائهم قال:

ص: 359


1- . تفسير الرازي 23:62.
2- . تفسير الرازي 23:62.
3- . تفسير الرازي 23:62.

«و من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني، بهم يمسك اللّه السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، و بهم يحفظ [اللّه]الأرض أن تميد بأهلها» (1).

وَ هُوَ الإله القادر اَلَّذِي أَحْياكُمْ بعد ما كنتم ترابا و نطفا بلا حياة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد انقضاء آجالكم المقدّرة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في القبور للبعث و النّشور.

قيل: إنّما ذكر هذان الإحياءان (2)للدّلالة على أنّ سائر النّعم لذلك (3).

ثمّ نبّه سبحانه على غاية جهل النّاس بقول: إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لنعم منعمه حيث إنّه مستغرق في نعم اللّه و يعبد غيره.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 67 الی 68

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر النّعم الدّنيويّة ذكر نعمته الدّينيّة بقوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ و أهل عصر جَعَلْنا و شرعنا مَنْسَكاً و شرعا و مذهبا خاصّا بهم هُمْ بالخصوص ناسِكُوهُ و آخذوه، لا يجوز لهم التّعدّي إلى منسك غيرهم، و العمل بشريعة امّة اخرى، فإذا كانت أحكامه تعالى مختلفة باختلاف الأمم فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ و لا يجادلنّك في أحكام الدّين، بل عليهم اتّباعك و العمل بشريعتك وَ اُدْعُ جميع النّاس إِلى توحيد رَبِّكَ و دينه و عبادته إِنَّكَ و اللّه لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ و طريق موصل إلى كلّ خير، و هو دين الإسلام

وَ إِنْ جادَلُوكَ في الحقّ الذي أنت عليه، و عدلوا عن طريق الإنصاف إلى طريق اللّجاج و المراء، فلا تجادلهم أنت بعد وضوح الحقّ و دلالة البراهين القاطعة على صحّة دينك فَقُلِ إعراضا عنهم و رفقا بهم اَللّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و ترتكبون من المجادلة الباطلة و غيرها من السّيّئات، فيجازيكم عليها أسوء الجزاء.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ وَ اُدْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68)

سوره 22 (الحج): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ أخبر سبحانه نتيجة علمه بأعمالهم بقوله: اَللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدّين بإثابة المحقّ و تعذيب المبطل.

اَللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ (70)

ص: 360


1- . كمال الدين:259/3، تفسير الصافي 3:389.
2- . في النسخة: هذه الإحياء.
3- . تفسير الرازي 23:63.

ثمّ استدلّ سبحانه على علمه بأعمالهم بقوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ أيّها الإنسان بشهادة عقلك أَنَّ اَللّهَ الخالق لجميع الأشياء يَعْلَمُ لا محالة ما فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لعدم إمكان خفاء مخلوقاته عليه إِنَّ ذلِكَ المذكور ممّا في السّماء و الأرض مثبوت فِي كِتابٍ مبين و لوح محفوظ من قبل أن يبرأه و يخلقه إِنَّ ذلِكَ المذكور من إحاطة علمه بالموجودات و ثبتها في اللّوح عَلَى اَللّهِ الخالق لها سهل يَسِيرٌ بحيث لا يحتاج إلى إرادته.

قيل: فائدة ثبت الموجودات في الكتاب نظر الملائكة فيه، فإذا رأوه مطابقا للموجودات يزيد معرفتهم بسعة علمه تعالى (1).

و قيل: إنّ المراد بالكتاب حفظه تعالى لجميع الأشياء (2)، و معنى قوله: إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إنّه محفوظ عنده.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 71 الی 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نعمه و كمال قدرته و علمه، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً و حجّة من السّمع و العقل وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بأحد الطّرق الموجبة للعلم بِهِ و بجواز عبادته عِلْمٌ فإذا لم يستند مذهب الشّرك إلى دليل، و لم يكن التزامهم به من علم، فيكون تقليدا، أو جهلا و اتّباعا للهوى، و هذا من أقوى الدّليل على بطلانه، و من المعلوم أنّ الالتزام به عين الظّلم على النّفس وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الشّرك مِنْ نَصِيرٍ و مدافع ينصرهم و يدفع العذاب عنهم.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ اَلنّارُ وَعَدَهَا اَللّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (72)و قيل: يعني مالهم ناصر بالحجّة، لأنّ الحجّة لا تكون إلاّ للحقّ (1).

ثمّ ذمّهم سبحانه على شدّة عنادهم للحقّ بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنيّة حال كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدّلالات على أنّها كلام اللّه تَعْرِفُ و تتبيّن فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ و الجحود بكونها من اللّه. أو تعرف في وجوههم التجبّر و التّرفّع، كما عن ابن عباس (2). أو

ص: 361


1- . تفسير الرازي 23:66.
2- . تفسير الرازي 23:67.

الكراهيّة للقرآن بحيث يَكادُونَ يَسْطُونَ و يبطشون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا و يثبون عليهم من شدّة غيظهم و انضجارهم من تلاوتها قُلْ يا محمّد ردّا عليهم و إقناطا لهم ممّا يقصدونه من الإضرار بالتّالين: أَ فَأُنَبِّئُكُمْ و اخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الذي تهمّون به من البطش و الوثوب على تالي القرآن، أو الكراهيّة و الضّجر الذي يصيبكم باستماع ما تلي عليكم، و هو اَلنّارُ التي تصلونها بسوء فعالكم، و هي التي وَعَدَهَا اللّه اَلَّذِينَ كَفَرُوا إذا ماتوا على كفرهم وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ النّار و ساء المرجع هي.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 73

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم الحجّة على جواز عبادة الأصنام، أقام الحجّة على عدم جوازها بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ بديع و ذكر لكم برهان قاطع على عدم جواز عبادة الأصنام فَاسْتَمِعُوا لَهُ و تدبّروا فيه حقّ التدبّر إِنَّ الأصنام اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً مع غاية صغره و ضعفه، بل لن يقدروا على إيجاد جزء منه وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ و تظاهروا عليه، فكيف بحال انفراد كلّ فرد وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبابُ و يجتذب منهم شَيْئاً قليلا أو جليلا لا يَسْتَنْقِذُوهُ و لا يستردّوه مِنْهُ مع كمال ضعفه ضَعُفَ عابد الصّنم اَلطّالِبُ منه النّفع و الشّفاعة وَ الصّنم اَلْمَطْلُوبُ منه العون، أو ضعف الذّباب الطالب لما يسلبه من الصّنم، و الصّنم المطلوب منه.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (73)قيل: إنّ المشركين كانوا يطلون أصنامهم بالعسل و الخلوق، و يسدّون أبواب بيوت الأصنام عليها، ثمّ يدخل الذّباب عليها و يأكل جميع الطّيب و العسل الذي عليها، ثمّ يجيئون بعد أيّام و يفتحون الأبواب، فإذا لم يجدوا أثر العسل و الطّيب عليها فرحوا (1).

و قيل: إنّ الصّنم كالطّالب لخلق الذّباب، و المطلوب الذّباب (2).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 74 الی 76

ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اَللّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّاسِ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (76)

ص: 362


1- . تفسير روح البيان 6:61.
2- . تفسير الرازي 23:68.

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين على غاية جهلهم بقوله: ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما عرفوه معرفة يعدّها العقل معرفة، و ما عظّموه تعظيما يليق به، حيث جعلوا الأصنام التي تكون في غاية الخساسة و الضّعف شركاء للّه القادر العظيم في الالوهيّة و العبادة إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ على خلق الممكنات و إعدام الموجودات عَزِيزٌ و غالب على جميع الأشياء و لا يغلب عليه شيء.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب عبدة الأصنام، أبطل القول بالوهيّة الملائكة بقوله: اَللّهُ يَصْطَفِي و يختار بعضا مِنَ اَلْمَلائِكَةِ كجبرئيل و ميكائيل رُسُلاً بينه و بين أنبيائه وَ بعضا مِنَ اَلنّاسِ أيضا رسلا بينه و بين عباده، فالملائكة كلّهم كالأنبياء عبيده و خدمه، مطيعون لأمره، محكومون بحكمه، مقهورون تحت قدرته و إرادته إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم بَصِيرٌ بأحوالهم و أعمالهم

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ و ما مضى من أعمالهم وَ ما خَلْفَهُمْ و يأتي من أعمالهم، أو العكس، أو من أمر آخرتهم و أمر دنياهم.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إحاطة علمه بهم، بيّن كمال قدرته عليهم بقوله: وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ كلّها؛ لأنّه مالكها و مدبّرها، فلا يملك أحدهم لنفسه نفعا و لا ضرّا.

سوره 22 (الحج): آیه شماره 77

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده، و إبطال عبادة الأصنام و الملائكة، دعا النّاس إلى عبادة ذاته المقدّسة و الخضوع له بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته اِرْكَعُوا للّه وَ اُسْجُدُوا له و اخضعوا و تواضعوا لعظمته.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)قيل: إنّ المراد بالرّكوع و السّجود هنا هو الصلاة، لكونهما أعظم أجزائها (1).

و عن ابن عباس: إنّ النّاس في أوّل إسلامهم كانوا يركعون و لا يسجدون حتى نزلت هذه الآية (2).

و قيل: كانوا يسجدون بغير ركوع حتى نزلت (1).

و قيل: كانت الصّلاة قياما و قعودا حتى نزلت (2).

وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ في جميع الامور، و أطيعوا أوامره و نواهيه، و أخلصوا له في العبادة، و لا تشركوا

ص: 363


1- . تفسير روح البيان 6:63.
2- . تفسير روح البيان 6:63.

به شيئا وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ و تحرّوا ما هو صلاحكم، أو الأصلح لكم في كلّ ما تأتون كالنوافل و الفرائض، و صلة الأرحام، و البرّ و الإنفاق على الإخوان و الفقراء، و حسن البشر و القول و مكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و بكلّ خير من خيرات الدّنيا تفوزون.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم، و قسّمه عليها، و فرّقه فيها. . . و فرض على الوجه السّجود له باللّيل و النّهار في مواقيت الصّلاة فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا هذه فريضة جامعة على الوجه و اليدين و الرّجلين» (1).

و عنه عليه السّلام: «جعل الخير كلّه في بيت، و جعل مفتاحه الزّهد في الدّنيا» (2).

سوره 22 (الحج): آیه شماره 78

ثمّ أمر اللّه تعالى بأعظم أنواع الخيرات بقوله: وَ جاهِدُوا فِي ذات اَللّهِ أو قاتلوا الكفّار و المشركين في سبيله، و من أجله، و طلبا لرضاه حَقَّ جِهادِهِ و استفرغوا الوسع و أخلصوا (3)النيّة فيه.

وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ (78)و عن ابن عباس: هو أن لا تخافوا في اللّه لومة لائم (4).

و قيل: إنّ المراد إعملوا [للّه]حقّ عمله (5).

و قيل: حقّ جهاده هو مجاهدة النّفس و الهوى (6).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر، فعليكم بالجهاد الأكبر» (7). قيل: يا رسول اللّه، و ما الجهاد الأكبر؟ قال: «هو أن تجاهد نفسك التي بين جنبيك» (8).

ثمّ حثّ سبحانه الناس فيه بقوله: هُوَ تعالى اللّطيف الّذي اِجْتَباكُمْ بلطفه و اصطفاكم برحمته لدينه، و اختاركم لنصرة رسوله و ترويج شريعته، و خصّكم بالتّوفيق لخدمته و الاشتغال بطاعته، و هذا من أعظم التّشريفات، و أفضل الكرامات.

عن الباقر عليه السّلام: «إيّانا عنى، و نحن المجتبون» (9).

ص: 364


1- . الكافي 2:29-31/1، تفسير الصافي 3:391.
2- . الكافي 2:104/2، تفسير الصافي 3:391.
3- . في النسخة: و تخلصوا.
4- . تفسير الرازي 23:72.
5- . تفسير الرازي 23:72.
6- . تفسير الرازي 23:72.
7- . تفسير الرازي 23:72، تفسير البيضاوي 2:97، تفسير أبي السعود 6:122، تفسير روح البيان 6:64.
8- . معاني الأخبار:160/1 تفسير الصافي 3:391.
9- . الكافي 1:147/4، تفسير الصافي 3:389.

و من ألطافه أنّه تعالى سهّل عليكم تكاليفه وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ و تكاليفه شيئا مِنْ حَرَجٍ و مشقّة و ضيق.

و عن ابن عباس، أنّه قال لبعض هذيل: ما تعدّون الحرج فيكم؟ قال: الضّيق (1).

و عن عائشة: سألت رسول اللّه عن ذلك فقال: «الضيق» (2).

نقل أنّ أبا هريرة قال: كيف قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مع أنّه تعالى منعنا عن الزّنا و السّرقة؟ فقال ابن عباس: بلى، و لكنّ الإصر الّذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا اجتمع أمران، فأحبّهما إلى اللّه ايسرهما» (4).

و من ألطافه الخاصّة عليكم أنّه تعالى جعل ملّتكم-أيّها العرب- مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أو المراد وسّع عليكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم، أو أعني بالدّين ملّة أبيكم إبراهيم، فإنّ العرب كانوا محبّين لإبراهيم لكونهم أولاده، فكان التّنبيه عليه حثّا لهم على قبوله و انقيادهم له.

و قيل: إن الخطاب لعموم المؤمنين، لأنّ اللّه جعل حرمة إبراهيم كحرمة الوالد على ولده (5).

و من ألطافه أنّه تعالى هُوَ الذي سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في لسان أنبيائه و كتبه السّماويّة وَ فِي هذا الزمان، أو في هذا القرآن.

عن ابن عبّاس: أنّ اللّه سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي في كلّ الكتب وَ فِي هذا أي في القرآن (6).

و إنّما شرّفكم اللّه بهذا التّشريف و سمّاكم بهذا الاسم الأكرم لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ و قد مرّ بيان كيفية تلك الشهادة في سورة البقرة (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «قال عزّ و جلّ: سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت وَ فِي هذا القرآن لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ -قال عليه السّلام-: فرسول اللّه شهيد علينا بما بلّغنا عن اللّه تبارك و تعالى، و نحن الشّهداء على النّاس يوم القيامة (2)، فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه، و من كذّب كذّبناه» (3).

و قيل: إنّ ضمير هُوَ سَمّاكُمُ راجع إلى إبراهيم، فإنّه عليه السّلام قال: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ

ص: 365


1- . عند تفسير الآية (143) .
2- . (يوم القيامة) ليس في الكافي.
3- . الكافي 1:147/4، تفسير الصافي 3:392.

ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ (1) .

روي أنّ إبراهيم عليه السّلام اخبر بأنّ اللّه سيبعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بمثل ملّته، و أنّه سيسمّي أمّته بالمسلمين (2).

و عن كعب: أنّ اللّه أعطى هذه الامّة ثلاثا لم يعطهنّ إلاّ الأنبياء: جعلهم شهداء على النّاس، و ما جعل عليهم في الدّين من حرج، و قال: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (1).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ممّا أعطى اللّه امّتي، و فضّلهم به على سائر الامم، أنّه أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلاّ نبيّ: و ذلك أنّ اللّه تبارك و تعالى كان إذا بعث نبيّا قال له: اجتهد في دينك و لا حرج عليك، و أنّ اللّه أعطى امّتي ذلك حيث يقول: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول: من ضيق. و كان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه، و إن اللّه جعل امتي شهداء على الخلق حيث يقول: لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ» الحديث (2).

فإذا علمتم ألطاف ربّكم بكم فَأَقِيمُوا له اَلصَّلاةَ التي هي أفضل عباداته وَ آتُوا اَلزَّكاةَ التي هي قرينتها و أكمل القربات بعدها وَ اِعْتَصِمُوا وثقوا بِاللّهِ في جميع امور دينكم و دنياكم، و لا تستعينوا بغيره و لا تسألوا أحدا سواه.

و قيل: إنّ المراد من الاعتصام به التّمسّك بكتابه و أحكامه (3).

عن ابن عباس: سلوا اللّه العصمة عن كلّ المحرّمات (6).

و قيل: يعني اجعلوا اللّه عصمة و حافظا لكم ممّا تحذرون (7).

هُوَ تعالى مَوْلاكُمْ و النّاظر في خيركم و صلاحكم، و المتصرّف فيكم، و من بيده جميع اموركم فَنِعْمَ اَلْمَوْلى لكم ربّكم وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ و العون إلهكم، إذ لا تواني منه في القيام بشؤون الولاية و النّصرة، و لا ينقطعان منه إلى الأبد.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الحجّ في كلّ ثلاثة أيّام، لم تخرج سنته حتى يخرج إلى بيت اللّه الحرام، و إن مات في سفره دخل الجنّة» . قيل: و إن كان مخالفا؟ قال: «يخفّف عنه [بعض ما هو فيه]» (4).

وفقنا اللّه تعالى لتلاوتها.

ص: 366


1- . تفسير الرازي 23:73، و الآية من سورة غافر:40/60.
2- . قرب الإسناد:84/277، تفسير الصافي 3:392.
3- . تفسير روح البيان 6:65. (6 و 7) . تفسير الرازي 23:74.
4- . ثواب الأعمال:108، تفسير الصافي 3:392.

في تفسير سورة المؤمنون

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 1 الی 3

ثمّ لمّا ختم اللّه السّورة المباركة التي في أوّلها إثبات المعاد، و الاستدلال عليه بقدرته على خلق الإنسان من التّراب، و تقليبه في أطوار مختلفة، و بخلق النّباتات، و في آخرها إثبات التّوحيد و إبطال الشّرك، و الدّعوة إلى الإيمان و اقامة الصّلاة و أداء الزكاة برجاء الفلاح، أردفها بسورة اَلْمُؤْمِنُونَ التي في أوّلها تخصيص الفلاح بالمؤمنين و مدحهم، و بيان رجحان الخشوع في الصّلاة و لزوم الاهتمام بها، و ذكر المعاد و الاستدلال عليه بالدّليلين المذكورين، و حكاية دعوة الأنبياء إلى التّوحيد و ابتلاء منكريه بالعذاب، و في آخرها تهديد منكر المعاد بأهوال القيامة، و حرمان الكفّار من الفلاح، فابتدأها بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بوعد المؤمنين بالفلاح بقوله: قَدْ أَفْلَحَ و سعد و فاز اَلْمُؤْمِنُونَ و الموحّدون بأعلى المقاصد و أسناها.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ (1) اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)روي أنّ اللّه تعالى لمّا خلق جنّة عدن بيده قال: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون (1)، فقال: طوبى لك منزل الملوك، أي ملوك الجنّة (2).

و عن الصادق عليه السّلام ما يقرب منه إلى قوله: طوبى (3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «أتدري من هم؟» قيل: أنت أعلم، قال: «قد أفلح المؤمنون المسلّمون، إنّ المسلّمين هم النّجباء» (4).

ثمّ وصفهم اللّه بقوله: اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و بقلوبهم من مهابة اللّه خائفون، و بجوارحهم متواضعون.

ص: 367


1- . تفسير الرازي 23:82.
2- . تفسير روح البيان 6:66.
3- . تفسير القمي 2:88، تفسير الصافي 3:393، و فيهما إلى قوله: المؤمنون.
4- . الكافي 1:322/5، تفسير الصافي 3:393.

روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا صلّى رفع بصره إلى السّماء، فلمّا نزلت رمى ببصره نحو مسجده، و أنّه رأى مصلّيا يعبث بلحيته فقال: «لو خشع قلبه لخشعت جوارحه» (1).

و روي أنّ العبد إذا قام إلى الصّلاة، فإنّما هو بين يدي الرّحمن، فإذا التفت يقول اللّه تعالى: إلى من تلتفت، إلى خير منّي؟ أقبل يابن آدم [إليّ]فأنا خير ممّن تلتفت إليه (2).

ثمّ وصفهم اللّه بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ و ما لا فائدة فيه من الأقوال و الأفعال مُعْرِضُونَ و متباعدون. قيل: هو القول الحرام (3). و قيل: هو كلّ حرام أعمّ من القول و الفعل (4). و قيل: هو أعمّ من الحرام و المكروه و المباح الذي لا حاجة فيه (5).

و قال القمي: يعني الغناء و الملاهي، و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام (6).

و عنه عليه السّلام أيضا: «هو أن يتقوّل الرّجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه للّه» (7).

روى بعض العامة أنّه تكلّم رجل في زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام و افترى عليه، فقال له زين العابدين عليه السّلام: «إن كنت كما قلت فأستغفر اللّه، و إن لم أكن كما قلت فغفر اللّه لك» فقام إليه الرّجل و قبّل رأسه و قال: جعلت فداك، لست كما قلت فاغفر لي، قال: «غفر اللّه لك» فقال الرجل: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

و خرج يوما من المسجد، فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد و الموالي، فقال زين العابدين عليه السّلام: «مهلا على الرّجل» ، ثمّ أقبل على الرّجل و قال: «ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحيى الرّجل، فالقى إليه خميصة (4)كانت عليه، و أمر له بألف درهم، فكان الرّجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرّسول (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كلّ قول ليس فيه ذكر اللّه فهو لغو» (6).

و إنّما ذكر سبحانه الإعراض عن اللّغو بعد ذكر الخشوع في الصّلاة، لكمال الملابسة بينهما. و قيل: إنّ الإعراض عن اللّغو من متمّمات الصّلاة (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 4 الی 7

وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (8) فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ (9)

ص: 368


1- . تفسير أبي السعود 6:123، تفسير روح البيان 6:67.
2- . تفسير روح البيان 6:67.
3- . تفسير الرازي 23:79. (4 و 5) . تفسير الرازي 23:79.
4- . الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام.
5- . تفسير روح البيان 6:63.
6- . إرشاد المفيد 1:297، تفسير الصافي 3:394.
7- . تفسير الرازي 23:80.
8- . تفسير القمي 2:88، تفسير الصافي 3:394.
9- . مجمع البيان 7:158، تفسير الصافي 3:394.

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف المؤمنين بالقيام بأداء العبادات البدنيّة، التي أهمّها الصّلاة و الخشوع فيها، وصفهم بالاهتمام بالعبادات المالية التي أهمّها الزّكاة بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ و مؤدّون.

عن الصادق عليه السّلام: «من منع قيراطا من الزّكاة فليس هو بمؤمن و لا مسلم و لا كرامة» (1).

و قيل: إنّ الزّكاة هنا كلّ فعل محمود مرضيّ (2).

ثمّ وصفهم بالتّحرّز عن الحرام المتعلّق بأنفسهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ و عوراتهم حافِظُونَ و ممسكون لها من أن تكشف أو تمسّ،

فإنّهم يحرّمونها على كلّ أحد إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ و منكوحاتهم الدّائمة أو المنقطعة.

و قيل: إنّ التّقدير فإنّهم يلامون على ترك التّحفّظ إلاّ على تركه من أزواجهم (3). أو التقدير فإنّهم لا يرسلون فروجهم على أحد إلاّ على أزواجهم أَوْ على ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالأسر، أو الإرث، أو المعاملة. و قيل: إنّ (على) بمعنى (من) .

فَإِنَّهُمْ على الكشف لهنّ و مباشرتهنّ غَيْرُ مَلُومِينَ و لا مذمومين

فَمَنِ اِبْتَغى و طلب للمباشرة وَراءَ ذلِكَ المذكور من الأزواج (4)و الإماء و سواهنّ فَأُولئِكَ المبتغون للحرام هُمُ اَلعادُونَ و المتجاوزون عن حدود العقل و الشّرع، أو المتعدّون من الحلال إلى الحرام، أو المتناهون في العدوان.

بيان حلّية المتعة

إعلم أنّه استدلّ بعض العامة على حرمة المتعة بهذه الآية، بتقريب أنّها ليست ملك يمين و لا زوجة، لعدم التّوارث فيها، فإنّ لازم الزّوجة التّوارث لقوله تعالى: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ (5).

و فيه: أنّ الزّوجة هي المرأة التي حلّ بضعها، و التّمتّع بها سبب حصول علقة الزّواج بين الرجل و المرأة، بسبب العقد الخاصّ المفيد لحلّية التّمتّعات و هي صنفان: صنف منها علقة دائمة بنفسها، لا تزول إلاّ بالطّلاق، أو بحصول أحد موانع النكاح، كعلقة ملك الأعيان، و لا تزول إلاّ بالمزيل. و صنف

ص: 369


1- . تفسير القمي 2:88، تفسير الصافي 3:394.
2- . تفسير الرازي 23:79.
3- . تفسير الرازي 23:80، تفسير أبي السعود 6:124.
4- . في النسخة: الازدواج.
5- . تفسير الرازي 23:80، و الآية من سورة النساء:4/12.

منها علقة مقيّدة بأجل معيّن، تزول ببلوغ أجل تلك العلقة، نظير إباحة المالك للغير التصرّف في ملكه. فإذا كانت مطلقة أفادت جواز التصرّف فيه مطلقا غير مقيّد بوقت، و لا ترتفع إلا برجوع المالك عنها أو بانتفاء الموضوع و نظائره، و إذا كانت مقيّدة بمدّة معيّنة تزول ببلوغ المدّة.

و أمّا التّوارث فهو حكم تعبّدي لخصوص الصّنف الأوّل من العلقة بالأدلّة المخصّصة لعموم الآية، و لو لم تكن تلك الأدلّة المخصّصة لعموم الآية، لكنّا نحكم بثبوته لكلا الصّنفين، كما خصّصت الأدلّة بقيّة الأحكام الاخر من وجوب النّفقة، و الكسوة، و السّكنى، و القسم، و غيرها من الحقوق بالصنف الأوّل.

فتبيّن أنّ التمسّك بالآية لإثبات حرمة المتعة بعد ثبوت شرعيّتها بالكتاب و السّنة و الإجماع من غاية الجهل، و إنّما الكلام بيننا و بين مخالفينا في نسخه، و لم يدلّ دليل عليه، بل ثبت بقاؤه بالأدلّة القطعيّة، بل بقول من أبدع تحريمها حيث قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه، و أنا احرّمهما (1). فإنّ إسناده التحريم إلى نفسه دالّ على عدم نسخها من شارعها.

عن الباقر عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه أحلّ لكم الفروج على ثلاثة معان: فرج مورّث (2)و هو الثّبات، و فرج غير مورّث و هو المتعة، و ملك يمين» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن المتعة فقال: «حلال، فلا تتزّوج إلاّ عفيفة، إنّ اللّه يقول: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» (4).

و عنه عليه السّلام: «تحلّ الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث، و نكاح بلا ميراث، و نكاح بملك يمين» (5).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 8 الی 11

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين بالتحرّز عن التعدّي على الغير بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ و الودائع التي أودعها غيرهم عندهم وَ عَهْدِهِمْ و الميثاق الذي بينهم و بين غيرهم من الخالق و الخلق راعُونَ و حافظون لا يخونون في مال، و لا ينقضون عهدا، و من جملة الأمانات الولاية و التّكاليف الإلهيّة التي حملها الإنسان كما قال سبحانه: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ (6)الآية. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ اَلْوارِثُونَ (10) اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)

ص: 370


1- . صحيح البخاري 2:282/164 و 6:59/43، الأوائل للعسكري:112.
2- . في التهذيب: موروث، و كذا التي بعدها.
3- . التهذيب 7:241/1051، تفسير الصافي 3:394.
4- . الكافي 5:453/2، تفسير الصافي 3:394.
5- . الكافي 5:364/1-3، الخصال:119/106، تفسير الصافي 3:394.
6- . الأحزاب:33/72.

«أعظم النّاس خيانة من لم يتمّ صلاته» (1). و من جملة العهود الميثاق الذي أخذه من بني آدم في الذّرّ.

ثمّ وصفهم اللّه بالاهتمام بالصّلاة بقوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المفروضة يُحافِظُونَ و يواظبون برعاية شرائطها و حدودها و أوقاتها، و إنّما غيّر الاسلوب بإتيان الفعل لكون الصّلاة متجدّدة متكرّرة.

و قيل: إنّما فصّل بين توصيفهم بالخشوع في الصلاة و محافظتهم عليها، للإيذان بأنّ كلاّ منهما فضيلة مستقلّة (2)، أو للإشعار بتعظيم الصّلاة حيث ذكرها في مبدأ أوصافهم و منتهاها.

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة فلاحهم بقوله: أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصفات هُمُ اَلْوارِثُونَ دون غيرهم

اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ و يملكونها بحسن عقائدهم و أعمالهم، أو ينتقل إليهم من الكفّار الذين فوّتوها على أنفسهم و هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا يخرجون منها أبدا.

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ما خلق اللّه خلقا إلاّ جعل له في الجنّة منزلا، و في النّار منزلا، فإذا سكن أهل الجنّة الجنّة و أهل النّار النّار، نادى مناد: يا أهل الجنّة أشرفوا، فيشرفون على أهل النّار، و ترفع لهم منازلهم فيها، ثمّ يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم اللّه لدخلتموها» قال: «فلو أنّ أحدا مات فرحا لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحا، لما صرف عنهم من العذاب.

ثمّ ينادي مناد: يا أهل النّار ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة و ما فيها من النّعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها، قال: فلو أنّ أحدا مات حزنا لمات أهل النّار حزنا، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء [و يورث هؤلاء منازل هؤلاء]و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: أُولئِكَ هُمُ اَلْوارِثُونَ* اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من أحد منكم إلاّ و له منزلان؛ منزل في الجنّة، و منزل في النّار، فإن مات و دخل النّار ورث أهل الجنّة منزله» (4).

و قيل: إنّ اللّه شبّه انتقال الجنّة إليهم بغير محاسبة و معرفة بمقاديرها بانتقال المال إلى الوارث (5).

و قيل: لمّا كانت الجنّة مسكن أبينا آدم، صار انتقالها إلى أولاده شبيها بالميراث (6).

قيل: إنّ الفردوس هو الجنّة بلسان [الحبشة] (7)و قيل: بلسان الرّوم (8).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «الفردوس مقصورة الرّحمن، فيها الأنهار و الأشجار» (9).

ص: 371


1- . تفسير الرازي 23:81.
2- . تفسير أبي السعود 6:125.
3- . تفسير القمي 2:89، تفسير الصافي 3:395.
4- . مجمع البيان 7:159، تفسير الصافي 3:395.
5- . تفسير الرازي 23:82.
6- . تفسير الرازي 23:82.
7- . تفسير الرازي 23:82.
8- . تفسير الرازي 23:82.
9- . تفسير الرازي 23:82.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «سلوا اللّه الفردوس، فإنّها أعلى الجنان، و إنّ أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «فيّ نزلت» (2).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 12 الی 16

ثمّ لمّا أخبر باختصاص الفلاح بالمؤمنين في الآخرة، استدلّ على البعث فيها بقدرته الكاملة على خلق الإنسان و تقليبه في أطوار الخلقة و أكوان مختلفة بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ في بدو خلقته مِنْ سُلالَةٍ و خلاصة منسلّة و مستخرجة مِنْ طِينٍ.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)و قيل: إنّ المراد بالإنسان أولاد آدم، و المراد من الطّين آدم، و من السّلالة الأجزاء الطّينيّة المنبثّة في أعضائه التي حين اجتماعها في أوعية المنيّ صارت منيّا (3).

و قيل: لمّا كانت الأغذية التي يتكوّن منها المنيّ متولّدة من صفو الأرض و الماء، كان مبدأ خلق الإنسان الطّين لكون المنيّ منه (4).

ثُمَّ جَعَلْناهُ و صيّرناه نُطْفَةً و ماء صافيا في صلب الرّجل، ثمّ نقلناه بسبب الجماع فِي قَرارٍ مَكِينٍ و مستقرّ حصين،

و هو الرّحم ثُمَّ خَلَقْنَا و صيّرنا اَلنُّطْفَةَ بعد أربعين يوما عَلَقَةً و دما جامدا فَخَلَقْنَا و صيّرنا بعد أربعين يوما اَلْعَلَقَةَ و الدّم الجامد مُضْغَةً و قطعة لحم فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ بعد أربعين يوما عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً و سترناها به بعد نبت العروق و الأعصاب و الأوتار و العضلات عليها ثُمَّ أَنْشَأْناهُ و أوجدناه خَلْقاً آخَرَ مباينا للخلق الأوّل بنفخ الرّوح فيه، فصار حيّا بعد ما كان ميتا، و حيوانا بعد ما كان جمادا، و ناطقا بعد ما كان أبكم، و سميعا بعد ما كان صمّا، و بصيرا بعد ما كان أكمه، و أودع في كلّ عضو منه عجائب فطرة و غرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين.

عن ابن عباس: هو تصريف (3)اللّه الإنسان بعد الولادة في أطواره في زمن الطفوليّة، و ما بعدها إلى

ص: 372


1- . تفسير الرازي 23:82.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:65/288، تفسير الصافي 3:395. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:84.
3- . في تفسير الرازي: تصرّف.

استواء الشّباب، و ما بعده إلى أن يموت (1).

ثمّ أثنى سبحانه على نفسه بخلق هذا المخلوق البديع بقوله: فَتَبارَكَ اَللّهُ و تعالى شأنه من قدرته الكاملة و حكمته البالغة و هو أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ خلقا، و أكمل المقدّرين تقديرا؛ لأنّه خلق أحسن المخلوقين، حيث إنّه مع صغر جرمه انطوى فيه العالم الكبير، و فيه دلالة على أنّ الإنسان مركّب من الرّوح و الجسد، و أنّ في الموجودات خالقين.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل: أو غير الخالق الجليل خالق؟ قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى قال: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ فقد أخبر أنّ في عباده خالقين، منهم عيسى بن مريم، خلق من الطّين كهيئة الطّير بإذن اللّه، و خلق السّامريّ لهم عجلا جسدا له خوار» (2).

ثُمَّ إِنَّكُمْ يا بني آدم بَعْدَ ذلِكَ المذكور من أطوار الخلق و التّعيّش إلى الأجل المسمّى و اللّه لَمَيِّتُونَ بقدرته ثُمَّ إِنَّكُمْ بعد انقضاء الدّنيا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و عند النّفخة الثّانية تحيون ثانيا بقدرته الكاملة كما حييتم أوّلا، و تُبْعَثُونَ و تخرجون من قبوركم للحساب و المجازاة على الأعمال.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 17 الی 20

ثمّ لمّا كانت الإعادة منوطة بكمال القدرة و العلم، بالغ سبحانه في إثباتهما لنفسه بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ و طبقات من السّماوات كالسّقف المحفوظ، سمّيت طبقاتها طرائق لطروق بعضها على بعض، فإنّ كلّ ما فوق مثله طريقه، أو لأنّها طرق الملائكة و الكواكب و مسيرها وَ ما كُنّا عَنِ اَلْخَلْقِ و النّاس، أو عن السّماوات، أو عن الموجودات غافِلِينَ و ذاهلين حتى نهمل أمرها و تدبيرها، بل نحفظها عن الزّوال و الاختلال إلى الأجل المقدّر بمقتضى الحكمة، و نعلم خيرها و شرّها و جميع ما تحتاج إليه في بقائها.

وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنّا عَنِ اَلْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

ثمّ بيّن سبحانه خلق ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه بقوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ بنحو الأمطار ماءً نافعا بِقَدَرٍ و حدّ فيه صلاح الأشياء من الحيوانات و النّباتات فَأَسْكَنّاهُ و مكّناه فِي

ص: 373


1- . تفسير الرازي 23:85.
2- . التوحيد:63/18، تفسير الصافي 3:396.

اَلْأَرْضِ لانتفاعكم به وَ إِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ من وجه الأرض و إزالته بالأسباب العادية و غيرها باللّه لَقادِرُونَ كما كنّا قادرين على إنزاله و إتيانه.

عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه أنزل من الجنّة خمسة أنّهار: جيحون، و سيحون، و دجلة، و الفرات، و النّيل، فأنزلها اللّه تعالى من عين واحدة من عيون الجنّة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبرئيل، استودعها الجبال و أجراها في الأرض، و جعل فيها منافع للنّاس، فذلك قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي اَلْأَرْضِ و إذا كان عند خروج يأجوج و مأجوج أرسل اللّه جبرئيل فرفع من الأرض القرآن، و العلم، و الحجر الأسود من البيت، و مقام إبراهيم، و تابوت موسى بما فيه، و هذه الأنهار الخمسة إلى السّماء، و ذلك قوله: وَ إِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض، فقد أهلها خير الدّين و الدّنيا» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي الأنهار و العيون» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني ماء العقيق» (3).

أقول: العقيق اسم واد.

فَأَنْشَأْنا و خلقنا لَكُمْ بعد إنزال الماء بِهِ في الأرض جَنّاتٍ و بساتين ذات أشجار مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ هي أحبّ الأشجار عندكم و أنفعها، حيث تكون ثمارها غذاء و فاكهة و لَكُمْ فِيها مع تلك الأشجار النافعة فَواكِهُ و ثمار كَثِيرَةٌ بها تتفكّهون وَ مِنْها ثمار و زروع، تَأْكُلُونَ و بها تتعيّشون وَ أنشأنا لكم شَجَرَةً مباركة زيتونة تكون من شرفها أنّها بالخصوص تَخْرُجُ مِنْ جبل طُورِ سَيْناءَ الذي منه نودي موسى عليه السّلام و كلّمه اللّه عليه تكليما. و هي بين مصر و أيلة، أو بفلسطين.

و قيل: إنّ سيناء اسم البقعة. و قيل: إنّ معناه حسن. و قيل: أوّل ما نبت الزّيتون هناك (4). و قيل: فيه معظمها (5).

و فائدتها أنّها تَنْبُتُ مستصحبة بِالدُّهْنِ. و قيل: إنّ (الباء) بمعنى (مع) (6). و قيل: إنّها للتّعدية، و المعنى أنّها تنبت بثمرة جامعة لدهن يدّهن و يسرّح به (7)وَ صِبْغٍ و إدام يصبغ و يغمس فيه الخبز، و يلوّن به مثل الدّبس و الخلّ لِلْآكِلِينَ.

ص: 374


1- . تفسير روح البيان 6:74.
2- . تفسير القمي 2:91، تفسير الصافي 3:396.
3- . الكافي 6:391/4، تفسير الصافي 3:396.
4- . تفسير روح البيان 6:76.
5- . تفسير الرازي 23:89.
6- . تفسير الرازي 23:89، تفسير روح البيان 6:76.
7- . تفسير البيضاوي 2:102، تفسير روح البيان 6:76، تفسير الصافي 3:397.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «الزّيت شجرة مباركة فأتدموا به، و ادّهنوا» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام: أن أخرجوني إلى الظّهر، فإذا تصوّبت أقدامكم و استقبلتكم الرّيح فادفنوني، فهو أوّل طور سيناء، ففعلوا ذلك» (2).

و عن الصادق عليه السّلام و قد ذكر الغريّ عنده، قال: «و هو قطعة من الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى تكليما، و قدّس عليه عيسى تقديسا، و اتّخذ عليه إبراهيم خليلا، و اتّخذ عليه محمّدا حبيبا، و جعله للنّبيّين مسكنا، و واللّه ما سكن [فيه]بعد أبويه الطّيّبين آدم و نوح أكرم من أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على قدرته بأحوال النّباتات، استدلّ عليها بأحوال الحيوانات بقوله: وَ إِنَّ لَكُمْ أيّها الناس فِي أحوال اَلْأَنْعامِ و عجائب الأزواج الثمانية: الإبل، و البقر، و الغنم، و المعز، و اللّه لَعِبْرَةً و حجّة واضحة على قدرة خالقها و لطيف حكمته، فإنّ من عجائب أحوالها أنّا نُسْقِيكُمْ مِمّا يتكوّن فِي بُطُونِها و ضروعها من الألبان، أو ممّا في أجوافها من العلف بعد تكوّن اللّبن منه وَ لَكُمْ مع ذلك فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من أشعارها و أصوآنها و أوبارها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ و بلحومها و أعيانها تنتفعون،

كما تنتفعون بما يحصل منها وَ عَلَيْها في البراري و الجبال وَ عَلَى اَلْفُلْكِ و السّفن في البحار و الشّطوط تُحْمَلُونَ و تركبون و تنتقلون من بلد إلى بلد.

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَ عَلَيْها وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ شرع سبحانه في بيان أحوال الامم الماضية و عدم اعتبارهم بتلك العبر، و عدم تفكّرهم في عجائب الخلق، و عدم تذكّرهم بتذكير الرّسل، حتّى استحقّوا نزول العذاب عليهم لغفلتهم و شركهم، فابتدأ بذكر قصّة قوم نوح، لكونها أقدم القصص و أعظمها و أنسبها بذكر الفلك بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ (24)

ص: 375


1- . مجمع البيان 7:165، تفسير الصافي 3:397.
2- . التهذيب 6:34/69، تفسير الصافي 3:397.
3- . التهذيب 6:23/51، تفسير الصافي 3:397.

نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ليدعوهم إلى التّوحيد و عبادة اللّه فَقالَ داعيا لهم باللّطف و لين القول: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ الّذي خلقكم و أنعم عليكم بعظائم النّعم، و لا تشركوا به شيئا في الالوهيّة و العبادة، لأنّه ما لَكُمْ في عالم الوجود مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ تعالى، لأنّ كلّ ما سواه مخلوقون له و مربوبون أَ فَلا تَتَّقُونَ و لا تخافون أن يسلب عنكم نعمه و ينزّل عليكم عذابة

فَقالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه مِنْ قَوْمِهِ لأتباعهم و السّفلة منهم، توهينا لنوح عليه السّلام و حطّا له عن قابليّة (1)الرّسالة، و حثّا لهم على الإعراض عنه ما هذا الرّجل إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ خلقا و خلقا و أعمالا، لا مزيّة له عليكم توجب أن يختاره اللّه تعالى لهذا المنصب، و مع ذلك يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ و يتفوّق عَلَيْكُمْ بادّعاء الرّسالة، و يجعلكم أتباعه وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ إرسال رسول لَأَنْزَلَ من السّماء مَلائِكَةً بالرّسالة إليكم من قبله لأقربيّة قولهم إلى القبول، و كونهم مطيعين له ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدّعيه هذا الرّجل من رسالة البشر و توحيد المعبود فِي آبائِنَا اَلْأَوَّلِينَ و كبرائنا الماضين، و إنّما قالوا ذلك للإفراط في تكذيبه و عناده، أو لطول الفترة بين إدريس عليه السّلام الذي كان نبيّا ظاهرا و بين نوح عليه السّلام.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 25 الی 29

ثمّ بالغوا في توهينه و تكذيبه بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ و اختلال عقل، و لذا يقول ما يقول خلافا لأكثر النّاس فَتَرَبَّصُوا بِهِ و اصبروا على ما يقوله و انتظروا حَتّى حِينٍ موته فتستريحون منه، أو انتظروا إلى وقت إفاقته من الجنون، فيكفّ عن أباطيله، فلمّا يئس نوح عليه السّلام من إيمانهم و عال صبره (2)على إيذائهم

قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي على هؤلاء المكذّبين بتعجيلك في إهلاكهم بالعذاب جزاء بِما كَذَّبُونِ و نسبتهم إيّاي إلى الجنون

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ إجابة لدعائه أَنِ يا نوح اِصْنَعِ

إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى اَلْفُلْكِ فَقُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي نَجّانا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ (29)

ص: 376


1- . كذا، و لعلّه يريد درجة استحقاق الرسالة.
2- . أي نفد.

اَلْفُلْكَ متلبّسا (1)بِأَعْيُنِنا و حفظنا إيّاك من أن تخطىء في صنعها، و من أن يفسدها عليك مفسد وَ وَحْيِنا إليك كيفيّة صنعها، و تعليمنا إيّاك عملها و تسويتها. روي أنّه اوحي إليه أن يصنعها على مثال الجؤجؤ (2).

فَإِذا جاءَ أَمْرُنا و اقترب نزول عذابنا على القوم وَ فارَ اَلتَّنُّورُ و اشتدّ غليان الماء منه، قيل: كان تنّور آدم (3)، و كان من الحجارة. و عن ابن عباس: التّنّور وجه الأرض (4). و قيل: أعلى الأرض (5). و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «وَ فارَ اَلتَّنُّورُ أي طلع الفجر» (6).

فَاسْلُكْ في الفلك و أدخل فِيها حينئذ مِنْ كُلٍّ من أنواع الحيوانات زَوْجَيْنِ و فردين مزدوجين اِثْنَيْنِ الذّكر و الانثى، لئلاّ ينقطع نسلها وَ أدخل فيها أَهْلَكَ و أقاربك من الزّوجة و الأولاد و المؤمنين إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ و قضي عليه بالهلاك و العذاب مِنْهُمْ كزوجته واغلة، و ابنه كنعان على ما قيل (7)وَ لا تُخاطِبْنِي و لا تكلّمني فِي نجاة الكفّار اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشّرك و الطّغيان و لا تشفع لهم إِنَّهُمْ لا محالة مُغْرَقُونَ لعدم قابليّتهم (8)لقبول الشّفاعة في حقّهم.

فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ و علوت أَنْتَ يا نوح وَ مَنْ مَعَكَ من أهلك و أشياعك عَلَى اَلْفُلْكِ و ركبتهم فيها فَقُلِ شكرا لي و ثناء على إنعامي اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي نَجّانا مِنَ عشرة اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ فإنّ النجاة من عشرتهم و صحبتهم و مجاورتهم نعمة عظيمة على المؤمنين

وَ قُلْ حين الدّخول في السّفينة، أو حين الخروج منها، أو في الحالين: رَبِّ أَنْزِلْنِي في السّفينة، أو في الأرض منها مُنْزَلاً مُبارَكاً و إنزالا مستتبعا لكلّ خير.

قيل: الإنزال المبارك هو الورود في منزل مأمون من الهواجس النّفسانيّة و الوساوس الشّيطانيّة (9).

وَ أَنْتَ يا ربّ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ فاستجاب اللّه دعاءه حيث قال: يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ (10)فبارك فيهم حيث جعل جميع من في الأرض من نسله و نسل من كان معه، و إنّما خصّه اللّه بالأمر بالحمد و الدّعاء لكونه إماما لمن معه، فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بنبوّته و عظمة اللّه و كبرياء ربوبيّته المقتضية لعدم خطابه إلاّ إلى ملك مقرّب أو نبيّ مرسل، و في النّهي عن شفاعته في حقّ الكفّار و الأمر بالحمد على النجاة منهم مبالغة في تقبيحهم

ص: 377


1- . في تفسير روح البيان 6:79: ملتبسا.
2- . تفسير روح البيان 6:79.
3- . تفسير روح البيان 6:80.
4- . تفسير الرازي 23:94.
5- . تفسير الرازي 23:94.
6- . تفسير الرازي 23:94.
7- . تفسير روح البيان 6:80، و فيه: و امه واغلة.
8- . يريد عدم استحقاقهم.
9- . تفسير روح البيان 6:80.
10- . هود:11/48.

و شدّة استحقاقهم العذاب.

عن ابن عباس: كان في السّفينة ثمانون إنسانا: نوح و امرأته [سوى]التي غرقت، و ثلاثة بنين: سام، و حام، و يافث، و ثلاث نسوة لهم، و اثنان و سبعون إنسانا، فكلّ الخلائق نسل من كان في السّفينة (1).

قيل: علّمكم [اللّه]أن تقولوا عند الرّكوب في السّفينة: بِسْمِ اَللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها (2)و عند ركوب الدابّة: سُبْحانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ ] (3)و عند النّزول: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً [وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ ] (4).

«و في (الفقيه) : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا علي، إذا نزلت منزلا فقل: (اللّهمّ أنزلني منزلا مّباركا و أنت خير المنزلين) ترزق خيره و يدفع شرّه» (5).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 30

ثمّ نبّه سبحانه المؤمنين على العبر التي تكون في قصة (6)نوح عليه السّلام بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنجاء نوح عليه السّلام و من معه، و إهلاك الكفّار بالطّوفان لَآياتٍ و دلالات واضحات يستدلّ بها اولو الأبصار على توحيد اللّه و عظمته و شدّة غضبه على أعدائه و المشركين به، و كمال لطفه و رحمته على محبّيه و المؤمنين به وَ إِنْ الشأن إنّا كُنّا بتلك الآيات لَمُبْتَلِينَ و مختبرين عبادنا لننظر من يعتبر و من لا يعتبر، أو مبتلين قوم نوح ببلاء عظيم و عقاب شديد، أو كنّا معاقبين من سلك سبيلهم في تكذيب الرّسل.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ (30)عن أمير المؤمنين عليه السّلام «أنّ اللّه تعالى قد أعاذكم من أن يجور عليكم، و لم يعذكم من أن يبتليكم، و قد قال جلّ من قائل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ» (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 31 الی 34

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (32) وَ قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ (33) وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34)

ص: 378


1- . تفسير الرازي 23:95.
2- . هود:11/41.
3- . الزخرف:43/13.
4- . تفسير الرازي 23:95.
5- . من لا يحضره الفقيه 2:195/887، تفسير الصافي 3:399.
6- . في النسخة: قضية.
7- . نهج البلاغة:150 الخطبة 103، تفسير الصافي 3:399.

ثمّ ذكر سبحانه قصّة هود و قومه ازديادا للعبرة بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا و خلقنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ و هم قوم عاد، كما عن ابن عباس و جماعة (1)، لأنّهم بعد قوم نوح. و قيل: هم ثمود لأنّهم الذين هلكوا بالصّيحة (2)

فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً كان مِنْهُمْ نسبا، فدعاهم إلى التّوحيد أوّلا بقوله: أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده لأنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ و مستحقّ للعبادة سواه أَ فَلا تَتَّقُونَ ربّكم و لا تخافون عذابه على الشّرك.

وَ قالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ و الكبراء و الأشراف من قبيلته اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّه و دار اَلْآخِرَةِ و البعث للجزاء وَ أَتْرَفْناهُمْ و أكثرنا عليهم نعمنا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها إلقاء للشّبهة في قلوب أتباعهم و إضلالهم: ما هذا الرّجل المدّعي للرّسالة إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الأخلاق و الأفعال و الحاجة إلى الغذاء و الشّراب لما ترون أنّه يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ من الأطعمة وَ يَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ منه من الأشربة، فلا فضيلة له عليكم يستحقّ بها الرّسالة دونكم

وَ و اللّه لَئِنْ أَطَعْتُمْ و اتّبعتم بَشَراً فيما يقول مع كونه مِثْلَكُمْ في الفضل إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ و متضرّرون باتّباعه لإذلالكم أنفسكم له بلا نفع عائد إليكم.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 35 الی 41

ثمّ بالغوا في تنفير النّاس عن اتّباعه بتسفيهه و تهجين قوله بالبعث بقولهم: أَ يَعِدُكُمْ يا قوم أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ و اقبرتم وَ كُنْتُمْ في قبوركم بعد مدّة طويلة تُراباً وَ قبل ذلك عِظاماً نخرة مجرّدة عن اللّحم و العصب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء كما كنتم

هَيْهاتَ هَيْهاتَ و بعد بعد في العقل و العادة لِما تُوعَدُونَ من الإحياء ثانيا بتلك الأبدان الأولية، لا يكون ذلك أبدا.

أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (41)قيل: لمّا استبعدوا بكلمة هَيْهاتَ كأنّه قيل: لما استبعادكم؟ قيل: لما توعدون (3).

ص: 379


1- . تفسير الرازي 23:97، تفسير روح البيان 6:81.
2- . تفسير الرازي 23:97.
3- . تفسير البيضاوي 2:104، تفسير أبي السعود 6:134، تفسير روح البيان 6:82.

ثمّ بالغوا في إنكار المعاد بقولهم: إِنْ الحياة و ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا يعني نَمُوتُ فيها و نفنى، و لا حياة بعدها و تولد وَ نَحْيا و نعيش فيها مدّة معيّنة وَ ما نَحْنُ بعد هذه الحياة و الموت بِمَبْعُوثِينَ و منشرين من القبور،

كما يزعم هذا الرّجل إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ اِفْتَرى و اخترع عَلَى اَللّهِ كَذِباً صريحا في ما يدّعيه من إرساله إلينا و بعثكم بعد الموت وَ ما نَحْنُ لَهُ في ما يقول بِمُؤْمِنِينَ و مصدّقين،

فلمّا يئس هود أو صالح من إيمانهم قالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي على قومي بِما كَذَّبُونِ و نسبوني إلى الفرية

قالَ تعالى إجابة لدعائه: إعلم أنّ قومك عَمّا قَلِيلٍ من الزّمان و في أسرع الوقت، و اللّه لَيُصْبِحُنَّ و ليصيرنّ نادِمِينَ على كفرهم و تكذيبهم بمعاينة العذاب

فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ التي صاح بها جبرئيل من السّماء، على ما قيل (1)بِالْحَقِّ و العدل، أو بغير دافع، فتصدّعت بها قلوبهم.

و عن ابن عباس: الصّيحة هي الرّجفة، و قيل: هي نفس العذاب و الموت، كما يقال في من يموت: إنّه دعي فأجاب (2) . و قيل: هي العذاب المصطلم (2).

فَجَعَلْناهُمْ و صيّرناهم بتلك الصّيحة غُثاءً و مثل حميل سيل من الزّبد و الحشائش البالية المسودّة في تبدّد الأجزاء و بلاها.

عن الباقر عليه السّلام «ألغثاء: اليابس الهامد من نبات الأرض» (3). و قيل: إنّه كناية عن هلاكهم؛ لأنّ العرب تقول لمن هلك: سال به الوادي (4). فَبُعْداً من الخيرات، و لعنا دائما، أو سحقا و هلاكا لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 42 الی 48

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ (48)

ص: 380


1- . تفسير الرازي 23:99، تفسير الصافي 3:400.
2- . تفسير الرازي 23:99.
3- . تفسير القمي 2:91، تفسير الصافي 3:400.
4- . تفسير البيضاوي 2:104، تفسير روح البيان 6:83.

ثمّ أشار سبحانه إلى قصص الامم الكثيرة الاخر بقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً و أقواما آخَرِينَ كقوم لوط و شعيب و غيرهم، و لقد كان لكلّ قرن و امّة أجل مقدّر مكتوب لموتهم و هلاكهم و

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ عنه.

قيل: يعني لا يتقدّمون الوقت المؤقّت لعذابهم إن لم يؤمنوا، و لا يتأخّرون عنه، و ذلك الوقت وقت علم اللّه أنّهم لا يزدادون إلاّ كفرا و عنادا، و لا يلدون إلاّ فاجرا كذّابا، و لا نفع لأحد في بقائهم، و لا ضرر على أحد في هلاكهم (1).

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما أنشأ الامم الكثيرة بعضهم بعد بعض، أرسل إليهم الرّسل واحدا بعد واحد بقوله: ثُمَّ أَرْسَلْنا إليهم رُسُلَنا حال كونهم تَتْرا و متعاقبة على نحو تعاقب الامم، فكان لكلّ قرن و أمّة رسول، و لكن كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ و عارضوه فَأَتْبَعْنا القرون بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك وَ جَعَلْناهُمْ بعد إهلاكهم و إذهاب أعيانهم و آثارهم من وجه الأرض أَحادِيثَ و حكايات لمن بعدهم يتحدّثون بها في أنديتهم، و يحكون قضاياهم، و يتعجبون منها، و يعتبرون بها. و قيل: إنّه جمع أحدوثة، و هي ما يتحدّث به تلهيّا أو تعجّبا (2).

ثمّ ذمّهم سبحانه و وبّخهم بقوله: فَبُعْداً أبديّا و هلاكا دائميّا، أو المراد يكون انقطاعا أبديّا من الرّحمة لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بآيات اللّه و رسله.

ثُمَّ أَرْسَلْنا بعد انقراض تلك الامم و إهلاكهم مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التّسع وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة على رسالتهما و صحّة دعواهما من البراهين العقليّة، أو أعظم معجزاته و هي العصا، أو المراد منه قوّة دلالة معجزاتهما على مدّعاهما

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه فَاسْتَكْبَرُوا و تعظّموا من قبول قولهما، و تأنّفوا عن الإيمان بهما و الاعتراف بمعجزاتهما وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ و مجاوزين عن الحدّ في الكبر و التّمرّد و الطّغيان

فَقالُوا فيما بينهم تكبّرا أو نصحا: لا ينبغي منّا الإيمان بهما أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا و نتّبعهما، و الحال أنّ بني إسرائيل الذين هم يكونون أقرباؤهما وَ قَوْمُهُما جميعا لَنا عابِدُونَ و كالمماليك لنا خادمون. قيل: إنّ فرعون كان يعبد الصّنم،

و بنو إسرائيل كانوا يعبدونه (3)فَكَذَّبُوهُما مصرّين على معارضتهما حتى يئسا من إيمانهم فَكانُوا بسبب تكذيبهما محكومين بكونهم مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ بالغرق في البحر.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 49 الی 50

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (50)

ص: 381


1- . تفسير الرازي 23:100.
2- . تفسير الرازي 23:100، تفسير روح البيان 6:84.
3- . تفسير روح البيان 6:86.

ثمّ أنّه تعالى بعد إخباره بسخطه على مكذّبي موسى، أخبر بلطفه به و بالمؤمنين به بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى في الطّور لطفا به و بامّته اَلْكِتابَ المعهود المسمّى بالتّوراة بعد إهلاك فرعون و قومه و إنجاء بني إسرائيل لَعَلَّهُمْ بذلك الكتاب و بما فيه من العلوم و الشّرائع يَهْتَدُونَ إلى كلّ حقّ و خير.

ثمّ ذكر سبحانه ألطافه بعيسى و مريم رغما لليهود بقوله: وَ جَعَلْنَا عيسى اِبْنَ مَرْيَمَ بسبب ولادته بنفخ روح القدس و تكلّمه في المهد و إجراء المعجزات العظيمة على يده وَ أُمَّهُ مريم بسبب تكلّمها في الصّغر كابنها، على ما قيل (1). و عدم ارتضاعها من ثدي قطّ، و احتبالها بغير فحل آيَةً عظيمة على كمال قدرتنا. و قيل: يعني جعلناهما عبرة لبني إسرائيل بعد موسى (2)وَ آوَيْناهُما و أسكنّاهما بعد فرارهما من اليهود إِلى رَبْوَةٍ و مكان مرتفع من الأرض. قيل: هو إيليا من أرض بيت المقدس، فإنّها مرتفعة (3). و قيل: إنّها كبد الأرض (4). و قيل: هو قرية ناصرة (5)كانت ذاتِ قَرارٍ و انبساط تسهل السّكونة فيها، أو ذات ثمار و زروع وَ ذات مَعِينٍ و ماء جار.

عن الصادق عليه السّلام: «الرّبوة: نجف الكوفة، و المعين الفرات» (6). قيل: إنّ مريم و عيسى و يوسف بن ماثان ابن عمّها، أقاموا بها اثنتي عشرة سنة، و كانت تفتل الحبل و عيسى عليه السّلام يبيعه و يأكل من ثمنه (7).

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صلّى الصّبح بمكّة فقرأ سورة المؤمنين، فلمّا أتى على ذكر عيسى و أمّه أخذته شرقة فركع (8). قيل: الشّرقة: شدّة البكاء.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 51 الی 54

ثمّ أخبر اللّه تعالى بتكاليف الأنبياء تهييجا للعباد على العمل بها بقوله: يا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ المأكولات اَلطَّيِّباتِ و الأغذية المستلذّات المحلّلات وَ اِعْمَلُوا للّه كلّما كان صالِحاً فإنّه المقصود منكم و النّافع لكم إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظّاهرة و الباطنة عَلِيمٌ فاجازيكم

يا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ اِعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ (54)

ص: 382


1- . تفسير الرازي 23:102.
2- . تفسير روح البيان 6:86.
3- . تفسير روح البيان 6:86.
4- . تفسير روح البيان 6:86.
5- . تفسير روح البيان 6:86.
6- . كامل الزيارات:47/5، التهذيب 6:38/79، تفسير الصافي 3:401.
7- . تفسير روح البيان 6:86.
8- . تفسير روح البيان 6:86.

عليه

وَ إِنَّ هذِهِ الملّة التي هي ملّة الإسلام و التّوحيد أُمَّتُكُمْ و ملّتكم حال كونها أُمَّةً و ملّة واحِدَةً و شريعة متّحدة في الاصول و إن اختلفت في الفروع.

و قيل: كلمة (هذه) إشارة إلى جماعة الامم المؤمنة بالرّسل، و المعنى: إنّ هذه الجماعة المتّفقة على الإيمان بالتّوحيد و الرّسل المتّحدة في عبادة اللّه امّتكم (1)وَ أَنَا وحدي رَبُّكُمْ لا شريك لي في الالوهيّة و الرّبوبيّة، إذا فَاتَّقُونِ أيّها الرّسل و الامم جميعا في اختلاف الكلمة في التّوحيد و الدّين

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ و دينهم بَيْنَهُمْ زُبُراً و قطعا، و قد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء (2)كُلُّ حِزْبٍ و فرقة من الفرق بِما لَدَيْهِمْ و اختاروه من الدّين فَرِحُونَ و معجبون، لاعتقادهم حقّانيّته

فَذَرْهُمْ و دعهم يا محمّد فِي غَمْرَتِهِمْ و جهالتهم الّتي أحاطت بهم كالماء الذي ارتمسوا فيه، و لا تشغل قلبك بهم و بتفرّقهم حَتّى حِينٍ موتهم على الكفر، أو قتلهم، أو نزول العذاب عليهم، و فيه وعيد لهم و تسلية للرّسول، و في تنكير حِينٍ و إبهام الوقت نهاية التّهويل.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ لمّا كان الكفّار يفتخرون على المؤمنين بكثرة المال و البنين، و يحسبون أنّ تنعّمهم بتلك النّعم لقربهم عند اللّه و التزامهم بدين الحقّ، أنكر سبحانه عليهم ذلك الحسبان بقوله: أَ يَحْسَبُونَ و يتوهّمون أَنَّما نُمِدُّهُمْ و نقوّيهم بِهِ مِنْ مالٍ عظيم وَ بَنِينَ كثيرة أنّا نُسارِعُ و نعجّل لَهُمْ بهذا الإمداد فِي اَلْخَيْراتِ و المثوبات و الأجر على تديّنهم بدين الحقّ و عملهم به؟ ! ليس الأمر كما يحسبون بَلْ هذا الحسبان لأنّهم لا يَشْعُرُونَ أنّ هذا الإمداد استدراج و استجرار بهم إلى الشّرّ و زيادة الإثم، لا مسارعة لهم إلى الخير.

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)روي أنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّ من الأنبياء: أيفرح عبدي أن أبسط له في الدّنيا و هو أبعد له منّي؟ ! أيجزع عبدي أن أقبض عنه الدّنيا و هو أقرب له منّي؟ ! ثمّ قال: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ إلى آخره (3).

و عن الصادق عليه السّلام عن أبيه، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: [إنّ اللّه تعالى]يقول: يحزن عبدي المؤمن إذا أقترت عليه شيئا من الدّنيا، و ذلك أقرب له منّي، و يفرح إذا بسطت له الدّنيا، و ذلك أبعد له منّي، ثمّ تلا هذه الآية، ثمّ قال: إنّ ذلك فتنة لهم» (4).

ص: 383


1- . تفسير أبي السعود 6:138.
2- . في تفسير الآية 93.
3- . تفسير روح البيان 6:90.
4- . مجمع البيان 7:175، تفسير الصافي 3:403.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 57 الی 61

ثمّ وصف سبحانه الّذين يسارع لهم في الخيرات بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ و مهابته و خوف عذابه مُشْفِقُونَ و وجلون، أو مرتعدون. و قيل: إنّ المراد من الخشية نفس العذاب، و المعنى أنّ الّذين هم من عذاب ربّهم خائفون (1). و قيل: إنّ المراد من الإشقاق شدّة الخوف (2). و قيل: هو الدّوام في الطاعة (3).

إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61)

وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِ وحدانيّة رَبِّهِمْ الآفاقيّة و الأنفسيّة و المنزلة بتوسّط الأنبياء و شواهد كمال ذاته المقدّسة يُؤْمِنُونَ و يصدّقون بالقلب و اللّسان و الجوارح

وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ في الالوهيّة و الرّبوبيّة و العبادة لا يُشْرِكُونَ غيره شركا جليّا أو خفيّا، و لا يقصدون بأعمالهم غيره،

و لا يتوجّهون إلى سواه وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ و يعطون ما آتَوْا و أعطوا من الصّدقات و الكفّارات و غيرهما من حقوق اللّه، و من الأمانات و الدّيون و غيرهما من حقوق النّاس وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ و خائفة أو مرتعدة من تقصيرهم و إخلالهم في الأداء بتنقيص أو غيره، لكونهم معتقدين أَنَّهُمْ بعد الموت إِلى رَبِّهِمْ و مليكهم راجِعُونَ و عن تقصيراتهم مسؤولون، لعلمه تعالى بما يخفى عليهم من الخلل و يؤاخذهم عليه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هي إشفاقهم و رجاؤهم؛ يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم إن لم يطيعوا اللّه عزّ ذكره و يرجون أن تقبل منهم» (4).

و عنه عليه السّلام: «وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ معناه خائفة أن لا يقبل منهم» (5). و في رواية: «يؤتى ما أتى و هو خائف راج» (6).

و عنه عليه السّلام في هذه الآية: «يعملون ما عملوا من عمل و هم يعلمون أنّهم يثابون عليه» (7).

و عنه عليه السّلام في رواية: ألا و من عرف حقّنا، و رجا الثّواب فينا، و رضي بقوته نصف مدّ في كلّ يوم، و ما ستر عورته، و ما أكنّ رأسه، و هم و اللّه في ذلك خائفون، ودّوا أنّه حظّهم من الدّنيا، و كذلك وصفهم اللّه تعالى فقال: وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا إلى آخره» .

ثمّ قال: «ما [الذي]آتوا؟ و اللّه الطاعة مع المحبّة و الولاية، و هم في ذلك خائفون، ليس خوفهم

ص: 384


1- . تفسير الرازي 23:106.
2- . تفسير الرازي 23:106.
3- . تفسير الرازي 23:106.
4- . الكافي 8:229/294، تفسير الصافي 3:402.
5- . مجمع البيان 7:176، تفسير الصافي 3:402.
6- . مجمع البيان 7:176، تفسير الصافي 3:402.
7- . المحاسن:247/252، تفسير الصافي 3:402.

خوف شكّ، و لكنّهم خافوا أن يكونوا مقصّرين في محبّتنا و طاعتنا» (1).

أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصفات الحميدة هم الذين بأعمالهم الصالحة يُسارِعُونَ إلى نيل المثوبات في الدّنيا و يتقلّبون فِي اَلْخَيْراتِ و المنافع الكثيرة في الدّارين كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ (2)وَ هُمْ لَها سابِقُونَ حيث عجّلت لهم في الدّنيا، و نالوها قبل الآخرة، فأثبت اللّه للمؤمنين ما نفاه عن الكفّار.

و في إسناد المسارعة إليهم إشعار بغاية استحقاقهم، فكأنّ اللّه قرّب إليهم الخيرات حتى يسارعوا إليها و يخيّروها.

و قيل: إنّ المراد من الخيرات الطاعات المؤدّية إلى الثواب، و المعنى يجتهدون في الطّاعات بأشدّ الشّوق و الرّغبة، و هم لأجلها سابقون النّاس خوفا من أن يدركهم الموت و يبتلوا بحسرة الفوت (3).

عن الباقر عليه السّلام: «هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، لم يسبقه أحد» (4).

أقول: يعني هو عليه السّلام أظهر مصاديقه.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 62

ثمّ رغّب سبحانه المؤمنين المهتمّين بالطّاعة فيها، ببيان منّته عليهم بتسهيل تكاليفه و وعدهم بالثّواب بقوله: وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً من النّفوس تكليفا إِلاّ ما كان وُسْعَها و دون طاقتها بحيث لا تكون في امتثاله مشقّة عليها وَ لَدَيْنا كِتابٌ مكتوب فيه أعمال النّاس أو طاعات المسارعين و السّابقين يَنْطِقُ و يبيّن الأعمال للنّاظرين فيه كالنّطق بها حال كونه ملتبسا بِالْحَقِّ و الصّدق و مطابقة الواقع كمّا و كيفا وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثّواب و ازدياد العقاب.

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)عن السجّاد عليه السّلام أنّه كان إذا دخل شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم حتى إذا كان آخر ليلة منه دعاهم، ثمّ أظهر لهم الكتاب و قال: «يا فلان فعلت كذا و كذا و لم اؤدّبك» فيقرّون أجمع، فيقوم وسطهم و يقول: «ارفعوا أصواتكم و قولوا: يا عليّ بن الحسين، ربّك قد أحصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا، ولديه كتاب ينطق بالحقّ لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها، فاذكر ذلّ مقامك بين يدي ربّك الذي لا يظلم مثقال ذرّة و كفى باللّه شهيدا، فاعف و اصفح يعف عنك المليك لقوله تعالى: وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَكُمْ (5)» و يبكي و ينوح (6).

ص: 385


1- . الكافي 2:330/15، تفسير الصافي 3:402.
2- . آل عمران:3/148.
3- . تفسير أبي السعود 6:140.
4- . تفسير القمي 2:92، تفسير الصافي 3:403.
5- . النور:24/22.
6- . مناقب ابن شهر آشوب 4:158، تفسير الصافي 3:403.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 63 الی 67

ثمّ ذمّ سبحانه الكفّار على غفلتهم من ذلك الكتاب بقوله: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ و غفلة ساترة لها مِنْ هذا الكتاب الذي فيه جميع أعمالهم، و قراءته عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فيجازون عليها، أو من هذا القرآن، أو من هذا الذي بيّناه فيه وَ لَهُمْ أَعْمالٌ سيّئة أخر كمعاداة الرّسول، و الطّعن فيه و في كتابه مِنْ دُونِ ما ذكر من الشّرك و الغفلة عن الآخرة، و سوى ذلِكَ هُمْ بخبث ذاتهم و رذالة أخلاقهم لَها عامِلُونَ و عليها مستمرّون

حَتّى إِذا أَخَذْنا و ابتلينا مُتْرَفِيهِمْ و متنعّميهم بِالْعَذابِ الدنيويّ و الاخروي إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ و يستغيثون، أو بأعلى صوتهم يضجّون،

فيقال لهم تقريعا و تبكيتا: لا تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ و لا تستغيثوا في هذا الوقت الّذي هو وقت إعطاء ما تستحقّون من الجزاء إِنَّكُمْ مِنّا لا تُنْصَرُونَ و لا تعاونون على ما دهمكم من العذاب،

و لا تنجون منه لأنّه قَدْ كانَتْ آياتِي القرآنيّة تُتْلى و تقرأ عَلَيْكُمْ في الدّنيا فَكُنْتُمْ عند سماعها عَلى أَعْقابِكُمْ من شدّة النّفرة و الإعراض عنها تَنْكِصُونَ و ترجعون القهقرى،

و الحال أنّكم (1)مُسْتَكْبِرِينَ بالتّباعد من القرآن و مكذّبين بِهِ.

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)و قيل: إنّ الضّمير راجع إلى الحرم، لكونهم مفتخرين به، و كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، و شهرتهم به كافية عن ذكره (2).

و قيل: إنّ بِهِ متعلّق بقوله: سامِراً و المعنى حال كونكم بذكر القرآن و بالطّعن فيه (3)كنتم سامِراً و متكلّما باللّيل. كما قيل: إنّهم كانوا يجتمعون باللّيل حول البيت و يسمرون و يتحدّثون بذكر القرآن و الطّعن فيه (4)، و تَهْجُرُونَ و تفحشون و تهزؤون بنسبته إلى الشّعر و السّحر و بسبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و القدح فيه.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 68 الی 70

أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)

ص: 386


1- . كذا، و لا تناسب النصب في الآية، و لعلها تصحيف (كونكم) .
2- . تفسير الرازي 23:111.
3- . تفسير الرازي 23:111، تفسير أبي السعود 6:143.
4- . تفسير الرازي 23:111، تفسير أبي السعود 6:143، تفسير روح البيان 6:93.

ثمّ وبّخهم سبحانه على عدم الإيمان بالقرآن بقوله: أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا هذا اَلْقَوْلَ و الكلام النّازل من اللّه، و لم يتفكّروا في وجوه إعجازه، و بداعة اسلوبه، و لطافة معانيه أَمْ جاءَهُمْ قيل: إنّ المعنى بل أجاءهم (1)ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ من الكتب السّماويّة حتى يستبعدوا إتيانه من السّماء و ينكروه، مع أنّ إنزال الكتب و إرسال الرّسل سنّة قديمة من اللّه تعالى بحيث لا يمكن إنكارها؟ فليس لإنكارهم كون القرآن كسائر الكتب نازلا من اللّه وجه.

ثمّ أنكر عليهم عدم إيمانهم بالرّسول بقوله: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالصّدق و الأمانة و حسن الأخلاق و كمال العلم مع اميّته و غيرها من كمالات الأنبياء فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ و لنبوّته جاحدون أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ و اختلال عقل، و لذا لا يعتنى بقوله؟ ليس الأمر كما يقولون بَلْ هو أعقل النّاس و جاءَهُمْ بِالْحَقِّ و الدّين الثّابت الّذي لا ينبغي الانحراف عنه وَ لكنّ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لمخالفته أهواءهم الزائغة و شهواتهم الباطلة، فلذا تمسّكوا بالتّقليد، و زاغوا عن نهج الحقّ و الدّين القويم، و أمّا الأقلّون منهم فإنّهم أعرضوا عن الحقّ لاستنكافهم من توبيخ قومهم، أو لعدم تفكّرهم فيه، أو لقصور العقل، لا للكراهة له.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 71 الی 74

ثمّ لمّا كان هوى المشركين في كون الشّرك و دينهم الباطل حقّا، ردّهم اللّه بقوله: وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ و الدّين أَهْواءَهُمْ و مشتهيات أنفسهم، و نزل القرآن موافقا لميل قلوبهم في الشّرك و تعدّد الآلهة لَفَسَدَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ من الملائكة و الثّقلين، لما سبق في سورة الأنبياء من دليل التّمانع، أو المراد لو اتّبع أحكام الإسلام أهواءهم مع تخالفها، لوقع التّناقض فيها، و لاختلّ نظام العالم.

وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)عن القمّي: الحقّ: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام. . . و فساد السماء: إذا لم تمطر، و فساد الأرض

ص: 387


1- . تفسير أبي السعود 6:143، تفسير روح البيان 6:94.

إذا لم تنبت، و فساد الناس في ذلك (1).

بَلْ أَتَيْناهُمْ و أنعمنا عليهم بِذِكْرِهِمْ و القرآن الذي فيه شرفهم و فخرهم وصيتهم، أو وعظهم و نصحهم، و ما فيه صلاحهم. و قيل: هو الذكر الذي كانوا يتمنّونه بقولهم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ* لَكُنّا عِبادَ اَللّهِ اَلْمُخْلَصِينَ (2).

فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ لغاية حمقهم مُعْرِضُونَ و به لا يعتنون، مع أنّ العاقل مشتاق إلى ما فيه خيره و شرفه

أَمْ يتوهّمون أنّك تَسْأَلُهُمْ و تطلب منهم خَرْجاً و أجرا على أداء الرسالة، فيمنعهم البخل بالمال، أو اتّهامك بكون دعواك الرسالة لجلب المال و حبّ الدنيا لا لإطاعة اللّه فَخَراجُ رَبِّكَ و رزقه الذي أوجبه لك على نفسه في الدنيا، و ثوابه الذي أعدّه لك في الآخرة خَيْرٌ من جميع ما بأيديهم من الأموال، بل من جميع الدّنيا لسعة عطائه و دوامه وَ هُوَ تعالى خَيْرُ اَلرّازِقِينَ و المعطين لعدم قدرة أحد على مثل عطائه،

فلا وجه لاعراضهم عنك و عدم إيمانهم بك وَ إِنَّكَ و اللّه لَتَدْعُوهُمْ و تهديهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى كلّ خير، و تأويله-كما عن القمّي-إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام (3).

وَ إِنَّ المشركين اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و لا يخافون عقاب اللّه في القيامة، لانهماكهم في الشهوات و حبّ الدنيا عَنِ هذا اَلصِّراطِ المستقيم لَناكِبُونَ و لعادلون؛ لأنّ خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحقّ.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه، و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و الوجه الذي يوتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا، فإنّهم عن الصراط لناكبون» (4).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ ذمّهم اللّه بغاية اللّجاج و التمرّد بقوله: وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ كالجوع و المرض و القتل و السبي لَلَجُّوا و تمادوا فِي طُغْيانِهِمْ و إفراطهم في الكفر و الشّقاق و عداوة

وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اِسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

ص: 388


1- . تفسير القمي 2:92، تفسير الصافي 3:405.
2- . تفسير الرازي 23:112، و الآية من سورة الصافات:37/169.
3- . تفسير القمي 2:92، تفسير الصافي 3:405.
4- . الكافي 1:141/9، تفسير الصافي 3:406.

الرسول حال كونهم يَعْمَهُونَ عن الهدى، و يتردّدون في شعب الضّلال،

لا يدرون الى أين يتوجّهون وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ و شدّة الجوع فَمَا اِسْتَكانُوا و ما تذلّلوا لِرَبِّهِمْ اللّطيف بهم وَ ما يَتَضَرَّعُونَ له أبدا.

روي أنه لمّا أسلم ثمامة بن اثال الحنفي، و لحق باليمامة، و منع الميرة عن أهل مكّة، و أخذهم اللّه بالسنين حتى أكلوا العلهز (1)-قيل: هو شيء يتخّذونه من الدم و الوبر (2)-و قيل: حتى أكلوا الجيف (3)، جاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة، فقال: أنشدك بالرّحم، أ لست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: «بلى» . فقال: قتلت الآباء بالسيف، و الأبناء بالجوع، فادع أن يكشف عنّا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم، فأنزل اللّه هاتين الآيتين (4).

و قيل: إنّ المراد بالعذاب القتل و الأسر يوم بدر (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «الاستكانة: هي الخضوع، و التضرّع: رفع اليدين و التضرّع بهما» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «الاستكانة: الدعاء، و التضرّع: رفع اليدين في الصلاة» (7).

و حاصل المراد: أنّهم أقاموا على الكفر و الاستكبار حَتّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ في الآخرة إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ و آيسون من النجاة و من كلّ خير.

قيل: هو باب من أبواب جهنّم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة (8)أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه اللّه عليهم (9).

و عن الصادق عليه السّلام: «ذلك حين دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: اللهمّ اجعل عليهم سنين كسنيّ يوسف، فجاعوا» (10).

و عن الباقر عليه السّلام: «هو في الرجعة» (11).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 78 الی 80

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اِخْتِلافُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80)

ص: 389


1- . تفسير أبي السعود 6:146، تفسير روح البيان 6:97.
2- . تفسير روح البيان 6:97.
3- . تفسير الرازي 23:113.
4- . تفسير الرازي 23:113، تفسير روح البيان 6:97.
5- . تفسير روح البيان 6:98.
6- . الكافي 2:349/6، تفسير الصافي 3:406.
7- . مجمع البيان 7:181، تفسير الصافي 3:406.
8- . كلح: تكشّر في عبوس، و قيل: الكلوح في الأصل بدوّ الأسنان عند العبوس.
9- . تفسير روح البيان 6:98. (10 و 11) . مجمع البيان 7:181، تفسير الصافي 3:406.

ثمّ ذكر سبحانه كمال قدرته و إنعامه عليهم بقوله: وَ هُوَ القادر و اَلَّذِي أَنْشَأَ، و خلق لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لتستعملوها في تحصيل معرفته، و لكن قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ نعمه العظام، بل تكفرونها باستعمالها في غير ما خلقت له.

ثمّ أردف ذكر هذه النّعم بذكر ما هو أعظم منها بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ و خلقكم أو بثّكم فِي اَلْأَرْضِ بالتناسل وَ إِلَيْهِ تعالى تُحْشَرُونَ و تجمعون بعد التفرّق،

و تعذّبون على كفران نعمه وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي الموتى وَ يُمِيتُ الأحياء بمقتضى فياضيّته و رحمته و حكمته وَ لَهُ اِخْتِلافُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ بالتعاقب و الزيادة و النقص أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيّها المشركون تلك الآيات الواضحة الدلالة على التوحيد و القدرة على إعادة الخلق للحساب.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 81 الی 83

ثمّ لمّا ذكر سبحانه الحشر، حكى من المشركين إنكاره بالتقليد و تبعية الآباء مع دلالة البراهين القاطعة عليه بقوله: بَلْ أعرضوا عن البراهين و قالُوا مِثْلَ ما قالَ اَلْأَوَّلُونَ و الكفار السابقون تقليدا لهم.

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ اَلْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (83)

ثمّ كأنّه قيل: ما قال المشركون؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالُوا انكارا للحشر أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا في القبور تُراباً وَ عِظاماً نخرة أَ إِنّا لمحيون ثانيا و لَمَبْعُوثُونَ و مخرجون من القبور؟ !

حاشا لا يكون ذلك أبدا بالإله الذي نعبده لَقَدْ وُعِدْنا تخويفا نَحْنُ وَ آباؤُنا الأقدمون هذا البعث البعيد في نظر العقل مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السابقة على مجيىء محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ بالغوا [في]إنكاره بقولهم: إِنْ هذا الوعد و ما ذلك الحديث إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أكاذيب السابقين التي لفّقوها و سطّروها في الدفاتر لتقرأ و يضحك منها.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 84 الی 90

ص: 390

ثمّ لمّا كان هذا الانكار لقصور عقوله عن إدراك كمال قدرة اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإلزامهم عليه، باعتراف بقدرته تعالى على ما هو أعظم من الإعادة بقوله: قُلْ يا محمد إلزاما لهم: يا أيها المشركون لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها من الموجودات و عجائب المخلوقات إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مبدعهما، أو تدركون شيئا؟

أجيبوني بعلم سَيَقُولُونَ و يعترفون البتة بأن كّلها لِلّهِ وحده خلقا و تصرّفا و تدبيرا. لاضطرارهم إلى الاعتراف بما هو بديهي العقل، فاذا اعترفوا بذلك قُلْ حثّا لهم على التفكّر و التدبّر أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و تنتبهون أنّ من كان قادرا على إبداع تلك الموجودات العظيمة العجيبة، [فهو]

قادر على إعادتكم للحساب بطريق أولى، لأنّ الإعادة أهون من الابداع أوّلا بلا مثال سابق.

قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ اَلسَّبْعِ وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ فَأَنّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّرقي في إلزامهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: قولوا لي مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ اَلسَّبْعِ التي هي أعظم من جميع الموجودات وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ كلّها لِلّهِ وحده خلقا و ترتيبا قُلْ: بعد اعترافهم بما هو ضروري العقل توبيخا لهم: أَ فَلا تَتَّقُونَ عذابه على الشّرك بتركه، و على إنكار البعث بالاقرار به؟ و إنّما قدّم التذكّر على التقوى لكون التذكّر موجبا للمعرفة التي هي باعثة على الاتّقاء

قُلْ لهم: مَنْ بِيَدِهِ و في قدرته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ و وجوده، أو سلطانه و التصرّف و التدبير فيه وَ هُوَ يُجِيرُ و يغيث كلّ مستغيث وَ لا يُجارُ و لا يغاث عَلَيْهِ من أحد لعدم احتياجه و اضطراره؟ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك،

فأخبروني سَيَقُولُونَ لِلّهِ الملك و الملكوت و الجوار قُلْ فَأَنّى تُسْحَرُونَ و من أين تخدعون، و عن الرشد تصرفون؟

مع علمكم بأنّ ما أنتم عليه من الشرك و إنكار البعث عين الضّلال بَلْ لم يبق لهم عذر إذ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ و أنزلنا عليهم دين الاسلام الذي حقيقته معرفة المبدأ و المعاد، و بالغنا في الحجاج وَ إِنَّهُمْ مع ذلك لَكاذِبُونَ في قولهم بالشّرك و إنكار البعث و مصرّون عليها.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 91 الی 92

ثمّ بالغ سبحانه في إبطال الشّرك بأقسامه بقوله: مَا اِتَّخَذَ اَللّهُ و ما أختار لنفسه مِنْ وَلَدٍ كما يقول به اليهود و النصارى و بعض فرق المشركين لوجوب المماثلة و المجانسة بين الزّوج و الزّوجة

ص: 391

و الوالد و الولد، و امتناعهما بينه تعالى و بين ما سواه وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ لأنّه إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ و انفرد كلّ خالق بِما خَلَقَ و استبدّ به و امتاز ملك كلّ عن ملك الآخر، كما هو دأب الملوك وَ لَعَلا و غلب بَعْضُهُمْ في الملك عَلى بَعْضٍ آخر كما هو العادة الجارية بين الملوك، فلم يكن بيد أحد منهم ملكوت كلّ شيء، فوحدة الملك و اتّساق النّظام أقوى دليل على وحدة الإله.

مَا اِتَّخَذَ اَللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (92)ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الندّ و الولد بقوله: سُبْحانَ اَللّهِ و تنزّه عَمّا يَصِفُونَ ربّهم من كونه ذا ولد و شريك.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بسعة علمه بقوله: عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ و السرّ و العلانية التي تكون لجميع الموجودات بالاحاطة و القيمومية، و لو لم يكن جميعها مخلوقاته لم يكن له العلم بجميعها و ليس لغيره ذلك، فكيف يمكن أن يكون له شريك مساو له في الالوهية فَتَعالى شأنه، و تقدّس عَمّا يُشْرِكُونَ به ممّا لا علم له بشيء.

قيل: في ذكر الوصفين إشعار بوعيد المشركين (1).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 93 الی 94

ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستعاذة ممّا وعدهم من العذاب بقوله: قُلْ يا محمّد، متضرّعا إلي: يا رَبِّ إِمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ قيل: يعني يا ربّ إن كان و لا بدّ أن تريني ما وعدت المشركين من العذاب المستأصل في الدنيا (2)

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي و لا تبقني فِي اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ و أخرجني من بينهم لئلاّ يصيبني ما يصيبهم من العذاب.

قُلْ رَبِّ إِمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (94)و فيه بيان لغاية فضاعة ما وعدوه، بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد أن يحيق به، و ردّ لإنكارهم إيّاه و استعجالهم له بطريق الاستهزاء.

قيل: هضما لنفسه، أو إنّما أمر صلّى اللّه عليه و آله بهذا القول؛ لأنّ شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم، كما قال تعالى: وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (3).

روي أنه لمّا أخبر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن له في أمّته نقمة و لم يطلعه على وقتها، أمره بهذا الدعاء (4).

في (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنه قال في حجّة الوداع و هو بمنى: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب

ص: 392


1- . تفسير الرازي 23:117.
2- . تفسير الرازي 23:117، تفسير روح البيان 6:103.
3- . تفسير أبي السعود 6:149، و الآية من سورة الأنفال:8/25.
4- . تفسير أبي السعود 6:149.

بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفني في كتيبة يضاربونكم» قال الراوي: فغمز من خلف منكبه الأيسر، فالتفت فقال: «أو عليّ» فنزلت (1).

و عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد خطبنا يوم الفتح: «أيها الناس، لأعرفنّكم (2)ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض، و لئن فعلتم ذلك أضربكم بالسيف» ثمّ التفت عن يمينه فقال الناس: غمزه جبرئيل، فقال له: أو عليّ فقال: «أو عليّ» (3).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام قال: «فنزل عليه جبرئيل فقال: يا محمّد، [قل]إن شاء اللّه، أو يكون ذلك علي بن أبي طالب (4). فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أو يكون ذلك علي بن أبي طالب إن شاء اللّه. فقال له جبرئيل: واحدة لك، و اثنتان لعليّ، و موعدكم السّلام» (5).

فقال أبان بن تغلب راوي الحديث: جعلت فداك، و أين السّلام؟ فقال: «يا أبان، السّلام من ظهر الكوفة» (6).

أقول: الظاهر أنّه يكون في الرّجعة، كما قال به الفيض رحمه اللّه (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 95 الی 98

ثمّ لمّا كان المشركون يستهزئون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوعده بالعذاب، أعلن سبحانه بقدرته على إنزاله بقوله: وَ إِنّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ في حياتك ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ البتة، و لكن المحكمة البالغة اقتضت تأخيره.

وَ إِنّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اَلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ اَلشَّياطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالحلم و الصّفح بقوله: اِدْفَعْ يا محمّد بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طرق الدفاع-و هي خصلة الصّفح و الحلم-أعمالهم اَلسَّيِّئَةَ من التكذيب و الاستهزاء و الإيذاء (8).

عن الصادق عليه السّلام: «التي هي أحسن: التقيّة» (9)

أقول: يعني أنّها منها.

ص: 393


1- . مجمع البيان 7:186، تفسير الصافي 3:408.
2- . في النسخة: لاعرفتكم.
3- . مختصر البصائر:21، تفسير الصافي 3:408.
4- . زاد في مختصر البصائر: إن شاء اللّه.
5- . في مختصر البصائر: السلم، و كذا الذي بعدها.
6- . مختصر البصائر:19، تفسير الصافي 3:409.
7- . تفسير الصافي 3:409.
8- . في النسخة: و الإبداء.
9- . المحاسن:257/297، تفسير الصافي 3:409.

ثمّ سلّى سبحانه قلبه الشريف بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ جنابك به من الجنون و الشّعر و الكهانة فنجازيهم أسوأ الجزاء.

ثمّ لمّا كان الطيش و قلّة الصبر من الشيطان، أمره بالاستعاذة منه بقوله: وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ اَلشَّياطِينِ و وساوسهم المغوية على خلاف رضاك

وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ من أَنْ يَحْضُرُونِ عندي و يحومون حولي في حال الغضب و الرضا و الشدّة و الرّجاء و غيرهما.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه كان عند استفتاح الصلاة يقول: «لا إله إلاّ اللّه» ثلاثا، «و اللّه أكبر» ثلاثا، و «اللهمّ إني أعوذ بك من همزات الشياطين و لمّها (1)و نفثها و نفخها، و أعوذ بك ربّ أن يحضرون» (2).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ هدّد المشركين على استمرارهم في وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بما ليس فيه بقوله: حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ و عاين أحوال البرزخ قالَ تحسّرا على ما فرّط فيه من الايمان و العمل الصالح: يا رَبِّ اِرْجِعُونِ إلى الدنيا لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ و في زمان قصّرت في الايمان و العمل من أيام عمري في الدنيا.

حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)قيل: إن خطاب اللّه بلفظ الجمع للتعظيم (3).

و قيل: إنّ ذكر الربّ قسم (4)، و خطاب اِرْجِعُونِ للملائكة، و الظاهر أنّ المراد من (أحدهم) الكفّار. و قيل: إنّه يعمّ المؤمنين المقصّرين (3).

عن الضحاك قال: كنت جالسا عند ابن عباس، فقال: من لم يزكّ و لم يحجّ سأل الرجعة عند الموت، [فقال ابن عباس رضى اللّه عنه: أنا أقرأ عليك به قرآنا]فيقول: رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصّالِحِينَ (4).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا حضر الانسان الموت جمع كلّ شيء كان يمنعه من حقّه بين يديه، فعنده يقول: رَبِّ اِرْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» (5).

ص: 394


1- . في تفسير روح البيان: الشياطين من همزها. و في تفسير الرازي: الشياطين همزه و نفثه و نفخه.
2- . تفسير الرازي 23:119، تفسير روح البيان 6:104. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:120، تفسير روح البيان 6:105.
3- . تفسير روح البيان 6:106.
4- . المنافقون:63/10.
5- . تفسير الرازي 23:119.

قيل: إن الاستغاثة (1)بهذا البيان حسنة و لو مع العلم بامتناع الرجوع؛ لأنه من باب التمنّي (2).

ثمّ ردعهم اللّه من هذا القول بقوله: كَلاّ لا رجوع لك إلى الدنيا أبدا، ثمّ أقنطهم بعد كلمة اِرْجِعُونِ بقوله: إِنَّها كَلِمَةٌ و لفظة صرفة لا يعمل بها، و إنّما هُوَ عند الموت قائِلُها تحسّرا و تندّما وَ مِنْ وَرائِهِمْ و خلفهم أو أمامهم بَرْزَخٌ و حاجز بينهم و بين الرجوع و هو الموت، أو عالم يعذّبون فيه إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 101

ثمّ بيّن سبحانه كيفية ذلك اليوم بقوله: فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ النفخة الثانية التي يحيا بها الأموات فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ تفيدهم يَوْمَئِذٍ و تنجيهم من أهواله، و زال التراحم و التعاطف من قلوبهم وَ لا يَتَساءَلُونَ فيما بينهم عنها، و لا يقول أحد لأحد: أنت ابن من، و أبو من، و من أيّ قبيلة و عشيرة؟ بل يفرّ المرء من فرط الدهشة و الوحشة من أخيه و صاحبته و بنيه.

فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101)روي أنّ عائشة قالت: يا رسول اللّه، أما نتعارف يوم القيامة؟ إنّي أسمع اللّه يقول: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاثة مواطن تذهل فيها كلّ نفس: حين يرمى إلى كلّ إنسان كتابه، و عند الموازين، و على جسر جهنّم» (3).

في (روح البيان) عن الأصمعي، أنه قال: كنت أطوف بالكعبة في ليلة مقمرة، فسمعت صوتا حزينا فتبعته، فاذا أنا بشابّ حسن ظريف متعلّق بأستار الكعبة، و هو يقول: «نامت العيون، و غارت النجوم، و أنت الملك الحيّ القيوم، قد غلّقت الملوك أبوابها، و أقامت عليها حرّاسها (4)و حجّابها، و بابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك، مذنبا فقيرا مسكينا أسيرا، جئتك (5)انتظر رحمتك يا أرحم الراحمين» . ثمّ أنشأ يقول:

يا من يجيب دعا المضطرّ في الظّلم *** يا كاشف الضّرّ و البلوى مع السّقم

قد نام وفدك (6)حول البيت قاطبة (7) *** و أنت وحدك (8)يا قيّوم لم تنم

أدعوك ربّي و مولاي و معتمدي (9) *** فارحم بكائي بحقّ البيت و الحرم

أنت الغفور فجد لي منك مغفرة *** أو اعف عنّي يا ذا الجود و النّعم

ص: 395


1- . في تفسير الرازي: الاستعانة.
2- . تفسير الرازي 23:120.
3- . تفسير الرازي 23:122، تفسير روح البيان 6:107.
4- . في المصدر: حرسها.
5- . في المصدر: جئت.
6- . في المصدر: وفدي.
7- . في المصدر: و انتبهوا.
8- . في المصدر: يا حيّ.
9- . في المصدر: و مستندي.

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف (1) *** فمن يجود على العاصين بالكرم

ثمّ رفع رأسه نحو السماء، و هو ينادي: «يا إلهي و سيدي و مولاي، إن أطعتك فلك المنّة عليّ، و إن عصيتك فبجهلي فلك الحجّة عليّ، اللهم فبإظهار منّتك عليّ و إثبات حجّتك لديّ ارحمني و اغفر لي ذنوبي، و لا تحرمني رؤية جدّي و قرة عيني و حبيبك و صفيّك و نبيّك محمّد صلّى اللّه عليه و آله» ، ثمّ أنشأ يقول:

ألا أيّها المأمول في كلّ شدة *** إليك شكوت الضرّ فارحم شكايتي

ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي *** فهب لي ذنوبي كلّها و اقض حاجتي

فزادي قليل لا أراه مبلّغي *** على الزاد أبكي أم لطول (2)مسافتي

أتيت بأعمال قباح رديّة *** و ما في الورى عبد (3)جنى كجنايتي

فكان يكرّر هذه الأبيات حتى سقط مغشيا عليه، فدنوت منه فاذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، فوضعت رأسه في حجري، و بكيت لبكائه بكاء شديدا شفقة عليه، فقطر من دموعي على وجهه، فأفاق من غشيته و فتح عينيه و قال: «من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟» فقلت: أنا الأصمعي يا سيدي، ما هذا البكاء، و ما هذا الجزع، و أنت من أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة؟ أ ليس اللّه يقول: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً؟ ! (4)

قال: فاستوى جالسا، و قال: «يا أصمعي هيهات، إنّ اللّه خلق الجنة لمن أطاعه و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و إن كان ملكا قرشيا، أما سمعت قول اللّه تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ» (5).

و اعترض بعض الملاحدة على القرآن المجيد بوقوع التناقض بين قوله: وَ لا يَتَساءَلُونَ و قوله: وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (6)و بين قوله: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (7)و قوله: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ (8)و قد مرّ الجواب عنه في بعض الطرائف (9).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 102 الی 104

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (104)

ص: 396


1- . في المصدر: جرم.
2- . في المصدر: لبعد.
3- . في المصدر: خلق.
4- . الأحزاب:33/33.
5- . تفسير روح البيان 6:107.
6- . المعارج:70/10.
7- . الصافات:37/27.
8- . يونس:10/45.
9- . تقدم في الطرفة (26) من مقدمة المصنف.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية المحاسبة و حسن حال المؤمنين بقوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ و رجحت حسناته على سيئاته في ميزان الأعمال فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ الفائزون بالجنّة و النّعم الدائمة.

ثمّ بيّن سوء حال الكفّار بقوله: وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ و رجحت سيئاته على حسناته فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع ما أعطاهم اللّه من الاستعداد و الجوارح و القوى الظاهرية و الباطنية و العمر و العقل، ليحصّلوا بها السعادة الأبدية و النّعم الدائمة.

عن ابن عبّاس: يعني غبنوا بها (1)بأن صارت منازلهم في الجنة للمؤمنين (2).

و قيل: يعني امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب (3). و هم فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ و مقيمون أبدا.

ثمّ بيّن سبحانه بعض شدائد عذابهم في جهنّم تهويلا للقلوب بقوله: تَلْفَحُ و تحرق وُجُوهَهُمُ اَلنّارُ عن ابن عباس: أي تضرب و تأكل لحومهم و جلودهم (4)وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ و متقلّصو الشّفتين من شدّة الاحتراق.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «تشويه النار، فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، و تسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرّته» (5).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 105 الی 108

ثمّ بيّن عذابهم الروحاني بتقريعهم و توبيخهم بقوله: أَ لَمْ تَكُنْ أيّها المشركون آياتِي و مواعظي و زواجري تُتْلى و تقرأ عَلَيْكُمْ في الدنيا فَكُنْتُمْ بِها حينئذ تُكَذِّبُونَ

و تستهزئون قالُوا اعترافا بتقصيرهم: يا رَبَّنا غَلَبَتْ و استولت عَلَيْنا شِقْوَتُنا و ملكتنا شهواتنا المؤدية إلى العاقبة السيئة و الجحيم الحاطمة. عن الصادق عليه السّلام: «بالأعمال شقوا» (6)ففعلنا ما فعلنا من تكذيب الرسل و الآيات و الأعمال القبيحة وَ كُنّا قَوْماً ضالِّينَ و ناسا منحرفين عن الصراط المستقيم،

و سالكين طريق الجحيم حتى وقعنا فيها رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها و أعدنا إلى الدنيا فَإِنْ عُدْنا إلى ما كنّا فيه من الشّرك و التكذيب فَإِنّا ظالِمُونَ و مبالغون في التعدّي عن حدود

أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنّا ظالِمُونَ (107) قالَ اِخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108)

ص: 397


1- . في تفسير الرازي: غبنوها.
2- . تفسير الرازي 23:123.
3- . تفسير الرازي 23:123.
4- . تفسير الرازي 23:123.
5- . تفسير الرازي 23:123، تفسير روح البيان 6:109.
6- . التوحيد:356/2، تفسير الصافي 3:411، و فيهما: بأعمالهم شقوا.

العقل

قالَ تعالى قهرا عليهم: اِخْسَؤُا فِيها و انزجروا زجر الكلاب و أسكتوا سكوت الذّلّ و الهوان وَ لا تُكَلِّمُونِ بشيء من الاعتذار، و لا تسألوا رفع العذاب عنكم أو تخفيفه، لعدم قابليته للقبول و الاجابة.

قيل: هو آخر كلام يتكلّمون به، ثمّ ليس لهم بعد ذلك إلاّ الزّفير و الشهيق و العواء كعواء الكلب (1).

عن ابن عباس: لهم ستّ دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا فيجابون: حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي (2). ثمّ ينادون ألف سنة ثانية: رَبَّنا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فيجابون: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اَللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ (3). ثمّ ينادون ألف سنة ثالثة: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ فيجابون: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (4). ثمّ ينادون ألف سنة رابعة: رَبَّنا أَخِّرْنا فيجابون: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (5). ثمّ ينادون ألف سنة خامسة: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً فيجابون أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ (6)ثمّ ينادون ألف سنة سادسة رَبِّ اِرْجِعُونِ فيجابون: اِخْسَؤُا فِيها (7).

و عن القمّي: بلغني و اللّه أعلم أنّهم يتداكّون بعضهم على بعض سبعين عاما حتّى ينتهوا إلى قعر الجحيم (8).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 109 الی 114

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم العذاب المهين بقوله: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي و طائفة من المؤمنين بوحدانيتي و رسالة رسولي يَقُولُونَ في الدنيا: رَبَّنا آمَنّا بك و بما جاء به رسولك، و صدّقنا جميع ما أردت تصديقه منّا فَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا، و استرها بكرمك وَ اِرْحَمْنا و أنعم علينا بنعمك الواسعة الدنيوية و الاخروية وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ

و أفضل المنعمين فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)

ص: 398


1- . تفسير الرازي 23:125.
2- . السجدة:2/12 و 13.
3- . غافر:40/11 و 12.
4- . الزخرف:43/77.
5- . إبراهيم:14/44.
6- . فاطر:35/37.
7- . تفسير الرازي 23:125.
8- . تفسير القمي 2:94، تفسير الصافي 3:412.

سِخْرِيًّا و تشاغلتم بالاستهزاء بهم حَتّى أَنْسَوْكُمْ اولئك المؤمنون بسبب الاستهزاء بهم ذِكْرِي و التدبّر في آياتي، و أداء شكري، و العمل بطاعتي، فلم تخافوني في الاهانة بأوليائي وَ كُنْتُمْ مبالغين في الاستهزاء بهم، حتّى إنّكم كنتم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ.

قيل: إن رؤساء قريش كأبي جهل و عتبة و أبي بن خلف، كانوا يستهزئون بأصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يضحكون بالفقراء منهم مثل بلال و خبّاب و عمّار و صهيب (1).

ثمّ بيّن سبحانه من حال المؤمنين عنده ما يوجب ازدياد أسف المستهزئين و حسرتهم بقوله: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ الجنّة و نعمها بِما صَبَرُوا على استهزائكم بهم و إيذائكم لهم أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفائِزُونَ بجميع مقاصدهم من الايمان و الأعمال الصالحة و النّعم الاخروية.

ثمّ أنّه تعالى بعد إقناطهم من الرجوع إلى الدنيا قالَ لهم تذكيرا لقلّة مكثهم فيها، أو قال الملك المأمور بالسؤال عنهم: كَمْ لَبِثْتُمْ و أيّ مقدار من الزمان مكثتم فِي اَلْأَرْضِ التي تدّعون الرجوع إليها عَدَدَ سِنِينَ و من حيث تعداد الأعوام

قالُوا استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى مدّة إقامتهم في النار، أو بالنظر إلى انقضائها، فإنّ المنقضي في النظر قليل، أو بالنظر إلى كونها أيّام سرورهم و هي قصار: لَبِثْنا و مكثنا فيها يَوْماً واحدا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ و إن أردت تحقيق المدّة فَسْئَلِ اَلْعادِّينَ و المتمكّنين من تعداد الأيام و السنين، فانّا بسبب ما دهمنا من العذاب لا يمكننا إحصاؤها.

و قيل: إنّ المراد من العادّين الملائكة العادّون لأعمار الناس و أنفاسهم و أعمالهم (2).

القمي، قال: يعني سل الملائكة الذين يعدّون علينا الأيام، و يكتبون ساعاتنا و أعمالنا التي اكتسبناها فيها (3).

قالَ اللّه تعالى أو الملك: إِنْ لَبِثْتُمْ و ما مكثتم في الدنيا متمتّعين بنعمها إِلاّ زمانا قَلِيلاً لم يكن للعاقل أن يعتدّ بالتنعّم و التلذّذ فيه، و أنتم انهمكتم في الشهوات في ذلك الزمان القليل، و غفلتم عن سوء العاقبة، و أتّبعتم هوى أنفسكم، و هيّأتم لها بأعمالكم العذاب المخلّد، و أهلكتموها إلى الأبد، و حرمتموها من النّعم التي ليس لها حدّ و لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سوء عاقبة التنعّم في الدنيا و الغفلة عن الآخرة، لما فعلتم ما فعلتم، أو لو كنتم تعلمون الحشر و البعث لعلمتم قلّة لبثكم في الدنيا كما علمتم اليوم.

ص: 399


1- . تفسير الرازي 23:125.
2- . تفسير روح البيان 6:110.
3- . تفسير القمي 2:95 تفسير الصافي 3:412.

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 115 الی 116

ثمّ وبّخهم سبحانه على إنكارهم البعث مع دلالة البرهان القاطع عليه و غفلتهم عنه بقوله: أَ فَحَسِبْتُمْ قيل: التقدير أغفلتم عن البعث فحسبتم (1)أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً و لعبا بلا حكمة و صلاح وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ بل تموتون و تفتّتون (2).

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اَللّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ (116)عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقه عبثا، و لم يتركهم سدى، بل خلقهم لاظهار قدرته، و ليكلّفهم طاعته، فيستوجبوا بذلك رضوانه، و ما خلقهم ليجلب منهم منفعة، و لا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم و يوصلهم إلى النعيم» (3).

و عنه عليه السّلام أنّه قيل له: خلقنا للفناء؟ فقال: «خلقنا للبقاء، و كيف و جنّته لا تبيد، و ناره (4)لا تخمد، و لكن [قل:]إنّما نتحوّل من دار إلى دار» (5).

ثّم نزّه سبحانه ذاته المقدسة عن العبث بقوله: فَتَعالَى اَللّهُ و ارتفع بذاته عن العبث، و تقدّس عن اللغو، و تنزّه عن فعل ما لا حكمة فيه لأنّه اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ و السلطان الحقيق بالسلطنة، الغنيّ بذاته عمّا سواه، و كلّ شيء محتاج إليه.

قيل: إنّ الحقّ هو الموجد للشيء بمقتضى الحكمة (6)، و الثابت الذي لا يزول ذاته، و لا يبيد ملكه و قدرته، و لذا لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه.

ثمّ قرّر كمال سلطنته و استحقاقه العبادة بقوله: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ فكيف بما هو دونه و تحته، و إنما وصف العرش بالكريم لنزول الرحمة و البركات منه، أو لانتسابه إلى اللّه الكريم.

و قيل: إنّ المراد بالعرش هنا السماوات و ما فيها (7).

سوره 23 (المؤمنون): آیه شماره 117 الی 118

ثمّ هدّد المشركين بقوله: وَ مَنْ يَدْعُ و يعبد مَعَ اَللّهِ المتفرّد بالالوهية إِلهاً و معبودا آخَرَ مع أنّه لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ و لا حجّة على جواز عبادته فَإِنَّما حِسابُهُ و جزاؤه اللائق به

وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلْكافِرُونَ (117) وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ (118)

ص: 400


1- . تفسير روح البيان 6:111.
2- . في النسخة: و تفتّون.
3- . علل الشرائع:9/2، تفسير الصافي 3:412.
4- . في علل الشرائع: و كيف تفنى جنة لا تبيد، و نار.
5- . علل الشرائع:11/5، تفسير الصافي 3:412.
6- . تفسير روح البيان 6:112.
7- . تفسير الرازي 23:128.

عِنْدَ رَبِّهِ و عقوبته بيده لعدم قدرة غيره عليها.

ثمّ نبّه سبحانه عليها إجمالا بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا يفوز بالمقصود من النجاة من العذاب و النيل بالثواب اَلْكافِرُونَ بتوحيد اللّه، و من بدائع السورة أنّه تعالى افتتحها بثبوت الفلاح للمؤمنين، و ختمها بنفيه عن الكافرين.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بموافقة المؤمنين في التضرّع و طلب المغفرة رغما للكفار المستهزئين بهم بقوله: وَ قُلْ يا محمد رَبِّ اِغْفِرْ لي خطاياي وَ اِرْحَمْ ذلّي و فقري و حاجتي وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّاحِمِينَ فانّ رحمة من سواك قطرة من بحار رحمتك الواسعة.

روي أنّ أول هذه السورة و آخرها من كنوز العرش، من عمل بثلاث آيات من أولها، و اتّعظ بأربع آيات من آخرها، فقد نجا و أفلح (1).

و في رواية، قال عليه السّلام: «لقد انزل عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة» ثمّ قرأ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنين حتى ختم العشر (2).

و عن عبد اللّه بن مسعود: أنّه مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في اذنه أَ فَحَسِبْتُمْ [حتى ختم السورة، فبرئ بإذن اللّه.] (3).

ص: 401


1- . تفسير الرازي 23:128، تفسير البيضاوي 2:114، تفسير روح البيان 6:113.
2- . تفسير البيضاوي 2:114، تفسير روح البيان 6:113.
3- . تفسير روح البيان 6:113.

ص: 402

في تفسير سورة النور

سوره 24 (النور): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت السورة المباركة المتضمّنة لاثبات التوحيد و المعاد و إبطال الشّرك، و المفتتحة بالوعد بالفلاع بالمؤمنين المختتمة بسلبه عن الكافرين و حثّ العباد على العمل بأحكام اللّه و إيجاب حفظ الفرج عن الحرام، نظمت سورة النور المشتملة على تأكيد تلك المطالب العالية، و بيان حرمة الزنا، و تزويج المشركات و المشركين، و إيجاب حدّ الزاني و الزانية، و حكم رمي الزوج زوجته بالزنا، و رمي الأجنبي الأجنبية المحصنة به، و وجوب التعفّف عليهنّ، و غير ذلك من أحكام النساء، و لذا روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في رواية: «و علموهنّ سورة النور و المغزل» (1). فافتتحها سبحانه بذكر أسمائه الحسنى على حسب دأبه و رسمة سبحانه في الكتاب الكريم بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (2)ثمّ مدح سبحانه السورة و عظّمها بقوله: سُورَةٌ قيل: إنّ التقدير هذه سورة (2). و قيل: لمّا أمر في آخر السورة السابقة بسؤال الرحمة، أجابه بأن من رحمتنا عليك سورة عظيمة الشأن، و قطعة كريمة من القرآن الكريم (3)، نحن أَنْزَلْناها عليك من اللّوح المحفوظ بتوسّط أمين الوحي وَ فَرَضْناها و أوجبنا العمل بما فيها من الأحكام وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالات على الأحكام، و ما فيها من المطالب العالية لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و تستحضرون مضامينها، أو المراد كي تتعظوا و تتقوا المحارم.

ص: 403


1- . مجمع البيان 7:194، تفسير روح البيان 6:113.
2- . تفسير الرازي 23:129.
3- . تفسير روح البيان 6:113.

ثمّ شرع سبحانه في بيان الأحكام، فابتدأ بذكر حدّ الزنا اهتماما بالرّدع عنه بقوله: اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي إن كانا غير محصنين فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما بانفراده مِائَةَ جَلْدَةٍ.

عن الصادق عليه السّلام: «الحرّ و الحرّة إذا زنيا جلد كلّ واحد منهما مائة جلدة، فأما المحصن و المحصنة فعليهما الرّجم» (1).

و في رواية عنه عليه السّلام: «و في البكر و البكرة جلد مائة و نفي سنه في غير مصرهما» (2).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن المحصن فقال: «الذي يزني و عنده ما يغنيه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «من كان عنده فرج يغدو عليه و يروح فهو محصن» (4).

و عن الأصبغ بن نباتة: أنّ عمر أتي بخمسة نفر أخذوا في الزنا، فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ، و كان أمير المؤمنين عليه السّلام حاضرا، فقال: «يا عمر، ليس هذا حكمهم» قال: فأقم أنت الحدّ عليهم، فقدّم واحدا منهم فضرب عنقه، و قدّم الآخر فرجمه، و قدّم الثالث فضربه الحدّ، و قدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، و قدّم الخامس فعزّره، فتحيّر عمر، و تعجّب الناس. فقال له عمر: يا أبا حسن، خمسة نفر في قضية واحدة، أقمت عليهم خمسة حدود ليس شيء منها يشبه الآخر؟

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أمّا الأول فكان ذمّيا فخرج عن ذمّته، و لم يكن له حد إلأ السيف، و أما الثاني فرجل محصن كان حدّه الرّجم، و أمّا الثالث فغير محصن حدّه الجلد، و أمّا الرابع فعبد ضربناه نصف الحدّ، و أمّا الخامس فمجنون مغلوب على عقله» (5).

و عن القمي مثله إلاّ أنه قال: ستّة نفر، و خلّى سبيل السادس قال: «و أمّا الخامس فكان منه ذلك الفعل بالشّبهة فعزّرناه و أدّبناه، و أمّا السادس فمجنون مغلوب على عقله سقط عنه التكليف» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا يرجم الرجل و لا المرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع و الإيلاج و الإدخال كالميل في المكحلة» (7).

أقول: و كذا في الجلد.

و عن الباقر عليه السّلام قال: «يضرب الرجل الحدّ قائما و المرأة قاعدة، و يضرب كلّ عضو و يترك الرأس

ص: 404


1- . الكافي 7:177/2، التهذيب 10:3/6، تفسير الصافي 3:414.
2- . الكافي 7:177/7، التهذيب 10:3/9، تفسير الصافي 3:414.
3- . الكافي 7:178/4، التهذيب 10:12/27، تفسير الصافي 3:415.
4- . الكافي 7:179/10، التهذيب 10:12/28، تفسير الصافي 3:415.
5- . تفسير الصافي 3:415.
6- . تفسير القمي 2:96، تفسير الصافي 3:415.
7- . الكافي 7:184/4، تفسير الصافي 3:415.

و المذاكير» (1).

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الزاني كيف يجلد قال: «أشدّ الجلد» فقيل: فوق الثياب؟ فقال: «لا بل يجرّد» (2)

وَ لا تَأْخُذْكُمْ أيّها المؤمنون أو الولاة بِهِما رَأْفَةٌ و رحمة و إن كانت أقلّ قليل فِي إطاعة أحكام دِينِ اَللّهِ و إجراء حدوده، فتعطّلوها أو تسامحوا فيها إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ، فانّ الإيمان بهما باعث على الاهتمام و الجدّ في طاعة اللّه، و العمل بأحكامه و إجراء حدوده.

روي أنّه يوتى بوال نقص من حدّ سوطا فيقال له: لم نقصت؟ فيقول: رحمة لعبادك. فيقال له: أنت أرحم منّي بعبادي! انطلقوا به إلى النار (3).

وَ لْيَشْهَدْ و ليحضر عَذابَهُما و جلدهما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لأجل التشهير حتى يرتدع الناس عن فعلهما.

قيل: إن تخصيص المؤمنين بالحضور و الشهود، لئلا تكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار عن قبول الاسلام، و لذلك كره إقامته في أرض العدوّ.

عن الباقر عليه السّلام قال: «وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما يقول: ضربهما طائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ يجمع لهما الناس إذا جلدوا» (3).

و عن ابن عباس: أقلّ الطائفة أربعة، و قيل: ثلاثة، و قيل: اثنان (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «الطائفة واحد» (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «الطائفة الحاضرة هي الواحدة» (6).

و عنه عليه السّلام أيضا: «أنّ أقلّها رجل واحد» (7).

سوره 24 (النور): آیه شماره 3

اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (8)

ص: 405


1- . الكافي 7:183/1، التهذيب 10:31/104، تفسير الصافي 3:415.
2- . الكافي 7:183/3، تفسير الصافي 3:415.
3- . تفسير القمي 2:95، تفسير الصافي 3:416.
4- . تفسير الرازي 23:149.
5- . التهذيب 10:150/33، تفسير الصافي 3:416.
6- . عوالي اللآلي 2:153/428، و فيه: الحاضرة للحدّ، هي الواحدة، تفسير الصافي 3:416.
7- . جوامع الجامع:312، تفسير الصافي 3:416.
8- . تفسير الرازي 23:148، تفسير روح البيان 6:115.

ثمّ أنه تعالى بعد بيان حدّ الزنا و الزجر عنه، نهى عن نكاح الزواني قبل التوبة بقوله: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ و لا يتزوّج إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً و لا يرغب في نكاح المؤمنة الصالحة لعدم السّنخية و المشاكلة بينهما وَ اَلزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها و لا يرغب في تزويجها إِلاّ رجل زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.

روي أنّه كانت في المدينة بغايا و زانيات ذوات الأعلام من اليهود و المشركين موسرات، فرغب بعض فقراء المهاجرين في نكاحهنّ لينفقن عليهم من أكسابهنّ على عادة الجاهليّة، فاستاذنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ذلك، فنزلت الآية في ردعهم عنه ببيان أنّ نكاحهنّ من خصائص الزواني و المشركين، حيث إنّ الزاني لا يرغب إلاّ في نكاح الزانية و المشركة، و الزانية لا ترغب إلاّ في نكاح الزاني و المشرك (1).

وَ حُرِّمَ ذلِكَ النّكاح عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ لما فيه من التشبيه بالفسقة، و التعرّض للتهمة، و التسبّب بسوء المقالة، و الطعن في النسب، و غير ذلك من المفاسد التي لا تليق بالأداني و الأراذل فضلا عن المؤمنين، فلا ينبغي أن يحوموا حولها.

قيل: إيراد الجملة الاولى مع أن مناط التنفير هي الثانية، لتأكيد العلاقة بين الجانبين، مبالغة في الزّجر، و عدم ذكر المشركة في الجملة الثانية، للتنبيه على أنّ مناط الزّجر هو الزنا لا مجرّد الإشراك، و إنّما التعّرض لها في الاولى إشباعا في التنفير عن الزانية بنظمها في سلك المشركة (2)، كما هو الوجه في التعبير عن الكراهة بالتحريم.

و قيل: إنّ التحريم على حقيقته، و الحكم مخصوص بمورد النزول، أو منسوخ بقوله: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ (1)فانّه متناول للزانيات، و عموم قوله عليه السّلام: «لا يحرّم الحرام الحلال» (2)و قد تضافر دعوى الاجماع على جوازه، سواء أكان قبل التوبة أو بعدها.

فما عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هنّ نساء مشهورات بالزنا، و الرجال مشهورون بالزنا، شهروا به و عرفوا به، و الناس اليوم بتلك المنزلة، فمن أقيم عليه حدّ الزنا و شهر بالزنا، لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتىّ يعرف منه التوبة» (3).

و من قوله عليه السّلام: «لو أن إنسانا زنى ثم تاب تزوّج حيث شاء» (4).

و ما عن الباقر عليه السّلام: «هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مشهورين بالزنا، فنهى اللّه عن

ص: 406


1- . تفسير أبي السعود 6:157، تفسير روح البيان 6:117، و الآية من سورة النور:24/32.
2- . التهذيب 7:328/1351.
3- . الكافي 5:354/1، تفسير الصافي 3:416.
4- . الكافي 5:355/6، تفسير الصافي 3:416.

اولئك الرجال و النساء، و الناس اليوم على تلك المنزلة، من شهر شيئا من ذلك، أو اقيم عليه الحدّ، فلا تزوّجوه حتى تعرف توبته» (1)فمحمول على الكراهة، لمخالفتها للاجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة و المعتبرة المستفيضة منها: الصحيح «أيّما رجل فجر بامرأة، ثمّ بدا له أن يتزوّجها حلالا، فاذا أوّله سفاح و آخره نكاح، فمثله مثل النخلة أصاب الرجل من تمرها حراما، ثمّ اشتراها بعده، فكانت له حلالا» (2).

و الصحيح الآخر عن المرأة الفاجرة يتزوّجها الرجل المسلم، قال: «نعم، و ما يمنعه؟ و لكن إذا فعل فليحصّن بابه» (3).

و منها الخبر: «نساء أهل المدينة فواسق» قلت: فأتزوّج منهنّ؟ فقال: «نعم» (4).

و منها الخبر الآخر: عن الرجل يتزوّج الفاجرة متعة؟ قال: «نعم لأباس به، و إن كان التزويج الآخر فليحصّن بابه» (5).

و منها خبر آخر عن رجل أعجبته امرأة، فسأل عنها، فاذا النساء تنبئ عليها بشيء من الفجور. فقال: «لا بأس بأن يتزوّجها و يحصّنها» (4).

مع أنّ في بعض الروايات المانعة لفظ (لم ينبغ) الظاهر في الكراهة، و في جميعها التصريح باتخاذ حكم الزاني و الزانية مع قيام الإجماع على جواز تزويج العفيفة من الزاني، و السياق يقتضي جواز العكس.

سوره 24 (النور): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بيّن سبحانه حكم نسبة الزنا إلى العفيفات بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ و ينسبون المؤمنات اَلْمُحْصَناتِ و العفيفات إلى الزنا ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا عند الامام أو نائبه بِأَرْبَعَةِ رجال شُهَداءَ عدول يشهدون عليهنّ بما رموهنّ به و عجزوا عن إثبات صدق هذه النسبة فَاجْلِدُوهُمْ أيّها الولاة الحقّ ثَمانِينَ جَلْدَةً إن كان الطرفان بالغين عاقلين، سواء كانا ذكرين، أو أنثيين، أو مختلفين، و سواء كان الرامي حرّا أو مملوكا.

وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (5) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (6)

ص: 407


1- . الكافي 5:355/3، تفسير الصافي 3:416.
2- . الكافي 5:356/2، نوادر أحمد بن عيسى:98/235.
3- . نوادر أحمد بن عيسى:133/342.
4- . التهذيب 7:331/1363.
5- . التهذيب 7:253/1091.
6- . التهذيب 7:253/1090.

عن الصادق عليه السّلام: في رجل يقذف الرجل بالزّنا. قال: «يجلد هو في كتاب اللّه عزّ و جلّ و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله» (1).

و عن الباقر عليه السّلام في امرأة قذفت رجلا. قال: «تجلد ثمانين جلدة» (2).

و عنه عليه السّلام: «إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين، و [قال:]هذا من حقوق الناس» (3).

و أمّا المقذوف فيعتبر أن يكون حرّا مسلما متستّرا، عن الصادق عليه السّلام: «من أفترى على مملوك عزّر لحرمة الاسلام» (4).

و عنه عليه السّلام: «لو اتيت برجل قد قذف عبدا [مسلما]بالزنا لا نعلم منه إلاّ خيرا، لضربته الحدّ حدّ الحرّ إلاّ سوطا» (5).

و في الصحيح في الرجل يقذف الصبية، أيجلد؟ قال: «لا، حتى تبلغ» (6)و أمّا اعتبار التستّر فلدلالة الآية، و ظهور قوله «لا يعلم منه إلاّ خيرا» (7).

ثمّ بالغ سبحانه في الزجر عن القذف بقوله: وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً على شيء من الحقوق و الحدود أَبَداً إن لم يتوبوا، قيل: لأنّهم آذوا المقذوف بلسانهم، فحرموا من منافعه (8)وَ أُولئِكَ الرامون هُمُ اَلْفاسِقُونَ و الخارجون عن طاعة اللّه،

المتجاوزون عن حدوده إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذنب العظيم الذي اقترفوه وَ أَصْلَحُوا أعمالهم بالتدارك، و منه الاستسلام للحدّ، و الاستحلال من المقذوف فَإِنَّ اَللّهَ يغفر ما فرط منهم، و لا يؤاخذهم به، و لا ينظمهم في سلك الفاسقين الذين لا تقبل شهادتهم لأنّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

عن الصادق عليه السّلام: «القاذف يجلد ثمانين جلدة، و لا تقبل لهم شهادة أبدا إلاّ بعد التوبة أو يكذّب نفسه» (9).

و في (الكافي) أنّه سئل: كيف تعرف توبته؟ فقال: «يكذّب نفسه على رؤوس الخلائق حين يضرب و يستغفر ربّه، فإذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته» (10).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقذف الرجل، فيجلد حدّا، ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلاّ خيرا، أتجوز

ص: 408


1- . الكافي 7:205/3، التهذيب 10:65/238، تفسير الصافي 3:417.
2- . الكافي 7:205/4، التهذيب 10:65/239، تفسير الصافي 3:417.
3- . التهذيب 10:72/35، تفسير الصافي 3:417.
4- . التهذيب 10:71/34، تفسير الصافي 3:417.
5- . الكافي 7:208/17، التهذيب 10:71/31، تفسير الصافي 3:417.
6- . الكافي 7:209/23.
7- . الكافي 7:397/2، تفسير الصافي 3:419.
8- . تفسير أبي السعود 6:157.
9- . تفسير القمي 2:96، تفسير الصافي 3:419.
10- . الكافي 7:241/7، تفسير الصافي 3:419.

شهادته؟ قال: «نعم، ما يقال عندكم؟» .

قيل: يقولون توبته فيما بينه و بين اللّه، و لا تقبل شهادته أبدا. فقال: «بئسما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب و لم يعلم منه إلاّ خيرا، جازت شهادته» (1).

سوره 24 (النور): آیه شماره 6 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم رمي المحصنات عموما، بيّن حكم رمي الزوج زوجته تخصيصا للعموم أو نسخا بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ و يقذفون بالزنى أَزْواجَهُمْ الدائمات وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون بما رموهنّ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ و في استثناء أنفسهم من الشهداء، مع كونهم مدّعين إيذان من أول الأمر بعدم إلقاء قولهم عند عدم الشهود بالمرّة، بل ينتظمون في سلك الشهود في الجملة فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ و كلّ واحد منهم المشروعة لهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ في ما رماها به من الزنا،

وَ الشهادة اَلْخامِسَةُ هي أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ فيه، قيل: تحبس المرأة حتّى تقرّ أو تلاعن (2)بمقتضى قوله تعالى.

وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ (6) وَ اَلْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ (8) وَ اَلْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (9)

وَ يَدْرَؤُا عن الزوجة و يدفع عَنْهَا اَلْعَذابَ، و الرجم الذي استحقّته بشهادة الزوج إلا أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ على زوجها إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ في ما رماها به

وَ الشهادة اَلْخامِسَةَ للأربع المتقدّمة و هي أَنَّ غَضَبَ اَللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ زوجها مِنَ اَلصّادِقِينَ فيه.

عن ابن عباس: لمّا نزل قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ الآية، قال عاصم بن عدي الأنصاري: إن دخل رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته، فإن جاء بأربعة يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته و خرج، و إن قتله قتل به، و إن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، و إن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح.

و كان له ابن عمّ، يقال له عويمر، و له امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عاصما، و قال: لقد رأيت شريك بن سمحاء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم، و أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، ما أسرع ما بتليت بهذا في أهل بيتي! فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و ما ذاك» ؟ قال: أخبرني عويمر ابن عمّي بأنه

ص: 409


1- . الكافي 7:397/2، تفسير الصافي 3:419.
2- . تفسير أبي السعود 6:159، تفسير روح البيان 6:121.

رأى شريك بن سمحاء على بطن امرأته خولة، و كان عويمر و خولة و شريك كلهم بنو عمّ عاصم.

فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهم جميعا و قال لعويمر: «اتّق اللّه في زوجتك و ابنة عمّك و لا تقذفها» . فقال: يا رسول اللّه، اقسم باللّه إنّي رأيت شريكا على بطنها، و إني ما قربتها أربعة أشهر، و إنّها حبلى من غيري.

فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اتّقي اللّه و لا تخبري إلاّ بما صنعت» فقالت: يا رسول اللّه، إنّ عويمرا رجل غيور، و إنّه رأى شريكا يطيل النظر إليّ و يتحدّث، فحملته الغيرة على ما قال. فنزلت هذه الآية، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى نودي الصلاة جامعة، فصلّى العصر، ثمّ قال لعويمر: «قم و قل: أشهد باللّه أن خولة لزانية و أني لمن الصادقين» ثمّ قال في الثانية: «قل أشهد باللّه أني رأيت شريكا على بطنها، و أني لمن الصادقين» ثمّ قال في الثالثة: «قل أشهد باللّه أنّها حبلى من غيري، و أنّي لمن الصادقين» . ثمّ قال في الرابعة: «قل أشهد باللّه أنّها زانية، و أنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر، و أنّي لمن الصادقين» . ثمّ قال في الخامسة: «قل لعنة اللّه على عويمر-يعني نفسه-إن كان من الكاذبين فيما قال» .

ثمّ قال: «اقعد» و قال لخولة: «قومي» فقامت، و قالت: أشهد باللّه ما أنا بزانية، و أنّ زوجي عويمرا لمن الكاذبين. و قالت في الثانية: أشهد باللّه أنّي حبلى منه، و أنّه لمن الكاذبين، و قالت في الرابعة: أشهد باللّه أنّه ما رآني على فاحشة قطّ و أنّه لمن الكاذبين، و قالت في الخامسة: غضب اللّه على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهما (1).

و في رواية اخرى: عن ابن عباس: أنّ عاصما ذات يوم رجع إلى أهله، فوجد شريكا على بطن امرأته إلى آخر ما تقدّم (2).

و في رواية ثالثة عنه: لمّا نزلت وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ قال سعد بن عبادة-و هو سيد الأنصار-: لو وجدت رجلا على بطن امرأتي فإن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته و ذهب. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا معشر الأنصار، أما تسمعون ما يقول سيدكم؟» فقالوا: يا رسول اللّه، لا تلمه فانّه رجل غيور. فقال سعد: يا رسول اللّه، و اللّه إني لأعلم أنّها من اللّه، و أنّها حقّ، و لكنّي عجبت منه. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه يأبى إلاّ ذلك» .

قال: فلم يلبثوا إلاّ إذ جاء ابن عمّ له يقال له هلال بن امية-و هو أحد الثلاثة الذين تاب اللّه عليهم- فقال: يا رسول اللّه، إنّي وجدت مع أمرأتي رجلا رأيت بعيني و سمعت باذني، فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما جاء به. فقال هلال: و اللّه يا رسول اللّه لأجد الكراهة في وجهك ممّا أخبرتك به، و اللّه يعلم أنّي

ص: 410


1- . تفسير الرازي 23:164.
2- . تفسير الرازي 23:165.

لصادق، و ما قلت إلاّ حقا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إمّا البيّنة، و إمّا إقامة الحدّ عليك» .

فاجتمعت الأنصار، فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، فبينما هم كذلك إذ نزل عليه الوحي، و كان إذا نزل عليه الوحي أربدّ وجهه، و علا جسده حمرة، فلمّا سرّي عنه قال صلّى اللّه عليه و آله: «ابشر يا هلال، فقد جعل اللّه لك فرجا» قال: قد كنت أرجو ذلك من اللّه تعالى، فقرأ عليهم هذه الآيات.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ادعوها» فدعيت فكذّبت هلالا، فقال: اللّه يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، و أمر بالملاعنة، فشهد هلال أربع شهادات باللّه أنّه لمن الصادقين، فقال صلّى اللّه عليه و آله له عند الخامسة: «اتّق اللّه يا هلال، فانّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» فقال: و اللّه لا يعذّبني اللّه عليها، كما لم يجلدني رسول اللّه، و شهد الخامسة.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أتشهدين» فشهدت أربع شهادات باللّه أنّه لمن الكاذبين، فلمّا أخذت في الخامسة قال صلّى اللّه عليه و آله لها: «اتّقي اللّه فانّ الخامسة هي الموجبة» فتفكّرت ساعة و همّت بالاعتراف، ثم قالت: و اللّه لا أفضح قومي، و شهدت الخامسة أنّ غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين. ففرّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهما، ثمّ قال: «انظروها إن جاءت به أبلج (1)أصهب أحمش الساقين (2)فهو لهلال، و إن جاءت به خدلّج الساقين (3)أورق (4)جعدا فهو لصاحبه» . فجاءت به أورق خدلّح الساقين. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لو لا الإيمان لكان لي و لها شأن» .

قال عكرمة: رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار و لا يدرى من أبوه» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن رجلا من المسلمين أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إن رجلا دخل منزله، فوجد مع امرأته رجلا يجامعها، ما كان يصنع؟ قال: فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانصرف الرجل، و كان ذلك الرجل هو الذي ابتلى بذلك مع امرأته، فنزل الوحي من عند اللّه بالحكم فيهما، قال: فأحضرها زوجها فأوقفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قال للزوج: اشهد أربع شهادات باللّه أنّك لمن الصادقين في ما رميتها به. قال: فشهد، ثمّ قال له: اتق اللّه، فانّ لعنة اللّه شديدة، ثمّ قال له: اشهد الخامسة أنّ لعنة اللّه عليك إن كنت من الكاذبين، فشهد، ثمّ أمر به فنحّي، ثمّ قال للمرأة: اشهدي أربع شهادات باللّه أنّ زوجك لمن الكاذبين في ما رماك به. فشهدت، ثمّ قال لها: امسكي فوعظها و قال لها: اتقي اللّه، فانّ غضب اللّه شديد. ثمّ قال لها: اشهدي الخامسة أنّ غضب اللّه عليك إن كان زوجك من

ص: 411


1- . الأبلج: المفترق الحاجبين، الطلق الوجه، و في تفسير الرازي: أثيبج مصغّر أثبج، و هو العريض الثّبج الناتئه، و الثّبج: ما بين الكاهل إلى الظهر.
2- . أحمش الساقين: دقيق الساقين.
3- . خدلّج الساقين: ممتلئ الساقين.
4- . الأورق من الناس: الأسمر.
5- . تفسير الرازي 23:165.

الصادقين في ما رماك به. فشهدت، قال: ففرّق بينهما، و قال لهما: لا تجتمعا بنكاح أبدا بعد ما تلاعنتما» (1).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هي في القاذف الذي يقذف امرأته، فاذا قذفها ثمّ أقرّ أنه كذب عليها، جلد الحدّ، و ردّت إليه امرأته، و إن أبى إلاّ أن يمضي فشهد عليها أربع شهادات باللّه أنه لمن الصادقين، و الخامسة يلعن فيها نفسه إن كان من الكاذبين.

و إن أرادت أن تدرأ عن نفسها العذاب-و العذاب هو الرّجم-شهدت أربع شهادات باللّه أنّه لمن الكاذبين، و الخامسة أنّ غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين، فان لم تفعل رجمت، و إن فعلت درأت عن نفسها الحدّ، ثمّ لا تحلّ إلى يوم القيامة» .

قيل: أ رأيت إن فرّق بينهما و لهما ولد فمات؟ قال: «ترثه امّه، و إن ماتت امّه يرثه أخواله، و من قال إنّه ولد زنا جلد الحدّ» .

قيل: يردّ إليه الولد إذا أقرّ به؟ قال: «لا و لا كرامة، و لا يرث الابن، و يرثه الابن» (2).

و عنه عليه السّلام: «إذا قذف الرجل امرأته، فانه لا يلاعنها حتى يقول: رأيت بين رجليها رجلا يزني بها» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يجلس الامام مستدبر القبلة، فيقيمهما بين يديه مستقبلا القبلة بحذاه، و يبدأ بالرجل ثمّ المرأة» (4).

و في رواية: «يجعل الرجل عن يمينه، و المرأة عن يساره» (5).

و عن الصادق عليه السّلام في رجل أوقفه الامام للّعان، فشهد شهادتين، ثمّ نكل فأكذب نفسه قبل أن يفرغ من اللّعان؟ قال: «يجلد جلد القاذف، و لا يفرّق بينه و بين امرأته» (6).

و عن الجواد عليه السّلام: أنه قيل له: كيف صار إذا قذف الرجل امرأته كانت شهادته أربع شهادات باللّه، و إذا قذفها غيره أب أو أخ أو ولد أو قريب جلد الحدّ، أو يقيم البينة على ما قال؟ فقال: «قد سئل أبو جعفر عن ذلك، فقال: إنّ الزوج إذا قذف أمرأته فقال: رأيت ذلك بعيني، كانت شهادته أربع شهادات باللّه، و إذا قال إنّه لم يره، قيل له: أقم البيّنة على ما قلت، و إلاّ كان بمنزلة غيره، و ذلك أنّ اللّه جعل للزوج مدخلا لم يجعله لغيره والد و لا ولد يدخله بالليل و النهار، فجاز أن يقول: رأيت، و لو قال غيره: رأيت قيل له: ما أدخلك المدخل الذي ترى هذا فيه وحدك، أنت متّهم فلا بدّ أن يقام عليك

ص: 412


1- . الكافي 6:163/4، تفسير الصافي 3:420.
2- . الكافي 6:162/3، تفسير الصافي 3:420.
3- . الكافي 6:163/6، تفسير الصافي 3:422.
4- . الكافي 6:165/10، تفسير الصافي 3:422.
5- . الكافي 6:165/11، تفسير الصافي 3:422.
6- . الكافي 6:163/5، تفسير الصافي 3:422.

الحدّ الذي أوجبه اللّه عليك» .

قال: «و إنما صارت شهادة الزوج أربع لمكان الأربعة شهداء مكان كلّ شاهد [يمين]» (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: لم جعل في الزنا أربعة شهود، و في القتل شاهدان؟ فقال: «[إنّ]اللّه عزّ و جلّ أحلّ لكم المتعة، و علم أنّها ستنكر عليكم، فجعل الأربعة شهود احتياطا لكم، لو لا ذلك لأتي عليكم، و قلّما تجتمع أربعة شهداء بأمر واحد» (2).

و في رواية اخرى قال: «الزنا فيه حدّان، و لا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد، لأنّ الرجل و المرأة جميعا عليهما الحدّ، و القتل إنّما يقام الحدّ على القاتل و يدفع عن المقتول» (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ بيّن سبحانه منّته على عباده بتشريع اللّعان بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ و إحسانه إليكم و إنعامه أيّها الرامون و المرميات وَ لو لا أَنَّ اَللّهَ تَوّابٌ و مبالغ في قبول التوبة حَكِيمٌ في أفعاله و أحكامه التي من جملتها ما شرّع من حكم اللّعان، لعاجلكم بالفضيحة و عقوبة حدّ القذف على الزوج أو حدّ الزنا على الزوجة، أمّا أثر التفضّل و الرحمة على الصادق فظاهر، و أمّا على الكاذب فهو إمهاله و السّتر عليه في الدنيا، و درء الحدّ عنه، و تعريضه للتوبة بتوصيف ذاته المقدسة بالتوابية.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ وَ اَلَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)

ثمّ ذكر اللّه سبحانه قضية رمي المنافقين عائشة بما صانها اللّه منه لحرمة نبيّه الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ و صدر منهم أعظم الفرية و البهتان في أمر عائشة عُصْبَةٌ و جماعة مِنْكُمْ منافقون كعبد اللّه بن ابي، و مسطح، و زيد بن رفاعة، و حمنة بنت جحش (4)و غيرهم ممّن ساعدهم على ما قيل (5)، لا تتوهموا ذلك الإفك و لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ أيّها الرسول و المؤمنون بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاستحقاقكم به الثواب العظيم و الكرامة على اللّه الكريم، و كونه سبب نزول آيات فيها تشييد الحقّ، و تضعيف الباطل، و تشديد الوعيد في من تكلّم فيه، و الثناء على من ظنّ بالمؤمنين خيرا.

ثمّ هدّد سبحانه العصبة بقوله: لِكُلِّ اِمْرِئٍ و رجل مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ و حصّل لنفسه مِنَ

ص: 413


1- . الكافي 7:403/6، تفسير الصافي 3:422.
2- . علل الشرائع:509/1، تفسير الصافي 3:422.
3- . علل الشرائع:510/3، تفسير الصافي 3:423.
4- . في النسخة: رحمته بنت عجش.
5- . تفسير الرازي 23:173.

اَلْإِثْمِ و العصيان و تبعاته من العذاب بالتكلّم فيه و الإذعان به و الضّحك منه و السّكوت و عدم النهي عنه وَ اَلَّذِي تَوَلّى الإفك و تصدّى كِبْرَهُ و معظمه مِنْهُمْ بأن أبداه و أشاعه عداوة للرسول لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.

روى الزّهري عن جماعة، عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج اسمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق، فخرج اسمي فيها، فخرجت معه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج، فلمّا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرب من المدينة، نزل منزلا، ثمّ آذن بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، و مشيت حتى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت شأني و أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فاذا عقد لي من جزع أظفار (1)قد انقطع، فرجعت و التمست عقدي، و حبسني طلبه، و أقبل الرّهط الذين كانوا يحملوني، فحملوا هودجي و هم يحسبون أني فيه لخفّتي، فانّي كنت جارية حديثة السّن، فظنّوا أني في الهودج، و ذهبوا بالبعير.

فلمّا رجعت لم أجد في المكان أحدا، فجلست و قلت: لعلهم يعودون في طلبي، فنمت و قد كان صفوان بن المعطّل يمكث في المعسكر يتّبع أمتعة الناس، فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء، فلمّا رآني عرفني، و قال: ما خلّفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر، فنزل و تنحّى عنّي حتّى ركبت، ثمّ قاد البعير.

و افتقدني الناس حين نزلوا، و ماج الناس في ذكري، فبينا الناس كذلك، إذ هجمت عليهم، فتكلّم الناس و خاضوا في حديثي، و قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، و لحقني وجع، و لم أر منه صلّى اللّه عليه و آله ما عهدته من اللّطف الذي كنت أعرفه منه حين أشتكي، و إنّما يدخل صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يقول: «كيف تيكم؟» فذاك يريبني، و لا أشعر بما جرى بعد حتىّ نقهت، فخرجت في بعض الليالي مع امّ مسطح لمهمّ لنا، ثمّ أقبلت أنا و امّ مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت امّ مسطح في مرطها (2)، فقالت: تعس مسطح، فأنكرت ذلك، و قلت: أتسبّين رجلا شهد بدرا؟ ! فقالت: أو ما بلغك الخبر؟ فقلت: و ما هو؟ فقالت: أشهد أنّك من المؤمنات الغافلات، ثمّ أخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، فرجعت أبكي.

ثمّ دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: «كيف تيكم؟» فقلت: ائذن لي أن آتي أبويّ فأذن لي، فجئت

ص: 414


1- . الجزع: ضرب من العقيق يعرف بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان، و أظفار: اسم موضع.
2- . المرط: كساء من خزّ أو صوف أو كتّان يؤتزر به و تتلفّع به المرأة.

أبويّ، و قلت [لامي]: يا أمّة، ماذا يتحدّث الناس؟ قالت: يا بنية هوّني عليك، فو اللّه لقلّما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبّها و لها ضرائر إلاّ أكثرن عليها. ثمّ قالت: ألم تكوني علمت ما قيل حتى الآن؟ فأقبلت أبكي، فبكيت تلك الليلة، ثمّ أصبحت أبكي، فدخل عليّ أبي و أنا أبكي، فقال لامي: ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن، فأقبل يبكي (1)، ثمّ قال: اسكتي يا بنية.

و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن أبي طالب و اسامة بن زيد، و استشارهما في فراق أهله، فقال اسامة: يا رسول اللّه، هن (2)أهلك و لا نعلم الاّ خيرا، و أما عليّ فقال: «لم يضيّق اللّه عليك، و النساء سواها كثير، و إن تسأل الجارية تصدقك» . فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بريرة و سألها عن أمري، قالت: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمرا قطّ أكثر من أنّها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله.

فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خطيبا على المنبر فقال: «يا معشر المسلمين، من يعذرني (3)من رجل قد بلغني أذاه في أهلي-يعني عبد اللّه بن أبي-فو اللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيرا، و لقد ذكروا الذي (4)ما علمت عليه إلاّ خيرا، و ما كان يدخل على أهلي إلاّ معي» .

فقام سعد بن معاذ فقال: اعذرك يا رسول اللّه منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، و إن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا [فعلنا]، فقام سعد بن عبادة، و هو سيد الخزرج، و كان رجلا صالحا، لكن أخذته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت و اللّه لا تقدر على قتله. فقام اسيد بن خضير، و هو ابن عم سعد بن معاذ و قال: كذبت و اللّه لتقتلنّه، و إنك لمنافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس و الخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا.

قالت: و مكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، و أبواي يظنّان أن البكاء فالق كبدي، فبينا هما جالسان عندي و أنا أبكي، إذ دخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسلّم و جلس، و لم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل، و لقد لبث شهرا لا يوحي اللّه إليه في شأني شيئا. ثمّ قال: «أما بعد يا عائشة، فانه قد بلغني عندك كذا و كذا، فان كنت بريئة فسيبرئك اللّه تعالى، و إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري اللّه و توبي إليه، فانّ العبد إذا تاب تاب اللّه عليه» .

قالت: فلمّا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقالته فاض دمعي، ثمّ قلت لأبي: أجب رسول اللّه عني. فقال: و اللّه ما أدري ما أقول. فقلت لامّي: أجيبي عنّي رسول اللّه. فقالت: و اللّه ما أدري ما أقول، فقلت و أنا

ص: 415


1- . في النسخة: فأقبلت تبكي.
2- . في تفسير الرازي: هم.
3- . أي ينصفني.
4- . في تفسير الرازي: ذكروا رجلا.

جارية حديثة السنّ ما أقرأ من القرآن كثيرا: إنّي و اللّه لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في نفوسكم و صدّقتم به، فان قلت لكم إنّي بريئة لا تصدّقوني، و إن اعترفت لكم بأمر و اللّه يعلم أني بريئة تصدّقوني، و اللّه لا أجد لي و لكم مثلا إلاّ كما قال العبد الصالح أبو يوسف و لم أذكر أسمه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللّهُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (1).

ثمّ تحولت و اضطجعت على فراشي و أنا و اللّه أعلم أنّ اللّه تعالى يبرّئني، و لكن و اللّه ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى، فشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم اللّه فيّ بأمر يتلى، و لكن كنت ارجو أن يرى الرسول في النوم رؤيا يبرّئني اللّه بها. فو اللّه ما قام رسول اللّه من مجلسه و لا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل اللّه الوحي على نبيّه، فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي حتى إنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي، فسجّي بثوب و وضعت و سادة تحت رأسه، فو اللّه ما فرغت و ما باليت لعلمي ببراءتي، و أما أبواي فو اللّه ما سرّي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى ظننت أنّ نفسي أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي اللّه بتحقيق ما قال الناس، فسرّي عنه و هو يضحك، فكان أول كلمة تكلّم بها أن قال: «ابشري يا عائشة، أما و اللّه لقد برّأك اللّه» . فقلت: بحمد اللّه لا بحمدك و لا بحمد أصحابك. فقالت امّي: قومي إليه. فقلت: و اللّه لا أقوم إليه، و لا أحمد أحدا إلاّ اللّه الذي أنزل براءتي، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر آيات.

فقال أبو بكر: و اللّه لا انفق على مسطح بعد هذا، و كان ينفق عليه لقرابته منه و فقره، إلى أن قالت: فلمّا نزل عذري قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المنبر، فذكر ذلك، و تلا القرآن، فلمّا نزل ضرب عبد اللّه بن ابي و مسطحا و حمنة و حسان الحدّ (2).

أقول: في هذه الرواية التي وضعتها لاثبات شرفها بأن أوحى اللّه في شأنها آيات تتلى إلى يوم القيامة، دلالة على كونها سببا لايذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و جسارتها عليه، و إثارة الفتنة، و على عدم اطمئنان أبويها بعفّتها، و عدم تعقّلها و تعقّل أبويها وجوب عصمة زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله من الفحش، لكونه من أعظم الشّين عليه، و على كون صلحاء أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذين أهل العصبية و الحمية الجاهلية، و على كون بعض البدريين من أفسق الفسّاق، إلى غير ذلك ممّا فيه دلالة على فساد اعتقاد العامة في حقّها و حقّ أصحاب النبي رووا في شأنهم أنّهم كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.

و قال القمي رحمه اللّه: روت العامة أنّها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة،

ص: 416


1- . يوسف:12/18.
2- . تفسير الرازي 23:174.

و أمّا الخاصة فإنّهم رووا أنّها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة (1).

ثمّ روى عن الباقر عليه السّلام أنه قال: «لما هلك إبراهيم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حزن عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حزنا شديدا، فقالت له عائشة: ما الذي يحزنك عليه، فما هو إلاّ ابن جريح، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا و أمره بقتله، فذهب علي عليه السّلام [إليه]و معه السيف، و كان جريح القبطي في حائط، [و ضرب علي عليه السّلام باب البستان، فأقبل إليه جريح ليفتح له الباب، فلما رأى عليا عليه السّلام عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعا و لم يفتح الباب، فوثب عليّ عليه السّلام على الحائط]و نزل إلى البستان و اتّبعه، و ولى جريح مدبرا، فلمّا خشي أن يرهقه صعد في نخلة، و صعد علي عليه السّلام في أثره، فلمّا دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فاذا ليس له ما للرجال، و لا له ما للنساء، فانصرف علي عليه السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: يا رسول اللّه، إذا بعثتني في أمر أكون فيه كالمسمار المحميّ في الوبر، أمضى على ذلك (2)أو اتثبّت، قال: لا، بل تثبّت قال: و الذي بعثك بالحقّ ماله ما للرجال، و لا له ما للنساء. فقال [رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]: الحمد للّه الذي صرف عنّا السوء أهل البيت» (3).

و زاد في رواية اخرى: «فأتى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: ما شأنك يا جريح؟ فقال: يا رسول اللّه، إن القبط يحبّون حشمهم و من يدخل إلى أهاليهم، و القبطيون لا يأنسون إلاّ بالقبطيين، فبعثني أبوها لأدخل عليها و أخدمها و أؤنسها» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بقتل القبطي و قد علم أنّها كذبت عليه، أو لم يعلم، و إنّما دفع اللّه عن القبطي القتل بتثبّت علي عليه السّلام فقال: «بلى، قد كان و اللّه أعلم، و لو كانت عزيمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله القتل لما رجع عليّ عليه السّلام حتى يقتله، و لكن إنّما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لترجع عن ذنبها، فما رجعت، و لا اشتدّ عليها قتل رجل مسلم بكذبها» (5).

أقول: حاصل المراد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بكذب عائشة في رمي مارية، و كان يعلم أنّ اللّه يظهر الحقّ، و إنّما بعث عليا عليه السّلام لذلك، و لترجع عائشة عن ذنبها، و لعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ترك جلدها لعفو مارية عنها لميل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليها.

إن قلت: ظاهر الآية أنّ الإفك صدر من جماعة حيث قال: إِنَّ اَلَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ و مقتضى الرواية أنّه صدرت من عائشة فقط.

ص: 417


1- . تفسير القمي 2:99، تفسير الصافي 3:423.
2- . (أمضي على ذلك) ليس في تفسير القمي.
3- . تفسير القمي 2:99، تفسير الصافي 3:423.
4- . تفسير القمي 2:319، تفسير الصافي 3:424.
5- . تفسير القمي 2:319، تفسير الصافي 3:424.

قلت: نعم، و لكن لمّا وافقتها عليه حفصة و أبواهما و بعض المنافقين الموافقين لأبويهما، صار أهل الإفك جمعا كثيرا، و أمّا ضمير الجمع في قوله: عُصْبَةٌ مِنْكُمْ فالظاهر أنّ المراد منه رسول اللّه و أمير المؤمنين و فاطمة و الخواصّ من المؤمنين كسلمان و أبي ذرّ و أضرابهما.

سوره 24 (النور): آیه شماره 12 الی 13

ثمّ أخذ سبحانه في تقريع المؤمنين الذين استمعوا هذا الإفك، و لم يردعوا عنه، بل تكلّموا فيه بقوله: لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أيّها المؤمنون، و هلاّ حين أطّلعتم على هذا البهتان ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بمقتضى وظيفتهم الايمانية بِأَنْفُسِهِمْ و بالذين هم بمنزلة روحهم خَيْراً، و حسنا و طهارة منه وَ لما قالُوا: من غير ريث تكذيبا له هذا القول الشنيع في حقّ المؤمنين إِفْكٌ مُبِينٌ و بهتان ظاهر، و في العدول من الخطاب في قوله: سَمِعْتُمُوهُ إلى الغيبة في قوله: ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ تأكيد للتوبيخ.

لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اَللّهِ هُمُ اَلْكاذِبُونَ (13)

ثمّ لام سبحانه القاذفين بقوله: لَوْ لا جاؤُ و هلاّ أتوا حين قالوا ما قالوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون بما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربعة فَأُولئِكَ الخائضون في الإفك عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه هُمُ اَلْكاذِبُونَ في الظاهر و الباطن بخلاف ما إذا أتوا بالشهداء فانّهم صادقون في الظاهر، و إن كانوا كاذبين في الباطن، لامتناع صدور هذا العمل الشنيع من أزواج الأنبياء-عن ابن عباس: ما زنت (1)امرأة نبيّ قطّ (2)-لما في ذلك من التنفّر عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و إلحاق الوضمة به.

سوره 24 (النور): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أظهر سبحانه شدّه غضبه على الخائضين في الإفك و منّته عليهم بالامهال بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ أيّها الخائضون وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيا من أنواع النّعم التي من جملتها الإمهال للتوبة

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللّهِ عَظِيمٌ (15)

ص: 418


1- . في تفسير الرازي: ما بغت، و في تفسير روح البيان: لم تبغ.
2- . تفسير الرازي 30:50، تفسير روح البيان 6:125.

وَ في اَلْآخِرَةِ من ضروب الآلاء التي من جملتها العفو و المغفرة المقدّران و اللّه لَمَسَّكُمْ و لأصابكم عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ و بسبب ما خضتم فِيهِ من حديث الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه كلّ عذاب، فضلا عن التوبيخ و الجلد.

ثمّ بيّن سبحانه وقت المسّ، أو وقت الإفاضة و الخوض في الإفك بقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ و تأخذونه من غيركم حين ملاقاة بعضكم لبعض بِأَلْسِنَتِكُمْ حتى شاع و انتشر هذا الحديث بين الناس بحيث لم يبق بيت إلاّ طار فيه على ما قيل (1).

وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ قولا ليس معناه في قلوبكم لكونه ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ و اعتقاد، مع أنّ الواجب أن يكون القول ناشئا عن الاعتقاد بمدلوله في القلب وَ تَحْسَبُونَهُ و تتوهّمونه هَيِّناً و سهلا لا تبعة له وَ هُوَ عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه عَظِيمٌ غايته لاستتباعه الذلّ و الهوان في الدنيا و العذاب الأليم في الآخرة، فانّ الافتراء على المؤمن خصوصا مثل هذا الافتراء الذي ليس أعظم منه من أكبر الكبائر، و لذا كان عذابه أشدّ العذاب و أعظمه.

سوره 24 (النور): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ بالغ سبحانه في توبيخ الخائضين في الإفك بقوله: وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ من المخترعين له قُلْتُمْ تكذيبا له و تبرّءا من موافقتهم ما يَكُونُ حلالا لَنا من جانب اللّه أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا الكلام الشنيع، و هلاّ قلتم تعجبا من إجترائهم على التفوّه به سُبْحانَكَ هذا الإفك الذي هو من أشنع الشنائع بُهْتانٌ و افتراء عَظِيمٌ عند اللّه؟ لشدّة قبحه، و سوء عاقبته، و وضوح كذبه، لدلالة العقل على امتناعه، لكونه شينا على النبيّ المنزّه من كلّ شين.

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اَللّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)

ثمّ زجرهم سبحانه من إتيان مثله بقوله: يَعِظُكُمُ اَللّهُ و ينصحكم أيّها الخائضون في حديث الإفك بهذه المواعظ التي تعرفون بها عظمة هذا الذنب، كراهة أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ و ترتكبون نظيره في مدّة حياتكم أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و رسوله و اليوم الآخر، فانّ الايمان اقوى الروادع من المعاصي، و فيه تهييج و تقريع.

ثمّ نبّه سبحانه على عظيم منّته بقوله: وَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ الدالة على الشرائع و محاسن

ص: 419


1- . تفسير الرازي 23:179، تفسير روح البيان 6:127.

الآداب دلالة واضحة، لتتّعظوا بها و تتأدّبوا باداب اللّه وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمصالح عباده و أحوالهم الظاهرة و الباطنة حَكِيمٌ في أحكامه و تدابيره.

سوره 24 (النور): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الرامين بالفحش و الجائين بالإفك و إيعادهم بالعذاب، بيّن اشتراك المحبّين لإشاعة الفواحش بين المؤمنين في جميع ذلك بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ و يريدون أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ و تنتشر القبائح العظيمة فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم و ألسنتهم لَهُمْ بسبب ذلك عَذابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيا من الحدّ و الفضيحة وَ في اَلْآخِرَةِ من النار و سائر الشدائد وَ اَللّهُ يَعْلَمُ خفيّات الامور و جليّاتها، و ضمائر العباد و ظواهرهم، فيجازيهم على ضمائرهم كما يجازيهم على ظواهرهم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ إلاّ ما علّمكم اللّه من ظواهرهم، فعاملوهم بها.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إني لأعرف قوما يضربون صدروهم ضربا يسمعه أهل النار، و هم الهمّازون اللّمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين، و يهتكون ستورهم، و يشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يستر عبد مؤمن عورة مؤمن إلاّ ستره اللّه يوم القيامة» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده، و المهاجر من هاجر (3)ما نهى اللّه عنه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته اذناه، فهو من الذين قال اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ الآية» (5).

و عن الكاظم عليه السّلام أنه قيل له: الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه، فأسأله عنه فينكر ذلك، و قد أخبرني عنه قوم من الثقات؟ فقال: «كذّب سمعك و بصرك عن أخيك، و إن شهد عندك خمسون قسامة، و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعن عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروءته، فتكون من الذين قال اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ الآية» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أذاع فاحشة كان كمبتديها» (7).

ص: 420


1- . تفسير الرازي 23:183.
2- . تفسير الرازي 23:183.
3- . في تفسير الرازي: هجر.
4- . تفسير الرازي 23:183.
5- . تفسير القمي 2:100، الكافي 2:266/2، أمالي الصدوق:417/549، تفسير الصافي 3:426.
6- . الكافي 8:147/125، تفسير الصافي 3:426.
7- . الكافي 2:265/2، تفسير الصافي 3:426.

سوره 24 (النور): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ بيّن سبحانه منّته على ناشر الفواحش بقوله: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإمهالكم و تمكينكم من تدارك ما فرّطتم على أنفسكم وَ أَنَّ اَللّهَ رَؤُفٌ و شديد المودّة بكم رَحِيمٌ و عطوف عليكم بالنّعم لعذّبكم، و لكن لرأفته و رحمته يراعي ما هو أصلح لكم، و إن عصيتموه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اَللّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

ثمّ وعظهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ بإشاعة الفاحشة، و لا تسلكوا مسالكه و لا تعملوا بسيرته، كما عمل أهل الإفك بإشاعة الفواحش وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ و يحذو حذوه فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ بتزيينهما في نظره و ترغيبه إليهما بوسوسته وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بوعظكم و توفيقكم للتوبة، و تشريع الحدود المكفّرة للذنب، و تأييده إياكم لتهذيب الأخلاق ما زَكى و ما طهر من دنس الذنب و الأخلاق الرذيلة مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً و إلى آخر الدهر وَ لكِنَّ اَللّهَ بفضله و رحمته يُزَكِّي و يطهّر من الذنوب بالحدود و التوفيق للتوبة و قبولها، و التأييد لتهذيب الأخلاق مَنْ يَشاءُ من عباده وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لأقوال عباده التي من جملتها ما قالوه من حديث الإفك و التكلّم بالفواحش، و ما أظهروه من التوبة عَلِيمٌ بأعمالهم من السعي في إشاعة المنكر، و أحوالهم من النفاق و الخلوص في الإيمان و التوبة، أو عليم بما في قلوبهم من حبّ إشاعة الفاحشة و كراهتها.

سوره 24 (النور): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ لمّا حلف أبو بكر على أن يقطع نفقته عن مسطح ابن خالته مع كونه بدريا مهاجرا فقيرا على ما قيل (1)، نهى سبحانه أبا بكر عن الحلف المذكور و برّه بقوله: وَ لا يَأْتَلِ و لا يحلف أُولُوا اَلْفَضْلِ

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْغافِلاتِ اَلْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)

ص: 421


1- . جوامع الجامع:314، تفسير روح البيان 6:132.

و أصحاب الثروة مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ في العيش و المال على أَنْ يُؤْتُوا أو المراد لا يقصّروا في أن يعطوا من أموالهم أُولِي اَلْقُرْبى و ذوي الأرحام وَ اَلْمَساكِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ.

قيل: نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا على أن لا يتصدقوا على من تكلّم بشيء من الإفك و لا يواسوهم (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم قرابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله» (2).

ثمّ حثّ سبحانه على العفو و الصّفح بقوله: وَ لْيَعْفُوا البتة عنهم وَ لْيَصْفَحُوا و ليغضوا عن ذنوبهم و ليعرضوا عن لومهم.

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ و الترغيب بقوله: أَ لا تُحِبُّونَ أيّها المؤمنون أَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَكُمْ بمقابلة عفوكم و صفحكم و إحسانكم إلى من أساء إليكم.

و عن الباقر عليه السّلام: «يعفو بعضكم عن بعض و يصفح بعضكم عن بعض، فإذا فعلتم ذلك كان رحمة من اللّه لكم، يقول اللّه: أَ لا تُحِبُّونَ الآية» (3).

وَ إنّ (4)اَللّهُ غَفُورٌ و مبالغ في ستر الذنوب مضافا إلى العفو و رَحِيمٌ بعباده المذنبين مع كمال قدرته على المؤاخذة.

ثمّ أكّد سبحانه تهديد قاذفي المحصنات بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ بالفاحشة، و يقذفون النساء اَلْمُحْصَناتِ و العفيفات اَلْغافِلاتِ عنها بحيث لا يخطر ببالهنّ شيء منها و [لا]

من مقدماتها أصلا، كما قيل (5)اَلْمُؤْمِناتِ بم يجب الايمان به إيمانا حقيقيا خالصا من الشّرك و الشكّ لُعِنُوا بما قالوا في حقّهنّ، و ابعدوا من الرحمة فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ أو يدعوا عليهم باللعن المؤمنون و الملائكة أبدا وَ لَهُمْ مع ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم إذا لم يحدّوا و لم يتوبوا.

قيل: إنّ المراد من المحصنات خصوص عائشة، و من الموصول خصوص ابن ابي (6)، لدلالة الآية السابقة على العفو عن غيره.

سوره 24 (النور): آیه شماره 24 الی 25

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ (25)

ص: 422


1- . جوامع الجامع:314، تفسير الصافي 3:426.
2- . تفسير القمي 2:100، تفسير الصافي 3:426.
3- . تفسير القمي 2:100، تفسير الصافي 3:426.
4- . كذا، و التعبير لا يتفق مع حركة لفظ الجلالة، فهو مرفوع و السياق يقتضي النصب.
5- . تفسير أبي السعود 6:165، تفسير روح البيان 6:133.
6- . تفسير روح البيان 6:134.

ثمّ قرّر سبحانه الوعد بالعذاب بتعيين وقت حلوله و تهويله ببيان ظهور موجبة من القذف و سائر المعاصي في ذلك الوقت بشهادة الجوارح عليها على رؤس الأشهاد بقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ التي نطقوا بها بالقذف و غيره من الكلمات المحرّمة وَ أَيْدِيهِمْ التي عملوا بها المعاصي وَ أَرْجُلُهُمْ التي سعو إليها بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من القذف و غيره ممّا صدر عنهم بانطاق اللّه جميعها بقدرته،

فكلّ جارحة تشهد بما صدر عن صاحبها من القبائح و المعاصي يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللّهُ و يعطيهم كاملا دِينَهُمُ و جزاءهم اَلْحَقَّ الثابت الذي يستحقونه بمعاصيهم وَ يَعْلَمُونَ عند شهادة الجوارح و معاينة الأهوال و حكمه تعالى بتعذيبهم أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْحَقُّ و الثابت الذي لا زوال لذاته و صفاته التي منها الحكمة و العدل، و أفعاله التي منها إعطاء كلّ مستحقّ ما يستحقّه من الثواب و العقاب اَلْمُبِينُ و المطهّر للأشياء كما هي في أنفسها، أو الثابت في الوهيّته الظاهر فيها، أو العادل الظاهر في عدله.

قيل: لو تتبّعت ما في القرآن المجيد من آيات الوعيد الواردة في حقّ كلّ كفّار مريد و جبّار عنيد لا تجد شيئا منها فوق هاتيك القوارع المشحونة بفنون التهديد و التشديد، و ما ذاك إلاّ لأجل إظهار منزلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في علوّ الشأن و النباهة و إبراز عصمة أزواجه (1)من الفحش المنافي لشأن النبوة.

سوره 24 (النور): آیه شماره 26

ثمّ ختم سبحانه قصّة الإفك بالحكم بطهارة أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله من الفحش بقوله: اَلْخَبِيثاتُ من أقاويل أهل الإفك، أو الكلمات الدالة على الذمّ و اللّعن، أو النساء الزانيات لِلْخَبِيثِينَ من الأقاويل، أو الذمائم، أو النساء الزواني بحيث لا يتجاوزوهنّ و من الرجال و النساء على التفسيرين الأولين، و من الرجال على الثالث وَ اَلْخَبِيثُونَ من الفريقين، أو من الرجال لِلْخَبِيثاتِ على المعنيين الأولين، أو من الرجال على الثالث.

اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26)القمي قال: الخبيثات من الكلام و العمل للخبيثين من الرجال و النساء (2).

وَ اَلطَّيِّباتُ من أقاويل منكري الإفك، أو الكلمات المحسنات ممّا فيه رضا اللّه، أو النساء العفيفات لِلطَّيِّبِينَ و الأعفّاء من الرجال و النساء، يسلمونهم و يصدق عليهم من قال

ص: 423


1- . تفسير أبي السعود 6:167.
2- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:427.

وَ اَلطَّيِّبُونَ من الرجال و النساء لِلطَّيِّباتِ من الكلام و العمل.

و في الإحتجاج عن الحسن المجتبى عليه السّلام و قد قام من مجلس معاوية و أصحابه، و قد ألقمهم الحجر قال: «اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ هم و اللّه يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ إلى آخر الآية، هم علي بن أبي طالب عليه السّلام [و أصحابه] و شيعته (1).

أُولئِكَ المذكورون من الطيبين و الطيبات من النساء، أو الطيبين على المعنيين الآخرين للطيبات مُبَرَّؤُنَ و منزّهون مِمّا يَقُولُونَ فيهم، أو من أن يقولوا مثل قولهم، أو من أن يقال بشيء في حقّهم من الذّم و اللّعن.

ثمّ أنّه تعالى بعد تنزيههم من الفحش، أو القول و العمل السيئين، أثبت لهم الكرامة عنده بقوله: لَهُمْ بالاستحقاق مَغْفِرَةٌ عظيمة، لما لا يخلوا البشر من الزلاّت وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ، و كثير أو الحسن الطيب في الآخرة من الجنّة و الدرجات العالية و النّعم الدائمة و الكرامات الفائقة.

سوره 24 (النور): آیه شماره 27 الی 28

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم الرمي و القذف و عقابهما و سائر ما يتعلّق بهما، نهى عن الدخول في الخلوات الموجب للتهمة بغير إذن بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً مسكونة بالملك أو الإجارة أو العارية حال كونها غَيْرَ بُيُوتِكُمْ التي تسكنونها بأنفسكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا و تستأذنوا من ساكنيها في الدخول، و تستعلموا رضاهم به بالتسبيح أو التكبير أو التنحنح، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2)أو وقع النّعل كما عن الصادق عليه السّلام (3)وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها و ساكنيها من وراء الباب بأن تقولوا: السّلام عليكم أهل البيت أ أدخل.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)روي أنّه جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، إنّي أكون في بيتي على الحالة التي

ص: 424


1- . الإحتجاج:278، تفسير الصافي 3:427.
2- . تفسير روح البيان 6:137.
3- . تفسير القمي 2:101، معاني الأخبار:163/1، تفسير الصافي 3:428.

لا احبّ أن يراني عليها أحد، فيأتي الآتي فيدخل، فكيف أصنع؟ قال: «ارجعي» فنزلت هذه الآية (1).

و في (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أن رجلا استأذن عليه فتنحنح، فقال [رسول صلّى اللّه عليه و آله]لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلّميه، و قولي له: قل السّلام عليك (2)أ أدخل؟» فسمعها الرجل فقالها، فقال: «ادخل» (3).

و روي الفخر الرازي أنّه استأذن رجل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أ ألج؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلّميه، فانّه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السّلام عليكم أ أدخل؟» فسمعها الرجل فقالها، فقال: «أدخل» فدخل، و سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أشياء، و كان يجيبه، إلى أن قال: و كان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حيّيتم صباحا، و حييتم مساء، ثمّ يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فصد اللّه تعالى عن ذلك، و علم الأحسن و الأجمل (4).

و روى أبو هريرة عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الاستئذان ثلاث: بالاولى يستنصتون، و بالثانية يستصلحون، و بالثالثة يأذنون أو يردّون» (5).

و عن جندب، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» (6).

و عن عطاء قال: سألت ابن عباس و قلت: أستأذن على اختي و أنا (7)انفق عليها؟ قال: نعم، إن اللّه تعالى يقول: وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا (8)و لم يفرّق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم (9).

و روي أن رجلا سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: أستأذن على اختي؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «نعم، أتحبّ أن تراها عريانة!» (10).

و عن (المجمع) أن رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أستأذن على أمّي؟ قال: «نعم» قال: إنّها ليس لها خادم غيري، أفأستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال: «أتحبّ أن تراها عريانة!» قال الرجل: لا. قال: «فاستأذن عليها» (11).

و عن الصادق عليه السّلام: «يستأذن الرجل إذا دخل على أبيه، و لا يستأذن الأب على ابنه، و يستأذن الرجل

ص: 425


1- . تفسير روح البيان 6:137.
2- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: عليكم.
3- . مجمع البيان 7:213، تفسير الصافي 3:428.
4- . تفسير الرازي 23:197.
5- . تفسير الرازي 23:197.
6- . تفسير الرازي 23:197.
7- . في تفسير الرازي: و من.
8- . النور:24/58.
9- . تفسير الرازي 23:199، و زاد فيه: محرم.
10- . تفسير الرازي 23:199.
11- . مجمع البيان 7:213، تفسير الصافي 3:428.

على ابنته و اخته إذا كانتا متزوّجتين؟» (1)

و عنه عليه السّلام: «إنّما الإذن على البيوت، ليس على الدار إذن» (2).

ثمّ حثّ سبحانه على الاستئذان و التسليم بقوله: ذلِكُمْ المذكور من الاستئذان و التسليم خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول بغتة، و إنما أمرتم بهما لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و تعلمون ما هو أصلح لكم، أو المراد تتّعظون و تعملون بموجبه

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا في البيوت، و لم تعلموا أنّ فِيها أَحَداً من ساكنيها أصلا فَلا تَدْخُلُوها و اصبروا حَتّى يُؤْذَنَ في الدخول لَكُمْ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه، أو تهمة السرقة.

ثمّ لمّا كان جعل النهي مغيى بالاستئذان موهما للرّخصة في تكرير الاستئذان و لو بعد الردّ دفع اللّه التوهّم بقوله: وَ إِنْ قِيلَ من جهة أهل البيت لَكُمْ لا مجال للإذن، و نحن معذرون فيه اِرْجِعُوا و انصرفوا فَارْجِعُوا و لا تلحّوا في الاستئذان بتكريره، و لا تلجوا في الدخول بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن، فإنّ الرجوع هُوَ أَزْكى و أطهر لَكُمْ ممّا لا يخلو عنه اللّجّ و الالحاح من جلب الكراهة في القلوب و القدح في المروءة وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الالحاح و الرجوع عَلِيمٌ فيجازيكم عليه.

سوره 24 (النور): آیه شماره 29

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم البيوت المسكونة للاشخاص الخاصة، بيّن حكم البيوت غير الموضوعة لسكنى طائفة خاصة بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و حرج في أَنْ تَدْخُلُوا بغير الاستئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ لشخص مخصوص فِيها مَتاعٌ و انتفاع لَكُمْ.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (29)روي أن أبا بكر قال: يا رسول اللّه، إنّ اللّه أنزل عليك آية في الاستئذان، و إنّا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أ فلا ندخلها إلاّ بإذن؟ فنزلت (3).

و عن محمّد بن الحنفية: أنّها الخانات و الرباطات و حوانيت البيّاعين و المتاع المنفعة كالاستكنان من الحرّ و البرد و إيواء الرجال (4)و السّلع و الشراء و البيع (5).

ص: 426


1- . الكافي 5:528/3، تفسير الصافي 3:428.
2- . من لا يحضره الفقيه 3:154/677، تفسير الصافي 3:428.
3- . تفسير الرازي 23:200، تفسير أبي السعود 6:169.
4- . في تفسير الرازي: الرحال.
5- . تفسير الرازي 23:200.

و قيل: إنّها الحمّامات (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «هي الحمّامات و الخانات و الأرحية، و تدخلها بغير إذن» (2).

أقول: الظاهر أنّ المراد كلّ بيت معدّ لدخول الناس و لو لبعض حوائجهم، و ما ذكر في الروايات إنّما هو من باب المثال و ذكر المصداق، فيدخل في الآية محكمة القضاة، و مطب الأطبّاء، و المكتبة المعدّة لورود الناس و مطالعة الكتب و نظائرها.

ثمّ أوعد اللّه سبحانه الداخلين في البيوت بقصد الفساد و الاطلاع على العورات بقوله: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ و تظهرون من الأعمال وَ ما تَكْتُمُونَ و تسترون من الضمائر و النيّات فيجازيكم عليها.

سوره 24 (النور): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ لمّا كان غضّ البصر و حفظ الفروج من شؤون العفاف و وظيفة المستأذنين، أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ وجوبهما إلى المؤمنين و المؤمنات بقوله: قُلْ يا محمّد لِلْمُؤْمِنِينَ أيّها المؤمنون غضّوا، كي يَغُضُّوا بعضا مِنْ أَبْصارِهِمْ عن النساء الأجنبيات و خصوص عورات المحارم سوى الأزواج.

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ اَلتّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)و قيل: إنّ كلمة (من) زائدة (3)و المعنى يغضّوا ابصارهم.

و قيل: إنّ المعنى أن ينقصوا من نظرهم (4)وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ و عوراتهم من أن ينظر إليها الرجال و النساء من الأجنبيات و المحارم سوى الأزواج.

و قيل: إنّما قال مِنْ أَبْصارِهِمْ و لم يقل: من فروجهم؛ لأنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة

ص: 427


1- . تفسير الرازي 23:200، تفسير أبي السعود 6:169، تفسير روح البيان 6:139.
2- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:429.
3- . كنز العرفان 2:220.
4- . تفسير الرازي 23:202.

المحارم و إلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيات و أكفّهنّ حال الضّرورة، و إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع، و كذا الطبيب للعلاج، و الشاهد لتحمّل الشهادة و إقامتها، و النظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا و عرفا، و يقتصر على نظر الوجه، و كذا النظرة الاولى من غير لذّة أو ريبة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «و لكم أول نظرة، فلا تتبعوها بالثانية» (1)و أمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ، لاختصاص التحريم بمن عدا الزوجة و ملك اليمين، فلذلك لم يقل: من فروجهم.

ذلِكَ المذكور من غضّ البصر و حفظ الفرج أَزْكى و أطهر لَهُمْ من دنس الريبة إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم و أحوالهم، فليكونوا منه على حذر.

روي أنّ النظر سهم من سهام إبليس (2).

و عن عيسى بن مريم عليه السّلام أنّه قال: إياكم و النظرة، فانّها تزرع في القلوب شهوة (3).

و في الحديث: «احفظوا (4)لي ستا من أنفسكم، أضمن لكم الجنّة-إلى أن قال: -و احفظوا فروجكم، و غضّوا أبصاركم» (5).

وَ قُلْ يا محمد لِلْمُؤْمِناتِ إنّهنّ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرون إلى ما لا يحلّ النظر إليه وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتستّر و التصوّن، و إنما قدّم الأمر بالغضّ لأنّ النظر بريد الزنا و رائد الفجور.

عن الصادق عليه السّلام: «كل آية في القرآن في حفظ (6)الفروج فهي من الزنا إلاّ هذه الآية، فانّها من النظر، فلا يحلّ لرجل مؤمن أن ينظر إلى فرج أخيه، و لا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج اختها» (7).

و في رواية عنه عليه السّلام: «و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم اللّه عليه، و أن يعرض عمّا نهى اللّه عنه ممّا لا يحلّ له، و هو عمله، و هو من الإيمان، فقال اللّه تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ -يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم، و أن ينظر المرء إلى فرج أخيه، و يحفظ فرجه من أن ينظر إليه، و قال: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فنهاهنّ من أن تنظر إحداهنّ إلى فرج اختها، و تحفظ فرجها من أن ينظر إليها» . و قال: «كلّ شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذه الآية، فانّها من النظر» (8).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن،

ص: 428


1- . كنز العرفان 2:221.
2- . تفسير روح البيان 6:141.
3- . تفسير روح البيان 6:140.
4- . في تفسير روح البيان اضمنوا.
5- . تفسير روح البيان 6:140.
6- . في تفسيري القمي و الصافي: ذكر.
7- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:429.
8- . الكافي 2:30/1، تفسير الصافي 3:429.

فنظر إليها و هي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها و دخل في زقاق-سمّاه ببني (1)فلان-فجعل ينظر إليها من خلفها، فاعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشق [وجهه]فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و اللّه لآتين رسول اللّه و لأخبرنّه، فأتاه فلمّا رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية» (2).

ثمّ خصّ سبحانه النساء بالنهي عن إظهار الزينة و مواضعها بقوله: وَ لا يُبْدِينَ و لا يظهرن زِينَتَهُنَّ قيل: يعني المحاسن التي خلقهنّ اللّه عليها (3).

و قيل: المحاسن المكتسبة كالقلب، و القلادة، و القرط، و الخلخال (4)إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها على حسب العادة كالكحل، و الخاتم، و السّوار.

عن الصادق عليه السّلام قال: «الزينة الظاهرة الكحل و الخاتم» (5).

و في رواية أخرى: «الخاتم، و المسكة، و هي القلب» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي الثياب، و الكحل، و الخاتم، و خضاب الكفّ، و السّوار» .

و قال: الزينة ثلاثة: زينة للناس، و زينة للمحرم، و زينة للزوج، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها، و أمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها، و الدملج (7)و ما دونه، و الخلخال و ما استفل (8)منه، و أمّا زينة الزوج فالجسد كلّه (9).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل: ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: «الوجه و الكفّان و القدمان» (10).

و عن (الجوامع) عنهم عليهم السّلام: «الكفّان و الأصابع» (11). و حمل الأخبار المعارضة على الكراهة أولى من حمل هذه الأخبار على التقيّة أو النظر الاتّفاقي.

ثمّ قيل: إنّ نساء الجاهلية كنّ يشددن خمرهنّ و مقانعهنّ من خلفهنّ، و إنّ جيوبهنّ كانت من قدّام، فكانت تنكشف نحورهنّ و قلائدهن، فأمر اللّه المؤمنات بستر أعناقهنّ و نحورهنّ (12)بقوله:

ص: 429


1- . في تفسير الصافي: لبني.
2- . الكافي 5:521/5، تفسير الصافي 3:430.
3- . تفسير الرازي 23:205.
4- . تفسير الرازي 23:205، و القلب: السّوار يكون نظما واحدا، و القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من الحلّي، و الخلخال: حليه كالسّوار تلبسها النساء في أرجلهن.
5- . الكافي 5:521/3، تفسير الصافي 3:430.
6- . الكافي 5:521/4، تفسير الصافي 3:430.
7- . الدّملج سوار يحيط بالعضد.
8- . في تفسيري القمي و الصافي: و ما اسفل.
9- . تفسير القمي 2:101، تفسير الصافي 3:430.
10- . الكافي 5:521/2، تفسير الصافي 3:430.
11- . جوامع الجامع:315، تفسير الصافي 3:430.
12- . تفسير الرازي 23:206.

وَ لْيَضْرِبْنَ و ليلقين بِخُمُرِهِنَّ و ما يستر به روؤسهنّ من المقانع عَلى جُيُوبِهِنَّ لتستر أعناقهنّ و نحورهنّ و صدورهنّ و قلائدهنّ و قروطهنّ و شعورهن عن الأجانب.

ثمّ أعاد سبحانه النهي عن إبداء الزينة بقوله: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لتخصيصه بقوله: إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ و أزواجهنّ أَوْ آبائِهِنَّ و إن علوا أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ و فحولهنّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ و إن نزلوا أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ كذلك أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ المختصّات بهنّ من حرائر المؤمنات المؤتمنات عن وصفهنّ للرجال، فانّ الكافرات لا يؤتمنّ على ذلك.

عن الصادق عليه السّلام: «لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية و النصرانية، فانهنّ يصفن ذلك لأزواجهنّ» (1).

أقول: لا شبهة أنّ النهي فيه للكراهة، كما يشعر به لفظ (لا ينبغي) .

أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من الإماء دون العبيد، كما عليه المشهور (2)أو و لو كان عبدا كما عليه بعض العامة (3)، و الخاصة لقول الصادق عليه السّلام: «يعني العبيد و الإماء» (4).

و قوله عليه السّلام: «لا بأس أن يرى المملوك الشعر و الساق» (5)، و في رواية: «شعر مولاته و ساقها» (6). و في اخرى: «إلى شعرها إذا كان مأمونا» (7). و عنه عليه السّلام: «لا يحلّ للمرأة أن ينظر عبدها إلى شيء من جسدها إلاّ إلى شعرها غير متعمّد لذلك» (8).

أقول: يعني غير مريد للتلذّذ، و في صورة الشكّ يحمل نظره على الصحّة، و يؤيد ذلك نفي الحرج، و كون الدين سمحا سهلا أو المراد الإماء و خصوص الخصيّ من العبيد، لنقل الإجماع المعتقد بالشهرة على حرمة النظر في غيره، و الصحاح سئل عن قناع الحرائر من الخصيان، فقال: «كانوا يدخلون على بنات أبي الحسن عليه السّلام و لا يتقنعن» .

قلت: إن كانوا أحرارا؟ قال: «لا» .

قلت: فالأحرار يتقنّع منهم؟ قال: «لا» (7).

ص: 430


1- . الكافي 5:519/5، من لا يحضره الفقيه 3:366/1742، تفسير الصافي 3:431.
2- . مجمع البيان 7:217، تفسير روح البيان 6:143.
3- . تفسير الرازي 23:207، تفسير البيضاوي 2:122، تفسير أبي السعود 6:170.
4- . مجمع البيان 7:217، تفسير الصافي 3:431.
5- . الكافي 5:531/2، تفسير الصافي 3:431.
6- . الكافي 5:531/3، تفسير الصافي 3:431. (7 و 8) . الكافي 5:531/4، تفسير الصافي 3:431.
7- . الكافي 5:532/3.

و قيل: المملوك منه داخل في قوله: أَوِ اَلتّابِعِينَ (1)لهنّ، لأجل المعيشة حال كونهم غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ و الحاجة إلى النساء مِنَ اَلرِّجالِ لعدم الشهوة كالخصيّ المقطوع الانثيين، و الشيوخ الذين سقطت شهوتهم كما عن الكاظم عليه السّلام.

نعم روي عنه عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يكون له الخصيّ يدخل على نسائه يناولهنّ الوضوء (2)، فيرى شعورهن؟ قال: «لا» (3).

و في خبر آخر: سئل عن امّ ولد هل يصلح لها أن ينظر إليها خصيّ مولاها و هي تغتسل؟ قال: «لا يحلّ ذلك» (4).

و يمكن حمل الأول على الكراهة، و الظاهر من الثاني السؤال عن رؤيته جميع بدنها، مع أنّ بعض الأخبار المجوّزة صحاح و بعضها موثقات بخلاف الأخيرين المانعين، و قيل بترجيح الأخيرين لموافقتهما للمشهور بين الخاصة، و مخالفتهما لما عليه أساطين (5)العامة.

و في أنّ ذهاب المشهور إلى المنع لعلّه لتوهّم الاجماع عليه، لا لخلل في الروايات المجوّزة، و مخالفتها (6)لما عليه الأساطين (7)، لو سلمت المعارضة بموافقتها (8)لما عليه أساطين العامة، كأبي حنيفة فإنّه حمل التابعين على العبيد الصغار حتى إنّه قال: لا يحلّ إمساك الخصيان و استخدامهم و بيعهم و شراؤهم (9)، بل لم ينقل الجواز إلاّ عن الشافعي فانّه حمل التابعين على الخصيّ و المجبوب (10). و قال الصيّمري: إنّه لم يسبق إلى هذا القول.

و الحاصل أنّ الأخبار المانعة موافقة للمشهور بين العامة الذين امرنا بمخالفتهم، مع أنّه مخالفة لظاهر الكتاب الذي امرنا بالأخذ بما وافقه و طرح ما خالفه، و الأخبار المجوّزة مؤيدة في صورة نظر الخصيّ المملوك للمرأة إلى شعر مولاته بأدلّة نفي الحرج، و كون الشريعة سمحة سهلة، و جواز النظر إلى شعر القواعد من النساء لعدم كونها معرضا للشهوة و الرّيبة، و نظر البله (11)الذين لا يعرفون شيئا من امور النساء، كما عن الصادق عليه السّلام تفسير التابعين بهم (12).

و الظاهر من عبائر كثير من المانعين المنع من كون الخصيّ محرما لمولاته بحيث يجوز له النظر إلى

ص: 431


1- . مجمع البيان 7:218.
2- . الوضوء: الماء يتوضأ به.
3- . الكافي 5:532/2، تفسير الصافي 3:432.
4- . الكافي 5:532/1.
5- . في النسخة: سلاطين.
6- . في النسخة: مخالفتهما.
7- . في النسخة: السلاطين.
8- . في النسخة: بموافقتهما.
9- . كنز العرفان 2:223.
10- . كنز العرفان 2:223، و فيه الخصي المجبوب، و المجبوب: المقطوع الأنثيين.
11- . البله: جمع أبله، و هو الذي ضعف عقله و غلبت عليه الغفلة.
12- . كنز العرفان 2:223.

ما عدا عورتها كسائر المحارم، و لا نقول به، بل نقول بجواز نظره إلى شعرها و ساقها، و ما في (المسالك) من جواز نظر الخصيّ بل الفحل إلى مالكته، و تبعه عليه بعض من تأخّر عنه، محمول عليه.

فتبين من جميع ما ذكر أنه لو لا الشهرة العظيمة، و دعوى الاجماع على المنع، لكان القول بجواز نظر كلّ من المرأة و مملوكها الخصيّ إلى شعر الآخر و ساقه هو المتعيّن إلاّ أنّ الأحوط خلافه.

أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا و لم يطلّعوا، أو لم يقدروا عَلى عَوْراتِ اَلنِّساءِ لعدم تميّزهم بينها و بين غيرها، أو عدم بلوغهم حدّا يشتهون التمتّع منهن و يتمكّنون من جماعهنّ.

ثمّ بالغ سبحانه في نهي النساء عن إظهار زينتهنّ بقوله: وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ على الأرض لِيُعْلَمَ بصوت الخلخال و غيره ما يُخْفِينَ عن أعين الرجال مِنْ زِينَتِهِنَّ فانّ ذلك ممّا يورث ميل الرجال إليهنّ، و يؤهم أنّ لهن الميل إلى الرجال.

قيل: كانت الجاهليات يضربن بأرجلهن على الأرض، ليسمع صوت خلاخلهنّ، فنهي المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر (1).

و عن ابن عباس: كانت المرأة تمرّ بالناس و تضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال (2). و في النهي عن استماع صوت الزينة الدالّ على وجودها تأكيد للمنع عن إظهارها.

ثمّ لمّا كان حفظ النفس عن الشهوات في غاية الصعوبة بحيث لا تخلو نفس عن التقصير فيه، حثّ سبحانه الناس على التوبة بقوله: وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ من التفريط في أوامره و نواهيه، سيّما في الكفّ عن الشهوات لَعَلَّكُمْ بها تُفْلِحُونَ و تفوزون بخير الدنيا و الآخرة.

و عن ابن عباس: توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلّكم تسعدون (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 32

ثمّ أمر سبحانه بالنّكاح الصائن عن السّفاح بقوله: وَ أَنْكِحُوا و زوّجوا أيّها الأولياء و الموالي اَلْأَيامى و العزّاب الأحرار من الذكر و الانثى مِنْكُمْ و من عشيرتكم وَ اَلصّالِحِينَ و المؤمنين أو الأهلين للنكاح مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ.

وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)و قيل: إنّ المراد من الصلاح معناه الظاهر، و التقييد به للترغيب فيه، فانّهم إذا علموا به رغبوا في

ص: 432


1- . كنز العرفان 2:224.
2- . تفسير الرازي 23:209.
3- . تفسير الرازي 23:210.

الصلاح و التقوى (1).

و قيل: إنّه من باب التسمية باسم ما يؤول إليه، فانّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام (2).

ثمّ بالغ سبحانه بالحثّ عليه بقوله: إِنْ يَكُونُوا الأحرار و المماليك فُقَراءَ و عادمي المال يُغْنِهِمُ اَللّهُ و يكفيهم مؤنتهم مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه فلا يمنع فقر الخاطب و المخطوبة من المناكحة؛ لأنّ في فضل اللّه غنية وَ اَللّهُ واسِعٌ فضلا و قدرة عَلِيمٌ بمصالح عباده في بسط الرزق و التقتير، ففي الآية دلالة على استحباب النّكاح للعزّاب [سواء أ]كانوا أغنياء أم فقراء تائقين (1)أم مطيقين.

روي أنّه «من تزوّج فقد أحرز نصف دينه» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من ترك التزويج مخافة العيلة (3)فقد أساء ظنّه باللّه عزّ و جلّ، إنّ اللّه عزّ و جل يقول: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (4).

و عنه عليه السّلام: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فشكا إليه الحاجة، فقال: تزوج فتزوّج فوسّع عليه» (5).

و روى بعض العامة عنه عليه السّلام: أنّ رجلا شكا إليه الفقر فأمره أن يتزوّج فتزوّج الرجل، فشكا إليه الفقر فأمره بأن يطلّقها فسئل عن ذلك فقال: «قلت له تزوّج، لعلّه من أهل هذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فلمّا لم يكن من أهلها قلت: طلقها، لعلّه من أهل آية اخرى: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ (6).

و في الحديث: «يأتي على الناس زمان لا تنال فيه المعيشة إلاّ بالمعصية، فاذا كان ذلك الزمان حلّت العزوبة» (7).

ثمّ إنّه استدلّ كثير من العامة بهذه الآية على أنّ أمر نكاح النساء بيد الأولياء، و ليس لهنّ الاستبداد به كالإماء اللاّتي أمر نكاحهنّ بيد مواليهنّ. و فيه منع واضح، مضافا إلى معارضتها بقوله: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بِالْمَعْرُوفِ (8)و إلى الإجماع المحقّق على استبداد الثّيّبات به.

ص: 433


1- . التائق: الشديد الاشتياق إلى الوطئ.
2- . أمالي الطوسي:518/1137.
3- . العيلة: الفقر و الحاجة.
4- . الكافي 5:330/5، تفسير الصافي 3:432.
5- . الكافي 5:330/2، تفسير الصافي 3:432.
6- . تفسير روح البيان 6:147، و الآية من سورة النساء:4/130.
7- . تفسير روح البيان 6:148.
8- . البقرة:2/232.

سوره 24 (النور): آیه شماره 33

ثمّ لمّا أمر سبحانه بالتزويج و ترك الكفّ عنه مخافة العجز عن النفقة، أمر من لا يقدر على مقدّماته بالتعفّف بقوله: وَ لْيَسْتَعْفِفِ و ليجتهد في حفظ النفس عن الحرام الرجال اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً و لا يقدرون على مقدّماته من المهر و سائر لوازمه المتعارفة بالرياضة الكاسرة للشهوة، كالصوم كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يا معشر الشبّان، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، و من لم يستطع فعليه الصوم فانّه و جاء» (1).

وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)أقول: الباءة: هو الجماع، و استعمل هنا في النّكاح، و الوجاء: رضّ انثيي الفحل رضا شديدا قامعا لشهوة الجماع.

و المراد أنّ الصوم كالرضّ قاطع للشهوة، فعلى المؤمنين الفقراء أن يروّضوا أنفسهم بالصوم، و يضعّفوا شهوتهم كي يحصل بذلك صيانة فروجهم و عفّة أنفسهم حَتّى يُغْنِيَهُمُ اَللّهُ باعطائهم ما يتزوّجون به مِنْ فَضْلِهِ و جوده.

و عن الصادق عليه السّلام-في تفسيره-قال «يتزوّجون حتى يغنيهم اللّه» (2).

أقول: يعني الذين ليس لهم مؤنة النّكاح زائدة على معاشهم، فليستعففوا بالتزويج، بأن يستقرضوا، أو يبيعوا من أثاثهم و غيره كي يغنيهم اللّه.

ثمّ إنّه تعالى بعد ترغيب الموالي في الإحسان إلى مماليكهم بالتزويج، رغّبهم في الإحسان إليهم بمكاتبتهم إذا طلبوها لأن يتحرّروا و يتخلّصوا من ذلّ الرقيّة بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ و يطلبون منكم أيّها الموالي اَلْكِتابَ و جعل مال عليهم بعوض عنتهم مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبد أو أمة فَكاتِبُوهُمْ و أجيبوهم إلى ما طلبوه من بيعهم من أنفسهم إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً و رشدا لتحصيل مال الكتابة من الحلال و قدرة عليه كما قيل (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إن علمتم لهم حرفة، فلا تدعوهم كلاّ على الناس» (4).

ص: 434


1- . تفسير الصافي 3:433.
2- . الكافي 5:331/7، تفسير الصافي 3:433.
3- . تفسير أبي السعود 6:172، تفسير روح البيان 6:149.
4- . تفسير الرازي 23:217.

و قيل: يعني إن علمتم لهم صلاحا في الدين (1).

و عن ابن عباس: إن علمتم لهم مالا، و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام (2).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «إن علمتم دينا و مالا» (3).

و في الثالثة: «الخير أن يشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا رسول اللّه، و يكون بيده عمل يكتسب به، و (4)يكون له حرفة» (5).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن العبد يكاتبه مولاه و هو يعلم أنّه ليس له قليل و لا كثير؟ قال: «يكاتبه و إن كان يسأل الناس، و لا يمنعه المكاتبة من أجل أنّه ليس له مال، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يرزق العباد بعضهم من بعض، و المؤمن معان» (6).

أقول: حاصل مجموع الروايات أنّه يعتبر في استحباب المكاتبة إيمان العبد، و تمكّنه من أداء مال الكتابة، و لو بإعانة الغير.

ثمّ حثّ سبحانه الموالي إلى إكثار الإحسان إلى المكاتبين بقوله: وَ آتُوهُمْ أيها الموالي، و أدفعوا إليهم شيئا مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ و لو كان بعضا ممّا جعلتم عليهم من مال الكتابة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كفى بالمرء شحّا أن يقول: آخذ حقّي و لا أترك منه شيئا» (7).

عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له، فترك له ربع مكاتبته، و قال: إنّ عليا عليه السّلام كان يأمرنا بذلك و يقول: «هو قول اللّه تعالى: وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ فان لم تفعل فالسّبع» (8).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «تضع [عنه]من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه [منها]، و لا تزيد فوق ما في نفسك» . فقيل: كم؟ فقال: «وضع أبو جعفر عليه السّلام [عن مملوكه]الفا من ستّة آلاف» (9).

و عنه عليه السّلام: «لا تقول اكاتبه بخمسة آلاف و أترك له ألفا، و لكن [انظر]إلى الذي أضمرت عليه فأعطه» (10).

ص: 435


1- . تفسير الرازي 23:218، تفسير البيضاوي 2:123.
2- . تفسير الرازي 23:218، التهذيب 8:268/975، تفسير الصافي 3:433.
3- . الكافي 6:187/10، التهذيب 8:270/984، تفسير الصافي 3:433.
4- . في من لا يحضره الفقيه و تفسير الصافي: أو.
5- . من لا يحضره الفقيه 3:78/278، تفسير الصافي 3:433.
6- . من لا يحضره الفقيه 3:76/268، و فيه: فالمحسن معان، تفسير الصافي 3:433.
7- . تفسير روح البيان 6:149.
8- . تفسير الرازي 23:218.
9- . الكافي 6:189/17، تفسير الصافي 3:434.
10- . الكافي 6:187/7، عن أحدهما عليهما السّلام، تفسير الصافي 3:434.

و عن ابن عباس: أنّ الخطاب لغير السادات (1)، و المراد و آتوهم سهمهم الذي جعل اللّه لهم من الصدقات في قوله: وَ فِي اَلرِّقابِ (2).

و قيل: هذا أمر من اللّه للسادة و للناس أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من آعان مكاتبا على فكّ رقبته أظلّه اللّه تعالى في ظلّ عرشه» (4).

و روي أن رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: علمني عملا يدخلني الجنّة. قال: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعظمت المسألة، أعتق النّسمة و فكّ الرقبة» فقال: أليسا واحدا؟ فقال: «لا، عتق النّسمة أن تنفرد بعتقها، و فكّ الرقبة أن تعين في ثمنها» (3).

روي أن صبيحا مولى خويطب بن عبد العزّى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فنزلت الآية (4).

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر الموالي بتزويج العبيد و الإماء و مكاتبتهم، نهى عن الاساءة إليهم بإكراههم على الفجور بقوله: وَ لا تُكْرِهُوا أيها الموالي فَتَياتِكُمْ و إماءكم عَلَى اَلْبِغاءِ و الفجور و التكسّب بفروجهن إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً و تعفّفا.

قيل: إن الشرطية لبيان تحقّق موضوع الاكراه، لأنّ الإكراه لا يتحقّق إلاّ مع إرادة الأمة التعفّف (5).

و قيل: إن القيد مبنيّ على الغلبة، كما في قوله: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ (6).

و قيل: إنّ كلمة (إن) بمعنى إذا التوقيتية (7).

لِتَبْتَغُوا و تطلبوا باكراههنّ على الفجور عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و حطامها الفانية الدنيّة. روي أنه كان لعبد اللّه بن ابي ستّ جوار: معاذة، و مسيكة، و اميمة، و عمرة، و أروى، و قتيلة، يكرههنّ على البغاء، و ضرب عليهن الضرائب، فشكت ثنتان منهنّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت (8).

و قيل: إن عبد اللّه بن ابي اسر رجلا، فراود الأسير جارية عبد اللّه، و كانت الجارية مسلمة، فامتنعت منه لاسلامها، فأكرهها ابن ابي على ذلك رجاء أن تحمل الجارية من الأسير، فيطلب فداء ولده فنزلت (9).

و عن ابن عباس: أن عبد اللّه بن ابي جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه جارية من أجمل النساء تسمّى معاذة، فقال: يا رسول اللّه هذه الأيتام (10)، أ فلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا» فأعاد

ص: 436


1- . تفسير الرازي 23:218، و فيه: السادة.
2- . البقرة:2/177. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:218.
3- . تفسير الرازي 23:218.
4- . تفسير الرازي 23:217.
5- . مجمع البيان 7:221.
6- . النساء:4/23.
7- . تفسير الكشاف 3:240.
8- . تفسير الرازي 23:220.
9- . تفسير الرازي 23:220.
10- . في تفسير الرازي: لأيتام فلان.

الكلام فنزلت (1).

و عن جابر بن عبد اللّه، قال: جاءت جارية لبعض الناس فقالت: إنّ سيدي يكرهني على البغاء، فنزلت (2).

و القمي رحمه اللّه: كانت العرب و قريش يشترون الإماء، و يضعون (1)عليهنّ الضريبة الثقيلة، و يقولون: اذهبن و ازنين و اكتسبن، فناههم اللّه عزّ و جلّ عن ذلك (2).

ثمّ بيّن سبحانه إحسانه بالمكرهات بقوله: وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ على البغاء فَإِنَّ اَللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ بهن لكونهنّ معذورات بسبب الإكراه، و إنّما الإثم على المكرهين.

القمي رحمه اللّه: أي لا يؤاخذهنّ اللّه بذلك إذا أكرهن عليه (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «هذه الآية منسوخة نسختها فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ» (4).

آقول: الرواية مخالفة للقاعدة المتّفق عليها.

سوره 24 (النور): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الأحكام الكثيرة، مدح كتابه الكريم بقوله: وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيها الناس آياتٍ مُبَيِّناتٍ و أحكام واضحات بلسانكم وَ مَثَلاً و قصة عجيبة نظيرة للقصص العجيبة المتواترة مِنَ الأقوام اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من الدنيا، كرمي البرئ الذي وقع في شأن يوسف و مريم، أو المراد إنا بيّنا قصة حلول العذاب بالامم الذين من قبلكم لتكذيبهم الرسل، و جعلنا ذلك مثلا لكم، لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العذاب

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ اَلزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اَللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

ص: 437


1- . في تفسير القمي: و يجعلون.
2- . تفسير القمي 2:102، تفسير الصافي 3:434.
3- . تفسير القمي 2:102، تفسير الصافي 3:434.
4- . تفسير القمي 2:102، تفسير الصافي 3:434، و الآية من سورة النساء:4/25.

وَ انزلنا مَوْعِظَةً نافعة لِلْمُتَّقِينَ و الخائفين من اللّه، و سوء العاقبة من الوعيد، و التحذير عن المعاصي، كي تتعظوا بها و تتزجروا عنها.

ثمّ لما بيّن سبحانه الأحكام و الحدود التي بها ينتظم العالم، و تتّسق امور عيش بني آدم، و كان ذلك من شؤون مديريته للكلّ، وصف ذاته المقدّسة بكمال التدبير و غاية الحكمة، أو من شؤون كونه هاديا إلى الخيرات و دليلا منجيا من الظلمات بقوله: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مدبّرهما بقدرته الكاملة و حكمته البالغة، و سائق الموجودات إلى كمالها اللائق بها برحمته الواسعة، أو ناظمها أحسن نظام، أو منوّرهما بالشمس و القمر و الكواكب، أو مظهرهما و مخرجهما من كتم العدم إلى الوجود، أو مزيّن السماوات بالكواكب، و الأرض بالعلماء، أو هاد لأهل السماوات و لأهل الأرض، كما عن ابن عباس و أكثر مفسري العامة (1). و عن الرضا عليه السّلام أيضا (2).

و عن البرقي هدى من في السماوات، و هدى من في الأرض (3).

ثمّ بيّن وضوح هدايته بقوله: مَثَلُ نُورِهِ و الحالة العجيبة لهدايته التي هي الآيات البيّنات الدالة على توحيده و كمال صفاته، أو القرآن الذي هو نور و مظهر للصراط المستقيم، أو الرسول الهادي إلى الدين القويم، أو معارفه في قلوب المؤمنين كما عن ابن عباس (2)كَمِشْكاةٍ و مثل كوّة غير نافذة في الجدار موصوفة بأن (3)فِيها مِصْباحٌ و سراج ضخم مثير ثاقب يكون ذلك اَلْمِصْباحُ موضوعا فِي زُجاجَةٍ و قنديل صاف أزهر متلألئ، تلك اَلزُّجاجَةُ بحيث تكون من غاية تلألوءها كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ مضيء متلأليء من الكواكب الدراري المشهورة كالمشتري و الزّهرة و المرّيخ و عطارد و زحل و يُوقَدُ و يشتعل ذلك المصباح بدهن مِنْ دهن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ عظيمة النفع، أو النابتة في الأرض المباركة، تسمّى بشجرة زَيْتُونَةٍ التي دعا عليها سبعون نبيا منهم الخليل كما قيل (4)لا شَرْقِيَّةٍ تطلع عليها الشمس حين طلوعها دون غيرها وَ لا غَرْبِيَّةٍ تقع عليها حين غروبها فقط، بل تكون بين الجهتين كالشام، فتكون ثمرتها في غاية النّضج، و زيتها في غاية الصفاء، لشروق الشمس عليها كلّ حين.

و قيل: يعني أنها لا توصف بالشرقية و الغربية لأنّها من شجر الجنّة (5).

ص: 438


1- . تفسير الرازي 23:224، تفسير أبي السعود 6:175، تفسير روح البيان 6:153. (2 و 3) . التوحيد:155/1، تفسير الصافي 3:538.
2- . تفسير الرازي 23:233.
3- . كذا، و السياق يقتضي نصب كلمة (مصباح) و ما بعدها، إلاّ أن تكون (أن) مخفّفة من الثقيلة مهملة.
4- . مجمع البيان 7:225، تفسير الرازي 23:236، تفسير روح البيان 6:155.
5- . تفسير الرازي 23:236، تفسير روح البيان 6:155.

و من صفات تلك [الشجرة]أنّه يَكادُ زَيْتُها و دهن ثمرها يُضِيءُ بنفسه و ينوّر ما حوله وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ و لم تصبه نارٌ لغاية صفائه و تلألئه، فكيف إذا أصابته نار، فذلك المصباح الموقد المنير غايته مع اجتماع نوره في المشكاة و الكوّة، و انضمام نوره بصفاء دهنه و تلألؤ زجاجته كان له نُورُ شديد مضاعف عَلى نُورٍ شديد بحيث بلغت شدّته غايتها.

و حاصل المعنى أنه بناء على كون المراد بالنور في قوله: مَثَلُ نُورِهِ الهداية أو القرآن أنّ هداية اللّه تعالى أو حقّانية القرآن قد بلغت في الظهور و الجلاء الى أقصى الغايات، و صارت في الظهور بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية متلألئة، و في الزجاجة مصباح متوقّد بزيت له نهاية الصفاء، و إنّما شبّهها سبحانه بذلك، مع أنّ التشبيه بضوء الشمس أبلغ؛ لأنّ المقصود التشبيه بضوء كامل ظاهر بين الظلمات، و ليس ضوء الشمس كذلك، لأنّه إذا ظهر امتلأ العالم و لا تبقى ظلمة فيه يَهْدِي اَللّهُ بهدايته الخاصة الموصلة لِنُورِهِ و شرعه و أحكامه، أو إلى فهم ما في القرآن من دلائل حقانيته و العلوم و المعارف مَنْ يَشاءُ هدايته من عباده وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ و يقرب المطالب العقلية العالية إلى الأفهام القاصرة بتصويرها بصورة المحسوسات لطفا بالعباد وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من المعقولات و المحسوسات و دقائقها و جلائلها، و ضرب الأمثال و غيرها عَلِيمٌ، و أمّا بناء على كون المراد من النور نور الايمان، فالمراد تشبيه صدر المؤمن بالمشكاة، و قلبه بالزّجاجة الكائنة في المشكاة، و الإيمان بالمصباح المنير، و حصوله من البرهان و العيان بتوقّد المصباح من دهن الزيتون الصافي.

عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه، في هذه الآية: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قال: «بدأ بنور نفسه مَثَلُ نُورِهِ يعني مثل هداه في قلب المؤمن كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المشكاة جوف المؤمن، و القنديل قلبه، و المصباح النّور الذي جعله اللّه فيه (1)يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ قال: الشجرة المؤمن لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ قال: على سواء الجبل، لا شرقية أي لا شرق لها، و لا غربية أي لا غرب لها، إذا طلعت الشمس طلعت عليها، و إذا غربت غربت عليها يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ يكاد [النور]الذي جعله اللّه في قلبه يضيء و إن لم يتكلّم نُورٌ عَلى نُورٍ فريضة بعد (2)فريضة، و سنّة بعد (3)سنّة يَهْدِي اَللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ قال: يهدي اللّه لفرائضه و سننه من يشاء وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ قال: فهذا مثل ضربه اللّه للمؤمن، قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله

ص: 439


1- . في تفسير القمي: اللّه في قلبه. (2 و 3) . في تفسير القمي: على.

نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنّة و النور» (1).

قال الراوي: قلت لجعفر عليه السّلام: إنّهم يقولون مثل نور الرب؟ قال: «سبحان اللّه ليس للّه مثل، أما قال فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ اَلْأَمْثالَ؟» (2).

و قيل: إن المراد بالنور هو المعارف الالهية (3)، فشبّه سبحانه صدر المؤمن بالمشكاة، و قلبه بالزّجاجة، و عرفانه بالمصباح، و توقّده من الشجرة المباركة حصوله من إلهامات الملائكة، و إنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، و إنما وصفها بأنها لا شرقية و لا غربية لأنها روحانية، و إنما وصفهم بقوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لكثرة علومهم و إطلاعهم على أسرار ملكوت اللّه.

و قيل: إن المراد من النور دين الإسلام (4)، فشبّه سبحانه صدر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالمشكاة، و قلبه بالزّجاجة، و دينه بالمصباح، و توقّده من شجرة مباركة وصوله إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من إبراهيم، فانّ دين الاسلام هو ملّة إبراهيم، ثمّ وصف إبراهيم بكونه لا شرقية و لا غربية، لأنّه لم يصلّ قبل المشرق كالنصارى و قبل المغرب كاليهود، بل صلّى إلى الكعبة.

و قيل: إن المراد من النور نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فشبّه صلب عبد اللّه بالمشكاة، و جسد محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالزّجاجة، و نبوّته في قلبه بالمصباح (5).

و قيل: إنّ في الآية قلبا، و التقدير: مثل نوره كمصباح في مشكاة (6).

و عن الصادق عليه السّلام اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قال: «كذلك اللّه عزّ و جلّ مَثَلُ نُورِهِ قال: محمّد صلّى اللّه عليه و آله كَمِشْكاةٍ قال: صدر محمّد صلّى اللّه عليه و آله فِيها مِصْباحٌ قال: فيه نور العلم، يعني النبوة اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قال: علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صدر إلى قلب علي عليه السّلام اَلزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ قال: ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، لا يهودي و لا نصراني يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [قال: يكاد]يخرج العلم من فم [العالم من]آل محمّد من قبل أن ينطق به نُورٌ عَلى نُورٍ قال: الامام في أثر الإمام» (3).

«و عن الباقر عليه السّلام-فى حديث- «يقول اللّه: أنا هادي السماوات و الأرض، مثل العلم الذي أعطيته و هو النور الذي يهتدى به مثل المشكاة فيها المصباح، المشكاة قلب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المصباح نوره

ص: 440


1- . في تفسير القمي و الصافي: الجنة نور.
2- . تفسير القمي 2:103، تفسير الصافي 3:436، و الآية من سورة النحل:16/74. (3 و 4) . تفسير الرازي 23:232 و 233. (5 و 6) . تفسير الرازي 23:235.
3- . التوحيد:157/3، تفسير الصافي 3:435.

الذي هو (1)العلم، و قوله: اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ يقول: إني اريد أن أقبضك فأجعل الذي عندك عند الوصيّ، كما يجعل المصباح في زجاجة كأنّها كوكب درّي، فاعلمهم فضل الوصي يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ فأصل الشجرة المباركة إبراهيم عليه السّلام، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (2)و قوله: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (3).

لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يقول: لستم بيهود فتصلوا قبل المغرب، و لا نصارى فتصلّوا قبل المشرق، و أنتم على ملّة إبراهيم عليه السّلام، و قد قال اللّه عز و جل: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (4).

و قوله عزّ و جلّ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ يقول: مثل أولادكم الذين يولدون منكم مثل الزيت [الذي] يعصر من الزيتون، يكادون أن يتكلّموا بالنبوة و لم لم ينزل عليهم الملك (5).

أقول: لا يخفى اغتشاش متن الرواية.

سوره 24 (النور): آیه شماره 36 الی 38

ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته و ظهور توحيده بالآيات التكوينية، و ظهور هدايته لأهل العالم، و أن هداية المهتدين بتوفيقه، ذكر حال المهتدين و استغراقهم في ذكره و تسبيحه بقوله: فِي بُيُوتٍ عظيمة الشأن التي أَذِنَ اَللّهُ و أعلن بالاجازة و الرّخصة في أَنْ تُرْفَعَ تلك البيوت قدرا و تعظيما و تقديسا وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ بالثناء و التمجيد يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ و الصباح و المساء.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءِ اَلزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)قيل: إن فِي بُيُوتٍ صفة (مشكاة) و المعنى: كمشكاة فيها مصباح في بيوت (6).

و قيل: متعلّق بيوقد، و المعنى: يوقد من شجرة مباركة في بيوت (7)، أو بالفعل المقدر، و المعنى: صلّوا في بيوت.

ص: 441


1- . في الكافي: النور الذي فيه.
2- . هود:11/73.
3- . آل عمران:3/33 و 34.
4- . آل عمران:3/67.
5- . الكافي 8:380/574، تفسير الصافي 3:435. (6 و 7) . تفسير الرازي 24:2.

قيل: إنّ المراد المساجد الأربعة (1).

و عن ابن عباس: جميع المساجد (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي بيوت (3)الأنبياء و الرّسل و الحكماء و أئمة الهدى» (4).

و القمي عنه عليه السّلام: «هي بيوت الأنبياء، و بيت عليّ عليه السّلام منها» (5).

و عن الصادق: «هي بيوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله» (6).

و روى أن قتادة قال للباقر عليه السّلام: و اللّه لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدّامهم (7)فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. فقال له: «أتدري أين أنت؟ بين يدي بيوت أذن اللّه أن ترفع» إلى آخر الآية «فأنت ثمّ و نحن اولئك» .

و قيل: إنّ المراد بالتسبيح مطلق تنزيه اللّه تعالى ممّا لا يليق به (8).

و قيل: إنه الصلوات الخمس كلّها (9).

و عن ابن عباس: أنّ صلاة الضّحى لفي كتاب اللّه تعالى مذكورة، و تلا هذه الآية (10).

و قيل: إنه صلاة الصبح و العصر (11).

ثمّ كأنه قيل: من يسبّح فيها؟ فأجاب سبحانه بقوله: رِجالٌ مؤمنون لا تُلْهِيهِمْ و لا تشغلهم تِجارَةٌ و معاملة مالية رابحة وَ لا بَيْعٌ و مبادلة مال بمال عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ قلبا و لسانا وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ و أدائها بآدابها و شرائطها، فرائضها و نوافلها كما عن ابن عباس (12)و إِيتاءِ اَلزَّكاةِ الواجبة، و صرفها في مصارفها المقرّرة و عن ابن عباس المراد منها طاعة اللّه تعالى و الاخلاص (13)، و هم مع ذلك يَخافُونَ يَوْماً هائلا عظيما تَتَقَلَّبُ و تتغير فِيهِ من حال إلى حال اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصارُ من شدّة أهواله كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (14).

قيل: تقلّب القلوب بالتفقّه بعد الطبع، و تقلّب الأبصار بالتبصّر بعد العمى (15).

و قيل: تقلّب القلوب بلوغها الحناجر، و تقلب الأبصار صيرورتها زرقا (16).

و قيل: تغيّرهما بالحرقة و النّضج بسبب العذاب، إذ تقلبهما على جمر جهنم (17).

ص: 442


1- . تفسير الرازي 24:3.
2- . تفسير الرازي 24:3.
3- . في كمال الدين و تفسير الصافي: بيوتات.
4- . كمال الدين:218/2، تفسير الصافي 3:436.
5- . تفسير القمي 2:104، تفسير الصافي 3:436.
6- . الكافي 8:331/510، تفسير الصافي 3:436.
7- . في الكافي: و قدام ابن عباس.
8- . الكافي 6:256/1، تفسير الصافي 3:437.
9- . تفسير الرازي 24:4.
10- . تفسير الرازي 24:4.
11- . تفسير الرازي 24:4.
12- . تفسير الرازي 24:5.
13- . تفسير الرازي 24:5.
14- . إبراهيم:14/43.
15- . تفسير الرازي 24:5.
16- . تفسير الرازي 24:6.
17- . تفسير الرازي 24:6.

و قيل: إن القلوب تتقلّب طمعا في النجاة، و حذرا من العذاب، و الأبصار تتقلّب ليرى من أي ناحية يؤمر بهم إلى النار، و من أيّ جهة يعطون كتابهم.

و انما يداومون على التسبيح، و يستغرقون في الذّكر، و يهتمون بالعبادات البدنية و المالية لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ و يثيبهم في ذلك اليوم أَحْسَنَ جزاء ما عَمِلُوا من العبادات و الطاعات حسبما و عدلهم وَ يَزِيدَهُمْ على ما وعدهم ألطافا و أنعاما اخر لم يعدهم بها و لا تخطر على قلب أحد مِنْ فَضْلِهِ و كرمه وَ اَللّهُ يَرْزُقُ و يعطي نعمه مَنْ يَشاءُ إعطاءه الرزق و النّعم بِغَيْرِ حِسابٍ و بحيث لا يقدر أحد على تعداده و تقديره.

ثمّ اعلم أنّ بعض العامة نسب إلى كثير من الصحابة أنّهم قالوا: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل و بادروا إليها، لا في أصحاب الصّفة (1)الذين تركوا التجارة و لزموا المسجد (2).

عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «كانوا أصحاب تجارة، فاذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة، و هم أعظم أجرا ممّن لا يتجر» (3).

و في (الكافي) رفعه قال: «التجّار الذين لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللّه عزّ و جلّ، إذا دخلت مواقيت الصلاة أدّوا إلى اللّه حقّه فيها» (4).

و عنه عليه السّلام أنّه سأل عن تاجر ما فعل؟ فقيل: صالح و لكنه قد ترك التجارة، فقال: «عمل الشيطان- ثلاثا-أما علم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشترى عيرا أتت من الشام، فاستفضل فيها ما قضى دينه، و قسّم في قرابته، يقول اللّه عزّ و جلّ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ الآية، يقول القصاص: إنّ القوم لم يكونوا يتجرون، كذبوا و لكنّهم لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها، و هو أفضل ممّن حضر الصلاة و لم يتجر» (5).

سوره 24 (النور): آیه شماره 39 الی 40

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

ص: 443


1- . زاد في تفسير روح البيان: و أمثالهم.
2- . تفسير روح البيان 6:160.
3- . من لا يحضره الفقيه 3:199/508، تفسير الصافي 3:437.
4- . الكافي 5:154/21، تفسير الصافي 3:437.
5- . الكافي 5:75/8، تفسير الصافي 3:437.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين، و أنّهم في الدنيا في النور، و في الآخرة في النعيم و السرور، بيّن سوء حال الكفّار في الدارين بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله أَعْمالُهُمْ الخيرية كصلة الأرحام و إطعام الطعام و أمثالهما ممّا لو قارنه الايمان كان لهم أجرا عظيما عند اللّه يكون كَسَرابٍ و سبخة تلمع الشمس عليها عند الظهيرة، فيرى أنّها ماء جار بِقِيعَةٍ و أرض منبسطة مستوية يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ و يتوهّمه العطشان إذا رآه من البعيد ماءً جاريا، و يسعى في الوصول إليه حَتّى إِذا قرب منه و جاءَهُ طامعا لرفع العطش به لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً قابلا للشّرب و الانتفاع به، فيخيب رجاؤه، كذلك الكافر يعمل عمل البرّ في الدنيا [و]

يطمع الانتفاع به في الآخرة، ثمّ إذا وافى عرصات القيامة وجد ما عمل هباء منثورا، لا يكون له فيه نفع و ثواب، بل حاله أسوأ من الظمآن الذي قصارى أمره الخيبة، فانّ الكافر الخائب خيبته أعظم من خيبة الظمآن، و مع ذلك وَ وَجَدَ اَللّهَ و رأى عقابه الشديد، أو وجد زبانية اللّه عِنْدَهُ فانقلب ظنّ الانتفاع به بيقين الضرر العظيم فيه لكفره، فتعظم حسرته، و يتناهى غمّه و كربته فَوَفّاهُ اللّه و أعطاه بنحو الكمال حِسابَهُ و جزاءه بلا ريث وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ و إنّما أفرد سبحانه الضميرين الراجعين إلى الكفار و الضمير الراجع إلى أعمالهم للحمل على إرادة كلّ واحد منهم و منها.

قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة، فانّه كان قد تعبّد في الجاهلية، و لبس المسوح (1)، و التمس الدين، فلما جاء الاسلام كفر (2).

ثمّ ضرب سبحانه مثلا آخر لأعمالهم الفاسدة بقوله: أَوْ كَظُلُماتٍ كائنة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ و بعيد القعر حين يَغْشاهُ و يستره مَوْجٌ عظيم مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ عظيم آخر، فلمّا تراكمت الأمواج ارتفع على الموج الأعلى و حدث مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ غليظ ظلماني ساتر أضواء النجوم، فتحصل بسبب ظلمة البحر العميق و ظلمة الأمواج المتراكمة ظلمة السّحاب ظُلُماتٌ عديدة متكاثفة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فتشتدّ الظّلمة بحيث إنه إِذا أَخْرَجَ المبتلى بها يَدَهُ من جيبه و قرّبها من عينيه لَمْ يَكَدْ يَراها فضلا من أن يراها مع كونها أقرب شيء منه، و كذا لا يمكن أن يرى الكافر المبتلى بظلمة الكفر و ظلمة الأخلاق السيئة و ظلمة حبّ الدنيا عمله.

قيل: إنّ المثل الأول لأعمالهم الحسنة، و الثاني لأعمالهم القبيحة (3).

ص: 444


1- . المسوح: جمع مسح، و هو كساء من شعر.
2- . تفسير الرازي 24:8، تفسير البيضاوي 2:126، تفسير أبي السعود 6:181.
3- . تفسير الرازي 24:8.

و قيل: إنّ الأول لأعمالهم، و الثاني لعقائدهم، كما قال تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ (1)و استدل عليه بقوله: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً و إيمانا و هداية فَما لَهُ شيء مِنْ نُورٍ و هداية إلى خير أصلا.

و قيل: إن المثل لمجموع عقائدهم و أعمالهم، و المراد من الظلمات ظلمة الاعتقاد و ظلمة القول و ظلمة العمل (2).

و عن ابي بن كعب: الكافر يتقلّب في خمس من الظّلم: ظلمة كلامه، و ظلمة عمله، و ظلمه مدخله، و ظلمة مخرجه، و ظلمة مصيره إلى النار (3).

و قيل: إنّه مثل للكافر نفسه (4).

عن ابن عباس: شبّه قلبه و بصره و سمعه بهذه الظلمات الثلاث (5).

و قيل: قلبه مظلم و صدره مظلم، و جسده مظلم (6).

و قيل: إنّ الكافر في ظلمات ثلاث، حيث إنّه لا يدري، [و لا يدري]أنّه لا يدري، و يعتقد أنّه يدري (7).

سوره 24 (النور): آیه شماره 41 الی 42

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه حال رجال مهتدين بنوره، مستغرقين في أنوار توحيده و معارفه، و متوجّهين إلى ذكره و تسبيحه و القيام إلى الصلاة له، بخلاف المشركين المنغمرين في الظلمات، بيّن أنّ لكلّ موجود معرفة بتوحيد خالقه و ذكرا و تسبيحا (8)و صلاة له تعالى على حسبه بقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ و ينزّهه في ذاته و صفاته و أفعاله ممّا لا يليق به من النقص و الخلل مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و ما فيهما (9)من العقلاء و غيرهم تنزيها معنويا بلسان الحال، و هو إمكانه و تكوينه و تغييره، أو تعبير مناسب بحيث تفهمه العقول السليمة، و ذكر (من) في الآية لتغليب العقلاء وَ تسبّح اَلطَّيْرُ بأنواعها حال كونها صَافّاتٍ بأجنحتها، باسطات لها في الهواء، متمكّنات من الوقوف و الحركة في الجوّ كيف تشاء، مع اقتضاء ثقل جسمها السقوط و إنّما أفردها بالذّكر مع كونها داخلة (10)

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (42)

ص: 445


1- . البقرة:2/257.
2- . تفسير الرازي 24:8.
3- . تفسير الرازي 24:8.
4- . تفسير الرازي 24:8.
5- . تفسير الرازي 24:8.
6- . تفسير الرازي 24:9.
7- . تفسير الرازي 24:8.
8- . في النسخة: و ذكر و تسبيح.
9- . في النسخة: و ما فيها.
10- . في النسخة: داخلا.

في ما في الأرض، لكونها حال الطيران بين السماء و الأرض، و كُلٌّ من الأشياء المذكورة مع تنزيهه التكويني و دلالة كمال نقصه على كمال خالقه قَدْ عَلِمَ بإلهام اللّه صَلاتَهُ و ابتهاله إلى اللّه في حاجته و استفاضته من فضله وَ تَسْبِيحَهُ و تنزيهه الاختيارى خالقه.

عن الصادق عليه السّلام: «ما من طير يصاد في برّ أو بحر، و لا يصاد شيء من الوحش إلاّ بتضييعه التسبيح» (1).

و روى بعض العامّة عن أبي ثابت، قال: كنت جالسا عند أبي جعفر (2)الباقر عليه السّلام، فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس و بعد طلوعها؟ قلت: لا. قال: «إنّهن يقدّسن ربّهن و يسألنه قوت يومهن» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ للّه ملكا في صورة الدّيك الأملح الأشهب، براثنه (4)في الأرض السابعة، و عرفه تحت العرش، له جناحان: جناح بالمشرق، و جناح بالمغرب، فأمّا الجناح الذي في المشرق فمن ثلج، و الجناح الذي في المغرب فمن نار، فكلّما حضر وقت الصلاه قام [الديك]على براثنه، و رفع عرفه تحت العرش، ثمّ أمال أحد جناحيه إلى الآخر يصفّق بهما كما يصفّق الديك في منازلكم، فلا الذي من الثلج يطفئ النار، و لا الذي من النار يذيب الثلج، ثمّ ينادي بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله خاتم النبيّين، و أن وصيه خير الوصيّين سبّوح قدّوس رب الملائكة و الرّوح. فلا يبقى في الأرض ديك إلاّ أجابه، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ اَلطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ» (5).

قيل: إنّا نشاهد أنّ اللّه تعالى ألهم الطيور و الحشرات أعمالا لطيفة، يعجز عنها أكثر العقلاء، فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته و دعاءه و تسبيحه؟ (6)

و قال آخر: إنّ اللّه خلق الخلق ليسبّحوه، فأنطقهم بالتسبيح له و الثناء عليه و السجود له، و أشهد نبيّه (7)ذلك و أراه، و لذا قال مخاطبا لنبيه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ إلى آخره، و لم يقل: ألم تروا، لأنّا ما رأيناه فهو لنا إيمان، و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله عيان (8).

ص: 446


1- . تفسير القمي 2:107، تفسير الصافي 3:439.
2- . في النسخة: جعفر بن محمّد، و في تفسير الرازي: محمد بن جعفر.
3- . تفسير الرازي 24:10، تفسير روح البيان 6:164.
4- . البراثن: جمع برثن: و هو مخلب الطائر الجارح.
5- . تفسير القمي 2:106، تفسير الصافي 3:439.
6- . تفسير الرازي 24:11.
7- . في تفسير الصافي: و السجود له فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ. . . الآية، و خاطب بهاتين الآيتين نبيّه الذي اشهده.
8- . تفسير الصافي 3:439.

و قيل: إنّ المراد قد علم اللّه صلاته و تسبيحه لقوله بعده: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (1)من التسبيح و الدعاء، فيجازيهم بما يستحقّون، و

فيه تهديد للغافلين ثمّ بيّن سبحانه كمال عظمته الموجبة للخضوع له و الثناء عليه بقوله: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لأنه خالقهما و خالق ما فيهما من الذزرة و الدّرة، و المتصرّف في الجميع إيجادا و إعداما و تقليبا و تغييرا وَ إِلَى اَللّهِ خاصة اَلْمَصِيرُ و الرجوع للكلّ بالفناء و البعث، فعلى العاقل أن يخضع لهذا الملك القادر القاهر العظيم، و يسبحّه و يقدّسه من الشريك و المثل و الحاجة و النقائص الإمكانية.

سوره 24 (النور): آیه شماره 43

ثمّ استدلّ سبحانه على كمال عظمته و قدرته بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد، أو أيها الانسان بعين رأسك أَنَّ اَللّهَ يُزْجِي و ينشئ شيئا فشيئا، أو يسوق قليلا قليلا سَحاباً متقطعا ثُمَّ يُؤَلِّفُ و يجمع بَيْنَهُ و يضمّ بعض القطعات إلى بعض ثُمَّ بعد تأليف قطعاته و صيرورته سحابا واحدا يَجْعَلُهُ رُكاماً و يصيّره متراكما حتى يكون غليظا قابلا لحمل الماء الكثير فَتَرَى بعد ذلك التأليف و التراكم اَلْوَدْقَ و [الودق]

: المطر، كما عن ابن عباس (2)يَخْرُجُ و يتقاطر مِنْ خِلالِهِ و فرجه التي حدثت من تراكمه و تعصيره بسبب الرياح.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43)عن الباقر عليه السّلام-في حديث يذكر فيه أنواع الرياح-قال: «و منها رياح تحبس السّحاب بين السماء و الأرض، و منها رياح تعصر السّحاب فتمطر بإذن اللّه، و منها رياح تفرّق السّحاب» (3).

وَ يُنَزِّلُ اللّه أيضا مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ (4)أو جهة العلو بعضا مِنْ جِبالٍ و قطع عظام يكون فِيها مقدار معين مِنْ بَرَدٍ و مطر منجمد في الجوّ كالثلج فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أن يصيبه، فيناله ما يناله من الضرر في نفسه و ماله وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ صرفه عنه و منعه من السقوط عليه، كي لا يتضرّر به.

قيل: إنّ أكثر المفسرين قالوا: إنّ في السماء جبالا من برد، خلقها اللّه تعالى كذلك، ثمّ ينزل منها ما شاء (5)من السّحاب.

ص: 447


1- . تفسير الرازي 24:10.
2- . تفسير الرازي 24:13.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:345/1525، تفسير الصافي 3:440.
4- . كذا، و لفظ السماء مؤنث، و يجوز تذكيره.
5- . تفسير الرازي 24:14.

عن الصادق عليه السّلام قال: «البرد لا يؤكل؛ لأن اللّه عزّ و جلّ يقول: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ» (1).

يَكادُ و يقرب سَنا بَرْقِهِ و ضوء لمعانه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ التي للناظرين إليه، و يخطفها (2)من شدة الإضاءة و سرعة الورود.

قيل: إنّ البرق يحدث من ضرب تلك السّحاب (3). و قيل: إنّه نار تنقدح من اصتكاك الأجزاء الدّخانية في جوف السّحاب (4)، و من قدرة اللّه ظهور النار من البرد الذي هو ضدّها.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن اللّه عزّ و جلّ جعل السحاب غرابيل للمطر، هي تذيب البرد [حتى يصير]ماء لكيلا يضرّ شيئا يصيبه، و الذي ترون فيه من البرد و الصّواعق نقمة من اللّه عزّ و جلّ يصيب بها من يشاء من عباده» (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ استدلّ سبحانه على قدرته ثالثا بقوله: يُقَلِّبُ اَللّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ و يجعلهما متعاقبين، أو يغيّرهما بالزيادة و النقص، و الحرّ و البرد، و النّور و الظّلمة، ممّا يقع فيهما من الامور التي من جملتها إزجاء السّحاب و ما يترتّب عليه.

يُقَلِّبُ اَللّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصارِ (44) وَ اَللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اَللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)و في الحديث، قال: «قال اللّه تعالى يؤذيني ابن آدم بسب الدهر، و أنا الدهر، بيدي الأمر اقلّب الليل و النهار» (4).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الآيات المفصّلة لَعِبْرَةً و عظة أو دلالة واضحة على توحيد اللّه و قدرته و استحقاقه للخضوع و التعظيم لِأُولِي اَلْأَبْصارِ الثاقبة و ذوي الأنظار الصائبة.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بما في السماوات و الأرض و الآثار العلوية، استدلّ بخصوص خلق الحيوان و اختلافه بقوله: وَ اَللّهُ خَلَقَ بقدرته كُلَّ دَابَّةٍ و حيوان متحرّك مِنْ ماءٍ فانّه أصل جميع الموجودات، كما عن ابن عبّاس قال: إنّ اللّه خلق جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة، فصارت ماء، ثمّ من ذلك الماء خلق النار و الهواء و النور، فأصل جميع الموجودات حتى الملائكة و الجنّ و آدم من ماء (5).

ص: 448


1- . الكافي 6:388/3، تفسير الصافي 3:440.
2- . في النسخة: و يخطفهما. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:166.
3- . الكافي 8:240/326، تفسير الصافي 3:440.
4- . تفسير روح البيان 6:166.
5- . تفسير روح البيان 6:167.

و قيل: إنّ المراد كلّ دابّة متولّدة من ماء خلقها اللّه (1).

و قيل: إنّ المراد كلّ دابة سكنت الأرض، فإنّ غالبها مخلوقة من النّطفة، و الحكم على الغالب، أو على الكلّ، لأنّ الماء أحد عناصر الكلّ (2).

فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ لعدم آلة المشي له كالحيّة، و إنّما قدّم ذكره لكونه أعجب وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالانسان و الطير وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ قوائم كالنّعم و الوحش، أو أربع جهات كالعناكب و العقارب و غيرها ممّا يمشي على أكثر من أربع قوائم.

و قيل: إنّه تعالى نبّه على سائر أقسام الحيوانات بقوله: يَخْلُقُ اَللّهُ ما يَشاءُ ممّا ذكر و ممّا لم يذكر (1).

و قيل: عدم ذكرها لعدم الاعتداد بها، و إنّما أتى سبحانه بضمير جمع العقلاء لتغليبهم، و أتى بالموصول الذي للعقلاء ليوافق التفصيل الإجمال (2).

ثمّ قرّر سبحانه كمال قدرته بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء.

سوره 24 (النور): آیه شماره 46 الی 47

ثمّ نبّه سبحانه على تمامية الحجّة على توحيده و كمال صفاته بقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ و موضحات لجميع ما يحتاج إليه البشر من دلائل التوحيد و كمال الصفات و الأحكام الدينية و الأسرار التكوينية وَ اَللّهُ بالتوفيق للنظر و التفكّر فيها يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الدين القويم المرضي عنده الموصل إلى كلّ خير في الدنيا و إلى كلّ نعمة في الآخرة، و هو الاسلام.

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَ يَقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)

ثمّ أنّه تعالى بعد التنبيه بنزول الآيات المتمّمة للحجة على التوحيد و الرسالة و صحّة دين الاسلام، ذمّ المنافقين المصرّين على الكفر بقوله: وَ يَقُولُونَ هؤلاء المنافقون كذبا و نفاقا آمَنّا بِاللّهِ و وحدانيته وَ بِالرَّسُولِ عن صميم القلب وَ أَطَعْنا أحكامهما، و امتثلنا أوامرهما و نواهيهما بإخلاص النيّة ثُمَّ يَتَوَلّى و يعرض عن قبول حكمه فَرِيقٌ و طائفة مِنْهُمْ عنادا للحقّ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ القول النفاقي من إظهار الايمان و الطاعة وَ الحال أنه ما أُولئِكَ الذين يدّعون

ص: 449


1- . تفسير روح البيان 6:168.
2- . تفسير أبي السعود 6:185.

الايمان و الطاعة بِالْمُؤْمِنِينَ باللّه و الرسول عن صميم القلب.

سوره 24 (النور): آیه شماره 48 الی 49

ثمّ بيّن سبحانه تولّيهم عن حكمه بقوله: وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول بَيْنَهُمْ عند تنازعهم في شيء إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ عن التحاكم إليه، لعلمهم بأنّهم على خلاف الحقّ،

و أنّ الرسول لا يساعدهم على باطلهم بالرشوة و المصانعة وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ و الحكم لا عليهم يَأْتُوا إِلَيْهِ للمحاكمة حال كونهم مُذْعِنِينَ و منقادين لحكمه لجزمهم بأنّه صلّى اللّه عليه و آله يحكم لهم.

وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)قيل: الآيات في بشر المنافق، خاصم يهوديا في أرض، فدعاه إلى كعب ابن الأشرف من أحبار اليهود، و دعاه اليهودي إلى النبي (1).

و عن الضحاك: أنّها نزلت في المغيرة بن وائل، كان بينه و بين علي بن أبي طالب عليه السّلام أرض فتقاسمها، فوقع إلى عليّ عليه السّلام منها ما لا يصله الماء إلاّ بمشقّة، فقال المغيرة: يعني أرضك، فباعها إياه و تقابضا، فقيل للمغيرة: أخذت أرضا سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي عليه السّلام: اقبض أرضك فإنّما اشتريتها أن رضيتها و لم أرضها لأنّه لا ينالها الماء، فقال عليّ عليه السّلام: «بل اشتريتها و رضيتها و قبضتها و عرفت حالها لا أقبلها منك» و دعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال المغيرة: أمّا محمّد فلست آتيه و لا احاكم إليه، فانّه يبغضني، و إنيّ أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت (2).

و عن (المجمع) ، و عن البلخي، قال: كانت بين عليّ و عثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ عليه السّلام فخرجت فيها احجار، فأراد ردّها بالعيب، فلم يأخذها، فقال: بيني و بينك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له، فلا تحاكمه إليه، فنزلت. قال: و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام، أو قريب منه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و عثمان، و ذلك أنّه كان بينهما منازعة في حديقة، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: نرضى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان: لا تحاكمه إلى رسول اللّه، فانّه يحكم له عليك، و لكن حاكمه إلى ابن شيبة (4)اليهودى. [فقال لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا

ص: 450


1- . تفسير الرازي 24:20، تفسير روح البيان 6:169.
2- . تفسير الرازي 24:20.
3- . مجمع البيان 7:236، تفسير الصافي 3:442.
4- . في تفسير القمي: ابن أبي شيبة.

أرضى إلاّ بابن شيبة اليهودي]. فقال ابن شيبة لعثمان: تأتمنون محمدا على وحي السماء، و تتّهمونه في الأحكام؟ ! فأنزل اللّه: وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ الآيات (1).

سوره 24 (النور): آیه شماره 50 الی 53

ثمّ بيّن سبحانه نهاية شناعة إعراضهم ببيان انحصار علّته في أحد الامور التي كلّها من أشنع الشنائع بقوله: أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من الكفر و النفاق من أول الأمر أَمِ اِرْتابُوا و شكّوا في رسالة الرسول بعد اليقين بها أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّهُ و يجوز عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ في حكمهما، و ليس أحد الأمرين مع تحقّقهما فيهم، لأنّهما مقتضيان لعدم اتيانهما إليه، و لو كانوا محقّين، و لا الثالث لوضوح أمانة الرسول و عدم اغماضه عن الحق عندهم بَلْ أُولئِكَ المعرضون هُمُ اَلظّالِمُونَ على المحقّين، المصرّون على البغي على الناس.

أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفائِزُونَ (52) وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)

ثمّ بيّن سبحانه صفة المؤمنين المخلصين بقوله: إِنَّما كانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ المخلصين إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول بَيْنَهُمْ و بين خصومهم، و لو كانوا من غيرهم أَنْ يَقُولُوا للداعين سَمِعْنا دعاءكم وَ أَطَعْنا ه بالاجابة و القبول وَ أُولئِكَ المؤمنون هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ و الفائزون بجميع المطالب الدنيوية و الاخروية، الناجون من كلّ محذور.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ المعنيّ بالآية أمير المؤمنين عليه السّلام» (2).

ثمّ أكّد سبحانه وجوب طاعة الرسول بقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في ما ساءه، و سرّه، و نفعه و ضرّه وَ يَخْشَ اَللّهَ في ما مضى من ذنوبه أن يؤاخذه عليه وَ يَتَّقْهِ و يحذره في ما بقي من عمره فَأُولئِكَ المطيعون الخاشعون المتّقون هُمُ اَلْفائِزُونَ بالفيوضات الأبدية و النّعم الدائمة.

قيل: إنّ ملكا سأل علماء عصره عن آية في القرآن إن عمل بها عمل بجميع القرآن، فاتّفق العلماء

ص: 451


1- . تفسير القمي 2:107، تفسير الصافي 3:442.
2- . مجمع البيان 7:237، تفسير الصافي 3:442.

على هذه الآية (1)حيث إنّها على إيجازها حاوية لجميع ما ينبغي للمؤمن أن يفعله.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه استنكاف المنافقين عن إطاعة الرسول و الانقياد لحكمه، حكى حلفهم الكاذب على طاعتهم له بقوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و حلفوا أشدّ حلفهم تقوية لما أخبروا به من قولهم: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج لَيَخْرُجُنَّ.

عن مقاتل لمّا بيّن اللّه تعالى كراهة المنافقين لحكم الرسول فقالوا: و اللّه لئن امرتنا ان نخرج من ديارنا و أموالنا و نسائنا لخرجنا (2).

ثمّ أمر سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله نهيهم عن هذا القسم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد لا تُقْسِمُوا على ما تقولون غدرا و نفاقا، فانّ المطلوب منكم طاعَةٌ للرسول مَعْرُوفَةٌ لكلّ أحد بالأفعال و الإخلاص و صدق النيّة، لا اليمين الكاذبة. أو المعنى طاعة معروفة أمثل من قسمكم بما لا تصدّقون فيه، أو المعنى دعوا القسم فانّ عليكم طاعة معروفة فتمسّكوا بها، أو طاعتكم طاعة نفاقية فانّها معروفة منكم لكلّ أحد إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الغدر و النفاق لا يخفى عليه سرائركم، و إنّه فاضحكم و مجازيكم على نفاقكم.

سوره 24 (النور): آیه شماره 54

ثمّ بالغ سبحانه في وجوب طاعته و طاعة رسوله بقوله: قُلْ: يا محمّد لهؤلاء المنافقين أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع الفرائض و السنن من صميم القلب و صدق الإيمان برجاء الفوز و الفلاح.

قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (54)ثمّ صرف سبحانه الكلام عن الغيبة إلى الخطاب إبلاغا في تبكيتهم بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا و تعرضوا عن الطاعة الحقيقية للّه و الرسول فَإِنَّما عَلَيْهِ صلّى اللّه عليه و آله ما حُمِّلَ و كلّف به من تبليغ الرسالة وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ و كلّفتم من الإجابة و الطاعة، فإن لا تطيعوه فقد بقيتم تحت هذا الحمل و الثقل، و بقيت عليكم تبعاته وَ إِنْ تُطِيعُوهُ في ما أمركم به تَهْتَدُوا إلى جميع الخيرات الأبدية التي هي أقصى المطالب، و تخلّصوا من الشرور و المهالك وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ المكرم إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و التبليغ الواضح الموضّح لجميع ما تحتاجون إليه، و قد فعل و ليس عليه إجباركم على الطاعة، و إنّما بقي ما حمّلتم، فان أدّيتم فلكم، و إن تولّيتهم فعليكم.

ص: 452


1- . الكشاف 3:250، تفسير روح البيان 6:171.
2- . تفسير الرازي 24:23.

عن الصادق عليه السّلام-في خطبة في وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «و أدّى ما حمّل من أثقال النبوة» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا معاشر قرّاء القرآن، أتّقوا اللّه عزّ و جلّ في ما حمّلكم من كتابه، فإنّي مسؤول و إنّكم مسؤولون، إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة، و أمّا أنتم فتسألون عمّا حملّتم من كتاب اللّه و سنّتي» (2).

سوره 24 (النور): آیه شماره 55

ثمّ لمّا وصف سبحانه المؤمنين بالطاعة و الانقياد للرسول صلّى اللّه عليه و آله و حرّض الناس عليه، وعد من جمع بين الايمان و العمل بالأحكام بغاية الإعزار و الاكرام في الدنيا بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أيها الناس وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ من أداء الواجبات و ترك المحرّمات مؤكّدا وعده بالقسم بذاته المقدسة، إنّه لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ و ليجعلنّهم متصرّفين فِي اَلْأَرْضِ تصرّف الملوك في ممالكهم، و مسّلطين عليها سلطنة السلاطين في أقاليمهم كَمَا اِسْتَخْلَفَ المؤمنين اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ في زمن داود و سليمان و غيرهما وَ لَيُمَكِّنَنَّ و ليسهّلنّ لَهُمْ بالتوفيق و التأييد دِينَهُمُ و العمل بأحكام شرعهم اَلَّذِي اِرْتَضى و اختار لَهُمْ من غير مانع و مزاحم وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً من ضرّهم و شرّهم، بأن ينصرهم عليهم، فيقتلونهم و يستريحون من كيدهم و بأسهم، فعند ذلك يَعْبُدُونَنِي آمنين و لا يُشْرِكُونَ بِي في عبادتي شَيْئاً و لا يتقون في العمل بأحكامي أحدا وَ مَنْ كَفَرَ و ارتدّ عن الدين المرضي له، أو ثبت على كفره، أو جحد حقّ هذه النّعمة بَعْدَ ذلِكَ الترغيب و الترهيب فَأُولئِكَ الكافرون هُمُ اَلْفاسِقُونَ و الكاملون في الخروج عن حدود العقل و الشرع.

وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (55)قيل: إنّ اللّه انجز هذا الوعد بعد هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، فانّ أصحابه كانوا قبل الهجرة في أكثر من اثنى عشر سنة (3)خائفين من الكفار، فلمّا هاجروا كانوا يصبحون و يمسون في السلاح حتى

ص: 453


1- . الكافي 1:369/17، تفسير الصافي 3:443.
2- . الكافي 2:443/9، تفسير الصافي 3:443.
3- . في تفسيري البيضاوي و روح البيان: من عشر سنين.

أظهرهم اللّه على العرب كلّهم، و فتح لهم بلاد الشرق و الغرب (1)، فدلّت الآية على صحة نبوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ فيها إخبارا بالغيب، لوقوع ما أخبر في الخارج مطابقا للخبر (2).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هم الائمة عليهم السّلام» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «و لقد قال اللّه عزّ و جلّ في كتابه لولاة الأمر من بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله خاصة: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إلى قوله: فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ يقول: أستخلفكم لعلمي و ديني و عبادتي بعد نبيكم، كما استخلفت (4)وصاة آدم من بعده حتى يبعث النبيّ الذي يليه، يعبدونني بإيمان بأنّه لا نبيّ بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فمن قال غير ذلك فأولئك هم الفاسقون، فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالعلم، و نحن هم، فاسألونا فان صدقناكم فأقرّوا، و ما أنتم بفاعلين» (5).

و القمي: نزلت في القائم من آل محمّد عليهم السّلام (6).

و عن (المجمع) : المروي عن أهل البيت عليهم السّلام: «انها في المهدي من آل محمّد عليهم السّلام» (7).

و عن العياشي، عن علي بن الحسين عليهما السّلام: أنه قرأ الآية و قال: «هم و اللّه شيعتنا أهل البيت، يفعل [اللّه]ذلك بهم على يدي رجل منّا، و هو مهدي هذه الامّة، و هو الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا» (8).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية، قال الراوي: قلت: يابن رسول اللّه فانّ هذه النواصب تزعم أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر و عمر و عثمان و علي عليه السّلام؟ فقال: «لا يهدي [اللّه]قلوب النواصب، متى كان الدين الذي ارتضاه اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله متمكنّا بانتشار الأمن (9)في الامّة، و ذهاب الخوف من قلوبها، و ارتفاع الشكّ من صدورها في عهد واحد من هؤلاء؟ و في عهد علي عليه السّلام مع ارتداد المسلمين و الفتن التي كانت تثور في أيامهم، و الحروب التي كانت تنشب بين الكفّار و بينهم؟» (10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث ذكر [فيه]مثالب الثلاثة و إمهال اللّه إيّاهم-قال: «كلّ ذلك لتتمّ النّظرة التي أوجبها اللّه تعالى لعدوه إبليس إلى أن يبلغ الكتاب أجله، و يحق القول على الكافرين

ص: 454


1- . تفسير البيضاوي 2:130، تفسير روح البيان 6:174.
2- . تفسير الرازي 24:24 المسألة السادسة.
3- . الكافي 1:150/3، تفسير الصافي 3:443.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: استخلف.
5- . الكافي 1:195/7، تفسير الصافي 3:443.
6- . تفسير القمي 1:14، تفسير الصافي 3:444.
7- . مجمع البيان 7:239، تفسير الصافي 3:444.
8- . مجمع البيان 7:239، تفسير الصافي 3:444، عن العياشي.
9- . في النسخة: الأمر.
10- . كمال الدين:356/50، تفسير الصافي 3:444.

و يقرب الوعد (1)الذي بيّنه اللّه في كتابه بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إلى آخره، و ذلك إذا لم يبق من الاسلام إلاّ اسمه، و من القرآن إلاّ رسمه، و غاب صاحب الأمر باتّضاح العذر (2)له في ذلك، لاشتمال الفتنة على القلوب، حتى يكون الأقرب إليه أشدّ (3)عداوة له، و عند ذلك يؤيّده اللّه بجنود لم تروها، و يظهر دين نبيه صلّى اللّه عليه و آله على يديه، و يظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون» (4).

سوره 24 (النور): آیه شماره 56 الی 57

ثمّ أنّه تعالى بعد وعد المؤمنين بالاستخلاف و التمكين لهم، حثّ إلى الأعمال الصالحات التي أهمّها الصلاة و الزكاة و طاعة الرسول بقوله: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ في جميع أحكامه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.

وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ (57)

ثمّ هدّد سبحانه الكافرين بقوله: لا تَحْسَبَنَّ و لا تتوهّمن يا أيّها النبي و المؤمنون اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ اللّه عن إدراكهم و إهلاكهم فِي قطر من أقطار اَلْأَرْضِ بما رحبت، و إن هربوا كلّ مهرب، بل هم مقهورون تحت قدرته في كلّ آن و حال و مكان في الدنيا وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ في الآخرة، وَ باللّه لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ و المرجع تلك النار لهم.

سوره 24 (النور): آیه شماره 58

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من أحكام التعفّف و الحثّ على امتثالها بالوعد و الوعيد، عاد إلى بقية تلك الأحكام بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا من الرجال و النساء لِيَسْتَأْذِنْكُمُ في الدخول عليكم اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد، أو العبيد و الجواري وَ اَلَّذِينَ يميّزون بين العورة و غيرها من

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

ص: 455


1- . في الاحتجاج: و يقترب الوعد الحق.
2- . في الاحتجاج: بإيضاح الغدر.
3- . في الاحتجاج: أقرب الناس إليه أشدهم.
4- . الاحتجاج:256، تفسير الصافي 3:445.

الصبيان الذين لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ و لم يصلوا إلى حدّ البلوغ مِنْكُمْ أيّها الأحرار ثَلاثَ مَرّاتٍ في اليوم و الليلة في أوقات تكرهون أن يمرّ عليكم فيها أحد.

أحدها: الوقت الذي يكون مِنْ قَبْلِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ فانّه وقت القيام من المضاجع و خلع ثياب النوم، و لبس (1)ثياب اليقظة.

وَ الثاني: حِينَ تَضَعُونَ و تخلعون ثِيابَكُمْ التي تلبسونها في النهار مِنَ اَلظَّهِيرَةِ و شدّة الحرّ لأجل القيلولة، و هي بعد انتصاف النهار.

و قيل: مِنَ اَلظَّهِيرَةِ بيان للحين (2)، و المعنى وقت الظهر، و إنّما عبّر عن الوقت بملاك الأمر، و هو وضع الثياب و التجرّد دون الوقت الأول الثالث لمعروفيتهما به دون الوسط.

و الثالث: الوقت الذي يكون في الليل حين النوم وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ اَلْعِشاءِ فانّه وقت التجرّد عن اللباس و الدخول في فراش النوم و الالتحاف باللّحاف، فتلك الأوقات ثَلاثُ عَوْراتٍ و أوقات تكون لَكُمْ يختلّ فيها التستّر بحسب العادة.

ثمّ صرّح سبحانه بالترخيص في الدخول بغير الاستئذان للمماليك و الصبيان الأحرار بعد كلّ واحد من تلك الأوقات، و كأنّه قيل: ما حكم الأوقات الاخر؟ فأجاب سبحانه بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ و حرج أو إثم بَعْدَهُنَّ في الدخول بغير الاستئذان، لعدم ما يوجبه من الاطّلاع على العورات، مع أنّ المماليك و الصبيان طَوّافُونَ و دوّارون عَلَيْكُمْ للخدمة بل بَعْضُكُمْ طائف عَلى بَعْضٍ هم يطوفون عليكم للخدمة، و أنتم تطوفون عليهم للاستخدام و التربية فالاستئذان بعد الضرورة إلى المخالطة مستلزم للحرج و الضيق، و لمّا كان الطّواف شاملا للفريقين، لم يكتف سبحانه بقوله: طَوّافُونَ بل أبدل من طَوّافُونَ بقوله: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ و هذا الأمر بالنسبة إلى البالغين تكليف، و بالنسبة إلى الصبيان تمرين.

ثمّ أظهر سبحانه المنّة على الناس بقوله: كَذلِكَ التبيّن يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ الدالة على المعارف و الأحكام، و ينزلها واضحة الدلالة وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم و مصالحكم حَكِيمٌ في أفعاله و تشريع أحكامه.

روي أن غلاما لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت (3).

و قيل: إنّه أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مدلج بن عمرو الأنصاري وقت الظهيرة ليدعو عمر، و كان غلاما،

ص: 456


1- . في النسخة: اليوم، و ليس.
2- . تفسير روح البيان 6:175.
3- . تفسير الرازي 24:29، تفسير أبي السعود 6:193.

فدخل عليه و هو نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أن اللّه تعالى نهى آباءنا و أبناءنا و خدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلاّ بإذن، ثمّ انطلق معه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجده و قد أنزلت عليه هذه الآية (1).

روى عكرمة: أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس عن هذه الآية، فقال: إنّ اللّه ستير يحب السّتر، و كان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم و لا حجال في بيوتهم، فربّما فاجأ الرجل ولده أو خادمه أو يتيما في حجره، و يرى منه ما لا يحبه، فأمرهم اللّه تعالى أن يستأذنوا الثلاث ساعات التي سمّاها، ثمّ جاء باليسر و بسط الرزق عليهم، فاتخذوا السّتور و الحجال، فرأى الناس أنّ ذلك [قد] كفاهم عن الاستئذان الذي امروا به (2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «ليستأذن عليك بعد العشاء التي تسمّى عتمة، و حين تصبح، و حين تضعون ثيابكم من الظهيرة، إنّما أمر اللّه عزّ و جلّ بذلك للخلوة و إنّها ساعات غرّة و خلوة» (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 59

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم غير البالغين من الأطفال، و نفي الجناح في الدخول بغير الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، بيّن حكم البالغين منهم بقوله: وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ الأحرار الكائنين مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ و حدّ البلوغ، و أرادوا الدخول عليكم في وقت من الأوقات فَلْيَسْتَأْذِنُوا منكم فيه كَمَا اِسْتَأْذَنَ الأحرار اَلَّذِينَ بلغوا الحلم مِنْ قَبْلِهِمْ و الذين ذكروا من قبل، ذكرهم بقوله: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها (4).

وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)ثمّ أكّد سبحانه تفخيم آياته و الأمر بالاستئذان بقوله: كَذلِكَ التبيّن يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

عن الصادق عليه السّلام قال: «ليستأذن الذين ملكت أيمانكم، و الذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات كما أمركم اللّه» . قال: «و من بلغ منكم الحلم فلا يلج على امّه، و لا على اخته، و لا على خالته-و في رواية عن الباقر عليه السّلام بدل الخالة الابنة (5)-و لا على من سوى ذلك إلاّ بإذن؛ و لا تأذنوا حتى تسلّموا، فانّ السّلام طاعة للّه عزّ و جلّ» و قال: «ليستأذن عليك خادمك إذا بلغ الحلم في ثلاث عورات، إذا

ص: 457


1- . تفسير أبي السعود 6:193.
2- . تفسير روح البيان 6:176.
3- . الكافي 5:529/1.
4- . النور:24/27.
5- . الكافي 5:530/3.

دخل في شيء منهنّ، و لو كان بيته في بيتك» الخبر (1).

و تخصيص الأمر بالاستئذان بالأحرار يدلّ على أن الأرقّاء البالغين كغير البالغين في اختصاص الاستئذان بالأوقات الثلاثة لبقاء العلّة.

و قيل: إنّ الرقّ البالغ محرم على مولاته، يجوز له النظر إلى ما يجوز للمحارم (2)، و ادّعى جمع من الأصحاب الاجماع على عدم محرميته، و ادّعى بعض أنّ الآية منسوخة، كما عن بن جبير و غيره و هو باطل (3).

سوره 24 (النور): آیه شماره 60

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النساء بالتعفّف و السّتر من البالغين، رخّص للنساء العجائز كشف الرأس و الوجه، و وضع القناع و الجلباب بقوله: وَ اَلْقَواعِدُ عن الولد و الحيض و الزوج مِنَ اَلنِّساءِ العجائز اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً و لا يطمعون في آن يتزوّجهنّ الرجال لكبرهنّ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ و إثم في أَنْ يَضَعْنَ و يلقين عند الرجال و في مرآهم ثِيابَهُنَّ الساترة لرؤوسهن و شعورهنّ كالجلباب و الإزار و القناع، حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ و منكشفات للرجال مصاحبات بِزِينَةٍ و محاسن امرن أن يخفينها من الرجال كالسّوار و الخلخال و القلادة، و غير مظهرات لها لعدم خوف الفتنة في حقّهن.

وَ اَلْقَواعِدُ مِنَ اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)عن الصادق عليه السّلام: «أنه قرأها فقال: الجلباب و الخمار إذا كانت المرأة مسنّة» (4).

و عنه عليه السّلام، قال: «الخمار و الجلباب» . قيل: بين يدي من كان؟ فقال: «بين يدي من كان» (5).

و في رواية اخرى: «تضع الجلباب وحده» (6)، [و في اخرى]: «إلاّ أن تكون أمّة، فليس عليها جناح أن تضع خمارها» (7).

و عن الرضا عليه السّلام، قال: «أي غير (8)الجلباب» قال: «فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهنّ» (9).

أقول: حاصل المراد أنّهنّ إذا خرجن من بيوتهنّ بالزّينة التي يجب سترها من الحليّ و ثياب التجمّل، يجب عليهنّ أخذ الجلباب، لأنّ هذا النحو من الخروج يدلّ على أنّهن متبرّجات و داعيات

ص: 458


1- . الكافي 5:529/1.
2- . تفسير الرازي 24:28.
3- . الكشاف 3:254.
4- . الكافي 5:522/4، تفسير الصافي 3:447.
5- . الكافي 5:522/1، تفسير الصافي 3:447.
6- . الكافي 5:522/2، تفسير الصافي 3:447.
7- . التهذيب 7:480/1928، تفسير الصافي 3:447.
8- . في النسخة: عنى.
9- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:98/1، تفسير الصافي 3:447.

للشبّان إلى التفرّج، لا طالبات لحاجتهنّ، و إذا خرجن بغير زينة فلا جناح عليهنّ أن يضعن الجلباب و البرد و القناع وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بترك الوضع و يستترن بالجلباب و نظائره خَيْرٌ لَهُنَّ من الوضع لبعده عن التهمة وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لما يجري بينهنّ و بين الرجال من المقال عَلِيمٌ بضمائرهنّ و مقاصدهنّ.

سوره 24 (النور): آیه شماره 61

ثمّ لمّا نفى سبحانه الجناح عن المرأة المسنّة في وضع الثياب، نفى الحرج عن أصناف في ترك العمل ببعض التكاليف بقوله: لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ و وبال و إثم وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ و الزمن حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ في ترك الجهاد على قول (1)أو في مؤاكلة الأصحّاء على آخر (2).

لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)قيل: إنهم كانوا يمتنعون من مؤاكلة الأصحّاء، أما الأعمى فلاحتمال أكله الأجود و تركه الاردأ للمبصر، و أما الأعرج فلا احتمال تضييق المكان على جليسه لاحتياجه إلى مكان زائد، و أما المريض فلاحتمال تأذّي الصحيح من مجالسته لمرضه، أو كانوا جميعا يتحذّرون من استقذار الأصحّاء إياهم (3).

و قيل: إنّ الأصحّاء كانوا لا يأكلون مع الفرق الثلاث، لأنّ الأعمى لا يبصر الطعام الجيد فلا يأخذه، و الأعرج لا يستطيع الجلوس فيأكل هو لقمة و يأكل غيره لقمتين، و المريض لا يمكنه أن يأكل كما يأكل الصحيح (4)، و على هذا الوجه يكون (على) بمعنى (في) و لا بدّ من تقدير المضاف، و المعنى ليس في مؤاكلة الأعمى حرج.

و عن عبيد اللّه بن عبد اللّه: أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم (3)، و كانوا يسلّمون إليهم مفاتيح

ص: 459


1- . تفسير الرازي 24:35.
2- . تفسير الرازي 24:35، تفسير روح البيان 6:179. (3 و 4) . تفسير الرازي 24:35.
3- . أي مرضاهم.

أبوابهم، و يقولون [لهم]: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك، و قالوا: لن ندخلها و هم غائبون، فنزلت الآية رخصة لهم (1).

و عن ابن عباس، نزلت في الحارث بن عمرو، و ذلك أنّه خرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غازيا، و خلّف مالك (2)بن زيد على أهله، فلمّا رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله، فقال: تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك (3).

و عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية. قال: «و ذلك أنّ أهل المدينة قبل أن يسلموا كانوا يعتزلون (4)الأعمى و الأعرج و المريض، و كانوا لا يأكلون معهم، و كان الأنصار فيهم تيه (5)و تكرّم (6)، فقالوا: إنّ الأعمى لا يبصر الطعام، و الأعرج لا يستطيع الزّحام على الطعام، و المريض لا يأكل كما يأكل الصحيح، فعزلوا لهم طعامهم على ناحية، و كانوا يرون [عليهم]في مؤاكلتهم جناحا، و كان الأعمى و الأعرج و المريض يقولون: لعلّنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم، فاعتزلوا من مؤاكلتهم» الخبر (7).

ثمّ أباح سبحانه للناس الأكل من بيوت أزواجهم و أولادهم و أقاربهم بقوله: وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ حرج في أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بيوت أزواجكم و أولادكم التي هي بمنزلة بُيُوتِكُمْ لشدّة الاتصال بينكم و بينهم أَوْ من بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ من بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ من ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ و تملّكتم التصرّف فيه باذن ربّه أَوْ من بيت صَدِيقِكُمْ.

قيل: كان المؤمنون يذهبون بالضّعفاء و ذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم و أولادهم و قراباتهم و أصدقائهم، فيطعمونهم منها، فلمّا نزل قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً (8)فعند ذلك أمتنع الناس أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت (9).

و قيل: كانت الأنصار في أنفسهم قزازة (10)، و كانوا لا يأكلون من هذه البيوت إذا استغنوا (11).

و قيل: كان الرجل يدخل بيت أبيه، أو بيت أخيه، أو اخته، فتتحفه المرأة بشيء من الطعام، فيتحرّج

ص: 460


1- . تفسير الرازي 24:35.
2- . في تفسير الرازي: بن مالك.
3- . تفسير الرازي 24:35.
4- . في تفسير القمي: يعزلون.
5- . التية: التكبر.
6- . في تفسير القمي: تكرمة.
7- . تفسير القمي 2:108، تفسير الصافي 3:448.
8- . زاد في تفسير الرازي: أي بيعا، و الآية من سورة النساء:4/29.
9- . تفسير الرازي 24:35.
10- . التقزّز: التباعد عن المعايب و المعاصي ترفّعا و تنزّها.
11- . تفسير الرازي 24:35.

لأنّه ليس ثمّ ربّ البيت (1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «الرجل [يكون]له وكيل يقوم في ماله، فيأكل بغير إذنه» (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام، قال: «ليس عليك جناح فيما أطعمت أو أكلت ممّا ملكت مفاتحه ما لم تفسده» (3).

و عن (المجمع) عن أئمة الهدى عليهم السّلام أنهم قالوا: «لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره اللّه تعالى (4)قدر حاجتهم من غير إسراف» (5).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما يعني بقوله: أَوْ صَدِيقِكُمْ؟ قال: «هو و اللّه الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه» (6).

و عنه عليه السّلام: «هؤلاء الذين سمّى اللّه عزّ و جلّ في هذه الآية، تأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم، و كذلك طعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه، فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا» (7).

و عنه عليه السّلام قال: «للمرأة أن تأكل و أن تتصدّق، و للصديق أن يأكل من منزل أخيه و يتصدّق» (8).

ثمّ لمّا ذكر أن الأنصار كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصناف الثلاثة و يعزلون لهم طعامهم على ناحية، و هم أيضا كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحّاء خوفا من تأذيّهم، نفى اللّه الجناح في مؤاكلتهم بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ أيّها الأصحّاء و ذوي العاهات جُناحٌ في أَنْ تَأْكُلُوا الطعام جَمِيعاً و مجتمعين أَوْ أَشْتاتاً و متفرّقين.

عن ابن عباس: أنّها نزلت في بني ليث بن عمرو، و هم حيّ من كنانة، كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، و كان الرجل لا يأكل، و يمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، و ربما قعد الرجل و الطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرّواح، و ربما كان معه الإبل المملؤة الضّرع لبنا، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى و لم يجد أحدا أكل، فرخّص اللّه في هذه الآية الأكل وحده (9).

و قيل: إنّ الأنصار كانوا إذا نزل بواحد منهم ضيف، لم يأكل إلاّ و ضيفه معه، فرخّص اللّه لهم أن

ص: 461


1- . تفسير الرازي 24:35.
2- . الكافي 6:277/5، تفسير الصافي 3:449.
3- . الكافي 6:277/4، تفسير الصافي 3:449.
4- . زاد في المصدر: بغير إذنهم.
5- . مجمع البيان 7:246، تفسير الصافي 3:449.
6- . الكافي 6:277/1، تفسير الصافي 3:449.
7- . الكافي 6:277/2، تفسير الصافي 3:449.
8- . الكافي 6:277/3، تفسير الصافي 3:449.
9- . تفسير الرازي 24:37، تفسير أبي السعود 6:196، تفسير روح البيان 6:181.

يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرّقين (1).

و قيل: إنّهم كانوا يأكلون فرادى خوفا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفّر أو يؤذي فنفي (2)اللّه الجناح في أن يأكلوا معا (1).

ثمّ إنّه تعالى بعد الإذن في الأكل من البيوت المذكورة، بيّن آداب الدخول فيها بقوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ أيّها المسلمون بُيُوتاً من البيوت المذكورة فَسَلِّمُوا عَلى أهلها الذين هم بمنزلة أَنْفُسِكُمْ لما بينكم و بينهم من القرابة النسبية و الدينية الموجبة لذلك.

عن الباقر عليه السّلام: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل، ثمّ يردّون عليه، فهو سلامكم على أنفسكم» (2)فانّ السّلام يكون تَحِيَّةً و تكرمة، أو المعنى فحيّوا تحية تكون مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و مشروعة من لدنه مأمورا بها من قبله، و تكون مُبارَكَةً و مستتبعة لزيادة الخيرات و البركات في الدنيا و الثواب في الآخرة، و تكون أيضا طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث- «إذا دخلت بيتا (3)فسلّم عليهم، يكثر خير بيتك» (4).

عن الباقر عليه السّلام، قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته، فان كان فيه أحد فليسلّم عليه (5)، و إن لم يكن فيه أحد فليقل: السّلام علينا من عند ربّنا يقول اللّه: تحية من عند اللّه مباركة طيبة» (6).

عن ابن عبّاس: من قال: السّلام عليكم، [معناه]اسم اللّه عليكم (7).

و عن الطبرسي: وصفها بالبركة و الطيب لأنّها دعوة مؤمن لمؤمن يرجو بها (8). زيادة الخير و طيب الرزق (9).

ثمّ منّ سبحانه على العباد بإيضاح الأحكام الفخيمة بقوله: كَذلِكَ التبيين يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون ما في تضاعيفها من الأحكام، و تعملون بها و تحوزون به سعادة الدارين.

سوره 24 (النور): آیه شماره 62

إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمُ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

ص: 462


1- . في النسخة: يأكلوا معه.
2- . معاني الأخبار:162/1، تفسير الصافي 3:450.
3- . في تفسيري أبي السعود و روح البيان: بيتك.
4- . تفسير أبي السعود 6:197، تفسير روح البيان 6:182، و فيه: يكثر خيرك.
5- . في تفسير القمي: يسلم عليهم.
6- . تفسير القمي 2:109، تفسير الصافي 3:450.
7- . تفسير الرازي 24:38.
8- . زاد في جوامع الجامع: من اللّه.
9- . جوامع الجامع:319، تفسير الصافي 3:450.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان آداب الدخول في البيوت و الورود على الأهل، بيّن آداب الخروج من عند الرسول بقوله: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ الخالصون في الايمان الصادقون في تصديق الرسول هم اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ و أطاعوهما في جميع الأحكام و اتّبعوا الرسول وَ إِذا كانُوا مَعَهُ مجتمعين عَلى أَمْرٍ جامِعٍ و في خطب مهمّ موجب لاجتماع المؤمنين عليه، كالتشاور في أمر عظيم، و مقاتلة الأعداء و الجمعة و الأعياد لَمْ يَذْهَبُوا من عنده، و لم يخرجوا من محضره حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ و لم يتفرّقوا عنه حتى يستجيزوا منه، و يأذن لهم و يخبرهم، فانّ الاستئذان و أخذ الإذن منه صلّى اللّه عليه و آله مميّز المخلص من المنافق. ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا محمّد، تعظيما لك و رعاية للأدب (1)أُولئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ حقا، لا الذين لا يستأذنون لأنّهم عملوا بوظيفة الإيمان، فاذا علمت أنّ المستأذنين هم المخلصون في الإيمان فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ في الخروج و الانصراف من عندك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ المهمّ و خطبهم العظيم الملمّ فَأْذَنْ أيّها الرسول لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ و رأيت الصلاح في الإذن له، و لا اعتراض عليك وَ اِسْتَغْفِرْ بعد الإذن لَهُمُ اَللّهَ فانّ الاستئذان-و إن كان للأمر المهمّ-لا يخلو عن شائبة ترجيح أمر الدنيا على الآخرة، كما استأذن عمر في غزوة تبوك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الرجوع إلى أهله، فأذن له (2)إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ بهم.

قيل: نسخت الآية بقوله: عَفَا اَللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (3)و فيه ما لا يخفى من الضّعف.

قيل: كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يعرض في خطبته بالمنافقين و يعيبهم، فينظر المنافقون يمينا و شمالا، فإذا راوا أنّ المسلمين لا يرونهم انسلّوا و خرجوا و لم يصلّوا، و إن رأوا أنهم يرونهم ثبتوا و صلّوا خوفا فنزلت، فكان بعد نزول الآية لا يخرج المؤمن لحاجة حتى يستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان المنافقون يخرجون بغير إذن (4).

و قيل: نزلت في حفر الخندق (5). و كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان الحفر من أهمّ الامور حتى حفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنفسه.

ص: 463


1- . في النسخة: الأدب.
2- . تفسير الرازي 24:39، تفسير روح البيان 6:183.
3- . تفسير الرازي 24:39، و الآية من سورة التوبة:9/43.
4- . تفسير الرازي 24:39.
5- . تفسير الرازي 24:40.

و عن القمي: نزلت في حنظلة بن أبي عامر (1)، و ذلك أنه تزوّج في الليلة التي في صبيحتها حرب احد، فاستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقيم عند أهله، فأنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فأقام عند أهله، ثمّ أصبح و هو جنب، فحضر القتال و استشهد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء و الأرض، فسمّي غسيل الملائكة» (2).

سوره 24 (النور): آیه شماره 63

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إذن الخروج من عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله، بيّن آداب مخاطبته بقوله: لا تَجْعَلُوا أيّها المسلمون دُعاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ و نداءه كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً آخر و ندائه.

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)عن سعيد بن جبير: يعني لا ينادى كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمّد، يا أبا القاسم، و لكن قولوا: يا رسول اللّه، يا نبيّ اللّه (3).

و عن الباقر عليه السّلام [قال]: «يقول: لا تقولوا يا محمّد، و لا يا أبا القاسم، و لكن قولوا: يا نبي اللّه، يا رسول اللّه» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قالت فاطمة عليها السّلام: لما نزلت هذه الآية هبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أقول له يا أبه، فكنت أقول: يا رسول اللّه، فأعرض عنّي مرّة أو اثنتين أو ثلاثا، ثمّ أقبل إليّ فقال: يا فاطمة، إنّها لم تنزل فيك، و لا في أهلك، و لا في نسلك، أنت منّي و أنا منك، إنّما نزلت في أهل الجفاء و الغلظة من قريش أصحاب البذخ و الكبر، قولي: يا أبه، فإنّها أحيى للقلب، و أرضى للرب» (5).

و عن ابن عباس: يعني لا ترفعوا أصواتكم في دعائه (6).

و قيل: لا تجعلوا أمره [إياكم]و دعاءه لكم، كما يكون من بعضكم لبعض، إذ كان أمره فرضا لازما (7).

و قيل: أحذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه، فانّ دعاءه مستجاب ليس كدعاء غيره (8).

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الخارجين بلا إذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اَللّهُ المنافقين اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ و يخرجون مِنْكُمْ قليلا قليلا من بين المؤمنين لِواذاً و تستّرا ببعض لئلا يراهم

ص: 464


1- . في تفسيري القمي و الصافي: ابن أبي عياش، تصحيف انظر اسد الغابة 2:59.
2- . تفسير القمي 2:110، تفسير الصافي 3:451.
3- . تفسير الرازي 24:40.
4- . تفسير القمي 2:110، تفسير الصافي 3:451.
5- . مناقب ابن شهرآشوب 3:320، تفسير الصافي 3:451.
6- . تفسير الرازي 24:40.
7- . تفسير الرازي 24:39.
8- . تفسير الرازي 24:40.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنون أنّهم يخرجون بغير إذن.

و قيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه (1)، و على أي تقدير فيه تهديد شديد.

ثمّ هدّد سبحانه المعرضين عن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سنتّه بقوله: فَلْيَحْذَرِ ألبتة اَلَّذِينَ يُخالِفُونَ و يتخلّفون عَنْ أَمْرِهِ و يعرضون أو عن أمر اللّه من أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ و عقوبة عظيمة في الدنيا، كما عن ابن عبّاس (2)، أو الزّلازل و الأهوال (3)، أو ظهور نفاقهم (4)، أو تسلّط السلطان الجائر عليهم، كما عن الصادق عليه السّلام (5)أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

سوره 24 (النور): آیه شماره 64

ثمّ أعلن سبحانه بكمال قدرته و سعة علمه إرعابا للقلوب، و زجرا عن مخالفته و مخالفة رسوله بقوله: أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إيجادا و إعداما، و تصرّفا و تدبيرا، و إبداء و إعادة قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيّها الناس من الأحوال التي من جملتها النفاق و خلوص الايمان و الطاعة و المخالفة وَ يعلم يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ و يردون إلى محضر عدله و دار جزائه فَيُنَبِّئُهُمْ و يعلمهم بِما عَمِلُوا من الأعمال السيئة، و يظهر لهم على رؤوس الأشهاد شنائعهم، و يرتّب عليها ما يليق بها من الجزاء وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الجليّات و الخفيّات عَلِيمٌ محيط لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء.

أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)عن الصادق عليه السّلام: «حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النور، و حصّنوا بها نساءكم، فانّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم، أو في كلّ ليلة، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتى يموت، فاذا هو مات شيّعه سبعون ألف ملك كلّهم يدعون و يستغفرون اللّه حتى يدخل في قبره» (6).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تنزلوا النساء الغرف، و لا تعلّموهن الكتابة، و علّموهن المغزل و سورة النور» (7).

الحمد للّه الذي منّ عليّ لإتمام تفسير سورة النور و أسأله التوفيق لاتمام تفسير ما يليها من السور.

ص: 465


1- . تفسير الرازي 24:40.
2- . تفسير الرازي 24:42، و لم ينسب إلى أحد.
3- . تفسير الرازي 24:42.
4- . تفسير الرازي 24:42.
5- . جوامع الجامع:320، تفسير الرازي 24:42.
6- . ثواب الاعمال:109، مجمع البيان 7:194، تفسير الصافي 3:452.
7- . الكافي 5:516/1، تفسير الصافي 3:452.

ص: 466

في تفسير سورة الفرقان

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة بتوصيف المؤمنين الخلّص (1)و إيجاب طاعة النبيّ و تعظيمه، و تهديد المنافقين و المخالفين لأمره بالعذاب، و بيان كمال قدرته و سلطنته و علمه ترهيبا للقلوب، اردفت بسورة الفرقان التي افتتحت بإثبات التوحيد و نبوة نبيّه، و ذكر أهوال القيامة، و ختمت بذكر صفات العباد المخلصين، فابتدأها بذكر الأسماء المباركات حسب دأبه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

تَبارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)

ثمّ لمّا كان إثبات الصانع و كمال صفاته أهمّ الامور افتتحها بقوله: تَبارَكَ و تكاثر خير الإله اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ و أنزل نجوما القرآن الذي هو معدن العلوم و المعارف و الحكم، و منبع جميع الخيرات، و الفارق بين الحقّ و الباطل عَلى عَبْدِهِ و رسوله محمد صلّى اللّه عليه و آله لِيَكُونَ هو، أو الفرقان لِلْعالَمِينَ و كافّة الجنّ و الإنس إلى يوم القيامة نَذِيراً و مخوّفا من العذاب على عصيان اللّه

اَلَّذِي يكون من شواهد عظمته و عظيم سلطانه و كمال قدرته أنّ لَهُ وحده مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و السلطنة التامة في عالم الوجود من الجبروت و الملكوت و الناسوت وَ لَمْ يَتَّخِذْ لنفسه و لم يختر لذاته وَلَداً يعبد من دونه و يرث ملكه وَ لَمْ يَكُنْ له من الأزل شَرِيكٌ و ندّ فِي اَلْمُلْكِ و السلطنة، بل هو متفرّد في الالوهية و الربوبية وَ خَلَقَ و أوجد كُلَّ شَيْءٍ قابل للوجود فَقَدَّرَهُ و هيّأه لما يصلح من الكمال و الادراك و النظر و التدبير في امور المعاش و المعاد تَقْدِيراً بديعا و تهيأ عجيبا.

ص: 467


1- . في النسخة: الخلّصين.

عن الرضا عليه السّلام قال: «أتدري ما التقدير؟» قيل: لا. قال: «هو وضع الحدود من الآجال و الأرزاق و البقاء و الفناء» (1).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 3 الی 5

ثمّ وبّخ المشركين العابدين لغيره بقوله: وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه آلِهَةً كثيرة، و معبودين وفيرون (2)من الأصنام و الأوثان مع أنّهم لا يَخْلُقُونَ من الموجودات شَيْئاً و إن كان حقيرا، و لا يقدرون على إيجاد شيء و إن كان يسيرا وَ هُمْ يُخْلَقُونَ بقدرة الغير و هواه كسائر الموجودات وَ لا يَمْلِكُونَ و لا يستطيعون لِأَنْفُسِهِمْ التي هي أعزّ الأنفس عند ذوي الشعور أن يدفعوا ضَرًّا وَ لا أن يجلبوا (3)نَفْعاً فكيف لغيرهم وَ لا يَمْلِكُونَ أن يوجدوا مَوْتاً لحيّ وَ لا حَياةً لميّت وَ لا نُشُوراً و بعثا من القبور للجزاء يوم القيامة، و فيه تنبيه على أنّ القدرة على الإحياء و الإماته و البعث للجزاء من لوازم الالوهية، فمن لا يقدر عليها فهو بمعزل من الالوهية.

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (3) وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ اِفْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (4) وَ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و إبطال الشرك، شرع في إثبات نبوة خاتم الأنبياء و ردّ شبهات منكريها بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله: إِنْ هَذا القرآن الذي يستدلّ به على نبوته ما هو إِلاّ إِفْكٌ و كذب و شيء مصروف عمّا هو عليه من الباطل إلى صورة الحقّ هو اِفْتَراهُ و اختلقه من عند نفسه وَ أَعانَهُ و ساعده عَلَيْهِ في إخباره بتواريخ الامم الماضية لكونه اميا لم يقرأ الكتب قَوْمٌ آخَرُونَ مطّلعون على كتب التواريخ من اليهود.

قيل: نزلت في النّضر بن الحارث، فانّه الذي قال هذا القول، و المقصود من القوم الآخرين عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، و يسار غلام عامر بن الحضرمي، و جبير (4)مولى عامر، فإنّهم كانوا من أهل الكتاب، و كانوا يقرؤن التوراة، و يحدّثون منها أحاديث، فلمّا أسلموا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتعهّدهم، فلذا قال النظر ذلك (5).

ص: 468


1- . تفسير القمي 1:24، تفسير الصافي 4:4.
2- . في النسخة: وفيرة.
3- . في النسخة: (ضرا) أو يجلبوا.
4- . في تفسير الرازي: و جبر.
5- . تفسير الرازي 24:50.

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: فَقَدْ جاؤُ و أتوا بما قالوا ظُلْماً عظيما حيث جعلوا الكلام المعجز إفكا و اختلاقا مفتعلا من اليهود وَ زُوراً و كذبا واضحا حيث نسبوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما هو برئ منه، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله تحدّى بالقرآن مع كون معارضيه مهرة الكلام و خراريت (1)فنّ الفصاحة، قادرين على الاستعانة بأهل الكتاب و المطّلعين على التواريخ السالفة، حريصين على إبطال أمره و إطفاء نوره، و مع ذلك عجزوا عن إتيان أقصر سورة مثله،

و لو كان من كلام البشر لأتوا به وَ قالُوا أيضا هذا القرآن الذي جاء به أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و خرافات المتقدّمين و الأحاديث الملفّقات المنقولة من السابقين هو اِكْتَتَبَها و أمر غيره بثبتها في أوراق فَهِيَ تُمْلى و تقرأ عَلَيْهِ بعد كتابتها بُكْرَةً وَ أَصِيلاً و أول النهار و آخره ليحفظها من أفواه الذين يقرءونها، لكونه اميا لا يعرف الخطّ حتى يقدر على قراءتها بنفسه.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 6 الی 8

ثمّ أمر سبحانه النبي صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمّد، إنّ ما أتاكم به من القرآن إنّما أَنْزَلَهُ علىّ الإله اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ الكامن فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خفيّات الموجودات، لأنّ القادر على تركيب الألفاظ تركيبا يعجز عنه جميع الفصحاء مع اشتمالها على الأخبار بالمغيبات و العلوم الكثيرة و الأحكام الموافقة لصلاح العباد و نظام العالم، لا يكون إلاّ من العالم بجميع الامور حتى الأسرار و الخفيات في عالم الكون، فهو يعلم سرّكم و جهركم، و ظاهركم و باطنكم، و باطن أمر الرسول، و براءته ممّا تتهمونه به، و يجازيكم على ما علم منكم، و لكن لا يعاجلكم بالعقوبة إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً مع استحقاق العقوبة.

قُلْ أَنْزَلَهُ اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ اَلظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية قدح المشركين في القرآن، حكى قدحهم في الرسول بقوله: وَ قالُوا اعتراضا على رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تصغيرا لشأنه، و إظهارا للتعجّب من ادّعائه و استهزاء به بتسميته بالرسول ما هذا الحال المعجب الذي يكون لِهذَا اَلرَّسُولِ على قوله، و هو أنه يَأْكُلُ اَلطَّعامَ كما نأكل وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ لحوائجه و طلب معاشه كما نمشي، إذن هو بشر مثلنا لا

ص: 469


1- . الخراريت، جمع خرّيت: أي الحاذق الماهر، و الدليل الحاذق بالدلالة، و في النسخة: خراريط.

فضيلة له علينا، مع أنّ الرسول لا بدّ أن يكون ملكا لا يأكل و لا يحتاج إلى ما نحتاج إليه.

ثمّ لو سلّمنا إمكان كون الرسول بشرا نقول: لَوْ لا أُنْزِلَ من قبل ربّه إِلَيْهِ مَلَكٌ من الملائكة على صورته المباينة لصورة الجنّ و الإنس فَيَكُونَ ذلك الملك باتّفاق هذا الرسول و مَعَهُ للناس نَذِيراً و مبلّغا عن اللّه،

و شاهدا له على رسالته حتى يعلم الناس صدقه أَوْ يُلْقى من السماء إِلَيْهِ كَنْزٌ و مال كثير مجتمع حتى ينفق منه على نفسه، و يعيش بالسّعة، و على الفقراء المؤمنين به، و على غيرهم، ترويجا لدينه أَوْ تَكُونُ لَهُ على فرض التنزيل جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها و يعيش بثمارها كواحد من الدهاقين حتى يخرج من ذلّ الفقر و الحاجة وَ قالَ اَلظّالِمُونَ و المتجاوزون عن حدود العقل، المتعدّون على أنفسهم باهلاكها، و على سائر الناس باضلالهم: أيها المؤمنون بمحمّد إِنْ تَتَّبِعُونَ و ما تقلّدون في دينكم إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً و مغلوبا على عقله، لأنّه يقول على خلاف قومه قولا لا يقبله منه عاقل.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 9

ثمّ لمّا كان قولهم في نهاية القباحة و الشناعة و غاية البعد عن حدود العقل، أعرض سبحانه عن جوابهم، و خاطب نبيه بقوله: اُنْظُرْ يا محمّد إلى مقالة هؤلاء السفهاء، و تعجّب من أنهم كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ و قالوا في حقّك تلك اَلْأَمْثالَ و الأقاويل الغريبة المعجبة الخارجة عن العقول، فانّهم أرادوا القدح في نبوّتك فَضَلُّوا و تاهوا عن سلك العقل و طريق معرفة النبي صلّى اللّه عليه و آله فَلا يَسْتَطِيعُونَ و لا يقدرون أن يجدوا إلى الطعن فيك أو إلى الرشد و الهدى سَبِيلاً فانّ الطعن في نبوة مدّعيها لا يكون إلاّ بالطعن في معجزاته لا بهذه الأباطيل.

اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)روي عن العسكري عليه السّلام قال: «قلت لأبي، علي بن محمّد: هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يناظر اليهود و المشركين إذا عاتبوه و يحاجّهم؟ قال: [بلى]مرارا كثيرة، و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة، فابتدأ عبد اللّه بن [أبي]امية المخزومي فقال: يا محمّد، لقد ادعّيت دعوى عظيمة، و قلت مقالا هائلا؛ زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، و ما ينبغي لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا، يأكل كما نأكل، و يمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا ملك الروم، و هذا ملك فارس لا يبعثان رسولا إلاّ كثير المال عظيم خطير (1)، له قصور و دور و فساطيط و خيام و عبيد و خدّام، و ربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم، فهم عبيده، و لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدّقك

ص: 470


1- . في تفسير العسكري و الاحتجاج: عظيم الحال.

و نشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث نبيا لكان إنّما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمّد إلاّ مسحورا، و لست بنبيّ، ثمّ اقترحوا أشياء كثيرة» .

إلى أن قال الامام: «فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللهم أنت السامع لكلّ صوت، و العالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل اللّه عليه: يا محمّد وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ إلى قوله: قُصُوراً مع آيات اخر. قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عبد اللّه، أمّا ما ذكرت [من]أنّي آكل الطعام كما تأكلون، و زعمت أنّه لا يجوز لأجل هذه أن أكون للّه رسولا، فانّما الأمر للّه تعالى يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد، و هو محمود، و ليس لك و لا لأحد الاعتراض [عليه]بلم و كيف، ألا ترى أنّ اللّه تعالى كيف أفقر بعضا و أغنى بعضا، و أعزّ بعضا و أذل بعضا و أصح بعضا و أسقم بعضا، و شرّف بعضا و وضع بعضا، و كلّهم ممن يأكل الطعام؟

ثمّ ليس للفقراء أن يقولوا: لم أفقرتنا و أغنيتهم، و لا للوضعاء أن يقولوا: لم وضعتنا و شرفتهم، و لا للزّمناء و الضعفاء. أن يقولوا لم أزمنتنا و أضعفتنا و صحّحتهم؟ و لا للأذلاء أن يقولوا: لم أذللتنا و أعززتهم؟ و لا لقباح الصور أن يقولوا: لم أقبحتنا و جمّلتهم؟ بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادّين، و له في احكامه منازعين، و به كافرين، و لكان جوابه لهم: أنا الملك الخافض الرافع، المغني المفقر، المعزّ المذلّ، المصحح المسقم، و أنتم العبيد، ليس لكم إلاّ التسليم لي و الانقياد لحكمي، فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين، و إن أبيتم كنتم بي كافرين [و بعقوباتي]من الهالكين.

ثمّ أنزل اللّه تعالى عليه: يا محمّد قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني آكل الطعام و يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (1)يعني قل لهم: أنا في البشرية مثلكم، و لكن ربّي خصّني بالنبوة [دونكم]كما يخصّ بعض البشر بالغنى و الصحّة و الجمال دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصّني أيضا بالنبوة» .

إلى أن قال: «فقال رسول اللّه: و أما قولك: ما أنت إلاّ رجلا مسحورا، فكيف أكون كذلك و قد تعلمون أنّي في صحة التميّز و العقل فوقكم؟ فهل جرّبتم عليّ منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خرقة (2)أو زلّة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي؟ أتظنون أنّ رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه و قوتها، أو بحول اللّه و قوّته؟ و ذلك ما قال اللّه: اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجّة» الخبر (3).

ص: 471


1- . الكهف:18/110.
2- . في تفسير العسكري: جريرة، و في الاحتجاج: خزية.
3- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:500/314، الاحتجاج:29، تفسير الصافي 4:6.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 10

ثمّ أجاب سبحانه عن خرافاتهم بقوله: تَبارَكَ و تعالى الإله اَلَّذِي إِنْ شاءَ و رأى الصلاح جَعَلَ لَكَ في الدنيا خَيْراً و أفضل مِنْ ذلِكَ الذي يقولون من النّعم الدنيوية كالكنز و الجنّة، و ذلك الخير هو جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً مشيّدة كقصور الجنّة.

تَبارَكَ اَلَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)روي أن مترفي قريش عيّروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالفقر، فجاء رضوان خازن الجنان بعد نزول تلك الآيات إلى النبيّ، و كانت معه حقّة (1)، فوضعها عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: يا رسول اللّه، إن فيها مفاتيح خزائن الأرض، أعطاك ربك [إياها]و يقول: خذها و تصرّف في خزائن الأرض كيف شئت من غير أن ينقص من كرامتك عليّ شيء. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله «يا رضوان، مالي إليها حاجة، فانّ الفقر أحبّ إليّ، و اريد أن أكون عبدا شكورا صبورا» (2).

و في الحديث: أن ربي عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب، و لكن أجوع يوما و أشبع يوما، فأمّا اليوم الذي أجوع فيه فاتضرّع إليك و أدعوك، و أما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك و أثني عليك (3).

عن ابن عباس قال: بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و جبرئيل عليه السّلام عنده، قال جبرئيل عليه السّلام: هذا ملك قد نزل من السماء، استأذن ربّه في زيارتك، فلم يلبث إلاّ قليلا حتى جاء الملك، و سلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ اللّه يخيّرك بين أن يعطيك مفاتيح كلّ شيء، لم يعطها أحدا قبلك، و لا يعطيها أحدا بعدك، من غير أن ينقصك ممّا ادّخر لك شيئا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل يجمعها جميعا لي في الآخرة» . فنزل [قوله] تَبارَكَ اَلَّذِي إِنْ شاءَ الآية (4).

و عنه رحمه اللّه: قال صلّى اللّه عليه و آله: «عرض عليّ حبرئيل بطحاء مكة ذهبا، فقلت: [بل]شبعة و ثلاث جوعات، و ذلك أكثر لذكري و مسألتي لربّي» (5).

و في رواية قال: «أشبع يوما و أجواع ثلاثا، فأحمدك إذا شبعت، و اتضرّع إليك إذا جعت» (6).

و عن الضحّاك: لمّا عيّر المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالفاقة حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك، فنزل جبرئيل عليه السّلام معزّيا له و قال: إنّ اللّه يقرئك السّلام، و يقول: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ

ص: 472


1- . في أسباب النزول: سفط.
2- . أسباب النزول للواحدي:188، تفسير روح البيان 6:192.
3- . تفسير روح البيان 6:192. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 24:54.

لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ (1) الآية.

قال: فبينما جبرئيل عليه السّلام و النبي صلّى اللّه عليه و آله يتحدّثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك، ثمّ قال: ابشر يا محمّد، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربّك، فسلّم عليه، و قال: [إنّ] ربّك يخيّرك بين أن تكون نبيا ملكا، و بين أن تكون نبيا عبدا، و معه سفط من نور يتلألأ، ثمّ قال: هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك اللّه ممّا أعدّ لك في الآخرة جناح بعوضة، فنظر النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى جبرئيل كالمستشير، فأومأ بيده أن تواضع، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «بل نبيا عبدا» . قال: فكان صلّى اللّه عليه و آله بعد ذلك لم يأكل متّكئا حتى فارق الدنيا (2).

و عن عائشة قالت: قلت: يا رسول اللّه، ألا تستطعم اللّه فيطعمك؟ قالت: فبكيت لما رأيت به من الجوع و شدّ الحجر [على بطنه]من السّغب، فقال: يا عائشة، و الذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض، و لكن اخترت جوع الدنيا على شبعها، و فقرها على غناها، و حزنها على فرحها. يا عائشة، إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمد و لا لآل محمد (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ بيّن سبحانه علّة صدور هذه الخرافات عنهم بقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ كأنه (4)سبحانه قال: لم يحملهم على هذه الأقاويل الباطلة شبهة حقيقية في نبوتك، بل حملهم عليها و على تكذيبك عنادهم و عدم خوفهم من الساعة و دار الجزاء، لأنّهم يكذّبونها، أو أنّهم كذبّوها لثقل الاستعداد لها عليهم، أو المراد أنّهم لا ينتفعون بدلائل نبوتك، و لا يتفكّرون فيها لتكذيبهم بالساعة، و عدم رجائهم الثواب، و عدم خوفهم من العقاب، و قصور أنظارهم على الزّخارف الدنيوية، و ظنّهم أن الكرامة إنّما هي في الغنى و الثّروة، و لذا عيّروك بالفقر.

بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12)ثمّ هدّد المكذّبين بالساعة بقوله: وَ أَعْتَدْنا و هيّئنا في الآخرة لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ و أنكر دار الجزاء سَعِيراً و نارا شديدة الحرّ و الاشتعال.

و قيل: إنّ السعير من أسامي جهنم (5).

ثمّ وصف اللّه السعير بقوله: إِذا رَأَتْهُمْ تلك السعير مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ غاية البعد، كما بين

ص: 473


1- . الفرقان:25/20.
2- . تفسير الرازي 24:54.
3- . تفسير روح البيان 6:193.
4- . في النسخة: كان.
5- . تفسير الرازي 24:55، تفسير البيضاوي 2:136.

المشرق و المغرب، و هو على ما قيل خمسمائة عام (1)، و عن الصادق: «مسيرة سنة» (2)سَمِعُوا لَها من شدّة غضبها عليهم تَغَيُّظاً و صوتا هائلا وَ زَفِيراً و همهمة، و هي على ما قيل: صوت خارج من الجوف مع الترديد (3). و قيل: يعني علموا لها التغيظ، و سمعوا لها زفيرا (4). و قيل: يعني سمعوا تغيّظ الخزنة (5).

و عن عبيد بن عمير: أنّ جهنّم لتزفر زفرة، لا يبقى نبي مرسل، و لا ملك مقرّب إلاّ خرّ لوجهه، ترعد فرائصهم حتى أن إبراهيم عليه السّلام ليجثو على ركبتيه و يقول: يا رب (6). لا أسألك إلاّ نفسي (7).

أقول: ظاهر الآية أنّ النار في الآخرة حيّة شاعرة، كما يدلّ عليه قوله: وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ (8).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال الكفّار حين البعد من جهنّم، بيّن حال ورودهم فيها بقوله: وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً قيل: إنّ جهنّم لتضيق على الكفار كضيق الزّج (9)على الرّمح (10).

وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (11) لا تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» (12).

و قيل: الأسفلون يرفعهم اللّهب، و الأعلون يخفظهم الداخلون فيزدحمون (13)، حال كونهم مُقَرَّنِينَ و مقيدين في السلاسل تقرن أيديهم إلى أعناقهم، أو يقرن بعضهم مع بعض، أو كلّ مع شيطانه في سلسلة، مع ما هم عليه من العذاب الشديد و الضيق، و حينئذ دَعَوْا و نادوا تمنّيا هُنالِكَ و في ذلك المكان الضيّق ثُبُوراً و هلاكا لأنفسهم بقولهم: يا ثبوراه، أو يا ثبور تعال فهذا حينك و أوانك.

روي أنّ أول من يكسى يوم القيامة إبليس حلّة من النار بعضها على جانبه (13)فيسحبها من خلفه، و ذرّيته خلفه، و هو يقول: و اثبوراه، و هم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار، فينادي: يا ثبوراه،

ص: 474


1- . تفسير روح البيان 6:194.
2- . مجمع البيان 7:257، تفسير الصافي 4:7.
3- . تفسير روح البيان 6:194.
4- . تفسير الرازي 24:56.
5- . تفسير الرازي 24:56.
6- . زاد في تفسير روح البيان: يا رب.
7- . تفسير روح البيان 6:194.
8- . العنكبوت:29/64.
9- . الزّج: الحديدة في اسفل الرمح.
10- . تفسير الرازي 24:56.
11- . في تفسير الرازي: جانبيه، و في تفسير روح البيان: حاجبيه.
12- . تفسير الرازي 24:56.
13- . تفسير الرازي 24:56.

و ينادون: يا ثبورهم (1)،

فيقول اللّه أو الملائكة: إعلانا لهم بالخلود في العذاب لا تَدْعُوا في هذا اَلْيَوْمَ العظيم ثُبُوراً واحِداً أو لا تقتصروا على دعاء واحد وَ اُدْعُوا لكثرة أنواع العذاب و ألوانه ثُبُوراً كَثِيراً لكلّ واحد منها ثبور لشدّته و فضاعته، أو لأنّ العذاب دائم و خالص من شوب غيره، فلكلّ وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين للساعة أمر نبيه بإعلامهم بحسن حال المؤمنين ترغيبا إلى الإيمان و ترهيبا عن الحسرة و الندامة بقوله: قُلْ يا محمد لهم: أنصفوا أَ ذلِكَ العذاب الذي لا نهاية لشدّته و مدّته خَيْرٌ و أحسن أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي لا انقطاع لنعيمها، و لا انقضاء لمدّة البقاء فيها، و قد وُعِدَ بها اَلْمُتَّقُونَ و المحترّزون من الكفر و الشّرك و العصيان، فانّها كانَتْ لَهُمْ جَزاءً على تقواهم و أعمالهم الحسنة وَ مَصِيراً و مرجعا يرجعون إليه بالموت و الخروج من الدنيا

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ و يشتهون حال كونهم خالِدِينَ و دائمين في نعيمها كانَ ذلك الجزاء المذكور ثابتا عَلى رَبِّكَ الكريم، لأنّه وعد بذلك وَعْداً مَسْؤُلاً واجب الوفاء، أو حقيقا بأن يسأل و يطالب به، أو مسؤولا للمؤمنين بقولهم: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ (2)أو مسؤول الملائكة للمؤمنين بقولهم: رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ (3).

قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المنكرين للساعة هدّد المنكرين للتوحيد بقوله: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ من القبور إلى العرصات وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الأصنام فَيَقُولُ اللّه لهم تقريعا لعبادهم: أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ و صرفتم عن طريق توحيدي و عبادتي عِبادِي يعني هؤُلاءِ المشركين بأن دعوتموهم إلى عبادتكم و أمرتموهم بها أَمْ هُمْ بأهوائهم ضَلُّوا و أخطأوا اَلسَّبِيلَ المرضي عندي الموصل إلى كلّ خير، و هو التوحيد،

بأن اختاروا الشّرك و عبادتكم قالُوا تعجبا من هذا

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتّى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18)

ص: 475


1- . تفسير الرازي 24:57، تفسير روح البيان 6:195.
2- . آل عمران:3/194.
3- . المؤمن:40/8.

السؤال، أو تنزيها له تعالى من الأنداد: سُبْحانَكَ ربّنا ما كانَ يَنْبَغِي و ما استقام لَنا بعد معرفتنا بألوهيتك و توحيدك و عظمتك أَنْ نَتَّخِذَ لأنفسنا مِنْ دُونِكَ و ممّا سواك أَوْلِياءَ و معبودين، فكيف ندعو غيرنا إلى أن يتّخذنا وليا و معبودا؟

و قيل: يعني ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ الكفّار الذين هم أعداؤك أولياء، فنكون كالشياطين الذين تولّوا الكفّار كما يولّونهم (1)، أو ما كان لنا أن نتّخذ من دون رضاك وليا و محبا فضلا عن أن نتّخذ عبدا (2). وَ لكِنْ يا إلهنا أنت مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ من الدنيا، و أكثرت عليهم نعيمها حَتّى استغرقوا فيها و نَسُوا اَلذِّكْرَ و الإيمان بك، أو القرآن و الأحكام، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدارين، أو التذكّر لآلائك، و التدبّر في آياتك، أو تركوا ما وعظوا به وَ كانُوا لذلك قَوْماً بُوراً و صاروا جماعة هلكى بعذاب الآخرة.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب للعبيد، احتجاجا عليهم، و إلزاما لهم بقوله: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أيّها المشركون بِما تَقُولُونَ في الدنيا من أنّهم آلهه و أنّهم أضلّونا فَما تَسْتَطِيعُونَ و لا تملكون صَرْفاً و دفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجوه وَ لا نَصْراً لأنفسكم من قيد أصنامكم التي تزعمون أنّهم يشفعونكم و يدفعون البليات عنكم، ثمّ عمّ التهديد لكلّ عاص بقوله: وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أيّها الناس على نفسه باختيار الشّرك و العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً و عقوبة شديدة في الغاية.

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

ثمّ صرّح سبحانه بجواب المعترضين على رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بكونه بشرا بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ أحدا مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ العظام الذين ثبتت رسالتهم بالمعجزات الباهرات إِلاّ إِنَّهُمْ و اللّه لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْواقِ كسائر الناس، و لم يكن ذلك منافيا لرسالتهم، فلا تكون أنت بدعا منهم وَ جَعَلْنا الناس بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ آخر فِتْنَةً و ابتلاء و امتحانا الرسل للمرسل اليهم، و الفقراء للأغنياء، و السّقماء للأصحّاء، و السّفلة للأعالي، و العبيد للموالي، و الرعايا للسلاطين.

ص: 476


1- . تفسير الرازي 24:63.
2- . تفسير الرازي 24:63.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ويل للعالم من الجاهل، و ويل للسلطان من الرّعيّة، و ويل للرّعية من السلطان، و ويل للمالك من المملوك، و ويل للشديد من الضعيف، و للضعيف من الشديد، بعضهم لبعض فتنة» ثمّ قرأ هذه الآية (1).

و قيل: إنّ هذا في رؤساء المشركين و فقراء الصحابة، فاذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم، فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة و الفضل عليه (2).

و عن ابن عباس: أنّ هذا في أصحاب البلاء و العافية، هذا يقول: لم لم اجعل مثله في الخلق و الخلق و في العقل و العلم، و الرزق و الأجل (1). و فيه احتجاج على المشركين في تخصيص محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية، فابتلي المرسل إليهم بالرّسل، و الرّسل (2)بالمرسل إليهم (3).

فاذا علمتم أيّها المؤمنون أن دأبه تعالى الابتلاء و الامتحان أَ تَصْبِرُونَ على البلاء و المحن أم لا؟ فان تصبروا فلكم ما وعد اللّه الصابرين من الأجر الجزيل و الثواب العظيم وَ كانَ رَبُّكَ يا محمّد، أو أيها الصابر بَصِيراً و عالما بالصابر و غيره، فيجازي كلاّ بما يستحقّه من ثواب و عقاب.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ حكى سبحانه اعتراضا آخر من المشركين على رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالَ المشركون اَلَّذِينَ ينكرون البعث و دار الجزاء و لا يَرْجُونَ لِقاءَنا و لا يتوقعون الرجوع إلينا بعد الموت، و لا يخافون عقابنا ضلالا و إضلالا: لَوْ لا أُنْزِلَ من قبل اللّه عَلَيْنَا اَلْمَلائِكَةُ بالرسالة، فإنّ رسالتهم أولى من رسالة البشر و أقرب بالتصديق أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة و عيانا، فيأمرنا بتصديق محمّد و اتّباعه، فانّ أمره شفاها بتصديقه أدلّ على صدقه من المعجزات التي تظهر على يده، و على الحكيم أن يسلك الطريق الأقرب إلى المقصود.

وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا و واللّه أظهروا ترفّعا مضمرا فِي أَنْفُسِهِمْ و قلوبهم وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً و طغوا طغيانا مفرطا، و غلوا في الكفر غلوّا شديدا بسؤالهم الرؤية التي لا تمكن للممكن، و لو كان نبيا مرسلا أو ملكا مقربا لفقد شرائط الرؤية. نعم، يمكن رؤيتهم الملائكة، و لكن

ص: 477


1- . تفسير الرازي 24:66.
2- . في تفسير الرازي: فابتلي المرسلين.
3- . تفسير الرازي 24:66.

يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلائِكَةَ الموكلّين بالعذاب عند الموت، كما عن ابن عباس (1)، أو في القيامة (2)لا بُشْرى و لا خير فيه سرور القلب يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ و العصاة و المشركين.

قيل: المراد أن ما سألوه من نزول الملائكة عليهم سيكون، و لكن لا إجابة لما اقترحوه (1)، لعدم حسن إجابة السؤال الاقتراحي مع وجود المعجزات الكافية، بل لعقوبتهم و تعذيبهم على كفرهم و تعنتاتهم، وَ لذا يَقُولُونَ عند مشاهدة الملائكة الغلاظ الشداد كراهة للقائهم و فزعا منهم: يا ملائكة العذاب، أسأل اللّه حِجْراً و منعا لكم، و كونكم مَحْجُوراً و ممنوعا من قربنا. قيل: العرب تقول ذلك عند لقاء العدوّ و نزول نازلة، و هو في معنى الاستعاذة (2).

و قيل: إنّ (محجورا) تأكيد للحجر، كما يقال: ليل أليل، و موت مائت، و حرام محرّم (5).

و قيل: إنّ الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم ذلك (6)و معناه حراما محرّما عليكم الغفران و الجنّة.

و قيل: إذا كان يوم القيامة تلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى، فاذا رأى الكفّار ذلك قالوا لهم: بشّرونا، فيقولون: حِجْراً مَحْجُوراً (7).

و قيل: إنّ الملائكة الذين هم على أبواب الجنّة يبشّرون المؤمنين بالجنّة، و يقولون للمشركين ذلك (8).

و قيل: إنّ الكفّار [يوم القيامة]إذا شاهدوا ما يخافونه يتعوّذون منه، و يقولون: حجرا محجورا، فيقول الملائكة: لا يعاذ من شرّ هذا اليوم (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 23

ثمّ بيّن سبحانه حال أعمالهم الخيرية دفعا لتوهّم فائدتها لهم، و أزديادا لحسرتهم بقوله: وَ قَدِمْنا و قصدنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ خير كانوا يظنون أنّه ينفعهم كالانفاق على الفقراء، و صلة الرّحم، و إعانة الملهوفين و نظائرها فَجَعَلْناهُ ا و صيّرناها هَباءً و غبارا في شعاع الشمس مَنْثُوراً و متفرّقا، و هذا كناية عن إبطاله بالكلية، بحيث لا يمكنهم الانتفاع كما لا يمكن قبض الهباء المنثور و جمعه.

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)عن الصادق عليه السّلام قال: «إن كانت أعمالهم لأشدّ بياضا من القباطيّ (4)، فيقول اللّه عزّ و جلّ لها: كوني

ص: 478


1- . تفسير روح البيان 6:200.
2- . جوامع الجامع:322، تفسير الرازي 24:71. (5 و 6 و 7 و 8) . تفسير الرازي 24:71.
3- . تفسير الرازي 24:71.
4- . القباطي: ثياب بيض رقاق من كتّان.

هباء منثورا، و ذلك أنّهم كانوا إذا شرّع لهم الحرام أخذوه» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل أعمال من هذه؟ قال: «أعمال مبغضينا و مبغضي شيعتنا» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «يبعث اللّه يوم القيامة قوما بين أيديهم نور كالقباطي، ثمّ يقول له: كن هباء منثورا، ثمّ قال: أما و اللّه إنّهم كانوا يصومون و يصلّون، و لكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، و إذا ذكر (3)لهم شيء من فضل أمير المؤمنين عليه السّلام أنكروه. قال: و الهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوّة من شعاع الشمس» (4).

أقول: هذه الروايات في بيان تأويل الآية و انطباقها على هذا النوع من المسلمين، و إن كان نزولها في المشركين.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 24

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار و غاية حرمانهم من كلّ خير و ثواب، بيّن حسن حال المؤمنين بقوله: أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و هم المؤمنون المطيعون للّه يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت الذي يكون المشركون في أشدّ العذاب خَيْرٌ من سائر الناس مُسْتَقَرًّا و منزلا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً و مستراحا.

أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24)قيل: إنّ مستقر أهل الجنّة غير مكان قيلولتهم (5)، فانّهم يقيلون في الفردوس ثمّ يعودون إلى مستقرّهم (6).

قيل: إنّ المقيل زمان القيلولة (7)، فبيّن سبحانه أنّ مكانهم أحسن الأمكنة، و زمانهم أطيب الأزمنة.

قيل: إنّه بعد الفراغ من المحاسبة و الذّهاب إلى الجنّة يكون الوقت وقت القيلولة (8).

عن ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنّة في الجنّة، و أهل النار في النار (9).

و عن سعيد بن جبير: أنّ اللّه تعالى إذا أخذ في فصل القضاء، قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنّة، و أهل النار في النار (10).

و قيل: يخفّف اللّه الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ثمّ يقيلون

ص: 479


1- . الكافي 5:126/10، تفسير الصافي 4:9.
2- . بصائر الدرجات:446/15، تفسير الصافي 4:10.
3- . في تفسير القمي و الصافي: عرض.
4- . تفسير القمي 2:112، تفسير الصافي 4:10.
5- . في تفسير الرازي: غير مقيلهم.
6- . تفسير الرازي 24:72.
7- . تفسير الرازي 24:72.
8- . تفسير الرازي 24:72.
9- . تفسير الرازي 24:72.
10- . تفسير الرازي 24:73.

في (1)يومهم ذلك (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، و أهل النار في النار» (3).

و عن أمير المؤمنين-في حديث سؤال القبر-قال: «ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنة، ثمّ يقولان له: نم قرير العين نوم الشاب (4)الناعم، فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ الآية» (5).

أقول: لعلّ المراد من قيلولتهم استراحتهم في أحسن مكان و زمان، كما أنّ موضع القيلولة أحسن المواضع، و زمانها أطيب الأزمنة، فلا ينافي ما دلّ على أنّ أهل الجنة و النار لا ينامون.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 25 الی 29

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ المشركين المقترحين على النبيّ نزول الملائكة إذا رأوا نزولهم يدهشون و يفزعون أشدّ الدهشة و الفزع، و يكرهون لقاءهم بين أهوال يوم رؤيتهم و كيفية نزولهم المفزعة بقوله: وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ و تفطّر اَلسَّماءُ بِالْغَمامِ و السّحاب الأبيض الرقيق، كظلّة بني إسرائيل على قول (6)، أو الغليظ كغلظ السماوات السبع على آخر (7).

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى اَلْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)قيل إنّ الغمام أثقل من السماوات، فاذا أراد اللّه تشقيق السماوات ألقى الغمام عليها فانشقت، فمعنى الآية يوم تشقق السماء بثقل الغمام، فيظهر الغمام فيخرج منها و فيها الملائكة، كما قال تعالى: وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ (8)إلى عرصة القيامة تَنْزِيلاً عجيبا.

قيل: تشقّق سماء سماء، و تنزل الملائكة في خلال ذلك [الغمام]بصحائف الأعمال (9) .

و روي أنّه تنشقّ سماء الدنيا فتنزل الملائكة التي فيها بمثل من في الأرض من الجنّ و الإنس، فيقول لهم الخلق: أفيكم ربّنا؟ يعنون هل جاء أمر ربنا بالحساب. فيقولون: لا، و سوف يأتي، ثمّ تنزل ملائكة السماء الثانية بمثلي من في الأرض من الملائكة و الجنّ و الإنس، ثمّ تنزل ملائكة كلّ سماء

ص: 480


1- . في تفسير الرازي: من.
2- . تفسير الرازي 24:73.
3- . مجمع البيان 10:531، تفسير الصافي 4:10.
4- . في النسخة: الشباب.
5- . الكافي 3:232/1، تفسير الصافي 4:10.
6- . تفسير روح البيان 6:203.
7- . تفسير روح البيان 6:203.
8- . تفسير روح البيان 6:203.

على هذا الضعف (1)حتى تنزل ملائكة سبع سماوات، فيظهر الغمام و هو كالسّحاب الأبيض فوق سبع سماوات، ثمّ ينزل الأمر بالحساب، فذلك قوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّماءُ بِالْغَمامِ (2).

و قيل: إنّ الملائكة في زمان (3)الأنبياء عليهم السّلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة [و السماء على اتصالها]، و في ذلك اليوم تنشقّ السماء، فاذا انشقّت خرجت من أن تكون حائلا بين الملائكة و بين الأرض، فينزلون (4)إلى الأرض (5).

و عن مقاتل: تشقّق السماء الدنيا، فينزل أهلها و هم أكثر من سكّان الدنيا، كذلك تشقّق سماء سماء، ثمّ ينزل الكروبيون و حملة العرش (6).

و عن ابن عباس: تنشقّ كلّ سماء، و ينزل سكّانها، فيحيطون بالعالم، و يصيرون سبع صفوف حوله (5).

اَلْمُلْكُ و السّلطان القاهر و الاستيلاء التامّ الكامل في الظاهر و الواقع و الصورة و المعنى يَوْمَئِذٍ و في ذلك الوقت، أعني الملك المتّصف بأنّه اَلْحَقُّ الثابت يكون لِلرَّحْمنِ و الفيّاض المطلق خاصة، فانّ كلّ ملك يزول و يبطل إلاّ ملكه يوم القيامة وَ كانَ ذلك اليوم يَوْماً عظيما عَلَى اَلْكافِرِينَ عَسِيراً و شديدة (6)أهواله

وَ يَوْمَ يَعَضُّ و يمسك بالنّواجذ [مسكا]

شديدا اَلظّالِمُ على اللّه و على رسوله بعصيانهما عَلى يَدَيْهِ من فرط التحسّر و النّدم.

عن ابن عباس: المراد عقبة بن أبي معيط، كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاما يدعو إليه جيرته من أهل مكّة، و يكثر مجالسة الرسول و يعجبه حديثه، فصنع طعاما، و دعا الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين» ففعل، فأكل الرسول صلّى اللّه عليه و آله من طعامه، فبلغ هذا امية بن خلف، فقال: صبوت يا عقبة و كان خليله، فقال: إنّما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي. فقال: لا أرضى ابدا حتى تأتيه فتبرق في وجهه و تطأ على عنقه، ففعل، فقال عليه السّلام: «لا ألقاك خارجا من مكّة إلاّ علوت رأسك بالسيف» فنزل وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندامة، يعني عقبه (7).

القمي قال: روي أنّه يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه، ثمّ تنبتان، ثمّ يأكلهما، هكذا كلّما نبتتا أكلهما تحسّرا و ندامة على التفريط و التقصير (8)، و هو يَقُولُ تمنّيا: يا هؤلاء لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ في

ص: 481


1- . في تفسير روح البيان: التضعيف.
2- . تفسير روح البيان 6:203.
3- . في تفسير الرازي: أيام.
4- . في تفسير الرازي: فنزلت الملائكة. (5 و 6) . تفسير الرازي 24:74.
5- . تفسير الرازي 24:74، و فيه: حول العالم.
6- . في النسخة: شديدا.
7- . تفسير الرازي 24:75.
8- . تفسير روح البيان 6:204، و قد نسبه المصنّف إلى تفسير القمي سهوا.

الدنيا مَعَ محمّد اَلرَّسُولِ الصادق سَبِيلاً و طريق مودة و تبعية، و كنت معه على الاسلام، أو سبيلا إلى النجاة من العذاب.

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني عليا وليا» (1).

يا وَيْلَتى و يا هلكتا احضري فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً الضالّ المضلّ خَلِيلاً لنفسي و صديقا، فانّه و اللّه لَقَدْ أَضَلَّنِي و صرفني عَنِ قبول اَلذِّكْرِ و موعظة الرسول، أو عن الإقرار بالقرآن و الايمان به بعد إذ جاءني من جانب اللّه بتوسّط محمّد، و تمكّنت من العمل به.

عن ابن عباس: وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندامة، يعني عقبة يقول: يا ليتني لم اتّخذ امية خليلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ و هو القرآن و الإيمان به بَعْدَ إِذْ جاءَنِي مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله (2)وَ كانَ اَلشَّيْطانُ المغوي لي و لخليلي، و المضلّ عن اتّباع الرسول و الايمان بالقرآن لِلْإِنْسانِ المطيع له خَذُولاً و تاركا لنصرته مع أنّه يعده نصره و يمنّيه نفعه.

قيل: إنّ الذيل (3)من كلام اللّه تعالى (4).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة الوسيلة. قال: «في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع، و طال لها الاستماع، و لئن تقمّصها دوني الأشقيان، و نازعا (5)في ما ليس لهما بحقّ، و ركباها ضلالة، و اعتقداها جهالة، فلبئس ما عليه وردا، و لبئس ما لأنفسهما مهدا، يتلاعنان في دورهما، و يبرأ كل منهما من صاحبه، يقول لقرينة إذا التقيا: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ (6)فيجيبه الأشقى على رثوثة (7)يا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً فأنا الذّكر الذي عنه ضلّ، و السبيل الذي عنه مال، و الإيمان الذي به كفر، و القرآن الذي إيّاه هجر، و الدين الذي به كذب، و الصراط الذي عنه نكب» (8).

و عنه عليه السّلام في احتجاجه على بعض الزنادقة، قال: «إنّ اللّه ورّى أسماء من اغتّر و فتن خلقه و ضلّ و أضلّ، و كنّى عن أسمائهم في قوله: وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ الآيتان» (9).

قال الفخر الرازي: قالت الرافضة، هذا الظالم هو رجل بعينه، و إنّ المسلمين غيّروا اسمه و كتموه، و جعلوا فلانا بدلا من اسمه، و ذكروا فاضلين من أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ أطال الكلام في إثبات

ص: 482


1- . تفسير القمي 2:113، تفسير الصافي 4:11.
2- . تفسير الرازي 24:75.
3- . أي ذيل الآية، قوله تعالى: وَ كانَ اَلشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً.
4- . تفسير الرازي 24:75.
5- . في الكافي و تفسير الصافي: نازعاني.
6- . الزخرف:43/38.
7- . في النسخة: و ثوبه، و رثّت هيئة الرجل رثوثة: قبحت و هانت.
8- . الكافي 8:27/4، تفسير الصافي 4:11.
9- . الاحتجاج:245، تفسير الصافي 4:11.

دلالة لفظ الظالم على العموم، ثمّ قال: و أمّا قول الرافضة فذلك لا يتمّ إلاّ بالطعن في القرآن و [إثبات] أنّه غيّر و بدّل، و لا نزاع في أنّه كفر (1).

و فيه: أنّه لم يقل أحد من أصحابنا رضوان اللّه عليهم في خصوص الآية بالتغيير و التبديل، كما افتراه عليهم، بل يقولون: إنّ المراد من لفظ فلان و لفظ الشيطان هو الثاني، و إنّما كنّى اللّه عنه و لم يصرّح باسمه لحكم كثيرة منها: عدم سدّ باب الضلال و الامتحان على الناس، و كذلك لفظ الظالم في الآية- و إن كان عاما-إلاّ أنّ المراد أو أظهر مصاديقه هو الظالم لآل محمّد حقهم، و هو الأول، كما أنّ المراد من لفظ الفاسق في قوله: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ (2)هو الوليد بن المغيرة (3)، و إن كان اللفظ عاما، و المراد من لفظ المؤمن في كثير من الآيات و من قوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ (4)خصوص أمير المؤمنين، (5)و إن كان اللفظ عاما.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ حكى سبحانه شكاية النبي صلّى اللّه عليه و آله من قومه المعترضين عليه بقوله: وَ قالَ اَلرَّسُولُ شكاية إلى ربّه إثر ما شاهد من قومه العتوّ و الطّغيان و الطّعن في القرآن: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قريشا اِتَّخَذُوا و جعلوا هذَا اَلْقُرْآنَ الذي أنزلته لهدايتهم مَهْجُوراً و متروكا، بأن أعرضوا عنه، و صدّوا الناس عن الايمان به، أو مهجورا فيه و مستهزءا به بقولهم: إنّه شعر، أو سحر، أو كهانة، أو كذب.

وَ قالَ اَلرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً (31)قيل: إنّ الرسول يقول ذلك في الآخرة (6).

ثمّ سلّى سبحانه قلب حبيبه بقوله: وَ كَذلِكَ العدوّ الذي جعلنا لك من مجرمي قومك كأبي جهل و أضرابه جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ قبلك عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ و المتمرّدين من قومهم كنمرود لابراهيم، و فرعون لموسى، و اليهود لعيسى، فاصبر أنت كما صبروا و تظفر كما ظفروا وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً لك إلى جميع مطالبك التي منها رواج شرعك وَ نَصِيراً لك على أعدائك، فاجتهد في التبليغ و لا تبال أحدا.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 32 الی 33

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)

ص: 483


1- . تفسير الرازي 24:75.
2- . الحجرات:49/6.
3- . مجمع البيان 9:198.
4- . البقرة:2/207.
5- . تفسير الرازي 5:204، كفاية الطالب:239.
6- . تفسير الرازي 24:77.

ثمّ حكى سبحانه اعتراض المشركين على القرآن بنزوله نجوما بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من قريش طعنا على القرآن: لَوْ لا و هلاّ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً و دفعة واحِدَةً كتوراة موسى، و إنجيل عيسى على ما قاله أهل الكتاب؟ فأجاب سبحانه عنه بقوله: كَذلِكَ التفريق فرّقناه لِنُثَبِّتَ و لنقوّي بِهِ فُؤادَكَ و قلبك في التبليغ، لكون كلّ آية في حادثة و واقعة معجزة ظاهرة مستقلة، فعجزهم عن إتيان مثلها دليل واضح على صدقك، فيكون القرآن معجزات كثيرة بحسب كثرة آياته، فلو نزل جملة واحدة لعدّ جميعه معجزة واحدة، و لكون نزوله على حسب أسئلة الناس و الوقائع موجبا (1)لازدياد بصيرتهم، لانضمام فصاحته بالأخبار المغيبة، مع أنّ في نزوله مفرّقا رفقا بالعباد و تسهيلا (2)للعمل بالأحكام قليلا قليلا، فلو نزلت الأحكام جملة واحدة لثقلت عليهم، و خرجوا من الدين، ففي ثباتهم عليه مع ما استلزم التفريق من رؤية جبرئيل وقتا بعد وقت و حالا بعد حال تقوية لقلبك الشريف.

وَ كذلك رَتَّلْناهُ و قرأناه عليك شيئا فشيئا، و على تؤدة و مهل تَرْتِيلاً حسنا موجبا لتيسّر فهمه و حفظه و الالتفات إلى جهات إعجازه

وَ لا يَأْتُونَكَ يا محمّد بِمَثَلٍ و سؤال عجيب و اعتراض غريب يعدّ في الغرابة من الأمثال، يريدون به القدح في نبوّتك، و الطعّن في كتابك إِلاّ جِئْناكَ و أوحينا إليك جوابا مقرونا بِالْحَقِّ المبطل لما أتوا به وَ بما يكون أَحْسَنَ تَفْسِيراً و ألطف بيانا و تفصيلا، لما هو الصواب و مقتضى الحكمة.

قيل: إنّ كلّ نبي إذا اعترض عليه قومه، كان هو بنفسه يردّ عليهم، و أما نبينا صلّى اللّه عليه و آله فكان إذا قال له قومه شيئا كان اللّه يردّ عليهم (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 34

ثمّ هدّد اللّه الطاعنين في القرآن المعترضين عليه بقوله: اَلَّذِينَ يُحْشَرُونَ و يساقون من قبورهم إلى المحشر ماشين عَلى وُجُوهِهِمْ و يسحبون عليها و يجرّون إِلى جَهَنَّمَ.

اَلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (34)في الحديث: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدوابّ، و صنف على الأقدام، و صنف على الوجوه» فقيل: يا نبي اللّه، كيف يحشرون على وجوههم؟ فقال: «إنّ الذي أمشاهم على أقدامهم، فهو قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (4).

ص: 484


1- . في النسخة: موجب.
2- . في النسخة: رفق بالعباد و تسهيل. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:209.

أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً و أسوء مقاما وَ أَضَلُّ سَبِيلاً أخطأ طريقا من كلّ أحد، لأنّ طريقهم مود إلى الهلاك الأبد و العذاب المخلّد.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 35 الی 39

ثمّ لمّا أخبر سبحانه بأنّه جعل لكلّ نبي عدوا، ذكر جماعة من الأنبياء الذين ابتلوا بالأعداء فأهلكهم اللّه بعداوتهم لهم، فابتدأ بذكر موسى عليه السّلام بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى اَلْكِتابَ كما أعطيناك القرآن وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ النبي الذي كان اسمه هارُونَ وَزِيراً و معينا يعاونه في الدعوة و تحمّل أعباء الرسالة، كما جعلنا معك أخاك الحسبي عليا وزيرا و خليفة يعاونك في إعلاء كلمة التوحيد، و ترويج دينك في حياتك،

و حفظ شريعتك بعد وفاتك فَقُلْنَا لهما بعد تشريفهما بمنصب الرسالة: اِذْهَبا بالرسالة من قبلي إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدي و كمال صفاتي، و المعجزات الباهرات التي أجريناها بيدكما تصديقا لرسالتكما، و هم فرعون و قومه من القبط، فذهبا إليهم و أرياهم أياتنا فكذبوهما و عادوهما فَدَمَّرْناهُمْ و أهلكناهم بالعذاب المستأصل بعد التكذيب تَدْمِيراً و إهلاكا عجيبا هائلا، و هو الغرق في بحر القلزم،

وَ دمّرنا قَوْمَ نُوحٍ لَمّا عادوه و كذّبوه و كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ الذين قبله، أو الذين قبله و بعده بتكذيبه، لاستلزام تكذيبه تكذيب الكلّ، و كان تدميرهم أنّه أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَ جَعَلْناهُمْ لِلنّاسِ إلى يوم القيامة آيَةً عظيمة على توحيدنا و كمال قدرتنا، و عظة ظاهرة يعتبر بها كلّ من شاهدها أو سمع قصّتها وَ أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ المغرقين بظلمهم، أو لكلّ من سلك سبيلهم عَذاباً أَلِيماً في الآخرة،

وَ دمّرنا عاداً بتكذيبهم هودا وَ ثَمُودَ بتكذيبهم صالحا وَ أَصْحابَ اَلرَّسِّ بتكذيبهم شعيبا على ما قيل من أنهم كانوا عبدة أصنام و أصحاب آبار و مواش فبعث اللّه إليهم شعيبا، فدعاهم إلى الاسلام، فتمادوا في الطغيان و [في]

إيذائه، فبينما هم حول الرّس خسف اللّه بهم و بدارهم (1).

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اِذْهَبا إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ اَلرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ اَلْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)و قيل: إنّهم بقية ثمود، سكنوا الرّس، و هي قرية بفلج اليمامة، قتلوا نبيّهم فهلكوا (2).

ص: 485


1- . تفسير الرازي 24:82.
2- . تفسير الرازي 24:82.

و قيل: إنّهم بقية ثمود، و كان نبيّهم حنظلة بن صفوان، و كان قبل موسى، و كانوا على بئر يرويهم ماؤها، و يكفي أرضهم جميعا، فرسّوا حنظلة فيها، فغار ماؤها و يبست أشجارهم، و انقطعت ثمارهم فهلكوا (1).

و قيل: ابتلاهم اللّه تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل، كان فيه من كلّ لون، فكان إذا أعوزه الصيد يخطف صبيانهم و يذهب بهم إلى جهة المغرب، فسمّوه لطول عنقه و ذهابه إلى جهة المغرب عنقاء المغرب، فخطف يوما ابنة مراهقة فشكوا ذلك إلى حنظلة، و شرطوا إن كفوا شرّه أن يؤمنوا به، فدعا حنظلة على تلك العنقاء، فأرسل اللّه [عليها]صاعقة فأحرقتها و لم تعقب، أو ذهب اللّه بها إلى بعض جزائر البحر المحيط تحت خطّ الاستواء، و هي جزيرة لا يصل إليها الناس، ثمّ خالفوا شرطهم و قتلوه، أو رسّوه في البئر (2).

و قيل: هم أصحاب الاخدود، و الرّسّ هو الاخدود (1).

و قيل: هم قوم نساؤهم سحّاقات، فسلّط اللّه عليهم صاعقة في أول الليل، و خسفا في آخره، و صيحة مع الشمس، فلم يبق منهم أحد (4).

و قيل: هم قوم كذّبوا نبيا أتاهم فحبسوه في بئر ضيقة القطر، و وضعوا على رأسها صخرة عظيمة لا يقدر على حملها إلاّ جماعة من الناس، و ما آمن به إلاّ عبد أسود، و كان العبد يأتي الجبل فيحتطب، و يحمل على ظهره، و يبيع الحزمة، و يشتري بثمنها طعاما، ثمّ يأتي البئر فيلقي إليه الطعام من خروق الصخرة، و كان على ذلك سنين، ثمّ إنّ اللّه أهلك القوم، و أرسل ملكا فرفع الحجر، و أخرج النبي من البئر (5).

و قيل: إنّ الأسود رفع الصخرة، فقوّاه اللّه لرفعها، و ألقى حبلا إليه و استخرجه من البئر فأوحى اللّه إلى ذلك النبي أنّه رفيقه في الجنة (2).

و القمي: قال الرّسّ نهر بأذربايجان (3).

و عن الرضا، عن آبائه، عن الحسين بن علي عليهم السّلام، قال: «أتى علي بن أبي طالب عليه السّلام قبل مقتله بثلاثة أيام رجل من أشراف تميم، يقال له عمرو، فقال له: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن أصحاب الرّسّ في أي عصر كانوا: و أين كانت منازلهم، و من كان ملكهم، و هل بعث اللّه إليهم رسولا أم لا،

ص: 486


1- . تفسير الرازي 24:82. (4 و 5) . تفسير روح البيان 6:212.
2- . تفسير روح البيان 6:213.
3- . تفسير القمي 2:323، تفسير الصافي 4:15.

و بماذا اهلكوا؟ فإنّي أجد في كتاب اللّه تعالى ذكرهم، و لا أجد خبرهم؟

فقال علي عليه السّلام: لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك، و لا يحدّثك به أحد بعدي إلاّ عنّي، و ما في كتاب اللّه عزّ و جلّ آية إلاّ و أنا أعرفها، و أعرف تفسيرها، و في أيّ مكان نزلت من سهل أو جبل، و في أيّ وقت من ليل أو نهار، و إن [ها]هنا لعلما جمّا-و أشار إلى صدره-و لكن طلابه يسير، و عن قليل تندمون لو فقدتموني (1).

و كان من قصّتهم يا أخا تميم أنّهم كانو يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب، كانت انبطّت (2)لنوح عليه السّلام بعد الطّوفان، و إنّما سمّوا أصحاب الرّسّ لأنهم رسّوا نبيهم في الارض، و ذلك بعد سليمان بن داود عليه السّلام و كانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرّسّ من بلاد المشرق، و بهم سمّي ذلك النهر، و لم يكن يومئذ نهر أغزر منه و لا أعذب منه، و لا قرى أكثر و لا أعمر منها، تسمّى إحداهن أبان، و الثانية آذر، و الثالثة دي، و الرابعة بهمن، و الخامسة اسفندار، و السادسة فروردين، و السابعة أردي بهشت، و الثامنة خرداد، و التاسعة مرداد، و العاشرة تير، و الحادية عشرة مهر، و الثانية عشرة شهريور.

و كانت أعظم مدائنهم إسفندار، و هي التي ينزلها ملكهم، و كان يسمّى تركور بن عابور (3)بن يارش بن سار (4)بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم عليه السّلام، و بها العين و الصّنوبرة، و قد غرسوا في كلّ قرية منها حبّة من طلع تلك الصّنوبرة، فنبتت الحبّة و صارت شجرة عظيمة، و حرّموا ماء العين و الأنهار، فلا يشربون منها و لا أنعامهم، و من فعل ذلك قتلوه، و يقولون: هو حياة آلهتنا، فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها، و يشربون هم و أنعامهم من نهر الرّسّ الذي عليه قراهم.

و قد جعلوا في كلّ شهر من السنة في كلّ قرية عيدا تجتمع إليه أهلها، فيضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها من أنواع الصّور، ثمّ يأتون بشاة و بقر يذبحونهما (5)قربانا للشجرة، و يشعلون فيها النيران بالحطب، فاذا سطع دخان تلك الذبائح و قتارها (6)في الهواء، و حال بينهم و بين النظر إلى السماء خرّوا سجّدا للشجرة، و يبكون و يتضّرعون إليها أن ترضى عنهم، و كان الشيطان يجيء فيحرك أغصانها، و يصيح من ساقها صياح الصبي: إنّي رضيت عنكم عبادي، فطيبوا نفسا، و قرّوا عينا،

ص: 487


1- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: يندمون لو فقدوني.
2- . في النسخة: أنبتت.
3- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: تركوذ بن غابور.
4- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: سازن.
5- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: فيذبحونها.
6- . القتار: دخان ذو رائحة خاصة ينبعث من الطبيخ أو الشّواء أو البخور.

فيرفعون رؤوسهم عند ذلك، و يشربون الخمر، و يضربون بالمعازف، و يأخذون «الدست بند» (1)، فيكونون على ذلك يومهم و ليلتهم، ثمّ ينصرفون.

و إنّما سمّيت العجم شهورها بأبان ماه و آذرماه و غيرهما اشتقاقا من أسماء تلك القرى، يقول (2)أهلها بعضهم لبعض هذا عيد شهر كذا، و عيد (3)شهر كذا، حتى إذا كان عيد (4)قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم و كبيرهم، فضربوا عند الصنوبرة و العين سرادقا من ديباج (5)عليه أنواع الصور، له اثنا عشر بابا، كلّ باب لأهل قرية منهم، و يسجدون للصّنوبرة خارجا من السّرادق، و ما يقرّبون لها من الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة التي في قراهم فيجيء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا، و يتكلّم من جوفها كلاما جهوريا و يعدهم و يمنّيهم بأكثر ممّا وعدتهم و منّتهم الشياطين كلها، فيرفعون رؤوسهم من السّجود و بهم من الفرح و النشاط ما لا يفيقون و لا يتكلّمون من الشّرب و العزف، فيكونون على ذلك اثني عشر يوما و لياليها بعدد أعيادهم سائر السنة، ثمّ ينصرفون.

فلمّا طال كفرهم باللّه عز و جل و عبادتهم غيره، بعث اللّه سبحانه إليهم نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب، فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة اللّه عزّ و جل و معرفته و ربوبيته فلا يتّبعونه، فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغيّ و الضّلال، و تركهم قبول ما دعاهم إليه من الرّشد و النجاح، و حضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ، إنّ عبادك أبوا إلاّ تكذيبي و الكفر بك، و غدوا يعبدون شجرة لا تنفع و لا تضرّ، فأيبس شجرهم أجمع، و أرهم قدرتك و سلطانك.

فأصبح القوم و قد يبس شجرهم، فهالهم ذلك، و فظع (6)بهم، و صاروا فرقتين: فرقة قالت: سحر آلهتكم هذا الرجل الذي يزعم أنّه رسول إله السماء و الأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه، و فرقة قالوا: لا، بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها و يقع فيها و يدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها و بهاءها لكي تغضبوا عليه (7)، فتنتصروا منه، فأجمع رأيهم على قتله، فاتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثمّ أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الاخرى مثل البرابخ (8)، و نزحوا ما فيها من الماء، ثمّ حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة،

ص: 488


1- . الدست بند: لعبة للمجوس يدورون فيها و قد أمسك بعضهم يد بعض كالرقص.
2- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لقول.
3- . في النسخة: عيد.
4- . زاد في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: شهر.
5- . السّرادق: كل ما أحاط بشىء من حائط أو مضرب، و الديباج: قماش سداه و لحمته حرير.
6- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: و قطع.
7- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لها.
8- . البرابخ: جمع بربخ، منفذ الماء و مجراه، و البالوعة من الخزف.

و ارسلوا فيها نبيّهم، و ألقموا فاها صخرة عظيمة، ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء، و قالوا: نرجو الآن أن ترضي عنّا آلهتنا إذ رأت أنّا قتلنا من كان يقع فيها و يصدّ عن عبادتها و دفنّاه تحت التّراب، و إن كبيرها يتشفّى منه، فيعود لنا نورها و نضرتها (1)كما كان، فبقوا عامّة يومهم يسمعون أنين نبيهم و هو يقول: سيدي قد ترى ضيق مكاني و شدّة كربي، فارحم ضعف ركني، و قلّة حيلتي، و عجّل قبض روحي، و لا تؤخّر إجابة دعوتي، حتى مات.

فقال اللّه تعالى لجبرئيل عليه السّلام: يا جبرئيل، أيظن عبادي هؤلاء الذين غرّهم حلمي، و أمنوا مكري، و عبدوا غيري، و قتلوا رسولي أن يقوموا لغضبي، و يخرجوا من سلطاني؟ ! كيف و أنا المنتقم ممّن عصاني، و لم يخش عقابي، و إنّي حلفت بعزّتي لأجعلنّهم عبرة و نكالا للعالمين، فلم يرعهم و هم في عيدهم ذلك إلاّ بريح عاصفة شديدة الحمرة، فتحيّروا فيها و ذعروا منها و تضامّ بعضهم الى بعض، ثمّ صارت الأرض من تحتهم كحجر كبريت يتوقّد، و أظلّتهم سحابة سوداء، فألقت عليهم كالقبّة جمرا يلتهب، فذابت أبدانهم [في النار]كما يذوب الرصاص في النار» الخبر (2).

و روى بعض العامة هذه الرواية بتفاوت يسير (3).

عن علي بن الحسين عليهما السّلام، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام، و عن الصادق عليه السّلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السّحق، فقال: «حدّها حدّ الزاني، فقالت: ما ذكر اللّه عزّ و جلّ ذلك في القرآن؟ فقال عليه السّلام: «بلى» . فقالت: و أين هو؟ قال: «هنّ أصحاب الرّسّ» (4).

و القمي عنه عليه السّلام، قال: دخلت امرأة مع مولاتها على أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقالت: ما تقول في اللواتي مع اللواتي؟ قال: «هنّ في النار، إذا كان يوم القيامة اتي بهنّ فألبسن جلبابا من نار، و خفّين من نار، و قناعا من نار، و ادخل في أجوافهنّ و فروجهنّ أعمدة من نار، و قذف بهنّ في النار» فقالت: ليس هذا في كتاب اللّه؟ قال: «بلى» قالت: أين هو؟ قال: «قوله: وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ اَلرَّسِّ فهن الرّسيّات» (5).

أقول: هذه الروايات في بيان سبب إهلاك نسوتهم، و ما سبق في بيان سبب عقوبة الرجال، فلا تنافي بينها.

وَ أهلك قُرُوناً و امما كانوا بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الامم حال كونهم كَثِيراً لا يعلمهم

ص: 489


1- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: و نضارتها.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:205/1، تفسير الصافي 4:13.
3- . تفسير روح البيان 6:213.
4- . الكافي 7:202/1، تفسير الصافي 4:15.
5- . تفسير القمي 2:113، تفسير الصافي 4:15.

إلاّ اللّه.

وَ ذكرنا كُلاًّ من الامم المهلّكين و ضَرَبْنا و بيّنا بتوسّط الرسل لَهُ اَلْأَمْثالَ و القصص العجيبة الزاجرة عمّا هم عليه من الكفر و المعاصي وَ كُلاًّ من الطوائف بعد تكذيبهم الرسل و إصرارهم على الطغيان تَبَّرْنا هم و أهلكناهم تَتْبِيراً و إهلاكا عجيبا هائلا.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على تعذيب المكذّبين للرسل و شدّة غضبه عليهم بما وقع في سدوم من قرى قوم لوط بقوله: وَ لَقَدْ أَتَوْا هؤلاء المشركون من قريش، و مرّوا مرارا كثيرة في أسفارهم إلى الشام للتجارة عَلَى اَلْقَرْيَةِ الموسومة بسدوم اَلَّتِي أُمْطِرَتْ من السماء مَطَرَ اَلسَّوْءِ و اهلك أهلها بنزول الحجارة عليهم أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في ذهابهم إلى الشام، و لم ينظروا إلى آثار العذاب فيها فيخافوا و يعتبروا و يؤمنوا بَلْ علّة عدم إيمانهم أنّهم لا يَرْجُونَ و لا يتوقّعون نُشُوراً و لا يؤمنون به حتى يرجوا ثواب الآخرة على الإيمان و طاعة اللّه مع وضوحه، فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي حتى يتّعظوا بما شاهدوا من آثار العذاب؟ و إنما يحملونه على الاتفاقيات.

وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ اَلسَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَ هذَا اَلَّذِي بَعَثَ اَللّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42)

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين نبوّة نبيه و شبهاتهم فيها، حكى استهزاءهم به بقوله: وَ إِذا رَأَوْكَ الذين كفروا باللّه و برسالتك من قريش إِنْ يَتَّخِذُونَكَ و ما يفرضونك إِلاّ هُزُواً و محلا للسّخرية، و كان كيفية استهزائهم أنه يقول بعضهم لبعض: أَ هذَا الرجل الفقير المهين فينا اَلَّذِي بَعَثَ اَللّهُ إلينا رَسُولاً فنتّبعه في ما يقول، و نطيعه في ما يحكم؟ !

و يقولون: إِنْ الشأن أنّه كادَ و قرب أنّه لَيُضِلُّنا و يصرفنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا و أصنامنا بلطف بيانه، و إكثار الحجج على التوحيد، و اجتهاده في الدعوة إليه لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا و ثبّتنا عَلَيْها و أصررنا على عبادتها.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ البتة حِينَ يَرَوْنَ عيانا في الآخرة اَلْعَذابَ الأليم الشديد بالنار، أو في الدنيا بالقتل و الأسر و الذلّ و الجلاء مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً؟ و أي الفريقين

ص: 490

أفسد مذهبا، هم أم محمّد و المؤمنون به الذين يدّعون أنّهم في ضلال عن الحقّ؟

و فيه دلالة على أنهم لم يكونوا على حجّة في مذهبهم الباطل، و إنما عارضوه بمحض الجحود و التقليد و اللّجاج الذي هو دأب الجهّال.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ أنّه تعالى بعد الحكم بضلالهم، و تهديدهم بالعذاب، زيّف مذهبهم بأنّه في الحقيقة عبادة هوى أنفسهم و شهوتهم لا إطاعة حكم عقولهم بقوله: أَ رَأَيْتَ يا محمّد مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ و معبوده هَواهُ و شهوة نفسه، و هل تعجّبت من حمق من بني أمر دينه على ميل طبعه، فكلّما دعاه هواه إليه انقاد له، سواء منع عنه العقل السليم أم وافقه.

أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)قيل: إنّ قوما من العرب كانوا يعبدون الحجر، و إذا رأوا حجرا أحسن شكلا و لونا من غيره سجدوا له (1).

و عن سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم، فاذا رأى أحسن منه رماه و اتّخذ الآخر و عبده (2).

و عن ابن عباس: الهوى إله يعبد (3).

و في الحديث: «ما عبد إله أبغض على اللّه من الهوى» (2).

ثمّ آيس سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن هدايتهم لأن لا يتعب نفسه الشريفة في دعوتهم بقوله: أَ فَأَنْتَ يا محمد، ببذل جهدك في دعوتهم تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً و حفيظا تحفظهم من اتّباع الهوى و عبادة الأصنام، لا لا تكون حافظا لهم إلاّ بالإجبار الذي ليس لك، بل إنّما أنت منذر، و قد قضيت ما عليك.

و قيل: إنّ المراد إنكار كونه صلّى اللّه عليه و آله حفيظا لهم من العذاب بإتعاب نفسه في دعوتهم (3).

ثمّ نفى سبحانه عنهم أهلية الهداية بقوله: أَمْ تَحْسَبُ و تتوهّم أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ حججك و إنذارك و مواعظك أَوْ إذا سمعوها يَعْقِلُونَ و يتفكّرون فيها، و لذا تطمع في إيمانهم، و تهتّم في دعوتهم، لا تتوهّم ذلك إِنْ هُمْ و ما هؤلاء إِلاّ كَالْأَنْعامِ و البهائم في العزاء من السمع و العقل بَلْ هُمْ أَضَلُّ و أبعد من البهائم سَبِيلاً و طريقا الى الرشاد، لأنّها تنقاد لمن يقودها إلى ما فيه خيرها، و تطلب نفعها، و تجتنب عمّا فيه ضرّها، و تعرف من يحسن إليها مع عرائها عن العقل، و هم

ص: 491


1- . تفسير روح البيان 6:217. (2 و 3) . تفسير الرازي 24:86.
2- . تفسير روح البيان 6:217.
3- . تفسير أبي السعود 6:221.

مع عقلهم لا يعرفون ربّهم المحسن إليهم، و لا ينقادون لمن يدلّهم إلى معرفته، و لا يطلبون ثوابه الذي هو أعظم المنافع، و لا يجتنبون عقابه الذي هو أعظم المضارّ، و لأنّها لو لم تعتقد حقّا لا تعتقد باطلا و لا تكسب شرا بخلاف هؤلاء، و لأنّ جهالتها و ضلالها لا تضرّ أحدا، و جهالة هؤلاء و ضلالهم تؤدي إلى هج (1)الفتن و صدّ الناس عن كلّ حقّ و خير، و لأنّها عاجزة عن تحصيل الكمال، فلا تقصير منها و لا ذمّ عليها، بخلاف هؤلاء فانّهم قادرون عليه، مقصرّون فيه، مستحقّون لأشد الذمّ و العقاب.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 45 الی 46

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذمّ المشركين بعدم سماعهم الحجج على توحيده، و عدم تفكّرهم فيها، شرع في بيان أوضح الحجج عليها زائدا على ما سبق بقوله: أَ لَمْ تَرَ بعين رأسك، و بعين قلبك يا محمد إِلى صنع رَبِّكَ أنّه بقدرته الكاملة كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ و بسط الكيفية المتوسطة بين الضوء الخالص و الظلمة الخالصة التي تكون بين الطلوعين و تحت السقوف و أفنية الجدران، و هي الحالة التي تكون أطيب الأحوال، لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع، و ينفر عنها الحس، و الضوء الخالص يبهر البصر، و يؤثّر السخونة الشديدة، و لذا وصف سبحانه الجنّة بها بقوله: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (2)و من المعلوم أنه من النّعم العظيمة و المنافع الجليلة التي لا بدّ لها من موجد، و لا يكون إلاّ اللّه، لعدم قدرة غيره على إيجاده.

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)وَ لَوْ شاءَ اللّه سكونه، و رأى الصلاح فيه لَجَعَلَهُ ساكِناً و ثابتا على حالة واحدة من الطول و العرض و الامتداد و الاقامة ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً و معرّفا، لأنّ الأشياء تعرف بأضدادها، فانّه لو لا الشمس لما رؤي (3)غير الجسم و لونه، و لا يري الظلّ موجودا ثالثا، فاذا أشرقت الشمس و زال الظلّ بضوئها، عرف أنّه شيء بحياله، كما أنّه لو لا الظلمة لما عرف النور، فالمراد من الآية أنا خلقنا الظلّ أولا لما فيه من المنافع، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطّلاع الشمس، فكانت الشمس دليلا على وجود الظلّ الذي هو نعمة عظيمة.

ثُمَّ قَبَضْناهُ و رفعناه إِلَيْنا قَبْضاً و رفعا، و لكن لا دفعة، بل يسيرا يَسِيراً فانّ الشمس كلّما ازدادت ارتفاعا ازداد الظلّ نقصانا من جانب المغرب.

ص: 492


1- . يقال: هجّ النار، أوقدها، و في تفسير روح البيان 6:218: هيج.
2- . الواقعة:56/30.
3- . في النسخة: رأى.

و قيل: لمّا خلق اللّه السماء و الأرض و الشمس و القمر و الكواكب، وقع الظلّ على الأرض (1).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 47 الی 49

ثمّ لمّا كانت الأظلال تتحرّك بحركات الأضواء، جعل ضوء الشمس كالهادي، و الظلّ كالمهتدي في سلوكه بالضوء، و قبضه إنّما يكون عند قيام الساعة بقبض الأجرام التي يقع الظلّ عليها، و يكون هذا القبض يسيرا و سهلا على اللّه وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته و حكمته لَكُمُ اَللَّيْلَ ساترا بظلامه، كأنّه يكون لِباساً لكم وَ جعل اَلنَّوْمَ فيه سُباتاً و راحة لأبدانكم، حيث إنّه مستلزم للفراغ من المشاغل و الزحمات، أو موتا كما قال: هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ (2).

وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِباساً وَ اَلنَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ اَلنَّهارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً (49)وَ جَعَلَ اَلنَّهارَ و الوقت الذي ينتشر فيه ضوء الشمس نُشُوراً لكم و وقت التفرّق في الأرض لطلب معاشكم و تحصيل رزقكم، أو وقت القيام من الموت، فشبّه سبحانه النوم عليه بالموت، و اليقظة بالبعث بعده، تنبيها على أن النوم و اليقظة كما يكونان نعمة عظيمة يكونان انموذج الموت و البعث.

عن لقمان، أنه قال: يا بني كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر (3)، أو فتحشر (4).

وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ حال كونها بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ و قدّام المطر النافع الذي فيه حياة كلّ شيء، وَ أَنْزَلْنا بقدرتنا و رحمتنا بعد إرسال الرياح مِنَ اَلسَّماءِ المطل، و السقف المحفوظ، أو من جهة العلوّ ماءً طَهُوراً يتطهّر به من الأحداث و الأرجاس و القذارات، فإن الطهارة نعمة و منّة زائدة، حيث إنّ الماء الطهور أنفع و أهنأ،

و يكون إنزاله لِنُحْيِيَ بِهِ بالنبت و الزرع و الأشجار و الأزهار و الثّمار بَلْدَةً و قطعة من الأرض التي تكون مَيْتاً لا نبت فيها و لا عمارة، و لنشرب ذلك الماء وَ نُسْقِيَهُ بعضا مِمّا خَلَقْنا أعني أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ و مواشي و بشرا كَثِيراً.

قيل: إنّ المراد بهم أهل البوادي، فانّهم يعيشون بماء المطر، و لذا نكّر سبحانه الأنعام و الاناسي.

و أمّا أهل المدن و القرى، فانّهم يقيمون بقرب الأنهار و المنابع، و الوحوش و الطيور تبعد في طلب

ص: 493


1- . تفسير الرازي 24:89.
2- . الأنعام:6/60.
3- . تفسير روح البيان 6:222.
4- . تفسير الرازي 24:90.

الماء (1).

و إنّما خصّ سبحانه الأنعام بالذكر، لأنّ غاية معائشهم و منافعهم منوطة بها، و لذا قدّم سقيها على سقيهم، كما قدّم إحياء الأرض على سقيها، لأنّه سبب لحياتها و تعيّشها.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 50 الی 52

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان المنافع الدنيويّة للمطر، بيّن منافعه الاخروية بقوله: وَ لَقَدْ أنزلنا المطر و صَرَّفْناهُ و أجريناه بَيْنَهُمْ في أنهارهم و أوديتهم، أو أنزلناه في مكان دون مكان، أو في عام دون عام.

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ إِلاّ كُفُوراً (50) وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)روي عن ابن مسعود، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه [قال]: «ما من عام بأمطر من عام، و لكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم، فاذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك إلى الفيافي» (2).

و عن ابن عباس: ما عام بأمطر من عام، و لكن اللّه يصرفه في الأرض (3).

و قيل: إن المراد صرفنا و كوّرنا المذكور من الاظلال و الرياح و السّحاب و المطر و سائر ما ذكر من الأدلة في القرآن و سائر الكتب السماوية (4)لِيَذَّكَّرُوا و يتفكّروا حتّى يعرفوا قدرة اللّه و حكمته و حقّ نعمته، و يقوموا بشكره و أداء تكاليفه فَأَبى و امتنع مع ذلك أَكْثَرُ اَلنّاسِ ممّن سلف و خلف إِلاّ كُفُوراً لنعمه، و عدم المبالاة بشأنها، و عدم تأدية شكرها و القيام بحقّها، بل جحدوها باسنادها إلى الطبائع و تأثير الكواكب.

ثمّ لمّا كان للكفّار اعتراض في بعث الرسول و شخصه، بيّن أنّ أمره راجع إلى اختياره و مشيئته بقوله: وَ لَوْ شِئْنا و رأينا الصلاح لَبَعَثْنا من قبلنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ و مجتمع للناس من بلد و مدينة نَذِيراً و رسولا من البشر، ينذر أهلها، ليخفف عليك أعباء الرسالة، و لكن أجللناك و عظّمنا شأنك بأن خصصناك بهذا المنصب العظيم، و بعثناك إلى الخلق أجمعين إلى يوم الدين تفضيلا لك على سائر الأنبياء و المرسلين،

فليس لأحد أن يعترض علينا في إكثار الرسل أو تخصيصه بشخص واحد من أيّ صنف كان، فاذا علمت اختيارنا فيه و عظم شأنك لدينا فَلا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ في ما يطلبون منك من الإمساك عن الدعوة إلى التوحيد و دعوى الرسالة، و موافقتهم في عبادة أصنامهم خوفا منهم، و اتل عليهم القرآن الذي هو أعظم معجزاتك وَ جاهِدْهُمْ بِهِ و اجتهد في محاجّتهم

ص: 494


1- . تفسير روح البيان 6:225.
2- . تفسير الرازي 24:98.
3- . تفسير الرازي 24:98.
4- . تفسير الرازي 24:98.

و دفعهم عن باطلهم بهذا القرآن، أو بسبب علوّ قدرك، أو بسب كونك نذير جميع القرى جِهاداً كَبِيراً و عظيما.

قيل: يعني جامعا لمجاهدات الرسل الكثيرة (1).

قيل: إن توصيف مجاهدته بالقرآن بالكبر، لأنّه أكبر و أعظم من الجهاد بالسيف (2).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 53 الی 54

ثمّ بالغ سبحانه في بيان كمال قدرته بقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ و أرسل، أو خلط، أو خلّى اَلْبَحْرَيْنِ و الماء العظيمين في مجاريهما حال كونهما ممتازين كلّ من الآخر بحيث يقال: هذا الماء عَذْبٌ فُراتٌ و طيب رافع للعطش لغاية عذوبته و طيبه وَ هذا الماء الآخر مِلْحٌ أُجاجٌ بليغ في الملوحة وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً و حاجزا و حائلا من الأرض، أو من قدرته، كأنّه يتنفّر كلّ منهما من الآخر، و يقول له: وَ حِجْراً مَحْجُوراً كما يقول الرجل ذلك لعدوّه تعوّذا من شرّه، و المعنى أنّه يقول كلّ من البحرين للآخر: حرام محرّم عليك أن تختلط بي، و تغلب عليّ، و تزيل صفتي، أو المراد تنافرا بليغا، أو حدا محدودا، و الظاهر أنّ المراد بالبحر العذب الأنهار الكبار كالنّيل و الفرات و دجلة، و من الملح الاجاج البحر المعهود، لما قيل من أنّه لا وجود للبحر العذب (3).

وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53) وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)قيل: إنّ دجلة تدخل في بحر فارس، و هو المسمّى بالبحر الأخضر، و تجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها (4).

و قيل: إنّ النيل يدخل في البحر الأخضر (5)، و هو بحر فارس، و هو على عذوبته، و البحر مرّ زعاق.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته بصنعه في الماء، بيّن قدرته بخلق الانسان الذي هو أحسن مخلوقاته و أشرفها منه بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ الدافق المخلوق في أصلاب الرجال بَشَراً و إنسانا ينطوي فيه العالم الكبير فَجَعَلَهُ أو جعل الماء نَسَباً و ذكرا ينسب إليه و يقال: فلان بن فلان وَ صِهْراً و إناثا يتزوّج بهنّ.

و الظاهر أنّ النسب القرابة بالولادة، و الصّهر القرابة بالتزويج وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً بحيث لا حدّ

ص: 495


1- . تفسير الرازي 24:100.
2- . تفسير الصافي 4:19، تفسير روح البيان 6:227.
3- . تفسير روح البيان 6:229.
4- . تفسير روح البيان 6:229.
5- . تفسير روح البيان 6:229.

لقدرته، حيث خلق بقدرته من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة و طباع متباعدة، و جعله قسمين متباينين متقابلين، و ربما يخلق من مادة واحدة في رحم واحدة ذكرا و انثى توأمين.

عن ابن سيرين و السّدّي: أنّ الآية نزلت في النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، حيث زوّج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ابنته فاطمة عليا عليه السّلام فكان علي نسبا حيث إنّه ابن عمه، و صهرا حيث إنّه زوج ابنته (1).

و عن الباقر عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «ألا و إنّي مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا أن تغلبوا عليها فتضلّوا في دينكم، أنا الصهر لقول اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً» (2).

و في (روضة الواعظين) أنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «خلق اللّه عزّ و جلّ نطفة بيضاء مكنونة، فنقلها من صلب إلى صلب حتى نقلت النّطفة إلى صلب عبد المطّلب، فجعلها نصفين، فصار نصفها في عبد اللّه، و نصفها في أبي طالب، فأنا من عبد اللّه، و علي من أبي طالب و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً. . .» (3).

و قيل: إنّ المراد من الماء الماء الذي هو أصل الموجودات (4)، و المراد من البشر آدم عليه السّلام (5).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم من الماء العذب، و خلق زوجه من سنخه، فبرأها من أسفل أضلاعه، فجرى بذلك الضّلع بينهما سبب و نسب، ثمّ زوّجها إياه، فجرى بينهما بسبب ذلك صهر، فذلك قوله: نَسَباً وَ صِهْراً فالنسب ما كان بسبب الرجال، و الصّهر ما كان بسبب النساء» (6).

أقول: يعني بسبب النطفة و التزويج.

و عن الصدوق باسناده عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: قلت له: يا رسول اللّه، عليّ أخوك؟ قال: «نعم، عليّ أخي» . قلت: يا رسول اللّه، صف لي كيف عليّ أخوك؟ قال: «إنّ اللّه عز و جل خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام، و أسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه، إلى أن خلق آدم، فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة، فأجراه في صلب آدم إلى أن قبضه اللّه تعالى، ثمّ نقله إلى صلب شيث، فلم يزل ذلك الماء ينتقل من ظهر إلى ظهر حتى صار في عبد المطلب، ثمّ شقّه

ص: 496


1- . مجمع البيان 7:273، و تفسير الصافي 4:19، و تفسير روح البيان 6:230، عن ابن سيرين.
2- . معاني الأخبار:59/9، تفسير الصافي 4:20.
3- . روضة الواعظين:71، تفسير الصافي 4:20.
4- . الرازي 24:101.
5- . مجمع البيان 7:273.
6- . تفسير القمي 2:114، تفسير الصافي 4:19.

[اللّه]عزّ و جلّ نصفين، فصار نصفه في أبي عبد اللّه بن عبد المطلب، و نصف في أبي طالب، فأنا من نصف الماء، و علي من النصف الآخر، فعلي أخي في الدنيا و الآخرة» (1).

أقول: للرواية و أمثالها تأويلات لا يفهمها إلاّ من نوّر اللّه قلبه بالايمان، و أنعم عليه بالفكر الصائب و البصيرة الكاملة.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 55 الی 57

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و عظمته، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام التي لا قدرة لها على شيء بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و مجاوزين عنه ما لا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه وَ لا يَضُرُّهُمْ إن لا يعبدوه، لأنّها جمادات لا ينبغي لذي مسكة (2)الاعتماد عليها وَ كانَ اَلْكافِرُ المشرك بشركه و عداوته للحقّ عَلى رَبِّهِ الخالق له و إلهه المربّي له ظَهِيراً و عونا للشيطان. و قيل: يعني هيّنا (3).

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ اَلْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)و عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «علي هو ربّه في الولاية» (4).

و القمي، قال: الكافر هو الثاني، و كان علي أمير المؤمنين عليه السّلام ظهيرا» (5).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عداوة الكفّار له، بيّن لطفه بهم الموجب لحبّهم له بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد، إلى الناس إِلاّ لتكون مُبَشِّراً لهم بالثواب على الطاعة وَ نَذِيراً لهم بالعقاب على العصيان، فمن أجهل ممّن اجتهد في إظهار العداوة لمن يحبّه و يلطف به و يصلح مهماته من دون طمع في مالهم،

و لذا أمر نبيّه بإعلامهم بعدم توقّع أجر منهم على الرسالة بقوله: قُلْ يا محمد، لهولاء المشركين: أنا مبعوث إليكم لتبليغ الحقّ و ما أَسْئَلُكُمْ و لا أطلب منكم عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و مال لنفسي حتى تقولوا: إنّ محمدا يطلب أموالنا بما يدعونا إليه إِلاّ عمل مَنْ شاءَ و اراد أَنْ يَتَّخِذَ إِلى قرب رَبِّهِ و رحمة مليكة سَبِيلاً من الايمان و الطاعة له، فانّه أجري و جعلي على التبليغ و الدعوة، فانّ أجرى على رسالتي طاعتكم للّه و تقرّبكم إليه، فانّ النبي يثاب بقدر

ص: 497


1- . أمالي الطوسي:312/637، تفسير الصافي 4:20، و لم نعثر عليه في مصنفات الشيخ الصدوق، و الذي في الصافي: و عن الأمالي، بدل و عن الصدوق.
2- . المسكة: العقل الوافر و الرأي.
3- . تفسير أبي السعود 6:226.
4- . بصائر الدرجات:97/5، تفسير الصافي 4:20.
5- . تفسير القمي 2:115، تفسير الصافي 4:20.

عبادة امّته، و فيه المبالغة في دفع شبهة طمعه في الأجر الدنيوي و إظهار غاية الشّفقة بهم، فهذا نظير قول الوالد لولده: إنّي لا أطلب باحساني إليك و تربيتي إياك أجرا إلاّ أن تحفّظ نفسك و مالك من التّلف.

و قيل: إنّ المراد لا أسألكم على الدعوة إلى اللّه إلاّ أن يشاء أحد أن يتقرّب إلى اللّه بالانفاق في الجهاد و سائر الخيرات، فيتّخذ به سبيلا إلى رحمة ربّه و نيل ثوابه (1).

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع (2)، و المعنى لا أسألكم عليه أجرا لنفسي، و لكن أسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتّخاذ السبيل إلى ربّكم (1).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 58

ثمّ لمّا بيّن سبحانه تظاهر الكفّار على عداوة اللّه و رسوله، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالاعتماد عليه في دفع شرّهم بقوله: وَ تَوَكَّلْ و اعتمد يا محمد في دفع شرّهم و كفاية امور معاشك و معادك عَلَى ربّك اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ فإنه الحقيق بأن يتوكّل عليه دون الحيّ الذي من شأنه أن يموت، فانّه بالموت يضيّع من توكّل عليه وَ سَبِّحْ و نزّه ربّك من النقائص الامكانية كالعجز و الحاجة و الجهل و الغفلة و نظائرها، أو صلّ لربك، أو قل: سبحان اللّه، حال كونك مقرنا له بِحَمْدِهِ و الثناء عليه بنعوت الكمال و طلب مزيد إنعامه بشكره على سوابق نعمه.

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)ثمّ وعد سبحانه نبيّه بالانتقام من أعدائه بقوله: وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منها و ما بطن خَبِيراً و مطّلعا لا يحتاج إلى غيره في تعذيبهم و الانتقام منهم، لكمال قدرته عليه، فيجزيهم جزاء وافيا، فلا عليك أن آمنوا أو كفروا، أو أطاعوا أو خالفوا.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 59

ثمّ وصف نفسه بالقدرة الكاملة إرعابا للقلوب و تقوية للدواعي على التوكّل عليه بقوله: اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات فِي مدّة مقدارها مقدار سِتَّةِ أَيّامٍ من أيام الدنيا، أو في ستة أوقات كلّ وقت منها محدود بالاضافة إلى ما خلق فيه، على

اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ اَلرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

ص: 498


1- . تفسير أبي السعود 6:226.

ترتيب اقتضته الحكمة، فالمدّة المتوّهمة التي خلق فيها الأرض يوم، و التي خلق فيها السماوات يوم و هكذا، و إنّما خلق العالم على التدريج مع قدرته على خلقه جميعا في أقلّ من طرفة عين، لحكم لا يعلمها إلاّ هو، منها تعليم العباد التأني في الامور ثُمَّ اِسْتَوى و استولى بقدرته الكاملة و علمه الشامل عَلَى اَلْعَرْشِ و نفذ تصرّفه و تدبيره في جميع الموجودات.

قيل: إنّ الاستقرار على سرير الملك، كما هو الظاهر من الاستواء على العرش، كناية عن قوة سلطانه و نفاذ أمره (1)، أو رفعه على السماوات (2). فهذا القادر على خلق الموجودات العلوية و السّفلية المنبسطة رحمته على الممكنات هو اَلرَّحْمنُ فانّ الرحمانية هي الاستواء و القاهرية على جميع الممكنات فَسْئَلْ يا محمّد بِهِ شخصا خَبِيراً و عالما بكيفية خلق الموجدات و الاستواء عليها.

قيل: هو اللّه لعدم علم غيره بها (3). و عن ابن عباس: هو جبرئيل (4). و قيل: هو العالم بالكتب السماوية ليصدقك فيه (5).

قيل: إنّ لفظ (به) متعلّق بخبير، و إنّما قدّم تحفّظا على رؤوس آلاي و حسن النظم (6).

و قيل: إنّ الباء زائدة، و المعنى فأسأله حال كونه خبيرا (7).

و قيل: إنّها بمعنى (عن) (8). و قيل: إنّها للتعدية لتضمّن السؤال معنى الاعتناء (9). و قيل: إنّها للقسم كقوله: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ (10).

روي أنّ اليهود حكوا ابتداء خلق الأشياء بخلاف ما أخبر اللّه تعالى (11).

و قيل: إنّ ضمير (به) راجع إلى الرحمن ردّا على إنكار المشركين إطلاق اسم الرحمن على اللّه، بأنّ العالم بالكتب السماويّة يعلم أنّ ما يرادف هذا الاسم اطلق على اللّه في الكتب (12).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 60

ثمّ لما توهّم المشركون من أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالسجود للرحمن، أمره بعبادة غير اللّه، لجهلهم بان الرحمن من أسمائه تعالى، ذمّهم سبحانه على ذلك بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ و الإله

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا اَلرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (60)

ص: 499


1- . تفسير روح البيان 6:234.
2- . تفسير الرازي 24:105.
3- . تفسير الرازي 24:105.
4- . تفسير الرازي 24:105.
5- . تفسير البيضاوي 2:146.
6- . تفسير الرازي 24:105.
7- . تفسير الرازي 24:105.
8- . تفسير الرازي 24:105.
9- . تفسير البيضاوي 2:146.
10- . تفسير الرازي 24:105، و الآية من سورة النساء:4/1.
11- . مجمع البيان 7:275، تفسير الصافي 4:21.
12- . تفسير أبي السعود 6:227، تفسير الصافي 4:22.

الذي خلق برحمته جميع الموجودات قيل: إنّ المراد بالسجدّة هنا الصلاة (1)قالُوا اعتراضا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما تقول وَ مَا اَلرَّحْمنُ و أي شيء هو؟ فانّا لا نعرف أن يكون اسما لشيء أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا بالسجود له مع عدم معرفتنا إيّاه، لا نطيعك في ذلك وَ زادَهُمْ الأمر بالسجود للرحمن نُفُوراً و انزجارا عن الايمان.

روي أن أبا جهل قال: إنّ الذي يقوله محمّد شعر. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «الشعر غير هذا، إن هذا إلاّ كلام الرحمن» فقال أبو جهل: بخ بخ، لعمري و اللّه إنّه لكلام الرحمن الذي باليمامة، هو يعلّمك. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «الرحمن الذي هو إله السماء، و من عنده يأتيني الوحي» فقال: يا آل غالب، من يعذرني من محمد، يزعم أنّ اللّه واحد، و هو يقول: اللّه يعلّمني و الرحمن، أ لستم تعلمون أنّهما إلهان؟ ثمّ قال: «ربّكم اللّه الذي خلق هذه الأشياء، أمّا الرحمن فهو مسيلمة» (2). قيل: فسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و جماعة الصحابة، و لمّا رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين، فهذا هو المراد من قوله: وَ زادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفورا (3).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 61 الی 62

ثمّ لمّا ذكر اللّه نفورهم عن السجود له، بيّن كمال عظمته الموجبة لسجود جميع الموجودات له بقوله: تَبارَكَ و تعالى، أو تكاثر خير الإله اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته و حكمته فِي اَلسَّماءِ لنفع الناس بُرُوجاً و منازل الكواكب السبعة السيارة.

تَبارَكَ اَلَّذِي جَعَلَ فِي اَلسَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (61) وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)و عن ابن عباس: البروج: هي الكواكب العظام (4).

وَ جَعَلَ فِيها لهذا العالم المظلم سِراجاً و شمسا مضيئة وَ قَمَراً مُنِيراً بالليل وَ هُوَ القادر اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً و ذوي عقبة يعقب كلّ منهما الآخر، و يأتي خلفه.

و عن ابن عباس: جعل كلّ واحد منهما يخلف صاحبه في ما يحتاج أن يعمل فيه، فمن فرط في عمل أحدهما قضاه في الآخر (5).

و عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعمر بن الخطاب: و قد فاتته قراءة القرآن بالليل: يا بن الخطاب، لقد أنزل اللّه فيك آية، و تلا: وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً. . . ما فاتك من

ص: 500


1- . تفسير روح البيان 6:235.
2- . تفسير الرازي 24:105.
3- . تفسير الرازي 24:106. (4 و 5) . تفسير الرازي 24:106.

النوافل بالليل فاقضه في [نهارك، و ما فاتك من النهار فاقضه في]ليلك (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «كلّ ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار، قال اللّه تبارك و تعالى» و تلا هذه الآية. ثمّ قال: «يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل» (2).

و قيل: يعني جعلهما مختلفين بالسواد و البياض و الطول و القصر (3)، كلّ هذه النّعم العظام نافع أو مخلوق لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ و يتفكّر فيها، فيستدلّ بها على عظمة خالقها و كمال قدرته و لطفه أَوْ أَرادَ شُكُوراً لمنعمه و القيام بحقّ نعمته بالجدّ في الطاعة، و الجهد في العبادة.

و قيل: إنّ المعنى جعل الليل و النهار ليكونا وقتين للمتذكّرين و الشاكرين، فمن فاته في أحدهما شيء من العبادة قام به في الآخر (4).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين و عبّاد الشياطين بالامتناع عن السجود للرحمن و الخضوع له، مدح عباده بالخضوع و التواضع و السجود له و التضرّع إليه و الاقتصاد في المعيشة بقوله: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ هم اَلَّذِينَ يَمْشُونَ بين الناس عَلَى وجه اَلْأَرْضِ في النهار حال كونهم هَوْناً و متذلّلين متواضعين ليّنين، لا يضربون بأقدامهم أشرا و لا بطرا، و لا يتجبّرون، و لا يتبخترون، لعلمهم بعظمة ربهم و هيبته، و شهودهم كبرياءه و جلاله، فخشعت لذلك أرواحهم، و خضعت نفوسهم و جوارحهم.

وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64)و في الحديث: «المؤمنون هيّنون ليّنون، كالجمل الانف إن قيد انقاد، و إن استنيخ (5)على صخرة استناخ» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الرجل يمشي بسجيّته التي جبل عليها لا يتكلّف و لا يتبختر» (7).

و القمي، عن الباقر عليه السّلام، أنّه قال في هذه الآية: «الأئمّة يمشون على الأرض هونا خوفا من عدوّهم» (8).

ص: 501


1- . تفسير الرازي 24:106.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:315/1428، تفسير الصافي 4:22.
3- . تفسير الرازي 24:106.
4- . تفسير الرازي 24:107.
5- . في تفسير روح البيان: انيخ.
6- . تفسير روح البيان 6:240.
7- . مجمع البيان 7:279، تفسير الصافي 4:23.
8- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:23.

و عن الكاظم عليه السّلام: «هم الأئمّة عليهم السّلام يتقون في مشيهم» (1).

وَ إِذا خاطَبَهُمُ و كلّمهم اَلْجاهِلُونَ بكلام فيه خرق و هزء و قباحة قالُوا نطلب منكم سَلاماً و أمنا من الشرّ و الضرّ، لا نجاهلكم و لا نخالط بشيء من اموركم، بل بيننا متاركة تامة.

و قيل: يعني قالوا قولا سلاما، أي سدادا، يسلمون فيه من الأذى و الإثم (2).

و قيل: قالوا سلاما أي سلام توديع لا تحية (3)، و المراد أنّا لا نقابلكم بسوء، بل نعدل عن طريقتكم و نحلم عنكم.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سيرتهم في النهار مع الخلق، بيّن سيرتهم في الليل مع الخالق بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ و يصبحون لياليهم حال كونهم لِرَبِّهِمْ سُجَّداً للّه وَ قِياماً قيل: يبيتون للّه على أقدامهم، و يفرشون له وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم خوفا من ربّهم (4).

و قيل: يصلّون في جميع الليل، و إنّما ذكر عبادتهم بالليل لكونها أشقّ و أبعد من الرياء (5)، و في الخبر: من كثّر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار (6).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 65 الی 67

ثمّ ذكر سبحانه أنّهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب اللّه بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ في صلاتهم، أو في سجودهم و قيامهم، كما عن ابن عباس (5)، أو في عامّة أوقاتهم (6)رَبَّنَا اِصْرِفْ و ادفع عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً و شرا دائما، و هلاكا لازما لكلّ من ابتلى به.

وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)عن الباقر عليه السّلام يقول: «ملازما لا يفارق» (7).

و عن ابن عباس: الغرام هو الموجع (8).

و قيل في تفسير الغرام: إنّه تعالى سأل الكفار ثمن نعمه، فما ادّوها إليه، فأغرمهم فأدخلهم النار (9).

ثمّ ذكروا علّة مسألتهم النجاة من جهنّم بقولهم: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً قيل: إنّها مستقرّ

ص: 502


1- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:23.
2- . تفسير روح البيان 6:241.
3- . تفسير الرازي 24:108.
4- . تفسير الرازي 24:108. (5 و 6) . تفسير روح البيان 6:242.
5- . تفسير الرازي 24:108.
6- . تفسير روح البيان 6:243.
7- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:23.
8- . تفسير الرازي 24:108.
9- . تفسير الرازي 24:108.

للعصاة من المؤمنين، حيث إنّهم لا يقيمون فيها، و مقام للكفّار (1). و يحتمل أن يكون هذا كلام اللّه تعالى (2).

في بيان المراد من

الاسراف و التقتير

ثمّ مدحهم سبحانه بالاقتصاد في المعيشة بقوله: وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا على أنفسهم و عيالهم، و على الفقراء لَمْ يُسْرِفُوا و لم يتجاوزوا فيه عن حدّ التوسّط وَ لَمْ يَقْتُرُوا.

و عن ابن عباس: الاسراف: هو الانفاق في معصية اللّه تعالى، و الاقتار منع حقّ اللّه تعالى (3).

و عن مجاهد: لو أنفق رجل مثل جبل أبي قبيس ذهبا في طاعة اللّه تعالى، لم يكن سرفا، و لو أنفق صاعا في معصية اللّه تعالى يكون سرفا (4).

و قيل: يعني لم ينفقوا في معاصي اللّه، و لم يمسكوا عمّا ينبغي، و ذلك قد يكون في الإمساك عن حقّ اللّه، و هو أقبح تقتير، و قد يكون في الامساك عن المندوب، كالانفاق على الفقير (5).

و قيل: إنّ السرف مجاوزة الحدّ في التنعّم و التوسّع في الدنيا، و إن كان من حلال، كالأكل فوق الشّبع بحيث يمنع النفس من العبادة، و الاقتار: هو التضييق، كالأكل أقلّ من الحاجة. قال: و هذه صفة الصحابة، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعّم و اللذّة، و لا يلبسون ثيابا للتجمّل و الزينة، و لكن يأكلون ما يسدّ جوعهم، و يعينهم على عبادة ربّهم، و يلبسون ما يستر عوراتهم و يصونهم عن الحرّ و البرد (1).

و عن القمي: لَمْ يُسْرِفُوا يعني لم ينفقوا (2)في المعصية وَ لَمْ يَقْتُرُوا يعني لم يبخلوا عن حقّ اللّه (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أعطى في غير حقّ فقد أسرف، و من منع من حقّ فقد قتر» (9).

و عن علي عليه السّلام: «ليس في المأكول و المشروب سرف و إن كثر» (10).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما الإسراف في ما أفسد المال و أضرّ بالبدن» .

قيل: فما الاقتار؟ قال: «أكل الخبز و الملح و أنت تقدر على غيره» .

قيل: فما القصد؟ قال: «الخبز و اللّحم و اللبن و الخلّ و السّمن، مرّة هذا، و مرّة هذا» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه تلا هذه الآية، فأخذ قبضة من حصى، و قبضها بيده، فقال: «هذا الاقتار الذي ذكره [اللّه]في كتابه» ثمّ قبض قبضة اخرى، فأرخى كفّه كلّها، فقال: «هذا الإسراف» الخبر (5).

ص: 503


1- . تفسير الرازي 24:109.
2- . في المصدر: و الإسراف الإنفاق.
3- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:23. (9 و 10) . مجمع البيان 7:280، تفسير الصافي 4:24.
4- . الكافي 4:54/10، تفسير الصافي 4:24.
5- . الكافي 4:54/1، تفسير الصافي 4:24.

وَ كانَ الانفاق بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الاسراف و الاقتار قَواماً و وسطا عدلا.

و في الخبر ثمّ أخذ قبضة اخرى فأرخى بعضها و أمسك بعضها، و قال: «هذا القوام» (1).

و عن القمي: القوام: العدل [و الانفاق]في ما أمر اللّه به (2).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 68

ثمّ لمّا كانت هذه الأعمال من المشركين القاتلين للبنات ممكنة، وصف عباده بالتوحيد و اجتناب الكبائر بقوله: وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ و لا يعبدون مَعَ اَللّهِ الحقّ إِلهاً آخَرَ و لا يشركون به غيره وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ قتلها بوجه إِلاّ بِالْحَقِّ المبيح لقتلها كالقصاص أو الحدّ وَ لا يَزْنُونَ و لا يجامعون امرأة بغير الاسباب المبيحة لجماعها، و فيه تعريض للكفّار بأنّهم يعبدون إلها آخر، و يقتلون البنات، و يزنون وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور من القبائح يَلْقَ أَثاماً و ينل و بال تلك الأعمال.

وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68)و قيل: إنّ الآثام واد في جهنّم (3).

و عن القمي: آثام: واد من أودية جهنّم من صفر مذاب، قدّامها خدّة (4)في جهنّم، يكون فيه من عبد غير اللّه و من قتل النفس التي حرّم اللّه، و يكون فيه الزّناة (5).

و قيل: هو جهنم (6).

و في الحديث: الغيّ و الآثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار (7).

و عن ابن مسعود، قلت: يا رسول اللّه أيّ ذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل للّه ندّا و هو خلقك» قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» . قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل اللّه تصديقه (8).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 69 الی 70

يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)

ص: 504


1- . الكافي 4:55/1، تفسير الصافي 4:24.
2- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:23.
3- . تفسير الرازي 24:111.
4- . في الخدّة: الحفرة المستطيلة في الأرض. و في النسخة: حدّة.
5- . تفسير القمي 2:116، تفسير الصافي 4:24.
6- . تفسير الرازي 24:111.
7- . تفسير روح البيان 6:247.
8- . تفسير الرازي 24:111.

ثمّ بيّن سبحانه الآثام، و أكّد تهديد المرتكبين لتلك القبائح العظام بقوله: يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ و يتزايد له العقاب وقتا بعد وقت يَوْمَ اَلْقِيامَةِ بسبب انضمام شركه بالمعاصي وَ يَخْلُدْ في العذاب و يقيم فِيهِ ابدا حال كونه مُهاناً و ذليلا إِلاّ مَنْ تابَ و رجع عن شركه و عصيانه، و آمن بوحدانية ربّه وَ عَمِلَ بعد إيمانه عَمَلاً صالِحاً مرضيّا عند اللّه فَأُوْلئِكَ التائبون الصالحون يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ بأن تمحى سيئاتهم من صحيفة عملهم، و يكتب مكانها الحسنات، كما عن سعيد بن المسيّب و جماعة من مفسري العامّة (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: أنّه [قال]: «ليتمنين أقوام أنّهم أكثروا من السيئات» قيل من هم يا رسول اللّه؟ قال: «الذين يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» (2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، و يخبّأ عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا و كذا و هو مقرّ لا ينكر، و هو مشفق من الكبائر، فيقال: أعطوه مكان كلّ سيئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا ما أراها هاهنا» . قال: فلقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يضحك حتى بدت نواجذه، ثمّ تلا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ إلى آخره (3).

في بيان المراد من

تبديل السيئات

بالحسنات

أقول: يحتمل كون المراد من الرواية المحو و الاثبات للذين (4)ذكرنا، و إخفاء الصورة و إظهارها.

عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل عن الآية، فقال: «يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة فيوقف بموقف الحساب، فيكون اللّه تعالى هو الذي يتولّى حسابه، لا يطلع على حسابه أحدا من الناس فيعرّفه ذنوبه، حتى إذا أقرّ بسيئاته قال اللّه عز و جل للكتبة: بدّلوها حسنات، و أظهروها للناس. فيقول الناس حينئذ: ما (5)كان لهذا العبد سيئة واحدة» إلى أن قال: «هي للمذنبين (6)من شيعتنا خاصة» (7).

و عن الرضا عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة أوقف اللّه عزّ و جلّ المؤمن بين يديه، و عرض عليه عمله، فينظر في صحيفته، فأول ما يرى سيئاته، فيتغيّر لونه، و ترتعد فرائصه، ثمّ تعرض عليه حسناته فتقرّ حينئذ لذلك (8)نفسه، فيقول اللّه عزّ و جلّ: بّدلوا سيئاته حسنات، و أظهروها للناس. فيبدّل اللّه لهم

ص: 505


1- . تفسير الرازي 24:112، تفسير روح البيان 6:247.
2- . تفسير الرازي 24:112.
3- . تفسير روح البيان 6:247.
4- . في النسخة: الذين.
5- . في أمالي المفيد: أما.
6- . في أمالي المفيد و تفسير الصافي: هي في المذنبين.
7- . أمالي المفيد:298/8، تفسير الصافي 4:24.
8- . في تفسيري القمي و الصافي: فتفرح لذلك.

فيقول الناس: أما كان لهؤلاء سيئة واحدة؟ و هو قول اللّه تعالى: يُبَدِّلُ اَللّهُ إلى أخره» (1).

و عنه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حبّنا أهل البيت يكفّر الذنوب، و يضاعف الحسنات، و إنّ اللّه تعالى ليتحمّل من (2)محبّينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد إلاّ ما كان منهم [على]إصرار و ظلم للمؤمنين، فيقول للسيئات: كوني حسنات» (3).

أقول: الظاهر منه تغيير مجسّمة الأعمال، و قريب منه رواية اخرى عنه عليه السّلام (4).

و عن الباقر عليه السّلام-في حديث ما معناه-: «أنّ اللّه سبحانه يأمر بأن تؤخذ حسنات أعدائنا فتردّ على شيعتنا، و تؤخذ سيئات شيعتنا فتردّ على مبغضينا، و هو قول اللّه تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ إلى آخره، يبدّل اللّه سيئات شيعتنا حسنات، و يبدّل اللّه حسنات أعدائنا سيئات» (5).

و عن ابن عباس: أنّ التبديل إنّما يكون في الدنيا، فيبدّل اللّه تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الاسلام، فيبدّلهم بالشّرك إيمانا، و بقتل المؤمنين قتل المشركين، و بالزنا عفّة [و إحصانا]، فكأنّه تعالى يبشّرهم بأنه يوفّقهم لهذه الأعمال الصالحة، فيستوجبوا بها الثواب (6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما جلس قوم يذكرون اللّه إلاّ نادى بهم مناد من السماء: قوموا فقد بدّل اللّه سيئاتكم حسنات» (7).

و قيل: إنّ المراد بالتبديل تبديل عقابهم بالثواب (8).

ثمّ بيّن سبحانه علّته بقوله: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً فمقتضى الصفتين؛ هذا التبديل و ازدياد الثواب.

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 71 الی 74

ثمّ إنه تعالى بعد البشارة بقبول توبة المشركين المرتكبين للكبيرتين، بشّر عموم العصاة بقبول توبتهم بقوله: وَ مَنْ تابَ و رجع عن أيّ معصية و ندم عليها وَ عَمِلَ صالِحاً يتدارك به ما فرّط،

وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اَللّهِ مَتاباً (71) وَ اَلَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73) وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)

ص: 506


1- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:25.
2- . في أمالي الطوسي: عن.
3- . أمالي الطوسي 164/274، تفسير الصافي 4:25.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:33/57، تفسير الصافي 4:25.
5- . علل الشرائع:609 و 610/81، تفسير الصافي 4:25.
6- . تفسير الرازي 24:112.
7- . روضة الواعظين:391، تفسير الصافي 4:25.
8- . تفسير الرازي 24:112.

و التزم بالطاعة فَإِنَّهُ يَتُوبُ و يرجع بعد الموت إِلَى اَللّهِ تعالى مَتاباً عظيم الشأن مرضيا عنده ماحيا للعقاب و محصّلا للثواب.

و قيل: يعني من تاب إلى اللّه من المعاصي الماضية يوفقه اللّه للتوبة من المعاصي المستقبلة، و هذه بشارة عظيمة (1).

و عن القمي: أي لا يعود إلى شيء من ذلك باخلاص و نيّة صادقة (2).

وَ اَلَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ و لا يحضرون اَلزُّورَ و الباطل و المجالس التي ترتكب فيها المحرّمات، أو خصوص الكذب على اللّه و الرسول، كما عن ابن عباس (3).

و قيل: الزّور هو الغناء، كما عن الصادق عليه السّلام (4)، و ابن الحنفية (5)، و زاد القمي: مجالس اللهو (6).

وَ إِذا مَرُّوا بالمشغولين بِاللَّغْوِ و السفهي من القول و الفعل، أو الفحش من الكلام مَرُّوا به حال كونهم كِراماً و منزّهين منه، معرضين عنه.

قيل: إذا سمعوا من الكفّار الشتم و الأذى أعرضوا عنهم (7).

و قيل: إذا ذكروا (8)النّكاح كنّوا عنه (9).

و عن الباقر عليه السّلام: «هم الذين إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه» (10).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّه قال لبعض أصحابه: «أين نزلتم» ؟ قالوا: على فلان صاحب القيان. فقال: «كونوا كراما، أما سمعتم قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ؟» الى آخره (11).

و قال محمّد بن أبي عبّاد-و كان مشتهرا بالسّماع و شرب النّبيذ-سألت الرضا عليه السّلام عن السّماع، فقال: «لأهل الحجاز رأي فيه، و هو في حيّز الباطل و اللّهو، أما سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ؟» إلى آخره (12).

أقول: الظاهر أنّ الجميع من مصاديق اللغو.

وَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا و نبهوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالّة على المواعظ و الحكم لَمْ يَخِرُّوا و لم يسقطوا عَلَيْها حال كونهم صُمًّا و فاقدي الأسماع لا يصغون إليها إصغاء القبول وَ عُمْياناً

ص: 507


1- . تفسير الرازي 24:113.
2- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:26.
3- . تفسير الرازي 24:113.
4- . الكافي 6:431/6، تفسير الصافي 4:26.
5- . تفسير الرازي 24:113.
6- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:26.
7- . تفسير الرازي 24:114.
8- . في تفسير الرازي: ذكر.
9- . تفسير الرازي 24:114.
10- . مجمع البيان 7:283، تفسير الصافي 4:26.
11- . الكافي 6:432/9، تفسير الصافي 4:26.
12- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:128/5، تفسير الصافي 4:26.

و فاقدي الأبصار، لم يبصروا ما فيها من المعجزات و العبر، بل أكبّوا عليها و أقبلوا إليها سامعين بآذان واعية، مبصرين بعيون راغبة، منتفعين بها حقّ الانتفاع على خلاف الكفار و المنافقين.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «مستبصرين ليسوا بشكّاك» (1).

وَ اَلَّذِينَ يتضرّعون إلى اللّه و يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ جهة أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا ما يكون لنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ و ضياء أبصار و مسرّة قلوب من الطاعة و الصلاح و حيازة الفضائل، و مساعدة في الدين، و قيل: إنّ المعنى هب لنا قرّة أعين (2).

ثمّ بيّنها بقوله: مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا بأن يجعلهم اللّه مؤمنين صالحين وَ اِجْعَلْنا بتوفيقك لنا في الايمان و التقوى بحيث نكون لِلْمُتَّقِينَ إِماماً و مقتدى في الاجتهاد في الطاعة، و القيام بمراسم الشريعة.

قال بعض العامة: إنّ الايات نزلت في العشرة المبشّرة (3).

و عن سعيد بن جبير: أنّ هذه الآية خاصة في أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان أكثر دعائه: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا يعني فاطمة وَ ذُرِّيّاتِنا يعني الحسن و الحسين عليهما السّلام قُرَّةَ أَعْيُنٍ.

قال عليه السّلام: «و اللّه ما سألت ربي ولدا نضير الوجه، و لا سألت ولدا حسن القامة، و لكن سألت [ربي] ولدا مطيعين للّه خائفين وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه و هو مطيع للّه قرّت به عيني» قال: وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [قال]: «نقتدي بمن قبلنا من المتقين، فيقتدي المتّقون بنا من بعدنا» (4).

و قال القمي: روي أن أَزْواجِنا خديجة وَ ذُرِّيّاتِنا فاطمة، و قُرَّةَ أَعْيُنٍ الحسن و الحسين وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً علي بن أبي طالب و الأئمّة عليهم السّلام (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «إيانا عنى» . و في رواية: «هي فينا» (6).

سوره 25 (الفرقان): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ إنّه تعالى بعد توصيف عباده بالصفات الكريمة، بيّن الطافه بهم بقوله: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ و أعلى منازل الجنّة التي تكون من ذهب و لؤلؤ و مرجان على ما قيل (7)بِما صَبَرُوا على مشاقّ

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

ص: 508


1- . الكافي 8:178/199، تفسير الصافي 4:26.
2- . تفسير الرازي 24:114.
3- . تفسير الرازي 24:115.
4- . مناقب ابن شهر آشوب 3:380، تفسير الصافي 4:27.
5- . تفسير القمي 2:117، تفسير الصافي 4:27.
6- . جوامع الجامع:326، تفسير الصافي 4:27.
7- . تفسير روح البيان 6:254.

الطاعات، و رفض الشهوات، و تحمّل المجاهدات وَ يُلَقَّوْنَ في الغرفة من الملائكة، أو من ربّ العزّة، و ينالون فِيها تَحِيَّةً و دعاء بطول الحياة وَ سَلاماً و صونا من شوائب الضّرر و الآفات، فيكون لهم بقاء بلا فناء، و غني بلا فقر، و عزّ بلا ذلّ، و صحة بلا سقم، و راحة بلا تعب حال كونهم

خالِدِينَ فِيها لا يموتون و لا يخرجون منها حَسُنَتْ تلك الغرفة من حيث كونها مُسْتَقَرًّا و منزلا وَ مُقاماً و محلّ إقامة.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية دعاء العباد حثّ الناس في الدعاء و العبادة بقوله: قُلْ يا محمد للمؤمنين ما يَعْبَؤُا و ما يصنع، أو ما يبالي، أو ما يعتني بِكُمْ رَبِّي.

و قيل: إنّ (ما) استفهامية (1)، و المعنى أي شيء يصنع بكم، أو أيّ وزن لكم؟ (2)

و عن الباقر عليه السّلام: «ما يفعل بكم» (3)لَوْ لا دُعاؤُكُمْ و مسألتكم إياه، أو تضرّعكم إليه في الشدائد، أو إيمانكم، أو عبادتكم، أو شكركم له نعمه.

و قيل: يعني لو لا دعائي إيّاكم إلى الايمان و العبادة (4).

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيّها المشركون بما أخبرتكم من أنّ اللّه خلقكم، أو من أن الاعتناء بشأنكم إنّما يكون للايمان و العبادة و الدعاء فَسَوْفَ يَكُونُ هذا التكذيب، أو جزاؤه الدنيوي أو الاخروي لِزاماً يحيق بكم لا محالة.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدّعاء؟ قال: «كثرة الدعاء أفضل» و قرأ هذه الآية (5).

عن الكاظم عليه السّلام (6): «من قرأ هذه السورة في كلّ ليلة لم يعذّبه اللّه أبدا، و لم يحاسبه، و كان (7)في الفردوس الاعلى» (8).

ص: 509


1- . تفسير روح البيان 6:256.
2- . تفسير أبي السعود 6:232.
3- . تفسير القمي 2:118، تفسير الصافي 4:27.
4- . تفسير الرازي 24:117.
5- . مجمع البيان 7:285، تفسير الصافي 4:27.
6- . في مجمع البيان: أبي الحسن الرضا عليه السّلام و في ثواب الاعمال: أبي الحسن عليه السّلام.
7- . زاد في ثواب الاعمال و تفسير الصافي: منزله.
8- . ثواب الاعمال:109، مجمع البيان 7:250، تفسير الصافي 4:28.

ص: 510

في تفسير سورة الشعراء

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 1 الی 4

ثمّ لمّا ختم سبحانه السورة المباركة ببيان أنّ الغرض من الخلق الايمان و العبادة، و أنّه يعذّب مكذّب الرسول على تكذيبه بأشدّ العذاب، أردفها في النّظم بسورة الشعراء المتضمّنة لبيان عظمة القرآن، و إصرار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على إيمان قومه، و امتناعهم منه، و تهديدهم بما وقع على الامم السابقة من العذاب على تكذيب الرسل، و ذكر بعض أدلّة التوحيد، و دفع بعض شبهات المشركين في الرسالة.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)فابتدأ سبحانه فيها على حسب دأبه في الكتاب الكريم بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله:

طسم للحكم التي سبق ذكرها في بعض الطرائف (1)، و مرّ فيها بعض ما لها من التأويل.

و عن ابن عباس في طسم عجرت العلماء عن تفسيرها (2).

و روى بعض العامة عن عليّ عليه السّلام: «أنّه لمّا نزل طسم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: طاء: طور سيناء، و سين: اسكندرية، و ميم: مكّة» (3).

و روى بعضهم عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «أقسم اللّه بشجرة طوبى، و سدرة المنتهى، و محمّد المصطفى في القرآن بقوله: طسم فالطاء: شجرة طوبى، و السين سدرة المنتهى، و الميم: محمد المصطفى» (4).

و في (المعاني) عنه عليه السّلام: «و أمّا طسم فمعناه أنا الطالب السميع المبدي المعيد» (5).

ثمّ ذكر سبحانه جواب القسم، و هو عظمة القرآن و إعجازه بقوله: تِلْكَ السورة أو الآيات التي

ص: 511


1- . راجع: الطرفة (18) من مقدمة المؤلف.
2- . تفسير روح البيان 6:258.
3- . مجمع البيان 7:288، تفسير الصافي 4:29، تفسير روح البيان 6:258.
4- . تفسير روح البيان 6:259.
5- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:29.

فيها هي آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الظاهر إعجازه لعجز الناس عن الاتيان بمثله، أو المظهر للمعارف و الأحكام و العلوم المحتاج إليها مع أمية من أتى به، أو المظهر للحقّ و الباطل، أو المراد هي الآيات المكتوبة في اللّوح المحفوظ.

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع قوّة دلالة القرآن على صدقه شديد الحزن على عدم إيمان قومه به، سلاّه سبحانه إشفاقا عليه بقوله: لَعَلَّكَ يا محمّد باخِعٌ و قاتل نَفْسَكَ غمّا على قومك لأجل أَلاّ يَكُونُوا مع عظمة معجزتك مُؤْمِنِينَ بتوحيد اللّه و برسالتك و صدق كتابك، لا تغتمّ فانّهم ليسوا بأهل (1)للإشفاق عليهم، لكونهم في غاية اللّجاج و العناد للحقّ، فلا يؤمنون بالطّوع، و إن أحببت إجبارهم على الايمان،

فنحن قادرون عليه لأنّا إِنْ نَشَأْ إجبارهم عليه نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ آيَةً عظيمة ملجئة لهم إلى الايمان كإنزال الملائكة أو الصيحة فَظَلَّتْ و صارت بسبب تلك الآية أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين بحيث لا يقدر أحدهم أن يميل عنقه إلى المخالفة و العصيان، و إنّما لم نشأ ذلك لعدم الفائدة في هذا النحو من الايمان، كما لا فائدة في الايمان في الآخرة.

ثمّ إنه تعالى نسب الخضوع إلى رقابهم، مع أنه حال يعرض لهم لأنّها محلّة، و لذا جاء سبحانه بالجمع الذي للعقلاء.

و قيل: إنّ المراد بالأعناق الرّؤساء و الكبراء، كما يقال لهم الرؤوس (2).

و قيل: إنّ المراد جماعاتهم كما يقال: جاء عنق من الناس (3).

عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: «سيفعل اللّه ذلك بهم» قيل: من هم؟ قال: «بنو امية و شيعتهم» قيل: و ما الآية؟ قال: «ركود الشمس ما بين زوال الشمس إلى وقت العصر، و خروج صدر و وجه في عين الشمس، يعرف بحسبه و نسبه، و ذلك في زمان السفياني، و عندها يكون بواره و بوار قومه» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ القائم عليه السّلام لا يقوم حتى ينادي مناد من السماء، تسمعه الفتاة في خدرها، و يسمعه أهل المشرق و المغرب، و فيه نزلت هذه الآية إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ، إلى آخرها» (5).

و القمي عنه عليه السّلام قال: «تخضع رقابهم-يعني بني امية-و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر عليه السّلام» (6).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 5 الی 9

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (3) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (4) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (9)

ص: 512


1- . في النسخة: بآهلين. (2 و 3) . تفسير الرازي 24:119.
2- . إرشاد المفيد 2:373، تفسير الصافي 4:30.
3- . غيبة الطوسي:177/134، تفسير الصافي 4:29.
4- . تفسير القمي 2:118، تفسير الصافي 4:29.

ثمّ ذمّهم سبحانه على إعراضهم عن الآيات بقوله: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ و عظة، أو تنبيه و تذكير للحقّ في القرآن الظاهر كونه مِنْ قبل اَلرَّحْمنِ بتوسّط نبيه صلّى اللّه عليه و آله مُحْدَثٍ و مجدّد إنزاله لتكرر التذكير إِلاّ كانُوا في كلّ كرة من التذكير عَنْهُ مُعْرِضِينَ و مولّين فَقَدْ كَذَّبُوا بذلك الذّكر المحدث المكرّر عقيب الإعراض، و بلغوا النهاية في ردّ الآيات، حيث نسبوها تارة إلى السحر، و اخرى إلى الشعر، و ثالثة إلى الأساطير فَسَيَأْتِيهِمْ البتة من غير تخلّف بسبب إعراضهم و تكذيبهم المقرون بالاستهزاء أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و أخباره من العقوبة الشديدة العاجلة و الآجلة التي بمشاهدتها يطّلعون على حقيقة حال القرآن من أنّه كان حقا نازلا من اللّه، أو باطلا مختلقا عليه، و حقيقا بأن يصدّق و يعظّم قدره، أو يكذّب و يستخفّ به.

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على تكذيب الآيات التدوينية، أنكر عليهم في ترك النظر و التفكّر في الآيات التكوينية على التوحيد بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و لم ينظروا إِلَى عجائب صنعنا في اَلْأَرْضِ الميتة اليابسة انا كَمْ أَنْبَتْنا فِيها بانزال المطر عليها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ و صنف كَرِيمٍ و مرضي في ما يتعلّق به من المنافع حتى الضارّ منه، و إن غفل عنه الناس.

و في (الجمع) بين كلمة (كم) التي للكثرة و لفظ (كلّ) دلالة على الكثرة في كلّ صنف من الأصناف.

إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات، أو في كلّ واحد من الأزواج لَآيَةً عظيمة و دلالة واضحة على كمال قدرته و حكمته و وحدانيته، و وسعة رحمته الموجبة لايمان الناس و الانزجار من الكفر وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لعدم تفكّرهم فيها و انهماكهم في الشهوات

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب القاهر على عباده، القادر على الانتقام من الكفّار، و مع ذلك يمهلهم لأنّه اَلرَّحِيمُ بهم و رحمته مانعة من تعجيله في عقوبتهم.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 10 الی 21

ص: 513

ثمّ لمّا وصف ذاته المقدّسة بالوصفين المقتضيين لإرسال الرّسل و إمهال مكذّبيهم و الانتقام منهم بعد حين، شرع في بيان قصصهم، و لمّا كان قصّة بعث موسى و امّته أعجب بدأ بذكرها بقوله: وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى في جانب الطّور الأيمن من الشجرة أَنِ اِئْتِ يا موسى اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على ربّهم و على أنفسهم بالكفر و الطغيان، و على بني إسرائيل باستعبادهم و ذبح أولادهم، أعني بالقوم

قَوْمَ فِرْعَوْنَ لدعوتهم إلى توحيدي و طاعتي، و إنذارهم من عذابي على الكفر و العصيان.

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ اِئْتِ اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنّا رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (21)ثم اظهر سبحانه التعجّب من جرأتهم عليه بقوله: أَ لا يَتَّقُونَ اللّه و لا يخافونه، أو لا يحترزون عن عذابه بالايمان و الطاعة.

ثمّ كأنّه قيل: ماذا قال موسى؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالَ موسى متضرّعا إلى اللّه رَبِّ العالمين إِنِّي أَخافُ من أَنْ ينكروا نبوتي و يُكَذِّبُونِ في دعوى رسالتي

وَ يَضِيقُ لذلك صَدْرِي و قلبي، فينقبض منه روحي وَ لا يَنْطَلِقُ لذلك لِسانِي و يزيد فيه الحبسة (1)، و يعسر عليّ الدعوة و المحاجّة فَأَرْسِلْ جبرئيل بالوحي إِلى أخي هارُونَ الذي هو أفصح لسانا منّي، ليكون معينا لي في تبليغ رسالتك، و هداية خلقك،

و إلاّ لاختلّت مصلحة بعثي إليهم وَ مع ذلك لَهُمْ بزعمهم عَلَيَّ و في عهدتي ذَنْبٌ عظيم، و هو قتل القبطي دفعا عن السّبطي فَأَخافُ أن آتيهم وحدي من أَنْ يَقْتُلُونِ قصاصا قبل ادّعاء الرسالة كما ينبغي، و أما هارون فلا ذنب لهم عليه، ففائدة بعثي إليهم معه أتمّ و أكمل، فردعه اللّه أولا عن احتمال قتله قبل إكمال التبليغ بقوله

قالَ كَلاّ لا يقدرون على قتلك بالقصاص و غيره، ثمّ أجاب مسألته في إرسال هارون معه بقوله، فَاذْهَبا أنت و هارون إلى فرعون و قومه برسالتي مستدلّين على صدقكما في دعوتكما بِآياتِنا التسع إِنّا مَعَكُمْ بالعون و النصرة، و مع عدوّكما بالقهر و الشّوكة، و لمقالكما و مقال عدوكما مُسْتَمِعُونَ و لما يجري بينكما و بينه من الكلام سامعون

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا لفرعون و قومه: إِنّا معا رَسُولُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ إليك، و إنّما أفرد الرسول للإشعار باستقلاله في الرسالة

ص: 514


1- . الحبسة: ثقل في اللسان يمنع من الإبانة.

و تبعيه هارون له، ثمّ بيّن ما أرسل به بقوله:

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أطلقهم من قيد الأسر و العبودية للقبط، لأذهب بهم إلى أرض الشام، التي هي مسكن آبائهم.

قيل: كان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، فانطلق موسى إلى مصر، و كان هارون بها، فلمّا تلاقيا ذهبا إلى باب فرعون ليلا، و دقّ موسى الباب بعصاه، ففزع البوابون و قالوا: من بالباب؟ فقال موسى عليه السّلام: أنا رسول رب العالمين، فذهب البوّاب إلى فرعون فقال: إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول ربّ العالمين، فأذن له في الدخول من ساعته (1).

و قيل: ترك حتى أصبح فدعاهما (2).

و قيل: لم ياذن لهما سنة حتى قال البواب: هاهنا إنسان يزعم أنّه رسول رب العالمين. فقال: إئذن له حتى نضحك منه، فدخلا عليه، و أدّيا الرسالة، فعرف موسى (3)لأنّه نشأ في بيته فشتمه و

قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ يا موسى فِينا و في حجرنا و نعمنا حال كونك وَلِيداً و صبيا رضيعا قريب الولادة وَ لَبِثْتَ و أقمت فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ كثيرة. قيل: كان فيهم (4)ثلاثين سنة (5)

وَ فَعَلْتَ أخيرا فَعْلَتَكَ القبيحة اَلَّتِي فَعَلْتَ من قتل القبطي وَ أَنْتَ صرت بفعلتك مِنَ اَلْكافِرِينَ لنعمتي الجاحدين لحقّ تربيتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصّي

قالَ موسى: نعم، تلك الفعلة التي تقول فَعَلْتُها إِذاً و حين فعلت وَ أَنَا كنت مِنَ اَلضّالِّينَ و الخاطئين فيها، لا من المتعمّدين، فليس لك أن تلمني و تؤاخذني بها، و تعدّ فعلي من كفران نعمتك، لأن السهو و الخطأ عذران عند العقلاء لا يوجبان العتاب و المؤاخذة، و مع ذلك بلغني أنّكم شاورتم في قتلي

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ و ذهبت من بلدكم إلى مدين لَمّا خِفْتُكُمْ من أن تقتلوني ظلما و تؤاخذوني بما لا أستحقّه فَوَهَبَ لِي رَبِّي حين رجوعي من مدين إلى مصر حُكْماً و عقلا كاملا، و رأيا رزينا، و علما بتوحيده و كمال صفاته وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ الذين اصطفاهم على عباده.

و قيل: إنّ المراد من الحكم النبوة، و المعنى جعلني أولا نبيا، ثمّ أعطاني منصب الرسالة (6).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 22 الی 28

وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ اَلْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)

ص: 515


1- . تفسير روح البيان 6:267.
2- . تفسير روح البيان 6:267.
3- . تفسير روح البيان 6:267.
4- . في تفسير الرازي: لبث عندهم، و في تفسيري أبي السعود و روح البيان: لبث فيهم.
5- . تفسير الرازي 24:125، تفسير أبي السعود 6:238، تفسير روح البيان 6:238.
6- . تفسير روح البيان 6:268.

ثمّ أجاب عليه السّلام عن منّته عليه بالتربية بقوله: وَ تِلْكَ التربية نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ و لكن كانت لأجل أَنْ عَبَّدْتَ و استعبدت بَنِي إِسْرائِيلَ و استخدمتهم و ذبحت ابناءهم و لذا ألقتني أمّي في اليمّ، و لو لا هذا الظلم منك عليهم ما احتجت إلى تربيتك.

و قيل: يعني إنما أنفقت عليّ من أموال قومي الذين استعبدتهم و أخذت أموالهم، فلا منّه لك عليّ، أو أنّك و إن ربّيتني إلاّ أنك ظلمت قومي، أو أنّ الذي ربّاني كان من الذين عبدتهم، و هو أمّي و سائر قومي، و إنّما الذي كان منك إنّك لم تقتلني (1).

و على أيّ تقدير: لما أجاب عن طعنه فيه و منّته عليه، أخذ فرعون في الاعتراض على ما ادّعاه من رسالة ربّ العالمين و قالَ فِرْعَوْنُ تجاهلا في معرفته [و]

حفظا لملكه و رياسته: يا موسى وَ ما حقيقة مرسلك الذي تقول إنّه رَبُّ اَلْعالَمِينَ و ما كنه ذاته؟ فإنّ رسوله لا بدّ من معرفته بالذات، و لمّا لم يكن معرفة ذاته البسيطة من جميع الأجزاء العقلية و الخارجية ممكنا، أجابه موسى ببيان صفاته و آثاره و

قالَ: هو رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا من الموجودات و خالقها و مدبّرها، فاعرفوه بهذه الصفة إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنّ هذه الموجودات الممكنة لا بدّ أن يكون وجودها مستندا إلى واجب الوجود بالذات، و أقنعوا بهذا الجواب الذي هو أحسن الأجوبة عن سؤالكم.

و قيل: يعني إنّ كنتم موقنين بالأشياء محقّقين لها بالنظر الصحيح المؤدي إلى الإيقان، علمتم بأنّ العالم عبارة عمّا ذكرت و ربّه خالقه و مدبّره (2).

و لمّا لم يفهم فرعون جواب موسى عليه السّلام و مطابقته لسؤاله تعجّب منه و قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ و في مجلسه من الأشراف أَ لا تَسْتَمِعُونَ إلى هذا الجواب فإنّي أسأله عن حقيقة مرسله و جنسه، و هو يجيب بأفعاله و آثاره، و هذا عجيب من عقل هذا الرجل.

ثمّ لما كان مجال دعوى، قدّم السماوات و الأرض و عدم احتياجهما إلى الموجد و المؤثر، عدل موسى عليه السّلام عن الجواب الأول و قالَ رَبُّكُمْ و خالقكم و من المعلوم ان الشخص لا يكون خالق

ص: 516


1- . تفسير الرازي 24:126.
2- . تفسير روح البيان 6:269.

نفسه.

ثمّ لمّا كان فرعون مدّعيا أنه خالق أهل عصره دون الذين كانوا قبله عقبه بقوله: وَ رَبُّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ فانّ المستحقّ للربوبية هو الذي يكون ربا لجميع الأعصار،

فلمّا لم يفهم فرعون حقيقة الجواب قالَ لأهل مجلسه استهزاء بموسى عليه السّلام: إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث إنّه لا يفهم السؤال و لا يعرف الجواب

قالَ موسى عليه السّلام و هو غير معتن بكلامه السّفهي زيادة في تعريف الربّ هو رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ و مطلع الشمس و مغيبها وَ ما بَيْنَهُما من الموجودات، و إنّكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ شيئا و تميّزون بين صحيح الكلام و سقيمه، علمتم أنّ حقّ الجواب عن سؤالكم ما قلت، و أنّه لا جواب عنه الا ما ذكرت إذ معرفة حقيقة الربّ غير معقولة حيث إنّها بسيطة لا جنس لها و لا فصل، فاذن لا يمكن تعريفها إلاّ بآثارها و أفعالها و عجائب صنعها، و من الواضح أنّ سير الشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به امور الخلق، لا يكون إلاّ بتدبير القدير الحكيم اللطيف الخبير، و لا تتوقّف الرسالة على معرفة ذات المرسل بكنهها، بل هي متوقّفه على معرفته بآثاره.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 29 الی 33

ثمّ لمّا عجز فرعون عن معارضة موسى بالحجّة، عدل إلى التهديد تمرّدا و طغيانا و قالَ: يا موسى، و عزّني لَئِنِ اِتَّخَذْتَ و اخترت إِلهَاً غَيْرِي و معبودا سواي لَأَجْعَلَنَّكَ البتّة مِنَ جملة اَلْمَسْجُونِينَ و في زمرة المحبوسين. قيل: كان يسجنهم في حفرة عميقة حتى يموتوا (1).

قالَ لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (33)

قالَ موسى عليه السّلام: اتفعل ذلك أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ و معجز مُبِينٍ و موضّح لصدق دعواي في الرسالة؟

قالَ فرعون: فَأْتِ بِهِ و أظهره لي إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى الرسالة و المعجزة.

قيل: كان في يد موسى عصاه، فقال لفرعون: ما هذه التي بيدي؟ قال فرعون: هذه عصا (2)فَأَلْقى موسى عَصاهُ من يده على الأرض فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ و حيّة عظيمة ظاهرة، لم يشكّ أحد

ص: 517


1- . تفسير أبي السعود 6:240، تفسير روح البيان 6:270.
2- . تفسير روح البيان 6:270.

في كونها حية.

قيل: إنّ فرعون التجأ إلى موسى من شدّة الرّعب، و قال: يا موسى أسألك بالذي أرسلك أن تأخذها فأخذها فعادت عصا (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «فالتقمت الإيوان بلحييها، فدعاه: أن يا موسى أقلني إلى غد» (2).

و القمي: فلم يبق أحد من جلساء فرعون إلاّ هرب، و دخل فرعون من الرّعب ما لم يملك [به] نفسه، فقال فرعون، أنشدك باللّه و بالرّضاع إلاّ ما كففتها عنّي، فكفّها فلمّا أخذ موسى عليه السّلام العصا رجعت إلى فرعون نفسه، و همّ بتصديقه، فقام إليه هامان، فقال له: بينا أنت تعبد إذ صرت تابعا لعبد (3).

وَ نَزَعَ و أخرج يَدَهُ من جيبه بعد إدخالها تحته فَإِذا هِيَ كالقمر بَيْضاءُ و ذات نور و بياض من غير برص لِلنّاظِرِينَ اليها.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 34 الی 39

روي أنّ فرعون لمّا رأى الآية الاولى قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده فقال: ما هذه (4)؟ قال فرعون: يدك فما فيها فادخلها في إبطه ثمّ نزعها و لها شعاع كاد يغشي الأربصار و يسدّ الافق (5)، فلمّا خاف فرعون أن يؤمن به خواصّه قالَ احتيالا في الصرف عنه، و تعمية لهم هذه الحجّة لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ و الأشراف الذين كانوا في مجلسه من القبط: إِنَّ هذا الرجل لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسّحر فائق على الناس فيه،

ثمّ قال تنفيرا لقلوبهم من موسى عليه السّلام: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ و مملكتكم هذه، و يقهركم على تبعيته بِسِحْرِهِ ثمّ قال تحبيبا لقلوبهم: فَما ذا تَأْمُرُونَ و تشيرون عليّ في أمره؟ و ترون رأيكم في دفعه حتى اتّبعكم و أنقاد لقولكم فحطّته معجزات موسى عليه السّلام عن الاستقلال بالرأي مع دعواه الربوبية إلى إظهار الطاعة لرأي عبيده،

فأجابه الملأ و قالُوا له: أَرْجِهْ و أخّر موسى وَ أَخاهُ و لا تعجل في أمرهما، و لا تبادر إلى قتلهما قبل أن يظهر كذبهما حتى لا يسيء ظنّ

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ اَلسَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)

ص: 518


1- . تفسير روح البيان 6:271.
2- . مجمع البيان 7:395، تفسير الصافي 4:33.
3- . تفسير القمي 2:119، تفسير الصافي 4:33.
4- . في النسخة: هي.
5- . تفسير البيضاوي 2:154، تفسير أبي السعود 6:241، تفسير روح البيان 6:271.

الناس بك، فاذا ظهر كذبهما كنت معذورا فيما فعلت بهما من الحبس و القتل وَ اِبْعَثْ و ارسل الشّرط فِي اَلْمَدائِنِ قيل: يعني مدائن الصعيد في نواحي مصر (1)حال كونهم حاشِرِينَ و جامعين الناس حتى

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ في فنّ السحر يفضلون عليه فيه.

روي أنّ فرعون أراد قتل موسى، و لم يكن يصل إليه، فقالوا له: لا تفعل فانّك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهه، و لكن أرجه و أخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه، فلا تثبت له عليك حجّة، ثمّ أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يحشرون و يجمعون السّحرة ظنّا منهم بأنّهم إذا كثروا غلبوه و كشفوا حاله و عارضوا قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم: بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ [فجاءوا بكلمة الإحاطة و بصيغة المبالغة]ليطيّبوا قلبه، و ليسكّنوا قلقه (2).

فبعث فرعون الشّرط إلى المدائن فَجُمِعَ اَلسَّحَرَةُ و هم اثنان و سبعون، أو سبعون ألفا، على اختلاف فيه في الإسكندرية على ما قيل (3)لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ و زمان معين لحضورهم، و هو وقت الضحى، و يوم معين و هو يوم الزينة.

وَ قِيلَ من قبل فرعون لِلنّاسِ من أهالي مصر و غيره ممّن يمكن حضوره: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ في مجمع موسى و السّحرة، و لتشاهدوا تعارضهم و تغالبهم؟ و إنما قالوا ذلك حثّا على مبادرتهم إليه.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 40 الی 42

ثمّ بيّنوا الغرض من الاجتماع بقولهم: لَعَلَّنا و رجاء منّا أن نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ اَلْغالِبِينَ على موسى في السّحر.

لَعَلَّنا نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ اَلْغالِبِينَ (40) فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (42)

فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ إلى باب فرعون، و أذن لهم في الدخول عليه، و استمال قلوبهم، و حثّهم على معارضة موسى قالُوا لِفِرْعَوْنَ يا فرعون أَ إِنَّ لَنا عندك لَأَجْراً جزيلا و جعلا عظيما من المال أو الجاه إِنْ كُنّا نَحْنُ اَلْغالِبِينَ على موسى؟

قالَ فرعون: نَعَمْ لكم عندي أجر عظيم من المال وَ إِنَّكُمْ مع ذلك إِذاً و حين غلبتموه لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ عندي.

قيل: وعدهم أن يكونوا أول من يدخل عليه و آخر من يخرج من عنده، و كان ذلك أعظم الشأن

ص: 519


1- . تفسير روح البيان 6:271.
2- . تفسير الرازي 24:132.
3- . تفسير روح البيان 6:272.

عندهم (1).

و في رواية عن الصادق عليه السّلام: «بعث في المدائن حاشرين-يعني مدائن مصر كلّها-فجمعوا الف ساحر، و اختاروا من الألف مائة، و من المائة ثمانين، فقال السحرة لفرعون: قد علمت أنّه ليس في الدنيا أسحر منّا، فان غلبنا موسى فما يكون لنا عندك؟ قال: إنّكم لمن المقرّبين عندي، اشارككم في ملكي. قالوا: فإن غلبنا موسى و أبطل سحرنا، علمنا أنّ ما جاء به ليس من قبل السّحر، و لا من قبل الحيلة، و آمنّا به و صدّقناه. قال فرعون: إنّ غلبكم موسى صدّقته أنا أيضا معكم، و لكن اجمعوا كيدكم (2)، و كان موعدهم يوم عيد لهم، فلمّا ارتفع النهار جمع فرعون الخلق و السّحرة، و كانت له قبّة طولها في السماء ثمانون ذراعا، و قد كانت البست الحديد و الفولاذ المصقول، و كانت إذا وقعت الشمس عليها لم يقدر أحد أن ينظر إليها من لمع الحديد و هج الشمس، فجاء فرعون و هامان و قعدا عليها ينظران، و أقبل موسى ينظر إلى السماء، فقالت السّحرة لفرعون: إنّا نرى رجلا ينظر إلى السماء، و لم يبلغ سحرنا السماء» (3)الخبر.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 43 الی 50

و أحضروا حبالهم و عصيّهم و اصطفّوا في قبال موسى عليه السّلام، ثم قالوا تأدبّا و تعظيما له: يا موسى إما أن تلقي عصاك أولا، و إما أن نلقي حبالنا و عصينا، الأمر إليك. فلمّا تواضعوا له تواضع هو أيضا لهم و قدّمهم على نفسه و قالَ لَهُمْ مُوسى: بل أَلْقُوا و اطرحوا أولا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ و مطرحون، و افعلوا ما أنتم فاعلون، فانّي لا ابالي بكم و بصنيعكم، و هذا الأمر إذن لا إيجاب. و قيل: إنّه إيجاب لكونه طريقا إلى كشف الحقّ (4).

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50)و قيل: إنّه إيجاب مشروط، و المعنى ألقوا إن كنتم محقّين، أو تهديد و المعنى إن ألقيتم فانّي آت بما

ص: 520


1- . تفسير روح البيان 6:273.
2- . زاد في تفسير القمي و الصافي: أي حيلتكم، قال.
3- . تفسير القمي 2:120، تفسير الصافي 4:35.
4- . تفسير الرازي 24:134.

يبطله (1).

فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ قيل: كان كلّ من الحبال و العصي سبعون ألفا (2)، وَ قالُوا غرورا باتيانهم بأقصى ما يمكن من السحر نقسم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ و عظمته إِنّا لَنَحْنُ اَلْغالِبُونَ على موسى و هارون.

عن ابن عباس: قد كانت الحبال مطلية بالزّئبق و العصيّ مجوّفة مملوءة منه، فلمّا ألقوها حميت بحرّ الشمس، و اشتدّت حركتها، [فصارت]كأنّها حيّات تتحرّك من كلّ جانب من الأرض، فهاب موسى عليه السّلام ذلك (3)، فأوحى اللّه إليه أن ألق ما في يمينك

فَأَلْقى عند ذلك مُوسى عَصاهُ من يده باذن اللّه فَإِذا هِيَ ثعبان مبين تَلْقَفُ و تبلع بسرعة ما يَأْفِكُونَ و ما يظهرون على خلاف الواقع،

و ما يقلبونه بسحرهم عن صورته فيخيّلون في حبالهم و عصيّهم أنّها حيّات فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ على وجوههم ساجِدِينَ للّه تعظيما له أثر ما رأوا من بلع العصا جميع آلاتهم، لعلمهم بأنّه خارج عن حدّ السّحر، و أنّه معجزة عظيمة، و إنّما قال سبحانه (ألقى) تشبيها، لعدم تمالكهم للخرور للسجود بإلقاء غيرهم إياهم

و قالُوا عن صدق و خلوص: آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ ثمّ لمّا كان فرعون مدّعيا لربوبية العالمين فسّروه بقولهم:

رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ الذي أرسلهما بهذه المعجزة المعظّمة التي لا تشبه السّحر.

فلمّا رأى فرعون إيمان السّحرة بموسى الدالّ على صدقة قالَ للسحرة تلبيسا على أتباعه و إظهارا لبقائه على قدرته: يا قوم آمَنْتُمْ لَهُ. قيل: إنّ همزة الاستفهام التوبيخي محذوفة، و المعنى أ آمنتم بموسى قَبْلَ أَنْ تستأذنوا منّي (4)و آذَنَ لَكُمْ في الايمان به مع أنّكم عبيدي، و إنّما كانت هذه الجرأة عليّ و المسارعة في الايمان به لمواطاتكم معه و إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ و استاذكم اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فواضعكم على إهلاكي و تغليبه عليّ و إذهاب سلطاني قبل أن تأتوني و تجيئوا إلى هذا الموضع فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ جزاء عملكم، و عن قريب ترون و بال صنيعكم، ثمّ بيّن جزاءهم تفصيلا بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ من شقّ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ شقّ خِلافٍ آخر جزاء على مخالفتي وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ بعد القطع.

قيل: إنّه أول من قطع من خلاف و صلب. و قيل: كلمة (من) للتعليل، و المعنى لخلاف صار منكم (5).

ص: 521


1- . تفسير الرازي 24:134.
2- . تفسير روح البيان 6:273.
3- . تفسير الرازي 24:134.
4- . تفسير روح البيان 6:274، و 3:214.
5- . تفسير روح البيان 6:275.

فلما سمع السّحرة تهديده قالُوا مجيبين له: لا ضَيْرَ فيه علينا، و لا بأس به، فإنّا لا نبالي بالموت إِنّا إِلى رَبِّنا بعد الموت مُنْقَلِبُونَ و راجعون، و هذا أقصى منانا، لأنّه تعالى يكرمنا و يثيبنا أفضل الثواب على إيماننا بالصبر على ما أصابنا في مرضاته.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 51

ثمّ نبّهوا على أنّ الكفر و معارضة النبيّ من أعظم المصائب بقولهم: إِنّا نَطْمَعُ و نرجو أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا و معاصينا من الكفر و معارضة موسى و غير ذلك لأجل أَنْ كُنّا من بين الناس، أو الذين حضروا الموقف، أو اتّبعوا فرعون أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ باللّه و بنبوة موسى عليه السّلام.

إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنّا أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ (51)و عن الصادق عليه السّلام-في رواية-: «فألقى موسى عصاه، فذابت في الأرض مثل الرّصاص، ثمّ طلع رأسها، و فتحت فاها، و وضعت شدقها العليا على رأس قبة فرعون، ثمّ دارت و أرخت شفتها السّفلى و التقمت عصيّ السّحرة و حبالهم، و غلب كلّهم، و انهزم الناس اجمعون حين رأوها و عظمها و هولها بما لم تر العيون، و لا وصف الواصفون مثله، فقتل في الهزيمة من وطء الناس بعضهم بعضا عشرة آلاف رجل و امرأة و صبيّ، و دارت على قبّة فرعون، فأحدث هو و هامان في ثيابهما، و شاب رأسهما (1)من الفزع، و فر (2)موسى في الهزيمة مع الناس، فناداه اللّه عزّ و جلّ: خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا اَلْأُولى (3)فرجع موسى عليه السّلام و لفّ على يده عباءا كانت عليه، ثمّ أدخل يده في فيها فاذا هي عصاه (4)كما كانت، و كان كما قال اللّه عزّ و جلّ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ ساجِدِينَ لما رأوا ذلك و قالُوا آمَنّا بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ فغضب فرعون غضبا شديدا و قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ يعني موسى اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ الآية فقالوا له كما حكى اللّه عزّ و جل لا ضَيْرَ الآيتان، فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتى أنزل اللّه عزّ و جلّ عليهم الطّوفان و الجراد و القمّل و الضّفادع و الدّم، فأطلق عنهم» (5).

و قيل: إنّ اللّعين قطع أيدي السّحرة و أرجلهم من خلاف، و صلبهم على شاطيء النيل، و كان موسى ينظر إليهم و يبكي، فأراه اللّه منازلهم في الآخرة، فسلّى قلبه (6).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 52 الی 59

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)

ص: 522


1- . زاد في تفسير القمي: و غشي عليهما.
2- . في تفسيري القمي و الصافي: مر.
3- . طه:20/21.
4- . في تفسيري القمي، و الصافي: عصا.
5- . تفسير القمي 2:120، تفسير الصافي 4:36.
6- . تفسير روح البيان 6:275.

فأقام موسى عليه السّلام بين أظهرهم سنين يظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلاّ عتوّا و فسادا، فلمّا أراد اللّه تخليص موسى و قومه من أذى القبط و تمليكهم بلاد فرعون و قومه و أموالهم، بيّن تدبيره فيه بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد الغلبة الظاهرة على فرعون و قومه أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي المؤمنين بك من بني إسرائيل و أخرجهم من مصر لئلاّ يستأصلهم فرعون بالعذاب بغضا عليك إِنَّكُمْ بعد الخروج من مصر مُتَّبَعُونَ يتّبعكم فرعون و جنوده، فأخبر موسى عليه السّلام قومه بما أوحى اللّه إليه فقالوا للقبط: إنّ لنا عيدا في هذه الليلة، فاستعاروا منهم حلّيهم و حللهم، ثمّ خرجوا بتلك الأموال إلى جانب البحر

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع بخروجهم فِي اَلْمَدائِنِ و البلاد التي تحت سلطانه شرطا حاشِرِينَ و جامعين للعساكر،

و أمرهم أن يقولوا لأهل المدائن تضعيفا لبني اسرائيل: إِنَّ هؤُلاءِ القوم لَشِرْذِمَةٌ و عدّة قَلِيلُونَ.

عن ابن عباس: كانوا ستمائة ألف مقاتل، لا شابّ فيهم دون عشرين سنة، و لا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، و فرعون يقلّلهم لكثرة من معه (1). و المقصود إظهار عدم مبالاته بهم و عدم احتمال غلبتهم.

و عن الصادق (2)عليه السّلام يقول: «عصبة قليلة» (3).

و قيل: اريد بالقلة الذلة، لا قلة العدد (4).

وَ إِنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (5) : على الفتنة، و محترزون عن الفساد على حسب عادتنا و حزمنا في الامور.

عن الصادق عليه السّلام: «خرج موسى عليه السّلام ببني إسرائيل ليقطع بهم البحر، و جمع فرعون أصحابه، و بعث في المدائن حاشرين، و حشر الناس، و قدّم مقدّمته في ستمائة ألف، و ركب هو في ألف ألف» (6).

روي أنّ فرعون ركب (7)على فرس (8)حصان كان في عسكره على لونه ثلاثمائة ألف (9)، فخرج كما

ص: 523


1- . تفسير الرازي 24:137.
2- . في تفسيري القمي و الصافي: الباقر.
3- . تفسير القمي 2:122، تفسير الصافي 4:37.
4- . تفسير الرازي 24:137.
5- . لم يتعرض المصنف لتفسير الآية (55. .
6- . تفسير القمي 2:121، تفسير الصافي 4:37.
7- . في تفسير الرازي: خرج.
8- . زاد في تفسير الرازي: أدهم. (9 و 4) . تفسير الرازي 24:137.

حكى اللّه بقوله:

فَأَخْرَجْناهُمْ بتدبيرنا من تهيئة أسباب الخروج لهم، و إيجاد الداعي فيهم مِنْ جَنّاتٍ و بساتينهم التي فيها كثير أنهار وَ عُيُونٍ و منابع ماء

وَ من كُنُوزٍ و أموال وفيرة لم ينفقوها في طاعة كما قيل (1)وَ من مَقامٍ كَرِيمٍ و منازل حسنة و مجالس بهيّة و الأمكنة التي كانوا يتنعّمون فيها،

و إنّما يكون الإخراج الذي هو من غضب اللّه كَذلِكَ الإخراج العجيب الهائل من جميع الأحوال و الأمكنة وَ أَوْرَثْناها و ملكناها بعدهم بَنِي إِسْرائِيلَ قيل: إنّهم رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر، و تصرّفوا [في]

أموال القبط (2). و قيل: إنّهم تصرفوا فيها (1)في زمن داود (2).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ بيّن كيفية إهلاك فرعون و قومه بقوله: فَأَتْبَعُوهُمْ و لحقوهم حال كونهم مُشْرِقِينَ و داخلين في وقت طلوع الشمس،

و قيل: يعني ذهبوا وراءهم من ناحية المشرق (3)فَلَمّا تَراءَا اَلْجَمْعانِ و تقارب كلّ من أصحاب فرعون أصحاب موسى من الآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى له يا موسى إِنّا و اللّه لَمُدْرَكُونَ و ملحقون و مأخوذون،

أو مهلكون حين لحوقهم بنا قالَ موسى تسلية و زجرا لهم عن هذا الوهم: كَلاّ لن يدركوكم أبدا، و كيف يدركونكم و إِنَّ مَعِي بالنّصرة و الحفظ رَبِّي و انه سَيَهْدِينِ و يدلّني البته إلى طريق النجاة منهم و كيفية إهلاكهم.

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمّا تَراءَا اَلْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)روي أنّ أصحاب فرعون لمّا قربوا من بني إسرائيل، خلق اللّه بخارا حال بين الفريقين بحيث لم ير أحد منهم الآخر، فقال فرعون لأصحابه: انزلوا و توقفوا حتى ترتفع الشمس و يزول البخار، فإنّه لا مفرّ لبني إسرائيل لأنّ أمامهم البحر، و نحن وراءهم (4).

و روي أنّ مؤمن آل فرعون كان عند موسى، فقال له: أين امرت، فهذا البحر أمامك و قد غشيك آل فرعون؟ ! فقال موسى: امرت بالبحر، و لعلي أؤمر بما أصنع (5).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 63 الی 68

فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ اَلْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (68)

ص: 524


1- . في النسخة: تصرّفوها.
2- . تفسير روح البيان 6:278.
3- . تفسير القرطبي 13:106، تفسير روح المعاني 19:84.
4- . تفسير الرازي 24:139.
5- . تفسير روح البيان 6:279.

ثمّ بيّن سبحانه طريق نجاته و نجاة أصحابه و إهلاك أعدائه بقوله: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى عند انتهائه و انتهاء أصحابه إلى بحر القلزم الذي كان بين اليمن و مكّة، أو إلى النّيل الذي كان بين أيلة و مصر أَنِ اِضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ البحر، و انشقّ الماء، و انفرق اثني عشر فرقا بعدد الأسباط فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ و قطعة ماء مجتمع بعضه فوق بعض كَالطَّوْدِ و الجبل المتطاول اَلْعَظِيمِ.

عن ابن عباس: لمّا انتهى موسى مع بني إسرائيل إلى البحر، أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلاّ يوشع بن نون، فانّه ضرب دابّته و خاض في البحر حتى عبر، ثمّ رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا، فقال موسى عليه السّلام للبحر: انفرق لى. فقال: ما امرت بذلك، و لا يعبر عليّ العصاة. قال موسى عليه السّلام: يا ربّ، قد أبى البحر أن ينفرق. فقيل له: اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفرق، فكان كلّ فرق كالطّود العظيم، أي كالجبل العظيم، و صار فيه اثنى عشر طريقا، لكلّ سبط منهم طريق، فقال كلّ سبط: قتل أصحابنا، فعند ذلك دعا موسى عليه السّلام ربّه، فجعلها مناظر كهيئة الطبقات، حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة (1).

روي أنّ جبرئيل عليه السّلام كان بين بني إسرائيل و بين آل فرعون، و كان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولّكم، و يستقبل القبط فيقول: رويدكم ليحلق آخركم (2).

و عن عبد اللّه بن سلام: لمّا انتهى موسى 7 إلى البحر، قال: «يا من كان قبل كلّ شيء، و المكّون لكل شيء، و الكائن بعد كلّ شيء، اجعل لنا فرجا و مخرجا» (1).

و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أعلّمك الكلمات التي قالهنّ موسى حين انفلق البحر؟» قلت: بلى قال: «قل اللهمّ لك الحمد، و إليك المشتكى، و بك المستغاث، و أنت المستعان، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه» (2).

قيل: لمّا انفلق البحر أرسل اللّه ريحا فجف بها قعر البحر، ثمّ دخل بنو إسرائيل في شعاب جبل الماء و مسالك البحر (3).

وَ أَزْلَفْنا و قرّبنا من بني إسرائيل ثَمَّ و في المكان الذي انفلق البحر، القوم اَلْآخَرِينَ و هم فرعون و جنوده حتى دخلوا على إثرهم مداخلهم. و قيل: يعني قرّبنا بعض قوم فرعون من بعضهم

ص: 525


1- . تفسير روح البيان 6:279.
2- . تفسير روح البيان 6:279.
3- . تفسير روح البيان 6:279.

حتى لا ينجو منهم أحد (1). و قيل: يعني قرّبناهم من الموت (2).

وَ أَنْجَيْنا من الغرق مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ من بني إسرائيل أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على هيئته إلى أن خرجوا إلى أن البرّ

ثُمَّ أَغْرَقْنَا فيه القوم اَلْآخَرِينَ المتّبعين لموسى باطباقه عليهم.

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا قرب موسى من البحر و قرب فرعون من موسى، قال أصحاب موسى: إنّا لمدركون» إلى أ، قال: «فدنا موسى عليه السّلام من البحر، فقال له انفرق (3). فقال البحر: استكبرت يا موسى عن (4)أن انفرق (5)لك و لم أعص اللّه عزّ و جلّ طرفة عين، و قد كان فيكم العاصي (6)؟ فقال له موسى عليه السّلام: فاحذر أن تعصي و قد علمت أن آدم اخرج من الجنة بمعصيته، و إنّما لعن إبليس بمعصيته. فقال البحر: ربّي عظيم مطاع أمره، و لا ينبغي لشيء أن يعصيه. فقام يوشع بن نون فقال لموسى يا نبي اللّه، ما أمر (7)ربّك؟ قال: بعبور البحر فأقحم يوشع فرسه في الماء، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى موسى: أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ فانفق، فكان كلّ فرق كالطّود العظيم، أي كالجبل العظيم، فضرب له في البحر اثني عشر طريقا، فأخذ كلّ سبط منهم في طريق، فكان الماء قد ارتفع و بقيت الأرض يابسة، طلعت فيها الشمس فيبست، كما حكى اللّه عزّ و جلّ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (8)و دخل موسى عليه السّلام و أصحابه البحر» .

إلى أن قال: «فأخذ كل سبط في طريق، و كان الماء قد ارتفع على رؤوسهم مثل الجبال، ففزعت (9)الفرقة التي كانت مع موسى في طريقه، فقالوا: يا موسى، أين إخواننا؟ فقال لهم: معكم في البحر، فلم يصدّقوه، فأمر اللّه عزّ و جلّ البحر فصار طاقات، حتى كان ينظر بعضهم إلى بعض و يتحدّثون، و أقبل فرعون و جنوده، فلمّا انتهى إلى البحر قال لأصحابه: ألا تعلمون أنّي ربّكم الأعلى قد فرج لي البحر، فلم يجسر أحد أن يدخل البحر، و امتنعت الخيل منه لهول الماء، فتقدّم فرعون حتى جاء إلى ساحل البحر، فقال له منجّمه: لا تدخل البحر و عارضه، فلم يقبل منه، و أقبل على فرس حصان، فامتنع الحصان أن يدخل الماء، فعطف عليه جبرئيل، و هو على ماديانة (10)فتقدّمه و دخل، فنظر الفرس إلى الرمكة فطلبها، و دخل البحر، و اقتحم أصحابه خلفه، فلمّا دخلوا كلّهم-حتى كان آخر من دخل من

ص: 526


1- . تفسير الرازي 24:139.
2- . تفسير الرازي 24:140.
3- . في تفسير القمي: انفلق.
4- . (عن. ليست في تفسيري القمي و الصافي.
5- . في تفسير القمي: أن تقول لي انفلق.
6- . في تفسير القمي: المعاصي.
7- . في تفسيري القمي و الصافي: أمرك.
8- . طه:20/77.
9- . في تفسيري القمي و الصافي: فجزعت.
10- . الماديانة: لفظ أعجمي، يراد به الانثى من الخيل، و يقال له بالعربية: الرّمكة، و هي الفرس تتخذ للنتاج.

أصحابه و آخر من خرج من أصحاب موسى-أمر اللّه عزّ و جلّ الرياح فضربت البحر بعضه ببعض، فأقبل الماء يقع عليهم مثل الجبال، فقال فرعون عند ذلك: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ الخبر (1).

و عنه عليه السّلام «أنّ قوما ممّن آمن بموسى عليه السّلام قالوا: لو أتينا عسكر فرعون و كنّا فيه و نلنا من دنياه، فاذا كان الذي نرجوه من ظهور موسى عليه السّلام، صرنا إليه، ففعلوا فلمّا توجّه موسى عليه السّلام و من معه [إلى البحر] هاربين من فرعون، ركبوا دوابهم، و أسرعوا في السير ليلحقوا بموسى عليه السّلام و عسكره فيكونوا معهم، فبعث اللّه عزّ و جلّ ملكا فضرب وجوه دوابّهم، فردّهم إلى عسكر فرعون، فكانوا في من غرق مع فرعون (2).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من معاجز موسى عليه السّلام، و غلبته على فرعون، و إنجائه من الغرق و إهلاك أعدائه لَآيَةً ظاهرة و دلالة واضحة على وحدانية اللّه و كمال قدرته و حكمته، و عبرة عظيمة للمعتبرين ممّن شاهد الوقائع، و من جاء بعدهم إلى يوم القيامة و سمعوهان فيدخل فيهم قريش الذين سمعوها من النبي صلّى اللّه عليه و آله الذي كان اميا لم يسمعها من أحد و لم يقرأها في كتاب، و لذا كان إخباره بها من الإخبار بالمغيبات، و من أظهر المعجزات، وَ مع ذلك ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.

و قيل: إنّ ضمير الجمع راجع إلى القبط، و ما آمن منهم إلاّ خربيل أو حزقيل مؤمن آل فرعون، و آسية زوجه فرعون، و مريم بنت موشا (3)التي دلّت على عظام يوسف حين خروج موسى من مصر (4).

و قيل: إنّه راجع إلى عموم المصريين (5)، أمّا القبط منهم، فلمّا ذكر، و أمّا بنو إسرائيل فلقولهم حين عبورهم على عبدة العجل: يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (4).

و قيل: راجع إلى قوم نبينا الذين سمعوا منه قصة موسى و فرعون، لعدم تدبّرهم فيها و اعتبارهم بها حتى يحذروا من أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم فرعون (5).

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ الغالب عى ما أراد من تعذيب المكذبين اَلرَّحِيمُ بهم حيث يمهلهم و لا يعجّل في عقوبتهم، أو بالمؤمنين. و في الآيتين تسلية للنبي حيث إنّه كان يغتّم قلبه الشريف بتكذيب قومه مع ظهور معجزاته، و عرّفه محنة موسى حتى يصبر كما صبر.

ص: 527


1- . تفسير القمي 2:121، تفسير الصافي 4:38، و الآية من سورة يونس:10/90.
2- . الكافي 5:109/13، تفسير الصافي 4:39.
3- . في تفسير أبي السعود: يا موشا، و في تفسير روح البيان: ناموشا. (4 و 5) . تفسير أبي السعود 6:246، تفسير روح البيان 6:280.
4- . الاعراف:7/138.
5- . تفسير روح البيان 6:280.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 69 الی 82

ثمّ اردف قصة إبراهيم بقصة موسى، ليعرف حبيبه أنّ حزن جدّه كان أشدّ من حزنه بقوله: وَ اُتْلُ يا محمّد عَلَيْهِمْ على مشركي قومك، و اقرأ من كتاب ربك نَبَأَ أبيهم إِبْراهِيمَ الذي يفتخرون بكونهم أولاده،

و يستظهرون بأنّهم من نسله إِذْ قالَ موعظة و إرشادا لِأَبِيهِ المجازي، و كان في الحقيقة عمّه الذي ربّاه، أو زوج امّه وَ قَوْمِهِ الذين بعث فيهم من الرجال، و الذين كانوا في بلدة بابل التي ينسب إليها السّحرة إنكارا عليهم عبادة الأصنام، أو سؤالا مع علمه بالمسؤول عنه توطئة لتنبيههم على ضلالهم: يا قوم ما تَعْبُدُونَ و أيّ شيء له تخضعون خضوع المخلوق لخالقه؟

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ اَلْعالَمِينَ (77) اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79) وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ اَلدِّينِ (82)

قالُوا جوابا له: نَعْبُدُ أَصْناماً و تماثيل من الفلزات و الحجر و الخشب. قيل: إنّها كانت اثنين و سبعين (1)فَنَظَلُّ و نشتغل في نهارنا بالتعظيم لَها أو نداوم على عبادتها حال كوننا عاكِفِينَ و ملازمين لهذ الشّغل و مقبلين عليه.

عن ابن عباس: عاكفين مفتخرين بالأصنام (2). قيل: إنّ إبراهيم لمّا خرج من الغار و دخل مصر أراد أن يعلم دين أهله، فلمّا سمع جوابهم (3)

قالَ تنبيها على فساد مذهبهم: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ و يدركون دعاءكم و يستجيبون مسألتكم؟ إِذْ تَدْعُونَ و حين تسألون حوائجكم

أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ على عبادتكم لهم أَوْ يَضُرُّونَ كم إن تركتم عبادتها؟ فانّ العاقل لا يعمل عملا إلاّ لجلب المنفعة، أو دفع الضرر، فلمّا عجزوا عن إقامة البرهان على صحة عملهم و دفع اعتراض إبراهيم عليهم، تمسّكوا بالتقليد،

و قالُوا: لا ما رأينا منهم شيئا من السمع و النفع و الضر بَلْ وَجَدْنا آباءَنا و كبراءنا كَذلِكَ الفعل الذي نحن نفعل كانوا يَفْعَلُونَ و مثل هذه العبادة كانوا يعبدون،

و هم لمّا كانوا أعقل و أبصر منّا اقتديا بهم و قلدناهم في رأيهم و قالَ إبراهيم تقريرا لهم و تبرّئا من عملهم:

ص: 528


1- . تفسير روح البيان 6:281.
2- . تفسير الرازي 24:142، و لم ينسب إلى ابن عباس.
3- . تفسير روح البيان 6:281.

أَ فَرَأَيْتُمْ قيل: إنّ التقدير أنظرتم فأبصرتم، أو تأملتم فعلمتم (1)ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ و كبراؤكم السابقون حقّ الإبصار، أو حقيقة العلم بأن الباطل لا يصير حقّا بكثرة قائليه و قدم عامليه،

لا و اللّه لم تنظروا و لم تقفوا على حال أصنامكم فَإِنَّهُمْ لكثرة ضررهم كأنّهم عَدُوٌّ لِي في الدنيا، أو في الآخرة بعد إحيائهم، أو عابدهم عدوّ لي، و فيه تعريض على كونه عدوّ لعبدتهم، و إظهارا لنصحهم بصورة نصح نفسه ليكون أقرب إلى القبول.

ثمّ نبّههم على حصر النفع في عبادة اللّه بقوله: إِلاّ رَبَّ اَلْعالَمِينَ و التقدير: أنّ جميع الآلهة الذين كانوا يعبدونهم عدوّ إلاّ رب العالمين فانّه كان في آبائهم من يعبده، أو التقدير: لا وليّ لي إلاّ ربّ العالمين.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن ربّ العالمين وليي و حبيبي في الدنيا و الآخرة لا يزال يتفضّل عليّ بمنافعهما (2)التي يجب أن يكون المعبود واجدا لها، بقوله: اَلَّذِي خَلَقَنِي و أخرجني من كتم العدم إلى الوجود الذي هو أعظم النّعم فَهُوَ يَهْدِينِ و يرشدني إلى معرفته، و طريق تحصيل مرضاته، و صلاح الدارين من بدو الخلق إلى زهوق الرّوح، ممّا ينتظم به المعاش و المعاد، فانّه (3)يهدي في البدو إلى امتصاص دم الحيض، و عند الكمال إلى الحقّ، و في الآخرة إلى الجنّة.

و قيل: يعني خلقني لاقامة الحقّ، و يهديني إلى دعوة الخلق، أو خلقني للطاعة، و يهديني إلى الجنّة (4)، و إنّما اختلف الفعلان بالماضوية و المضارعية لتقدّم الخلق و استمرار الهداية.

وَ اَلَّذِي هُوَ وحده بعد الخلق يُطْعِمُنِي نعمه لتقوية أجزاء بدني وَ يَسْقِينِ الشراب لتربية أعضاء جسدي بخلق المطعوم و المشروب و التسليط عليهما، و إيجاد جميع مقدّمات الانتفاع بهما كالشهوة و قوّة المضغ و الابتلاع و الهضم و الدفع و غير ذلك،

و إنّما كرّر الموصول للدلالة على استقلال كلّ واحد من الصلات في استحقاق العبادة و إيجابها وَ إِذا مَرِضْتُ من التفريط في المطاعم و المشارب، و فساد الأخلاط، أو اقتضاء الحكمة فَهُوَ بلطفه يَشْفِينِ و يبرئني من المرض، و إنّما أضاف المرض إلى نفسه مع كونه من اللّه لرعاية الأدب، أو لكونه بصدد ذكر النّعم، و لا ينتقض بذكر الموت، فانّه نعمة من حيث إنّه سبب للتخلّص من آفات الدنيا و شدائدها، و الخلاص من المضيقة و قفص الجسد، و الدخول في فسحة عالم الآخرة، و النيل بالمحابّ التي تستحقر دونها

ص: 529


1- . تفسير أبي السعود 6:248، تفسير روح البيان 6:282.
2- . تفسير أبي السعود 6:248، تفسير روح البيان 6:82، و في النسخة: منافعه.
3- . في النسخة: فاية.
4- . مجمع البيان 7:303.

الدنيا و ما فيها، و ذلك لأهل الايمان و التوحيد.

و عن الصادق عليه السّلام: «و إذا مرضت بالعصيان فهو يشفيني بالتوبة» (1).

وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي و يقبض روحي بقدرته و حكمته ثُمَّ يُحْيِينِ للحساب و جزاء الأعمال و قيل: يعني يميتني بالخذلان أو الجهل، ثمّ يحييني بالتوفيق للطاعة، أو بالعقل و العلم (2)

وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ و أرجو أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي و زّلاتي يَوْمَ اَلدِّينِ و الجزاء و عند الحساب، و في التعبير عن يقينه بالطمع تأدبّ و تعليم للعباد، كما أنّ التعبير عما يصدر منه من ترك الأولى بالخطيئة هضم للنفس، و حثّ للعباد على الحذر من المعاصي و طلب المغفرة.

و قيل: إنّ المراد خطايا امّته، أو امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و إنّما علّق المغفرة بيوم الدين لظهور فائدتها فيه (3).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 83 الی 84

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد احتجاجه على قومه بتوصيف المستحق للعبادة بأوصاف فائقة مستلزمة للمعبودية بحيث لا يكون الفاقد لواحد منها قابلا (2)لها، سأل لنفسه أهمّ المطالب بقوله: رَبِّ هَبْ لِي و أعطني بكرمك حُكْماً و علما كاملا أستحقّ به خلافتك و رياسة خلقك، كما عن ابن عباس (3)، و هو المعرفة بحقائق الأشياء و رؤيتها كما هي. و قيل: إنّ الحكم قوة بيان كلّ ما يحتاج إليه الناس على مقتضى الحكمة (4)وَ أَلْحِقْنِي بتوفيقك للعمل بمرضاتك بِالصّالِحِينَ و الكاملين في الأخلاق و الأعمال و المنزّهين عن النقائص الحيوانية و الشهوات النفسانية، و اجعلني في زمرتهم، أو أجمع بيني و بينهم في الجنّة

وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ و حسن ذكر و جاه عظيم باق فِي اَلْآخِرِينَ و بين الناس إلى يوم الدين.

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ (83) وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ (84)قيل: إنّه عليه السّلام ابتدأ في دعائه بطلب الكمال الذاتي و هو العلم، ثمّ بالكمال الأخلاقي و هو الصلاح، ثمّ بالكمال الدنيوي الرّوحاني و هو الجاه و الذكر الجميل الباقي إلى آخر الدهر (5). و علّة طلبه أنّ النفوس البشرية إذا انصرفت هممهم إلى شخص واحد بالمدح و الثناء، أثّرت في ذلك الشخص كمالا زائدا على ما يكون له، و إنّ شهرة شخص بين الناس بسبب ماله من الفضائل و جريان مدحه

ص: 530


1- . تفسير روح البيان 6:285. (2 و 3) . تفسير روح البيان 6:285.
2- . يعني مستحقّا.
3- . تفسير الصافي 4:40، تفسير روح البيان 6:286، و لم ينسبه إلى ابن عباس، مجمع البيان 7:304، و فيه: إنه العلم.
4- . مجمع البيان 7:304.
5- . تفسير الرازي 24:149.

فيهم داعية لهم في اكتساب فضائله.

عن الصادق عليه السّلام: قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لسان الصدق للمرء يجعله اللّه في الناس خير له من المال الذي يأكله و يورثه» (1).

و قيل: إن المراد أن يجعل اللّه في ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى اللّه تعالى (2). و حاصل الدعاء: و اجعل صادقا من ذريّتي يجدّد (3)ديني، و يدعو إلى ما أدعو (4)إليه، و هو محمّد و أوصياؤه عليهم السّلام (5).

القمي قال: هو أمير المؤمنين عليه السّلام (6).

و قيل: إنّ المراد اتّفاق أهل الأديان على حبّه، فاستجيب دعاؤه، فانّه لا يرى أهل دين إلاّ و هم يثنون عليه و يوالونه (7).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 85 الی 87

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد طلب السعادة الدنيوية طلب السعادة الاخروية بقوله: وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ فيها جميع اَلنَّعِيمِ في الآخرة، و من مستحقّيها كاستحقاق الوارث لمال مورثه.

وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ اَلنَّعِيمِ (85) وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلضّالِّينَ (86) وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)

ثمّ لمّا وعد عليه السّلام آزر أن يستغفر له في السورة السابقة، وفى بوعده بقوله: وَ اِغْفِرْ يا رب لِأَبِي آزر إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلضّالِّينَ و المنحرفين عن صراط الحقّ و طريق الجنّة.

قيل: إنّ المراد بالمغفرة هدايته إلى الايمان (8).

و قيل: هي بمعناها، و لكن لمّا كانت مشروطة بالايمان كان طلبها مستلزما لطلبه (9).

و قيل: إنّ أباه وعده بالإيمان (10)، فدعا له بهذا الشرط (11). و قيل: إنّ أباه: قال له: إنا على دينك باطنا، و انما اظهر الشرك خوفا من نمرود، فدعا له بظّن أنّه مؤمن (12). و لذا قال: إنّه كان من الضالين، و ليس الآن منهم، فلمّا تبيّن له أنّه على كفره تبرأ منه.

ص: 531


1- . الكافي 2:123/19، تفسير الصافي 4:40.
2- . تفسير الرازي 24:149.
3- . زاد في تفسير الصافي: أصل.
4- . في تفسير الصافي: و يدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم.
5- . تفسير الصافي 4:40، و فيه: محمد و عليّ و الأئمة عليهم السّلام من ذرّيتهما.
6- . تفسير القمي 2:123، تفسير الصافي 4:41.
7- . تفسير الرازي 24:149.
8- . تفسير أبي السعود 6:250، تفسير روح البيان 6:286.
9- . تفسير روح البيان 6:286.
10- . في تفسير الرازي: الإسلام. (11 و 12) . تفسير الرازي 24:150.

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد سؤال العزّ الدنيوي لنفسه، سأل الاخروي منه بقوله: وَ لا تُخْزِنِي و لا تهنّي بحطّ درجتي في الجنّة عن درجة غيري، و بعتابي على ترك ما هو الأولى منّي، أو لا تفضحني بين الناس باظهاره، أو لا تخجلني عندهم يَوْمَ يُبْعَثُونَ من القبور إلى المحشر و يجتمعون فيه، و إنّما كان سؤاله هذا مع علمه بأنّ اللّه لا يخزي النبيّ لهضم النفس و إظهار العبودية و الحاجة و تعليم العباد و حثّهم على الاقتداء به.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 88 الی 91

ثمّ بيّن عظمة ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ أحدا في نجاته من أهواله، و إن صرفه في الدنيا في وجوه الخيرات وَ لا بَنُونَ نفسا في خلاصها من العذاب بالنصرة و الشفاعة

إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ فيه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ و بريء من العقائد الفاسدة و الأخلاق الرذيلة و الشهوات النفسانية، أو أمن فتنة المال و البنين، أو من حبّ الدنيا.

يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91)عن الصادق عليه السّلام: «هو القلب السليم من حبّ الدنيا» (1).

و عنه عليه السّلام: «صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم، لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النية للّه تعالى في الأمور كلّها» ثمّ تلا هذه الآية (2).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه و ليس فيه أحد سواه» قال: «و كلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط، و إنّما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة» (3).

و قيل: إنّه انقطع كلام إبراهيم بقوله: يَوْمَ يُبْعَثُونَ و وصف اليوم من كلام اللّه ردّا على الكفار الذين قالوا: نحن أكثر أموالا و أولادا، فأخبر بأنّهما لا ينفعان من لا سلامة لقلبه في الدنيا، و أما من سلم قلبه فتنفعه خيراته و أولاده فاذا مات ابنه قبله يكون له ذخرا و أجرا، و أن تخلّف بعده فانّه يذكره بصالح دعائه و يتوقّع منه شفاعته (4).

و قال بعض العامة: القلب السليم من بغض أهل بيت النبي و أزواجه و أصحابه (5).

و قيل: إنّ القلب السليم هو القلب القلق المضطرب من خشية اللّه، كالذي لدغته الحية (6).

وَ أُزْلِفَتِ و قرّبت فيه اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ من موقفهم لينظروا إليها و يفرحوا بأنّهم يدخلونها

ص: 532


1- . مجمع البيان 7:305، تفسير الصافي 4:41.
2- . مصباح الشريعة:53، تفسير الصافي 4:41.
3- . الكافي 2:13/5، تفسير الصافي 4:41.
4- . تفسير روح البيان 6:287. (5 و 6) . تفسير روح البيان 6:288.

فيعجّل سرورهم

وَ بُرِّزَتِ و أظهرت اَلْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ و الضالين، و تجعل بمرآهم لينظروا إليها و يتحسّروا على أنّهم مساقون إليها فيعجّل عمههم.

عن الصادق عليه السّلام: «الغاوون [هم]الذين عرفوا الحقّ و عملوا بخلافه» (1).

قيل: يؤتى بالجحيم في سبعين ألف زمام، و في اختلاف الفعلين دلالة على ترجيح جانب الوعد، فانّ التبريز لا يستلزم التقريب، و في تقديم ذكر إزلاف الجنّة إشعار بسبق رحمته غضبه (2).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 92 الی 101

ثمّ حكى سبحانه تقريع المشركين بقوله: وَ قِيلَ لَهُمْ في ذلك اليوم من قبل اللّه تعالى تقريعا و توبيخا أيّها المشركون أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه من الأصنام الذين تقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ اليوم بدفع العذاب عنكم أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم؟ فلما لم يكن للتقريع جواب، حكم بدخول الآلهة و عابديهم في النار

فَكُبْكِبُوا و القوا فِيها على الرؤوس منكوسين مرة بعد اخرى هُمْ وَ اَلْغاوُونَ و المعبودون و العابدون و

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ من الشياطين الذين يزيّنون في قلوبهم عبادة الأصنام و المعاصي و يوسوسون إليهم أَجْمَعُونَ لا يشذّ منهم أحد، ليجتمعوا في العذاب كما كانوا يجتمعون في الضلال.

وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اَللّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ اَلْغاوُونَ (94) وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (98) وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)

ثمّ أنهم بعد اجتماعهم في جهنّم قالُوا لآلهتهم وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ و ينازعون مع آلهتهم بعد ما أحياهم و أنطقهم بقدرته:

تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و انحراف واضح عن الحقّ

إِذْ نُسَوِّيكُمْ و نعدلكم بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ في استحقاق العبادة مع أنّكم أدنى خلقه و أذلّهم و أعجزهم

وَ ما أَضَلَّنا عن الهدى و دين الحقّ، و ما صرفنا عن التوحيد إلاّ كبراؤنا و رؤساؤنا اَلْمُجْرِمُونَ الطاغون حيث زيّنوا لنا عبادتكم و أمرونا بها

فَما لَنا اليوم أحد مِنْ شافِعِينَ فيشفعوا لنا (3)عند ربنا كما يشفع الملائكة و الأنبياء و الائمّة و الصديقين للمؤمنين

وَ لا من صَدِيقٍ و لا من

ص: 533


1- . عدة الداعي:76، بحار الأنوار 2:37/52.
2- . تفسير روح البيان 6:288.
3- . في النسخة: فيشفعونا.

حَمِيمٍ و خاصة مهتمّ بأمرنا أو رؤوف و شفيق كما يكون للمؤمنين، فإنّ بين أهل النار التعادي و التباغض.

و قيل: يعني ما لنا من شافعين و لا صديق من الأصنام الذين كنّا نحسبهم شفعاء، و من شياطين الإنس الذين نزعمهم أنّهم أصدقاء (1).

عن الصادق عليه السّلام: «الشافعون الأئمّة عليهم السّلام، و الصديق من المؤمنين» (2).

و القمي عنهما عليهما السّلام: «و اللّه لنشفعنّ في المذنبين من شيعتنا حتى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الشفاعة لمقبولة، و ما تقبل في الناصب، و إنّ المؤمن ليشفع لجاره و ماله حسنة، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في ثلاثين (4)، فعند ذلك يقول أهل النار فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» (5).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ و صديقه في الجحيم، فيقول اللّه تعالى: أخرجوا له صديقه في (6)الجنة، فيقول: من بقي في النار: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» (7).

قيل: إن جمع الشافعين و توحيد الصديق لكثرة الأول و قلّة الثاني (8)، فانّ الصادق في المودة الذي هو المراد من الصديق أعزّ من الكبريت الأحمر، و قيل: إنّ الصديق يطلق على الجميع كالعدوّ (9).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 102 الی 104

ثمّ لما يئسوا من النجاة تمنّوا العود إلى الدنيا بقولهم: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً و رجعة إلى الدنيا، و يا ليت لنا عودة إليها فَنَكُونَ فيها مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ الذين تنالهم الشفاعة و تنفعهم الصداقة.

فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (104)و قيل: إنّ كلمة (لو) شرطية، و المعنى لو أنّ لنا الرجوع فنكون من المؤمنين لفعلنا كذا و كذا (10)، أو لنلنا بغاية آمالنا.

ص: 534


1- . تفسير الرازي 24:152.
2- . المحاسن:184/187، تفسير الصافي 4:43.
3- . تفسير القمي 2:123، تفسير الصافي 4:43.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: ليشفع لثلاثين إنسانا.
5- . الكافي 8:101/72، تفسير الصافي 4:43.
6- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: إلى.
7- . مجمع البيان 7:305، تفسير الصافي 4:43.
8- . جوامع الجامع:330، تفسير البيضاوي 2:159، تفسير الرازي 24:152.
9- . تفسير البيضاوي 2:159، تفسير أبي السعود 6:253، و فيه: الجمع كالعدوّ.
10- . تفسير أبي السعود 6:253.

القمي قال: من المؤمنين، أي من المهتدين، لأنّ الايمان قد لزمهم بالإقرار (1).

ثمّ حكى سبحانه شدة قساوة قلوب أكثر امّة إبراهيم تسلية لحبيبه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من احتجاجات إبراهيم عليه السّلام و لجاج قومه لَآيَةً عظيمة و عظة نافعة لمن يتّعظ، و عبرة لمن يعتبر من قوم إبراهيم وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ به، كما لم يكن أكثر قومك مؤمنين بك.

روي أنّه لم يؤمن بابراهيم عليه السّلام من أهل بابل إلاّ لوط و بنت نمرود (2).

وَ إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد لَهُوَ اَلْعَزِيزُ و القادر على الانتقام و تعجيله، لكنّه اَلرَّحِيمُ بهم لإمهالهم كي يؤمنوا أو يلدوا مؤمنا.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 105 الی 113

ثمّ ثلّث سبحانه بقصة نوح و قومه التى كانت أعظم من القصّتين (3)السابقتين ازديادا لتسلية النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا من ابتداء دعوته إلى انتهائها، و هم بتكذيبه كذّبوا الأنبياء اَلْمُرْسَلِينَ جميعهم، أو المراد أنّهم كذّبوا جميع المرسلين، و كان نوح عليه السّلام منهم

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ و واحد منهم معروف بينهم بالصدق و سلامة النفس و الشفقة عليهم اسمه نُوحٌ نصحا و عظة: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه في ترك عبادته و الاشتغال بعبادة غيره،

و اعلموا إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه مبعوث فيكم لدعوتكم إلى توحيده و عبادته، و قد علمتم أنّي أَمِينٌ في جميع الامور، فعليكم أن تأمنوني على دينكم، و ما أخبر به عن ربّكم، و لا تتّهموني بالكذب و الخيانة في نصحكم

فَاتَّقُوا اَللّهَ في مخالفتي وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به من توحيده و عبادته

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و جعل إِنْ أَجْرِيَ و ما جعلني على تأدية الرسالة إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ لأن عملي له،

فيكون أجري عليه، فاذا علمتم عدم طمعي في أموالكم فَاتَّقُوا اَللّهَ في إنكار رسالتي

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (110) قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)

ص: 535


1- . تفسير القمي 2:123، تفسير الصافي 4:43.
2- . تفسير روح البيان 6:291.
3- . في النسخة: القضيتين.

وَ أَطِيعُونِ في أمري.

فلمّا سمع قومه دعوته قالُوا له إنكارا عليه: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ نتّبعك في قولك، و الحال أنّه اِتَّبَعَكَ الفقراء اَلْأَرْذَلُونَ و السّفلة الأدنون جاها و مالا و نسبا فإنّ إيمانهم لا يكون عن نظر و بصيرة لعدم رزانة عقلهم و متانة رأيهم، بل نظرهم إلى جلب المال و تحصيل الجاه، فهم في الباطن كافرون بك، لا ينبغي لنا أن نجعل أنفسنا في رديفهم.

قيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة (1). و قيل: إنّهم كانوا حجّاما (2). و عن ابن عباس: كانوا حائكين (1).

قالَ: نوح عليه السّلام في جوابهم: ما إحاطتي وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من إيمانهم الحقيقي بربي، و إقرارهم القلبي برسالتي، و مالي إطّلاع على خلوصهم في الايمان أو نفاقهم، و ليس عليّ التفتيش عن باطنهم و شقّ قلوبهم،

بل عليّ الاكتفاء و الاعتبار بظاهر إقرارهم إِنْ حِسابُهُمْ و مؤاخذتهم على بواطنهم و سرائرهم إِلاّ عَلى عهدة رَبِّي المطّلع على البواطن و السرائر، العالم بالخفيات، و أنتم لَوْ تَشْعُرُونَ و تدركون المطالب الواضحة لشعرتم صحّة قولي، و أدركتم صدق خبري، و لكنكم تجهلون و تقولون ما لا تعلمون.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 114 الی 122

ثمّ لمّا كان في قدح أتباعه إيهام توقّع طردهم عن مجالسه و إبعادهم عن حوله، قطع طمعهم هذا بقوله: وَ ما أَنَا بِطارِدِ هؤلاء اَلْمُؤْمِنِينَ و مبعدهم عن حولي و مجلسي، و لا يمكنني موافقتكم في ما تتوقّعون منّي من الاعراض عمّن أقبل على ربي،

لأنّه خلاف وظيفتي إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ و ما أنا إلاّ رسول مبعوث لتخويف الناس من العذاب على الكفر باللّه و عصيانه مُبِينٌ و متظاهر بالانذار، أو موضح لما ارسلت به سواء كانوا أعزاء أو أذلاء، أغنياء أو فقراء، بل وظيفتي تقريب من قبل قولي و دعوى رسالتي، و آمن بربي،

فلمّا عجزوا عن معارضته بالحجة أخذوا في تهديده و قالُوا لَئِنْ لَمْ

وَ ما أَنَا بِطارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ اَلْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (122)

ص: 536


1- . تفسير القرطبي 9:24.

تَنْتَهِ و لم تردع يا نُوحُ عن الدعوة إلى التوحيد و الايمان بك و الانذار و الوعظ لَتَكُونَنَّ البتة فيما بيننا مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ و المطرودين عن أرضنا، أو من المقتولين بالأحجار، لأنّه أقبح قتلة، أو من المشتومين.

عن الثّمالي: الرجم في جميع القرآن بمعنى القتل، إلاّ في سورة مريم في قوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ (1)فانّه بمعنى الشتم (2).

فعند ذلك يئس نوح عليه السّلام من إيمانهم، و اشتكى إلى ربّه و قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ و أصرّوا في ردّ قولي بعد ما دعوتهم ليلا و نهارا

فَافْتَحْ و احكم بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً بما يستحق كلّ منّا و منهم من الرحمة و العذاب وَ نَجِّنِي و خلّصني وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ من شرّ الكفّار و ممّا ينزل بهم من العذاب،

فاستجبنا دعاءه فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من أهله و المؤمنين به بعد إرسال الماء من السماء و فورانه من الأرض بحملهم فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ و السفينة المملوءة بهم و بكلّ صنف من الحيوانات و الأمتعة و المأكولات.

عن الباقر عليه السّلام: «المشحون: المجهّز الذي قد فرغ منه و لم يبق إلاّ دفعه» (3).

ثُمَّ أَغْرَقْنا في الماء بَعْدُ اَلْباقِينَ من الناس ممّن لم يكن في السفينة

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الانجاء و الاغراق لَآيَةً و عظة و عبرة لمن بعدهم من الناس وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و رسله، فلا تحزن يا محمّد على عدم إيمان قومك، و اصبر على أذاهم كما صبر نوح عليه السّلام

وَ إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد لَهُوَ اَلْعَزِيزُ و القادر على الانتقام و تعجيله، و لكنّه اَلرَّحِيمُ بهم لإمهالهم كي يؤمنوا، أو يلدوا مؤمنا.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 123 الی 130

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيه صلّى اللّه عليه و آله بذكر قصة هود بقوله: كَذَّبَتْ قبيلة يقال لها عادٌ انتسابا على جدّهم الأعلى اَلْمُرْسَلِينَ كلّهم بتكذيبه إِذْ قالَ لَهُمْ عظة أَخُوهُمْ في النسب اسمه

كَذَّبَتْ عادٌ اَلْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (127) أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ (130)

ص: 537


1- . مريم:19/46.
2- . تفسير القرطبي 13:121.
3- . تفسير القمي 2:125، و فيه: إلاّ رفعه، تفسير الصافي 4:45.

هُودٌ و قيل: هو لقبه لوقاره و سكينته و اسمه عابر (1): يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه في كفركم و عصيانكم له

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه أَمِينٌ على وحيه، أو مشهور عندكم بالأمانة، فاذا سلّمتم ذلك

فَاتَّقُوا اَللّهَ و خافوا من عقابه على الكفر به و إنكار رسالتي وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به أداء للرسالة

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و لا أتوقّع منكم مثقال ذرّة من جعل إِنْ أَجْرِيَ و ما جعلي إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ لأنّ عملي لا يكون إلاّ له.

ثمّ نهاهم عن اللغو و العبث بقوله: أَ تَبْنُونَ يا قوم بِكُلِّ رِيعٍ و مكان مرتفع آيَةً و علامة تَعْبَثُونَ بها قيل: إنّهم كانوا يبنون في الأماكن الرفيعة (2)ليعرف غناهم تفاخرا (3). و قيل: إنّهم كانوا يبنون بها بروج الحمام (4).

و عن ابن عباس: أنّهم كانوا يبنون بكلّ ريع علما يعبثون فيه بمن يمرّ في الطريق إلى هود (5).

وَ تَتَّخِذُونَ لأنفسكم مَصانِعَ و حياضا من ماء، أو أمكنة شريفة، أو قصورا مشيدة، أو حصونا محصّنة لَعَلَّكُمْ و برجاء أنّكم تَخْلُدُونَ أو كأنّكم تدومون (6)في الدنيا و لا تموتون أبدا.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-قال: «كل بناء يبنى فانّه وبال على صاحبه يوم القيامة إلاّ ما لا بدّ منه» (7).

وَ إِذا بَطَشْتُمْ و تناولتم سيفا أو سوطا بصولة و قهر بَطَشْتُمْ و تناولتم بالقهر حال كونكم جَبّارِينَ ظالمين و قاتلين لمن تغضبون عليه بلا رأفة و رحمة و قصد تأديب و نظر في العاقبة.

و الحاصل أنّه عليه السّلام ذمّهم أولا: ببناء الأبنية الرفيعة بلا حاجة إليها، بل لإظهار التكبّر و الخيلاء، و ثانيا: بإحكام الأبنية الدالّ على طول الأمل و الغفلة عن أن الدنيا دار مجاز، و ثالثا: بالظّلم على الناس و قلّة الرأفة و الرحمة، و الجميع دالّ على استيلاء حبّ الدنيا عليهم حتى أخرجهم عن حدّ العبودية و ادخلهم في حدّ العتو و الطّغيان.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 131 الی 135

ثمّ بالغ هود في زجرهم عن حبّ الدنيا و دعائهم إلى الآخرة بقوله: فَاتَّقُوا اَللّهَ و خافوا عقابه على الانهماك في الشهوات، و اتركوا تلك الأعمال الشنيعة وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به من الإقبال

فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

ص: 538


1- . تفسير روح البيان 6:294.
2- . في تفسير الرازي: المرتفعة.
3- . تفسير الرازي 24:157.
4- . تفسير الرازي 24:157.
5- . تفسير الرازي 24:157.
6- . في النسخة: تديمون.
7- . مجمع البيان 7:310، تفسير الصافي 4:45.

على اللّه و الدار الآخرة و القيام بالعدل و الانصاف، و قصر الأمل فانّه النافع لكم.

ثمّ حثّهم على التقوى بتذكيرهم نعم ربّهم الموجب لإيقاظهم من سنة الغفلة، و رغبتهم إلى الايمان و قيامهم بالشكر بقوله: وَ اِتَّقُوا اللّه اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ و قوّاكم بِما تَعْلَمُونَ به من أنواع نعمه منها أنّه

أَمَدَّكُمْ و أعانكم و نظم امور معاشكم بِأَنْعامٍ كثيرة من الإبل و البقر و الغنم لتستفيدوا منها وَ بَنِينَ عديدة لتستعينوا بهم في الحوائج

وَ جَنّاتٍ و بساتين وَ عُيُونٍ غزيرة الماء تشربون منها، و تسقون بها أنعامكم و زروعكم و بساتينكم.

ثمّ هددهم على بقائهم على الكفر و العصيان مع إظهار الشّفقة عليهم بقوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن تدوموا (1)على الكفر و كفران النعم من أن ينزل اللّه عليكم عَذابَ الاستئصال في يَوْمٍ ذي هول عَظِيمٍ في الدنيا و الآخرة لعظم ما يحلّ فيه.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 136 الی 138

ثمّ أنّ القوم بعد إبلاغ هود عليه السّلام في نصحهم و وعظهم قالُوا في جوابه طغيانا و عتوا: يا هود سَواءٌ عَلَيْنا و لا يتفاوت في نظرنا أَ وَعَظْتَ و نصحتنا أَمْ سكتّ و لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْواعِظِينَ و الناصحين، فانّا لن نكترث بكلامك، و لن نعتن بقولك، و لن ننصرف عمّا نحن عليه بدعواك

إِنْ هذا الدعوى الذي تدّعي من الرسالة و التوحيد و التحذير من الشرك إِلاّ خُلُقُ جماعة من اَلْأَوَّلِينَ و دأب عدّة من السابقين، أو المراد ما هذا الذي نحن عليه من العقائد و الأعمال إلاّ عادة الأقوام السابقين و الامم الماضين، فانّهم كانوا على ديننا و ملتزمين بأعمالنا، و نحن مقتدون بهم، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة و الموت إلاّ عادة الناس من قديم الدهر جارية فينا نحيا كحياتهم، و نموت كموتهم، لا بعث و لا حساب

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على عقائدنا و أعمالنا، لا في الدنيا لعدم المقتضي للعذاب، و لا في الآخرة لعدم عالم آخر وراء هذا العالم.

قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ (137) وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 139 الی 145

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (145)

ص: 539


1- . في النسخة: تديموا.

ثمّ حكى سبحانه إهلاكهم بتكذيب هود بقوله: فَكَذَّبُوهُ و أصرّوا على إنكار رسالته عنادا و لجاجا فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب تكذيبهم إيّاه بريح صرصر عاتية إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآيَةً و عبرة عظيمة وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ.

ثمّ ذكر سبحانه قصة صالح بقوله: كَذَّبَتْ قبيلة يقال لها ثَمُودُ لأنّهم أولاد ثمود بن عبيد بن عوص بن عاد كما قيل (1)اَلْمُرْسَلِينَ كلّهم إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ و واحد منهم يقال له صالِحٌ نصحا: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه و لا تخافون عذابه على عبادة غيره؟

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل اللّه أَمِينٌ على وحيه، أو مشهور بينكم بالأمانة و الصدق، فاذا سلّمتم ذلك

فَاتَّقُوا اَللّهَ في مخالفتي وَ أَطِيعُونِ في ما أدعوكم إليه، فانّ وظيفتي الدعاء إلى التوحيد

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ و جعل إِنْ أَجْرِيَ و جعلي، و ما جزاء عملي إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 146 الی 154

ثمّ وبّخ قومه بطول الأمل و إنكار المعاد و كفران نعم اللّه بقوله: أَ تُتْرَكُونَ و هل تطمعون أن تبقوا (2)فِي ما هاهُنا من الديار و العقار و النّعم حال كونكم آمِنِينَ و محفوظين من الآفات و الموت و المجازاة على كفرانه؟ (3)لا يكون ذلك أبدا.

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (150) وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ (151) اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (154)

ثمّ فسر الموصول و فصّل النّعم بقوله: فِي جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار و الثّمار وَ عُيُونٍ و أنّهار أو آبار كثيرة الماء.

قيل: إنّهم لم يكن لهم أنهار جارية (4). و قيل: كانت لهم في الصيف لأنّهم كانوا يخرجون في الصيف إلى القصور و الكروم و الأنهار، و أما في الشتاء فلم يكن لهم إلاّ الآبار (5).

وَ زُرُوعٍ كثيرة من الحنطة و سائر الحبوبات النافعة وَ نَخْلٍ طَلْعُها و ما يخرج منها من غلاف

ص: 540


1- . تفسير روح البيان 6:297.
2- . في النسخة: تبقون.
3- . زاد في النسخة: بعده. (4 و 5) . تفسير روح البيان 6:297.

كنصل السيف فيه الشّمراخ الذي هو للنخيل كالعنقود للكرم هَضِيمٌ و داخل بعضها في بعض، أو متدلّ لثقل الحمل، أو لطيف و هو كناية عن لطافة ثمره، لأنّه كلّما لطف الثمر لطف طلعه، أو كناية عن كون النخل انثى لأنّ طلع الذّكر صلب غليظ، كذا قيل (1).

و قيل: إنّ الطّلع زهرة النخل (2)، و قيل: إنّه أطيب الرطب (3)، و إنّما خصّ النّخل بالذكر مع دخولها في البساتين للتنبيه على فضلها.

وَ تَنْحِتُونَ لسكونتكم مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً و مساكن حال كونكم فارِهِينَ و متنشّطين و طيبي القلوب بالنّحت، أو حاذقين فيه، فاذا علمتم أنّ اللّه هو الذي أنعم عليكم بتلك النّعم

فَاتَّقُوا اَللّهَ بترك الشّرك و طول الأمل وَ أَطِيعُونِ في أحكامي التي جئتكم بها من اللّه

وَ لا تُطِيعُوا و تتّبعوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ و المفرّطين في اتباع الشهوات، المتجاوزين عن الحدّ في حبّ اللذات، و هم

اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي هذه اَلْأَرْضِ التي تسكنونها باشاعة الكفر و العصيان و إضلال الناس و صدّهم عن الحقّ وَ لا يُصْلِحُونَ أمرا من الامور، و لا يصدر منهم شيء من الخير، بل كلّما يصدر منهم محض الشرّ و شرّ محض، فأجابه قومه و

قالُوا ردا عليه و تكذيبا له في دعواه الرسالة: يا صالح إِنَّما أَنْتَ أحد مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ و المغلوبين على عقولهم بكثرة سحر السحرة بهم لما نرى منك من كلمات لا يتفوّه بها عاقل، أو المراد إنّما أنت من الذين لهم بطون يأكلون و يشربون

ما أَنْتَ إذن إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا لا مزيّة لك علينا، و لو كنت ملكا لكنّا نقبل دعواك بلا آية و لا بيّنة، و لكن لمّا تحقّق أنّك بشر فَأْتِ بِآيَةٍ و حجّة واضحة الدلالة على صحّة دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ فيه و قد مرّ تفصيل اقتراحهم الناقة في الأعراف (4).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 155 الی 159

فلمّا خرجت الناقة من الصخرة، و بركت بين أيديهم قالَ صالح يا قوم هذِهِ الناقة التي ترونها ناقَةٌ اقترحتموها عليّ، و ليكن لَها شِرْبٌ و نصيب من الماء في يوم معين وَ لَكُمْ

قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (159)

ص: 541


1- . تفسير روح البيان 6:298.
2- . تفسير روح البيان 6:298.
3- . الكشاف 3/328، الدر المنثور 6/315.
4- . راجع تفسير الآية (73) و ما بعدها من سورة الأعراف.

شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لا تشرب هذه من نصيبكم،

و لا تشربوا أنتم من نصيبها وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و لا تقصدوها بمكروه و إيذاء و ضرب و عقر و قتل فَيَأْخُذَكُمْ عند ذلك من قبل اللّه عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم ما يحلّ فيه

فَعَقَرُوها ببغيهم فَأَصْبَحُوا بعده نادِمِينَ عليه لما رأوا من آثار غضب اللّه عليهم

فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ الموعود إجمالا، و هو صيحة جبرئيل عليه السّلام، فهلكوا جميعا بها إِنَّ فِي ذلِكَ الاهلاك لَآيَةً و عبرة عظيمة للناس وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ به، قيل: ما آمن به منهم إلاّ أربعة آلاف (1)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 160 الی 168

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط بمبالغة في تسلية حبيبه بقوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ و صاحبهم لُوطٌ بن هادان نصحا لهم أَ لا تَتَّقُونَ و كيف لا تخافون عذاب اللّه على الشرك و العصيان

إِنِّي لَكُمْ من جانب اللّه رَسُولٌ أَمِينٌ على دينكم و دنياكم

فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ في ما ابلّغكم من اللّه

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (164) أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرانَ مِنَ اَلْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ اَلْقالِينَ (168)

ثمّ إنّه تعالى بعد إعلامهم برسالته و دعوتهم إلى التوحيد و طاعة اللّه و إظهار عدم طمعه في أموالهم، وبّخهم على عملهم الشنيع من وطئهم الرجال بقوله: أَ تَأْتُونَ يا قوم اَلذُّكْرانَ و تطؤونهم أنتم مِنَ أهل اَلْعالَمِينَ و لا يشارككم فيه غيركم، لكونه أقبح القبائح عند كلّ أحد، أو المراد أتاتون الذكور من أولاد آدم

وَ تَذَرُونَ و تدعون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ و نسائكم، و لا تجامعونهن مع كونهنّ مخلوقات لاستمتاعكم بهنّ بأيّ نحو شئتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ و متجاوزون عن الحدّ في جميع المعاصي التي من جملتها هذا العمل الشنيع، أو المراد: بل أنتم قوم أحقّاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم هذه الفاحشة،

فأجابه قومه و قالُوا تهديدا له: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ و لم ترتدع يا لُوطُ عن تقبيح عملنا و الانكار علينا لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ من بلادنا

ص: 542


1- . تفسير روح البيان 6:300.

و المنفيين من ديارنا بأسوء حال

قالَ لوط: يا قوم إِنِّي أبغض المقام فيكم، و اتمنّى الخروج من بينكم، لأنّي لِعَمَلِكُمْ الشنيع من وطئ الرجال و نكاح الذكور مِنَ اَلْقالِينَ و المبغضين أشدّ البغض، فكيف ارتدع عن نهيكم عنه و إنكاره عليكم بسبب تهديدكم بإخراجي من بينكم، مع أنه غاية أملي؟

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 169 الی 175

ثمّ أعرض عنهم و تضرّع إلى ربّه في إخراجه من بينهم، و خلاص نفسه و أهله من شؤم عملهم بقوله: رَبِّ نَجِّنِي و خلّصني وَ أَهْلِي من سوء ما يَعْمَلُونَ من العمل الشنيع و عذابه بإخراجي من بينهم

فَنَجَّيْناهُ و خلّصناه وَ أَهْلَهُ و من تعلّق به أَجْمَعِينَ استجابة لدعائه

إِلاّ عَجُوزاً و امرأة مسنّة اسمها و الهة على ما قيل (1)، فانّها لكفرها و رضاها بعمل القوم بقيت فِي اَلْغابِرِينَ و الباقين في البلد و العذاب.

رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاّ عَجُوزاً فِي اَلْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (175)روي أنّها خرجت مع لوط، فلمّا سمعت الرّجفة التفتت فأصابها حجر فهلكت (2). و قيل: إنّها بقيت في البلد و لم تخرج مع لوط (3).

ثُمَّ دَمَّرْنَا و أهلكنا أفظع الهلاك و أشدّه اَلْآخَرِينَ من قومه و أهل بلده حيث قلبت عليهم بلادهم و جعل عاليها سافلها

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً عجيبا هائلا و هو مطر الحجارة فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ و القوم الذين خوّفوا من العذاب و لم يؤمنوا و لم يرتدعوا من أرتكاب الفاحشة.

قيل: إنّ الحاضرين في البلاد أهلكوا بانقلاب بلادهم، و المسافرون منهم اهلكوا بمطر الحجارة (4).

إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب المستأصل الذي على هؤلاء القوم لَآيَةً و عبرة عظيمة لمن بعدهم، و لمن بقي في الأرض من العصاة وَ ما كانَ مع ذلك أَكْثَرُهُمْ مع إبلاغ لوط في النّصح مُؤْمِنِينَ به قيل: ما آمن به إلا بنتيه و صهره (5)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ و القادر على تعذيب أعدائه و قهرهم لكنّه اَلرَّحِيمُ بهم لإمهالهم.

ص: 543


1- . تفسير روح البيان 6:302.
2- . تفسير روح البيان 6:302.
3- . تفسير روح البيان 6:302.
4- . تفسير روح البيان 6:302.
5- . تفسير روح البيان 6:302.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 176 الی 180

ثمّ حكى سبحانه كيفية دعوة شعيب، و امتناع قومه من الايمان به بقوله: كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ و أهل الغيظة التي كانت بقرب مدين اَلْمُرْسَلِينَ كلّهم بتكذيبهم شعيبا، أو كذّبوا جميع الرسل و منهم شعيب المبعوث لدعوتهم و دعوة أهل مدين

إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ نصحا و إنذارا: يا قوم أَ لا تَتَّقُونَ اللّه و لا تخافون عقابه على الشرك و العصيان.

كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ اَلْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ (180)فى حديث عامي: أنّ شعيبا أخا مدين أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة (1).

و روي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتفّ كان حملها المقل (2).

ثمّ قال: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من اللّه مبعوث لدعوتكم إلى التوحيد و إلى ما هو خير لكم في الدارين أَمِينٌ عنده على وحيه، و عندكم على دينكم و دنياكم، و قد عرفتموني أنّي [أدعوكم]

إلى الايمان لم أطلب إلاّ ما هو صلاح حالكم

فَاتَّقُوا اَللّهَ إذن وَ أَطِيعُونِ في ما آمركم به، فانّ أمري أمر اللّه، و طاعتي طاعته،

و اعلموا أنّ وظيفتي تبليغ أحكام ربّي وَ ما أَسْئَلُكُمْ و لا أطلب منكم عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و جعل إِنْ أَجْرِيَ و ما جعلي إِلاّ عَلى رَبِّ اَلْعالَمِينَ و مالك السماوات و الأرضين، لأنّ عملي له.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 181 الی 183

ثمّ أنّه تعالى بعد الاعلان برسالته، و دعوتهم إلى طاعته، و اظهار عدم طمعه في دنياهم و أموالهم، شرع في بيان ما أمر بتبليغه من اللّه إليهم من الأحكام، و نهيهم عمّا تداول بينهم من أقبح الأعمال بقوله: أَوْفُوا للناس اَلْكَيْلَ و أتموه كاملا إذا استحقّوا منكم الكيل وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ و المنقصين لحقوقهم بتنقيص أكيالهم

وَ زِنُوا الموزونات من حقوقهم بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ و الميزان العدل السويّ. قيل: إنّ القسطاس روميّ معرّب (3).

أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)

ص: 544


1- . تفسير الرازي 24:163.
2- . تفسير الرازي 24:163، المقل: حمل الدّوم، و هو يشبه النخل.
3- . تفسير روح البيان 6:303.

ثمّ عمّم سبحانه النهي عن تنقيص الحقوق سواء أكانت مكيلة أو موزونة، أو معدودة أو غيرها بقوله:

وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ و لا تنقصوا أموالهم و حقوقهم، [سواء]

أكان الحقّ عينا كنقص العدد و الزرع، أو كيفية كدفع الرديء مكان الجيّد، أو سلطنة كمنع المالك عن التصرّف في ملكه بالغصب و السرقة، أو ذي الحقّ عن استيفاء حقّه، كمنع الزوجة زوجها عن التمتع بها، و امتناع الزوج من أداء حقوق زوجته وَ لا تَعْثَوْا و لا تعتدوا فِي اَلْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ كالقتل و الغارة، و قطع الطريق، و إهلاك الزرع، و إشاعة الكفر و العصيان. قيل: كان قومه يفعلون جميع ذلك (1).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 184 الی 186

ثمّ حثّهم على إطاعة تلك الأحكام بقوله: وَ اِتَّقُوا اللّه العظيم القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ بقدرته وَ خلق اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ و الخلائق السابقين فرهّبهم عن العصيان بكمال قدرته، و رغّبهم في الطاعة ببيان أعظم نعمه من خلقهم و خلق أسلافهم الذين لولاهم لما خلقوا.

وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ (185) وَ ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ (186)

ثمّ أنهم بعد استماع البيانات التي لا تصدر إلاّ من أعقل الناس، نسبوه إلى الجنون و قالُوا: يا شعيب إِنَّما أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ و المجانين الذين سحرهم الساحرون مرة بعد اخرى حتى زال عقلهم و لذا تقول ما تقول.

ثمّ نفوا عنه قابلية الرسالة (2)بقولهم: وَ ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا و ليس لك فضل علينا، و الرسول لا بدّ أن يكون ملكا منزّها من شؤون البشرية ثمّ صرّحوا بتكذيبه الذي هو نتيجة المقدّمتين بقولهم: وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ اَلْكاذِبِينَ في دعواك الرسالة.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 187 الی 191

ثمّ لمّا كان شعيب عليه السّلام يهددهم بالعذاب على تكذيبه و عدم الايمان به، رتّبوا على تكذيبه طلب نزول العذاب عليهم استهزاء بقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً و قطعة مِنَ اَلسَّماءِ و السّحاب إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعواك و وعيدك بالعذاب.

فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ اَلسَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (191)

ص: 545


1- . تفسير الرازي 24:163.
2- . يريد استحقاقه لها.

قيل: إنّما طلبوا العذاب لاستبعادهم وقوعه، و ظنّهم بأنّه إذا لم يقع ظهر كذبه (1).

فعند ذلك قالَ شعيب: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الإصرار على الكفر و التكذيب، فيعامل معكم بما تستحقّون،

فأمركم مفوّض إليه فَكَذَّبُوهُ بعد وضوح الحقّ و تمامية الحجّة كما كذّبوه من قبل فَأَخَذَهُمْ و شملهم عَذابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ حسبما اقترحوه.

روي أنّه حبس عنهم الريح سبعا، و سلّط عليهم الرمل، فأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم الظل و الماء، فاضطرّوا إلى الخروج إلى البرّ، فاظلّتهم سحابة وجدوا لها بردا و نسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا (2)إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بعظم ما وقع فيه من العذاب.

روي أنّه عليه السّلام بعث إلى أصحاب مدين و أصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبرئيل عليه السّلام و أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلّة (3)إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب الهائل لَآيَةً و عبرة للنّاس وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ.

قيل: لم يؤمن من أصحاب الأيكة أحدا، و إنّما آمن به جمع من أهل مدين (4).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 192 الی 195

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر القصص التي كان الإخبار بها من النبيّ الامي من الإخبار بالمغيّبات، أعلن بكون القرآن نازلا منه بقوله: وَ إِنَّهُ بدلالة إعجاز البيان و الاشتمال على المغيبات و اللّه لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ لا اختلاق البشر نَزَلَ بِهِ بأمره جبرئيل الذي يقال له اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ على وحيه،

و تلاه عليك بحيث وعاه قلبك و حفظه كأنه نزل به أولا عَلى قَلْبِكَ ثمّ على ظاهرك.

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)و قيل: لمّا كان المخاطب في الحقيقة القلب لكونه محل التميّز و الاختبار و سائر الأعضاء مسخرة له (5)، يكون هو محلّ النزول في الحقيقة، فكأنّه قال: نزل عليك بحيث تفهمه حقّ الفهم لِتَكُونَ منذرا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ و رسولا من المرسلين الذين ارسلوا

بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى لقومهم، كهود و صالح و شعيب و إسماعيل، أو المراد نزل به على قلبك بلغة عربية حتى لا يقول قومك: لا نفهم كتابك.

عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل عنه فقال: «يبين الألسن، و لا تبينه الالسن» (6).

ص: 546


1- . تفسير الرازي 24:164.
2- . تفسير الرازي 24:164.
3- . تفسير الرازي 24:164.
4- . تفسير روح البيان 6:305.
5- . تفسير الرازي 24:166.
6- . الكافي 2:462/20، تفسير الصافي 4:51.

و عن الصادق، عن أبيه عليهما السّلام قال: «ما أنزل اللّه تبارك و تعالى كتابا و لا وحيا إلاّ بالعربية، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم، و كان يقع في مسامع نبينا صلّى اللّه عليه و آله بالعربية، فاذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربية، فيقع في مسامعهم بلسانهم، و كان احد (1)لا يخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأيّ لسان خاطبه إلاّ وقع في مسامعه بالعربية كلّ ذلك يترجم جبرئيل عليه السّلام عنه تشريفا من اللّه عزّ و جلّ له» (2).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 196 الی 203

ثمّ استدلّ سبحانه على نزول القرآن منه بقوله: وَ إِنَّهُ بمعناه و أوصافه و علائمه لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ و كتب الأنبياء السابقين، فانّه تعالى أخبر فيها بنزوله على النبي المبعوث في آخر الزمان، أو المراد أنّ ذكر النبي كان في الكتب السابقة كما روي أنّ أهل مكة بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بعثته، فقالوا: إنّ هذا لزمانه، و إنّا نجد في التوراة نعته و صفته (3)،

فنزل أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً و دلالة على صدق محمد صلّى اللّه عليه و آله و صحّة كتابه أَنْ يَعْلَمَهُ و يشهد بصدق نبوته أو كتابه عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه من أحبارهم.

وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ (196) أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)ثمّ بيّن سبحانه أنّ قريش مع كون القرآن نازلا بلسان عربي مقترنا بشواهد الصدق كفروا به بقوله:

وَ لَوْ نَزَّلْناهُ بهذه الفصاحة التي عجّزت العرب عن إتيان مثله عَلى بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ الجاهلين بلغة العرب

فَقَرَأَهُ ذلك الأعجمي عَلَيْهِمْ قراءة صحيحة خارقة للعادة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أيضا لفرط عنادهم و لجاجهم مع انضمام القراءة إلى إعجاز العبارة مع عدم احتمال كونه من تقوّلات الأعجميّ.

و قيل: إنّ المراد لو أنزلنا هذا القرآن بلسان العجم على رجل أعجمي فقرأه على قريش، لامتنعوا من الايمان به اعتذارا بعدم فهمه، فأنزلناه بلسانهم قطعا لعذرهم، و مع ذلك لا يؤمنون به (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «لو نزلنا (5)القرآن على العجم ما آمنت به العرب، و قد نزل على العرب فآمنت به

ص: 547


1- . في علل الشرائع: أحدنا.
2- . علل الشرائع:126/8، تفسير الصافي 4:51.
3- . تفسير روح البيان 6:307 و 308.
4- . تفسير أبي السعود 6:265.
5- . في تفسير القمي: انزل.

العجم» (1)و فيه دلالة على كمال عصبية العرب و فضيلة العجم عليهم بالانصاف.

و قيل: إنّ المعنى لو أنزلنا القرآن على بعض الحيوانات فقرأه ذلك الحيوان عليهم بلسان فصيح ما كانوا به مؤمنين (2).

و عن ابن مسعود: أنّه سئل عن هذه الآية فأشار إلى ناقته فقال: هذه من الأعجمين (3).

كَذلِكَ الإنزال بلسان عربي سَلَكْناهُ و أدخلناه بمعانيه و جهات إعجازه فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ المصرّين على الكفر،

و مع ذلك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عنادا و لجاجا و استكبارا حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ في الدنيا أو الآخرة، فإذا رأوه يؤمنون به إلجاء و اضطرارا، و لا ينفعهم ذلك الايمان، أو المراد كذلك الادخال و السلك للقرون بالتكذيب سلكناه و أدخلناه في قلوب المصرّين على الكفر، و لذا لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الملجئ لهم إلى الايمان

فَيَأْتِيَهُمْ ذلك العذاب بَغْتَةً و فجأه في الدنيا أو الآخرة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيانه

فَيَقُولُوا عند ذلك تحسّرا و تأسّفا على تفريطهم هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ و ممهلون حتى نتدارك ما فرّطنا في جنب اللّه، أو لنؤمن و نصدق.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 204 الی 207

ثمّ وبّخهم سبحانه على تعجيل العذاب الموعود استهزاء بقوله: أَ فَبِعَذابِنا و التقدير أيستمهلون عند نزول العذاب فبعذابنا في الحال يَسْتَعْجِلُونَ بقولهم: فاتنا بما تعدنا، و من المعلوم أنّ بين الاستعجال و الاستمهال غاية التنافي.

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207)

ثمّ نبّه سبحانه على عدم فائدة الاستمهال بعد نزول العذاب بقوله: أَ فَرَأَيْتَ أيّها العاقل، و أخبرني إِنْ مَتَّعْناهُمْ و نفعناهم بالحياة الدنيا و نعمها سِنِينَ متطاولة، أو سنين أعمارهم، أو من بدو الدنيا إلى آخرها

ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب

ما أَغْنى عَنْهُمْ و ما نفعهم شيئا ما كانُوا يُمَتَّعُونَ و ينتفعون به من العمر و النّعم في الدنيا في رفع العذاب و تخفيفه.

عن الصادق عليه السّلام قال: «اري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منامه بني امية يصعدون منبره من بعده، و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا [حزينا]فهبط عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا رسول اللّه، مالي

ص: 548


1- . تفسير القمي 2:124، تفسير الصافي 4:51.
2- . مجمع البيان 7:320.
3- . مجمع البيان 7:320.

أراك كئيبا حزينا؟ قال: يا جبرئيل، إنّي رأيت بني امية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: و الذي بعثك بالحقّ نبيّا إنّ هذا شيء ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها قال: أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ الآيات» (1).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 208 الی 212

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ عذابه لا يكون إلاّ بعد إتمام الحجّة بقوله: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ظالمة من القرى بالعذاب إِلاّ كان لَها مُنْذِرُونَ من النبيّ و المؤمنين من أتباعه،

و إنما كان إنذارهم لأجل أن يكون ذِكْرى و عظة لهم و إتماما للحجّة عليهم وَ ما كُنّا باهلاكهم في حال جهلهم و وجود العذر لهم ظالِمِينَ بهم، بل كان محض العدل.

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَ ما كُنّا ظالِمِينَ (209) وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّياطِينُ (210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ القرآن تنزيل ربّ العالمين لاشتماله على إعجاز البيان و الإخبار بالمغيبات من ذكر قصص الأنبياء كما هي في زبر الاولين مع كون النبي اميا، دفع قول القائلين بأنّه من إلقاءات الشياطين كسائر ما نزل على الكهنة بقوله: وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّياطِينُ و ما أتت به مردة الجنّ

وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ و ما يصحّ منهم إنزاله، مع اشتماله على المعارف و العلوم الحقّة الحقيقية الموجبة لإرشاد الخلق إلى الحقّ و جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية، مع أن شغلهم إضلال الخلق و جدّهم فيه وَ ما يَسْتَطِيعُونَ ذلك أصلا لأنّهم لا يمكنهم العلم بالحقائق و المغيبات إلاّ بالسّماع من الملائكة و

إِنَّهُمْ بالشهب عَنِ اَلسَّمْعِ من الملائكة لَمَعْزُولُونَ و ممنوعون، و لو كانوا غير معزولين عن السمع لنزلوا بمثله على الكهنة و الكفّار مع كمال ارتباطهم بهم و الموّدة بينهم، و لم ينزلوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي هو أعدى عدوّهم و هم أعدى عدّوه، لأنّه يلعنهم و يذّمهم دائما و يصرف الناس عن اتّباعهم.

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 213 الی 214

فَلا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (214)

ص: 549


1- . من لا يحضره الفقيه 2:101/453، الكافي 4:159/10، تفسير الصافي 4:52.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات كون القرآن العظيم نازلا من ربّ العالمين بتوسّط جبرئيل، دعا الناس إلى التوحيد المقصود من إنزاله بنهي نبيه عن الاشراك الدالّ على إرادة نهي امّته عنه بقوله: فَلا تَدْعُ و لا تعبد يا محمّد مَعَ اَللّهِ المنزل للقرآن إِلهاً آخَرَ و معبودا غيره فَتَكُونَ إذن مع كمال قربك من اللّه و محبوبيّتك عنده مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ بأشدّ العذاب، فكيف بغيرك؟ ثمّ بعد نهية عن الشرك و إنذاره و تحذيره عنه، أمره بإنذار أقاربه الأقرب فالأقرب بقوله:

وَ أَنْذِرْ و خوّف من عقاب اللّه على الشّرك و عصيانه عَشِيرَتَكَ و أرحامك اَلْأَقْرَبِينَ منهم فالأقربين، لأنّ الاهتمام بشأنهم أهمّ، فالبدأة بإنذارهم أولى، و لأنّ تأثير كلامه في الأجانب و الأبعدين بعد التشدّد على نفسه، ثمّ على الأقرب فالأقرب منه أشد.

روي أنّه لمّا نزلت [هذه]الآية صعد عليه السّلام الصّفا فنادى الأقرب فالأقرب، و قال: «يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مّناف، يا عباس عمّ محمّد، يا صفية عمّة محمّد، إنّي لا أملك لكم من اللّه شيئا، سلوني من المال ما شئتم» (1).

و في رواية قال: «افتدوا أنفسكم من النار، فانّي لا اغني عنكم من اللّه شيئا (2)، أطيعوني و اعترفوا بتوحيد اللّه و رسالتي تنجوا من العذاب، و سلوني من المال ما شئتم.

و في رواية: [أنه]جمع بني عبد المطلب و هم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة و قعب (3)من لبن، و كان الرجل منهم يأكل الجدعة و يشرب العسّ (4)، فأكلوا و شربوا ثمّ قال: «يا بني عبد المطلب، لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقي؟» قالوا: نعم. فقال: «إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» (5).

و روي عن البراء بن عازب (6)أنه لمّا نزلت الآية أرسل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى بني عبد المطلب، فجمعوا في دار عمّه أبي طالب، و كانوا أربعين رجلا، فأمر عليا عليه السّلام أن يطبخ لهم فخذ شاة و مدّا من حنطة فوضع الطعام عندهم، و أتاهم بصاع من لبن، و كان كلّ منهم يأكل جدعا (7)و يشرب عليه عسا من لبن، فلمّا رأوا الطعام الذي أحضره عليّ عليه السّلام عندهم ضحكوا و قالوا: هذا الطعام لا يكفي واحدا منّا! فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «كلوا بسم اللّه» فأكلوا منه عشرة عشرة حتّى شبعوا، فقال: «اشربوا بسم اللّه» فشربوا الصاع من اللبن حتى رووا جميعا، فلما رأوا ذلك المعجز قال أبو لهب: هذا ما سحركم به الرجل فسكت

ص: 550


1- . تفسير الرازي 24:172.
2- . تفسير روح البيان 6:311.
3- . القعب: القدح الضخم الغليظ.
4- . العس: القدح الكبير.
5- . تفسير الرازي 24:173.
6- . في النسخة: عن غارب.
7- . الجذع من الضأن: ما بلغ ثمانية أشهر أو تسعة.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقاموا و ذهبوا، ثمّ دعاهم في يوم آخر، و أحضر لهم مثل ذلك الطعام و الشراب، فأكلوا و شربوا، ثمّ قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: «يا بني عبد المطلب، إنّ اللّه بعثني إلى الخلق كافّة و إليكم خاصة فقال: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ و أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين على الميزان تملكون بهما العرب و العجم، و تنقاد لكم بهما الامم، و تدخلون بهما الجنّة، و تنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و إنّي رسول اللّه، فمن يجيبني إلى هذا الأمر، و يؤازرني إلى القيام به يكن أخي و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي؟» فما أجابه أحد إلاّ عليّ عليه السّلام فانّه قام و قال: «أنا اؤازرك على هذا الأمر» و هو أصغرهم سنا و أحمشهم (1)ساقا، و أمرضهم عينا، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: «اجلس؟»

ثمّ أعاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلامه، فلم يجبه أحد، فقام عليّ عليه السّلام و قال: «أنا أنصرك يا رسول اللّه» فقال: «أجلس يا علي، فانّك أخي و وصيّي و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي» فقام القوم و قالوا لأبي طالب استهزاء: «أطع ابنك فقد أمّر عليك» (2).

و روى العلامة رضى اللّه عنه في (نهج الحق) عن (مسند [أحمد بن]حنبل) : لمّا نزل وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ جمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أهل بيته ثلاثين رجلا، فأكلوا و شربوا [ثلاثا]ثمّ قال لهم: «من يضمن عنّي ديني و مواعيدي، و يكون خليفتي، و يكون معي في الجنّة» فقال عليّ عليه السّلام: «أنا» فقال: «أنت» .

قال رضى اللّه عنه: و رواه الثعلبي في (تفسيره) و زاد: يعيد ثلاث مرات في كلّ مرّة يسكت القوم غير عليّ عليه السّلام» (3).

و قال بعض المحقّقين: إنّ لفظ (ديني) بكسر الدال، لأنّه لم يكن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند وفاته دين (4).

و عن أبي رافع أنّه جمع النبي صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطّلب، و طبخ لهم فخذ شاة، فأكلوا منه و شبعوا كلّهم، ثمّ أعطاهم قدحا من اللّبن فشربوا، ثمّ قال: «إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، و أنتم عشيرتي و رهطي، و إنّ اللّه لم يبعث نبيا إلاّ جعل له من أهله أخا و وزيرا و وارثا و وصيا و خليفة في أهله، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي و وارثي و وزيري و وصيي، و يكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» ثمّ قال: «ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ من غيركم» فاعاد هذا الكلام ثلاثا، فقام عليّ عليه السّلام فبايعه، ثمّ قال: «ادن منّي يا علي» فدنا منه، ففتح فاه فبزق في فمه، و تفل بين كتفيه و بين يديه، فقال

ص: 551


1- . أي أدقّهم.
2- . مجمع البيان 7:322، الطرائف:20/13، تأويل الآيات 1:394/20، بحار الأنوار 38:144/111، و:251/46.
3- . مسند أحمد 1:111، كشف الحق:213/2، تاريخ الطبري 2:319، الكامل في التاريخ 2:63، معالم التنزيل 4: 278، شرح النهج 13:210، كنز العمال 13:131/36419.
4- . كشف المراد:396 «نحوه» .

أبو لهب بئس ما حبوت ابن عمّك أن أجابك فملأت فاه و وجهه بزاقا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ملأته حكمة و علما» (1).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 215 الی 220

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بانذار الأقربين من عشيرته أمره بحسن العشرة و التواضع لعموم أهل الايمان بقوله: وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ و ليّن جانبك و تواضع لِمَنِ اِتَّبَعَكَ و أطاع أوامرك مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بك.

وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ (217) اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (220)عن الصادق عليه السّلام قال: «قد أمر اللّه تعالى أعزّ خلقه و سيد بريّته محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالتواضع، فقال عزّ و جلّ وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و التواضع مزرعة الخشوع (2)و الخشية و الحياء، و إنّهن لا ينبتن إلاّ منها و فيها، و لا يسلم الشرف الحقيقي إلاّ للمتواضع في ذات اللّه تعالى» (3).

ثمّ أمر اللّه بالتبري من العصاة من المؤمنين بقوله: فَإِنْ عَصَوْكَ و خالفوا حكمك فَقُلْ لهم: إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ من المعاصي بلا خوف من كيدهم و ضررهم

وَ تَوَكَّلْ في جميع حالاتك عَلَى اللّه اَلْعَزِيزِ القادر القاهر لأعدائه اَلرَّحِيمِ بأوليائه المتوكّلين عليه بالنصر و التأييد، فينصرهم و يكفيهم شرّ كلّ ذي شرّ.

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بالعلم الكامل بأحواله بقوله: اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ بوظائف النبوة، أو للصلاة بالناس جماعة، أو للتهجّد، أو لأمر من الامور

وَ تَقَلُّبَكَ فِي تصفّح أحوال اَلسّاجِدِينَ و العابدين لتطّلع على أسرارهم.

قيل: لمّا نسخ فرض قيام الليل، طاف عليه السّلام تلك الليلة ببيوت أصحابه، لينظر على ما يبيتون (4)، لحرصه على طاعتهم، فوجدها كبيوت الزنابير، لما سمع منها من دندنتهم (5).

أو المراد نرى تصرّفك فيما بين المأمومين (6)بالركوع و السّجود، كما عن ابن عباس (7)، أو تقلّبك في المؤمنين المصلّين لكفاية امور الدين، أو تقلّبك في أصلاب آبائك المؤمنين، أو النبيّين، كما عن ابن

ص: 552


1- . مجمع البيان 7:323، تأويل الآيات 1:393/19، بحار الأنوار 37:271/41.
2- . زاد في مصباح الشريعة: و الخضوع.
3- . مصباح الشريعة:74، تفسير الصافي 4:54.
4- . في تفسير الرازي: لينظر ما يصنعون.
5- . تفسير الرازي 24:173.
6- . في مجمع البيان: و يرى تصرفك في المصلين.
7- . مجمع البيان 7:323.

عباس أيضا (1).

إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلسَّمِيعُ لأذكارك و أقوالك اَلْعَلِيمُ بضمائرك و نياتك.

عن الباقر عليه السّلام: «الذي يراك حين تقوم في النبوة وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّاجِدِينَ قال: أصلاب النبيّين» (2).

و عنهما عليهما السّلام قالا: «في أصلاب النبيين نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا ترفعوا قبلي-يعني رؤوسكم (4)-فإنّي أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي، ثمّ تلا هذه الآية» (5).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 221 الی 223

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم قدرة الشياطين على إنزال القرآن، بيّن أنّهم لا ينزلون على النبيّ الذي هو عدوّهم و مخالفهم، بل ينزلون على أوليائهم و أتباعهم بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم أيّها المشركون عَلى مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّياطِينُ اعلموا أنّه

تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ و كذّاب أَثِيمٍ دائم العصيان،

فانّهم يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ إلى الشياطين فيتلقّون منهم ما يوحون إليهم، أو المراد أنّهم يلقون المسموع من الشياطين إلى النّاس وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ في ما يخبرون عن الشياطين، مفترون عليهم ما لم يوحوا إليهم و لم يسمعوا منهم، و امّا القليل منهم يكتفون بذكر ما سمعوا بلا زيادة عليه، و إن كانوا في سائر أخبارهم كاذبين.

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)و قيل: إنّ المراد بالقليل سطيح و شقّ و سواد بن قارب الذين كانوا يخبرون بالنبيّ و يصدّقونه (6)و يشهدون بنبوته، و يدعون الناس إليه (7).

و قيل: إنّ المراد من أكثرهم أكثر أقاويلهم لا أشخاصهم، فيطابق الأفّاكين (8).

و قيل: إنّ المراد من أكثرهم كلّهم (9).

ص: 553


1- . متشابه القرآن و مختلفه لابن شهر آشوب 2:64.
2- . تفسير القمي 2:125، تفسير الصافي 4:54.
3- . مجمع البيان 7:324، تفسير الصافي 4:54.
4- . في مجمع البيان و تفسير الصافي: قبلي، و لا تضعوا قبلي.
5- . مجمع البيان 7:324، تفسير الصافي 4:54.
6- . في تفسير روح البيان: كانوا يلهجون بذكر رسول اللّه و تصديقه.
7- . تفسير روح البيان 6:314.
8- . تفسير روح البيان 6:314.
9- . تفسير روح البيان 6:314.

و حاصل المراد أنّ الأفّاكين يلقون آذانهم إلى الشياطين فيتلقّون منهم أوهاما لنقص عقولهم، فيضمّون إليها بحسب تخيّلاتهم الباطلة خرافات لا يطابق أكثرها الواقع، فأين حال هؤلاء من محمّد الصادق الذي لم يصدر منه كذب في ما أخبر به من المغيّبات و غيرها.

و قيل: إنّ المعنى أنّ الشياطين يلقون السمع إلى الملأ الأعلى فيختطفون من الملائكة بعض ما يتكلّمون به من المغيّبات، ثمّ يوحون به إلى أوليائهم، و أكثرهم كاذبون في ما يوحون به إليهم، لأنّهم لم يسمعوا من الملائكة جميع ما يوحون إلى أوليائهم (1).

أو المراد أنّهم يلقون السمع، أي المسموع من الملائكة إلى أوليائهم (2).

عن الباقر عليه السّلام: «ليس من يوم و لا ليلة إلاّ و جميع الجنّ و الشياطين تزور أئمّة الضلال و يزور عددهم من الملائكة أئمّة الهدى، حتى إذا أتت ليلة القدر، فيهبط فيها من الملائكة إلى وليّ الأمر عدد خلق اللّه، و قد قيّض اللّه عزّ و جلّ من الشياطين بعددهم، ثمّ زاروا وليّ الضلالة (1)فأتوه بالإفك و الكذب حتى يصبح ليلة (2)فيقول: رأيت كذا و كذا، فلو سأل وليّ الأمر عن ذلك لقال: رأيت شيطانا أخبرك بكذا و كذا حتى يفسّر له تفسيرا، و يعلّمه الضلالة التي هو عليها» (3).

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «هم سبعة: المغيرة، و بنان، و صائد، و حمزة بن عمارة البريري، و الحارث الشامي، و عبد اللّه بن الحارث، و أبو الخطاب» (4).

سوره 26 (الشعراء): آیه شماره 224 الی 227

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الفرق بين الكاهن و النبي في جواب القائلين بنزول القرآن على محمّد صلّى اللّه عليه و آله بتوسّط الشياطين كنزول الكهانة على الكهنة، أجاب سبحانه القائلين بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله شاعر من الشعراء ببيان الفرق بين النبيّ و الشاعر بقوله: وَ اَلشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغاوُونَ و الضالّون، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله يتبعه الراشدون.

وَ اَلشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّهَ كَثِيراً وَ اِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)روي أنّ شعراء العرب (5)كابن الزّبعرى، و أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، و هبيرة بن أبي

ص: 554


1- . في النسخة: أئمة الضلال.
2- . في الكافي و تفسير الصافي: حتى لعله يصبح.
3- . الكافي 1:197/9، تفسير الصافي 4:55.
4- . الخصال:402/111، تفسير الصافي 4:55.
5- . في مجمع البيان و جوامع الجامع: المشركين.

وهب المخزومي، و مسافع بن عبد مناف الجمحي، و أبو عزّة عمرو (1)بن عبد اللّه، كلّموا امية ابن أبي الصلت الثقفي بكذب و بطلان (2)و قالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد، فقال الشعراء أشعارا في هجو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذمّ الاسلام، فاجتمع عليهم غواة قريش، و سمعوا أشعارهم و حفظوها، و كانوا ينشدونها فنزلت (3).

و قيل: إنّه كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شاعران تخاصما، فهجا كلّ منهما الآخر، كان أحدهما من الأنصار و الآخر من غيرهم، و كان مع كلّ منهما جمع يعاونوه فنزلت (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المراد بالشعراء الكفّار الذين هجوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنشدوا أشعارهم، فاتبعهم جمع من الكفّار حين ينشدونها» (5).

و عن ابن عباس: اريد بالشعراء الشياطين، فانّ العرب كانوا يقولون: الشعراء تبعة الشياطين (6).

و عن الباقر عليه السّلام-في هذه الآية-: «هل رأيت شاعرا يتّبعه أحد؟ إنّما هم قوم تفقّهوا لغير اللّه فضلّوا و أضلّوا» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «هم قوم تعلّموا و تفقهوا بغير علم فضلّوا و أضلّوا» (8).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «هم القصّاص» (9).

و قيل: إنّ المراد بالشعراء في الآية الذين شغلهم الشعر عن القرآن و السنّة (10).

و قيل: إنّهم الذين إذا غضبوا شتموا، و إذا قالوا شعرا كان شعرهم الكذب و البهتان و مدح الناس بما ليس فيهم بقصد الصلة و الجائزة أو لحميّة الجاهلية» (11).

ثمّ بيّن سبحانه غاية غوايتهم بقوله: أَ لَمْ تَرَ أيّها العاقل أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ و مسلك في فنّ الكلام من المدح و الذّمّ و الجدل و الغزل و الحماسة و غيرها يَهِيمُونَ و يذهبون على وجوههم إلى سبيل غير معين كالمتحيّر، أو المراد أنّهم يتحيّرون في أودية المقال و الوهم و الخيال و الغي و الضّلال كالبهائم الضالة، حيث إنهم يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، و يعظّمونه بعد أن استحقروه و بالعكس.

القمي: يناظرون بالأباطيل، و يجادلون بحجج المضلّين (10)، و في كلّ مذهب يذهبون (11).

ص: 555


1- . في النسخة: أبو غرة عمر.
2- . في مجمع البيان: تكلموا بالكذب و الباطل.
3- . مجمع البيان 7:325، جوامع الجامع:334.
4- . الدر المنثور 6:333، تفسير روح المعاني 19:146.
5- . مجمع البيان 7:325 عن ابن عباس.
6- . تفسير أبي السعود 6:270، جوامع الجامع:334.
7- . معاني الأخبار:385/19، تفسير الصافي 4:55.
8- . مجمع البيان 7:325، تفسير الصافي 4:55.
9- . اعتقادات الصدوق:109، تفسير الصافي 4:55. (10 و 11) . مجمع البيان 7:325.
10- . في المصدر: بالحجج المضلة.
11- . تفسير القمي 2:125، تفسير الصافي 4:56.

وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ بأن يعظوا الناس و لا يتّعظون، و ينهون عن المنكر و هم لا ينتهون، و يرغبون الناس في الأخلاق الحميدة و لا يتخلّقون بها، و في الأعمال الخيرية و لا يعملون بها، بخلاف محمد صلّى اللّه عليه و آله فإنّه من أوّل أمره إلى آخره على طريقة واحدة، و هي الدعوة إلى اللّه، و الترغيب في الآخرة، و التزهيد عن الدنيا، و بدأ في جميع ذلك بنفسه حيث قال في كتابه: فَلا تَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ (1)ثمّ بالأقربين منه حيث قال: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (2)و كلّ ذلك مخالف لطريقة الشعراء، فعلم أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بشاعر.

و الحاصل أنّه لمّا نسب المشركون القرآن العظيم من حيث الإخبار بالمغيبات إلى الكهانة و قالوا: إنّما تنزّلت به الشياطين، و من حيث فصاحة الكلام و بلاغته إلى الشعر و قالوا: إنّ محمّدا شاعر، ردّ اللّه الخرافتين ببيان منافاة الكهانة و الشاعرية لحال الرسول العاقل الكامل الصادق التارك للهوى و الدنيا.

ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت الآيات الذامّة للشعراء قال حسان بن ثابت و ابن رواحة و جمع من شعراء الصحابة: يا رسول اللّه، إنّ اللّه يعلم أنّا شعراء، و نخاف أن نموت على هذه الصفة، و نحسب من أهل الغواية و الضّلالة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ المؤمن مجاهد بسيفه و لسانه» فنزلت (3).

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ التي منها مدح النبيّ و دين الاسلام و هجو الكفّار و نصرة الرسول وَ ذَكَرُوا اَللّهَ بأشعارهم ذكرا كَثِيراً بأن كانت في إثبات التوحيد، و بيان المعارف، و صفات النبي صلّى اللّه عليه و آله و مدحه و مدح المعصومين من آله و ترغيب الناس في الاسلام و زجرهم عن الكفر و العصيان، و التزهيد في الدنيا و الترغيب في الآخرة و الحكمة و الموعظة و نظائرها وَ اِنْتَصَرُوا و انتقموا من الكفّار بهجوهم مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من قبلهم بالهجو و الإيذاء.

روي أنه لمّا هجا المشركون النبي صلّى اللّه عليه و آله قالت الصحابة: ما منع المؤمنين الذين ينصرون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم، فقال حسان و ابن رواحة: يا رسول اللّه، إنّا نكفيهم. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اهجوهم و روح القدس معكم» (4).

و في رواية قال صلّى اللّه عليه و آله لحسان: «اهج المشركين، فانّ جبرئيل معك» (5).

و في رواية عنه صلّى اللّه عليه و آله، أنه قال لحسان: «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من [رشق] النبل» (6).

ص: 556


1- . الشعراء:26/213.
2- . الشعراء:26/214.
3- . مجمع البيان 7:326، الدر المنثور 6:334، تفسير الصافي 4:57.
4- . مجمع البيان 7:326.
5- . تفسير روح البيان 6:317.
6- . تفسير الرازي 24:176.

و عن الشّعبي أنّه قال: كان أبو بكر يقول الشعر، و كان عمر يقول الشعر، و كان عثمان يقول الشعر، و كان عليّ أشعر الخلفاء (1).

ثمّ هدد اللّه الهاجين للرسول و المؤمنين بقوله: وَ سَيَعْلَمُ البتة الكفار اَلَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بهجو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، أو عليهم بهجوهم و إيذائهم أَيَّ مُنْقَلَبٍ و مرجع، أو أي رجوع بعد الموت يَنْقَلِبُونَ و يرجعون، و لا يخفى أنّ في هذا الإيهام تهويلا عظيما و دلالة على أنّ مكانهم في جهنّم أسوأ الأمكنة، و عذابهم فيها أشدّ العذاب.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ (2)الطواسين (3)في ليلة الجمعة، كان من أولياء اللّه و في جواره و كنفه (4)، و لم يصبه في الدنيا بؤس أبدا، و أعطي في الآخرة من [الأجر]الجنّة حتى يرضى و فوق الرضا (5)، و زوّجه اللّه مائة زوجة (6)من الحور العين» (7).

نسأل اللّه التوفيق لتلاوتها، و نشكره على التوفيق لإتمام تفسير السورة المباركة.

ص: 557


1- . مجمع البيان 7:326، و فيه: أشعر من الثلاثة.
2- . زاد في ثواب الاعمال: سورة، و في تفسير الصافي: سور.
3- . زاد في مجمع البيان و تفسير الصافي: الثلاث، و في ثواب الأعمال: الثلاثة.
4- . زاد في مجمع البيان: و أسكنه اللّه في جنّة عدن وسط الجنّة مع النبيين و المرسلين و الوصيين الراشدين.
5- . في ثواب الأعمال و مجمع البيان و تفسير الصافي: رضاه.
6- . في مجمع البيان: حوراء.
7- . ثواب الأعمال:109، مجمع البيان 7:286، تفسير الصافي 4:57.

ص: 558

في تفسير سورة النمل

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 27 (النمل): آیه شماره 1 الی 3

لمّا ختم سبحانه سورة الشعراء بدفع نسبة الكهانة و الشعر عن القرآن العظيم، و مدح المؤمنين به، و تهديد الظالمين الهاجين له و للرسول و المؤمنين، أردفها في النّظم بسورة النمل المفتتحة و المختتمة بمدح القرآن و تعظيمه، و بيان فوائده المهمة و فضله، المتضمنة لكثير من المطالب التي تضمّنتها السورة السابقة من بيان كيفية بعثة موسى عليه السّلام و دعوته لفرعون، و إظهاره المعجزات الباهرات، و قصة صالح و لوط، و بيان التوحيد و المعاد و غيرها، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة من قوله: طس لما مرّ في بعض الطرائف من النّكت (1)و قيل: معناه الطاهر السنيّ، و أنا اللطيف السميع (2).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)عن الصادق عليه السّلام: «أنا الطالب السميع» (3).

و عن ابن عباس: أنّه اسم من أسماء اللّه أقسم به (4)على أن تِلْكَ السورة أو الآيات التي فيها آياتُ اَلْقُرْآنِ الذي بشّر به الأنبياء السابقون، و عرف بعظم القدر و علوّ الشأن وَ آيات كِتابٍ لا يشابهه كتاب مُبِينٍ و مظهر ما في تضاعيفه من المعارف و الحكم و الأحكام و العبر و بيان أحوال الآخرة، أو ظاهر إعجازه و صدقه لكلّ أحد.

ثمّ بالغ سبحانه في اتّصافه بكونه هاديا و مبشّرا بقوله: هُدىً بالبراهين إلى الحقّ و جميع الخيرات وَ بُشْرى برحمة اللّه و رضوانه لِلْمُؤْمِنِينَ به فانّهم المنتفعون بما فيه و هم

اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ حقّ الإقامة وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ الواجبة، و يؤتونها لمستحقّيها، و يصرفونها في

ص: 559


1- . راجع: الطرفة (18) من مقدمة المؤلف.
2- . تفسير الصافي 4:58، تفسير روح البيان 6:318.
3- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 4:58.
4- . مجمع البيان 7:288.

مصارفها وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و دار جزاء الأعمال هُمْ يُوقِنُونَ حقّ الإيقان، و لذا يجتهدون في الطاعات البدنية التي أهمّها الصلاة، و العبادات المالية التي أهمّها الزكاة رجاء الثواب و خوفا من العقاب، و إنّما أتى بضمير الجمع للاشارة إلى اختصاصهم بهذا اليقين و وصفهم بهذا الوصف لإخراج من يظهر الإيمان و يعمل تلك الأعمال مع الشكّ احتياطا.

و قيل: إنّ الجملة (1)اعتراضية، و المعنى أن المؤمنين العاملين هم الموقنون بالمعاد (2).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 4 الی 6

ثمّ أنّه تعالى لمّا خصّ البشرى بالمؤمنين الموقنين بالآخرة، ذمّ الكفّار و ذكر ما خصّ بهم من العذاب الشديد بقوله إِنَّ الكفّار اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ الحسنة ببيان كثرة ثوابها و ترغيبهم إليها، أو أعمالهم القبيحة بأن جعلناها مشتهاة لطباعهم محبوبة لأنفسهم، أو بأن سلبنا عنهم التوفيق للأعمال الخيرية الموجبة لسلطنة الشيطان عليهم، و ترغيبه لهم، و تزيينه الأعمال السيئة في نظرهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ عنها و لا يدركون ما يتبعها من الثواب على الوجه الأول، أو من العقاب على الوجه الثاني، أو المراد يتردّدون في الاشتغال بالقبائح و الانهماك فيها من غير ملاحظة لما يترتّب عليها من الضّرر و العقوبة.

إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذابِ وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

أُوْلئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذابِ و شديده في الدنيا، أو في الآخرة وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ و الأغبنون لتضييعهم العمر و العقل اللذين هما بمنزلة رأس المال، و تفويتهم المثوبات العظيمة، و تحصيلهم العقوبات الشديدة، فلا يعدلهم خاسر.

ثمّ أنّه تعالى بعد تعظيم القرآن و بيان فوائده و كثرة علومه، صرّح بكونه نازلا منه بقوله: وَ إِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى و لتعطى اَلْقُرْآنَ و تأخذه بتوسّط جبرئيل مِنْ لَدُنْ إله حَكِيمٍ أيّ حكيم و عَلِيمٍ أيّ عليم! فبحكمته بيّن فيه المعارف و الأحكام، و بعلمه ذكر فيه القصص و العبر الكثيرة.

قيل: إنّ هذا تمهيد لما يريد أن يسوق بعده من القصص، فكأنه تعالى قال: خذ من آثار حكمته و علمه قصّة موسى عليه السّلام المشتملة على العلوم النظرية من توحيده و قدرته و سائر صفاته الكمالية (3).

ص: 560


1- . في النسخة: الجملتين.
2- . تفسير الرازي 24:78، تفسير البيضاوي 2:170، تفسير روح البيان 6:319.
3- . تفسير الرازي 24:180.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ شرع سبحانه في بيان قصة موسى عليه السّلام بقوله: إِذْ قالَ و التقدير اذكر يا محمّد إذ قال. و قيل: إنّ كلمة (إذ) متعلّقة بعليم (1). و المعنى عليم بمقال موسى عليه السّلام إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ و زوجته بنت شعيب و أولاده حين رجوعه من مدين إلى مصر. و قد ضلّوا الطريق في الليلة المظلمة الباردة: يا أهلي، قفوا مكانكم إِنِّي آنَسْتُ و أبصرت من البعيد ناراً مشتعلة اريد أن أذهب إليها، و لا يخلو ذهابي من أحد الأمرين: إما سَآتِيكُمْ مِنْها و من الذين حولها بِخَبَرٍ عن حال الطريق أَوْ آتِيكُمْ منها بِشِهابٍ قَبَسٍ و شعلة مأخوذة من تلك النار، إن لم أجد عندها أحدا لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ و تدفعون بحرّها عن أنفسكم البرد، و إنما وعدهم بأحد الأمرين لقوّة رجائه بأنّه إن لم يظفر بكليهما يظفر بأحدهما، لأنّه لا يجمع اللّه بين الحرمانين على عبده.

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (8)قيل: لم يكن معه إلاّ زوجته، فكنّى سبحانه عنها بالأهل، ثمّ أتى بضمائر الجمع تبعا له (2).

و قيل: لمّا أقام زوجته عند جماعة كانوا هناك لتأنس بهم، خاطبهم بضمائر الجمع.

و على أي تقدير خلّف أهله و ذهب إلى النار فَلَمّا جاءَها و قرب منها رأى شجرة مخضرة عليها نار لا تحرقها و لا تحرق أوراقها، فعجب من ذلك ثمّ همّ أن يأخذ منها، فلمّا رفع عصاه إلى رأس الشجرة نزلت إلى أصلها، فلمّا أراد أن يأخذ من أصلها علت على الشجرة، فبقي متفكّرا في أمرها، فإذن نُودِيَ من الشجرة. و قيل له بصوت عال: أَنْ بُورِكَ و كثر خير مَنْ فِي البقعة المباركة التي هي مكان اَلنّارِ التي على الشجرة وَ مَنْ حَوْلَها من أراضي الشام التي هي مبعث أنبياء اللّه و محلّ أحيائهم و أمواتهم و مهبط الوحي إليهم (3).

عن ابن عباس: المعنى تبارك من في النور و هو اللّه، و من حولها يعني الملائكة (4).

أقول: لا بدّ من حمل كلامه على إرادة أنّ كلامه تعالى أو قدرته أو سلطانه أو عظمته في النّار، و قيل: إنّ المراد ممّن في النار، هو موسى عليه السّلام وحده (5). أو هو و جميع من كان في تلك البقعة، و من قوله

ص: 561


1- . تفسير البيضاوي 2:171.
2- . تفسير الرازي 24:181.
3- . تفسير أبي السعود 6:273 و 274، تفسير روح البيان 6:321.
4- . تفسير الرازي 24:182.
5- . تفسير الرازي 24:182، تفسير أبي السعود 6:374.

وَ مَنْ حَوْلَها كلّ من كان في أرض الشام (1).

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن الحاجة إلى المكان و العوارض الامكانية بقوله: وَ سُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ دفعا لتوهّم التشبيه من سماع كلامه، أو تعجيبا من عظمة ذلك الأمر.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 9 الی 11

ثم أعلم أنّ في ابتداء خطاب اللّه لموسى عليه السّلام عند مجيئه بشارة له بأنّه قد قضي له أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشام، و هو رسالته و ظهور معجزاته، و في تنزيه ذاته و توصيفه بالربوبية تمهيد مقدمة لصحّة رسالة موسى، و أنّها من شؤون ربوبيته للعوالم، و من جلائل الامور و عظائم الوقائع.

يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اَللّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (9) وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ (10) إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)ثمّ أنّه روي أن موسى عليه السّلام لمّا سمع النداء قال: من المنادي؟ فناداه اللّه ثانيا بقوله: يا مُوسى إِنَّهُ الشأن أو المنادى أَنَا اَللّهُ ثمّ عرف نفسه بقوله: اَلْعَزِيزُ القويّ القادر على ما لا تناله الأوهام و العقول من خوارق العادات اَلْحَكِيمُ في فعاله.

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف ذاته بالوصفين تمهيدا لاظهار إرادة إيجاد المعجز على يديه قال له: وَ أَلْقِ من يدك عَصاكَ فألقاها بلا ريث فانقلبت حية عظيمة تسعى فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ و تتحرّك بسرعة كَأَنَّها جَانٌّ أو حية صغيرة في سرعة الحركة و الالتواء وَلّى منه مُدْبِراً و فرّ معقّبا وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يرجع إليه بعد ما فرّ منه. قيل: كان عند فرعون ثعبان و في الطّور جان (2)، فنودي يا مُوسى ثق بي و لا تَخَفْ من غيري إِنِّي إله لا يَخافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ قيل: يعني حين نزول الوحي لاستغراقهم في مطالعة شؤون اللّه، فانّهم حينئذ لا يخطر ببالهم الخوف، و أما في سائر الاوقات هم أخوف الناس منه تعالى (3).

أو المراد أنه لا يكون لهم سوء العاقبة فيخافون منه (4)، و إنما يخاف غيرهم من الظالمين إِلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم نفسه بارتكاب عمل سوء و ترك الاولى ثُمَّ بَدَّلَ و صيّر عمله حُسْناً بالتوبة و التدارك بَعْدَ كونه عمل سُوءٍ و عصيان في حقّه، فانّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين فَإِنِّي بعد التوبة و التدارك غَفُورٌ للتائبين رَحِيمٌ بالمؤمنين.

ص: 562


1- . تفسير أبي السعود 6:374.
2- . تفسير أبي السعود 6:274، تفسير روح البيان 6:322. (3 و 4) . تفسير أبي السعود 6:274، تفسير روح البيان 6:323.

و قيل: إن الاستثناء منقطع، و المعنى و لكن من ظلم نفسه من المرسلين بارتكاب ما هو ذنب بالنسبة إليه من الترك للأولى، كآدم الذي قال: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا (1)و داود، و سليمان، و موسى حيث قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي (2)و إنّما حسن هذا الاستثناء للتعريض بما وجد من موسى عليه السّلام من قتل القبطي بغير إذن من اللّه، أو للاعلان بسعة رحمته للمذنبين.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ أراه المعجزة الاخرى بقوله: وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ قيل: لم يقل في كمّك؛ لأنّه كان عليه جبّة صغيرة من صوف لا كمّ لها، كان يلبسها بدل القميص (3)، فامر بإدخال يده فيها، ثمّ كأنه قال: فان أدخلت يدك فيها تَخْرُجْ منها حال كونها بَيْضاءَ براقة لها شعاع كشعاع الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ و آفة فيها من برص و نحوه.

وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (14)عن الصادق عليه السّلام قال: «من غير برص» (4).

فهذان الآيتان فِي جملة تِسْعِ آياتٍ التي أعطيكها، و قيل: إنّ كلمة (في) بمعنى (مع) (5)و المعنى: اذهب مع تسع آيات معهودة من العصا، و اليد البيضاء، و الجدب، و الطّوفان، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و الطّمس إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ القبطيين داعيا لهم إلى توحيدي و طاعتي إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن الحدّ في الكفر و الطّغيان.

ثمّ بيّن سبحانه كثرة شقاوتهم بقوله: فَلَمّا جاءَتْهُمْ توسّط موسى عليه السّلام آياتُنا التسع حال كونها مُبْصِرَةً مستنيرة واضحة الدلالة مفرطة في الإنارة و وضوح الدلالة بحيث كادت أن تبصر نفسها لو كانت قابلة للإبصار قالُوا عنادا و شقاقا: هذا الذي جاء به موسى سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة لكلّ أحد

وَ جَحَدُوا بِها و أنكروا كونها آيات إلهية و معجزات باهرة بألسنتهم وَ الحال أنّه قد اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ و عرفوا إعجازها بقلوبهم، و إنما كان جحودهم بها

ص: 563


1- . الأعراف:7/23.
2- . تفسير روح البيان 6:323، و الآية من سورة القصص:28/16.
3- . تفسير روح البيان 6:324.
4- . معاني الأخبار:173/1، تفسير الصافي 4:59.
5- . مجمع البيان 7:332.

ظُلْماً على أنفسهم وَ عُلُوًّا و طلبا للرفعة بين الناس، أو استكبارا من الايمان بموسى عليه السّلام.

قيل: كان ظهور استيقانهم من استغاثتهم بموسى عليه السّلام عند نزول كلّ آية في كشفها فكشفها عنهم (1).

فَانْظُرْ يا نبي الرحمة، أو أيّها الناظر العاقل كَيْفَ كانَ و إلى ما صار عاقِبَةُ أمر اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض، و ما كان نتيجة إفسادهم، كان إغراقهم في الدنيا في الماء، و إحراقهم في الآخرة بالنار.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضّله على موسى عليه السّلام بإعطائه الآيات التسع، و تخصيصه بمناجاته معه، ذكر تفضّله على داود و سليمان بالعلم بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً شريفا عزيزا لائقا بهما، و هي معرفة كاملة بربّهما و بحقائق الأشياء و بالأحكام الشرعية، فشكرا ذلك وَ قالاَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ الذين هم أفضل مخلوقاته.

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ (15)أقول: فيه دلالة واضحة على كون العلم أفضل الكمالات الدنيوية و الاخروية.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 16

ثمّ شرع سبحانه في بيان ما خصّ به سليمان من الفضائل و النّعم بقوله: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ أباه داوُدَ ماله و ملكه و نبوّته. و قال بعض مفسري العامة: المراد إرث المال (2). و عن بعضهم: إرث الملك و السياسة (3). و عن الحسن و كثير منهم: إرث المال و الملك، و هو مروي عن أهل البيت عليهم السّلام (2)، و لا يردّه الحديث الموضوع «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» كما زعمه الفخر الرازي (3)و غيره من العامة (4)، بل تردّ الآية الرواية المذكورة، لكونها مخالفة لكتاب اللّه، كما استدلّت فاطمة عليها السّلام على بطلان الرواية بهذه الآية و نظائرها (5). نعم يمكن إرادة المال و الملك و النبوّة كما فسرّناها أولا بطريق عموم المجاز.

وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ (16)

ص: 564


1- . تفسير روح البيان 6:324. (2 و 3) . تفسير الرازي 24:186.
2- . مجمع البيان 7:334.
3- . تفسير الرازي 24:186.
4- . تفسير القرطبي 13:164.
5- . راجع: بلاغات النساء:26، الطرائف:265، كشف الغمة 1:488، الاحتجاج:102.

و يؤيده ما روي عن الجواد عليه السّلام من أنّه قيل له: إنّهم يقولون في حداثة سنّك؟ فقال: «إنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان عليهما السّلام و هو صبي يرعى الغنم، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل و علمائهم، فأوحى اللّه إلى داود عليه السّلام أن خذ عصيّ المتكلّمين و عصا سليمان و اجعلها في بيت و اختم عليها بخواتيم القوم، فاذا كان من الغد فمن كانت عصاه قد أورقت و أثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود عليه السّلام فقالوا: قد رضينا و سلّمنا» الخبر (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني الملك و النبوّة» (2)و على أي تقدير جلس سليمان بعد أبيه على سرير الملك وَ قالَ تحديثا بنعمة اللّه و فضله عليه و دعوة إلى تصديق نبوته يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اعلموا أنّا عُلِّمْنا من قبل اللّه و الهمنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ و فهم مراداتهم من أصواتهم التي يصوّتون بها لتفهيم أغراضهم.

ثم بعد حديثه بنعمة علمه بمنطق الطير حدّث بعلمه لمنطق الحيوانات و سائر ما تفضل اللّه عليه بقوله: وَ أُوتِينا و اعطينا حظّا وافرا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كالملك و النبوّة و الكتاب و تسخير الرياح و الجنّ و الشياطين و منطق الدوابّ و عين القطر (3)و الصّفر و غير ذلك إِنَّ هذا المذكور من العلوم و النّعم لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ و العطاء الجسيم و المزيّة الظاهرة التي لا يشاركنا فيها أحد.

قيل: اعطي سليمان جميع ما اعطي داود، و زيد له تسخير الجنّ و الريح و منطق (4)الطير، و لمّا تولّى الملك جاءه جميع الحيوانات يهنّئونه إلاّ نملة واحدة، فجاءت تعزّية فعاتبها النمل في ذلك، فقالت: كيف اهنّئه و قد علمت أنّ اللّه إذا أحبّ عبدا زوى عنه الدنيا و حبّب إليه الآخرة، و قد شغل سليمان بأمر لا يدرى [ما]عاقبته، فهو بالتعزية أولى» (5).

عن الصادق عليه السّلام: «اعطي سليمان بن داود مع علمه معرفة المنطق بكلّ لسان (6)، و منطق الطير و البهائم و السّباع، و كان إذا شاهد الحروب تكلّم بالفارسية، و إذا قعد لعماله و جنوده و أهل مملكته تكلّم بالرومية، و إذا خلا بنسائه تكلّم بالسريانية و النبطية، و إذا قام في محرابه لمناجاة ربه تكلّم بالعربية، و إذا جلس للوفود و الخصماء تكلّم بالعبرانية» (7).

أقول: الحقّ أنه عليه السّلام كان يتكلّم مع أهل كلّ لسان بلسانهم، و إنّما أتى في كلامه بنون الواحد المطاع لقضاء صلاح الملك إظهار عظمته و نفوذ سلطانه.

ص: 565


1- . الكافي 1:314/3، تفسير الصافي 4:60.
2- . جوامع الجامع:335، تفسير الصافي 4:60.
3- . القطر: النحاس.
4- . في تفسير روح البيان: و فهم نطق.
5- . تفسير روح البيان 6:331.
6- . زاد في تفسيري القمي و الصافي: و معرفة اللغات.
7- . تفسير القمي 2:129، تفسير الصافي 4:60.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 17 الی 20

ثمّ حكى سبحانه عظمة ملكه بقوله: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ و جمع من أطراف مملكته عسكره مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ و احضروا عنده فَهُمْ يُوزَعُونَ و يكفّون عن الخروج عن طاعته و يحبسون عليها، أو يمنعون من تقدّم بعض على بعض ليكون سيره على ترتيب واحد، أو يوقفون في مكان واحد و يمنعون عن التفرّق.

وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ اَلنَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ اَلصّالِحِينَ (19) وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى اَلْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ اَلْغائِبِينَ (20)روي أنّ معسكره كان مائة فرسخ في مائه، خمسة و عشرون منه للإنس، و خمسة و عشرون للجنّ، و خمسة و عشرون للطير، و خمسة و عشرون للوحش، و قد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب و إبريسم فرسخا في فرسخ، و كان يوضع منبره في وسطه، و هو من الذهب فيقعد عليه، و حوله ستمائة ألف كرسيّ من ذهب و فضّة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، و العلماء على كراسي الفضة، و حولهم الناس، و حول الناس الجنّ و الشياطين، و تظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، و ترفع الريح (1)البساط فتسير به مسيرة شهر (2)،

فسار سليمان عليه السّلام و جنوده يوما على البساط حَتّى إِذا أَتَوْا و أشرفوا عَلى وادِ اَلنَّمْلِ أو بلغوا آخره. قيل: هو بالشام (3). و قيل: بالطائف كثير النّمل (4).

عن الصادق عليه السّلام: «أن للّه واديا ينبت الذهب و الفضّة، و قد حماه اللّه بأضعف خلقه و هو النمل، لو رامته البخاتي (3)ما قدرت عليه» (4).

ثمّ قيل: إنّهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي و منتهاه (5)، إذن قالَتْ نَمْلَةٌ حين ما رأتهم متوجّهين إليهم، قاصدين للنزول قريبا منهم: يا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لأجل أن لا يَحْطِمَنَّكُمْ و لا يقتلنّكم بأرجلهم سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ إذا نزلوا بواديكم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّهم

ص: 566


1- . في تفسير روح البيان: و ترفع ريح الصبا.
2- . تفسير روح البيان 6:332. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:333.
3- . زاد في تفسير القمي: من الإبل، و البخاتيّ، جمع بختي: و هي الإبل الخراسانية.
4- . تفسير القمي 2:126، تفسير الصافي 4:62.
5- . تفسير الرازي 24:187، تفسير روح البيان 6:333.

يحطمونكم. و قيل: يعني لا يحطمنّكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ (1).

قيل: إنّها كانت نملة عرجاء في عظم الدّيك، أو النّعجة، أو الذئب، لها جناحان، و كانت ملكة النّمل، و كان اسمها منذرة أو طاخية أو جرمي، سميّت بهذا الاسم في التوراة، أو الانجيل، أو في بعض الكتب السماوية (2)، سمّاها اللّه تعالى بهذا الاسم و عرفها به الأنبياء قبل سليمان (3).

روي أنّ سليمان يأمر الريح العاصف بحمله (4)، و يأمر الرّخاء بسيره (5)، فأوحى اللّه تعالى إليه و هو يسير بين السماء و الأرض: أنّي قد زدت في ملكك أن لا يتكلم بشيء إلاّ ألقته الريح في سمعك فألقت الريح كلام النّملة في سمع سليمان من ثلاثة أميال (6)فَتَبَسَّمَ سليمان حال كونه ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها متعجبا من حذرها و تحذيرها و اهتدائها إلى مصالح بني نوعها.

روي أنّه عليه السّلام لمّا سمع قول النملة قال: ائتوني بها، فأتوا بها، فقال لها: أما علمت أن جندي لا يظلمون؟ قالت: بلى، و لكن لمّا كنت أميرهم كان عليّ نصحهم. فقال سليمان: إنّ جندي كانوا يسيرون في الهواء، فكيف كانوا يحطمونكم؟ قالت: ما أردت حطمهم في الأرض، بل أردت أن لا ينظروا إلى سلطانك و حشمتك، فيشغلهم ذلك عن ذكر اللّه، فيحطمهم الخذلان فتقبل قلوبهم إلى الدنيا، و الدنيا مبغوضة عند اللّه. فقال سليمان: صدقت. فقالت: أعلمت لم سمّي أبوك داود؟ قال: لا قالت: لأنّه داوى جراحة قلبه بالودّ، و هل تدري لم سمّيت سليمان؟ قال: لا. قالت: لأنك سليم الصدر و القلب (7).

و عن الرضا عليه السّلام، أنّه قال: «قالت النملة: يا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ الآية، حملت الريح صوت النملة إلى سليمان عليه السّلام، و هو (8)[مارّ]في الهواء، و الريح قد حملته، فوقف و قال: عليّ بالنملة، فلمّا اتي بها قال سليمان: [يا]أيّتها النملة، أما علمت أنّي نبيّ اللّه، و أنّي لا أظلم أحدا؟ قالت النملة: بلى. قال سليمان عليه السّلام: فلم تحذرينهم ظلمي و قلت: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم؟ قالت النملة: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيعبدوا غير (9)اللّه عزّ و جلّ.

ثمّ قالت النملة: أنت أكبر أم أبوك داود؟ قال سليمان: [بل]أبي داود. قالت النملة: فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم ابيك؟ قال سليمان: ما لي بهذا علم. قالت النملة: لأنّ أباك

ص: 567


1- . جوامع الجامع:336.
2- . في تفسير روح البيان: الصحف الالهية.
3- . تفسير روح البيان 6:333.
4- . في تفسير روح البيان: تحمله.
5- . في تفسير روح البيان: تسيره.
6- . تفسير روح البيان 6:332.
7- . تفسير روح البيان 6:334.
8- . زاد في عيون أخبار الرضا عليه السّلام، و تفسير الصافي: مارّ.
9- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: فيبعدون عن ذكر.

داوي جرحه بودّ فسمّي داود، و أنت يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك.

ثمّ قالت النملة: هل تدري لم سخّرت لك الريح (1)؟ قال سليمان: ما لي بهذا علم، قالت النملة: يعني عزّ و جلّ بذلك لو سخرت لك [جميع المملكة كما سخرت لك]هذه الريح لكان زوالها من يدك كزوال الريح. فحينئذ تبسّم ضاحكا من قولها» (2).

و روى أنه عليه السّلام قال لها: كم عدد جندك؟ قالت: إن لي أربعين ألف أمير، تحت كلّ أمير أربعون ألف نقيب، تحت كلّ نقيب أربعون ألف نملة. قال: لم لم تسكني أنت و جندك فوق الأرض؟ قالت: اخترنا تحت الأرض لأن لا يطلّع على حالنا غير اللّه.

ثمّ قالت النملة: يا نبي اللّه أخبرني عن عطية من عطايا ربّك قال: إنّ اللّه سخّر لي الريح، فتحمل بساطي و تسير به إلى أي مكان اريد. قالت: أتدري حكمة ذلك؟ قال: لا. قالت: أراد اللّه أن ينبّهك بأن ملك الدنيا كالريح تجيء سريعا و تذهب سريعا، فمن اعتمد على الدنيا فكأنّما اعتمد على الريح، فعند ذلك ناجى سليمان ربه (3)وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي و أحبسني على أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من العلم و النبوّة و الملك و العدل و فهم منطق الطير و الحشرات و سائر الحيوانات و نحوها وَ عَلى والِدَيَّ داود و تيشائع بنت البائن (4)وَ على أَنْ أَعْمَلَ عملا صالِحاً و حسنا تَرْضاهُ و تقبله منّي إتماما للشكر و استدامة للنعمة وَ أَدْخِلْنِي الجنة بعد ما قبضتني إليك بِرَحْمَتِكَ و فضلك فِي زمرة عِبادِكَ اَلصّالِحِينَ.

عن ابن عباس: أراد من الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و سائر الأنبياء (5).

و قيل: إن المعنى اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، و أكفه و أربطه بحيث لا ينفلت عنّي و لا أنفكّ عنه أصلا (6).

و في الحديث: «النعمة وحشية، قيّدوها بالشّكر» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفّروا أقصاها بقلّة الشكر» انتهى (8).

و إنّما شكر على النعم التي أنعم اللّه بها على والديه، لأنّ النعمة على الوالدين نعمة على الولد، فانّ

ص: 568


1- . زاد في عيون أخبار الرضا عليه السّلام و تفسير الصافي: من بين سائر المملكة.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:78/8، تفسير الصافي 4:62.
3- . تفسير روح البيان 6:334.
4- . في تفسير روح البيان 6: (335: بتشايع بنت اليائن.
5- . مجمع البيان 7:336.
6- . تفسير البيضاوي 2:173، تفسير أبي السعود 6:279، تفسير روح البيان 6:335. (7 و 8) . تفسير روح البيان 6:335.

شرافة الوالدين موجبة لشرافة الولد، لكونه فرعا للأصل الكريم، و أمّا النّعم التي أنعم اللّه بها على داود فهي النبوة، و الملك، و خلافة اللّه في الأرض، و تسبيح الجبال و الطير معه، و حسن الصوت، و إلانة الحديد في يده، و تعليمه صنعة اللبوس، و إنزال الزّبور عليه، و أمّا النعمة على والدته فهي تزويجها من داود بعد أن كانت زوج أوريا، و إسلامها، و تزكيتها، و طهارتها.

ثمّ قيل: إنّ سليمان كان إذا قعد على الكرسي جاءت جميع الطيور التي سخّرها اللّه له فتظلّ الكرسيّ و البساط و جميع من عليه من حرّ الشمس (1).

قيل: إنّه عليه السّلام قعد يوما على كرسيه، فوقع الشمس، في حجره، فرفع رأسه (2).

وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ و تعرّف أحوالها و تصفحها، فلم ير الهدهد فيما بينها، و كان رئيس الهداهد على ما قيل (1)فَقالَ لحاضري مجلسه: ما لِيَ و أيّ حال عرض لي فصار (2)سببا لأن لا أَرَى اَلْهُدْهُدَ في مكانه؟ أساتر بيني و بينه يمنعني من رؤيته؟ أَمْ كانَ اليوم مِنَ جملة اَلْغائِبِينَ عن محضري؟

قيل: خرج سليمان عليه السّلام من مكة عند طلوع الشمس متوجّها إلى اليمن، و كان بينهما مسيرة شهر، فسار حتى أتى إلى واد كثير الأشجار حسن الهواء، فنزل لأن يتغدّى فيه، فجاء وقت الصلاة، فأراد أن يتوضّأ فلم يجد ماء، و كان الهدهد دليل الماء، فطلبه فلم يجده (3).

و عن العياشي أنه قال أبو حنيفة لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف تفقّد سليمان عليه السّلام الهدهد من بين الطير، قال: «لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم [الدهن]في القارورة» .

فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه فضحك. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما يضحكك؟» قال: ظفرت بك جعلت فداك. قال: «و كيف ذلك؟» قال: الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخّ في التّراب حتى يؤخذ بعنقه!

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا نعمان، أما علمت أنّ القدر إذا نزل عمي البصر» (4).

و قيل: إنّ سليمان عليه السّلام جلس على سريره في نواحي بيت المقدس، و اشتغل بامور المملكة و الدين، فقال هدهد في نفسه: إنّ سليمان مشغول عنّي، فأرتفع في الهواء ساعة لأنظر في فسحة الدنيا و طولها و عرضها، فطار في الهواء، فوقعت فرجة في مظلّة الطيور، فوقع شعاع الشمس على

ص: 569


1- . تفسير روح البيان 6:336.
2- . في النسخة: علي صار.
3- . تفسير أبي السعود 6:279، تفسير روح البيان 6:337.
4- . مجمع البيان 7:340، و فيه: أنه إذا نزل القدر اغشى البصر.

سليمان، فنظر إلى الطيور فرأى مكان الهدهد خاليا منه، فتفحّص عنه، و احتمل أن يكون عدم رؤيته إياه لتغييره مكانه، أو لعروض مانع عن رؤيته فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟

سوره 27 (النمل): آیه شماره 21 الی 22

ثمّ [لمّا]

احتاط و بالغ في التفتيش و السؤال عنه، حتى علم أنه غائب، أضرب عمّا احتمل، و قال: بل كان من الغائبين، و غضب عليه، و قال: و اللّه لَأُعَذِّبَنَّهُ تأديبا و صلاحا لانتظام الملك عَذاباً شَدِيداً و هو نتف ريشه (1)و إلقاؤه في الشمس، كما عن بن عباس (2)، أو ألقاؤه حيث النمل فتأكله، أو طليه بالقطران و تشميسه، أو عزله من خدمته، أو إلزامه خدمة أقرانه، أو التفريق بينه و بين إلفه و زوجته، أو تزويجه من عجوز، أو جعله مع ضدّه في قفص (3)أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ لتعتبر به أبناء جنسه، و لئلاّ يكون له نسل أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة على عذره في غيبته.

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)و إنّما كان الحلف في الواقع على أحد الفعلين الأولين على تقدير عدم الثالث، و لكن لمّا كان مقتضيا لوقوع أحد الثلاثة جعل الثلاثة في الظاهر متعلّقا للحلف على سبيل المجاز، فحلف على أنّه لا بدّ من وقوع أحد الثلاثة.

حكي أنّه لما أرتفع الهدهد إلى الهواء رأى هدهدا آخر واقفا فانحطّ إليه في الهواء، و وصف له ملك سليمان و ما سخّر له من كلّ شيء، و وصف له صاحبه ملك بلقيس و اقتدارها، و أنّ تحت يدها اثني عشر ألف قائد، تحت يد كلّ قائد مائة ألف، فذهب معه لينظر، فما رجع إلاّ بعد العصر (4)

فَمَكَثَ سليمان و انتظره زمانا قريبا غَيْرَ بَعِيدٍ و أمدا غير مديد.

قيل: دعا سليمان عليه السّلام عريف الطير، و هو النسر، فسأله عن الهدهد فلم يجد علمه عنده، ثمّ قال لسيد الطير و هو العقاب: عليّ به، فارتفعت فنظرت، فاذا هو مقبل فقصدته، فناشدها اللّه تعالى و قال: بحقّ الذي قوّاك و أقدرك إلاّ رحمتني، فتركته و قالت: ثكلتك امّك، إنّ نبيّ اللّه حلف ليعذّبك، قال: أو ما استثنى؟ قالت: بلى. قال: أو ليأتيني بعذر مبين، فلمّا قرب من سليمان أرخى ذنبه و جناحيه يجرّهما على الأرض تواضعا له، فلمّا دنا منه أخذ عليه السّلام برأسه فمدّه إليه، فقال: يا نبي اللّه اذكر وقوفك بين يدي اللّه، فارتعد سليمان، ثمّ قال له: يا هدهد، كيف أنت إن نتفت ريشك و ألقيتك في حرّ

ص: 570


1- . في النسخة: شعره.
2- . تفسير الرازي 24:189. (3 و 4) . تفسير روح البيان 6:337.

الشمس؟ قال: أعلم أنّك لا تفعل ذلك، لأنّك نبي اللّه لا ترضى بذلك. قال: إن حبستك في قفص مع ضدّك؟ قال: أعلم أنك لا تفعل ذلك أيضا لأنّك كريم. إلى أن قال: قل ما أفعل بك؟ قال: العفو عنّي فانّه سجيّة الكرام، فعفا عنه (1).

ثمّ سأله عمّا جاء به فَقالَ أَحَطْتُ مع حقارتي و غاية ضعفي بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ و اطّلعت على ما لم تطّلع عليه مع سعة علمك و كمال قدرتك وَ جِئْتُكَ مِنْ بلد سَبَإٍ يقال له: مدينة مأرب، بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام (2)بِنَبَإٍ يَقِينٍ و خبر خطير محقّق لا شكّ فيه.

عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ سبأ اسم أبي حيّ باليمن، و هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، كان له عشر بنين، ذهب ستّة منهم إلى اليمن، و سكنوا فيه، و هم: كندة و الأزد، و مذحج، و حمير، و أشعر، و أنمار. و كان خثعم و بجيلة من أنمار، و ذهب أربعة منهم إلى الشام، و هم: لخم و جذام و غسان و عاملة، فسمّي الحيّ باسم أبيهم (3).

و قيل: إنّ اسمه عبد شمس، و لقّب بسبأ لانّه أول من سبي (4).

و قيل: إنّه أول من تتوّج من ملوك اليمن (5)، و لعلّ إخفاء أمر مملكة سبأ على سليمان عليه السّلام مع قربها منه لمصلحة رآها اللّه تعالى فيه (4).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 23 الی 31

ثمّ بيّن الهدهد ما أحاط به بقوله: إِنِّي وَجَدْتُ حين ذهبت متفقّدا لما خفي من الامور قياما

إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ اَلَّذِي يُخْرِجُ اَلْخَبْءَ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (25) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ (27) اِذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (30) أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

ص: 571


1- . تفسير روح البيان 6:338.
2- . تفسير أبي السعود 6:280، تفسير روح البيان 6:338.
3- . تفسير روح البيان 6:338، و لم ينسبه إلى ابن عباس. (4 و 5) . تفسير روح البيان 6:338.
4- . تفسير روح البيان 6:339.

بخدمتك اِمْرَأَةً في مملكة سبأ و أهله تَمْلِكُهُمْ و تحكم عليهم، و تدبّر امورهم، و لها السلطنة عليهم، اسمها بلقيس بنت شرحبيل، أو شراحيل بن مالك بن ريان، من نسل يعرب بن قحطان، و كان أبوها ملك أرض اليمن كلّها، ورث الملك من أربعين أبا، و لم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك، و دانت لها الامّة (1)وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تحتاج إليه الملوك من الحشم، و الخيل، و العدد، و السياسة، و الهيبة، و الرأي، و المال، و النعم وَ لَها عَرْشٌ و سرير عَظِيمٌ بالنسبة إلى عروش غيرها من الملوك.

قيل: كان عرشها ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا عرضا، في ثمانين ذراعا ارتفاعا (2)، مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر، و الزّبرجد الأخضر، و مؤخرّه من فضة مكلّل بأنواع الجواهر، له أربع قوائم: قائمة من ياقوت أحمر، و قائمة من ياقوت أصفر (3)، و قائمة من زبرجد، و قائمة من درّ، و صفائح السرير من ذهب، و عليه سبعة أبيات، لكلّ بيت باب مغلق، و كان عليه من الفرش ما يليق به (4).

وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ و يعبدونها مِنْ دُونِ اَللّهِ و متجاوزين عن عبادته وَ زَيَّنَ و حسّن لَهُمُ اَلشَّيْطانُ بوسوسته و تسويله أَعْمالَهُمْ القبيحة التي منها عبادة الشمس فَصَدَّهُمْ و منعهم بسبب ذلك التزيين عَنِ سلوك اَلسَّبِيلِ المستقيم، و اختيار المذهب الحقّ، و هو توحيد اللّه و عبادته فَهُمْ بسبب ذلك الصدّ لا يَهْتَدُونَ إلى الحقّ، و لا يصلون إلى خير أبدا لا في الدنيا و لا في الآخرة.

ثمّ أن الهدهد أظهر معارفة التي اقتبسها من سليمان عليه السّلام إظهارا لتصلّبه في التوحيد، و توجيها لقلب سليمان نحو قبول قوله، و صرفا لعزيمته إلى تسخير مملكة بلقيس بقوله: أَلاّ و هلا (5)يَسْجُدُوا لِلّهِ.

و قيل: إنّ المراد أن تزيين الشيطان عبادة الشمس (6)، لأجل أن يعبدوا اللّه المتفرّد باستحقاق العبادة، حيث إنّه القادر اَلَّذِي بقدرته يُخْرِجُ اَلْخَبْءَ و يظهر المدّخر المستور فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الكواكب و الأمطار و الأرزاق و النباتات و غيرها وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ من العقائد

ص: 572


1- . تفسير أبي السعود 6:281، تفسير روح البيان 6:339.
2- . في تفسير روح البيان: ذراعا و طوله في الهواء ثمانين ذراعا.
3- . في تفسير روح البيان: اخضر.
4- . تفسير روح البيان 6:339.
5- . بل إن إعراب (ألاّ يسجدوا) هنا مفعول له للصدّ على حذف اللام منه، أي فصدّهم لئلا يسجدوا. راجع: تفسير روح البيان 6:340.
6- . تفسير البيضاوي 2:174، تفسير أبي السعود 6:281، تفسير روح البيان 6:339.

و النيّات وَ ما تُعْلِنُونَ و تظهرون من الأعمال، ثم

ّ صرّح بنفي الشريك له في العبادة بقوله: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ.

ثمّ لمّا وصف عرش بلقيس بالعظمة، وصف اللّه بقوله: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ الذي لا يعادله في العظمة عرش أحد من الملوك، بل لا يليق توصيفه بالعظمة في قباله.

في الحديث: «أنهاكم عن قتل الهدهد فانّه كان دليل سليمان على قرب الماء و بعده، و أحبّ أن يعبد اللّه في الأرض حيث يقول: وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ» إلى آخر الآيات (1).

قيل: إن قول الهدهد إلى فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ و ما بعده كلام اللّه (2).

ثمّ قالَ سليمان عليه السّلام في جوابه: سَنَنْظُرُ في ما أخبرتنا به و نفتّشه حتى نعلم أَ صَدَقْتَ في ما قلت أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ.

روي أنّ سليمان لمّا سمع إشراك أهل سبأ غضب، و قال ائتوني بدواة و قلم حتى أكتب كتابا أدعوهم إلى دين الحقّ، فأتي بهما، فكتب في المجلس أو بعده إلى بلقيس: من عبد اللّه سليمان بن داود إلى ملكة سبأ بلقيس. بسم اللّه الرحمن الرحيم ، السّلام على من اتّبع الهدى. أما بعد فلا تعلوا عليّ و ائتوني مسلمين. ثمّ طبعه بالمسك و ختمه بخاتمه المنقوش على فصّه اسم اللّه الأعظم، و قال الهدهد: إنّك رسول أخلعك بخلعة، فمسح يده على ريشه، فظهرت فيه الألوان المختلفة، ثمّ وضع إصبعه على رأسه فخرج منه تاج، و إنّما خصّة بالرسالة من سائر رعيّته من الجنّ و الطير، لما رأى فيه من المعارف، و قوّة الفراسة، و بذل النّصح له و لملكه، و رعايته جانب الحق، فعلّق الكتاب إلى عنقه أو أعطاه بمنقاره و قال له:

اِذْهَبْ بِكِتابِي هذا إلى بلقيس، و أهل سبأ فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ و اطرحه لديهم ثُمَّ تَوَلَّ و أعرض عَنْهُمْ و تباعد منهم إلى مكان لا يرونك و تسمع ما يقولون فَانْظُرْ و تعرّف ما ذا يَرْجِعُونَ و استمع ما يقول بعضهم لبعض بعد قراء كتابي (3).

روي أنّ الهدهد أخذ الكتاب و أتى بلقيس، فوجدها راقدة في قصرها بمأرب، و كانت إذا رقدت غلّقت الأبواب و وضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوّة و ألقى الكتاب على نحرها و هي مستلقية، و قيل: فنقرها و تأخّر يسيرا فانتبهت فزعة، و كانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبّع الحميري، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت و خضعت، لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه، و عرفت أنّ الذي أرسل

ص: 573


1- . تفسير روح البيان 6:340.
2- . جوامع الجامع:336.
3- . تفسير روح البيان 6:341.

الكتاب أعظم ملكا منها، لطاعة الطير إياه و هيئة الخاتم،

فعند ذلك قالَتْ لأشراف قومها و أعاظم مملكتها بعد إحضارهم (1): يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ و عظماء القوم قد حدث لي أمر عظيم إِنِّي أُلْقِيَ اليوم إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ عليّ، و معظّم لدي، أو مختوم كما عن القمي (2)، و في الحديث: «كرم الكتاب ختمه» (3).

قيل: كانت معجزة سليمان عليه السّلام و ملكه في خاتمه، فختم الكتاب به، فألقى الرّعب في قلبها حتى شهدت بكرم كتابه (4).

و قيل: الكريم يعني حسنا ما فيه (5)، أو مرضيّا في لفظه و معانيه (6)، أو شريفا لتصدّره بالبسملة (7)، أو واصلا عن نهج غير معتاد (6).

قيل: إنها لمّا سمعت قبلها بسلطنة (7)سليمان على الجنّ و الانس و الوحش و الطير، عظّمت كتابه (8).

و إنّما رزقت الايمان لتكريمها الكتاب، ثمّ سألها الأشراف عن مرسله و مضمونه فقالت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ مكتوب في أوله بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ مكتوب فيه أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ و لا تترفّعوا عن طاعتي، و لا تتكبروا بكبر الجبابرة وَ أْتُونِي جميعا حال كونكم مُسْلِمِينَ منقادين لأوامري، أو مؤمنين موحّدين.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 32 الی 34

فلمّا رأت أنّه مع إيجازه فيه الدعوة إلى التوحيد بذكر البسملة، و النهي عن الترفّع الذي هو امّ الرذائل، و الأمر بالاسلام الذي هو أمّ الفضائل، مع الحجة القاطعة على عظم شأن مرسله و صدقه بارساله بتوسّط الهدهد، و اتّصاله إليها بنحو خارق للعادة قالَتْ للأعاظم الذين كانوا بحضرتها، و هم ثلاثمائة و ثلاثة عشر أو اثني عشر ألفا: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي و قولوا ما تستفتون في

قالَتْ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ اَلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

ص: 574


1- . تفسير أبي السعود 6:283، تفسير روح البيان 6:341.
2- . تفسير القمي 2:127، تفسير الصافي 4:65.
3- . جوامع الجامع:337، تفسير الصافي 4:65.
4- . تفسير روح البيان 6:341.
5- . تفسير الرازي 4:194، تفسير روح البيان 6:342. (6 و 7) . تفسير روح البيان 6:342.
6- . تفسير أبي السعود 6:283.
7- . في النسخة: قلبها سلطنة.
8- . مجمع البيان 7:343.

شأني؟ فانّي منذ ملكت زمام السلطنة ما كُنْتُ قاطِعَةً و منفذّة أَمْراً من الامور المهمة و غيرها حَتّى تَشْهَدُونِ و تحضرون عندي، و تصوّبون عملي، اعتمادا على عقولكم، و استمدادا بآرائكم

قالُوا في جوابها: نَحْنُ رجال أُولُوا قُوَّةٍ و ذوو الأجسام العظيمة السليمة و العدد الكثير، و العدّة الكاملة للحرب وَ أُولُوا بَأْسٍ و بطش شَدِيدٍ و نجدة و شجاعة تامة في قتال العدوّ.

ثمّ لمّا كان حسن الأدب في أن لا يحكم أهل المشورة على الرئيس المستشير بالعمل برأيهم، بل عليهم أن يخبروه في ما أراد قالوا: وَ اَلْأَمْرُ مفوّض إِلَيْكِ موكول إلى نظرك و رأيك، فاذا كان كذلك فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ به حتى نطيعك فيه، فلمّا رأت ميلهم إلى الحرب باظهار قوتهم الذاتية و العرضية، و كان ذلك عندها خلاف الصواب، أخذت في تزييف رأيهم.

قالَتْ إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا بالقهر و الغلبة و بطريق المقابلة قَرْيَةً من القرى، و بلدة من البلدان أَفْسَدُوها و خرّبوها، و أتلفوا ما فيها من النفوس و الأموال وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها و صيّروا أشراف ساكنيها أَذِلَّةً بالأسر و الإجلاء و غير ذلك من فنون الاهانة و الاذلال.

ثمّ أكّدت قولها بقولها: وَ كَذلِكَ الذي قلت ملوك الدنيا يَفْعَلُونَ بحسب العادة و السيرة المستمرة، فعلى هذا يكون في مقاتلتهم و غلبتهم علينا تخريب ملكنا، و إذلال رعايانا، فاذن كان الأصلح هو الصلح.

و عن القمي و بعض العامة: أنّ الذليل كلام اللّه، تصديقا لقول بلقيس (1).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 35 الی 36

ثمّ ذكرت مقدمة الصلح بقولها: وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ عظيمة فَناظِرَةٌ و رائية، أو منتظرة بِمَ يَرْجِعُ إليّ من الخبر اَلْمُرْسَلُونَ من قبلي إلى سليمان، أنّه قبل الهدية أو ردّها، فنستكشف من معاملته و مكالمته حالته أنّه نبي أو ملك، و نعلم غرضه أنّه السلطنة أو الهدية، فنعمل بمقتضاه.

وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اَللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)روي أنّها بعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري و حليهن (2)كالأساور و الأطواق و القرطة مخضبي الأيدي، راكبي خيل مغشّاة بالدّيباج، محلاّة اللّجم و السّروج بالذهب المرصّع بالجواهر،

ص: 575


1- . تفسير القمي 2:128، تفسير روح البيان 6:344، تفسير الصافي 4:65.
2- . في النسخة: سلبهن.

و خمسمائة جارية على رماك (1)في زيّ الغلمان، و الف لبنة من ذهب و فضّة، و تاجا مكلّلا بالدرّ و الياقوت المرتفع قيمتة، و مقدارا كثيرا من المسك و العنبر، و حقّة فيها درّة ثمينة غير مثقوبة، و خرزة جزعيّة معوجّة الثقب، و كتبت كتابا فيه نسخة الهدايا، و بعثت مع الهدايا رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، و ضمّت إليه رجالا من قومها ذوي رأي و عقل، و قالت: إن كان نبيا ميّز بين الغلمان و الجواري، و أخبر بما في الحقّة قبل فتحها، و ثقب الدرّة ثقبات مستقيمات (2)، و سلك في الخرزة خيطا. ثمّ قالت للمنذر: إن نظر سليمان إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنّك منظره، و إن رأيته هشّا لطيفا فهو نبي.

فأقبل الهدهد نحو سليمان مسرعا، فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجنّ فضربوا لبن الذهب و الفضّة، و فرشوها في ميدان بين يديه طوله ستة فراسخ، و جعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب و الفضّة، و أمر بأحسن الدوابّ التي في البرّ و البحر، فربطوها عن يمين الميدان و يسارة [على اللبن و أمر بأولاد الجنّ و هم خلق كثير فاقيموا على اليمين و اليسار]، ثمّ قعد على سريره و الكراسي من جانبيه، في يمينه أربعة آلاف كرسيّ من ذهب، و في يساره أربعة آلاف، و اصطفّت الشياطين صفوفا فراسخ، و الإنس صفوفا، و الوحش و السباع و الهوامّ كذلك فلمّا دنا رسل بلقيس من مجلس سليمان و نظروا إليه بهتوا، و رأوا الدوابّ تروث على لبن الذهب، فكان حالهم كحال أعرابي أهدى إلى خليفة بغداد جرّة ماء، فلمّا رأى دجلة خجل و صبّه.

و لذا قيل: إنّهم لمّا رأوا ما أنعم اللّه على سليمان من الملك الكبير، استقلّوا ما عندهم حتّى همّوا بطرح اللّبنات، إلاّ أنّه منعتهم الأمانة من ذلك، و جعلوا يمرّون بكراديس الجنّ و الشياطين فيفزعون، و كانت الشياطين يقولون: جوزوا و لا تخافوا، فلمّا وقفوا بين يدي سليمان عليه السّلام نظر إليهم بوجه حسن طلق، و قال: ما وراءكم؟ فأخبر المنذر الخبر، و أعطى كتاب بلقيس، فنظر فيه فقال: أين الحقّه؟ فجيء بها، فقال: إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة، و خرزة جزعية معوجّة الثقب، و ذلك بإخبار جبرئيل أو الهدهد.

فأحضر سليمان عليه السّلام الجنّ و الإنس، و لم يكن عندهم علم الثقب و السلك، فقالت الشياطين لسليمان عليه السّلام: إرسل إلى الأرضة، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها، فدخلت في الدرّة و ثقبتها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان عليه السّلام: ما حاجتك؟ فقالت: تصيّر رزقي في الشجر. قال: لك ذلك، ثمّ قال: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا أمين اللّه. فأخذت

ص: 576


1- . رماك، جمع رمكة: الفرس.
2- . في تفسير روح البيان: ثقبا مستويا.

الخيط في فمها، و نفذت في الخرزة حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه. قال: لك ذلك، فجمع سليمان بين طرفي الخيط و ختمه، و دفعها إليهم.

ثمّ طلب سليمان عليه السّلام الماء، فأمر الغلمان و الجواري أن يغسلوا وجوههم من الغبار، ليميز بين الجواري و الغلمان، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها فتجعله في الاخرى، ثمّ تضرب به وجهها، و الغلام كان يأخذه من الآنية و يضرب به وجهه (1).

و أما الهدية فَلَمّا جاءَ المنذر بها سُلَيْمانَ و قد قالت بلقيس: إن قبلها سليمان كان ملكا، و إن ردّها كان نبيا، و لذا قالَ سليمان عليه السّلام للمنذر و بلقيس تغليبا للحاضر على الغائبة أو للرسل: أَ تُمِدُّونَنِ و تقوّونني بِمالٍ لا اعتداد به فَما آتانِيَ اَللّهُ و وهب لي من الملك العظيم الذي لا ينبغي لأحد من بعدي مع العلم و الزّلفى و النبوة و المال خَيْرٌ و أفضل مِمّا آتاكُمْ و أنعم عليكم من المال القليل و المتاع اليسير الدنيوي، فلا حاجة لي إلى هديتكم، و لا وقع لها عندي بَلْ أَنْتُمْ لحبّكم الدنيا و حطامها بِهَدِيَّتِكُمْ و ما يهدى إليكم من المال تَفْرَحُونَ فليس لكم أن تستميلوا قلبي إليكم بالأموال.

روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام قال: «الدنيا أصغر قدرا عند اللّه و عند أنبيائه و أوليائه من أن يفرحوا بشيء منها أو يحزنوا عليه» (2).

و قيل: إنّه عليه السّلام بعد إنكاره عليهم إمداده بالمال، أضرب عنه إلى توبيخهم بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه افتخارا و امتنانا و اعتدادا بها (3).

و قيل: إنّ المعنى بل أنتم من حقّكم أن تأخذوا هديّتكم و تفرحوا بها (2).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 37 الی 40

اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

ص: 577


1- . تفسير روح البيان 6:344-345. (2 و 3) . تفسير روح البيان 6:346.
2- . تفسير الرازي 24:196.

ثمّ هدّد سليمان بلقيس و قومها على امتناعهم عن طاعته بقوله: اِرْجِعْ أيها الرسول المبعوث من قبل ملكة سبأ و قومها إِلَيْهِمْ و أخبرهم أنّي لا انخدع بالهدايا و التّحف، بل اريد منهم الطاعة و الانقياد، فان أطاعوني و استسلموا لي و إلاّ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ من الجنّ و الإنس بِجُنُودٍ عظيمة لا قِبَلَ و لا طاقة لَهُمْ للمقاومة بِها أصلا وَ و اللّه لَنُخْرِجَنَّهُمْ من مملكتهم و لنجلينّهم مِنْها حال كونهم أَذِلَّةً بعد كونهم أعزّة وَ هُمْ صاغِرُونَ و مستحقرون بالأسر و الإجلاء بعد كونهم معظّمون.

القمي: فرجع إليها الرسول فأخبرها (1)بردّ الهدية و ثقب الدرّة و سلك الخيط في الخرزة، و عظمة حشمة سليمان و كمال قدرته، فعلمت أنّه لا محيص لها من الانقياد و التسليم، فبعثت إلى سليمان: أنّي قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك و ما تدعو إليه من دينك، ثمّ جعلت عرشها في بيت و قفلت أبوابه، و جعلت عليه حراسا، و أخذت مفتاح البيت عند نفسها، ثمّ توجّهت مع عسكرها نحو سليمان.

قيل: كان لها اثنا عشر ألف ملك كبير، تحت كلّ ملك الوف كثيرة، و كان سليمان عليه السّلام رجلا مهيبا لا يبدأ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يوما على سريره، فرأى جمعا جمّا على فرسخ عنه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس بملوكها و جنودها، فأقبل سليمان عليه السّلام على أشراف قومه، و قيل: حين علم بمسيرها إليه (2)

قالَ يا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها من بلدة مأرب، و يحضره لديّ في مكاني هذا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي حال كونهم مُسْلِمِينَ و منقادين، أو مؤمنين.

أقول: لعلّه عليه السّلام أراد من إحضاره عنده إراءتها معجزة اخرى أوّل ورودها عليه، لتكون في إيمانها على بصيرة كاملة، أو أراد اختبار عقلها و فطانتها بعد تنكيره عرشها عندها، لينظر أنّها تعرفه أو تنكره. قيل: ذلك لأنّ الجنّ قدحوا فيها بنقص العقل لئلا يتزوّجها (3). و قيل: إنّه أراد تملّك عرشها قبل إيمانها لاحترام مالها بعده (4).

قالَ ذكوان، أو كوذي، أو اصطخر، و هو عِفْرِيتٌ و مارد خبيث مِنَ شياطين اَلْجِنِّ قيل: كان رئيسهم، و كان قبل ذلك متمرّدا على سليمان عليه السّلام، و كان كالجبل العظيم يضع قدمه عند

ص: 578


1- . تفسير القمي 2:128، تفسير الصافي 4:66.
2- . تفسير روح البيان 6:348.
3- . تفسير الرازي 24:201، تفسير أبي السعود 6:289.
4- . تفسير الرازي 24:197، و فيه: قبل إسلامها لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها.

منتهى طرفه (1): أَنَا آتِيكَ بِهِ و احضره عندك قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ و مجلس حكومتك، و كان جلوسه إلى نصف النهار وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ على حفظه و حفظ ما فيه من الجواهر و النفائس لا اختلس منه شيئا و لا ابدّله.

قيل: إنّه قال سليمان عليه السّلام: اريد أسرع من هذا (2)قالَ آصف بن برخيا و هو على ما قيل: كان ابن خالة سليمان و وزيره و كاتبه و مؤدّبه في صغره و صديقه (3)اَلَّذِي عِنْدَهُ الاسم الأعظم الذي إذا دعي اللّه به أجاب و عِلْمٌ كثير مِنَ اَلْكِتابِ المنزل على الأنبياء السابقين كابراهيم و موسى و غيرهما، و عمله به، أو علم ببعض اللوح المحفوظ و اسراره المكتوبة فيه. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ذلك وصيّ أخي سليمان بن داود» (4)-: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ و يرجع إليك ناظرك، و يتحرّك جفنك.

قيل: خرّ ساجدا، و قال: يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال و الإكرام (5). ثمّ سأل اللّه إحضار عرش بلقيس فحضر، و قيل: خسف اللّه به الأرض (6)، ثمّ أخرجه منها في محضر سليمان عليه السّلام فَلَمّا رَآهُ سليمان مُسْتَقِرًّا و متمكّنا عِنْدَهُ و حاضرا لديه في أقلّ من طرفة عين.

عن الباقر: «أن اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا، و إنّما كان عند آصف منه حرف (7)، فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين» (8).

و في رواية اخرى: «فتكلّم به، فانخسفت الأرض ما بيته و بين السرير، و التقت القطعتان، و حوّل من هذه على هذه» (9).

قالَ سليمان تشكّرا للنعمة هذا الذي أرى من حضور العرش لديّ بأسرع زمان، و حصول مرادي بأحسن وجه مِنْ فَضْلِ رَبِّي عليّ و إحسانه إليّ بلا استحقاق منّي، و إنّما أعطاني هذه النعمة لِيَبْلُوَنِي و يختبرني أَ أنا أَشْكُرُ ها، بأن أراها منه بلا حول و قوة منّي، و أ أدّي حقّها من الطاعة و العبادة أَمْ أَكْفُرُ ها، بأن لا أراها منه، و لا أقوم بموجبها.

قيل: فلمّا رآه رفع رأسه و قال: الحمد للّه الذي جعل في أهلي من يدعوه فيستجيب له (10).

ص: 579


1- . تفسير روح البيان 6:349.
2- . تفسير روح البيان 6:349.
3- . تفسير روح البيان 6:349.
4- . أمالي الصدوق:659/892، روضة الواعظين:111، تفسير الصافي 4:67.
5- . تفسير روح البيان 6:350.
6- . تفسير روح البيان 6:350.
7- . في الكافي و بصائر الدرجات و تفسير الصافي: منها حرف واحد.
8- . الكافي 1:179/1، بصائر الدرجات:228/1، تفسير الصافي 4:67.
9- . بصائر الدرجات:229/6، تفسير الصافي 4:67، و فيه: إلى هذه.
10- . تفسير روح البيان 6:350 و 351.

ثمّ نبّه عليه السّلام بحاجة العبد إلى الشكر، و غنى الربّ عنه بقوله: وَ مَنْ شَكَرَ نعم اللّه فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ و نفعه عائد (1)إليها، لكونه سببا لدوامها و مزيدها، و الثواب عليه وَ مَنْ كَفَرَ النعم بعدم معرفة قدرها، و حقّ منعمها، و ترك أداء حقّها، فانّ ضرر كفرانه عليه فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكر الشاكرين كَرِيمٌ و متفضّل عليهم بجوده بنعمه، و إن لم يشكروا.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 41 الی 44

ثمّ قالَ سليمان لخدمه: إذا جاءت بلقيس نَكِّرُوا لَها عَرْشَها بأن غيّروا هيئته و شكله بحيث لا تعرفه في بادئ النظر نَنْظُرْ و نراها أَ تَهْتَدِي إلى معرفته فتظهر كياستها و قوّة فطانتها الناشئة من كمال عقلها أَمْ تَكُونُ مِنَ اَلَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته فتظهر سخافة عقلها.

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ اَلَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنّا مُسْلِمِينَ (42) وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (44)

قيل: إنّ الشياطين خافوا أن تفشي بلقيس أسرارهم إلى سليمان عليه السّلام، لأنّ امّها كانت جنية، و إن يتزوّجها سليمان عليه السّلام، و يكون منهما ولد جامع للجنّ و الإنس، فيرث الملك فيخرجون من ملك سليمان عليه السّلام إلى ملك هو أشدّ و أفضع، و لا ينفكّون من التسخير، فأرادوا أن يبغّضوها إلى سليمان عليه السّلام، فقالوا: إنّ في عقلها خللا و قصورا، و أنّها شعراء الساقين، و أن رجليها كحافر حمار، فأراد سليمان عليه السّلام أن يختبرها في عقلها (2)فَلَمّا جاءَتْ إلى سليمان عليه السّلام و العرش بين يديه قِيلَ لها من قبل سليمان: أَ هكَذا عَرْشُكِ؟ و إنما لم يقل: أهذا عرشك؟ لئلاّ يكون تلقينا لها، فنظرت إليه فعرفته، و لكن لمّا رأت فيه تغييرا لم تقل لا و لا نعم، بل قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ فلوّحت إلى نوع مغايرة له.

قيل: جعلت الشياطين أعلاه أسفله، و بنوا فوقه قبابا [اخرى] (3)، و جعلوا موضع الجوهر الأحمر

ص: 580


1- . في النسخة: عائده.
2- . تفسير روح البيان 6:352.
3- . زاد في تفسير روح البيان: هي أعجب من تلك القباب.

الأخضر و بالعكس (1).

ثمّ ظنّت أنّ سليمان أراد اختبار عقلها و إظهار معجزة لها، قالت: وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ بنبوتك مِنْ قَبْلِها لدلالة غيرها من المعجزات على صدق دعواك وَ كُنّا مُسْلِمِينَ و مؤمنين بك من ذلك الوقت.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إخفائها الايمان به قيل بقوله: وَ صَدَّها و منعها من إظهار الايمان باللّه و بنبوّة سليمان قبل الوقت ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اَللّهِ من الشمس، أو النّار، و عبادتها القديمة لها.

ثمّ نبّه سبحانه على نكتة سببية عبادتها السابقة لصدّها بقوله: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ و ناشئة بين أظهرهم، فلم يمكنها إظهار الاسلام حتى دخلت في مملكة سليمان فصارت من قوم مسلمين.

و قيل: إنّ المراد صدّها اللّه أو سليمان عن عبادة غير اللّه (2)، أنّها كانت قبل توفيق اللّه و هداية سليمان من قوم كافرين، لا تعرف غير مذهبهم.

و قيل: إنّ قوله: وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ إلى آخره، من كلام سليمان عليه السّلام و المؤمنين به حيث إنّهم لمّا رأوا أنّها قالت: كَأَنَّهُ هُوَ قالوا: إنّها أصابت في الجواب، فهي عاقلة، و قد رزقت الاسلام (3).

ثمّ عطفوا على ذلك قولهم: وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ باللّه و بقدرته الكاملة (قبل علمها) إظهارا للشكر على تقدّمهم في الاسلام عليها.

قيل: لمّا قالت الشياطين: إنّ ساقيها شعراوان و إنّ رجليها كحافر الحمار لا أصابع لها، أمر سليمان عليه السّلام ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض و أجرى من تحته الماء، و ألقى فيه السّموك (4)و دوابّ البحر، و وضع سريره في وسطه، فجلس عليه، و عكف عليه الطير و الجنّ و الإنس، فلمّا جاءت بلقيس إلى باب القصر (5)قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ و القصر الرفيع فَلَمّا رَأَتْهُ و الشمس تشرق عليه، و الماء يموج في صحنه، و السّموك تسبح فيه حَسِبَتْهُ و توهّمته لُجَّةً و ماء قليلا يبلغ الكعبين، أو أنصاف السوق، أو ماء كثيرا تردّد أمواجه، فشمّرت ذيلها وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لئلا تبتلّ ثيابها، فرأى سليمان عليه السّلام أنّها أحسن النساء ساقا و قدما، خلا أنّها شعراء قالَ سليمان لها: لا تكشفي عن ساقيك، فان ما ترينه ليس بماء إِنَّهُ صَرْحٌ و قصر مُمَرَّدٌ و مسوّى مِنْ قَوارِيرَ و مصنوع من الزجاج الأبيض الصافي فوق ماء، أو لم يكن ماء، بل كان الزجاج الصافي شبيها بالماء.

ص: 581


1- . تفسير روح البيان 6:352.
2- . تفسير الرازي 24:200.
3- . تفسير الرازي 24:199 و 200.
4- . السّموك، جمع سمك.
5- . تفسير روح البيان 6:353.

قيل: إنّه لمّا رأى ساقها شعراء كرهه، و أمر الشياطين أن يتّخذوا لها شيئا يذهب الشعر، فقالوا: نحتال لك حتى تصير كالفضّة، فاتّخذوا النّورة و الحمّام، فكانت النّورة و الحمّام من يومئذ (1).

و قيل: إنّ الحمّام الذي ببيت المقدس بباب الأسباط بني لها، و هو أوّل حمّام بني على وجه الأرض (2).

و قيل: إنّ جنّيا قال لسليمان: ابني لك دارا تكون في بيوته الأربعة الفصول الأربعة، فبنى الحمّام (3).

فلمّا علمت بلقيس أنّه قوارير، استحيت و تستّرت و كمّلت إيمانها بالتوحيد و نبوّة سليمان عليه السّلام قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي باختيار الشرك قبل اهتدائي إلى التوحيد بهداية سليمان.

و قيل: حسبت أنّ سليمان عليه السّلام أراد غرقها بالماء، فلمّا تبيّن لها خطأ ظنّها قالت: ظَلَمْتُ نَفْسِي بسوء ظنّي بسليمان (4)وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ و أخلصت التوحيد اقتداء به لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ فأظهرت كمال معرفتها بألوهيّته تعالى، و تفردّه باستحقاق العبادة، و معرفتها بالربوبية لجميع الموجودات التي من جملتها الشمس التي كانت تعبدها من قبل، بالجمع بين ذكر اسم الجلالة و وصفه بالربوبية، ثمّ تزوّجها سليمان، و من قال بذلك استدلّ عليه بنظره عليه السّلام إلى ساقها، فلو لم يكن مريدا لتزويجها لم يكن له ذلك، و لم يشاور الإنس و الجنّ في علاج إزالة شعرها مع أنّه شاور الإنس فقالوا: موسى، فقال: الموسى يخدش ساقها، ثم شاور الجنّ فما اهتدوا إلى شيء، ثمّ شاور الشياطين فعبؤوا النّورة و الحمّام.

قيل: أحبّها حبّا شديدا، و أقرّها على ملكها، و أمر الجنّ فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها في الارتفاع و الحسن، و كان عليه السّلام يزورها في كلّ شهر مرّة، و يقيم عندها ثلاثة أيام، و ولدت له داود بن سليمان، ثمّ مات في حياة أبيه (5).

و قيل: إنّه عليه السّلام عرض عليها النكاح فأبته، و قالت: مثلي لا ينكح الرجال، فأعلمها سليمان عليه السّلام أنّ النكاح من شريعة الاسلام، فقالت: إنّ كان ذلك فزوّجني من ذي تبّع، و كان هو فتى من أبناء ملوك اليمن، فزوّجها إياه، ثمّ ردّها إلى اليمن، و سلّط زوجها على اليمن، و دعا زوبعة أمير جنّ اليمن، فأمره أن يكون في خدمته، و يعمل له ما أستعمله فيه (6).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 45 الی 47

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اِطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اَللّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

ص: 582


1- . تفسير روح البيان 6:354.
2- . تفسير روح البيان 6:354.
3- . تفسير روح البيان 6:354.
4- . تفسير الرازي 24:201.
5- . تفسير روح البيان 6:354.
6- . تفسير روح البيان 6:353.

ثمّ حكى سبحانه لطفه بصالح بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى قبيلة ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً و كان ما ارسل به أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ و لا تعبدوا غيره، فآمن به جمع منهم فَإِذا هُمْ بعد هذه الدعوة فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ و يجادلون في صدق نبوته و دعواه التوحيد و كذبهما

قالَ صالح-للفرقة المكذّبة القائلين له: اِئْتِنا بِعَذابِ اَللّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (1)-: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ و تطلبون سرعة نزول العقوبة عليكم قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ و التوبة لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اَللّهَ و هلاّ تتوبون إليه قبل نزول العذاب؟ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها و صرفه عنكم، كيلا تعذّبون بل تنعمون.

قيل: إنّهم كانوا يقولون من جهلهم و غوايتهم: إن أتيتنا بما تعدنا من العذاب تبنا حينئذ و إلاّ فنحن على ما كنا عليه (2)، فوبّخهم صالح على هذا القول، و حثّهم على استعجال التوبة.

و قيل: إنّ المعنى لم تسألون البلاء و العقوبة قبل سؤال العافية و الرحمة، و لم لا تقدّمون طلب الرحمة على طلب العقوبة (3).

ثمّ إنّهم بعد دعوة صالح بألطف بيان و نصحه لهم بأبلغ وجه، عارضوه بأسوأ قول حيث قالُوا في جوابه: يا صالح إنا اِطَّيَّرْنا و تشاء منا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين حيث تتابعت علينا بعد دعوتك و إيمانهم بك الشدائد و البلايا.

قيل: أنّهم قحطوا فقالوا: أصابنا هذا الشرّ من شؤمك و شؤم أصحابك (4)قالَ صالح: طائِرُكُمْ و ما جاء به الشرّ إليكم كائن عِنْدَ اَللّهِ و سابق في علمه، أو مكتوب في اللّوح المحفوظ، و هو تقديره و إرادته، أو عملكم الذي هو محفوظ عنده.

ثمّ أضرب عليه السّلام عن إسناد شرّهم إلى الطائر الذي هو السبب لابتلائهم إلى الإسناد إلى الحكمة الداعية له بقوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ بالبلايا و تختبرون بإنزال الشرور عليكم، ليتّضح أنّكم ترتدعون عن الكفر و المعاصي أم لا، و تنصرّفون عن قبائح الأعمال أم تديمون عليها؟ أو المراد بل أنتم قوم تعذّبون على معاصيكم، أو أنتم قوم تقعون في الفتنة بوسوسة الشيطان.

ص: 583


1- . العنكبوت:29/29.
2- . تفسير أبي السعود 6:290، تفسير روح البيان 6:355.
3- . تفسير روح البيان 6:355.
4- . تفسير روح البيان 6:356.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 48 الی 53

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم بعد إساءتهم القول أساءوا في معاملتهم معه بقوله: وَ كانَ فِي اَلْمَدِينَةِ التي فيها صالح من أرض الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ و جماعة أو أشخاص، كانت أسماؤهم على ما قيل: هذيل بن عبد الرب، و غنم بن غنم، و ياب بن مهرج، و مصدع بن مهرج، و عمير بن كردية، و عاصم بن مخزمة، و سبيط بن صدقة، و سمعان بن صفي، و قدار بن سالف، و هو رئيسهم (1).

وَ كانَ فِي اَلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (49) وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (53)و قيل: قدار بن سالف، و مصدع بن دهر، و أسلم، و رهمي، و رهيم، و دعمي و دعيم، و قبال، و صداف، و كانوا عتاة القوم و أبناء أشرافهم (2).

و هم يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ التي سكنوها بالاشتغال بالمعاصي و إشاعة الكفر وَ لا يُصْلِحُونَ أمرا من الامور، و لا يمزجون شرّهم بشيء من الخير، و فسادهم بشيء من الصلاح، و كان من إفسادهم المحض أن

قالُوا في أثناء مشاورتهم في أمر صالح حال كونهم تَقاسَمُوا و تحالفوا بِاللّهِ على نحو معتبر عندهم: لَنُبَيِّتَنَّهُ و لنهاجمنّ عليه في الليل بغتة و لنقتلنّه وَ أَهْلَهُ و من معه ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ و وارث دمه إذا سئلنا عن قاتله: ما شَهِدْنا و ما حضرنا مهلك صالح و مَهْلِكَ أَهْلِهِ و مقتلهم، أو هلاكهم و قتلهم حتى تعرف قاتلهم وَ إِنّا لَصادِقُونَ فيما نقول من عدم حضورنا في ذلك المكان فضلا عن التولي له.

وَ مَكَرُوا في قتل صالح مَكْراً ضعيفا، و احتالوا حيلة هيّنة بهذه المواضعة وَ مَكَرْنا في إهلاكهم مَكْراً عجيبا، و دبّرنا تدبيرا متينا بجعل مواضعتهم سببا لهلاكهم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بذلك.

روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فلمّا وعدهم بعد عقرهم الناقة بالعذاب إلى ثلاثة أيام، قالوا: زعم صالح أنّه يفرغ منّا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه و من أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشّعب ليقتلوه إذا جاء للصلاة ثمّ يرجعوا إلى أهله فيقتلوهم، فبعث اللّه صخرة

ص: 584


1- . تفسير روح البيان 6:356.
2- . تفسير روح البيان 6:356.

من جبالهم، فبادروا فطبقت عليهم في الشّعب، فهلكوا ثمّة و هلك الباقون في أماكنهم بالصيحة (1).

و عن ابن عباس: أنّه كان لصالح مسجد في غار يجيئه في الليل و يصلّي فيه، فقالت التسعة: إنّ صالحا وعدنا العذاب بعد ثلاثة أيام، و نحن نقتله قبلها، فجاءوا أول الليل إلى باب الغار، فكمنوا له و سلّوا سيوفهم كي يقتلوه إذا جاء، فأرسل اللّه ملائكة، فاهبطوا على رأس كلّ واحد حجرا، و قتلوا جميعهم (2).

و في رواية: أنّهم دخلوا الغار، فأنزل اللّه صخرة من الجبل، و وقعت في باب الغار فسدّه فهلكوا (3).

و عن مقاتل: أنّهم انتظروا صالحا في أصل الجبل، فانحطّ عليهم الجبل فهلكوا (4).

و القمي: فأتوا صالحا ليلا ليقتلوه، و عند صالح ملائكة يحرسونه، فلمّا أتوا قاتلهم-أو قتلهم (5)- الملائكة في دار صالح رجما بالحجارة، فأصبحوا في داره مقتولين، فأخذت (6)قومه الرجفة فأصبحوا في دارهم (7)جاثمين (8).

فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ و هي أَنّا دَمَّرْناهُمْ و أهلكناهم وَ قَوْمَهُمْ الذين لم يكونوا معهم في التثبيت أَجْمَعِينَ بحيث لم يبق منهم أحد

فَتِلْكَ البيوت الخربة التي تمرّون عليها في أسفاركم بُيُوتُهُمْ حال كونها خاوِيَةً و خالية، أو ساقطة و منهدمة بِما ظَلَمُوا على أنفسهم بالكفر و الطغيان إِنَّ فِي ذلِكَ التدمير العجيب لَآيَةً و عبرة عظيمة كافية لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ذلك فيتّعظون به وَ أَنْجَيْنَا من العذاب و مجاورة العتاة صالحا و اَلَّذِينَ آمَنُوا بما آمن به وَ كانُوا يَتَّقُونَ اللّه، أو يحترزون من الكفر و العصيان.

قيل: هم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت (9).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 54 الی 55

ثمّ ذكر سبحانه تفضّله على لوط بانجائه من قومه و العذاب النازل عليهم بقوله: وَ لُوطاً و التقدير: و أرسلنا أو أذكر يا محمّد لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إنكارا عليهم و توبيخا لهم: أَ تَأْتُونَ

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

ص: 585


1- . تفسير روح البيان 6:357، تفسير الصافي 4:70.
2- . تفسير الكشاف 3:373.
3- . تفسير روح البيان 6:357.
4- . مجمع البيان 7:355.
5- . في تفسيري القمي و الصافي: أتوه قاتلتهم.
6- . في تفسير القمي: مقتلين و صبحت، و في تفسير الصافي: مقتلين و أخذت.
7- . في تفسير القمي: ديارهم.
8- . تفسير القمي 2:132، تفسير الصافي 4:70.
9- . تفسير روح البيان 6:358.

و ترتكبون اَلْفاحِشَةَ و الفعلة الشنيعة في الغاية وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فحشه و شدّة قبحه، و تعلمون غاية شناعته؟ ! و من الواضح أنّ ارتكاب القبيح من العالم بقبحه أقبح، أو تبصرون عمله فيما بينكم، و تعلنون به بلا تخفّ و تستّر، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم و ما نزل بهم من العذاب.

ثمّ بيّن الفاحشة بقوله: أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجالَ في أدبارهم لتقضوا شَهْوَةً حيوانية مِنْ دُونِ اَلنِّساءِ و متجاوزين عنهنّ مع كونهنّ محالّ الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ سوء عاقبة عملكم، أو كالذين تجهلون قباحة هذا العمل، لكونكم غير عاملين بعلمكم، أو قوم سفهاء لا تميّزون بين حسن الفعل و قبحه.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 56 الی 58

ثمّ بيّن سبحانه غاية جهلهم بقوله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ له بعد إبلاغه في نصحهم شيء إِلاّ أَنْ قالُوا: يا قوم أَخْرِجُوا لوطا و آلَ لُوطٍ و من تبعه مِنْ قَرْيَتِكُمْ و بلدكم، و هي بلدة سدوم إِنَّهُمْ أُناسٌ و جماعة يَتَطَهَّرُونَ بأنفسهم من دنس الفحش باعتقادهم، و يتنزّهون عن فعلنا القبيح.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ اَلْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ (58)عن ابن عباس: أنّه [على]طريق الاستهزاء بلوط (1).

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ و أقاربه من العذاب بأمرهم بالخروج من القرية وقت نزوله إِلاّ اِمْرَأَتَهُ و زوجته الكافرة المسمّاة بواهلة على ما قيل (2)، فانّا قَدَّرْناها و قضينا كونها مِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في البلدة، أو في العذاب مع القوم

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ بعد خروج لوط و أهله من بينهم و قلب قريتهم، أو على من كان منهم في الأسفار مَطَراً عجيبا غير الأمطار المعتادة فَساءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ و الكفّار المتوعّدين بالعذاب؛ لأنّه كان من حجارة من سجّيل، و هو أفضع العذاب، كما أنّ اللّواط أفحش الفواحش.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 59 الی 60

قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى آللّهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

ص: 586


1- . تفسير أبي السعود 6:292، تفسير روح البيان 6:359.
2- . تفسير روح البيان 6:359.

ثمّ لمّا كان إهلاك أعداء اللّه نعمة على أوليائه، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالشّكر عليه بقوله: قُلِ يا محمّد: اَلْحَمْدُ لِلّهِ على نعمه التي منها إهلاك أعدائه وَ سَلامٌ و عافية دائمة من كلّ آفة دينية و دنيوية عَلى عِبادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى هم و خصّهم بالعصمة من كلّ سوء، و الطهارة من كلّ رجس.

و قيل: إنّه تعالى لمّا بيّن ابتلاء امم الماضين بالعذاب، و كان من النعم على خاتمهم رفع عذاب الاستئصال عن امّته ببركته و حرمته، أمره بالحمد له و الدعاء للأنبياء الذين صبروا على مشاقّ الرسالة (1)، أو لمّا كان اطّلاعه صلّى اللّه عليه و آله على قصص الأنبياء الماضين التي تكون من الأخبار الغيبية و فيها الآيات و الحكم الكثيرة من النّعم العظيمة عليه، أمره بالحمد عليها و الدعاء بالسلامة لامّته (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و حكمته، و غاية تفضّله على أوليائه و غضبه على أعدائه، شرع في تقريع العابدين للأصنام التي لا تضرّ و لا تنفع بقوله: آللّهُ الذي بيده كلّ خير خَيْرٌ للعبادة أَمّا يُشْرِكُونَ به من الأصنام و الأوثان التي لا يترتّب على عبادتها فائدة.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا تلا هذه الآية قال: «بل اللّه خير و أبقى و أجلّ و أكرم» (3).

ثمّ أخذ سبحانه في بيان خيراته و عظائم نعمه الدالة على وحدانيته و استحقاقه للعبادة بقوله: أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و الأجرام العلوية و السفلية التي هي اصول الكائنات و مبادي جميع الخيرات و البركات وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بنحو الأمطار.

ثمّ عدل سبحانه عن الغيبة إلى التكلّم لتأكيد الاختصاص بقوله: فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ و بساتين ذاتَ بَهْجَةٍ و غضارة و حسن لون و منظرة.

ثمّ نبّه سبحانه على تفرّده بهذه القدرة الكاملة التي خلق بها السماوات و الأرض، و جعل السماء محلا للماء، و الأرض محلا للنبات، و أنبت بالماء الحدائق التي لها بهاء و رونق بقوله: ما كانَ و ما استقام لَكُمْ مع عقلكم و قوّتكم و تدبيركم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها و إلاّ ما كنتم محتاجين إلى الغرس و تحمّل كلفة السقي و غيره ممّا له دخل في نمو الشجر و المصابرة على ظهور الثمر، فكيف بغيركم من الجمادات، و مع ذلك أتقولون أَ إِلهٌ و معبود آخر مشارك مَعَ اَللّهِ العظيم القادر على كلّ شيء في الالوهية، لا يقول ذلك عاقل بَلْ المشركون هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ و يميلون بجهلهم من التوحيد إلى الشّرك، أو يسوون لسفههم مع اللّه غيره.

ص: 587


1- . تفسير الرازي 24:205.
2- . تفسير أبي السعود 6:292.
3- . تفسير الرازي 24:205، تفسير روح البيان 6:360.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 61

ثمّ أضرب سبحانه عمّا ذكر من التبكيت إلى التبكيت بوجه آخر بقوله: أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ للانسان و غيره من الحيوانات قَراراً و مستقرا بإخراج بعضها من الماء و تسويتهما حسبما تدور عليه منافعهم وَ جَعَلَ بلطفه خِلالَها و في فرجها، أو في أوساطها أَنْهاراً جارية تنتفعون بها وَ جَعَلَ لَها جبالا رَواسِيَ و ثوابت تمنعها من الاضطراب و الانقلاب بأهلها، و تتكون فيها المعادن، و تنبع منها الينابيع، و تتعلق بها مصالح لا تحصى وَ جَعَلَ بَيْنَ اَلْبَحْرَيْنِ العذب و المالح، أو بحر فارس و الروم حاجِزاً مانعا من المخالطة و الامتزاج، فمع ما ترون من قدرته الكاملة أَ تقولون: إِلهٌ مَعَ اَللّهِ يشاركه في استحقاق العبادة؟ ! بَلْ المشركون أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحجج و البراهين على التوحيد، و لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشّرك مع كمال وضوحه.

أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ اَلْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)

سوره 27 (النمل): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أضرب سبحانه عن تبكيت المشركين بنعمه العامة لجميع الموجودات و انتقل إلى تبكيتهم بشدّة حاجة الخلق إليه بقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ و يستجيب دعاء المبتلى بالضيق و الشدة مع عدم ملجأ له و لا حيلة إِذا دَعاهُ و سأله كشف ضرّه و رفع شدّته و تضرّع إليه؟ وَ من يَكْشِفُ عن عباده اَلسُّوءَ و يدفع عنهم المكروه كالمرض و الفقر و الغرق بالشّفاء و الغنى و النجاة، و إن لم يدعوه؟ وَ من يَجْعَلُكُمْ بعد إهلاك الامم الماضين خُلَفاءَ هم في اَلْأَرْضِ و ساكنين في مساكنهم، و متصرّفين فيها بعد موتهم مع ذلك؟ أَ تقولون: إِلهٌ آخر مَعَ اَللّهِ المنعم عليكم بتلك النّعم الجسام قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ آلائه، و تتوجّهون إلى نعمائه، أو تتنبّهون للحقّ مع غاية الوضوح.

أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ اَلْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ تَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (63)و قيل: إنّ المراد من القليل العدم (1).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «نزلت في القائم من آل محمّد، هو و اللّه المضطرّ إذا صلّى في المقام

ص: 588


1- . تفسير البيضاوي 2:181، تفسير أبي السعود 6:295، تفسير روح البيان 6:363.

ركعتين، و دعا اللّه عزّ و جلّ أجابه (1)، و يكشف السوء، و يجعله خليفة في الأرض» (2).

أقول: يعني أنّه أظهر مصاديق المضطّر، لا أنّ المراد شخصه فقط، ثمّ أضرب سبحانه عمّا ذكر إلى التبكيت بذكر نعمة اخرى بقوله: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ و يرشدكم إلى الطريق مع كونكم فِي ظُلُماتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بالنجوم في السماء و علامات الطريق في الأرض؟

و قيل: اريد من الظلمات مشتبهات الطرق (3)وَ مَنْ يُرْسِلُ اَلرِّياحَ لتكون بُشْراً و مبشّرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟ و قيل: إنزاله المطر (4)الذي به حياة الأرض و ما فيها مع الوصف.

أَ تقولون: إِلهٌ مَعَ اَللّهِ يقدر على مثل ذلك؟ ! تَعالَى اَللّهُ العظيم القدير الحكيم عَمّا يُشْرِكُونَ به من الجمادات التي هي أعجز مخلوقاته.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 64 الی 66

ثمّ أضرب سبحانه من النّعم المذكورة إلى ذكر أصل النّعم الدنيوية و الاخروية، و هو نعمة الايجاد في الدنيا و الاعادة في الآخرة بقوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ في هذا العالم و يجر من كتم العدم إلى الوجود في الدنيا ثُمَّ يُعِيدُهُ و يوجده ثانيا في الآخرة بعد إماتته في الدنيا.

أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اَللّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ اِدّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)ثمّ لمّا كانت نعمة الوجود لا تتمّ إلاّ بالبقاء المتوقّف على إيصال ما يحتاج بقاؤهم إليه، أردفه بذكره بقوله: وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ و يوصل إليكم جميع ما يتوقّف عليه بقاؤكم عليه مِنَ اَلسَّماءِ بالأمطار وَ من اَلْأَرْضِ بالإنبات، و مع ذلك أَ تقولون إِلهٌ آخر يكون مَعَ اَللّهِ و يشاركه في الالوهية و استحقاق العبادة قُلْ يا محمّد، للمشركين هذه المذكورات براهيننا على مدّعانا من التوحيد، و أنتم هاتُوا بُرْهانَكُمْ على أنّ مع اللّه آلهة اخرى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختصاصه بالقدرة الكاملة، بيّن اختصاصه بالعلم غير المتناهي بقوله: قُلْ يا محمّد لا يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ من في اَلْأَرْضِ من الإنس و الجنّ

ص: 589


1- . في تفسير الصافي: فأجابه.
2- . تفسير القمي 2:129، تفسير الصافي 4:71.
3- . تفسير البيضاوي 2:181، تفسير أبي السعود 6:295، تفسير روح البيان 6:363.
4- . تفسير البيضاوي 2:181، تفسير روح البيان 6:363.

اَلْغَيْبَ و ما لا يدركه الحواسّ إِلاَّ اَللّهُ قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكنّه تعالى يعلمه (1).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه أخبر يوما ببعض الامور التي لم تأت بعد، فقيل له: أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فضحك و قال: «ليس هو بعلم غيب، إنّما هو تعلّم من ذي علم، و إنّما علم الغيب علم الساعة و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّاعَةِ الآية، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر و انثى، و قبيح أو جميل، و سخيّ أو بخيل و شقيّ أو سعيد، و من يكون للنار خطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه، و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيه فعلّمنيه، و دعا لي أن يعيه صدري و تضطمّ عليه جوانحي» (2).

و أمّا غيره من الانس و الجنّ لا يعلمون وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ من القبور، و أيّ وقت ينشرون للحساب،

فانّه من علم الغيب الذي اختصّ بذاته تعالى بَلِ اِدّارَكَ و تكامل و استحكم عِلْمُهُمْ بتكامل أسبابه من الدلائل و الحجج فِي شأن اَلْآخِرَةِ و تمكّنوا من معرفتها، و مع ذلك لمّا لم يتفكّروا فيها جهلوا بوقوعها.

و قيل: يعني انتهى علمهم و انتفى إدراكهم بلحوقها فجهلوا بها (3).

و عن ابن عباس: أن وصفهم باستحكام العلم بالآخرة على سبيل التهكّم و الاستهزاء (4).

بَلِ المشركون هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ثمّ أضرب سبحانه عن كونهم شاكّين إلى بيان كونهم في أقطع حال من الشكّ بقوله: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ و فاقدو البصيرة بحيث لا يكادون يدركون دلائلها.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 67 الی 70

ثمّ حكى سبحانه مقالتهم في المعاد الدالة على عميهم منه بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكّة: أَ إِذا كُنّا تُراباً وَ كان آباؤُنا أيضا ترابا أَ إِنّا لَمُخْرَجُونَ من القبور أحياء؟ ! و إنّما كرّروا الاستفهام الانكاري مبالغة في الإنكار.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ (69) وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ (70)

ص: 590


1- . تفسير روح البيان 6:364.
2- . نهج البلاغة:186 الخطبة 128، تفسير الصافي 4:72، و في النسخة و تفسير الصافي: و تضم عليه جوارحي.
3- . تفسير روح البيان 6:365.
4- . تفسير الرازي 24:212، و تفسير البيضاوي 2:181، و لم ينسب إلى ابن عباس.

ثمّ حكى استدلالهم على بطلان القول به بقوله: لَقَدْ وُعِدْنا هذا الإخراج و الحشر و النشر نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ و زمان ظهور محمد، و لم نر أحدا منهم خرج من قبره، فلذا إِنْ هذا الوعد، و ما هو إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و خرافات السابقين.

ثمّ أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بما نزل على أضرابهم من مكذّبي الرسل بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: سِيرُوا أيّها المشركون و سافروا فِي اَلْأَرْضِ التي كانت مسكن مكذّبي الرسل، كأرض الحجر و الأحقاف و سدوم و غيرها فَانْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُجْرِمِينَ و مآل المكذّبين للرسل، فانّ عاقبتهم التالية الهلاك بالعذاب.

ثمّ سلّى نبيه بقوله: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن أصرّوا على التكذيب، أو ابتلوا بالعذاب.

ثمّ قوّى قلبه الشريف في تبليغ الرسالة بقوله: وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ و حرج و خوف مِمّا يَمْكُرُونَ و يحتالون في قتلك و يدبّرون في إهلاكك، فانّا كافلوك و ناصروك.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 71 الی 74

ثمّ حكى سبحانه استهزاءهم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين في وعدهم بالعذاب بقوله: وَ يَقُولُونَ استهزاء: مَتى هذَا اَلْوَعْدُ الذي تعدوننا؟ و في أيّ وقت ينزل العذاب الذي تخوّفوننا به؟ عيّنوه لنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم به

قُلْ يا محمّد، عَسى و قرب أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ و لحقكم بَعْضُ العذاب اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ و هو عذاب يوم بدر

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ و إنعام عَلَى كافة اَلنّاسِ بتأخير عقوبتهم على الكفر و العصيان وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعرفون هذه النّعمة، و لذا لا يَشْكُرُونَ بل لجهلهم يستعجلونه.

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (74)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تأخير عذابهم ليس لجهله تعالى بأعمالهم بقوله: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ و تستر صُدُورُهُمْ من النيّات و الدواعي وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون من الأقوال و الأفعال من عداوة الرسول و استهزائهم به و تكذيبهم له فيعاقبهم أشدّ العذاب.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 75 الی 77

ص: 591

ثمّ قرّر سبحانه سعة علمه بقوله: وَ ما مِنْ غائِبَةٍ و أمر خفيّ غاية الخفاء فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ و هو مكشوف عنده، و مكتوب فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللوح المحفوظ الظاهر للناظرين فيه من الأنبياء الصالحين و الملائكة المقرّبين.

وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده و سعة قدرته و علمه المستلزمة للمعاد، شرع في إثبات نبوة نبيه باعجاز القرآن بقوله: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ الذي جاء به محمد الامّي الذي لم يخالط عالما، و لم يستفد من أحد العلماء، و لم يقرأ كتابا يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و يبيّن لهم أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كشأن عيسى و عزير، و المعارف الالهية من التشبيه و التنزيه، و أحوال المعاد و الجنّة و النار، و قصص الأنبياء و غيرها، حتى لعن بعضهم بعضا،

وَ إِنَّهُ بفصاحته و بلاغته البالغتين حدّ الإعجاز، و مطابقة ما فيه من المعارف و الأحكام للعقول السليمة، و خلوّة من التناقض و التهافت لَهُدىً و رشاد إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سائر العقائد الحقّة وَ رَحْمَةٌ و وسيلة للفوز إلى السعادة الأبدية و المقامات العالية لِلْمُؤْمِنِينَ.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 78 الی 81

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اختلاف الناس، بين أنّه مع إنزاله القرآن الرافع للاختلاف، يكون هو الحاكم بينهم يوم القيامة بقوله: إِنَّ رَبَّكَ حين حضور المصيب و المخطئ عنده يوم القيامة يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ العدل و فصله الحقّ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ القادر على إنفاذ حكمه من غير مدافع و مزاحم و اَلْعَلِيمُ بكلّ شيء، و منه الحقّ الذي اختلفوا فيه، فلا تكن من اختلافهم في تعب،

فاذا كان ربّك قادرا على حفظك عالما بحالك فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و فوّض أمرك إليه، و لا تبال بهم، و لا تلتفت إلى اختلافهم إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ و الدين الواضح صحّته، و من المعلوم أنّ من هو على الحقّ حقيق بنصر اللّه.

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَ ما أَنْتَ بِهادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

ثمّ ذمّ سبحانه المخالفين له، المصرّين على الكفر و الباطل، و قطع طمعه عن هدايتهم و إيمانهم، إراحة لقلبه الشريف من تعب اجتهاده في دعوتهم بقوله: إِنَّكَ لا تقدر على هداية هؤلاء الكفرة؛ لأنّهم بمنزلة الموتى، لسقوط قلوبهم عن قابلية الانتفاع بالآيات و استماع الدلائل و البراهين و الاتّعاظ

ص: 592

بالمواعظ، و أنت لا تُسْمِعُ اَلْمَوْتى و لا يمكنك تفهيمهم الحكم و الحقائق، و هم بمنزلة الصمّ وَ أنت لا تُسْمِعُ اَلصُّمَّ و الأشخاص الفاقدين لقوّة السمع اَلدُّعاءَ و النداء فضلا عن الآيات القرآنية سيما إِذا وَلَّوْا و أعرضوا عنك حال كونهم مُدْبِرِينَ و جاعلين ظهورهم نحوك، فانّ الصّمّ إذا كانوا مقبلين و متوجّهين نحو الداعي و المتكلّم، فانّهم بمقابلة صماخهم و قربهم منه لعلّهم يسمعون أو برؤية حركات وجهه و شفتيه لعلّهم يفهمون، و أمّا إذا كانوا منصرفين عن الداعي، و مخلّفين له وراء ظهورهم و بعيدين منه، لا يرجى منهم السمع و الفهم، و هم بمنزلة العمي الذين ضلّوا الطريق وَ ما أَنْتَ بِهادِي اَلْعُمْيِ هداية نافعة عَنْ ضَلالَتِهِمْ في الطريق، لأن الأعمى الضالّ إذا قيل له هذا الطريق لا يراه و لا يهتدي إليه، بل إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ سلم قلبه عن العناد و اللّجاج، فانّه سبق في علمنا أنّه يُؤْمِنُ بِآياتِنا لطيب طينته و سلامة قلبه من الأمراض المانعة عن الايمان كالحسد و العناد و اللّجاج و حبّ الرئاسة و الدنيا، و غلبة عقله على شهوته و هوى نفسه فَهُمْ مُسْلِمُونَ و منقادون لما سمعوا من الحقّ، و مخلصون في الايمان.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 82

ثمّ هدّد سبحانه هؤلاء الكفّار بأهوال قبل القيامة بقوله: وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ و قرب العذاب الموعود إليهم و دنا نزوله عَلَيْهِمْ بظهور أمارات القيامة و وقت إنجاز الوعيد أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ.

وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)قيل: هي دابة طولها ستون ذراعا (1).

و قيل: يبلغ رأسها السّحاب، و ما بين قرنيها فرسخ للراكب، و لها أربع قوائم و زغب و ريش [و جناحان]، و رأسها رأس الثور، و عينها عين خنزير، و اذنها اذن فيل، و لها قرن إيل، و صدر أسد، و لون نمر، و خاصرة بقرة، و ذنب كبش، و خفّ بعير، تخرج من المسجد الحرام من بين الرّكن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، أو من الصفا، و مدّة خروجها ثلاثة أيام (2).

و قيل: إنّها جمعت خلق كلّ حيوان، و لها وجه الآدميين مضيء (3)، و معها خاتم سليمان، و عصى موسى، يراها أهل المشرق و المغرب (4)، و هم ينظرون و هي تُكَلِّمُهُمْ بالعربيّ الفصيح، أو مع كلّ

ص: 593


1- . تفسير الرازي 24:217، تفسير البيضاوي 2:183، تفسير روح البيان 6:372.
2- . تفسير الرازي 24:217.
3- . في تفسير روح البيان: مضيئة.
4- . تفسير روح البيان 6:372.

طائفة بلسانهم، و تقول من قبل اللّه: أَنَّ اَلنّاسَ كانُوا بِآياتِنا الناطقة بمجيء الساعة و يوم الجزاء لا يُوقِنُونَ بل فيها يشكّون.

و في الخبر: بينما عيسى يطوف بالبيت و معه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم و تتحرّك تحرّك القنديل، فينشقّ جبل الصفا ممّا يلي المسعى، فتخرج الدابّة منه كما خرجت ناقة صالح من الصخرة، و لا يتمّ خروجها إلاّ بعد ثلاثة أيام، فقوم يقفون نظّارا، و قوم يفزعون إلى الصلاة، فتقول للمصلّي: طوّل ما طوّلت، فو اللّه لأحطّمنّك، فتخرج و معها عصى موسى و خاتم سليمان فتضرب المؤمن في مسجده بالعصا فيظهر أثره كالنّقطة، فينبسط نوره على وجهه، و يكتب على جبهته: هو مؤمن، و تختم الكافر في أنفه بالخاتم، فتظهر نكتة فتقشو حتى يسودّ لها وجهه، و يكتب بين عينيه: هو كافر، ثمّ تقول لهم: أنت يا فلان من أهل الجنّة، و أنت يا فلان من أهل النار (1)، و لم يبق في الدنيا إلاّ من ابيضّ وجهه.

و في الحديث: أنّ خروج الدابة و طلوع الشمس من المغرب متقاربان (2).

قيل: إنّه أوّل أشراط الساعة (3). و قيل: إنّه آخرها (4).

و نسب بعض علماء العامة إلى محدّثيهم أنّ بني الأصفر-و هم الأفرنج-إذا خرجوا و ظهروا إلى الأعماق في ستّ سنين يظهر المهدي عليه السّلام في السنة السابعة، ثم يظهر الدجّال، ثمّ ينزل عيسى عليه السّلام، ثمّ تخرج دابة الأرض، ثمّ تطلع الشمس من المغرب، و قالوا: إذا خرجت الدابة حبست الحفظة، و رفعت الأقلام، و شهدت الأجساد على الأعمال (5).

أقول: كل ذلك بروايات العامة، و أما الروايات الخاصة، فعن القميّ، عن الصادق عليه السّلام، قال: «انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو نائم في المسجد قد جمع رملا و وضع رأسه عليه، فحرّكه برجله، ثمّ قال له: قم يا دابة الأرض (1)، فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللّه، يسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ ! فقال: لا و اللّه، ما هو إلاّ له خاصة، و هو الذي ذكره (2)اللّه في كتابه، فقال عزّ و جلّ: وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا الآية، ثمّ قال: يا علي، إذا كان في (3)آخر الزمان، أخرجك اللّه في أحسن صورة، و معك ميسم تسم به أعداءك» .

فقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إن العامّة (4)يقولون: إنّ هذه الدابة تكلمهم؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ص: 594


1- . في المصدر: دابة اللّه.
2- . في المصدر: و هو الدابة التي ذكر، و في تفسير الصافي: و هو الدابة الذي ذكره.
3- . (في. ليست في المصدر و تفسير الصافي.
4- . ليس في المصدر: الناس.

«كلمهم اللّه في نار جهنّم، إنّما هو تكلّمهم من الكلام» (1).

أقول: الظاهر أنّه نسب إلى العامة القول بأنّ يكلمهم من الكلم بمعنى الجرح (2)، فردّه عليه السّلام.

و عنه عليه السّلام أنّه قال: «[قال:]رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان، آية في كتاب اللّه قد أفسدت قلبي؟ فقال: و أيّة آية هي؟ قال: قوله عزّ و جلّ: وَ إِذا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ الآية. فأيّة دابة (3)هي؟ فقال عمار: و اللّه ما أجلس و لا آكل و لا أشرب حتى اريكها، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يأكل تمرا و زبدا، فقال [له]: يا أبا اليقظان هلمّ، فأقبل عمّار و جلس يأكل معه، فتعجّب الرجل منه، فلمّا قام عمّار قال [له]الرجل: سبحان اللّه! إنّك حلفت أن لا تأكل و لا تشرب و لا تجلس حتى تريني الدابة! قال عمار: قد أريتكها إن كنت تعقل (4).

و روى العياشي هذه القصة عن أبي ذرّ (5)، و عن الباقر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لقد اعطيت الستّ: علم المنايا و البلايا، و الوصايا، و فصل الخطاب، و إنّي لصاحب الكرّات و دولة الدول، و إنّي لصاحب العصا و الميسم، و الدابة التي تكلّم الناس» (6).

و في (الاكمال) عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث بعد أن ذكر الدجّال و قاتله-قال: «ألا إنّ بعد ذلك الطامّة الكبرى. فقيل: و ما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: خروج دابة الأرض من عند الصفا، و معها خاتم سليمان و عصا موسى، تضع الخاتم على وجه كلّ مؤمن فينطبع فيه: هذا مؤمن حقا، و تضع العصا (7)على وجه كلّ كافر فيكتب: هذا كافر حقا، حتى إنّ المؤمن لينادي: الويل لك يا كافر، و إنّ الكافر ينادي: طوبى لك يا مؤمن، وددت أنّي كنت مثلك، فأفوز فوزا عظيما، و ترفع الدابة رأسها [فيراها]من بين الخافقين باذن اللّه جلّ جلاله، و ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك ترفع التوبة، فلا تقبل توبة و عمل (8)، و لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.

ثمّ قال عليه السّلام: لا تسألوني عمّا يكون بعد هذا، فانّه عهد إليّ حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا اخبر به غير عترتي» (9).

و في (المجمع) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «دابة الأرض طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، و لا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه [و يكتب بين عينيه]مؤمن، و تسم الكافر بين عينيه [و يكتب بين

ص: 595


1- . تفسير القمي 2:130، تفسير الصافي 4:74.
2- . تفسير الرازي 24:218، تفسير أبي السعود 6:302.
3- . في النسخة: آية.
4- . تفسير القمي 2:131، تفسير الصافي 4:74.
5- . مجمع البيان 7:366، تفسير الصافي 4:75.
6- . الكافي 1:154/3، تفسير الصافي 4:75.
7- . في المصدر: و يضعه، و في تفسير الصافي: و تضعه.
8- . في المصدر: فلا توبة تقبل و لا عمل يرفع.
9- . كمال الدين:527/1، تفسير الصافي 4:75.

عينيه]كافر، و معها عصا موسى و خاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، و تختم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال: يا مؤمن و يا كافر» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن الدابة، فقال: «أما و اللّه لا يكون لها ذنب، و إنّ لها للحية» (2).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 83 الی 85

ثمّ ذكر سبحانه بعض أهوال يوم القيامة بقوله: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ و التقدير اذكروا، أو اذكر يا محمّد لقومك يوم نحشر مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من امم الرسل، أو كلّ قرن من القرون فَوْجاً و جمعا كثيرا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا و دلائل توحيدنا و رسالة رسلنا فَهُمْ يُوزَعُونَ و يحبسون كي يلحق بهم أسافلهم التابعون.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)عن ابن عباس، قال: أبو جهل، و الوليد بن المغيرة، و شيبة بن ربيعة، يساقون بين يدي أهل مكّة، و هكذا تحشر قادة سائر الامم بين أيديهم إلى النار (1).

و قيل: إنّ المراد بالفوج الذين يرجعون إلى الدنيا بعد قيام القائم حَتّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال و الحساب أو التوبيخ (2)قالَ اللّه أو الملك من قبله تعالى توبيخا لهم: أَ كَذَّبْتُمْ في الدنيا، أو في زمان حياتكم بِآياتِي الدالة على توحيدي و الناطقة بلقاء يومكم هذا وَ أنتم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً و لم تنظروا فيها نظرا يؤدّي إلى معرفة حقيقتها و صدقها. و يحتمل أن تكون الواو للعطف لا للحال، و المعنى: جمعتم بين تكذيبها و عدم التفكّر و التدبّر فيها أَمّا ذا كُنْتُمْ بعد ترك التفكّر فيها، أو عدم الاعتناء بها تَعْمَلُونَ و بأيّ شيء بعد ذلك كنتم تشتغلون غير الكفر و التكذيب و العصيان؟ فلا يمكنهم إلاّ الإقرار بأنّهم ما فعلوا إلاّ ذلك.

و عن الصادق عليه السّلام-في الحديث الذي مضى في تفسير دابّة الأرض-أنّه قال: «و الدليل على أنّ هذا في الرجعة: [قوله]: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً الآية» . و قال: «الآيات أمير المؤمنين و الائمّة عليهم السّلام» (3).

أقول: و المعنى على هذا: أنّه يحشر مكذّبو الائمة في الرجعة، و يحييهم ثانيا، و يوبّخهم بلسان

ص: 596


1- . تفسير أبي السعود 6:302، تفسير روح البيان 6:373.
2- . تفسير روح البيان 6:373.
3- . تفسير القمي 2:130، تفسير الصافي 4:76.

ملك، و يقول: إنّي نصبت لكم أئمة ليهدوكم، أكذبتموهم و لم تتفكّروا في دليل امامتهم؟ !

وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ و حلّ العذاب بهم بِما ظَلَمُوا به أنفسهم من التكذيب بالآيات فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ و لا يقدرون على التكلّم بالعذر و غيره، لشدة هول ما يشاهدون من أنواع العذاب، أو للختم على أفواههم.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 86 الی 87

ثمّ أنّه تعالى بعد إرعابهم بذكر أهوال القيامة، بيّن دليلا قاطعا على التوحيد و المعاد بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء المشركون المنكرون للمعاد ببصيرة قلوبهم أَنّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ المظلم لِيَسْكُنُوا عن الحركة و يستريحوا فِيهِ من التعب بالنوم و القرار وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً و مضيئا ليبصروا فيه طرق التقلّب في معاشهم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من جعل الليل و النهار كما وصفا لَآياتٍ عظيمة و براهين واضحة على التوحيد و المعاد لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانّ من كان قدرته و حكمته بحيث يقلّب الليل و النهار، و يعقب النور بالظلمة و بالعكس، كان متوحدا بالالوهية، و قادرا على تقليب الحياة إلى الموت، و الموت إلى الحياة مع اقتضاء الحكمة ذلك.

أَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان أهوال القيامة ازديادا لإرعاب القلوب بقوله: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ النفخة الاولى أو الثانية فِي اَلصُّورِ و القرن الذي بيد إسرافيل، و هو نافخه مرة للموت و اخرى للحشر فَفَزِعَ و خاف من هول صوته خوفا موجبا للنّفار مَنْ فِي اَلسَّماواتِ السبع من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ ثبات قلبه و عدم فزعه، و هم الملائكة أو ساداتهم كجبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، أو خزنة الجنّة و النار، أو خصوص إسرافيل، أو الحور العين أو الحور و خزنة جهنم، أو حملة العرش.

و عن جابر: أنّ موسى منهم حيث صعق مرّة (1).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّهم الشهداء» (2).

وَ كُلٌّ منهم أَتَوْهُ و حضروا بعد النفخة الثانية في الموقف حال كونهم داخِرِينَ و ذليلين

ص: 597


1- . تفسير الرازي 24:220.
2- . تفسير الطبري 20:13، تفسير الرازي 24:220، نسبه إلى القيل، مجمع البيان 7:370.

للسؤال و الحساب، و إنّما عبّر سبحانه عن الفزع و الإتيان بصيغة الماضي للدلالة على تحقّق وقوعهما، و قد مرّ كيفية بيان الصّور، و النّفخ فيه، و عدد النّفخ، و الفصل بين النفختين (1).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 88

ثمّ ذكر سبحانه من أهوال القيامة حال الجبال بقوله: وَ تَرَى أيّها الرائي اَلْجِبالَ يومئذ حال كونك تَحْسَبُها و تتوهّمها جامِدَةً و ساكنة في اماكنها وَ هِيَ في ذلك الوقت تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ و تسير كسيره في السرعة، فانّ الجسم العظيم إذا تحرّك حركة سريعة على نهج واحد في السّمت و الكيفية، ظنّ الناظر أنّه واقف، مع أنّه متحرّك في غاية السرعة، و كذا الشيء العظيم الذي لا يحيط بأطرافه البصر، إذا سار لا يحسّ الناظر سيره، و يتوهمه واقفا، و ذلك يكون عند النفخة الثانية حين تبدّل الأرض غير الأرض، و تغيّر هيئتها، و تسيّر (2)الجبال عن مقارّها.

وَ تَرَى اَلْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ صُنْعَ اَللّهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)و عن بعض العامة، عن الصادق عليه السّلام-في تأويل الآية-قال: «و ترى الأنفس جامدة عند خروج الرّوح، و الروح تسير (3)في القدس لتأوي إلى مكانها تحت العرش» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على عظم شأن تلك الأفعال، و تهويل أمرها، و كونها من بدائع صنعه المبنية على الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجميلة التي رتّبت لأجلها مقدّمات الخلق و مبادي الإبداع على الوجه المتقن المستحكم بقوله: صُنْعَ اَللّهِ و فعله الجيّد غايته اَلَّذِي أَتْقَنَ و أحكم كُلَّ شَيْءٍ خلقه، و سوّاه على ما ينبغي، ثم علّل النفخ و البعث و سائر أهوال القيامة بقوله: إِنَّهُ تعالى خَبِيرٌ و عالم بِما تَفْعَلُونَ من الطاعة و العصيان، فيجازيكم عليه بما تستحقّون.

سوره 27 (النمل): آیه شماره 89 الی 90

ثمّ بيّن حال المطيعين و العاصين في ذلك اليوم بقوله: مَنْ جاءَ في ذلك اليوم بِالْحَسَنَةِ و الامور الحميدة من العقائد الصحيحة و الطاعات الخالصة فَلَهُ من الثواب ما هو خَيْرٌ و أفضل مِنْها فانّ تجلّياته تعالى في الجنّة أفضل من معرفته له تعالى في الدنيا، و نعمه الأبدية خير من

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

ص: 598


1- . تقدم ذكر الصّور في الأنعام/73 و الكهف/99 و طه/102 و المؤمنون/23.
2- . في النسخة: و سير.
3- . في تفسير روح البيان: تسري.
4- . تفسير روح البيان 6:376.

طاعاته في الدنيا.

و قيل: يعني له خير حاصل من جهتها (1).

وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ عظيم يكون لأهل العصيان يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ و مأمونون لا يرعبهم بعد الفزع من نفخ الصّور شيء من أهوال الموقف التي هي الفزع الأكبر

وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ من الشّرك و الكفر، و ما هو بمنزلته من إنكار الولاية فَكُبَّتْ و اسقطت منكوسة (2)وُجُوهُهُمْ أو المعنى القوا على وجوههم فِي اَلنّارِ. و قيل: إنّ المراد بالوجوه أبدانهم (3). ثمّ يقال لهم توبيخا: هَلْ تُجْزَوْنَ اليوم إِلاّ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الشرك، و العقائد الفاسدة، و الأعمال الشنيعة.

في الحديث: «إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان و الشّرك يجثوان بين يدي الربّ تعالى، فيقول اللّه تعالى للايمان: انطلق أنت و أهلك إلى الجنّة و يقول للشّرك: أنطلق أنت و أهلك إلى النار» . ثمّ قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلى قوله: فِي اَلنّارِ (4).

و روى بعض العامة عن أبي عبد اللّه الجدلي قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: «يا أبا عبد اللّه، ألا انبّئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله اللّه الجنة، و السيئة التي من جاء بها أكبّه اللّه في النار و لم يقبل معها عملا؟» قلت: بلى. قال: «الحسنة حبنّا، و السيئة بغضنا» (5).

و عن الصادق، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام-في هذه الآية-قال: «الحسنة معرفة الولاية و حبّنا أهل البيت، و السيئة إنكار الولاية و بغضنا أهل البيت» ثمّ قرأ الآية (3).

و عن الباقر عليه السّلام-في قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً -قال: «من تولّى الأوصياء من آل محمّد و اتّبع آثارهم، فذاك يزيده ولاية من مضى من النبيين و المؤمنين الأولين حتى تصل ولايتهم إلى آدم عليه السّلام، و هو قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يدخله الجنة» (4).

و عنه عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «الحسنة ولاية عليّ و حبّه، و السيئة عداوته و بغضه، و لا يرفع معهما عمل» (5).

سوره 27 (النمل): آیه شماره 91 الی 93

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ فَمَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (92) وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (93)

ص: 599


1- . تفسير الرازي 24:221.
2- . في النسخة: منكوسا. (3 و 4 و 5) . تفسير روح البيان 6:377.
3- . الكافي 1:142/14، تفسير الصافي 4:78.
4- . الكافي 8:379/574، تفسير الصافي 4:78.
5- . روضة الواعظين:106، تفسير الصافي 4:78.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاحتجاج على التوحيد و إبلاغ البيان فيه، ختم الكلام بأمر نبيّه بإظهار التزام نفسه به، قبلوا قوله و حججه أوّلا، قطعا لطمع المشركين من أن يميل عليه السّلام إلى دينهم، و إظهارا لعدم المبالاة بلجاجهم و عنادهم بقوله: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ اَلْبَلْدَةِ التي هي أحبّ البلاد لديّ و أكرمها و أعظمها عندي و عند ربّي اَلَّذِي حَرَّمَها و جعلها لمن دخلها، و ممنوعة من أن تهتك حرمتها، و يعضد شجرها (1)، و ينفّر صيدها، و من المعلوم أنّ ذلك كلّه من نعم ربّي عليّ و عليكم، و ليس إضافتها إليه لاختصاص ربوبيته بها، بل وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ من هذه البلدة و غيرها من الموجودات وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين له، و المطيعين لأحكامه، أو من الثابتين على دينه

وَ امرت أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ الذي أنزله عليّ، و إن تجحدونه أنّه منه، و تنسبونه إلى السّحر مرة، و إلى الشعر اخرى، و إلى الكهانة ثالثة، و إلى الأساطير رابعة فَمَنِ اِهْتَدى إلى التوحيد و دين الاسلام و السعادة الأبدية بهدايته و إرشادك فَإِنَّما يَهْتَدِي إلى كلّ خير عائد لِنَفْسِهِ لا يتعدّى إلى غيره وَ مَنْ ضَلَّ بمخالفتك عن الصراط المستقيم، و انحرف عن الطريق القويم فَقُلْ له: ليس عليّ وبال ضلالك و إِنَّما أَنَا منذر مَنْ جملة اَلْمُنْذِرِينَ و رسول من الرسل ليس عليّ إلاّ الإنذار و التبليغ، و قد أدّيت ما عليّ، و خرجت عن عهدة ما كلّفت به، و عليكم الاهتداء و الايمان، و بقي ما عليكم و اللّه مجازيكم عليه.

ثمّ لمّا بيّن وظيفته و هو التبليغ، و خروجه من عهدتها، و براءته من وبال مخالفة أمّته، أمره اللّه سبحانه بالشكر على نعمه عليه بقوله: وَ قُلِ يا محمد اَلْحَمْدُ لِلّهِ على إكمال نعمه عليّ من العلم و الحكمة و النبوة و الكتاب، و توفيقه للقيام بوظيفة الرسالة و تحمّل أعباء النبوة، و أمّا أنتم يا مشركي قريش، فاعلمكم أنّ اللّه المنتقم سَيُرِيكُمْ في الدنيا أو الآخرة آياتِهِ القاهرة و عقوباته الشديدة فَتَعْرِفُونَها حين لا ينفعكم معرفتها، و تقرّون بها حين لا يفيدكم الإقرار.

القميّ، قال: الآيات أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام إذا رجعوا إلى الدنيا يعرفهم أعداؤهم إذا رأوهم في الدنيا (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال: «و اللّه ما للّه آية أكبر مني» (3).

قال مقاتل: يعني سيريكم آياته عن قريب من الأيام، فطوبى لمن رجع قبل وفاته، و الويل على من

ص: 600


1- . يعضد شجرها: أي يقطع.
2- . تفسير القمي 2:132، تفسير الصافي 4:79.
3- . تفسير القمي 2:132، تفسير الصافي 4:79.

رجع بعد وفاته و بعد ذهاب الوقت (1).

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الضالين بقوله: وَ ما رَبُّكَ يا محمّد بِغافِلٍ و ذاهل عَمّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه أسوأ الجزاء، و إنّما أخّره لحكم كثيرة لا للغفلة عنه و عدم إطّلاعه عليه.

عن ابي بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة طس كتب اللّه تعالى له عشر حسنات بعدد من آمن بسليمان و هود و شعيب و صالح و إبراهيم، و بعدد من كذّبهم، و إذا خرج من قبره يوم القيامة يقول: لا إله إلاّ اللّه» (2).

اللهمّ وفّقني لأداء شكر نعمتك من التوفيق لاتمام تفسير السورة المباركة، و وفّقني و جميع المؤمنين لتلاوتها آناء الليل و أطراف النهار.

ص: 601


1- . تفسير روح البيان 6:379.
2- . مجمع البيان 7:327، تفسير أبي السعود 6:307.

ص: 602

في تفسير سورة الإسراء 5

[1]بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام5

[2 و 3]و آتينا موسى الكتاب و جعلناه هدى لبنى إسرائيل ألا تتخذوا من دونى24

[4-6]و قضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين و لتعلن24

[7]إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة25

[8]عسى ربكم أن يرحمكم و إن عدتم عدنا و جعلنا جهنم للكافرين27

[9]إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون28

[10 و 11]و أن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما*و يدع الإنسان29

[12]و جعلنا الليل و النهار آيتين فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة30

[13 و 14]و كل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه32

[15]من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها و لا تزر وازرة33

[16 و 17]و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول34

[18-21]من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم35

[22]لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا37

[23 و 24]و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر38

[25 و 26]ربكم أعلم بما فى نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا40

[27 و 28]إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا*و إما42

[29]و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما43

[30]إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا44

[31]و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ44

[32]و لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة و ساء سبيلا45

[33]و لا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق و من قتل مظلوما فقد جعلنا45

ص: 603

[34]و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده و أوفوا بالعهد47

[35 و 36]و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن47

[37 و 38]و لا تمش فى الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا49

[39]ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة و لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى50

[40 و 41]أ فأصفاكم ربكم بالبنين و اتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا51

[42 و 43]قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا*سبحانه51

[44]تسبح له السماوات السبع و الأرض و من فيهن و إن من شىء إلا يسبح52

[45 و 46]و إذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا53

[47 و 48]نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك و إذ هم نجوى إذ يقول55

[49-51]و قالوا أءذا كنا عظاما و رفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا*قل كونوا56

[52]يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده و تظنون إن لبثتم إلا قليلا57

[53-55]و قل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان57

[56]قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم و لا60

[57]أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب و يرجون60

[58]و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا60

[59]و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون و آتينا ثمود الناقة61

[60]و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس و ما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة62

[61-64]و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أ أسجد لمن65

[65]إن عبادى ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا67

[66 و 67]ربكم الذى يزجي لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم67

[68 و 69]أ فأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا68

[70]و لقد كرمنا بنى آدم و حملناهم فى البر و البحر و رزقناهم من الطيبات69

[71]يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم70

[72]و من كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى و أضل سبيلا72

[73 و 74]و إن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره و إذا73

[75-77]إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا75

ص: 604

[78]أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر إن قرآن الفجر76

[79]و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا77

[80]و قل رب أدخلنى مدخل صدق و أخرجنى مخرج صدق و اجعل لى من78

[81]و قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا79

[82]و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا80

[83]و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نئا بجانبه و إذا مسه الشر كان81

[84 و 85]قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا*و يسئلونك81

[86 و 87]و لئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا*إلا85

[88]قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون86

[89]و لقد صرفنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا87

[90-93]و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا*أو تكون لك جنة87

[94-96]و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا94

[97 و 98]و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه94

[99 و 100]أ و لم يروا أن الله الذى خلق السماوات و الأرض قادر على أن يخلق96

[101-104]و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسأل بنى إسرائيل إذ جاءهم فقال له97

[105 و 106]و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا*و قرآنا فرقناه99

[107-109]قل آمنوا به أ و لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم99

[110]قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى و لا100

[111]و قل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك فى الملك و لم يكن102

في تفسير سورة الكهف 105

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل105

[6-8]فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا*إنا106

[9]أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا106

[10-13]إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيئ لنا من109

[14-16]و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا111

[17]و ترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت113

ص: 605

[18-20]و تحسبهم أيقاظا و هم رقود و نقلبهم ذات اليمين و ذات الشمال و كلبهم114

[21]و كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها إذ117

[22]سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم و يقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما119

[23-26]و لا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدا*إلا أن يشاء الله و اذكر ربك إذا120

[27]و اتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته و لن تجد من دونه123

[28]و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه و لا124

[29]و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين125

[30 و 31]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا126

[32 و 33]و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب و حففناهما127

[34-38]و كان له ثمر فقال لصاحبه و هو يحاوره أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا128

[39-41]و لو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك129

[42-44]و أحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها و هي خاوية على130

[45 و 46]و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات131

[47 و 48]و يوم نسير الجبال و ترى الأرض بارزة و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا132

[49]و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا مال133

[50 و 51]و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق134

[52 و 53]و يوم يقول نادوا شركائى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم135

[54]و لقد صرفنا فى هذا القرآن للناس من كل مثل و كان الإنسان أكثر شىء135

[55 و 56]و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى و يستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم136

[57]و من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها و نسى ما قدمت يداه إنا جعلنا137

[58 و 59]و ربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل137

[60 و 61]و إذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا138

[62-65]فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا*قال141

[66-70]قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا*قال إنك لن144

[71-77]فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال أ خرقتها لتغرق أهلها لقد145

[78 و 79]قال هذا فراق بينى و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا*أما148

ص: 606

[80-82]و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا*فأردنا149

[83]و يسئلونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا153

[84-90]إنا مكنا له فى الأرض و آتيناه من كل شىء سببا*فأتبع سببا*حتى إذا155

[91-98]كذلك و قد أحطنا بما لديه خبرا*ثم أتبع سببا*حتى إذا بلغ بين159

[99-100]و تركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض و نفخ فى الصور فجمعناهم جمعا*161

[101 و 102]الذين كانت أعينهم فى غطاء عن ذكرى و كانوا لا يستطيعون سمعا*162

[103-106]قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا*الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا163

[107 و 108]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا*164

[109 و 110]قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى165

في تفسير سورة مريم 169

[1-6]بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص*ذكر رحمت ربك عبده زكريا*إذ نادى ربه169

[7-9]يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا*قال رب172

[10 و 11]قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا*فخرج173

[12-14]يا يحيى خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا*و حنانا من لدنا و زكاة174

[15]و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا175

[16-28]و اذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا*فاتخذت من176

[29-34]فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا*قال إنى عبد الله181

[35-39]ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون183

[40-43]إنا نحن نرث الأرض و من عليها و إلينا يرجعون*و اذكر فى الكتاب184

[44-50]يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا*يا أبت إنى185

[51-53]و اذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا*و ناديناه من187

[54 و 55]و اذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا*و كان188

[56-58]و اذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا*و رفعناه مكانا عليا*189

[59 و 60]فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون190

[61-63]جنات عدن التى وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا*لا191

[64 و 65]و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان192

ص: 607

[66 و 67]و يقول الإنسان أءذا ما مت لسوف أخرج حيا*أولا يذكر الإنسان أنا193

[68-72]فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا*ثم194

[73 و 74]و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أى الفريقين197

[75 و 76]قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون198

[77-80]أ فرأيت الذى كفر بآياتنا و قال لأوتين مالا و ولدا*أطلع الغيب أم اتخذ198

[81 و 82]و اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا*كلا سيكفرون بعبادتهم199

[83 و 84]أ لم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا*فلا تعجل عليهم200

[85-87]يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا*و نسوق المجرمين إلى جهنم201

[88-95]و قالوا اتخذ الرحمن ولدا*لقد جئتم شيئا إدا*تكاد السماوات204

[96]إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا205

[97 و 98]فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين و تنذر به قوما لدا*و كم أهلكنا206

في تفسير سورة طه 209

[1-5]بسم الله الرحمن الرحيم طه*ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى*إلا تذكرة لمن209

[6 و 7]له ما فى السماوات و ما فى الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى*و إن211

[8-12]الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى*و هل أتاك حديث موسى*إذ رأى211

[13 و 14]و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى*إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى و أقم214

[15 و 16]إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى*فلا يصدنك عنها215

[17-21]و ما تلك بيمينك يا موسى*قال هى عصاى أتوكؤا عليها و أهش بها على216

[22-28]و اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى*لنريك217

[29-36]و اجعل لى وزيرا من أهلى*هارون أخى*اشدد به أزرى*و أشركه فى219

[37-39]و لقد مننا عليك مرة أخرى*إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى*أن اقذفيه221

[40]إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كى223

[41-44]و اصطنعتك لنفسى*اذهب أنت و أخوك بآياتى و لا تنيا فى ذكرى*224

[45-47]قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى*قال لا تخافا إننى معكما225

[48-52]إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب و تولى*قال فمن ربكما يا226

[53 و 54]الذى جعل لكم الأرض مهدا و سلك لكم فيها سبلا و أنزل من السماء ماء227

ص: 608

[55-57]منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى*و لقد أريناه228

[58-64]فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا و بينك موعدا لا نخلفه نحن و لا أنت229

[65-68]قالوا يا موسى إما أن تلقى و إما أن نكون أول من ألقى*قال بل ألقوا فإذا231

[69-73]و ألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر و لا يفلح232

[74-76]إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيى*و من يأته234

[77-79]و لقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر235

[80 و 81]يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم و واعدناكم جانب الطور الأيمن237

[82]و إنى لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى238

[83-85]و ما أعجلك عن قومك يا موسى*قال هم أولاء على أثرى و عجلت إليك239

[86 و 87]فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا241

[88-90]فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسى*242

[91-94]قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى*قال يا هارون ما246

[95-97]قال فما خطبك يا سامرى*قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة248

[98-101]إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو وسع كل شيء علما*كذلك نقص عليك249

[102-104]يوم ينفخ فى الصور و نحشر المجرمين يومئذ زرقا*يتخافتون بينهم إن250

[105-107]و يسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا*فيذرها قاعا صفصفا*لا251

[108 و 109]يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له و خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا253

[110-112]يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون به علما*و عنت الوجوه254

[113 و 114]و كذلك أنزلناه قرآنا عربيا و صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث255

[115]و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى و لم نجد له عزما257

[116-127]و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى*فقلنا يا آدم إن257

[128 و 129]أ فلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك260

[130]فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها260

[131]و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم261

[132]و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة262

[133-135]و قالوا لو لا يأتينا بآية من ربه أ و لم تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى*262

ص: 609

في تفسير سورة الأنبياء 267

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم اقترب للناس حسابهم و هم فى غفلة معرضون267

[4-8]قال ربى يعلم القول فى السماء و الأرض و هو السميع العليم*بل قالوا268

[9 و 10]ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم و من نشاء و أهلكنا المسرفين*لقد أنزلنا269

[11-15]و كم قصمنا من قرية كانت ظالمة و أنشأنا بعدها قوما آخرين*فلما أحسوا270

[16-19]و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما لاعبين*لو أردنا أن نتخذ لهوا271

[20-23]يسبحون الليل و النهار لا يفترون*أم اتخذوا آلهة من الأرض هم273

[24-27]أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معى و ذكر من قبلى274

[28]يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من276

[29 و 30]و من يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين277

[31-33]و جعلنا فى الأرض رواسى أن تميد بهم و جعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم279

[34-36]و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أ فإن مت فهم الخالدون*كل نفس ذائقة280

[37 و 38]خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتى فلا تستعجلون*و يقولون متى282

[39-42]لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار و لا عن ظهورهم282

[43 و 44]أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا هم منا283

[45 و 46]قل إنما أنذركم بالوحى و لا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون*و لئن284

[47 و 48]و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال285

[49 و 50]الذين يخشون ربهم بالغيب و هم من الساعة مشفقون*و هذا ذكر مبارك286

[51-58]و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين*إذ قال لأبيه و قومه ما286

[59-65]قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين*قالوا سمعنا فتى يذكرهم288

[66-69]قال أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم*أف لكم و لما290

[70-73]و أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين*و نجيناه و لوطا إلى الأرض التى292

[74-77]و لوطا آتيناه حكما و علما و نجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث294

[78-80]و داود و سليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم و كنا295

[81 و 82]و لسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التى باركنا فيها و كنا299

[83]و أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر و أنت أرحم الراحمين300

ص: 610

[84]فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر و آتيناه أهله و مثلهم معهم رحمة من305

[85 و 86]و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل كل من الصابرين*و أدخلناهم فى306

[87 و 88]و ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا308

[89 و 90]و زكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا و أنت خير الوارثين*فاستجبنا له311

[91-93]و التى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا و جعلناها و ابنها آية311

[94 و 95]فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون*312

[96-98]حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون*و اقترب313

[99-103]لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها و كل فيها خالدون*لهم فيها زفير و هم فيها لا314

[104-106]يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا316

[107]و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين317

[108-111]قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون*فإن تولوا فقل319

[112]قال رب احكم بالحق و ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون320

في تفسير سورة الحجّ 321

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم321

[3 و 4]و من الناس من يجادل فى الله بغير علم و يتبع كل شيطان مريد*كتب323

[5-7]يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة323

[8-10]و من الناس من يجادل فى الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير*ثانى326

[11]و من الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به و إن أصابته326

[12-14]يدعوا من دون الله ما لا يضره و ما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد*328

[15]من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا و الآخرة فليمدد بسبب إلى328

[16 و 17]و كذلك أنزلناه آيات بينات و أن الله يهدى من يريد*إن الذين آمنوا329

[18]أ لم تر أن الله يسجد له من فى السماوات و من فى الأرض و الشمس330

[19-22]هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار331

[23 و 24]إن الله يدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها332

[25]إن الذين كفروا و يصدون عن سبيل الله و المسجد الحرام الذى جعلناه333

[26]و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا و طهر بيتى للطائفين336

ص: 611

[27]و أذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج336

[28 و 29]ليشهدوا منافع لهم و يذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من338

[30]ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه و أحلت لكم الأنعام إلا ما342

[31]حنفاء لله غير مشركين به و من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه343

[32]ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب343

[33]لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق344

[34 و 35]و لكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام344

[36 و 37]و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها345

[38 و 39]إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور*أذن للذين346

[40]الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و لو لا دفع الله347

[41]الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا348

[42-44]و إن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح و عاد و ثمود*و قوم إبراهيم و قوم349

[45]فكأين من قرية أهلكناها و هى ظالمة فهى خاوية على عروشها و بئر معطلة350

[46]أ فلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها352

[47]و يستعجلونك بالعذاب و لن يخلف الله وعده و إن يوما عند ربك كألف سنة353

[48-51]و كأين من قرية أمليت لها و هى ظالمة ثم أخذتها و إلي المصير*قل يا353

[52]و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى354

[53 و 54]ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم355

[55-57]و لا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم356

[58-59]و الذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا و إن357

[60-62]ذلك و من عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو357

[63-66]أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف359

[67 و 68]لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الأمر و ادع إلى ربك360

[69 و 70]الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون*ا لم تعلم أن الله يعلم360

[71 و 72]و يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا و ما ليس لهم به علم و ما361

[73]يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن362

ص: 612

[74-76]ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز*الله يصطفى من الملائكة رسلا362

[77]يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم363

[78]و جاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم و ما جعل عليكم فى الدين من364

في تفسير سورة المؤمنون 367

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم قد أفلح المؤمنون*الذين هم فى صلاتهم خاشعون367

[4-7]و الذين هم للزكاة فاعلون*و الذين هم لفروجهم حافظون*إلا على368

[8-11]و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون*و الذين هم على صلواتهم370

[12-16]و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين*ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين*372

[17-20]و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق و ما كنا عن الخلق غافلين*و أنزلنا من373

[21 و 22]و إن لكم فى الأنعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها و لكم فيها منافع كثيرة375

[23 و 24]و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ا فلا375

[25-29]إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين*قال رب انصرنى بما376

[30]إن فى ذلك لآيات و إن كنا لمبتلين378

[31-34]ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين*فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا378

[35-41]أ يعدكم أنكم إذا متم و كنتم ترابا و عظاما أنكم مخرجون*هيهات هيهات379

[42-48]ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين*ما تسبق من أمة أجلها و ما380

[49 و 50]و لقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون*و جعلنا ابن مريم و أمه آية381

[51-54]يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم*382

[55 و 56]أ يحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين*نسارع لهم فى الخيرات بل لا383

[57-61]إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون*و الذين هم بآيات ربهم يؤمنون384

[62]و لا نكلف نفسا إلا وسعها و لدينا كتاب ينطق بالحق و هم لا يظلمون385

[63-67]بل قلوبهم فى غمرة من هذا و لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون*386

[68-70]أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين*أم لم يعرفوا386

[71-74]و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض و من فيهن بل387

[75-77]و لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون*و لقد388

[78-80]و هو الذى أنشأ لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون*و هو389

ص: 613

[81-83]بل قالوا مثل ما قال الأولون*قالوا أ أذا متنا و كنا ترابا و عظاما ءإنا390

[84-90]قل لمن الأرض و من فيها إن كنتم تعلمون*سيقولون لله قل أ فلا تذكرون391

[91 و 92]ما اتخذ الله من ولد و ما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق و لعلا392

[93 و 94]قل رب إما ترينى ما يوعدون*رب فلا تجعلنى فى القوم393

[95-98]و إنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون*ادفع بالتى هى أحسن السيئة394

[99 و 100]حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون*لعلى أعمل صالحا فيما395

[101]فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون396

[102-104]فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون*و من خفت موازينه فأولئك397

[105-108]ا لم تكن آياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون*قالوا ربنا غلبت علينا398

[109-114]إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير400

[115 و 116]أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون*فتعالى الله الملك400

[117 و 118]و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح399

في تفسير سورة النور 403

[1 و 2]بسم الله الرحمن الرحيم سورة أنزلناها و فرضناها و أنزلنا فيها آيات بينات لعلكم403

[3]الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة و الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك405

[4 و 5]و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين407

[6-9]و الذين يرمون أزواجهم و لم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم409

[10 و 11]و لو لا فضل الله عليكم و رحمته و أن الله تواب حكيم*إن الذين جاؤ413

[12 و 13]لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا و قالوا هذا إفك418

[14 و 15]و لو لا فضل الله عليكم و رحمته فى الدنيا و الآخرة لمسكم فى ما أفضتم418

[16-18]و لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان419

[19]إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة فى الّذين آمنوا لهم عذاب أليم فى420

[20 و 21]و لو لا فضل اللّه عليكم و رحمته و أنّ اللّه رؤوف رحيم*يا أيّها الّذين آمنوا421

[22 و 23]و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السّعة أن يؤتوا أولى القربى و المساكين421

[24 و 25]يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون*يومئذ422

[26]الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطّيّبات للطّيّبين و الطّيّبون423

ص: 614

[27 و 28]يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا و تسلّموا424

[29]ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لّكم و اللّه يعلم426

[30 و 31]قل لّلمؤمنين يغضّوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنّ اللّه427

[32]و أنكحوا الأيامى منكم و الصّالحين من عبادكم و إمائكم إن يكونوا فقراء432

[33]و ليستعفف الّذين لا يجدون نكاحا حتّى يغنيهم اللّه من فضله و الّذين434

[34 و 35]و لقد أنزلنا إليكم آيات مّبيّنات و مثلا من الّذين خلوا من قبلكم و موعظة437

[36-38]فى بيوت أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ و الآصال441

[39 و 40]و الّذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتّى إذا جاءه لم443

[41 و 42]أ لم تر أنّ اللّه يسبّح له من فى السّماوات و الأرض و الطّير صافّات كلّ قد445

[43]أ لم تر أنّ اللّه يزجى سحابا ثمّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله ركاما فترى الودق447

[44 و 45]يقلّب اللّه الّيل و النّهار إنّ فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار*و اللّه خلق كلّ448

[46 و 47]لقد أنزلنا آيات مبيّنات و اللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم*449

[48 و 49]و إذا دعوا إلى اللّه و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق مّنهم مّعرضون*و إن450

[50-53]أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم و رسوله بل451

[54]قل أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل و عليكم ما452

[55]وعد اللّه الّذين آمنوا منكم و عملوا الصّالحات ليستخلفنّهم فى الأرض453

[56 و 57]و أقيموا الصّلاة و آتوا الزّكاة و أطيعوا الرّسول لعلّكم ترحمون*لا455

[58]يا أيّها الّذين آمنوا ليستأذنكم الّذين ملكت أيمانكم و الّذين لم يبلغوا455

[59]و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم457

[60]و القواعد من النّساء اللاّتى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن458

[61]ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج و لا459

[62]إنّما المؤمنون الّذين آمنوا باللّه و رسوله و إذا كانوا معه على أمر جامع لّم462

[63]لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم اللّه الّذين464

[64]ألا إنّ للّه ما فى السّماوات و الأرض قد يعلم ما أنتم عليه و يوم يرجعون465

في تفسير سورة الفرقان 467

[1 و 2]بسم اللّه الرّحمن الرّحيم تبارك الّذى نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين467

ص: 615

[3-5]و اتّخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون و لا يملكون لأنفسهم468

[6-8]قل أنزله الّذى يعلم السّرّ فى السّماوات و الأرض إنّه كان غفورا رّحيما*469

[9]انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا470

[10]تبارك الّذى إن شاء جعل لك خيرا مّن ذلك جنّات تجرى من تحتها472

[11 و 12]بل كذّبوا بالسّاعة و أعتدنا لمن كذّب بالسّاعة سعيرا*إذا رأتهم من مكان473

[13 و 14]و إذا ألقوا منها مكانا ضيّقا مقرّنين دعوا هنالك ثبورا*لا تدعوا اليوم474

[15 و 16]قل أذلك خير أم جنّة الخلد الّتى وعد المتّقون كانت لهم جزاء و مصيرا*475

[17 و 18]و يوم يحشرهم و ما يعبدون من دون اللّه فيقول ءأنتم أضللتم عبادى هؤلاء475

[19 و 20]فقد كذّبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا و لا نصرا و من يظلم منكم476

[21 و 22]و قال الّذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد477

[23]و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء مّنثورا478

[24]أصحاب الجنّة يومئذ خير مّستقرّا و أحسن مقيلا479

[25-29]و يوم تشقّق السّماء بالغمام و نزّل الملائكة تنزيلا*الملك يومئذ الحقّ480

[30 و 31]و قال الرّسول يا ربّ إنّ قومى اتّخذوا هذا القرآن مهجورا*و كذلك جعلنا483

[32 و 33]و قال الّذين كفروا لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبّت به483

[34]الّذين يحشرون على وجوههم إلى جهنّم أولئك شرّ مكانا و أضلّ484

[35-39]و لقد آتينا موسى الكتاب و جعلنا معه أخاه هارون وزيرا*فقلنا اذهبا إلى485

[40-42]و لقد أتوا على القرية الّتى أمطرت مطر السّوء أ فلم يكونوا يرونها بل كانوا490

[43 و 44]أ رأيت من اتّخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا*أم تحسب أنّ491

[45 و 46]أ لم تر إلى ربّك كيف مدّ الظّلّ و لو شاء لجعله ساكنا ثمّ جعلنا الشّمس492

[47-49]و هو الّذى جعل لكم الّيل لباسا و النّوم سباتا و جعل النّهار نشورا*و هو493

[50-52]و لقد صرّفناه بينهم ليذّكّروا فأبى أكثر النّاس إلاّ كفورا*و لو شئنا لبعثنا494

[53 و 54]و هو الّذى مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما495

[55-57]و يعبدون من دون اللّه ما لا ينفعهم و لا يضرّهم و كان الكافر على ربّه ظهيرا497

[58]و توكّل على الحيّ الّذى لا يموت و سبّح بحمده و كفى به بذنوب عباده498

[59]الّذى خلق السّماوات و الأرض و ما بينهما فى ستّة أيّام ثمّ استوى على498

ص: 616

[60]و إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن أ نسجد لما تأمرنا499

[61 و 62]تبارك الذى جعل فى السماء بروجا و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا*و هو500

[63 و 64]و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون501

[65-67]و الذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما*إنها502

[68]و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التى حرم الله إلا504

[69 و 70]يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا*إلا من تاب و آمن504

[71-74]و من تاب و عمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا*و الذين لا يشهدون506

[75-77]أولئك يجزون الغرفة بما صبروا و يلقون فيها تحية و سلاما*خالدين فيها508

في تفسير سورة الشعراء 511

[1-4]بسم الله الرحمن الرحيم طسم*تلك آيات الكتاب المبين*لعلك باخع نفسك511

[5-9]و ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين*فقد512

[10-21]و إذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين*قوم فرعون ألا يتقون*513

[22-28]و تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل*قال فرعون و ما رب515

[29-33]قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين*قال أولوا جئتك517

[34-39]قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم*يريد أن يخرجكم من أرضكم518

[40-42]لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين*فلما جاء السحرة قالوا لفرعون519

[43-50]قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون*فألقوا حبالهم و عصيهم و قالوا بعزة520

[51]إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين522

[52-59]و أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى إنكم متبعون*فأرسل فرعون فى523

[60-62]فأتبعوهم مشرقين*فلما ترائى الجمعان قال أصحاب موسى إنا524

[63-68]فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود524

[69-82]و اتل عليهم نبأ إبراهيم*إذ قال لأبيه و قومه ما تعبدون*قالوا نعبد528

[83 و 84]رب هب لى حكما و ألحقنى بالصالحين*و اجعل لى لسان صدق فى530

[85-87]و اجعلنى من ورثة جنة النعيم*و اغفر لأبى إنه كان من الضالين*و لا531

[88-91]يوم لا ينفع مال و لا بنون*إلا من أتى الله بقلب سليم*و أزلفت الجنة532

[92-101]و قيل لهم أين ما كنتم تعبدون*من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون533

ص: 617

[102-104]فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين*إن فى ذلك لآية و ما كان أكثرهم534

[105-113]كذبت قوم نوح المرسلين*إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون*إنى لكم535

[114-122]و ما أنا بطارد المؤمنين*إن أنا إلا نذير مبين*قالوا لئن لم تنته يا نوح536

[123-130]كذبت عاد المرسلين*إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون*إنى لكم537

[131-135]فاتقوا الله و أطيعون*و اتقوا الذى أمدكم بما تعلمون*أمدكم بأنعام539

[136-138]قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين*إن هذا إلا خلق539

[139-145]فكذبوه فأهلكناهم إن فى ذلك لآية و ما كان أكثرهم مؤمنين*و إن ربك540

[146-154]أتتركون فى ما هاهنا آمنين*فى جنات و عيون*و زروع و نخل طلعها540

[155-159]قال هذه ناقة لها شرب و لكم شرب يوم معلوم*و لا تمسوها بسوء541

[160-168]كذبت قوم لوط المرسلين*إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون*إنى لكم542

[169-175]رب نجنى و أهلى مما يعملون*فنجيناه و أهله أجمعين*إلا عجوزا فى543

[176-180]كذب أصحاب الأيكة المرسلين*إذ قال لهم شعيب ألا تتقون*إنى لكم544

[181-183]أوفوا الكيل و لا تكونوا من المخسرين*وزنوا بالقسطاس المستقيم*544

[184-186]و اتقوا الذى خلقكم و الجبلة الأولين*قالوا إنما أنت من المسحرين*545

[187-191]فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين*قال ربى أعلم بما545

[192-195]و إنه لتنزيل رب العالمين*نزل به الروح الأمين*على قلبك لتكون من546

[196-203]و إنه لفى زبر الأولين*أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل*547

[204-207]أ فبعذابنا يستعجلون*أ فرأيت إن متعناهم سنين*ثم جاءهم ما كانوا548

[208-212]و ما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون*ذكرى و ما كنا ظالمين*و ما تنزلت549

[213 و 214]فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين*و أنذر عشيرتك550

[215-220]و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين*فإن عصوك فقل إنى برىء552

[221-223]هل أنبئكم على من تنزل الشياطين*تنزل على كل أفاك أثيم*يلقون553

[224-227]و الشعراء يتبعهم الغاوون*أ لم تر أنهم فى كل واد يهيمون*و أنهم554

في تفسير سورة النمل 559

[1-3]بسم الله الرحمن الرحيم طس تلك آيات القرآن و كتاب مبين*هدى و بشرى559

[4-6]أن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون*أولئك560

ص: 618

[7 و 8]إذ قال موسى لأهله إنى آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب561

[9-11]يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم*و ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان562

[12-14]و أدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء فى تسع آيات إلى563

[15]و لقد آتينا داود و سليمان علما و قالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من564

[16]و ورث سليمان داود و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير و أوتينا من كل564

[17-20]و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون*حتى إذا565

[21 و 22]لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين*فمكث غير570

[23-31]إنى وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم*571

[32-34]قالت يا أيها الملا أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون*574

[35 و 36]و إنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون*فلما جاء سليمان575

[37-40]ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم577

[41-44]قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون*فلما580

[45-47]و لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان582

[48-53]و كان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الأرض و لا يصلحون*قالوا584

[54 و 55]و لوطا إذ قال لقومه أ تاتون الفاحشة و أنتم تبصرون*أ إنكم لتأتون585

[56-58]فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس586

[59 و 60]قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون*586

[61]أمن جعل الأرض قرارا و جعل خلالها أنهارا و جعل لها رواسى و جعل بين588

[62 و 63]أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض588

[64-66]أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده و من يرزقكم من السماء و الأرض أءله مع الله589

[67-70]و قال الذين كفروا أءذا كنا ترابا و آباؤنا أءنا لمخرجون*لقد وعدنا هذا590

[71-74]و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*قل عسى أن يكون ردف لكم591

[75-77]و ما من غائبة فى السماء و الأرض إلا فى كتاب مبين*إن هذا القرآن591

[78-81]إن ربك يقضى بينهم بحكمه و هو العزيز العليم*فتوكل على الله إنك على592

[82]و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس593

[83-85]و يوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون*حتى إذا596

ص: 619

[86 و 87]ا لم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه و النهار مبصرا إن فى ذلك لآيات597

[88]و ترى الجبال تحسبها جامدة و هى تمر مر السحاب صنع الله الذى اتقن598

[89 و 90]من جاء بالحسنة فله خير منها و هم من فزع يومئذ آمنون*و من جاء598

[91-93]إنما أمرت أن اعبد رب هذه البلدة الذى حرمها و له كل شيء و أمرت أن599

ص: 620

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.