نفحات الرحمن في تفسیر القرآن جلد 3

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان واسم المؤلف: نفحات الرحمن في تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندي ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیة ، موسسة البعثه قم .

تفاصيل المنشور: قم : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1386.

مواصفات المظهر: 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج. 3 و 4 (الطبعة الأولى: 1428 ق. = 1386).

ملحوظة : ج. 5 (الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة : فهرس .

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

المعرف المضاف: موسسة البعثة. قسم الدراسات الاسلامیة

المعرف المضاف: موسسة البعثة. مركز النشر

ترتيب الكونجرس: BP98 /ن9ن7 1386

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-37490

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الثالث

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

تفسير سوره الاعراف ادامة

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 145

وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ اَلْفاسِقِينَ (145)

ثمّ بيّن اللّه تعالى فضائل التّوراة ببيان ما فيها من العلوم إجمالا بقوله: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ التي كانت من زبرجد الجنّة-على رواية (1)-، أو زمرّد أخضر-على اخرى (2)- مِنْ كُلِّ شَيْءٍ و علم يحتاج إليه، و كتبنا فيها مَوْعِظَةً كثيرة وَ تَفْصِيلاً و شرحا وافيا لِكُلِّ شَيْءٍ من المعارف و الأحكام، و قلنا: يا موسى، إذا علمت ما في الألواح فَخُذْها بِقُوَّةٍ في القلب، أو بجدّ و عزيمة وَ أْمُرْ و حثّ قَوْمَكَ و من تبعك يَأْخُذُوا و يعملوا بِأَحْسَنِها من عزائم أحكامها. و قيل: إنّ المراد من الأحسن: هو الحسن؛ و هو كلّها (3).

ثمّ وعظهم بقوله: سَأُرِيكُمْ دارَ فرعون و قومه، و سائر الامم المهلكة الّذين كانوا هم اَلْفاسِقِينَ و الخارجين عن طاعة أحكامي، كيف خربت و عفيت آثارها بعصياني لتعتبروا بها.

قيل: يعني سادخلكم أرض مصر و أرض الجبابرة و العمالقة بالشّام. و عليه يكون فيه وعد و ترغيب.

عن ابن عبّاس، في تفسير دارَ اَلْفاسِقِينَ قال: هي جهنّم، أي فليكن ذكر جهنّم حاضرا في خواطركم (4).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا أنزل الألواح على موسى عليه السّلام أنزلها و فيها تبيان لكلّ شيء كان أو هو كائن إلى أن تقوم السّاعة، فلمّا انقضت أيّام موسى عليه السّلام أوحى اللّه إليه أن يستودع الألواح- و هي زبرجدة من الجنّة-جبلا يقال له زينة، فأتى موسى عليه السّلام الجبل فانشقّ له الجبل، فجعل فيه الألواح ملفوفة، فلمّا جعلها [فيه]انطبق الجبل عليها، فلم تزل في الجبل حتّى بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، فأقبل ركب من اليمن يريدون الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا انتهوا إلى الجبل انفرج الجبل و خرجت الألواح ملفوفة كما وضعها موسى عليه السّلام، فأخذها القوم فلمّا وقعت في أيديهم القي في قلوبهم أن لا ينظروا إليها و هابوها حتّى يأتوا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل [اللّه]جبرئيل على نبيه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بأمر القوم و بالذي أصابوه.

ص: 5


1- . تفسير العياشي 2:160/1619، تفسير الصافي 2:236.
2- . بصائر الدرجات:161/6، تفسير الصافي 2:237.
3- . تفسير روح البيان 3:240.
4- . تفسير الرازي 14:238.

فلمّا قدموا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّموا عليه ابتدأهم فسألهم عمّا وجدوه، فقالوا: و ما علمك بما وجدنا؟ قال: أخبرني به ربّي، و هو الألواح، قالوا: نشهد أنّك لرسول اللّه. فأخرجوها فدفعوها إليه، فنظر إليها و قرأها و كانت بالعبرانيّة، ثمّ دعا أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: دونك هذه ففيها علم الأوّلين و الآخرين، و هي ألواح موسى عليه السّلام، و قد أمرني ربّي أن أدفعها إليك، فقال: لست احسن قراءتها، قال: إنّ جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه، فإنّك تصبح و قد علّمت قراءتها قال: فجعلها تحت رأسه، فأصبح و قد علّمه [اللّه]كلّ شيء فيها، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بنسخها، فنسخها في جلد؛ و هو الجفر، و فيه علم الأوّلين و الآخرين، و هو عندنا، و الألواح عندنا، و عصا موسى عندنا، و نحن ورثنا النبيّين أجمعين» .

قال: «قال أبو جعفر: تلك الصّخرة التي حفظت ألواح موسى عليه السّلام تحت شجرة في واد يعرف بكذا» (1).

و في رواية: «أنّ الباقر عليه السّلام عرّف تلك الصّخرة ليماني دخل عليه» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 146

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)

ثمّ هدّد اللّه سبحانه الكفّار المنكرين للتّوراة بقوله: سَأَصْرِفُ عَنْ التفكّر في آياتِيَ الدالّة على توحيدي و كمال قدرتي-من إهلاك الامم الماضية بكفرهم و عصيانهم، و عن النّظر في معجزات موسى عليه السّلام و كتابه-الكفّار اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ و يترفّعون فِي اَلْأَرْضِ على الأنبياء و المؤمنين بهم بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و استحقاق، و يرون أنفسهم أفضل و أشرف من الرّسل، مع أنّه لا فضل لهم و لا شرف وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ و حجّة على توحيد اللّه، أو معجزة دالّة على رسالة رسله، أو من آيات التّوراة لا يُؤْمِنُوا بِها و لا يصدّقوها و لا ينقادوا لها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ و يطّلعوا على طريق الحقّ لا يَتَّخِذُوهُ و لا يختاروه لأنفسهم سَبِيلاً و مسلكا لانطباع قلوبهم، و استيلاء الشّيطان عليهم، و تمرّنهم على الانحراف وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ و طريق الضّلال و المذهب يَتَّخِذُوهُ لسلوك أنفسهم سَبِيلاً لا يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم الزّائغة، و إفضائه إلى مشتهياتهم الباطلة.

ص: 6


1- . تفسير العياشي 2:160/1619، تفسير الصافي 2:237.
2- . بصائر الدرجات:162/7، تفسير الصافي 2:238.

عن القمّي رحمه اللّه: إذا رأوا الإيمان و الصّدق و الوفاء و العمل الصّالح لا يتّخذونه سبيلا، و إن يروا الشّرك و الزّنا و المعاصي يأخذوا بها و يعملوا بها (1).

ذلِكَ الخزي و التكبّر و الانحراف عن الحقّ حصل لهم بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا و كفروا بِآياتِنا الدالّة على الدّين الحقّ و سبيل الرّشد وَ كانُوا عَنْها معرضين كأنّهم كانوا عنها غافِلِينَ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 147

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد عموم المكذّبين بآياته من الأوّلين و الآخرين بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من التّوراة و الإنجيل و القرآن وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ و الحشر إلى دار الجزاء حَبِطَتْ و بطلت أَعْمالُهُمْ الحسنة التي عملوها مدّة أعمارهم في الدّنيا؛ من صلة الأرحام، و الإحسان إلى الفقراء و الأيتام، و غيرها من الخيرات، فلا يصلون بها إلى الصّواب، و لا يتخلّصون بها من العذاب، لاشتراط قبولها بالإيمان بالمبدأ و المعاد و رسالة الرّسل.

ثمّ نبّه سبحانه على أن عقوبته و خزيه إنّما يكون استحقاقهما بسبب سيّئات الأعمال، لا للتشفّي و غيره من الأغراض، بقوله: هَلْ يُجْزَوْنَ هؤلاء المكذّبون جزاء إِلاّ على ما كانُوا في الدّنيا يَعْمَلُونَ و هل يعاقبون إلاّ على ما كانوا يرتكبون من الكفر و المعاصي و معارضة الرّسل و معاندة الحقّ، لا و اللّه لا يجزون إلاّ على أعمالهم السيّئة و عقائدهم الفاسدة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 148

وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اِتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن غاية جهل بني إسرائيل بسؤالهم من موسى عليه السّلام-بعد عبورهم في بلاد العمالقة، و اطّلاعهم على عبادتهم الأصنام-أن يجعل لهم صنما يعبدونه، ذكر أنّهم لغاية جهلهم آل أمرهم إلى أن عبدوا العجل و اتّخذوه إلها، بقوله: وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى و أغلب قبيلة بني إسرائيل؛ و هم كانوا سبعمائة ألف أو ستمائة ألف مِنْ بَعْدِهِ و بعد ذهابه إلى الميقات، لغاية جهلهم مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً قيل: سمّي ولد البقر به لاستعجال بني إسرائيل عبادته. و كان ذلك العجل جَسَداً ذا لحم و دم لَهُ خُوارٌ و صوت كصوت البقر.

ص: 7


1- . تفسير القمي 1:240، تفسير الصافي 2:238.

قيل: إنّ موسى عليه السّلام وعد قومه بالانطلاق إلى الجبل ثلاثين يوما، فلمّا تأخّر رجوعه قال لهم السّامريّ-و كان رجلا من قرية يقال لها سامرة، و كان مطاعا في بني إسرائيل ذا قدر-: إنّكم أخذتم الحليّ من آل فرعون فعاقبكم اللّه بتلك الخيانة، و منع موسى عنكم. و ذلك أنّ بني إسرائيل كان لهم عيد يتزيّنون فيه و يستعيرون الحليّ من القبط، فاستعاروا حليّ القبط لذلك، فلمّا أغرق اللّه القبط بقيت تلك الحليّ في أيدي بني إسرائيل، فقال لهم السّامريّ: اجمعوا الحلّي حتّى احرقها لعلّ اللّه يردّ علينا موسى (1).

و قيل: سألوه إلها يعبدونه، و قد كان لهم ميلا إلى عبادة البقر منذ مرّوا على العمالقة الّذين كانوا يعبدون تماثيل البقر، فجعل السّامريّ الحلّي بعد جمعها في النّار، و صاغ لهم من ذلك عجلا لأنّه كان صائغا، و ألقى في فمه ترابا أخذه من أثر فرس جبرئيل؛ و كان ذلك الفرس فرس الحياة ما وضع حافره على شيء إلاّ اخضرّ، و كان قد أخذ ذلك التّراب عند فلق البحر، أو عند توجّهه إلى الطّور، فانقلب ذلك الجسد لحما و دما، و ظهر منه خوار و حركة و مشي، فقال السامريّ: هذا إلهكم و إله موسى، فعبدوه إلاّ اثني عشر ألفا من ستمائة ألف (2).

و قيل: إنّه جعل ذلك العجل مجوّفا، و جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص، و كان [قد] وضع التّمثال على مهبّ الرّيح، تدخل من تلك الأنابيب، فظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل، فأوهم بني إسرائيل أنّه هو يخور (3).

أقول: هذا مخالف للقرآن و الأحاديث.

ثمّ وبّخ اللّه بني إسرائيل على عبادتهم ذلك العجل و قولهم بالوهيّته بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ بكلام البشر وَ لا يَهْدِيهِمْ إلى الخير سَبِيلاً و لا يرشدهم إلى الحقّ طريقا، مع أنّ اللّه يكلّم موسى عليه السّلام و يشرّع الشّريعة الموصلة إلى كلّ خير، و هم مع الوصف لغاية جهلهم اِتَّخَذُوهُ إلها و حسبوه خالقا معبودا وَ كانُوا في عبادتهم تلك ظالِمِينَ على اللّه بتضييع حقّه و حطّ شأنه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 149 الی 151

وَلَمَّا سُقِطَ فِيٓ أَيۡدِيهِمۡ وَرَأَوۡاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمۡ يَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَيَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّ_ٰلِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِأَخِي وَأَدۡخِلۡنَا فِي رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ_ٰحِمِينَ (151)

ص: 8


1- . تفسير روح البيان 3:242.
2- . تفسير روح البيان 3:242.
3- . تفسير روح البيان 3:242.

ثمّ أنّهم ندموا من عملهم الشّنيع بسعي هارون و مواعظه البليغة وَ لَمّا سُقِطَ رؤوسهم فِي أَيْدِيهِمْ و ندموا. قيل: إنّ السّقوط في اليد كناية عن شدّة النّدامة؛ لأنّ النادم يضع غالبا رأسه على يده (1)وَ رَأَوْا و تبيّنوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا عن الطّريق الحقّ بعبادتهم العجل حتّى كأنّهم لشدّة وضوحه عاينوه بأبصارهم قالُوا تحسّرا و ندامة: و اللّه لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا و يتفضّل علينا رَبُّنا بإنعامه وَ يَغْفِرْ لَنا و يتجاوز عن خطيئتنا بكرمه لَنَكُونَنَّ ألبتّة مِنَ اَلْخاسِرِينَ و الهالكين.

وَ لَمّا رَجَعَ مُوسى من الميقات إِلى قَوْمِهِ حال كونه غَضْبانَ عليهم لعبادتهم العجل أَسِفاً شديد الحزن، لأنّ اللّه فتنهم، ثمّ وبّخهم و قالَ: يا قوم بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي و ساء ما عملتم مِنْ بَعْدِي و في زمان غيبتي و ذهابي إلى ميقات ربّي، حيث عبدتم العجل و أشركتم باللّه، أو بعد ما رأيتم منّي التّوحيد و نفي الشّريك عن اللّه.

ثمّ لامهم على ترك انتظارهم رجوعه بقوله: أَ عَجِلْتُمْ و تركتم أَمْرَ رَبِّكُمْ بتوحيده و حفظ عهدي و انتظار رجوعي وَ أَلْقَى من يده اَلْأَلْواحَ و طرحها على الأرض من شدّة غضبه للّه، و فرط انضجاره من قومه حميّة للّدين.

روي أنّه لمّا ألقاها انكسرت فذهب بعضها (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ منها ما تكسّر، و منها ما بقي، و منها ما ارتفع» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: أنّه عرّف يمانيّ صخرة باليمن، ثمّ قال: «تلك الصخرة التي التقمت ما ذهب من التّوراة حين ألقى موسى عليه السّلام الألواح، فلمّا بعث اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله أدّته إليه و هي عندنا» . (4).

و روي أنّها كانت سبعة أسباع، فلمّا ألقى الألواح تكسّرت فرفع منها ستّة أسباع و بقي سبع [واحد]، و كان فيما رفع تفصيل كلّ شيء، و فيما بقي الهدى و الرّحمة (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «رحم اللّه أخي موسى، ليس المخبر كالمعاين، لقد أخبره اللّه بفتنة قومه، و لقد عرّف أن ما اخبر به حقّ، و أنّه على ذلك لمتمسّك بما في يديه، فرجع إلى قومه و رآهم، فغضب

ص: 9


1- . تفسير الرازي 15:8.
2- . تفسير الصافي 2:239.
3- . بصائر الدرجات:161/6، تفسير الصافي 2:239.
4- . بصائر الدرجات:157/7، تفسير الصافي 2:239.
5- . تفسير الرازي 15:11.

و ألقى الألواح» (1).

وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون و بشعره يَجُرُّهُ إِلَيْهِ عن الصادق عليه السّلام: «و ذلك لأنّه لم يفارقهم لمّا فعلوا ذلك، و لم يلحق بموسى عليه السّلام، و كان إذا فارقهم ينزل بهم العذاب (2). و قيل: إنّه جرّه إلى نفسه ليسّاره و يستكشف كيفيّة تلك الواقعة.

إذن اعتذر هارون و قالَ استعطافا له: يا اِبْنَ أُمَّ لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إِنَّ اَلْقَوْمَ لشدّة حرصهم على عبادة العجل اِسْتَضْعَفُونِي و استحقروني و لم يعتنوا إلى قولي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي إن منعتهم عنها، و لم يكن لي من العدّة ما أقهرهم على تركها و أدفعهم عن نفسي، و مع ذلك لم أقصّر في إنذراهم و وعظهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ اَلْأَعْداءَ بإظهار الغضب عليّ وَ لا تَجْعَلْنِي في استحقاق العقوبة شريكا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بعبادة العجل.

عن الصادق عليه السّلام: «لم يقل يابن أبي؛ لأنّ بني الأب إذا كانت امّهاتهم شتّى لم تستبعد العداوة بينهم إلاّ من عصمه اللّه منهم، و إنّما تستبعد العداوة بين بني امّ واحدة» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه كان أخاه لأبيه و امّه» (2).

و قيل: إنّه كان أكبر من موسى عليه السّلام بثلاث سنين، و كان حمولا (3)ليّنا (4).

فقبل موسى عليه السّلام عذره و تلطّف به و قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي ما صدر منّي من الغضب على هارون وَ لِأَخِي هارون ما صدر منه من الإقامة في القوم، و ترك التّشديد على عبدة العجل وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ الواسعة و الجنّة وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 152

ثمّ أعلن اللّه سبحانه بغضبه على عبدة العجل و سوء عاقبة عملهم الشّنيع بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ إلها و معبودا لأنفسهم من دون اللّه سَيَنالُهُمْ و يصيبهم غَضَبٌ شديد مِنْ رَبِّهِمْ و مالك أمورهم. قيل: هو ما امروا به من قتل أنفسهم وَ ذِلَّةٌ و خزي فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا قيل: هو خروجهم من ديارهم، و قيل: هي الجزية وَ كَذلِكَ الجزاء الفظيع نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ علينا القائلين بأنّا شاركنا العجل في الالوهيّة.

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ (152)

ص: 10


1- . مجمع البيان 4:741، تفسير الصافي 2:239. (2 و 3) . علل الشرائع:68/1، تفسير الصافي 2:240.
2- . الكافي 8:27/1، تفسير الصافي 2:240.
3- . الحمول: الحليم الصّبور.
4- . تفسير الصافي 2:240.

قيل: إنّ المراد من الّذين اتّخذوا العجل: هم الّذين أصرّوا على عبادته و لم يتوبوا عنها؛ كالسامريّ و أضرابه من الّذين اشربوه في قلوبهم، و من الغضب: عذاب الآخرة، و من الذلّة: الاغتراب و المسكنة الدائمة.

روي أنّ موسى عليه السّلام همّ بقتل السامريّ، فأوحى اللّه إليه: لا تقتله فإنّه سخيّ، و لكن أخرجه من عندك، فقال له موسى عليه السّلام: فاذهب من بيننا مطرودا فإنّ لك في الحياة-أي في عمرك-أن تقول لمن أراد مخالطتك جاهلا بحالك: [لا مساس، أي]لا يمسّني أحد (1).

و في (الكافي) : عن الباقر عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية فقال: «فلا نرى صاحب بدعة إلاّ ذليلا، و لا مفتريا على اللّه و على رسوله و أهل بيته إلاّ ذليلا» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 153 الی 154

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار الغضب على غير التّائبين من عبدة العجل، أعلن برحمته على العصاة التّائبين بقوله: وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ كبيرة كانت أو صغيرة ثُمَّ تابُوا منها مِنْ بَعْدِها ما دامت حياتهم باقية وَ آمَنُوا بربّهم إيمانا خالصا من شوب الشّرك و النّفاق، و عملوا بمقتضى الإيمان إِنَّ رَبَّكَ وراء الأعمال السيّئة، أو التّوبة مِنْ بَعْدِها و اللّه لَغَفُورٌ للذّنوب و إن كثرت و جلّت رَحِيمٌ بعبادة التّائبين، مفيض عليهم بالخيرات الدّنيوية و الأخرويّة.

وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غضب موسى عليه السّلام على عبدة العجل و عمله حاله، بيّن سكون غضبه، و اعتذار هارون، و توبة قومه من عصيانهم و عمله حينه بقوله: وَ لَمّا سَكَتَ و سكن عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ لاعتذار أخيه، و توبة قومه أَخَذَ اَلْأَلْواحَ التي ألقاها حين الغضب من يده، و استنسخ منها التّوراة وَ فِي نُسْخَتِها و الكتاب الذي كتبوا منها هُدىً و إرشاد إلى كلّ حقّ وَ رَحْمَةٌ و خير عظيم لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ و من عصيانه يتّقون، و من عذابه يخافون.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 155

وَ اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ اَلسُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغافِرِينَ (155)

ص: 11


1- . تفسير روح البيان 3:247.
2- . الكافي 2:14/6، تفسير الصافي 2:241.

ثمّ أنّ اللّه تعالى أمر موسى عليه السّلام أن يأتي بسبعين من خيار بني إسرائيل للاعتذار عن عصيان قومهم، و في الوقت الذي عيّنه اللّه وَ أن اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و انتخب منهم سَبْعِينَ رَجُلاً من خيارهم لِمِيقاتِنا و الموعد الذي وعدناهم فيه، ليعتذروا من عبادة قومهم العجل.

قيل: إنّ موسى عليه السّلام اختار من كلّ سبط-و كانوا اثني عشر-ستّة رجال، فزاد اثنان على السّبعين، فقال موسى عليه السّلام: ليتخلّف منكم رجلان فإنّي امرت بسبعين، فتنازعوا فقال: إنّ لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب و يوشع و ذهب موسى عليه السّلام مع الباقين. .

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ السّبعين لمّا صاروا [معه]إلى الجبل قالوا له: إنّك قد رأيت اللّه، فأرناه كما رأيته، فقال: إنّي لم أره، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ (1)فاحترقوا عن آخرهم» الخبر (2).

و قيل: أخذتهم الرجفة فصعقوا و ماتوا.

فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ بما أجترأوا على اللّه من طلب الرّؤية، و احترقوا و ماتوا، و بقي موسى عليه السّلام وحيدا فقال: يا ربّ، اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل و جئت بهم، فإن أرجع إليهم وحدي كيف يصدّقوني بما اخبرهم به؟ قالَ تذكّرا للعفو السّابق لاستجلاب العفو اللاّحق: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ حين مخالفتهم النّهي عن عبادة العجل وَ إِيّايَ حين سألتك الرّؤية.

و قيل: إنّه تمنّ لهلاكهم و هلاك نفسه قبل أن يرى ما اري، لخوفه من تهمة بني إسرائيل بقتلهم.

ثمّ استعطف من اللّه بإنكار إهلاكهم عليه مع غاية لطفه وسعة رحمته بقوله: أَ تُهْلِكُنا يا ربّ بِما فَعَلَ اَلسُّفَهاءُ مِنّا من سؤالهم رؤيتك إِنْ هِيَ و ما هذه الفتنة و البليّة إِلاّ فِتْنَتُكَ و ابتلاء من قبلك؛ حيث إنّك أسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك، فطمعوا في رؤيتك، و أنت ممتحن عبادك بالفتن و تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ بحسب خبث ذاته-ضلالته وَ تَهْدِي و تثبت على الحقّ مَنْ تَشاءُ -لطيب ذاته-هدايته و ثباته، فلا تزلّ قدمه بفتنتك، بل يزيد إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا و المدبّر لامورنا بحكمتك و لطفك لا مدبّر لنا غيرك، إذن فَاغْفِرْ لَنا ما فرّطنا في جنبك من الخطايا و الزّلل وَ اِرْحَمْنا بإفاضة الخيرات علينا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغافِرِينَ تغفر الذّنوب و تبدّل السيّئات بالحسنات.

ص: 12


1- . البقرة:2/55.
2- . التوحيد:424/1، تفسير الصافي 2:241.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 156

فلمّا رأى موسى عليه السّلام أنّ اللّه تعالى أحيا السّبعين بدعائه، بالغ في الدّعاء بقوله: وَ اُكْتُبْ يا ربّ و أوجب عليك لَنا بكرمك فِي هذِهِ اَلدُّنْيا ما دمنا فيها امورا حَسَنَةً من السّعة في الرّزق، و الرغد في العيش، و التوّفيق للطّاعة وَ فِي عالم اَلْآخِرَةِ أيضا الامور الحسنة من النّجاة من العذاب، و الفوز بالجنّة و النّعم الدّائمة يا مولاي إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ و عرفناك بكمال الصّفات، و سعة الرّحمة و المغفرة، و سؤال الحوائج منك، و إنّا نرجو منك العفو عن زلاّتنا و نعتذر إليك من خطيئاتنا. فأوحى اللّه إلى موسى عليه السّلام بقوله: قالَ عَذابِي في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما أُصِيبُ بِهِ و انزله على مَنْ أَشاءُ تعذيبه على حسب استحقاقه، وَ لكن رَحْمَتِي و نعمتي و إحساني في الدّنيا وَسِعَتْ و شملت كُلَّ شَيْءٍ من الجمادات و النّباتات و الحيوانات، و المؤمنين و الكفّار بعد موتهم فَسَأَكْتُبُها و أثبتها و اديمها في الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشّرك و المعاصي وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ من أموالهم إلى الفقراء و المصارف المقرّرة وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا و دلائل توحيدنا، و رسالة رسولنا يُؤْمِنُونَ.

وَ اُكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 157

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختصاص رحمته في الدّارين بالمتّقين المزكّين المؤمنين بالآيات، بيّن اختصاص المؤمنين بخاتم الأنبياء بتلك الصّفات بقوله: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ مختصّون بالرّحمة الدّائمة، فلا تشمل اللاّحقين من بني إسرائيل إلاّ إذا التزموا باتّباعه.

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (157)و عن (الكافي) : عن أحدهما عليهما السّلام: «الرّسول: الذي يظهر له الملك فيكلّمه، و النبيّ: هو الذي يرى

ص: 13

في منامه، و ربّما اجتمعت النبوّة و الرّسالة في واحد» (1).

و قيل: في توصيفه ب «الرّسول» إشعار بأنّه صاحب كتاب، و ب «النبيّ» إيماء إلى أنّه صاحب المعجزة. و قيل: إنّما سمّاه رسولا بالإضافة إلى اللّه، نبيا بالاضافة إلى الخلق (2).

و عن الزجّاج: معنى الامّي الذي هو على صفة امّه العرب، قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّا امّة اميّة؛ لا نكتب و لا نحسب» فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون و لا يقرأون (3).

و من المعلوم أنّ كونه اميّا بهذا المعنى من أعظم معجزاته، فإنّه لو كان يحسن الخطّ و القراءة لصار متّهما بأنّه ربّما طالع كتب الأوّلين و الآخرين. فحصّل هذه العلوم بتلك المطالعة، فلمّا أتى بالقرآن العظيم المشتمل على علوم الأوّلين و الآخرين من غير تعلّم و مطالعة، كان ذلك من جملة معجزاته الباهرة.

و قيل: إنّ المراد من الامّي: المنسوب إلى امّ القرى.

عن (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل لم سمّي النبيّ بالامّي؟ قال: «نسب إلى مكّة، و ذلك من قول اللّه: وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها (4)و امّ القرى مكّة، فقيل امّي لذلك» (5).

و عن الجواد عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك، فقال: «ما يقول النّاس؟» قيل: يزعمون أنّه إنّما سمّي بالامّي لأنّه لم يحسن أن يكتب الخطّ، فقال: «كذبوا لعنهم اللّه، أنّى ذلك و اللّه يقول: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ (6)فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، و اللّه لقد كان رسول اللّه يقرأ و يكتب باثنين و سبعين-أو قال: ثلاثة و سبعين-لسانا، و إنّما سمّي الامّي لأنّه كان من أهل مكّة، و مكّة من امّهات القرى، و ذلك قول اللّه عز و جل: لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها (7).

ثمّ استدلّ سبحانه على صحّة نبوّته بقوله: اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ عن الباقر عليه السّلام: «يعني اليهود و النّصارى، صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و اسمه [ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ ]فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ ] (8).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قال يهودي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّي قرأت نعتك في التّوراة (محمّد بن عبد اللّه مولده بمكّة، و مهاجره بطيبة، ليس بفظّ و لا غليظ، و لا سحار (9)و لا متزين بالفحش و لا قول

ص: 14


1- . الكافي 1:135/4، تفسير الصافي 2:242.
2- . تفسير روح البيان 3:251.
3- . تفسير الرازي 15:23.
4- . الأنعام:6/92.
5- . مجمع البيان 4:749، تفسير الصافي 2:242.
6- . الجمعة:62/2.
7- . علل الشرائع:124/1، تفسير الصافي 2:242.
8- . تفسير العياشي 2:164/1630، تفسير الصافي 2:242.
9- . في أمالي الصدوق: و لا صخّاب.

الخنا) و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّك رسول اللّه، هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه» (1).

عن الباقر عليه السّلام: «لما انزلت التّوراة على موسى عليه السّلام بشّر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله» قال: «فلم تزل الأنبياء تبشّر به حتّى بعث اللّه المسيح عيسى بن مريم فبشّر بمحمّد، و ذلك قوله: يَجِدُونَهُ يعني اليهود، [و النصارى] مَكْتُوباً يعني صفة محمّد عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ، و هو قول اللّه عزّ و جلّ يخبر عن عيسى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ» (2).

روي «أنّ موسى ناجاه ربّه تعالى فقال له في مناجاته: اوصيك يا موسى وصيّة الشّفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم، و من بعده؛ بصاحب الجمل الأحمر، الطيّب الطّاهر المطهّر، فمثله في كتابك أنّه مهيمن على الكتب كلّها، و أنّه راكع ساجد راغب راهب، إخوانه المساكين، و أنصاره قوم آخرون» (3).

أقول: لو فرضنا أنّه لم توجد رواية في وجود اسمه في الكتابين لعلمنا بوجوده فيهما؛ لأنّه لو لم يكن مع صراحة القرآن بوجوده و وجود نعوته فيهما لأنكر عليه أهل الكتاب، و صار كذبه أظهر من الشمس في رائعة (4)النّهار.

ثمّ عدّ سبحانه من صفاته الكريمة المكتوبة في الكتابين أنّه صلّى اللّه عليه و آله يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ و يحثّهم على العمل بالمحسّنات العقليّة وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و يزجرهم عن القبائح وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ و اللّذائذ التي لا خساسة فيها و لا ضرر؛ من المأكولات و المشروبات وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ و ما تتنفّر منه الطّباع، و ما يتضرّر منها وَ يَضَعُ و يرفع عَنْهُمْ بإتيان الحنيفية السّهلة السّمحة إِصْرَهُمْ و التّكاليف الوجوبيّة الشّاقّة عليهم؛ كوجوب قرض موضع النّجاسة من الثّوب و البدن وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ و المحرّمات الشّاقة؛ كحرمة العمل يوم السّبت، و أخذ الدية في القتل، و حرمة التصرّف في الغنائم، و حرمة الشّحوم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ و بما جاء به وَ عَزَّرُوهُ و عظّموه بإطاعة أوامره و نواهية و التّسليم لأحكامه وَ نَصَرُوهُ و أعانوه على أعدائه و في ترويج دينه وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ و هو القرآن اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ و عن الصادق عليه السّلام: «النّور في هذا الموضع عليّ و الأئمّة عليهم السّلام» (5)، و قيل: إنه الهدى و البيان و الرّسالة (6)، و [قيل:]الحقّ الذي ظهوره في القلوب كظهور

ص: 15


1- . أمالي الصدوق:552/737، تفسير الصافي 2:243.
2- . الكافي 8:117/92، تفسير الصافي 2:243، و الآية من سورة الصف:61/6.
3- . الكافي 8:43/8، تفسير الصافي 2:243.
4- . في النسخة: رابعة.
5- . الكافي 1:150/2، تفسير الصافي 2:243.
6- . تفسير الرازي 15:25.

النّور (1).

أُولئِكَ المؤمنون المتّبعون هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ الفائزون بأعلى المقاصد من النّجاة من النّار و الدّخول في الجنّة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 158

ثمّ أنّه تعالى-بعد إثبات رسالة رسوله بالإخبار بوجود اسمه و صفاته في الكتب السماوية، و بكون شريعته أكمل و أسهل من الشّرائع السّابقة، و بيان أفضليّة تابعيه على سائر الامم، و الوعد بالفلاح على الإيمان به و العمل بكتابه-أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلام النّاس هموم رسالته بقوله: قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ من العرب و العجم، و الأبيض و الأحمر و الأسود إِنِّي رَسُولُ اَللّهِ أرسلني إِلَيْكُمْ جَمِيعاً.

قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)عن الحسن المجتبى عليه السّلام: «أنّه جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، أنت الذي تزعم أنّك رسول اللّه، و أنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران، فسكت النبيّ ساعة ثم قال: نعم، أنا سيد ولد آدم و لا فخر، و أنا خاتم النبيّين، و إمام المتّقين، و رسول ربّ العالمين. قالوا: إلى من، إلى العرب، أم إلى العجم، أم إلينا؟ فأنزل اللّه هذه الآية» (2).

ثمّ أمره اللّه تعالى بإظهار كمال معرفته به بالصّفات التي فيها دليل صحّة دعواه بقوله: اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يعزّ من يشاء و يذل من يشاء، و يعطي الملك من يشاء و ينزعه ممّن يشاء لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لا شريك له في الالوهيّة و الربوبيّة حتّى يزاحمه في إنفاذ إرادته، و لا ندّ له حتّى يقهره في سلطانه، القادر الحيّ الذي يُحيِي الأموات وَ يُمِيتُ الأحياء.

فإذا كان كذلك كان عليه إحياء القلوب بمعارفه، و تربية الأرواح بالأمر بالعبادات و تهذيب الأخلاق، كي يستعدّوا لقبول فيوضاته، و لا يمكن ذلك إلاّ بإرسال رسول يهديهم إلى الحقّ و ما به الحياة الرّوحانيّة و الكمالات المعنويّة، و أنا ذلك الرّسول فَآمِنُوا بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ و مرّ تفسيره (3)اَلَّذِي هو لكمال عقله و علمه يُؤْمِنُ بشراشره (4)بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ التي أنزلت إليه و هي القرآن العظيم. و قيل: معجزاته الكثيرة وَ اِتَّبِعُوهُ في جميع أقواله و أفعاله، و انقادوا

ص: 16


1- . تفسير الرازي 15:25.
2- . أمالي الصدوق:254/1، تفسير الصافي 2:243.
3- . تقدم في الآية (157) من تفسير هذه السورة.
4- . الشّراشر: الجسم بجملته.

لأوامره و نواهيه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى خير، و تسعدون في الدّنيا و الآخرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 159

ثمّ بين سبحانه حسن اتّباع طائفة من بني إسرائيل لدين موسى عليه السّلام ترغيبا لامّة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله في اتّباعه بقوله: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ و جماعة مهتدون يتّبعون موسى عليه السّلام، و هم مع اهتدائهم في أنفسهم يَهْدُونَ غيرهم من سائر النّاس بِالْحَقِّ و بكتابه النّاطق به إلى الحقّ، و الدّين المرضيّ عند اللّه وَ بِهِ يَعْدِلُونَ في الأحكام الجارية بينهم.

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159)قيل: إنّ الأشهر بين المفسّرين أنّ هذه الامّة قوم من بني إسرائيل وراء الصّين بأقصى المشرق، و ذلك أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في العتوّ و الطّغيان بعد وفاة موسى عليه السّلام و خليفته يوشع حتى اجترأوا على قتل الأنبياء، و وقع الهرج و المرج، تبرّأ سبط منهم ممّا صنعوا و اعتذروا، و سألوا اللّه تعالى أن يفرّق بينهم و بين أولئك الطّاغين، ففتح اللّه لهم-و هم في بيت المقدس-نفقا في الأرض، و جعل أمامهم المصابيح فساروا و معهم نهر من ماء يجري، و أجرى اللّه عليهم أرزاقهم، فساروا فيه على هذا الوجه سنة و نصف سنة حتّى خرجوا من وراء الصين [إلى أرض]بأقصى المشرق طاهرة طيبة فنزلوها، و هم مختلطون بالسّباع و الوحوش و الهوام لا يضرّ بعضهم بعضا، و هو متمسّكون بالتّوراة مشتاقون إلى الإسلام، لا يعصون اللّه طرفة عين أبدا، تصافحهم الملائكة، و هم في منقطع من الأرض لا يصل إليهم أحد منّا و لا أحد منهم إلينا؛ إمّا لأنّ بينهم و بين الصّين واديا جاريا من رمل يمنع النّاس من إتيانهم، كما عن ابن عبّاس. أو نهرا من شهد، كما عن السدّي. فانّهم كبني أب واحد ليس لاحد [منهم]مال دون صاحبه، يمطرون باللّيل و يضحون (1)بالنّهار، و يزرعون و يحصدون جميعا فيضعون الحاصل في أماكن من القرية، فيأخذ كلّ منهم قدر حاجته و يدع الباقي (2).

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل ليلة المعراج: «إنّي أحبّ أن أرى القوم الّذين أثنى اللّه عليهم بقوله: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» . فقال: إن بينك و بينهم مسيرة ستّ سنين ذهابا، و ستّ سنين إيابا، و لكن سل ربّك حتّى يأذن لك، فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمّن جبرئيل، فأوحى اللّه تعالى إلى جبرئيل أنّه أجيب إلى ما سأل، فركب البراق فخطا خطوات فإذا هو بين أظهر القوم، فسلّم عليهم و ردّوا عليه سلامه، و سألوه: من أنت؟ فقال: «أنا النبيّ الأمّي» ، قالوا: أنت الذي بشّر بك موسى

ص: 17


1- . ضحى يضحو: برز للشمس، ضحى يضحى: أصابه حرّ الشمس.
2- . تفسير روح البيان 3:259.

و أوصانا بأن قال لنا: من أدرك منكم أحمد فليقرى عليه منّي السّلام فرّد رسول اللّه عليه سلامة، و قالوا: فمن معك؟ قال: «أو ترون» ، قالوا: نعم، قال: «هو جبرئيل» . قال: «فرأيت قبورهم على أبواب دورهم فقلت: فلم ذلك؟» قالوا: أجدر أن نذكر الموت صباحا و مساء، فقال: «أرى بنيانكم مستويا؟» قالوا: ذلك لئلاّ يشرف بعضنا على بعض، و لئلاّ يسدّ أحد على أحد الرّيح و الهواء. قال: «فما لي لا أرى لكم قاضيا و لا سلطانا؟» قالوا: إذا أنصف بعضنا بعضا، و أعطينا الحقّ فلم نحتج إلى قاض ينصف بيننا. قال: «فما لي أرى أسواقكم خالية؟» قالوا: نزرع جميعا و نحصد جميعا، فيأخذ كلّ أحد منّا ما يكفيه و يدع الباقي لأخيه، فلا نحتاج إلى مراجعة الأسواق. قال: «فما لي أرى هؤلاء القوم يضحكون؟» قالوا: مات لهم ميّت فيضحكون سرورا بما قبضه اللّه على التّوحيد. قال: «فما لهؤلاء القوم يبكون؟» قالوا: ولد لهم مولود، [فهم]لا يدرون على أيّ دين يقبض فيغتمّون على ذلك.

قال: «فإذا ولد لكم ذكر، فماذا تصنعون؟» قالوا: نصوم للّه شكرا شهرا. «قال: فالانثى؟» قالوا: نصوم للّه شكرا شهرين. قال: «و لم؟» قالوا: لأنّ موسى عليه السّلام أخبرنا أنّ الصبر على الانثى أعظم أجرا من الصّبر على الذّكر. قال: «أفتزنون؟» قالوا: و هل يفعل ذلك أحد، لو فعل ذلك أحد حصبته السّماء، و خسفت به الأرض من تحته. قال: «أفترابون؟» قالوا: إنّما يرابي من لا يؤمن برزق اللّه. قال: «أ فتمرضون؟» قالوا: لا نمرض و لا نذنب، إنّما تذنب امّتك فيمرضون ليكون كفّارة لذنوبهم. قال: «هل في أرضكم سباع و هوام؟» قالوا: نعم، تمر بنا و نمر بها، و لا تؤذينا و لا نؤذيها. فعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شريعته و الصلوات الخمس عليهم، و علّمهم الفاتحة و سورا من القرآن.

و عن الحدّادي: أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، و لم يكن يومئذ نزلت فريضة غير الصلاة و الزّكاة، فأمرهم بالصلاة و الزّكاة، و أن يتركوا تحريم السّبت و يجمعوا، و أمرهم أن يقيموا مكانهم. فهم اليوم هناك حنفاء مسلمون مستقبلون قبلتنا (1).

أقول: هذا يؤيّد القول بأنّ قبلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كانت قبل الهجرة هي الكعبة.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ هذه الآية في قوم من وراء الصّين، بينهم و بين الصّين واد جار من الرّمل، لم يغيروا و لم يبدّلوا، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون باللّيل و يضحون بالنهار و يزرعون، لا يصل إليهم أحد منّا و لا منهم إلينا أحد، و هم على الحقّ» (2).

قال في (المجمع) : و قيل: إنّ جبرئيل انطلق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج إليهم، فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكة فآمنوا به و صدّقوه، و أمرهم أن يقيموا مكانهم و يتركوا السّبت، و أمرهم

ص: 18


1- . تفسير روح البيان 3:260.
2- . مجمع البيان 4:752، تفسير الصافي 2:244.

بالصّلاة و الزّكاة، و لم تكن نزلت فريضة غيرهما، ففعلوا (1).

قال: و روى أصحابنا أنّهم يخرجون مع قائم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و روي أنّ ذا القرنين رآهم (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «قوم موسى هم أهل الإسلام» (3).

و قيل: إنّهم قوم مشوا على دين الحقّ الذي جاء به موسى عليه السّلام، و دعوا النّاس إليه، و صانوه عن التّحريف و التّبديل في زمن تفرّق بني إسرائيل و إحداثهم البدع، و يجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه، و يجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 160

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال متّبعي موسى عليه السّلام من بني إسرائيل، بيّن سوء حال بقيّتهم و كفرانهم النّعم التي أنعمها عليهم بقوله: وَ قَطَّعْناهُمُ و صيّرناهم شعبا، فصاروا اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً و قبائل، كلّ قبيلة منهم من نسل ولد من أولاد يعقوب، يسمّون باسم أبيهم الأعلى، و جعلناهم أُمَماً و جماعات متميّزة.

وَ قَطَّعْناهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ اَلْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)قيل: إنّه تعالى سمّى كلّ سبط أمّة لكثرة عددهم. و قيل: لأنّ كلّ سبط يؤمّ غير الذي يؤمّ الأسباط الأخر، بحيث لا يكاد توافقهم في أمر لتباغظهم و تعصّبهم، فأنعم اللّه عليهم بهذا التّفريق و التّقطيع لتنتظم أمورهم و يتيسّر عيشهم (5).

ثمّ ذكر سبحانه نعمته الأخرى عليهم بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى في التّيه إِذِ اِسْتَسْقاهُ و طلب قَوْمُهُ منه الماء حين اشتدّ بهم العطش أَنِ يا موسى اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ - المعهود الذي مرّ بيانه و أوصافه في سورة البقرة (6)-فضربه بها فَانْبَجَسَتْ و نبعت مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد أسباط بني إسرائيل.

قيل: إنّ انبجاس الماء: خروجه قليلا، و انفجاره: خروجه واسعا، و كان خروجه من الحجر في

ص: 19


1- . مجمع البيان 4:753، تفسير الصافي 2:244.
2- . مجمع البيان 4:753، تفسير الصافي 2:244.
3- . تفسير العياشي 2:165/1632، تفسير الصافي 2:244.
4- . تفسير الرازي 15:31.
5- . تفسير الرازي 16:33، تفسير روح البيان 3:261.
6- . تقدّم في تفسير الآية (60) من سورة البقرة.

الابتداء قليلا ثمّ واسعا.

ثمّ خصّ موسى عليه السّلام كلّ عين بسبط، و قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ و سبط مَشْرَبَهُمْ و العين التي خصّت بهم، حتّى لا يخالطهم فيها غيرهم، و لا يقع النزاع بينهم لغاية العصبيّة التي كانت لهم وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ اَلْغَمامَ و جعلنا فوقه السّحاب يسير في التّيه بسيرهم و يقف بوقوفهم، كيلا يؤذيهم حرّ الشّمس وَ أَنْزَلْنا من السّماء عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى -و قد سبق تفسيرهما في البقرة (1)-ثمّ قلنا لهم بلسان موسى: كُلُوا يا بني إسرائيل مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و مستلذّات ما أنعمنا عليكم. ثمّ ظلموا بأن كفروا هذه النّعم الجليلة، و عصوا أحكامنا وَ ما ظَلَمُونا بكفرانهم و عصيانهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث انقطع عنهم الرّزق الطيّب الذي كان يأتيهم بلا اكتساب و كلفة، و استحقّوا العذاب في الدّنيا و الآخرة.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 161 الی 162

ثمّ بيّن اللّه سبحانه نعمته الاخرى عليهم و كفرانهم إيّاها بعصيانهم و تمرّدهم عن أمر ربّهم بقوله: وَ إِذْ قِيلَ من قبل اللّه لَهُمُ حين نجوا من التّيه و قربوا من البيت المقدّس أو بلدة أريحا، و كانت فيها بقيّة من عاد يقال لهم العمالقة: يا بني إسرائيل اُسْكُنُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ الكثيرة النّعم و الثّمار وَ كُلُوا مِنْها و تمتّعوا بها حَيْثُ شِئْتُمْ و في أيّ ناحية أردتم بلا تعب و عناء وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً -و قد مرّ تفسيره في البقرة (2)-فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ التي سلفت منكم.

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)ثمّ كأنّه قيل: فماذا لهم بعد المغفرة؟ أو قيل: هذا للعصاة، فماذا للمطيعين؟ فأجاب سبحانه بقوله: سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ و المطيعين إحسانا و ثوابا فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم مِنْهُمْ ما امروا به من قول (حطّة) و الاستغفار من الذّنوب، و قالوا قَوْلاً آخر غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ من قول (حطّة) استهزاء باللّه و رسوله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ بعد تبديلهم و استهزائهم رِجْزاً و عذابا شديدا مِنَ

ص: 20


1- . تقدّم في تفسير الاية (57) من سورة البقرة.
2- . تقدّم في تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

اَلسَّماءِ روي أنّه مات بالطّاعون منهم في ساعة واحدة أربعة و عشرون ألفا (1)بِما كانُوا يَظْلِمُونَ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 163

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يسأل يهود عصره عن اصطياد أجدادهم السمك و طغيانهم، لتبكيتهم و تسلية قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله من إصرار الحاضرين منهم على الكفر و الطّغيان بقوله: وَ سْئَلْهُمْ يا محمد عَنِ قضيّة اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ و قريبة منه؛ اسمها إيلة، أو مدين، أو طبريّة، و فيها اليهود إِذْ يَعْدُونَ و يتجاوزون حدود اللّه فِي يوم اَلسَّبْتِ الذي كان الصّيد محرّما عليهم فيه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ و السّمكات التي كانت في ذلك البحر يَوْمَ سَبْتِهِمْ الذي كان عليهم أن يعظّموه و لا يعصون اللّه فيه بالصّيد، حال كون الحيتان شُرَّعاً فيه، ظاهرة على الماء، قريبة من السّاحل وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ و لا يرعون حرمة السّبت فيه كيوم الأحد لا تَأْتِيهِمْ الحيتان، كما كانت تأتيهم يوم السّبت حذرا من صيدهم كَذلِكَ البلاء و الاختبار العظيم نَبْلُوهُمْ و نختبر طاعتهم و عصيانهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و يعصون من الأحكام؛ ليظهر خبث ذاتهم و شدّة طغيانهم، أو المراد: فنعاقبهم بما كانوا يفسقون على الاستمرار.

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 164 الی 166

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح غاية كفرهم و عتوّهم بقوله: وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ و طائفة مؤمنون مِنْهُمْ صلحاء القرية الذين كانوا يبالغون في نصح العصاة و الفسّاق و يعظونهم: لِمَ تَعِظُونَ أيّها الصّلحاء قَوْماً لا يرتدعون عن فسقهم و لا يرجى صلاحهم اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ ألبتّة بعذاب الاستئصال أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الاستئصال لتماديهم في الطّغيان؟

وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)فأجابهم الصّلحاء و قالُوا: إنّما نعظهم ليكون وعظنا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ و لا نأخذ بالتّفريط في

ص: 21


1- . تفسير روح البيان 3:263.

النّهي عن المنكر، وَ لأجل أنّ العصاة لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ العصيان بوعظنا لاحتمال اتّعاظهم عندنا فَلَمّا نَسُوا و تركوا اولئك الطّغاة ما ذُكِّرُوا و وعظوا بِهِ و لم يلتفتوا إلى وعظ الواعظين و نهي الناهين أَنْجَيْنَا و خلّصنا من العذاب الصّلحاء اَلَّذِينَ كانوا يَنْهَوْنَ العصاة و المسيئين عَنِ اَلسُّوءِ و العصيان وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم و طغوا على ربّهم بِعَذابٍ بَئِيسٍ و شديد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ليرتدعوا عن العصيان فَلَمّا عَتَوْا و تأبّوا استكبارا عَنْ ترك ما نُهُوا عَنْهُ من العصيان، أردنا إرادة تكوينيّة مسخهم كأنّا قُلْنا لَهُمْ كُونُوا أيّها العتاة قِرَدَةً و كونوا، أو حال كونهم خاسِئِينَ ذليلين عند اللّه و عند النّاس، أو مطرودين من رحمة اللّه، أو من بين النّاس. فكانوا كذلك من غير ريث.

في قصة أصحاب

السبت

روي أنّ اليهود امروا باليوم الذي امرنا به، و هو يوم الجمعة، فتركوه و اختاروا السّبت، و هو المعنيّ بقوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ (1)و ابتلوا به، و حرّم عليهم الصّيد و امروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السّبت كأنّها المخاض (2)و الكباش البيض السّمان تنتطح، لا يرى وجه الماء لكثرتها، و لا تأتيهم في سائر الأيّام، و كانوا على ذلك برهة من الدّهر، ثمّ جاءهم إبليس فقال لهم: إنّما نهيتم عن أخذها يوم السّبت، فاتّخذوا حياضا سهلة الورود صعبة الصّدور ففعلوا، فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السّبت فلا تقدر على الخروج، و يأخذونها يوم الأحد.

و أخذ رجل منهم حوتا و ربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل ثمّ شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السّمك، فتطلّع على تنّوره، فقال له: إنّي أرى اللّه سيعذّبك، فلّما [لم]يره عذاب أخذ في السّبت القابل حوتين.

فلمّا رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم استمرّوا على ذلك، فصادوا و أكلوا و ملّحوا و باعوا، و كانوا نحوا من سبعين ألفا، فكان أهل القرية أثلاثا: ثلث استمروا على النّهي، و ثلث ملّوا التّذكير و سأموه و قالوا للواعظين: لِمَ تَعِظُونَ إلى آخره، و ثلث باشروا الخطيئة، فلمّا لم ينتهوا قال المسلمون: نحن لا نساكنكم، فباعوا الدّور و المساكن و خرجوا من القرية، فضربوا الخيام خارجا منها، أو اقتسموا القرية بجدار؛ للمسلمين باب، و للمعتدين باب، و لعنهم داود.

فأصبح الناهون ذات يوم فخرجوا من أبوابهم و انتشروا لمصالحهم، و لم يخرج من المعتدين أحد

ص: 22


1- . النحل:16/124.
2- . المخاض: الحوامل من النوق، و ابن المخاض: ولد الناقة أو البقرة إذا لقحت امّه. و الانثى بنت مخاض.

فقالوا: لعلّ الخمر غلبتهم أو لهم شأن من خسف أو مسخ أو رمي بالحجارة، فعلوا الجدر فنظروا فإذا هم قردة، أو صار الشّبان قردة و الشّيوخ خنازير، ففتحوا الباب و دخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابهم من الإنس و هم لا يعرفونها، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه فيبكي، و يقول له نسيبه: ألم ننهكم؟ فيقول القردة برأسة: بلى، و دموعه تسيل على خدّه، ثمّ ماتوا عن مكث ثلاثة أيام (1).

و عن علي بن الحسين عليهما السّلام، في قوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال: «كان هؤلاء قوما يسكنون على شاطئ بحر، نهاهم اللّه و أنبياؤه عن اصطياد السّمك في يوم السّبت، فتوسّلوا (2)إلى حيلة ليحلّوا بها لأنفسهم ما حرّم اللّه، فاتّخذوا أخاديد و عملوا طرقا تؤدّي إلى حياض يتهيّأ للحيتان الدّخول فيها من تلك الطّرق و لا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرّجوع، فجاءت الحيتان يوم السّبت جاريّة على أمان لها، فدخلت الأخاديد و حصلت في الحياض و الغدران، فلمّا كانت عشية اليوم همّت بالرّجوع منها إلى اللّجج لتأمن من صائدها فلم تقدر، و بقيت ليلها في مكان يتهيّأ أخذها بلا اصطياد لاستر سالها فيه و عجزها عن الامتناع لمنع المكان لها.

و كانوا يأخذون يوم الأحد و يقولون: ما اصطدنا في السّبت، إنّما اصطدنا في الأحد، و كذب أعداء اللّه، بل كانوا اخذيها بأخاديدهم التي عملوها يوم السّبت، حتّى كثر من ذلك مالهم و ثراؤهم و تنعّموا بالنّساء و غير هنّ لاتّساع أيديهم به، و كانوا في المدينة نيّفا و ثمانين ألفا، فعل هذا [منهم]سبعون ألفا و أنكر عليهم الباقون، كما قصّ اللّه وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ الآية.

و ذلك أن طائفة منهم و عظوهم و زجروهم، و من عذاب اللّه خوّفوهم، و من انتقامه و شدائد بأسه حذّروهم، فأجابوهم من وعظهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ بذنوبهم هلاك الاصطلام، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فأجاب القائلين [لهم]هذا القول: منّا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ إذ كلّفنا الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربّنا مخالفتنا لهم و كراهتنا لفعلهم، قالوا: وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و نعظهم أيضا لعلّه تنجع (3)فيهم المواعظ فيتّقوا هذه الموبقة، و يحذروا عقوبتها.

قال اللّه تعالى: فَلَمّا عَتَوْا حادوا و أعرضوا و تكبّروا عن قبول الزّجر عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ مبعدين من الخير مبغضين، فلمّا نظر العشرة آلاف و النيّف أنّ السّبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم و لا يخافون بتخويفهم إيّاهم و تحذيرهم لهم، اعتزلوهم إلى قرية اخرى قريبة من قريتهم، و قالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب اللّه و نحن في خلالهم، فأمسوا ليلة فمسخهم اللّه كلّهم قردة،

ص: 23


1- . تفسير روح البيان 3:265.
2- . في تفسير العسكري: فتوصّلوا.
3- . أي تؤثّر.

و بقي باب المدينة مغلقا، لا يخرج منه أحد و لا يدخله أحد، و تسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم و تسنّموا حيطان البلد فاطّلعوا عليهم، فإذا هم كلّهم رجالهم و نساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم و قراباتهم و خلطاءهم، يقول المطّلع لبعضهم: أنت فلان، أنت فلانة، فتدمع عينه و يومئ برأسه أو بفمه بلا أو نعم، فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام، ثمّ بعث اللّه تعالى مطرا و ريحا فجرفهم إلى البحر و ما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام، و إنّما الذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباهها، لا هي بأعيانها و لا من نسلها» (1).

و القمّي رحمه اللّه [عن أبي جعفر عليه السّلام]قال: «وجدنا في كتاب علي عليه السّلام أنّ قوما من أهل إيلة من قوم يهود (2)، [و إن]الحيتان كانت سبقت إليهم يوم السّبت ليختبر اللّه طاعتهم في ذلك، فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم و قدّام أبوابهم في أنهارهم و سواقيهم، فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها، فلبثوا في ذلك ما شاء اللّه لا ينهاهم عنها الأحبار و لا يمنعهم العلماء من صيدها، ثمّ إنّ الشّيطان أوحى إلى طائفة منهم: إنّما نهيتم عن أكلها يوم السّبت و لم تنهوا عن صيدها، فاصطادوها يوم السّبت و كلوها فيما سوى ذلك من الأيام.

فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها فعتت، و انحازت طائفة [اخرى]منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة اللّه أن تتعرّضوا بخلاف أمره، و اعتزلت طائفة منهم ذات الشمال فسكتت فلم تعظهم فقالت للطائفة التي و عظتهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فقالت الطائفة التي وعظتهم: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

قال: فقال اللّه تعالى: فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني: لمّا تركوا ما وعظوا به و مضوا على الخطيئة، فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا و اللّه لا نجامعكم و لا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم اللّه فيها مخافة أن ينزل اللّه بكم البلاء فيعمّنا معكم.

قال: فخرجوا [عنهم]من المدينة [مخافة أن يصيبهم البلاء، فنزلوا قريبا من المدينة]، فباتوا تحت السّماء، فلمّا أصبح أولياء اللّه المطيعون لأمر اللّه تعالى غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية، فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت، فدقّوه فلم يجابوا، و لم يسمعوا منها حسّ أحد، فوضعوا سلّما على سور المدينة ثمّ أصعدوا رجلا منهم، فأشرف على المدينة، فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون، فقال الرّجل لأصحابه: [يا قوم]أرى و اللّه عجبا، قالو: و ما ترى؟ قال: أرى القوم [قد]صاروا قردة يتعاوون و لها

ص: 24


1- . التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام:268/136، تفسير الصافي 2:246.
2- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: ثمود.

أذناب، فكسروا الباب و دخلوا المدينة. قال: فعرفت القردة أنسابها من الإنس و لم تعرف الإنس أنسابها من القردة، فقال القوم للقردة: ألم ننهكم.

قال: فقال عليّ: و اللّه الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، إنّي لأعرف أنسابها من هذه الامّة لا ينكرون و لا يغيّرون، بل تركوا ما امروا به فتفرّقوا، و قد قال اللّه: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (1)، فقال اللّه: أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا فنجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا ذرّا (3)، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا» (4).

عن ابن عبّاس: أنّه إذا قرأ هذه الآية بكى و قال: إنّ هؤلاء الذين سكتوا عن النّهي عن المنكر فهلكوا، و نحن نرى أشياء ننكرها ثمّ نسكت و لا نقول شيئا (5).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 167

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر قبائح أعمال اليهود و إنزال العذاب عليهم، نبّه أنّ من عقوبتهم ابتلاء نسلهم بالذلّ و الصّغار بقوله: وَ إِذْ تَأَذَّنَ و قضى رَبُّكَ أنّه تعالى لَيَبْعَثَنَّ و ليسلّطنّ عَلَيْهِمْ البتّة إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ و آخر الدّهر مَنْ يَسُومُهُمْ و يعذّبهم سُوءَ اَلْعَذابِ و شديده من الإذلال، و الإجلاء عن الأوطان، و ضرب الجزية، و غيرها من الشّدائد كبخت نصّر فإنّه غلب على بني إسرائيل، و قتل مقاتليهم، و سبى نساءهم، و خرّب ديارهم، و ضرب عليهم الجزية، و كالمجوس ضربوا عليهم الجزية و أخذوها منهم، حتّى بعث اللّه خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله ففعل بهم ما فعل، فلا ترفع لهم راية أبدا إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد لَسَرِيعُ اَلْعِقابِ يعجلّ في عقوبة العصاة في الدّنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ لمن تاب و رَحِيمٌ بمن أطاع.

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 168

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ عامّة بني إسرائيل نبّه على وجود الصّلحاء فيهم، و أنّه يعامل مع بقيّتهم معاملة

وَ قَطَّعْناهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ اَلصّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ اَلسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

ص: 25


1- . المؤمنون:23/41.
2- . تفسير القمي 1:244، تفسير العياشي 2:166/1636، تفسير الصافي 2:247.
3- . الذّرّ: صغار النّمل.
4- . الكافي 8:158/151، تفسير الصافي 2:248.
5- . تفسير الرازي 15:39.

المختبر، و يبتليهم بما يوجب تنبّههم بقوله: وَ قَطَّعْناهُمْ و شتّتناهم فِي اَلْأَرْضِ حال كونهم أُمَماً و فرقا متباعدة في العقائد و الآراء مِنْهُمُ اَلصّالِحُونَ و هم الذين قدّسوا اللّه عن الشّريك و الولد، و آمنوا بجميع الأنبياء و بخاتمهم عن صميم القلب، عن ابن عبّاس: هم الذين أدركوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و آمنوا به (1)، وَ مِنْهُمْ اناس دُونَ ذلِكَ المقام؛ و هم الّذين ثبتوا على اليهوديّة وَ بَلَوْناهُمْ و عاملناهم معاملة المختبر حالهم بِالْحَسَناتِ الموجبة للشّكر؛ من العافية، وسعة الرّزق، و الخصب، و الأمن وَ اَلسَّيِّئاتِ الموجبة للنّدم على الكفر و العصيان؛ من الأمراض، و الجدب، و الشّدائد لَعَلَّهُمْ بسبب تلك الحوادث المرغّبة للطّاعة المرعبة عن المخالفة و المعصية يَرْجِعُونَ عن الكفر و اللّجاج إلى الإسلام و الانقياد للّه و رسوله، و يتوبون إلى اللّه عمّا هم عليه من الطّغيان و العصيان.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 169

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ الصّلحاء لمّا انقرضوا صار جميع بني إسرائيل على نهج واحد من الكفر و العصيان، و لم يفد الابتلاء في تربية أكثرهم و رجوعهم إلى الهدى و الصلاح بقوله: فَخَلَفَ الصالحون مِنْ بَعْدِهِمْ و غبّ موتهم خَلْفٌ و ذريّة طالحة رديئة؛ و هم الذين كانوا في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وَرِثُوا اَلْكِتابَ الذي جاء به موسى عليه السّلام من أسلافهم و قرأوه و وقفوا على ما فيه من الأحكام و العلوم و التّزهيد من الدّنيا، و هم مع ذلك يتركون العمل به و يرغبون في جمع الأموال، بل يَأْخُذُونَ من النّاس عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى و حطام هذه الدّنيا الدنيّة، للحكم بغير الحقّ، و تحريف كلام اللّه، و تغيير علائم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المذكورة في التّوراة وَ يَقُولُونَ غرورا و افتراء على اللّه: سَيُغْفَرُ لَنا ذنبنا ذلك و لا يعذّبنا به، بل وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ من أعراض الدّنيا و متاع من أمتعتها بجهة الرّشوة و الجعل على التّحريف و التّغيير نظير ما أتوا به و مِثْلُهُ في الحرمة يَأْخُذُوهُ أيضا حرصا على الدّنيا و زخارفها، و إصرارا على العصيان.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ اَلْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169)ثمّ أنكر اللّه عليهم عملهم ذلك، و وبّخهم على مخالفة حكم التّوراة بقوله: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ

ص: 26


1- . تفسير الرازي 15:42.

مِيثاقُ اَلْكِتابِ و العهد المؤكّد في التّوراة؛ و هو أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اَللّهِ قولا إِلاَّ القول اَلْحَقَّ و الصّدق، و لا يعملوا عملا إلاّ ما وافق أحكام التّوراة، فلم يقولون للنّاس: إنّ العلائم التي ذكرها اللّه في كتابه تخالف صفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و إنّه سيغفر اللّه لنا ذنوبنا، و يصرّون على العصيان و الباطل، وَ الحال أنّهم دَرَسُوا الكتاب و قرأوا ما فِيهِ من الأحكام، و علائم النبيّ، و العهد المؤكّد على أن يعملوا به و لا يخالفوه و لا يحرّفوه.

ثمّ أنّه تعالى بعد العتاب و التّوبيخ وجّه الخطاب إلى هؤلاء المحرّفين الرّاغبين إلى الدّنيا، و وعظهم بقوله: وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ و الجنّة العالية، و النّعم الباقية فيها خَيْرٌ و أنفع من أعراض الدّنيا و جمع ما فيها، و من الواضح أنّها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ و يحترزون من الكفر و المعاصي أَ فَلا تَعْقِلُونَ و لا تدركون تلك الخيريّة و الاختصاص.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 170

ثمّ لمّا مدح اللّه اليهود الذين عملوا بالتّوراة و لم يحرّفوه، و آمنوا بالنبيّ الامّي، وعدهم بالثوّاب بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ و يعملون بِالْكِتابِ و يلتزمون بجميع ما فيه من الأحكام و علائم النبي، و يؤمنون به، و عملوا بأحكام شريعته وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ التي هي عمدتها، نعطيهم اجورهم إِنّا لا نُضِيعُ و لا نبطل أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ و ثوابهم.

وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ (170)قيل: هم عبد اللّه بن سلام و أضرابه، فإنّهم تمسّكوا بالتّوراة التي جاء بها موسى عليه السّلام فلم يحرّفوها، و لم يكتموها، و لم يتّخذوها مأكلة (1).

و قيل: إنّ المراد: امّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الكتاب: القرآن (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 171

ثمّ بيّن اللّه كيفيّة أخذ الميثاق بالعمل بالتّوراة بقوله: وَ إِذْ نَتَقْنَا و قلعنا اَلْجَبَلَ -و هو الطّور- من موضعه، و رفعناه فَوْقَهُمْ و أوقفناه على رؤوسهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ و سقيفة-كما عن ابن عبّاس (3)- وَ ظَنُّوا و قوى في نفوسهم أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ و ساقط عليهم إن لم يلتزموا بالتّوراة و العمل بما فيها،

وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

ص: 27


1- . تفسير أبي السعود 3:288، تفسير روح البيان 3:270.
2- . تفسير روح البيان 3:270.
3- . تفسير الرازي 15:45.

و قلنا لهم: خُذُوا يا بني إسرائيل ما آتَيْناكُمْ من الكتاب و الأحكام التي فيه بِقُوَّةٍ و جدّ و عزيمة على تحمّل المشاقّ وَ اُذْكُرُوا و احفظوا ما فِيهِ من الأحكام و العهود، بالعمل و الوفاء بها، و لا تتركوها كالمنسيّ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رذائل الخصال، و سيّئات الأعمال، و عذاب اللّه المتعال.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 172 الی 174

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر أخذ الميثاق من بني إسرائيل على العمل بالتّوراة، ذكر أخذه الميثاق من بني آدم في عالم الذرّ على الإقرار بتوحيده و رسالة رسله بقوله: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ و أخرج مِنْ بَنِي آدَمَ أعني مِنْ ظُهُورِهِمْ و أصلابهم ذُرِّيَّتَهُمْ و نسلهم طبقة، بعد طبقة كما يتوالدون في الدّنيا وَ أَشْهَدَهُمْ و أخذ الإقرار منهم عَلى أَنْفُسِهِمْ بتوحيده و ربوبيّته، بأن قال لهم تقريرا: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ و مالك أمركم، و المتصرّف فيكم إيجادا و إعداما و تدبيرا، لا شريك لي و لا ندّ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا و أعترفنا بربوبيّتك و وحدانيّتك.

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

في أخذ الاقرار

بالتوحيد في عالم

الذرّ

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لمّا خلق اللّه آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كلّ نسمة من ذريّته إلى يوم القيامة» (1).

و عن مقاتل: أنّ اللّه مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فخرجت منه ذريّة بيضاء كهيئة الذرّ تتحرّك، ثمّ مسح صفحة ظهره اليسرى فخرجت منه ذريّة سوداء كهيئة الذرّ، فقال: يا آدم، هؤلاء ذريّتك. ثم قال: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فقال للبيض: هؤلاء في الجنّة برحمتي، و هم أصحاب اليمين، و قال للسّود: هؤلاء في النّار و لا ابالي، و هم أصحاب الشّمال و أصحاب المشئمة. ثمّ أعادهم جميعا في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتّى يخرج أهل الميثاق كلّهم من أصلاب الرّجال و أرحام النّساء، و قال تعالى في من نقض العهد الأوّل: وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ (2).

و عن ابن عبّاس: أنّه أبصر آدم في ذريّته قوما لهم نور فقال: يا ربّ، من هم؟ فقال: الأنبياء (3)الخبر.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال و أبوه يسمع: «حدّثني أبي أنّ اللّه عزّ و جلّ قبض

ص: 28


1- . تفسير الرازي 15:46.
2- . تفسير الرازي 15:46، و الآية من سورة الأعراف:7/102.
3- . تفسير الرازي 15:47.

قبضة من تراب التّربة التي خلق منها آدم، فصبّ فيها الماء العذب الفرات، ثمّ تركها أربعين صباحا، [ثمّ صبّ عليها الماء المالح الاجاج فتركها أربعين صباحا]، فلمّا اختمرت الطّينة أخذها فعركها عركا شديدا، فخرجوا كالذرّ من يمينه و شماله، و أمرهم جميعا أن يقعوا في النّار، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا و سلاما، و أبى أصحاب الشّمال أن يدخلوها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «أخرج من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة؛ فخرجوا كالذرّ، فعرّفهم نفسه، [و أراهم صنعه] (2)و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه» (3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: كيف أجابوا و هم ذرّ؟ فقال: «جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه» (4).

و عنه عليه السّلام: «لمّا أراد اللّه أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه، فقال لهم: من ربّكم؟ فأوّل من نطق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام فقالوا: أنت ربّنا، فحمّلهم العلم و الدّين. ثمّ قال للملائكة: [هؤلاء حملة ديني و علمي و امنائي في خلقي و هم المسؤولون. ثم قال لبني آدم: أقرّوا للّه بالربوبية و لهؤلاء النفر بالولاية و الطاعة، فقالوا: نعم ربنا أقررنا، فقال اللّه للملائكة:]اشهدوا، فقال الملائكة: شهدنا [على أن لا يقولوا غدا: إنا كنّا عن هذا غافلين، أو يقولوا: إنما أشرك آباؤنا]» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه عنه عليه السّلام في هذه الآية، أنّه سئل: معاينة كان هذا؟ قال: «نعم، فثبتت المعرفة، و نسوا الموقف و سيذكرونه، و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ، و لم يؤمن بقلبه فقال اللّه: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» (6).

أقول: نظائر هذه الأخبار كثيرة بحيث لو ادّعى أحد تواترها المعنوي أو الإجمالي لا يعدّ مجازفا، فلا مناص من الالتزام و القول بوجود عالم الذرّ، و عليه عامّة المفسّرين و أهل الأثر كما ادّعاه الفخر الرّازي، و لا مجال لإنكاره و تأويل الأخبار بما نقله الفخر عن أصحاب النّظر و أرباب المعقولات من أنّه تعالى أخرج الذرية من أصلاب آبائهم، و ذلك الإخراج أنّهم كانوا نطفة، فأخرجها اللّه تعالى في أرحام امّهاتهم، و جعلها علقة ثمّ مضغة، ثمّ جعلهم بشرا سوّيا و خلقا كاملا، ثمّ أشهدهم على أنفسهم بما ركّب فيهم من دلائل وحدانيّته و عجائب خلقه و غرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنّهم قالوا: بلى،

ص: 29


1- . تفسير العياشي 2:173/1652، الكافي 2:5/2، تفسير الصافي 2:252.
2- . في تفسير العياشي: و أراهم نفسه، و في الكافي: فعرفهم و أراهم نفسه.
3- . تفسير العياشي 2:173/1654، الكافي 2:10/4، التوحيد:330/9، تفسير الصافي 2:252.
4- . تفسير العياشي 2:170/1647، تفسير الصافي 2:252.
5- . الكافي 1:103/7، تفسير الصافي 2:252.
6- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:252، و الآية من سورة يونس:10/74.

و إن لم يكن هناك قولا باللّسان، و لذلك نظائر منها قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (1)، و منها قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2)فهذا النوع من المجاز و الاستعارة مشهورة في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه (3).

و قال بعض آخر من العامّة في توجيه الآية: إنّه من باب التّمثيل و التخييل، نزّل تمكينهم من العلم بربوبيّته بنصب الدّلائل الآفاقيّة و الأنفسيّة، و خلق الاستعداد فيهم منزلة الإشهاد، و تمكينهم من معرفتها و الإقرار بها منزلة الاعتراف، فلم يكن هناك أخذ و إشهاد و سؤال و جواب، و باب التّمثيل باب واسع في القرآن و الحديث و كلام البلغاء، قال اللّه تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (4).

و قال الفيض رحمه اللّه في (الصافي) : إنّ المراد بالإشهاد إقامة الدّلائل و الحجج على التّوحيد و الرّبوبيّة، و من قولهم «بلى شهدنا على أنفسنا» أنّه ركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها، حتّى صار بمنزلة الإشهاد على طريقة التّمثيل، نظير قوله عزّ و جلّ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و قوله جلّ و علا: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (5).

أقول: و إن كان يشعر بذلك قول الصادق عليه السّلام: «أنه جعل فيهم إذا سألهم أجابوه» (6)إلاّ أنّ قوله عليه السّلام في رواية القمّي: «فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ، و لم يؤمن بقلبه» (7)كالصّريح في خلافه، و يمكن القول بخلق ذريّته في صلبه بصور كالذرّ في الصّغر، و لا مادّة لها، و كان السؤال بلسان الملك، و الجواب بلسان مناسب لخلقهم، أو بلسان الحال؛ لكون عقولهم في ذلك العالم سليمة عن شوب الشّهوات و الأهواء. و كانت الحكمة في ذلك كون تذكاره في عالم الدّنيا موجبا لتهييج رغبتهم إلى الإيمان.

ثمّ علّل سبحانه هذا العهد بكراهته تعالى من أَنْ تَقُولُوا عند مؤاخذتكم على إنكار الربوبيّة و التّوحيد احتجاجا علينا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ: ربّنا إِنّا كُنّا في الدّنيا عَنْ هذا الأمر غافِلِينَ و به جاهلين، و لا يجوز مؤاخذة الجاهل و الغافل أَوْ تَقُولُوا يوم القيامة اعتذارا من شرككم: ربّنا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا الأقدمون مِنْ قَبْلُ و أخترعوا هذا الدّين و سنّوه في الدّنيا قبل ولادتنا وَ كُنّا ذُرِّيَّةً جاهلة مِنْ بَعْدِهِمْ لم يكن لنا طريق إلى معرفتك بالربوبيّة و الوحدانيّة، و لم نقدر على الاستدلال

ص: 30


1- . فصلت:41/11.
2- . النحل:16/40.
3- . تفسير الرازي 15:50.
4- . تفسير روح البيان 3:273.
5- . تفسير الصافي 1:251.
6- . تقدم آنفا.
7- . تقدم آنفا.

عليهما، و لذا اقتدينا بهم و قلّدناهم أَ تأخذنا فَتُهْلِكُنا بالعذاب بِما فَعَلَ قدماؤنا اَلْمُبْطِلُونَ المضلّون وَ كَذلِكَ التفصيل و الشرّح البليغ البديع النّافع نُفَصِّلُ و نشرح اَلْآياتِ الدالّة على صدق القرآن و صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، ليقفوا على ما فيها وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الكفر إلى الإسلام، و عن الباطل إلى الحقّ.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 175

ثمّ أنّه تعالى بعد تنبيه اليهود على نعمه العظيمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة و أخذ العهد منهم على العمل بالتّوراة، بيّن أنّ أزهدهم و أعلمهم عصى و أعرض عن الهدى فضلا عن غيره بقوله: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ يا محمّد نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ و علّمناه آياتِنا المنزلة و الكتب السماويّة و الاسم الأعظم، بحيث شملته تلك كالشّملة (1)، بل كالجلد على بدنه فَانْسَلَخَ و انخلع مِنْها بالكلّية لغلبة النّفس عليه فَأَتْبَعَهُ و أدركه اَلشَّيْطانُ بعد أن كان ساعيا في لحوقه و إدراكه فَكانَ ذلك العالم- بانسلاخه من العلم و غلبة النّفس و الشّيطان عليه- مِنَ اَلْغاوِينَ و الرّاسخين في الغواية و الضّلال.

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ اَلْغاوِينَ (175)

قصة بلعم بن

باعورا

و عن ابن عبّاس و ابن مسعود قالا: كان هو عابدا من عبّاد بني إسرائيل، و كان في المدينة التي قصدها موسى عليه السّلام، و كان أهل تلك المدينة كفّارا، و كان عنده اسم اللّه الأعظم، فسأله ملكهم أن يدعو على موسى عليه السّلام بالاسم الأعظم ليدفعه عن تلك المدينة فقال لهم: دينه و ديني واحد، و هذا شيء لا يكون، و كيف أدعو عليه و هو نبيّ اللّه و معه الملائكة و المؤمنون؟ و أنا أعلم من اللّه ما أعلم، و إنّي إن فعلت ذلك أذهبت دنياي و آخرتي. فلم يزالوا به يفتنونه بالمال و الهدايا حتّى فتنوه، فافتتن (2).

قيل: كانت لهذا الرّجل الذي اسمه بلعم امرأة يحبّها و يطيعها، فجمع قومه هدايا عظيمة فأتوا بها إليها و قبلتها، فقالوا لها: قد نزل بنا ما ترين، فكلّمي بلعم في هذا، فقالت لبلعم: إنّ لهؤلاء القوم حقّا و جوارا عليك، و ليس مثلك يخذل جيرانه عند الشدائد، و قد كانوا محسنين إليك، و أنت جدير أن تكافئهم و تهتمّ بأمرهم، فقال لها: لو لا أنّي أعلم أنّ هذا الأمر من عند اللّه لأجبتهم. فلم تزل به حتّى صرفته عن رأيه، فركب أتانا له متوجّها إلى الجبل ليدعو على موسى عليه السّلام، فما سار على الأتان إلاّ

ص: 31


1- . الشّملة: ثوب يتوشّح به، أو كساء من صوف أو شعر يتغطّى به.
2- . تفسير روح البيان 3:276.

قليلا فربضت، فنزل عنها فضربها حتّى كاد يهلكها فقامت فركبها، فربضت [فضربها]، فأنطقها اللّه تعالى فقالت: يا بلعم، ويحك أين تذهب، ألا ترى إلى هؤلاء الملائكة أمامي يردّونني عن وجهي، فكيف تريد أن تذهب لتدعو على نبي اللّه و على المؤمنين؟ ! فخلّى سبيلها، و انطلق حتّى وصل إلى الجبل و جعل يدعو، فكان لا يدعو بسوء إلاّ صرف اللّه به لسانه على قومه، و لا يدعو بخير إلاّ صرف به لسانه إلى موسى. فقال له قومه: يا بلعم، إنّما أنت تدعو علينا و تدعو له، فقال: هذا و اللّه الذي أملكه، و أنطق اللّه به لساني.

ثمّ امتدّ لسانه حتّى بلغ صدره فقال لهم: و اللّه قد ذهبت منّي الآن الدّنيا و الآخرة، فلم يبق إلاّ المكر و الحيلة، فسأمكر لكم و أحتال، حلّوا النّساء و زيّنوهنّ و أعطوهنّ الطّيب، و أرسلوهنّ إلى العسكر، و آمروهنّ لا تمنع امرأة نفسها عن رجل أرادها، فإنّهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم؛ ففعلوا. فلمّا دخلت النّساء العسكر مرّت امرأة منهم برجل من عظماء بني إسرائيل، فقام إليها و أخذ بيدها حين أعجبته بحسنها، ثمّ أقبل بها إلى موسى عليه السّلام فقال له: إنّي لأظنّك أن تقول: هذه حرام، قال: نعم، هي حرام عليك، لا تقربها، قال: فو اللّه لا نطيعك في هذا. ثمّ دخل بها قبّته فوقع عليها، فأرسل اللّه على بني إسرائيل الطّاعون في الوقت.

و كان فنحاص بن عازورا (1)صاحب أمر موسى عليه السّلام رجلا له بسطة في الخلق و قوّة في البطش، و كان غائبا حين صنع ذلك الرّجل بالمرأة ما صنع، فجاء و الطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته و كانت من حديد كلّها، ثمّ دخل القبّة فوجدهما متضاجعين، فدقّهما بحربته حتّى انتظمهما بها جميعا، فخرج بهما يحملهما بالحربة و أعقابهما (2)إلى السّماء، و الحربة قد أخذها بذراعه، و اعتمد بمرفقه، و أسند الحربة إلى لحيته، و جعل يقول: اللّهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون من حينئذ عنهم، فحسب من هلك من بني إسرائيل في ذلك الطّاعون، فوجدهم سبعين ألفا في ساعة من نهار، و هو ما بين أن زنى الرّجل بها إلى أن قتل.

ثمّ أنّ موسى عليه السّلام و فتاه يوشع بن نون حاربوا أهل تلك البلدة و غلبوهم، و قتلوا منهم و أسروا، و أتوا ببلعم أسيرا فقتل، و جاءوا بما قبل من العطايا الكثيرة و غنموها (3).

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في بلعم بن باعورا، و كان من بني إسرائيل، أوتي علم بعض الكتب (4).

و في (المجمع) : عن الباقر عليه السّلام: «الأصل فيه بلعم، ثمّ ضربه اللّه مثلا لكلّ مؤثر هواه على هدى اللّه

ص: 32


1- . في تفسير روح البيان: فخاض بن العيزار.
2- . في تفسير روح البيان: بالحربة رافعا بهما.
3- . تفسير روح البيان 3:277.
4- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:253.

من أهل القبلة» (1).

و العياشي، عنه عليه السّلام: «مثل المغيرة بن سعيد (2)مثل بلعم الذي اوتي الاسم الأعظم الذي [قال اللّه:] آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها (3)» .

عن القمّي رحمه اللّه: عن الرضا عليه السّلام: «أنّه اعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، و كان يدعو به فيستجاب له، فمال إلى فرعون، فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى عليه السّلام و أصحابه قال فرعون لبلعم: ادع اللّه على موسى و أصحابه ليحبسه علينا، فلمّا ركب حمارته ليمرّ في طلب موسى عليه السّلام فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها فأنطقها اللّه عزّ و جلّ فقالت: ويلك على ما ذا تضربني، أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبيّ اللّه و قوم مؤمنين؟ ! فلم يزل يضربها حتى قتلها، و انسلخ الاسم الأعظم من لسانه، و هو قوله تعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها»» (4).

و عن ابن عبّاس، بعد أن ذكر نزول الآية في بلعم قال: كان مجاب الدّعوة و عنده اسم اللّه الأعظم، و أنّه دعا على موسى عليه السّلام فاستجيب له، و وقع موسى عليه السّلام و بنو إسرائيل في التّيه بدعائه، فقال موسى عليه السّلام: يا رب، بأيّ ذنب وقعنا في التّيه؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه، ثمّ دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم اللّه الأعظم و الإيمان، فسلخه اللّه ممّا كان عليه، و نزع منه المعرفة، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء (5).

أقول: مخالفة هذه الرّواية لكتاب اللّه واضحه، حيث إنّه ناطق بأن سبب وقوع بني إسرائيل في التّيه عصيانهم أمر موسى عليه السّلام، و عدم دخولهم بلد العمالقة.

و قيل: إنّ الآية نزلت في امّية بن أبي الصّلت، و كان قد قرأ الكتب، و علم أن اللّه مرسل رسولا في ذلك الوقت، و رجا أن يكون هو، فلمّا أرسل اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حسده، ثمّ مات كافرا و لم يؤمن بالنبيّ، و هو الذي قال فيه النبي صلّى اللّه عليه و آله: «آمن شعره، و كفر قلبه» (6).

و قيل: نزلت في أبي عامر الرّاهب الذي سمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفاسق، كان يترهّب في الجاهليّة، فلمّا جاء الإسلام خرج إلى الشام، و أمر المنافقين باتّخاذ مسجد ضرار، [و أتى قيصر]و استنجده على

ص: 33


1- . مجمع البيان 4:769، تفسير الصافي 2:253.
2- . المغيرة بن سعيد: خبيث ملعون، كان يكذب على الإمام الباقر عليه السّلام، فلعنه الإمام الصادق عليه السّلام، و أذاقه اللّه حرّ الحديد، قتله خالد بن يزيد القسري، و القصة مذكورة في مستدركات علم الرجال 7:470/15122، سير أعلام النبلاء 5:426.
3- . تفسير العياشي 2:176/1661، تفسير الصافي 2:253.
4- . تفسير القمي 1:248، تفسير الصافي 2:253.
5- . تفسير الرازي 15:54.
6- . تفسير الرازي 15:54.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمات هناك طريدا وحيدا. و قيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه (1).

أقول: الحقّ أن الآية نزلت في بلعم، و جرت على كلّ عالم متّبع للهوى، معرض عن الهدى.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 176 الی 177

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان انسلاخ بلعم من الآيات و انسلاكه في الرّاسخين في الضّلال، بيّن أنّ تلك الآيات كانت مقتضية لرفع مقامه، إلاّ أنّ حبّه الدّنيا و اتباعه الهوى أهواه في أسفل الدّركات بقوله: وَ لَوْ شِئْنا رفعة مقامه إلى محلّ القرب، و إيصاله إلى جميع السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة ببركة تلك الآيات لَرَفَعْناهُ بِها إليه، و أوصلناه إلى أعلى درجة السّعادة و الكرامة وَ لكِنَّهُ لخبث ذاته و بسوء اختياره أَخْلَدَ و مال إِلَى اَلْأَرْضِ و الدّنيا الدنيّة و اطمأنّ بها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ و وافق شهوته في إيثار الحطام و الزّخارف الفانية، و استرضاء قومه، فانحطّ غاية الإنحطاط، و هوى في أسفل الدّركات.

وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)فَمَثَلُهُ و حاله العجب في حرصه على الدنيا، و هلعه إلى حطامها، و عدم اتّعاظه بالموعظة، و عدم اهتدائه، إن ترك كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ في أسوء أحواله و أخسّ صفاته، و هو أنّه إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ أيّها المخاطب بالزّجر و الطّرد يَلْهَثْ و يخرج لسانه و يتنفّس بشدّة أَوْ تَتْرُكْهُ و لا تتعرّض له يَلْهَثْ أيضا، فكما أنّه دائم اللّهث، كذلك هذا العالم المتّبع لهواه لا يتغيّر حاله إن وعظ أو ترك ذلِكَ المثل السيء مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ علموا بصفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله المذكورة في التّوراة و ببشارة موسى عليه السّلام بظهوره و بعثته، فحرّفوها و غيّروا اسمه و كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة في الكتب السماويّة فَاقْصُصِ يا محمّد و أتل عليهم تلك اَلْقَصَصَ و الأمثال لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيها و يتّعظون و يحذرون سوء عاقبة أعمالهم السيئة ساءَ مَثَلاً اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة في الكتب السماويّة من التّوراة و الإنجيل و القرآن، و ساء الوصف الذي اتّصفوا به من إنكارها و من جحود الآيات، و تكذيب الرّسول مع قيام الحجّة عليهم، و ما ظلمونا بسوء أعمالهم وَ لكن أَنْفُسَهُمْ

ص: 34


1- . تفسير الرازي 15:54.

كانُوا يَظْلِمُونَ لأنّ و بالها لا يتخطّاهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 178

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الهداية و الضّلال بتوفيق اللّه و خذلانه لا بالعلم بقوله: مَنْ يَهْدِ اَللّهُ و يرشده إلى الحقّ و طريق الصّواب بتوفيقه، كائنا من كان فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي لا غيره وَ مَنْ يُضْلِلْ اللّه عن الهدى و يبعده عن الحقّ و يحرفه عن سبيله بخذلانه و إيكاله إلى النّفس و الهوى المردي و الشّيطان المغوي فَأُولئِكَ الضالّون هُمُ اَلْخاسِرُونَ و المتضرّرون في الدّنيا و الآخرة غاية الضّرر.

مَنْ يَهْدِ اَللّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (178)قيل: في إفراد الضمير في الأول باعتبار اللّفظ، و الجمع في الإشارة في الثاني باعتبار المعنى، إشعار باتّحاد المهتدين لا تّحاد طريقتهم، و تشتّت الضّالين لتشتّت مذاهبهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 179

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الهداية بتوفيقه، و الضّلالة بخذلانه، نبّه على أنّ إعطاء التوفيق و منعه إنّما يكون لاختلاف ذوات النّاس و طيناتهم في الطّيب و الخبث، و تفاوت استعداداتهم في بدو الخلقة لقبول الفيض بقوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا و خلقنا لِجَهَنَّمَ و للتّعذيب فيها كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لكون طينتهم من السجّين و الماء الملح الاجاج، فلا يختارون إلاّ العمل الذي يناسب ذاتهم و طينتهم، و لذا يكون لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها تدبيرات أمور دنياهم، و لكن لا يَفْقَهُونَ بِها آيات اللّه و مواعظه، و لا يعقلون بِها براهين التّوحيد و المعاد، و لا يدركون قبح الكفر و المعاصي و سوء عاقبتهما وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ يبصرون بها مرئيّات هذا العالم، و لكن لا يُبْصِرُونَ بِها صنائع اللّه، و حسن نظام عالم الوجود الدالّين على وجود الصّانع الفرد القادر الحكيم، و معجزات الأنبياء الدالاّت على صدقهم، و سبيل الهداية الموصلة إلى السّعادة الأبديّة وَ لَهُمْ آذانٌ يسمعون بها المسموعات الدّنيويّة، و لكن لا يَسْمَعُونَ بِها كلمات اللّه، و دعوة الرّسل و إنذارهم و نصحهم.

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ (179)عن القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها يقول: «طبع اللّه عليها فلا تعقل، وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ عليها غطاء عن الهدى لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها جعل في اذانهم و قرا فلم

ص: 35

يسمعوا الهدى (1)» .

أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصّفات الخسيسة كَالْأَنْعامِ و البهائم لمشاركتهم لها في القوى الخمس الطبيعيّة و الحواس الخمس الظاهرة، و افتقادهم ما يمتاز به الإنسان من العقل و التفكّر في العواقب بَلْ هُمْ أَضَلُّ و أخسّ من البهائم؛ لأنّها لا قدرة لها على تحصيل المعارف و الفضائل، و هم قادرون عليه و مكلّفون به، و عاصون له و معرضون عنه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ اللّه ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة، و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل، و ركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير الملائكة، و من غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم» (2).

و قيل: لأنّ الأنعام مطيعة للّه، و الكافر غير مطيع له (3).

و قيل: لأنّ الأنعام تعرف ربّها و تذكره، و الكافر لا يعرف ربّه و لا يذكره (4).

و قيل: لأنّ الأنعام تعرف منافعها و مضارّها، فتسعى في تحصيل منافعها، و تحترز عن مضارّها، و الكفّار أكثرهم يعلمون أنّهم معاندون للحقّ، و العناد يجرّهم إلى النّار، و مع ذلك يصرّون عليه و يلقون أنفسهم في النّار و العذاب (5).

و قيل: إنّ الأنعام تفرّ إلى ربّها و من يقوم بمصالحها أبدا، و الكافر يهرب عن ربّه و إلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حدّ لها (6).

و قيل: لأنّها تضلّ إذا لم يكن معها مرشد، فأمّا إذا كان معها مرشد قلمّا تضلّ، و أمّا الكفار فقد جاءهم رسول مرشد و انزل عليهم الكتاب، و هم مع ذلك يزدادون في الضّلال (7).

و أُولئِكَ المخلوقون لجهنّم هُمُ اَلْغافِلُونَ عن سوء عاقبتهم و سوء عاقبة أعمالهم، و عمّا أعدّ اللّه لأعدائه من العذاب الأليم الدّائم، و لأوليائه من النّعم الدّائمة الجسمانيّة و الرّوحانيّة في الدّنيا و الآخرة، و هم حرموا منها، و لو كانوا ملتفتين إلى ذلك لما طاب لهم العيش، بل لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 180

وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)

ص: 36


1- . تفسير القمي 1:249، تفسير الصافي 2:254.
2- . علل الشرائع:4/1، تفسير الصافي 2:254. (3 و 4) . تفسير الرازي 15:65. (5 و 6 و 7) تفسير الرازي 15:65.

ثمّ لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ الهداية بتوفيقه و الضّلال بخذلانه، و أن سبب الضّلال و الخذلان الغفلة عنه و عن سوء عاقبة عملهم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يأمر العباد بأن يذكروه في جميع الأحوال و الأوقات، و أن يتضرّعوا إليه و يسألوه الهداية إلى الحقّ و إلى كلّ خير بقوله: وَ لِلّهِ خاصّة اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى و الصّفات العليا.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الاسم، فقال: «صفة لموصوف» (1)، و عن القمّي: قال: الرّحمن الرّحيم (2).

فَادْعُوهُ و سمّوه أو اسألوه بِها و لا تسمّوه أو لا تسألوه بغيرها، و لا تذكروا بها غيره.

عن الرضا عليه السّلام: «إذا نزلت بكم شدّة فاستعينوا بنا على اللّه، و هو قول اللّه: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نحن و اللّه الأسماء الحسنى التي لا تقبل من أحد [طاعة]إلاّ بمعرفتنا-قال: - «فادعوه بها» (3).

وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ و اتركوا من يميلون فيها و يعدلون بها عمّا هي عليه، بأن يسمّوا بها غيره كما سمّى المشركون أصنامهم آلهة.

و قيل: إنّ المراد: ذروا الّذين يصفون اللّه بما لا يليق به، و يسمّونه بما لا يجوز تسميته به.

في (الكافي) : عن الرضا عليه السّلام: «أنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، و أنّى يوصف [الذي] تعجز الحواسّ أن تدركه، و الأوهام أن تناله، و الخطرات أن تحدّه، و الأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا يصفه الواصفون، و تعالى عمّا ينعته النّاعتون» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى التي لا يسمّى بها غيره، و هي التي وصفها في الكتاب فقال: فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ جهلا بغير

علم، [فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك و هو لا يعلم، و يكفر به و هو يظنّ أنه يحسن، فلذلك قال: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (5)]و هم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم، فيضعونها في غير موضعها» (6).

ثمّ هدّد المشركين الملحدين بقوله: سَيُجْزَوْنَ العذاب على ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإلحاد في أسمائه و صفاته.

ص: 37


1- . الكافي 1:88/3، تفسير الصافي 2:254.
2- . تفسير القمي 1:249، تفسير الصافي 2:254.
3- . تفسير العياشي 2:176/1662، تفسير الصافي 2:254.
4- . الكافي 1:107/3، تفسير الصافي 2:255.
5- . يوسف:12/106.
6- . التوحيد:324/1، تفسير الصافي 2:255.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 181

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بخلق كثير من الجنّ و الإنس للنّار، أخبر بخلق جماعة منهم للجنّة، بقوله: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ و جماعة خلقوا للجنّة، و هم مع كونهم مهتدين بأنفسهم يَهْدُونَ النّاس و يرشدونهم إلى كلّ خير و سعادة بِالْحَقِّ و البرهان المتين، أو إلى الحقّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ في أحكامهم بين العباد.

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)و في إعادة هذا الإخبار بعد ذكره في قوم موسى عليه السّلام دلالة على وجود هذا الصّنف في امّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله أيضا.

قال الجبّائي المعتزلي: إنّ الآية تدلّ على أنّه لا يخلو زمان ألبّته عمّن يقوم بالحقّ، و يعمل به، و يهدي إليه، و أنّهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل؛ لأنّه لا يخلو أن يكون المراد زمان وجود محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أو أحد الأزمنة على الإجمال، أو جميع الأزمنة. أمّا الأوّل فباطل؛ لقطع الخلق بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه كانوا على الحقّ، فلا فائدة في الإخبار به، و أمّا الثاني فباطل أيضا؛ لقطع النّاس بوجودهم في زمان من الأزمنة، فتعيّن الثالث و هو الإخبار بوجودهم في جميع الأزمنة.

قال الفخر الرّازي: أكثر المفسّرين على أن المراد منه قوم محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و روى قتادة و ابن جريج عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّها هذه الأمّة» . و روى عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «هذه فيهم، و قد أعطى اللّه قوم موسى مثلها» .

و عن الربيع بن أنس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ هذه الآية فقال: «إنّ من امّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى بن مريم» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «هم الأئمّة» (2).

و في (المجمع) : عن أحدهما عليهما السّلام قالا: «نحن هم» (3).

و عن القمي: هذه الآية لآل محمّد عليهم السّلام و أتباعهم (4).

و العيّاشي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و الذي نفسي بيده لتفترقنّ هذه الامّة على ثلاث و سبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ فرقة وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ فهذه التي تنجو من هذه الامّة» (5).

و عن (المجمع) : عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هذه لكم، و قد اعطي قوم موسى مثلها» (6).

ص: 38


1- . تفسير الرازي 15:72، مجمع البيان 4:773.
2- . تفسير العياشي 2:176/1663، تفسير الصافي 2:255.
3- . مجمع البيان 4:773، تفسير الصافي 2:255.
4- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 2:255.
5- . تفسير العياشي 2:177/1665، تفسير الصافي 2:255.
6- . تقدّم نحوه في تفسير الرازي 15:72، و لم يرد في (مجمع البيان) بهذا اللفظ، لكن ورد في (تفسير الصافي) منسوبا الى (المجمع) ، و الذي في (مجمع البيان) : «هي لامّتي، بالحق يأخذون، و بالحق يعطون، و قد أعطي القوم بين أيديكم مثلها وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:7/159]» . مجمع البيان 4:773، تفسير الصافي 2:256.

أقول: الظّاهر أنّ المراد من قوله: «هذه لكم» أنّ من نعم اللّه عليكم أنّه جعل فيكم جماعة بهذه الصّفات، كما اعطي قوم موسى مثل هذه النّعمة من أنّه جعل منهم هداة مهديّين، و عليه يحمل قوله تعالى: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ فإنّ الظاهر أنّ المراد من قوله: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ أنّ لهم ملكة العدل و الهداية بحيث لا يمكن تخلّفهم عنهما، و من المعلوم أنّ جميع الأمّة لا يكونون كذلك، بل و لا جميع المهاجرين و الأنصار، لوضوح كثرة العصاة و الجائرين فيهم، فلا بدّ من القول بأن المراد بعضهم، و قد اجمعت الامّة على أنّ عليّا و المعصومين من ذريّته عليهم السّلام كانوا على تلك الصّفات، و هم الباقون إلى نزول عيسى، و لو لا هؤلاء لساخت الأرض بأهلها.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 182

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بوجود أئمّة يهدون إلى الحقّ بآياته، هدّد المكذّبين بالآيات بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله المرفوع عنهم عذاب الاستئصال ببركة نبيّهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ و نقرّبهم إلى الهلاك متدرّجا بإكثار النّعم عليهم، و إغراقهم في اللذّات و الشّهوات، و إنسائهم التوبة حتّى يقعوا في العذاب مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ به و لا يدركون ما يراد بهم.

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هو العبد يذنب الذّنب فتجدّد له النّعمة، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب» (1).

و عنه عليه السّلام: «إذا أراد اللّه بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة و يذكّره الاستغفار، و إذا أراد بعبد شرّا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ بالنّعم عند المعاصي» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 183

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من جملة أنحاء استدراجهم إطاعة أعمارهم بقوله: وَ أُمْلِي لَهُمْ و امهلهم في الدّنيا بإطالة أعمارهم ليتمادوا في العصيان و الغفلة، و يزدادوا كفرا و عتوّا إِنَّ كَيْدِي و أخذي

وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

ص: 39


1- . الكافي 2:327/3، تفسير الصافي 2:256.
2- . الكافي 2:327/1، تفسير الصافي 2:256.

العصاة خفية و غفلة منهم مَتِينٌ قويّ بحيث لا يقدرون على دفعه.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 184

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار بغاية الغفلة و عدم الشّعور، وبّخهم على ترك التفكّر في كمال عقل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي هو كالشمس في رائعة (1)النّهار؛ بقوله: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا قيل: إنّ التّقدير: أكذّبوا و لم يتفكّروا في البراهين العقلية التي يقيمها محمّد صلّى اللّه عليه و آله على صحّة دعواه، و العلوم التي تظهر منه ببيان يعجز عن مثله مهرة الفصاحة و البلاغة، و معجزاته القاهرة، و حسن خلقه، و طيب عشرته، و نقاوة سيرته، و متانة آرائه، و غاية أمانته، حتّى يعلموا أنّه ما بِصاحِبِهِمْ و نبيّهم الذي نشأ فيهم، شيء و شائبة مِنْ جِنَّةٍ و اختلال عقل، لا متناع أن يكون المتّصف بتلك الصّفات ناقص العقل فضلا عن فاقده، بل هو قدوة عقلاء العالم.

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)قيل: إنّ كفّار قريش لمّا رأوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معرضا عن الدّنيا، مقبلا إلى الآخرة، مبالغا في الدّعوة إلى التّوحيد، متغيّرا لونه عند نزول الوحي عليه، نسبوه إلى الجنون، فردّهم اللّه بقوله: إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لكم و لأهل العالم، و من شأنه أن يكون بتلك الصّفات مُبِينٌ و مبالغ في الإنذار، مظهر له غاية الإظهار.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كثيرا ما يحذّر قريشا عقوبة اللّه و وقائعه النّازلة في الامم الماضية، فقام ليلا على الصّفا و جعل يدعوهم إلى عبادة اللّه تعالى قبيلة قبيلة: يا بني فلان، إلى الصّباح، يحذّرهم بأس اللّه، فقال قائلهم: إنّ صاحبكم هذا-يعني محمّدا-لمجنون، بات يهوّت (2)إلى الصّباح (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 185

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على عدم التفكّر في حال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى يعلّموا صدقه، و بخهم على ترك النّظر و التأمّل في شواهد التّوحيد بقوله: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا قيل: إنّ التّقدير: أكذبوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله في دعوته إلى التّوحيد، و لم ينظروا بنظر الاعتبار فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و لم يتأمّلوا في مملكة اللّه الوسيعة، و آثار قدرته و حكمته و وحدانيّته الظّاهرة فيها، وَ في ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ و موجود حقير أو جليل، صغير أو عظيم، حتّى يطّلعوا على غاية عظمته و قدرته و توحيده.

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

ص: 40


1- . في النسخة: رابعة.
2- . هوّت به: صاح.
3- . تفسير روح البيان 3:289.

ثمّ أنّه حذّرهم اللّه من العقوبة على ترك النّظر بقوله: وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قيل: إنّ المعنى: ألم ينظروا في أنّه يحتمل أن يكون موتهم قريبا؛ فيموتون على الضّلال و يبتلون بالعذاب، فإنّ العقل عند ذلك حاكم بوجوب المسارعة في النّظر و تحقيق الحقّ، كي يأمنوا من العذاب قبل موتهم.

فإذا لم يكتفوا في تحقيق الحقّ بالقرآن، و لم يؤمنوا به مع اشتماله على البراهين المتقنة على التّوحيد و الرّسالة و المعاد، مع إعجاز البيان فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و كلام أو كتاب بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مع أنّه لا يمكن أن يكون حديث أبين للحقّ و أحسن منه، فإذا لم يؤمنوا به فلا يرجى منهم الإيمان أبدا.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 186

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الذين لا يؤمنون بالقرآن لا يؤمنون بغيره من الكتب السماويّة، بيّن غاية ضلالتهم بقوله: مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن سبيل الحقّ، و يحرفه عنها إلى الباطل بسلب توفيقه عنه، و إيكاله إلى نفسه فَلا هادِيَ لَهُ من الأنبياء و الرّسل، لعدم تأثير المواعظ و الكتب السماويّة في هدايته وَ يَذَرُهُمْ و يتركهم فِي حال طُغْيانِهِمْ و مشاقّتهم مع اللّه و الرّسول و هم يَعْمَهُونَ و يتجبّرون في جميع شؤونهم، لا يصلون إلى خير أبدا.

مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 187

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم علمهم بوقت الموت لإيجاب المسارعة في تحصيل الدّين الحقّ؛ لئلا يدركهم الموت و هم على الباطل، بيّن جهل جميع الخلق أيضا بوقت قيام الساعة، و اختصاص العلم به بذاته المقدّسة بقوله: يَسْئَلُونَكَ يا محمّد عَنِ اَلسّاعَةِ و القيامة أَيّانَ مُرْساها و أيّ وقت يكون إتيانها و استقرارها؟ .

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اَللّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)عن ابن عبّاس: أنّ قوما من اليهود قالوا: يا محمّد، أخبرنا متى السّاعة إن كنت نبيّا، فإنّا نعلم متى هي؟ و كان ذلك امتحانا منهم مع علمهم بأنّه تعالى استأثر بعلمها، فنزلت (1).

و قيل: إنّ قريشا قالوا: يا محمّد، إنّ بيننا و بينك قرابة، فاذكر لنا متى السّاعة؟ فنزلت (2).

ص: 41


1- . تفسير الرازي 15:80.
2- . تفسير الرازي 15:80.

و عن القمّي: أنّ قريشا بعثت العاص بن وائل السّهمي، و النّضر بن الحارث بن كلدة، و عقبة بن أبي معيط إلى نجران، ليتعلّموا من علماء اليهود مسائل يسألونها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان فيها: سلوا محمّدا متى تقوم الساعة، فإن ادّعى علم ذلك فهو كاذب، فإنّ قيام السّاعة لم يطلع اللّه عليه ملكا مقرّبا و لا نبيّا مرسلا، فلمّا سألوه نزلت (1).

قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر به، لم يطلع عليه أحدا من خلقه و إن كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا لا يُجَلِّيها و لا يظهرها لِوَقْتِها و في زمانها أحد إِلاّ هُوَ تعالى شأنه، و إنّما يعلمها غيره تعالى حين وقوعها، فإذا وقعت ثَقُلَتْ و عظمت فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ على أهلهما من الملائكة و الجنّ و الإنس، لشدّة أهوالها، و عظم ما فيها من الشدائد.

و قيل: لأنّ فيها فناءهم و هلاكهم. و قيل: ثقيل على قلوبهم لأنّهم يعلمون أنّهم يصيرون فيها إلى البعث و الحساب و السّؤال (2).

و قيل: ثقلت وقعتها على السّماوات؛ لأنّ عندها تشقّقت السّماوات، و تكوّرت الشّمس و القمر، و انتثرت النّجوم، و ثقلت على الأرض؛ لأنّ فيها تبدّل الأرض غير الأرض، و تبطل الجبال و البحار (3).

و قيل: يعني خفيت في السّماوات و الأرض؛ أي لا يعلم أحد من الملائكة الأقربين و الأنبياء المرسلين متى يكون وقوعها (4).

ثمّ أنّه أكّد سبحانه خفاءها على غيره بقوله: لا تَأْتِيكُمْ أيّها النّاس إِلاّ بَغْتَةً و فجأة و على حين غفلة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ السّاعة تفجأ النّاس، فالرّجل يصلح موضعه، و الرّجل يسقي ماشيته، و الرّجل يقوم بسلعته في سوقه، و الرّجل يخفض ميزانه و يرفعه» (5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «و الذي نفس محمّد بيده، لتّقومنّ السّاعة و إنّ الرّجل ليرفع اللّقمة إلى فيه حتى تحول السّاعة بينه و بين ذلك» (6).

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة سؤالهم بقوله: يَسْئَلُونَكَ عن السّاعة كَأَنَّكَ حَفِيٌّ و مبالغ في السؤال عَنْها شديد الطلّب لمعرفتها حتّى علمتها، أو كأنّك بارّ لطيف بهم بحيث لا تمنعهم من علمها.

ثمّ بالغ تعالى في جهل غيره بها بقوله: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اَللّهِ لم يعلم بها أحدا من خلقه

ص: 42


1- . تفسير القمي 1:249، تفسير الصافي 2:258. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 15:81. (5 و 6) . تفسير الرازي 15:81.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ اختصاص علمها، أو سبب اختصاص علمها به.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 188

ثمّ لمّا كان النّاس يطلبون منه الإخبار بالمغيّبات و إعطاءهم الأموال الكثيرة و الدّولة العظيمة، أمره اللّه بإظهار قصور قدرته الذاتيّة، و عدم علمه بالمغيّبات إلاّ بإعلام اللّه، بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لا أَمْلِكُ و لا أقدر لِنَفْسِي على أن أجلب نَفْعاً من المنافع الدّنيويّة و الاخرويّة وَ لا على أن أدفع ضَرًّا و شرّا من المضار و الشّرور إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ أن أملكه منهما، و لا علم لي بشيء منهما إلاّ بإعلامه تعالى.

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ اَلسُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)قيل: إنّ المراد: و لكن ما شاء اللّه منهما كائن.

فمن كان بهذه الدّرجة من العجز و الجهل الذاتّيين، كيف يعلم وقت قيام السّاعة؟ و كيف يقدر على إخباركم به من قبل نفسه؟

وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ و لا زددت في قوتي و مالي و صحّتي القمّي: كنت أختار لنفسي الصحّة و السّلامة (1)وَ ما مَسَّنِيَ و ما أصابني اَلسُّوءُ من الفقر-كما عن الصادق عليه السّلام (2)-أو المكاره من العدو و الفقر و المرض و غيرها، بل إِنْ أَنَا إِلاّ عبد أرسلني اللّه إليكم؛ و الرّسول نَذِيرٌ و محذر من الكفر و مخالفة أحكام اللّه وَ بَشِيرٌ بثواب اللّه و رحمته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه و برسالتي، فإنّهم المنتفعون بمواعظي.

و من شأن النّذير و البشير العلم بأحكام اللّه و ما يرضيه و يسخطه، و ما يترتّب على طاعته و مخالفته، لا العلم بالمغيّبات التي لا نفع فيها.

روي أنّ أهل مكّة قالوا: يا محمّد، ألا يخبرك ربّك بالرّخص و الغلاء حتى نشري فنربح، و بالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة، فنزلت (3).

و قيل: لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة بني المصطلق، جاءت ريح في الطريق فتفرق (4)الدوابّ منها، فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بموت رفاعة في المدينة، و كان فيه غيظ للمنافقين، ثمّ قال: انظروا أين ناقتي؟

ص: 43


1- . تفسير القمي 1:250، تفسير الصافي 2:258.
2- . معاني الأخبار:172/1، تفسير الصافي 2:258.
3- . تفسير الرازي 15:83.
4- . في تفسير الرازي: ففرت.

فقال عبد اللّه بن ابيّ مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرّجل، يخبر بموت رجل بالمدينة و لا يعرف أين ناقته؟ ! فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ ناسا من المنافقين قالوا كيت و كيت، و ناقتي في هذا الشّعب قد تعلّق زمامها بشجرة» ، فوجدوها على ما قال (1).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 189 الی 190

ثمّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ادّعاء الرّسالة دعا النّاس إلى التّوحيد بالبرهان القاطع بقوله: هُوَ الإله القادر اَلَّذِي خَلَقَكُمْ جميعا بقدرته مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هو آدم وَ جَعَلَ و أنشأ من ضلع مِنْها زَوْجَها حوّاء لِيَسْكُنَ آدم و يطمئنّ إِلَيْها اطمئنانا مصحّحا للازدواج، و يستأنس بها فَلَمّا تَغَشّاها و جامعها حَمَلَتْ و حبلت (2)في البدء حَمْلاً خَفِيفاً بحيث لم تكترث به فَمَرَّتْ بِهِ و تحرّكت بالقيام و القعود، و الذّهاب و الإياب، بسهولة و راحة كما كانت قبله، [كما]

قيل (3).

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اَللّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (189) فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (190)فَلَمّا أَثْقَلَتْ حوّاء لكبر الجنين في بطنها، استوحشت حواء و استوحش آدم من مآل الحمل الذي لم يعهداه، فلذا دَعَوَا اَللّهَ رَبَّهُما و تضرّعا إليه و قالا: يا ربّ، و عزّتك لَئِنْ آتَيْتَنا و أعطيتنا ولدا صالِحاً سويّا في الخلقة، أو في أمر الدّين، أو فيهما لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ لك هذه النّعمة الجليلة الجديدة.

قيل: لمّا رأى آدم حين أخذ الميثاق على ذريّته أنّ منهم سويّ الأعظاء و منهم غير سويّ، و أنّ منهم التقيّ و منهم غير التقيّ، سألا أن يكون هذا الولد سويّ الأعضاء تقيّا نقيّا من المعصية فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ.

عن ابن عبّاس قال: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هي نفس آدم، وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي حوّاء خلقها [اللّه]من ضلع آدم من غير أذى، فَلَمّا تَغَشّاها آدم حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً. . . فَلَمّا أَثْقَلَتْ أي ثقل الولد في بطنها، أتاها إبليس في صورة رجل و قال: ما هذا يا حوّاء؟ إنّي أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة، و ما يدريك من أين يخرج، أمن دبرك فيقتلك، أو تنشقّ بطنك؟ فخافت حوّاء

ص: 44


1- . تفسير الرازي 15:83.
2- . في النسخة: و أحبلت.
3- . تفسير روح البيان 3:294.

و ذكرت لآدم ذلك، فلم يزالا في همّ من ذلك. ثمّ أتاها و قال: إن سألت اللّه أن يجعله صالحا سويّا مثلك و يسهّل خروجه من بطنك تسمّيه عبد الحارث؛ و كان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله تعالى: فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي لمّا آتاهما اللّه ولدا سويّا صالحا جعلا له شركاء، أي جعل آدم و حوّاء له شريكا، و المراد به الحارث (1).

أقول: فيه ما لا يخفى من الإشكال.

و قيل: إن ضمير (جعلا) راجع إلى صنفين من أولاد آدم و حوّاء؛ الذّكور و الإناث، و كذا ضمير التّثنية في قوله: فِيما آتاهُما (2).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه قال له المأمون: يابن رسول اللّه، أ ليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلى» ، قال: فما معنى قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما؟

فقال الرضا عليه السّلام: «إنّ حوّاء ولدت لآدم خمسمائة بطن، في كلّ بطن ذكر و أنثى، و إنّ آدم و حوّاء عاهدا اللّه تعالى و دعواه و قالا: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ* فَلَمّا آتاهُما صالِحاً من النّسل خلقا سويا بريئا من الزّمانة و العاهة، كان ما آتاهما صنفين [صنفا ذكرانا، و]صنفا إناثا، فجعل الصّنفان للّه شركاء فيما آتاهما، و لم يشكراه كشكر أبويهما له عزّ و جلّ، قال اللّه عزّ و جلّ: «فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» . فقال المأمون: أشهد أنّك ابن رسول اللّه (3).

و قيل: إنّ الآية ردّ على المشركين القائلين بأنّ آدم كان يعبد الأصنام و يرجع في الخير و الشّر إليهما (4). و قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ في معنى الاستفهام الإنكاري، و المراد: ما جعلا له شركاء (5)، و قوله: فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ أي تعالى اللّه عن شرك هؤلاء المشركين القائلين بالشّرك، و ينسبونه إلى آدم عليه السّلام (6).

و قيل: إنّ آدم و حوّاء جعلا على أنفسهما إن آتاهما اللّه صالحا أن يجعلاه وقفا على خدمة اللّه و طاعته و عبوديّته على الإطلاق، ثمّ بدا لهما في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدّنيا و منافعها، و تارة كانوا يأمرونه بخدمة اللّه و طاعته (7)، فلهذا قال تعالى: فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ.

عن الباقرّ عليه السّلام: «هما آدم و حوّاء، و إنّما كان شركهما شرك طاعة و ليس شرك عباده» (8).

و قيل: إنّ اللّه تعالى ذكر هذه القصّة على طريق ضرب المثل، و تقريره كأنّه تعالى يقول: هو الذي

ص: 45


1- . تفسير الرازي 15:85.
2- . راجع: تفسير الرازي 15:88.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:196/1، تفسير الصافي 2:259.
4- . تفسير الرازي 15:87.
5- . في تفسير الرازي: التقدير: فلمّا آتاهما صالحا أجعلا له شركاء.
6- . تفسير الرازي 15:87.
7- . تفسير الرازي 15:88.
8- . تفسير العياشي 2:177/1668، تفسير الصافي 2:259.

خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة، و جعل من جنسها زوجها إنسانا يساويها في الإنسانيّة، فلمّا تغشّى الزّوج زوجته و ظهر الحمل دعا الزّوج و الزّوجة ربّهما: لئن آتيتنا ولدا صالحا سويّا لنكوننّ من الشّاكرين لآلائك و نعمائك، فلمّا آتاهما اللّه ولدا صالحا سويا، جعل الزوج و الزّوجة للّه شركاء فيما آتاهما، فتارة ينسبون هذا الولد إلى الطّبائع كقول الطبائعيّين، و تارة إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين، و تارة إلى الأصنام كما هو قول عبدة الأصنام، ثمّ قال تعالى: فَتَعالَى اَللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ أي تنزّه اللّه عن ذلك الشّرك (1).

و قيل: إن المراد من النفس الواحدة و زوجها غير آدم و حوّاء، بل المراد منها قصيّ، و الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و جعل من جنسها زوجها قرشية ليسكن إليها، فلمّا آتاهما ما طلبا من الولد الصّالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سمّيا أولادهما الأربعة بعبد مناف و عبد العزّى و عبد قصي و عبد اللاّت، و جعل الضمير في (يشركون) لهما و لأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشّرك (2).

و فيه: أنّ آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلّهم كانوا موحّدين.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 191

ثمّ و بّخ اللّه المشركين على عبادة الجماد العاجز من كلّ شيء بقوله: أَ يُشْرِكُونَ هؤلاء الجهّال باللّه في الالوهيّة و العبادة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً من الأشياء و لو كان في غاية القلّة و الحقارة، مع أنّ المستحقّ للعبادة لا بدّ أن يكون خالق عابده.

أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191)ثمّ أكّد عدم استحقاق الأصنام للعبادة بقوله: وَ هُمْ يُخْلَقُونَ بقدرة الغير، و المخلوقيّة في غاية المباينة مع الالوهيّة و استحقاق العبادة.

قيل: إن إتيان الضمير الراجع إلى العقلاء للأصنام إنّما هو باعتقاد المشركين، فإنهم كانوا يصوّرونها بصورة العقلاء و يزعمون أنّها تدرك و تشعر.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 192 الی 193

ثمّ أنّه تعالى بعد سلب القدرة على الخلق عنها، نفى عنها القدرة على إيصال النّفع لعبدتها بقوله:

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)

ص: 46


1- . تفسير الرازي 15:87.
2- . تفسير الرازي 15:87.

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ إذا طرأ على عبدتها أمر مهمّ لَهُمْ جزاء لعبادتها نَصْراً و إعانة بجلب نفع أو دفع ضرر، بل وَ لا أَنْفُسَهُمْ إذا أصابهم سوء يَنْصُرُونَ بدفع ما يعتريها من السّوء، كما إذا أراد أحد كسرها أو لطخها بالألواث.

قيل: إنّ المشركين كانوا يلطّخون أفواه أصنامهم بالخلوق (1)و العسل، [و كان]يجتمع عليها الذّباب، فلا تقدر على دفع الذّباب عن أنفسها (2).

ثمّ بالغ سبحانه في سلب أهليّة الأصنام للعبادة بسلب الحياة و الشّعور منها، و أهليّتها لكونها تابعة لعبدتها فيما هو صلاحها، بقوله: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أيّها المشركون إِلَى شيء من اَلْهُدى و الصواب لا يَتَّبِعُوكُمْ و لا يوافقوكم في مرادكم لعدّم حياتهم و شعورهم و علمهم بدعوتكم.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: سَواءٌ عَلَيْكُمْ و لا تفاوت في حقّكم أَ دَعَوْتُمُوهُمْ إلى إنجاح حوائجكم، أو إلى ما فيه صلاحكم و خيركم أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ و ساكتون عن دعوتها.

قيل: إنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في أمر مهمّ و معضل تضرّعوا إلى الأصنام، فإذا لم يحدث منها في تلك الواقعة شيء بقوا ساكتين، فقيل لهم: لا فرق بين دعائكم و بين أن تستمرّوا في صمتكم (3).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 194

ثمّ بالغ سبحانه في بيان عدم صلاحية الأصنام للعبادة بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه، على فرض حياتهم و شعوهم كما تعتقدون عِبادٌ للّه أَمْثالُكُمْ مملوكون مسخّرون تحت قدرة خالقهم، و الحال أنّها جمادات لا شعور لها فَادْعُوهُمْ إلى كشف مضارّكم و قضاء حوائجكم فَلْيَسْتَجِيبُوا دعاءكم، و يقضوا لَكُمْ حوائجكم، و يكشفوا عنكم مضارّكم، و يدفعوا عنكم الشّدائد و البلايا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تدعون من كونهم أحياء شاعرين قادرين، فإن ثبت كونها فاقدات للحياة و الشّعور، عاجزات عن إبصال النّفع، فلا يجوز بحكم العقل عبادتها و الالتفات إليها.

إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 195 الی 196

ص: 47


1- . الخلوق: ضرب من الطّيب أعظم أجزائه الزّعفران.
2- . تفسير روح البيان 3:295.
3- . تفسير الرازي 15:91.

ثمّ نبّه سبحانه على أن الأصنام أدون من الإنسان، بل من سائر الحيوانات، و لا يجوز عبادة الأشرف للأدون، بقوله تقريرا لهم: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها كما أنّها لكم، بل لسائر الحيوانات أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ و يعملون أو يأخذون بِها ما يريدون عمله أو أخذه، كما أنّ لكم أيديا كذلك أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ المبصرات بِها كما أنّ للحيوانات أعينا كذلك أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ الأصوات بِها كما أنّ للحيوانات آذانا كذلك، فإذا لم يكن للأصنام هذه الجوارح الحيّة الفاعلة التي تكون لكم بل لسائر الحيوانات، فأنتم بل سائر الحيوانات أفضل و أشرف منها، و لا يجوز عبادة الأفضل و الأشرف للمفضول و الأوضع.

ثمّ لمّا كان المشركون يخوّفون النبي صلّى اللّه عليه و آله بآلهتهم، أمره بأن يعلن بعدم قابليّتها لأن يخاف منها بقوله: قُلِ يا محمّد، للمشركين: اُدْعُوا الأصنام التي تعتقدون أنّها شُرَكاءَكُمْ في أموالكم، و أنها أنداد للّه في الالوهيّة ليعينوكم على الإضرار بي ثُمَّ أنتم و شركاؤكم كِيدُونِ واسعوا فيما تقدرون عليه من الإساءة إليّ فَلا تُنْظِرُونِ و لا تمهلوني ساعة فإنّي لا ابالي بكم.

إِنَّ وَلِيِّيَ و ناصري عليكم، و حافظي من كلّ سوء هو اَللّهُ الواحد القادر القاهر حيث إنّه اَلَّذِي أكرمني بأن نَزَّلَ عليّ اَلْكِتابَ العزيز، و أوحى إليّ القرآن المجيد وَ هُوَ بلطفه يَتَوَلَّى و ينصر اَلصّالِحِينَ من عباده على أعدائهم فضلا عن أنبيائه، فكيف يخذلني بينكم؟

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 197 الی 198

ثمّ بالغ في إظهار عدم المبالاة بأصنامهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ و تعبدونهم ممّا سوى اللّه و مِنْ دُونِهِ أيّها المشركون بالغون من العجز إلى الغاية، حيث إنّهم لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ على أحد، و لا يقدرون على إعانتكم في أمر، بل و أَنْفُسَهُمْ إن تأتيهم نائبة يَنْصُرُونَ بدفعها.

وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الحواسّ و القوى عن الأصنام، نفاهما عن جميع المشركين لتأمين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عن إساءتهم إليهم بقوله: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أيّها الرّسول و المؤمنون إِلَى اَلْهُدى و ما فيه خيرهم من الإقرار بدين الحقّ لا يهتدوا، كأنّهم لا يَسْمَعُوا دعاءكم فضلا عن أن يكيدوا بكم و يتعاونوا على الإضرار عليكم وَ تَراهُمْ يا محمّد أنّهم يَنْظُرُونَ بأعينهم إِلَيْكَ وَ هُمْ عمي

ص: 48

قلوبهم، و لعدم (1)انتفاعهم برؤية أبصارهم كأنّهم لا يُبْصِرُونَ.

و قيل: إنّ ضمائر الجمع كلّها راجعة إلى الأصنام، و المراد المبالغة في عجزها و عدم استفادة المشركين بالاستعانة منها في الإساءة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى: إن تدعوا أيّها المشركون أصنامكم إلى أن يهدوكم إلى إمدادكم في تحصيل مقاصدكم لا يسمعوا دعاءكم، و ترى أيّها الرّائي و تتخيّل أنّ الأصنام ينظرون إليك-لما أنّ المشركين صنعوا لها أعينا مركّبة من الجواهر المضيئة المتلألئة، و صوّروها بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه-و الحال أنّهم لا يبصرون، فلا سمع لهم و لا بصر.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 199

ثمّ لمّا أمّن اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله من كيد المشركين مع كونهم مهدّدين له و مسيئين إليه، أمره اللّه بالعفو عنهم و المداراة معهم بقوله: خُذِ اَلْعَفْوَ عمّن أساء إليك، و لا تجاوزه بالسّوء، و لا تغلظ عليه، و عاشر بحسن الخلق، و التزم به.

خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ (199)روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أنّه]سأل جبرئيل: «ما الأخذ بالعفو؟» فقال: لا أدري حتّى أسأل، ثمّ رجع فقال: يا محمّد، إنّ ربّك أمرك أن تعطي من حرمك، و تصل من قطعك، و تعفو عمّن ظلمك، و تحسن إلى من أساء إليك (2).

و قيل: إنّ المراد: اقبل من أفعال النّاس ما سهل عليهم، و من أموالهم ما تيسّر لهم، و لا تحمل عليهم الكلفة، و لا تطلب منهم ما يشقّ عليهم (3).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال لرجل من ثقيف: «إيّأك أن تضرب مسلما أو يهوديّا أو نصرانيّا في درهم خراج، أو تبيع دابّة عمل في درهم، فإنّا امرنا أن نأخذ منه العفو» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه أدّب رسوله بذلك، أي خذ منهم ما ظهر و تيسّر» . قال: «و العفو: الوسط» (5).

وَ أْمُرْ يا محمّد امّتك بِالْعُرْفِ و بالجميل من الأفعال، و الحميد من الأخلاق. و يدخل فيه غضّ البصر عن المحارم، و كفّ الجوارح عن المآثم، و القيام بالواجبات و المستحبّات وَ أَعْرِضْ عَنِ سيّئات اَلْجاهِلِينَ و السّفهاء، و لا تمارهم و لا تكافئهم بمثل سفههم.

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ اللّه أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمداراة النّاس فقال: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ

ص: 49


1- . في النسخة: و عدم.
2- . تفسير الرازي 15:96، تفسير روح البيان 3:298.
3- . تفسير الصافي 2:260.
4- . من لا يحضره الفقيه 2:13/34، تفسير الصافي 2:261.
5- . تفسير العياشي 2:178/1669، تفسير الصافي 2:261.

اَلْجاهِلِينَ» (1) .

و عن الصادق عليه السّلام: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بمكارم الأخلاق، و ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها» (2).

و عن سعيد بن هشام قال: دخلت على عائشة فسألتها عن أخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، فقالت: [كان]خلق رسول اللّه القرآن، و إنّما أدّبه بالقرآن بمثل قوله تعالى: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ، و قوله: وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (3)، و قوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ (4).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 200

ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت الآية (5)، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كيف يا ربّ و الغضب» ؟ فنزل وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ (6)و يبعثنّك إلى الشرّ مِنَ قبل اَلشَّيْطانِ و بوسوسته نَزْغٌ و باعث، و يهيّجك سفية بإظهار سفهه فَاسْتَعِذْ و التجئ بِاللّهِ من شرّ الشّيطان إِنَّهُ سَمِيعٌ يسمع استعاذتك و التجاءك به عَلِيمٌ يعلم حالك و ما فيه صلاحك. و هذا من باب إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، حيث إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المقصود امّته.

وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رآى رجلا يخاصم أخاه قد أحمرّ وجهه و انتفخت أوداجه من الغضب، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ باللّه من الشّيطان، لذهب عنه ما يجد» (7).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 201 الی 202

ثمّ بيّن اللّه حال عباده المتّقين ترغيبا لغيرهم إلى الاستعاذة، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا اللّه و خافوا عقابه إِذا مَسَّهُمْ و أصابهم طائِفٌ و نازلة خفيفة مِنَ وسوسة اَلشَّيْطانِ و اقتربوا من الوقوع في الشرّ و العصيان تَذَكَّرُوا و أشعروا قلوبهم عظمة اللّه و شدّة عقابه، أو الاستعاذة به و التوكّل عليه فَإِذا هُمْ بسبب هذا التذكّر مُبْصِرُونَ مكائد الشّيطان، و طريق السّلامة من شرّه

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)

ص: 50


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:256/9، تفسير الصافي 2:261.
2- . جوامع الجامع:163، تفسير الصافي 2:261.
3- . لقمان:31/17.
4- . تفسير روح البيان 3:298، و الآية من سورة المائدة:5/13.
5- . أي الآية المتقدمة.
6- . تفسير روح البيان 3:298.
7- . تفسير روح البيان 3:299.

فيسلكونه.

القمّي: إذا ذكّرهم الشّيطان المعاصي و حملهم عليها يذكرون اسم اللّه، فإذا هم مبصرون (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو العبد يهمّ بالذّنب، ثمّ يتذكّر فيمسك» (2).

و يمكن أن [يكون]المراد من الطّائف جمعا من الشياطين يطوفون حوله و يوسوسون في قلبه، ففيه مدحهم بقوة العقل بحيث لا يقدر على مسّهم، و الشيطان واحد.

و أمّا أتباع الشّياطين وَ إِخْوانُهُمْ من الإنس؛ و هم الّذين لا يتّقون، يعينون الشّياطين، و يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ و إضلال النّاس، و إيقاعهم في المعاصي بالتّزيين و التّرغيب إليها، أو المراد أنّ الشّياطين يمدّون إخوانهم و أتباعهم من الإنس في الغيّ و الضّلال ثُمَّ الشّياطين و إخوانهم لا يُقْصِرُونَ و لا يسأمون من عملهم، بل يجدّون في الغيّ غايته.

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 203

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سعي الشّياطين و أتباعهم من الإنس في الغيّ و الإضلال ذكر نوعا من إضلالهم بقوله: وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن أو ممّا اقترحوها عليك و سألوها تعنّتا عنك، و لم تجبهم إلى ما سألوا قالُوا لَوْ لا اِجْتَبَيْتَها و هلاّ فعلتها بنفسك أو باقتراحك على ربّك إن كنت صادقا في دعوى نبوّتك؟ قُلْ لهم يا محمّد: إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي و لا أقترح عليه أمرا من الامور، و لا أسأله شيئا إلاّ بإذنه، و لا اقدم على عمل إلاّ بإجازته، فإن كان غرضكم من سؤال المعجزة ثبوت نبوّتي فإنّه يكفيكم هذا القرآن الذي هو أعظم المعاجز، حيث يكون فيه بَصائِرُ و أدلّة واضحة على صدقي، نازلة إليكم مِنْ رَبِّكُمْ وَ يكون لكم هُدىً و رشادا إلى كلّ حقّ و خير وَ رَحْمَةٌ و تفضّل عليكم منه، و لكن يكون نفعه المهمّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به؛ لأنّهم المتدبّرون فيه، المستفيدون منه العلوم و المعارف و السّعادة الأبدية، و ما فيه صلاح دنياهم و عقباهم.

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اِجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 204

ثمّ أنه تعالى بعد بيان إعجاز القرآن و منافعه، أمر بالاستماع و الإنصات له حين تلاوته بقوله: وَ إِذا

وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

ص: 51


1- . تفسير القمي 1:253، تفسير الصافي 2:262.
2- . تفسير العياشي 2:178/1671، الكافي 2:315/7، تفسير الصافي 2:262.

قُرِئَ اَلْقُرْآنُ بمسمع منكم فَاسْتَمِعُوا لَهُ بآذانكم و قلوبكم وَ أَنْصِتُوا له حين قراءته، و لا تتكلّموا بشيء تعظيما له و تكميلا للسّماع لَعَلَّكُمْ تفوزون بأعظم فوائده و منافعه و تُرْحَمُونَ بالرّحمة الخاصّة الإلهيّة.

عن ابن عبّاس قال: كان المسلمون قبل نزول هذه الآية يتكلّمون في الصّلاة، و يأمرون بحوائجهم، و يأتي الرجل الجماعة و هم يصلّون فيسألهم: كم صلّيتم، و كم بقي؟ فيقولون: كذا و كذا، فأنزل اللّه هذه الآية و أمرهم بالإنصات عند الصّلاة، فاريد من قراءة القرآن الصلاة لكونها معظم أجرائها (1).

و عنه أيضا قال: قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الصّلاة المكتوبة، و قرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه، فنزلت الآية (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «إن كنت خلف إمام فلا تقرأنّ شيئا في الاوليين، و أنصت لقراءته، و لا تقرأنّ شيئا في الأخيرتين، فإنّ اللّه يقول (3): وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ يعني في الفريضة، خلف الإمام فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ و الأخيرتان تتبع للأوليين» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كنت خلف إمام تتولاّه و تثق به فإنّه يجزيك قراءته، و إن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت به، فإذا جهر فأنصت، قال اللّه تعالى: وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (5)» .

و عن أحدهما عليهما السّلام قال: «إذا كنت خلف إمام تأتمّ به فأنصت و سبّح في نفسك (6)» .

أقول: فيه دلالة على اجتماع الإنصات مع الذّكر الخفيّ، فعلم أنّ في الجماعة يجب الإنصات لقراءة الإمام، و أمّا في غير الجماعة فلا إشكال في استحبابه، و [أمّا]الصلاة خلف الإمام غير المرضيّ فحكمه حكم غير الجماعة.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرّجل يؤمّ القوم و أنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة، فقال: «إذا سمعت كتاب اللّه يتلى فأنصت له» . قيل: فإنّه يشهد عليّ بالشّرك، قال: «إن عصى اللّه فأطع اللّه» . فرددت عليه فأبى أن يرخّص لي. قيل: اصلّي إذن في بيتي ثمّ أخرج إليه، فقال: «أنت و ذاك» .

و قال: «إنّ عليّا عليه السّلام كان في صلاة الصّبح فقرأ ابن الكوّاء و هو خلفه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ

ص: 52


1- . تفسير روح البيان 3:303.
2- . تفسير الرازي 15:102.
3- . زاد في من لا يحضره الفقيه و تفسير الصافي: للمؤمنين.
4- . من لا يحضره الفقيه 1:256/1160، تفسير الصافي 2:262.
5- . التهذيب 3:33/120، تفسير الصافي 2:263.
6- . تفسير العياشي 2:179/1677، تفسير الصافي 2:263.

مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (1) فأنصت عليّ عليه السّلام تعظيما للقرآن، حتّى فرغ من [الآية ثم عاد في]قراءته، ثمّ أعاد ابن الكوّاء الآية، فأنصت عليّ عليه السّلام أيضا، ثمّ قرأ فأعاد ابن الكوّاء، فأنصت عليّ عليه السّلام، ثمّ قال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» (2).

سوره 7 (الأعراف): آیه شماره 205 الی 206

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالإنصات عند تلاوة القرآن، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بإخفات ذكر اللّه لكونه أقرب إلى الإخلاص، بقوله: وَ اُذْكُرْ يا محمّد رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ و في الخفية بحيث لا يسمع ذكرك غيرك، حال كونك تتضرّع إليه و تخاف منه تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً.

وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ اَلْغافِلِينَ (205) إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)قيل: معنى الذّكر في النّفس: كون الإنسان عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها باللّسان، مستحضرا لصفات اللّه الكمالية و عزّه و علوّه و جلاله و عظمته.

و في توصيف ذاته المقدّسة بصفة الربوبيّة في المقام إشعار بكمال رحمته و قربه من الذّاكر، و فضله و إحسانه إليه.

و قيل: إنّ الخطاب في الآية إلى الإنسان، لا خصوص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ رخّص سبحانه في ترك المبالغة في الإخفات، و أن يذكربصوت فوق الأخفات بقوله: وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ و فوق الإخفات، فيكون متوسّطا بينهما.

و عن ابن عبّاس: إنّ المعنى أن يذكر ربّه على وجه يسمع نفسه (3). بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ و الصّباح و المساء؛ لكونهما أفضل الأوقات وَ لا تَكُنْ في وقت من الأوقات مِنَ اَلْغافِلِينَ عن ربّك و ذكره و اللاّهين عنه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً يعني: مستكينا وَ خِيفَةً يعني: خوفا من عذابه وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ يعني: دون الجهر من القراءة بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ يعني: بالغداة و العشيّ» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من ذكر اللّه في السرّ فقد ذكر اللّه كثيرا، إنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه

ص: 53


1- . الزمر:39/65.
2- . التهذيب 3:35/127، تفسير الصافي 2:263، و الآية من سورة الروم:30/60.
3- . تفسير الرازي 15:108.
4- . تفسير العياشي 2:179/1678، تفسير الصافي 2:264.

علانية و لا يذكرونه سرّا، فقال اللّه: يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً» (1).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «لا يكتب الملك إلاّ ما يسمع، و قال اللّه: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً فلا يعلم ثواب ذلك الذّكر في نفس الرّجل إلاّ اللّه لعظمته» (2).

و عنه عليه السّلام، في هذه الآية قال: «تقول عند المساء لا إله إلاّ هو (3)وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت، [و يميت و يحيي]و هو على كلّ شيء قدير» .

قيل: بيده الخير؟ قال: «إنّ بيده الخير، و لكن قل كما أقول لك عشر مرّات. و أعوذ باللّه السّميع العليم [من همزات الشياطين، و أعوذ بك ربّ ان يحضرون إن اللّه هو السّميع العليم]. حين تطلع الشّمس و حين تغرب عشر مرّات» (4).

ثمّ لمّا رغّب اللّه سبحانه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و عامّة النّاس في الذّكر باللّسان صباحا و مساء و في تذكّره تعالى، و إنّما قوّى داعيتهم إليه ببيان حال المقرّبين عنده، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة مع نهاية شرفهم، و كمال طهارتهم و عصمتهم، و نزاهتهم عن بواعث الشّهوة و الغضب و عوارض الحقد و الحسد. و عن القمّي يعني: الأنبياء و الرّسل و الأئمّة (5)، مع عصمتهم لا يَسْتَكْبِرُونَ و لا يتأنّفون عَنْ الخضوع للّه و عِبادَتِهِ بل هم مستغرقون فيها آناء اللّيل و أطراف النّهار وَ يُسَبِّحُونَهُ و ينزّهونه من النقائص الإمكانيّة وَ لَهُ وحده يَسْجُدُونَ.

فإذا كانت الأنبياء و الملائكة و المقرّبون حالهم كذا، فالإنسان المبتلى بظلمات الطّبيعة، المنهمك في اللّذات النّفسانيّة و الشّهوات الحيوانيّة، أولى بالمواظبة على العبادة و الذّكر و الطاعة، و أن لا يخلو من ذكره و تسبيحه و تقديسه.

ص: 54


1- . الكافي 2:364/2، تفسير الصافي 2:264، و الآية من سورة النساء:4/142.
2- . تفسير العياشي 2:179/1677، تفسير الصافي 2:264.
3- . في تفسير العياشي و تفسير الصافي: إلاّ اللّه.
4- . تفسير العياشي 2:180/1679، تفسير الصافي 2:264.
5- . تفسير القمي 1:254، تفسير الصافي 2:264.

في تفسير سورة الأنفال

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم سورة الأعراف التي عمدة مطالبها إبطال الشّرك، و تهديد أهله بالعذاب، و بيان غاية عجز الأصنام، و أمّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالأعلان بوثوقه باللّه تعالى في دفع كيدهم، و العفو عمّن ظلمه، و الإعراض عن الجاهلين، و مداراة النّاس، و الاستعاذة باللّه عند نزغ الشّيطان، و مدح المتّقين بتذكّر اللّه عند ذلك، اردفت بسورة الأنفال التي أهمّ مطالبها إثبات صحّة نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إيجاب طاعته، و ملازمة التّقوى، و بيان كيفيّة نزغ الشيطان، و إيجاب رفع التّنازع بالصّلح، و غير ذلك من الأمور المرتبطة بما في السّور السّابقة، فابتدأ بذكر الأسماء المباركات على حسب دأبه تعالى في كتابه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)ثمّ افتتحها ببيان حكم الغنيمة التي وقع بين المسلمين التّنازع فيها في وقعة بدر بقوله: يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ حكم اَلْأَنْفالِ و يستفتونك فيها قُلِ في جوابهم: اَلْأَنْفالِ كلّها لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ ليس لغيرهما فيها حقّ.

روي أنّ المسلمين اختلفوا في غنائم بدر و في تقسيمها، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كيف تقسّم، و إلى أين تصرف، و من الّذين يتولّون قسمتها؛ أهم المهاجرون أم الأنصار؟ (1)فنزلت (2).

و عن عبادة بن الصامت قال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النّفل، و ساءت فيه أخلاقنا، فنزعه اللّه من أيدينا و جعله لرسوله، فقسّمه بين المسلمين على السّواء (3).

و روي أن الشبّان يوم بدر قتلوا و أسروا، و الأشياخ وقفوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المصافّ، فقال الشبّان: الغنائم لنا؛ لأنّا قتلنا و هزمنا، و قال الأشياخ: كنّا ردءا لكم، و لو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلا تذهبوا

ص: 55


1- . زاد في تفسير روح البيان: أم هم جميعا. (2 و 3) . تفسير روح البيان 3:311.

بالغنائم دوننا. فوقعت المخاصمة، فنزلت (1).

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قسّم ما غنموه يوم بدر على من حضر، و على أقوام لم يحضروا أيضا؛ و هم ثلاثة من المهاجرين، و خمسة من الأنصار، أمّا المهاجرون فأحدهم عثمان؛ فإنّه صلّى اللّه عليه و آله تركه على ابنته لأنّها كانت مريضة، و طلحة، و سعيد بن زيد؛ فإنّه صلّى اللّه عليه و آله كان بعثهما للتجسّس عن خبر العير، و خرجا في طريق الشّام. و أمّا الخمسة [من]الأنصار فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، خلّفه النبي صلّى اللّه عليه و آله على المدينة، و عاصم خلّفه على العالية، و الحارث بن حاطب ردّه من الرّوحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه، و الحارث بن الصمّة أصابته علّة بالرّوحاء، و خوّات بن جبير، فهولاء لم يحضروا و ضرب لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك الغنائم بسهم، فوقع من غيرهم فيه منازعة (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت يوم بدر لمّا انهزم النّاس، و كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ثلاث فرق؛ فصنف كانوا عند خيمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صنف أغاروا على النّهب، و فرقة طلبت العدوّ و أسروا و غنموا، فلمّا جمعوا الغنائم و الأسارى تكلّمت الأنصار في الأسارى، فأنزل اللّه ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ (3)، فلمّا أباح اللّه لهم الأسارى و الغنائم تكلّم سعد بن معاذ- أو سعد بن عثمان، على نسخة-و كان ممّن أقام عند خيمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، ما منعنا أن نطلب العدوّ زهادة في الجهاد، و لا جبنا من العدوّ، و لكنّا خفنا أن يعرى موضعك فتميل عليك خيل المشركين، و قد أقام عند الخيمة وجوه المهاجرين و الأنصار، و لم يشكّ أحد منهم، و الناس كثير يا رسول اللّه و الغنائم قليلة، و متى يعطى هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء.

و خاف أنّ يقسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغنائم و أسلاب القتلى بين من قاتل و لا يعطي من تخلّف عند (4)خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيئا، فاختلفوا فيما بينهم حتى سألوا رسول اللّه فقالوا: لمن الغنائم؟ فأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ قُلِ اَلْأَنْفالُ لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ فرجع الناس و ليس لهم في الغنيمة شيء، ثمّ أنزل اللّه بعد ذلك وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (5)الآية، فقسّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهم، فقال سعد بن [أبي]وقاص: يا رسول اللّه، أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ثكلتك امّك، و هل تنصرون إلاّ بضعفائكم؟ !» .

قال: «فلم يخمّس رسول اللّه ببدر، و قسّم بين أصحابه، ثمّ استقبل بأخذ الخمس بعد بدر» (6).

ص: 56


1- . تفسير الرازي 15:115.
2- . تفسير الرازي 15:115.
3- . الأنفال:8/67.
4- . في النسخة: على.
5- . الأنفال:8/41.
6- . تفسير القمي 1:254، تفسير الصافي 2:267.

و أمّا الأنفال، فعن ابن عباس و جماعة أنّها غنيمة بدر (1). و قيل: هي أنفال السّرايا (2). و قيل: هي ما شذّ من المشركين من عبد أو جارية من غير قتال (3).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «الفيء و الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم، و ما كان من أرض خربة أو بطون أودية، فهو كلّه من الفيء و الأنفال، فهذا كلّه للّه و لرسوله، فما كان فهو لرسوله يضعه حيث يشاء، و هو للإمام بعد الرسول» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، أو قوم صولحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، و كلّ أرض خربه و بطون الأودية فهو لرسول اللّه، و هو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء» (5).

و عنه عليه السّلام: «من مات و ليس له وارث، فماله من الأنفال» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «لنا الأنفال» ، قيل: و ما الأنفال؟ قال: «منها المعادن و الآجام، و كلّ أرض لا ربّ لها، و كلّ أرض باد أهلها فهو لنا» (7).

و قال: «ما كان للملوك فهو من الأنفال» (8).

أقول: لا شكّ أنّ المراد بالسؤال في الآية الغنائم؛ كما عن ابن عباس و عن الصادق عليه السّلام، لوضوح أنّه لم يكن في غنائم بدر شيء من الأمور المذكورة في الروايات، و إنّما هو المقصود من الأنفال الذي أطلق في غير الآية، أو معناه الأعمّ من الأمور المذكورة و الغنائم، و إن وقع السؤال في بدر من الغنائم.

و لمّا كان التّنازع محرّما أمر المؤمنين بالتّقوى بقوله: فَاتَّقُوا اَللّهَ و خافوا عقابه أيّها البدريّون، و لا تقدموا على معصية و اتركوا المنازعة، و ارضوا بما حكم به الرسول صلّى اللّه عليه و آله وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ من الأحوال بالمواساة فيما رزقكم اللّه و الأقوال، و لا تنازعوا.

ثمّ أكّد الأمر بالتّقوى بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في أوامره و نواهيه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بهما عن صميم القلب، فإنّ الإيمان لا يتمّ إلاّ بالطّاعة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 2 الی 3

ص: 57


1- . مجمع البيان 4:795.
2- . مجمع البيان 4:796.
3- . تفسير الرازي 15:115.
4- . تفسير العياشي 2:182/1687، التهذيب 4:134/376، تفسير الصافي 2:266.
5- . الكافي 1:453/3، تفسير الصافي 2:266.
6- . تفسير الصافي 2:266.
7- . تفسير العياشي 2:183/1691، تفسير الصافي 2:267.
8- . تفسير الصافي 2:267.

ثمّ بيّن علّة ملازمة الإيمان للطّاعة ببيان الصّفات النفسانيّة التي لا ينفكّ المؤمن الكامل منها بقوله: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ الصادقون في الإيمان، الكاملون فيه هم اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ عندهم، أو ذكروه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ و خافت أفئدتهم من عظمته و مهابته، و من احتمال التّقصير في طاعته؛ فيستحقّوا عتابه أو عقابه وَ إِذا تُلِيَتْ و قرئت عَلَيْهِمْ و بمسمع منهم آياتُهُ القرآنيّة البالغة أعلى درجة الفصاحة، المشحونة بالعلوم و المعارف و المواعظ و الحكم زادَتْهُمْ تلك الآيات بالتفكّر و التدبّر فيها إِيماناً على إيمانهم لزيادة معرفتهم بعظمته و قدرته و حكمته و صدق رسوله وَ من المعلوم بأنّ من آثار ازدياد المعرفة و قوّة اليقين بصفاته الكماليّة أنّهم عَلى رَبِّهِمْ و مالك امورهم، اللّطيف بهم يَتَوَكَّلُونَ و عليه يعتمدون في امورهم، و إليه يفوّضون جميع شؤونهم من حفظهم و رزقهم و تدبير معاشهم، فلا يخافون و لا يرجون غيره.

و روي أنّه «لا يكمل إيمان المرء حتّى يرى النّاس كالأباعير» (1).

فإذا حصل للمؤمنين هذه الصّفات لا يكون نظره إلاّ إلى تحصيل رضا اللّه، فيقوم بطاعته و يبذل نفسه و ماله في سبيله، و لذا وصفهم بعد تلك الصّفات الحميدة النفسانيّة بقوله:

اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ التي هي أهمّ العبادات البدنيّة مراعيا لشرائطها المعتبرة في صحّتها و كمالها وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و أعطيناهم من القوى و العلم و الجاه و المال يُنْفِقُونَ في سبيله، و يبذلون في مرضاته. و إنّما خصّ سبحانه التوكّل من بين الصّفات النفسانيّة الباطنية، و الصّلاة و الإنفاق من بين الأعمال الخارجية الظاهريّة بالذّكر تنبيها على شرفها و تبعيّة سائر الصّفات الكماليّة و الأعمال العباديّة لها.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 4 الی 6

ص: 58


1- . ورد في (البحار) عن (مكارم الأخلاق) و (عدة الداعى) بلفظ: «لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يرى الناس في جنب اللّه تبارك و تعالى أمثال الأباعر» . بحار الأنوار 72:304 و 77:85.

ثمّ أنّه تعالى بعد حصر المؤمنين الكمّلين بالواجدين لتلك الصّفات و الأعمال، أكّده بقوله: أُولئِكَ الموصوفون بالصّفات الجليلة المذكورة هُمُ: بالخصوص اَلْمُؤْمِنُونَ إيمانا حَقًّا ثابتا لا يشوبه شرك جليّ و لا خفيّ؛ لإحاطة نور الإيمان بقلوبهم و جوارحهم، و ظهور آثاره من بواطنهم و ظواهرهم.

ثمّ بيّن سبحانه اختصاصهم بغاية الكرامة عنده بقوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ رفيعة من الكرامة و الشّرف عِنْدَ رَبِّهِمْ في الدّنيا و الآخرة، وَ لهم مَغْفِرَةٌ و ستر، أي ستر لذنوبهم و زلاّتهم وَ رِزْقٌ واسع هنيء كَرِيمٌ لا انقطاع له، و لا تعب، و لا كدورة فيه في البرزخ و الآخرة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت في أمير المؤمنين، و أبي ذرّ، و سلمان، و مقداد (1).

و في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة، و بالزّيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدّرجات عند اللّه، و بالنّقصان دخل المفرّطون النّار» (2).

ثمّ أنّه روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رأى كثرة المشركين يوم بدر و قلّة المسلمين قال: من قتل قتيلا فله سلبه، و من أسر أسيرا فله كذا و كذا، ليرغّبهم في القتال، فلمّا انهزم المشركون قال سعد بن عبادة: يا رسول اللّه، إنّ جماعة من أصحابك و قومك فدوك بأنفسهم و لم يتأخّروا عن القتال جبنا و لا بخلا ببذل مهجهم، و لكنّهم أشفقوا عليك من أن تغتال، فمتى أعطيت هؤلاء ما سمّيته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء، فأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ. . . (3)ففوّض اللّه أمر الغنيمة إلى رسوله يصنع فيها ما يشاء، فأمسك المسلمون عن الطّلب و في أنفس بعضهم شيء من الكراهة (4).

و كذلك حين خرج الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة، فشبّه سبحانه كراهتهم اختصاص الأنفال بالرّسول بكراهتهم خروج الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى قتال بدر بقوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ الذي كنت فيه بالمدينة، أو من المدينة التي هي دار هجرتك إلى قتال بدر إخراجا مقرونا بِالْحَقِّ و الحكمة و الصّلاح وَ الحال إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بك لَكارِهُونَ خروجك، فكما أنّ كراهتهم لخروجك كانت لما هو خير لهم، كذلك كراهتهم اختصاصك بالغنيمة تكون كراهة ما فيه خيرهم.

و قيل: إنّ المعنى: أنّ الموصوفين بتلك الصّفات هم المؤمنون حقّا، كما أنّ حكم اللّه بخروجك من بيتك إلى القتال حقّ. قيل: إن جبرئيل أتاه و أمره بالخروج.

ص: 59


1- . تفسير القمي 1:255، تفسير الصافي 2:268.
2- . الكافي 2:31/1، تفسير الصافي 2:268.
3- . الأنفال:8/1.
4- . تفسير الرازي 15:125.

في بيان واقعة

بدر

روى بعض العامّة أنّ عير قريش-أي قافلتهم-أقبلت من الشّام و فيها تجارة كثيرة عظيمة، و معها أربعون راكبا منهم أبو سفيان و عمرو بن العاص و مخرمة بن نوفل، و كان في السنة الثانية من الهجرة، فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإقبالها، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقّيها لكثرة المال و قلّة الرّجال، فلمّا خرجوا سمع أبو سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكّة، و أمره أن يأتي قريشا فيستنفزّهم، و يخبرهم أنّ محمدا قد اعترض لعيركم فأدركوها، فلمّا بلغ أهل مكّة هذا الخبر نادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكّة: النّجاء النّجاء على كلّ صعب و ذلول، عيركم و أموالكم-أي أدركوها-إن أصابها محمّد لن تفلحوا بعدها أبدا.

و قد رأت عاتكة اخت العباس بن عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكّة بثلاث ليال رؤيا فقالت لأخيها: إنّي رأيت عجبا، كأنّ ملكا نزل من السماء و أخذ صخرة من الجبل ثمّ حلّق بها-أي رمى بها- إلى فوق، فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلاّ أصابه حجر من تلك الصّخرة، فحدّث بها العباس صديقا له يقال له عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، و ذكرها عتبة لبنت له، ففشا الحديث. فقال أبو جهل للعبّاس: يا أبا الفضل، أما يرضى رجالكم أن تنبّأوا حتّى تنبّأت نساؤكم، فخرج أبو جهل بأهل مكّة و هم النّفير، فقيل له: إنّ العير أخذت طريق السّاحل و نجت، فارجع بالناس إلى مكّة، فقال: لا و اللّه، لا يكون ذلك أبدا حتّى ننحر الجزور، و نشرب الخمور، و نقيم القينات (1)و المعازف ببدر، فتتسامع جميع العرب بمخرجنا، و إنّ محمدا لم يصب العير، و إنّا قد أغضضناه.

فمضى بهم إلى بدر-و بدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السّنة-فنزل جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّ اللّه وعدكم إحدى الطائفتين؛ إمّا العير، و إمّا قريشا، فاستشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فقال: «ما تقولون، إنّ القوم قد خرجوا من مكّة على كل صعب و ذلول؟ فالعير أحبّ إليكم أم النّفير؟» فقالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدو. فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ ردّد عليهم فقال: «إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، و هذا أبو جهل قد أقبل» -يريد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك أنّ تلقّي النّفير و جهاد المشركين آثر عنده و أنفع للمؤمنين من الظّفر بالعير، لما في تلقّي النّفير من كسر شوكة المشركين، و إظهار الدّين الحقّ على الأديان كلّها، فقالوا: يا رسول اللّه، عليك بالعير و دع العدوّ.

فقام عند ما غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبو بكر و عمر، فأحسنا الكلام (2)في اتّباع مراد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ

ص: 60


1- . القينات: جمع قينة، الأمة مغنية كانت أو غير مغنية.
2- . الذي في (صحيح مسلم) : فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلّم عمر فأعرض عنه، و نص كلام أبي بكر و عمر الذي أعرض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله سيأتي برواية القمي، و نقله أيضا الواقدي في (المغازي) و المقريزي في (الامتاع و المؤانة) . راجع: معالم المدرستين 1:235.

قام سيّد الخزرج سعد بن عبادة فقال: انظر في أمرك و امض، فو اللّه لو سرت إلى عدن أبين (1)ما تخلّف عنك رجل من الأنصار. ثمّ قال المقداد بن عمرو: يا رسول اللّه، امض لما أمرك اللّه فإنّا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (2)و لكن نقول: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دامت عين منّا تطرف.

فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: «أشيروا عليّ أيّها النّاس» و هو يريد الأنصار، أيّ بيّنوا لي ما في ضميركم في نصرتي و معاونتي؛ و ذلك لأنّ الأنصار عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة العقبة أن ينصروه مادام في المدينة، و إذا خرج منها لا يكون عليهم معاونته و نصرته، فأراد صلّى اللّه عليه و آله أن يعاهدهم على النّصرة في هذه المعركة.

فقام سعد بن معاذ فقال: كأنّك تريدنا يا رسول اللّه، قال: «أجل» ، قال: قد آمنّا بك و صدّقناك، و شهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السّمع و الطّاعة، فامض يا رسول اللّه لما أردت، فو الّذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضنا معك، ما تخلّف منا رجل، و ما نكره أن تلقى بنا عدوّنا، إنّا لصبّر عند الحرب، صدّق عند اللّقاء، و لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركه اللّه. ففرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نشطه قول سعد ثمّ قال: «سيروا على بركة اللّه و ابشروا، فإنّ اللّه وعدني إحدى الطّائفتين، و اللّه لكأنّي انظر إلى مصارع القوم» (3).

بيان قصة بدر

الكبرى

عن القمّي رحمه اللّه: أنّ عير قريش خرجت إلى الشّام فيها خزائنهم، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالخروج ليأخذوها، فأخبرهم أنّ اللّه تعالى قد وعده إحدى الطّائفتين؛ إما العير أو قريش إن ظفر بهم، فخرج في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، فلمّا قارب بدرا، كان أبو سفيان (لعنه اللّه) في العير، فلمّا بلغه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خرج يتعرّض العير خاف خوفا شديدا، و مضى إلى الشّام، فلمّا وافى البهرة (4)اكترى ضمضم بن عمرو الخزاعي بعشرة دنانير، و أعطاه قلوصا (5)، و قال له: امض إلى قريش: و أخبرهم أنّ محمدا و الصّباة (6)من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم، فأدركوا العير. و أوصاه أن يخرم (7)ناقته و يقطع اذنها حتّى يسيل الدّم و يشقّ ثوبه من قبل و دبر، فاذا دخل مكّة ولّى وجهه إلى ذنب البعير و صاح بأعلى صوته: يا آل غالب يا آل غالب،

ص: 61


1- . عدن أبين: مدينة على ساحل بحر العرب.
2- . المائدة:5/24.
3- . تفسير روح البيان 3:315.
4- . بهرة: موضع بنواحي المدينة، و في النسخة: النقرة.
5- . القلوص: الشابة من النوق.
6- . الصّباة: جمع صابئ، و هو الخارج من دين إلى آخر، و كانت قريش تسمي أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله الصّباة لأنهم خرجوا من دين قريش إلى الإسلام.
7- . أي يشقّ ما بين منخريها.

اللّطيمة (1)اللّطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا، و ما أراكم تدركون، فإنّ محمّدا و الصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم. فخرج ضمضم يبادر إلى مكّة.

و رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيّام، كأنّ راكبا قد وافى مكّة ينادي: يا آل غدر، يا آل غدر، اغدوا إلى مصارعكم صبح ثالث. ثمّ وافى بجمله إلى أبي قبيس، فأخذ حجرا و دهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلاّ أصابه منه فلذة، و كان وادي مكّة قد سال من أسفله دما، فانتبهت ذعرة فأخبرت العبّاس بذلك، فأخبر العبّاس عتبة بن ربيعة، فقال عتبة بن ربيعة: تلك مصيبة تحدث في قريش.

ففشت الرّؤيا في قريش، فبلغ ذلك أبا جهل فقال: ما رأت عاتكة هذه الرّؤيا، و هذه نبيّة ثانية في [بني]عبد المطّلب، و اللاّت و العزّى لننتظرنّ ثلاثة أيّام، فإن كان ما رأت حقّا فهو كما رأت، و إن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتابا أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا و نساء من بني هاشم. فلمّا مضى يوم قال أبو جهل: هذا يوم قد مضى، فلمّا كان اليوم الثّاني قال أبو جهل: هذان يومان قد مضيا، فلمّا كان اليوم الثّالث وافى ضمضم ينادي في الوادي: يا آل غالب، يا آل غالب، اللّطيمة اللّطيمة، العير العير، أدركوا [أدركوا]و ما أراكم تدركون، فإنّ محمّدا و الصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم التي فيها خزائنكم.

فتصايح الناس بمكّة و تهيّأوا للخروج، فقام سهل بن عمرو و صفوان بن اميّة و أبو البختري بن هشام و منبه و نبيه ابنا الحجّاج و نوفل بن خويلد فقالوا: يا معشر قريش [و اللّه]ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه، أن يطمع محمّد و الصّباة من أهل يثرب أن يتعرّضوا لعيركم التي فيها خزائنكم، فو اللّه ما قرشيّ و لا قرشيّة إلاّ و لهما في هذه العير نشّ (2)فصاعدا، و إنّه لذلّ و صغار أن يطمع محمّد في أموالكم و يفرّق بينكم و بين متجركم.

فأخرجوا و أخرج صفوان بن اميّة خمسمائة دينار و جهّز بها، و أخرج سهيل بن عمرو [خمس مائة]، و ما بقي [أحد]من عظماء قريش إلاّ أخرجوا مالا، و حمّلوا و قوّوا، و خرجوا على الصّعب و الذّلول لا يملكون أنفسهم كما قال اللّه: خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ اَلنّاسِ (3)، و خرج معهم العبّاس بن عبد المطّلب، و نوفل بن الحارث، و عقيل بن أبي طالب، و أخرجوا معهم القيان يشربون الخمر و يضربون بالدّفوف (4).

ص: 62


1- . اللطيمة: العير التي تحمل الطيب و بزّ التجارة و قوله: يا آل غالب الطليمة، أي أدركوها.
2- . النشّ: نصف أوقية، و يعادل عشرين درهما.
3- . الأنفال:8/47.
4- . في النسخة: بالدفّ.

و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، فلمّا كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بشير بن أبي الزّغباء و محمّد بن عمرو يتجسّسان خبر العير، فأتيا ماء بدر فأناخا راحلتيهما و استعذبا من الماء، و سمعا جاريتين قد تشبّثت إحداهما بالاخرى، و تطالبها بدرهم كان لها عليها، فقالت: عير قريش نزلت أمس في موضع كذا، و هي تنزل غدا هاهنا، و أعمل لهم و أقضيك.

فرجعا فأخبراه بما سمعا، فأقبل أبو سفيان بالعير، فلمّا شارف بدرا تقدّم العير و أقبل وحده حتّى انتهى إلى ماء بدر، و كان بها رجل من جهينة يقال له الكسب الجهني فقال له: يا كسب، هل لك علم بمحمد و أصحابه؟ قال: لا، قال: و اللاّت و العزّى لئن كتمتنا أمر محمّد، لا تزال قريش. لك معادية آخر الدّهر، فإنّه ليس أحد من قريش إلاّ و له في هذه العير نشّ فصاعدا، فلا تكتمني، فقال: و اللّه مالي علم بمحمد، و ما بال محمد و أصحابه بالتجّار، إلاّ أنّي رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا فاستعذبا من الماء، و أناخا راحلتيهما و رجعا، و لا أدري من هما. فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما، ففتّ أبعار الإبل، فوجد فيها النّوى فقال: هذه علائف يثرب، هؤلاء و اللّه عيون محمّد، فرجع مسرعا و أمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر، و تركوا الطّريق و مرّوا مسرعين.

و نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره أنّ العير قد أفلتت، و أنّ قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها، و أمر بالقتال و وعده النّصر، و كان نازلا ماء الصّفراء (1)، فأحبّ أن يبلو الأنصار، لأنّهم إنّما و عدوه أن ينصروه إذا كان في الدّار، فأخبرهم أنّ العير قد أفلتت، و أن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها، و أنّ اللّه قد أمرني بمحاربتهم، فجزع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ذلك، و خافوا خوفا شديدا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أشيروا عليّ» فقام أبو بكر فقال: يا رسول اللّه، إنّها قريش و خيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، و لا ذلّت منذ عزّت، و لم تخرج على هيئة الحرب.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «اجلس» فجلس، فقال: «أشيروا عليّ» ، فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر، فقال: «اجلس» ، ثمّ قام المقداد فقال: يا رسول اللّه، إنّها قريش و خيلاؤها، و قد آمنّا بك و صدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه، و لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى و شوك الهراس (2)لخضنا معك، و لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (3)و لكنا نقول: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. فجزاه النبي صلّى اللّه عليه و آله خيرا فجلس.

ص: 63


1- . الصفراء: واد من ناحية المدينة، كثير النخل و الزرع، بينه و بين بدر مرحلة.
2- . الغضى: جمع غضاة، و هي شجرة الأثل صلبة الخشب، و جمره يبقى زمانا طويلا، و الهراس: شجر كبير من الفصيلة القرنية، و له شوك كأنّه الحسك.
3- . المائدة:5/24.

ثمّ قال: «أشيروا عليّ» ، فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، كأنّك أردتنا، قال: «نعم» ، قال: فلعلّك خرجت على أمر قد امرت بغيره، قال: «نعم» ، قال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، إنّنا قد آمّنا بك و صدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه، فمرنا بما شئت، و خذ من أموالنا ما شئت، و اترك منها ما شئت، و الذي أخذت منه أحبّ إلي ممّا تركت، و اللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضنا معك.

ثمّ قال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، و اللّه ما خضت هذا الطّريق قطّ، و مالي به علم، و قد خلّفنا بالمدينة قوما ليس نحن بأشدّ جهادا لك منهم، و لو علموا أنّه الحرب لما تخلّفوا، و لكن نعدّ لك الرّواحل و نلقى عدوّنا، فإنّا صبّر عند اللّقاء أنجاد في الحرب، و إنّا لنرجو أن يقرّ اللّه عينك بنا، فإنّ يك ما تحبّ فهو ذاك، و إن يك غير ذلك قعدت على رواحلك فلحقت بقومنا.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أو يحدث اللّه غير ذلك، كأنّي بمصرع فلان هاهنا، [و بمصرع فلان هاهنا] و مصرع أبي جهل، و عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و منبّة و نبيه ابني الحجّاج، فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، و لن يخلف اللّه الميعاد» فنزل جبرئيل [على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله]بهذه الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ (1)الآية.

قيل: إنّ المعنى (أخرجك ربّك) كأن (2)تترك التوجّه إلى العير و تؤثر عليه مقاتلة النّفير في حال كراهة فريق من أصحابك ما آثرته من محاربة النّفير (3).

و هم يُجادِلُونَكَ و يخاصمونك فِي اَلْحَقِّ الذي هو تلقّي النّفير لإيثارهم عليه تلقّي العير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ و ظهر لهم بإعلامك أنّهم ينصرون أينما توجّهوا، قيل: كانوا يقولون: ما كان خروجنا إلاّ للعير، و هلاّ قلت إنّ الخروج لمقاتلة النّفير لنستعدّ و نتأهّب؟ فخرجوا كارهين كَأَنَّما يُساقُونَ بالعنف إِلَى اَلْمَوْتِ و القتل وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إلى أمارات الموت و أسبابه و يشاهدونها عيانا، و ما كانت هذه المرتبة من الخوف إلاّ لقلّة عددهم و عدم تأهّبهم. و قد مرّ أنّه كان عددهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، و أمّا تأهّبهم فقد روي أنّه لم يكن فيهم إلاّ فارسان؛ الزّبير و المقداد، و لهم سبعون بعيرا، و ستّ أدرع، و ثمانية أسياف (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 7 الی 9

ص: 64


1- . تفسير القمي 1:256، تفسير الصافي 2:271.
2- . في تفسير روح البيان: أخرجك ربك من بيتك لأن.
3- . تفسير روح البيان 3:316.
4- . تفسير روح البيان 3:316.

ثمّ شرع سبحانه في بيان وقعة بدر و كراهة قومه إيّاها، و كيفية نصرته نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّهُ إِحْدَى اَلطّائِفَتَيْنِ العير أو النّفير أَنَّها تكون لَكُمْ و مختصّة بكم وَ أنتم تَوَدُّونَ و تحبّون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ اَلشَّوْكَةِ و القوّة من الطائفتين، و هي العير تَكُونُ لَكُمْ حيث لم يكن فيها إلاّ أربعون رجلا، و ذات الشّوكة منهما، و هي النّفير، فإنّه كان عددهم ألفا، أو قريبا منه وَ لكن يُرِيدُ اَللّهُ إرادة تكوينيّة من توجيهكم إلى ذات الشّوكة أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ و يثبته بِكَلِماتِهِ و آياته الدالّة عليه وَ يَقْطَعَ دابِرَ اَلْكافِرِينَ و يستأصلهم و يهلكهم بسيوف المسلمين.

ثمّ أكّد سبحانه التّعليل بقوله: لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ و يظهر دين الإسلام و التّوحيد وَ يُبْطِلَ اَلْباطِلَ و يمحو من أرض الحجاز الباطل و مذهب الشّرك وَ لَوْ كَرِهَ ذلك اَلْمُجْرِمُونَ و الطّغاة العاصون.

قيل: إنّ المراد من الأوّل بيان سبب اختلاف الإرادتين، و من الثاني بيان حكمة توجيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى النّفير.

و في رواية القمّي: فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالرّحيل حتّى نزل عشاء ماء بدر، و هي العدوة (1)الشاميّة، و أقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانيّة، و بعثت عبيدها تستعذب من الماء، فأخذهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حبسوهم، فقالوا [لهم]: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش، قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير، فأقبلوا يضربونهم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّي، فانفتل من صلاته فقال: «إن صدقوكم ضربتموهم، و إن كذبوكم تركتموهم، عليّ بهم» ، فأتوا بهم، فقال لهم: «من أنتم» قالوا: يا محمّد، نحن عبيد قريش، قال صلّى اللّه عليه و آله: «كم القوم؟» قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: «كم ينحرون في كلّ يوم جزورا؟» قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «القوم تسعمائة إلى ألف» قال: «فمن فيهم من بني هاشم؟» قالوا: العباس بن عبد المطلب، و نوفل بن الحارث، و عقيل بن أبي طالب، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهم فحبسوا.

و بلغ قريشا ذلك، فخافوا خوفا شديدا، و لقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال [له]: أما

ص: 65


1- . العدوة: المكان المرتفع أو شاطئ الوادي و جانبه.

ترى هذا البغيّ، و اللّه ما أبصر موضع قدمي، خرجنا لنمنع عيرنا و قد افلتت، فجئنا بغيا و عدوانا، و اللّه ما أفلح قوم قط بغوا، و لوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كلّه و لم نسر هذا المسير.

فقال له أبو البختري: إنّك سيّد من سادات قريش، فسر في النّاس و تحمّل العير التي أصابها محمّد و أصحابه بنخلة، و دم ابن الحضرمي فإنّه حليفك.

فقال عتبة: أنت تشير عليّ بذلك و لا لأحد (1)منّا خلاف إلاّ ابن حنظلة-يعني أبا جهل-فسر إليه و أعلمه أنّي تحمّلت العير التي أصابها محمّد و دم بن الحضرمي.

فقال أبو البختري: فقصدت خباءه، فإذا هو قد أخرج درعا له فقلت له: إنّ أبا الوليد بعثني إليك برسالة، فغضب ثمّ قال: أما وجد عتبة رسولا غيرك؟ فقلت: أما و اللّه لو أرسلني غيره ما جئت، و لكن أبا الوليد سيّد العشيرة، فغضب غضبة اخرى فقال: تقول سيّد العشيرة، فقلت: أنا أقول و قريش كلّها تقول إنّه [قد]تحمّل العير و دم ابن الحضرمي.

فقال: إنّ عتبة أطول الناس لسانا، و أبلغهم في الكلام، و يتعصّب لمحمد، فإنّه من بني عبد مناف، و ابنه معه، و يريد أن لا يخذله بين الناس، لا و اللاّت و العزّى حتّى نقحم عليهم بيثرب، و نأخذهم اسارى، فندخلهم مكّة، و تتسامع العرب بذلك، فلا يكون بيننا و بين متجرنا أحد نكرهه. و بلغ أصحاب رسول اللّه كثرة قريش، ففزعوا فزعا شديدا، و شكوا و بكوا و استغاثوا، الخبر (2).

و في رواية عاميّة: أنّهم لمّا علموا أنّه لا بدّ من القتال، جعلوا يدعون اللّه قائلين: أي ربّ انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا (3).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى المشركين و هم ألف و إلى أصحابه و هم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، فاستقبل القبلة و مدّ يديه يدعو و يقول: اللّهم أنجر [لي]ما وعدتني، اللّهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فما زال كذلك حتّى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه و التزمه من ورائه، و قال: يا نبيّ اللّه كفاك منا شدتك ربّك، فإنّه سينجز ما وعدك (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 10 الی 11

ص: 66


1- . في المصدر: بذلك و ما على أحد.
2- . تفسير القمي 1:260، تفسير الصافي 2:275.
3- . تفسير روح البيان 3:317.
4- . تفسير روح البيان 3:318.

فذكّرهم سبحانه ذلك الوقت بقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ و تسالونه النّصر و الغلبة على عدوّكم فَاسْتَجابَ لَكُمْ و أنجح مسألتكم بأن أوحى إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله أَنِّي مُمِدُّكُمْ و مؤيّدكم بِأَلْفٍ مقاتل مِنَ اَلْمَلائِكَةِ حال كونهم مُرْدِفِينَ و متتابعين بعضهم إثر بعض، أو متابعين للمسلمين.

ثمّ نبّه سبحانه على غناه في نصر المسلمين عن الملائكة، و إنّما كان إنزالهم ليراهم المسلمون فتطمئنّ بهم قلوبهم، و يفرحوا برؤية أنصارهم، بقوله: وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ أيّها المسلمون و ما أنزلهم إِلاّ ليكون نزولهم بُشْرى لكم و موجبا لسرور قلوبكم بمشاهدة سبب نصركم وَ لِتَطْمَئِنَّ بإمدادهم و تستقرّ بِهِ من التّزلزل الحاصل من الوجل من كثرتهم و شوكتهم، و قلّة عددكم و عدّتكم قُلُوبُكُمْ فإن نظركم إلى الأسباب وَ مَا اَلنَّصْرُ و الغلبة لأحد إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ و بقدرته و إرادته إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على خلقه، و قويّ على إنفاذ إرادته بلا حاجة إلى شيء حَكِيمٌ في فعاله، مراع للمصالح فيها.

قيل: إنّ الملائكة لم يقاتلوا مستدلاّ بهذه الآية، و قيل: إنّهم قاتلوا و قتلوا مستدلاّ بالرّوايات.

روي عن ابن مسعود أنّه قال له أبو جهل: من أين الصّوت الذي كنّا نسمع و لا نرى شخصا؟ قال: هو من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم (1).

و روي أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربه بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك و قد خرّ مستلقيا و قد شقّ وجهه، فحدّث الأنصاري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: صدقت، ذاك من مدد السّماء (2).

ثمّ أنّه روى بعض أصحابنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزل في موضع لا تثبت فيه القدم لكثرة الرّمل، فلمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جنّه اللّيل القي على أصحابه النّعاس حتّى ناموا، و احتلم في تلك اللّيلة بعضهم، فأنزل اللّه عليهم السماء، فذكّرهم اللّه سبحانه تلك المنّة بقوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ. . . (3).

و عن بعض العامّة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سار بأصحابه حتى نزلوا في كثيب أعفر-أي في تلّ من الرّمل الأحمر-تسوخ فيه الأقدام-أي تدخل فيه و تغيب-و على غير ماء، بالجانب الأقرب من المدينة من الوادي، و نزل المشركون بجانبه الأبعد من المدينة الأقرب إلى مكّة و الوادي بينهما، ثمّ

ص: 67


1- . تفسير الرازي 15:130.
2- . تفسير الرازي 15:130.
3- . تفسير القمي 1:261.

باتوا ليلتهم و ناموا، ثمّ استيقظوا و قد أجنب أكثرهم، و غلب المشركون على ماء بدر و ليس معهم ماء، فتمثّل لهم الشيطان فوسوس إليهم و قال: أنتم يا أصحاب محمّد تزعمون أنّكم على الحقّ، و أنّكم أولياء اللّه و فيكم رسوله، و أنّكم تصلّون على غير وضوء و على الجنابة، و قد عطشتم، و لو كنتم على الحقّ ما سبقكم المشركون إلى الماء، و ما غلبوكم عليه، و ما ينتظرون إلاّ أن يضعفكم العطش، فإذا قطع أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبّوا و ساقوا بقيّتكم إلى مكّة؛ فحزنوا حزنا شديدا و أشفقوا، فأنزل اللّه عليهم المطر ليلا حتّى سال الوادي و امتلأ من الماء، فاغتسل المسلمون و توضّأوا و شربوا و سقوا دوابّهم، و بنوا على عدوته-أي جانبه-حياضا، و اشتدّ الرّمل و تلبّدت بذلك أرضهم- و أوحلت أرض عدوّهم-حتّى ثبتت عليها الأقدام، و زالت وسوسة الشّيطان، فطابت نفوسهم، و قويت قلوبهم. و تهيّأوا للقتال من الغد (1).

فذكّرهم اللّه ذلك بقوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ و يحيط بكم اَلنُّعاسَ و النّوم الخفيف العارض في البدء؛ لأنّه وجدت قلوبكم أَمَنَةً من ضرر العدوّ لا كلالا و لا إعياء، و تلك الأمنة كانت مِنْهُ تعالى و بلطفه، لا بالأمارات و الأسباب العادية وَ يُنَزِّلُ اللّه عَلَيْكُمْ حال كونكم نائمين مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا مباركا لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من حدث الجنابة و غيره وَ يُذْهِبَ و يزيل عَنْكُمْ ذلك المطر رِجْزَ اَلشَّيْطانِ و وسوسته المخوّفة لكم، و الشّكوك العارضة لقلوبكم-و قيل: اريد بالرّجز الجنابة- وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ و يقوّيها بالثّقة بلطفه و تأييده وَ يُثَبِّتَ بِهِ اَلْأَقْدامَ منكم على الأرض حتى تتمكّنوا و تقدروا على المشي و الكرّ بسهوله، و قيل: يعني يثبّت أقدامكم في الحرب.

عن القمّي رحمه اللّه: وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ اَلشَّيْطانِ و ذلك أنّ بعض أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله احتلم-إلى أن قال-و كان المطر على قريش مثل العزالي (2)، و كان على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رذاذا بقدر ما تلبّد به الأرض، و خافت قريش خوفا شديدا فأقبلوا يتحارسون و يخافون البيات، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّار بن ياسر و عبد اللّه بن مسعود فقال: «ادخلا في القوم و آتونا بأخبارهم» . فكانا يجولان بعسكرهم فلا يرون إلاّ خائفا ذعرا، إذا صهل الفرس و ثب على جحفلته (3)، فسمعوا منبّة بن الحجّاج يقول:

ص: 68


1- . تفسير روح البيان 3:320.
2- . العزالي: جمع عزلاء، و هي مصبّ الماء من القربة، كناية عن شدّته.
3- . الجحفلة: شفة الفرس، بمعنى أنه يريد إسكانه عن الصهيل.

لا يترك الجوع لنا مبيتا *** لا بدّ أن نموت أو نميتا

قالوا (1): و اللّه كانوا شباعا، و لكنّهم من الخوف قالوا هذا، و ألقى اللّه في قلوبهم الرّعب، كما قال اللّه تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ (2).

فلمّا أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبّأ أصحابه، و كان في عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرسان، فرس للزّبير بن العوّام، و فرس لمقداد، و كان في عسكره سبعون جملا يتعاقبون عليها، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي بن أبي طالب عليه السّلام و مرثد بن أبي مرثد الغنوي على جمل يتعاقبون عليه و الجمل لمرثد، و كان في عسكر قريش أربعمائة فرس، فعبّأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بين يديه فقال: «غضّوا أبصاركم، و لا تبتدروهم بالقتال، و لا يتكلّمنّ أحد» .

فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول اللّه قال أبو جهل: ما هم إلاّ أكلة رأس (3)، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد، فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كمينا و مددا؟ فبعثوا عمرو (4)بن وهب الجحمي، و كان فارسا شجاعا، فجال بفرسه حتى طاف [على]عسكر رسول اللّه، ثمّ صعد في الوادي و صوّت، ثمّ رجع إلى قريش فقال: ما لهم كمين و لا مدد، و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون يتلمّظون تلمّظ الافاعي، ما لهم ملجأ إلاّ سيوفهم، و ما أراهم يولّون حتّى يقتلوا، و لا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم، فارتأوا رأيكم. فقال له أبو جهل: كذّبت و جبنت و انتفخ سحرك (5)حين نظرت إلى سيوف أهل يثرب.

و فزع أصحاب رسول اللّه حين نظروا إلى كثرة قريش و قوّتهم، فأنزل اللّه على رسوله وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ (6)، و قد علم اللّه أنّهم لا يجنحون و لا يجيبون إلى السّلم، و إنّما أراد بذلك تطييب قلوب أصحاب النبيّ، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى قريش فقال: «يا معشر قريش، ما أحد [من العرب]أبغض إليّ من أن أبدأكم، فخلّوني و العرب، فإن أك صادقا فأنتم أعلا بي عينا، و إن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري؛ فارجعوا» .

فقال عتبة: و اللّه ما أفلح قطّ الذين ردّوا هذا. ثمّ ركب جملا له أحمر، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يجول في العسكر و ينهى عن القتال، فقال: «إن يكن عند أحد خير، فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» .

ص: 69


1- . في تفسير القمي: قال صلّى اللّه عليه و آله.
2- . الأنفال:8/12.
3- . أي قليل يشبعهم رأس واحد.
4- . في القمي: عمر.
5- . السّحر: كلّ ما تعلّق بالحلقوم من قلب ورثة، بمعنى: خفت و جبنت.
6- . الأنفال:8/61.

فأقبل عتبة يقول: يا معشر قريش، اجتمعوا و اسمعوا، ثمّ خطبهم فقال: يمن مع رحب، و رحب مع يمن، يا معشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدّهر، و ارجعوا إلى مكّة و [اشربوا]الخمور و عانقوا الحور، فإنّ محمدا له إلّ و ذمّة و هو ابن عمّكم، فارجعوا و لا تردّوا قولي (1)، و إنّما تطالبون محمّدا بالعير التي أخذها بنخلة، و دم ابن الحضرمي و هو حليفي و عليّ عقله (2).

فلمّا سمع أبو جهل ذلك غاظه و قال: إنّ عتبة أطول الناس لسانا و أبلغهم كلاما، ثم قال: يا عتبة، نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب و جبنت و انتفخ سحرك، و تأمر النّاس بالرّجوع و قد رأينا ثارنا بأعيننا، فنزل عتبة عن جمله و حمل على أبي جهل، و كان على فرس، فأخذ بشعره فقال النّاس: يقتله (3)، فقال: أمثلي يجبن؟ ! و ستعلم قريش اليوم أيّنا ألأم و أجبن، و أيّنا المفسد لقومه، لا يمشي إلاّ أنا و أنت إلى الموت عيانا، ثمّ قال:

هذا جناي و خياره فيه و كلّ جان يده إلى فيه.

ثمّ أخذ بشعره يجرّه، فاجتمع إليه النّاس فقالوا: يا أبا الوليد، اللّه [اللّه]لا تفتّ في أعضاد النّاس، تنهى عن شيء و تكون أوّله، فخلّصوا أبا جهل من يده.

فنظر عتبة إلى أخيه شيبة و نظر إلى ابنه الوليد فقال: قم يا بني، فقام ثمّ لبس درعه، و طلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوها لعظم هامته، فاعتمّ بعمامتين، ثمّ أخذ سيفه و تقدّم هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد و نادى: يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش، فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار: عوذ (4)و معوّذ و عوف [من]بني عفراء فقال عتبة: من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم. فقالوا: نحن بنو عفراء أنصار اللّه و أنصار رسول اللّه، فقال: ارجعوا فإنّا لسنا إيّاكم نريد، إنّما نريد الأكفاء من قريش، فبعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أن ارجعوا» فرجعوا، و كره أن يكون أولّ الكرّة بالأنصار، فرجعوا و وقفوا موقفهم.

ثمّ نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب؛ و كان له سبعون سنة، فقال له: «قم يا عبيدة» ، فقام بين يديه بالسّيف، ثمّ نظر إلى حمزة بن عبد المطّلب فقال: «قم يا عمّ» ، ثمّ نظر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له: «قم يا عليّ» ؛ و كان أصغر القوم سنّا فقال: «اطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها و فخرها تريد أن تطفئ نور اللّه و يأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره» .

ثمّ قال: «يا عبيدة عليك بعتبة» ، و قال لحمزة: «عليك بشيبة» ، و قال لعليّ عليه السّلام: «عليك بالوليد بن عتبة» ، فمرّوا حتّى انتهو إلى القوم، فقال عتبة: من أنتم انتسبوا لنعرفكم. فقال عبيدة: أنا عبيدة بن

ص: 70


1- . في المصدر: رأيي.
2- . أي ديته.
3- . زاد في المصدر: فعرقب فرسه.
4- . في مغازي الواقدي 1:68 معاذ، بدل: عوذ.

الحارث بن عبد المطلب، فقال: كفؤ كريم. [فقال:]فمن هذان؟ فقال: حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب، فقال: كفؤان كريمان، لعن اللّه من أوقفنا و إيّاكم هذا الموقف، فقال شيبة لحمزة: من أنت؟ فقال: أنا حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه و أسد رسوله، فقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء، فانظر كيف تكون صولتك يا أسد اللّه؟

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ففلق هامته، و ضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها و سقطا جميعا، و حمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسّيفين حتّى انثلما و كلّ واحد منهما يتّقي بدرقته، و حمل أمير المؤمنين عليه السّلام على الوليد بن عتبة فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه. فقال عليّ عليه السّلام: «فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي، فظننت أن السّماء وقعت على الأرض» . ثمّ اعتنق حمزة و شيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى الكلب قد بهر (1)عمّك، فحمل عليه علي عليه السّلام ثمّ قال: «يا عمّ طأطئ رأسك» و كان حمزة أطول من شيبة، فأدخل حمزة رأسه في صدره، فضربه أمير المؤمنين عليه السّلام على رأسه فطيّر نصفه، ثم جاء إلى عتبة و به رمق فأجهز عليه، و حمل عبيدة بين حمزة و علي حتّى أتوا به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستعبر، فقال: يا رسول اللّه، بأبي أنت و امّي، أ لست شهيدا؟ قال: «بلى، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي» ، فقال: أما لو أنّ عمّك كان حيّا لعلم أنّي أولى بما قال منه، قال صلّى اللّه عليه و آله: و أيّ أعمامي تعني؟ قال: أبو طالب، حيث يقول:

كذبتم و بيت اللّه نبزى (2)محمدا *** و لمّا نطاعن دونه و نناضل

و نسلمه حتى نصرّع حوله *** و نذهل عن أبنائنا و الحلائل (3)

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أما ترى ابنه كاللّيث العادي بين يدي اللّه و رسوله، و ابنه الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة؟» فقال: يا رسول [اللّه]، أسخطت عليّ في هذه الحالة؟ فقال: «ما سخطت عليك، و لكن ذكرت عمّي فانقبضت لذلك» .

و قال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا و لا تبطروا كما عجل و بطر ابناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا، و عليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكّة، فنعرّفهم ضلالتهم التي كانوا عليها.

و كان فئة (4)من قريش أسلموا بمكّة فحبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش إلى بدر و هم على الشكّ و الارتياب و النّفاق؛ منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو قيس بن الفاكهة، و الحارث بن ربيعة،

ص: 71


1- . بهر: أي أجهده حتى تتابع نفسه.
2- . أي نسلب، و أراد لا نبزى.
3- . ديوان أبي طالب عليه السّلام:25.
4- . في تفسير القمي: فتية.

و علي بن اميّة بن خلف، و العاص بن المنبّة، فلمّا نظروا إلى قلّة أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم دينهم فيقتلون السّاعة.

إلى أن قال: فجاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جار لكم، ادفعوا إليّ رايتكم؛ فدفعوها إليه، و جاء بشياطينه يهوّل بهم على أصحاب رسول اللّه، و يخيّل إليهم و يفزعهم، و أقبلت قريش يقدمها إبليس معه الرّاية، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لأصحابه: «غضّوا أبصاركم و عضّوا على النّواجذ، و لا تسلّوا سيفا حتّى آذن لكم» ثمّ رفع يده إلى السماء فقال: «يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت أن لا تعبد» لا تعبد، ثمّ أصابه الغشيّ فسرّي عنه و هو يسلت (1)العرق عن وجهه و يقول: «هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين» . قال: فنظرنا فإذا بسحابة [سوداء]فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قائل يقول: أقدم حيزوم، [أقدم حيزوم]و سمعنا قعقعة السّلاح من الجو. الخبر (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 12 الی 14

ثمّ ذكّر اللّه المسلمين وقت الرّبط على قلوبهم و تثبيت أقدامهم بقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ قيل: إنّ التقدير: اذكر وقتا يوحي ربّك (3)إِلَى اَلْمَلائِكَةِ المأمورين بنصرة المؤمنين إِنِّي مَعَكُمْ بالنّصر و العون، و قيل: إنّ التقدير: أن قولوا للمؤمنين بالإلهام أو بتوسّط الرّسول: إنّ اللّه معكم فَثَبِّتُوا أيّها الملائكة اَلَّذِينَ آمَنُوا في معركة القتال و النّزال بتقوية قلوبهم و إيمانهم، و بشارتهم بالنّصر، و تكثير سوادهم، و قولوا لهم: إنّي سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ منهم، و الخوف من سطوتهم فَاضْرِبُوا أيّها الملائكة، أو المؤمنون فَوْقَ اَلْأَعْناقِ و أعاليها التي هي المذابح وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ و أصابع. و قيل: إنّ المراد ضرب جميع الأعضاء من أعاليها و أسافلها.

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْناقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ اَلنّارِ (14)ذلِكَ المذكور من إلقاء الرّعب في قلوب الكفّار، و ضرب أعضائهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا و عاندوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و عارضوهما وَ مَنْ يُشاقِقِ و يعاند و يعارض اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و يسعى في إطفاء

ص: 72


1- . أي يمسحه و يزيله.
2- . تفسير القمي 1:261، تفسير الصافي 2:277.
3- . تفسير روح البيان 3:321.

نورهما فَإِنَّ اَللّهَ يعاقبه عقابا شديدا، لكونه تعالى شَدِيدُ اَلْعِقابِ على من أشرك به و عاده، و عادى أولياءه، و ما نزل بهم في [هذا]اليوم قليل [إذا قيس]بما أعدّ لهم و حكم في حقّهم.

ذلِكُمْ العذاب العاجل من القتل و الخزي، أيّها الكفار فَذُوقُوهُ و اطعموا طعمه في الدّنيا وَ اعلموا أَنَّ لِلْكافِرِينَ في الآخرة عَذابَ اَلنّارِ الذي يكون ما نزل بكم بالنّسبة إليه يسيرا في الغاية.

القمّي رحمه اللّه: و خرج أبو جهل بين الصفّين فقال: اللّهم إنّ محمدا قطعنا الرحم و أتانا بما لا نعرفه فأهنه الغداة-إلى أن قال القمّي: -ثمّ أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفّا من حصى فرمى به في وجوه قريش و قال: «شاهت الوجوه» ، فبعث اللّه رياحا تضرب وجوه قريش، فكانت الهزيمة (1)، فقتل منهم سبعون و اسر سبعون.

و التقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل، فضرب [عمرو]أبا جهل على فخذه، و ضرب أبو جهل عمرا على يده، فأبانها من العضد فتعلّقت بجلدة، فاتّكأ عمرو على يده برجله، ثمّ نزا (2)في السّماء حتى انقطعت الجلدة و رمى بيده.

و قال عبد اللّه بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل و هو يتشحّط بدمه، فقلت: الحمد للّه الذي أخزاك، فرفع رأسه فقال: إنّما أخزى عبد بن امّ عبد (3)، لمن الدّين، و لمن الملك [ويلك]؟ قلت: للّه و لرسوله، و إنّي قاتلك، و وضعت رجلي على عنقه، فقال: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، أما إنّه ليس شيء أشدّ من قتلك إيّاي في هذا اليوم، لا يولي قتلي إلاّ رجل من المطلبيين (4)أو رجل من الأحلاف، فقلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته، و أخذت رأسه و جئت به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: يا رسول اللّه البشرى، هذا رأس أبي جهل، فسجد للّه شكرا.

و أسر أبو بشر الأنصاري العباس بن عبد المطلب و عقيل بن أبي طالب، و جاء بهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له صلّى اللّه عليه و آله: «هل أعانك عليهما أحد؟» قال: نعم، رجل عليه ثياب بيض، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ذاك من الملائكة. ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعباس: «افد نفسك و ابن أخيك» ، فقال: يا رسول

ص: 73


1- . زاد في المصدر: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اللهم لا يفلتن فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام» .
2- . نزا: وثب.
3- . في المصدر: إنّما أخزى اللّه عبد بن امّ عبد اللّه.
4- . في المصدر: هذا اليوم ألا تولى قتلى رجل من المطمئنين، و لعل الصواب: المطيّبين، و حلف المطيّبين: اجتمع بنو هاشم و بنو زهرة و تيم في دار ابن جذعان في الجاهلية، و جعلوا طيبا في جفنة و غمسوا أيديهم فيه، و تحالفوا على التناصر و الأخذ للمظلوم من الظالم فسموا المطيّبين، و تعاقدت بنو عبد الدار مع جمح و مخزوم و عديّ و كعب و سهم هلفا آخر مؤكّدا، فسمّوا الأحلاف لذلك. النهاية 3:149.

اللّه، قد كنت أسلمت، و لكنّ القوم استكرهوني، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اللّه أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقّا فاللّه يجزيك عليه، فأمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا» . ثم قال: «يا عباس، إنّكم خاصمتم اللّه فخصمكم» ، ثمّ قال: «افد نفسك و ابن أخيك» و قد كان العباس أخذ معه أربعين اوقية من ذهب، فغنمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا قال رسول اللّه [للعباس]: «افد نفسك و ابن اخيك» قال: يا رسول اللّه، احسبها من فدائي، فقال رسول اللّه: «لا، ذاك شيء أعطانا اللّه منك، فافد نفسك و ابن أخيك» ، فقال العبّاس: ليس لي مال غير الذي ذهب منّي، قال: «بلى، المال الذي خلّفته عند امّ الفضل بمكّة، و قلت لها: إن حدث عليّ حدث فاقسموه بينكم» ، فقال له: تتركني (1)و أنا أسأل النّاس بكفّي؟ !

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعقيل: «قد قتل اللّه أبا جهل بن هشام، و عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و منبّه و نبيه ابني الحجّاج، و نوفل بن خويلد، و أسر سهيل بن عمرو، و النّضر بن الحارث بن كلدة، و عقبة بن أبي معيط، و فلان و فلان» ، فقال عقيل: إذا لا تنازع في تهامة، فان كنت أثخنت القوم و إلاّ فاركب أكتافهم، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

إلى أن قال القمّي رحمه اللّه: فجمعوا الاسارى و فرّقوهم في الجمال (2)، و ساقوهم على أقدامهم، و جمعوا الغنائم. و قتل من أصحاب رسول اللّه تسعة رجال؛ فيهم سعد بن خيثمة، و كان من النقباء.

فرحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل الأثيل عند غروب الشمس، و هو من بدر على ستّة أميال، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عقبة بن أبي معيط و إلى النّضر بن الحارث، و هما في قران واحد، فقال النّضر لعقبة: أنا و أنت مقتولان، فقال عقبة: من بين قريش؟ قال: نعم، لأنّ محمّدا قد نظر إلينا نظرة رأيت فيها القتل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ علىّ بالنّضر و عقبة» و كان النّضر رجلا جميلا، عليه شعر، فجاء علي عليه السّلام فأخذ بشعره، فجرّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال النّضر: يا محمّد أسألك بالرّحم التي بيني و بينك إلاّ أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني، و إن فاديتهم فاديتني، و إن أطلقتهم أطلقتني، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا رحم بيني و بينك، قطع اللّه [الرّحم]بالإسلام. قدّمه يا عليّ فاضرب عنقه» . [فقدّمه و ضرب عنقه].

فقال عقبة: [يا محمّد]ألم تقل: «لا تصبر قريش» -أي لا يقتلون صبرا-قال: «أو أنت من قريش؟ ! إنّما أنت علج من أهل صفّورية (3)، لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له، قدّمه يا عليّ

ص: 74


1- . في المصدر: ما تتركني إلاّ.
2- . كذا في النسخة و الصافي، و في تفسير القمي: و قرنوهم في الجمال، و لعلّه تصحيف: و قرنوهم في الحبال.
3- . صفّورية: بلدة بالأردن.

فاضرب عنقه» ، فقدّمه فضرب عنقه (1).

و عن ابن عباس: سوّى أصحاب رسول اللّه صفوفهم و قدّموا راياتهم، فوضعوها مواضعها، فوقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على بعير له يدعو اللّه و يستغيث، فهبط جبرئيل في خمسمائة على ميمنتهم، و ميكائيل في خمسمائة على ميسرتهم، فكان الملك يأتي الرّجل من المسلمين على صورة رجل و يقول له: دنوت من عسكر المشركين فسمعتهم يقولون: و اللّه لئن حملوا علينا لا نثبت لهم أبدا، فألقى اللّه في قلوب الكفرة الرّعب بعد قيامهم للصفّ (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ لمّا ذكر اللّه نعمته على أهل بدر بالثّبات و الاستقامة في الحرب، أمر المسلمين كافّة بالثّبات في مطلق جهاد الكفّار بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ و صادفتم اَلَّذِينَ كَفَرُوا في أيّ وقت و أيّ مكان، حال كونهم زَحْفاً و مقبلين إليكم للقتال فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ و لا تجعلوا ظهوركم نحوهم فضلا عن الفرار، و إن كانوا أضعافكم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (16)ثمّ هدّدهم سبحانه على الفرار بقوله: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ و حين التقائهم دُبُرَهُ و جعل ظهره نحوهم بأيّ داع من الدّواعي إِلاّ أن يكون المولّي مُتَحَرِّفاً و مائلا إلى طائفة اخرى لِقِتالٍ أو إلى جهة اخرى ليتخيّل الكافر أنّه انهزم فيتعاقبه و يبعد عن أعوانه، ثمّ يكرّ عليه وحده أَوْ يكون مُتَحَيِّزاً و متوجّها إِلى فِئَةٍ و جماعة من المسلمين ليستعين بهم، فليس المولّي في هاتين الصّورتين فارّا من القتال، بل هو متهيّئ و متقوّ للحرب، و من تولّى لغير هذين الغرضين فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ شديد كائن مِنَ اَللّهِ القاهر الغالب، و أثر هذا الغضب أن يكون منزله وَ مَأْواهُ في الآخرة النّار الموقدة بذلك الغضب، تسمّى جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ و المرجع تلك، فلا ترجعوا من مقابل الكفّار إلى مأوى تأمنون فيه من القتل حتّى لا تبتلوا بالرّجوع إلى مأوى من النّار.

عن الكاظم عليه السّلام، إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ قال: «متطرّدا يريد الكرّة عليهم أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ يعني متأخّرا إلى أصحابه من غير هزيمة، فمن انهزم حتّى يجوز صفّ أصحابه فقد باء بغضب من اللّه» (3).

ص: 75


1- . تفسير القمي 1:267، تفسير الصافي 2:283.
2- . تفسير روح البيان 3:322.
3- . تفسير العياشي 2:188/1711، تفسير الصافي 2:286.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ قوّى سبحانه قلوب المؤمنين في الجهاد ببيان أنّه هو القاهر للأعداء و قاتلهم و هازمهم كما قتلهم و هزمهم ببدر، بقوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ في غزوة بدر بقوّتكم و قدرتكم وَ لكِنَّ اَللّهَ بقدرته قَتَلَهُمْ حيث قوّى قلوبكم، و أزال عنكم الخوف، و أيّدكم بالملائكة، و ألقى في قلوبهم الرّعب وَ ما رَمَيْتَ الحصى أو التراب في وجوه قريش يوم بدر إِذْ رَمَيْتَ الحصى أو التّراب يا محمّد وَ لكِنَّ اَللّهَ في الحقيقة رَمى حيث إنّه أمرك بالرّمي، و أوصل الحصاة إلى عيون المشركين.

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكافِرِينَ (18)روي أنّه لمّا طلعت قريش من العقنقل-و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي-قال صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهم هذه قريش جاءت بخيلائها و فخرها، يكذّبون رسولك، اللّهم إنّي أسألك ما وعدتني» فأتاه جبرئيل فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلمّا التقى الجمعان قال لعليّ عليه السّلام: «أعطني من صباء الوادي» ، فرمى بها في وجوههم و قال: «شاهت الوجوه» -أي قبحت-فما من المشركين أحد إلاّ أصاب عينيه و منخريه تراب، فانهزموا و ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم، ثمّ لمّا انصرفوا من المعركة غالبين غانمين، أقبلوا على التّفاخر يقولون: قتلت و أسرت و فعلت و تركت، فنزلت (1).

فحاصل الآية أنّ الرّمي و إن كان بيدك، إلاّ أن إيصال ذرّات الحصى في وجوه جميع المشركين؛ بحيث لم يبق فيهم عين إلاّ أصابها منه، لم يكن إلا بقدرة اللّه تعالى و على خلاف العادة.

و إنّما فعل ذلك ليمحق الكافرين وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ و يمتحنهم مِنْهُ بَلاءً و امتحانا حَسَناً ليعلم أنّهم يقومون بشكره أم لا. و قيل: يعني: لينعم عليهم نعمة عظيمة من النّصر و الغلبة و مشاهدة الآيات إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لدعائهم و استغاثتهم عَلِيمٌ بنيّاتهم و صفاء ضمائرهم، و انقطاعهم عن الأسباب.

ذلِكُمْ البلاء الحسن للمؤمنين إحدى العلل، و الثانية: أن يعلم المؤمنون أنّ اللّه مؤيّدهم وَ أَنَّ اَللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكافِرِينَ و مبطل حيلهم في إطفاء نور الحقّ، و الإخلال في أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: نزل قوله: وَ ما رَمَيْتَ في يوم خيبر، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوسا و هو على باب خيبر فرمى سهما، فأقبل السّهم حتّى قتل ابن أبي الحقيق، فنزلت (2).

ص: 76


1- . تفسير روح البيان 3:325.
2- . تفسير الرازي 15:140.

و قيل: نزلت في أحد، و ذلك أنّه أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلف بعظم رميم و قال: يا محمد، من يحيي هذا و هو رميم؟ فقال عليه السّلام: يحييه اللّه [ثم يميتك، ثم يحيك]، ثمّ يدخلك النّار» فأسر يوم بدر، فلمّا افتدي قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إن عندي فرسا أعتلفها كلّ يوم فرقا (1)من ذرة كي أقتلك عليها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بل أنا أقتلك إن شاء اللّه» .

فلمّا كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتّى دنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «استأخروا» ، و رماه بحربة فكسر ضلعا من أضلاعه، فحمل فمات ببعض الطّريق، فنزلت (2).

ثمّ أنّه روي أنّ أهل مكّة لمّا أرادوا الخروج إلى بدر تعلّقوا بأستار الكعبة و قالوا: اللّهم انصر أعلى الجندين، و أهدى الفئتين، و أكرم الحزبين، و أفضل الدّينين (3).

و روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللّهم انصر أفضل الفريقين و أحقّهما بالنّصر، اللّهم أيّنا أقطع للرّحم و أفسد للجماعة فاقتله (4).

[سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 19]

فبيّن اللّه استجابة دعائهم في حقّ المؤمنين بقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا و تسنصروا يا أهل مكّة لأعلى الجندين فَقَدْ جاءَكُمْ من قبل اللّه اَلْفَتْحُ و النّصرة. و ذلك على سبيل التّهكّم. و قيل: إنّ التهكم في إطلاق الفتح على الهزيمة و الخزي.

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ اَلْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ (19)ثمّ وعظهم بقوله: وَ إِنْ تَنْتَهُوا و ترتدعوا عن الكفر و العناد و العصيان فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من البقاء عليها و الابتلاء بالحرب وَ إِنْ تَعُودُوا إلى محاربة الرّسول نَعُدْ إلى نصرته و تأييده، و خذلانكم و قهركم وَ لَنْ تُغْنِيَ و لن تكفّ، أو لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ و جماعتكم التي تجمعونها شَيْئاً من الإغناء وَ لَوْ كَثُرَتْ الفئة عددا و عدّة وَ اعلموا أَنَّ اَللّهَ بالنّصر و العون مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ بتوحيده و برسوله و كتابه.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 20 الی 23

ص: 77


1- . الفرق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع.
2- . تفسير الرازي 15:140.
3- . تفسير الرازي 15:142.
4- . تفسير روح البيان 3:328.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالثّبات في جهاد الكفّار و التّهديد على التولّي عنهم، أمر بالثّبات في طاعة الرّسول، و عدم التولّي عنه بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في جميع أوامره و نواهيه وَ لا تَوَلَّوْا و لا تعرضوا عَنْهُ و لا تخالفوه في شيء من الامور وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن الذي أنزله اللّه عليه، الدالّ على نبوّته باشتماله على معاجز كثيرة، الناطق بوجوب طاعته وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون كَالَّذِينَ إذا تليت عليهم آيات اللّه قالُوا بألسنتهم: سَمِعْنا تلك الآيات سماع فهم و قبول وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع القبول عن صميم القلب، و لا ينتفعون بها شيئا، بل يستهزئون بها سرّا إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ و الحيوانات التي تدبّ و تتحرّك في الأرض، أو البهائم التي تمشي على أربع، و أخسّها عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه اَلصُّمُّ الّذين لا يسمعون الحقّ و اَلْبُكْمُ الذين لا ينطقون به اَلَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ الحقّ و لا يدركونه و لا يميّزون بينه و بين الباطل، فمن لم يسمع الآيات الإلهيّة سماع القبول، و لم يفهمها حقّ الفهم، فهو شرّ منهم عند اللّه، و إنّما كان اتّصافهم بتلك الرّذائل لعدم الخير فيهم أصلا وَ لَوْ عَلِمَ اَللّهُ فِيهِمْ خَيْراً سيّما من جهة قابليّة الذّات و طيب الطينة لَأَسْمَعَهُمْ الآيات و المواعظ، و فهّمهم معانيها و حقائقها وَ لكن خبثت ذاتهم و طينتهم بحيث لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عن قبولها، و ما انتفعوا من سماعها وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عنها غير معتنين بها لعنادهم.

عن الباقر عليه السّلام: نزلت في بني عبد الدّار، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير، و حليف لهم يقال له سويبط» (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 24

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بإجابة دعوة الرّسول و طاعته بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ و بادروا إلى قبول دعوتهما إِذا دَعاكُمْ الرّسول المبلّغ عن اللّه لِما يُحْيِيكُمْ حياة الأبد من المعارف الإلهيّة، و العلوم الحقّة، و محاسن الأخلاق، و الأعمال الصّالحة، فإنّ جميعها سبب حياة القلب التي لا موت بعدها.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

ص: 78


1- . مجمع البيان 4:818، تفسير الصافي 2:288، و في النسخة: سويط، بدل سويبط، راجع: أسد الغابة 2:376، قاموس الرجال 5:339/3465.

و قيل: هو الدّعوة إلى الإيمان و قيل: إلى القرآن: و قيل: إلى الجهاد الذي هو سبب الشهادة التي بها الحياة الأبديّة.

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في ولاية علي عليه السّلام» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «ولاية علي عليه السّلام، فإنّ اتّباعكم إيّاه و ولايته أجمع لأمركم و أبقى للعدل فيكم» . و القمّي: الحياة: الجنّة (2).

ثمّ هدّد على ترك الأجابة بالخذلان في الدّنيا بقوله: وَ اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ قريب منكم و أنتم في قبضة قدرته بحيث يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ و نفسه و إرادته، بأن يصرفه عنها.

القمي: أي يحول بينه و بين ما يريد (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يحول بين المؤمن و معصيته أن تقوده إلى النار» و بين الكافر و بين طاعته أن يستكمل بها الإيمان، و اعلموا أنّ الأعمال بخواتيمها» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «يحول بينه و بين أن يعلم أنّ الباطل حقّ» (3).

و عنه عليه السّلام: «معناه لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبدا، و لا يستيقن القلب أنّ الباطل حقّ أبدا» (4).

و عنه عليه السّلام: «هو أن يشتهي الشيء، بسمعه و بصره و لسانه و يده، فإن هو غشي شيئا ممّا (5)يشتهيه فإنّه لا يأتيه إلاّ و قلبه منكر لا يقبل الذي يأتيه لأنّه (6)يعرف أنّ الحقّ ليس فيه» (7).

أقول: كان في عبارة الرّواية-بنظري-الاغتشاش، فغيّرتها إلى ما فهمت من معناها.

و عن الباقر عليه السّلام: «هذا الشيء يشتهيه الرّجل بقلبه و سمعه و بصره، لا تتوق نفسه إلى غير ذلك، فقد حيل بينه و بين قلبه، فلا يتوجّه إلى ذلك الشيء» (8).

أقول: الظاهر أنّ التّهديد فيه بالخذلان و صرف القلب عن إرادة الخير.

ثمّ هدّدهم بعذاب الآخرة بقوله: وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيامة من القبور فيجازيكم على أعمالكم، و يعاقبكم على عصيانكم أوامر الرّسول و نواهيه، و عدم إجابتكم دعوته، فسارعوا إلى طاعته، و بادروا إلى إجابته.

ص: 79


1- . الكافي 8:248/349، تفسير الصافي 2:289. (2 و 3) . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:289.
2- . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:289.
3- . تفسير العياشي 2:189/1716، التوحيد:358/6، تفسير الصافي 2:289.
4- . تفسير العياشي 2:190/1719، مجمع البيان 4:820، تفسير الصافي 2:289.
5- . في تفسير العياشي: أما إنّه لا يغشى شيئا منها، و إن كان.
6- . في تفسير العياشي: الذي يأتي.
7- . تفسير العياشي 2:189/1717، تفسير الصافي 2:289.
8- . تفسير العياشي 2:189/1718، تفسير الصافي 2:289.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 25

ثمّ هدّدهم بابتلائهم بالفتن و البلايا في الدّنيا بقوله: وَ اِتَّقُوا أيّها المؤمنون بطاعة الرّسول فِتْنَةً و بلاء عامّا لا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا و عصوا الرّسول مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تعمّهم و غيرهم ممّن أطاع؛ كافتراق الكلمة، و ظهور البدع.

وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (25)عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «أصابت النّاس فتنة بعد ما قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى تركوا عليّا و بايعوا غيره، و هي الفتنة التي فتنوا بها، و قد أمرهم رسول اللّه باتّباع عليّ و الأوصياء من آل محمّد» (1).

و عن ابن عبّاس: لمّا نزلت قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء قبلي» (2).

و عن القمّي: نزلت في طلحة و الزبير لمّا حاربا عليا عليه السّلام [و ظلموه] (3).

و عن الحسن: نزلت في عليّ و عمّار، و طلحة و الزّبير، و هو يوم الجمل خاصّة (4).

روى الفخر الرازي: أنّ الزّبير كان يسامر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما، إذ أقبل عليّ فضحك إليه الزّبير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كيف حبّك لعليّ؟» فقال: يا رسول اللّه، أحبّه كحبّي لولدي أو أشدّ، فقال: «كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟» (5)

و قيل: نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل (4).

و عن الحدّادي في تفسيره: نزلت في عثمان و علي عليه السّلام، أخبر اللّه تعالى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالفتنة التي تكون بسببهما، قال: إنّها ستكون بعدك تلقاها أصحابك، تصيب الظّالم و المظلوم، و لا تكون للظلمة وحدهم خاصّة، و لكنها عامّة. فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك أصحابه (5).

ثمّ بالغ في تهديدهم بعذاب الآخرة بقوله: اِعْلَمُوا أيّها النّاس أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ على من خالف اللّه و رسوله، و أهاج الفتن بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالأوّل و الثّاني و الثّالث.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 26

وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

ص: 80


1- . تفسير العياشي 2:190/1720، تفسير الصافي 2:289.
2- . مجمع البيان 4:822، تفسير الصافي 2:290.
3- . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:290. (4 و 5) . تفسير الرازي 15:149.
4- . مجمع البيان 4:821، تفسير الرازي 15:149.
5- . تفسير روح البيان 3:333.

ثمّ أنّه تعالى بعد التّهديدات البليغة الأكيدة، رغّبهم في الطّاعة بقوله: وَ اُذْكُرُوا أيّها المؤمنون المهاجرون إِذْ أَنْتُمْ في بدء إسلامكم قَلِيلٌ من حيث العدد و العدّة مُسْتَضْعَفُونَ و مقهورون تحت أيدي كفّار قريش فِي اَلْأَرْضِ التي كنتم متوطّنين فيها؛ و هي مكّة، في حال تَخافُونَ من أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ و يستلبكم اَلنّاسُ و يذهبوا بكم و يقتلوكم فَآواكُمْ اللّه بلطفه و رحمته، و أسكنكم في المدينة وَ أَيَّدَكُمْ و قوّاكم بِنَصْرِهِ إيّاكم على الكفّار وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الغنائم اَلطَّيِّباتِ المحلّلات لكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النّعمة الجليلة بالقيام بطاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و إجابة دعوته.

القمّي: نزلت في قريش خاصّة (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بطاعته و طاعة رسوله و إجابتهما، نهى عن خيانتهما و غشّهما بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ و لا تغشّوهما.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حاصر بني قريظة إحدى و عشرين ليله، فسألوه الصّلح كما صالح إخوانهم بني النّضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات و أريحا من بلاد الشام، فأبى عليه السّلام إلاّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا و قالوا: أرسل إلينا إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، و كان مناصحا لهم لأنّ عياله [و ماله]كانت في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا: ما ترى، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار [بيده]إلى حلقه [بالذبح]؛ أي إنّ حكم سعد فيكم أن تقتلوا صبرا، فلا تنزلوا على حكمه (2).

و روي عن الباقر عليه السّلام قريب منه: ثمّ قال: «فأتاه جبرئيل فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي خنت اللّه و رسوله. فنزلت الآية [فيه]، فلمّا نزلت شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد و قال: و اللّه ما أذوق طعاما و لا شرابا حتّى أموت أو يتوب اللّه عليّ؛ فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاما و لا شرابا حتّى خرّ مغشيّا عليه، ثمّ تاب اللّه عليه» (3).

ص: 81


1- . تفسير القمي 1:271، تفسير الصافي 2:290.
2- . مجمع البيان 4:823، تفسير روح البيان 3:335، تفسير الصافي 2:290.
3- . مجمع البيان 4:824، تفسير الصافي 2:291.

القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «فخيانة اللّه و رسوله معصيتهما» (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن خيانة نفسه و خيانة رسوله، نهى عن خيانة النّاس بقوله: وَ لا تَخُونُوا و لا تضيّعوا أَماناتِكُمْ و لا تفرّطوا فيها فيما بينكم وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيقة الخيانة و قبحها.

و من المعلوم أنّ من الأمانات أحكام اللّه و فرائضه التي ائتمن اللّه عباده عليها، كما عن الباقر عليه السّلام قال: «و أمّا خيانة الأمانة، فكلّ إنسان مأمون على ما فرض اللّه عليه» (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ لمّا كان الباعث إلى الخيانة حبّ المال و الأولاد، كما كان ذلك في نفس أبي لبابة، ذمّهما سبحانه بقوله: وَ اِعْلَمُوا [أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ ]

أَنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر رضى ربّه على هوى نفسه، و أطاع حكم اللّه، و راعى حدوده و إن كان على ضرره و ضرر أقاربه.

وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (29)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يقولنّ أحدكم: اللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة؛ لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فإنّ اللّه سبحانه يقول: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» (3).

ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب إلى طاعته و طاعة رسوله و النّصح له بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ بالمواظبة على طاعته و طاعة رسوله، و النّصح لهما و ترك الخيانة في أماناتهما و أمانات النّاس يَجْعَلْ لَكُمْ بسبب ذلك في قلوبكم فُرْقاناً و نورا تميّزون به بين الحقّ و الباطل، أو يعرّفكم امورا تفرّقون بها بين المحقّ و المبطل. عن القمّي: يعني العلم الذي به تفرّقون بين الحقّ و الباطل (4).

وَ يُكَفِّرْ و يستر عَنْكُمْ في القيامة سَيِّئاتِكُمْ و زلاّتكم بأن يبدّلها بالحسنات وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم و معاصيكم بالعفو و التّجاوز عنها وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ و الإحسان الجسيم، و لذا يعطي الكثير بالقليل، و يزيدكم من الثّواب على ما وعدكم به من الجنّة و النّعم الدّائمة، و المقامات

ص: 82


1- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:291.
2- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:291، و فيهما: ما أفترض اللّه عزّ و جلّ عليه.
3- . مجمع البيان 4:824، تفسير الصافي 2:291.
4- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:292.

العالية.

[سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 30]

ثمّ ذكر سبحانه خيانة النّاس برسوله، و حفظه منها ليشكر نعمته، بقوله: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي قريش لِيُثْبِتُوكَ و يوقفوك في موضع لا تقدر [على]الخروج منه، أَوْ يَقْتُلُوكَ بأسيافهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكّة إلى غيرها وَ يَمْكُرُونَ و يدبّرون خفية في شأنك وَ يَمْكُرُ اَللّهُ و يدبّر في ردّ مكرهم عليهم وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ لا يردّ مكره شيء، و لا يعبا بمكر غيره عند مكره.

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ (30)روت العامّة أنّه لمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد كانت له شيعة و أصحاب من غيرهم بغير بلدهم، و رأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنّهم قد نزلوا دارا و أصابوا سعة، فحذروا خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عرفوا أنّه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة؛ و هي الدّار التي بناها قصيّ بن كلاب بمكّة، و كانت قريش لا تقضي أمرا إلاّ فيها، و سمّيت دار النّدوة لأنّهم ينتدون فيها، أي يجتمعون للمشاورة، فتشاوروا في أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، منهم عتبة و شيبة ابنا ربيعة، و أبو جهل، و أبو سفيان و النّضر بن الحارث، و أبو البختري بن هشام، و أبيّ بن خلف، و زمعة بن الأسود، و غيرهم من الرّؤساء و الأكابر.

فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ كبير عليه ثياب أطمار فجلس بينهم، فقالوا: ما لك يا شيخ، دخلت في خلوتنا بغير إذننا؟ فقال: أنا رجل من أهل نجد قدمت مكّة، فأراكم حسنة وجوهكم، طيبة روائحكم، فأحببت أن أسمع حديثكم فاقتبس منكم خيرا فدخلت، و إن كرهتم مجلسي خرجت، و ما جئتكم إلاّ لأنّي سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضر معكم، و أن لا تعدموا (1)منّي رأيا و نصحا. فقالوا: هذا رجل لا بأس عليكم منه.

فتكلّموا فيما بينهم، فبدأ عمرو بن هشام فقال: أمّا أنا فأرى أن تأخذوا محمّدا فتجعلوه في بيت تسدّون عليه بابه، و تشدّون عليه وثاقه، و تجعلون له كوّة تدخلون عليه طعامه و شرابه، فيكون محبوسا إلى أن يموت، فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه و يخلّصه من أيديكم، فقالوا: صدق و اللّه الشيخ.

ص: 83


1- . في تفسير روح البيان: و لن تعدموا.

ثمّ تكلّم أبو البختري بن هشام فقال: أرى أن تحملوه على بعير فتشدّوا وثاقه عليه، ثمّ تخرجوه من أرضكم حتّى يموت أو يذهب حيث شاء، فقال إبليس: بئس الرأي، تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم، و معه منكم طائفة، فتخرجونه إلى غيركم، فيأتيهم فيفسد منهم أيضا جماعة بما يرون من حلاوة كلامه و طلاقة لسانه، و تجتمع إليه العرب و تستمع إلى حسن حديثه، ثمّ ليأتينّكم بهم فيخرجكم من دياركم و يقتل أشرافكم. فقالوا: صدق و اللّه الشيخ.

فتكلّم أبو جهل فقال: أرى أن يجتمع من كلّ بطن منكم رجل و يأخذون السّيوف فيضربونه جميعا ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا يدري قومه من يأخذون به، و لا يقومون على حرب قريش كلّهم، و إذا طلبوا العقل عقلناه و استرحنا، فقال إبليس: صدق و اللّه [هذا]الشاب، و هو أجودكم رأيا، القول قوله، فتفرّقوا على رأيه، فنزل جبرئيل فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و أمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، و أمره بالهجره إلى المدينة، فبيّت عليّا عليه السّلام على مضجعه، و خرج هو و أبو بكر إلى الغار (1).

و عن العيّاشي: عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّ قريشا اجتمعت فخرج من كلّ بطن اناس، ثمّ انطلقوا إلى دار النّدوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإذا شيخ قائم على الباب، فإذا ذهبوا ليدخلوا قال: أدخلوني معكم، قالوا: و من أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ من مضر، ولي رأي اشير به عليكم، فدخلوا و جلسوا و تشاوروا و هو جالس، و أجمعوا أمرهم على أن يخرجوه، فقال: ليس هذا لكم برأي، إن أخرجتموه أجلب عليكم (2)النّاس فقاتلوكم، قالوا: صدقت، ما هذا برأي.

ثمّ تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه، قال: ليس هذا برأي، إن فعلتم هذا و محمّد رجل حلو اللّسان، أفسد عليكم أبناءكم و خدمكم، و ما ينتفع أحدكم إذا فارقه أخوه و ابنه و امرأته.

ثمّ تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه؛ يخرجون من كلّ بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعا عند الكعبة» . ثمّ قرأ هذه الآية: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ (3).

و عن القمّي: نزلت بمكّة قبل الهجرة، و كان سبب نزولها أنّه لمّا أظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الدّعوة بمكّة قدمت عليه الأوس و الخزرج، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تمنعوني و تكونون لي جارا حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي و ثوابكم على اللّه الجنّة» ، فقال سعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد اللّه بن حزام: يا رسول اللّه، اشترط لربّك و لنفسك ما شئت، فقال لهم: «موعدكم العقبة في اللّيلة الوسطى من ليالي

ص: 84


1- . تفسير روح البيان 3:338.
2- . أجلب عليكم: جمع الناس عليكم و ألّبهم.
3- . تفسير العياشي 2:190/1722، تفسير الصافي 2:292.

التّشريق» . فحجّوا و رجعوا إلى منى، و كان فيهم ممّن قد حجّ بشر كثير، فلمّا كان الثاني من أيّام التّشريق قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان اللّيل فاحضروا دار عبد المطّلب على العقبة، و لا تنبّهوا نائما، و لينسلّ واحد فواحد» .

فجاء سبعون رجلا من الأوس و الخزرج فدخلوا الدّار، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تمنعوني و تجيروني حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي و ثوابكم على اللّه الجنّة» ، فقال سعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد اللّه بن حزام: [نعم]يا رسول اللّه، اشترط لربّك و لنفسك ما شئت، فقال: «أمّا ما اشترط لربّي، فأن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا، و اشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم، و تمنعون أهلي ممّا تمنعون أهليكم و أولادكم» .

فقالوا: فما لنا على ذلك، فقال: «الجنّة في الآخرة، و تملكون العرب، و يدين لكم العجم في الدّنيا، و تكونون ملوكا في الجنّة» . فقالوا: قد رضينا.

فقال: أخرجوا إليّ [منكم]اثني عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك، كما أخذ موسى عليه السّلام من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فأشار إليهم جبرئيل فقال: هذا نقيب و هذا نقيب؛ تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس، فمن الخزرج: سعد بن زرارة، و البرّاء بن معرور، و عبد اللّه بن حزام-أبو جابر بن عبد اللّه-، و رافع بن مالك، و سعد بن عبادة، و المنذر بن عمر، و عبد اللّه بن رواحة، و سعد بن الربيع، و عبادة بن الصامت و من الأوس: أبو الهيثم بن التيهان، و هو من اليمن، و اسيد بن حضير (1)، و سعد بن خيثمة.

فلمّا اجتمعوا و بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صاح إبليس: يا معشر قريش و العرب، هذا محمّد و الصّباة من أهل يثرب على جمرة العقبه يبايعونه على حربكم، فأسمع أهل منى، و هاجت قريش فأقبلوا بالسّلاح، و سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النّداء فقال للأنصار: «تفرّقوا» ، فقالوا: يا رسول اللّه، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا، [فعلنا]. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لم اؤمر بذلك، و لم يأذن اللّه لي في محاربتم» ، قالوا: أفتخرج معنا؟ قال: «انتظر أمر اللّه» ، فجاءت قريش على بكرة أبيها (2)، قد أخذوا السّلاح، و خرج حمزة و أمير المؤمنين عليه السّلام و معهما السّيف، فوقفا على العقبة، فلمّا نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما تجمّعنا و ما هاهنا أحد، و اللّه لا يجوز هذه العقبة أحد إلاّ ضربته بالسيف.

فرجعوا إلى مكّة و قالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا و يدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمّد،

ص: 85


1- . في النسخة: اسيد بن حصين، تصحيف، راجع: اسد الغابة 1:92، معجم رجال الحديث 3:212.
2- . أي جاءوا جميعا.

فاجتمعوا في دار النّدوة، و كان لا يدخل في دار النّدوة إلاّ من أتى عليه أربعون سنة، فدخل أربعون رجلا من مشايخ قريش، فجاء إبليس في صورة شيخ كبير، فقال له البوّاب: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم منّي رأي صائب، إنّي حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرّجل، فجئت لاشير عليكم. فقال: ادخل، فدخل إبليس.

فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنّه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا، نحن أهل اللّه، تفد إلينا العرب في السّنة مرّتين و يكرموننا، و نحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا محمّد بن عبد اللّه، فكنّا نسميه الأمين لصلاحه و سكونه و صدق لهجته، حتّى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادّعى أنّه رسول اللّه، و أن أخبار السّماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا، و أفسد شباننا، و فرّق جماعتنا، و زعم أنّ من مات من أسلافنا ففي النّار، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، و قد رأيت [فيه]رأيا، قالوا: ما رأيت؟ قال: رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات.

فقال الخبيث: هذا رأي خبيث، قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم، فإنّه إذا قتل [محمّد]تعصّبت بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة، و إنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشى قاتل محمّد على الأرض، فتقع بينكم الحرب في حرمكم و تتفانون.

فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر، قال: و ما هو؟ قال: نثبته في بيت و نلقي إليه قوته حتّى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير و النابغة و امرئ القيس.

فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر، قال: كيف ذلك؟ قال: لأنّ بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم و اجتمعوا عليكم فأخرجوه.

و قال آخر: لا، و لكنّا نخرجه من بلادنا، و نتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا، قال إبليس: هذا أخبث من الرّأيين المتقدّمين، قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأنّكم تعمدون إلى أصبح النّاس وجها، و أنطق النّاس لسانا و أفصحهم لهجة، فتحملونه إلى بوادي العرب فيخدعهم و يسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم إلاّ و قد ملأها عليكم خيلا و رجلا. فبقوا حائرين.

ثمّ قالوا لإبليس: فما الرأي فيه يا شيخ؟ قال: ما فيه إلاّ رأي واحد. قالوا: و ما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد، يكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكّينة أو حديدة أو سيفا، فيدخلون عليه فيضربونه كلّهم ضربة واحدة، حتّى يتفرّق دمه في قريش كلّها، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه و قد شاركوا فيه، و إن سألوكم أن تعطوا الديّة فأعطوهم ثلاث ديات. فقالوا: نعم، عشر

ص: 86

ديات.

ثمّ قالوا: الرأي رأي الشيخ النّجدي. فاجتمعوا و دخل معهم في ذلك أبو لهب عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله، و نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أخبره أنّ قريشا اجتمعت في دار النّدوة يدبّرون عليك، و أنزل عليه في ذلك وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ إلى آخره. و اجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، و خرجوا إلى المسجد يصفّرون و يصفّقون.

إلى أن قال: فلمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جاءوا ليدخلوا عليه، فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه باللّيل، فإنّ في الدّار صبيانا و نساء، و لا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول اللّه، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يفرش له ففرش له، فقال لعلي بن أبي طالب عليه السّلام: «أفدني بنفسك» ، قال: «نعم يا رسول اللّه» ، قال: «نم على فراشي، و التحف ببردتي» . فنام علي عليه السّلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التحف ببردته، و جاء جبرئيل فأخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخرجه على قريش و هم نيام، و هو يقرا عليهم وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (1)، و قال له جبرئيل: خذ على طريق [ثور، و هو جبل على طريق]منى له سنام كسنام الثّور، فدخل الغار و كان من أمره ما كان.

فلمّا أصبحت قريش و ثبوا إلى الحجرة و قصدوا الفراش، فوثب عليّ عليه السّلام في وجوههم فقال: ما «شأنكم» ؟ قالوا: أين محمّد؟ قال: «أجعلتموني عليه رقيبا؟ أ لستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم» ، فأقبلوا يضربون أبا لهب و يقولون (2): أنت تخدعنا منذ اللّيلة، فتفرّقوا في الجبال، و كان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفو الآثار، فقالوا: يا أبا كرز، اليوم اليوم. فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: هذه قدم محمّد، و اللّه لاخت القدم التي في المقام، و كان أبو بكر استقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فردّه معه، فقال أبو كرز: و هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، ثمّ قال: و هاهنا عبر ابن أبي قحافة، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار، ثمّ قال: [ما]جاوزا هذا المكان، إمّا أن يكونا صعدا إلى السّماء أو دخلا تحت الأرض. و بعث اللّه العنكبوت فنسجت على باب الغار، و جاء فارس من الملائكة حتّى وقف على باب الغار، ثمّ قال: ما في الغار أحد، فتفرّقوا في الشّعاب، فصرفهم عن رسول اللّه (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 31 الی 32

ص: 87


1- . يس:36/9.
2- . في النسخة: يضربونه و يقولون.
3- . تفسير القمي 1:272، تفسير الصافي 2:292.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مكرهم بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله، بيّن مكرهم بآيات اللّه و في دينه بقوله: وَ إِذا تُتْلى و تقرأ عَلَيْهِمْ آياتُنا القرآنية قالُوا قَدْ سَمِعْنا هذه الكلمات الملفّقة. و لكن ما سمعوها في الحقيقة، لكونهم أظهر مصاديق شرّ الدّوابّ الذين قال اللّه في حقّهم: وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (1)و لذا قالوا مكابرة و عنادا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا الكلام.

كيف لم يكن مكابرة و أنّه لم يمنعهم من مشيئته شيء، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحدّاهم به مدّة ثلاث عشرة سنة حتّى قال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2). ثم أعلن بعجزهم عن ذلك بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا (3)و مع ذلك لم يأتوا بسورة قصيرة، بل و لا بآية مع حرصهم على تكذيبه و تذليله و الغلبة عليه، خصوصا فيما يتعلّق بالفصاحة و البلاغة التي هم مهرة تلك الصّناعة.

قيل: إنّ قائل هذا الكلام النّضر بن الحارث من بني عبد الدّار، فإنّه كان يختلف تاجرا إلى فارس و الرّوم و الحيرة، فيستمع أخبار رستم و اسفنديار و أحاديث العجم، و اشترى أحاديث كليلة و دمنة، و كان يمرّ باليهود و النّصارى فيراهم يقرأون التّوراة و الإنجيل و يركعون و يسجدون، فجاء مكّة فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّى و يقرأ القرآن، فطفق يقعد مع المستهزئين، و يقرأ عليهم أساطير الأوّلين، و كان يزعم أنّها [مثل]ما يذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قصص الأنبياء و الامم الماضين (4). و يقول: إِنْ هذا الكلام الذي جاء به محمّد، و ما هو إِلاّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و الأباطيل المسطورة في دفاتر السّابقين.

ثمّ أنّه روي أنّه قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ويلك إنّه كلام اللّه» (5)فذكر اللّه تحاشيه عن قبوله بقوله: وَ إِذْ قالُوا حسدا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله على نزول الكتاب عليه، أو إظهارا لليقين بعدم كونه كلام اللّه: اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا القرآن هُوَ اَلْحَقَّ النّازل مِنْ عِنْدِكَ و صدقا و صحيحا انتسابه إليك فَأَمْطِرْ عَلَيْنا عقوبة لتكذيبنا إيّاه حِجارَةً مِنَ اَلسَّماءِ كما أمطرت على قوم لوط أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ آخر تهلكنا به.

قيل: نزل في النّضر بن الحارث بضع عشرة آية (6).

ص: 88


1- . الأنفال:8/23.
2- . البقرة:2/23.
3- . البقرة:2/24.
4- . تفسير روح البيان 3:340.
5- . تفسير روح البيان 3:341.
6- . تفسير روح البيان 3:341.

و عن (الكافي) : قاله الحارث بن عمرو الفهري (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: نزلت لمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقريش: «إنّ اللّه بعثني أن أقتل جميع ملوك الدّنيا و أجرّ الملك إليكم، فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا بها العرب، و تدين لكم بها العجم، و تكونوا ملوكا في الجنّة» . فقال أبو جهل: اللّهم إن كان هذا الذي يقول محمّد هو الحق من عندك [فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم]حسدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (2).

و عن المجمع: عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه: «لمّا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه. طار ذلك في البلاد، فقدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله النّعمان بن الحارث الفهري فقال: أمرتنا من اللّه أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّك رسول اللّه، و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصّوم و الصّلاة و الزّكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال: و اللّه الذي لا إله إلاّ هو، إنّ هذا من اللّه، فولّى النّعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء، فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 33

ثمّ بيّن اللّه سبحانه علّة عدم إنزال العذاب عليهم مع غاية استحقاقهم له، بقوله: وَ ما كانَ اَللّهُ و ليس مناسبا للطفه بك لِيُعَذِّبَهُمْ بما عذّب به الامم الماضية وَ أَنْتَ مع كونك رحمة للعالمين و أمانا لأهل السّماوات و الأرضين فِيهِمْ و حيّ بينهم، بل لم يعذّب امّة من الامم الماضية إلاّ بعد خروج نبيّهم من بينهم.

وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اَللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)ثم ذكر علّة أخرى بقوله: وَ ما كانَ اَللّهُ مُعَذِّبَهُمْ و فيهم، أو في أصلابهم المؤمنون وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.

و قيل: إنّ مرجع الضمير الكفّار، و المعنى: أنّهم لو استغفروا لم يعذّبوا، و المقصود حثّهم على الاستغفار.

و قيل: إنّ المراد بالاستغفار الإسلام، و المعنى: و هم يسلمون فيما بعد، فإنّه كان في علم اللّه أنّه يسلم كثير منهم؛ كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، و الحارث بن هشام، و حكيم بن حزام،

ص: 89


1- . الكافي 8:57/18، تفسير الصافي 2:297.
2- . تفسير القمي:1:276، تفسير الصافي 2:298.
3- . مجمع البيان 10:530، تفسير الصافي 2:299.

و أضرابهم.

عن ابن عبّاس أنّه قال: كان فيهم أمانان؛ نبيّ اللّه، و الاستغفار، أمّا النبي صلّى اللّه عليه و آله فقد مضى، و أمّا الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في (نهج البلاغة) : «كان في الأرض أمانان من عذاب اللّه، فرفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رفع فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا الأمان الباقي فالاستغفار» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لكم في حياتي خيرا، و في مماتي خيرا. فقيل: يا رسول اللّه، أمّا حياتك فقد علمنا، فما لنا في وفاتك؟ فقال: أمّا في حياتي فإنّ اللّه يقول: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ، و أمّا في مماتي فتعرض عليّ أعمالكم فاستغفر لكم» (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 34

ثمّ صرّح سبحانه بغاية استحقاقهم العذاب، و وعدهم بالعذاب الاخروي أو الدّنيوي يوم بدر، أو يوم الفتح بقوله: وَ ما لَهُمْ من السبب أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اَللّهُ و يسلّمهم منه بالكلّية وَ الحال أنّ هُمْ يَصُدُّونَ أولياءه و المؤمنين به عَنِ دخول اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و القرب منه عام الحديبية بادّعاء أنّهم أولياؤه و أولياء بيته وَ الحال أنّهم ما كانُوا أَوْلِياءَهُ بل إِنْ أَوْلِياؤُهُ و ما أحبّاؤه أحد إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ الّذين يتحرّزون المنكرات و القبائح؛ كالشّرك و المكاء و التّصدية و غيرها من المعاصي وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّهم ليسوا بأوليائه، و إنّما يعلمه بعضهم، و مع ذلك يدّعي أنّه وليّ البيت، و يقول نصدّ من نشاء و ندخل من نشاء.

وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اَللّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 35

ثمّ استشهد سبحانه على عدم كونهم أولياءه بقوله: وَ ما كانَ دعاء المشركين و صَلاتُهُمْ للّه عِنْدَ اَلْبَيْتِ الحرام إِلاّ مُكاءً و صفيرا وَ تَصْدِيَةً و تصفيقا بضرب إحدى الكفّين بالاخرى، فإنّهم كانوا يفعلونهما عوض التّسبيح و الدّعاء.

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

ص: 90


1- . تفسير الرازي 15:158.
2- . نهج البلاغة:483/88، تفسير الصافي 2:300.
3- . الكافي 8:254/361، تفسير الصافي 2:300.

عن ابن عبّاس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة الرّجال و النّساء، مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها، و يصفّقون (1).

و عن الرضا عليه السّلام: «سميّت مكّة مكّة لأنّ النّاس يمكون فيها، و كانوا يقولون لمن قصدها: قد مكا، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فالمكاء: الصّفير، و التّصدية: صفق اليدين» (2).

و عن مقاتل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا صلّى في المسجد قام رجلان من بني عبد الدّار عن يمينه و رجلان عن يساره، فيصفرون كما يصفر المكّاء، و يصفقون بأيديهم ليخلّطوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صلاته و قراءته، و كانوا يفعلون كذلك بصلاة من آمن به (3).

و عن مجاهد: كانوا يعارضون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الطواف، و يستهزئون به، و يصفرون و يخلّطون عليه طوافه و صلاته (4).

ثمّ هدّدهم اللّه تعالى بقوله: فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بالسّيف يوم بدر، أو بالنّار يوم الحشر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ و تشركون.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 36 الی 37

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم على عبادتهم البدنيّة، ذمّهم و هدّدهم على طاعتهم الماليّة بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أشركوا من قريش يُنْفِقُونَ و يصرفون أَمْوالَهُمْ ليخلّوا في أمر رسالة الرّسول و لِيَصُدُّوا النّاس و يمنعوهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدّخول في دين الإسلام، و قبول اتّباع الرّسول.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اَللّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (37)ثمّ نبّه سبحانه على غاية خسارتهم بقوله: فَسَيُنْفِقُونَها بتمامها ثُمَّ تَكُونُ تلك الأموال عَلَيْهِمْ حَسْرَةً و ندامة لذهابها من أيديهم من غير حصول المقصود ثُمَّ يُغْلَبُونَ في قتال

ص: 91


1- . تفسير روح البيان 3:343.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:90/1، تفسير الصافي 2:301.
3- . تفسير روح البيان 3:343.
4- . تفسير الرازي 15:160.

المسلمين آخر الأمر.

قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، و كانوا اثني عشر رجلا من أشراف قريش (1)، يطعم كلّ واحد منهم عسكر الكفّار عشر جزر (2).

و عن سعيد بن جبير: نزلت في أبي سفيان و إنفاقه المال على حرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم احد، و كان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش [من]العرب، و أنفق عليهم أربعين اوقيّة، و الاوقيّة اثنان و أربعون مثقالا (3).

ثمّ هدّدهم اللّه بعذاب الآخرة بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا و استمرّوا على كفرهم إِلى جَهَنَّمَ لا إلى غيرها يُحْشَرُونَ و يساقون في القيامة، و يكون ذلك الحشر لِيَمِيزَ اَللّهُ و يفرّق اَلْخَبِيثَ الذي هو الكافر مِنَ اَلطَّيِّبِ الذي هو المؤمن، فإنّهم يحشرون إلى الجنّة وَ يَجْعَلَ و يضع اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ و يجمعه جَمِيعاً قيل: إنّ المراد من الخبيث: نفقة الكافر على عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و من الطيّب: نفقة المؤمن في نصرته (4)، فيضم اللّه ذلك المال الخبيث بعضه إلى بعض فَيَجْعَلَهُ و يلقيه فِي جَهَنَّمَ ليعذّبهم به أُولئِكَ الكافرون المنفقون أموالهم فيما يسخط اللّه هُمُ بالخصوص اَلْخاسِرُونَ في الدّنيا و الآخرة.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه مزج طينة المؤمن حين أراد خلقه بطينة الكافر؛ فما يفعل المؤمن من سيّئة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج، و كذلك مزج طينة الكافر حين أراد خلقه بطينة المؤمن؛ فما يفعل الكافر من حسنة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج» . قال: «فإذا كان يوم القيامة ينزع [اللّه]من العدوّ النّاصب سنخ المؤمن و مزاجه و طينته و جوهره و عنصره مع جميع أعماله الصّالحة، و يردّه إلى المؤمن، و ينزع اللّه من المؤمن سنخ الكافر (5)و مزاجه و طينته و جوهره و عنصره مع جميع أعماله السيّئة، و يردّه إلى النّاصب، عدلا منه جلّ جلاله و تقدّست أسماؤه، و يقول للنّاصب: لا ظلم عليك، هذه الأعمال الخبيثة من طينتك و مزاجك فأنت أولى بها، و هذه الأعمال الصّالحة من طينة المؤمن و مزاجه و هو أولى بها لا ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ» (6).

ثمّ قال: أزيدك في هذا المعنى من القرآن [أ ليس اللّه عزّ و جلّ]يقول: اَلْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

ص: 92


1- . تفسير الرازي 15:160.
2- . الجزر: جمع جزور، هو ما يصلح لأن يذبح من الابل.
3- . تفسير الرازي 15:160.
4- . تفسير الرازي 15:161.
5- . في تفسير الصافي: الناصب.
6- . غافر:40/17.

وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (1) ، و قال عزّ و جلّ: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ* لِيَمِيزَ اَللّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 38

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المشركين و تهديدهم على عباداتهم البدنيّة و الماليّة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بترغيبهم إلى قبول الإسلام، و تهديدهم على تركه بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا و يرتدعوا عن الشّرك و عداوة الرّسول و قبائح الأعمال، و يدخلوا في دين الإسلام و تبعيّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و يلتزموا بالصّالحات من الأعمال يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ منهم و يعفى عن عقوبة ما ارتكبوا في حال كفرهم؛ من العقائد الفاسدة، و الأعمال السيّئة و تبعاتها من الحدود و القصاص و الضّمان و قضاء الفوائت، كما روي أنّ الاسلام يجبّ ما قبله (3). وَ إِنْ يَعُودُوا و يرجعوا إلى قتالك، و إلى ما كانوا عليه من الأعمال السّيئة، و أصرّوا على ما هم عليه من الكفر و الشّقاق فَقَدْ مَضَتْ و تبيّنت سُنَّتُ اللّه و معاملته مع الامم اَلْأَوَّلِينَ و القرون السّابقين الذين عارضوا الأنبياء، و تحزّبوا عليهم، و سمعوا كيف دمّرهم اللّه و أهلكهم بعذابه، و جعل الأنبياء غالبين عليهم، فلينتظروا لأنفسهم مثل تلك المعاملة.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ (38)عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام أنّه قال له رجل: إنّي كنت عاملا لبني اميّة، فأصبت مالا كثيرا، فظننت أن ذلك لا يحلّ لي، فسألت عن ذلك فقيل [لي]: إنّ أهلك و مالك و كلّ شيء لك حرام. فقال عليه السّلام: «ليس كما قالوا لك» ، قال: فلي توبة؟ قال: «نعم، توبتك في كتاب اللّه قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 39 الی 40

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بما أنزل على الامم الماضية من العذاب، أمر المؤمنين بقتالهم بقوله:

وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ (40)

ص: 93


1- . النور:24/26.
2- . بحار الأنوار 67:106/21، تفسير الصافي 2:302.
3- . تفسير الرازي 15:163.
4- . تفسير العياشي 2:193/1727، تفسير الصافي 2:302.

وَ قاتِلُوهُمْ أيّها المؤمنون و اقتلوهم حَتّى أن لا تَكُونَ في الأرض فِتْنَةٌ و فساد من الشّرك و قبائح الأعمال، و يضمحلّ دين الوثنيّة و سائر الأديان الباطلة بسبب انقراض أهلها أو رجوعهم إلى الحقّ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ الذي بين النّاس كُلُّهُ خالصا لِلّهِ وحده فَإِنِ اِنْتَهَوْا و ارتدعوا عن الأديان الباطلة، و دخلوا في دين الإسلام فَإِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على انتهائهم عن دينهم، و رجوعهم إلى الحقّ أحسن الجزاء وَ إِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن قبول دين الحقّ فَاعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ و حافظكم في قبالهم، فلا تبالوا بعدواتهم و كثرتهم و شوكتهم، و هو نِعْمَ اَلْمَوْلى و الحافظ للصّلاح، فإنّه لا يضيّع من تولاّه و اعتمد عليه وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ و المعين لا يغلب من نصره و أعانه.

الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «لم يجىء تأويل هذه الآية بعد، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رخّص لهم لحاجته و حاجة أصحابه، فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم، و لكنّهم يقتلون حتّى يوحّدوا اللّه، و لا يكون شرك» (1).

أقول: الظاهر أنّ المراد: رخّص للمؤمنين أخذ الفداء و الجزية، لحاجته و حاجة أصحابه.

و عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «لم يجيء تأويل هذه الآية، و لو قام قائمنا بعد، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، و ليبلغنّ دين محمّد ما بلغ اللّيل، حتّى لا يكون شرك على وجه الأرض، كما قال اللّه تعالى: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» (2).

و قيل: إنّ المراد من كون الدّين كلّه للّه في خصوص أرض الحجاز، كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 41 الی 42

ص: 94


1- . الكافي 8:201/243، تفسير الصافي 2:303.
2- . تفسير العياشي 2:193/1728، مجمع البيان 4:834، تفسير الصافي 2:303 و الآية من سورة النور:24/55.
3- . تفسير الرازي 15:164.

في بيان خمس

الغنائم

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه بقتال الكفّار أردفه ببيان حكم الغنيمة بقوله: وَ اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّما غَنِمْتُمْ و كلّ الذي أصبتم مِنْ شَيْءٍ قليل أو كثير من أموال الكفّار بالقهر و الغلبة، و من التّجارات و الصّناعات و الزّراعات، و الكنوز و المعادن، و الغوص في البحار، على تفصيل مذكور في الفقه، و عن الصادق عليه السّلام: «هي و اللّه الإفادة يوما بيوم» (1)

فَأَنَّ لِلّهِ قيل: إنّ التّقدير: فحكمه أنّ للّه خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى و هو الإمام إجماعا وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ من آل هاشم.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «نحن و اللّه [الذين]عنى [اللّه]بذي القربى الذين قرنهم اللّه بنفسه و برسوله فقال: ف. . . لله. . . وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ منّا خاصّة» . قال: «و لم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا (2). أكرم اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أكرمنا أن يطعمنا أو ساخ [ما في]أيدي النّاس» (3).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقيل له: فما كان للّه فلمن هو؟ فقال: «لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما كان لرسول اللّه فهو للإمام» . فقيل له: أ رأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر و صنف أقلّ، فما يصنع به؟ قال: «ذلك إلى الإمام، أ رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف يصنع، أ ليس إنّما كان يعطي على ما يرى؟ كذلك الإمام» (4).

عن أحدهما عليهما السّلام: «خمس اللّه و خمس الرّسول للإمام، و خمس ذي القربى لقرابة الرّسول و هي للإمام (5)، و اليتامي يتامى آل الرّسول، و المساكين منهم، و أبناء السّبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم» (6).

و عن القمّي: فمن الغنيمة يخرج الخمس، و يقسّم على ستّة أسهم: سهم للّه، [و سهم لرسول اللّه] و سهم للإمام. فسهم اللّه و سهم الرّسول يرثه الإمام؛ فيكون للإمام ثلاثة أسهم من ستّة، و الثلاثة الأسهم لأيتام آل الرّسول و مساكينهم و أبناء سبيلهم. و إنّما صارت للإمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم، لأنّ اللّه تعالى قد ألزمه بما ألزم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تربية الأيتام، و [مؤن]المسلمين، و قضاء ديونهم، و حملهم في الحجّ و الجهاد، و ذلك قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا انزل عليه اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (7)، و هو أب لهم، فلمّا جعله اللّه أبا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد لولده، فقال

ص: 95


1- . الكافي 1:457/1، تفسير الصافي 2:303.
2- . في الكافي: لنا سهما في الصدقة.
3- . الكافي 1:453/1، تفسير الصافي 2:304.
4- . الكافي 1:457/1، تفسير الصافي 2:304.
5- . في التهذيب: الرسول و الإمام.
6- . التهذيب 4:125/361، تفسير الصافي 2:304.
7- . الأحزاب:33/6.

عند ذلك: «من ترك مالا فلورثته، و من ترك دينا أو ضياعا فعلى الوالي (1).

أقول: هذه الرّوايات قد عمل بها الأصحاب، و ما خالفها مؤوّل أو مطروح. و ممّا يجب فيه الخمس: المال الحلال المختلط بالحرام، و لا يتميّز صاحب الحرام أصلا، و الأرض التي اشتراها الذمّي من مسلم، و إنّما ثبت هذان الحكمان بالرّوايات المعتبرة المعمول بها.

ثمّ لما كان قطع المجاهدين أطماعهم عن خمس الغنيمة صعبا عليهم، رغّبهم في الالتزام به، و بيّن أنّه من لوازم الإيمان، و أن التّسليم له شكر لنعمه العظام، بقوله: إِنْ كُنْتُمْ، و المعنى: فسلّموا لهذا الحكم و ارضوا به إن كنتم آمَنْتُمْ عن صميم القلب و خالص النيّة بِاللّهِ الواحد المالك لجميع الأشياء وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله من النّصر و الآيات يَوْمَ اَلْفُرْقانِ الذي فرق فيه بين الحقّ و الباطل، بظهور خوارق العادات و المعجزات الباهرات، الدالّة على صدق نبيّنا و صحّة دين الإسلام، و كان ذلك اليوم يَوْمَ اِلْتَقَى فيه اَلْجَمْعانِ و تقابل الفريقان؛ فريق المؤمنين، و فريق الكفّار و المشركين، بوادي بدر، فنصر اللّه المؤمنين مع ضعفهم و قلّة عددهم و عدّتهم على الكافرين مع كثرتهم و شوكتهم و قوّتهم بقدرته وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و إيجاد كلّ ممكن من الممكنات التي منها غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة قَدِيرٌ لا يعجزه عن إنفاذ إرادته شيء، و لا يمنعه عنه مانع.

فجدّوا في الجهاد، و توكّلوا عليه، و اطمئنّوا بنصره، و قد أراكم قدرته على نصركم و غلبتكم على أعدائكم يوم بدر إِذْ أَنْتُمْ كنتم نازلين بِالْعُدْوَةِ اَلدُّنْيا و الجانب الأقرب إلى المدينة من ذلك (2)الوادي وَ هُمْ كانوا نازلين بِالْعُدْوَةِ اَلْقُصْوى و الجانب الأبعد من المدينة و الأقرب إلى مكّة وَ اَلرَّكْبُ و العير المقبل من الشّام الذي كنتم في طلبه، نازل في مكان هو أَسْفَلَ مِنْكُمْ و قريب من ساحل البحر، بينه و بين المشركين ثلاثة أميال، و كان أهله مستظهرين بهم. وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم و أعداؤكم على القتال لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعادِ و تخلّفتم عنه، و خالفتم الوعد؛ لقلّتكم و ضعفكم، و كثرة عدوّكم و قوّتهم، و استظهارهم بالرّكب الذي كان قريبا منهم، و كونهم بالعدوة القصوى القريبة من الماء وَ لكِنْ ما تواعدتم، بل جمع اللّه بينكم و بينهم بلا سابقة وعد لِيَقْضِيَ اَللّهُ و يتمّ أَمْراً كانَ حقيقا (3)بأن يكون مَفْعُولاً و واقعا من نصر أوليائه، و خزي أعدائه، و ظهور آثار وحدانيّته و رسالة رسوله. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ بالكفر و الطّغيان عَنْ بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة عظيمة، و ظهور دليل قويّ على بطلان عقائدهم، و بعد مشاهدة الآيات الباهرة على كون معارضتهم للرّسول صلّى اللّه عليه و آله

ص: 96


1- . تفسير القمي 1:278، تفسير الصافي 2:304.
2- . في النسخة: تلك.
3- . في النسخة: حقيقيا.

معارضة للحقّ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ بروح الإيمان، و تنوّر قلبه بنور الإسلام عَنْ بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة على الحقّ، و صدق الرّسول، و صحّة دينه وَ إِنَّ اَللّهَ لَسَمِيعٌ لمقال الفريقين عَلِيمٌ بضمائرهم و أحوالهم و تدبير امورهم على حسب استحقاقهم.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 43

ثمّ أنّه روي أنّه أرى اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله كفّار قريش في منامه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبيّ حقّ، و القوم قليل، فصار ذلك سببا لقوّة قلوبهم (1). فذكّرهم اللّه تلك النّعمة بقوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً لتخبر به أصحابك، فيكون تثبيتا لقلوبهم، و تشجيعا لهم على قتال عدوّهم وَ لَوْ أَراكَهُمْ في منامك كَثِيراً و أخبرت بكثرتهم أصحابك لَفَشِلْتُمْ و جبنتم في حربهم وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ الذي كنتم فيه من قتالهم، و اختلفت آراؤكم في الثّبات في حربهم و الفرار منهم وَ لكِنَّ اَللّهَ أنعم عليكم بأن سَلَّمَ جمعكم من الفشل و الاختلاف في الرّأي و التّنازع و الفرار إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ و المكنونات في القلوب، من قوّة الإيمان و ضعفه، و الجرأة و الخوف، و الصّبر و الجزع.

إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ لكِنَّ اَللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (43)القمّي رحمه اللّه: المخاطبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و المعنى لأصحابه (2).

عن الباقر عليه السّلام: «كان إبليس يوم بدر يقلّل المسلمين في أعين الكفّار، و يكثّر الكفّار في أعين المسلمين، فشدّ عليه جبرئيل [بالسيف]فهرب منه و هو يقول: يا جبرئيل، إنّي مؤجّل» (3).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 44

ثمّ ذكّرهم اللّه نعمته الاخرى بقوله: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ و حين بارزتموهم فِي أَعْيُنِكُمْ مع كثرتهم قَلِيلاً من حيث العدد تصديقا لرؤيا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تقوية لقلوبكم.

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اَللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (44)عن ابن مسعود: لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا (4).

ص: 97


1- . تفسير روح البيان 3:350.
2- . تفسير القمي 1:278، تفسير الصافي 2:306.
3- . الكافي 8:277/419، تفسير الصافي 2:306.
4- . جوامع الجامع:170، تفسير الصافي 2:306.

وَ يُقَلِّلُكُمْ اللّه فِي أَعْيُنِهِمْ ليجترئوا عليكم قبل اللّقاء، حتّى قال قائلهم: إنّما هم أكلة جزور. ثمّ كثّرهم في أعين الكفّار لتفجأهم الكثرة و يفتّرهم الرّعب عن القتال لِيَقْضِيَ اَللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً قيل: إن التّكرار لاختلاف الفعل المعلّل، و هو الجمع بين الفريقين على الحالة المذكورة في الأوّل، و تقليل كلّ فريق في أعين الفريق الآخر في الثّاني وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ و بيده تصريفها يغلّب من يشاء و يخذل من يشاء، لا رادّ لأمره، و لا معقّب لحكمه.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 45 الی 47

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمه على المؤمنين و نصرتهم على الكفّار، أمرهم بالثّبات و التوكّل عليه و طلب النصر منه، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً و جماعة من الكفّار في معركة القتال فَاثْبُتُوا و وطّنوا أنفسكم على الصّبر و النّزال، و لا تخذلوا أنفسكم بالفرار وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ بالتّكبير و التّهليل في مواقع الشدّة كَثِيراً و اطلبوا منه الصّبر و الثّبات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بالنّصر و الغلبة، و المثوبة الاخرويّة.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ (46) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)عن ابن عبّاس: أمر اللّه أولياءه بذكره في أشدّ الأحوال، تنبيها على أنّ الإنسان لا يجوز أن يخلي قلبه و لسانه عن ذكر اللّه، و لو أنّ رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء، و الآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل اللّه، كان الذّكر أعظم أجرا (1).

ثمّ لمّا كان الجهاد غير نافع إلاّ لمن أطاع اللّه و رسوله، أمر اللّه بطاعتهما بقوله: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في جهاد الكفّار و غيره.

ثمّ نهى عن التّنازع و اختلاف الكلمة بقوله: وَ لا تَنازَعُوا في أمر الجهاد، و لا تختلف آراؤكم فيه كما اختلفت (2)ببدر فَتَفْشَلُوا و تفتروا فيه و تضعفوا عنه وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ و شوكتكم، و تزول دولتكم، وَ اِصْبِرُوا على شدائد الحرب و مشاقّ منازلة الكفّار إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ في جهاد أعدائه بالنّصرة و الحفظ وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و أوطانهم إلى حرب اللّه و رسوله بَطَراً و افتخارا بكثرة العدّة و العدد و النّعم، و شرف الآباء وَ رِئاءَ اَلنّاسِ

ص: 98


1- . تفسير الرازي 15:171.
2- . في النسخة: اختلف.

ليثنوا عليهم بالشّجاعة و السّماحة و الغلبة على الخصم وَ يَصُدُّونَ النّاس و يمنعونهم عَنْ السّلوك في سَبِيلِ اَللّهِ و الدّخول في دينه.

ثمّ هدّدهم اللّه على تلك القبائح بقوله: وَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ من البطر و الرّئاء و الصدّ، و غيرها من القبائح مُحِيطٌ و مطّلع، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

روي أنّ قريشا لمّا بلغوا الجحفة (1)، أتاهم رسول أبي سفيان و قال: ارجعوا فقد سلمت عيركم من أصحاب محمّد و نهبهم، فقال أبو جهل: لا و اللّه، حتّى نقدم بدرا و نشرب بها الخمور، و تعزف علينا [فيها]القيان، و نطعم بها من حضرنا من العرب؛ فوافوها و لكن سقوا كأس المنايا بدل كأس الخمور، و ناحت عليهم النّوائح مكان تغنّي القيان، فنهى اللّه المؤمنين أن يكونوا أمثالهم (2).

و قيل: إنّه لمّا بلغت (3)قريش الجحفة، بعث الحقّاف الكناني-و كان صديقا لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له، فلمّا أتاه قال: إنّ أبي ينعمك صباحا، و يقول لك: إن شئت أن أمدّك بالرّجال أمددتك، و إن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت.

فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك اللّه و الرّحم خيرا، إن كنّا نقاتل اللّه كما يزعم محمّد؛ فو اللّه ما لنا باللّه من طاقة، و إن كنّا نقاتل النّاس؛ فو اللّه إنّ بنا على النّاس لقوّة، و اللّه لا نرجع عن قتال محمّد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، و تعزف علينا فيها القيان؛ فإنّ بدرا موسم من مواسم العرب، و سوق من أسواقهم، حتّى تسمع العرب بهذه الواقعة (4).

قيل: إنّما ذكر اللّه العلّتين الاوليين-و هما البطر و الرّئاء-بصيغة المصدر؛ لأنّ الاسم دالّ على التمكّن و الثّبوت، و كان الوصفان المذكوران متمكّنين فيهم و ملكتين لهم، و ذكر العلّة الثّالثة-و هي الصدّ-بصيغة المضارع الدالّة على التجدّد و الحدوث. لأنّها حصلت في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (5).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 48 الی 49

ص: 99


1- . الجحفة: قرية كبيرة على طريق مكة، على أربع مراحل.
2- . تفسير روح البيان 3:354.
3- . في النسخة: بلغ.
4- . تفسير الرازي 15:172.
5- . تفسير الرازي 15:173 «نحوه» .

ثمّ بيّن سبحانه أنّ من علل خذلان قريش إغواء الشّيطان لهم بقوله: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من معاداة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تحزّبهم لقتاله.

روي أنّ المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر، خافوا من بني بكر بن كنانة؛ لأنّهم كانوا قتلوا منهم واحدا، فلم يأمنوا أن يأتيهم القوم من ورائهم، فتصوّر الشّيطان لهم بصورة سراقة بن مالك بن جعشم؛ و هو من بني بكر بن كنانة، و [كان]من أشرافهم، في جند من الشّياطين (1)، و معه راية (2)وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ و لا قاهر عليكم أحد مِنَ اَلنّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ و دافع عنكم بني كنانة و غيرهم.

فَلَمّا تَراءَتِ اَلْفِئَتانِ و الفريقان؛ فريق المسلمين، و فريق المشركين، و رأى إبليس نزول الملائكة: قيل: كانت (3)يده في يد الحارث بن هشام (4)نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ و رجع القهقرى و أراد الفرار، و قال له الحارث: أتخذلنا في هذه الحالة؟ ! فأعرض عنه وَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ و معرض عنكم إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من جنود الملائكة، فقال الحارث: ما نرى إلاّ جعاشيش (5)أهل يثرب (6)، فدفع الشّيطان في صدر الحارث و انهزم و قال: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ من أن يهلكني وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ.

قال قتادة: صدق في قوله: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ و كذب في قوله: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ.

قيل: لمّا رأى الملائكة ينزلون من السّماء خاف أن الوقت الذي انظر إليه قد حضر (7).

قيل: إنّ قوله: وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ليس من كلام إبليس، و إنّما هو كلام اللّه (8).

قيل: لمّا رجعت قريش إلى مكّة قالت: هزم النّاس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: و اللّه ما شعرت بمسيركم حتّى بلغتني هزيمتكم. فعند ذلك تبيّن للقوم أنّ ذلك الشّخص لم يكن سراقة، بل كان شيطانا (9).

و عن الباقر عليه السّلام و الصادق عليه السّلام ما يقرب منه، إلى قوله: حتّى بلغتني هزيمتكم. و زاد: «فقالوا: إنّك أتيتنا يوم كذا، فحلف لهم، فلمّا أسلموا علموا أنّ ذلك كان شيطانا» (10).

ص: 100


1- . في النسخة: الشيطان.
2- . تفسير الرازي 15:174.
3- . في النسخة: كان.
4- . تفسير الرازي 15:174.
5- . الجعاشيش: جمع جعشوش، و هو الرجل القصير الذميم.
6- . تفسير روح البيان 3:356.
7- . تفسير الرازي 15:176.
8- . تفسير الرازي 15:176.
9- . تفسير الرازي 15:174.
10- . مجمع البيان 4:844، تفسير الصافي 2:308.

عن العيّاشي: عن السجّاد عليه السّلام: «لمّا عطش القوم يوم بدر، انطلق عليّ عليه السّلام بالقربة يستسقي و هو على القليب (1)، إذ جاءت ريح شديدة ثمّ مضت فلبث ما بدا له، ثمّ جاءت ريح اخرى [ثمّ مضت، ثمّ جاءت اخرى]كادت أن تشغله و هو على القليب، ثمّ جلس حتّى مضت، فلمّا رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبره بذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمّا الرّيح الاولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة، و الثّانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة، و الثّالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة، و قد سلّموا عليك، و هم مدد لنا، و هم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى حين يقول: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ» (2).

ثمّ قيل: إنّ قوما من الأوس و الخزرج كانوا منافقين، و أسلم قوم من قريش و كان في قلوبهم شكّ، و لذا لم يهاجروا. ثمّ لمّا حثت (3)قريش إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال اولئك: نخرج مع قومنا، فإن كان محمّد في كثرة خرجنا إليه، و إن كان في قلّة أقمنا في قومنا (4).

فحكى اللّه تعالى قولهم حين رأوا قلّة المسلمين بقوله: إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ من الأوس و الخزرج وَ يقول اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشكّ من قريش، حين رأوا كثرة المشركين و قلّة المسلمين: غَرَّ هؤُلاءِ المسلمين دِينُهُمْ. عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: معناه أنّه خرج بثلاثمائة و ثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل، و ما ذلك إلاّ أنّهم اعتمدوا على دينهم (5).

و قيل: معناه أنّ هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت، و يثابون على هذا القتل (4).

و قيل: إنّهم قالوا: هؤلاء المؤمنون خرجوا مع قلّة عدهم لحرب قريش مع كثرتهم و شوكتهم، و لا شكّ أنّ قريشا تغلبهم. فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ و يثق به، و يسلّم إليه اموره فَإِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على أمره، لا يخذل من توكّل عليه و استجار به حَكِيمٌ في فعاله، يفعل ما فيه صلاح خلقه و إن كان خارقا للعادة.

و قد سبق عن القمّي: أنّ فتية من قريش أسلموا بمكّة. فاحتبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش إلى بدر و هم على الشكّ و الارتياب و النّفاق؛ منهم قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو قيس بن الفاكه، و الحارث بن ربيعة، و علي بن اميّة بن خلف، و العاص بن المنبّه، فلمّا نظروا إلى قلّة أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم دينهم، فيقتلون السّاعة. فأنزل اللّه [على رسوله]: إِذْ يَقُولُ

ص: 101


1- . القليب: البئر.
2- . تفسير العياشي 2:203/1750، تفسير الصافي 2:308.
3- . في النسخة: حث. (4 و 5) . تفسير الرازي 15:176.
4- . تفسير الرازي 15:177.

اَلْمُنافِقُونَ (1) إلى آخره.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 50 الی 51

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة موت المشركين في بدر و تعذيبهم، بقوله: وَ لَوْ تَرى يا محمّد إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا و يقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون على قبض الأرواح، و هم بعد قبض أرواحهم يَضْرِبُونَ بمقامع من حديد تلتهب منها النّار-على ما قيل- وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ و ظهورهم-و عن العيّاشي: إنّما أراد و أستاههم (2)، إنّ اللّه كريم يكنّي (3)- وَ يقولون: ذُوقُوا و اطعموا أيّها المشركون بعد القتل و الخزي في الدّنيا عَذابَ اَلْحَرِيقِ و ألم النّار المحرقة.

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)عن ابن عبّاس: قول الملائكة: ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ إنّما صحّ لأنّه كان مع الملائكة مقامع كلّما ضربوا بها التهبت النّار في الأجزاء و الأبعاض (4).

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم بقوله: ذلِكَ المذكور من الضّرب، و ذوقهم عذاب النّار، يكون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ و ما كسبت جوارحكم باختياركم؛ من الشّرك و المعاصي، و معارضة الرّسول وَ بسبب أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ يعطي كلاّ ما يستحقّه، فلا يدخل المطيع النّار، و لا المسيء الجنّة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 52

ثم بيّن سبحانه أنّ عادة قريش و دأبهم في معاندة الحقّ، و معارضة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و سيرتهم في تكذيب آيات اللّه و معجزات الّرسول، تكون كسيرتهم.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اَللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (52)ثمّ كأنّه قيل: ما كان دأب آل فرعون و أضرابهم؟ فأجاب بقوله: كَفَرُوا و كذّبوا بِآياتِ اَللّهِ و معجزات رسله فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ و عذّبهم بالغرق و الرّيح و الصّاعقة بِذُنُوبِهِمْ الموبقة، كما أخذ

ص: 102


1- . تفسير القمي 1:266.
2- . الاست: العجز.
3- . تفسير العياشي 2:204/1751، تفسير الصافي 2:309.
4- . تفسير الرازي 15:178.

هؤلاء المشركين بالقتل و الخزي، بشركهم و معارضتهم الرّسول إِنَّ اَللّهَ قَوِيٌّ لا يعجزه شيء شَدِيدُ اَلْعِقابِ على المشركين به، المعارضين لرسله. و فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تهديد سائر الكفّار.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 53

ثمّ نبّه سبحانه على علّة عدم ابتلاء العاصي قبل المعصية بالعذاب، و عدم أخذه بالشّقاوة الذاتيّة التي تكون له في بطن امّه، بقوله: ذلِكَ التّعذيب بعد النّعمة، و الأخذ بعد الاسترسال، معلّل بِأَنَّ اَللّهَ لَمْ يَكُ من دأبه و مقتضى حكمته أن يكون مُغَيِّراً و مبدّلا نِعْمَةً أَنْعَمَها و تفضّل بها عَلى قَوْمٍ من العقل و الصحّة، و الرّاحة و سعة العيش، و غيرها حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال و الأخلاق و الأعمال التي كانوا عليها حين وجدان تلك النّعمة، إلى أسوأها، كما غيّرت قريش حالها (1)في صلة الرّحم و عدم التعرّض للآيات، إلى قطع الرّحم و التّكذيب بالآيات و معجزات الرّسول، وَ نظائرها أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ لما يقولون عَلِيمٌ بما يفعلون في السّابق و اللاّحق، فيرتّب على كلّ منهما ما يليق به من إبقاء النّعمة عليه و تغييرها.

ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 54 الی 56

ثمّ أكّد سبحانه مشابهة دأب مشركي قريش بدأب كفّار الامم السّابقة بقوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ كقوم نوح و عاد و ثمود، من حيث إنّهم كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ المنعم عليهم، و جحدوها فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كما أهلكنا عتاة قريش وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ و من معه من القبط في البحر وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ على اللّه (2)بتضييع حقوق نعمه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) اَلَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)قيل: هذه الآية تفصيل للآية الأولى (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مساواة الكفّار في الظّلم، بيّن أنّ شرّهم الناقضون للعهد، بقوله: إِنَّ شَرَّ

ص: 103


1- . في النسخة: حالهم.
2- . في النسخة: على أنّه.
3- . تفسير الرازي 15:181.

اَلدَّوَابِّ و الحيوانات المتحرّكة (1)على وجه الأرض عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه اَلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أبدا، لخبث ذاتهم، و شدّة عنادهم و لجاجهم اَلَّذِينَ عاهَدْتَ بعضا مِنْهُمْ مرّات ثُمَّ يَنْقُضُونَ و يخالفون عَهْدَهُمْ الذي أخذت منهم فِي كُلِّ مَرَّةٍ من مرّات المعاهدة وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ اللّه، و لا يحترزون سيّئة الغدر، و لا يبالون العار و النّار.

عن ابن عبّاس: هم يهود قريظة (2).

قيل: إنّهم عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أن لا يعينوا عليه عدوّا، فنقضوا [العهد]و أعانوا أهل مكّة يوم بدر بالسّلاح، ثمّ قالوا: نسينا و أخطأنا، ثمّ عاهدهم عليه مرّة اخرى فنكثوا و أعانوا المشركين عليه يوم الخندق، و ذلك أنّهم لمّا رأوا غلبة المسلمين على المشركين يوم بدر قالوا: إنّه هو النبيّ الموعود، بعثه [اللّه]في آخر الزّمان، فلا جرم يتمّ أمره، و لا يقدر أحد على محاربته، ثم [أنهم]لمّا رأوا يوم احد ما وقع من نوع ضعف المسلمين شكّوا، و قد كان احترق كبدهم بنار الحسد من ظهور دينه و قوّة أمره، فركب كعب بن أسد سيّد بني قريظة مع أصحابه إلى مكّة، و واثقوا المشركين على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأدّى ذلك إلى غزوة الخندق (3).

و عن القمّي: هم أصحابه الذين فرّوا يوم احد (4).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 57 الی 58

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار النّاقضين للعهد بأنّهم شرّهم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالتّغليظ و التشديد عليهم، بقوله: فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ و تظفرنّ بهم فِي تضاعيف اَلْحَرْبِ و القتال فَشَرِّدْ بِهِمْ و فرّق بسبب قتلهم و تنكيلهم مَنْ يكون خَلْفَهُمْ و من ورائهم من أعدائك، و أوقع بالناقضين من النّكاية و القهر ما يضطرب به حال غيرهم من الكفّار، و يخاف منك أمثالهم، بحيث يذهب عنهم بالكليّة ما يخطر ببالهم من معاداتك و محاربتك لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ و يتّعظون بما شاهدوا من معاملتك مع النّاقضين، فيرتدعوا من نقض العهد وَ إِمّا تَخافَنَّ و تعلمنّ بالأمارات مِنْ قَوْمٍ عاهدوك على أمر خِيانَةً و نقض عهد فَانْبِذْ و اطرح إِلَيْهِمْ عهدهم عَلى سَواءٍ و بطريق الاقتصاد، بأن تخبرهم إخبارا واضحا بأنّك ألغيت عهدهم، و قطعت ما بينك و بينهم من الوصلة، و لا

فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ (58)

ص: 104


1- . في النسخة: المتحركين.
2- . تفسير الرازي 15:182.
3- . تفسير روح البيان 3:362.
4- . تفسير القمي 1:379، تفسير الصافي 2:311.

تقدم على حربهم في حال كونهم على توهّم بقاء العهد، كي لا يتوهّم في حقّك شائبة الخيانة إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ و في هذا التذييل (1)دلالة على قبح الخيانة و مبغوضيّتها للّه مطلقا، سواء كانت في العهد أو غيره، مع الرّسول أو مع غيره. القمّي: نزلت في معاوية لمّا خان أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 59

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بتشديد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على النّاقضين للعهد و معاملته معهم معاملة يعتبر بها غيرهم، و قد فاته تعالى يوم بدر بعض من بلغ في أذيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نقض عهده مبلغا عظيما، سلاّه سبحانه و وعده بالظّفر بهم، لئلاّ يبقى في قلبه الشّريف حسرة، بقوله: وَ لا يَحْسَبَنَّ و لا يتوهّم (3)اَلَّذِينَ كَفَرُوا و نقضوا عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لم يظفر بهم أنّهم سَبَقُوا و أفلتوا من أن يعاقبوا، فليعلموا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ اللّه من أن يظهر بعد، أو المراد: لا يجدون اللّه الذي هو طالبهم عاجزا من إدراكهم.

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)و قيل: إنّ المراد أنّهم لا يحسبوا بتخلّصهم من الأسر و القتل أنّهم يخلصون من عقاب اللّه و عذابه في الآخرة، إنّهم لا يعجزون اللّه بهذا السّبق و التخلّص، من الانتقام منهم في الآخرة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 60

ثمّ أنه تعالى لمّا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتشريد النّاقضين للعهد، و نقض عهد من يخاف منه النّقض، أمر المؤمنين بالإعداد لهؤلاء الكفّار و التهيؤ لقتالهم، بقوله: وَ أَعِدُّوا لقتال الكفّار و هيّئوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ و ما بلغ وسعكم مِنْ قُوَّةٍ و عدّة، كائنا ما كان من سلاح و قسيّ و ترس و غيرها.

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)قيل: إنّه لمّا اتّفق لأصحاب (4)النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قضية (5)بدر أن قصدوا الكفّار بلا آلة و لا عدّة، أمرهم اللّه أن لا يعودوا لمثله، و أن يعدّوا [للكفار]ما يمكنهم من آلة و قوّة (6).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قرأ هذه الآية على المنبر و قال «ألا أنّ القوّة الرّمي» ثلاثا (7). و قيل: هي الحصون (8).

ص: 105


1- . في النسخة: التذليل.
2- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:311.
3- . في النسخة: و لا يتوهن.
4- . في تفسير الرازي: أصحاب.
5- . في تفسير الرازي: قصة.
6- . تفسير الرازي:15/185.
7- . تفسير الرازي 15:185، تفسير أبي السعود 4:32.
8- . تفسير الرازي 15:185.

و عن الصادق عليه السّلام: «سيف و ترس» (1). و في الفقيه: عنه عليه السّلام: «منه الخضاب بالسّواد» (2).

و عن القمّي: السّلاح (3).

و قيل: عامّ، في كلّ ما يتقوّى به على حرب العدوّ (4)من الآلات، و الحصون، و العلوم المربوطة به. وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ و أفراس مربوطة في سبيل اللّه. و عن عكرمة: الإناث منه (5).

و روي: عليكم بإناث الخيل، فإنّ ظهورها حرز و بطونها كنز (4).

و في الحديث: «من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا به و تصديقا بوعده، فإنّ شبعه و ريّه و روثه و بوله في ميزانه [يوم القيامة]» (5).

ثمّ بيّن سبحانه علّة إيجاب الإعداد للحرب بقوله: تُرْهِبُونَ بالإعداد و ترعبون بِهِ كفّار قريش الّذين يكونون عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ لكونكم أولياء اللّه وَ أعداء آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ و ممّن عداهم من الكفرة؛ كاليهود و النّصارى و المنافقين لا تَعْلَمُونَهُمُ و لا تعرفونهم جميعا لنفاقهم اَللّهُ يَعْلَمُهُمْ و يعرفهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بتحصيل القوّة للحرب، رغّب المسلمين ببذل المال [بقوله:] وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ و وجوه الخير التي أهمّها الجهاد يُوَفَّ و يوصل إِلَيْكُمْ جزاؤه كاملا في الآخرة وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بترك الإثابة أو تنقيصها.

عن ابن عبّاس قال: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي لا يضيع في الآخرة أجره، و يعجّل اللّه عوضه في الدّنيا (6)، وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من الثّواب.

و روي أنّه «من أعان مجاهدا في سبيل اللّه، أو غارما ف عسرته، أو في مكاتبا في رقبته، أظلّه اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه» (7).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 61

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالإعداد للحرب، أمر بإجابة الكفّار إذا سألوا الصّلح بقوله: وَ إِنْ جَنَحُوا و مالوا لِلسَّلْمِ و المصالحة و طلبوها منك فَاجْنَحْ لَها و مل إليها إن رأيت الصّلاح فيها وَ تَوَكَّلْ

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (61)

ص: 106


1- . تفسير العياشي 2:204/1753، تفسير الصافي 2:312.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:70/282، تفسير الصافي 2:312.
3- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:312. (4 و 5) . تفسير الرازي 15:185.
4- . تفسير روح البيان 3:365.
5- . تفسير روح البيان 3:365.
6- . تفسير الرازي 15:187.
7- . تفسير روح البيان 3:366.

عَلَى اَللّهِ و فوّض الأمر في معاهدتك معهم إليه، فإنّه ينصرك عليهم إذا نقضوها و عدلوا عن الوفاء بها إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ لمقالاتهم الخفيّة الخداعية، و بضمائرهم السيّئة من إبطانهم المكر في الصّلح.

قيل: إنّها منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1)، و قوله: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (2).

و عن القمّي: أنّها منسوخه بقوله: فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ (3).

أقول: في الجميع نظر.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: ما السّلم؟ قال: «الدّخول في أمرنا» (4).

أقول: الرّواية مناسبة لقوله: اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً (5)، و لا ربط لها بهذه الآية.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أكّد سبحانه وجوب التوكّل عليه عند الخوف من نقضهم العهد بقوله: وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ في طلب الصّلح، و يمكروا بك بنقض العهد، فلا تبال بهم فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّهُ و كفاك من شرّهم، و ينصرك عليهم، فإنّه تعالى هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ و قوّاك بِنَصْرِهِ يوم بدر و غيره من أيّام عمرك وَ بِالْمُؤْمِنِينَ من المهاجرين و الأنصار بعد بعثتك وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بعد أن كان بينها من التّباعد و البغضاء قبل الإيمان بك، بحيث لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً لتؤلّف قلوبهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لا متناعه بالأسباب العاديّة وَ لكِنَّ اَللّهَ بقدرته الكاملة أَلَّفَ بَيْنَهُمْ قلبا و قالبا، فصاروا بقدرته و توفيقه كنفس واحدة إِنَّهُ عَزِيزٌ و غالب على أمره، لا يستعصي شيء ممّا يريد حَكِيمٌ و عالم بمصالح الأمور و تدابيرها.

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّهُ هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)القمّي: كان بين الأوس و الخزرج حرب شديدة و عداوة في الجاهلية، فألّف اللّه بين قلوبهم و نصر بهم نبيّه صلّى اللّه عليه و آله (6).

ص: 107


1- . التوبة:9/5.
2- . تفسير الرازي 15:187، و الآية من سورة التوبة:9/29.
3- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:312، و الآية من سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله:47/35.
4- . تفسير العياشي 2:204/1755، تفسير الصافي 2:312.
5- . البقرة:2/208.
6- . تفسير القمي 1:279، تفسير الصافي 2:313.

قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، و حميّتهم عظيمة، حتّى لو لطم رجل من قبيلة لطمة، قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثمّ انقلبوا من تلك الحالة حتّى قاتل الرّجل [أخاه و]أباه و ابنه و اتفقوا على طاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صاروا أنصارا، و عادوا أعوانا (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 64

ثمّ أنّه تعالى بعد ما وعد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّصر عند خديعة الأعداء، وعده بالنّصر في جميع الأوقات، و على جميع الكفار بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللّهُ و كافيك في دفع شرّ أعدائك، وَ كافيك مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ، و قيل: إنّ المعنى: أنّ اللّه كافيك و كافي أتباعك (2).

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (64)قيل: نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال تقوية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسلية لأصحابه (3).

و قيل: لمّا أسلم عمر و بلغ بإسلامه عدد المؤمنين أربعين نزلت الآية (4).

و في (نهج الحقّ) : روى الجمهور أنّها نزلت في عليّ عليه السّلام (3). و ذكره (4)صاحب (كشف الغمّة) عن كتاب عزّ الدين بن عبد الرزّاق المحدّث الحنبلي (5).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 65

ثمّ أنّه تعالى بعد تقوية قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أمره بتحريض المؤمنين على القتال بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ و حثّهم عَلَى اَلْقِتالِ مع أعداء اللّه، و بالغ في ترغيبهم إليه بوعد الثّواب العظيم على فعله، و العقاب الشّديد على القعود عنه، و قل لهم: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون عِشْرُونَ صابِرُونَ على المنازلة في معركة القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الذين كفروا وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و هذا الضّعف في الكفّار معلّل بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ و لا يدركون الحقّ، و لا يعرفون اللّه، و لا يعتقدون باليوم الآخر حتّى يقاتلوا تقرّبا (6)إلى اللّه، و توكّلا (7)عليه، و رجاء للثّواب، بل يقاتلون بهوى النّفس، و بالأغراض الدّنيويّة، و لذا يستحقّون الخزي و القتل، و لا يستحقّون النّصر.

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65)

ص: 108


1- . تفسير الرازي 15:189.
2- . تفسير الرازي 15:191. (3 و 4) . تفسير روح البيان 3:368.
3- . نهج الحق:185.
4- . في النسخة: و ذكر.
5- . كشف الغمة 1:312.
6- . في النسخة: متقربا.
7- . في النسخة: و متوكلا.

و قيل: إذا كانوا يقاتلون لهذه (1)الأغراض الفاسدة يشحّون على أنفسهم و حياتهم، و لا يعرّضونها للزّوال؛ و لذا أمر المسلمون بالثّبات في مقابل عشر أمثالهم منهم.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 66

ثمّ لمّا شقّ التّكليف على المسلمين حتّى ضجّ المهاجرون-كما عن ابن عبّاس-و قالوا: يا ربّ، نحن جياع و أعداؤنا شباع، و نحن في غربة و أعداؤنا في أهليهم، و نحن قد اخرجنا من ديارنا و أموالنا و أولادنا و أعداؤنا ليسوا كذلك. و قال الأنصار: شغلنا بعدوّنا، و واسينا إخواننا، فنزل التّخفيف (2)بقوله: اَلْآنَ خَفَّفَ اَللّهُ عَنْكُمْ برفع التّكليف السّابق وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً عن المقاومة في قبال عشر أمثالكم بأن يقاتل الواحد عشرا، و العشرة مائة، و المائة ألفا فَإِنْ يَكُنْ من بعد مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ على مشاقّ الحرب، ثابتة الأقدام في معركة النّزال يَغْلِبُوا و يقهروا مِائَتَيْنِ من الكفّار وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ في ميدان القتال يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ من الكفّار بِإِذْنِ اَللّهِ و قدرته و تيسيره و تسهيله وَ اَللّهُ بنصره و تأييده مَعَ اَلصّابِرِينَ في جهاد أعدائه.

اَلْآنَ خَفَّفَ اَللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ (66)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يبعث العشرة إلى وجه المائة، و بعث حمزة رضى اللّه عنه في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم، فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب، و أرادوا قتالهم فمنعهم حمزة، و بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي و كان في جماعة، فابتدر عبد اللّه و قال: يا رسول اللّه، صفه لي، فقال: «إنّك إذا رأيته ذكرت الشّيطان، و وجدت لذلك قشعريرة، و قد بلغني أنّه جمع لي، فاخرج إليه و اقتله» ، قال: فخرجت نحوه، فلمّا دنوت منه وجدت القشعريرة، فقال لي: من الرّجل؟ قلت له: من العرب، سمعت بك و بجمعك. و مشيت معه حتّى إذا تمكّنت منه قتلته بالسّيف، و أسرعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذكرت أنّي قتلته، فأعطاني عصا و قال: «أمسكها، فإنّها آية بيني و بينك يوم القيامة» (3).

ثمّ إنّ هذا التّكليف شقّ على المسلمين فأزاله اللّه بهذه الآية.

و قال ابن عبّاس: أيّما رجل فرّ من ثلاثة فلم يفرّ، فإنّ فرّ من اثنين فقد فرّ (4). و عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

ص: 109


1- . في النسخة: بهذه.
2- . تفسير الرازي 15:194.
3- . تفسير الرازي 15:194.
4- . تفسير الرازي 15:194.

«من فرّ من رجلين في القتال من الزّحف فقد فرّ من الزّحف، و من فرّ من ثلاثة رجال [في القتال من الزّحف]فلم يفرّ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في حديث ذكر فيه هذه الآية فقال: «نسّخ الرّجلان العشرة» (2).

قيل: كان فيهم قلّة أوّلا، فأمروا بذلك، ثمّ لمّا كثروا خفّف اللّه عنهم.

أقول: يشمّ ذلك من الآيتين، حيث ذكر في الآية الاولى غلبة العشرين على مائتين، و مائة على ألف، و في الثّانية غلبة مائة على مائتين، و ألف على ألفين.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 67

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم الجهاد، و الأمر بالمسالمة إذا طلبها الكفّار، بيّن حكم الأسارى و الغنائم بقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ من الأنبياء، و ما صحّ له أَنْ يَكُونَ و يثبت لَهُ أَسْرى و سبايا حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ و يكثر القتل و يبالغ فيه، حتّى يذلّ الكفر و يقلّ حزبه و يعزّ الإسلام.

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتي يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العبّاس بن عبد المطّلب و عقيل بن أبي طالب، فاستشار فيهم، فقال أبو بكر: [هم]قومك و أهلك، استبقهم لعلّ اللّه يهديهم إلى الإسلام، و خذ منهم فدية تقوّي بها أصحابك. و قال عمر: كذّبوك، و أخرجوك من ديارك، و قاتلوك، فاضرب أعناقهم، فإنّهم أئمّة الكفر، مكّنّي من فلان؛ نسيب لي، و [مكّن]عليا من عقيل، و حمزة من العبّاس، فلنضرب أعناقهم فلم يهو ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: «إنّ اللّه ليليّن قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللّبن، و إنّ اللّه ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة، و إنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)، و مثلك يا عمر مثل نوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيّاراً» (4).

فخيّر أصحابه بأن قال لهم: «إن شئتم قتلتموهم، و إن شئتم أطلقتموهم، بأن تأخذوا من كلّ أسير عشرين اوقية-و الاوقية أربعون درهما في الدّراهم، و ستّة دنانير في الدّنانير-على (5)أن يستشهد منكم بعدّتهم» ، فقالوا: بل نأخذ الفداء و يدخل منّا الجنّة سبعون، فاستشهدوا يوم أحد بسبب قولهم هذا و أخذهم الفداء، فنزلت الآية في فداء اسارى بدر، فدخل عمر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو و أبو بكر

ص: 110


1- . تفسير العياشي 2:207/1758، تفسير الصافي 2:313.
2- . الكافي 5:69/1، تفسير الصافي 2:313.
3- . إبراهيم:14/36.
4- . نوح:71/26.
5- . في تفسير روح البيان: إلاّ.

يبكيان، فقال: يا رسول اللّه، أخبرني، فإن أجد بكاء أبكي و إلاّ تباكيت، فقال: «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، و لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» (1).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا تخرجوا أحدا منهم إلاّ بفداء، أو بضرب عنق» ، فقال ابن مسعود: إلاّ سهيل (2)بن بيضاء، فإنّي سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اشتدّ خوفي، ثمّ قال من بعد: «إلاّ سهيل بن بيضاء» (3).

و عن ابن سيرين: كان فداؤهم مائة اوقية (4).

و نقل: أنّ الأسرى منهم من فدي، و منهم من قتل، و منهم من خلّي سبيله من غير فداء، و منهم من مات (5).

ثمّ لا مهم سبحانه على أخذ الفداء بقوله: تُرِيدُونَ أيّها المؤمنون بأسرهم و أخذ الفداء منهم عَرَضَ اَلدُّنْيا و زخارفها التي تزول و لا تبقى وَ اَللّهُ يُرِيدُ لكم اَلْآخِرَةَ و ثوابها الذي يكون قليله خيرا من الدّنيا و ما فيها، فعليكم بطلب الآخرة وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و قادر يجمع لكم الدّنيا و الآخرة، و يغلّبكم على أعدائكم حَكِيمٌ بحكمته يدبّر مصالح عباده و أوليائه.

قيل: إنّ اللّه أمرنا بالإتخان و منع عن الافتداء حين كانت الشّوكة للمشركين، و لمّا تحوّلت الحال و صارت الغلبة للمسلمين، خيّر بين المنّ و الفداء (6).

في الردّ على القول

بعمل الأنبياء

باجتهاد

قال بعض العامّة: الآية دالّة على أنّ الأنبياء مجتهدون، لأنّ اللّوم لا يكون على ما صدر عن الوحي، و لا على فعل ما هو صواب، بل يكون على ما كان خطأ (7).

و فيه: أنّه بعد ما ثبت عصمة النبيّ بالأدلّة العقليّة و النقليّة عن الخطأ لا يمكن نسبته إليه، فلا بدّ من القول بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بخطأ الصّحابة في الإصرار بأخذ الفداء، و لكنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا كان رحمة للعالمين كان مأمورا بموافقتهم و عدم تخطئتهم، كي تنزل آية فيها تخطئتهم و العتاب عليهم، و يظهر للمسلمين أنّ أبا بكر و أضرابه كانوا طالبين للدّنيا دون الآخرة.

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 68 الی 71

ص: 111


1- . تفسير الرازي 15:197، تفسير روح البيان 3:372.
2- . في النسخة: إسماعيل، و كذا ما بعدها. (3 و 4) . تفسير الرازي 15:198. (5 و 6 و 7) . تفسير روح البيان 3:373.

ثمّ عاتبهم اللّه على أخذ الفداء بقوله: لَوْ لا كِتابٌ و حكم و قضاء مِنَ اَللّهِ سَبَقَ بحلّ الغنائم، أو بأن لا يعذّب من أذنب بجهالة، أو بأن يمهل طالبي الدّنيا حتّى يقوم بهم الاسلام لَمَسَّكُمْ و لأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء و بسببه عَذابٌ عَظِيمٌ.

ثمّ روي أنّ الصّحابة لمّا عوتبوا على أخذ الفداء أمسكوا عن الغنائم (1)، حتّى صرّح اللّه سبحانه بحلّها لهم بقوله: فَكُلُوا أيّها المؤمنون مِمّا غَنِمْتُمْ و استفدتم من أمتعة الكفّار و أموالهم في الحرب، حال كونه حَلالاً و مباحا لكم من اللّه و طَيِّباً و غير مكروه لطباعكم وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في مخالفة أحكامه إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لمن فرّط منكم في استباحة الفداء قبل إذنه رَحِيمٌ بكم بإحلاله الغنائم لكم، مع أنّها كانت محرّمة على الامم الذين من قبلكم.

عن ابن عبّاس: كانت الغنائم حراما على الأنبياء، فكانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للقربان، فكانت تنزل النّار من السّماء فتأكله، و للّه عنايات بهذه الامّة لا تحصى (2).

ثمّ أنّه روي أنّه اسر العبّاس بن عبد المطّلب يوم بدر، و كان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام من خرج من مكّة لحماية العير، و كان قد خرج بعشرين اوقيّة من ذهب ليطعم بها الكفّار، فوقع القتال قبل أن يطعم بها، و بقيت العشرون اوقيّة معه، فأخذت منه في الحرب، فكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أن يحتسب العشرين أوقيّة من فدائه، فأبى صلّى اللّه عليه و آله و قال: «إنّما هو شيء خرجت به لتستعين به علينا، فلا أتركه لك» . فكلّفه أن يفدي نفسه بمائة اوقيّة زائدا على فداء غيره لقطع الرّحم، و كلّفه أن يفتدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث، كلّ واحد بأربعين أوقيّة، فقال: يا محمّد، تتركني أتكفّف قريشا ما بقيت!

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «فأين [الذهب]الذي دفعته إلى امّ الفضل وقت خروجك من مكّة، و قلت لها: إنّي لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك و لعبد اللّه و الفضل و قثم؟» فقال العبّاس: و ما يدريك؟ قال: «أخبرني به ربّي» ، قال: أشهد أنّك صادق، و أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّك رسول اللّه، و اللّه لم يطّلع عليه أحد إلاّ اللّه، و لقد دفعته إليها في سواد اللّيل، و لقد كنت مرتابا في أمرك، و أمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب (3).

ص: 112


1- . تفسير الرازي 15:203.
2- . تفسير روح البيان 3:374.
3- . تفسير روح البيان 3:375.

فنزلت يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى كالعبّاس و غيره: إِنْ يَعْلَمِ اَللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً من الإيمان و الخلوص و النّصح للرّسول صلّى اللّه عليه و آله يُؤْتِكُمْ و يعطيكم في الدّنيا و في الآخرة، أو فيهما من الثّواب ما يكون خَيْراً و أفضل مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء و الغنيمة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم التي سلفت منكم وَ اَللّهُ غَفُورٌ لذنوب المذنبين رَحِيمٌ بعباده المؤمنين.

عن السجّاد عليه السّلام قال: «أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمال دراهم (1)فقال: يا عبّاس ابسط رداءك و خذ من هذا المال طرفا، فبسط رداءه و أخذ طائفة منه، ثمّ قال رسول اللّه: هذا من الذي قال اللّه: إِنْ يَعْلَمِ اَللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً. . . مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ» (2).

و روي أنّ العبّاس قال: فأبدلني اللّه خيرا ممّا اخذ منّي، لي الآن عشرون عبدا، و إنّ أدناهم ليضرب- أي يتّجر-في عشرين ألف درهم، و أعطاني سقاية زمزم، ما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال أهل مكّة، أنجز اللّه لي أحد الوعدين، و أنا أرجو أن ينجز لي الوعد الثّاني (3).

و روي أنّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضّأ لصلاة الظّهر و ما صلّى حتّى فرّقه، و أمر العبّاس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، و كان يقول: «هذا خير ممّا أخذ منّي، و أنا أرجو المغفرة» (4).

وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ بأن عزموا على الثّبات على الكفر، و عدم الوفاء بما ضمنوا من الفداء، أو بما عاهدتهم (5)عليه من عدم العود إلى محاربتك، و إلى معاهدة المشركين، فليس بدعا منهم فَقَدْ خانُوا اَللّهَ مِنْ قَبْلُ بما أقدموا عليه من محاربتك يوم بدر فَأَمْكَنَ اللّه المؤمنين مِنْهُمْ قتلا و أسرا. و فيه بشارة للرّسول صلّى اللّه عليه و آله بتمكينه من كلّ من يخونه و ينقض عهده. و عن القمّي رحمه اللّه: وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ في عليّ، فقد خانوا اللّه من قبل فيك (6)وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بضمائرهم من إبطان الخلوص و الصّدق، و الخيانة و الغدر حَكِيمٌ في فعاله، يراعي ما هو صلاح مملكته، و يجازيهم على حسب استحقاقهم.

و في رواية عاميّة: أنّ العبّاس كان قد أسلم قبل وقعة بدر، و لكن لم يظهر إسلامه، لأنّه كان له ديون متفرّقة في قريش، و كان يخشى إن أظهر الإسلام ضياعها، و إنّما كلّفه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفداء، لأنّه كان عليه ظاهرا لا له، و لمّا كان يوم فتح مكّة و قهرهم الإسلام أظهر إسلامه، و لم يظهر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إسلامه رفقا

ص: 113


1- . في النسخة: بمأتي درهم.
2- . قرب الإسناد:21/73، تفسير الصافي 2:315.
3- . تفسير روح البيان 3:376.
4- . تفسير الرازي 15:204.
5- . في النسخة: عاهدتم.
6- . تفسير القمي 1:269، تفسير الصافي 2:315.

به، كيلا يضيع ماله عند قريش، و كان قد استأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الهجرة، فكتب إليه: «يا عمّ أقم مكانك الذي أنت فيه، فإنّ اللّه يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» فكان كذلك (1).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 72

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قضيّة بدر و ثبات المؤمنين فيها، و بيان أحكام الجهاد و الغنيمة و الأسر، شرع في مدح المؤمنين و ذكر أقسامهم، بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و كتابه وَ هاجَرُوا أوطانهم و أهليهم للالتزام بخدمة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و القيام بطاعته وَ جاهَدُوا أعداء اللّه بِأَمْوالِهِمْ بأن صرفوها إلى المحتاجين و لوازم الجهاد وَ أَنْفُسِهِمْ بأن باشروا القتال، و خاضوا فى المهالك فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لنصرة دينه، و حبّا لرسوله وَ اَلَّذِينَ آوَوْا و أسكنوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المهاجرين في بلدهم و مأواهم وَ نَصَرُوا هم على أعدائهم، و عاونوهم على مقاصدهم أُولئِكَ المؤمنون بتلك الصّفات الفائقة بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ و وارث بَعْضٍ.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)القمّي: لمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة آخا بين المهاجرين و المهاجرين، و بين الأنصار و الأنصار، و بين المهاجرين و الأنصار، و كان إذا مات الرّجل يرثه أخوه في الدّين و يأخذ المال، و كان له ما ترك دون ورثته، فلمّا كان بعد بدر أنزل اللّه: اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2)فنسخت آية الاخوّة بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (3).

و في (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم كانوا يتوارثون بالمواخاة الاولى (4)، دون التّقارب، حتّى نسخ ذلك [بقوله]: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» (5).

و عن ابن عبّاس: المراد هو الولاية في الميراث، و قال: جعل اللّه تعالى سبب الإرث الهجرة و النّصرة دون القرابة، و كان القريب إذا آمن و لم يهاجر لم يرث، من أجل أنّه لم يهاجر و لم ينصر (6).

كما بيّن اللّه ذلك بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا كسائر المؤمنين ما لَكُمْ أيّها المؤمنون

ص: 114


1- . تفسير روح البيان 3:376.
2- . الأحزاب:33/6.
3- . تفسير القمي:1:280، تفسير الصافي 2:315.
4- . مجمع البيان 4:862، تفسير الصافي 2:316.
5- . تفسير الصافي 2:316.
6- . تفسير الرازي 15:209.

مِنْ وَلايَتِهِمْ في الميراث مِنْ شَيْءٍ و إن كانوا أقرب أقاربكم حَتّى يُهاجِرُوا.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم وجوب القطع منهم في جميع الجهات كالكفّار، دفعه اللّه سبحانه بقوله: وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ و استعانوا بكم (1)على من يعاديهم فِي اَلدِّينِ من الكفّار فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ لهم، و ليس لكم أن تخذلوهم إِلاّ إذا استنصروكم عَلى قَوْمٍ من الكفّار الذين بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و عهد على أن لا تقاتلوهم، فإنّه لا يجوز لكم نصر المؤمنين عليهم في هذه الصّورة؛ لأنّ حرمة نقض الميثاق مانعة منه وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الطّاعة و العصيان لأحكامه بَصِيرٌ و مطّلع فيجازيكم على ما صدر عنكم على حسب استحقاقكم.

و روي أنّ لمّا نزل قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا قام الزّبير و قال: فهل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا؟ فنزل وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ الآية (2).

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 73

ثمّ نهى اللّه المؤمنين عن موالاة الكفّار و معاونتهم بأيّ وجه، و إن كانوا أقرب الأقارب بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ليسوا أولياءكم لانقطاع العلاقة بينكم و بينهم بالإسلام، بل بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لاشتراكهم في السّنخيّة، و اتّفاقهم على الباطل و معاداة الرّسول و معارضته، فيجب عليكم التّباعد منهم و التّعاند معهم و إِلاّ تَفْعَلُوهُ بأن تخالطوهم و توالوهم تَكُنْ فِتْنَةٌ عظيمة فِي اَلْأَرْضِ و هي ضعف المؤمنين و قوّة الكفّار وَ فَسادٌ كَبِيرٌ من جهة رغبة المسلمين إلى الكفّار، و رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر بسبب المخالطة و الموادّة.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73)

سوره 8 (الأنفال): آیه شماره 74 الی 75

ثمّ مدح اللّه سبحانه المؤمنين من المهاجرين و الأنصار بقوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا الكفّار بأموالهم و أنفسهم فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا هم على الكفّار أُولئِكَ هُمُ

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

ص: 115


1- . في النسخة: عنكم.
2- . تفسير الرازي 15:211.

اَلْمُؤْمِنُونَ إيمانا حَقًّا و صدقا و خالصا لقيامهم بلوازمه، و عملهم بمقتضاه لَهُمْ بسبب الإيمان الخالص، و العمل الصّالح مَغْفِرَةٌ و ستر لذنوبهم السّابقة وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ واسع كثير بلا منّ و لا تعب في الآخرة وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ -عن ابن عبّاس: بعد الحديبية، و قيل: بعد بدر، و قيل: بعد نزول الآية (1)-و لحقوا بالسّابقين من المؤمنين في اعتقاد التّوحيد، و تبعيّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و طاعة أوامره وَ هاجَرُوا من أوطانهم إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ جاهَدُوا أعداءه مَعَكُمْ و في جماعتكم فَأُولئِكَ يعدّون مِنْكُمْ و يحسبون من زمرتكم، و يكون لهم ما لكم.

ثمّ نسخ سبحانه حكم التّوارث بالهجرة و النّصرة بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ و ذوو القرابات النسبيّة من المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلى و أحقّ في الإرث بِبَعْضٍ الأقرب إليهم فِي كِتابِ اَللّهِ و حكمه المنزل في القرآن، أو المكتوب في اللّوح المحفوظ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء، و مصلحة من المصالح عَلِيمٌ بذاته، و مطّلع بإحاطته.

عن الصادق عليه السّلام: «كان عليّ عليه السّلام إذا مات مولى له و ترك قرابة، لم يأخذ من ميراثه شيئا، و يقول: أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» (2).

القمّي، قال: هذه الآية نسخت: [قوله]: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (3).

أقول: نسخت إطلاقه.

عن الصادق عليه السّلام: «لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن و الحسين عليهما السّلام أبدا، إنّما جرت من علي بن الحسين عليهما السّلام كما قال اللّه: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ، فلا تكون بعد علي بن الحسين عليهما السّلام إلاّ في الأعقاب بعد الأعقاب» (4).

أقول: لعلّ المراد أنّ قضاء اللّه في نصب الأئمّة طابق حكمه في الميراث؛ لأنّ الإمامة داخلة في حكم الإرث.

نقل الفخر الرّازي أن محمّد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب تمسّك بهذه الآية في كتابه إلى [أبي]جعفر المنصور على أنّ الإمام بعد رسول اللّه هو علي بن أبي طالب عليه السّلام، فقال: قوله تعالى وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ يدلّ على ثبوت الأولويّة (5)،

ص: 116


1- . تفسير الرازي 15:213.
2- . الكافي 7:135/5، تفسير الصافي 2:317، و الآية من سورة الأحزاب:33/6.
3- . تفسير القمي 1:281، تفسير الصافي 2:317، و الآية من سورة النساء:4/33.
4- . الكافي 1:225/1، تفسير الصافي 2:317، و فيهما: إلاّ في الأعقاب و أعقاب الأعقاب.
5- . في المصدر: الولاية.

و ليس في الآية شيء معيّن في ثبوت هذه الأولويّة، فوجب حمله على الكلّ إلاّ ما خصّه الدّليل، و حينئذ يندرج فيه الإمامة، و لا يجوز أن يقال أنّ أبا بكر كان من اولي الأرحام، لما نقل أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاه سورة براءة ليبلّغها إلى القوم، ثم بعث عليّا خلفه، و أمر بأن يكون المبلّغ هو عليّ عليه السّلام و قال: «لا يؤدّيها إلاّ رجل منّي» و ذلك يدلّ على أنّ أبا بكر ما كان منه.

ثم أجاب الفخر عنه: بأنّه إن صحّت هذه الدّلالة، كان العبّاس أولى بالإمامة؛ لأنّه كان أقرب إلى رسول اللّه [من عليّ]. ثمّ قال: و بهذا الوجه أجاب المنصور عنه (1).

أقول: بالوجه الذي استدلّ محمّد بن عبد اللّه على أنّ أبا بكر ما كان منه، له الاستدلال على أنّ العباس ما كان منه، و إلاّ لبعث العبّاس ليكون هو المبلّغ لبراءة، على أنّ آية وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ تثبت الإمامة للرّحم إذا كان واجدا لشرائط الإمامة من العلم و العصمة و غيرهما، فإذا فرض أنّ عليّا عليه السّلام و أبا بكر كانا واجدين للشّرائط كان عليّ عليه السّلام أولى بالآية، كما أنّ شرط الإرث الإسلام، و عدم كون الوارث قاتلا، مع أنّ الآية تنفي الإمامة عن أبي بكر و تثبته في أرحام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيدور أمرها بين علي عليه السّلام و العبّاس، فإذا قارنها الإجماع على أنّ العبّاس لم يكن إماما، دلّت الآية على إمامة عليّ عليه السّلام، و على أي تقدير أبطلت الآية إمامة أبي بكر، و تجعلها في أرحام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إذا بطلت إمامة أبي بكر كان عليّ عليه السّلام إماما بالإجماع المركّب، على أنّه ثبت بالنصّ و الإجماع عند أصحابنا أنّ ابن العمّ الأبويني أولى في الميراث من العمّ الأبي (2).

الحمد للّه المتعال على التّوفيق لإتمام تفسير سورة الأنفال، نسأله أن يجعله ذخرا ليوم لا بيع فيه و لا خلال.

ص: 117


1- . تفسير الرازي 15:213.
2- . يريد أن العباس أخو عبد اللّه (والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) لأبيه فقط، بينما أبو طالب (والد علي عليه السّلام) أخو عبد اللّه لامّه و لأبيه.

ص: 118

في تفسير سورة براءة

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة الأنفال اردفت بسورة البراءة لكونهما في الجهاد، و ما روي عن الصادق عليه السّلام و سعيد بن المسيّب من أنّهما واحد (1)، محمول على وحدتهما مطلبا، لوضوح كونهما سورتين.

بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (1)و قيل: إنّ في الأنفال ذكر العهود، و في البراءة نبذها، فوضعت بجنب الأنفال (2).

و قيل: إنّه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا، و أن يكونوا منقطعين عن الكفّار (3)، و في البراءة التّصريح به.

و من أسمائها سورة التوبة؛ لذكر توبة المهاجرين و الأنصار، و الثّلاثة الذين خلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و عن حذيفة: إنّكم تسمّونها سورة التوبة، و اللّه ما تركت أحدا إلاّ نالت منه (2).

و منها الفاضحة؛ عن ابن عبّاس قال: إنّها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم و تنال منهم حتّى حسبنا (3)أن لا تدع أحدا (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم تنزل بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ على [رأس]سورة براءة؛ لأنّ بِسْمِ اَللّهِ للأمان و الرّحمة، و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف» (5).

و عن ابن عبّاس قال: سألت عليّا رضى اللّه عنه لم لم يكتب بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ بين الأنفال و البراءة؟ قال: «لأنّ بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ أمان، و هذه السّورة نزلت بالسّيف و نبذ العهود، و ليس فيها أمان» (6).

و حاصل الرّوايتين عدم المناسبة بين الرّحمة التي تدلّ عليها البسملة، و الإعلان بالحرب و نبذ العهود اللّذين يدلّ عليها الإعلان بالبراءة بقوله: بَراءَةٌ و قطيعة عظيمة، و نبذة عهد كائنة مِنَ قبل اَللّهِ وَ رَسُولِهِ مرسلة أو موصولة إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ من أهل مكّة،

ص: 119


1- . مجمع البيان 5:4. (2 و 3) . تفسير الرازي 15:216.
2- . تفسير الرازي 15:215.
3- . في تفسير الرازي: خشينا.
4- . تفسير الرازي 15:215.
5- . مجمع البيان 5:4، تفسير الصافي 2:318.
6- . تفسير الرازي 15:216.

لظهور الخيانة منهم.

قيل: إنّ المسلمين كانوا عاهدوا المشركين من أهل مكّة و غيرهم بإذن اللّه و أمر الرّسول، فنكثوا إلاّ بني ضمرة و بني كنانة، فأمر اللّه المسلمين بنبذ العهد إلى الناكثين.

و قيل: إنّ عهدهم كان مشروطا بعدم أمر اللّه بقطعه.

و قيل: إنّه قد انقضت مدّة عهدهم، و إنّما أعلن اللّه بعدم إعادة العهد معهم، و أنّ الرّسول مأمور بمحاربتهم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 2

ثمّ أخبرهم اللّه بإمهالهم في القتال أربعة أشهر بقوله: فَسِيحُوا و سيروا أيّها المشركون فِي اَلْأَرْضِ آمنين من القتل و الغارة أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ غير خائفين فيها من قتال و اغتيال، و أمّا بعد انقضاء المدّة فليس إلاّ الإسلام أو السّيف وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ بسياحتكم في أقطار الأرض غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ و غير فائتين منه بالهرب و التّحصين وَ أَنَّ اَللّهَ مُخْزِي اَلْكافِرِينَ و مذلّهم في الدّنيا بالقتل و الأسر، و في الآخرة بعذاب أليم.

فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ وَ أَنَّ اَللّهَ مُخْزِي اَلْكافِرِينَ (1)قيل: نزلت في أوّل شوال، و كانت (2)الأشهر: شوال و ذو القعدة و ذو الحجّة و محرّم، و كان الإمهال صيانة للأشهر الحرم (2).

و قيل: كان أوّلها عاشر ذي الحجّة، و آخرها عاشر ربيع الآخر؛ لأنّ التّبليغ كان في يوم النّحر (3).

روى الفخر الرّازي: أن فتح مكّة كان سنة ثمان، و كان الأمير فيها عتّاب بن أسيد، و نزول هذه السّورة سنة تسع، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر سنة تسع بأن يكون على الموسم، فلمّا نزلت هذه السّورة أمر عليّا أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم، فقيل له: لو بعثت [بها]إلى أبي بكر؟ فقال: «لا يؤدّي عنّي إلاّ رجل منّي» .

فلمّا دنا على سمع أبو بكر الرّغاء، فوقف و قال: هذا رغاء ناقة رسول اللّه، فلمّا لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور، ثمّ ساروا، فلمّا كان قبل التّروية خطب أبو بكر و حدّثهم عن مناسكهم، و قام عليّ يوم النّحر عند جمرة العقبة فقال: «يا أيّها النّاس، إنّي رسول رسول اللّه إليكم» فقالوا: بماذا؟ فقرا

ص: 120


1- . تفسير الرازي 15:219.
2- . في النسخة: و كان.
3- . تفسير الرازي 15:220، تفسير روح البيان 3:383.

عليهم ثلاثين أو أربعين آية-و عن مجاهد: ثلاث عشرة آية-ثم قال: «امرت بأربع: أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك، و لا يطوف بالبيت عريان، و لا يدخل الجنّة إلاّ كلّ نفس مؤمنة، و أن يتمّ إلى كلّ ذي عهد عهده» .

فقالوا عند ذلك: يا عليّ، أبلغ ابن عمّك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، و أنّه ليس بيننا و بينه عهد إلاّ طعن بالرّماح و ضرب بالسّيوف (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة تبوك، في سنة تسع من الهجرة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين من الحجّ في تلك السّنة، و كان سنّة العرب في الحجّ أنّه من دخل مكّة و طاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها، و كانوا يتصدّقون بها، و لا يلبسونها بعد الطّواف، فكان من وافى مكّة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثمّ يردّه، و من لم يجد عارية اكترى ثيابا، و من لم يجد عارية و لا كراء و لم يكن له إلاّ ثوب واحد طاف بالبيت عريانا، فجاءت امرأة من العرب و سيمة جميلة فطلبت عارية أو كراء فلم تجده، فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت إلى أن تتصدّقي بها، فقالت: و كيف أتصدّق بها و ليس لي غيرها! فطافت بالبيت عريانة، و أشرف عليها النّاس، فوضعت إحدى يديها على قبلها و الاخرى على دبرها، و قالت:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه *** فما بدا منه فلا احلّه

فلمّا فرغت من الطّواف خطبها جماعة، فقالت: إنّ لي زوجا.

و كانت سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله، و لا يحارب إلاّ من حاربه و أراده، و قد كان نزل عليه في ذلك من اللّه عزّ و جلّ: فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (2)، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه و اعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة، و أمر بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله إلاّ الذين قد عاهدهم يوم فتح مكّة إلى مدّة؛ منهم صفوان بن اميّة، و سهيل بن عمرو، فقال اللّه عزّ و جلّ: بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثمّ يقتلون حيثما وجدوا.

فهذه أشهر السّياحة: عشرون من ذي الحجّة، و المحرّم، و صفر، و شهر ربيع الأوّل، و عشر من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من أول براءة، دفعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر و أمره بأن يخرج إلى مكّة و يقرأها على النّاس بمنى يوم النّحر، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا

ص: 121


1- . تفسير الرازي 15:218.
2- . النساء:4/90.

محمد، لا يؤدّي عنك إلاّ رجل منك. فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام في طلبه، فلحقه بالرّوحاء و أخذ منه الآيات، فرجع أبو بكر إلى رسول اللّه فقال: يا رسول [اللّه]، أنزل فيّ شيء؟ قال: إنّ اللّه أمرني أن لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي» (1).

و عنه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على النّاس، فنزل جبرئيل عليه السّلام فقال: لا يبلّغ عنك إلاّ عليّ، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام فأمره أن يركب ناقته العضباء، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة و يقرأها على النّاس بمكّة، فقال أبو بكر: أسخطة؟ فقال: لا، إلاّ أنّه انزل عليه أنّه لا يبلّغ إلاّ رجل منك، فلمّا قدم عليّ مكّة، و كان يوم النّحر بعد الظّهر؛ و هو يوم الحجّ الأكبر، قام ثمّ قال: إنّي رسول رسول اللّه إليكم، فقرأها عليهم بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ عشرين من ذي الحجّة، و المحرّم، و صفر، و ربيع الأول، و عشرا من ربيع الآخر، قال: لا يطوف بالبيت عريان و لا عريانة و لا مشرك إلاّ من كان له عهد عند رسول اللّه، فمدّته إلى هذه الأربعة أشهر» (2).

و في رواية محمّد بن مسلم: «قال أبو بكر: يا عليّ، هل نزل فيّ شيء منذ فارقت رسول اللّه؟ قال: لا، و لكن أبى اللّه أن يبلّغ عن محمّد إلاّ رجل منه. فوافى الموسم، فبلّغ عن اللّه و عن رسوله بعرفة و المزدلفة، و يوم النّحر عند الجمار، و في أيّام التّشريق كلّها ينادي بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ الآية، و يقول: لا يطوفنّ بالبيت عريان» (3).

و في (المجمع) : روى أصحابنا «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ولاّه أيضا الموسم، و أنّه حين أخذ براءة من أبي بكر رجع أبو بكر» (4).

ثمّ اعلم أنّ الظاهر ممّا رواه العامّة، فضلا عمّا رواه الخاصّة، أنّ وجه تخصيص أمير المؤمنين عليه السّلام بتبليغ براءة و قراءتها على النّاس، أنّه مرتبة من الرّسالة من اللّه، لأنّ نقض عهد المشركين كان من اللّه لا من الرّسول نفسه، و لا ينافي ذلك قوله عليه السّلام: إنّي رسول رسول اللّه.

و من المعلوم أنّ إنذار الكفّار بالخزي، و تبشيرهم بعذاب أليم، كان وظيفة الرّسول، أو وظيفة من هو قائم مقامه و منزلته منه منزلة هارون من موسى، و لذا لم يقل جبرئيل عليه السّلام: «أو رجل من أقاربك» كما لم يقل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل قال جبرئيل عليه السّلام: «أو رجل منك» و قال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: «أو رجل منّي»

ص: 122


1- . تفسير القمي 1:281، تفسير الصافي 2:319.
2- . تفسير العياشي 2:213/1771، تفسير الصافي 2:320.
3- . تفسير العياشي 2:214/1772، تفسير الصافي 2:320.
4- . مجمع البيان 5:6، تفسير الصافي 2:321.

كما قال: «عليّ منّي و أنا منه» .

و كفى هذا في فضيلة عليّ و إثبات خلافته للرّسول، و عدم قابلية أبي بكر لها، خصوصا على ما في روايات أصحابنا من أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعطى أبا بكر الآيات أوّلا، ثمّ بعث عليّا وراءه بأمر اللّه، و أمره بأخذها منه. فإنّ الدّلالة التي ذكرنا فيه أوضح، و الإعلان أظهر.

قال الفخر الرّازي بعد نقل الرواية السابقة: اختلفوا في السّبب الذي لأجله أمر عليّا عليه السّلام بقراءة هذه السورة عليهم، و تبليغ هذه الرسالة إليهم، فقالوا: السبب فيه أنّ عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد و نقضه إلاّ رجل من الأقارب، فلو تولاّه أبو بكر لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهد، فربّما لم يقبلوا فازيحت علّتهم بتولية ذلك عليّا (1).

و قيل: لمّا خصّ أبا بكر بتولية إمارة الموسم، خصّ عليّا بهذا التبليغ تطييبا للقلوب و رعاية للجوانب (2).

و قيل: قرّر أبا بكر على الموسم، و بعث خلفه عليا لتبليغ هذه الرّسالة، حتّى يصلّي عليّ خلف أبي بكر، و يكون ذلك جاريا مجرى التّنبيه على إمامة أبي بكر (1).

أقول: في الوجوه الملفّقة ما لا يخفى من الوهن:

أمّا الأول: ففيه أنّ إلغاء العهد لم يكن من الرسول صلّى اللّه عليه و آله، بل كان من اللّه، و على ما ذكروه كان اللاّزم أن يكون مبلّغه هو اللّه أو رسوله أو من هو بمنزلة نفس الرسول و هو علي عليه السّلام لآية أَنْفُسَنا (2)، مع أنّه لو كان عادة العرب أن لا يتولّى نقض العهد إلاّ أقارب المعاهد، لم يقل أصحابه المطّلعون على تلك العادة: لو بعثت إلى أبي بكر، مضافا إلى احتمال انقضاء مدّة عهد المسلمين، و كان المقصود من البراءة المنع من العود إلى العهد و تجديده، فلم يكن نقض عهد حتّى يحتاج إلى أن يكون مبلّغه الأقارب.

و امّا الوجه الثاني: ففيه أنّه صلّى اللّه عليه و آله أراد تطييب قلب علي عليه السّلام أو قلب غيره؟ فإن قلتم إنّه أراد تطييب قلب عليّ عليه السّلام، فمن المعلوم عنده صلّى اللّه عليه و آله و عند أصحابه أنّ قلب عليّ عليه السّلام كان طيّبا بما كان يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكن يخطر في قلبه خطور سوء بفعله صلّى اللّه عليه و آله، و لو أهانه عند الأصحاب غاية التّوهين فإنّه لا يرى نفسه (3)في مقابل مرضاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و إن أرادوا تطييب قلب غير عليّ عليه السّلام، فمن المعلوم أنّ بعث عليّ عليه السّلام بسورة براءة كان أثقل على قلوب كثير من الصّحابة من تنصيب أبي بكر

ص: 123


1- . تفسير الرازي 15:219.
2- . آل عمران:3/61.
3- . كذا.

أميرا على الموسم.

و أمّا الوجه الثّالث: فإنّ القول بصلاة عليّ عليه السّلام خلف أبي بكر تخرّص بالغيب، و على فرض التّسليم لا تنبيه فيه على إمامة أبي بكر، و إلاّ لكان في إمارة اسامة على الجيش الذي فيه أبو بكر و عمر و سائر أعيان الصّحابة سوى عليّ عليه السّلام، تنبيه على إمامة أسامة بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بأنّ أكثر أصحابه و امّته لا يعتنون بالنّصوص الجليّة الصّريحة على الإمامة، فكيف يعتمدون بالتّنبيهات و الإشعارات (1).

فتبيّن أنّ الوجوه الثّلاثة لم تخرج إلاّ من القلوب المشحونة بالعصبيّة و بغض عليّ عليه السّلام و حبّ أبي بكر، حشرهم اللّه معه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد التبرّي عن المشركين المعاهدين، أعلن بالبراءة من جميع المشركين بقوله: وَ أَذانٌ و إعلان عام كائن مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ مرسل إِلَى جميع اَلنّاسِ من المسلمين و المشركين و غيرهم من الكفّار يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ -عن ابن عبّاس: هو يوم عرفة (2)، و قيل: يوم النّحر (3)، و قيل: جميع أيام منى (2)- أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ و منقطعة عصمته و علقة ولايته منهم وَ كذا رَسُولِهِ فلا عصمة بينه و بينهم و لا عهد، و ليس لهم إلاّ الإسلام أو السّيف، فإذا كان كذلك فَإِنْ تُبْتُمْ أيّها المشركون إلى اللّه، و دخلتم في حصن الإسلام فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة من البقاء على الكفر، و الإصرار على الغدر وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عن التّوبة و قبول دين الاسلام فَاعْلَمُوا و أيقنوا أَنَّكُمْ بسياحتكم في الأرض مدّة قليلة، و تدبيركم و إعدادكم للحرب غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ و غير فائتين منه هربا، و غير غالبين عليه قدرة و حربا وَ بَشِّرِ يا محمّد اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على الشّرك و الغدر، و قل لهم تهكّما: أبشروا بِعَذابٍ أَلِيمٍ من القتل و الأسر و الخزي في الدّنيا، و من الدّخول في النّار في الآخرة.

وَ أَذانٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّهِ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)عن العيّاشي: عن السجّاد: «الأذان أمير المؤمنين عليه السّلام» (3).

ص: 124


1- . كذا، و الظاهر: الاشارات. (2 و 3) . تفسير الرازي 15:221.
2- . تفسير الرازي 15:221.
3- . تفسير العياشي 2:217/1781، تفسير الصافي 2:321.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية: «كنت أنا الأذان في النّاس» (1).

و هذا التأويل مرويّ عن الصادق عليه السّلام أيضا و فيه: فقيل له: فما معنى هذه اللّفظة اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ؟ فقال: «إنّما سمّى الحجّ الأكبر لأنّها كانت سنة حجّ فيها المسلمون و المشركون، و لم يحجّ المشركون بعد تلك السّنة» (2).

و عنه أيضا: اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ: الوقوف [بعرفة] (3)و رمي الجمار، و الأصغر: العمرة (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 4

ثمّ أنّه تعالى بعد الإعلان بالبراءة عن كلّ المشركين الذي لازمه إلغاء عهد جميعهم، استثنى عهد غير النّاكثين بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ، و قيل: إنّ الاستثناء منقطع و المعنى: لا تمهلوا النّاكثين فوق أربعة أشهر، و لكنّ الذين عاهدتموهم ثُمَّ بعد العهد لَمْ يَنْقُصُوكُمْ من شرائط العهد الذي يكون بينكم شَيْئاً و لم ينكثوه وَ لَمْ يُظاهِرُوا و لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا أيّها المسلمون و أدّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ كاملا إِلى تمام مُدَّتِهِمْ و لا تجعلوا الوافين كالنّاكثين و الغادرين إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ و المتحرّزين عن مخالفة أمره و تضييع الحقوق.

إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (4)عن ابن عبّاس قال: بقي لحيّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر (5).

روي أنّه عدت بنو بكر على خزاعة في حال غيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ظاهرتهم قريش بالسّلاح، حتّى و فد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأنشده:

لا همّ إنّي ناشد محمّدا *** حلف أبينا و أبيك ألا تلدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا *** و نقضوا ذمامك المؤكّدا

هم بيّتونا بالحطيم هجّدا *** و قتلونا ركّعا و سجّدا

فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا نصرت إن لم أنصركم (6).

ص: 125


1- . تفسير القمي 1:282، تفسير الصافي 2:321.
2- . معاني الأخبار:296/5، علل الشرائع:442/1، تفسير الصافي 2:321.
3- . في تفسير العياشي: الوقوف بعرفة و بجمع.
4- . تفسير العياشي 2:218/1785، تفسير الصافي 2:321.
5- . تفسير الرازي 15:224.
6- . تفسير الرازي 15:224.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 5

ثمّ أمر اللّه المسلمين بالتّشديد على النّاكثين بقوله: فَإِذَا اِنْسَلَخَ و انقضى اَلْأَشْهُرُ التي هي اَلْحُرُمُ لحرمة القتال فيها إمهالا فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ بأيّ نحو أمكنكم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ و في أيّ مكان لقيتموهم من الحلّ و الحرم، و في أي حال أدركتموهم وَ خُذُوهُمْ و أسروهم وَ اُحْصُرُوهُمْ في المضائق، و اجسوهم في المحابس. و قيل: يعني امنعوهم من البيت الحرام وَ اُقْعُدُوا منتظرين لَهُمْ القتل و الأخذ كُلَّ مَرْصَدٍ و طريق تترقّبون عبورهم فيه إلى البيت أو التّجارة، و سدّوا سبيلهم فَإِنْ تابُوا من الشّرك بالدّخول في الإسلام وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ المفروضة وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ الواجبة التي هي من أعظم شعائر الاسلام فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إلى البيت و الذّهاب إلى مهمّاتهم، و لا تتعرّضوا لهم بوجه أبدا إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لهم ما سلف من ذنوبهم بعد التّوبة و الايمان رَحِيمٌ بهم إذا صدّقوا إيمانهم بالأعمال الصّالحات.

فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 6

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ التّشديد على الكفّار إنّما هو لتماميّة الحجّة عليهم، و أمّا من كان في طلب الحقّ و تحقيق صحّة دين الاسلام، فلا يجوز التعرّض له، بقوله: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ الذين امرت بالتّشديد عليهم اِسْتَجارَكَ و استأمنك، و طلب الجوار منك و الأمان، لسماع القرآن و تحقيق الحقّ فَأَجِرْهُ و آمنه حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللّهِ الذي يتمّ بسماعه الحجّة على كلّ أحد لوضوح إعجازه ثُمَّ بعد استماعه القرآن أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ من منزله أو قبيلته إن لم يؤمن، و يكون ذلِكَ الحكم بوجوب تأمينه و إيصاله إلى مأمنه معلّلا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ الكتاب و الدّين و حقيقته، فلا بدّ من تأمينهم و إمهالهم حتّى يفهموا الحقّ، و ينقطع عنهم العذر.

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)عن ابن عبّاس قال: إنّ رجلا من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: إن أردنا أن نأتي رسول اللّه بعد انقضاء الأجل لسماع كلام اللّه، أو لحاجة اخرى، فهل نقتل؟ فقال عليّ عليه السّلام: «لا، إنّ اللّه تعالى قال: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ إلى آخره» (1).

ص: 126


1- . تفسير الرازي 15:226.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 7

ثمّ أنكر سبحانه حسن مراعاة العهد في حقّ النّاكثين بقوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ واجب الرّعاية و الوفاء عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ لهؤلاء المشركين مع إضمارهم الغدر و النّكث إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ -قيل: يعني: و لكن يجب مراعاة العهد للذين عاهدتموهم-و أكّدتموه بإيقاعه عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و في قرب منه، و هم بنو ضمرة و بنو كنانة، فإنّهم لم ينقضوا عهدهم، و لم يضمروا الغدر فيه فَمَا اِسْتَقامُوا لَكُمْ و وفوا بعهدهم فَاسْتَقِيمُوا و اثبتوا على الوفاء لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ و المحترزين عن نقض العهد.

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ فَمَا اِسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (7)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 8

ثمّ أكد سبحانه إنكار حسن الوفاء بعهد الناكثين بقوله: كَيْفَ يحسن رعاية عهد المشركين وَ الحال أنّهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ و يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا و لا يراعوا فِيكُمْ أبدا إِلاًّ و حلفا أو قرابة وَ لا ذِمَّةً و عهدا.

كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)و من الواضح أنّ وجوب مراعاة العهد على كلّ من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر، و هم لا يراعون بل يخادعون، و يغدرونكم بأنّهم يُرْضُونَكُمْ عن أنفسهم بإظهار الوفاء و الصّفاء، و وعد الايمان و الطّاعة، و اعلموا أنّ كلّ ذلك يكون بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم وَ تَأْبى و تمتنع قُلُوبُهُمْ ممّا يقولون لكم و يتفوّهون به عندكم وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ و خارجون عن حدود العقل، و متمرّدون عن طاعة أحكام الشّرع، ليست لهم عقيدة مانعة و لا مروءة رادعة.

قيل: في تخصيص الأكثر بالحكم بالفسق إشعار بوجود من يتعفّف عن فعل ما يجرّ إليه المثالب و المعائب في المشركين.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 9

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم بقوله: اِشْتَرَوْا هؤلاء النّاكثون بِآياتِ اَللّهِ الدالّة على التّوحيد و وجوب الوفاء بالعهود، و أعرضوا عنها، و أخذوا بدلا منها ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً و يسيرا من حطام الدّنيا و شهواتها الفانية فَصَدُّوا و عدلوا عَنْ سَبِيلِهِ أو صرفوا النّاس عنها إِنَّهُمْ ساءَ

ص: 127

ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الاستبدال و الصدّ.

اِشْتَرَوْا بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)روي أنّ أبا سفيان بن حرب جمع الأعراب و أطعمهم ليصدّهم بذلك عن متابعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ليحملهم على نقض العهد الذي كان بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنقضوه بسبب تلك الأكلة (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 10 الی 12

ثمّ ذمهم سبحانه بعدم رعاية أحد من المؤمنين بقوله: لا يَرْقُبُونَ و لا يرعون فِي حقّ مُؤْمِنٍ كائنا من كان إِلاًّ و حلفا أو قرابة وَ لا ذِمَّةً و عهدا أو حقّا وَ أُولئِكَ المذمومون هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ و المتجاوزون عن حدود العقل و الدّين، فبلغوا غاية الشّرارة و الظّلم.

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)ثمّ أنّه تعالى بعد الإبلاغ في ذمّ المشركين بنكث العهد و الغدر و الصدّ و الظّلم، أعلن بسعة رحمته بقوله: فَإِنْ تابُوا -مع هذه الذّمائم-عن الشّرك و الأعمال السيّئة، و حقّقوا إيمانهم بالالتزام بلوازمه وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ التي هي أهمّ شعائره وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ التي هي أعظم آثاره فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ هؤلاء التائبون، فارضوا لهم ما ترضون لأنفسكم، كما تكونون كذلك في حقّ إخوانكم في النّسب، كذلك التّفصيل وَ الشّرح البليغ نُفَصِّلُ و نشرح اَلْآياتِ و الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يفهمون الحكم و المصالح، فإنّهم يدركون حسن تلك الأحكام، و يلتزمون بها. و فيه غاية الحثّ على محافظتها (2).

عن ابن عبّاس قال: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة (3).

وَ إِنْ نَكَثُوا و نقضوا أَيْمانَهُمْ و أحلافهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ المؤكّد بها، و تجاهروا بالشرّ و الفساد وَ طَعَنُوا و قدحوا فِي دِينِكُمْ الحقّ، و عابوه عنادا له فَقاتِلُوا هم إذن، لكونهم أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ و رؤساء الضّلال، و لا تمهلوهم إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ في الحقيقة، و إلاّ لما نكثوها، أو المراد: لا أمان لهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ و يرتدعون عن الكفر و أعمالهم الشّنيعة.

عن القمّي رحمه اللّه: نزلت هذه الآية في أصحاب الجمل، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الجمل ما قاتلت

ص: 128


1- . تفسير روح البيان 3:392.
2- . كذا، و الظاهر: المحافظة عليها.
3- . تفسير الرازي 15:233.

هذه الفئة النّاكثة إلاّ بآية من كتاب اللّه، يقول اللّه: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «دخل عليّ اناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزّبير، فقلت لهم: كانا أئمّة الكفر، إنّ عليا عليه السّلام يوم البصرة لمّا صفّ الخيول قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فيما بيني و بين اللّه و بينهم. فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة، هل تجدون عليّ جورا في حكم؟ قالوا: لا، قال: فحيفا في قسمة؟ قالوا: لا، قال: فرغبة في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم، فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال: فأقمت فيكم الحدود و عطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا، قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث؟ إنّي ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلاّ الكفر أو السيف. ثمّ ثنى إلى أصحابه فقال: إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية، ثمّ قال: و الذي فلق الحبّة، و برأ النّسمه، و اصطفى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالنبوّة، إنّهم لأصحاب هذه الآية، و ما قوتلوا منذ نزلت» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «عذرني اللّه من طلحة و الزّبير، إنّهما بايعاني طائعين غير مكرهين، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته، و اللّه ما قوتل [أهل]هذه الآية منذ نزلت حتّى قاتلتهم وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «من طعن في دينكم هذا فقد كفر، قال اللّه: وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ» الخبر (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 13

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على قتال المشركين النّاكثين، بإنكاره التّقاعد عنه على المؤمنين، و بيان استحقاقهم القتل بقوله: أَ لا تُقاتِلُونَ أيّها المؤمنون قَوْماً نَكَثُوا و نقضوا أَيْمانَهُمْ و عهودهم المؤكّده بها مع الرّسول و المؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم أعداءهم في الحديبية-على ما قيل- وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ اَلرَّسُولِ من مكّة حين تشاورهم في دار النّدوة، و قيل: من المدينة لمّا أقدموا عليه من المشورة و الاجتماع على قتله (5)وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ بالقتال و القتل أَوَّلَ مَرَّةٍ في بدر، إذن فما يمنعكم عن قتالهم أَ تَخْشَوْنَهُمْ من أن يغلبوا عليكم (6)، أو ينالوكم بمكروه فَاللّهُ القادر الغالب

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

ص: 129


1- . تفسير القمي 1:283، تفسير الصافي 2:324.
2- . قرب الإسناد:96/327، تفسير العياشي 2:219/1790، تفسير الصافي 2:324.
3- . تفسير العياشي 2:221/1795، تفسير الصافي 2:325.
4- . تفسير العياشي 2:220/1793، تفسير الصافي 2:324.
5- . تفسير الرازي 15:235.
6- . كذا و الظاهر: يغلبوكم.

المدرك أَحَقُّ و أولى من غيره أَنْ تَخْشَوْهُ و تخافوه في مخالفة أمره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بوحدانيّته، و كمال قدرته، و شدّة عقابه على من خالفه و عصاه. و من المعلوم أنّ لازم هذا الإيمان أن لا يخشى إلاّ منه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أكّد سبحانه وجوب قتالهم بقوله: قاتِلُوهُمْ أيّها المؤمنون يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ بالقتل و الأسر بِأَيْدِيكُمْ و سيوفكم وَ يُخْزِهِمْ و يذلّهم وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ جميعا وَ يَشْفِ من ألم الحقد و انتظار الفتح صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قيل: هم خزاعة، و عن ابن عبّاس: [هم]بطن من اليمن و سبأ، قدموا مكّة [فأسلموا]

فلقوا من أهلها أذى كثيرا، فبعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يشكون إليه، فقال: «أبشروا، فإنّ الفرج قريب» (1)وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ و يسكّن غضبهم.

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)عن العيّاشي: عن أبي الأغرّ التميمي (2)قال: كنت واقفا يوم صفّين، إذ نظرت إلى العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و هو شاك في السّلاح، إذ هتف به هاتف من أهل الشام يقال له عرار بن أدهم: يا عبّاس هلمّ إلى البراز، ثمّ تكافحا بسيفهما مليّا لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته، إلى أن حطّ العبّاس درع الشامي فأهوى إليه بالسّيف فانتظم به جوانح الشامي، فخرّ الشامي صريعا و كبّر الناس تكبيرة ارتجّت لها الأرض، فسمعت قائلا يقول: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ بِأَيْدِيكُمْ الآية. فالتفتّ فإذا هو أمير المؤمنين عليه السّلام (3).

ثمّ أخبر اللّه بإسلام بعضهم بقوله: وَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ إسلامه و توبته من السيّئات من هؤلاء المشركين وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوال خلقه و عواقب أمورهم حَكِيمٌ في فعاله، يراعي مصالح عباده.

و في الأخبار المذكور دلالة واضحة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لوقوع ما أخبر به، فإنّه أسلم بعد الآية عكرمة بن أبي جهل، و سهيل بن عمرو، و جمع آخر من المشركين.

ص: 130


1- . تفسير روح البيان 3:395.
2- . في النسخة: أبي الأعز اليمني.
3- . تفسير العياشي 2:221/1797، تفسير الصافي 2:325. و رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار 1:179، و ابن أبي الحديد في شرح النهج 5:219.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 16

ثمّ أنكر سبحانه على المؤمنين حسبان عدم افتتانهم بالجهاد و ترك رعاية القرابة و الصّداقه ترغيبا لهم فيه بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ و هل توهّمتم أَنْ تُتْرَكُوا على الحالة التي أنتم فيها من الاختلاط وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ و لم يميّز اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ممّن لا يجاهد وَ لم يميّز الذين لَمْ يَتَّخِذُوا و لم يختاروا لأنفسهم مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً و بطانة و صاحب سرّ من غيره وَ اَللّهُ خَبِيرٌ و عالم بِما تَعْمَلُونَ من الجهاد و تركه، و اتّخاذ الوليجه و عدمه.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)عن الباقر عليه السّلام: «يعني بالمؤمنين آل محمّد، و الوليجة: البطانة» (1).

و عنه عليه السّلام: «لا تتّخذوا من دون اللّه وليجة فلا تكونوا مؤمنين، فإنّ كلّ سبب و نسب و قرابة و وليجة و بدعة و شبهة منقطع إلاّ ما أثبته القرآن» (2).

و عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام: «الوليجة: الذي يقام دون وليّ الأمر، و المؤمنون في هذا لموضع هم الأئمّة الذين يؤمنون على اللّه فيجيز أمانهم» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 17 الی 18

ثمّ روي أنّ المشركين كانوا يفتخرون بعمارة المسجد الحرام و سقاية الحاج، فبيّن اللّه أن لا فضيلة في هذين العملين مع الشّرك؛ بقوله: ما كانَ و ما صحّ لِلْمُشْرِكِينَ في حال شركهم أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اَللّهِ [سواء]

كان المسجد الحرام أو غيره، و لا نفع لهم فيه، مع كونهم شاهِدِينَ و معترفين عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ عملا حيث ينصبون الأصنام فيها و يعبدونها، و قولا حيث يقولون: نعبدها ليقرّبونا إلى اللّه أُولئِكَ المطرودون عن ساحة رحمة اللّه حَبِطَتْ و بطلت أَعْمالُهُمْ الخيريّة التي يفتخرون بها وَ فِي اَلنّارِ هُمْ خالِدُونَ في الآخرة لأنّ الشّرك ظلم عظيم، و معصية غير مغفورة.

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اَللّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي اَلنّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اَللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ (18)روي أنّ المسلمين عيّروا اسارى بدر، و وبّخ عليّ عليه السّلام العبّاس بقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قطيعة الرّحم،

ص: 131


1- . تفسير القمي 1:283، تفسير الصافي 2:326.
2- . الكافي 1:48/22، تفسير الصافي 2:326.
3- . الكافي 1:425/9، تفسير الصافي 2:326.

فقال العبّاس: تذكرون مساوءنا و تكتمون محاسننا. فقالوا: و لكم محاسن؟ ! قال: نعم، إنّما نعمر المسجد الحرام، و نحجب الكعبة، و نسقي الحجيج، و نفكّ العاني، فنزلت (1).

ثمّ حصر اللّه العمارة النّافعة بالمؤمنين بقوله: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اَللّهِ عمارة نافعة مَنْ آمَنَ بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و دار الجزاء وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ في القيام بوظائف دينه أحدا إِلاَّ اَللّهَ.

قيل: من عمارة المسجد: كنسه و تنظيفه، و تنويره بالسّراج، و صيانته ممّا لا يليق به؛ كحديث الدّنيا و الكسب و اللّغو و اللّهو، و الاشتغال فيه بالعبادة و الذّكر، و درس العلوم الدينيّة.

في الحديث القدسي: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، و إنّ زوّاري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، فحقّ على المزور أن يكرم زائره (2).

و في الحديث النبويّ: «يأتي في آخر الزّمان اناس من امّتي يأتون المساجد، يقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدّنيا و حبّ الدّنيا، لا تجالسوهم فليس [للّه]بهم حاجة» (3).

ثمّ وعد اللّه المتّصفين بالكلمات العلميّة و العمليّة بالاهتداء إلى الخير-بصيغة الترجّي-قطعا لطمع المشركين في الانتفاع بعمارتها؛ بقوله: فَعَسى و يرجى في حقّ أُولئِكَ المؤمنين أَنْ يَكُونُوا بأعمالهم الحسنة مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ.

قيل: لم يذكر الايمان بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله في الآية: لاستلزام الصّلاة المعهودة الايمان بشارعها، و لأنّ من أجزائها الشّهادة بالرّسالة، و لإجهار أنّ مقصود الرّسول تبليغ معرفة المبدأ و المعاد دون رئاسة نفسه، حتّى لا يتوهّموها في حقّه.

و قيل: إنّ في إقران الزّكاة بالصّلاة دلالة على عدم قبول أحدهما بدون الآخر (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 19

ثمّ نقل أنّه افتخر طلحة بن شيبة و العبّاس و عليّ، فقال طلحة: أنا صاحب البيت و بيدي مفتاحه، و قال العبّاس: أنا صاحب السّقاية، و قال عليّ: «أنا صاحب الجهاد» ، فردّ اللّه على طلحة و العبّاس بقوله: أَ جَعَلْتُمْ أيّها المفتخرون سِقايَةَ اَلْحاجِّ وَ عِمارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ في الفضيلة و الكرامة

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ اَلْحاجِّ وَ عِمارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (19)

ص: 132


1- . جوامع الجامع:175، تفسير الصافي 2:327.
2- . تفسير الرازي 16:10.
3- . تفسير الرازي 16:10.
4- . تفسير روح البيان 3:398.

عند اللّه كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ و بوحدانيّته وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ. قيل: إنّ التّقدير: أجعلتم أهل سقاية الحاجّ كمن آمن، أو سقاية الحاجّ كإيمان من آمن.

ثمّ أنّه تعالى بعد نفيه التّساوي بين المتّصفين بتلك الصّفات بإنكاره على مدّعيه، صرّح بعدم تساويهم تأكيدا بقوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّهِ ثمّ عيّن المفضول بقوله: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى خير و فضله اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بترك قبول الاسلام، و القيام في الجهاد.

و قيل: إنّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحاجّ، و عمّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمّد و أصحابه؟ فقالت اليهود: أنتم أفضل (1).

و قيل: إنّ علىّ عليه السّلام قال للعبّاس بعد إسلامه: يا عمّي، ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول اللّه؟ فقال: أ لست في أفضل من الهجرة؛ أسقي حاجّ البيت، و أعمر المسجد الحرام. فلمّا نزلت هذه الآية قال: ما أراني إلاّ تارك سقايتنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أقيموا على سقايتكم فإنّ لكم فيها خيرا» (2).

و عن ابن عبّاس: لمّا أغلظ عليّ الكلام للعبّاس، [قال العباس]: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام و الهجرة و الجهاد، فلقد كنّا نعمر المسجد الحرام و نسقي الحاجّ (3)، فنزلت.

و قال العلامة في (نهج الحق) : روى الجمهور في (الجمع بين الصحاح الستة) : أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لمّا افتخر طلحة بن شيبة و العباس، فقال طلحة: أنا أولى بالبيت لأنّ المفتاح بيدي، و قال العباس: أنا أولى، أنا صاحب السّقاية و القائم عليها، فقال عليّ عليه السّلام: «أنا أوّل الناس إيمانا، و أكثرهم جهادا» . فانزل اللّه هذه الآية (1).

و قال فضل بن روزبهان: هذا صحيح من رواية الجمهور (2).

القمّي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ قوله: كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ (3).

و عنه: نزلت في عليّ عليه السّلام و العباس و شيبة، قال العباس: أنا أفضل لأنّ سقاية الحاجّ بيدي، و قال شيبة: أنا أفضل لأنّ حجابة البيت بيدي، و قال عليّ عليه السّلام: «أنا أفضل؛ فإنّي آمنت قبلكما، ثمّ هاجرت و جاهدت» ، فرضوا برسول صلّى اللّه عليه و آله اللّه [حكما] (4)فأنزل اللّه [الآية].

و زاد في رواية: «و ضربت خراطيمكما بالسّيف حتّى آمنتما صلّى اللّه عليه و آله» (5).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «نزلت في حمزة و عليّ و جعفر و العباس و شيبة، إنّهم فخروا بالسّقاية

ص: 133


1- . نهج الحق:182.
2- . دلائل الصدق 2:159.
3- . تفسير القمي 1:284، تفسير الصافي 2:328.
4- . تفسير القمي 1:284، تفسير الصافي 2:328.
5- . مجمع البيان 5:23، تفسير الصافي 2:328.

و الحجابة، فأنزل اللّه [الآية]، و كان عليّ و حمزة و جعفر الّذين آمنوا باللّه و اليوم الآخر، و جاهدوا في سبيل اللّه» (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 20 الی 22

ثمّ عيّن اللّه الفاضل صريحا بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ و هم عليّ عليه السّلام و أضرابه، فإنّهم بسبب تلك الصّفات أَعْظَمُ دَرَجَةً و أعلى منزلة، و أكثر كرامة عِنْدَ اَللّهِ ممّن ليس له هذه الصّفات، و إن كان ساقي الحاجّ و عامر المسجد الحرام وَ أُولئِكَ المتّصفون بتلك الصّفات الفائقة هُمُ اَلْفائِزُونَ بأعلى المقاصد، و هو أنّه يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ في الدّنيا بلسان الرّسل، و في الآخرة بتوسّط الملائكة بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنْهُ تعالى وَ رِضْوانٍ منه تعجز العقول عن إدراكهما و وصفهما وَ جَنّاتٍ و بساتين عديدة لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ و دائم لانفاد له، حال كونهم خالِدِينَ في تلك الجنّات، مقيمين فِيها أَبَداً ليس لهم خوف الخروج منها إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ على هذه الكمالات النفسانيّة أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر عنده كلّ أجر.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اَللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن اتّخاذ الكفّار وليجة و بطانة، نهى عن موالاتهم و لو كانوا أقرب الأقارب، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله عن صميم القلب لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ مع كمال قربهم إليكم أَوْلِياءَ و أحبّاء لأنفسكم إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ و رجّحوه عَلَى اَلْإِيمانِ.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اِقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ (24)ثمّ حذّرهم اللّه عن موالاتهم و مخالطتهم بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و يوادّهم مِنْكُمْ بأيّ مرتبة من

ص: 134


1- . تفسير العياشي 2:226/1802، الكافي 8:203/245، تفسير الصافي 2:328.

الموالاة و الموادّة فَأُولئِكَ الموالون لهم هُمُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك و العذاب.

عن ابن عباس قال: يريد مشركا مثلهم؛ لأنّه رضي بشركهم، و الرّضا بالكفر كفر، كما أنّ الرّضا بالفسق فسق (1).

قيل: إنّهم ظالمون بوضع الموالاة في غير موضعها (2).

عن الباقر عليه السّلام: «الكفر في الباطن، في الآية: ولاية الأول و الثاني، و الايمان: ولاية عليّ عليه السّلام» (3).

ثمّ قيل: إنّ جماعة من المؤمنين قالوا: يا رسول اللّه، كيف يمكننا البراءة منهم بالكليّة، و إنّها توجب انقطاعنا عن آبائنا و إخواننا و عشيرتنا، و ذهاب تجارتنا، و هلاك أموالنا، و خراب ديارنا (4)؟ و قيل: لمّا امروا بالهجرة كان يمنعهم أقرباؤهم، فمنهم من كان يتركها لأجلهم (5).

و عن القمّي: لما أذّن أمير المؤمنين عليه السّلام بمكّة: أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام، جزعت قريش و قالوا: ذهبت تجارتنا و ضاع عيالنا، و خربت دورنا (6)، فردّهم اللّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ أيّها المؤمنون وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اِقْتَرَفْتُمُوها و أصبتموها وَ تِجارَةٌ و أمتعة مهيّأة للمعاملة تَخْشَوْنَ كَسادَها و فوات أوان رواجها لغيبتكم من سوقها وَ مَساكِنُ و منازل تَرْضَوْنَها و تحبّونها لأنفسكم أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ و طاعتهما بالهجرة إلى المدينة، وَ جِهادٍ مع أعداء اللّه فِي سَبِيلِهِ و طلبا لمرضاته فَتَرَبَّصُوا و انتظروا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ من عقوبة شديدة عاجلة، أو أجلكم؛ لأنّكم عصيتم اللّه بترجيح حبّ غيره على حبّه، و تقديم هوى أنفسكم و شهواتها على مرضاته و مرضاة رسوله، و حبّ الحطام الفانية الدّنيويّة على النّعم الاخرويّة الدائمة، و حبّ المساكن الخربة الزائلة على القصور العالية. فإنّ ذلك لا يكون إلاّ لضعف الايمان، و عدم المعرفة الصحيحة بالمبدأ و المعاد، و الإقبال على الدّنيا، و الإعراض عن الدّين، و الخروج عن حدوده وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى الخير، و لا يوصل إليه اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ و الخارجين عن حدود العقل و الشّرع.

و فيه وعيد شديد لا يتخلّص منه إلاّ الأوحديّ من أهل الايمان.

في الحديث: «لا يجد [أحدكم]طعم الايمان حتّى يحبّ في اللّه و يبغض في اللّه» (7).

ص: 135


1- . تفسير الرازي 16:18.
2- . تفسير روح البيان 3:403.
3- . تفسير العياشي 2:226/1803، تفسير الصافي 2:329.
4- . تفسير الرازي 16:19.
5- . جوامع الجامع:176.
6- . تفسير القمي 1:284، تفسير الصافي 2:329.
7- . جوامع الجامع:176، تفسير الصافي 2:329.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 25 الی 26

ثمّ لمّا كان حبّ الأقارب لتوقّع النّصرة منهم على الأعداء، نبّههم على أنّه خير النّاصرين و الحافظين لهم، بقوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بقدرته على الأعداء فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ من الحروب، و مقامات عديدة في الجهاد؛ كيوم بدر، و احد، و الأحزاب، و غيرها وَ يَوْمَ غزوة حُنَيْنٍ و هو-على ما قيل -واد بين مكّة و الطائف، و يقال لها غزوة أوطاس إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ و سرّتكم كَثْرَتُكُمْ و زيادة نفوسكم، و قوّة شوكتكم، حتّى قال أبو بكر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لن نغلب اليوم من قلّة (1)، فساءته صلّى اللّه عليه و آله مقالته فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ كثرة عددكم (2)شَيْئاً من الإغناء، و لم تفدكم قوّة شوكتكم فائدة أصلا وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ فلا تجدون مأمنا من بأس العدوّ فيها بِما رَحُبَتْ و مع سعتها من شدّة الرّعب ثُمَّ وَلَّيْتُمْ الأعداء ظهوركم، حال كونكم مُدْبِرِينَ و منهزمين منهم.

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلْكافِرِينَ (26)روى بعض العامّة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فتح مكّة لثلاثة أيّام بقيت من رمضان-و قيل: لثلاثة عشر يوما (3)مضت منه-فمكث بها إلى أن دخل شوّال، و حين فتحت مكّة أطاعه العرب إلاّ هوازن و ثقيفا، و كانوا طغاة مردة، فخافوا أن يغزوهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ظنّوا أنّه صلّى اللّه عليه و آله يدعوهم إلى الاسلام، فثقل ذلك عليهم، فحشدوا و بغوا و قالوا: إنّ محمّدا لاقى أقواما لا يحسنون القتال، فأجمعوا أمرهم على قتال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فأخرجوا معهم أموالهم و نساءهم و أبناءهم وراءهم، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله يوم السّبت السادس من شوّال إلى حنين، و استعمل على مكّة عتاب بن أسيد يصلّي بهم، و معاذ بن جبل يعلّمهم السّنن و الأحكام، و كان عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اثني عشر ألفا؛ عشرة آلاف من شهد فتح مكّة من المهاجرين و الأنصار، و ألفان من الطّلقاء، و هم أهل مكّة، و كان هوازن و ثقيف أربعة آلاف، سوى الجمّ الغفير من أمداد سائر العرب، و حملوا النّساء فوق الإبل وراء صفوف الرّجال، ثمّ جاءوا بالإبل و الغنم و الذّراري وراء ذلك؛ كي يقاتل كلّ منهم عن أهله و ماله، و لا يفرّ أحد بزعمهم، فساروا كذلك حتّى نزلوا بأوطاس.

ص: 136


1- . تفسير الرازي 16:21.
2- . في النسخة: كثرة عدوّ.
3- . في النسخة: لثلاث عشرة أيام.

و قد كان صلّى اللّه عليه و آله بعث إليهم عينا ليتجسّس عن حالهم، و هو عبد اللّه بن أبي حدرد (1)من بني سليم، فوصل إليهم فسمع مالك بن عوف أمير هوازن يقول لأصحابه: أنتم اليوم أربعة آلاف رجل، فإذا لقيتم العدوّ فاحملوا عليهم حملة واحدة، و اكسروا جفون سيوفكم، فو اللّه لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلاّ فرج.

فأقبل العين إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بما سمع من مقالتهم، فقال سلمة بن سلامة الوقسي الأنصاري- أو أبو بكر؛ كما قال الفخر الرازي، و بعض آخر من العامّة-: يا رسول اللّه، لن نغلب اليوم من قلّة، فساءت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلمته، فركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغلته دلدل، و لبس درع داود التي لبسها حين قتل جالوت، و وضع الألوية و الرّايات مع المهاجرين، فلمّا كان بحنين و انحدروا [في الوادي]و ذلك عند غلس (2)الصّبح يوم الثّلثاء، خرج عليهم القوم و كانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي و مضائقه، و كانوا رماة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المشركون و خلّوا الذّاري، فأكبّ المسلمون عليهم، فتنادى المشركون: يا حملة (3)السّوء، اذكروا الفضائح، فتراجعوا و حملوا عليهم، فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب و شؤمها، فانكشفوا فلم يقوموا لهم مقدار حلب شاة (4).

قيل: بلغ منهزمهم مكّة، و سرّ بذلك قوم من المشركين، و أظهروا الشّماتة حتى قال أخو صفوان بن اميّة لامّه: ألا قد أبطل اللّه السّحر اليوم. فقال له صفوان؛ و هو يومئذ مشرك: فضّ اللّه فاك، و اللّه لئن يملكني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يملكني رجل من هوازن. فلمّا انهزموا بقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وحده و ليس معه إلاّ عمّه العباس آخدا بلجام بغلته، و ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب آخدا بركابه، و هو يركض (5)البغلة نحو المشركين و يقول:

«أنا النبيّ لا كذب *** أنا بن عبد المطّلب

و كان يحمل على الكفّار فيفرّون، ثمّ يحملون عليه فيقف لهم، فعل ذلك بضع عشرة مرّة. قال العبّاس: كنت أكفّ البغلة لئلاّ تسرع [به]نحو المشركين. و ناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته حيث لم يخف اسمه في تلك الحال، و لم يخف الكفّار على نفسه، و ما ذلك إلاّ لكونه مؤيّدا من عند اللّه العزيز الحكيم.

فعند ذلك قال: يا ربّ ائتني بما وعدتني، و قال للعباس-و كان جهوريّ الصّوت-: «صح بالنّاس» ،

ص: 137


1- . في النسخة: جذر، و في المصدر: حذر، و كلاهما تصحيف، راجع: اسد الغابة 3:141.
2- . في تفسير روح البيان: غبش، و الغلس كالغبش، و هي ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
3- . في تفسير روح البيان: حماة.
4- . تفسير روح البيان 3:405.
5- . أي يضرب جنبها برجله ليحثّها على السّير، و الضمير عائد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فنادى الأنصار فخذا فخذا، ثمّ نادى: يا أصحاب الشّجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكرّوا عنقا واحدة (1)و هم يقولون: لبّيك لبّيك، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده كفّا من الحصاة فرماهم بها و قال: «شاهت الوجوه» .

فأخبره اللّه سبحانه بنزول النّصر بقوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ و رحمته المسكّنة للقلوب عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ.

و قيل: إنّ بغلته انخفضت حتى كادت بطنها تمسّ الأرض، ثمّ قبض قبضة من تراب فرمى به نحو المشركين و قال: «شاهت الوجوه» ، فلم يبق منهم أحد إلاّ امتلات به عيناه، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «انهزموا و ربّ الكعبة» (2).

وَ أَنْزَلَ اللّه لنصره من السّماء جُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها . عن سعيد بن جبير قال: أيّد اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بخمسة آلاف من الملائكة (3).

و عن سعيد بن المسيّب قال: حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء تلقّانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا: شاهت الوجوه، ارجعوا فرجعنا، فركبوا أكتافنا (4).

في ذكر قصة

غزوة حنين

القمّي رحمه اللّه: كان سبب غزوة حنين أنّه لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى فتح مكة، أظهر أنّه يريد هوازن، و بلغ الخبر هوازن فتهيّأوا و جمعوا الجموع و السلاح، و اجتمع رؤساؤهم إلى مالك بن عوف النضري فرأّسوه عليهم، و خرجوا و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم، و مرّوا حتّى نزلوا أوطاس، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اجتماعهم بأوطاس، فجمع القبائل و رغّبهم في الجهاد و وعدهم النّصر، و أن اللّه قد وعده أن يغنمه أموالهم و نساءهم و ذراريهم، فرغّب النّاس و خرجوا على راياتهم، و عقد اللّواء الأكبر و دفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و كلّ من دخل مكّة براية أمره أن يحملها، و خرج في اثني عشر ألف رجل، عشرة آلاف ممّن كان معه (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «كان معه من بني سليم ألف رجل رئيسهم عبّاس بن مرداس السّلمى، و من مزينة ألف رجل» .

ص: 138


1- . أي حملوا جماعة واحدة.
2- . تفسير روح البيان 3:406-407.
3- . تفسير الرازي 16:22.
4- . تفسير الرازي 16:22.
5- . تفسير القمي 1:285، تفسير الصافي 2:330.

فمضوا حتّى كان من القوم مسيرة بعض ليله، و قال مالك بن عوف لقومه: ليصيّر كلّ رجل منكم أهله و ماله خلف ظهره، و اكسروا جفون سيوفكم، و اكمنوا في شعاب هذا الوادي و في الشّجر، فإذا كان في غلس الصّبح فاحملوا حملة رجل واحد، و هدّوا القوم، فإنّ محمّدا لم يلق أحدا يحسن الحرب.

فلمّا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغداة انحدر في وادي حنين، و هو واد له انحدار بعيد، و كان بنو سليم على مقدّمته، فخرج عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية، فانهزمت بنو سليم و انهزم من وراءهم، و لم يبق أحد إلاّ انهزم، و بقي أمير المؤمنين يقاتلهم في نفر قليل، و مرّ المنهزمون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يلوون على شيء، و كان العبّاس آخذا بلجام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن يمينه، و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب عن يساره، فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينادي: «يا معشر الأنصار، إلى أين (1)؟ أنا رسول اللّه» . فلم يلو أحد عليه.

و كانت نسيبة بنت كعب المازنيّة تحثو في وجوه المنهزمين التّراب و تقول: إلى أين تفرّون عن اللّه و عن رسوله؟ و مرّ بها عمر فقالت: و يلك، ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر اللّه.

فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. الهزيمة ركض نحوهم على بغلته و قد شهر سيفه و قال: «يا عبّاس اصعد هذا الظّرب (2)و ناد: يا أصحاب البقرة، و يا أصحاب الشّجرة، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول اللّه» .

ثمّ رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده فقال: «الّلهم لك الحمد، و إليك المشتكى، و أنت المستعان» . فنزل عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللّه، دعوت بما دعا [به]موسى حيث فلق اللّه له البحر و نجّاه من فرعون، ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي سفيان [بن]الحارث: ناولني كفّا من الحصى فناوله، فرماه في وجوه المشركين ثمّ قال: «شاهت الوجوه» ، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء و قال: «اللّهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد» .

فلمّا سمعت الأنصار نداء العباس، عطفوا و كسروا جفون سيوفهم و هم يقولون: لبّيك، و مرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استحيوا أن يرجعوا إليه، و لحقوا بالرّاية، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعباس: «من هؤلاء يا أبا الفضل؟» فقال: يا رسول اللّه، هؤلاء الأنصار، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «الآن حمي الوطيس» ، و نزل النّصر من اللّه، و انهزمت هوازن، و كانوا يسمعون قعقعة السّلاح في الجوّ، و انهزموا في كلّ وجه، و غنّم اللّه رسوله أموالهم و نساءهم و ذراريهم، و هو قول اللّه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ

ص: 139


1- . زاد في القمي: المفرّ.
2- . الظّرب: الجبل المنبسط.

حُنَيْنٍ (1) .

و قال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة للمؤمنين؛ و هو أسير في أيديهم: أين الخيل البلق (2)، و الرّجال عليهم الثياب البيض؟ فإنّما كان قتلنا بأيديهم، و ما كنّا نراكم فيهم إلاّ كهيئة الشّامة، قالوا: هم الملائكة (3).

و عن الرضا عليه السّلام، سئل: ما السكينة؟ فقال: «ريح من الجنّة، لها وجه كوجه الإنسان، أطيب ريحا من المسك، و هي التي أنزلها اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه و آله بحنين، فهزم المشركون» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «قتل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم حنين أربعين صلّى اللّه عليه و آله» (5).

و روي أنّه لمّا هزم اللّه المشركين بوادي حنين ولّوا مدبرين، و نزلوا بأوطاس و بها عيالهم و أموالهم، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلا من الأشعريّين يقال له أبو عامر، و أمّره على جيش إلى أوطاس، فسار إليهم فاقتتلوا، و هزم اللّه المشركين، و سبى المسلمون عيالهم، و هرب أميرهم مالك بن عوف (6).

وَ عَذَّبَ اللّه اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر وَ ذلِكَ العذاب جَزاءُ اَلْكافِرِينَ في الدّنيا، و لعذاب الآخرة أكبر.

ثمّ روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتى الطائف، فحاصر أهله بقيّة ذلك الشهر، فلمّا دخل ذو القعدة انصرف عنهم، فأتى الجعرانة (7)فأحرم منها بعمرة بعد أن قام بها ثلاث عشرة ليلة، و قال: «اعتمر منها سبعون نبيّا» ، و قسّم بها غنائمهم، و كانت ستة آلاف نفس، و الإبل أربعة و عشرون ألفا، و الغنم أكثر من أربعين ألفا، و أربعة آلاف اوقيّة فضّة، و تألّف اناسا فجعل يعطي الرّجل الخمسين و المائة من الإبل، و لمّا قسّم ما بقي خصّ كلّ رجل بأربع من الإبل و أربعين شاة، فقالت طائفة: يا للعجب، إنّ أسيافنا تقطر من دمائهم، و غنائمنا تردّ إليهم! فبلغ ذلك النّبي صلّى اللّه عليه و آله فجمعهم فقال: «يا معشر الأنصار، ما هذا الذي بلغني عنكم؟» فقالوا: هو الذي بلغك؛ و كانوا لا يكذبون، فقال: «ألم تكونوا ضلاّلا فهداكم اللّه بي، و كنتم أذلّة فأعزّكم اللّه بي، و كنتم و كنتم؟ أما ترضون أن ينقلب النّاس بالشّياه و الإبل، و تنقلبون برسول اللّه إلى بيوتكم؟» فقالوا: بلى رضينا يا رسول اللّه، و اللّه ما قلنا ذلك إلاّ محبّة للّه و لرسوله. فقال: «إنّ اللّه و رسوله يصدّقانكم و يعذرانكم» (8).

ص: 140


1- . تفسير القمي 1:286، تفسير الصافي 2:330.
2- . البلق: جمع أبلق، و هو الذي يخالط لونه السواد مع البياض.
3- . تفسير القمي 1:288، تفسير الصافي 2:332.
4- . الكافي 5:257/3، تفسير الصافي 2:332.
5- . الكافي 8:376/566، تفسير الصافي 2:332.
6- . تفسير روح البيان 3:408.
7- . اسم موضع بين مكة و الطائف.
8- . تفسير روح البيان 3:408.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 27

ثمّ أنّه أخبر اللّه بإسلام بعض هوازن بقوله: ثُمَّ يَتُوبُ اَللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ توبته بتوفيقه لقبول الإسلام وَ اَللّهُ غَفُورٌ و متجاوز عمّا سلف منهم من الكفر و المعاصي رَحِيمٌ بهم بإعطائهم الثّواب الجزيل.

ثُمَّ يَتُوبُ اَللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)روي أنّ اناسا منهم جاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بايعوه على الاسلام، و قالوا: يا رسول اللّه، أنت خير النّاس و أبرّهم، و قد سبي أهلونا و أولادنا، و اخذت أموالنا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم و نساءكم، و إمّا أموالكم» . قالوا: ما كنّا نعدل بأحسابنا شيئا.

فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: «إنّ هؤلاء جاءونا مسلمين، و إنّا خيّرناهم بين الذّراري و الأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده سبي و طابت نفسه أن يردّه فشأنه [و ليفعل ما طاب له]و من لا فليعطنا و لكن قرضا علينا، حتّى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» . قالوا: رضينا و سلّمنا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّا لا ندري لعلّ فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا» ، فرفعت إليه العرفاء أنّهم قد رضوا.

ثمّ قال لوفد هوازن: «ما فعل مالك بن عوف؟» قالوا: يا رسول اللّه، هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله و ماله، و أعطيته مائة [من]الإبل» ، فلمّا بلغه هذا الخبر نزل من الحصن مستخفيا خوفا من أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال، و ركب فرسه و ركضه حتّى أتى الدّهناء-محلا معروفا-و ركب راحلته و لحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأدركه بالجعرانة فأسلم، فردّ عليه أهله و ماله، و استعمله على من أسلم من هوازن، و كان هو ممّن فتح عامّة الشّام (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 28

ثمّ منع اللّه المشركين من دخول المسجد الحرام بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و قذر، عن ابن عباس قال: أعيانهم نجسة كالكلاب و الخنازير (2)فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ فضلا عن أن يدخلوا فيه بَعْدَ عامِهِمْ هذا الذي أنتم فيه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

ص: 141


1- . تفسير روح البيان 3:408.
2- . تفسير الرازي 16:24.

ثمّ قيل: إن اناسا قالوا لأهل مكّة: ستلقون الشدّة من انقطاع السّبل، و فقد الحمولات (1)، فوعد اللّه سدّ خلّة (2)المؤمنين بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ على أنفسكم عَيْلَةً و فقرا و حاجة بسبب منع المشركين من الحجّ، و انقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق، و تعطيل المكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّهُ عنهم في إرزاقكم مِنْ فَضْلِهِ وجوده إِنْ شاءَ غناءكم وسعة معائشكم.

و في تعليق إغنائهم على مشيئته تنبيه على وجوب كونهم راجين بكرمه، متضرّعين إليه، و أنّ ما يصل إليهم يكون بتفضّله، و أنّ الوعد لا يعمّ جميع الناس و جميع الأمكنة و الأزمان، بل هو لبعض دون بعض.

في إيجاب الجزية

على أهل الكتاب

قيل: إنّ اللّه أنجز وعده بأن أرسل السّماء عليهم مدرارا و وفّق أهل تبالة و جرش (3)للاسلام، و امتاروا (4)لهم، ثمّ فتح عليهم البلاد، و رزقهم الغنائم الوفيرة، و وجّه إليهم النّاس من أقطار الأرض (5).

إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بأحوال عباده و مصالحهم حَكِيمٌ يعطي و يمنع على حسب صلاح الأشخاص و نظام العالم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 29

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بقتال المشركين حتّى يقتلوا أو يسلموا و يتوبوا، أمر بقتال أهل الكتاب حتّى يعطوا الجزية بقوله: قاتِلُوا يا أهل الإسلام اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ حقّ الإيمان به وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ كما ينبغي وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ عليهم في كتابه وَ رَسُولُهُ في سنّته وَ لا يَدِينُونَ و لا يعتقدون أو لا يقبلون دِينَ اَلْحَقِّ الثّابت من اللّه و هو الاسلام مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ السّماوي من التّوراة و الإنجيل و غيرهما، و استمرّوا على قتالكم حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ و المال المضروب عليهم منكم، حال كون عطائهم إيّاه عَنْ يَدٍ منهم و بمباشرتهم الإعطاء وَ هُمْ

قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)

ص: 142


1- . الحمولات: جمع الحمولة، و هي الإبل و غيرها التي تحمل المؤن، و تطلق الحمولة على نفس المؤن المحمولة على الإبل.
2- . الخلّة: هي الفقر الحاجة.
3- . في النسخة: بتالة و حريش، و تبالة: موضع ببلاد اليمن، و جرش: من مخاليف اليمن من جهة مكة، قال المهلّبي: أسلم أهل تبالة و جرش من غير حرب، فأقرّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أيدي أهلها على ما أسلموا عليه، و جعل على كلّ حالم ممن بهما من أهل الكتاب دينارا، و اشترط عليهم ضيافة المسلمين. معجم البلدان 2:10 و 147.
4- . أى جمعوا الميرة لأنفسهم، و هي الطعام و المؤن.
5- تفسير روح البيان 3:411.

صاغِرُونَ ذليلون عندكم.

في أحكام الجزية

عن الباقر عليه السّلام: «بعث اللّه محمّدا بخمسة أشياء» (1)إلى أن قال: «قال اللّه تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (2)نزلت هذه الآية في أهل الذمّة، ثمّ نسخها قوله سبحانه: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ الآية، فمن كان منهم في دار الإسلام لم يقبل منهم إلاّ الجزية أو القتل، و ما لهم فيء، و ذراريهم سبي، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرّم علينا سبيهم، و حرّمت أموالهم، و حلّت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم و أموالهم، و لم تحلّ مناكحتهم، و لم يقبل منهم إلاّ الدّخول في الاسلام أو الجزيه أو القتل» (3).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المجوس: أكان لهم نبيّ؟ فقال: «نعم، أما بلغك كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أهل مكّة: أن أسلموا و إلاّ فأذنوا بحرب، فكتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أن خذ منّا الجزية و دعنا على عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّي لست آخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، فكتبوا إليه، يريدون تكذيبه: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، ثمّ أخذت الجزية من مجوس هجر؟ ! فكتب إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه، و كتاب أحرقوه» (4).

و في (العلل) : عنه عليه السّلام، أنّه سئل عن النّساء: كيف سقطت الجزية و رفعت عنهن؟ فقال: «لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن قتل النّساء و الولدان في دار الحرب إلاّ أن تقاتل، و إن قاتلت [أيضا]» فأمسك عنها ما أمكنك و لم تخف خللا، فلمّا نهى عن قتلهنّ في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى، و لو امتنعت أن تؤدّي الجزية لم يمكن قتلها، فلمّا لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها، و لو امتنع الرّجال و أبوا أن يؤدّوا الجزية كانوا ناقضين للعهد، و حلّت دماؤهم و قتلهم، لأنّ قتل الرّجال مباح في دار الشّرك، و كذلك المقعد من أهل الشّرك و الذّمة، [و الأعمى]و الشيخ الفاني، و المرأة و الولدان في أرض الحرب. و من أجل ذلك رفعت عنهم الجزية» (5).

و عنه عليه السّلام: «جرت السنّة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه، و لا من المغلوب على عقله» (6).

و القمّي رحمه اللّه: عنه عليه السّلام، أنّه سئل: ما حدّ الجزية على أهل الكتاب، و هل عليهم في ذلك [شيء] موظّف لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره؟

فقال: «ذلك إلى الإمام، يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله و ما يطيق، إنّما هم قوم فدوا

ص: 143


1- . في الكافي: أسياف.
2- . البقرة:2/83.
3- . الكافي 5:11/2، تفسير الصافي 2:334.
4- . الكافي 3:567/4، تفسير الصافي 2:334.
5- . علل الشرائع:376/1، تفسير الصافي 2:334.
6- . الكافي 3:567/3، من لا يحضره الفقيه 2:28/101، تفسير الصافي 2:335.

أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يؤخذ منهم بها حتى يسلموا، فإنّ اللّه تعالى قال: حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ، و كيف يكون و هو لا يكترث لما يؤخذ منه، لا حتّى يجد ذلاّ لما يؤخذ منه فيألم لذلك فيسلم» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، في أهل الذّمّة: أيؤخذ من أموالهم و مواشيهم شيء سوى الجزية؟ قال: «لا» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 30

ثمّ بيّن سبحانه عدم إيمانهم بقوله: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ و اعتقدت أنّه عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ.

وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اَللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ (30)عن ابن عبّاس: أتى جماعة من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ و هم سلاّم بن مشكم، و النّعمان بن أوفى، و مالك بن الصّيف، و قالوا: كيف نتبعك و قد تركت قبلتنا، و لا تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه؟ فنزلت الآية (3).

و قيل: إنّ هذا القول كان شائعا بينهم في ذلك العصر ثمّ انقطع، و لا عبرة بإنكار اليهود، فإنّ حكاية اللّه عنهم أصدق.

و في (الاحتجاج) : أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طالبهم فيه بالحجّة، فقالوا: لأنّه أحيى [لبني إسرائيل]التّوراة بعدما ذهبت، و لم يفعل بها هذا إلاّ لأنّه ابنه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كيف صار عزير ابن اللّه دون موسى، و هو الذي جاءهم بالتوراة، و رأوا منه [من] المعجزات ما [قد]علمتم، فإن كان عزير ابن اللّه لما ظهر من إكرامه من إحياء التّوراة، فلقد كان موسى بالنبوّة أحقّ و أولى» (4).

وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ثمّ ردّهم بقوله: ذلِكَ القول الباطل الذي صدر منهم قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ و ألسنتهم بلا مساعدة برهان عليه، بل البراهين القاطعة على خلافه، و هم في هذا القول يُضاهِؤُنَ و يشابهون، يعني قولهم هذا يشابه قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ بأنّ الملائكة، أو اللاّت و العزّى بنات اللّه.

ثمّ أظهر الغضب بالدّعاء عليهم بقوله: قاتَلَهُمُ اَللّهُ و أهلكهم كيف تصدر من لسانهم هذه الأباطيل، و أَنّى يُؤْفَكُونَ و إلى أين يصرفون من الحقّ.

ص: 144


1- . تفسير القمي 1:288، تفسير الصافي 2:335.
2- . الكافي 3:568/7، تفسير الصافي 2:335.
3- . تفسير الرازي 16:33.
4- . الاحتجاج:23، تفسير الصافي 2:335.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: «أي لعنهم، فسمّى اللّعنة قتالا» (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اشتدّ غضب اللّه على اليهود حين قالوا: عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ، و اشتدّ غضب اللّه على النّصارى حين قالوا: اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ، و اشتدّ غضب اللّه على من أراق دمي و آذاني في عترتي» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 31

ثمّ قدح اللّه فيهم بإثبات شرك آخر لهم بقوله: اِتَّخَذُوا هؤلاء اليهود و النّصارى أَحْبارَهُمْ و علماءهم وَ رُهْبانَهُمْ و زهّادهم أَرْباباً و مطاعين كأنّهم معبودون لهم مِنْ دُونِ اَللّهِ و متجاوزين عنه.

اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (31)عن الصادق عليه السّلام: «أما و اللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، و لو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، و لكن أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (3).

وَ اتّخذوا اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ أيضا ربّا و معبودا بعد ما قالوا إنّه ابن اللّه.

القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «أمّا المسيح فعصوه، و عظّموه في أنفسهم، حتّى زعموا أنّه إله، و أنّه ابن اللّه، و طائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة [و طائفة منهم قالوا: هو اللّه]، و أمّا أحبارهم و رهبانهم فإنّهم أطاعوهم، و أخذوا بقولهم، و اتّبعوا ما أمروهم به، و دانوا بما دعوهم إليه، فاتّخذوهم أربابا بطاعتهم لهم، و تركهم أمر اللّه و كتبه و رسله، فنبذوه وراء ظهورهم» . قال: «و إنّما ذكر هذا في كتابه لكي نتّعظ بهم» (4).

وَ الحال أنّهم ما أُمِرُوا من قبل اللّه، و بحكم عقولهم، بشيء إِلاّ لِيَعْبُدُوا و ليطيعوا إِلهاً واحِداً و لا يطيعون غيره، و أمّا طاعة غيره بأمره فهي (5)في الحقيقة طاعته.

ثمّ أكّد سبحانه وحدانيّته في الالوهيّة و الربوبيّة و العبادة بقوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشّرك بقوله: سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ به في الالوهيّة و العبادة، و تعالى شأنه عن ذلك.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 32

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ (32)

ص: 145


1- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 2:336.
2- . تفسير العياشي 2:229/1810، أمالى الطوسي:142/231، تفسير الصافي 2:336.
3- . الكافي 1:43/1، تفسير الصافي 2:336.
4- . تفسير القمي 1:289، تفسير الصافي 2:336.
5- . زاد في النسخة: بأمره.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء عقيدتهم، بيّن سوء أفعالهم الموجب لاستحقاقهم القتل و الذلّة بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا و يخمدوا نُورَ اَللّهِ و يبطلوا براهين توحيده و تنزّهه عن اتّخاذ الولد، و يخفوا أدلّة صدق النبيّ عن عوامّهم، و يشوّشوا شواهد صحّة شريعته بأقاويلهم الباطلة و شبهاتهم الفاسدة التي يقولونها بِأَفْواهِهِمْ مع عدم اعتقاد صحّة معانيها في قلوبهم، كأنّهم يسعون أن يطفئوا نور الشّمس بنفخهم وَ يَأْبَى اَللّهُ و يمتنع إِلاّ أَنْ يثبت دينه، و يُتِمَّ نُورَهُ ببلوغه الغاية في الإضاءة و الإنارة، و يحقّ الحقّ بنصرة رسوله، و ظهور معجزاته، و إعلاه كلمته وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ ذلك فضلا عن أن لا يكرهوه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في هذه الآية: «يعني [أنّهم]أثبتوا في الكتاب ما لم يقله اللّه ليلبسوا على الخليقة، فأعمى اللّه قلوبهم حتّى تركوا فيه ما دلّ على ما أحدثوا فيه و حرّفوا منه» (1).

و عنه عليه السّلام: «جعل [اللّه]أهل الكتاب المقيمين به، و العالمين بظاهره و باطنه، من شجرة أصلها ثابت و فرعها في السّماء تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها، أي يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، و جعل أعداءها أهل الشجرة الملعونه الّذين حاولوا إطفاء نور اللّه بأفواههم فأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 33

ثمّ بيّن اللّه إتمام نور بظهور رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله: هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ الذي جاءكم بِالْهُدى و دلائل الصّدق من القرآن العظيم، و المعجزات الباهرة الكثيرة وَ دِينِ اَلْحَقِّ المرضيّ عند اللّه، و الأحكام الموافقة لصلاح العباد لِيُظْهِرَهُ و ليغلبه بالحجّة و السّيف عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره.

هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ (33)قيل: إنّ المراد ظهور الإسلام على سائر الأديان في جزيرة العرب، أو غلبته على سائر الأديان في الجملة، فإنّه لم يكن أهل دين إلاّ و قهرهم المسلمون؛ أمّا اليهود فقد قهرهم المسلمون حتى أخرجوهم من جزيرة العرب، و أمّا النّصارى فقد غلبوهم على بلاد الشّام و ما والاها إلى ناحية الرّوم و المغرب، و امّا عبدة الأوثان فقد غلبوهم على كثير من بلادهم ممّا يلي التّرك و الهند، و كذلك سائر الأديان.

ص: 146


1- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 2:337.
2- . الاحتجاج:252، تفسير الصافي 2:337.

و روت العامة عن أبي هريرة أنّه قال: هذا وعد من اللّه بأنّه تعالى يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان، و تمام هذا يحصل عند نزول عيسى (1).

و عن السدي قال: ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلاّ دخل في الاسلام، أو أدّى الخراج (2).

القمّي قال: نزلت في القائم من آل محمّد. قال: و هو الذي ذكرناه ممّا تأويله بعد تنزيله (1).

و عن الصادق عليه السّلام، في هذه الآية: «و اللّه ما نزل تأويلها بعد، و ما ينزل حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لا يبقى كافر باللّه العظيم و لا مشرك بالإمام إلاّ كره خروجه، حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت: يا مؤمن، في بطني كافر فاكسرني و اقتله» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و غاب صاحب هذه الأمر بإيضاح الغدر له في ذلك؛ لاشتمال الفتنة على القلوب، حتّى يكون أقرب النّاس إليه أشدّهم عداوة له، و عند ذلك يؤيّده اللّه بجنود لم تروها، و يظهر دين نبيّه على يديه على الدّين كلّه وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ (3).

و عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «أنّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمّد، فلا يبقي أحد إلاّ أقرّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله» (4).

و عن العياشي: عنه عليه السّلام، ما في معناه، قال: و في خبر آخر قال: «ليظهره اللّه في الرّجعة» (5).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر و لا وبر إلاّ أدخله اللّه الإسلام إمّا بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، إمّا يعزّهم فيجعلهم اللّه من أهله فيعزّوا به، أو يذلّهم فيدينون له» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «القائم منّا منصور بالرّعب، مؤيّد بالنّصر، تطوى له الأرض، و تظهر له الكنوز، و يبلغ سلطانه المشرق و المغرب، و يظهر اللّه به دينه على الدّين كلّه، فلا يبقى في الأرض خراب إلاّ عمّر، و ينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيصلّي خلفه» (7).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «أظهر ذلك بعد؟» قالوا: نعم، قال: «كلا، فو الذي نفسي بيده، حتّى لا تبقى قرية إلاّ و تنادي بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و محمّد رسول اللّه، بكرة و عشيّا» (8).

و عن الكاظم عليه السّلام، في هذه الآية: «هو الّذي أمر رسوله بالولاية لوصيّة، و الولاية هي دين الحقّ ليظهره على جميع الأديان عند قيام القائم، و اللّه متمّ ولاية القائم و لو كره الكافرون بولاية عليّ عليه السّلام» .

ص: 147


1- . تفسير القمي 1:289، تفسير الصافي 2:338.
2- . كمال الدين:670/16، تفسير الصافي 2:338.
3- . الاحتجاج:256، تفسير الصافي 2:338.
4- . مجمع البيان 5:38، تفسير الصافي 2:338.
5- . تفسير العياشي 2:231/1818، تفسير الصافي 2:338.
6- . مجمع البيان 5:38، تفسير الصافي 2:338.
7- . إكمال الدين:331/16، تفسير الصافي 2:339.
8- . تفسير الصافي 2:338.

قيل: هذا تنزيل؟ قال: «نعم، هذا الحرف تنزيل، و أما غيره فتأويل» (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أهل الكتاب باتّخاذهم علمائهم أربابا بالمعنى الذي ذكرنا، ذمّ علماءهم و زهّادهم بأكل الرّشا و غيره من المال الحرام بإضلال النّاس؛ بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ و علماء اليهود وَ اَلرُّهْبانِ و زهّاد النّصارى و اللّه لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ و طريق الحرام كالرّشوة للحكم بالجور، و تغيير الأحكام الإلهيّة، و تحريف الكتب السماويّة وَ يَصُدُّونَ و يمنعون النّاس بتسويلاتهم و شبهاتهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و قبول دين الحقّ.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبارِ وَ اَلرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)و لمّا كان استمرارهم على أخذ الحرام مشعرا بغاية حرصهم على جمع الدّراهم و الدّنانير، هدّد سبحانه من له هذه الرّذيلة بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ و يدّخرون اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ [سواء أ]كانا مسكوكين كالدّينار و الدّرهم، أو غير مسكوكين كالسّبائك وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ و الوجوه الخيريّة فَبَشِّرْهُمْ يا محمّد بِعَذابٍ أَلِيمٍ الذي يشتاقون إليه باشتياقهم إلى سببه الذي هو جمع الدّراهم و الدّنانير يَوْمَ يُحْمى و يوقد عَلَيْها نار ذات لهب و شدّة حرارة فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى و تحرق بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ.

قيل: خصّ اللّه الكيّ بتلك المواضع، لأنّ المقصود من الأموال حصول الفرح الذي يحصل أثره في الوجه، و الشّبع الذي ينتفخ به الجنبان، و تحصيل ثياب فاخرة تطرح على الظّهر (2).

و قيل: إنّ البخيل الموسر إذا رأى الفقير قبض جبينه، و إذا جلس بجنبه تباعد منه، و ولاّه ظهره (3).

و قيل: لأنّ في داخل هذه الأعضاء آلات ضعيفة يعظم تألّمها إذا وصل أدنى مولم إليها (4).

و قيل: لأنّ ألطف أعضاء الإنسان جبينه، و متوسّطها في اللّطافة جنبه، و أصلبها ظهره، و المراد بيان إحاطة الكيّ بجميع الأعضاء (5).

و قيل: لأنّ كمال بدن الإنسان بالجمال و القوّة، و محلّ الجمال الوجه، و أعزّ الأعضاء منه الجبهة،

ص: 148


1- . الكافي 1:358/91، تفسير الصافي 2:338. (2 و 3 و 4 و 5) . تفسير الرازي 16:48.

و محلّ القوّة الجنب و الظّهر، فإذا وقع الكيّ في تلك الأعضاء ذهب الجمال و القوة (1).

أقول: يمكن كون العلّة جميع الامور المذكورة.

و على أيّ تقدير، يقال لهم ازديادا لتحسّرهم: هذا المال هو ما كَنَزْتُمْ و ادّخرتم لِأَنْفُسِكُمْ لا تنفقونه و تلتذّون به فَذُوقُوا و اطعموا طعم ما كُنْتُمْ في الدّنيا تَكْنِزُونَ من الدّنانير و الدّراهم المحماة بالنّار.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تبّا للذّهب و تبّأ للفضّة» قالها ثلاثا، فقالوا له: أيّ مال نتّخذ؟ قال: «لسانا ذاكرا، و قلبا خاشعا، و زوجة تعين أحدكم على دينه» (2).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» .

و توفّي رجل و في مئزره دينار، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كيّة» . و توفّي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كيّتان» (3).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الدّينار و الدّرهم أهلكا من كان قبلكم، و هما مهلكاكم» (2).

و القمّي: عن الباقر عليه السّلام، في هذه الآية: «أنّ اللّه حرّم كنز الذّهب و الفضّة، و أمر بإنفاقه في سبيل اللّه» .

قال: «كان أبو ذرّ الغفاري يغدو كلّ يوم و هو بالشام فينادي بأعلى صوته: بشّر أهل الكنوز بكيّ في الجباه، و كيّ في الجنوب، و كىّ في الظّهور أبدا حتّى يتردّد الحرّ في أجوافهم» (3).

و في (المجمع) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تبّا للذّهب، تبّا للفضّة» يكرّرها ثلاثا، فشقّ ذلك على أصحابه، فسألوه: أيّ المال نتّخذ؟ فقال: «لسانا ذاكرا، و قلبا خاشعا، و زوجة مؤمنة، تعين أحدكم على دينه» (4).

و في (الخصال) عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الدّينار و الدّرهم أهلكا من كان قبلكم، و هما مهلكاكم» (5).

و القمّي رحمة اللّه، في حديث: «نظر عثمان إلى كعب الأحبار فقال له: يا أبا إسحاق، ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا، و لو اتّخذ لبنة من ذهب و لبنة من فضّة ما وجب عليه شيء، فرفع أبو ذرّ عصاه فضرب بها رأس كعب، ثمّ قال له: يا بن اليهوديّة الكافرة، ما أنت و النّظر في أحكام المسلمين، قول اللّه أصدق من قولك حيث قال: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ. . . الآية» (6).

عن أمير المؤمنين، بطريق عامي قال: «كلّ مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز، أدّيت زكاته أو لم

ص: 149


1- . تفسير الرازي 16:48. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:44.
2- . الخصال:43/37، تفسير الصافي 2:340.
3- . تفسير القمي 1:289، تفسير الصافي 2:340.
4- . مجمع البيان 5:40، تفسير الصافي 2:340.
5- . تقدم أنفا.
6- . تفسير القمي 1:52، تفسير الصافي 2:340.

تؤدّ» (1).

العيّاشي عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «إنّما عنى بذلك ما جاوز ألفي درهم» (2).

و في (الأمالي) : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ مال تؤدّى زكاته فليس بكنز و إن كان تحت سبع أرضين، و كلّ مال لا تؤدّى زكاته فهو كنز و إن كان فوق الأرض» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «موسّع على شيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرّم على [كلّ]ذي كنز كنزه حتّى يأتيه به، فيستعين به على عدوّه، و هو قول اللّه: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ. . .» (4).

أقول: يمكن حمل الأخبار الدالّة على حرمة الكنز على جمع المال في وقت يجب إنفاقه في الجهاد، و حفظ شوكة الإسلام و النّفوس المحترمة، و غير ذلك من المصارف التي يجب صرف المال فيها، كعصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام و ما شابهه، و الأخبار الدالّة على الجواز على غيره.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 36

ثمّ لمّا أمر اللّه بقتال المشركين و أهل الكتاب، ذكر الشّهور التي يجوز فيها القتال، و التي لا يجوز بقوله: إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ القمريّة التي هي ما بين الهلالين عِنْدَ اَللّهِ و في حكمه و قضائه اِثْنا عَشَرَ شَهْراً من غير زيادة و نقصان، مثبتة تلك العدّة فِي كِتابِ اَللّهِ عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّه اللّوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التّفصيل (5)يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و حين أبدع الأجرام اللّطيفة و الكثيفة؛ لأنّ الشّمس و القمر الّذين بهما مدار الأيام و الشّهور جرمان في السّماوات مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ يحرّم القتال فيها، و تعظّم حرمتها، ثلاثة منها سرد (6)متعاقبة: ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم، و واحد فرد و هو شهر رجب.

إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّهِ اِثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اَللّهِ يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ (36)قيل: كانت حرمة تلك الأشهر عند العرب بحيث لو لقي الرجل فيها قاتل ابنه، لم يكن يتعرّض له. ذلِكَ المذكور من كون الأشهر اثني عشر، و الحرم منها أربعة معيّنة، هو اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ و الشّرع

ص: 150


1- . تفسير الرازي 16:45.
2- . تفسير العياشي 2:231/1820، تفسير الصافي 2:340.
3- . أمالي الطوسي:519/1142، تفسير الصافي 2:340.
4- . تفسير العياشي 2:231/1821، الكافي 4:61/4، تفسير الصافي 2:341.
5- . تفسير الرازي 16:51.
6- . السّرد: المتتابع و المتعاقب.

الباقي المستقيم الذي جاء به إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام، لا يغيّر و لا يبدّل فَلا تَظْلِمُوا أيّها العرب فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بتضييع حرمتها و تغيير شهورها.

ثمّ بيّن اللّه حكم قتال المشركين فيها بقوله: وَ قاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حال كونكم كَافَّةً و مجتمعين و متناصرين، مستحلّين لقتالها (1)كَما يُقاتِلُونَكُمْ حال كونهم كَافَّةً و مجتمعين على قتالكم، مستحلّين له فيها.

ثم وعد اللّه المؤمنين النّصر بقوله: وَ اِعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّ اَللّهَ بنصره و تأييده مَعَ اَلْمُتَّقِينَ و الخائفين من اللّه في مخالفة أوامره.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 37

ثمّ أنّ رجلا من كنانة، كان يقف بالموسم و يقول: قد أحللت دماء المحلّين طي و خثعم في شهر المحرّم و أنسأته، و حرّمت بدله صفرا، فإذا كان العام المقبل يقول: قد أحللت صفرا و أنسأته، و حرمت بدله شهر المحرّم. على رواية القمي (2).

إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اَللّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اَللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (37)فردّ اللّه سبحانه عليهم بقوله: إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ و التّأخير في الشّهر الحرام زِيادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ و بدعة مضافة إليه.

و قيل: إنّ أوّل من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني، كان يقوم على جمل أحمر في الموسم فينادي: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه، ثمّ ينادي في القابل: إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه (3).

و هذا التّأخير و النّسيء يُضَلُّ بِهِ من قبل اللّه، أو الشّيطان اَلَّذِينَ كَفَرُوا.

ثمّ فسّر سبحانه النّسيء بقوله: يُحِلُّونَهُ و يجوّزون القتال فيه عاماً و يمنعون عن القتال بدله في شهر حرام وَ يُحَرِّمُونَهُ و يمنعون القتال في ذلك الشّهر الذي أحلّوه عاماً آخر لِيُواطِؤُا و يوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اَللّهُ من الأشهر. [ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اَللّهُ ]

عن ابن عبّاس: أنّهم ما أحلّوا شهرا من الحرام إلاّ حرّموا مكانه شهرا آخر من الحلال، و لم يحرّموا

ص: 151


1- . كذا، و الظاهر: لقتالهم فيها.
2- . تفسير القمي 1:290، تفسير الصافي 2:342.
3- . تفسير الصافي 2:342.

شهرا من الحلال إلاّ أحلّوا مكانه شهرا آخر من الحرام، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره اللّه (1).

ثمّ نسب سبحانه هذا النسيء المضاف إلى الكفر إلى تزيين الشّيطان بقوله: زُيِّنَ لَهُمْ بتسويلات الشّيطان سُوءُ أَعْمالِهِمْ و قبح أفعالهم وَ اَللّهُ لا يَهْدِي إلى خير، و لا يوصل إلى صلاح اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عقائدهم السيّئة و أعمالهم الشّنيعة، حثّ المؤمنين على قتالهم بإنكار التّثاقل و التّواني عليهم فيه؛ بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ من العذر و الحالة المانعة عن الامتثال إِذا قِيلَ لَكُمُ من قبل اللّه و الرسول اِنْفِرُوا و اخرجوا جميعا إلى الجهاد فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته اِثّاقَلْتُمْ و تباطأتم كأنّكم لثقل أبدانكم متمائلون إِلَى اَلْأَرْضِ مخلدين فيها حبّا للحياة، و طلبا للرّاحة، و كراهة لمشاقّ السّفر، و خوفا من العدوّ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا و اطمأنتم إليها، و سكنت قلوبكم إلى شهواتها و نعيمها، بدلا مِنَ اَلْآخِرَةِ و نعيمها الدائم (2)فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و لذائذها و نعمها فِي جنب لذائذ اَلْآخِرَةِ و نعيمها إِلاّ قَلِيلٌ غير معتدّ به عند العقل و العقلاء.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ اِثّاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا مِنَ اَلْآخِرَةِ فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ (38) إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، و ذلك لأنّه لمّا رجع [النبيّ صلّى اللّه عليه و آله]من الطّائف أقام بالمدينة، و أمر بجهاد الرّوم، و كان ذلك الوقت زمان شدّة الحرّ، و طابت ثمار المدينة و أينعت، و استعظموا غزو الرّوم و هابوه. فنزلت (3).

و في (الجوامع) : كان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر، بعد رجوعهم من الطّائف، استنفروا في وقت قحط و قيظ، مع بعد الشّقّة، و كثرة العدوّ، فشقّ ذلك عليهم (4).

القمّي رحمه اللّه: و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يسافر سفرا أبعد و لا أشدّ منه، و كان سبب ذلك أنّ

ص: 152


1- . تفسير الرازي 16:58.
2- . في النسخة: الدائمة.
3- . تفسير الرازي 16:59.
4- . جوامع الجامع:178، تفسير الصافي 2:342.

الصيّافة (1)كانوا يقدمون المدينة من الشّام معهم الدّرموك (2)و الطّعام و هم الأنباط، فأشاعوا بالمدينة أنّ الرّوم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عسكر عظيم، و أنّ هرقل قد سار في جنوده و جلب معهم غسّان و جذام و بهراء و عاملة، و قد قدم عساكره البلقاء، و نزل هو حمص، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بالتهيّوء إلى تبوك، و هي من بلاد البلقاء، و بعث إلى القبائل حوله و إلى مكّة و إلى من أسلم من خزاعة و مزينة و جهينة، و حثّهم على الجهاد، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع، و أمر أهل جدّة أن يعينوا من لا قوّة له، و من كان عنده شيء أخرجه، و حملوا و قوّوا و حثّوا على ذلك. ثمّ خطب خطبة و رغّب النّاس في الجهاد. قال: و قدمت القبائل من العرب ممّن استنفرهم، و قعد عنه قوم من المنافقين (3).

فهدّدهم اللّه سبحانه على التّقاعد عنه بقوله: إِلاّ تَنْفِرُوا أيّها المؤمنون، و لا تخرجوا إلى الجهاد يُعَذِّبْكُمْ اللّه في الدّنيا عَذاباً أَلِيماً و يهلككم إهلاكا فظيعا بالقتل و غلبة العدوّ و القحط-كما قيل (4)- وَ يَسْتَبْدِلْ بكم بعد إهلاككم قَوْماً غَيْرَكُمْ خيرا منكم، و أطوع لأمر اللّه وَ لا تَضُرُّوهُ بتثاقلكم عن الجهاد و نصرة دينه شَيْئاً يسيرا من الضّرر، لكونه تعالى غنيّا عن العالمين، لا يحتاج في إنفاذ إرادته إلى معين، أو المراد: لا تضرّوا النبيّ شيئا، لأنّ اللّه عصمه من النّاس، و وعده النّصر.

عن ابن عبّاس قال: المراد من القوم الآخرين التّابعون (5). و قيل: أهل اليمن (6). و قيل: أبناء فارس (7).

و احتمل بعض أن يكون المراد: أن يخرج النبي صلّى اللّه عليه و آله من بين أهل المدينة و ينصره بالملائكة (6).

ثمّ أكّد غناه بقوله: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من التّعذيب و التّبديل و غيرهما قَدِيرٌ لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السّماء، فإذا وعد بالعقاب لا يخلف وعده. و هو غاية التّهديد.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 40

إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي اَلْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اَللّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلسُّفْلى وَ كَلِمَةُ اَللّهِ هِيَ اَلْعُلْيا وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

ص: 153


1- . أي الذين يأتون في الصيف.
2- . الدّرموك: الثياب و البسط.
3- . تفسير القمي 1:290، تفسير الصافي 2:342.
4- . تفسير روح البيان 3:429.
5- . تفسير الرازي 16:61. (6 و 7) . تفسير الرازي 16:61، تفسير أبي السعود 4:65.
6- . تفسير الرازي 16:61.

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار غناه عن نصرتهم بقوله: إِلاّ تَنْصُرُوهُ في غزوة تبوك، فإنّ اللّه ناصره، و ليست نصرته من اللّه تعالى أمرا بديعا فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّهُ و أعانه على أعدائه إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من قريش من مكّة، بأن اجتمعوا على قتله فخرج منها، حال كونه ثانِيَ اِثْنَيْنِ واحد الرّجلين، و لم يكن معه إلاّ أبو بكر.

في ذهاب

الرسول صلّى اللّه عليه و آله

إلى الغار

روت العامّة: أنّ بعد تفرّق قريش عن دار النّدوة، و اتّفاقهم على قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في اللّيل، أتاه جبرئيل عليه السّلام فأخبره بمكر قريش، و أمره بمفارقة مضجعه تلك اللّيلة، فقال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: نم على فراشي و اتّشح بردائي هذا الحضرمي، و كان صلّى اللّه عليه و آله يشهد العيدين في ذلك الرّداء، فلمّا مضت عتمة (1)من اللّيل-يعني ثلثه-اجتمعت (2)قريش على باب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانوا مائة، فجعلوا يتطلّعون من شقّ الباب و يرصدون متى ينام فيثبون عليه و يقتلونه، فخرج صلّى اللّه عليه و آله عليهم و هم ببابه، و قرأ يس* وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إلى قوله: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (3)، فأخذ اللّه أبصارهم عنه صلّى اللّه عليه و آله فلم يبصروه حتّى خرج من بينهم (4).

و في رواية: أنّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ قبضة من تراب فذرّها عليهم، فأتاهم آت فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمّدا، قال: فقد خيّبكم اللّه، و اللّه خرج من بينكم محمّد، ثمّ ما ترك رجلا منكم إلاّ وضع في رأسه التّراب، و انطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم، فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه التّراب.

فدخلوا على عليّ عليه السّلام فقالوا له: يا عليّ، أين محمّد؟ قال: «لا أدري أين ذهب» و كان قد انطلق إلى بيت أبي بكر، فلمّا دخل عليه قال: «إنّ اللّه أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصّحبة يا رسول اللّه، بأبي أنت و امّي، قال: نعم، قال أبو بكر: خذ إحدى راحلتي هاتين، فإنّي أعددتهما للخروج، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم، بالثّمن» و هي الناقة القصوى أو الجدعاء، و أمّا الناقة العضباء فقد جاء أنّ ابنته فاطمة تحشر عليها.

ثمّ استأجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبو بكر رجلا من بني الدّئل ليدلّهما على الطريق للمدينة؛ و كان على دين قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، و واعداه غار جبل ثور بعد ثلاث ليال أن يأتي بالرّاحلتين صباح اللّيلة الثّالثة، فمكث صلّى اللّه عليه و آله في بيت أبي بكر إلى اللّيلة القابلة، فخرجا إلى طرف الغار، فمشى صلّى اللّه عليه و آله ليلته على طرف أصابعه حتّى حفيت رجلاه. إلى أن قالوا: و لمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغار، أمر اللّه شجرة- و هي التي يقال لها القتاد، و قيل: امّ غيلان-فنبتت في وجه الغار، فسترته بفروعها (5).

ص: 154


1- . في النسخة: مضى قسمة.
2- . في النسخة: اجتمع.
3- . يس:36/1-9.
4- . تفسير روح البيان 3:431.
5- . تفسير روح البيان 3:432.

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله دعا تلك اللّيلة شجرة كانت أمام الغار، فأقبلت حتّى وقفت على باب الغار، و كانت مثل قامة الإنسان (1).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ على ثمامة-و هي شجرة صغيرة ضعيفة-فأمر أبا بكر أن يأخذها معه، فلمّا صار إلى باب الغار أمره أن يجعلها على باب الغار، و بعث اللّه العنكبوت فنسجت ما بين فروعها نسجا متراكبا كنسج أربعين سنة (2).

فلمّا فقد المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شقّ عليهم و خافوا، و طلبوه بمكّة أعلاها و أسفلها، و بعثوا القافة في كلّ وجه ليقفوا أثره، فوجد الذي ذهب إلى جبل ثور أثره انتهى إلى الغار، فقال: هاهنا انقطع الأثر، و لا أدري ذهب يمينا أو شمالا، أو صعد على الجبل، فأقبل فتيان قريش من كلّ بطن بعصيّهم و سيوفهم، فلمّا انتهوا إلى الغار قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال اميّة بن خلف: ما أرى أنّه أتى الغار، إنّ عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمّد، و لو دخل فيه لما نسج العنكبوت، و عند ما حاموا حول الغار حزن أبو بكر خوفا على رسول اللّه (3).

أقول: لم يكن له بحال الخوف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن كان مؤمنا برسالته و صدق أخباره، مع مشاهدته المعجزات العظيمة منه؛ كمجيء الشجر على باب الغار، و نسج العنكبوت عليه، بل إنّما كان خوفه دليلا على عدم إيمانه بالرّسول، و حمله معجزاته على السّحر، و عليه كان خوفه على نفسه، بحيث كاد أن يعلو صوته و يطّلع المشركون على كون الرسول في الغار، فنصر اللّه رسوله.

إِذْ هُما فِي اَلْغارِ و المشركون على بابه إِذْ يَقُولُ الرّسول لِصاحِبِهِ و الذي معه فيه و هو أبو بكر: لا تَحْزَنْ و لا تخف إِنَّ اَللّهَ بحفظه و عونه مَعَنا.

و إنّما قال: مَعَنا و لم يقل: «معي» لعلمه بعدم سكون قلبه بقوله: «إنّ اللّه معي» ، و لو كان خوفه على الرسول صلّى اللّه عليه و آله لكفى في زواله قوله: «إن اللّه معي» ، كما أنّه كفى في تسكين قلب عليّ عليه السّلام حين نومه في فراش الرّسول أنّه صلّى اللّه عليه و آله بشّره بسلامة نفسه.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقبل يقول لأبي بكر في الغار: اسكن، فإنّ اللّه معنا و قد أخذته الرّعدة و هو لا يسكن، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حاله قال له: أتريد أن اريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدّثون، و اريك جعفرا و أصحابه في البحر يغوصون؟ قال: نعم، فمسح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده على وجهه، فنظر إلى الأنصار يتحدّثون، و إلى جعفر و أصحابه في البحر يغوصون» . الخبر (4).

ص: 155


1- . تفسير روح البيان 3:433.
2- . تفسير روح البيان 3:433، و فيه: أربع سنين.
3- . تفسير روح البيان 3:434.
4- . الكافي 8:262/377، تفسير الصافي 2:344.

في استدلال العامة

على فضيلة

أبي بكر وردّه

ثمّ أعلم أنّه استدلّت العامّة بهذه الآية على فضيلة أبي بكر، و أن إيمانه كان حقيقيّا بوجوه ضعيفة نقلها الفخر الرازي (1):

الأوّل: أنّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما ذهب إلى الغار لأجل أنّه كان يخاف الكفّار من أن يقدموا على قتله، فلولا أنّه كان قاطعا على باطن أبي بكر بأنّه كان من المؤمنين المحقّين الصادقين الصدّيقين لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع؛ لأنّه لو جوّز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره لخافه من أن يدلّ عليه أعداءه، و أيضا لخافه من أن يقدم على قتله (2).

و فيه: أنّه يمكن أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان قاطعا بأنّه لو لم يصحبه معه مع استدعائه المصاحبة كان يفسد في أمره، و كان عالما بأنّه يحفظه من أعماله السيّئة، و من أن يخبر الكفّار بمكانه إذا صحبه، مع علمه صلّى اللّه عليه و آله بعدم قدرته مع ضعف بدنه و قلبه على الإساءة إليه و إصابته بمكروه.

الثّاني: أن الهجرة كانت (3)بأمر اللّه، و كان في خدمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. جماعة من المؤمنين المخلصين، و كانوا في النّسب إلى شجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقرب من أبي بكر، فلولا أنّ اللّه أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك القضيّة الهائلة لما كان يستصحبه، و لا يخصّه بهذه الصّحبة، و تخصيص اللّه إيّاه بهذا التّشريف دلّ على منصب عال له في الدّين (4).

و فيه: أنّ صريح روايتهم أنّه حين ملاقاته النبيّ و اطّلاعه على هجرته، التمس منه الصّحبة، فأجابه النبيّ إليها، و لو كان استصحابه بأمر اللّه لبشّره النبيّ به في بدو ملاقاته، مع أنّه يمكن أنّ اللّه أمر النبي باستصحابه خاصّة لحكم؛ منها أنّه لو لم يستصحبه و أبقاه في مكّة، لم يكن على إسلامه الظّاهري؛ لأنّه كان منه على حرف، فاقتضت الحكمة حفظ إسلامه ليقضي [اللّه]أمرا كان مفعولا.

الثّالث: أنّ كلّ من سوى أبي بكر فارقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أمّا هو فما سبق رسول اللّه كغيره، بل صبر على مؤانسته و ملازمته و خدمته، عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد (5).

و فيه: أنّ المراد من الخوف الشّديد الذي لم يبق معه أحد، هو الحاصل من اتّفاق قريش على قتله في دار النّدوة، و اجتماعهم على باب داره، لذلك فالظّاهر أنّه لم يطّلع عليه أحد من الأصحاب حتّى أبي بكر؛ لأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اطّلع عليه في مساء ذلك اليوم بإخبار جبرئيل، و لم يكن أبو بكر في ملازمته و خدمته، بل ذهب النبيّ-على ما رووه-إلى بيت أبي بكر في قرب من نصف اللّيل، بعد أن أمر عليّا عليه السّلام بالمبيت على فراشه. و على صدق الرّواية لعلّه كان ذهابه إلى بيته لأجل شرائه ناقته

ص: 156


1- . تفسير الرازي 16:63.
2- . تفسير الرازي 16:63.
3- . في النسخة: كان. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:63.

و الاختفاء عنده.

الرّابع: أنّه تعالى سمّاه ثانِيَ اِثْنَيْنِ فجعله ثاني محمّد، حال كونهما في الغار (1).

و فيه: أنّ المراد بيان أنّ اللّه نصر النبي صلّى اللّه عليه و آله بطريق خارق للعادة، حيث أخرجه من بين أظهر الكفّار و لم يكن معه إلاّ رجل واحد و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله ثانيه. و عليه،

فلا شبهة في أنّ المراد من ثانِيَ اِثْنَيْنِ الثاني في العدد لا الثاني في الفضيلة و الرّتبة و المنزلة عند اللّه.

و لعمري إنّ هذا في الوضوح بمكان لا يخفى على أحد حتّى الأحمق العيّ، فكيف بالفاضل الزكيّ؟ و العجب من الفخر و أضرابه أنّهم تخيّلوا أنّ المراد الثاني في المنزلة، مع أنّهم قالوا: إذا حضر اثنان يقال لكلّ واحد أنّه ثاني اثنين، أي هو أحدهما.

ثمّ قال الفخر: و العلماء أثبتوا أنّ أبا بكر كان ثاني محمّد صلّى اللّه عليه و آله في أكثر المناصب الدّينيّة، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أرسل إلى الخلق و عرض الإسلام على أبي بكر آمن به أبو بكر، ثمّ ذهب و عرض الإسلام على طلحة و الزّبير و عثمان بن عفّان و جماعة آخرين من أجلّة الصّحابة، و الكلّ آمنوا على يديه، ثمّ إنّه جاء بهم إلى رسول اللّه بعد أيام قلائل، فكان هو ثاني اثنين في الدّعوة إلى اللّه (2).

أقول فيه: أولا: لا نسلّم أنّه آمن بدعوته [أحد]إلاّ قليل ممّن كان إيمانه كإيمانه؛ كطلحة الذي قال: إنّ محمّدا يحرّم علينا نساءه و يتزوّج هو بنسائنا، لئن أمات اللّه محمّدا لنركضنّ بين خلاخيل نسائه، كما ركض بين خلاخيل نسائنا (3). و كعثمان الذي ملأت مطاعنه الدّفاتر.

و ثانيا: كان جعفر بن أبي طالب أولى منه بأن يكون ثاني اثنين محمّد صلّى اللّه عليه و آله في الدّعوة، حيث إنّه هاجر إلى الحبشة و آمن بدعوته النّجاشي و جماعة كثيرة.

ثمّ قال: و أيضا كلّما وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة، كان أبو بكر يقف في خدمته و لا يفارقه، فكان ثاني اثنين في مجلسه (4).

أقول فيه: إنّ وقوفه عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغزوات كان لجبنه و ضعف قلبه، و عدم كونه من رجال الحرب و باذلا مهجته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لذا لم يكن ممّن بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت في غزوة احد، مع كونه عنده صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ قال: و لمّا مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام مقامه في إمامة النّاس في الصلاة، فكان ثاني اثنين (5).

أقول: العجب ممّن لا يستحي من القول الباطل، كيف لم يقل إنّه أقامه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقامه في

ص: 157


1- . تفسير الرازي 16:64.
2- . تفسير الرازي 16:64.
3- . تفسير القمي 2:195، بحار الأنوار 17:27. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:64.

الإمامة، ليثبت له الفضل؟ فإنّ قيامه مقامه في الإمامة بغير إذن الرّسول لا فضل فيه، مع توهّم النّاس أنّه أرسله الرّسول صلّى اللّه عليه و آله للإمامة، بل هو غصب لمقامه و جرأة عليه صلّى اللّه عليه و آله، كما أنّه جلس مجلسه و غصب محرابه و منبره و خلافته.

ثمّ قال الفخر: و طعن بعض الحمقى من الرّوافض في هذا الوجه، و قال: كونه ثاني اثنين للرّسول لا يكون أعظم من كون اللّه تعالى رابعا لكلّ ثلاثة في قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ (1)، ثمّ أنّ هذا الحكم عام في حقّ الكافر و المؤمن، فلمّا لم يكن هذا المعنى من اللّه تعالى دالاّ على فضيلة الإنسان، فلأن لا يدلّ من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على فضيلة الإنسان كان أولى.

و الجواب: أنّ هذا تعسّف بارز، لأنّ المراد هناك: كونه تعالى مع الكلّ بالعلم و التّدبير، و كونه مطّلعا على ضمير كلّ أحد، أما هاهنا فالمراد بقوله تعالى: ثانِيَ اِثْنَيْنِ تخصيصه بهذه الصّفة في معرض التّعظيم، و أيضا قد دلّلنا بالوجوه الثلاثة المتقدّمة، على أنّ كونه معه في هذا الموضع، دليل قاطع على أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاطعا بأنّ باطنه كظاهره، فأين أحد الجانبين من الآخر (2).

أقول فيه: إنّه قد بيّنا أن المراد من كون النبي ثانِيَ اِثْنَيْنِ كونه أحد الرّجلين، و لا دلالة له على أنّ أبي بكر ثاني النبي و تاليه في الفضيلة و المنزلة عند اللّه، و إنّما كان سوق الكلام في بيان عظمة النبيّ و أنّ اللّه ينصره و لو لم يكن معه أحد؛ كما نصره يوم الغار و لم يكن معه إلاّ رجل كان وجوده كعدمه، فأين هذا من بيان الفضيلة لأبي بكر؟ و قد أوضحنا أنّ الوجوه الثلاثة التي ذكرها من التّرّهات التي لا تصدر من العقلاء.

و لعمري، إنّ الاعتماد عليها في إثبات الفضيلة لمن له شائبة الفضل من أقوى الشّواهد على غاية الحمق، بل الآية دالّة على عدم فضيلة لأبي بكر، و كونه ساقطا من نظر الرّحمة حيث خصّ سبحانه النبي بنزول السّكينة و التأييد بالملائكة بقوله: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ و رحمته الخاصّة التي توجب اطمئنان قلب نبيّه عَلَيْهِ صلّى اللّه عليه و آله دون صاحبه وَ أَيَّدَهُ و قومه في بدر و غيره من المواطن بِجُنُودٍ من الملائكة لإعانته على أعدائه، و أنتم لَمْ تَرَوْها.

عن الرضا عليه السّلام (3): [قيل له]: إنّهم يحتجّون علينا بقول اللّه: ثانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي اَلْغارِ، [فقال عليه السّلام]: «و ما لهم في ذلك من حجّة، فو اللّه لقد قال اللّه: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ و ما

ص: 158


1- . المجادلة:58/7.
2- . تفسير الرازي 16:64.
3- . في النسخة: عن الصادق عليه السّلام.

ذكره-يعني: أبا بكر-فيها بخير» . قيل: هكذا تقرأونها؟ قال: «هكذا قرأتها» (1).

و عن الباقر عليه السّلام، فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ قال: «ألا ترى أنّ السكينة [إنّما]نزلت على رسوله» (2).

أقول: الرّوايتان محمولتان على إرادة بيان مرجع ضمير عَلَيْهِ، لا بيان أنّه كانت في الآية عَلى رَسُولِهِ بدل عَلَيْهِ فحرّفت.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة نصرته لرسوله بقوله: وَ جَعَلَ اللّه بقدرته الكاملة كَلِمَةَ الشّرك التي قالها اَلَّذِينَ كَفَرُوا هي اَلسُّفْلى و الدّنيا أبدا إلى آخر الدّنيا وَ كَلِمَةُ اَللّهِ و هي توحيده، و رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دينه هِيَ بالخصوص الكلمة اَلْعُلْيا و الأقوى بحيث لا تعلو عليها كلمة باطل وَ اَللّهُ عَزِيزٌ و غالب على أمره، و قادر على اضمحلال الباطل و تجلية الحقّ حَكِيمٌ في تدبيره و قضائه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 41

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالجهاد بقوله: اِنْفِرُوا أيّها المؤمنون، و اخرجوا إلى الجهاد جميعا، حال كونكم خِفافاً وَ ثِقالاً و ركبانا و مشاة، أو شبابا و شيوخا، أو أغنياء و فقراء، أو أصحّاء و مرضى، أو نشّاطا و غير نشّاط، أو عزّابا و متأهّلين، أو مقلّين لسلاح أو مكثرين. و قيل يعني: على كلّ حال (3)- وَ جاهِدُوا الكفّار بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ و ابذلوهما فِي سَبِيلِ اَللّهِ و نصرة دينه ذلِكُمْ الجهاد و بذل الأموال و الأنفس خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة من تركه و الاستراحة و الاشتغال بلذّات الدّنيا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ عواقب الامور و نتائج الأعمال، و تدركون الخير و النّفع.

اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 42

ثمّ أنّه تعالى بعد التّرغيبات الكثيرة إلى الجهاد، و التّهديد على التخلّف عنه، وبّخ المتخلّفين عنه

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اِسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)

ص: 159


1- . تفسير العياشي 2:232/1825، تفسير الصافي 2:344.
2- . تفسير العياشي 2:233/1826، تفسير الصافي 2:344.
3- . تفسير أبي السعود 4:67.

و المتباطئين فيه بقوله: لَوْ كانَ ما دعيتم (1)إليه من غزوة تبوك عَرَضاً و غنما من أموال الدّنيا قَرِيباً إليهم، و سهلا عليهم وَ كان سَفَراً قاصِداً و متوسّطا لا تعب فيه لاَتَّبَعُوكَ فيه، و أطاعوا أمرك به طمعا في الغنيمة وَ لكِنْ بَعُدَتْ مسافة تبوك و كثرت عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ و الكلفة، و لذا يتخلّفون عنك، و يتقاعدون فيه وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ اعتذارا إليك بعد رجوعك إليهم فاتحا لَوِ اِسْتَطَعْنا و أمكننا الخروج من حيث التّهيئة و صحّة البدن لَخَرَجْنا مَعَكُمْ إلى السّفر و الغزو، و ما تخلّفنا عنكم. و هم بتخلّفهم عن الغزو، و عصيانهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و حلفهم الكاذب، و يمينهم الفاجرة يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالعذاب الدّنيوي و الاخروي وَ اَللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في دعوى عدم استطاعتهم للخروج.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 43

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مأمورا بالرّفق و المداراة مع البرّ و الفاجر، فلهذا أذن للمنافقين في التخلّف رفقا و مداراة لهم و تقبّلا لأعذارهم، أظهر اللّه سبحانه غاية الغضب عليهم بتوجيه العتاب إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على الإذن، بعد المبالغة في تعظيم نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أوّلا بقوله: عَفَا اَللّهُ عَنْكَ حيث إنّ هذا الدّعاء-على ما قيل-كان شائعا في مقام تعظيم الأعاظم و الملوك. ثمّ وجّه العتاب بقوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في التخلّف عنك في هذا الغزو، و لم تتأنّ في الإذن حَتّى يَتَبَيَّنَ و يظهر لَكَ المعتذرون اَلَّذِينَ صَدَقُوا في اعتذارهم من عدم خروجهم إلى السّفر بعدم استطاعتهم للخروج من حيث المال و البدن وَ تَعْلَمَ اَلْكاذِبِينَ منهم في اعتذارهم، فإنّك لو توقّفت في إذنهم لعلمت أن جميعهم كانوا كاذبين، و افتضح كلّهم عندك بالنّفاق.

عَفَا اَللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكاذِبِينَ (43)عن الباقر عليه السّلام: «يقول لتعرف أهل العذر (2)، و الذين جلسوا بغير عذر» (3).

و في (الجوامع) : هذا من لطيف المعاتبة الذي بدأه بالعفو قبل العتاب، و يجوز العتاب من اللّه فيما غيره [منه]أولى لا سيّما للأنبياء، و ليس كما قال جار اللّه من أنّه كناية عن الجناية، و حاشا سيّد الأنبياء و خير بني حوّاء من أن ينسب إليه الجناية، انتهى (4).

و من التّفسير الذي ذكرنا يعلم أنّه لا يحتاج المقام إلى الالتزام بصدور خلاف الأولى منه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 160


1- . في النسخة: ما دعوتم.
2- . في تفسيري العياشي و الصافي: الغدر.
3- . تفسير القمي 1:294، تفسير الصافي 2:345.
4- . جوامع الجامع:179، تفسير الصافي 2:345.

و استحقاقه العتاب عليه، بل الاستفهام كناية عن بيان عدم قابليّة (1)هؤلاء للرّفق بهم، و إن كان من شأن النبيّ هذا الرّفق.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 44

ثمّ نبّه سبحانه على علامة الخلوص بقوله: لا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عن صميم و خلوص النيّة بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و ليس من دأبهم الاستجازة في أَنْ يُجاهِدُوا الكفّار بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ بل يبادرون إلى الجهاد شوقا إليه بلا انتظار لإذنك، فضلا عن أن يستأذنوك في التخلّف عنه. و قيل: إنّ المعنى: ليس من عادتهم أن يستأذنوك في التخلّف كراهة أن يجاهدوا وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ و مطّلع على أحوالهم و ضمائرهم، و يجازيهم بأحسن الجزاء.

لا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)قال الفخر الرّازي: كان الأكابر من الصّحابة لا يستأذنون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الجهاد، و كانوا بحيث لو أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالقعود عنه لشقّ عليهم ذلك، ألا ترى أنّ عليّ بن أبي طالب لمّا أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يبقى في المدينة شقّ عليه ذلك، و لم يرض إلى أن قال له الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ؟ (2)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 45

ثمّ بيّن سبحانه علامة النّفاق بقوله: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ المنافقون اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ عن صميم القلب بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ في التخلّف عن الجهاد وَ اِرْتابَتْ قُلُوبُهُمْ و خلجت للشكّ فيها لا للجزم بعدمها فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ و شكّهم المستقرّ في قلوبهم يَتَرَدَّدُونَ و يتحيّرون. و إنّما استعمل التردّد في التحيّر؛ لأنّ عادة المتحيّر التردّد.

إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اِرْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من تردّد في الرّيب سبقه الأوّلون، و أدركه الآخرون، و وطئته سنابك الشّياطين» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 46

وَ لَوْ أَرادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اَللّهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقاعِدِينَ (46)

ص: 161


1- . مراده عدم استحقاق.
2- . تفسير الرازي 16:76.
3- . الخصال:233/74، تفسير الصافي 2:346.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 46

ثمّ بيّن اللّه سبحانه عدم إرادة المنافقين المعتذرين من أولّ الأمر الخروج إلى تبوك بقوله: وَ لَوْ أَرادُوا اَلْخُرُوجَ معك إلى تبوك لَأَعَدُّوا لَهُ و تهيّأوا لسفرهم في وقته عُدَّةً و اهبة، عن ابن عبّاس: يريد الزّاد و الماء و الرّاحلة؛ لأن سفرهم بعيد و في زمان شديد، فتركهم العدّة دليل على أنّهم أرادوا التخلّف (1)، و لو أراد اللّه خروجهم بالإرادة التّكوينيّة، لخرجوا و جاهدوا معكم وَ لكِنْ كَرِهَ اَللّهُ اِنْبِعاثَهُمْ و نهوضهم للخروج لما فيه من المفاسد فَثَبَّطَهُمْ و حبسهم عن الخروج بإلقاء الجبن في قلوبهم، و الكسل عليهم وَ قِيلَ لهم من قبل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله: أيّها المنافقون اُقْعُدُوا في أماكنكم مَعَ اَلْقاعِدِينَ في بيوتهم من النّساء و الصّبيان. و فيه غاية ذمّهم بإلحاقهم بالعجزة.

وَ لَوْ أَرادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اَللّهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقاعِدِينَ (46)و الظّاهر أنّ هذا القول هو إذنهم الذي عاتب اللّه عليه بقوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.

و قيل: إنّ القائل هو اللّه؛ لأنّه كره انبعاثهم، فنزل منزلة الأمر بالقعود (2).

و قيل: إنّ القائل بعضهم (3)، و قيل: هو الشّيطان بوسوسته (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 47

ثمّ شرح اللّه مفاسد خروجهم بقوله: لَوْ خَرَجُوا هؤلاء المنافقون فِيكُمْ أيّها المسلمون إلى الغزو ما زادُوكُمْ شيئا إِلاّ خَبالاً و شرّا و مكرا و خديعة، أو غيّا أو اضطرابا في الرأي، بالتّجبين و تهويل أمر الكفّار وَ لَأَوْضَعُوا و مشوا خِلالَكُمْ و فيما بينكم بالنميمة (2)، أو أسرعوا ركائبهم بينكم بإلقاء العداوة، و ما يوجب الانهزام فيكم، و هم يَبْغُونَكُمُ و يطلبون لكم اَلْفِتْنَةَ و اختلاف الكلمة وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ و نمّامون و جواسيس لَهُمْ لينقلوا إليهم ما سمعوه منكم وَ اَللّهُ عَلِيمٌ و محيط بِالظّالِمِينَ ظواهرهم و بواطنهم، أقوالهم و أعمالهم.

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (47)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 48

ثمّ أخبر اللّه بأنّ التفتين هو دأبهم السّابق بقوله: لَقَدِ اِبْتَغَوُا و طلبوا اَلْفِتْنَةَ و الاختلاف بين

لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ حَتّى جاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ (48)

ص: 162


1- . تفسير الرازي 16:78. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 16:80، تفسير أبي السعود 4:71.
2- . في النسخة: بالنمام.

أصحابك مِنْ قَبْلُ قيل: هو صدّ النّاس عن الدّخول في الإسلام (1). و قيل: هو ما فعله عبد اللّه بن أبيّ يوم احد من انصرافه مع أصحابه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2)، و قيل: هو أن اثني عشر من المنافقين وقفوا على ثنيّة الوداع ليلة العقبة ليفتكوا به، فأخبره اللّه بذلك (3)، و قيل: هو إلقاؤهم شيئا بين قوائم ناقة النبيّ باللّيل حتّى تنفر و تلقي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن ظهرها (2)و قيل: هو قولهم يوم الأحزاب: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا (3)و الحقّ أنّ الكلّ داخل في الفتنة.

وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ و دبّروا في إطفاء نورك الحيل، و كانوا مصرّين و مستمرّين على ذلك حَتّى جاءَ اَلْحَقُّ من النّصر و التّأييد لك وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّهِ و نشر دينه و علا شرفه، على رغم منهم وَ هُمْ كارِهُونَ لذلك.

و حاصل المراد: أنّه لم يؤثّر مكرهم و سعيهم في إثارة الفتنة شيئا، بل كلّما مكروا ردّ اللّه مكرهم في نحرهم، و قلب مرادهم، و أتى بضدّ مقصودهم، و كذلك يكون فيما بعد. و فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 49

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّهم بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لك يا رسول اللّه: اِئْذَنْ لِي في الإقامة في البلد، و القعود عن السّفر وَ لا تَفْتِنِّي و لا تبتلني بالوقوع في عصيانك بالقعود بغير إذنك، أو لا تهلكني بسبب السّفر في شدّة الحرّ مع ضعف الحال و قلّة الطّاقة، أو لا تبتلني بتلف العيال و المال.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)قيل: إنّه قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أنّي مغرم بالنّساء، فلا تفتنّي ببنات الأصفر-يعني: نساء الرّوم-لكنّي اعينك بمالي فاتركني (4).

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المسلمون أنّهم فِي اَلْفِتْنَةِ و الشرّ من الكفر باللّه و رسوله و عصيانهما سَقَطُوا و في الخوف من المسلمين و الفضيحة بينهم بظهور النّفاق و الحرمان من السّعادات الدّنيويّة و الاخرويّة وقعوا في الدّنيا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ في الآخرة لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لإحاطة أسباب دخولها بهم في الدّنيا، و هؤلاء المنافقون منهم.

القمّي: لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجدّ بن قيس فقال له: يا أبا وهب، ألا تنفر معنا في هذه الغزوة، لعلّك

ص: 163


1- . تفسير الرازي 16:83. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:83، تفسير أبي السعود 4:71.
2- . تفسير روح البيان 3:443.
3- . تفسير روح البيان 3:443، و الآية من سورة الأحزاب:33/13.
4- . تفسير الرازي 16:83.

أن تحتفد من بنات الأصفر (1)؟ فقال: يا رسول اللّه، و اللّه إنّ قومي ليعلمون أنّه ليس فيهم أحد أشدّ عجبا بالنّساء منّي، و أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر؛ فلا تفتنّي، و أذن لي أن اقيم. و قال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحرّ، فقال ابنه: تردّ على رسول اللّه و تقول ما تقول، ثمّ تقول لقومك لا تنفروا في الحرّ! و اللّه لينزلنّ اللّه في هذا قرآنا يقرأه النّاس إلى يوم القيامة، فأنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه و آله في ذلك: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي الآية. ثمّ قال الجدّ بن قيس: أيطمع محمّد أنّ حرب الرّوم كحرب غيرهم، لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 50

ثمّ بيّن اللّه شدّة عداوتهم للرّسول، و حسدهم عليه بقوله: إِنْ تُصِبْكَ يا محمّد في غزواتك و غيرها حَسَنَةٌ و فائدة من ظفر و غنيمة و غيرها تَسُؤْهُمْ و تحزنهم، ذلك لفرط عداوتهم و حسدهم عليك وَ إِنْ تُصِبْكَ في غزواتك مُصِيبَةٌ من جراحة، و شدّة، و قتل أصحابك كيوم احد يَقُولُوا فرحا و شكرا: نحن بحسن آرائنا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا و راعينا حزمنا مِنْ قَبْلُ باعتزالنا في تلك الواقعة فسلمنا ممّا أصابهم وَ يَتَوَلَّوْا و يعرضوا عن مجلس أصحابهم إلى أهاليهم وَ هُمْ فَرِحُونَ مسرورون بمصائبك و سلامة أنفسهم بقعودهم عن الحرب.

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (50)القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الحسنة فالغنيمة و العافية، و أمّا المصيبة فالبلاء و الشدّة» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 51 الی 52

ثمّ أمر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم: لَنْ يُصِيبَنا شيء من خير أو شرّ، أو رخاء أو شدّة أبدا إِلاّ ما كَتَبَ اَللّهُ في اللّوح و قدّره لَنا فإنّه ما من حادثة إلاّ و هي منتهية إلى قضائه و قدره.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اَللّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)قيل: إنّ المراد: ما كتب اللّه لنا في عاقبة الأمر من الظّفر و الغلبة على الأعداء، و إن أصابنا في أوّل

ص: 164


1- . أي تخدم من بنات الروم بعد أسرهنّ.
2- . تفسير القمي 1:292، تفسير الصافي 2:347.
3- . تفسير القمي 1:292، تفسير الصافي 2:348.

الأمر شدّة. فيكون فيه ردّ لفرحهم.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: هُوَ تعالى مَوْلانا و مدبّر امورنا، و حافظ صلاحنا، و اللّطيف بنا، لا يريد إلاّ ما هو خيرنا و صلاحنا.

ثمّ ذكر ما هو لازم معرفته بالولاية بقوله: وَ عَلَى اَللّهِ خاصّة فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ و ليعتمد العارفون في جميع امورهم علما منهم بغاية فضله، و سعة رحمته عليهم، و عدم كون أحد و شيء من الموجودات منشأ خير أو شرّ.

روي أنّه «لا يكمل إيمان المرء حتّى يرى النّاس كأباعير» (1).

ثمّ ردّهم ثانيا بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: هَلْ تَرَبَّصُونَ و تنتظرون بِنا أيّها المنافقون شيئا إِلاّ إِحْدَى العاقبتين اَلْحُسْنَيَيْنِ إمّا الثّواب العظيم المعدّ للشّهداء في الآخرة، و الأجر الجزيل على تحمّل الشّدائد إن صرنا مغلوبين، و إمّا الغنيمة و الشوكة و رواج الإسلام مع الأجر إن صرنا غالبين، ليس لكم أن تودّوا (2)فينا غير العاقبتين المذكورتين، و كلّ واحدة منهما في غاية الجلالة و الرّفعة وَ إنّا نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ و ننتظر في حقّكم إحدى العاقبتين السيّئتين إمّا أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ في الدّنيا بِعَذابٍ عظيم كائن مِنْ عِنْدِهِ من الصّيحة و الرّجفة و الصاعقة و غيرها، كما أصاب من قبلكم من الامم الظّالمة المهلكة أَوْ عذاب بِأَيْدِينا من القتل و الأسر، فإذا كان كذلك فَتَرَبَّصُوا و انتظروا عاقبتنا و عاقبتكم إِنّا أيضا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ذلك.

عن (النهج) و (الكافي) : عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و كذلك المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر إحدى الحسنيين؛ إمّا داعي اللّه، فما عند اللّه خير له، و إمّا رزق اللّه، فإذا هو ذو أهل و مال و معه دينه و حسبه» (3).

و عن الباقر عليه السّلام، إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ قال: «إمّا موت في طاعة اللّه، أو إدراك ظهور الإمام، (و نحن نتربص بهم) مع ما نحن فيه من الشّدة (أن يصيبهم الله بعذاب من عنده) قال: هو المسخ أَوْ بِأَيْدِينا و هو القتل، قال [اللّه عزّ و جلّ]: فَتَرَبَّصُوا. . . قال: التربّص انتظار وقوع البلاء بأعدائهم» (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 53

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)

ص: 165


1- . بحار الأنوار 72:304/51. «نحوه» .
2- . في النسخة: تتوددون.
3- . نهج البلاغة:64/23، الكافي 5:57/6، تفسير الصافي 2:348.
4- . الكافي 8:286/431، تفسير الصافي 2:348.

ثمّ لمّا بيّن اللّه أنّ المنافقين مستحقّين للعذاب، و أنّ جهنم محيطة بهم، بيّن أنّ نفقاتهم و صدقاتهم غير مقبولة عند اللّه، و غير نافعة لهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهؤلاء المنافقون: أَنْفِقُوا على الفقراء و المجاهدين إن شئتم طَوْعاً أَوْ إن شئتم كَرْهاً و اعلموا أنّها على أيّ التقديرين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ عند اللّه، و لن تثابوا عليها أبدا لا في الدّنيا و لا في الآخرة.

ثمّ نبّه على العلّة بقوله: إِنَّكُمْ أيّها المنافقون كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ و خارجين عن حدود الإسلام إلى الكفر.

عن ابن عبّاس: نزلت في الجدّ بن قيس حين قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ائذن لي في القعود، و هذا مالي اعينك به (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 54

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الفسق المانع عن قبول الصّدقات هو البالغ حدّ الكفر بقوله: وَ ما مَنَعَهُمْ و حرمهم من أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ و يثابون عليها شيئا إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ و بدين الإسلام، وَ لذا لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ جماعة أو فرادى إِلاّ وَ هُمْ كُسالى و متثاقلون وَ لا يُنْفِقُونَ أموالهم على الفقراء و المجاهدين إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ للإنفاق لعدم اعتقادهم النّفع فيهما، و عدم خوفهم من العقاب على تركهما.

وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ (54)روي أن الجدّ بن قيس تاب بعد ذلك من نفاقه، و حسن حاله، و مات في خلافة عثمان (2).

عن الصادق عليه السّلام: «لا يضرّ مع الإيمان عمل، و لا ينفع مع الكفر عمل، ألا ترى أنّه تعالى قال: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ الآية؟» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 55

ثمّ بيّن سبحانه أنّ أموالهم و أولادهم مع أنّهما لا ينفعانهم في الدّنيا، يكونان وبالا عليهم و استدراجا في الدّنيا، بقوله: فَلا تُعْجِبْكَ و لا يحسن في نظرك أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ التي يظنّون انتفاعهم بهما، فإنّه ليس الأمر كما يظنّون، بل إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أن يملي لهم فيهما لِيُعَذِّبَهُمْ

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (55)

ص: 166


1- . تفسير الرازي 16:88.
2- . تفسير روح البيان 3:448.
3- . الكافي 2:335/3، تفسير الصافي 2:349.

بِها فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا أمّا تعذّبهم بالمال فبسبب كثره التّعب في جمعها و حفظها، و الخوف من تلفها، و الحزن على ذهابها؛ و بالأولاد فبسبب الابتلاء بنفقتهم، و أمراضهم، و سوء أخلاقهم، و الحزن على فراقهم و موتهم وَ لأن تَزْهَقَ و تخرج أَنْفُسُهُمْ و أرواحهم من أبدانهم وَ هُمْ كافِرُونَ لكون اشتغالهم بهما سببا لغفلتهم عن التفكّر في آيات التّوحيد و المعاد.

روى بعض العامّة: أنّه سأل معاوية امرأة كانت تعرف عليّا صلّى اللّه عليه و آله، فقال لها: كيف رأيت عليّا؟ قالت: كان رجل لم يبطره الملك، و لم تعجبه النّعمة (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 56 الی 57

ثمّ بيّن اللّه سبحانه شدّة نفاق المنافقين، و إظهارهم الموافقة للمؤمنين الخلّص (2)بقوله: وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ نفاقا و كذبا لكم إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ و في زمرتكم، و إيمانهم كإيمانكم وَ ما هُمْ مِنْكُمْ و من جملتكم لكفرهم و خبث ذاتهم وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ و يخافون منكم، و لذا يظهرون الإسلام تقيّة، و يؤكّدون دعوتهم بالأيمان الفاجرة الكافرة.

وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57)ثمّ بيّن اللّه غاية خوفهم من المسلمين بقوله: لَوْ كانوا يَجِدُونَ لأنفسهم مَلْجَأً و حصنا حصينا يلجأون إليه، و يتحصّنون به من بأسكم أَوْ يجدون مَغاراتٍ و كهوفا في الجبال يختفون فيها، و يستترون منكم أَوْ مُدَّخَلاً و نقبا في الأرض يدخلون فيه، أو قوما يدخلون فيهم و هم يحفظونهم، أو لا يعرفون من بينهم.

و عن الباقر عليه السّلام: «أسرابا في الأرض» (3)، و عن القمّي: موضعا يلجأون إليه (4).

لَوَلَّوْا و فرّوا إِلَيْهِ منكم فرقا و خوفا وَ هُمْ في فرارهم يَجْمَحُونَ و يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء، و إنّما لم يفرّوا منكم، و بقوا فيكم يعاشرونكم، لأنّهم لا يجدون المفرّ، و لذا اضطرّوا إلى النّفاق، و يحلفون كذبا أنّهم لمنكم ليؤمّنوا أنفسهم من الأسر، و أموالهم من النّهب، و لو يجدون لأنفسهم حيلة غير النّفاق لم ينافقوا، بل أظهروا كفرهم و شقاقهم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 58

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)

ص: 167


1- . تفسير روح البيان 3:450.
2- . في النسخة: الخلّصين.
3- . مجمع البيان 5:62، تفسير الصافي 2:350.
4- . تفسير القمي 1:298، تفسير الصافي 2:350.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ [ما]في بعضهم [من]الطّمع في الغنائم و الصّدقات بعثهم إلى النّفاق مضافا إلى الخوف، بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ و يعيبك فِي قسمة اَلصَّدَقاتِ و يطعنون عليك بأنّك تجور فيها.

قيل: إنّهم كانوا يقولون: إنّه صلّى اللّه عليه و آله يؤثر بها أقاربه و أهل مودّته (1).

عن أبي سعيد الخدري: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسّم مالا، إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التّميمي؛ و هو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج، فقال: اعدل يا رسول اللّه، فقال: ويلك، و من يعدل إن لم أعدل!» فنزلت الآية (2).

و عن الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تزعم أنّ اللّه أمرك أن تضع الصّدقات في الفقراء و المساكين و لم تضعها في رعاء الشّاء (3). فقال رسول اللّه: «لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود راعيا؟ !» فلمّا ذهب قال صلّى اللّه عليه و آله: «احذروا هذا و أصحابه فإنّهم منافقون» (4).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لرجل من أصحابه: «ما علمك بفلان؟» فقال: ما لي به علم، إلاّ أنّك تدنيه في المجلس، و تجزل له العطاء فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه منافق أداري عن نفاقه و أخاف أن يفسد عليّ غيره» . فقال: لو أعطيت فلانا بعض ما تعطيه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه مؤمن أكله إلى إيمانه، و أمّا هذا فمنافق أداريه خوف إفساده» (5).

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الباعث لهم على لمز الرّسول صلّى اللّه عليه و آله كثرة طمعهم، بقوله: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها قدر ما يريدون و يطمعون رَضُوا بالقسمة و استحسنوها وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها ذلك المقدار، بل أقلّ ممّا طمعوا إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ القسمة و يغضبو منها (4)فورا، بحيث لم يمكنهم التحمّل و التأخير لما اجبلوا عليه من حبّ الدّنيا و الشّره في تحصيلها.

عن القمّي: لمّا جاءت الصّدقات جاء الأغنياء و ظنّوا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسّمها بينهم، فلمّا وضعها في الفقراء تغامزوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لمزوه و قالوا: نحن الذين نقوم في الحرب، و ننفر معه، و نقوّي أمره، ثمّ يدفع الصّدقات إلى الذين لا يعينونه و لا يغنون عنه شيئا (5).

عن الصادق عليه السّلام: «أهل هذه الآية أكثر من ثلثي النّاس» (6).

ص: 168


1- . تفسير الرازي 16:97.
2- . تفسير الرازي 16:97.
3- . في النسخة: وعاء الشاة. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:97.
4- . في النسخة: يغضبونها.
5- . تفسير القمي 1:298، تفسير الصافي 2:350.
6- . تفسير العياشي 2:234/1830، مجمع البيان 5:63، الكافي 2:302/4، تفسير الصافي 2:350.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 59

ثمّ وبّخهم اللّه سبحانه و لا مهم على سخطهم بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ و طابت أنفسهم به و إن قلّ وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ و كفى فضله و إحسانه إلينا في جميع الأوقات، [سواء]كان لنا نصيب في الصّدقات أو لم يكن، و إن قلّت قسمتنا في هذه الصّدقات الحاضرة نرجو أنّه سَيُؤْتِينَا اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه وَ رَسُولُهُ في قسمة اخرى، و يعطيانا (1)فيها أكثر ممّا أعطيانا في هذه القسمة إِنّا إِلَى اَللّهِ راغِبُونَ و متوجّهون، و منه طالبون أن يغنينا من فضله، و يوسّع علينا بجوده و كرمه، لكان خيرا لهم و أقوم من لمز الرّسول و السّخط عليه.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ سَيُؤْتِينَا اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنّا إِلَى اَللّهِ راغِبُونَ (59)و في تقرين اللّه تعالى اسمه العظيم باسم رسوله في الموضعين، دلالة على غاية تعظيم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و تنبيه على أنّ ما يفعله إنّما يكون بأمره.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 60

في بيان مصارف

الزكاة

ثمّ بيّن اللّه سبحانه مصارف الصّدقات لئلاّ يطعن على رسوله صلّى اللّه عليه و آله في صرفها فيها بقوله: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ الواجبة من قبل اللّه على عباده، الموسومة بالزّكاة تكون لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ و قد مرّ تفسيرهما وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها و السّاعين لجمعها و حملها و حفظها، [سواءأ]كانوا أغنياء أو فقراء، من بني هاشم أو من غيرهم وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ من الكفّار وَ للصّرف فِي فكّ اَلرِّقابِ و تحرير المماليك؛ بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء مال الكتابة وَ في اَلْغارِمِينَ و المديونين؛ بأن تؤدّى ديونهم إذا لم يقدروا على أدائها، و لم يدن (2)في المعصية وَ يصرف فِي سَبِيلِ اَللّهِ و وجوه الخير؛ من تهيئة السّلاح لجهاد، و المصارف اللاّزمة لتجهيز الجيش، و عمارة الطّرق و الشّوارع و القناطر و الحمّامات العامّة و الرّباطات (3)و أضرابها، و تعظيم شعائر اللّه وَ في اِبْنِ اَلسَّبِيلِ و قد مضى تفسيره.

إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)و في العدول في الأصناف الأربعة الأخيرة من (اللام) إلى (في) دلالة على عدم صيرورة الزّكاة ملكا

ص: 169


1- . في النسخة: و يعطيناني.
2- . كذا، و الظاهر: يستدن.
3- . يريد به رباط الخيل و مرابطها في الثغور ممّا يلي العدوّ.

للأربعة الأخيرة.

ثمّ أكّد اللّه سبحانه وجوب الزّكاة و صرفها في المصارف الثمانية دون غيرها بقوله: فَرِيضَةً عظيمة كائنة مِنَ قبل اَللّهِ تعالى فالتزموا بها وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ في أفعاله و أحكامه.

القمّي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المصارف الثمانية، فقال: «الفقراء: هم الذين لا يسألون، و عليهم مؤونات من عيالهم، و الدّليل على أنّهم هم الّذين لا يسألون قول اللّه تعالى في سورة البقرة: لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ. . . لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً (1)، و المساكين: هم أهل الزّمانة (2)من العميان و العرجان و المجذومين، و جميع أصناف الزّمناء من الرّجال و النّساء و الصّبيان، و العاملين عليها: هم السّعاة و الجباة في أخذها و جمعها و حفظها حتّى يؤدّوها إلى من يقسّمها، و المؤلّفة قلوبهم: قوم وحّدوا اللّه و لم تدخل المعرفة في قلوبهم أنّ محمدا رسول اللّه، [فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله] يتألّفهم و يعلّمهم كيما يعرفون، فجعل اللّه لهم نصيبا في الصّدقات لكي يعرفوا و يرغبوا، و في الرّقاب: قوم قد لزمهم كفّارات في قتل الخطأ، و في الظّهار، و قتل الصيد في الحرم، و في الأيمان، و ليس عندهم ما يكفّرون و هم مؤمنون، فجعل اللّه لهم سهما في الصّدقات ليكفّر عنهم، و «الغارمين» قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضي ذلك عنهم، و يكفيهم من مال الصّدقات، و «في سبيل اللّه» قوم يخرجون في الجهاد و ليس عندهم ما ينفقون، أو قوم من المسلمين ليس عندهم ما يحجّون به، أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصّدقات حتى يتقوّوا به على الحجّ و الجهاد و «ابن السبيل» أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم و يذهب مالهم، فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصّدقات. و الصّدقات تتجزأ في ثمانية أجزاء فيعطى كلّ انسان من هذه الثمانية على قدر ما يحتاجون إليه بلا إسراف و لا تقتير، يقوم في ذلك الإمام يعمل بما فيه الصّلاح (3).

أقول: الظاهر أنّ تجزئة الزّكاة ثمانية أجزاء وظيفة الإمام عند بسط يده.

و عن الباقر عليه السّلام: «ما كانت المؤلّفة قلوبهم قطّ أكثر منهم اليوم، و هم قوم وحّدوا اللّه و قد خرجوا من الشّرك، و لم تدخل معرفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله قلوبهم و ما جاء به، فتألّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تألّفهم المؤمنون بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكيما يعرفوا» (4).

ص: 170


1- . البقرة:2/273.
2- . الزّمانة: الأمراض المزمنة.
3- . تفسير القمي 1:351، تفسير الصافي 1:298.
4- . الكافي 2:302/5، تفسير الصافي 2:352.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدّى بعضها، قال: «يؤدّى عنه من مال الصّدقة، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: وَ فِي اَلرِّقابِ» (1).

و في (الكافي) : عنه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه: أيّما مسلم أو مؤمن مات و ترك دينا لم يكن في فساد و لا إسراف، فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك، إنّ اللّه يقول: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ الآية، فهو من الغارمين، و له سهم عند الإمام، فإن حبسه فإثمه عليه» (2).

و فيه؛ عنه عليه السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي، و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر، و لا يقسّمها بينهم بالسويّة و إنّما يقسّمها على قدر ما يحضرها منهم و ما يرى، و ليس في ذلك شيء موقّت موظّف» (3).

و عنه عليه السّلام: «سهم المؤلّفة قلوبهم و سهم الرّقاب عامّ و الباقي خاصّ» . يعني: خاصّ بالعارف لا يعطى غيره (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «لا تحلّ الصّدقة لبني هاشم إلاّ في وجهين؛ إن كانوا عطاشى فأصابوا ماء فشربوا، و صدقة بعضهم على بعض» (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 61 الی 62

ثمّ ذمّ اللّه تعالى المنافقين بإيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إساءة القول إليه؛ بقوله: وَ مِنْهُمُ و بعض المنافقين اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ صلّى اللّه عليه و آله بأقوالهم الشّنيعة؛ و منها أنّهم يعيبون عليه وَ يَقُولُونَ في شأنه هُوَ أُذُنٌ و قليل الذّكاء، سريع الاغترار بكلّ ما يسمع.

وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)روي أنّ رجلا منهم قال لقومه: إن كان ما يقوله محمّد حقّا، فنحن شرّ من الحمير، فسمعها ابن امرأته فقال: و اللّه إنّه لحقّ و إنّك شرّ من حمارك. ثمّ بلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال بعضهم: إنما محمّد اذن إن لقيته و حلفت له ليصدّقنّك، فنزلت (6).

ص: 171


1- . تفسير العياشي 2:239/1844، من لا يحضره الفقيه 3:74/258، تفسير الصافي 2:352.
2- . تفسير العياشي 2:239/1846، الكافي 1:336/7، تفسير الصافي 2:352.
3- . الكافي 5:27/1، تفسير الصافي 2:352.
4- . الكافي 3:496/1، تفسير الصافي 2:353.
5- . الخصال:62/88، تفسير الصافي 2:353.
6- . تفسير الرازي 16:116.

و عن ابن عبّاس: أنّ جماعة من المنافقين ذكروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بما لا ينبغي من القول، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنّا نخاف أن يبلغه ما نقول، فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما شئنا، ثمّ نذهب إليه و نحلف أنّا ما قلنا فيقبل قولنا، و إنّما محمّد اذن سامعة. فنزلت (1).

و عن القمّي قال: كان سبب نزولها أنّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقا، و كان يقعد إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيسمع كلامه و ينقله إلى المنافقين و ينمّ عليه، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمد، إنّ رجلا من المنافقين ينمّ عليك و ينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من هو؟» فقال: الرجل الأسود، الكثير شعر رأسه، ينظر بعينين كأنّهما قدران، و ينطق بلسانه الشّيطان (2)، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره، فحلف أنّه لم يفعل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «قد قبلت منك فلا تقعد» فرجع إلى أصحابه فقال: إنّ محمّدا اذن، أخبره اللّه أنّي أنمّ عليه و أنقل أخباره فقبل، و أخبرته أنّي لم أفعل فقبل. فأنزل اللّه على نبيّه [الآية]، الخبر (3).

قيل: أظهر اللّه للمنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسترونها لتكون حجّة للرّسول، و لينزجروا، فقال: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقاتِ، ثمّ قال: وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ، ثمّ قال: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ (4)إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب، و في كلّ ذلك دلائل على كونه نبيّا حقّا (5).

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: نعم، هو اذن، و لكن أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ فإنّ من يسمع العذر فيقبله خير ممّن لا يقبله؛ لأنّ قبول العذر من الكرم و حسن الخلق، فحمل سبحانه كلام النّاس الصادر منهم على جهة الذّمّ على المدح.

ثمّ فسّر اللّه سبحانه اذن الخير بقوله: يُؤْمِنُ بِاللّهِ و يصدّق وحدانيّته و جميع ما أنزل منه إليه وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ و يصدّقهم فيما يقولون، لكونه نافعا لهم حيث يقبل معاذيرهم، و يتغافل عن جهالاتهم، و لا يؤاخذهم بما يعلم.

القمّي: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدّق اللّه فيما يقوله له، و يصدّقك فيما تعتذر إليه في الظّاهر دون الباطن، و قوله: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: للمقرّين بالإيمان من غير اعتقاد (6).

عن الصادق عليه السّلام: «يعني يصدّق اللّه و يصدّق المؤمنين؛ لأنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين» (7).

وَ هو رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ في الظّاهر، و إن كانوا كافرين في الباطن، حيث لا يكشف

ص: 172


1- . تفسير الرازي 16:116.
2- . في المصدر: بلسان شيطان.
3- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:353.
4- . التوبة:9/75.
5- . تفسير الرازي 16:116.
6- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:353.
7- . تفسير العياشي:2:241/1851، تفسير الصافي 2:354.

أسرارهم و لا يهتك أستارهم رفقا بهم و ترحّما عليهم.

ثمّ هدّدهم اللّه سبحانه بقوله: وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللّهِ بالقول أو الفعل لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

ثمّ قيل: إنّ المنافقين كانوا يتكلّمون بالمطاعن، ثمّ يأتون المؤمنين فيعتذرون إليهم، و يؤكّدون معاذيرهم بالأيمان الفاجرة ليعذرهم و يرضوا عنهم، فذمّهم سبحانه و لامهم بفعلهم بقوله: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ هؤلاء المنافقين لَكُمْ أيّها المؤمنون على أنّهم ما قالوا ما نقل إليكم من الطّعن في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ما يورث أذيّته لِيُرْضُوكُمْ باعتذارهم و حلفهم عن أنفسهم وَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أولى و أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ عن أنفسهم بالتّوبة ممّا ارتكبوه من الطّعن و الإيذاء-و في إفراد ضمير يُرْضُوهُ دلالة على أنّ المقصود بالذّات رضى اللّه، و رضى الرّسول تبع و لازم له- إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ بهما واقعا كما ادّعوا.

القمّي: نزلت في المنافقين الّذين كانوا يحلفون للمؤمنين أنّهم منهم، لكي يرضى عنهم المؤمنون (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 63 الی 65

ثمّ وبّخهم اللّه على إيذائهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و إصرارهم على النّفاق بقوله: أَ لَمْ يَعْلَمُوا بعد مبالغة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في دعوتهم و تعليمهم و وعظهم مدّة مديدة أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و يعارضهما بالعصيان و الطّغيان؛ فيخالف اللّه (2)-كما عن ابن عبّاس- فَأَنَّ لَهُ بالاستحقاق غير القابل للعفو نارَ جَهَنَّمَ حال كونه خالِداً و دائما فِيها و من الواضح أنّ ذلِكَ الخلود في النّار هو اَلْخِزْيُ و الذلّ اَلْعَظِيمُ و النّدامة الشّديدة.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ اَلْخِزْيُ اَلْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ اَلْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اِسْتَهْزِؤُا إِنَّ اَللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)ثمّ أنّه روى القمّي: أنّه كان [قوم]من المنافقين لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تبوك يتحدّثون فيما بينهم، و يقولون: أيرى محمّد أن حرب الرّوم مثل حرب غيرهم، لا يرجع منهم أحد أبدا، فقال بعضهم: ما أخلقه أن يخبر اللّه محمّدا بما كنّا فيه، و بما في قلوبنا و ينزل [عليه]بهذا قرآنا يقرأه النّاس!

ص: 173


1- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:354.
2- . تفسير الرازي 16:120.

و قالوا هذا على [حدّ]الاستهزاء (1).

فأخبر اللّه بذلك و هدّدهم بقوله: يَحْذَرُ اَلْمُنافِقُونَ و يحترزون (2)من اطّلاع المؤمنين على نفاقهم بسبب أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ من اللّه سُورَةٌ و قطعة من القرآن، تخبر المؤمنين، و تُنَبِّئُهُمْ تلك السّورة بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الشّرك و النّفاق و الاستهزاء بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله؛ فتفضحهم بين المؤمنين، و تهتك أستارهم، و يحتمل رجوع جميع الضمائر إلى المنافقين؛ لأنّ السّورة إذا نزلت في شأنهم فهي نازلة عليهم، و هي بمضمونها تقول لهم: إنّ في قلوبكم كذا و كذا، و تذيع أسرارهم.

ثمّ أمر اللّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلِ لهم يا محمّد: اِسْتَهْزِؤُا بي و بديني و كتابي إِنَّ اَللّهَ مُخْرِجٌ من الكمون إلى البروز ما تَحْذَرُونَ منه من نزول سورة فاضحة لكم.

و في رواية القمّي: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعمّار بن ياسر: «الحق القوم، فإنّهم قد احترقوا» ، فلحقهم عمّار فقال: ما قلتم؟ قالوا: ما قلنا شيئا، إنّما [كنّا]نقول شيئا على حدّ اللّعب و المزاح. فنزلت وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ (3)، عمّا قالوا لَيَقُولُنَّ في الجواب: إِنَّما كُنّا نَخُوضُ في الكلام، و نتحدّث لقطع الطريق بالحديث، كما هو دأب الرّكب، وَ نَلْعَبُ كما يلعب الصّبيان.

و روي أنّ رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك: ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا، و لا أكذب ألسنا، و لا أجبن عند اللّقاء-يعني: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين-فقال واحد من الصّحابة: كذبت و لأنت منافق، ثمّ ذهب ليخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرّجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان قد ركب ناقته، فقال: يا رسول اللّه، إنّا كنّا نلعب و نتحدّث بحديث الرّكب نقطع به الطّريق، و كان يقول: إنّما كنّا نخوض و نلعب، الخبر (4).

و روي أنّه لمّا سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تبوك، قال المنافقون: أتراه يظهر على الشام و يأخذ حصونها و قصورها؛ هيهات هيهات، فعند رجوعه دعاهم فقال: أنتم القائلون كذا و كذا؟ فقالوا: ما كان ذلك بالجدّ في قلوبنا، إنّما كنّا نخوض و نلعب (5).

و روي أنّ المتخلّفين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئلوا عمّا كانوا يصنعون، و عن سبب تخلّفهم، فقالوا هذا القول (6)، فأمر اللّه رسوله بتوبيخهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: أَ بِاللّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ.

ص: 174


1- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:354.
2- . في النسخة: و يحرزون.
3- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:354.
4- . تفسير الرازي 16:122.
5- . تفسير الرازي 16:122.
6- . تفسير الرازي 16:122.

قيل: إنّ المراد بالاستهزاء بقدرته بعد قولهم: كيف يقدر محمّد على أخذ حصون الشام؟ ! و قيل: هو الاستهزاء بتكاليفه (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 66

ثمّ أنّه تعالى بعد اعتذار المنافقين من استهزائهم، ردّهم بقوله: لا تَعْتَذِرُوا ممّا قلتم بتلك المعاذير، فإنّه لا يرتفع بها لومكم و لا استحقاقكم للعقوبة، لأنّه قَدْ كَفَرْتُمْ علانية بَعْدَ إِيمانِكُمْ الذي كنتم تظهرونه باستهزائكم بالرّسول.

لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)ثمّ هدّدهم بقوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ ذنب طائِفَةٍ و جماعة مِنْكُمْ بسبب إيمانهم و توبتهم نُعَذِّبْ طائِفَةً اخرى منكم البتّة بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ بإصرارهم على الكفر و النّفاق، و إيذاء الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: إنّ الطّائفة الاخرى المعذّبة هم المستهزئون، و الطّائفة المعفوّ عنهم هم الذين ضحكوا عند استهزاء هؤلاء.

و عن الباقر عليه السّلام في قوله: لا تَعْتَذِرُوا، قال: هؤلاء قوم كانوا مؤمنين صادقين، ارتابوا و شكّوا، و نافقوا بعد إيمانهم، و كانوا أربعة نفر، و قوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ كان أحد الأربعة مخشيّ (2)بن حميّر، فاعترف و تاب، و قال: يا رسول اللّه، أهلكني اسمي، فسمّاه رسول اللّه عبد اللّه بن (3)عبد الرّحمن، فقال: يا ربّ اجعلني شهيدا حيث لا يعلم أين أنا، فقتل يوم اليمامة، و لم يعلم أحد أين قتل، فهو الذي عفي عنه (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 67

اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اَللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (67)

ص: 175


1- . تفسير الرازي 16:123.
2- . في النسخة و تفسير القمي: محتبر، تصحيف، راجع: أسد الغابة 4:338، و تاريخ الطبري 3:108، و مغازي الواقدي 3:169، و في مغازي الذهبي:642، و سيرة ابن هشام 4:168: مخشن.
3- . في النسخة: أو.
4- . تفسير القمي 1:300، تفسير الصافي 2:355.

ثمّ أنّه تعالى بعد حلف المنافقين للمؤمنين على أنّهم منهم، ردّهم بقوله: اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ ليسوا من المؤمنين، بل بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لاشتراكهم في الكفر و عصيان الرّسول، حيث إنّهم جميعا يَأْمُرُونَ النّاس بِالْمُنْكَرِ من الكفر و مخالفة الرّسول و تكذيبه وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ من الإيمان بالرّسول و طاعته وَ يَقْبِضُونَ و يمسكون أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في سبيل اللّه، و إنّما فعلوا ذلك كلّه لأنّهم نَسُوا اَللّهَ و لهوا (1)عن ذكره، و تركوا عبادته فَنَسِيَهُمْ اللّه و ترك ذكرهم بالرّحمة و الإحسان و التّوفيق للهداية.

ثمّ بالغ في بيان عدم استحقاقهم للرّحمة بقوله: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ عموما هُمُ اَلْفاسِقُونَ و الكاملون في الكفر و الطّغيان و معصية الرّسول.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 68

ثمّ أكّد اللّه سبحانه وعيدهم بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْكُفّارَ المتجاهرين في الكفر نارَ جَهَنَّمَ حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا هِيَ حَسْبُهُمْ و كافيهم عقوبة، فإنّه لا عقوبة فوقها وَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ و أبعدهم من رحمته، و أخزاهم غاية الخزي و الهوان، و هو العذاب الرّوحاني.

وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْمُنافِقاتِ وَ اَلْكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)ثمّ أكّد سبحانه خلودهم مع دوام تألّمهم بالنّار و اللّعن بقوله: وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ و دائم، فلا يتوهّم أنّه يحصل لهم طبع سمندريّ (2)بسبب دوامهم في النّار فينقطع تألّمهم بها.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 69

ثمّ بالغ سبحانه في إرعاب المنافقين بتنظير حالهم بحال الامم السّابقة المهلكة، مع الرّجوع من الغياب إلى مخاطبتهم بقوله: كَالَّذِينَ -قيل التّقدير: أنتم كالّذين كفروا-و كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ في القرون القريبة من قرنكم.

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (69)

ص: 176


1- . في النسخة: و ألهوا.
2- . نسبة إلى السّمندر أو السّمندل، و هو دابة أو طائر في الهند و الصين، يقال: إنه لا يحترق بالنار، أو نسيج من حيوان لا يحترق بالنار.

ثمّ كأنّه قيل: كيف كان حالهم؟ فقال سبحانه: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً و أعظم قدرة وَ أَكْثَرَ منكم أَمْوالاً وَ أَوْلاداً و أوفر منكم ثروة و ذريّة فَاسْتَمْتَعُوا و استلذّوا بِخَلاقِهِمْ و نصيبهم المقدّر لهم من حطام الدّنيا و نعيمها.

ثمّ بيّن سبحانه وجه شبههم بهم بقوله: فَاسْتَمْتَعْتُمْ و انتفعتم بِخَلاقِكُمْ و نصيبكم من الأمتعة الدّنيويّة مدّة عمركم، حال كونكم كافرين طاغين عاصين للّه، لأجل الغرور باللّذات كَمَا اِسْتَمْتَعَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ حال كونهم كافرين طاغين عاصين للّه، لأجل الانهماك في الشّهوات وَ خُضْتُمْ و انغمرتم في الباطل كتكذيب الأنبياء، و الاستهزاء و الغدر بهم كَالَّذِي و مثل الباطل الذي خاضُوا فيه-و قيل: إنّ التّقدير: كالفوج الذي (1)، و قيل: كالقوم الّذين، و حذف النّون للتّخفيف (2)، و قيل: كالخوض الذي- أُولئِكَ الامم المذمومة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و بطلت حسناتهم فِي اَلدُّنْيا بسبب الموت و انتقالهم من الغنى إلى الفقر، و من العزّ إلى الذلّ، و من القوّة إلى الضّعف وَ في اَلْآخِرَةِ بسبب ضياع ثوابهم و ابتلائهم بالعقاب وَ أُولئِكَ بالخصوص هُمُ اَلْخاسِرُونَ و المتضرّرون، حيث ضيّعوا عمرهم الذي كان بمنزلة رأس مالهم، و أتعبوا أنفسهم في تحصيل العزّ و الجاه و النّعم، بالسّعي في تكذيب الأنبياء و معارضتهم و الغدر بهم، و لم يستفيدوا إلاّ الحرمان من الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة، و الذلّ الدائم، و العقوبة الأبديّة، فهم مع كونهم أقوى منكم كانت حالهم تلك، فأنتم مع ضعفكم بسبب اشتراككم معهم في الكفر و الطّغيان أولى بحبط الأعمال و غاية الخسران.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 70

ثمّ أنّه تعالى بعد تشبيه المنافقين بالامم المهلكة في الرّغبة في الدّنيا و التمتّع بها، و الإعراض عن الآخرة و الإصرار على الكفر، و تكذيب الأنبياء، و غاية الخسران، ذكر طوائف مشهورة بتلك الصّفات (1)منهم، و ابتلائهم بعذاب الاستئصال بقوله: أَ لَمْ يَأْتِهِمْ و هل لم يبلغهم نَبَأُ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و خبرهم الذي له شأن عظيم؟

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ اَلْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)ثمّ كأنّه أجاب عن الاستفهام و قال: نعم، بلغهم نبأ قَوْمِ نُوحٍ أنّهم اهلكوا بالطّوفان وَ قوم

ص: 177


1- . في النسخة: مشهورة بالصفات.

عادٍ أنّهم اهلكوا بالرّيح العقيم وَ قوم ثَمُودَ أنّهم اهلكوا بالصّيحة و الرّجفة وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ أنّهم اهلكوا بالهدم وَ أَصْحابِ بلد مَدْيَنَ و أهله و هم قوم شعيب، أنّهم اهلكوا بالنّار وَ اَلْمُؤْتَفِكاتِ و القرى المنقلبات على أهلها، بحيث صار عاليها سافلها.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المؤتفكات، قال: «اولئك قوم لوط» (1).

ثمّ كأنّه قيل: هل تمّت الحجّة عليهم قبل هلاكهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: أَتَتْهُمْ جميعا رُسُلُهُمْ من جانب اللّه بِالْبَيِّناتِ و الحجج الظاهرات، و البراهين القاطعات، فلم يعتنوا بهم، بل كذّبوهم و استهزأوا بهم و آذوهم، فاهلكوا بعد إتمام الحجّة عليهم فَما كانَ اَللّهُ و ليس من شأنه و المناسب لحكمته و عدله لِيَظْلِمَهُمْ و يعذّبهم قبل إتمام الحجّة عليهم، و بغير استحقاق منهم وَ لكِنْ كانُوا بالمشاقّة مع اللّه و رسله أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرّضوها للهلاك بقبائح الأعمال، مع قدرتهم على تعليتها إلى أعلى درجات الجنّة، و إيصالها بطاعة الأنبياء إلى النّعم الأبديّة.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 71

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين و وعدهم العذاب، مدح المؤمنين المخلصين بحسن العقائد و الأعمال بقوله: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ لاتّفاقهم على التّوحيد، و الايمان بالرّسول و بما جاء به بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ و كلّ مراع لصلاح الآخر، و لذا يَأْمُرُونَ المؤمنين بِالْمَعْرُوفِ و يبعثونهم إلى الخيرات الدّنيويّة و الاخرويّة من تكميل الايمان باللّه و الرّسول، و طاعتهما وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و القبيح و الشرّ من الكفر و سيّئات الأعمال وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ و يداومون عليها وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ الواجبة و يؤدّونها إلى الجباة و الفقراء، و لا يقبضون أيديهم عن أدائها كما قبض المنافقون وَ يُطِيعُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فيما أمراهم به و نهياهم عنه، و ليسوا فاسقين عن طاعتهما كالمنافقين أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصّفات الحميدة سَيَرْحَمُهُمُ اَللّهُ و يفيض عليهم من البركات و الفيوضات الدّنيويّة و الاخرويّة ما لا يتصوّره متصوّر، و لا يبلغه الوهم و الفكر إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و قادر على إنجاز وعده حَكِيمٌ لا يخلف وعده، و لا يعطي شيئا غير أهله.

وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

ص: 178


1- . الكافي 8:181/202، تفسير الصافي 2:357.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 72

ثمّ شرح اللّه الرّحمة الموعودة بقوله: وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ على إيمانهم و طاعتهم جَنّاتٍ و بساتين كثيرة الأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً مرضيّة-روي أنّها قصور من اللّؤلؤ و الزّبرجد و الياقوت (1)-كائنة فِي جَنّاتِ عَدْنٍ التي هي أبهى الجنّات و أعلاها و أسناها وَ رِضْوانٌ يسير مِنَ اَللّهِ تعالى أَكْبَرُ و أعظم من تلك الجنّات و نعمها؛ لأنّه مبدأ جميع الخيرات و السّعادات، و به ينال قربه الذي هو أعلى الحظوظ، و أكمل المثوبات ذلِكَ الرّضوان هُوَ اَلْفَوْزُ و الحظّ اَلْعَظِيمُ الذي يستحقر عنده كلّ فوز و حظّ.

وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (72)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «عدن دار اللّه التي لم ترها عين و لم تخطر في قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيّين، و الصدّيقين، و الشّهداء، يقول اللّه تعالى: طوبى لمن دخلك» (2).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سأله يهوديّ: أين يسكن نبيّكم من الجنّة؟ فقال: «في أعلاها درجة، و أشرفها مكانا، في جنّات عدن» . فقال: صدقت (3).

روي أنّ اللّه خلق جنّة عدن بيده بغير واسطة، و جعلها [له]كالقلعة للملك، و جعل فيها كثيبا و مقام الوسيلة، و غرس شجرة طوبى بيده في جنّة عدن، و أطالها حتى علت فروعها سور جنّة عدن و تركت مظلّلة على سائر الجنّات كلّها، و ليس في أكمامها ثمر إلاّ الحليّ و الحلل (4).

و روي أنّه تعالى يقول لأهل الجنّة: هل رضيتم؟ فيقولون: فما لنا لا نرضى، و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أما اعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: و أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: احلّ عليكم رضواني، و لا أسخط عليكم أبدا (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 73

ثمّ أنّه تعالى بعد التّغليظ على المنافقين و وعدهم بالعقوبة الشّديدة، و نصحهم و تهديدهم

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (73)

ص: 179


1- . تفسير روح البيان 3:464.
2- . مجمع البيان 5:77، تفسير الصافي 2:357.
3- . تفسير الصافي 2:357.
4- . تفسير روح البيان 3:464.
5- . تفسير الرازي 16:134.

بالعقوبات الدنيويّة التي أنزلها على الامم الماضية، أمر النبيّ بمجاهدتهم بالحجّة ما داموا مستترين، و جهادهم بالسّيف إذا أظهروا كفرهم بقوله: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ المتجاهرين في كفرهم بالسّيف وَ اَلْمُنافِقِينَ المستترين لكفرهم بالحجّة و النّصح وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ و اعنف (1)بهم و لا ترفق معهم، هذا جزاؤهم في الدّنيا، و أمّا في الآخرة فمنزلهم وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ هي بِئْسَ اَلْمَصِيرُ و المنقلب لهم من الدّنيا.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «فجاهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكفّار، و جاهد عليّ عليه السّلام المنافقين، فجهاد (2)عليّ جهاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 74

ثمّ أكّد سبحانه استحقاق المنافقين التّغليظ بقوله: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ أنّهم ما قالُوا كلمة سوء وَ اللّه لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ من سبّ النبيّ، و إنكار رسالته وَ كَفَرُوا بإظهارهم ما في قلوبهم من عداوة النبيّ، و بغضهم لدين الإسلام بَعْدَ إِسْلامِهِمْ الظّاهري.

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، و يعيب المنافقين المتخلّفين فقال الجلاس بن سويد: و اللّه، لئن كان ما يقوله محمّد في إخواننا الذين خلّفناهم في المدينة حقّا، مع أنّهم أشرافنا، فنحن شرّ من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل و اللّه، إنّ محمّدا صادق، و أنت شرّ من الحمار، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستحضر الجلاس، فحلف باللّه أنّه ما قال، فرفع عامر يده و قال: اللّهمّ أنزل على عبدك و نبيّك تصديق الصادق، و تكذيب الكاذب، فنزلت الآية، فقال الجلاس: لقد ذكر اللّه التّوبة في هذه الآية، و لقد قلت هذا الكلام و صدق عامر، فتاب الجلاس و حسنت توبته (4).

و روي أنّها نزلت في عبد اللّه بن أبيّ لمّا قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا

ص: 180


1- . في النسخة: و اغضب، راجع تفسير روح البيان 3:465.
2- . في تفسير الصافي: فجاهد.
3- . تفسير الصافي 2:358.
4- . تفسير الرازي 16:136.

اَلْأَذَلَّ (1) و أراد به الرّسول، فسمع زيد بن أرقم ذلك و بلّغه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهمّ عمر بقتل عبد اللّه بن ابيّ (2)[فجاء عبد اللّه و حلف أنّه لم يقل، فنزلت هذه الآية (3).

روى قتادة: أنّ رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة و الآخر من غفار، فظهر الغفاري على الجهيني، فنادى]عبد اللّه بن ابي و قال: يا بني الأوس، انصروا أخاكم، و اللّه ما مثلنا و مثل محمّد إلاّ كما قيل: «سمّن كلبك يأكلك» ، فذكروه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنكر عبد اللّه و جعل يحلف (4).

ثمّ روي أنّ المنافقين همّوا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند رجوعه من تبوك؛ و هم خمسة عشر، تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة باللّيل، و كان عمّار آخذا بخطام راحلته، و حذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع خفاف الإبل و قعقعة السّلاح، فالتفت فإذا قوم متلثّمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء اللّه، فهربوا (5)، فلامهم اللّه بقوله: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و من المعلوم أنّهم حين اجتمعوا على قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طعنوا في نبوّته، و نسبوه إلى الكذب.

عن (المجمع) : نزلت في أهل العقبة، فإنّهم أضمروا أن يقتلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة حين مرجعهم من تبوك، و أرادوا أن يقطعوا أنساع (4)راحلته ثمّ ينخسوا به، فأطلعه اللّه على ذلك، و كان من جملة معجزاته، لأنّه لا يمكن معرفة ذلك إلاّ بوحي من اللّه، فبادر رسول اللّه [في العقبة]وحده، و عمّار و حذيفة يقود أحدهما راحلته و الآخر يسوقها، و أمر النّاس كلّهم بسلوك [بطن]الوادي، و كان الذين همّوا بقتله اثني عشر رجلا، أو خمسة عشر، عرفهم الرّسول: سمّاهم بأسمائهم. قال: و قال الباقر عليه السّلام: «كان ثمانية منهم من قريش، و أربعة من العرب» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما قال في غدير خمّ، و صاروا بالأخبية، فمرّ المقداد بجماعة منهم يقولون (6): إذا دنا موته و فنيت أيّامه و حضر أجله، أراد أن يولّينا عليّا من بعده، أما و اللّه ليعلمنّ. قال: فمضى المقداد و أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: الصلاة جامعة. قال: فقالوا: قد رمانا المقداد، فقوموا نحلف عليه. قال: فجاءوا حتّى جثوا بين يديه فقالوا: بآبائنا و امّهاتنا يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ، و الذي أكرمك بالنبوّة، ما قلنا ما بلغك، و الذي اصطفاك على البشر، قال: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «بسم الله

ص: 181


1- . المنافقون:63/8.
2- . في النسخة: فخافة بدل ما في المعقوفات.
3- . تفسير الرازي 16:136. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:136.
4- . الأنساع جمع نسع: و هو سير عريض طويل تشد به الرحال على الدابة.
5- . مجمع البيان 5:79، تفسير الصافي 2:359.
6- . زاد في تفسير العياشي: و الله إن كنا و قيصر لكنا في الخز و الوشي و الديباج و النساجات، و إنا معه في الأخشنين، نأكل الخشن، و نلبس الخشن حتى.

الرحمن الرحيم» * يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ليلة العقبة» (1).

عن القمّي: نزلت في الذين تحالفوا في الكعبة أن لا يردّوا هذا الأمر في بني هاشم، فهي [كلمة] الكفر، ثمّ قعدوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في العقبة، و همّوا بقتله، و هو قوله: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.

و قال في موضع آخر: فلمّا أطلع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره، حلفوا له أنّهم لم يقولوا و لم يهمّوا به، حتّى أنزل اللّه يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا. . . الآية (2).

ثمّ بيّن اللّه أنّ حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يشكروه لا أن يهمّوا بقتله، بقوله: وَ ما نَقَمُوا و ما كرهوا شيئا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه، بسبب الغنائم و العطايا، و هذا موجب للمحبّة و الشّكر، لا العداوة و الكفر.

قيل: إنّهم كانوا حين قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة في غاية شدّة العيش؛ لا يركبون الخيل، و لا يحوزون الغنيمة، فأثروا بالغنائم و كثرت أموالهم (3).

و قيل: كان أحدهم يبيع الرؤوس، و آخر يبيع الكراع و يفتل القرامل (4).

و قتل للجلاس مولى، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بديته اثني عشر ألف درهم، فاستغنى (5).

و قيل: الضمير في أَغْناهُمُ للمؤمنين، أي غاظهم إغناؤه للمؤمنين (6).

ثمّ استعطف قلوبهم و دعاهم إلى التّوبة بقوله: فَإِنْ يَتُوبُوا من كفرهم و نفاقهم يَكُ ذلك التوب خَيْراً لَهُمْ و أنفع في الدّنيا و الآخرة وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا و يعرضوا عن قبول الإسلام و التّوبة خالصة (5)للّه، و استمرّوا على ما هم عليه من الكفر و النّفاق و الغدر يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيا بالقتل و الأسر و نهب الأموال-و قيل: عند الموت (8)، و قيل: في القبر (9)- وَ في اَلْآخِرَةِ بالنّار و غيرها من أنواع العذاب المعدّ للكفّار وَ ما لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ بسعتها و تباعد أقطارها، و كثرة أهلها مِنْ وَلِيٍّ يحفظهم منه بالشّفاعة وَ لا نَصِيرٍ ينجيهم منه بالقدرة و القوة.

روي أنّه لمّا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية على المنافقين، قال بعضهم: يا رسول اللّه، لقد عرض اللّه عليّ التوبة، و اللّه لقد قبلت فتاب (6).

ص: 182


1- . تفسير العياشي 2:246/1858، تفسير الصافي 2:360.
2- . تفسير القمي 1:301، تفسير الصافي 2:358.
3- . تفسير روح البيان 3:468.
4- . تفسير الصافي 2:360، و القرامل: جمع القرمل، و هو ضفائر من شعر أو غيره تصل بها المرأة شعرها. (5 و 6) . تفسير روح البيان 3:468.
5- . فى النسخة: خالصا. (8 و 9) . تفسير الرازي 16:137.
6- . تفسير روح البيان 3:468.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 75 الی 76

ثمّ بيّن اللّه أنّ غدر المنافقين لا يختصّ بالنبيّ و المؤمنين، بل يجاهرون بالغدر باللّه و مخالفة عهده بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ عهدا مؤكّدا بالحلف، حيث قال: و اللّه لَئِنْ آتانا اللّه مِنْ فَضْلِهِ و خزائن رحمته مالا لَنَصَّدَّقَنَّ و لنؤدّينّ حقوقه الواجبة وَ لَنَكُونَنَّ البتّة مَنْ المؤمنين اَلصّالِحِينَ الملتزمين بالعمل بأحكام اللّه. عن ابن عبّاس: يريد الحجّ (1)فَلَمّا آتاهُمْ اللّه و أعطاهم مِنْ فَضْلِهِ و كرمه مالا، منعوا حقّ اللّه، و بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن الوفاء بعهدهم (2)مع اللّه وَ هُمْ قوم عادتهم أنّهم مُعْرِضُونَ عن طاعة اللّه و جميع العهود.

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصّالِحِينَ (75) فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76)عن ابن عبّاس: أنّ حاطب بن أبي بلتعة، أبطأ عنه ماله بالشّام. فلحقه شدّة، فحلف باللّه و هو واقف في بعض مجالس الأنصار: لئن آتانا من فضله لأصدّقن و لأؤدّينّ منه حقّ اللّه (3).

في حكاية ثعلبة

بن حاطب

و روي أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري كان ملازما لمسجد الرّسول ليلا و نهارا، و كان يلقّب لذلك حمامة المسجد، و كانت جبهته كركبة البعير من كثرة السّجود على الأرض و الحجارة المحماة بالشّمس، ثمّ جعل يخرج من المسجد كلّما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الفجر بالجماعة من غير لبث و اشتغال بالدّعاء، فقال صلّى اللّه عليه و آله له يوما: «ما لك [صرت]تعمل عمل المنافقين بتعجيل الخروج؟» فقال: يا رسول اللّه، إنّي في غاية الفقر بحيث أنّ لي و لا مرأتي ثوبا واحدا، و هو الذي عليّ و أنا اصلّي فيه و هي عريانة في البيت، ثمّ أعود إليها فأنزعه و هي تلبسه و تصلّي فيه، فادع اللّه أن يرزقني مالا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ويلك يا ثعلبة، قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه» . فراجعه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أما ترضى أن تكون مثل نبيّ اللّه، فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا و فضّة لسارت، و لكن أعرف أنّ الدّنيا حظّ من لا حظّ له، و بها يغترّ من لا عقل له» . فراجعه و قال: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ نبيّا، لو دعوت اللّه أن يرزقني مالا لأؤدّينّ كلّ ذي حقّ حقّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «اللّهمّ ارزق ثعلبة مالا» -ثلاث مرّات.

فاتّخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود حتّى ضاقت بها أزقّة المدينة، فنزل واديا حتّى فاتته الجماعة، لا يصلّي بالجماعة إلاّ الظّهر و العصر، ثمّ نمت و كثرت فتنحّى مكانا بعيدا حتّى انقطع عن الجماعة و الجمعة، فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه، فقيل: كثر ماله حتّى لا يسعه واد، فخرج بعيدا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ويح ثعلبة» .

ص: 183


1- . تفسير روح البيان 3:469.
2- . في النسخة: بعهده.
3- . تفسير الرازي 16:138.

فلمّا نزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً. . . استعمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجلين على الصّدقات؛ رجلا من الأنصار، و رجلا من بني سليم، و كتب لهما الصّدقة و أسنانها، و أمرهما أن يأخذاها من النّاس، فاستقبلهما النّاس بصدقاتهم، و مرّا بثعلبة فسألاه الصّدقة، و أقرآه كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلاّ جزية أو اخت الجزية، و قال: ارجعا حتّى أرى رأيي، فلمّا رجعا قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يكلّماه: «ويح ثعلبة» مرّتين، فنزلت.

فركب عمر راحلته و مضى إلى ثعلبة و قال: ويحك يا ثعلبة هلكت، قد أنزل اللّه فيك كذا و كذا، فجاء ثعلبة بالصّدقة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه منعني أن أقبل منك» فجعل يحثو التّراب على رأسه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «هذا عملك» (1).

عن القمّي: عن الباقر عليه السّلام: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف، كان محتاجا فعاهد اللّه، فلمّا آتاه بخل به (2).

أقول: إنّما أمر اللّه أن لا يقبل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله صدقته لكونه إهانة و عبرة لغيره، أو لكون صدقته رياء لا خالصا لوجه اللّه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 77 الی 78

ثمّ بيّن اللّه أثر البخل و الإعراض عن العهد بقوله: فَأَعْقَبَهُمْ اللّه، و جعل عاقبة أمرهم، أو أثر بخلهم و عقبه نِفاقاً راسخا ثابتا فِي قُلُوبِهِمْ مستمرّا إِلى يَوْمِ يرجعون فيه إلى اللّه و يَلْقَوْنَهُ عن أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّقاء [هو]

البعث» (3). و قيل: يوم خروجهم من الدّنيا- بِما أَخْلَفُوا اَللّهَ ما وَعَدُوهُ و ما وفوا بما عاهدوه وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ في أقوالهم و عهودهم.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اَللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ (78)ثمّ وبّخهم اللّه على إبطانهم النّفاق و طعنهم سرّا في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه؛ بقوله: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ و ما في قلوبهم من الكفر و النّفاق، أو العزم على التخلّف وَ نَجْواهُمْ و ما يفاوضونه من الطّعن في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه، أو تسمية الزّكاة جزية وَ أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ و المطّلع على الخفايا و الأسرار، بحيث لا يخفى عليه خافية، فكيف يجترئون على ارتكاب القبائح؟

ص: 184


1- . تفسير روح البيان 3:469.
2- . تفسير القمي 1:301، تفسير الصافي 2:360.
3- . التوحيد:267/5، تفسير الصافي 2:361.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 79 الی 80

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين بلمز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تعييبه، ذمّهم بلمز المؤمنين و الاستهزاء بهم، بقوله: اَلَّذِينَ قيل التّقدير: هم الذين يَلْمِزُونَ و يعيبون اَلْمُطَّوِّعِينَ و المتنفّلين مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و يغتابونهم فِي اَلصَّدَقاتِ التي تصدّقوا [بها]

لتجهيز جيش غزوة تبوك وَ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ للإنفاق إِلاّ جُهْدَهُمْ و مقدار طاقتهم من الصّدقة، و إن كان في غاية القلّة فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ و يستهزئون بهم، اولئك سَخِرَ اَللّهُ مِنْهُمْ بأن جازاهم جزاء السّخرية، كما عن الرضا عليه السّلام (1)وَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ.

اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقاتِ وَ اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ (80)عن ابن عبّاس قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطبهم ذات يوم و حثّ على أن يجمعوا الصّدقات، فجاءه عبد الرّحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، و قال: كان لي ثمانية آلاف درهم؛ فأمسكت لنفسي و لعيالي أربعة، و هذه الأربعة أقرضتها ربّي. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك فيما أعطيت، و فيما أمسكت» (2). قيل: قبل اللّه دعاءه صلّى اللّه عليه و آله فيه، حتّى صالحت امرأته عن ربع الثّمن على ثمانين ألفا.

و جاء عمر بنحو ذلك، و جاء عاصم بن عديّ الأنصاري بسبعين و سقا من تمر الصّدقة، و جاء عثمان بن عفّان بصدقة عظيمة، و جاء أبو عقيل بصاع من تمر، و قال: آجرت اللّيلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله، فأخذت صاعين من تمر؛ فأمسكت أحدهما لنفسي و لعيالي، و أقرضت الآخر ربّي، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بوضعه في الصّدقات.

فقال المنافقون على وجه الطّعن: ما جاءوا بصدقاتهم إلاّ رياء و سمعة، و أمّا أبو عقيل فإنّما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر، و اللّه غنيّ عن صاعه، فأنزل اللّه هذه الآية (3).

عن القمّي: جاء سالم بن عمير الأنصاري بصاع من تمر، فقال: يا رسول اللّه، كنت ليلتي أجيرا لجرير حتّى عملت بصاعين من تمر؛ فأمّا أحدهما فأمسكته، و أمّا الآخر فأقرضته ربّي، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينشره في الصّدقات، فسخر منه المنافقون فقالوا: و اللّه إن اللّه لغنيّ عن هذا الصاع، ما يصنع اللّه بصاعه شيئا، و لكنّ أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه ليعطى من الصّدقات، فنزلت (4).

ص: 185


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:126/19، تفسير الصافي 2:361.
2- . تفسير الرازي 16:144.
3- . تفسير الرازي 16:145.
4- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 2:361.

و عن الصادق عليه السّلام: آجر أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه على أن يستقي كلّ دلو بتمرة يختارها؛ فجمع تمرا، فأتى [به]النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عبد الرّحمن بن عوف على الباب فلمزه، أي وقع فيه، فانزلت هذه الآية (1).

ثمّ أنّه روي عن ابن عبّاس قال: عند نزول الآية الاولى في المنافقين قالوا: يا رسول اللّه، استغفر لنا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «سأستغفر لكم» . و اشتغل بالاستغفار لهم، الخبر (2)، فردع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله عن الاستغفار بقوله: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فاختر أيّهما شئت، فإنّهما متساويان في عدم النّفع لهم، بل إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً قيل: إنّ السّبعين كناية عن الكثير (3)فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ أبدا لامتناع المغفرة لهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ و الكافر غير قابل لأن تناله المغفرة و تشمله الرّحمة وَ اَللّهُ لا يَهْدِي و لا يوصل إلى خير اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ و المتمرّدين عن حدود اللّه و أحكامه.

و روي أنّهم كانوا تأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيعتذرون و يقولون: إن أردنا إلاّ إحسانا و توفيقا، فنزلت (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 81

ثمّ بالغ سبحانه في ذمّ المتخلّفين عن الرّسول في غزوة تبوك بقوله: فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ الذين أجازهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تخلّفهم رفقا بهم، أو لعلمه بأنّهم يفسدون و يشوّشون عليه. و قيل: هم المتخلّفون بغير الإجازة بِمَقْعَدِهِمْ و إقامتهم في المدينة، كما عن ابن عبّاس (5)خِلافَ رَسُولِ اَللّهِ و لعصيان أمره، أو خلف الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و بعده وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا أعداء اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ و لطلب مرضاته، لاعتقادهم أنّه تعريض للمال و النّفس للتّلف، و ترويج للباطل.

فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اَللّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)ثمّ بيّن اللّه أنّهم مع تقاعد أنفسهم عن الجهاد و فرحهم به، سعوا في منع غيرهم من الخروج بقوله: وَ قالُوا لإخوانهم و أصدقائهم: لا تَنْفِرُوا و لا تخرجوا إلى سفر الغزو فِي زمان اَلْحَرِّ و الصّيف.

ص: 186


1- . تفسير العياشي 2:248/1861، تفسير الصافي 2:362.
2- . تفسير الرازي 16:146.
3- . تفسير روح البيان 3:473.
4- . تفسير الرازي 16:146.
5- . تفسير الرازي 16:146.

ثمّ ردّهم و هدّدهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: نارُ جَهَنَّمَ في الآخرة أَشَدُّ حَرًّا من حرارة الشّمس و الصّيف في الدّنيا، و قد اخترتموها لأنفسكم بقعودكم عن الجهاد، و مخالفتكم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ و يفهمون بقوّة العقل أنّ بعد هذه الدّار دار الجزاء، و أنّ مشقّة حرّها راحة بالنّسبة إلى مشقّة حرارة النّار في الآخرة، مع أنّ الاولى سريعة الزّوال، و الثانية باقية.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 82

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فرح المنافقين بالقعود، و كان الضّحك من لوازم شدّة الفرح، هدّدهم بغاية الحزن في الآخرة على معاصيهم و ابتلائهم بالعذاب بقوله: فَلْيَضْحَكُوا في الدّنيا ضحكا قَلِيلاً و إن كان ضحكهم مدّة عمرهم، فإنّ مدّة عمر الدّنيا قليلة، فكيف بمدّة عمرهم؟ وَ لْيَبْكُوا في الآخرة على أنفسهم بابتلائهم بالعذاب بكاء كَثِيراً حيث لا انقطاع له جَزاءً بِما كانُوا في الدّنيا يَكْسِبُونَ لأنفسهم من المعاصي و الذّنوب.

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)روي أنّ أهل النّفاق يبكون في النّار عمر الدّنيا لا يرقأ لهم دمع، و لا يكتحلون بنوم (1).

و في رواية: أنّه يرسل اللّه البكاء على أهل النّار فيبكون حتّى تنقطع الدّموع، ثمّ يبكون الدم حتّى ترى وجوههم كهيئة الاخدود (2).

و قيل: إنّ القلّة كناية عن العدم، و الكثرة كناية عن الدّوام، و عليه يجوز أن يكون وقتهما في الدّنيا، و يجوز أن يكون في الآخرة (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا و ضحكتم قليلا (4).

و روي أنّه خرج ذات يوم، فإذا قوم يتحدّثون و يضحكون، فوقف و سلّم عليهم، فقال: أكثروا ذكر هادم اللّذّات، قيل: و ما هادم اللّذّات؟ قال: الموت (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 83

ثمّ أنه تعالى بعد توضيح غاية خبث المنافقين و كفرهم و تعييبهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين و توهينهم

فَإِنْ رَجَعَكَ اَللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ (83)

ص: 187


1- . تفسير روح البيان 3:476. (4 و 5) . تفسير روح البيان 3:476.

إيّاهم، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عنهم، و الاستغناء عن نصرتهم و كونهم في جيش المسلمين، بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اَللّهُ و أعادك من غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ تخلّفوا عنك في تلك الغزوة بغير عذر و علّة فَاسْتَأْذَنُوكَ و استجازوا منك لِلْخُرُوجِ من المدينة إلى غزوة اخرى بعد هذه الغزوة فَقُلْ لهم إعراضا عنهم: إنّكم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ إلى غزوة أَبَداً و لا تدخلوا في عداد المسلمين وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا من أعدائي إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ و فرحتم بِالْقُعُودِ عن القتال و التخلّف عن جيش المسلمين، و الإقامة بالمدينة أَوَّلَ مَرَّةٍ و في الخرجة السابقة، و هي الخروج إلى تبوك، إذن فَاقْعُدُوا في مكانكم مَعَ اَلْخالِفِينَ و التزموا بيوتكم مع المتخلّفين من النّساء و الصّبيان، فإنّكم مثلهم، لا تليقون للجهاد. فأخرجهم اللّه من ديوان الغزاة، و محا أساميهم من دفتر المجاهدين، و نحّاهم عن محفل صحبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، عقوبة لهم على تخلّفهم و إهانة نبيّهم، و إظهارا لنفاقهم و شدّة كفرهم.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 84

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإهانتهم و تذليلهم في حال حياتهم، أمر بإهانتهم بعد موتهم بقوله: وَ لا تُصَلِّ يا محمّد عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ بعد ما ماتَ أَبَداً لتدعو و تستغفر له وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ و لا تقف عند تربته للزّيارة و الدّعاء.

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (84)قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا دفن الميّت وقف على قبره و دعا له (1).

ثمّ علّل سبحانه وجوب تذليلهم، و حرمة الاستغفار لهم بقوله: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ مدّة حياتهم وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ و متمرّدون عن طاعة اللّه، فلذا يستحقّون الخذلان و العذاب في الدّنيا و الآخرة.

عن ابن عبّاس: لمّا اشتكى عبد اللّه بن ابيّ، عاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فطلب منه أن يصلّي عليه إذا مات، و يقوم على قبره. ثمّ إنّه أرسل إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله يطلب قميصه ليكفّن فيه، فأرسل إليه القميص الفوقاني، فردّه و طلب الذي يلي جلده ليكفّن فيه، فقال عمر: لم تعطي قميصك الرّجس النّجس؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا، فلعلّ اللّه أن يدخل به ألفا في الاسلام» ، و كان المنافقون لا يفارقون عبد اللّه، فلمّا رأوه يطلب هذا القميص و يرجوه أن ينفعه، أسلم منهم ألف.

ص: 188


1- . تفسير الرازي 16:153.

فلمّا مات جاء ابنه يعرّفه، فقال صلّى اللّه عليه و آله لابنه: «صلّ عليه و ادفنه» . فقال: إن لم تصلّ عليه يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لم يصلّ عليه، مسلم، فقام صلّى اللّه عليه و آله ليصلّي عليه، فقام عمر و حال بين رسول اللّه و بين القبلة، لئلاّ يصلّي عليه. فنزلت هذه الآية، و أخذ جبرئيل بثوبه، و قال: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً (1).

نقل كلام الفخر

الرازي وردّه

قال الفخر الرّازي: إنّ هذا يدلّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر؛ لأنّ الوحي نزل على وفق قوله (2).

أقول: من اعتقد أنّ رأي عمر كان أصوب من رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو كافر، و أمّا اعتقادنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما كان يريد إلاّ ما أراد اللّه، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعلم القرآن جميعه قبل نزوله، و إنّما كان مأمورا بإظهار الرّفق و حسن الخلق بالنّسبة إلى البرّ و الفاجر حتّى ينزل الوحي بردعه، و يكون بذلك معذورا في أنظار النّاس.

بل نقول: إنّ الرّواية و أمثالها دالّة على قدح عظيم في عمر، و غاية جسارته على الرسول صلّى اللّه عليه و آله باعتراضه عليه، و حيلولته بينه صلّى اللّه عليه و آله و بين القبلة، و اعتقاده أنّه أعقل منه صلّى اللّه عليه و آله، و لذا لم يرد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أمثال ذلك، مع كونه أقرب النّاس إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و أعزّهم عليه، و أحبّهم عنده، و أعقل الصّحابة و أعلمهم، بل أعقل أهل العالم سوى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكن ذلك إلاّ لغاية معرفتة بشؤون الرّسول، و تسليمه له، و تبعيّته لإرادته.

عن القمّي رحمه اللّه: لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة، مرض عبد اللّه بن ابيّ و كان ابنه عبد اللّه مؤمنا، فجاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبوه يجود بنفسه، فقال: يا رسول اللّه، بأبي أنت و امّي، إنّك إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا، فدخل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المنافقون عنده، فقال له ابنه عبد اللّه: يا رسول اللّه، استغفر له. [فاستغفر له]فقال عمر: ألم ينهك اللّه-يا رسول اللّه-أن تصلّي عليهم أو تستغفر لهم؟ فأعرض عنه رسول اللّه، فأعاد عليه، فقال له: «ويلك، إنّي خيّرت فاخترت، إنّ اللّه يقول: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ إلى قوله: فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ» .

فلمّا مات عبد اللّه جاء ابنه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه، إن رأيت أن تحضر جنازته؟ فحضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قام على قبره، فقال له عمر: ألم ينهك اللّه أن تصلّي على أحد منهم مات أبدا، و أن تقوم على قبره؟ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ويلك، و هل تدري ما قلت؟ إنّما قلت: اللّهمّ احش قبره نارا، و جوفه نارا، واصله النّار» . فبدا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لم يكن يحبّ (3).

ص: 189


1- . تفسير الرازي 16:152.
2- . تفسير الرازي 16:152.
3- . تفسير القمي 1:302، تفسير الصافي 2:364.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لابن عبد اللّه بن ابيّ: إذا فرغت من أبيك فأعلمني، و كان قد توفّى، فأتاه فأعلمه، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نعليه للقيام، فقال عمر: أ ليس قد قال اللّه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ؟ ! فقال له: «ويحك-أو ويلك-إنّما أقول: اللّهم احش قبره نارا، و [املأ]جوفه نارا، واصله يوم القيامة نارا» (1).

و في رواية: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ بيد ابنه في الجنازة فمضى، فتصدّى له عمر ثمّ قال: أما نهاك ربّك عن أن تصلّي على أحد منهم مات أبدا، أو تقوم على قبره؟ ! فلم يجبه، فلمّا كان قبل أن ينتهي إلى القبر أعاد عمر ما قال له أوّلا، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لعمر عند ذلك: ما رأيتنا صلّينا له على جنازة و لا قمنا له على قبر. ثمّ قال: إنّ ابنه رجل من المؤمنين، و كان يحقّ علينا أداء حقّه، فقال عمر: أعوذ باللّه من سخط اللّه، و سخط رسوله» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان رسول اللّه إذا صلّى على ميّت، كبّر و تشهّد، ثمّ كبّر و صلّى على الأنبياء، ثمّ كبّر و دعا للمؤمنين، ثمّ كبّر الرّابعة و دعا للميّت، ثمّ كبّر و انصرف. فلمّا نهاه اللّه عن الصّلاة على المنافقين، كبّر و تشهّد، ثمّ كبّر و صلّى على النبيّين، ثمّ كبّر و دعا للمؤمنين، ثمّ كبّر الرّابعة و انصرف و لم يدع للميّت» (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 85

ثمّ أنّه تعالى بعد التّأكيد في إهانة المنافقين، و الإعراض عنهم، و الاستغناء عنهم و عن معاونتهم، ردع المؤمنين عن توهم أنّ كثرة مالهم و ولدهم موجب لإعزازهم و الاعتناء بشأنهم؛ بقوله: وَ لا تُعْجِبْكَ و لا يحسن في نظرك أَمْوالُهُمْ و إن كثرت وَ أَوْلادُهُمْ و إن كانوا كثيرين مقتدرين، فإنّهما موجبان لخسرانهم لأجل أنّه إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ بتمتّعهم بالأموال و الأولاد أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها ما داموا فِي اَلدُّنْيا بسبب ما يلحقهم من المصائب و الهموم وَ أن تَزْهَقَ و تخرج أَنْفُسُهُمْ من أبدانهم أو من الدّنيا وَ هُمْ كافِرُونَ لاشتغالهم بالتمتّعات، و إصلاح مفاسد ما اعطوا (4)من الزّينات الفانيات، و انهماكهم في الشّهوات، و الإلهاء عن النّظر في الآيات.

وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (85)

ص: 190


1- . تفسير العياشي 2:248/1862، تفسير الصافي 2:364.
2- . تفسير العياشي 2:248/1863، تفسير الصافي 2:364.
3- . تفسير العياشي 2:249/1864، تفسير الصافي 2:365.
4- . في النسخة: اعطى.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 86

ثمّ أنّ اللّه تعالى بعد ذمّ المنافقين بالتخلّف عن الرسول و مخالفة أمره، ذمّهم بمخالفة أمر نفسه الذي هو في القرآن، المشتمل على إعجاز البيان، الدالّ على كونه من اللّه بقوله: وَ إِذا أُنْزِلَتْ من قبل اللّه سُورَةٌ تامّة، أو آية منها و كان مضمونها: أَنْ آمِنُوا أيّها المسلمون عن صميم القلب بِاللّهِ و آياته و دينه وَ جاهِدُوا أعداء اللّه مَعَ رَسُولِهِ تراهم مع ذلك يتثاقلون، و اِسْتَأْذَنَكَ في القعود منه أُولُوا اَلطَّوْلِ و السّعة و الرّئاسة مِنْهُمْ بأن جاءوا عندك وَ قالُوا لك: ذَرْنا و دعنا نَكُنْ في المدينة و نقعد في بيوتنا مَعَ اَلْقاعِدِينَ و المعذّرين عن الجهاد من النّساء و الصّبيان و المجانين.

وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ اَلْقاعِدِينَ (86)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ ذمّهم اللّه بقوله: رَضُوا حبّا للبقاء، و شوقا إلى الشّهوات بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ و العجزة الذين وظيفتهم التخلّف كالنّساء و الصّبيان و المجانين، أو المراد: مع الذين لا خير فيهم وَ طُبِعَ اللّه و ختم عَلى قُلُوبِهِمْ بأن أظلمها و أقساها فى الغاية فَهُمْ لذلك الطّبع و الختم لا يَفْقَهُونَ ما في الإيمان الحقيقي و الجهاد في سبيل اللّه من الخير و سعادة الدّارين، و ما في التخلّف عنه، و تحمّل منافيات المروءة؛ من الذلّ و العار، و من الشّقاوة و النّكال.

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (88)ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ حال الرّسول و المؤمنين الذين عقلوا أنّ في الايمان و الجهاد في سبيل اللّه خير الدّارين، بخلاف حال المنافقين و أنّهم إن تخلّفوا عن الغزو، فقد بادر إليه الذين هم خير منهم و أخلص؛ بقوله: لكِنِ إن تخلّف المنافقون عن الجهاد فقد بادر اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و اليوم الآخر مَعَهُ و بتبعهم (1)إليه و جاهَدُوا في سبيل اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ طاعة للّه، و شوقا إلى رضاه وَ أُولئِكَ المجاهدون لَهُمُ اَلْخَيْراتُ الدّنيويّة و الاخرويّة وَ أُولئِكَ هُمُ بالخصوص اَلْمُفْلِحُونَ في الدّارين، و الفائزون بأعلى المقاصد و الحظوظ التي لا تتصوّرها العقول في النّشأتين؛ من النّصر و الغنيمة، و الشّرف و حسن الذّكر، و الجنّة و النّعم الدّائمة، و الكرامة

ص: 191


1- . في النسخة: بتبعه.

الأبدية.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 89 الی 90

ثمّ ذكر أهمّ الحظوظ بقوله: أَعَدَّ اَللّهُ و هيّأ لَهُمْ في الآخرة جَنّاتٍ ذوات أشجار كثيرة مثمرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المعهودة، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا دائما ذلِكَ الفوز بالجنّة اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه.

أَعَدَّ اَللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (89) وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين الذين كانوا في المدينة بتثاقلهم في الجهاد، و تباطئهم في الخروج، ذمّ أهل البوادي منهم بقوله: وَ جاءَ إلى الرّسول اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ و المعتذرون من أهل البوادي بالأعذار غير الوجيهة لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في القعود عن الجهاد وَ قَعَدَ جمع آخر منهم عنه بلا استئذان و اعتذار، جرأة على اللّه و رسوله، لظهور أنّهم اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ في دعواهم الإيمان بهما.

قيل: إنّ أقواما تكلّفوا عذرا بباطل، فهم الذين عنى اللّه بقوله: وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ و تخلّف الآخرون بلا عذر و لا شبهة عذر، جرأة على اللّه تعالى، فهم المرادون بقوله: وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّهَ.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ و استمرّوا على النّفاق عَذابٌ أَلِيمٌ أمّا في الدّنيا فبالقتل و الأسر، و نهب الأموال و الإذلال، و أمّا في الآخرة فبالنّار، و سائر فنون العذاب المعدّ للكفّار.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 91 الی 92

ص: 192

الفقراء اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ على أنفسهم في السّفر لشدّة فقرهم حَرَجٌ و بأس في التخلّف عن السّفر و الغزو، و لكن ذلك إِذا نَصَحُوا و أخلصوا قلوبهم و أعمالهم لِلّهِ وَ رَسُولِهِ و لم يغشّوا الرّسول و المؤمنين لأنّهم المحسنون في أعمالهم، و ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ من أهل الإيمان شيء مِنْ سَبِيلٍ من العقاب و العتاب وَ اَللّهُ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم، يثيبهم على إيمانهم و إحسانهم أفضل الثواب وَ لا حرج أيضا عَلَى المؤمنين اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ و حضروا عندك و التمسوا منك لِتَحْمِلَهُمْ على مركوب، يطيقون السير معك، مع وجدانهم النّفقة على أنفسهم، و أنت قُلْتَ في جوابهم: إنّي لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فلمّا يئسوا منك تَوَلَّوْا و رجعوا من عندك وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ و تسيل مِنَ اَلدَّمْعِ كأنّ كلّها دمع فائض حَزَناً على حرمانهم من الجهاد لأجل أَلاّ يَجِدُوا من المال مقدار ما يُنْفِقُونَ في شراء المركوب.

لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)قيل: الفقراء الذين لم يجدوا ما ينفقون على أنفسهم هم مزينة و جهينة و بنو عذرة (1)، و الذين لم يجدوا ما يحملون عليه سبعة من الأنصار، فإنّهم أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: نذرنا الخروج، فاحملنا على الخفاف المرقوعة (2)و النّعال المخصوفة، فنغزو معك، فقال: «لا أجد» ، فتولّوا و هم يبكون (3).

و عن ابن عبّاس: سألوه أن يحملهم على الدّوابّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا أجد ما أحملكم عليه» لأنّ الشّقّة بعيدة، و الرّجل يحتاج إلى بعير يركبه و بعير يحمل عليه ماءه و زاده (4).

عن القمّي رحمه اللّه: جاء البكّاؤن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم سبعة نفر؛ من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، قد شهد بدرا لا اختلاف فيه، و من بني واقف: هرمي (5)بن عمير، و من بني حارثة: علبة (6)بن زيد، و هو الذي تصدّق بعرضه (7)، و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر بالصّدقة، فجعل النّاس يأتون بها، فجاء علبة فقال: يا رسول اللّه، ما عندي ما أتصدقّ به، و قد جعلت عرضي حلاّ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قد قبل اللّه صدقتك. و من بني مازن بن النّجار: أبو ليلى عبد الرّحمن بن كعب، و من بني سلمة (8): عمرو (9)

ص: 193


1- . تفسير روح البيان 3:484.
2- . في النسخة: المدبوغة.
3- . تفسير أبي المسعود 4:92، تفسير روح البيان 3:485.
4- . تفسير الرازي 16:162.
5- . في النسخة: حرمي، و في المصدر: هدمي (هرمي خ ل) ، و قد اختلف في اسم أبيه أيضا، ففي أسد الغابة: هرمي بن عبد اللّه، و في طبقات ابن سعد و مغازي الواقدي: هرمي بن عمرو. راجع: أسد الغابة 5:58، طبقات ابن سعد 2: 165، مغازي الواقدي 3:994.
6- . في النسخة و المصدر: علية، تصحيف، راجع: اسد الغابة 5:10، طبقات ابن سعد 2:165، مغازي الواقدي 3: 994.
7- . تصدّقت بعرضه، أي تصدّق بعرضه على من ذكره بما يرجع إليه عيبة.
8- . في النسخة: بني سلمى، و ما أثبتناه من المصدر و اسد الغابة 4:123، و طبقات ابن سعد 2:165، و مغازي الواقدي 3:994.
9- . في النسخة: عمر، و ما أثبتناه من المصدر و المصادر المتقدمة، و قد وقع الاختلاف في اسم أبيه، ففي المصدر: غنمة (عتمة خ ل) ، و في اسد الغابة: غنمة، و في طبقات ابن سعد: عنمة، و في مغازي الواقدي: عتبة.

بن غنيمة، و من بني زريق-أو رزين-: سلمة بن صخر، و العرباض (1)بن سارية السّلمي. هؤلاء جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يبكون، فقالوا: يا رسول اللّه، ليس بنا قوّة أن نخرج معك، فأنزل اللّه تعالى فيهم لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى إلى قوله: أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ قال: و إنّما سأل البكاؤون نعلا يلبسونها (2).

و قيل: هم بنو مقرن، و كانوا سبعة إخوة كلّهم صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ليس في الصّحابة سبعة إخوة غيرهم (3).

و قيل: إنّها نزلت في أبي موسى الأشعري و أصحابه (4).

و قيل: إنّهم ثلاثة إخوة: معقل، و سويد. و النّعمان، بنو مقرن، سألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يحملهم على الخفاف المدبوغة و النّعال المخصوفة (5).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 93 الی 94

ثمّ أنّه تعالى بعد ما نفى السّبيل عن المؤمنين المعذورين، أثبتها على غير المعذورين بقوله: إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ من العتاب و العقاب و الخزي ثابت عَلَى المنافقين اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في القعود و التخلّف وَ هُمْ أَغْنِياءُ واجدون لاهبة السّفر و الغزو مع السّلامة.

إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اَللّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)ثمّ كأنّه قيل: ما كانت علّة استئذانهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ و تحمّلوا الدّناءة و الذلّة و الانتظام في عداد النّساء و العجزة وَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لذلك الطّبع لا يَعْلَمُونَ منافع الجهاد و مضارّ القعود عنه أبدا، و لذا تنفّروا عن الجهاد.

قيل: كانوا ثمانين رجلا من قبائل شتّى (6)، ذمّهم سبحانه بالاعتذار بالأعذار الباطلة الكاذبة بقوله:

ص: 194


1- . في النسخة: و من بني الغرماء ضرة، و في المصدر: و من بني العرياض ناصر، تصحيف، راجع: المصادر المتقدمة، و اسد الغابة 3:399.
2- . تفسير القمي 1:293، تفسير الصافي 2:367.
3- . تفسير روح البيان 3:485.
4- . تفسير الرازي 16:162.
5- . تفسير الرازي 16:162.
6- . تفسير القمي 1:293، تفسير الصافي 2:368.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ في التخلّف عنكم إِذا رَجَعْتُمْ من غزوة تبوك إِلَيْهِمْ.

ثمّ لمّا كان الجواب وظيفة الرسول، أمره اللّه بأن يجيبهم بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لا تَعْتَذِرُوا فإنّ فائدة الاعتذار دفع التوهّم السّوء في حقّ المعتذر، و هو لا يكون إلاّ بتصديق المعتذر إليه، و نحن لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ و لا نصدّقكم في اعتذاركم أبدا؛ لأنّه قَدْ نَبَّأَنَا اَللّهُ و أخبرنا بالوحي بعضا مِنْ أَخْبارِكُمْ الموجب للعلم بضمائركم من الكفر و الشرّ و الفساد، فلذا لا يمكننا تصديقكم فيما هو معلوم الكذب عندنا وَ سَيَرَى اَللّهُ فيما بعد عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ من التّوبة، و نصرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و النّصح له، و غيرها ممّا له شهادة على صدق اعتذاركم، و من الغدر و الكفر و الفساد ما هو من أدلّة كذبه ثُمَّ تُرَدُّونَ و ترجعون بالموت من الدّنيا إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ و دار الجزاء المستورة عن الأنظار وَ عالم اَلشَّهادَةِ و كشف السّر عمّا في الضمائر، و رفع الحجاب عن الجنّة و النّار فَيُنَبِّئُكُمْ اللّه عند ردّكم إليه و وقوفكم بين يديه بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ من السيّئات السّابقة و اللاّحقة، و الحسنات بما يحكم به عليكم من العتاب و العقاب، و لكم من الإكرام و الثّواب.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 95

ثمّ بعد بيان كذبهم في الاعتذار، ذمّهم سبحانه بحلفهم الكاذب عليه بقوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ تأكيدا لمعاذيرهم الكاذبة إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ و انصرفتم من سفر الغزو إِلَيْهِمْ: إنّا ما قدرنا على الخروج، و لو قدرنا ما تخلّصنا، كما قيل: إنّه مقالة جدّ بن قيس، و معتّب بن قشير و أصحابهما (1)لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ عن لومهم و تعنيفهم، و تصفحوا عن تقصيرهم. قيل: إنّهم طلبوا إعراض الصّفح؛ فأمر اللّه المؤمنين بإعراض المقت (2)بقوله: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ.

سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)عن ابن عبّاس: يريد ترك الكلام و السّلام (3).

و قيل: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم و لا تكلّموهم» (4).

ثمّ نبّه سبحانه على علّة الإعراض بقوله: إِنَّهُمْ رِجْسٌ و قذر ذاتا و روحا، لا يتطهّرون بالتّقريع و النّصح وَ مَأْواهُمْ و مقرّهم في الآخرة جَهَنَّمُ لا ينجون منها جَزاءً بِما كانُوا في الدّنيا يَكْسِبُونَ من الكفر و قبائح الأعمال، فإذا كانوا كذلك تكون مجالستهم و مكالمتهم مؤثّرة في ظلمة

ص: 195


1- . تفسير أبي السعود 4:95، تفسير روح البيان 3:487. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 16:164.

القلب و كدورة الرّوح، و موجبة للبعد عن اللّه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 96

ثمّ لمّا كان المنافقون طالبين للإعراض مع الصّفح و الرّضا، نهى اللّه المؤمنين عن ذلك بقوله: يَحْلِفُونَ باللّه لَكُمْ على صدق معاذيرهم كذبا لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم، و تعاملوا معهم معاملتكم مع المسلمين فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فقد خالفتم اللّه في ذلك فَإِنَّ اَللّهَ لا يَرْضى أبدا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ و الطّاغين عليه بالكفر و فساد الأعمال، فعليكم أن لا ترضوا عنهم أيضا لأنّ رضا المؤمن تابع لرضا اللّه.

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللّهَ لا يَرْضى عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ (96)القمّي رحمه اللّه: لمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة من تبوك، كان أصحابه المؤمنون يتعرّضون للمنافقين و يؤذونهم، و كانوا يحلفون لهم أنّهم على الحقّ، و ليسوا بمنافقين لكي يعرضوا عنهم و يرضوا عنهم، فأنزل اللّه هذه الآية (1).

عن (المجمع) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من التمس رضا اللّه بسخط النّاس رضي اللّه عنه، [و أرضى عنه النّاس]، و من التمس رضا النّاس بسخط اللّه [سخط اللّه]

عليه، و أسخط عليه النّاس» (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 97 الی 98

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين من أهل المدينة، ذمّ أهل البادية منهم بقوله: اَلْأَعْرابُ و أهل البوادي منهم أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً من أهل الحضر و سكّان البلد. قيل: لأنّهم يشبهون الوحوش من حيث إنّهم مجبولون على الامتناع عن الطاعة و الانقياد (3)وَ هم أَجْدَرُ و أولى أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ من الأحكام و العبادات، لعدم ملازمتهم حضوره، و بعدهم عن استماع القرآن و المواعظ الشافية و سنن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوال عباده، بدويهم

اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

ص: 196


1- . تفسير القمي 1:302، تفسير الصافي 2:368.
2- . مجمع البيان 5:94، تفسير الصافي 2:368.
3- . تفسير روح البيان 3:489.

و حضريهم حَكِيمٌ فيما يجازي به محسنهم و مسيئهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين من الأعراب لشدّة الكفر و النّفاق و الجهل، ذمّهم بسوء الأعمال بقوله: وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ و يعدّ ما يُنْفِقُ من ماله في الظّاهر في سبيل اللّه مَغْرَماً و خسرانا و ضررا على نفسه، لاعتقاده عدم النّفع له فيه في الدّنيا و الآخرة، و إنّما ينفقه رياء و اتّقاء من المسلمين وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ و ينتظر في شأنكم اَلدَّوائِرَ و المصيبات؛ من الموت و القتل و الأسر بأيدي الكفّار بعد موت الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ دعا عليهم بمثل ما طلبوا للمسلمين بقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ اَلسَّوْءِ و البليّة المحيطة المكروهة من الخزى و القتل و الأسر في الدّنيا، و العذاب الشّديد في الآخرة، فلا يرون في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين إلاّ ما يسوءهم وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم عند الإنفاق و غيره عَلِيمٌ بنيّاتهم و ما في ضمائرهم من الرّياء و الاتّقاء و الكفر، و عداوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 99

ثمّ مدح المؤمنين الخلّص منهم بقوله: وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ عن صميم القلب وَ يَتَّخِذُ و يعدّ ما يُنْفِقُ من أمواله في سبيل اللّه قُرُباتٍ و وسائل حصول الكرامة و المثوبة عِنْدَ اَللّهِ تعالى وَ ذريعة صَلَواتِ اَلرَّسُولِ عليهم، و دعائة لهم بالخير و البركة و الغفران.

وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اَللّهِ وَ صَلَواتِ اَلرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اَللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)ثمّ شهد سبحانه بصحّة معتقدهم في نفقتهم بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المؤمنون إِنَّها قُرْبَةٌ عظيمة، و وسيلة حصول المنزلة العالية لَهُمْ عند اللّه، و من آثار قربهم أنّه تعالى سَيُدْخِلُهُمُ اَللّهُ فِي رَحْمَتِهِ و جنّته، و يحيط بهم فضله و نعمه إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لسيّئاتهم رَحِيمٌ بهم بأن يوفّقهم لطاعته و العمل بمرضاته.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 100

ص: 197

ثمّ لمّا مدح اللّه المؤمنين من الأعراب، و وعدهم الثواب، و أعلن بعدم رضائه عن المنافقين و الفاسقين، بيّن أفضليّة الصّحابة السّابقين في الإيمان و النّصرة، و رضاءه منهم بقوله: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ في الإيمان و النّصرة مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ كأمير المؤمنين و حمزة. و عنه عليه السّلام: «لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّبها فهو مهاجر» (1)وَ من اَلْأَنْصارِ كالسّبعة الذين بايعوا الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في العقبة الاولى و السّبعين الذين بايعوه في العقبة الثانية.

وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (100)و القمّي رحمه اللّه: هم النّقباء؛ أبو ذرّ، و المقداد، و سلمان، و عمّار، و من آمن و صدّق و ثبت على ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

و في (نهج البلاغة) : «اسم الهجرة لا يقع على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر» (3).

وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ و اقتدوا بهم متلبّسين بِإِحْسانٍ من الأخلاق الحسنة، و الصّفات الكريمة، و الأعمال الصّالحة.

عن الصادق عليه السّلام في حديث: «فبدأ بالمهاجرين الأوّلين على درجة سبقهم، ثمّ ثنّى بالأنصار، ثمّ ثلّث بالتّابعين بإحسان، فوضع كلّ قوم على قدر درجاتهم و منازلهم عنده» (4).

روت العامّة: أنّه اوحي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن أربعين سنة في مكّة، فبايعه جماعة من النّاس، فعدا عليهم كفّار قريش فظلموهم ليردّوهم إلى ما كانوا عليه، فأمرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالهجرة إلى أرض الحبشة، فخرجوا نحوا من ثمانين رجلا، و هذه هي الهجرة الأولى (5).

في نقل كلام الفخر

الرازي وردّه

أقول: لا شبهة أنّهم السّابقون في الهجرة، و لم يكن فيهم أبو بكر، فما ذكر الفخر الرّازي-من أنّ السّبق إلى الهجرة إنّما حصل لأبي بكر، فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر (6)- من الأغلاط؛ لأن المهاجرين إلى الحبشة كانوا أسبق في الهجرة من أبي بكر، و إن كان مراده الهجرة إلى المدينة، فمن المعلوم أنّ مصعب بن عمير كان أسبق منه فيها، و نصيبه أوفر من نصيبه، حيث رووا أنّه لمّا انصرف أهل العقبة الثّانية إلى المدينة، بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معهم مصعب بن عمير ليفقّه أهلها، و يعلّمهم القرآن، و كانت (7)هجرته في السنة الثانية عشر (8).

ص: 198


1- . نهج البلاغة:280/189، تفسير الصافي 2:369.
2- . تفسير القمي 1:303، تفسير الصافي 2:369.
3- . تقدم آنفا.
4- . تفسير العياشي 2:253/1872، الكافي 2:34/1، تفسير الصافي 2:369.
5- . تفسير روح البيان 3:492.
6- . تفسير الرازي 16:169.
7- . في النسخة: كان.
8- . تفسير روح البيان 3:492.

ثمّ بشّر سبحانه المهاجرين و الأنصار و التّابعين لهم بإحسان برضائه عنهم بقوله: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم و أعمالهم وَ رَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدّنيويّة و الاخرويّة.

قال الفخر الرّازي: فإذا ثبت هذا يعني كون أبي بكر من السّابقين إلى الهجرة، صار محكوما عليه بأنّه رضي اللّه عنه و رضي هو عنه، و ذلك في أعلى الدّرجات من الفضل، فاذا ثبت هذا وجب أن يكون إماما حقّا بعد الرّسول، إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحقّ اللّعن و المقت، و ذلك ينافي مثل هذا التّعظيم، فصارت هذه الآية من أدلّ الدلائل على فضل أبي بكر و عمر، و صحّة إمامتهما.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّه لم قلتم أنّه بقي على تلك الحالة، و لم لا يجوز أن يقال أنّه تغيّر عن تلك الحالة، و زالت عنه تلك الفضيلة، بسبب إقدامه على الإمامة (1).

ثمّ أجاب عنه: بأنّ قوله تعالى: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ يتناول جميع الأوقات و الأحوال؛ بدليل أنّه لا وقت و لا حال إلاّ و يصحّ استثناؤه منه، فيقال: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ إلاّ في وقت طلب الإمامة، و مقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللّفظ (2).

أقول: فيه أنّ الظاهر من الآية رضاؤه تعالى عنهم في أوّل إيمانهم و هجرتهم، و إنّه باق ما لم يصدر منهم ما يوجب الغضب و السّخط، و لو لا ذلك لزم القول برضائه تعالى عن عمر و عثمان حين فرارهما من الزّحف يوم احد، و كون فرارهما حقّا، و لازم ذلك كون ثبات الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فيه باطلا، و عن جميع الصّحابة حين مخالفتهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و معارضتهم له يوم الحديبية.

و مع القول بذلك لا معنى لقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ (3)لأنّ رضاءه حصل و لم يزل، فكان الإخبار بحدوثه بعد البيعة إخبارا بحصول ما كان حاصلا، و لزم القول برضائه تعالى عن الزّبير حين خروجه من بيت أمير المؤمنين عليه السّلام بالسّيف، يوم اجتماع النّاس على بابه لإخراجه إلى بيعة أبي بكر، و كونه حقّا، فكانت إمامة أبي بكر و بيعته باطلتين. و أيضا لزم كون قتال طلحة و الزّبير مع أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا، و لا يقول به مسلم، و كون تخلّف كثير من الصّحابة و السّابقين الأوّلين-كسعد بن عبادة و أضرابه، عن بيعة أبي بكر، و اجتماعهم على قتل عثمان-حقّا، فكانت (4)إمامة أبي بكر و عثمان باطلة خصوصا بناء على ما قاله أكثر مفسّري العامّة من أنّ الآية تتناول جميع الصّحابة؛ لأنّ جميعهم موصوفون بكونهم سابقين أوّلين بالنّسبة إلى سائر المسلمين (5).

ص: 199


1- . تفسير الرازي 16:169.
2- . تفسير الرازي 16:170.
3- . الفتح:48/18.
4- . في النسخة: فكان.
5- . تفسير الرازي 16:171.

ثمّ بشّرهم اللّه بالثّواب الاخروي بقوله: وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهارُ حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أَبَداً ذلِكَ المذكور من رضاء اللّه عنهم، و خلودهم في الجنّة هو اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ الذي لا فوز و لا نجاح أعظم منه.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ المنافقين المشهورين في المدينة و البوادي، أخبر بنفاق بعض المسلمين المبطنين للنّفاق بقوله: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ و في أطراف بلدكم مِنَ اَلْأَعْرابِ و أهل البوادي المشهورين بينكم بالإيمان مُنافِقُونَ مستور نفاقهم عنكم. قيل: هم جهينة و مزينة و أسلم و أشجع و غفار، كانوا نازلين حول المدينة (1)وَ بعض مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا و عتوا و استمرّوا عَلَى اَلنِّفاقِ و بلغوا في المهارة فيه إلى درجة لا تَعْلَمُهُمْ مع كمال فطنتك، و قوّة فراستك، و نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ و نعرفهم لإحاطتنا بضمائرهم و أسرارهم سَنُعَذِّبُهُمْ قبل يوم القيامة مَرَّتَيْنِ مرّة في الدّنيا، و مرّة في البرزخ و القبر. و قيل: إنّ المراد من مَرَّتَيْنِ تكرّر عذابهم في الدّنيا (2)ثُمَّ يُرَدُّونَ في القيامة إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدره.

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 102

ثمّ ذكر سبحانه القسم الثّالث من أهل المدينة بقوله: وَ آخَرُونَ منهم اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ قيل: هم المنافقون الذين تابوا من نفاقهم (3). و قيل: هم جمع من المسلمين تخلّفوا عن غزوة تبوك كسلا لا نفاقا و كفرا (4)، ثمّ أقرّوا على أنفسهم بالعصيان، و أظهروا النّدامة، و هم خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً من حضورهم في الغزوات، و اهتمامهم بالعبادات، و ندمهم على القعود عن غزوة تبوك، و توبتهم من التخلّف وَ آخَرَ سَيِّئاً من المعاصي السّابقة و اللاّحقة.

وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)روي أنّهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، و أوس بن ثعلبة، و وديعة بن حزام (3).

و قيل: كانوا عشرة، فسبعة منهم لمّا بلغهم ما نزل في المتخلّفين و أيقنوا بالهلاك، أوثقوا أنفسهم

ص: 200


1- . تفسير الرازي 16:173، تفسير أبي السعود 4:97، تفسير روح البيان 3:493.
2- . تفسير أبي السعود 4:98، تفسير روح البيان 3:494. (3 و 4) . تفسير الرازي 16:174.
3- . تفسير الرازي 16:175.

على سواري المسجد، فقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدخل المسجد و صلّى ركعتين، و كانت هذه عادته، فلمّا رآهم موثقين سأل عنهم، فذكر له أنّهم حلفوا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يكون الرّسول هو الذي يحلّهم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «و أنا اقسم أنّي لا أحلّهم حتّى اومر فيهم» . فنزلت هذه الآية.

فأطلقهم و عذرهم (1)لمّا أخبر اللّه بقبول توبتهم بقوله: عَسَى اَللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ و يعود عليهم بالرّحمة و المغفرة إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لذنوب التّائبين رَحِيمٌ بهم و مفضّل عليهم بالثّواب.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 103

روي أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، هذه أموالنا، و إنّما تخلّفنا عنك بسببها، فتصدّق بها و طهّرنا، فقال: ما امرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فنزل قوله تعالى (2): خُذْ يا محمّد مِنْ أَمْوالِهِمْ التي أعطوك صَدَقَةً حال كونك تُطَهِّرُهُمْ من الذّنوب التي خلطوها بأعمالهم الصّالحة وَ تُزَكِّيهِمْ بِها و تنمّي بتلك الصّدقة أنفسهم بالكمال، و أموالهم في الدّنيا و الآخرة بالبركة و الثّواب-و قيل: يعني تبالغ في تطهيرهم (3)، أو تعظيم شأنهم و تثني عليهم بها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ و ادع لهم بالخير و البركة و الغفران إِنَّ صَلاتَكَ عليهم و دعاءك لهم سَكَنٌ لَهُمْ و طمأنينة تطمئنّ بها قلوبهم. و عن ابن عبّاس: إنّ دعاءك رحمة لهم (4)وَ اَللّهُ سَمِيعٌ لاعترافهم و توبتهم و مقالاتهم عند إعطائهم الصّدقة و دعائك لهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من الصّدق و الخلوص.

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ ثلث أموالهم لتكميل توبتهم، و تكفير ذنوبهم التي منها تخلّفهم عن الغزو (5).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللّهم صلّ عليهم» (6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية: أجارية في الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: نعم (7).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 104

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (104)

ص: 201


1- . تفسير الرازي 16:175.
2- . تفسير الرازي 16:175.
3- . تفسير الرازي 16:179، تفسير أبي السعود 4:99.
4- . تفسير الرازي 16:184.
5- . تفسير روح البيان 3:495.
6- . مجمع البيان 5:103، تفسير الصافي 2:371.
7- . تفسير العياشي 2:255/1879، تفسير الصافي 2:371.

ثمّ لمّا لم يصرّح اللّه سبحانه في الآية السّابقة بقبول توبتهم، صرّح به بقوله: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ من الذّنوب عَنْ عِبادِهِ المؤمنين المذنبين التّائبين وَ يَأْخُذُ منهم اَلصَّدَقاتِ الصّادرة منهم عن خلوص النيّة. ثمّ أكّد قبول توبتهم بقوله: وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ على المذنبين، و مبالغ في قبول توبتهم اَلرَّحِيمُ بهم.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا حكم بصحّة توبتهم، قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا معنا بالأمس لا يكلّمون و لا يجالسون، فما لهم؟ فنزلت (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه يقول: ما من شيء إلاّ و قد وكّلت [به]من يقبضه غيري إلاّ الصّدقة فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفا، حتّى إنّ الرّجل ليتصدّق بالتّمرة أو بشقّ التّمرة فاربّيها له كما يربّي الرجل فلوه (2)و فصيله، فيأتي يوم القيامة و هو مثل احد و أعظم من احد» (3).

و عن السجّاد عليه السّلام: «ضمنت على ربّي أنّ الصّدقة لا تقع في يد العبد حتّى تقع في يد الربّ، و هو قوله: هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ» (4).

و عنه عليه السّلام: أنّه كان إذا أعطى السّائل قبّل يد السائل، فقيل له: لم تفعل ذلك؟ قال: «لأنّها تقع في يد اللّه قبل يد العبد» . و قال: «ليس من شيء إلاّ وكّل به ملك إلاّ الصّدقة فإنّها تقع في يد اللّه» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السّائل ثم ارتدّه منه فقبّله و شمّه [ثم رده في يد السائل]» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا ناولتم السائل شيئا فاسألوه أن يدعو لكم فإنّه يجاب له فيكم، و لا يجاب في نفسه-إلى أن قال: -و ليردّ الذي ناوله يده إلى فيه فيقبّلها، فإنّ اللّه تعالى يأخذها قبل أن تقع في يده، كما قال: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ» (7).

و عن الصادق عليه السّلام في حديث: «و الأخذ في وجه القبول منه، كما قال: وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ أي يقبلها من أهلها و يثيب عليها» (8).

و قيل: إنّ قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ذكر أنّ الآخذ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و في هذه ذكر أنّ الآخذ

ص: 202


1- . تفسير الرازي 16:185.
2- . الفلو: الجحش أو المهر يفطم أو يبلغ السنة.
3- . الكافي 4:47/6، تفسير الصافي 2:372.
4- . تفسير العياشي 2:257/1886، تفسير الصافي 2:372.
5- . تفسير العياشي 2:257/1885، تفسير الصافي 2:372.
6- . تفسير العياشي 2:256/1882، الكافي 4:9/3، تفسير الصافي 2:372.
7- . الخصال:619/10، تفسير الصافي 2:372.
8- . التوحيد:162/2، تفسير الصافي 2:372.

هو اللّه، فيفهم من الآيتين أنّ أخذ الرّسول أخذ اللّه، ففيه التّنبيه على عظم شأن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 105

ثمّ رغّب سبحانه التّائبين على العمل بعد قبول توبتهم، أو عموم العباد في مطلق الخيرات، و رهّبهم من العصيان بقوله: وَ قُلِ للتّائبين، أو لعموم المؤمنين: اِعْمَلُوا ما شئتم من الأعمال خيرا أو شرّا فَسَيَرَى اَللّهُ و يعلم البتّة عَمَلَكُمْ خيرا كان أو شرّا، ظاهرا كان أو خفيّا وَ رَسُولُهُ أيضا يراه، بل وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يرونه.

وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)عن الباقر عليه السّلام: «هو و اللّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هم الأئمّة عليهم السّلام» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «إيّانا عنى» (4).

و عنه عليه السّلام: «تعرض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعمال العباد كلّ صباح، أبرارها و فجّارها؛ فاحذروها، و هو قوله تعالى وَ قُلِ اِعْمَلُوا. . . الآية» (5).

و عنه عليه السّلام أنّه قرئ عنده هذه الآية فقال: «ليس هكذا هي، إنّما هي (و المأمونون) ، فنحن المأمونون» (6).

أقول: ليس المراد تغيير اللّفظ، بل بيان أن مادّة «مؤمنون» الأمن لا الإيمان.

و روي: لو أنّ رجلا عمل في صخرة لا باب لها و لاكوّه، لخرج عمله إلى النّاس كائنا ما كان (7).

وَ سَتُرَدُّونَ و ترجعون البتّة بعد الموت إِلى جزاء أعمالكم، أو إلى دار الآخرة التي هي معنى عالِمِ اَلْغَيْبِ لغيابه عن أنظار العامّة، وَ عالم اَلشَّهادَةِ لحضوره عند النّاس، أو لشهودهم حقائق الأعمال و الأشياء فيه فَيُنَبِّئُكُمْ و يخبركم اللّه بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ بإراءتكم جزاءه.

ص: 203


1- . تفسير الرازي 16:186.
2- . تفسير العياشي 2:258/1889، الكافي 1:171/5، تفسير الصافي 2:373.
3- . تفسير العياشي 2:259/1893، الكافي 1:171/2، تفسير الصافي 2:373.
4- . الكافي 1:146/2، تفسير الصافي 2:373.
5- . تفسير العياشي 2:259/1891، الكافي 1:171/1، تفسير الصافي 2:373.
6- . الكافي 1:351/62، تفسير الصافي 2:373.
7- . تفسير الرازي 16:189، تفسير روح البيان 3:501.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 106

ثمّ بيّن سبحانه القسم الآخر من النّاس بقوله: وَ آخَرُونَ منهم قوم مُرْجَوْنَ و مؤخّرون في جزائهم لِأَمْرِ اَللّهِ و إلى نزول حكمه في شأنهم، أو إلى إرادته التّعذيب أو العفو، فهو تعالى إِمّا يُعَذِّبُهُمْ على ذنوبهم إن سوّفوا التّوبة إلى أن يموتوا على ما هم عليه وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن تابوا عن خلوص وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيما يفعل بهم من التّعذيب و العفو.

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)روي عنهما عليهما السّلام في هذه الآية: «أنّهم قوم مشركون، قتلوا مثل حمزة و جعفر و أشباههما من المؤمنين، ثمّ دخلوا في الإسلام، فوحّدوا اللّه و تركوا الشّرك، و لم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة، و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار، فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم و إمّا يتوب عليهم» (1).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 107 الی 108

ثمّ ذمّ اللّه المنافقين على بناء مسجد ضرار بقوله: وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا و بنوا مَسْجِداً بجنب مسجد قبا (2)، ليكون أو ليضرّوا به ضِراراً وَ كُفْراً وَ ليفرّقوا به تَفْرِيقاً و يوقعوا اختلافا بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ يترصّدوا و ينتظروا إِرْصاداً و انتظارا لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ.

وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ اَلْحُسْنى وَ اَللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى اَلتَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ (108)

في بيان علة بناء

مسجد ضرار

عن ابن عبّاس و جمع من مفسّري العامّة قالوا: كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين، بنوا مسجدا ليضارّوا مسجد قبا (3).

و قيل: إنّ أبا عامر الرّاهب-والد حنظلة، الذي غسّلته الملائكة-و سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الفاسق، و قد تنصّر في الجاهليّة، و ترهّب و طلب العلم، فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاداه لأنّه زالت رئاسته،

ص: 204


1- . تفسير العياشي 2:261/1901 و الكافي 2:299/1 عن الباقر عليه السّلام، تفسير القمي 1:304 عن الصادق عليه السّلام، تفسير الصافي 2:374.
2- . مسجد قبا: أصله اسم بئر في قرية تجمّع حولها بنو عمرو بن عوف، على ميلين من المدينة، و فيها مسجد التقوى، و هو أول مسجد صلّيت فيه صلاة الجمعة.
3- . تفسير الرازي 16:193. عن ابن عباس و مجاهد و قتاده و عامة أهل التفسير.

و قال: لا أجد قوما يقاتلونك إلاّ قاتلتك معهم، و لم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمّا انهزمت هوازن خرج إلى الشّام و أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة و سلاح، و ابنوا لي مسجدا، فإنّي ذاهب إلى قيصر و آت من عنده بجند فاخرج محمدا و أصحابه. فبنوا هذا المسجد، و انتظروا مجيء أبي عامر ليصلّي بهم في ذلك المسجد (1).

و عن (الجوامع) قال: روي أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قبا، و صلّى فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، و قالو: نبني مسجدا نصلّي فيه و لا نحضر جماعة محمّد. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا، و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يتجهّز إلى تبوك: إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه، فقال: «إنّي على جناح سفر» . و لمّا انصرف من تبوك نزلت الآية، فأرسل من هدم المسجد و أحرقه، و أمر أن يتّخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف و القمامة (2).

ثمّ أخبر اللّه تعالى بنفاق البانين للمسجد بقوله: وَ لَيَحْلِفُنَّ باللّه للرّسول صلّى اللّه عليه و آله عند سؤاله عن علّة بنائه إِنْ أَرَدْنا و ما قصدنا ببنائه إِلاَّ الفعلة أو الخصلة أو الإرادة اَلْحُسْنى من الصّلاة و التّوسعة على ضعفاء المؤمنين و قيل: إنّهم قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلّة و الحاجة، و الشيخ الفاني، و اللّيلة الممطرة، و اللّيلة الشّاتية (3). فردّ اللّه سبحانه عليهم، و كذّب قولهم و حلفهم بقوله: وَ اَللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يقولون.

عن القمّي قال: كان سبب نزولها أنّه جاء قوم من المنافقين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه، أتأذن لنا أن نبني مسجدا في بني سالم للعليل و اللّيلة الممطرة، و الشيخ الفاني؟ فأذن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو على جناح الخروج إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه، لو أتيتنا و صلّيت فيه، فقال: «أنا على جناح السّفر، فإذا وافيت-إن شاء اللّه-أتيته فصلّيت فيه» .

فلمّا أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تبوك نزلت هذه [الآية]في شأن المسجد و أبي عامر الرّاهب، و قد كانوا حلفوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّهم يبنون ذلك للصّلاح و الحسنى، فأنزل اللّه على رسوله وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني: أبا عامر الرّاهب، كان يأتيهم و يذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه (4).

قيل: إنّه كان من أشراف قبيلة الخزرج، و كان له علم بالتّوراة و الإنجيل (5). و كان يذكر صفات

ص: 205


1- . تفسير الرازي 16:193.
2- . جوامع الجامع:186، تفسير الصافي 2:375.
3- . تفسير البيضاوي 1:420، تفسير الرازي 16:194.
4- . تفسير القمي 1:305، تفسير الصافي 2:375.
5- . تفسير روح البيان 3:505.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأهل المدينة قبل هجرته إليها، فلمّا هاجر إليها و آمن به أهلها، تركوا صحبة أبي عامر (1)، فحسد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له: ما هذا الدّين الذي جئت به؟ قال: «دين إبراهيم الخليل» . قال: لا و اللّه، ليس ذلك. فقال النبيّ: «بل جئت بها بيضاء نقيّة» . فقال أبو عامر: أمات اللّه من [هو]كاذب منّا طريدا وحيدا غريبا. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «آمين» ، فهرب بعد غزوة بدر و لحق بكفّار مكّة (2).

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، و كان ملك النواحي، له مملكة عظيمة ممّا يلي الشام، و كان يهدّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقصده و قتل أصحابه، و كان أصحاب رسول اللّه خائفين وجلين من قبله. . . ثمّ إنّ المنافقين اتّفقوا و بايعوا لأبي عامر الرّاهب الذي سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الفاسق، و جعلوه أميرا عليهم، و بخعوا له بالطّاعة، فقال لهم: الرأي أن أغيب عن المدينة لئلاّ اتّهم إلى أن يتمّ تدبيركم، و كاتبوا أكيدر صاحب دومة الجندل ليقصد المدينة (3).

فأوحى اللّه إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و عرّفه ما أجمعوا عليه من أمره، و أمره بالمسير إلى تبوك، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّما أراد غزوا ورّى بغيره إلاّ غزوة تبوك، فإنّه أظهر ما كان يريده، و أمر أن يتزوّدوا لها، و هي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون، و ذمّهم اللّه في تثبطهم عنها، و أظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما اوحي إليه أنّ اللّه سيظهره بكيدر-أو أكيدر-حتّى يأخذه و يصالحه على ألف اوقّية من ذهب في رجب و مائتي حلّة، و ألف أوقيّة في صفر و مائتي حلّة، و ينصرف سالما إلى ثمانين يوما، و قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ موسى وعد قومه أربعين ليلة، و أنا أعدكم ثمانين ليلة، ثمّ أرجع سالما غانما ظافرا بلا حرب تكون، و لا يستأسر أحد من المؤمنين. فقال المنافقون: لا و اللّه، و لكنّها آخر كرّاته [التي]لا ينجبر بعدها، إنّ أصحابه ليموت بعضهم في الحرّ و رياح البوادي و مياه المواضع المؤذية الفاسدة، و من سلم من ذلك فبين أسير في [يد]أكيدر، و قتيل و جريح.

و استأذنه المنافقون بعلل ذكروها؛ بعضهم يعتلّ بالحرّ، و بعضهم بمرض في جسده، و بعضهم بمرض عياله، و كان يأذن لهم.

فلمّا صحّ عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الرّحلة إلى تبوك، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجد ضرار، يريدون الاجتماع فيه، و يوهمون أنّه للصّلاه، و إنّما كان ليجتمعوا فيه لعلّة الصلاة فيتمّ تدبيرهم و تقع هناك ما يسهل به لهم ما يريدون.

ثمّ جاء جماعة منهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالوا: يا رسول اللّه، إنّ بيوتنا قاصية عن مسجدك، و إنّا

.

ص: 206


1- . تفسير روح البيان 3:505.
2- . تفسير روح البيان 3:506.
3- . زاد في المصدر: ليكونوا هم عليه، و هو يقصدهم فيصطلموه.

نكره الصّلاة في غير جماعة، و يصعب علينا الحضور، و قد بنينا مسجدا، فإن رأيت أن تقصده و تصلّي فيه لنتيمّن و نتبرّك بالصّلاة في موضع مصلاّك، فلم يعرّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما عرّفه اللّه من أمرهم و نفاقهم، فقال: ائتوني بحماري، فأتي بيعفور فركبه يريد مسجدهم، فكلّما بعثه هو و أصحابه لم ينبعث و لم يمشي، فإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سيره و أطيبه، قالوا: لعلّ الحمار رأى من الطريق شيئا كرهه و لذلك لا ينبعث نحوه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ائتوني بفرس فركبه، فلمّا بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث، و كلّما حرّكوه نحوه لم يتحرّك، حتّى إذا فتلوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير، فقالوا: لعلّ هذا الفرس قد كره شيئا في هذا الطريق، فقال صلّى اللّه عليه و آله: تعالوا نمش إليه، فلمّا تعاطى هو و من معه المشي نحو المسجد جثوا في مواضعهم و لم يقدروا على الحركة، فإذا همّوا بغيره من المواضع خفّت حركاتهم، و خفّت أبدانهم و نشطت قلوبهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذا أمر قد كرهه اللّه، و ليس يريده الآن و أنا على جناح سفر، فأمهلوا حتّى أرجع إن شاء اللّه، ثمّ أنظر في هذا نظرا يرضاه اللّه.

و جدّ في العزم على الخروج إلى تبوك، و عزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا، فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمّد، العلي الأعلى يقرئك السّلام، و يقول: إمّا أن تخرج أنت و يقيم عليّ، و إمّا أن يخرج عليّ و تقيم أنت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ذلك لعليّ، فقال علي عليه السّلام: السّمع و الطّاعة لأمر اللّه و أمر رسوله، و إن كنت أحبّ أن لا أتخلّف عن رسول اللّه في حال من الأحوال.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي. قال: رضيت يا رسول اللّه، فقال له رسول اللّه: يا أبا الحسن، إنّ [لك]أجر خروجك معي في مقامك في المدينة، و إنّ اللّه قد جعلك امّة وحدك، كما جعل إبراهيم امّة، تمنع جماعة المنافقين و الكفّار هيبتك عن الحركة على المسلمين.

فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شيّعه عليّ عليه السّلام، خاض المنافقون و قالوا: إنّما خلّفه محمّد بالمدينة لبغضه له و ملاله منه، و ما أراد بذلك إلاّ أن يبيّته المنافقون فيقتلوه. فاتّصل ذلك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عليّ عليه السّلام: أتسمع ما يقولون يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أما يكفيك أنّك جلدة ما بين عيني، و نور بصري، و كالرّوح في بدني.

ثمّ سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه، و أقام عليّ عليه السّلام بالمدينة، فكان كلّما دبّر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من عليّ عليه السّلام و خافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك، و جعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرّة محمّد التي لا يؤوب منها. . . إلى أن عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غانما ظافرا، و أبطل اللّه

ص: 207

كيد المنافقين، و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بإحراق مسجد ضرار، و أنزل اللّه تعالى وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً. . . الآيات.

ثمّ ذكر أنّ أبا عامر الرّاهب كان عجل هذه الامّة كعجل قوم موسى، و أنّه دمّر اللّه عليه و أصابه بقولنج و برص [و فالج]و لقوة (1)و بقي أربعين صباحا في أشدّ عذاب، ثمّ صار إلى عذاب اللّه» (2). و قيل: إنّه مات بالشّام طريدا وحيدا (3).

و قيل: إنّه أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مالك بن الدخشم (4)و معن بن عديّ بخراب المسجد و إحراقه، فألقوا فيه النّار فاحترق بعض من فيه (5).

قيل: إنّ مجمع بن جارية (6)كان إمام مسجد ضرار، ثمّ جاء إلى عمر و طلب منه إمامة مسجد قبا، قال عمر: لا، إنّك كنت إمام مسجد ضرار، قال مجمع: مهلا لا تعجل عليّ، إنّي كنت في ذلك الزّمان شابّا و كان المصلّون فيه شيوخا، و كنت قارئا للقرآن و هم لا يعلمون منه شيئا، و ما كنت مطّلعا على أحوالهم، و لو كنت مطّلعا ما أقمت معهم ساعة، فقبل عمر عذره و أعطاه إمامة مسجد قبا (7).

ثمّ قيل: لمّا رجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تبوك همّ أن يذهب إلى مسجد ضرار، فنهاه اللّه عنه (8)بقوله: لا تَقُمْ يا محمّد للصّلاة فِيهِ أَبَداً و اللّه لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ و بني عَلَى اَلتَّقْوى و خلوص النيّة و الأغراض الخيريّة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ بني-عنهما عليهما السّلام: يعني مسجد قبا (9)- أَحَقُّ و أولى أَنْ تَقُومَ للصّلاة فِيهِ من أن تقوم للصّلاة في مسجد اسّس على العصيان و الضّرر على المسلمين.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا هاجر من مكّة و قدم قرية قبا-و هي قرية بقرب المدينة على نصف فرسخ-نزل في بني عمرو بن عوف؛ و هم بطن من الأوس، على كلثوم بن هرم (10)، و كان شيخ بني عمرو بن عوف، أسلم قبل وصول الرّسول صلّى اللّه عليه و آله إلى قبا أو بعده-على خلاف فيه-فلمّا نزل قال عمّار بن ياسر: لا بدّ لرسول اللّه من أن يجعل له مكان يستظلّ به إذا استيقط و يصلّي فيه، فجمع

ص: 208


1- . القولنج: مرض معويّ مؤلم يصعب معه خروج البراز و الريح، و سببه التهاب القولون، و البرص: بياض يقع في الجسد لعلّة، و اللّقوة: داء يعرض للوجه، يعوجّ منه الشدق إلى أحد جانبي العنق، فيخرج البلغم و البصاق من جانب واحد، و لا يحسن التقار الشفتين، و لا تنطبق إحدى العينين.
2- . التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام:481-488، تفسير الصافي 2:376.
3- . تفسير البيضاوي 1:421، تفسير روح البيان 3:506.
4- . في النسخة: مالك بن الدحثم، تصحيف، راجع: اسد الغابة 4:278.
5- . تفسير مجمع البيان 5:110.
6- . في النسخة: مجمع بن حارث، تصحيف، راجع: اسد الغابة 4:303.
7- . الكشاف 2:312.
8- . تفسير الرازي 16:195.
9- . تفسير العياشي 2:262/1905، تفسير الصافي 2:379.
10- . في النسخة: كلثوم بن الهند، و في تفسير روح البيان: كلثوم بن الهدم، تصحيف، راجع: اسد الغابة 4:251.

حجارة فأسّس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسجدا، و استتمّ بنيانه عمّار، فعمّار أوّل من بني مسجدا لعموم المسلمين، و كان مسجد قبا أوّل مسجد صلّى فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه جماعة ظاهرين، فلبث رسول اللّه بقبا بقيّة يوم وروده و هو يوم الاثنين و يوم الثّلاثاء و يوم الأربعاء و يوم الخميس-و قيل: بضع عشرة ليلة، و قيل: أربعة عشر يوما-فلمّا تحوّل منه إلى المدينة كان يأتيه يوم السّبت ما شيا أو راكبا و يصلّي فيه، ثمّ ينصرف (1).

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يأتيه في كلّ سنة و يصلّي فيه (2).

و قيل: إنّ المراد من المسجد مسجد الرّسول في المدينة (3).

و روي أنّ رجلين اختلفا فيه، فقال أحدهما: مسجد قبا، و قال آخر: مسجد الرّسول، فسألاه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «هو مسجدي هذا» (4).

ثمّ بيّن سبحانه وجه ترجيح مسجد المؤمنين بقوله: فِيهِ رِجالٌ مؤمنون يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأقذار الجسمانيّة؛ كالبول و الغائط، بالماء و الأحجار، و من الأقذار الرّوحانيّة؛ كالذّنوب و الأخلاق الرّذيلة، و أدناس الشكّ و الشّرك، بالتّوبة و الرّياضة، و الجدّ في القيام بوظائف العبوديّة وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ و يحيط بهم فضله و رحمته.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية، مشى رسول اللّه و معه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا، فإذا الأنصار جلوس، فقال: مؤمنون أنتم؟ فسكت القوم، ثمّ أعادها، فقال عمر: يا رسول اللّه، إنّهم لمؤمنون، و أنا معهم، فقال: أترضون بقضاء اللّه؟ قالوا: نعم، قال: أتصبرون على البلاء؟ قالوا: نعم، قال: أتشكرون في الرّخاء؟ قالوا: نعم، قال صلّى اللّه عليه و آله: مؤمنون و ربّ الكعبة. ثمّ قال: يا معشر الأنصار، إنّ اللّه أثنى عليكم، فما الذي تصنعون في الوضوء؟ قالوا: نتبع الماء الحجر، فقرأ النبيّ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا. . . الآية (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الاستنجاء بالماء» (6).

و عن الباقر و الصادق عليه السّلام: «يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا: بالماء عن الغائط و البول» (7).

و روي أنّ أوّل من استنجى بالماء إبراهيم عليه السّلام (8).

ص: 209


1- . تفسير روح البيان 3:504.
2- . تفسير الرازي 16:195.
3- . جوامع الجامع:186، تفسير روح البيان 3:507.
4- . تفسير الرازي 16:195.
5- . تفسير الرازي 16:196، تفسير البيضاوي 1:421، تفسير روح البيان 3:508.
6- . تفسير العياشي 2:263/1906، تفسير الصافي 2:379.
7- . مجمع البيان 5:111، تفسير الصافي 2:379.
8- . تفسير روح البيان 3:508.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 109

ثمّ أنكر سبحانه اعتقاد التّساوي بين مسجد قبا و مسجد ضرار، أو فضيلة الثاني على الأوّل تنبيها على فضيلة الأول على الثاني بقوله: أَ فَمَنْ و التقدير: أبعد ما علم حال المتّقين، فمن أَسَّسَ و أحكم قواعد دينه و مسجده و بُنْيانَهُ بوضعه عَلى تَقْوى و خوف مِنَ اَللّهِ في مخالفته وَ رِضْوانٍ عظيم منه بالاشتغال بطاعته خَيْرٌ و أفضل أَمْ مَنْ أَسَّسَ و وضع أساس دينه و مسجده و بُنْيانَهُ عَلى الباطل الذي هو مثل شَفا جُرُفٍ و شفير طين مجتمع في طرف السّيل هارٍ و مشرف على السّقوط، في عدم الثّبات فَانْهارَ و أهوى باطل المبطل، و نفاق المنافق بِهِ بعد موته بسرعة فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ و حاصل المراد، و اللّه أعلم: أنّ البناء الذي كان بغرض التّقوى و الخوف من اللّه، و بقصد تحصيل مرضاته لازم الإبقاء، و لبانيه الفضيلة، و الذي كان بغرض الكفر و النّفاق لازم الهدم، و لبانيه النار و العقاب وَ اَللّهُ لا يَهْدِي و لا يوصل إلى النّجاة و النّجاح و الخير و الصّلاح اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بمعصية اللّه و الكفر و النّفاق.

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (109)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 110

ثمّ بيّن اللّه سبحانه ضرر بناء مسجد ضرار على أنفس المنافقين بقوله: لا يَزالُ و يكون دائما بُنْيانُهُمُ و مسجدهم اَلَّذِي بَنَوْا ضرارا على أنفسهم، لأنّه زاد رِيبَةً و شكّا ثابتا فِي قُلُوبِهِمْ حالا بعد حال، لا خلاص لهم منه إِلاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعا، و تتفرّق أجزاؤهم (1)تفريقا بحيث لا يبقى لها قابليّة إدراك و إضمار، أو قابلية حياة، فما دامت قلوبهم سالمة لا تخلو من الرّيب.

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ اَلَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)قيل: إنّ المنافقين عظم فرحهم ببناء المسجد، فلمّا أمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بتخريبه ثقل ذلك عليهم، و ازداد بغضهم له و ارتيابهم في نبوته صلّى اللّه عليه و آله (2).

و قيل: إنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لمّا أمر بتخريب المسجد، ظنّوا أنّه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه، و عظم خوفهم منه، و صاروا مرتابين في أنّه هل يتركهم أو يقتلهم و يأمر بنهب أموالهم (3).

وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بنفاقهم و سوء ضمائرهم حَكِيمٌ في أمره بتخريب مسجدهم.

ص: 210


1- . في النسخة: أجزائه. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:197.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تخلّف المنافقين عن الغزو، و إصرارهم على القعود عن الجهاد، و تدبيرهم في تخريب الاسلام و ذمّهم على ذلك، بيّن فضيلة المؤمنين الخلّص (1)، و رغّبهم في الجهاد بقوله: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ الخلّص (2)ببيعتهم و معاهدتهم مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله على نصرته أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ كي يبذلوهما في تقوية الإسلام و ترويجه، و حفظ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و نصرته بِأَنَّ لَهُمُ بالاستحقاق في الآخرة اَلْجَنَّةَ و نعمها أبدا، فهم وفاء بهذه المعاملة و المبايعة يُقاتِلُونَ الكفّار و المشركين، و يبذلون أموالهم و أنفسهم فِي سَبِيلِ اَللّهِ و طلبا لمرضاته فَيَقْتُلُونَ أعداءه وَ يُقْتَلُونَ في نصرة رسوله و حماية دينه.

إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (111)قيل: لمّا بايعت الأنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة العقبة الثانية بمكّة و هم سبعون-أو أربعة و سبعون- نفسا قال عبد اللّه بن رواحة: اشترط لربّك و لنفسك ما شئت؟ فقال عليه السّلام: «أشترط لربّي أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا، و لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم و أموالكم» ، قالوا: فإذا فعلنا ذلك، فماذا لنا؟ قال: «الجنّة» ، قالوا: ربح البيع لا نقيل و لا نستقيل، فنزلت (1).

و في التّعبير عن الأمر بالجهاد باشترائه أنفسهم و أموالهم؛ مع كونه تعالى مالكهما، غاية التلطّف في الدّعوة إليه، و التّحريض عليه، و إشارة إلى أنّ المؤمن مادام كونه متعلّق القلب بحياته و ماله، امتنع وصوله إلى الدّرجات العالية من القرب و النّعم الاخرويّة.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بالجنّة بقوله: وَعْداً واجب الوفاء عَلَيْهِ تعالى و في عهدته حَقًّا و ثابتا بحيث لا يمكن تخلّفه عنه و ترك وفائه به.

ثمّ لمّا كان من لوازم البيع الذي يكون ثمنه مؤجلا أن يكتب في كتاب، أخبر سبحانه عن الكتاب الذي كتب هذا البيع فيه بقوله: فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ و التّقدير: أنّه يثبت فيهما وَ في اَلْقُرْآنِ.

و قيل: إنّ المراد أنّه تعالى ذكر في التّوراة و الإنجيل أنّه اشترى من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنفسهم و أموالهم،

ص: 211


1- . تفسير الرازي 16:199، تفسير روح البيان 3:512.

بأنّ لهم الجنّة، كما بيّن ذلك في القرآن (1).

و على التفسير الأوّل تكون الآية دليلا على ثبوت الأمر بالجهاد في الشّريعتين السّابقتين على الاسلام.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب وفائه بهذا العهد بقوله: وَ مَنْ يكون أَوْفى و أعمل بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ و الذّات المتّصف بالالوهيّة؛ مع كون الحكمة و العدل المقتضيين للوفاء بالعهد، و امتناع التخلّف عنه عينها، فإذا كان الأمر كذلك يمتنع أن يساويه أحد في الوفاء فضلا عن أن يكون أوفى منه، إذن فَاسْتَبْشِرُوا و افرحوا غاية الفرح أيّها المؤمنون بِبَيْعِكُمُ أنفسكم و أموالكم من اللّه بالجنّة، و قيل: أي بالثّمن (2)اَلَّذِي بايَعْتُمْ أنفسكم و أموالكم بِهِ و فيه غاية التّقرير للبيع، و إشعار بغاية الرّبح فيه، حيث إنّه مبادلة الفاني بالباقي، و الزائل بالدائم، مع كون البدلين له تعالى.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: وَ ذلِكَ البيع هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و النّجاح الأكمل بأعلى المقاصد.

روى الخفر الرّازي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ليس لأبدانكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها» (3).

و روى بعض العامّة عنه عليه السّلام أنّه كان يقول: «يابن آدم اعرف قدر نفسك، فإنّ اللّه عرّفك قدرك، لم يرض أن يكون لك ثمن إلاّ الجنّة» (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 112

ثمّ عرّف سبحانه المؤمنين الذين باعوا أنفسهم و أموالهم من اللّه بقوله: اَلتّائِبُونَ من الشّرك- كما عن ابن عبّاس، أو منه و من النّفاق؛ كما عن بعض، أو من كلّ معصية؛ كما عن آخرين (5)-و اَلْعابِدُونَ للّه المعظّمون له في السرّاء و الضرّاء-و عن ابن عبّاس: الذين يرون عبادة اللّه واجبة عليهم (6)-و اَلْحامِدُونَ له على كلّ حال، الشّاكرون لنعمائه الدّنيويّة و الاخرويّة، و اَلسّائِحُونَ و هم الصائمون-كما عن ابن عبّاس (7)، أو الطالبون للعلم، السائرون في الأرض لطلبه؛ كما عن عكرمة (6)، أو المجاهدون و المهاجرون؛ كما عن بعض (7)-و اَلرّاكِعُونَ للّه اَلسّاجِدُونَ له؛ و هم

اَلتّائِبُونَ اَلْعابِدُونَ اَلْحامِدُونَ اَلسّائِحُونَ اَلرّاكِعُونَ اَلسّاجِدُونَ اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (112)

ص: 212


1- . تفسير الرازي 16:201.
2- . تفسير مجمع البيان 5:114.
3- . تفسير الرازي 16:199.
4- . تفسير روح البيان 3:513.
5- . تفسير الرازي 16:202. (6 و 7) . تفسير الرازي 16:203.
6- . تفسير الرازي 16:204، تفسير روح البيان 3:519.
7- . تفسير الرازي 16:204.

الحافظون للصّلاة، المديمون عليها، و اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ من الإيمان باللّه و الرّسول و طاعتهما وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ من الشّرك و العصيان وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ من تكاليفه و أحكامه، المراعون لها، المجدّون في العمل بها.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره المؤمنين بالاستبشار في الآية السّابقة، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببشارتهم بأعلى المثوبات بقوله: وَ بَشِّرِ يا محمّد اَلْمُؤْمِنِينَ بثواب يجلّ عن إحاطة الأفهام به، و بلوغ الأوهام إليه، و التّعبير بالكلام عنه.

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية، يعني إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ إلى آخره، قام رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا نبي اللّه، أرأيتك الرّجل يأخذ للّه سيفه فيقاتل حتّى يقتل، إلاّ أنّه يقترف من هذه المحارم، أشهيد هو؟ فأنزل اللّه على رسوله اَلتّائِبُونَ اَلْعابِدُونَ الآية، فبشّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم و حليتهم بالشّهادة و الجنّة» .

و قال عليه السّلام: «اَلتّائِبُونَ من الذّنوب، اَلْعابِدُونَ الذين لا يعبدون إلاّ اللّه، و لا يشركون به شيئا، اَلْحامِدُونَ الذين يحمدون اللّه على كلّ حال في الشدّة و الرّخاء اَلسّائِحُونَ الصّائمون اَلرّاكِعُونَ اَلسّاجِدُونَ الذين يواظبون على الصّلوات الخمس، الحافظون لها، و المحافظون عليها بركوعها و سجودها، و الخشوع فيها، و في أوقاتها اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بعد ذلك، و العاملون به، وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ و المنتهون عنه. قال: فبشّر من قتل و هو قائم بهذه الشّروط بالشّهادة و الجنّة» (1).

عن العيّاشي قال: «هم الأئمّة» (2).

و عن القمّي قال: نزلت الآية في الأئمّة عليهم السّلام، لأنّه وصفهم بصفة لا تجوز في غيرهم، فالآمرون بالمعروف هم الذين يعرفون المعروف كلّه، صغيره و كبيره، و النّاهون عن المنكر هم الذين يعرفون المنكر كلّه، صغيره و كبيره، و الحافظون لحدود اللّه هم الذين يعرفون حدود اللّه، صغيرها و كبيرها، دقيقها و جليلها، و لا يجوز أن يكون بهذه الصّفة غير الأئمّة عليهم السّلام (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 113 الی 115

ص: 213


1- . الكافي 5:15/1، تفسير الصافي 2:381.
2- . تفسير العياشي 2:265/1911، تفسير الصافي 2:381.
3- . تفسير القمي 1:306، تفسير الصافي 2:381.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالتبرّي عن المشركين، و التّأكيد من أوّل السّورة إلى هنا في إظهار عداوتهم و القتال معهم، و بيان عدم فائدة الاستغفار لهم، نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عن الاستغفار لهم، و إن كانوا أقرب النّاس إليهم؛ بقوله: ما كانَ يصحّ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا و لا يستقيم لهم في حكمة اللّه و حكمه أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ المتجاهرين منهم بالشّرك، أو المنافقين وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى و منتسبين إليهم بالولادة أو المصاهرة مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و ظهر لَهُمْ بسبب إصرارهم على الشّرك و موتهم عليه أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ و أهل النّار.

روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه سمع رجلا يستغفر لأبويه المشركين، قال: «فقلت له: أتستغفر لأبويك و هما مشركان؟ فقال: أ ليس استغفر إبراهيم لأبويه و هما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت هذه الآية» (1)وَ ما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ناشئا عن سبب من الأسباب إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ.

قيل: إن إبراهيم كان يرجو إيمان آزر، و لذا وعده أن يستغفر له بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي (2)، و قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ (3).

فَلَمّا تَبَيَّنَ لإبراهيم و ظهر لَهُ بأن رآه مصرّا على الشّرك أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ و لا يؤمن به أبدا تَبَرَّأَ مِنْهُ و تنزّه عن الاستغفار له.

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ما يقول النّاس في قول اللّه: وَ ما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ؟ فقيل: يقولون: إنّ إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، قال: ليس هو هكذا، إنّ أبا إبراهيم وعده أن يسلم فاستغفر له فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (4).

و في رواية: «لمّا مات تبيّن له أنّه عدوّ للّه فلم يستغفر له» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه: إنّ إبراهيم عليه السّلام قال لأبيه: إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك، فلمّا لم يدع الأصنام

ص: 214


1- . تفسير الرازي 16:209.
2- . سورة مريم:19/47.
3- . تفسير روح البيان 3:522، و الآية من سورة الممتحنة:60/4.
4- . تفسير العياشي 2:266/1915، تفسير الصافي 2:382.
5- . تفسير العياشي 2:266/1917، تفسير الصافي 2:382.

تبرّأ منه (1).

أقول: لا منافاة بين التّفسيرين لجواز وقوع كلا الوعدين.

ثمّ بيّن سبحانه علّة استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ و كثير التفجّع على خلق اللّه، و شديد الرّأفة و الشّفقة على النّاس حَلِيمٌ و صبور على أذاهم، و لذا كان يحلم على أذى أبيه و يترحّم له، فيستغفر له.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الأوّاه الخاشع المتضرّع» (2). و في رواية اخرى قال: «الدعاء» (3).

و قيل: معناه أنّه كلّما ذكر لنفسه تقصيرا، أو ذكر عنده شيء من شدائد الآخرة كان يتأوّه إشفاقا منه، و استعظاما له (2). و عليه يكون قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ علّة للتبرّي من أبيه، و المعنى: أنّه مع كونه بهذه الصّفات، غلظ قلبه عليه، و تبرّأ منه بعد ما ظهر إصراره على الشّرك، فأنتم أولى بذلك.

ثمّ قيل: إنّ المؤمنين لمّا خافوا على أنفسهم من استغفارهم لآبائهم و أقربائهم ممّن مات على الكفر قبل نزول الآية، و على المسلمين الذين ماتوا و كانوا في حياتهم يستغفرون للمشركين (3)، أزال اللّه خوفهم بقوله: وَ ما كانَ اَللّهُ و ليس من شأنه و مقتضى حكمته و عدله لِيُضِلَّ و يصرف عن طريق الجنّة قَوْماً من الأقوام، و يأخذ بالعذاب طائفة من النّاس بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام و وفقهم لقبوله حَتّى يُبَيِّنَ و يوضّح لَهُمْ بتوسّط الرّسول الباطن، أو الرّسول الظّاهر ما يَتَّقُونَ و يحترزون عنه من المحرّمات-و عن الصادق عليه السّلام قال: «ما يرضيه و يسخطه» (4)-فلا عقوبة من اللّه إلاّ بعد إعلامهم بتكليفه، و إزالة العذر عنهم، فإنّ العقوبة بلا بيان-مع كون الجهل عن قصور الجاهل عذرا عقليّا-من الجهل، و من البيّن إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

في الاستدلال على

البراءة في مشكوك

الوجوب و الحرمة

فالآية دالّة على أنّ الأصل في مشكوك الوجوب و الحرمة البراءة. و الجواب عنه بأنّه- بعد دلالة الأدلّة المعتبرة على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحرمة، لا يكون العقاب عليه عقابا بلا بيان-فاسد، بأنّه مبنيّ على كون وجوب الاحتياط نفسيا، و أمّا مع كونه مقدّميّا علميّا ناشئا عن تنجّز الواقع المجهول، فالعقاب يكون على الواقع المجهول الذي تنفي الآية صحّته، و يحكم العقل أيضا بقبحه.

و ما قيل من أنّ الإضلال غير العقوبة فلا ربط للآية بالبراءة المتنازع فيها. ففيه: أنّ الملاك واحد إن

ص: 215


1- . تفسير القمي 1:306، تفسير الصافي 2:382. (2 و 3) . تفسير الرازي 16:211.
2- . تفسير روح البيان 3:522.
3- . تفسير الرازي 16:212.
4- . تفسير العياشي 2:267/1919، الكافي 1:124/3، تفسير الصافي 2:383.

لم نقل بالأولويّة، فلا بدّ من حمل ما دلّ على وجوب الاحتياط في المقام على الاستحباب، أو على الحرمة المعلومة بالإجمال.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 116

ثمّ لمّا كان ارتكاب القبيح من العالم بالقبح قد يكون لأجل الحاجة، نفاها عن نفسه بإثبات سعه ملكه، و كمال قدرته بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فلا حاجة له إلى شيء، و يُحْيِي بقدرته الموتى وَ يُمِيتُ الأحياء، فليس له عجز عن تحصيل مراده.

إِنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116)ثمّ استدلّ على عدم إمكان صدور العقاب منه بلا بيان بغاية لطفه بعباده بقوله: وَ ما لَكُمْ أيّها المؤمنون في عالم الموجود مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه مِنْ وَلِيٍّ و حافظ لصلاحكم وَ لا نَصِيرٍ دافع للمضارّ عنكم.

و قيل: إنّه قال قوم من المسلمين: لمّا أمرتنا بالانقطاع عن المشركين فلا يمكننا مخالطة آبائنا و أبنائنا؛ لأنّه ربّما كان كثير منهم كافرين، فسلّى سبحانه قلوبهم: بأنّكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم و نصرتهم، فالإله الذي هو مالك السماوات و الأرض، و المحيي و المميت، ناصركم و وليّكم، فلا يضرّكم الانقطاع عنهم (1).

أو المراد: أنّكم لا تخافوا من ضرر الكفّار بالتبرّي منهم، فإنّ مالك عالم الوجود؛ القادر على كلّ شيء، هو ناصركم و وليّكم، فلا يقدرون على إضراركم. و على أي تقدير، فالآية دالّة على كمال لطفه بعباده المؤمنين.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 117

ثمّ أنّه تعالى أظهر غاية لطفه بخصوص المهاجرين و الأنصار بقبول توبتهم، ضامّا للنبي المعصوم عن كلّ ذنب بهم، تعظيما لهم، و تطييبا لقلوبهم؛ بقوله، لَقَدْ تابَ اَللّهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ وَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ، قيل: إنّ نكتة ضمّ النبيّ بهم، أنّ قبول التّوبة فضل اللّه و رحمته المخصوصة به، و كلّ فضل

لَقَدْ تابَ اَللّهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ وَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ اَلْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)

ص: 216


1- . تفسير الرازي 16:213.

و رحمة و نعمة يريد إيصالها إلى العباد لا بدّ من أن يكون عبورها على ولاية النبوّة، ثمّ يفيض منها على المهاجرين و الأنصار و سائر الامّة (1).

أقول: و لعلّه لتلك النّكتة و الحكمة يستحبّ الابتداء بالصّلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله عند طلب الحاجة من اللّه تعالى، و عليه يحمل ما روي عن الصادق عليه السّلام، و الرضا عليه السّلام من أنّهما قرءا: (لقد تاب اللّه بالنبي صلّى اللّه عليه و آله على المهاجرين و الأنصار) (2)، و ما في ذيل رواية أبان بن تغلب، عن الصادق عليه السّلام من قوله: «إنّما تاب اللّه به على امّته» (3).

ثمّ وصف اللّه المهاجرين و الأنصار بما يوجب قبول توبتهم، و إنزال الرّحمة عليهم بقوله: اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ و خرجوا معه فِي ساعَةِ اَلْعُسْرَةِ و نصروه في زمان الشدّة-و هو غزوة تبوك-فإنّه قد أصابتهم فيها مشقّة عظيمة من شدّة الحرّ و قلّة المركب؛ حتّى روي أنّه كانت العشرة تعتقب على بعير واحد (4)، و من قلّة الزّاد؛ حتّى روي أنّه ربّما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتّى لا يبقى منها إلاّ النّواة، و كان معهم شيء من شعير مسوّس، فكان إذا وضع أحدهم اللّقمة في فيه أخذ أنفه من نتن تلك اللّقمة، و من قلّة الماء (5).

في ذكر بعض

المتخلّفين في غزوة

تبوك عن النبي صلّى اللّه عليه و آله

روي أنّ عمر قال: خرجنا في قيظ شديد، و أصابنا فيه عطش شديد، حتّى [أن] الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه و يشربه (6).

عن القمّي رحمه اللّه: هم أبو ذرّ، و أبو خيثمة، و عمر بن وهب، الذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (5).

قال: و تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من أهل نيات (6)و بصائر، لم يكن يلحقهم شكّ و لا ارتياب، و لكنّهم قالوا: نلحق برسول اللّه، منهم أبو خيثمة و كان قويا، و كان له زوجتان و عريشان (7)، و كانت زوجتاه قد رشّتا عريشيه [و برّدتا له الماء، و هيئتا له طعاما، فأشرف على عريشيه، فلمّا نظر إليهما] قال: و اللّه، ما هذا بإنصاف، فإنّ رسول اللّه مع أنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر قد خرج في الصخّ (8)و الرّيح، و قد حمل السّلاح يجاهد في سبيل اللّه، و أبو خيثمة قويّ قاعد في عريشيه مع

ص: 217


1- . تفسير روح البيان 3:525.
2- . مجمع البيان 5:120، الاحتجاج:76، تفسير الصافي 2:383.
3- . الاحتجاج:76، تفسير الصافي 2:384.
4- . تفسير الرازي 16:215. (5 و 6) . تفسير الرازي 16:215.
5- . تفسير القمي 1:297، تفسير الصافي 2:384.
6- . في المصدر: ثبات.
7- . العريش: كل ما يستظل به، و في المصدر: عريشتان، و العريشة: الهودج.
8- . الصخّ: و هو الصوت الشديد يقرع السمع، و هو صوت قرع الصخرة، و ضرب الحديد على الحديد.

امرأتين حسناوين، لا و اللّه ما هذا بإنصاف. ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظر النّاس إلى راكب على الطريق، فأخبروا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «كن أبا خيثمة» ، فكان أبا خيثمة، فأقبل و أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بما كان [منه]، فجزاه خيرا و دعا له.

و كان أبو ذرّ تخلّف عن رسول اللّه ثلاثة أيّام، و ذلك أن جمله كان أعجف (1)، و وقف عليه في بعض الطّريق، فتركه و حمل ثيابه على ظهره، فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ثلاثة أيّام، فلمّا ارتفع النّهار و نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كن أبا ذر» ، فقالوا: هو أبو ذر، فقال رسول اللّه: «أدركوه بالماء فإنّه عطشان» ، فأدركوه بالماء، فوافى [أبو ذرّ]رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه إداوة (2)فيها ماء، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا أبا ذرّ، معك ماء و عطشت؟» ، قال: نعم يا رسول اللّه، بأبي أنت و أمّي، انتهيت إلى صخرة و عليها ماء السّماء فذقته، فإذا هو عذب بارد، فقلت: لا أشربه حتّى يشربه حبيبي رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا أبا ذرّ، رحمك اللّه، تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تبعث وحدك، و تدخل الجنّة وحدك، يسعد بك قوم من العراق يتولّون غسلك و تجهيزك [و الصلاة عليك] و دفنك» (3).

أقول: هؤلاء و إن تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أنّ الظاهر أنّهم لم يكونوا من أهل الذّنب الذي أخبر اللّه عنه بقوله: مِنْ بَعْدِ ما كادَ و قرب يَزِيغُ و يميل قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثّبات مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، بأن همّوا بالانصراف من الغزو بغير استئذان، لشدائد أصابتهم في ذلك السّفر، فعصمهم اللّه فصبروا و ندموا على ما خطر ببالهم.

قيل: إنّه تعالى بشّر بقبول توبتهم قبل ذكر ذنبهم تطييبا لقلوبهم (4).

و قيل: لم يهمّوا بالرّجوع، و إنّما خطر في قلوبهم، فخافوا أن يكون معصية (5).

ثمّ أكّد اللّه البشارة بقوله: ثُمَّ تابَ اللّه عَلَيْهِمْ لئلاّ يبقى في قلوبهم شكّ في قبول توبتهم. ثمّ بالغ سبحانه في التأكيد بقوله: إِنَّهُ تعالى بِهِمْ رَؤُفٌ لا يرضى بضررهم، و لا اضطراب قلوبهم رَحِيمٌ بهم بإيصال جميع الخيرات إليهم.

روي أنّ الأصحاب شكوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عسرة الماء [في غزوة تبوك]فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، إنّ اللّه تعالى عوّدك في الدّعاء خيرا، فادع لنا، قال: «أتحبّ ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتّى أرسل اللّه سحابة، فمطرت حتّى ارتوى النّاس، و احتملوا ما يحتاجون إليه، و تلك السّحابة لم

ص: 218


1- . الأعجف: الهزيل.
2- . الإدواة: الإناء الصغير لحمل الماء.
3- . تفسير القمي 1:294، تفسير الصافي 2:384. (4 و 5) . تفسير الرازي 16:216.

تتجاوز العسكر (1).

و روي أنّهم نزلوا يوما في غزوة تبوك بفلاة من الأرض على غير ماء، و كادت عتاق الخيل و الرّكاب تقع عطشا فدعا صلّى اللّه عليه و آله و قال: «أين صاحب الميضأة» (2)؟ قيل: هو ذا يا رسول اللّه، قال: «جئني بميضأتك، فجاء بها و فيها شيء من الماء، فوضع أصابعه الشّريفة عليها فنبع الماء من أصابعه العشرة، فأقبل الناس و استقوا، و فاض الماء حتّى رووا و رووا خيلهم و ركابهم، و كان في العسكر من الخيل اثني عشر ألفا، و من الإبل خمسة عشر ألف بعير، و النّاس ثلاثون ألف و قيل: سبعون (3).

و روي أنّهم لمّا أصابهم في غزوة تبوك مجاعة، قالوا: يا رسول اللّه، لو أذنت لنا نحرنا نواضحنا (4)و ركابنا و ادّهنّا، فقال عمر: يا رسول اللّه، إن فعلت فنى الظهر، و لكن ادعهم بفضل أزوادهم، و ادعوا اللّه لهم فيها بالبركة، لعلّ اللّه أن يجعلها في ذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «نعم» فدعا بنطع (5)فبسطه، ثمّ دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يأتي بكفّ من ذرة، و يجيء الآخر بكفّ من تمر، و يجيء الآخر بميرة، حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير، فدعا عليه السّلام بالبركة.

ثمّ قال: «خذوا في أوعيتكم» ، فأخذوا حتّى ما تركوا في العسكر وعاء إلاّ ملأوه، و أكلوا حتّى شبعوا، و فضلت فضلة فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه، لا يلقى اللّه بها عبد غير شاكّ إلاّ وقاه النار» (6).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 118

ثمّ عطف سبحانه على قبول توبة عموم المهاجرين و الأنصار قبول توبة الثّلاثة الذين كانوا مرجون لأمر اللّه بقوله: وَ عَلَى اَلثَّلاثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا عن رسول اللّه و أقاموا بالمدينة؛ و هم كعب بن مالك الشاعر، و مرارة (7)بن الرّبيع العنبري، و هلال بن اميّة.

وَ عَلَى اَلثَّلاثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اَللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (118)قيل: كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم، فقال: يا أرضاه، ما خلّفني عن رسول اللّه إلاّ أمرك، اذهبي فأنت في سبيل اللّه، فلاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى رسول اللّه ففعل. و كان للثّاني أهل، فقال:

ص: 219


1- . تفسير روح البيان 3:529.
2- . الميضأة: إناء يتوضأ به.
3- . تفسير روح البيان 3:526.
4- . النّواضح: جمع ناضح، و هو البعير يستقى عليه.
5- . النّطع: البساط من جلد.
6- . تفسير روح البيان 3:526.
7- . في النسخة: زرارة، و ما أثبتناه موافق للمصدرين الآتيين، و راجع: اسد الغابة 4:343.

يا أهلاه، ما خلّفني عن رسول اللّه إلاّ أمرك و لاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إليه و فعل. و الثّالث ما كان له أهل و لا مال، فقال: ما لي سبب إلاّ الضنّ بالحياة، و اللّه لاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى رسول اللّه، فلحقوا بالرّسول، فأنزل اللّه وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللّهِ (1).

و آخر قبول توبتهم حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ و مع سعتها؛ لأنّهم بسبب إعراض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين عنهم، صاروا بحيث كأنّهم لم يجدوا فيها موضع قرار. و ضيق الأرض كناية عن شدّة الحيرة و الوحشة.

و قيل: إنّهم لم يلحقوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فنهى صلّى اللّه عليه و آله عن مجالستهم و مكالمتهم، و أمر بمباينتهم حتّى أمر نساءهم بذلك، فضاقت عليهم الأرض (2)وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ و امتلأت قلوبهم بالوحشة و الغمّ بحيث لم يبق لهم فيها ما يسع شيئا من الرّاحة و السّرور، و لخوفهم من اللّه و من أن يموتوا و لا يصلّي عليهم النبيّ و المؤمنون-و قيل: جاءت امرأة هلال إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالت: يا رسول اللّه، لقد بكى هلال حتّى خفت على بصره (3).

قيل: كانوا على تلك الحالة خمسون يوما (4)وَ ظَنُّوا و اطمأنّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اَللّهِ و من سخطه إِلاّ إِلَيْهِ و لا مخلّص من نقمته إلاّ الاستغفار و التضرّع لديه.

ثمّ أكّد سبحانه قبول توبتهم بقوله: ثُمَّ تابَ اللّه عَلَيْهِمُ بفضله لِيَتُوبُوا و يرجعوا إلى حالتهم السّابقة إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ على المذنبين اَلرَّحِيمُ بالتّائبين و لو عادوا في اليوم مائة مرّة.

عن القمّي قال: تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من المنافقين، و قوم من المؤمنين المستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق؛ منهم كعب بن مالك الشاعر، و مرارة بن الربيع، و هلال بن اميّة الواقفي، فلمّا تاب اللّه عليهم.

قال كعب: ما كنت قطّ أقوى منّي في الوقت الذي خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى تبوك، و ما اجتمعت لي راحلتان إلاّ ذلك اليوم (2)، فكنت أقول: أخرج غدا، أخرج بعد غد، فإنّي قويّ و توانيت و بقيت بعد خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أياما أدخل السوق و لا أقضي حاجة، فلقيت هلال بن أميّة و مرارة بن الرّبيع، و قد كانا تخلّفا أيضا، فتوافقنا أن نبكّر إلى السّوق و لم نقض [حاجة]، فمازلنا نقول: نخرج غدا و بعد غد، حتّى بلغنا إقبال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فندمنا.

فلمّا وافى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استقبلناه نهنّئه بالسّلامة، فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السّلام فأعرض

ص: 220


1- . تفسير الرازي 16:217، تفسير روح البيان 3:528. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 16:218.
2- . في النسخة: إلى ذلك اليوم.

عنّا، و سلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا السّلام، فبلغ ذلك أهلينا فقطعوا كلامنا، و كنّا نحضر المسجد فلم يسلّم علينا أحد و لا يكلّمنا، فجاءت نساؤنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا، أفنعتزلهم؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تعتزلنهم، و لكن لا يقربوكنّ» .

فلمّا رأى كعب بن مالك و صاحباه ما قد حلّ بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة و لا يكلّمنا رسول اللّه و لا إخواننا و لا أهلونا، فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل، فلا نزال فيه حتّى يتوب اللّه علينا أو نموت، فخرجوا إلى ذناب (1)جبل بالمدينة، فكانوا يصومون، و كان أهلوهم يأتونهم بالطّعام فيضعونه ناحية ثم يولّون عنهم لا يكلّمونهم، فبقوا على هذه الحالة أياما كثيرة، يبكون باللّيل و النّهار، و يدعون اللّه أن يغفر لهم، فلمّا طال عليهم الأمر قال كعب: يا قوم، قد سخط اللّه علينا، و رسوله قد سخط علينا، و إخواننا سخطوا علينا، و أهلونا سخطوا علينا فلا يكلّمنا أحد، فلم لا يسخط بعضنا على بعض، فتفرّقوا في اللّيل، و حلفوا أن لا يكلّم أحد [منهم]صاحبه حتّى يموت أو يتوب اللّه عليه، فبقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام، كلّ [واحد]منهم في ناحية من الجبل، لا يرى أحد منهم صاحبه و لا يكلّمه.

فلمّا كان في اللّيلة الثالثة، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بيت أمّ سلمة، نزلت توبتهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال تعالى: حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ حيث لا يكلّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا إخوانهم و لا أهلوهم، فضاقت المدينة عليهم حتّى خرجوا منها، و ضاقت عليهم أنفسهم حيث حلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضا، فتفرّقوا و تاب اللّه عليهم لمّا عرف صدق نيّاتهم (2).

روى بعض العامّة عن كعب أنّه قال: أنزل اللّه توبتنا على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله حين بقي الثّلث الأخير من اللّيل، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند امّ سلمة، و كانت امّ سلمة محسنة في شأني معينة في أمري، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «يا امّ سلمة، تيب على كعب» ، قالت: أ فلا أرسل إليه فابشّره؟ قال: «إذن يحطم (3)النّاس فيمنعوكم النوم سائر اللّيلة» ، حتّى إذا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلاة الفجر أعلم بتوبة اللّه علينا. قال: فانطلقت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتلقّاني النّاس فوجا فوجا يهنّئوني بالتّوبة، حتّى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالس و حوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبد اللّه يهرول حتّى صافحني و هنّأني، و اللّه ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، و لا أنساها لطلحة، و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أخى بينهما حين قدم المدينة (4).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 119

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ (119)

ص: 221


1- . الذّناب من كلّ شيء: عقبه و مؤخّره.
2- . تفسير القمي 1:296-298، تفسير الصافي 2:386.
3- . أي يزدحمون.
4- . تفسير روح البيان 3:529.

ثمّ أنّه تعالى بعد قبول توبة المتخلّفين، أمر المؤمنين بطاعة الرّسول و ملازمته في الجهاد و غيره بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ في مخالفته و مخالفة رسوله وَ كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ و هم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و من هو بمنزلته في العصمة عن الخطأ و بيان خلاف الواقع.

نقل كلام فخر

الرازي في حجيّة

الإجماع

قال الفخر الرّازي في تفسيره: إنّه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصّادقين، و متى وجب الكون مع الصّادقين فلا بدّ من وجود الصّادقين في كلّ وقت، و ذلك يمنع من إطباق الكلّ على الباطل، و متى امتنع إطباق الكلّ على الباطل، وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقّين. فهذا يدلّ على أن إجماع الامّة حجّة (1).

ثمّ اعترض على نفسه بأنّه لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلوّ زمان التّكليف منه؛ كما تقوله الشيعة (2). ثمّ ردّ ذلك الاعتراض بقوله: نحن نعترف بأنّه لا بدّ من معصوم في كلّ زمان، إلاّ أنّا نقول: ذلك المعصوم هو مجموع الامّة، و أنتم تقولون: ذلك المعصوم هو واحد منهم. فنقول: هذا الثاني باطل؛ لأنّه تعالى أوجب على كلّ أحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين، و إنّما يمكنه ذلك لو كان عالما بأن ذلك الصادق من هو، لا جاهلا بأنّه من هو، فلو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليفا بما لا يطاق، و أنّه لا يجوز، لكنّا لا نعلم إنسانا معيّنا موصوفا بوصف العصمة و العلم، [و العلم]بأنّا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضّرورة. فثبت أنّ قوله: كُونُوا مَعَ اَلصّادِقِينَ ليس أمرا بالكون مع شخص معيّن، و لمّا بطل هذا، بقي أنّ المراد منه الكون مع مجموع الامّة، و ذلك يدلّ على أن قول مجموع الامّة حقّ و صواب، و لا معنى لقولنا «الإجماع حجّة» إلاّ ذلك (1)، انتهى كلامه بطوله المملّ.

فى إبطال استدلال

الفخر على حجيّة

الإجماع

و فيه: أنّ لفظ اَلصّادِقِينَ كالنصّ في أنّ المراد الأشخاص، لا المجموع المركّب من الأشخاص، مع كون كلّ واحد منهم كاذبا، أو من يجوز عليه الكذب. و عدم علم هذا الشّخص المتعصّب بالشّخص الموصوف بالعصمة لا يكون قرينة على إرادة المجموع من الامّة، مع قيام الأدلّة القطعيّة و الرّوايات المتواترة على تعيينه باسمه و نسبه، في كلّ زمان و عصر عند من برئ عن التعصّب و اللّجاج، و طابت طينته، و طهر مولده، مع أنّ الوجدان القطعي يشهد بعدم تمكّن أحد من المؤمنين حتّى المجتهدين المتبحّرين منهم، من العلم باتّفاق مجموع الامّة، بحيث لم يشذّ منهم واحد على أمر، حتّى في الزّمان المتّصل بوفاة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الذي كان المسلمون بالنّسبة إلى الأعصار المتأخّرة في غاية القلّة، و لو ادّعى أحد بالعلم بذلك حسّا، نعلم

ص: 222


1- . تفسير الرازي 16:221.

بحسب العادة بكذبه، مع أنّه لا شبهة في أنّ المراد من اَلصّادِقِينَ في زمان نزول الآية شخص الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و إرادة الشّخص المعيّن منه في زمان، و الهيئة المركّبة من الامّة في زمان آخر، تستلزم إرادة المعنيين المستقلّين الحقيقي و المجازي من استعمال واحد؛ و هو محال، و ليس بينهما جامع عرفي بكون اللّفظ مستعملا فيه، و يكون كلّ واحد منهما مصداقه.

و في (الإكمال) : عن أمير المؤمنين أنّه قال في مجمع من المهاجرين و الأنصار، أيّام خلافة عثمان: «أسألكم باللّه، أتعلمون أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال سلمان: يا رسول اللّه، عامّة هذه الآية أم خاصّة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أمّا المامورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك، و أمّا الصادقون فخاصّة لأخي و أوصيائي من بعده إلى يوم القيامة» ، قالوا: اللّهمّ نعم (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «إيّانا عنى» (2). و عنه عليه السّلام قال: «مع آل محمّد» (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «الصّادقون هم الأئمة» ، الخبر (4).

و قال العلاّمة: روى الجمهور: أنّها نزلت في علي عليه السّلام (5). فلا ترتبط الآية بحجيّة الإجماع، بل هي دالّة على عصمة عليّ عليه السّلام و أولاده الطيّبين و إمامتهم، رغما للنّواصب.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 120 الی 121

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بكون المؤمنين مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله في جميع غزواته، أكّده بالنهي عن التخلّف عنه بقوله: ما كانَ صحيحا في حكم اللّه لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ من المؤمنين وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ و الذين في أطرافهم من مؤمني أهل البوادي كجهينة و مزينة و أسلم و أشجع و غفار أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ في غزوة من غزواته وَ أن لا يَرْغَبُوا و لا يعرضوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ

ما كانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (120) وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

ص: 223


1- . كمال الدين:278/25، تفسير الصافي 2:388.
2- . الكافي 1:162/1، تفسير الصافي 2:387.
3- . مجمع البيان 5:122، تفسير الصافي 2:388.
4- . الكافي 1:162/2، تفسير الصافي 2:387.
5- . كشف الحق:190.

نَفْسِهِ و لا يضايقوا من بذلوا (1)مهجهم دونه، بل عليهم أن يصبروا معه على البأساء و الضرّاء، و أن يفدوا بأنفسهم لنفسه برغبة و نشاط ذلِكَ الثّبات معه، أو الإلزام منّا على متابعته بِأَنَّهُمْ إذا ثبتوا على الجهاد معه، و التزموا بخدمته لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ و لا ينالهم عطش وَ لا نَصَبٌ و تعب في أبدانهم، و لو كانا يسيرين وَ لا مَخْمَصَةٌ و مجاعة، و لو كانت قليلة فِي سَبِيلِ اَللّهِ و ترويج دينه، و إعلاء كلمته وَ لا يَطَؤُنَ بأقدامهم و حوافر خيولهم و أخفاف رواحلهم مَوْطِئاً و مكانا يَغِيظُ اَلْكُفّارَ و يسوءهم وطء المسلمين فيه من أراضيهم وَ لا يَنالُونَ مِنْ قبل عَدُوٍّ من أعداء اللّه نَيْلاً من آفة و محنة، من قتل و جراحة و أسر و خوف إِلاّ كُتِبَ في صحيفة أعمالهم، و ثبّت لَهُمْ عند اللّه بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ و حسنة مقبولة توجب الثّواب الجزيل، و الأجر العظيم.

ثمّ أكّد سبحانه وعده و قرّره بقوله: إِنَّ اَللّهَ بكرمه و فضله و عدله لا يُضِيعُ و لا يبطل أَجْرَ إحسان اَلْمُحْسِنِينَ و ثواب أعمال الصّالحين وَ لا يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه و جهاد أعدائه نَفَقَةً سواء كانت صَغِيرَةً كنعل فرس، بل تمرة وَ لا كَبِيرَةً و كثيرة كألف دينار أو أزيد وَ لا يَقْطَعُونَ و لا يتجاوزون في سيرهم وادِياً من الأودية إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ في دفتر أعمالهم ذلك الذي فعلوه من الإنفاق و السير لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ بذلك العمل جزاء أَحْسَنَ و أفضل من جزاء سائر ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الخيرات و العبادات، أو أحسن من ذلك العمل الذي عمل، و من المال الذي بذل.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 122

ثمّ أنّه روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلّف عنه إلاّ منافق أو صاحب عذر، فلمّا بالغ اللّه سبحانه في تعييب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: و اللّه، لا نتخلّف عن شيء من الغزوات مع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و لا عن سريّة، فلمّا قدم الرّسول المدينة و أرسل السّرايا إلى الكفّار، نفر المسلمون جميعا إلى الغزو و تركوه وحده بالمدينة (2)، فنهى المسلمين عن أن ينفروا جميعا إلى الغزوات و يتركوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المدينة وحده، بقوله: وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ و ما يسوغ لهم لِيَنْفِرُوا إلى الجهاد كَافَّةً و عامّة، و يتركوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وحده فَلَوْ لا نَفَرَ و خرج إلى الجهاد مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ و جماعة كثيرة مِنْهُمْ طائِفَةٌ و جماعة قليلة، و أقامت البقيّة عند

وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

ص: 224


1- . في النسخة: بذل.
2- . تفسير الرازي 16:225، مجمع البيان 5:125.

الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ و يتعلّموا أحكام الإسلام وَ لِيُنْذِرُوا و يخوّفوا بالإرشاد إلى ما تعلّموه من الأحكام، و بيان عقوبة اللّه على مخالفتها قَوْمَهُمْ النّافرين إِذا رَجَعُوا من الجهاد إِلَيْهِمْ و حضروا عندهم لَعَلَّهُمْ باطّلاعهم على الأحكام بتوسّط المقيمين المتفقّهين من الرّسول يَحْذَرُونَ و يجتنبون عصيانها بعد التعلّم.

عن الباقر عليه السّلام: «كان هذا حين كثر النّاس، فأمرهم [اللّه]أن تنفر طائفة منهم، و تقيم طائفة للتفقّه، و أن يكون الغزو نوبا» (1).

و قيل: إنّ المراد: تفقّه الطّائفة النّافرة بمشاهدة الآيات الإلهيّة الدالّة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دين الإسلام، من غلبة عدّة قليلة من المسلمين؛ مع قلّة زادهم و سلاحهم، على أضعافهم من المشركين مع كمال قوّتهم و شوكتهم، و غيرها من الآيات الاخر لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ النّافرين بما شاهدوه من الآيات لَعَلَّهُمْ باطّلاعهم على دلائل صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دين الاسلام يَحْذَرُونَ الكفر و الضّلال (2).

و قيل: إنّ المراد أنّ المسافرة إلى الرّسول لطلب العلم و تعلّم الأحكام ليس كالهجرة و الجهاد واجبا على جميع المسلمين، بل هو واجب كفاية عليهم، فليخرج من القبائل و سكنة البلاد طائفة قليلة إلى حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، ليتفقّهوا في الدّين، و يتعلّموا الأحكام، و يعودوا إلى قبائلهم و أوطانهم، فينذروا و يرشدوا كلّ طائفة قومهم، لكي يرجعوا عن الكفر و يهتدوا إلى الأحكام المنزلة. و حاصل مفاد الآية وجوب النّفر لطلب العلم و التفقّه على من به الكفاية.

عن الصادق عليه السّلام، أنّه قيل له: إنّ قوما يروون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «اختلاف امّتي رحمة» ، فقال: «صدقوا» ، فقيل: إن كان اختلافهم رحمة، فاجتماعهم عذاب؟

قال: «ليس حيث تذهب و ذهبوا، إنّما أراد قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ. . . الآية، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يختلفوا إليه، فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافا في دين اللّه، إنّما الدّين واحد» (3).

و عن (الكافي) : قيل للصادق عليه السّلام: إذا حدث على الإمام حدث، كيف يصنع النّاس؟ فقال: «أين قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ. . . الآية» قال: «هم [في عذر]ما داموا في الطّلب، و هؤلاء

ص: 225


1- . مجمع البيان 5:126، تفسير الصافي 2:389.
2- . تفسير الرازي 16:226.
3- . علل الشرائع:85/4، تفسير الصافي 2:389، و زاد في المصدر: إنما الدين واحد.

الّذين ينتظرون هم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم» (1).

و عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «تفقّهوا في الدّين، فإنّ من لم يتفقّه منكم في الدّين فهو أعرابيّ، إنّ اللّه يقول في كتابه: لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ» (2).

ثمّ اعلم أنّه استدلّ كثير من العامّة و الخاصّة بهذه الآية على حجيّة خبر الواحد في الأحكام بوجوه، و الحقّ عدم دلالتها عليها بوجه؛ لأنّ الظاهر منها بيان الطّريق العادي العقلائي لتحصيل العلم بالأحكام، لا الحكم الشّرعي التعبّدي الطّريقي، و يشهد على ذلك استدلال الإمام عليه السّلام بالآية على وجوب الفحص عن الإمام بعد الإمام بتوسّط المبعوثين مع الإجماع باعتبار اليقين بإمامة الإمام.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 123

ثمّ أنّه تعالى بعد إرشاد عباده إلى طريق العلم بالأحكام، أرشدهم إلى أصوب طرق الجهاد مع الكفّار؛ و هو الابتداء بالأقرب فالأقرب، بقوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ و يجاورونكم مِنَ اَلْكُفّارِ و لا تدعوا الجهاد مع الأقرب و تجاهدوا الأبعد لحكم واضحة، عن الصادق عليه السّلام قال: «الدّيلم» (3). و عن القمّي رحمه اللّه: يجب على كلّ قوم أن يقاتلوا من يليهم ممّن يقرب [بلادهم]من الكفّار و لا يجوزوا ذك الموضع (4)وَ لْيَجِدُوا و يعاينوا فِيكُمْ حين الجهاد و قبله غِلْظَةً و خشونة في القول، و شجاعة في القلب، و قساوة في القتل، فإنّها أرعب لقلوبهم، و أزجر لهم عن الكفر و القبائح، و لازموا التّقوى و اعتمدوا في نصركم عليهم على اللّه وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بالنّصر و التأييد و الحفظ و التّسديد مَعَ اَلْمُتَّقِينَ.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ (123)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 124 الی 125

ص: 226


1- . الكافي 1:309/1، تفسير الصافي 2:389.
2- . تفسير العياشي 2:271/1931، الكافي 1:23/6، تفسير الصافي 2:389.
3- . تفسير العياشي 2:271/1932، التهذيب 6:174/345، تفسير الصافي 2:390.
4- . تفسير القمي 1:307، تفسير الصافي 2:309.

ثمّ أخبر اللّه عن بعض أقاويل المنافقين المؤثّرة في تثبيط المؤمنين عن الجهاد بقوله: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ من اللّه إلى الرّسول سُورَةٌ من سور القرآن و سمعها المنافقون فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لإخوانهم المنافقين استهزاء و سخرية، أو لبعض المؤمنين صرفا لهم عن الإيمان، و تثبيطا لهم عن الجهاد أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السّورة المنزلة إِيماناً بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

ثمّ أجاب اللّه سبحانه عنهم بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد، عن صميم القلب، و برئوا عن النّفاق فَزادَتْهُمْ السّورة المنزلة إِيماناً باللّه و برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يقينا بها لظهور كونها كلام اللّه، الخارج إتيان مثلها من طوق البشر وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و يفرحون بنزولها لما يعتقدون بأنّ فيها المنافع الدنيويّة و الاخرويّة لأنفسهم و لإخوانهم المؤمنين وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من الكفر و الشكّ و النّفاق و الكبر و الحسد، و غيرها من الرّذائل فَزادَتْهُمْ تلك السّورة بسماعها رِجْساً و كفرا منضمّا إِلَى رِجْسِهِمْ و كفرهم السّابق لازدياد حسدهم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله على ما آتاه اللّه من فضله، و إصرارا على عنادهم للحقّ، حتّى أحاطت ظلمة الكفر على قلوبهم فطبع عليها وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ.

في الحديث: أنّ اللّه يرفع بهذا الكتاب أقواما و يضع به آخرين (1)، كما قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً (2).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 126

ثمّ وبّخهم اللّه تعالى و أنكر عليهم الإصرار على الكفر و النّفاق مع وفور دلائل الحقّ المقتضية للإيمان و الخلوص، بقوله: أَ وَ لا يَرَوْنَ و التّقدير: ألا ينظرون و لا يرون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ و يبتلون امتحانا فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً من أعوام أعمارهم بالأمراض، و الشّدائد الموجبة لتفكّرهم في العواقب، و تذكّرهم للموت، و تنبيههم لفناء الدّنيا مرّة واحدة أَوْ مَرَّتَيْنِ -قيل: هو كناية عن الكثرة (3)- ثُمَّ مع ذلك لا يَتُوبُونَ و لا يرجعون عن كفرهم و نفاقهم وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ و يتّعظون بتلك الفتن، و لا ينتبهون بسوء عاقبة الكفر و معاندة اللّه و الرّسول.

أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 127

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)

ص: 227


1- . تفسير روح البيان 3:540.
2- . البقرة:2/26.
3- . تفسير روح البيان 3:541.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 127

ثمّ أخبر سبحانه عن غاية خبث سريرتهم، و حيلهم في إضلال النّاس، و أعمالهم الرّادعة لغيرهم عن الإيمان بالقرآن بقوله وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ من اللّه سُورَةٌ من القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيها فضائح المنافقين ضحكوا، ثمّ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ نظرا مفهما للطّعن فيها و الاستهزاء بها، و تغامزوا فيها إنكارا لها، و يقولون لإخوانهم حين إرادتهم الخروج من المسجد، أو من محضر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خوفا من افتضاحهم بالضحك من تلك السّورة، بعد غلبته عليهم: يا إخواننا، إن قمتم من المجلس و انصرفتم منه هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المؤمنين أو لا، فإن يراكم أحد منهم لا تخرجوا و انتظروا غفلتهم عنكم، و عدم التفاتهم إليكم، فعند ذلك قوموا و اخرجوا، فكانوا يترصّدون ذلك، فإن لم يرهم أحد من المؤمنين قاموا ثُمَّ اِنْصَرَفُوا و خرجوا و تفرّقوا مخافة الفضيحة بضحكهم، و ذلك الانصراف لأنّه صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ عن قبول الهداية و الإيمان، و طبع عليها.

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)و عن ابن عبّاس: عن كلّ رشد و خير و هدى (1).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الحقّ إلى الباطل (2). و يحتمل كون الجملة دعائية.

ثمّ علّل سبحانه صرف قلوبهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ فوائد الإيمان و التّسليم، و مضارّ الكفر و النّفاق و سوء عاقبتهما.

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 128 الی 129

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فضائح المنافقين و عنادهم للرّسول، أظهر منّته على النّاس، و عظمة نعمته عليهم ببعث رسول من جنسهم فيهم، و حبّ ذلك الرّسول لهم و شفقته عليهم، تحبيبا لقلوب المنافقين إيّاه، و جلبا لتوجّههم إليه، بقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ أيّها النّاس من جانب اللّه رَسُولٌ عظيم الشأن رفيع المنزلة، و من أفاضل مننه تعالى عليكم أنّه جعل ذلك الرّسول مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم، أي من البشر لا من الملائكة. و يحتمل أن يكون الخطاب إلى العرب، و يكون المراد من قوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من العرب.

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (129)عن ابن عبّاس قال: ليس في العرب قبيلة إلاّ ولدت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسبب الجدّات؛ مضرها و ربيعها

ص: 228


1- . تفسير الرازي 16:234.
2- . تفسير القمي 1:308، تفسير الصافي 2:391.

و يمانيها، فالمضريّون و الرّبيعيّون هم العدنانية، و اليمانيّون هم القحطانيّة (1).

و المنّة عليهم بذلك، لأنّ كلّ ما يحصل له من العزّ و الشّرف فهو عائد إليهم، مع مدخليّته التامّة في الشّفقة عليهم، و لذا بيّن سبحانه شفقته عليهم بقوله: عَزِيزٌ و شاقّ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ و مشقّتكم، و ثقيل عليه تضرّركم و تحرّجكم، فحاله بالنّسبة إليكم حال الأب الشّفيق بالنّسبة إلى ولده حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ و شديد الطّلب لإيمانكم، و تربية قلوبكم، و تزكية نفوسكم، و تهذيب أخلاقكم بِالْمُؤْمِنِينَ به رَؤُفٌ رَحِيمٌ كما أنّه على الكافرين شديد غليظ.

ثمّ ختم سبحانه السّورة المباركة بتسلية قلب حبيبه على عناد القوم، بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا مع ذلك عن الإيمان بك، فلا تبال بهم فَقُلْ حَسْبِيَ و كفاني اَللّهُ الذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ في جميع اموري، و لذا عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو غيره، و لا أخاف إلاّ منه؛ لأنّه القاهر على جميع الموجودات وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ.

عن الصادق عليه السّلام: «أي الملك العظيم» (2).

روي «أنّه من قرأ سورة الأنفال و براءة في كلّ شهر لم يدخله النّفاق، و كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام (3)، و يأكل من موائد الجنّة مع شيعته حتّى يفرغ النّاس من الحساب» (4).

ص: 229


1- . تفسير الرازي 16:236.
2- . تفسير الصافي 2:392.
3- . ثواب الأعمال:106.
4- . تفسير العياشي 2:213/1768، تفسير الصافي 2:392.

ص: 230

في تفسير سورة يونس

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 10 (يونس): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم سبحانه سورة براءة-بذكر استهزاء المنافقين بالرّسول و كتابه، و تسليته، و أمره بالتوكّل عليه و عدم المبالاة بهم، و بيان استحقاقه العبوديّة، و كونه مربّي الموجودات-اردفت بسورة يونس ببيان عظمة القرآن الدالّ على صدق الرّسول.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْحَكِيمِ (1)ثمّ توبيخ الكفّار على التعجّب من رسالة رسول من جنسهم، و تسلية الرّسول بذكر توكّل نوح و عدم مبالاته بمعارضة قومه، و نصرته عليهم، و نصرة موسى على فرعون و قومه.

ثمّ شرح ربوبيّته للعرش ببيان كونه خالق السّماوات و الأرض، و مدبّر الموجودات، ابتدأ فيها بذكر الأسماء المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

و قد مرّ تفسيره.

ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعات بقوله: الر و قد مرّ تأويلها في بعض الطرائف، و بيان حكمة ذكرها التي منها جلب التوجّه إلى ما يذكر بعدها من المطالب المهمّة؛ التي منها عظمة شأن القرآن، و لذا ذكرها بعدها ردّا على المستهزئين بقوله: تِلْكَ الآيات التي في هذه السّورة، أو المنزلة من أوّل القرآن إلى هنا، أو في القرآن كلّه آياتُ اَلْكِتابِ و القرآن اَلْحَكِيمِ و المستحكم المصون من التّغيير و التّحريف و المحو و الاندراس في كرور الدّهر، أو المخزون عند اللّه، أو المشتمل على الحكم غير المتناهية، أو الحاكم بين النّاس بالحقّ و مميّزه عن الباطل، أو الدالّ على الحكمة و الصّواب، أو المحكوم فيه بالعدل و الإحسان و سائر المحسّنات العقليّة، و بمثوبة المطيعين و عقوبة العاصين.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 2

ص: 231

ثمّ لمّا أثبت سبحانه نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتعظيم كتابه و توصيفه بما لا يمكن أن يكون الموصوف به إلاّ من اللّه، أنكر على منكريه التعجّب من رسالة البشر، أو رسالة مثل محمّد اليتيم الفقير، بقوله: أَ كانَ لِلنّاسِ و هم كفّار مكّة-على ما قيل (1)- عَجَباً من أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ كائن مِنْهُمْ جنسا و نسبا، و قلنا له بالوحي: أَنْ أَنْذِرِ و خوّف اَلنّاسَ بالعذاب على الشّرك و العصيان، كي يرتدعوا عنهما وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و رسالتك أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ و عملا صالحا، أو ثوابا مذخورا عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم.

أَ كانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنّاسَ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ اَلْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)و عن ابن عبّاس: لهم شفاعة نبيّهم، و هو أمامهم إلى الجنّة، و هم بالأثر (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ معنى قَدَمَ صِدْقٍ شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (3).

و عنه عليه السّلام أيضا: «هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (3).

ثمّ كأنّه قال: لا مجال للعجب من رسالة البشر، أو رسالة محمّد، إنّما العجب في أنّه لمّا أتاهم بالمعجزات و أنذرهم قالَ اَلْكافِرُونَ عنادا و لجاجا: إِنَّ هذا الرّجل المدّعي للنبوّة، الفاعل لخوارق العادات لَساحِرٌ مُبِينٌ و مشعبذ ظاهر.

أقول: فيه دلالة على أنّهم رأوا منه معجزة لم يمكنهم معارضته.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخ الكفّار على إنكار رسالة الرّسول، بيّن أنّه تعالى خالق العالم و مدبّره، تنبيها على كمال حكمته المقتضي لبعث الرّسول و استحقاقه العبادة بقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ و مدبّر اموركم هو اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ السّبع وَ اَلْأَرْضَ و ما فيهما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ و أوقات ثُمَّ اِسْتَوى و استولى بالعلم و التّدبير عَلَى اَلْعَرْشِ و سرير سلطنته، أو على جميع الموجودات، و هو يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ و ينظّم شؤون الخلق على وفق الحكمة، و يهيّئ ما فيه صلاح كلّ شيء، و من تدبيره في نظام العالم إرسال الرّسول، و إنزال الكتب، و جعل القوانين و الأحكام و الثّواب و العقاب ما مِنْ شَفِيعٍ في تدبيره و ثوابه و عقابه إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ و رضاه؛ لأنّه تعالى أعلم بمواضع (4)

إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (5)

ص: 232


1- . تفسير روح البيان 4:5.
2- . تفسير روح البيان 4:6.
3- . تفسير العياشي 2:274/1940، الكافي 8:364/554، تفسير الصافي 2:393.
4- . في النسخة: مواضع.
5- . مجمع البيان 5:134، تفسير الصافي 2:393.

الحكمة و الصّواب من جميع خلقه؛ ملكا كان أو نبيّا أو رسولا، فكيف بالأصنام التي هي جمادات لا شعور لها بشيء، و لا إدراك؟ و أعجب من كلّ عجب أنّ المشركين كانوا يتعجّبون من أن يكون البشر رسولا، و لا يتعجّبون من أن يكون الحجر المنحوت أو الفلزّ المصنوع بأيديهم إلها أو شفيعا عند اللّه. ثمّ لمّا أثبت سبحانه كمال قدرته و حكمته و تدبيره و عظمته، خصّ الربوبيّة و الالوهيّة، و استحقاق العبادة بذاته المقدّسة بقوله: ذلِكُمُ الموصوف بالصّفات الكماليّة و الجماليّة هو اَللّهُ المستحقّ للعبادة، و هو رَبَّكُمُ و مليككم و مدبّر اموركم، لا غيره كوكبا كان أو صنما، أو غيرهما، فإذا علمتم ذلك فَاعْبُدُوهُ وحده، و اخضعوا له بقلوبكم و جوارحكم، و لا تشركوا به شيئا في الربوبيّة و العبادة أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أنّ الإله و الربّ لا بدّ أن يكون له تلك الصّفات، و أنّ الأصنام بمعزل عن الالوهيّة و استحقاق العبادة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 4

ثمّ لمّا أثبت سبحانه توحيد المبدأ، رتّب عليه المعاد بقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ و معادكم بعد خروجكم من الدّنيا جَمِيعاً بحيث لا يشذّ منكم أحد، و هذا الوعد يكون وَعْدَ اَللّهِ الذي يستحيل منه الخلف في وعده، بل يحقّ حَقًّا و يثبت ثبوتا لا مجال للشكّ فيه.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)ثمّ استدلّ على إمكانه بقوله: إِنَّهُ تعالى يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ و يوجد الإنسان في هذا العالم، بلا سبق مثال، من نطفة أمشاج، للإيمان و العمل الصّالح ثُمَّ يُعِيدُهُ البتّة لقدرته على الإعادة و الخلق ثانيا، لكونه أهون عليه.

ثمّ استدلّ على وجوبه بقوله: لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّته و برسله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ في الدّنيا بِالْقِسْطِ المقتضي لعدم تضييع أجر المحسنين، و عدم التّسوية بينهم و بين المسيئين.

قيل: إنّ المراد: ليجزيهم بقسطهم و عدلهم (1)في حقوق أنفسهم؛ حيث لم يظلموا عليها بالمعاصي و تعريضها للهلاك و العذاب، و في حقوق غيرهم من النّاس.

و إنّما لم يعيّن الجزاء تنبيها على أنّه بما يليق بلطفه و كرمه، و كونه ممّا لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب أحد.

ص: 233


1- . جوامع الجامع:190.

ثمّ قيل: لمّا لم يكن المقصود الأصلي في الخلق هو العذاب (1)، غيّر سبحانه النّظم في بيان جزاء الكفّار بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا في الدّنيا باللّه و وحدانيّته و رسله لَهُمْ بالاستحقاق شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ و ماء حار متناه [في]حرارته وَ عَذابٌ بالنّار أَلِيمٌ غايته بِما كانُوا في الدّنيا يَكْفُرُونَ.

و قيل: إنّ نكتة تغيير النّظم، التّنبيه على المبالغة في استحقاقهم (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 5

ثمّ لمّا كان الأهمّ إثبات المبدأ و كونه (3)ملازما للقول بالمعاد و سائر العقائد الحقّة، عاد إلى الاستدلال عليه بقوله: هُوَ الإله القادر اَلَّذِي جَعَلَ بقدرته اَلشَّمْسَ و خلقها لتكون ضِياءً للعالم وَ خلق اَلْقَمَرَ ليكون في اللّيل نُوراً للنّاس وَ قَدَّرَهُ قيل: إنّ التقدير: و قدّر مسير القمر مَنازِلَ أو قدّر القمر ذا منازل (4)-و قيل: إنّ ضمير قَدَّرَهُ راجع إلى الكوكبين، فاللّفظ مفرد و المعنى تثنية، و منازل الشّمس البروج الاثنا عشر، و منازل القمر ثمان و عشرون، فإذا كان في آخر منازله دقّ و استقوس (5)-و ذلك التّقدير لِتَعْلَمُوا أيّها النّاس بسيرهما في منازلهما عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ للأوقات من الأيام و الشّهور ما خَلَقَ اَللّهُ ذلِكَ المذكور من الكوكبين و منازلهما، بسبب من الأسباب إِلاّ بِالْحَقِّ و الحكمة و صلاح نظام العالم، كذلك التّفصيل البديع لتلك الآية يُفَصِّلُ و نذكر متواليا واحدا بعد واحد، و نشرح و نبيّن اَلْآياتِ و الدّلائل المتقنة على قدرتنا و حكمتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و يعقلون، أو يتفكّرون في الموجودات و حكمها، ليطّلعوا على شؤون صانعها، فإنّهم المنتفعون بها.

هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ ما خَلَقَ اَللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 6

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بخلق السّماوات و الأرض و الشّمس و القمر، و فائدتهما بفائدة سير الكوكبين، استدلّ بفائدة اخرى لسير الشّمس و بسائر الموجودات بقوله: إِنَّ فِي اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ

إِنَّ فِي اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

ص: 234


1- . تفسير البيضاوي 1:428.
2- . تفسير البيضاوي 1:428، تفسير الصافي 2:394.
3- . في النسخة: و مكونه.
4- . تفسير أبي السعود 4:120، تفسير الرازي 17:35.
5- . تفسير أبي السعود 4:120.

وَ اَلنَّهارِ بالنّور و الظّلمة و تغيّرهما بالطّول و القصر، أو تعاقبهما و ذهاب أحدهما و مجيء الآخر وَ في ما خَلَقَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ من الكواكب السيّارة و الثّابتة وَ في اَلْأَرْضِ من الجبال و المعادن و البحار و الحيوانات و النّباتات، و سائر ما فيها من الممكنات لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة على كونها تحت قدرة قادر حكيم متفرّد بالصّنع و التّدبير، و إنّما الانتفاع بها يكون لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ سوء العاقبة، و لذا يتدبّرون فيها؛ فيزدادون معرفة و يقينا.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد و المعاد، هدّد منكريهما بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ ينكرون المعاد، و لا يَرْجُونَ و لا يظنّون لِقاءَنا و البعث لجزائنا بعد الموت، و لا يخافون الحشر (1)، كما عن ابن عبّاس (2)، أو لا يطمعون في الثّواب، كما عن غيره (3)وَ رَضُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا و اختاروها و انهمكوا في شهواتها وَ اِطْمَأَنُّوا بِها و سكنت قلوبهم إلى لذّاتها و زخارفها، بحيث لا توجّه لهم إلى غيرها وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا و دلائل توحيدنا غافِلُونَ و عن النّظر إليها ذاهلون، لاستغراقهم في التفكّر فيما يضادّها، و اشتغال قلوبهم بما يلهي عنها أُولئِكَ المتّصفون بتلك الرّذائل مَأْواهُمُ و مسكنهم في الآخرة اَلنّارُ الموقدة التي تطّلع على الأفئدة بِما كانُوا في الدّنيا يَكْسِبُونَ من الكفر، و قساوة القلب، و البعد عن اللّه.

إِنَّ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اِطْمَأَنُّوا بِها وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ بشّر سبحانه الموحّدين بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ تفكّروا في آيات اللّه، و تدبّروا فيها بعقولهم السّليمة، و لذا آمَنُوا باللّه و وحدانيّته و صفاته الجمالية و الجلالية وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ و قاموا بوظائف العبوديّة سرّا و علانية يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ في الآخرة بعد بعثهم من قبورهم بِإِيمانِهِمْ و بسبب نوره إلى الجنّة التي وعد المتّقون.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهارُ فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (10)روي أنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له

ص: 235


1- . في تفسير الرازي: البعث. (2 و 3) . تفسير الرازي 17:38.

نورا (1).

و قيل: يعني: يرشدهم ربّهم في الدّنيا بسبب إيمانهم إلى جميع الخيرات (2).

و في الآخرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ يعني تحت قصورهم و سررهم اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة فِي جَنّاتِ اَلنَّعِيمِ و بساتين كثيرة النّعم دَعْواهُمْ في تلك الجنّات، و دعاؤهم أو عبادتهم فِيها أو قولهم، أو طريقتهم في تمجيد اللّه قولهم: سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن التّسبيح، فقال: «اسم من أسماء اللّه تعالى، و دعوى أهل الجنّة» (3).

قيل: إنّهم إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا: سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى (4).

و قيل: إنّ المعنى أنّه ليس تمنّيهم في الجنّة إلاّ في تسبيح اللّه و تنزيهه و تقديسه (5)؛ لأنّ لذّتهم و سرورهم و كمال حالهم به.

و قيل: إنّ أهل الجنّة إذا دخلوها و وجدوا نعمها العظيمة، عرفوا صدق وعده تعالى. فعند هذا قالوا: سُبْحانَكَ اَللّهُمَّ أي نسبّحك و ننزّهك عن الخلف في الوعد و الكذب (4)في القول.

وَ تَحِيَّتُهُمْ و تكرمتهم من الملائكة في الجنّة، أو تحيّة بعضهم لبعض فِيها عند الملاقاة سَلامٌ عليكم، إذ فيه بشارة بالأمن من كلّ مكروه وَ آخِرُ دَعْواهُمْ و خاتمة دعائهم، أو أقوالهم، أو عبادتهم أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

قيل: إنّهم إذا أكلوا و شبعوا قالوا ذلك (7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ أهل الجنّة يلهمون الحمد و التّسبيح كما تلهمون أنفاسكم» (8).

و قيل: إنّهم يفتتحون بتعظيم اللّه و تنزيهه، و يختتمون بشكره و الثّناء عليه (9). و قيل: إنّ التّسبيح من نعم اللّه عليهم، و لذا تأخّر الحمد عنه، و ختم به الذّكر (10).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 11

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار و وعدهم بالعذاب الاخروي، نبّه على أنّ مصلحة الإمهال منعت من نزول العذاب عليهم في الدّنيا، مع استحقاقهم له بقوله: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّهُ لِلنّاسِ اَلشَّرَّ و العذاب حسب استحقاقهم و استعجالهم فيه اِسْتِعْجالَهُمْ و نحو تسريعهم بِالْخَيْرِ من العافية و الرّاحة

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّهُ لِلنّاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ص: 236


1- . تفسير الرازي 17:41، تفسير روح البيان 4:19.
2- . تفسير أبي السعود 4:123، تفسير روح البيان 4:19.
3- . تفسير العياشي 2:275/1944، تفسير الصافي 2:395. (4 و 5) . تفسير الرازي 17:44.
4- . تفسير الرازي 17:45. (7 و 8 و 9 و 10) . تفسير الرازي 17:46.

و الحطام الدنيويّة لَقُضِيَ و ادّي إِلَيْهِمْ في السّاعة أَجَلُهُمْ الذي عيّن لعذابهم، و اميتوا و اهلكوا دفعة و بلا مهلة، و لكن لا يعجّل و لا يقضى فَنَذَرُ و نترك الكفرة اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ و لا يتوقعون لِقاءَنا و الحشر إلينا لجزاء أعمالهم فِي طُغْيانِهِمْ و عتوّهم من الكفر و إنكار الحشر يَعْمَهُونَ و يتردّدون، إلزاما للحجّة، أو استدراجا، أو لطفا بهم لأجل أن يؤمنوا، أو بمن في أصلابهم كي يخرجوا إلى الدّنيا و يوفّقوا للإيمان.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان استحقاق الكفّار للعذاب، بيّن أنّهم-مع غاية ضعفهم، و قلّة طاقتهم في تحمّل مكروه من المكاره الجزئية الدّنيوية، و تضرّعهم إلى اللّه، و دفعه تعالى ذلك المكروه و الضّرر عنهم-أعرضوا عنه، و تجرّأوا عليه، و عبدوا الأصنام، و كفروا بنعمه بقوله: وَ إِذا مَسَّ و أصاب اَلْإِنْسانَ الشقيّ اَلضُّرُّ و المكروه من فقر أو مرض، أو غيرهما من المضارّ، جزع و دَعانا لكشفه من غاية عجزه و ضعفه، و تضرّع إلينا لدفعه، في جميع أحواله [سواءأ]كان ملقى لِجَنْبِهِ على الأرض، أو مضطجعا في الفراش أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً لا يفتر عن الضّراعة في حال من حالاته.

وَ إِذا مَسَّ اَلْإِنْسانَ اَلضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)فَلَمّا كَشَفْنا و دفعنا عَنْهُ لإخلاصه في دعائه ضُرَّهُ و أزلنا عنه ما كرهه، نسينا، و نسي ابتلاءه و تضرّعه، و تفضّلنا عليه، و مَرَّ و مضى على المسلك الذي كان عليه قبل تضرّره؛ من الشّرك و الطّغيان كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ و لم نمنّ عليه بشيء من النّعم حتّى نستحقّ عليه الشّكر كَذلِكَ التّزيين الحاصل في نظير هذا الكافر لكفران النّعمة و الطّغيان على المنعم زُيِّنَ من قبل النّفس و الشّيطان لِلْمُسْرِفِينَ و المتجاوزين عن حدود العقل، و المتعدّين على أنفسهم باختيار الشّرك، و الانهماك في الشّهوات، و الغفلة عن شكر المنعم ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإعراض عن اللّه، و معارضة الرّسل، و ارتكاب القبائح.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 13 الی 14

ص: 237

استحقاقهم نزول العذاب عليهم فيها، و التّنبيه على علّة استحقاقهم؛ و هي الجرأة على اللّه، و كفرانهم نعمه، بعد تنبيههم على غاية ضعفهم، و عدم طاقتهم على تحمّل أقلّ قليل من المضارّ الدنيويّة، فكيف بعذاب الاستئصال في الدّنيا، و عذاب النّار في الآخرة؟ -وعظهم سبحانه ببيان ما نزل على الامم السّابقة لكفرهم و عدم إيمانهم بالرّسل، اعتبارا لهم بقوله: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا بعذاب الاستئصال؛ كالغرق و الخسف و الصّيحة و الصّاعقة و غيرها اَلْقُرُونَ و الامم الذين كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ أيّها المشركون، و في الأعصار السّابقة على عصركم أيّها الظّالمون لَمّا ظَلَمُوا على أنفسهم بتعريضها للهلاك، بسبب الإصرار على الشّرك، و تكذيب الآيات وَ الحال أنّه قد جاءَتْهُمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ مستدلّين على دعواهم بِالْبَيِّناتِ و الحجج الواضحات من المعجزات الباهرات، و البراهين السّاطعات وَ ما كانُوا مع ذلك لِيُؤْمِنُوا باللّه و رسله، لشدّة قساوتهم، و رسوخ حبّ الدّنيا في قلوبهم، و فساد أخلاقهم، فصاروا بحيث لا يرجى منهم الهداية كَذلِكَ الجزاء الفضيع نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ في كلّ عصر و زمان.

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)ثُمَّ جَعَلْناكُمْ أيّها المشركون في هذا العصر خَلائِفَ و أبدالا لهم في السّكونة فِي اَلْأَرْضِ و التعيّش فيها مِنْ بَعْدِهِمْ و بعد إهلاكهم لِنَنْظُرَ نظر الاختبار، و نعلم بالشّهود كَيْفَ تَعْمَلُونَ في أيّام حياتكم، أتعملون خيرا أو شرّا؟ فنجازيكم حسب أعمالكم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 15

ثمّ لمّا بيّن سبحانه تكذيب الامم الماضية المهلكة لرسلهم، ذكر تكذيب مشركي مكّة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا المنزلة من القرآن، مع كونها بَيِّناتٍ و واضحات الدّلالات على صدق النبيّ، و كونها كلام اللّه قالَ المشركون اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا و لا يؤمنون باليوم الآخر حتّى يخافوا من التّكذيب و الاستهزاء بالقرآن: اِئْتِ يا محمّد بِقُرْآنٍ آخر غَيْرِ هذا الذي أتيت به ترتيبا و نظما و مطلبا، فإنّ فيما أتيت به ما نستبعده من أمر البعث، و ما نكرهه من ذمّ آلهتنا و تحقيرهم أَوْ بَدِّلْهُ و غيّره من حيث المطلب و إن أبقيته على ما هو عليه من النّظم و التّرتيب.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)و قيل: إنّ الفرق بين إتيان الغير و التّبديل أنّ المراد من الأوّل: إتيان كتاب آخر مغاير لما أتى به في المطلب، مع إبقاء الأوّل على حاله، و من الثاني: تغيير ما أتى به. و على أيّ تقدير، كان المقصود إظهار

ص: 238

أنّه كلام تقوّله من قبل نفسه، و أنّه كاذب فيما يدّعيه من أنّه من اللّه (1)أو السّخرية و الاستهزاء به.

عن ابن عبّاس: أنّ خمسة من الكفّار كانوا يستهزئون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن: الوليد بن المغيرة المخزومي، و العاص بن وائل السّهمي، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث، و الحارث بن حنظلة، فقتل اللّه كلّ واحد منهم بطريق آخر، كما قال اللّه: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ (2)، فذكر اللّه أنّهم إذا تتلى عليهم آيات القرآن، قال الّذين لا يرجون لقاءنا: إئت بقرآن غير هذا أو بدّله (3).

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بجوابهم بقوله: قُلْ يا محمّد للمستهزئين: ما يَكُونُ لِي و لا يمكنني أَنْ أُبَدِّلَهُ من قبلي و مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي لأنّه ليس بكلامي و كلام غيري من البشر، بل إنّما هو كلام ربّي، و إِنْ أَتَّبِعُ فيما أتلو عليكم إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ من قبل ربّي، بلا تصرّف و تغيير منّي فيه إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتّغيير في كلامه، أو التّبديل فيه عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فإنّ العاصي مستحقّ له؛ و لو كان على فرض المحال أحبّ الخلق إليه.

و إنّما اقتصرّ في الجواب على بيان عدم قدرته على التّبديل، لفهم عدم قدرته على التّغيير بالأولويّة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 16

ثمّ أمره اللّه سبحانه بالاستدلال على عدم كون القرآن من تلقاء نفسه بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: لَوْ شاءَ اَللّهُ أن لا أتلو عليكم القرآن، ما أوحاه إليّ، و ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ لعجزي عن إتيان هذا الكتاب المحتوي على العلوم الكثيرة، و تفاصيل المبدأ و المعاد، و المعارف و الحكم و الأحكام، و تواريخ الأنبياء و اممهم، و غيرها ممّا لا يحيط به البشر، مع إعجاز البيان بحيث لا يقدر على إتيان سورة منه جميع الفصحاء؛ و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فلا بدّ من كونه بوحي اللّه و تعليمه وَ لو شاء لا أَدْراكُمْ و أعلمكم، أو أنذركم بِهِ -كما عن ابن عبّاس (4)-مع أنّكم تعلمون أنّي لا أعرف الخطّ، و ما طالعت الكتب، و ما جالست عالما قطّ فَقَدْ لَبِثْتُ و مكثت فِيكُمْ و بين ظهرانيكم عُمُراً طويلا، و مدّة مديدة مِنْ قَبْلِهِ ما كنت أتلوه و لا أعلمه أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تدركون أنّ من لم يقرأ كتابا، و لم يجالس عالما، و لم يمارس بحثا، لا يمكنه أن يأتي بمثل هذا الكتاب العظيم الشّأن، الفائق على الكتب السّماوية، فلا بدّ أن يكون بتعليم اللّه و وحيه.

قُلْ لَوْ شاءَ اَللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16)

ص: 239


1- . تفسير روح البيان 4:23، تفسير الرازي 17:55-56، مجمع البيان 5:147.
2- . الحجر:15/95.
3- . تفسير الرازي 17:55.
4- . تفسير الرازي 17:58.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 17

ثمّ أكّد تنزّهه عن الاختلاق بإظهار علمه بغاية قبح الافتراء على اللّه، و سوء عاقبته بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ على نفسه بتعريضها للهلاك، و على غيره من النّاس بإضلالهم مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ بإسناد ما ليس له إليه كَذِباً.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلْمُجْرِمُونَ (17)ثمّ ساوى بين المفترين على اللّه و المكذّبين لآياته، في كونهم أظلم خلق اللّه، تهديدا لهم بقوله: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة منه، و استهزأ بها؛ كالمشركين المستهزئين بالقرآن.

ثمّ بالغ في تهديدهم بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا ينجو اَلْمُجْرِمُونَ من العذاب، و لا يفوزون بمطلوب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 18

ثمّ لمّا كان التماسهم تغيير القرآن لتضمّنه شتم الأصنام و تحقيرها، وبّخهم سبحانه على عبادتها بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ و يشركون به في العبادة و الخضوع ما لا يَضُرُّهُمْ شيئا إن لم يعبدوه وَ لا يَنْفَعُهُمْ قليلا إن عبدوه، لأنّه جماد لا شعور له و لا قدرة، و اللاّئق للعبادة هو الحيّ المدرك القادر على كلّ شيء، و العجب أنّهم مع ذلك كانوا يشيرون إلى أصنامهم وَ يَقُولُونَ عن جهالة و سفاهة: هؤُلاءِ الأصنام شُفَعاؤُنا في مهمّاتنا و حوائجنا عِنْدَ اَللّهِ.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اَللّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (18)قيل: إنّ وجه اعتقاد المشركين شفاعة الأصنام، أنّهم توهّموا أنّهم ليسوا أهلا لعبادة اللّه، و إنّما الأهل و اللاّئق لها الأرواح المدبّرة لهذا العالم، أو الكواكب المؤثّرة في المواليد؛ كالشّمس و القمر، و سائر السيّارات.

في ذكر مبدأ

عبادة الأصنام

ثمّ لمّا كانت الأرواح غير مشاهدة، و الكواكب غاربة، وضعوا لكلّ روح أو لكلّ كوكب صنما، فاشتغلوا بعبادته باعتقاد أنّ ذلك الرّوح أو الكوكب يشفع لهم عند اللّه (1).

و فيه: أنّ ظاهر الآيات أنّهم كانوا يعتقدون أنّ نفس الأصنام يشفعون لهم، و يمكن أن [يكون]وجه اعتقاد مبدعي هذا المذهب في أوّل الأمر ذلك، ثمّ بعد تمادي الزّمان غلب الجهل على أتباعهم،

ص: 240


1- . تفسير الرازي 17:59.

و اعتقدوا ذلك في نفس الأصنام باعتقاد أنّ قدماءهم أيضا كانوا معتقدين لذلك.

قيل: إنّ أوّل ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح، و ذلك أنّ آدم كان له خمسة أولاد صلحاء؛ و هم: ودّ و سواع و يغوث و يعوق و نسر، فمات ودّ و حزن النّاس عليه حزنا شديدا، فاجتمعوا حول قبره و لا يكادون يفارقونه، و ذلك بأرض بابل، فلمّا رأى إبليس ذلك جاء إليهم في صورة إنسان، و قال لهم: [هل]لكم أن اصوّر لكم صورة إذا نظرتم إليها ذكرتموه؟ قالوا: نعم، فصوّر لهم صورته، فصار كلّما مات منهم واحد صوّر صورته، و سمّوا تلك الصّور بأسمائهم، ثمّ لمّا تقادم الزّمن و تناست الآباء و الأبناء، و أبناء الأبناء، قال لمن حدث بعدهم: إنّ الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصّور؛ فعبدوها، فأرسل اللّه إليهم نوحا عليه السّلام فنهاهم عن عبادتها، فلم يجيبوه إلى ذلك، و كان بين آدم و نوح عليهما السّلام عشرة قرون كلّهم على شريعة من الحقّ، ثمّ أن تلك الصّور دفنها الطّوفان في ساحل جدّه، فأخرجها اللّعين.

و أوّل من نصب الأوثان في العرب عمرو بن لحيّ بن خزاعة، و ذلك أنّه خرج من مكّة إلى الشام في بعض اموره، فرأى بأرض البلقاء العماليق (1)و هم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أ فلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب، فأعطوه صنما-يقال له هبل-من العقيق، على صورة إنسان، فقدم به مكّة فنصبه في بطن الكعبة على يسراها، و أمر الناس بعبادته و تعظيمه، فكان الرّجل إذا قدم من السّفر بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت، و حلق رأسه عنده (2).

فردّهم اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد، تقريعا لهم، و تهكّما بهم: أَ تُنَبِّئُونَ اَللّهَ و تخبرونه، و هو علاّم الغيوب بِما لا يَعْلَمُ في عالم الوجود، لا فِي اَلسَّماواتِ و عالم الملكوت وَ لا فِي اَلْأَرْضِ و عالم الملك. و معلوم أنّ ما لا يعلمه اللّه لا وجود له.

القمّي رحمه اللّه قال: كانت قريش يعبدون الأصنام، و يقولون: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى، فإنّا لا نقدر على عبادة اللّه، فردّ اللّه عليهم فقال: قُلْ لهم يا محمّد أَ تُنَبِّئُونَ اَللّهَ بِما لا يَعْلَمُ أي ليس يعلم (3)، فوضع حرفا مكان حرف، أي ليس له شريك يعبد (4).

ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشريك بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ به، و تبرّأ و جلّ عن هذا النّقص.

ص: 241


1- . زاد في تفسير روح البيان: ولد عملاق بن لاود بن سام بن نوح.
2- . تفسير روح البيان 4:25.
3- . في النسخة: أي يعلم أنّه ليس، و ما أثبتناه من تفسير الصافي.
4- . تفسير القمي 1:310، تفسير الصافي 2:397.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 19

ثمّ أنّه تعالى بعد تبرئة نفسه عن اتّخاذ الشّريك، نبّه على أنّ حدوث مذهب الشّرك إنّما كان بالأهواء الزّائغة و الآراء الفاسدة بقوله: وَ ما كانَ اَلنّاسُ من زمان آدم إلى زمان نوح عليهما السّلام-على ما قيل (1)- إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً و جماعة متّفقة على ملّة التّوحيد و المذهب الحقّ-كما مرّ-و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: كانوا على دين الإسلام في عهد آدم عليه السّلام و عهد ولده (2)، و قيل: إنّ المراد من النّاس: العرب (3)، فإنّهم كانوا على مذهب التّوحيد من زمان إبراهيم عليه السّلام- فَاخْتَلَفُوا -على التّفسير الأوّل- في عهد نوح، و عن ابن عبّاس: عند قتل قابيل هابيل (4)، و على أنّ المراد من النّاس: العرب، عند تغيير عمرو بن لحي دين إسماعيل، فمنهم من بقي على التّوحيد و دين الحقّ، و منهم من أشرك و كفر.

وَ ما كانَ اَلنّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)قيل: إنّ الغرض من بيان بدء حدوث الشّرك ترك تعصّب العرب لنصرته، بل الاستدلال به على بطلانه، لكون آدم و الأطايب من أولاده على دين التّوحيد دليل على بطلان مذهب الشّرك (5).

و قيل: إنّ المراد أنّ النّاس كانوا على فطرة التّوحيد فاختلفوا بواسطة الآباء (6).

و قيل: كانوا على الكفر فاختلفوا بواسطة الأنبياء. و عليه يكون الغرض تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قطع رجائه بإيمان الكلّ (7).

ثمّ نبّه سبحانه على استحقاق المخالفين لأهل الإيمان التّسريع في تعذيبهم، و التّعجيل في إهلاكهم، و إنّما اقتضت الرّحمة و صلاح نظام العالم إمهالهم إلى أجلهم، بقوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من قوله: سبقت رحمتي غضبي (8)، و من قوله: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ (9)-على قول-و من إخباره تعالى بأنّ التّكليف باق على العباد و إن كانوا به كافرين-على قول آخر (10)- لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التّوحيد و الشّرك، و قضائه بإنزال العذاب على المشركين و الرّحمة على المؤمنين، و إنّما الرّحمة الواسعة، و مصلحة نظام العالم على الوجه الأتمّ، و كرامة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الأكرم اقتضت إمهال المشركين و تأخير تعذيبهم إلى ما بعد الموت و يوم القيامة.

و الحاصل: أنّ الحكمة اقتضت أن تكون هذه الدّار الفانية دار بلاء و اختبار، و الدّار الآخرة دار ثواب

ص: 242


1- . تفسير الرازي 17/62، تفسير أبي السعود 4/132.
2- . تفسير الرازي 17:61.
3- . تفسير أبي السعود 4:132.
4- . مجمع البيان 5:149، منسوب إلى القيل.
5- . تفسير الرازي 17:62.
6- . تفسير روح البيان 4:27.
7- . تفسير الرازي 17:62.
8- . الأحاديث القدسية:230، تفسير الرازي 17:63.
9- . الأنفال:8/33.
10- . تفسير الرازي 17:63.

و عقاب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 20

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب الشّرك، و بيان استحقاق المشركين التّعجيل في عقوبتهم و التّسريع في إهلاكهم، حكى سبحانه تعنّتهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و اقتراحهم عليه معجزة اخرى، سوى ما رأوه منه من القرآن، و سائر ما نسبوه إلى السّحر؛ بقوله: وَ يَقُولُونَ تعنّتا و لجاجا: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ و معجزة سوى القرآن مِنْ رَبِّهِ مع كفاية القرآن لإثبات نبوّته لما فيه من وجوه الإعجاز.

وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ (20)و لمّا كان إنزال الزائد على الكفاية منوطا بمصلحة لا يعلمها إلاّ اللّه، أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يردّهم بقوله: فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ و العلم بالمصالح الواقعيّة خاصّ لِلّهِ لا يشركه فيه غيره فَانْتَظِرُوا مشيئته و فعله إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ لذلك.

و قيل: إن المعنى: انتظروا لما يفعل اللّه بكم بجحودكم الآيات المنزلة (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 21

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تكذيبهم المعجزات و تعنّتهم إنّما يكون لبطرهم بالرّاحة، و سعة العيش بقوله: وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ قيل: يعني مشركي مكّة رَحْمَةً من سعة و صحّة (2)مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ من فقر و مرض إِذا لَهُمْ حين إذاقتهم الرّحمة مَكْرٌ و سعي بليغ فِي تكذيب آياتِنا و معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله.

وَ إِذا أَذَقْنَا اَلنّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اَللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)روي أنّ اللّه سلّط القحط على أهل مكّة سبع سنين، ثمّ أنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثمّ أنّهم نسبوا تلك الرّحمة إلى أصنامهم، و طفقوا يقدحون في آيات اللّه، و يكيدون الرّسول، فقابلوا نعمة اللّه بالكفران (3).

ثمّ أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلِ يا محمّد لهم: اَللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً و أعجل عقوبة ممّا تأتون به في إبطال الحقّ، فإنّه يزيل عنكم تلك النّعمة بتسليط المسلمين عليكم، و ابتلائكم بالقتل

ص: 243


1- . تفسير البيضاوي 1:431، تفسير روح البيان 4:28.
2- . تفسير روح البيان 4:29.
3- . تفسير الرازي 17:65، تفسير روح البيان 4:29.

و الأسر، أو الانقياد للرّسول قبل أن تنالوا بمطلوبكم؛ من الإخلال بأمر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و الإفساد في دينه.

ثمّ بالغ في تهديدهم بقوله: إِنَّ رُسُلَنا من الملائكة الكتبة لأعمال النّاس يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ و ما تحتالون في تكذيب الآيات، في صحائف أعمالكم، ثمّ يعرض عليكم يوم القيامة لتزداد فضيحتكم و خزيكم.

و قيل: إن المراد أن لا يخفى على الحفظة شيء من خفيّات أعمالكم، فكيف باللّه المطّلع على السرائر (1)؟

سوره 10 (يونس): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ ذكر سبحانه أحد مصاديق الرّحمة بعد الضرّ بقوله: هُوَ القادر الرحيم اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ و يمكّنكم لقطع المسافة فِي اَلْبَرِّ على الأقدام، و ظهر الدوابّ وَ في اَلْبَحْرِ بالسّفن و الزّوارق، لنيل مقاصدكم و أنتم ذاهلون عن ألطافه حَتّى إِذا اتّفق في التسييرات (2)أنّكم كُنْتُمْ متمكّنين فِي اَلْفُلْكِ و السّفن، ثمّ عدل سبحانه عن الخطاب إلى الغيبة مبالغة في تعجيب حالهم و إنكارها عليهم؛ بقوله: وَ جَرَيْنَ تلك السّفن بِهِمْ على الماء بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ليّنة، موافقة لمقصودهم وَ فَرِحُوا و سرّوا بِها لطيبها و موافقتها، فإذا تلقّت تلك الرّيح، أو الفلك، و جاءَتْها من الطّرف المخالف رِيحٌ عاصِفٌ شديدة، بحيث استولت على الاولى الطيّبة وَ جاءَهُمُ لشدّة الرّيح و تلاطم البحر اَلْمَوْجُ كالجبال مِنْ كُلِّ مَكانٍ و جانب وَ ظَنُّوا لذلك أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ الهلاك و سدّت عليهم المسالك، فارتعدت فرائصهم من الخوف، و صاروا منقطعي الرّجاء من الخلق، إذن دَعَوُا اَللّهَ و تضرّعوا إليه بالفطرة، حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ غير مشركين به، قائلين في دعائهم: يا ربّ، و اللّه لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ المهلكة

هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ (22) فَلَمّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

ص: 244


1- . تفسير البيضاوي 1:432، تفسير روح البيان 4:30.
2- . في النسخة: التيسيرات.

لَنَكُونَنَّ البتّة بعد ذلك مِنَ اَلشّاكِرِينَ لنعمك التي منها نعمة النجاة المسؤولة بتخصيصك بالعبادة و الطّاعة.

روى الفخر الرّازي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال له رجل: اذكر دليلا على إثبات الصانع؟ فقال: أخبرني عن حرفتك؟ فقال: أنا رجل اتّجر في البحر، فقال: صف لي كيفيّة حالك؟ فقال: ركبت البحر، فانكسرت السّفينة، و بقيت على لوح واحد من ألواحها، و جاءت الرّياح العاصفة. فقال جعفر الصادق عليه السّلام: هل وجدت في قلبك تضرّعا و دعاء؟ فقال: نعم، فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرّعت إليه في ذلك الوقت (1).

فَلَمّا أَنْجاهُمْ اللّه من الورطة، و ما غشيهم من الكربة؛ إجابة لدعوتهم الخالصة، و وجدوا السّلامة التي هي أعظم النّعم إِذا هُمْ في حال السّلامة و الرّاحة يَبْغُونَ و يظلمون فِي اَلْأَرْضِ و يفسدون في أقطارها-عن ابن عبّاس: يريد به الفساد و التّكذيب، و الجرأة على اللّه تعالى (2)-حال كونهم متديّنين بِغَيْرِ دين اَلْحَقِّ و هو التّوحيد، أو حال كونهم مبطلين في بغيهم لا محقّين؛ كما فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببني قريظة، أو مبطلين في اعتقادهم.

ثمّ وعظهم سبحانه بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ الباغون إِنَّما يكون بَغْيُكُمْ و ظلمكم، أو إفسادكم في الأرض، ضرر عظيم عَلى أَنْفُسِكُمْ و جزاؤه لا حق بكم، لا على من تبغون عليه، أو المراد: إنّما يكون بغيكم على أمثالكم، و أبناء نوعكم الّذين هم كأنفسكم، فتمتّعوا مَتاعَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و انتفعوا بلذّاتها، فإنّها لا تبقى إلاّ مدّة قليلة، ثمّ تزول بسرعة ثُمَّ يكون إِلَيْنا بعد الموت مَرْجِعُكُمْ و إلى محضر عدلنا مصيركم فَنُنَبِّئُكُمْ و نخبركم بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَعْمَلُونَ بتعذيبكم أشدّ العذاب عليه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أسرع الخير ثوابا صلة الرّحم، و أعجل الشّر عقابا البغي و اليمين الفاجرة (3).

و روي أيضا: ثنتان يعجّلهما اللّه في الدّنيا: البغي، و عقوق الوالدين (4).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: لو بغى جبل على جبل لاندكّ الباغي (5).

و عن الصادق عليه السّلام: ثلاث يرجعن على صاحبهنّ: النّكث، و البغي، و المكر. ثمّ تلا هذه الآية (6).

ص: 245


1- . تفسير الرازي 17:67.
2- . تفسير الرازي 17:71.
3- . تفسير الرازي 17:71.
4- . تفسير الرازي 17:71، تفسير روح البيان 4:33.
5- . تفسير الرازي 17:71.
6- . تفسير العياشي 2:275/1948، تفسير الصافي 2:399.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 24

ثمّ لمّا نبّه سبحانه على فناء الدّنيا و زوال لذّاتها، أوضحه بضرب المثل بقوله: إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و حالها العجيبة في سرعة الزّوال و الفناء، بعد اغترار النّاس بها كَماءٍ نافع أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ بالأمطار على أرض ميتة، فاخضرّت بسبب المطر فَاخْتَلَطَ و كثف بِهِ نَباتُ تلك اَلْأَرْضِ بأنواعه المختلفة النافعة مِمّا يَأْكُلُ اَلنّاسُ كالزّروع و البقول وَ ما يأكل اَلْأَنْعامُ كالحشائش، فيبقى ذلك النّبات مختلطا و مشتبكا حَتّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ من ذلك النّبات زُخْرُفَها و غاية حسنها كالعروس التي لبست الثّياب الفاخرة، المختلفة الألوان وَ اِزَّيَّنَتْ بجميع الألوان التي تتزيّن بها وَ ظَنَّ أصحاب تلك الأرض و أَهْلُها أَنَّهُمْ متمكّنون من حصاد تلك الأرض، و قادِرُونَ عَلَيْها و على رفع غلّتها أَتاها بغتة أَمْرُنا و حكمنا بخرابها، و هلاك ثمارها بآفة من الآفات لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها بسبب نزول الآفة أرضا ملساء، كأنّ زرعها و حشيشها صار حَصِيداً من أصله، بل كَأَنْ لَمْ تَغْنَ و لم ينبت فيها شيء بِالْأَمْسِ و في الزّمان السّابق كَذلِكَ التّوضيح و التفصيل البديع نُفَصِّلُ و نوضّح، أو نذكر واحدة بعد اخرى اَلْآياتِ القرآنية التي منها الآيات المنبّهة على زوال الدّنيا، و عدم لياقتها للاغترار بها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها، و يقفون على دقائقها.

إِنَّما مَثَلُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ اَلسَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ اَلْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ اَلنّاسُ وَ اَلْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد تنفير النّاس من الدّنيا و لذّاتها، رغّبهم في الآخرة بقوله: وَ اَللّهُ يَدْعُوا النّاس من دار البلاء إِلى دارِ اَلسَّلامِ و يرغّبهم فيها.

وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ اَلسَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ السّلام هو اللّه عزّ و جلّ، و داره التي خلقها لعباده و لأوليائه الجنّة» (1).

قيل: إنّ وجه تسمية اللّه نفسه بالسّلام سلامته-لوجوب ذاته-من الآفات و التّغيير و الاحتياج، أو سلامة النّاس من ظلمه، أو أنّه معطي السّلامة من الآفات و المكاره و العيوب (2).

و قيل: إنّ دار السّلام الجنّة، لسلامة من دخل فيها من الضّرر و الآفة و المكروه، أو لأنّ اللّه يسلّم على

ص: 246


1- . معاني الأخبار:176/2، تفسير الصافي 2:399.
2- . تفسير الرازي 17:75.

أهلها (1)؛ كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (2)، و تسلّم الملائكة عليهم، و يسلّم بعضهم على بعض.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «مثلي و مثلكم شبه سيّد بنى دارا، و وضع مائدة، و أرسل داعيا، فمن أجاب الدّاعي دخل الدّار، و أكل من المائدة، و رضي عنه السّيد، و من لم يجب الدّاعي لم يدخل الدّار، و لم يأكل من المائدة، و لم يرض عنه السيّد، فاللّه السيّد، و الدّار دار السّلام، و المائدة الجنّة، و الدّاعي محمّد» (3).

و عنه عليه السّلام: «ما من يوم تطلع فيه الشّمس إلاّ و بجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كلّ الخلائق إلاّ الثّقلين: أيّها النّاس هلمّوا إلى ربّكم، و اللّه يدعو إلى دار السّلام» (4).

ثمّ أنّه تعالى بعد دعوته العامّة، خصّ لطفه و توفيقه بالذّوات الطيّبة المستعدّة بقوله: وَ يَهْدِي اللّه بلطفه و توفيقه مَنْ يَشاءُ هدايته و توفيقه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و طريق موصل إلى تلك الدّار؛ و هو معرفة اللّه بالتّوحيد و الصّفات الكماليّة، و معرفة ملائكته و رسله و حججه بالرّسالة و العصمة، و وجوب الطّاعة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 26

ثمّ لمّا دعا اللّه سبحانه عباده إلى الجنّة، بشّرهم بما أعدّ لهم فيها من الحظوظ بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا بتحصيل العقائد الحقّة، و المعارف الصّحيحة، و الأعمال الصّالحة في الدّنيا، المثوبة اَلْحُسْنى و الجزاء الأوفى وَ زِيادَةٌ عليها من فضله و كرمه.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الزّيادة غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعه أبواب» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الحسنى فالجنّة، و أمّا الزيادة في الدّنيا (4)، ما أعطاهم اللّه في الدّنيا لم يحاسبهم به في الآخرة» (5).

و عن القمّي رحمه اللّه: هي النّظر إلى رحمة اللّه (6).

أقول: و عليه يحمل ما روته العامّة من أنّه إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، يقول اللّه تعالى: تريدون شيئا

ص: 247


1- . تفسير الرازي 17:75.
2- . يس:36/58. (3 و 4) . تفسير الرازي 17:74.
3- . مجمع البيان 5:158، تفسير الصافي 2:400.
4- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: و أمّا الزيادة فالدنيا.
5- . تفسير القمي 1:311، تفسير الصافي 2:400.
6- . تفسير القمي 1:311، و فيه: إلى وجه اللّه عزّ و جل، تفسير الصافي 2:400.

أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنّة، ألم تنجّنا من النّار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إلى ربّهم، ثمّ تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ (1).

ثمّ بشّرهم سبحانه بالصّون عن المكاره كلّها بقوله: وَ لا يَرْهَقُ و لا يغشى وُجُوهَهُمْ في الجنّة قَتَرٌ و غبار فيه سواد وَ لا ذِلَّةٌ و هوان. قيل: إنّ نفي الوصفين كناية عن نفي موجبات الخوف و الحزن، ليعلم أنّ نعيمهم غير مشوب بمكروه يوجب سلب نضارة الوجه (2)أُولئِكَ المحسنون هم (أصحاب الجنة و أهلها) ، و هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مأمونون من الخروج منها.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 27

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المحسنين، بيّن سوء حال المسيئين بقوله: وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا و حصّلوا العقائد و الأعمال اَلسَّيِّئاتِ في الدّنيا فلهم جَزاءُ سَيِّئَةٍ صدرت منهم بِمِثْلِها بلا زيادة لمنافاتها العدل. قيل: إنّ التّقدير: و جزاء الذين كسبوا السيّئات جزاء سيئة بمثلها (1)وَ تَرْهَقُهُمْ و تغشاهم ذِلَّةٌ و مهانة. و في إسناد الذلّة إليهم دون وجوههم، دلالة على إحاطتها بهم ما لَهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ تعالى مِنْ عاصِمٍ و حافظ، و يسودون كَأَنَّما أُغْشِيَتْ و البست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ حال كونه مُظْلِماً لشدّة سوادها بسبب سواد الجهل، و لظلمة الكفر و الضّلال.

وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا اَلسَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)عن الصادق عليه السّلام: «أما ترى البيت إذا كان اللّيل كان أشدّ سوادا فكذلك (2)[هم]يزدادون سوادا» (3)أُولئِكَ المسيئون أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اعيدوا فيها.

القمّي رحمه اللّه، عن الباقر عليه السّلام: «هؤلاء أهل البدع و الشّبهات و الشّهوات، يسوّد اللّه وجوههم ثمّ يلقونه. قال: و يلبسهم اللّه الذلّة و الصّغار» (4).

ص: 248


1- . تفسير البيضاوي 1:433.
2- . في الكافي: سوادا من خارج فلذلك.
3- . تفسير العياشي 2:277/1952، الكافي 8:252/355، تفسير الصافي 2:400.
4- . تفسير القمي 1:311، تفسير الصافي 2:400.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 28

ثمّ بيّن اللّه تعالى زيادة خزي المشركين بقوله: وَ يَوْمَ نحيي الكفّار و المؤمنين، و نَحْشُرُهُمْ في القبور إلى القيامة جَمِيعاً لا يشذّ منهم أحد ثُمَّ نَقُولُ من بينهم لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بربّهم غيره في الالوهيّة و العبادة: الزموا أيّها العابدون و المعبودون مَكانَكُمْ و لا تبرّحوا عنه أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ الذين تدعون من دون اللّه، حتّى ننظر في أمركم فَزَيَّلْنا و فرّقنا بَيْنَهُمْ و بين شركائهم الذين كانوا يعبدونهم، و انقطعت أطماعهم من شفاعتهم. عن القمّي: يبعث اللّه نارا تزيل بين الكفار و المؤمنين (1)«و قال شركاؤكم» و معبودوهم من الملائكة و البشر و الأصنام و غيرهم، بعد ما أنطق اللّه الجمادات منهم: أيّها المشركون ما كُنْتُمْ في الدّنيا إِيّانا تَعْبُدُونَ و إنّما كنتم تعبدون أهواءكم، و تطيعون الشّياطين الآمرين لكم بالشّرك.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيّانا تَعْبُدُونَ (28)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 29 الی 30

ثمّ لا يكتفون بالتّبري عن المشركين بالإنكار، بل يستشهدون باللّه على قولهم، بقوله: فَكَفى بِاللّهِ العالم بحقائق الامور شَهِيداً و مطّلعا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ في إِنْ كُنّا في الدّنيا عَنْ عِبادَتِكُمْ لنا لَغافِلِينَ لعدم الحياة و الشّعور للجماد، و لعدم الرّضا بها من غيره هُنالِكَ المقام، و في ذلك الموقف تَبْلُوا و تختبر كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس ما أَسْلَفَتْ و قدّمت من العقائد و الأعمال، فتعلم خيرها و شرّها، و نفعها و ضرّها، و أعرضوا عن مطاوعتهم الباطل وَ رُدُّوا و ارجعوا إِلَى حكم اَللّهِ الذي هو مَوْلاهُمُ و مطاعهم اَلْحَقِّ و إلى جزائه و عقابه. و قيل: يعني صاروا ملجأين إلى الإقرار بالوهية اللّه (2)و وحدانيّته وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ في ذلك المقام ما كانُوا في الدّنيا يَفْتَرُونَ على اللّه بادّعاء الوهيّته و شفاعته.

فَكَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللّهِ مَوْلاهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 31 الی 33

ص: 249


1- . تفسير القمي 1:312، تفسير الصافي 2:400.
2- . تفسير الرازي 17:85.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فضائح المشركين، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإقامة الحجّة على فساد مذهبهم بقوله: قُلْ يا محمّد، للمشركين احتجاجا على صحّة التّوحيد، و بطلان الشّرك مَنْ الذي يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ بإنزال الأمطار النّافعة وَ من اَلْأَرْضِ بإنبات النّباتات التي هي غذاؤكم و غذاء الحيوانات التي تأكلونها؟ أَمَّنْ الذي يَمْلِكُ و يخلق لكم اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ اللذين هما أعظم أعضائكم، و أنفعها لكم؟ و قيل يعني: من يحفظهما من الآفات مع كثرتها (1)؟ وَ مَنْ الذي يُخْرِجُ و يخلق بقدرته الحيوان اَلْحَيَّ مَنْ المبدأ اَلْمَيِّتِ كالنّطفة وَ يُخْرِجُ و يخلق الشيء اَلْمَيِّتِ كالمنيّ مَنْ الحيوان اَلْحَيَّ؟ و قيل: إنّ المراد من الحيّ: المؤمن، و من الميت: الكافر (2)وَ مَنْ الذي يُدَبِّرُ و ينظّم اَلْأَمْرَ في عوالم الوجود علويّا و سفليّا، و جسمانيّا و روحانيّا فَسَيَقُولُونَ: إنّه اَللّهُ وحده، لاعتقادهم بأنّه صانع العالم و مدبّره، و إنّما كانوا يعبدون الأصنام لقولهم بأنّهم شفعاء.

فإذا اعترفوا بذلك فَقُلْ لهم: أَ فَلا تَتَّقُونَ اللّه في أن تجعلوا له شركاء في العبادة مع اعترافكم بأنّ جميع الامور بيده، و أنّ الأصنام مقهورون تحت قدرته و تدبيره فَذلِكُمُ اَللّهُ القادر القاهر المدبّر بالخصوص رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ الثابتة ربوبيّته، لا ما أشركتم به. فإذا ثبت أن التّوحيد هو الدّين الحقّ فَما ذا بَعْدَ دين اَلْحَقُّ و غير ملّة التّوحيد إِلاَّ اَلضَّلالُ لعدم الواسطة بين الحقّ و الباطل، فمن تخطّى أحدهما وقع في الآخر، فإذا عرفتم هذا الأمر الواضح فَأَنّى تُصْرَفُونَ عن الحقّ؟ و كيف تعدلون عنه إلى الباطل و الضّلال؟ كَذلِكَ الحقّ الذي ثبت عند كلّ أحد له عقل حَقَّتْ و ثبتت كَلِمَةُ رَبِّكَ و حكمه و قضاؤه عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا و تمرّدوا عن طاعة اللّه و رسله، و خرجوا عن قابليّة الهداية، و ذلك الحكم و القضاء الثابت أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أبدا، لعلمه تعالى بخبث طينتهم، و الطّبع على قلوبهم.

و قيل: إنّ المراد: ثبت عذاب ربّك عليهم لأنّهم لا يؤمنون (3)، بل يموتون كفّارا.

ص: 250


1- . تفسير أبي السعود 4:141، تفسير روح البيان 4:43.
2- . مجمع البيان 5:162، تفسير الرازي 17:86.
3- . تفسير الرازي 17:88.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 34 الی 35

ثمّ أكّد سبحانه الحجّة عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ و معبوداتكم مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ و يوجده أوّلا بلا مثال سابق، من نطفة أمشاج ثُمَّ يُعِيدُهُ و يخلقه ثانيا بعد إمامتته و صيرورته ترابا.

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ قُلِ اَللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)فلمّا كان الجواب في القضيّتين في غاية الوضوح، لسطوع برهانه، و إن كانوا جاحدين للمعاد، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن ينوب عنهم في الجواب بقوله: قُلِ اَللّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لا غيره؛ كائنا ما كان، فلمّا ظهر ذلك فَأَنّى تُؤْفَكُونَ و إلى أين تقلبون عن سبيل الحقّ؟

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد الحجّة بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الّذين تدعون من دون اللّه مَنْ يَهْدِي أحدا إِلَى الدّين اَلْحَقِّ بنصب الحجج و البراهين، و إرسال الرّسول، و إنزال الكتاب، و توفيق النّظر و التدبّر فيها قُلِ اَللّهُ بلطفه يَهْدِي جميع الخلق لِلْحَقِّ و يرشدهم إليه بتوسّط الهداة، فإذا كان الأمر كذلك أَ فَمَنْ يَهْدِي النّاس إِلَى اَلْحَقِّ و هو اللّه الهادي لعباده إلى كلّ خير أَحَقُّ و أولى أَنْ يطاع و يُتَّبَعَ في أحكامه أَمَّنْ لا يَهِدِّي و لا يهتدي إلى شيء من منافعه إِلاّ أَنْ يُهْدى بتوسّط غيره.

قيل: إنّ المشركين لمّا كانوا معتقدين بالوهيّة الأصنام عبّر اللّه عن أصنامهم بما يغيّر عن العاقل العالم (1).

و قيل: إنّ المراد من قوله: من لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى هم العقلاء من آلهتهم؛ كالملائكة، و عيسى عليه السّلام، و عزير (2).

فإذا كان اتّباع الهادي إلى الصّراب واجبا بحكم العقل و الوجدان فَما لَكُمْ و أيّ داع يدعوكم إلى اتّباع الجماد الذي لا هداية له، و كَيْفَ و أنتم عقلاء تَحْكُمُونَ بما لا يحكم به عاقل، و تلتزمون بما لا يلتزم به شاعر.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 36 الی 37

ص: 251


1- . تفسير الرازي 17:91.
2- . تفسير البيضاوي 1:435، تفسير روح البيان 4:44.

ثمّ ذكر سبحانه علّة عبادتهم الأصنام بقوله: وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في اعتقاد الوهيّة الأصنام، و كونها شفعاء لهم إِلاّ ظَنًّا ضعيفا حاصلا لهم من تقليد آبائهم. و فيه إشعار بأنّ بعضهم كانوا عالمين بالتّوحيد، و كانوا يكابرون في إنكاره عنادا.

ثمّ أبطل سبحانه اتّباعهم الظنّ بقوله: إِنَّ اَلظَّنَّ و إن كان في غاية القوّة لا يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ و الواقع شَيْئاً من الإغناء، و لا يكفي في التديّن بأمر، و لا يقوم مقام العلم و اليقين أبدا.

ثمّ هدّدهم سبحانه على اتّباع الظنّ بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ من اتّباع الظّن، و الإعراض عن البرهان.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التّوحيد، شرع في إثبات النبوّة بدفع دعوى المشركين أنّ القرآن هو كلام البشر بقوله: وَ ما كانَ هذَا اَلْقُرْآنُ مع ما هو عليها من وجوه الإعجاز أَنْ يُفْتَرى قيل: إنّ المعنى: ليفترى (1)، أو افتراء و اختلافا مِنْ دُونِ اَللّهِ و صادرا من غيره تعالى، لعدم قدرة غيره على ترتيب مثله وَ لكِنْ يكون تَصْدِيقَ الكتاب اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و مطابقا لما نزل من اللّه قبله في المعارف و المواعظ، و بيان أحوال الأنبياء و قصص الامم الماضين، مع كون من أتى [به]اميّا لم يقرأ الخطّ، و لم يطالع الكتب، و لم يجالس العلماء، و لم يتلمذ عند أحد، فلو لم تكن مطالبه مطابقة لما في الكتب، لبالغ المعاندون في الطّعن و القدح فيه، و لمّا لم يطعن أحد فيه مع شدّة حرص الكفّار عليه و عنادهم له، علم مطابقته.

ثمّ ثنّى سبحانه الدّليل على صدق كون القرآن كلام اللّه بقوله: وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتابِ و تبيين ما شرّع من الأحكام الموافقة للعقل و صلاح الكلّ إلى يوم القيامة، و لذا لا رَيْبَ فِيهِ أنّه نازل مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 38

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على صدق القرآن بالدّليلين المتقنين، أنكر على المشركين نسبة الافتراء إليه بقوله: أَمْ يَقُولُونَ إنّ محمّدا اختلق القرآن و اِفْتَراهُ على اللّه. ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)

ص: 252


1- . تفسير الرازي 17:94.

بالتحدّي به بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: إن كان القرآن كلام البشر فَأْتُوا أيّها المهرة في الفصاحة و البلاغة بِسُورَةٍ واحدة صغيرة مِثْلِهِ في الفصاحة و البلاغة و الحلاوة وَ اُدْعُوا لإعانتكم على ترتيب سورة مثل القرآن مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ دعوته مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواء إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادّعاء أنّه كلام البشر، و أنّي افتريته، فان ما افتراه أحد من النّاس يقدر على إتيان مثله غيره، فعجز الكلّ من عمل، مع كثرة المهرة فيه، دليل قاطع على أنّه من اللّه، خصوصا مع تحدّي مدّعي النبوّة به.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 39

ثمّ ذكّر سبحانه علّة تكذيبهم بقوله: بَلْ لشدّة النّفور عن مخالفة آبائهم في الدّين، سارعوا إلى أن كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و لم يعطوه حقّ النّظر ليفهموا معانيه و حقائقه و دقائقه، و يقفوا على كنهه وَ لَمّا يَأْتِهِمْ و لم يقع بعد تَأْوِيلُهُ و ما أخبر اللّه به من الامور المستقبلة، ليعلموا صحّة أخباره الغيبيّة بصدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه كَذلِكَ التّكذيب الصادر من قومك بلا تأمّل في معجزتك كَذَّبَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم.

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلظّالِمِينَ (39)ثمّ هدّد سبحانه المكذّبين بقوله: فَانْظُرْ يا محمّد نظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المكذّبين اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بتعريضها للهلاك بعذاب الاستئصال، أو بإيقاعها في أشدّ الخسران، لأنّهم طلبوا الدّنيا و تركوا الآخرة، فلمّا ماتوا فاتتهم الدّنيا و الآخرة، و وقعوا في أشدّ العذاب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 40

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين بالعذاب، نبّه على علّة تأخيره عنهم، و إمهالهم بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ فيما بعد، أو في قلبه، و يكذّب عنادا وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أبدا، لا ظاهرا و لا باطنا، لفرط غباوته، و قلّة تدبّره. عن الباقر عليه السّلام: هم أعداء محمّد و آل محمّد [من]بعده (1). وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ و المعاندين الذين أفسدوا فطرتهم الأصليّة؛ فيعاقبهم أشدّ العقاب.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 41

وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ (41)

ص: 253


1- . تفسير القمي 1:312، تفسير الصافي 2:403.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالمداراة مع المشركين، أو زجرهم و ردعهم، أو إظهارا لليأس منهم بقوله: وَ إِنْ كَذَّبُوكَ يا محمّد، في ادّعاء الرّسالة و التّوحيد بعد إلزامهم بالحجّة فَقُلْ في جوابهم: لِي عَمَلِي من الايمان باللّه و طاعته، أو جزاء عملي وَ لَكُمْ أيّها المشركون عَمَلُكُمْ من الشّرك و الطّغيان، أو جزاء عملكم أَنْتُمْ بَرِيئُونَ و غير مسؤولين مِمّا أَعْمَلُ فلا تؤاخذون به وَ أَنَا أيضا بَرِيءٌ و غير مسؤول مِمّا تَعْمَلُونَ فلا اؤاخذ بعملكم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ بالغ سبحانه في بيان شدّة عداوة المكذّبين بالقرآن بحيث لا يرجى إيمانهم؛ بقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ حين تقرأ القرآن و تعلّمه أصحابك؛ و هم كالصّمّ لا يفهمون كلامك، و لا يلتفتون إلى محاسنه لشدّة بغضهم لك و نفرتهم من القرآن، فلا تقرأ عليهم القرآن، و لا تجهد نفسك في دعوتهم أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ بقدرتك البشريّة، و تفهم كلامك اَلصُّمَّ الذين سدّ أسماع قلوبهم الشّهوات، و حبّ الدّنيا، و شدّة العداوة من إدراك الكلام و محاسنه وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ فإنّ تفهيم الكلام للأصمّ العاقل لو كان ممكنا لفراسته، لا يمكن تفهيمه للأصمّ المجنون وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ ببصره الظّاهر إِلَيْكَ و إلى معجزاتك الواضحة، و لكنّهم لعمى قلوبهم لا يرون نورك و جهات إعجاز معجزاتك أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ و فاقدي البصر إلى طريق الحقّ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ بعين قلوبهم الطّريق.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43)و قيل: إنّ المقصود من الآيتين تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتشبيه المكذّبين المصرّين على الكفر بالأصمّ الذي لا عقل له، و الأعمى الذي لا بصيرة له، فكما يمنع الصّمم في الأذن، و العمى في العين عن إدراك محاسن الكلام و مشاهدة محاسن الصّورة-خصوصا إذا انضمّ إلى الصّم عدم العقل، و إلى العمى عدم البصيرة-كذلك تمنع شدّة بغض المكذّبين للحقّ، و عداوتهم للرّسول، و نفرتهم عن القرآن، و عن قبولهم الهداية، و كما أنّ الطّبيب إذا رأى مريضا لا يمكن علاجه، أعرض عنه بلا استيحاش من عدم قبوله العلاج، كذلك يجب على الرّسول الإعراض عن هؤلاء المكذّبين بلا استيحاش من عدم قبولهم الحقّ (1).

ص: 254


1- . الرازي 17:101.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 44 الی 45

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ قطع الرّحمة عنهم مع سعتها إنّما هو بسيّئات أعمالهم؛ بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ اَلنّاسَ و لا يقطع عنهم رحمته، و لا ينقصهم ممّا يتعلّق بمنافعهم الدنيويّة و الاخرويّة؛ من السّمع و البصر، و العقل و البصيرة، و استعداد الهداية شَيْئاً و لو كان يسيرا وَ لكِنَّ اَلنّاسَ بسيّئات أعمالهم أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث إنّهم لانهماكهم في الشّهوات يضيّعون استعدادهم، و يفسدون عقولهم، و لذا يحرمون من السّعادات الاخرويّة.

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ اَلنّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ اَلنّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنَ اَلنَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)ثمّ هدّد سبحانه المكذّبين المضيّعين لفطرتهم الأصليّة و عقولهم السّليمة بقوله: وَ يَوْمَ يحيي اللّه المكذّبين و يَحْشُرُهُمْ فيه، و حالهم أنّ مدّة أعمارهم في الدّنيا، أو إقامتهم في القبور كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا و لم يمكثوا فيها إِلاّ ساعَةً و زمانا قليلا مِنَ اَلنَّهارِ.

قيل: إنّ الساعة كناية عن أقلّ زمان، و تخصيصها بالنّهار لكون ساعاته أعرف حالا من ساعات اللّيل (1).

ثمّ بالغ سبحانه في تقليل مكثهم بقوله: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ في ذلك اليوم؛ كما يعرف بعضهم بعضا في الدّنيا، كأنّهم لم يفارقوا إلاّ مدّة قليلة، ثمّ ينقطع التّعارف إذا عاينوا الأهوال.

و قيل يعني: يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الكفر و الطّغيان (2).

قيل: إنّ استقلالهم الأعمار إنّما يكون لصرفها فيما لا نفع فيه، أو لما يشاهدون من أهوال القيامة، أو لطول مقامهم و وقوفهم في المحشر (3).

ثمّ أخبر سبحانه بغاية خسرانهم بقوله: قَدْ خَسِرَ المشركون اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ و أنكروا الحشر للحساب و جزاء الأعمال وَ ما كانُوا في الدّنيا مُهْتَدِينَ إلى منافعهم و مصالحهم.

و قيل: إنّه كلام المشركين، و المعنى: و يوم يحشرهم حال كونهم متعارفين و قائلين قد خسر الذين . . . إلى آخره (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 46 الی 47

ص: 255


1- . تفسير روح البيان 4:49. (2 و 3) . تفسير الرازي 17:104.
2- . تفسير الرازي 17:105.

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين، عاد إلى تسلية نبيّه بقوله: وَ إِمّا نُرِيَنَّكَ في الدّنيا بَعْضَ العذاب اَلَّذِي نَعِدُهُمْ على تكذيبك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و نخرجنّك من الدّنيا قبل أن نرينّك عذابهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ و مصيرهم في الآخرة ثُمَّ اَللّهُ شَهِيدٌ و مطّلع عَلى ما كانوا يَفْعَلُونَ من تكذيبك فنرينّك إذا مجازاتهم كما تحبّ.

و قيل يعني: أنّ اللّه شاهد عليهم، يشهد بأعمالهم القبيحة على رؤس الأشهاد يوم القيامة؛ ليزداد خزيهم (1).

و قيل: إنّ كلمة ثُمَّ لترتيب الإخبار على الإخبار، أو بمعنى الواو (2).

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الامم من زمان آدم إلى اليوم رَسُولٌ مبعوث من جانب اللّه؛ لهدايتهم و دعوتهم إلى التّوحيد و المعاد، على حسب حكمته و لطفه فَإِذا جاءَ إلى كلّ امّة رَسُولُهُمْ بالبيّنات و المعجزات القاهرات، كذّبته امّته، فإذن قُضِيَ من قبل اللّه بين الرّسول و بَيْنَهُمْ بأن يحكم بنجاة الرّسول و المؤمنين به، و هلاك المكذّبين له، و هو الحكم بِالْقِسْطِ و العدل على المكذّبين وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في ذلك القضاء الموجب لتعذيبهم، لكونه نتيجة أعمالهم بعد إتمام الحجّة عليهم، و قطع أعذارهم ببيانات الرّسول، و إقامته الدّلائل على الحقّ.

و قيل: إنّه تعالى لمّا قال: اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ يوم القيامة، بيّن أنّه مع ذلك يحضرهم في موقف القيامة مع رسولهم، ليشهد عليهم بتلك الأعمال، حتّى يظهر عدله تعالى غاية الظّهور (1).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «تفسيرها في الباطن أنّ لكلّ قرن من هذه الامّة رسولا من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله يخرج إلى القرن الذي هو إليهم رسول؛ و هم الأولياء و هم الرّسل. و أمّا قوله: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ فإن (2)معناه: أنّ رسل اللّه يقضون بالقسط و هم لا يظلمون» (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 48 الی 49

ص: 256


1- . تفسير الرازي 17:106.
2- . في تفسير العياشي: قال.
3- . تفسير العياشي 2:278/1958، و زاد فيه: كما قال اللّه، تفسير الصافي 2:405.

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المكذّبين بالعذاب، حكى استهزاءهم به بقوله: وَ يَقُولُونَ لك يا محمّد، و للمؤمنين بك استهزاء، أو استبعادا لما وعدتهم من العذاب: مَتى يكون وقوع هذَا اَلْوَعْدُ الذي وعدتمونا به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم؟

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يجيبهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إنّي لا أَمْلِكُ و لا أقدر لِنَفْسِي على أن أدفع ضَرًّا و إن كان يسيرا وَ لا أن أجلب نَفْعاً و إن كان حقيرا إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ أن أدفعه من الضرّ، أو أجلبه من النّفع؛ لأنّه تعالى مالكهما، و هو لم يعيّن لوعده وقتا، إنّما المعلوم عندنا (1)لِكُلِّ أُمَّةٍ وعد بتعذيبهم أَجَلٌ و وقت معيّن لعذابهم، خاصّ بهم في علمه، يحلّ بهم العذاب الموعود عند حلوله، و إِذا جاءَ كلّ امّة أَجَلُهُمْ المضروب لهلاكهم، أنجز اللّه وعده فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عنه و لا يمهلون ساعَةً و زمانا قليلا وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ عليه.

عن الصادق عليه السّلام: «هو الذي سمّي لملك الموت في ليلة القدر» (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 50 الی 53

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بلوم المكذّبين في تعجيلهم العذاب بقوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني أيّها المكذّبون إِنْ أَتاكُمْ و نزل بكم عَذابُهُ الموعود بَياتاً و ليلا أَوْ نَهاراً و أنتم تشتغلون بامور معاشكم ما ذا و أيّ نفع تتصوّرون للعذاب الذي يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ هؤلاء اَلْمُجْرِمُونَ أيّ مقصود لهم في استعجاله، مع أنّ العاقل يستأخره و يفرّ منه لشدّة مرارته و صعوبة تحمّله.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ اَلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)و في وضع المجرمين موضع الضمير، تنبيه على علّة استحقاقهم العذاب، و على مقتضى فرارهم منه، و مباينة حالهم للاستعجال فيه.

ثمّ كأنّه قال سبحانه: إن كان غرضهم من الاستعجال علمهم بصدق النبيّ، و إيمانهم بتوحيد اللّه و صدق وعده، فليعلموا أنّ الإيمان بعد مشاهدة العذاب لا ينفعهم في الخلاص و الوصول إلى ثوابه،

ص: 257


1- . زاد في النسخة: أن، قبل الآية، و حذفناها لما يترتب عليها من تغيير الموقع الإعرابي للفظ الآية و تفسيرها بحيث يكون (أجلا و وقتا معينا. . .) .
2- . تفسير العياشي 2:278/1959، تفسير الصافي 2:405.

بل يقال لهم عند إيمانهم بعد رؤية العذاب توبيخا و تقريعا لهم: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ العذاب، و هل بعد نزوله عليكم و سقوط الايمان عن النّفع في حقّكم آمَنْتُمْ بِهِ و صدّقتموه؟ !

ثمّ أكّد سبحانه التّوبيخ و التّقريع عليهم بقوله: آلْآنَ و هل في هذا الحين تؤمنون باللّه و برسالة الرّسول، و ترجون الانتفاع بالايمان و الخلاص به من العذاب وَ قَدْ كُنْتُمْ قبل نزوله بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تكذيبا لوعد اللّه، و استهزاء بالرّسول؟

ثُمَّ قِيلَ بعد نزول العذاب لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع تكذيب الرّسول موضع تصديقه، و الكفر موضع الإيمان: ذُوقُوا و اطعموا عَذابَ اَلْخُلْدِ و الدّائم، كما أذقتم الرّسول و المؤمنين جرع الغصص، و كؤوس الكروب هَلْ تُجْزَوْنَ اليوم بسبب إِلاّ بِما كُنْتُمْ في الدّنيا تَكْسِبُونَ لأنفسكم من الكفر و العصيان، و فيه تنبيه على أنّه تعالى خلق الخلق للرّحمة، و إنّما العذاب هو نتيجة أعمالهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية استهزاء المكذّبين بوعدهم بالعذاب، حكى عنهم السّؤال عن صدق هذا الوعد بقوله: وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ و يستخبرون منك يا محمّد، بعد إخبارك إيّاهم بالعذاب أَ حَقٌّ هذا الوعد، و صدق هُوَ أم صرف تخويف لا واقع له؟ قُلْ في جوابهم: إِي وَ رَبِّي و نعم و اللّه إِنَّهُ لَحَقٌّ حقيق بالقبول، و صدق لا مجال للرّيب فيه. عن الباقر عليه السّلام: «و يستنبئك (1)أهل مكّة عن عليّ: أ إمام هو قُلْ إِي وَ رَبِّي» (2)وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربّكم من إدراككم، و فائتين عنه بالهرب حين إرادته تعذيبكم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 54

ثمّ بالغ سبحانه؛ بعد نفي قدرتهم على الهرب من العذاب، في بيان عدم تمكّنهم من الخلاص ببذل الفداء بقوله: وَ لَوْ فرض أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ من النّفوس التي ظَلَمَتْ بالإشراك-و عن القمّي: آل محمّد حقّهم (3)- ما فِي اَلْأَرْضِ من خزائنها و كنوزها و أمتعتها لاَفْتَدَتْ تلك النّفس بِهِ و بذلته بإزاء نجاتها من العذاب-عن القمّي: يعني في الرّجعة (4)-لا يقبّل منها وَ أَسَرُّوا و أخفوا اَلنَّدامَةَ على ما ارتكبوه من الشّرك و العصيان، كراهة لشماتة الأعداء-كما عن

وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي اَلْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا اَلنَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)

ص: 258


1- . زاد في الأمالى: يا محمد.
2- . أمالي الصدوق:771/1047، تفسير الصافي 2:406. (3 و 4) . تفسير القمي 1:313، تفسير الصافي 2:406.

الصادق عليه السّلام (1)-أو عجزا عن النّطق لغاية الحيرة و الدّهشة لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ. و قيل: إنّ أَسَرُّوا هنا بمعنى أظهروا (2)؛ لأنّه ليس بيوم تصبّر وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ جميعا؛ المشركين منهم و غير المشركين، من سائر فرق الكفّار و الطّغاة بِالْقِسْطِ و العدل، و يحكم عليهم بالعذاب اللاّئق بهم وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فيما فعل بهم من العذاب، لكونه نتيجة سيّئاتهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 55 الی 56

ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الكذب في وعده، و نفي قبوله الفداء لرفع العذاب، أعلن بغناه المطلق، و عدم تطرّق الكذب في وعده بقوله: أَلا إِنَّ لِلّهِ وحده ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فلا يحتاج إلى أخذ الفداء، و ليس لكم مال تفدون به أَلا إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ بالثّواب و العقاب حَقٌّ و صدق لا يمكن الخلف فيه، لقبحه المنافي لحكمته، و كمال قدرته على إنجازه وَ لكِنَّ النّاس أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك لقصور عقولهم، و كمال غفلتهم، بسبب انهماكهم في الشّهوات، فيقولون ما يقولون.

أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)ثمّ أكّد سبحانه كمال قدرته بقوله: هُوَ القادر الذي يُحيِي الميّت وَ يُمِيتُ الحيّ، بلا دخل لأحد في ذلك وَ إِلَيْهِ في الآخرة تُرْجَعُونَ كما أنّكم منه تبدأون.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 57

ثمّ أنّه تعالى بعد تحذير النّاس من الكفر و تكذيب الرّسل، وجه خطابه إليهم، استمالة لهم نحو الحقّ و قبوله؛ بقوله: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ ثمّ دعاهم إلى اتّباع القرآن بذكر فوائده العظيمة بقوله: قَدْ جاءَتْكُمْ الآيات القرآنيّة التي هي مَوْعِظَةٌ لكم، و تذكرة بعواقب أعمالكم مِنْ قبل رَبِّكُمْ اللّطيف بكم وَ هي شِفاءٌ و برء لِما فِي اَلصُّدُورِ و القلوب من الأمراض الروحانيّة كالجهل و الشكّ، و رذائل الأخلاق. عن الصادق عليه السّلام: أنّه شفاء من أمراض الخواطر، و مشتبهات الامور (3). و في رواية: من نفث الشيطان (4)وَ هي هُدىً و رشاد إلى الحقّ و سائر الخيرات وَ رَحْمَةٌ و فضل خاصّ لِلْمُؤْمِنِينَ المتدبّرين فيها، المقتبسين من أنوارها.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)

ص: 259


1- . تفسير العياشي 2:279/1961، تفسير القمي 1:313، مجمع البيان 5:175، تفسير الصافي 2:406.
2- . تفسير الرازي 17:111.
3- . تفسير الصافي 2:407.
4- . الكافي 8:44/8، تفسير الصافي 2:407.

قيل: شبّه اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالطّبيب الحاذق و كتابه بكتاب فيه دستور معالجة المريض (1).

و لمّا كان أوّل التّدبير في معالجته نهيه عن تناول ما يضرّه، وصف القرآن أولا بكونه موعظة، و زاجرا عن المعاصي و ارتكاب المبعدات و الملهيات عن اللّه. ثمّ استعمال الأدوية المنقّية لمزاجه من الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض، وصف القرآن ثانيا بكونه شفاء، و المراد منه المجاهدة في إزالة الأخلاق الرّذيلة، فإذا زالت حصل الشّفاء للقلب و الصّفاء للرّوح. ثمّ استعمال الأدوية المقوّية للمزاج، وصف القرآن ثالثا بكونه هدى، و المراد منه تجلية الأنوار القدسيّة في القلب. ثمّ استعمال ما يوجب تزايد القوّة من مرتبة الصحّة إلى مرتبة الكمال القابل، وصف القرآن رابعا بكونه رحمة، و المراد منها إيصال جوهر الرّوح إلى أعلى درجات القرب، و هذا خاصّ بالمؤمنين الكاملين في الإيمان و العمل.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 58

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى مراتب تفضّله و رحمته بعباده المؤمنين، أمر نبيّه بأن يأمر المؤمنين بتخصيص فرحهم و سرورهم لهما بقوله: قُلْ يا محمّد للمؤمنين: بِفَضْلِ اَللّهِ و هو رسوله وَ بِرَحْمَتِهِ و هي القرآن فليفرحوا، و إن فرحوا بشيء في العالم فَبِذلِكَ المذكور من الفضل و الرّحمة بالخصوص فَلْيَفْرَحُوا لا بشيء آخر؛ لأنّ ما ذكر من الفضل و الرّحمة هُوَ خَيْرٌ و أفضل و أنفع مِمّا يَجْمَعُونَ من زخارف الدّنيا الفانية، و حطامها الكاسد.

قُلْ بِفَضْلِ اَللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (58)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فضل اللّه: نبوّة نبيّكم، و رحمته: ولاية عليّ بن أبي طالب، فَبِذلِكَ قال: بالنبوّة و الولاية فَلْيَفْرَحُوا يعني: الشّيعة هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يعني: مخالفيهم، من الأهل و المال و الولد، في دار الدّنيا» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «فضل اللّه: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رحمته: علي بن أبي طالب» (3).

و زاد القمّي رحمه اللّه: فبذلك فليفرح شيعتنا، هو خير ممّا أعطي أعداؤنا من الذّهب و الفضّة» (4).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 59

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اَللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّهِ تَفْتَرُونَ (59)

ص: 260


1- . تفسير الرازي 17:115.
2- . أمالي الصدوق:583/803، تفسير الصافي 2:407.
3- . مجمع البيان 5:178، جوامع الجامع:195، تفسير الصافي 2:407.
4- . تفسير القمي 1:313، تفسير الصافي 2:407.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب الشّرك، و توعيد المشركين على تكذيب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و استهزائهم به و بالقرآن، وبّخهم على بدعهم و مفترياتهم على اللّه بقوله: قُلْ يا محمّد للمشركين: أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني ما أَنْزَلَ اَللّهُ لَكُمْ من السّماء مِنْ رِزْقٍ حلال بسبب الأمطار، و تأثير الشّمس و سائر الكواكب، في نضجه و تربيته و تلوينه. و قيل: إنّ المراد من الإنزال من السّماء: التّقدير فيه (1)، و قيل: الخلق و الإنشاء (2)فَجَعَلْتُمْ بعضا مِنْهُ حَراماً على أنفسكم كالسّائبة و أخواتها وَ بعضا حَلالاً.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالاستخبار بالتّكرار بقوله: قُلْ توبيخا لهم: آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ في هذا الجعل و التّبعيض، فتمتثلون أمره تعالى أَمْ عَلَى اَللّهِ بأهوائكم تَفْتَرُونَ و في نسبة ذلك إليه تكذبون؟ فإن تقولوا إنّ الجعل على سبيل الافتراء، فقد التزمتم بما اتّفق العقلاء على بطلانه و قبحه، و تستحقّون العقوبة عليه، و إن تقولوا إنّه بإذن اللّه، فمن المعلوم أنّه ما شافهكم اللّه به، فلا بدّ أن تلتزموا بمجيء رسول منه إليكم، مع أنّكم تنكرون الرّسالة، و تبالغون في تكذيب مدّعيها، فثبت أنّكم مفترون.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 60

ثمّ أظهر سبحانه التعجّب من جرأتهم على اللّه في هذا الافتراء بقوله: وَ ما ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ الحكم اَلْكَذِبَ؟ و أيّ توهّم لهم أن يصنع بهم و يتعامل معهم يَوْمَ اَلْقِيامَةِ الذي هو يوم عرض الأعمال و الأقوال، و المجازاة عليها مثقالا بمثقال؟ أيتوهّمون أنّهم لا يسألون عن افترائهم، و لا يجازون عليه، أو يجازون و لكن لا يجازون جزاء شديدا، و لذا لا يبالون بما يرتكبون؟ كلاّ بل يعذّبون عذابا شديدا، بل أشدّ العذاب؛ لأنّ عصيانهم أشدّ المعاصي و في ذكر الكذب مع الافتراء؛ الذي هو عين الكذب، مبالغة في قبحه.

وَ ما ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)ثمّ أكّد سبحانه استحقاقهم العذاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ جميعا بإعطائهم القوى و العقل المميّز بين الحسن و القبيح، و الحقّ و الباطل، و بإرسال الرّسل، و إنزال الكتب، و تعليم الشّرائع، و بالإرشاد إلى طرق تحصيل المعاش و المعاد وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ اللّه على تلك النّعم بالقيام بوظائف العبوديّة، و صرف القوى الظاهريّة و الباطنيّة فيما خلقت له، و لذا يستحقّون العذاب،

ص: 261


1- . تفسير أبي المسعود 4:156، تفسير روح البيان 4:55.
2- . تفسير الرازي 17:120.

و يبتلون بأشدّ العقاب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 61

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إصرار المشركين على الكفر و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استهزائهم بالقرآن، و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالجواب عن مقالاتهم و المداراة معهم، و تهديدهم بالعذاب، بالغ في تسلية النبيّ و المؤمنين، و تهديد الكفّار ببيان أنّ جميع أحوالهم و أعمالهم بعين اللّه بقوله: وَ ما تَكُونُ يا محمّد فِي شَأْنٍ من الشؤون، و حال من الأحوال الظّاهرة و الباطنة و الخفيّة، من امور الدّنيا أو من جميع الامور، ثمّ خصّ شأن تلاوة القرآن بالذّكر تعظيما له بقوله: وَ ما تَتْلُوا تلاوة هي بعض شأنك و المعظم مِنْهُ يكون مِنْ قُرْآنٍ.

وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)و قيل: إنّ ضمير مِنْهُ راجع إلى القرآن من باب الإضمار قبل الذّكر؛ لتعظيم القرآن (1). ثمّ جمع في الخطاب بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بقوله: وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ جليل أو حقير، ظاهر أو خفيّ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً و رقباء حافظين له إِذْ تُفِيضُونَ و تخوضون فِيهِ و تشتغلون به وَ ما يَعْزُبُ و لا يبعد عَنْ رَبِّكَ و لا يغيب عن علمه المحيط بجميع الأشياء مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ و ما يساوي وزن نملة صغيرة أو هباءة لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ و هما كناية عن عالم الوجود وَ لا شيء أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ الذرّة وَ لا أَكْبَرَ منها إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ و [هو]اللّوح المحفوظ.

و قيل: إنّ المعنى: لا يعزب عن ربّك شيء من الأشياء، و لكنّ جميع الأشياء في كتاب مبين، فكيف يعزب عنه شيء (2)؟ فإذا كان كذلك فليخف الكافرون عذاب اللّه، و لا يخف المؤمن منهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 62

ثمّ بالغ سبحانه في تقوية قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ و أحبّاءه من النبيّ و المؤمنين لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدّارين من نيل مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوت مأمول و مطلوب.

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

ص: 262


1- . تفسير الرازي 17:122.
2- . تفسير أبي السعود 4:158.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن أولياء اللّه، فقال: «هم الذين يذكر اللّه برؤيتهم» ، يعني في السّمت و الهيئة (1).

و عن الصادق، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من عرف اللّه و عظّمه منع فاه من الكلام، و بطنه من الطّعام، و عنّى نفسه بالصّيام و القيام. قالوا: بآبائنا و امّهاتنا يا رسول اللّه، هؤلاء أولياء اللّه؟ قال: إنّ أولياء اللّه سكتوا فكان سكوتهم ذكرا، و نظروا فكان نظرهم عبرة، و نطقوا فكان نطقهم حكمة، و مشوا فكان مشيهم بين النّاس بركة، لو لا الآجال التي كتب اللّه عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفا من العقاب (2)، و شوقا إلى الثّواب» (3).

عن الباقر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب علي بن الحسين عليهما السّلام: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إذا أدّوا فرائض اللّه، و أخذوا بسنن رسول اللّه، و تورّعوا عن محارم اللّه، و زهدوا في عاجل زهرة الدّنيا، و رغبوا فيما عند اللّه، و اكتسبوا الطيّبات من الرّزق، لا يريدون [به]التّفاخر و التّكاثر، ثمّ أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة، فاولئك الّذين بارك اللّه لهم فيما اكتسبوا، و يثابون على ما قدّموا لآخرتهم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته، المطيعين له في ظهوره، اولئك أولياء اللّه الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» (5).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 63 الی 64

ثمّ وصف سبحانه أولياءه بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا عن صميم القلب بكلّ ما جاء من عند اللّه وَ كانُوا يَتَّقُونَ الأعمال السيّئة، و الأخلاق الذّميمة، و حبّ الدّنيا، و ما ألهى عن ذكر اللّه.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اَللّهِ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (64)و قيل: يتّقون ممّا سوى اللّه، و هو التّقوى الحقيقي (6).

ثمّ نبّه اللّه على نتيجة ولايته بقوله: لَهُمُ اَلْبُشْرى بالسّلامة من كلّ شرّ و مكروه فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و بالرّحمة الموصولة، و النّعم بعد الموت وَ فِي اَلْآخِرَةِ.

و قيل: إنّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بيان لتولّيهم اللّه تعالى (7)، و قوله: لَهُمُ اَلْبُشْرى بيان لتولّي اللّه إيّاهم.

ص: 263


1- . جوامع الجامع:196، تفسير الصافي 2:409.
2- . في الكافي: العذاب.
3- . الكافي 2:186/25، تفسير الصافي 2:409.
4- . تفسير العياشي 2:280/1965، تفسير الصافي 2:409.
5- . إكمال الدين:357/54، تفسير الصافي 2:409.
6- . تفسير أبي السعود 4:159.
7- . تفسير البيضاوي 1:440.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اَلْبُشْرى فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا الرّؤيا الحسنة يراها المؤمن، فيبشّر بها في دنياه» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله في رواية عاميّة: «هي في الدّنيا الرّؤيا الصالحة، يراها المؤمن لنفسه، أو ترى له، و في الآخرة الجنّة» (2).

و في (الفقيه) : و أمّا قوله وَ فِي اَلْآخِرَةِ فإنّها بشارة [المؤمن]عند الموت، يبشّر [بها]عند موته أنّ اللّه عزّ و جلّ قد غفر لك و لمن يحملك إلى قبرك (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يبشّرهم بقيام القائم و بظهوره، و بقتل أعدائهم، و بالنّجاة في الآخرة، و الورود على محمّد و آله الصّادقين على الحوض» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الرّجل إذا وقعت نفسه في صدره، يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيقول له: أنا رسول اللّه، أبشر. ثمّ يرى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فيقول: أنا عليّ بن أبي طالب الذي كنت تحبّه، أنا (5)أنفعك اليوم. قال: و ذلك في القرآن قوله عزّ و جلّ: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ اَلْبُشْرى فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ» (6).

و عن الباقر عليه السّلام: «إنّما أحدكم حين تبلغ نفسه هاهنا ينزل عليه ملك الموت فيقول له: [أمّا]ما كنت ترجو فقد اعطيته، و أمّا ما كنت تخافه فقد أمنت منه. و يفتح له باب إلى منزله من الجنّة، و يقال له: انظر إلى مسكنك من الجنّة، و انظر هذا رسول اللّه و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين رفقاؤك، و هو قول اللّه تبارك و تعالى و تقدّس: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ إلى آخر الآية» (7).

ثمّ أكّد سبحانه الوعد بقوله: لا تَبْدِيلَ و لا تغيير لِكَلِماتِ اَللّهِ و لأقواله، و لا خلف في وعده ذلِكَ التّبشير في الدّارين هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ الذي لا فوز فوقه.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 65

ثمّ أنّه تعالى بعد بشارة النبيّ و المؤمنين بالأمن من كلّ مكروه، و كان المشركون في تدبير إهلاك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إبطال أمره، نهاه تعالى عن المبالاة بهم و التأثّر بأفعالهم و أقوالهم بقوله: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ و تكذيبهم و تشاورهم في تدبير إهلاكك.

وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (65)

ص: 264


1- . من لا يحضره الفقيه 1:80/356، تفسير الصافي 2:409.
2- . تفسير الرازي 17:127، تفسير روح البيان 4:61، جوامع الجامع:196، تفسير الصافي 2:410.
3- . من لا يحضره الفقيه 1:80/356، تفسير الصافي 2:409.
4- . الكافي 1:356/83، تفسير الصافي 2:410.
5- . في الكافي: تحبّه تحبّ أن.
6- . الكافي 3:133/8، تفسير الصافي 2:410.
7- . تفسير العياشي 2:280/1967، تفسير الصافي 2:410.

ثمّ كأنّه قيل: لم لا يحزن مع قلّة أنصاره و كثرة أعدائه؟ فأجاب سبحانه بقوله: إِنَّ اَلْعِزَّةَ و القوّة و الغلبة لِلّهِ وحده جَمِيعاً في مملكته و سلطانه، لا قدرة لأحد غيره، فهو يغلبهم و ينصر رسله و المؤمنين، و هُوَ اَلسَّمِيعُ لمقالات المعاندين اَلْعَلِيمُ بما عزموا عليه، و هو مجازيهم أشدّ الجزاء. ففيه مع تأمينه من القتل و الإيذاء، تبشير له بالغلبة و النّصرة.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 66

ثمّ أكّد سبحانه كمال قدرته، و نفوذ سلطانه بقوله: أَلا إِنَّ لِلّهِ وحده بلا شركة أحد من مخلوقاته مَنْ فِي اَلسَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس، فإنّ الجميع-مع كونهم شاعرين عاقلين قادرين-مقهورون تحت قدرته و سلطانه، فكيف بغيرهم من الحيوانات و النّباتات و الجمادات؟

أَلا إِنَّ لِلّهِ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ (66)ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات قدرته و توحيده في الالوهيّة و السّلطنة، ذمّ المشركين بقوله: وَ ما يَتَّبِعُ المشركون اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه من الأصنام، بتوهّم أنّهم شُرَكاءَ للّه في الالوهيّة و العبادة برهانا و يقينا، بل إِنْ يَتَّبِعُونَ شيئا إِلاَّ اَلظَّنَّ الحاصل من عمل الآباء و الكبراء وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ و يخمّنون من عند أنفسهم.

و قيل: أي يكذّبون في قولهم: أنّها آلهة.

و قيل: إنّ (ما) في قوله وَ ما يَتَّبِعُ استفهامية، و المعنى: أيّ شيء يتّبع المشركون؟ و الجواب: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ (1)، و قيل: إنّها موصولة (2)، و المعنى للّه ما يتّبع المشركون (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 67 الی 68

ص: 265


1- . تفسير الصافي 2:411، تفسير البيضاوي 1:441.
2- . في تفسير البيضاوي: موصولة و معطوفة على (من) في الآية لِلّهِ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ. . . .
3- . تفسير الصافي 2:411، تفسير البيضاوي 1:441.

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير قدرته الكاملة الدالّة على اختصاص العزّة به بقوله: هُوَ القادر اَلَّذِي جَعَلَ و أنشأ لَكُمُ اَللَّيْلَ و جعله مظلما لِتَسْكُنُوا و تستريحوا فِيهِ من تعب طلب المعاش وَ اَلنَّهارَ مُبْصِراً و مضيئا، لتتحرّكوا فيه لتحصيل معاشكم و مصالحكم إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل لَآياتٍ بيّنات، و براهين ساطعات على التّوحيد لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الدّلائل، أو آيات القرآن سماع تدبّر و تفهّم و اعتبار.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال القول بوجود الشّريك له، شرع في إبطال القول بوجود الولد له بقوله: قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ و اختار لنفسه وَلَداً من الملائكة؛ كما هو قول مشركي العرب، أو من البشر؛ كعيسى و عزير. ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن هذه النّسبة، أو أظهر التعجّب من كلمتهم الحمقاء بقوله: سُبْحانَهُ كيف يكون له الولد و هُوَ اَلْغَنِيُّ على الإطلاق، و اتّخاذ الولد من آثار الحاجه؟ !

ثمّ أكّد غناه بقوله: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ و ما بينهما، و لا يمكن أن يكون الولد ملكا لوالده.

ثمّ أكّد بطلان قولهم، بقوله مخاطبا لهم: إِنْ عِنْدَكُمْ و ما لكم مِنْ سُلْطانٍ و برهان بِهذا القول، و كفى في بطلانه عدم البرهان به.

ثمّ وبّخهم بقوله: أَ تَقُولُونَ و تختلقون عَلَى اَللّهِ العظيم ما لا تَعْلَمُونَ من القول ببرهان ساطع! و من المعلوم أنّ الالتزام بما لا يعلم عين السّفة، و مباين لطريقة العقلاء.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 69 الی 70

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ و يقولون عليه اَلْكَذِبَ من اتّخاذه الشّريك و الولد لا يُفْلِحُونَ و لا يفوزون بنعمة الآخرة، و لا ينجون من عذابها.

قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي اَلدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذابَ اَلشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)ثمّ كأنّه قيل: كيف و كثير منهم متنعّمون بالنّعم (1)؟ فأجاب سبحانه: ذلك مَتاعٌ و تلذّذ يسير فِي اَلدُّنْيا زائل بسرعة ثُمَّ إِلَيْنا بعد الموت مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذابَ اَلشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.

ص: 266


1- . تفسير روح البيان 4:64.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 71

ثمّ ذكر سبحانه معارضة نوح قومه تسلية للمؤمنين، و تهديدا للكفّار بقوله: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ و خبره الذي له شأن من معارضته لقومه الّذين هم أضراب قومك في الكفر و العناد، ليتدبّروا و ينزجروا عمّا هم عليه من الشّرك و الشّقاق، و تثبت نبوّتك بسبب موافقة ما تخبر به لما ثبّت في الكتب السّماويّة و غيرها، مع علمهم بأنّك اميّ لم تقرأ كتابا، و ما جالست عالما و يظهر لهم أنّ العزّة للّه، و يطمئنّ المؤمنون بأنّ اللّه ينصر أولياءه، و يقوى قلبك في معارضة قومك و عدم المبالاة بهم و بأقوالهم إِذْ قالَ نوح لِقَوْمِهِ بعد تكذيبهم قوله و إيذائهم له: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ و شقّ عَلَيْكُمْ و ثقل على قلوبكم مَقامِي فيكم، و مكثي بينكم لطول مدّته، و نفرتكم عن دعوتي، أو قيامي للوعظ وَ تَذْكِيرِي إيّاكم بِآياتِ اَللّهِ و براهين الوهيّته و وحدانيّته فَعَلَى اَللّهِ وحده تَوَكَّلْتُ و به وثقت في جميع اموري منذ عرفته، فلا ابالي بكم، و لا أخاف من كيدكم فَأَجْمِعُوا أنتم أَمْرَكُمْ وَ اعزموا على السّعي في إهلاكي الذي هو مطلوبكم، أو اجمعوا ذوي الأمر منكم، أو وجوه كيدكم، و ادعوا إلى إعانتكم عليه شُرَكاءَكُمْ و أصنامكم.

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اَللّهِ فَعَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71)و قيل: إنّ الواو بمعنى (مع) (1).

و قيل: إنّ التّقدير: أجمعوا أمر شركائكم (2). و على أيّ تقدير، هو مبنيّ على التهكّم.

ثمّ بالغ في دعوتهم إلى مبارزته و إظهار عدم المبالاة بهم بقوله: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ ذلك و مقصودكم هذا عَلَيْكُمْ غُمَّةً و مستورا، بل اجعلوه ظاهرا مكشوفا لعدم الدّاعي إلى ستره مع عدم خوفكم منّي، و استحالة هربي منكم عند اطّلاعي على تجمّعكم على قتلي. و قيل: إنّ المعنى: لا يكن أمركم و حالكم؛ الذي يعتريكم من كراهة مقامي و تذكيري عليكم، غمّة و كربة، بل عجلوا في تخليص أنفسكم بإهلاكي (3). و عن القمّي: لا تغتمّوا (4)ثُمَّ اُقْضُوا و أدّوا إِلَيَّ إهلاكي الذي تتوهّمون أنّه حقّي عليكم، أو المراد: أوصلوه إليّ وَ لا تُنْظِرُونِ و لا تمهلوني ساعة، بل عجّلوا بذلك غاية التّعجيل، فإنّي مع ثقتي باللّه و بحفظه إيّاي حسب وعده، أعلم أنّكم لن تجدوا إلى ذلك سبيلا.

ص: 267


1- . تفسير الرازي 17:137، تفسير روح البيان 4:66، تفسير أبي السعود 4:164.
2- . تفسير أبي السعود 4:164.
3- . تفسير أبي السعود 4:165.
4- . تفسير القمي 1:314، تفسير الصافي 2:411.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 72 الی 74

ثمّ بيّن أنّه لا علّة لإعراضهم عنه، و إرادتهم إهلاكه بقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و أعرضتم عنّي و عن نصحي و تذكيري، فقد فعلتم ما لا سبب له و لا باعث، فإن تخيّلتم أنّي أطمع في أموالكم فَما سَأَلْتُكُمْ بمقابل وعظي و تذكيري مِنْ أَجْرٍ و عوض تؤدّونه إليّ من أموالكم، حتّى يؤدّي ذلك إلى إعراضكم لثقله عليكم، أو لدلالته على أنّ قصدي من دعوتي طلب الدّنيا لا امتثال أمر اللّه، و اعلموا أنّ قصدي إطاعة أمر اللّه إِنْ أَجْرِيَ و ما عوض عملي إِلاّ عَلَى اَللّهِ لأنّ العمل له، و عوضه عليه، و هو لا يضيع أجر العاملين له، و إن لم تنفعكم دعوتي، و تولّيتم عن الإصغاء لكلامي، فإنّ عليّ العمل بما امرت به وَ أنا أُمِرْتُ من قبل عقلي أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين لأوامره، و لذا لا اخالف أمره، و لا أرجو الثّواب إلاّ منه.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اَللّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ (74)و قيل: إنّ المعنى: و أمرت أن أكون من المستسلمين لما يصيبني من البلاء في طاعته (1).

فَكَذَّبُوهُ بعد إتمام الحجّة عليهم، و إيضاح المحجّة لهم، كتكذيبهم قبله، فلمّا ظهر أنّ تولّيهم ليس إلاّ من العتوّ و الطّغيان، فلا جرم حقّت عليهم كلمة العذاب فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ كان مَعَهُ من المؤمنين فِي اَلْفُلْكِ الذي صنعه بأمرنا، و كانوا ثمانين وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ في الأرض من الهالكين برحمتنا التي [هي]من شؤون الرّبوبيّة وَ أَغْرَقْنَا بالطّوفان الكفّار اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا غضبا عليهم بمقتضى جرائمهم الموبقة فَانْظُرْ يا محمّد، أو أيّها الإنسان، نظر التعجّب و الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أمر اَلْمُنْذَرِينَ و إلى مآل أمرهم. و فيه تهويل لما جرى عليهم، و تهديد لمكذّبي الرّسول و تسلية له.

ثُمَّ بَعَثْنا بالرّسالة مِنْ بَعْدِهِ و بعد انقضاء رسالته بالموت رُسُلاً كثيرة، عظيمة الشّأن إِلى قَوْمِهِمْ كهود إلى عاد، و صالح إلى ثمود، و إبراهيم إلى أهل بابل، و شعيب إلى أهل مدين، و غيرهم ممن قصّ أحوالهم أو لم يقصّ فَجاؤُهُمْ و أتوا بينهم بِالْبَيِّناتِ و المعجزات

ص: 268


1- . تفسير أبي السعود 4:165.

الباهرات، لا بأن يأتي كلّ رسول بمعجزة واحدة، بل لكلّ واحد منهم معجزات عديدة، خاصّة به حسب اقتضاء الحكمة البالغة فَما كانُوا هؤلاء الأقوام لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أن يروا المعجزات، و لم يرج منهم أن يصدّقوهم في رسالتهم التي أنكروها في أوّل بعثتهم، أو في عالم الذرّ، لشدّة إصرارهم على العتوّ و التمرّد و العناد للحقّ، و الطّبع على القلوب كَذلِكَ الطّبع المحكم نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الكفّار اَلْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود العقل، المتجافين عن قبول الحقّ و سلوك طريق الرّشد، فلم يمكن إيمانهم بسوء اختيارهم و انهماكهم في الشّهوات و الضّلال.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 75 الی 77

ثمّ حكى سبحانه إرسال موسى عليه السّلام بعد اولئك، و معارضة قومه معه، و توكّله على اللّه بقوله: ثُمَّ بَعَثْنا بالرّسالة مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بن عمران وَ أخاه هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه بِآياتِنا التّسع، فأتياهم و بلغاهم الرّسالة فَاسْتَكْبَرُوا عن قبول قولهما و اتّباعهما وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ متمرّنين على العتوّ و الطّغيان، و معتادين لارتكاب العصيان، فلذا اجترأوا على تكذيبهما فَلَمّا جاءَهُمُ الآيات البيّنات التي كلّها اَلْحَقُّ الذي عرفوه مِنْ عِنْدِنا قالُوا عتوّا و عنادا: إِنَّ هذا الذي جاء به و سمّاه معجزة لَسِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة، لا مجال للشكّ فيه، فلا يجوز الاعتماد عليه في الإيمان بموسى و اتّباعه، و لا الاغترار به.

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمّا جاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ اَلسّاحِرُونَ (77)فلمّا كذّبوه و نسبوا ما أتى به من المعجزة الظّاهرة [إلى السحر] قالَ مُوسى للمكذّبين تعجّبا من قولهم، و توبيخا لهم: أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ الذي هو أبعد شيء من السّحر-الذي هو الباطل البحت-ما تقولون، أو تعيبونه و تطمّعون فيه لَمّا جاءَكُمْ و وقفتم عليه من غير تدبّر و تأمّل؟ !

ثمّ بالغ في توبيخهم بقوله: أَ سِحْرٌ هذا المعجز الذي إعجازه في غاية الظّهور، بحيث لا يمكن أن يرتاب فيه أحد؟ و كيف يمكن أن أكون من السّاحرين، وَ الحال أنّه لا يُفْلِحُ اَلسّاحِرُونَ و لا يفوزن بمطلوب، و لا ينجون من مكروه، مع أنّي ظافر بكلّ مطلوب و مصون من كلّ محذور؟

سوره 10 (يونس): آیه شماره 78 الی 82

ص: 269

ثمّ كأنّه قيل: ما قال فرعون و ملؤه لموسى في جوابه؟ فأجابهم سبحانه بقوله: قالُوا عجزا عن محاجّته: أَ جِئْتَنا يا موسى لِتَلْفِتَنا و تصرفنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام، و تمنعنا من تقليدهم في الشّرك وَ تَكُونَ باتّباعنا لَكُمَا اَلْكِبْرِياءُ و السّلطنة و التفوّق علينا فِي تلك اَلْأَرْضِ و مملكة مصر وَ ما نَحْنُ لَكُما البتّة بِمُؤْمِنِينَ و بكما مصدّقين في دعوى النبوّة، و توحيد الإله، و لا نؤثر رئاستكما على رئاستنا. وَ قالَ فِرْعَوْنُ لخدمه و ملأه: اِئْتُونِي من كلّ ناحية بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بالسّحر، حاذق فيه، حتّى يعارضوا موسى بمثل ما أتى به، فذهب الخدمة و أتوا بهم فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ و وقفوا في مقابل موسى عليه السّلام لمعارضته قالَ لَهُمْ مُوسى إظهارا لعدم مبالاته بهم: أَلْقُوا أيّها السّحرة ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من الحبال و العصيّ فَلَمّا أَلْقَوْا حبالهم و عصيّهم، و استرهبوا النّاس بسحرهم قالَ مُوسى لهم و هو غير مكترث بهم و بعملهم: ما جِئْتُمْ بِهِ و ما صنعتموه هو اَلسِّحْرُ البيّن الذي يعرفه كلّ أحد، و اعلموا إِنَّ اَللّهَ سَيُبْطِلُهُ و يمحقه، بما يظهره على يدي من المعجزة، أو المراد أنّ اللّه يظهر بطلانه للنّاس و يفضح فاعله.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِياءُ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَ قالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمّا جاءَ اَلسَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اَللّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ (82)ثمّ بيّن سبحانه علّة إبطاله بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يُصْلِحُ و لا يثبت على حاله عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ [سواء أ]كان سحرا أو غيره، لأنّه لا يرضى بالفساد في الأرض وَ يُحِقُّ اَللّهُ اَلْحَقَّ و يثبته و يديمه بِكَلِماتِهِ و مواعيده التي وعدها على لسان رسله، أو بما سبق من قضائه وَ لَوْ كَرِهَ ذلك اَلْمُجْرِمُونَ المصرّون على العصيان. و فيه تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 83 الی 86

ص: 270

«الذرّيّة» يعبّر [به]عن القوم على وجه التّحقير و التّصغير (1). و قيل: اريد بالذريّة أولاد من دعاهم، و أمّا الآباء فقد استمرّوا على الكفر (2). و قيل: اريد من «قومه» قوم فرعون: و هم آسية، و خازنة، و امرأة خازنة و ماشطتها، و مؤمن آل فرعون (1)-و على أي تقدير، كان إيمانهم عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ و قيل: إنّ ضمير الجمع راجع إلى فرعون لما يعتاد في ضمائر الأعاظم (2). و قيل: عبّر عن قوم فرعون باسمه (3). و قيل: إنّه راجع إلى الذرّيّة؛ لأن آباءهم كانوا يمنعونهم من الإيمان خوفا عليهم من فرعون (4)- أَنْ يَفْتِنَهُمْ و يعذّبهم وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ و غالب، أو متكبّر وعات فِي تلك اَلْأَرْضِ التي ملكها وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ في الظّلم و الفساد بتعذيب الضّعفاء، و سفك الدّماء، أو في الكبر و العتوّ حتّى ادّعى الربوبيّة، و استرقّ أبناء الأنبياء.

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ (83) وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (86)وَ قالَ مُوسى للمؤمنين لمّا اشتدّ خوفهم من فرعون: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ عن صميم القلب، و عرفتموه بالقدرة الكاملة و الرّحمة و الرأفة فَعَلَيْهِ وحده تَوَكَّلُوا و اعتمدوا في حفظكم، و إن نزل بكم بلاء فاصبروا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ و مستسلمين لقضائه، راضين برضاه فَقالُوا مجيبين له من غير ريث إظهارا لكمال الإيمان و الخلوص: عَلَى اَللّهِ وحده تَوَكَّلْنا في جميع امورنا.

ثمّ قالوا متوجّهين إلى اللّه و متضرّعين إليه: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا بمقتضى ربوبيّتك و لطفك فِتْنَةً و مورد عذاب لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ أو لا تسلّطهم علينا فيفتنوننا عن دينك، أو يفتنوا بنا بتخيّلهم أنّنا لو كنّا على الحقّ ما أصابنا منهم ضرر. عنهما عليهما السّلام: «لا تسلّطهم [علينا]فتفتنهم بنا» (5)- وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ صحبة اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ و سوء جوارهم، أو من ظلمهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 87

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار القوم إيمانهم و توكّلهم عليه و تضرّعهم إليه، أمر موسى و هارون باتّخاذ المساجد لهم، و الاهتمام بالصّلاة، و تبشير المؤمنين بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ هارون أَنْ تَبَوَّءا أو اتّخذا، أو هيّئا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يسكنون فيها، و يرجعون إليها للعبادة وَ اِجْعَلُوا أنتما و قومكما بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً و مصلّى، أو مساجد متوجّهة إلى القبلة-عن

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (87)

ص: 271


1- . تفسير الرازي 17:144، تفسير البيضاوي 1:444.
2- . تفسير البيضاوي 1:444.
3- . تفسير الرازي 17:145.
4- . تفسير أبي السعود 4:170.
5- . مجمع البيان 5:193، تفسير الصافي 2:414.

ابن عبّاس: كانت الكعبة قبلة موسى (1). و من غيره: كانت قبلته جهة بيت المقدس (2). و قيل: يعني: اجعلوا بيوتكم متقابلة، و المقصود حصول الجمعيّة، و تعاضد بعضهم ببعض (3). و قيل يعني: صلّوا في بيوتكم لئلاّ يظهر عليكم الكفّار فيؤذوكم و يفتنوكم عن دينكم (4). و قيل يعني: استقبلوا البيوت لأجل الصّلاة (1)وَ أَقِيمُوا جميعا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ يا موسى اَلْمُؤْمِنِينَ بالنّصرة في الدّنيا إجابة لدعائكم، و بالجنّة في الآخرة.

و إنّما خاطب سبحانه خصوص موسى و هارون في اتّخاذ المساجد لأنّه وظيفة الرّؤساء، و خاطب الكلّ في الأمر بجعل البيوت مساجد و الصّلاة فيها، لأنّه وظيفة الكلّ، و خاطب موسى في الأمر بالبشارة لأنّه وظيفة الرّسول.

عن العيّاشي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطب النّاس فقال: أيّها «النّاس، إنّ اللّه عزّ و جلّ أمر موسى و هارون أن يبنيا لقومهما بمصر بيوتا، و أمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب، و لا يقرب فيه النّساء إلاّ هارون و ذريّته، و إنّ عليّا منّي بمنزلة هارون من موسى، فلا يحلّ لأحد أن يقرب النّساء في مسجدي، و لا يبيت فيه جنب، إلاّ عليّ و ذريّته، فمن ساءه ذلك فهاهنا» . فضرب (2)بيده نحو الشام (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 88 الی 89

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر موسى ببشارة المؤمنين بالنّصر و الغلبة على الأعداء إجابة لدعائهم، حكى دعاء موسى عليه السّلام على الكفّار بعد بيان سبب طغيانهم بقوله: وَ قالَ مُوسى غضبا على فرعون و قومه: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ و أعطيت فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً و مفاخر كثيرة؛ كالجمال و القوّة و الشّوكة و نظائرها وَ أَمْوالاً وفيرة فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فألهتهم تلك الزّينة و الأموال عن ذكرك و ذكر الآخرة، فاشتغلوا بإضلال عبادك، كأنّك رَبَّنا أعطيتهم تلك لِيُضِلُّوا النّاس عَنْ سَبِيلِكَ و يصرفوهم عن تصديق رسولك و اتّباع دينك.

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)

ص: 272


1- . تفسير الرازي 17:147.
2- . في المصدر: و أشار.
3- . تفسير العياشي 2:283/1974، تفسير الصافي 2:414.

و عن القمّي: يفتنون النّاس بالأموال ليعبدوهم و لا يعبدونك (1). و قيل: إنّ الكلام على سبيل التعجّب المقرون بالإنكار، و المعنى: آتيتهم ذلك ليضلّوا. و قيل: إنّ لِيُضِلُّوا دعاء عليهم كما يقال: ليغفر اللّه للمؤمنين و ليعذّب الكافرين (2). و قيل: إنّ اللاّم للعاقبة (3)، و المعنى: صار عاقبة إحسانك إليهم إضلالهم.

رَبَّنَا اِطْمِسْ و أورد الهلاك، أو التّغيير عَلى أَمْوالِهِمْ حتى لا ينتفعوا بها وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ و أقسها فَلا يُؤْمِنُوا بشيء من الحقّ حَتّى يَرَوُا و يعاينوا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ في الدّنيا، أو في الآخرة، فلا ينفعهم الإيمان إذ ذاك.

عن ابن عبّاس: أنّ موسى كان يدعو، و هارون كان يؤمّن (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «دعا موسى و أمّن هارون و أمّنت الملائكة قالَ اللّه تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما و من غزا في سبيل اللّه استجيب له كما استجيب لكما يوم القيامة (5).

و عن ابن عبّاس: بلغنا أنّ الدّراهم و الدّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها (6).

فَاسْتَقِيما و أثبتا على ما أنتما عليه من الدّعوة و لا تستعجلا، فإنّ ما طلبتما كائن و لكن في وقته وَ لا تَتَّبِعانِّ و لا تسلكا سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ و طريق الجهّال في الاستعجال، و عدم الوثوق بوعد اللّه، أو لا يعلمون أنّ عادة اللّه تعليق الأمور بالحكم و المصالح.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 90

ثمّ أخبر سبحانه بإنجازه وعده لموسى و المؤمنين بالنّصر، و كيفيّة إهلاك فرعون و قومه بقوله: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ و عبّرناهم اَلْبَحْرَ بتجفيفه و حفظهم، حتّى خرجوا منه إلى السّاحل فَأَتْبَعَهُمْ و لحقهم فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ و ذهبوا في أثرهم ليرتكبوا بَغْياً و ظلما عليهم، أو إفراطا في قتلهم وَ عَدْواً و تجاوزا في ظلمهم، أو المعنى: حال كونهم باغين في القول، عادين في الفعل، و ذلك أنّ موسى عليه السّلام لمّا خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون، سمع بخروجهم فرعون و تبعهم حتّى وصل إلى ساحل البحر، و بنو إسرائيل خرجوا منه و مسلكهم باق على حاله يبسا، فسلكه بجنوده أجمعين، فلمّا دخلوا في مسلكهم الذي كان في البحر غشيهم من اليمّ ما غشيهم.

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (90)

ص: 273


1- . تفسير القمي 1:315، تفسير الصافي 2:415.
2- . تفسير الرازي 17:150.
3- . تفسير أبي السعود 4:172.
4- . تفسير الرازي 17:152.
5- . الكافي 2:370/8، تفسير الصافي 2:415.
6- . تفسير الرازي 17:152.

عن العيّاشي مرفوعا: «لمّا صار موسى عليه السّلام في البحر أتبعه فرعون و جنوده، قال: فتهيّب فرس فرعون أن يدخل البحر، فتمثّل له جبرئيل على رمكة (1)، فلمّا رأى فرس فرعون الرّمكة أتبعها فدخل في البحر هو و أصحابه فغرقوا» (2).

حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ و وصل به اَلْغَرَقُ و عاين الموت قالَ إلجاء و اضطرارا آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ و أخلصت له ديني كما أخلصوا له دينهم وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ و المنقادين له كما هم كذلك. و إنّما أظهر تبعيّته لهم في الإيمان رجاء أن يكون تبعا لهم في النّجاة.

قيل: كرّر المعنى الواحد بثلاث عبارات، حيث قال أوّلا: آمَنْتُ، ثمّ قال: لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، ثمّ قال: أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ حرصا على القبول المفضي إلى النّجاة (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 91 الی 92

ثمّ وبّخه اللّه سبحانه على تأخيره الإيمان إلى وقت لا نفع له بقوله: آلْآنَ و هل في هذا الوقت الذي لا ينفعك الإيمان فيه تؤمن و تتوب وَ قَدْ عَصَيْتَ ربّك قَبْلُ و في زمان ينفعك فيه الإيمان و التّوبة وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ في الأرض، المبالغين في الضّلال و الإضلال؟ و فيه غاية التّوبيخ و التّقريع.

آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)عن الصادق عليه السّلام: «ما أتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ كئيبا حزينا، و لم يزل كذلك منذ أهلك اللّه فرعون، فلمّا أمره اللّه بنزول هذه الآية آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ نزل عليه و هو ضاحك مستبشر، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أتيتني يا جبرئيل إلاّ و قد تبيّن الحزن في وجهك حتّى السّاعة؟ قال: نعم يا محمّد، لمّا أغرق اللّه فرعون قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فأخذت حمأة (4)فوضعتها في فمه، ثمّ قلت له: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ و عملت ذلك من غير أمر اللّه، ثمّ خفت أن تلحقه الرّحمة من اللّه و يعذّبني اللّه على ما فعلت، فلمّا كان الآن و أمرني اللّه أن اودّي إليك ما قلته لفرعون، آمنت و علمت أنّ ذلك كان للّه تعالى رضا» (5).

أقول: في الرّواية بنظري إشكالات لا مجال لذكرها، و إنّما يسهّل الخطب أنّها من الآحاد التي لا

ص: 274


1- . الرّمكة: أنثى الفرس تتّخذ للنّسل.
2- . تفسير العياشي 2:284/1975، تفسير الصافي 2:416.
3- . تفسير أبي السعود 4:173.
4- . الحمأ: الطين الأسود المنتن، و القطعة منه: حمأة.
5- . تفسير القمي 1:316، تفسير الصافي 2:416.

توجب علما و لا عملا.

و عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل: لأيّ علّة أغرق اللّه فرعون و قد آمن به، و أقرّ بتوحيده؟ قال: «لأنّه آمن عند رؤية البأس، و الإيمان عند رؤية البأس غير مقبول، و ذلك حكم اللّه تعالى ذكره في السّلف و الخلف» . الخبر (1).

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ و ننقذك من البحر بِبَدَنِكَ و جثّتك بعد موتك، و نلقي جيفتك الخبيثة على نجوة من الأرض، ليتيقّن بنو إسرائيل بعد رؤيتك هالكا بإنجاز اللّه وعده إيّاهم بهلاكك، كما عن القمّي: أخبر موسى عليه السّلام بني إسرائيل أنّ اللّه قد أغرق فرعون فلم يصدّقوه، فأمر اللّه عزّ و جلّ البحر فلفظ به على الساحل حتّى رأوه ميّتا (2).

لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ و بقي بعدك من القائلين بالوهيّتك و ربوبيّتك آيَةً و دليلا على نهاية عجزك؛ كما قيل: أراد اللّه أن يشاهده الخلق على الذلّ و المهانة، بعد ما سمعوا منه قوله: أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى لينزجروا عن مثله (3).

قيل: تخصيصه من بين المغرقين بهذه الحالة العجيبة، آية عظيمة على كمال قدرته تعالى، و على صدق موسى عليه السّلام (4).

عن الرضا عليه السّلام في رواية: «و أمّا فرعون فنبذه اللّه وحده و ألقاه بالسّاحل لينظروا إليه و ليعرفوه، ليكون لمن خلفه آية، و لئلاّ يشكّ أحد في هلاكه، إنّهم كانوا اتّخذوه ربّا، فأراهم اللّه إيّاه جيفة ملقاة على السّاحل، ليكون لمن خلفه عبرة و موعظة» (5).

و عنه عليه السّلام: «أنّه كان من قرنه إلى قدمه في الحديد قد لبسه على بدنه، فلمّا غرق ألقاه اللّه تعالى على نجوة من الأرض [ببدنه]، ليكون لمن بعده علامة فيرونه مع ثقله بالحديد على مرتفع من الأرض، و سبيل الثّقيل أن يرسب و لا يرتفع» (6).

و عن ابن عبّاس: كان عليه درع من ذهب يعرف بها، فأخرجه اللّه [من الماء]مع ذلك الدّرع ليعرف (7).

ثمّ وبّخ سبحانه النّاس على إعراضهم عن الآيات بقوله: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ

ص: 275


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:77/7، تفسير الصافي 2:417.
2- . تفسير القمي 1:316، تفسير الصافي 2:417.
3- . تفسير الرازي 17:157.
4- . تفسير الرازي 17:157.
5- . تفسير القمي 1:316 و تفسير الصافي 2:418 عن الباقر عليه السّلام.
6- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:78/7، تفسير الصافي 2:417.
7- . تفسير الرازي 17:157.

لا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها مع وفورها.

عن الصادق عليه السّلام: «كان بين قول اللّه: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما، و بين أخذ فرعون أربعون سنة» (1).

عن الباقر عليه السّلام: «أملى اللّه لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة، ثمّ أخذه اللّه نكال الآخرة و الاولى، و كان بين أن قال اللّه لموسى و هارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما و بين أن عرّفهما اللّه الإجابة أربعون سنة» (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 93

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر غضبه على فرعون بالغرق و الإهلاك، بيّن رحمته على بني إسرائيل بقوله: وَ لَقَدْ بَوَّأْنا و أسكنّا بَنِي إِسْرائِيلَ بعد إنجائهم من ظلم فرعون، و إهلاك أعدائهم مُبَوَّأَ صِدْقٍ و منزلا صالحا مرضيا، و مسكنا محمودا؛ و هو الشّام و مصر وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ كالمنّ و السّلوى، و الأثمار اللّذيذة فَمَا اِخْتَلَفُوا في امور دينهم حَتّى جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بصحّة جميعها، و الاطّلاع بسبب تلاوة التّوراة على جميع الشرائع و الأحكام، و وجوب التّوحيد و اتّحاد الكلمة.

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)عن ابن عبّاس: المراد ببني اسرائيل بني قريظة، و بني النّضير، و بني قينقاع، الّذين كانوا في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنزلهم اللّه بين المدينة و الشّام من أرض يثرب، و رزقهم من الرّطب و التّمر الّذي لا يوجد مثله في البلاد، فما اختلفوا في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلاّ من بعد ما علموا صدقه، فآمن به بعضهم كعبد اللّه بن سلام و أضرابه، و كفر به آخرون. و المراد بالعلم: القرآن العظيم (3).

ثمّ وعد سبحانه المؤمنين، و أوعد الكافرين منهم بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد يَقْضِي و يحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإثابة المؤمنين، و تعذيب الكافرين.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 94 الی 95

ص: 276


1- . تفسير العياشي 2:284/1975، بحار الأنوار 13:140/55.
2- . الخصال:539/11، بحار الأنوار 13:128/29.
3- . تفسير روح البيان 4:79 عن ابن عباس.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختلاف بني إسرائيل في امور الدّين، بيّن إعجاز القرآن بكونه موافقا للكتب السّماويّة، مع كون من أتى به اميّا؛ بقوله مخاطبا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله في الظّاهر، و لامّته في الواقع: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القصص التي من جملتها قصّة موسى و فرعون، و إنجاء بني إسرائيل و إسكانهم الأرض المقدّسة فَسْئَلِ عن صحّتها العلماء اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتابَ السّماوي النّازل مِنْ قَبْلِكَ و من قبل كتابك؛ كعبد اللّه بن سلام و تميم الدّاري و أضرابهما من علماء أهل الكتاب، فإنّ جميع ما نزل عليك محقّق عندهم، ثابت في كتبهم.

و قيل: إنّ الخطاب في الظّاهر و الواقع للرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و لا يستلزم القضيّة الشرطية إمكان تحقّق مقدّمها، بل تصحّ مع امتناعه و امتناع جزائه؛ كقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعابِدِينَ (1). فلا دلالة في الآية على إمكان وجود الشكّ للرّسول.

و قيل: إنّ الخطاب لكلّ من يسمع، و المعنى: إن كنت أيّها الإنسان أو السّامع في شكّ (2).

و عن الهادي عليه السّلام أنّه سأله أخوه موسى عن هذه الآية، حين كتب إليه يحيى بن أكثم يسأله عن مسائل فيها: أخبرني من المخاطب بالآية، فإن كان المخاطب هو النبي صلّى اللّه عليه و آله فليس قد شكّ (3)، و إن كان المخاطب غيره؛ فعلى غيره إذن انزل الكتاب؟ قال موسى: فسألت أخي-عليّ بن محمّد عليهما السّلام-عن ذلك، فقال: «المخاطب بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكن في شكّ ممّا أنزل اللّه (4)، و لم يكن يسأل، و لكن ليتّبعهم كما قال تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ (5)، و كذلك عرف النبيّ أنّه صادق فيما يقول، و لكن أحبّ أن ينصف من نفسه» (6).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا أشكّ و لا أسأل» (7).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن الصادق عليه السّلام: «لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى السّماء و اوحى [اللّه]إليه في عليّ عليه السّلام ما اوحى من شرفه و من عظمته عند اللّه، ورد إلى البيت المعمور، و جمع له النبيّين و صلّوا خلفه، عرض في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من عظم ما اوحي إليه في عليّ عليه السّلام، فأنزل اللّه فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ يَقْرَؤُنَ اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: الأنبياء، فقد أنزلنا إليهم في

ص: 277


1- . الزخرف:43/81.
2- . تفسير روح البيان 4:80.
3- . زاد في تفسير العياشي: فيما أنزل اللّه.
4- . هناك كلام طويل في المصدر أسقطه المؤلف للاختصار، و أبدله بعبارة (و لم يكن يسأل) .
5- . آل عمران:3/61.
6- . تفسير العياشي 2:284/1977، علل الشرائع:129/1، تفسير الصافي 2:419.
7- . علل الشرائع:130/2، تفسير الصافي 2:419.

كتبهم في فضله ما أنزلنا في كتابك. إلى أن قال: فو اللّه، ما شكّ و ما سأل» (1).

ثمّ أكّد سبحانه صدق ما أخبر به بقوله: لَقَدْ جاءَكَ اَلْحَقُّ الذي لا مجال للرّيب فيه مِنْ رَبِّكَ لظهور حقّانيّته بالآيات الباهرة و الحجج القاطعة، فإذا علمت أنّ ما انزل إليك موافق لما في سائر الكتب السماويّة، و لا يمكن أن يكون ما أخبر به ربّك مخالفا للواقع فَلا تَكُونَنَّ البتة مِنَ اَلمُمْتَرِينَ و الشاكّين فيه، بل دم على ما أنت عليه من اليقين كما كنت من قبل.

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن الشكّ، و بيان طريق تحصيل اليقين للنّاس، أعلن بغاية قبح التّكذيب به بالنّهي عنه من لا يتصوّر في حقّه إمكان صدوره منه بقوله: وَ لا تَكُونَنَّ البتّة مِنَ الكفّار اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ فَتَكُونَ مع عظم قدرك، و علوّ مقامك، و غاية قربك إلى ربّك مِنَ اَلْخاسِرِينَ في الدّنيا و الآخرة أنفسا و أعمالا، و من المكذّبين عقوبة و نكالا بذلك التّكذيب.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 96 الی 97

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن الشكّ في نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و صحّة دينه، و صدق ما أخبر به في كتابه، و التّنبيه على طريق إزالة الشكّ لو فرض وجوده، و تحصيل اليقين، و بيان غاية قبح التّكذيب بآيات اللّه و التّهديد عليه بغاية الخسران في الدّارين، بيّن شدّة إصرار جماعة من الكفّار مع ذلك على كفرهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ و ثبتت عَلَيْهِمْ في اللّوح المحفوظ كَلِمَتُ رَبِّكَ و حكمه بأن يبقوا على الكفر و يخلّدوا في العذاب لا يُؤْمِنُونَ بك و بكتابك أبدا وَ لَوْ جاءَتْهُمْ من قبل ربّك كُلُّ آيَةٍ و معجزة اقترحوها، بل يصرّون على الكفر حَتّى يَرَوُا في الدّنيا، أو بعد الموت اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ و حينئذ لا ينفعهم الإيمان، كما لم ينفع فرعون و أضرابه.

إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ (97)

سوره 10 (يونس): آیه شماره 98

ثمّ لامهم و وبّخهم سبحانه بقوله: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ من القرى، و أهالي بلدة من البلدان آمَنَتْ قبل رؤية العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله اللّه منها، و يكشف بسببه العذاب عنها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ بن متّى فإنّهم من بين أهل القرى مخصوصون بهذا الإيمان النّافع بعد التّكذيب. و قيل:

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

ص: 278


1- . تفسير القمي 1:316، تفسير الصافي 2:419.

إن الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكنّ قوم يونس. لَمّا آمَنُوا حين رأوا أمارات العذاب، و بادروا إلى التّوبة كَشَفْنا و دفعنا عَنْهُمْ بإيمانهم عَذابَ الاستئصال الموقع لهم في اَلْخِزْيِ و الهوان و الفضيحة و نجّيناهم منه فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا لكون إيمانهم في وقت الاختيار و بقاء التّكليف وَ مَتَّعْناهُمْ متاع الدّنيا بعد كشف العذاب عنهم إِلى حِينٍ و زمان قدّرناه لهم في علمنا.

روت العامّة: أنّ يونس عليه السّلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذّبوه، فذهب عنهم مغاضبا، فلمّا فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح و عجّوا أربعين ليلة، و كان يونس قال لهم: إنّ أجلكم أربعون ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنّا بك. فلمّا مضت خمس و ثلاثون ليلة ظهر في السّماء غيم أسود شديد السّواد، فظهر منه دخان شديد، و هبط ذلك الدّخان حتّى وقع في المدينة و سوّد سطوحهم، فخرجوا إلى الصحراء، و فرّقوا بين النّساء و الصّبيان، و بين الدّواب و أولادها، فحنّ بعضها إلى بعض، فعلت الأصوات و كثرت التضرّعات، و أظهروا الإيمان و التّوبة، و تضرّعوا إلى اللّه تعالى، فرحمهم و كشف عنهم، و كان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة (1).

و عن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ردّوا المظالم، حتّى إنّ الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه، فيردّه إلى مالكه (2).

عن الفضل بن عبّاس: أنّهم قالوا: إنّ ذنوبنا قد عظمت و جلّت، و أنت أعظم منها و أجلّ، افعل بنا ما أنت أهله، و لا تفعل بنا ما نحن أهله (3).

و قيل: إنّهم خرجوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم، فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، و يا حيّ يا محيي الموتى، و يا حيّ لا إله إلا أنت. فقالوا، فكشف اللّه عنهم العذاب (4).

في قصة نزول

العذاب على قوم

يونس و رفعه بالتوبة

و عن الباقر عليه السّلام يقول: «[وجدنا في بعض]كتب أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنّ جبرئيل حدّثه أنّ يونس بن متّى عليه السّلام بعثه اللّه إلى قومه و هو ابن ثلاثين سنة، و كان رجلا تعتريه الحدّة، و كان قليل الصّبر على قومه و المداراة لهم، عاجزا عمّا حمّل من ثقل حمل أوقار النبوّة و أعلامها، و إنّه تفسّخ تحتها كما يتفسّخ الجذع تحت حمله، و إنّه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان باللّه و التصديق به و اتّباعه ثلاثا و ثلاثين سنة، فلم يؤمن به و لم يتبعه من قومه إلاّ رجلان؛ اسم أحدهما روبيل، و اسم الآخر تنوخا، و كان روبيل من أهل بيت العلم و النبوّة و الحكمة، و كان قديم الصّحبة ليونس بن متّى من قبل أن يبعثه اللّه بالنّبوّة، و كان تنوخا

ص: 279


1- . تفسير الرازي 17:165.
2- . تفسير الرازي 17:165.
3- . تفسير الرازي 17:165.
4- . تفسير الرازي 17:165.

رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمكا في العبادة، و ليس له علم و لا حكم، و كان روبيل صاحب غنم يرعاها و يتقوّت منها، و كان تنوخا رجلا حطّابا يحتطب على رأسه و يأكل من كسبه، و كان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا؛ لعلم روبيل و حكمته و قديم صحبته.

فلمّا رأى يونس عليه السّلام أنّ قومه لا يجيبونه و لا يؤمنون، ضجر و عرف من نفسه قلّة الصّبر، فشكا ذلك إلى ربّه، و كان فيما شكا أن قال: يا ربّ إنّك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة، فلبثت فيهم أدعوهم إلى الايمان بك و التّصديق برسالتي، و اخوّفهم عذابك و نقمتك ثلاثا و ثلاثين سنة، فكذّبوني و لم يؤمنوا بي، و جحدوا نبوّتي و استخفّوا برسالتي، و قد توعّدوني و خفت أن يقتلوني، فانزل عليهم عذابك فإنّهم قوم لا يؤمنون.

قال: فأوحى اللّه إلى يونس: إنّ فيهم الحمل و الجنين، و الطّفل و الشّيخ الكبير، و المرأة الضعيفة و المستضعف المهين، و أنا الحكم العدل، سبقت رحمتي غضبي، لا اعذّب الصّغار بذنوب الكبار من قومك، و هم يا يونس عبادي و خلقي، و بريّتي في بلادي، و في عيلتي، احبّ أن أتأنّاهم و أرفق بهم و انتظر توبتهم، و إنّما بعثتك إلى قومك لتكون حفيظا عليهم، تعطف عليهم بسجال (1)الرّحمة الماسّة منهم، و تأنّاهم برأفة النبوّة، و تصبر عليهم بأحلام الرّسالة، و تكون لهم كهيئة الطيب المداري العالم بمداراة الدّاء (2)، فحرّجت (3)بهم و لم تستعمل قلوبهم بالرّفق، و لم تسسهم بسياسة المرسلين. ثم سألتني عن سوء نظرك العذاب لهم عند قلّة الصبر منك، و عبدي نوح كان أصبر منك على قومه، و أحسن صحبة، و أشدّ تأنّيا في الصّبر عندي، و أبلغ في العذر، فغضبت له حين غضب لي، و أجبته حين دعاني.

فقال يونس: يا ربّ، إنّما غضبت عليهم فيك، و إنّما دعوت عليهم حين عصوك، فو عزّتك لا أتعطّف عليهم برأفة أبدا، و لا أنظر إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم و تكذيبهم إيّاي و جحدهم نبوّتي، فأنزل عليهم عذابك، فإنّهم لا يؤمنون أبدا.

فقال اللّه تعالى: يا يونس، إنّهم مائة ألف أو يزيدون من خلقي، يعمرون بلادي و يلدون عبادي، و محبّتي أن أتأنّاهم للذي سبق [من]علمي فيهم و فيك، و تقديري و تدبيري غير علمك و تقديرك، و أنت المرسل و أنا الربّ الحكيم، و علمي فيهم يا يونس باطن في الغيب عندي لا يعلم ما منتهاه،

ص: 280


1- . السّجال: جمع سجل، و هي الدلو العظيمة المملوءة، و المراد هنا: المقدار العظيم من الرحمة.
2- . في تفسير العياشي: المداوي العالم بمداواة الدواء.
3- . في تفسير العياشي: فخرقت، و معنى حرّج به: ضيّق عليه، و خرق به: لم يرفق به، و لم يحسن معاملته.

و علمك فيهم ظاهر لا باطن له.

يا يونس، قد أجبتك إلى ما سألت من إنزال العذاب عليهم، و ما ذلك يا يونس بأوفر لحظّك عندي، و لا أحمد (1)لشأنك، و سيأتيهم عذاب في شوّال يوم الأربعاء وسط الشّهر بعد طلوع الشّمس، فأعلمهم ذلك. فسرّ [ذلك]يونس و لم يسؤه، و لم يدر ما عاقبته.

فانطلق يونس عليه السّلام إلى تنوخا العابد فأخبره بما اوحي إليه من نزول العذاب على قومه في ذلك اليوم، و قال له: انطلق حتّى اعلمهم بما أوحى اللّه إليّ من نزول العذاب، فقال تنوخا: فدعهم في غمرتهم و معصيتهم حتى يعذّبهم [اللّه]. فقال له يونس: [بل]نلقى روبيل فنشاوره، فإنّه رجل عالم حكيم من أهل بيت النبوّة، فانطلقا إلى روبيل، فأخبره يونس بما أوحى اللّه إليه من نزول العذاب على قومه في شوّال يوم الأربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشّمس، فقال له: ما ترى، انطلق بنا حتّى اعلمهم ذلك؟

فقال له روبيل: ارجع إلى ربّك رجعة نبيّ حكيم، و رسول كريم، و اسأله أن يصرف عنهم العذاب، فإنّه غنيّ عن عذابهم، و هو يحبّ الرّفق بعباده، و ما ذلك بأضرّ لك عنده، و لا أسوأ لمنزلتك لديه، و لعلّ قومك بعد ما سمعت و رأيت من كفرهم و جحودهم يؤمنون يوما، فصابرهم و تأنّاهم.

فقال له تنوخا: ويحك يا روبيل، ما أشرت على يونس و أمرته [به]بعد كفرهم باللّه، و جحدهم لنبيّه، و تكذيبهم إيّاه، و إخراجهم إيّاه من مساكنه، و ما همّوا به من رجمه.

فقال روبيل لتنوخا: اسكت، فإنّك رجل عابد لا علم لك.

ثمّ أقبل إلى يونس عليه السّلام فقال: أرايت يا يونس إذا أنزل اللّه العذاب على قومك، أفيهلكهم جميعا أو يهلك بعضا و يبقي بعضا؟ فقال له يونس: بل يهلكهم جميعا؛ و كذلك سألته، ما دخلتني لهم رحمة تعطّف، اراجع اللّه فيهم و أسأله أن يصرف عنهم. فقال له روبيل: أتدري يا يونس، لعلّ اللّه [إذا]أنزل عليهم العذاب فأحسّوا به، أن يتوبوا إليه و يستغفروا، فيرحمهم اللّه فإنّه أرحم الرّاحمين، و يكشف عنهم العذاب من بعد ما أخبرتهم عن اللّه تعالى أنّه ينزل عليهم العذاب يوم الأربعاء، فتكون بذلك عندهم كذّابا.

فقال له تنوخا: ويحك يا روبيل، لقد قلت عظيما، يخبرك النبيّ المرسل أنّ اللّه أوحى إليه أنّ العذاب ينزل عليهم، فتردّ قول اللّه، و تشكّ فيه و في قول رسوله، اذهب فقد حبط عملك.

فقال روبيل لتنوخا: لقد فسد رأيك.

ص: 281


1- . في تفسير العياشي: أجمل.

ثمّ أقبل إلى يونس عليه السّلام فقال: أنزل الوحي و الأمر من اللّه فيهم على ما انزل عليك فيهم من إنزال العذاب عليهم؟ و قوله الحقّ، أرايت إذا كان ذلك فهلك قومك كلّهم، و خربت قريتهم، أ ليس يمحو اللّه اسمك من النبوّة و تبطل رسالتك، و تكون كبعض ضعفاء النّاس، و يهلك على يديك مائة ألف (1)من النّاس؟

فأبى يونس عليه السّلام أن يقبل وصيّته، فانطلق و معه تنوخا إلى قومه، فأخبرهم أنّ اللّه أوحى إليه أنّه منزل العذاب عليهم يوم الأربعاء في شوّال في وسط الشهر بعد طلوع الشّمس، فردّوا عليه قوله [و كذّبوه] و أخرجوه من قريتهم إخراجا عنيفا.

فخرج يونس عليه السّلام و معه تنوخا من القرية، و تنحّيا عنهم غير بعيد، و أقاما ينتظران العذاب، و أقام روبيل مع قومه في قريتهم، حتّى إذا دخل عليهم شوّال صرخ روبيل بأعلى صوته في رأس الجبل إلى القوم: أنا روبيل الشّفيق عليكم، الرّحيم بكم، قد أنكرتم عذاب اللّه، هذا شوال قد دخل عليكم، و قد أخبركم يونس نبيّكم و رسول ربّكم أنّ اللّه أوحى إليه أنّ العذاب ينزل بكم في شوّال في وسط الشهر يوم الأربعاء بعد طلوع الشمس، و لن يخلف اللّه وعده رسله، فانظروا ما ذا أنتم صانعون. فأفزعهم كلامه فوقع في قلوبهم تحقيق نزول العذاب، فأقبلوا نحو روبيل و قالوا له: ماذا أنت مشير به علينا يا روبيل؟ فإنّك رجل عالم حكيم، لم نزل نعرفك بالرقّة علينا و الرّحمة لنا، و قد بلغنا ما أشرت به على يونس [فينا]، فمرنا بأمرك و أشر علينا برأيك.

فقال لهم روبيل: إنّي أرى لكم و أشير عليكم أن تنظروا و تعمدوا إذا طلع الفجر يوم الأبعاء في وسط الشهر، أن تعزلوا الأطفال عن الامّهات في أسفل الجبل في طريق الأودية، و توقفوا النساء في سفح الجبل، و يكون هذا كلّه قبل طلوع الشّمس، [فإذا رأيتم ريحا صفراء أقبلت من المشرق]فعجّوا عجيجا، الكبير منكم و الصغير بالصّراخ و البكاء و التضرّع إلى اللّه، و التّوبة إليه و الاستغفار له، و ارفعوا رؤوسكم إلى السّماء و قولوا: ربّنا ظلمنا أنفسنا، و كذّبنا نبيّك، و تبنا إليك من ذنوبنا، و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكوننّ من الخاسرين المعذّبين [فأقبل توبتنا]و ارحمنا يا أرحم الرّاحمين. ثمّ لا تملّوا من البكاء و الصّراخ و التضرّع إلى اللّه و التّوبة إليه، حتى توارى الشّمس بالحجاب، أو يكشف اللّه عنكم العذاب قبل ذلك. فأجمع رأي القوم جميعا على أن يفعلوا ما أشار به عليهم روبيل.

فلمّا كان يوم الأربعاء الذي توقّعوا العذاب، تنحّى روبيل عن القرية حيث يسمع صراخهم و يرى العذاب إذا نزل، فلمّا طلع الفجر يوم الأربعاء فعل قوم يونس ما أمرهم روبيل به، فلمّا بزغت الشّمس

ص: 282


1- . زاد في العياشي: أو يزيدون.

أقبلت ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير و حفيف [و هدير]، فلمّا رأوها عجّوا جميعا بالصّراخ و البكاء و التضرّع إلى اللّه، و تابوا و استغفروا، و صرخت الأطفال بأصواتها تطلب امّهاتها، و عجّت سخال البهائم تطلب الثّدي، و ثغت (1)الأنعام تطلب الرّعي، فلم يزالوا بذلك، و يونس و تنوخا يسمعان صيحتهم و صراخهم، و يدعوان اللّه بتغليظ العذاب عليهم، و روبيل في موضعه يسمع صراخهم و عجيجهم و يرى ما نزل، و هو يدعو اللّه بكشف العذاب عنهم.

فلمّا أن زالت الشمس، و فتحت أبواب السّماء، و سكن غضب الربّ تعالى، رحمهم الرّحمن، و استجاب دعاءهم و قبل توبتهم، و أقالهم عثرتهم. و أوحى إلى إسرافيل أن اهبط إلى قوم يونس فإنّهم عجّوا إليّ بالبكاء و التضرّع، و تابوا إليّ و استغفروني، فرحمتهم و تبت عليهم، و أنا اللّه التّواب الرّحيم، أسرع إلى قبول توبة عبدي التائب من الذّنب، و قد كان عبدي يونس و رسولي سألني نزول العذاب على قومه و قد أنزلته عليهم، و أنا اللّه أحقّ من وفى بعهده، و لم يكن اشترط يونس عليه السّلام حين سألني أن انزل عليهم العذاب أن اهلكهم. فاهبط إليهم و اصرف عنهم ما نزل بهم من عذابي.

فقال إسرافيل: يا ربّ، إنّ عذابك بلغ اكتافهم و كاد أن يهلكهم، و ما أراه إلاّ و قد نزل بساحتهم، فإلى أين أصرفه؟

فقال اللّه: كلا، إنّي قد أمرت ملائكتي أن يصرفوه و لا ينزلوه عليهم، حتّى يأتيهم أمري فيهم و عزيمتي، فاهبط يا إسرافيل عليهم و اصرفه عنهم، و اصرف به الى الجبال و ناحية مفاض (2)العيون و مجاري السّيول، في الجبال العاتية العادية المستطيلة على الجبال، فأذلّها به وليّنها حتّى تصير ملتئمة حديدا جامدا. فهبط إسرافيل فنشر أجنحته، فاستاق بها ذلك العذاب حتّى ضرب بها تلك الجبال التي أوحى اللّه إليه أن يصرفه إليها» .

قال أبو جعفر عليه السّلام: «و هي الجبال التي بناحية الموصل اليوم، فصارت حديدا إلى يوم القيامة.

فلمّا رأى قوم يونس أن العذاب قد صرف عنهم، هبطوا إلى منازلهم من رؤس الجبال، و ضمّوا إليهم نساءهم و أولادهم و أموالهم، و حمدوا اللّه على ما صرف عنهم. و أصبح يونس و تنوخا يوم الخميس في موضعهما الذي كانا فيه، لا يشكّان أنّ العذاب قد نزل بهم و أهلكهم جميعا لمّا خفيت أصواتهم عنهما، فأقبلا ناحية القرية يوم الخميس مع طلوع الشّمس ينظران إلى ما صار إليه القوم، فلمّا دنوا من القوم و استقبلتهم الحطّابون و الحمّارة (3)و الرّعاة بأغنامهم، و نظروا إلى أهل القرية

ص: 283


1- . أي صاحت.
2- . في تفسير العياشي: الجبال بناحية مفائض.
3- . الحمّارة: أصحاب الحمير.

مطمئنّين، قال يونس لتنوخا: كذّبني الوحي، و كذب وعدي لقومي، لا و عزّة ربّي لا يرون لي وجها أبدا بعد ما كذّبني الوحي.

فانطلق يونس عليه السّلام هاربا على وجهه مغاضبا لربّه ناحية بحر إيلة، متنكّرا فرارا من أن يراه أحد من قومه فيقول له: يا كذّاب، فلذلك قال اللّه: وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. . . (1)الآية، و رجع تنوخا إلى إى القرية فلقي روبيل، فقال له: يا تنوخا، أيّ الرأيين كان أصوب و أحقّ، رأيي أو رأيك؟ فقال تنوخا: بل رأيك كان أصوب، و لقد كنت أشرت برأي العلماء و الحكماء.

و قال تنوخا: أما إنّي لم أزل أرى أنّي أفضل منك لزهدي و فضل عبادتي، حتّى استبان فضلك بفضل علمك، و ما أعطاك ربّك من الحكمة مع التقوى أفضل من الزّهد و العبادة بلا علم. فاصطحبا فلم يزالا مقيمين مع قومهما.

و مضى يونس على وجهه مغاضبا لربّه، فكان من قصّته ما أخبر اللّه به في كتابه: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (2).

قال أبو عبيدة: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كم كان غاب يونس عن قومه حتى رجع إليهم بالنبوّة و الرّسالة، فآمنوا به و صدّقوه؟ قال: «أربعة أسابيع؛ سبعا منها في ذهابه إلى البحر، و سبعا في بطن الحوت، و سبعا تحت الشجرة بالعراء، و سبعا منها في رجوعه إلى قومه» .

فقلت له: و ما هذه الأسابيع، شهور أو أيام أو ساعات؟ فقال: «يا أبا عبيدة، إنّ العذاب أتاهم يوم الأربعاء في النّصف من شوّال، و صرف عنهم من يومهم ذلك، فانطلق يونس عليه السّلام مغاضبا فمضى يوم الخميس، سبعة أيام في مسيرة إلى البحر، و سبعة أيام في بطن الحوت، و سبعة أيّام تحت الشجرة بالعراء، و سبعة أيّام في رجوعه إلى قومه، فكان ذهابه و رجوعه [مسير]ثمانية و عشرين يوما. ثمّ أتاهم فأمنوا به و صدّقوه و اتّبعوه، فلذلك قال اللّه: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (3).

أقول: في الرّواية إشكالات غامضة لا تنحلّ إلاّ بارتكاب التأويل في ظواهرها، و التكلّف في توجيهها، بما لا ينافي عصمة الأنبياء، و كونهم أعقل امّتهم، و أعلمهم، و أطوعهم لأوامر اللّه، و أسلمهم لمرضاته.

و عنه عليه السّلام: «أنّ يونس لمّا آذاه قومه دعا اللّه عليهم، فأصبحوا أوّل يوم و وجوههم صفر، و أصبحوا اليوم الثاني و وجوههم سود. قال: و كان اللّه و اعدهم أن يأتيهم العذاب، فأتاهم حتّى نالوه برماحهم،

ص: 284


1- . الأنبياء:21/87.
2- . الصافات:37/148.
3- . تفسير العياشي 2:285/1979، تفسير الصافي 2:421.

ففرّقوا بين النّساء و أولادهنّ، و بين البقر و أولادها، و لبسوا المسوح و الصّوف، و وضعوا الحبال في أعناقهم و الرّماد على رؤوسهم، و ضجّوا ضجّة واحدة إلى ربّهم، و قالوا: آمنّا بإله يونس، فصرف اللّه عنهم العذاب، و أصبح يونس و هو يظنّ أنّهم هلكوا، فوجدهم في عافية» (1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: لأيّ علّة صرف اللّه العذاب عن قوم يونس؛ و قد أظلّهم، و لم يفعل كذلك بغيرهم من الامم؟» قال: «لأنّه كان في علم اللّه أنّه سيصرفه عنهم يلتوبتهم، و إنّما ترك إخبار يونس عليه السّلام بذلك لأنّه عزّ و جلّ أراد أن يفرّغه لعبادته في بطن الحوت، فيستوجب بذلك ثوابه و كرامته» (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ جبرئيل عليه السّلام استثنى في هلاك قوم يونس، و لم يسمعه يونس عليه السّلام» (3).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 99

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية عدم نفع جهد يونس في إيمان قومه، و إنّما هم آمنوا أخيرا بتوفيق اللّه، بيّن أنّ إيمان جميع النّاس منوط بمشيئته و توفيقه، لا بجهد الرّسل في إيمانهم و إكراههم لهم؛ بقوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ إيمان النّاس بالإكراه و الاضطرار لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذّ منهم أحد حال كونهم جَمِيعاً و متّفقين عليه. و لكن لم يشأ ذلك لمنافاته للحكمة البالغة التي عليها أساس التّكوين و التّشريع، بل مقتضى الحكمة أن يشاء لهم ما يشاءون لأنفسهم من الكفر و الإيمان، حسب اقتضاء طينتهم، تكميلا لحكم القبضتين، و تحصيلا لأهل النّشأتين.

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)فإذا كان الأمر كذلك أَ فَأَنْتَ يا محمّد تُكْرِهُ اَلنّاسَ على الإيمان الذي لم يشأ اللّه إكراههم عليه حَتّى يَكُونُوا بإكراهك عليه مُؤْمِنِينَ ليس ذلك عليك و لا مقدورك، إنّما عليك البلاغ و الإنذار و النّصح.

و فيه دلالة على كمال حرصه على إيمان قومه، و تسلية قلبه الشّريف بقطع رجائه في إيمان جميعهم.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 100

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

ص: 285


1- . تفسير العياشي 2:294/1981، تفسير الصافي 2:426.
2- . علل الشرائع:77/1، تفسير الصافي 2:426.
3- . تفسير القمي 2:74، تفسير الصافي 2:427.

ثمّ بيّن سبحانه إناطة الإيمان بمشيئته و توفيقه بقوله: وَ ما و ما صحّ لِنَفْسٍ من النّفوس أَنْ تُؤْمِنَ بسبب من الأسباب إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و توفيقه و تسهيله و لطفه، لا بالمعجزات و تقرير الدلائل و دفع الشّبهات و المبالغة في الوعظ و النّصح، و إن كان لها دخل.

ثمّ بيّن أنّ الكفر أيضا يكون بخذلانه، الناشئ عن قلّة العقل و كثرة الجهل؛ بقوله: وَ يَجْعَلُ اللّه اَلرِّجْسَ و الكفر المستقذر لشدّة قباحته عَلَى اَلَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ دلائل التّوحيد و النبوّة و المعاد، و لا يتدبّرون فيها.

عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله المأمون عن هذه الآية، فقال: «حدّثني أبي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو أكرهت يا رسول اللّه من قدرت عليه من النّاس على الإسلام لكثر عددنا و قوينا على عدوّنا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما كنت لألقى اللّه ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئا، و ما أنا من المتكلّفين. فأنزل اللّه عليه: يا محمد وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً على سبيل الإلجاء و الاضطرار في الدّنيا، كما يؤمنون عند المعاينة و رؤية البأس في الآخرة، و لو فعلت ذلك بهم لم يستحقّوا منّي ثوابا و لا مدحا، و لكنّي اريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرّين، ليستحقّوا منّي الزّلفى و الكرامة، و دوام الخلود في جنّة الخلد أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ و أمّا قوله: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها، و لكن على معنى أنّها ما كانت لتؤمن إلاّ، بإذن اللّه و إذنه أمره لها بالإيمان ما كانت متكلّفة متعبّدة، و إلجاؤه إيّاها إلى الإيمان عند زوال التّكليف و التعبّد عنها» . فقال المأمون: فرّجت [عني فرّج اللّه عنك] (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد الإشارة إلى أنّ الكفر إنّما يكون بسبب عدم التعقّل و التدبّر في الآيات، و أنّ الايمان موقوف على تعقّلها و التفكّر فيها، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ببعث النّاس إلى النّظر و التفكّر في الآيات السماويّة و الأرضيّة بقوله: قُلِ يا محمّد للنّاس عموما، أو لأهل مكّة اُنْظُرُوا بنظر التفكّر و الاعتبار ما ذا من الآيات الدالّة على التّوحيد فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و أيّ شيء بديع فيهما من عجائب الصّنع الدالّة على كمال قدرة اللّه و حكمته.

قُلِ اُنْظُرُوا ما ذا فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي اَلْآياتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)

ص: 286


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:135/33، تفسير الصافي 2:427.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تفكّروا في الخلق، و لا تتفكّروا في الخالق» (1).

ثمّ ذمّ الكفّار الذين لا يتأثّرون بالآيات بقوله: وَ ما تُغْنِي اَلْآياتُ و عجائب المصنوعات، و البراهين الساطعات على التوحيد وَ اَلنُّذُرُ و المواعظ، أو الرّسل المنذرون عَنْ قَوْمٍ علم اللّه أنّهم لا يُؤْمِنُونَ و حكم عليهم بأنّهم أهل النّار لخبث طينتهم، و غاية شقاوتهم، و شدّة قساوتهم.

عن الصادق عليه السّلام: «اَلْآياتُ الأئمّة عليهم السّلام، و اَلنُّذُرُ الأنبياء عليهم السّلام» (2).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 102

ثمّ ذمّهم سبحانه و هدّدهم على عدم الإيمان بقوله: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ هؤلاء المصرّون على الكفر في إيمانهم شيئا إِلاّ يوما مِثْلَ أَيّامِ المشركين المعارضين للرّسل من الامم اَلَّذِينَ خَلَوْا و مضوا من الدّنيا بعذاب الاستئصال، و واقعة عظيمة من الوقائع العظام التي كانت للمكذّبين الذين كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ و في الأعصار السّابقة على عصرهم قُلْ يا محمّد، تهديدا لهم: فَانْتَظِرُوا ما هو عاقبة أمركم من الابتلاء بالعذاب أيضا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ لذلك لأنّكم لا تستحقّون غيره. و قيل يعني: انتظروا لهلاكي، و إنّي [معكم]من المنتظرين لهلاككم (3).

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ (102)عن الرضا عليه السّلام: «انتظار الفرج من الفرج، إنّ اللّه يقول: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ» (4).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 103

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إنزال العذاب على الامم السّابقة، بيّن لطفه بالرّسل و المؤمنين بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا و المراد: أنّا كنّا ننزل العذاب على امم، ثمّ ننجّي رسلنا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بهم من ذلك العذاب حين نزوله كَذلِكَ الإنجاء الذي كان لهم في الأعصار السّابقة حقّ حَقًّا و ثبت ثبوتا عَلَيْنا بمقتضى الحكمة و العدل نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ من الرّسل و أتباعهم في كلّ عصر، من الشّدائد و البلايا. و إنّما أدخل الرّسل في المؤمنين للإشعار بأنّ ملاك النّجاة هو الإيمان.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ (103)عن الصادق عليه السّلام: «ما يمنعكم [من]أن تشهدوا على من مات منكم على هذا الأمر أنّه من أهل

ص: 287


1- . تفسير الرازي 17:169.
2- . تفسير القمي 1:320، الكافي 1:161/1، تفسير الصافي 2:428.
3- . تفسير روح البيان 4:85.
4- . تفسير العياشي 2:297/1985، تفسير الصافي 2:428.

الجنّة، إنّ اللّه تعالى يقول: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ» (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 104 الی 106

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر الرّسول عليه السّلام بالدّعوة إلى التّوحيد، و أمر النّاس بالنّظر في الآيات الدالّة عليه، أمر رسوله عليه السّلام بإعلام النّاس بدينه و هو التّوحيد و البراءة من الشّرك بقوله: قُلْ يا محمّد: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ ما، و ترديد مِنْ دِينِي الذي اخترته لنفسي، و لا تتيقّنوا به فَلا أَعْبُدُ أبدا الآلهة اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لعلمي بعدم قابليّة شيء منها للعبادة وَ لكِنْ أَعْبُدُ اَللّهَ اَلَّذِي بقدرته يَتَوَفّاكُمْ و بإرادته يميتكم.

قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اَللّهَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (105) وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظّالِمِينَ (106)و قيل: يعني أعبد الذي وعدني بأن يتوفّاكم و يهلككم و يبقيني، فإنّه الذي يجب أن يخاف منه، دون ما هو بمعزل عن القدرة على التصرّف في موجود من الموجودات كأصنامكم. و إنّما قدّم ترك عبادة الغير في الذّكر على تخصيص عبادته باللّه، لتقدّم التّخلية، و للإيذان في أوّل الأمر بالمخالفة (2).

و قيل: إنّ المراد: إن كنتم في شكّ من صحّة ديني، فاعلموا أنّ ديني الإخلاص في العبادة لمن بيده ناصية كلّ شيء، و رفض عبادة غيره ممّا لا يضرّ و لا ينفع، فانظروا بعقولكم أيّهما أولى بالعبادة، فإن تفكّرتم علمتم أن لا مجال للشكّ في صحّة ديني فضلا عن القطع بعدمه، أو إن كنتم في الشكّ من ثباتي على ديني، فإنّي لا أتركه أبدا (3).

وَ أُمِرْتُ من قبل خالقي و عقلي أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ باللّه، الموحّدين له وَ قيل لي: أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ و وجه عقلك و قلبك و شراشر وجودك لِلدِّينِ القيّم، و أقبل بكلّك إليه، حال كونك حَنِيفاً و معرضا عن غيره من الأديان الباطلة وَ لا تَكُونَنَّ البتّة في آن من عمرك مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اعتقادا و عملا وَ لا تَدْعُ و لا تعبد بوجه من الوجوه مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه ما لا يَنْفَعُكَ بإيصال محبوب إليك، أو دفع مكروه عنك إن دعوته وَ لا يَضُرُّكَ بشيء أبدا إن تركته، لعدم قدرته على شيء، و عدم شعوره بشيء فَإِنْ فَعَلْتَ ما نهيت عنه من عبادة غير اللّه فَإِنَّكَ

ص: 288


1- . تفسير العياشي 2:297/1986، مجمع البيان 5:209، تفسير الصافي 2:428.
2- . تفسير أبي السعود 4:179.
3- . تفسير أبي السعود 4:179، تفسير البيضاوي 1:448.

إِذاً لسوء اختيارك مِنَ اَلظّالِمِينَ على اللّه بتضييع حقوقه و كفران نعمه، و على نفسك بتعريضها للهلاك و العذاب الدائم.

القمّي: مخاطبة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المعنيّ النّاس (1).

سوره 10 (يونس): آیه شماره 107

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عجز غيره عن الضرّ و النّفع، بيّن أنّ جميع المنافع و المضارّ بيده تعالى وحده بقوله: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ و يصبك بِضُرٍّ و مكروه فَلا كاشِفَ و لا دافع لَهُ أحد إِلاّ هُوَ تعالى شأنه وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ من الخيرات الدنيويّة و الاخرويّة فَلا رَادَّ و لا مانع لِفَضْلِهِ و إحسانه و إنعامه، لعجز الغير عن معارضته.

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (107)قيل: إنّما ذكر الإرادة مع الخير و المسّ مع الضرّ، للإيذان بأنّ الخير مطلوبه تعالى أوّلا و بالذّات، و الضرّ ثانيا (2)و بالعرض، أو للإشعار بأنّ الضرّ كلّه وجودي، و أمّا الخير فقد يكون عدميّا.

لمّا نبّه سبحانه على أنّ الخير إنّما هو بفضله لا بالاستحقاق، قرّر ذلك بقوله: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أن يتفضّل عليه مِنْ عِبادِهِ مؤمنا كان أو كافرا، فتعرّضوا له بالمسألة و الطّاعة، و لا تيأسوا منه بسبب العصيان، إذ هو المفضل المحسن وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 108

ثمّ بالغ سبحانه في السّورة المباركة في إثبات التّوحيد و النبوّة و المعاد بذكر الدّلائل المتقنة، و البراهين المحكمة عليها، الموجبة لاهتداء جميع العقلاء به، ختمها بأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إلى الإيمان بالقرآن، و الاهتداء به، و إعلام النّاس بإتمام الحجّة به عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد لقومك: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قد تمّت عليكم الحجّة، و انقطعت عنكم المعذرة، حيث إنّه قَدْ جاءَكُمُ القرآن العظيم الذي هو اَلْحَقُّ المشتمل على جميع ما تحتاجون إليه من المعارف و الأحكام، و البيّنات و الهدى مِنْ رَبِّكُمْ اللّطيف بكم فَمَنِ اِهْتَدى إلى الحقّ بالإيمان به، و العمل بما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي إلى المنافع الدنيويّة و الاخرويّة التي تكون لِنَفْسِهِ لا تتعدّى إلى غيره وَ مَنْ ضَلَّ

قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)

ص: 289


1- . تفسير القمي 1:320، تفسير الصافي 2:429.
2- . تفسير روح البيان 4:87.

و انحرف عن طريق الحقّ بالكفر به و الإعراض عنه فَإِنَّما يَضِلُّ عن سبيل كلّ خير، و وباله عَلَيْها و ضرر راجع إليها، فلا نفع للّه ولي في إيمانكم، و لا ضرر عليه و عليّ بكفركم وَ ما أَنَا من قبل ربّي عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ و حفيظ حتّى أجبركم على الإيمان، و أقهركم على قبول الحقّ و العمل به، بل إنّما تكون وظيفتي التّبليغ و الإنذار و التّبشير، و قد عملت بها.

سوره 10 (يونس): آیه شماره 109

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بدعوة النّاس إلى الإيمان بالقرآن و العمل به، و إتمام الحجّة عليهم، أمره تعالى بأن يتّبعه بنفسه الشّريفة، و إن لم يؤمن و لم يعمل به أحد، و الصّبر على أذى قومه بقوله: وَ اِتَّبِعْ يا محمّد ما يُوحى إِلَيْكَ من الآيات القرآنية، و التزم بالإيمان و العمل بها، و إن أعرض عنها جميع النّاس وَ اِصْبِرْ على كلّ ما أصابك من المكاره و الأذى لاتّباعك وحي ربّك، و دم على ذلك حَتّى يَحْكُمَ اَللّهُ فيهم بما يستحقّون من العذاب و الهلاك، وَ هُوَ تعالى خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ و أعدل القاضين، و أصوبهم في الحكم، لا يجور و لا يخطأ.

وَ اِتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اَللّهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ (109)روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ سورة يونس اعطي له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس و كذّب به، و بعدد من غرق مع فرعون» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة يونس في كلّ شهرين أو ثلاثة لم يخف [عليه]أن يكون من الجاهلين، و كان يوم القيامة من المقرّبين» (2). إن شاء اللّه.

و الحمد للّه ربّ العالمين على إتمام تفسيرها، و أسأله التّوفيق لإتمام ما يتلوها.

ص: 290


1- . مجمع البيان 5:131.
2- . ثواب الأعمال:106، مجمع البيان 5:131، تفسير الصافي 2:429.

في تفسير سورة هود

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 11 (هود): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختمت سورة يونس؛ و كانت سورة هود أنسب السّور بها، لاشتراكهما في التّصدير بالحروف المقطّعة، و بيان كون الآيات محكمة، و في الدّعوة إلى التّوحيد، و دفع شبهات المشركين فيه و في النبوّة و المعاد، و التحدّي بسور القرآن و تهديدهم بالعذاب، و في بيان هلاك الامم الماضية به، و في محاجّة الأنبياء و كمال توكّلهم و صبرهم، إلى غير ذلك من المطالب العالية، أردفها بسورة هود فافتتحها بذكر بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ بذكر الحروف المقطّعة بقوله: الر و قد مرّ تفسيرها (1).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)ثمّ شرع في إثبات النبوّة بإثبات عظمة القرآن بقوله: كِتابٌ و التّقدير: هذا القرآن العظيم كتاب رفيع الشّأن، الذي أُحْكِمَتْ و نظّمت آياتُهُ نظما رصيفا محكما، بمعنى أنّه لا يعتريه النّقص و الخلل، أو لا يطرأ عليه النّسخ (2)بكتاب بعده، أو بمعنى كثير الحكمة، أو مؤيّده بالحجج القاطعة الدالّة على صدقه ثُمَّ فُصِّلَتْ بفصول من المعارف و الأحكام، و القصص و المواعظ، و مهمّات المعاش و المعاد.

و قيل: فصّلت يعني فرّقت في التّنزيل منجّمة بحسب المصالح (3)، أو فرقت بين الحقّ و الباطل (4).

و قيل يعني: زيّنت بإعجاز البيان، و كثرة الفوائد؛ كما تزين القلائد بالفرائد (5).

و نزّلت مِنْ لَدُنْ إله حَكِيمٍ لا نهاية لحكمته خَبِيرٍ بخفيّات الامور. و أمّا وصف ذاته المقدّسة بالوصفين، تنبيها على كون كتابه حاويا للحكم التي لا تحصى، و العلوم التي لا تنتهي.

ص: 291


1- . مرّ تفسيرها في الطرفة (18) من مقدمة التفسير.
2- . في النسخة: لا يطرأه النسخ.
3- . تفسير أبي السعود 4:182.
4- . تفسير الرازي 17:179.
5- . تفسير روح البيان 4:90.

سوره 11 (هود): آیه شماره 2 الی 4

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إنزال هذا الكتاب الذي هو أفضل الكتب السماويّة لأجل أَلاّ تَعْبُدُوا أيّها النّاس شيئا إِلاَّ اَللّهَ و لا تخضعوا إلاّ له. قيل: إنّ كلمة (أن) مفسّرة لمعنى القول (1)المشرب في «فصّلت» ، و التّقدير: إنّ القول المفصّل فيه أن لا تعبدوا، أو للأمر، و المعنى: لتأمر النّاس يا محمّد أن لا يعبدوا إلاّ اللّه، و تقول لهم: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ تعالى نَذِيرٌ و مخوّف من عذابه على ترك عبادته، و التوجّه إلى عبادة غيره وَ لكم بَشِيرٌ بثوابه على عبادته. و إنّما قدّم الإنذار لكونه أدخل في الرّدع من التّبشير.

أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2) وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ و اطلبوا منه ستر ذنوبكم بالتّوبة ثُمَّ تُوبُوا من ذنوبكم إِلَيْهِ عن صدق و خلوص. و قيل يعني: استغفروا من الشّرك، ثمّ ارجعوا إليه بالطّاعة، أو توبوا إليه من المعاصي (2). إذن يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً و يعيشكم عيشا رغيدا مرضيّا، لا يفوتكم فيه شيء من مشتهياتكم، و لا ينقصه شيء من الكدورات إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و عمركم المقدور، و موتكم الطّبيعي وَ يُؤْتِ كُلَّ تائب ذِي فَضْلٍ و مزيّة في الأعمال و الأخلاق، و الكمالات العلميّة فَضْلَهُ و مزيّته في الجزاء في الدّارين وَ إِنْ تَوَلَّوْا و تعرضوا عمّا أدعوكم إليه من التّوحيد و الاستغفار و التّوبة، و تصرّوا على ما أنتم عليه من الشّرك و العصيان فَإِنِّي بمقتضى شفقتي و رحمتي أَخافُ عَلَيْكُمْ و أتوقّع في حقّكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ شأنه، عظيم أهواله و شدائده، و هو يوم القيامة.

و القمّي: يعني: الدّخان و الصّيحة (3).

ثمّ قرّر سبحانه كبر اليوم بقوله: إِلَى اَللّهِ وحده بعد الموت مَرْجِعُكُمْ و مآبكم في ذلك اليوم؛ فيعاقبكم على أعمالكم وَ هُوَ تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ و منه تعذيبكم بعد الإماتة و البعث.

سوره 11 (هود): آیه شماره 5

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (5)

ص: 292


1- . تفسير الرازي 17:180.
2- . تفسير أبي السعود 4:184.
3- . تفسير القمي 1:321، تفسير الصافي 2:431.

ثمّ لمّا كان مجال للسؤال عمّا قابلوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من القبول و الإعراض، أجاب سبحانه بقوله: أَلا يا أهل العقل تعجّبوا من فعلهم إِنَّهُمْ بعد ما سمعوا المقال الذي ينبغي أن تخرّ منه صمّ الجبال يَثْنُونَ و يعطفون صُدُورَهُمْ على ما فيها من الكفر و عداوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عطف الثّياب على ما فيها من الأشياء المستورة لِيَسْتَخْفُوا من الرّسول، أو من اللّه و يستتروا مِنْهُ لئلاّ يطّلع على ما هم عليه.

عن الباقر عليه السّلام: «أخبرني جابر بن عبد اللّه أن المشركين كانوا إذا مرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حول البيت، طأطأ أحدهم ظهره و رأسه-هكذا-و غطّى رأسه بثوبه حتّى لا يراه رسول اللّه. فأنزل اللّه هذه الآية» (1).

و روي أنّ طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا، و أرسلنا ستورنا، و استغشينا ثيابنا، و ثنينا صدورنا على عداوة محمّد، فكيف يعلم بنا؟ (2)

و عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في الأخنس بن شريق، و كان رجلا حلو المنطق، حسن السّياق للحديث، يظهر المحبّة لرسول اللّه، و يضمر في قلبه ما يضادّها (3).

و عن ابن شداد: أنّها نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثنى صدره و ظهره، و طأطأ رأسه، و غطّى وجهه، كيلا يراه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قيل: إنّما صنع ذلك لأنّه لو رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يمكنه التخلّف عن حضور مجلسه، و المصاحبة معه، و ربّما يؤدّي ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر و النّفاق (4).

ثمّ هدّدهم اللّه بقوله: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ و يغطّونها عليهم يَعْلَمُ اللّه ما يُسِرُّونَ في صدورهم من الكفر وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون بأفواههم من الطّعن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كتابه؛ فيعاقبهم عليه إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ بذاته بِذاتِ اَلصُّدُورِ و ضمائر القلوب من الأسرار و النيّات التي لا يطّلع عليها أحد، فكيف يخفى عليه ضمائرهم؟

سوره 11 (هود): آیه شماره 6

ثمّ أنّه تعالى بعد ما نبّه على علمه بالضمائر و الظّواهر، أكّده ببيان تكفّله لأرزاق الحيوانات، المتوقّف على علمه بأحوالها بقوله: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ و حيوان متحرّك فِي اَلْأَرْضِ من ظهرها

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اَللّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)

ص: 293


1- . تفسير العياشي 2:299/1988، الكافي 8:144/115، تفسير الصافي 2:431.
2- . تفسير الرازي 17:185. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:94.

و تخومها، ذكرا أو انثى، صغيرا أو كبيرا، وحشيّا أو أهليّا، برّيا أو بحريّا، طائرا أو غير طائر إِلاّ عَلَى اَللّهِ الخالق لها رِزْقُها و ما تعيش به (1)من الغداء و الشّراب و غيرهما، مدّة حياتها، تفضّلا و إحسانا وَ يَعْلَمُ قبل وجوها و بعده مُسْتَقَرَّها و مسكنها في الأرض وَ مُسْتَوْدَعَها و محلاّ تكون مودعة (2)فيه من أصلاب الآباء و أرحام الامّهات، و ما يجري مجراها من البيضة و نحوها.

و قيل: المستقرّ: محلّ التعيّش، و المستودع: محلّ الموت (3). و قيل: إنّ الأوّل أصلاب الآباء، و الثّاني أرحام الامّهات (4).

ثمّ بالغ سبحانه في علمه بقوله: كُلٌّ من الدوابّ و أرزاقها و مستقرّها و مستودعها مكتوب فِي كِتابٍ مُبِينٍ و اللّوح المحفوظ الذي تظهر فيه جميع المقدّرات لمن ينظر إليه من الملائكة، و النّفوس المقدّسة.

في (نهج البلاغة) : «قسّم أرزاقهم، و أحصى آثارهم و أعمالهم، و عدد أنفاسهم، و خيانة أعينهم و ما تخفي صدورهم من الضّمير، و مستقرّهم و مستودعهم من الأرحام و الظّهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات» (3).

روي أنّ موسى عليه السّلام عند نزول الوحي إليه، تعلّق قلبه بأحوال أهله، فأمره اللّه تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة، فانشقّت و خرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقّت و خرجت صخرة ثالثة، ثمّ ضربها بعصاه فانشقّت و خرجت منها دودة كالذرّة، و في فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، و رفع الحجاب عن سمع موسى فسمع الدّودة تقول: سبحان من يراني، و يسمع كلامي، و يعرف مكاني، و يذكرني و لا ينساني (4).

سوره 11 (هود): آیه شماره 7

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة إحاطة علمه بجميع الموجودات؛ و هي قيموميّته عليها بقوله وَ هُوَ اللّه اَلَّذِي بقدرته خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ و ما بينهما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ قد مرّ تفسيره (5).

وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

ص: 294


1- . في النسخة: و ما يعيش بها.
2- . في النسخة: يكون مودعا. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:96.
3- . نهج البلاغة:123 الخطبة 90.
4- . تفسير الرازي 17:186.
5- . تقدّم في الآية (54) من سورة الأعراف، و الآية (3) من سورة يونس.

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته بقوله: وَ كانَ قبل خلقها عَرْشُهُ و سرير سلطنته؛ مع كونه أعظم الأشياء، مستقرّا عَلَى اَلْماءِ الذي لا يستقرّ عليه الثّقيل، و هو تعالى بقدرته التي لا حدّ لها أمسكه عليه بغير عمد.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «كان اللّه و لم يكن معه شيء، و كان (1)عرشه على الماء» (2).

أقول: في اقتران القضيّتين دلالة على أنّ المراد بالعرش و الماء غير معناهما الظّاهر، و إلاّ لنافت القضية الاولى.

و عن كعب الأحبار: خلق اللّه تعالى ياقوتة خضراء، فنظر إليها بالهيبة، فصارت ماء يرتعد من مخافة اللّه، ثمّ خلق الرّيح فجعل الماء على متنها، ثمّ وضع العرش على الماء (3).

القمّي رحمه اللّه: كان [ذلك]في مبدأ الخلق (4). [و كان عرشه على الماء و]الماء على الهواء، و الهواء لا يحدّ، و لم يكن يومئذ خلق غيرهما، و الماء عذب فرات (5).

أقول: يمكن أن يكون المراد من العرش: الوجود المنبسط الذي يعبّر عنه بنفس الرّحمن، و من الماء: علمه تعالى بعلاقة كونهما سبب حياة كلّ شيء.

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السّماوات و الأرضين؛ و لم يكن قبلهنّ سماوات و لا أرضون، أما تسمع لقوله تعالى: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ؟» (6).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ، فقال: «ما يقولون [في ذلك]؟» قيل: يقولون إنّ العرش كان على الماء، و الربّ فوقه. فقال: «كذبوا، من زعم هذا فقد صيّر اللّه محمولا و وصفه بصفة المخلوقين، و لزمه أنّ الشيء الذي يحمله أقوى منه» . ثمّ قال: «إنّ اللّه حمّل دينه و علمه الماء، قبل أن تكون سماء أو أرض، أو جنّ أو إنس، أو شمس أو قمر» (7).

أقول: يحتمل أن يكون علمه مبتدأ، و الماء خبره، و المعنى أنّ العرش دينه، و الماء علمه. و يمكن أن يكون المراد من الماء: الأئمّة المعصومين و أشباحهم، و المعنى: حمّل دينه و علمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياءه. و الحاصل أنّ هذه الرّوايات من المتشابهات التي يجب ردّ علمها إليهم عليهم السّلام.

ثمّ بيّن سبحانه حكمة الخلق بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ و يعامل معكم معاملة الممتحن لأحوالكم بعد

ص: 295


1- . في تفسير الرازي ثم كان.
2- . تفسير الرازي 17:188.
3- . تفسير الرازي 17:187.
4- . تفسير القمي 1:321، تفسير الصافي 2:432.
5- . تفسير القمي 2:69، تفسير الصافي 2:432.
6- . الكافي 1:200/2، تفسير الصافي 2:432.
7- . الكافي 1:103/7، التوحيد:319/1، تفسير الصافي 2:432.

خلق هذه الدّار، و إسكانكم فيها، و الإنعام عليكم بفنون النّعم، و تكليفكم و تعريضكم للثّواب و العقاب أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.

روي أنّ المعنى: تمتاز درجات أفرادكم في العلم و المعرفة و العقائد الحقّة، و تبين مراتب أعمالكم الجوانحيّة و الجوارحيّة؛ فيجازيكم حسب استحقاقكم.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، «يعني: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «ليس يعني أكثركم عملا، و لكن: أصوبكم عملا، و إنّما الإصابة خشية اللّه و النّيّة الصادقة» (2).

ثمّ لمّا كان لازم الابتلاء بالتّكاليف وجود عالم آخر للحساب و الجزاء، وبّخ المشركين على إنكاره بقوله: وَ لَئِنْ قُلْتَ يا محمّد للنّاس: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لجزاء أعمالكم، مستدلاّ على صحّة قولك بالقرآن النّاطق، الذي هو أعظم معجزاتك لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا منهم: إِنْ هذا القرآن إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ و شعبذة ظاهرة، أو ما قولك هذا إلاّ خديعة باطلة مثل السّحر الظّاهر. و قيل: إنّ وجه تعلّق الآية بما قبلها، أنّ البعث لمّا كان خلقا جديدا، كأنّه تعالى قال: هو الذي خلق جميع الموجودات ابتداء لهذه الحكمة، و مع ذلك إن أخبرتهم بأنّه تعالى يعيدكم تارة اخرى، يقولون ما يقولون، مع أنّ الإعادة أهون من الابتداء (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 8

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيبهم الرّسول، حكى استهزاءهم بوعده بالعذاب بقوله: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ الذي وعدتهم به إِلى أُمَّةٍ و طائفة من الأيام مَعْدُودَةٍ و قليلة. القمّي: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: يعني به الوقت (4). و قيل يعني: إلى انقراض جماعة قليلة من المتوعّدين بالعذاب (5)لَيَقُولُنَّ استهزاء بوعيدك ما ذا يَحْبِسُهُ و أيّ مانع يمنعه من النّزول علينا.

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ اَلْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب الموعود، و حان حينه لَيْسَ مَصْرُوفاً و مدفوعا عَنْهُمُ البتّة، بل وقع عليهم وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب. و إنّما أخبر بصيغة الماضي، تنبيها على تحقّق وقوعه، و مبالغة في التّهديد.

ص: 296


1- . تفسير روح البيان 4:100، تفسير الصافي 2:433.
2- . الكافي 2:13/4، تفسير الصافي 2:432.
3- . تفسير أبي السعود 4:188.
4- . تفسير القمي 1:323، تفسير الصافي 2:433.
5- . تفسير الرازي 17:189.

عن القمّي: يعني: إن متّعناهم في هذه الدّنيا إلى خروج القائم؛ فنردّهم و نعذّبهم لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أي يقولون: ألا يقوم القائم، ألا يخرج؟ على حدّ الاستهزاء (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الامّة المعدودة أصحاب القائم الثّلاثمائة و بضعة عشر» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو القائم و أصحابه» (3).

و عنه عليه السّلام: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ يعني عدّة كعدة بدر لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ قال: العذاب» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أصحاب القائم الثّلاثمائة و بضعة عشر رجلا، هم و اللّه الامّة المعدودة التي قال اللّه في كتابه» ، و تلا هذه الآية. الخبر (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 9 الی 10

ثمّ أنّه تعالى بعد الإخبار بتحتّم العذاب على المستهزئين، بيّن شدّة كفرهم في حال الشّدة و الرّخاء بقوله: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً و أعطيناه نعمة من صحّة وجدة و أمن و غيرها، بحيث يجد أقلّ قليل من لذّتها و طعم حلاوتها ثُمَّ نَزَعْناها و سلبناها مِنْهُ مع شدّة تعلّقه بها و حرصه عليها، بسبب عصيانه و شؤم نفسه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ من تلك النّعمة، و شديد القنوط من روحه، و منقطع الرّجاء من عود النّعمة إليه، لاعتقاده أنّ سبب النّعمة اتّفاقي، فإذا انعدم يبعد عوده، و هو حين وجوده كَفُورٌ لتلك النّعمة لا يؤدّي شكرها، لعدم اعتقاده أنّها من اللّه وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ من الصّحة و الرّاحة و الأمن و غيرها بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ و نقلناه من الشّدّة إلى الرّخاء لَيَقُولَنَّ غرورا بدوام تلك النّعم: ذَهَبَ اَلسَّيِّئاتُ و زال المصائب و المضارّ عَنِّي فلا تعود إليّ أبدا، إذن إِنَّهُ لَفَرِحٌ و بطر بتلك النّعم، و فَخُورٌ على النّاس بها، مشغول عن القيام بشكرها، لكون الدّنيا أكبر همّه، و الفوز بسعاداتها أعظم مطالبه.

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)و في التّعبير، عن نيل النّعم بالذّوق؛ الذي هو إدراك الطّعم، و عن الابتلاء بالضرّاء بالمسّ؛ الذي هو مبدأ الوصول، إشعار بأنّ ما يجده الإنسان في هذا العالم انموذج لما يجده في الآخرة. و في إضافة الأوّل إلى ذاته المقدّسة دون الثّاني، تنبيه على أنّ الخيرات بتفضّله، و الشّرور بسيّئات الأعمال.

ص: 297


1- . تفسير القمي 1:322، تفسير الصافي 2:433.
2- . تفسير القمي 1:323، تفسير الصافي 2:433.
3- . تفسير العياشي 2:301/1995، تفسير الصافي 2:433.
4- . تفسير العياشي 2:301/1993، تفسير الصافي 2:433.
5- . تفسير العياشي 2:301/1994، تفسير الصافي 2:433.

عن القمّي رحمه اللّه قال: إذا أغنى اللّه العبد ثمّ افتقر، أصابه الإياس و الجزع و الهلع (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ بيّن حال المؤمنين الصّابرين بقوله: إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا في البلايا و الشّدائد وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ عند النّعمة و الرّاحة شكرا أُولئِكَ الصّابرون الشّاكرون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ للذّنوب، و نجاة من الشّدائد الاخرويّة وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ و ثواب عظيم، و النّعم الدّائمة بما صبروا في الدّنيا على البلايا، و شكروا للنّعم.

إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)ثمّ لمّا كان المشركون يكذّبون القرآن و يستهزئون به، بحيث كان يضيق صدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يبلّغ إليهم ما لا يقبلونه و يضحكون منه، هيجه اللّه سبحانه لأداء الرّسالة، و عدم المبالاة باستهزائهم به بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ للقيام بوظيفة الرّسالة، و يتوقّع منك أن لا تبلّغ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ من الآيات الدالّة على صدق نبوّتك، المنادية بأنّها من عند اللّه، أو ممّا يخالف رأي المشركين كإبطال مذهبهم، و ذمّ آلهتهم و سبّها، و إلزامهم بترك تقليد آبائهم وَ ضائِقٌ بتبليغه قلبك، و عارض لك بِهِ من الغمّ ما لا يسعه صَدْرُكَ مع أنّك أفسح النّاس صدرا، و أصبرهم في جنب اللّه، و كان ذلك لأجل أَنْ يَقُولُوا تكذيبا لك و استهزاء بك لَوْ لا أُنْزِلَ إليه، و هلاّ القي عَلَيْهِ من السّماء كَنْزٌ و مال وافر ينفقه في اموره و استتباع النّاس له كالملوك، و يستدلّ به على صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ من الملائكة يصدّقه في دعوى رسالته، و يعينه على عدوّه.

قيل: إن القائل عبد اللّه بن اميّة المخزومي (2).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ رؤساء مكّة قالوا: يا محمّد، اجعل لنا جبال مكّة ذهبا إن كنت رسولا. و قال آخرون: آتينا بالملائكة حتّى يشهدوا على نبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك. فنزلت (3)، فردّهم اللّه بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ و مأمور من قبل ربّك لوعظ النّاس، و تخويفهم من الشّرك و العصيان، بتلاوة ما اوحي إليك من القرآن عليهم، غير مبال بتكذيبهم و ردّهم وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أحوالهم و أعمالهم و أقوالهم وَكِيلٌ و حفيظ؛ فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء، فتسلّ و لا يضيق صدرك.

ص: 298


1- . تفسير القمي 1:323، تفسير الصافي 2:434.
2- . تفسير أبي السعود 4:191.
3- . تفسير الرازي 17:192، تفسير أبي السعود 4:191.

عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نزل قديدا (1)قال لعليّ عليه السّلام: إنّي سألت ربّي أن يوالي بيني و بينك ففعل، و سألت ربّي أن يؤاخي بيني و بينك ففعل، و سألت ربّي أن يجعلك وصيّي ففعل. فقال رجلان من قريش: و اللّه لصاع [من]تمر في شنّ (2)بال أحبّ إلينا ممّا سأل محمّد ربّه، فهلاّ سأل ربّه ملكا يعضده على عدوّه، أو كنزا يستغني به عن فاقته، و اللّه ما دعاه إلى حقّ أو باطل إلاّ أجابه إليه. فأنزل اللّه إليه فَلَعَلَّكَ تارِكٌ. . . الآية» (3).

و زاد العيّاشي: «و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام في آخر صلاته رافعا بها صوته: اللّهم هب لعليّ المودّة في صدور المؤمنين، و الهيبة و العظمة في صدور المنافقين. فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا (4)فقال رمع: و اللّه لصاع [من]تمر في شنّ بال أحبّ إليّ ممّا سأل محمّد ربّه، أ فلا سأل ربّه ملكا يعضده، أو كنزا يستظهر به على فاقته. فأنزل فيه عشر آيات من هود أوّلها: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ الآية» (5).

عن العيّاشي: عن زيد بن أرقم، قال: إنّ جبرئيل الرّوح الأمين نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عشيّة عرفة، فضاق بذاك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مخافة تكذيب أهل الإفك و النّفاق، فدعا قوما أنا منهم، فاستشارهم في ذلك ليقوم به في الموسم، فلم ندر ما نقول له، و بكى فقال له جبرئيل: يا محمّد، أجزعت من أمر اللّه؟ فقال: «كلا يا جبرئيل، و لكن قد علم ربّي ما لقيت من قريش إذ لم يقرّوا لي بالرّسالة حتّى أمرني بجهادهم، و أهبط إليّ جنودا من السّماء فنصروني، فكيف يقرّون لعليّ بعدي؟» فانصرف عنه جبرئيل، فنزل عليه فَلَعَلَّكَ تارِكٌ الآية (6).

[سوره 11 (هود): آیه شماره 13]

ثمّ ضرب سبحانه عن ذكر عدم اعتنائهم بالوحي، و تهاؤنهم به، و اقتراحهم عليه، و ذكر ما هو أشدّ قبحا و هو نسبة القرآن إلى الافتراء بقوله: أَمْ يَقُولُونَ، قيل المعنى: بل أيقولون (7)في شأن القرآن عنادا و لجاجا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اِفْتَراهُ و نسبه كذبا إلى اللّه، مع أنّه ليس منه قُلْ يا محمّد في

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)

ص: 299


1- . قديد: اسم موضع قرب مكّة.
2- . الشّنّ: القربة الصغيرة يوضع فيها الماء ليبرد.
3- . الكافي 8:378/572، تفسير الصافي 2:434.
4- . مريم:19/96.
5- . تفسير العياشي 2:302/1997، تفسير الصافي 2:435.
6- . تفسير العياشي 2:301/1996، تفسير الصافي 2:435.
7- . تفسير أبي السعود 4:191، تفسير روح البيان 4:105.

جوابهم تعجيزا لهم: إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا أنتم أيضا؛ مع كونكم مهرة فنّ الكلام، و حذقة صناعة الفصاحة و البلاغة، ممارسين الخطب و الأشعار، مزاولين أساليب النّظم و النّثر، مطّلعين على الوقائع و الأيّام بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الفصاحة و البلاغة، و الحلاوة و حسن النّظم مُفْتَرَياتٍ و مختلقات من عند أنفسكم وَ اُدْعُوا للاستظهار في المعارضة، و ترتيب السّور المختلقة مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ دعاءه و الاستعانة به من آلهتكم التي تستمدّون بها في اموركم، و الكهنة الذين تلتجئون إليهم في مهمّاتكم، و كلّ من ترجون منه مساعدتكم، حال كونكم مِنْ دُونِ اَللّهِ و منحازين عنه تعالى، لأنّه القادر على ذلك دون غيره إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى أنّي افتريته، فإنّ ذلك يستلزم أن يقدر غيري من البشر على إتيان مثل هذا القرآن، و لا أقلّ من سور قليلة منه.

[سوره 11 (هود): آیه شماره 14]

ثمّ خاطب سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله بصيغة الجمع تعظيما له، أو إيّاه مع المؤمنين بقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا هؤلاء الكفّار المكذّبون لَكُمْ و لم يقدروا على إتيان ما سألتموه منهم، مع شدّة حرصهم على إبطال قولكم، و إظهار افترائكم، و تبيّن عجزهم عن المعارضة، و لو مع الاستعانة بغيرهم من الإنس و الجنّ فَاعْلَمُوا أنّ إتيان مثله خارج عن طوق البشر و غيره من المخلوقين، و أَنَّما أُنْزِلَ من القرآن انزل بِعِلْمِ اَللّهِ و قدرته الكاملة خاصّة من دون دخل غيره فيه. و اثبتوا على الإيمان به.

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)و في التّعبير عن الإتيان بالمثل بالاستجابة إشعار بل دلالة على أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بل و المؤمنين يأمرونهم بالإتيان بمثله، و دعوهم إليه مع إرادتهم منهم وقوعه، مع علمهم بعجزهم منه.

ثمّ لمّا ثبت كون القرآن النّاطق بالتّوحيد و بطلان الشّرك، نازلا من عند اللّه، ثبت أنّ الشّرك فاسد وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وحده فَهَلْ أَنْتُمْ أيّها المؤمنون بعد وضوح صحّة مذهب التّوحيد، و صدق النبيّ في دعوى النبوّة، و صدق كتابه مُسْلِمُونَ عن صميم القلب، مخلصون في الإيمان.

و قيل: إنّ ضمائر الجمع في الآية كلّها راجع إلى المشركين، و المعنى: إن لم يستجب لكم آلهتكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيّها المشركون أنّ هذا القرآن أنّما انزل بعلم اللّه، فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد لزوم الحجّة عليكم، أم تصرّون على الشّرك و الكفر عنادا و لجاجا؟

سوره 11 (هود): آیه شماره 15 الی 16

ص: 300

ثمّ لمّا كان غرض الكفّار-من معارضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تكذيب القرآن، و اقتراحهم عليه بجعل جبال مكّة ذهبا، و تعييره بعدم نزول كنز عليه-طلب الدّنيا و حبّ زخارفها، لا طلب الحقّ و الآخرة، هدّدهم بغاية الخسران، و عذاب النّيران في الآخرة بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ و يطلب اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها و زخارفها بأعماله الخيريّة نُوَفِّ إِلَيْهِمْ و نعطهم كاملا ما يساوي أَعْمالَهُمْ من الأجر الدّنيوي فِيها لأنّ هممهم مقصورة على تحصيل الدنيا وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ و لا ينقصون شيئا من اجورهم، بحيث إذا خرجوا منها لم يكن معهم أثرها، حتّى لا يستحقّون شيئا من الثّواب الموعود عليها في الآخرة أُولئِكَ الطّالبون للدنيا هم اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّارُ لعدم لياقتهم إلاّ لها وَ حَبِطَ و فسد ما صَنَعُوا فِيها من الأعمال الصّالحة، لعدم كونها لوجه اللّه وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ رياء و سمعة، لعدم صلوحه في نفسه لترتيب الأجر عليه.

مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)

سوره 11 (هود): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة و غاية خسرانهم، وضعة محلّهم، بيّن حسن حال النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، و رفعة مقامهم، بإنكار التّساوي بينهما بقوله: أَ فَمَنْ كانَ قادرا و مستوليا عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة كائنة مِنْ رَبِّهِ على صحّة دينه، و برهان على كلّ حقّ و صواب، و يتبع ذلك البرهان وَ يَتْلُوهُ أو يتبع ذلك الذي كان على بيّنة شاهِدٌ و مصدّق مِنْهُ يشهد له على صدقه وَ مِنْ قَبْلِهِ تشهد له التّوراة التي هي كِتابُ مُوسى حال كونه إِماماً و تبعا وَ رَحْمَةً و نعمة للنّاس، كمن يريد الكفر و الضّلال طلبا للدّنيا و زينتها، لا يكون ذلك أبدا، فكيف و بينهما بون بعيد؟

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزابِ فَالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)و قيل: إنّ وجه النّظم بين الآيتين و سابقتهما، أنّه لمّا أمر اللّه المؤمنين بأن يزدادوا يقينا بنزول القرآن بعلم اللّه، بعد ظهور عجز البشر عن الإتيان بمثله، و بيّن أنّ الكفّار لا حظّ لهم في الآخرة، كان مجال توهّم الحظّ لهم فيها بسبب الأعمال الخيريّة، دفع اللّه ذلك التوهّم بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْحَياةَ

ص: 301

اَلدُّنْيا. . . الآية (1)، ثمّ عاد سبحانه إلى التّرغيب في الايمان بالقرآن و التّوحيد و الإسلام بقوله: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.

ثمّ أنّه قد كثر الاختلاف بين مفسّري العامّة في المراد من الآية، فمنهم من قال: إنّ المراد من من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ هو النبيّ، و من البينة هو القرآن، و من التلاوة قراءة القرآن، و من الشاهد جبرئيل (2)، و قيل: لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (3)، و قيل: معجزاته (2)، و قيل: هو أمير المؤمنين عليه السّلام؛ كما نقله الفخر الرازي، و قال: المراد بكلمة (منه) تشريف الشّاهد بأنّه بعض [من]محمّد صلّى اللّه عليه و آله (3)، فيكون حاصل المراد: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على بيّنة عظيمة على نبوّته، و صحّة دينه و هي القرآن، و يتلوه و يقرأه أمير المؤمنين عليه السّلام الذي هو جزء من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بمنزلة نفسه.

و روى العلاّمة في (نهج الحق) ، عن الجمهور: أنّ من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الشاهد عليّ عليه السّلام (4).

و قال القاضي في (إحقاق الحق) ، بعد نقل إنكار فضل بن روزبهان الناصبي كونه من تفاسير أهل السنة: إنّ ما نسب المصنّف روايته إلى الجمهور، قد رواه ابن جرير الطّبري، و ذكره الثّعلبي، و كذا الحافظ أبو نعيم بثلاثة طرق عن عبد اللّه بن عبد اللّه الأسدي، و الفلكي المفسّر عن مجاهد و عن عبد اللّه بن شدّاد، و غيرهم من قدماء أهل السّنة، و من المتأخّرين فخر الدّين الرازي، ثمّ نقل عبارة الفخر التي ملخصها ما ذكرنا.

ثمّ قال القاضي: و لا ريب أنّ شاهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على امّته يكون أعدل الخلائق سيّما إذا تشرّف بكونه بعضا منه صلّى اللّه عليه و آله كما ذكر الرّازي، فكيف يتقدّم عليه غيره؛ مع كون ذلك الشّاهد من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ (من) هاهنا لتبيين الجنس، فيؤذن بأنّ عليّ بن أبي طالب من جنس الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فيه بيان لكون عليّ عليه السّلام تالي الرّسول من غير فصل بينهما بتال آخر، فمن جعله تاليا بعد ثلاثة فعليه الدّلالة، لأنّ التالي هو من يلي غيره على أثره من غير فصل بينهما (5).

أقول: الظّاهر أن (من) للتّبعيض-كما ذكره الفخر-و دلالته على فضل أمير المؤمنين عليه السّلام أقوى من كون (من) لتبيين الجنس، و كون عليّ عليه السّلام بعضا من الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لكونه نفسه، كما دلّت عليه آية المباهلة، فما دام كون نفس النبيّ-التي هي بعض مجموع من نفسه و بدنه-موجودا بين النّاس، كان

ص: 302


1- . تفسير أبي السعود 4:194. (2 و 3) . تفسير الرازي 17:201.
2- . تفسير أبي السعود 4:195.
3- . تفسير الرازي 17:201.
4- . نهج الحق:195.
5- . إحقاق الحق 3:357 و 358.

النبي موجودا بينهم، فلا معنى لرجوع النّاس إلى غيره.

و لو قلنا أنّ (يتلوه) مأخوذ من تلاوة القرآن و قراءته-كما ذكره الفخر-فمعناه أنّه كالرّسول و بمنزلته في تبليغ كتاب اللّه إلى الامّة، فيكون مفاده مفاد قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» .

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما من رجل من قريش إلاّ و قد انزلت فيه آية أو آيتان من كتاب اللّه. فقال رجل من القوم: فما نزل فيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أما تقرأ الآية التي هي في هود أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ محمّد على بيّنة من ربّه، و أنا الشّاهد» (1).

و في (الأمالي) : «و أنا الشّاهد، و أنا منه» (2).

و في (البصائر) : «و أنا الشّاهد له فيه، و أنا أتلوه معه» (3).

و في (الاحتجاج) ، أنّه سئل عن أفضل منقبة له، فتلا هذه الآية و قال: «أنا الشّاهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (4).

و فيه، في حديث: قال له بعض الزّنادقة: و أجد اللّه يخبر أنّه يتلو نبيّه شاهد منه، و كان الذي تلاه عبدة الأصنام برهة من دهره. فقال: «و أمّا قوله: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فذلك حجّة اللّه، أقامها اللّه على خلقه، و عرّفهم أنّه لا يستحقّ مجلس النبيّ إلاّ من يقوم مقامه، و لا يتلوه إلاّ من يكون في الطّهارة مثله و بمنزلته، لئلاّ يتّسع من مسّه رجس الكفر في وقت من الأوقات، انتحال الاستحقاق لمقام الرّسول» . الخبر (5).

و عن الكاظم و الرضا عليهما السّلام: أمير المؤمنين؛ الشّاهد على رسول اللّه، و رسول اللّه على بيّنة من ربّه» (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما انزل أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إماما و رحمة وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى» (7).

أقول: هذه الرّواية محمولة على أنّ قوله: إِماماً وَ رَحْمَةً حالان للشّاهد، لوضوح عدم التّحريف في الكتاب المجيد.

ص: 303


1- . تفسير العياشي 2:303/1999، تفسير الصافي 2:437.
2- . أمالي الطوسي:372/800، تفسير الصافي 2:437.
3- . بصائر الدرجات:153/2، تفسير الصافي 2:437.
4- . الاحتجاج:159، تفسير الصافي 2:437.
5- . الاحتجاج:245 و 251، تفسير الصافي 2:438.
6- . الكافي 1:147/3 عن أبي الحسن عليه السّلام، تفسير الصافي 2:437.
7- . تفسير القمي 1:324، تفسير الصافي 2:437.

و قيل: إنّ المراد من من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من (البينة) القرآن، و من (الشاهد) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (1).

و قيل: إنّ الشّاهد اشتمال القرآن على أعلى مرتبة الفصاحة و البلاغة، بحيث لا يقدر البشر على إتيان مثله (2).

عن الحسين بن عليّ عليه السّلام: «الشّاهد من اللّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (1).

و قيل: إنّ المراد من من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مؤمنو9 أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه (2)، و استشهدوا له بقوله: أُولئِكَ المؤمنون بكونهم على بيّنة على الدّين الحقّ من مذهب التّوحيد و الإسلام يُؤْمِنُونَ بِهِ حقّ الايمان، لتوافق البرهان و نصّ القرآن المشتمل على إعجاز البيان، و دلالة توراة موسى بن عمران على صحّته، و صدق النبيّ الجائي به، و لذا بلغ في القوة و الظّهور إلى ما لا مزيد عليه.

ثمّ هدّد سبحانه الكافرين بالقرآن بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ و يجحده مِنَ اَلْأَحْزابِ و القبائل من أهل مكّة، الذين تحزّبوا و اجتمعوا على إبطال الحقّ و إطفاء نور الرّسول، أو المراد حزب أهل الكتاب، و حزب المشركين، و حزب المنافقين فَالنّارُ مَوْعِدُهُ يوم القيامة حسبما وعدهم اللّه بقوله: لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّارُ.

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد صدق القرآن، أو صدق الوعيد المذكور بقوله: فَلا تَكُ يا محمّد، أو يا إنسان فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْهُ بعد ظهور صدقه، و كونه من عند اللّه بالشّواهد المذكورة، أو بعد وضوح كون الكافرين بالقرآن من أعداء اللّه، و من المتوعّدين بالنّار. و عن الصادق عليه السّلام: «فِي مِرْيَةٍ من ولاية عليّ عليه السّلام» (3)إِنَّهُ اَلْحَقُّ الثّابت مِنْ رَبِّكَ اللّطيف بك وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لقصور عقلهم و نظرهم، أو لعنادهم و لجاجهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 18

ثمّ قيل: إنّ بعض الكفّار كانوا شديدي الحرص على الدّنيا، فردّهم اللّه بقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا الآية، و بعضهم كانوا قادحين في معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فردّهم اللّه بقوله: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ اَلْأَشْهادُ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ (18)

ص: 304


1- . مجمع البيان 5:226، تفسير الصافي 2:438.
2- . تفسير الرازي 17:201.
3- . تفسير العياشي 2:303/1997.

مِنْ رَبِّهِ، و بعضهم كانوا مفترين على اللّه بالقول بشفاعة الأصنام، فردّهم اللّه بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ على اللّه، و على نفسه مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً بقوله: هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند اللّه. لا و اللّه، لا يكون أحد أظلم منه، لأنّ الشّرك ظلم عظيم (1).

ثمّ هدّدهم اللّه بقوله: أُولئِكَ الظّالمون يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ و يحضرون عنده وَ يَقُولُ أهل الموقف، أو الملائكة الحفظة، أو الأنبياء، أو الأئمّة الّذين هم اَلْأَشْهادُ على النّاس يوم القيامة تفضيحا لهم: هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ اللّطيف بهم، المحسن بنعمه عليهم، المالك لنواصيهم بقولهم: الأصنام شركاء اللّه في الالوهيّة، و شفعاؤنا عنده أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ و غضبه و عذابه عَلَى هؤلاء اَلظّالِمِينَ على اللّه بالافتراء عليه، و على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

روي أنّ اللّه تعالى يدني المؤمن يوم القيامة، فيستره من النّاس فيقول: أي عبدي، أتعرف ذنب كذا و كذا؟ فيقول: نعم يا ربّ. فإذا أقرّه بذنوبه قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا، و قد غفرتها لك اليوم، ثمّ يعطى كتاب حسناته. و أمّا الكفّار و المنافقون، فيقول الأشهاد: هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ يفضحونهم بما كانوا عليه في الدّنيا و يبيّنون أنّهم ملعونون عند اللّه بسبب ظلمهم (2).

القمّي: يعني بالأشهاد الأئمّة عليهم السّلام أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ آل محمّد حقّهم (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 19

ثمّ ذمّهم سبحانه بأسوأ أعمالهم بقوله: اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ و يمنعون النّاس بشبهاتهم عَنْ الدّخول في سَبِيلِ اَللّهِ و دين الحقّ و قبوله وَ يَبْغُونَها و يطلبون لها عِوَجاً و انحرافا، بأن يصفوها بالبعد عن الحقّ، أو يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها بتعويج دلائلها المستقيمة.

اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)القمّي: يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ عن طريق اللّه؛ و هي الإمامة يَبْغُونَها عِوَجاً حرّفوها إلى غيرها (4).

وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ بالخصوص كافِرُونَ ليس كفر غيرهم في جنب كفرهم بشيء.

سوره 11 (هود): آیه شماره 20

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20)

ص: 305


1- . تفسير الرازي 17:203-204.
2- . تفسير روح البيان 4:112.
3- . تفسير القمي 1:325، تفسير الصافي 2:439.
4- . تفسير القمي 1:325، تفسير الصافي 2:439.

سوره 11 (هود): آیه شماره 20 الی 21

ثمّ عاد إلى تهديدهم بقوله: أُولئِكَ الملعونون لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ اللّه و مانعيه من تنفيذ إرادته فِي اَلْأَرْضِ بالهرب منه و المدافعة عن عذابه وَ ما كانَ لَهُمْ يوم القيامة مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سوا بعضا مِنْ أَوْلِياءَ و أنصار ينجونهم من العذاب بالقهر، فلا حيلة لهم في الخلاص منه، بل هم لكفرهم بالمبدأ و المعاد، و جمعهم بين ضلال أنفسهم و إضلال غيرهم يُضاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذابُ و قيل: تضعيف العذاب حكمة تأخيره عنهم (1).

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21)ثمّ بيّن سبحانه علّة شدّة كفرهم و تماديهم في الضّلالة بقوله: و ما كانُوا لفرط تصاممهم عن الحقّ، و امتناعهم عن الإذعان بالقرآن الذي طريق تلقّيه السّمع يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ و الإصغاء إليه وَ ما كانُوا لشدّة بغضهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يُبْصِرُونَ معجزاته أُولئِكَ اَلَّذِينَ اشتروا الضّلالة بالهدى، و عبادة الأصنام بعبادة اللّه، و العذاب بالمغفرة، فلذا خَسِرُوا و أضرّوا أَنْفُسَهُمْ غاية الخسران، و أشدّ الضّرر وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ في ذلك اليوم ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة و شفاعتها.

و عن القمّي: بطل الذين دعوا [غير]أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

سوره 11 (هود): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ بالغ سبحانه في الإعلام بغاية خسرانهم بقوله: لا جَرَمَ و لا بدّ، أو لا شكّ، أو حقّا أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ بحيث لا يدانيهم أحد في الخسران.

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23)ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة و غاية خسرانهم، بيّن حسن حال المؤمنين و كثرة ربحهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا و أطمأنّوا إِلى رَبِّهِمْ و رحمته، أو خضعوا له أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ و ملازموها، و هُمْ فِيها خالِدُونَ و مقيمون أبدا لا يخافون الخروج منها.

[سوره 11 (هود): آیه شماره 24]

مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (24)

ص: 306


1- . تفسير أبي السعود 4:197.
2- . تفسير القمي 1:325، تفسير الصافي 2:439.

ثمّ أوضح سبحانه سوء حال الكفّار و حسن حال المؤمنين، بضرب المثل بقوله: مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ فريق الكفّار و فريق المؤمنين و حالهم العجيبة، ببيان أوضح: أنّ فريق الكفّار كَالْأَعْمى وَ اَلْأَصَمِّ الذي يكون متحيّرا في جميع اموره، لا يهتدي إلى شيء من مصالحه و منافعه وَ فريق المؤمنين مثل اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ الذي يهتدي إلى كلّ خير هَلْ الفريقان يَسْتَوِيانِ مَثَلاً و حالا؟ كلاّ، لوضوح أنّ الأوّل يتخبّط في المسالك و يقع في المهالك، و الثاني يمشي مطمئنّا و يهتدي إلى جميع مطالبه إلى أقطار الأرض أَ فَلا تَذَكَّرُونَ؟ قيل: إنّ التقدير: أتعقلون عن هذا التّفاوت بينهما، فلا تذكّرون؟ أو فلا تتألّمون في هذا المثل، مع أنّ العاقل لا ينبغي له الغفلة و عدم التذكّر. و في المثل تقرير لعدم التّساوي بين من كان على بيّنة، و غيره (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 25 الی 28

في بيان كيفية دعوة

نوح و معارضته

قومه

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب الاخروي، ذكر قصّة نوح و هلاك قومه، عبرة و تهديدا لهم بالعذاب الدّنيوي، و تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فقال: يا قوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ و مخوّف بالعذاب على الشّرك و الطّغيان مُبِينٌ لإنذاري أكمل بيان، و موضّح له أوضح تبيان.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ اَلرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)و قيل يعني: مبين ما أعدّ اللّه للمطيعين من الثّواب (2).

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة إنذاره، و ما أنذر به بقوله: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ و لا تشركوا به شيئا إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن خالفتموني عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ من جهة ما يقع فيه من العذاب فَقالَ اَلْمَلَأُ و الأشراف اَلَّذِينَ كَفَرُوا و كانوا مِنْ قَوْمِهِ في جوابه، تماديا في الكفر، و عنادا للحقّ: ما نَراكَ يا نوح إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا تأكل و تنام و تمشي وَ ما نَراكَ اِتَّبَعَكَ و آمن بك إِلاّ الصعاليك اَلَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا و أدانينا بادِيَ اَلرَّأْيِ و ظاهر الأنظار من غير تعمّق، أو بلا حاجة إليه لوضوحه، فلا عبرة باتّباعهم لك، لأنّهم ليسوا بذوي عقل رزين، و رأي أصيل وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا

ص: 307


1- . تفسير أبي السعود 1:199.
2- . تفسير الرازي 17:210.

مِنْ فَضْلٍ و مزيّة من حيث العقل و الشّرف و المال، توجب اختصاصكم بالنبوّة، و القرب من اللّه بَلْ نَظُنُّكُمْ جميعا كاذِبِينَ في دعوى التّوحيد و النبوّة.

قالَ لهم نوح بلطف و لين: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني عن عقل و إنصاف إِنْ كُنْتُ في دعوى نبوّتي عَلى بَيِّنَةٍ عظيمة، و حجّة واضحة من كمال العلم و المعرفة، و المعجزة الباهرة مِنْ رَبِّي و مليكي الذي أرسلني إليكم وَ آتانِي رَحْمَةً عظيمة، و نعمة جسيمة مِنْ عِنْدِهِ و بلطفه و قدرته، من النبوّة و المعجزة فَعُمِّيَتْ و اشتبهت حقيقة الأمر عَلَيْكُمْ لسوء أخلاقكم، و تقولون إنّه لم تظهر عندكم نبوّتي أَ نُلْزِمُكُمُوها و نجبركم على قبولها و الاهتداء بها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ و عنها معرضون، لعدم إقبال قلوبكم إليها، و عدم تأمّلكم فيها.

و حاصل الجواب: أخبروني إن كانت لي حجّة ظاهرة، و أنتم لا تسلّمون لها لخفائها عنكم، بسبب حسدكم و عنادكم، هل نقدر على إلزامكم بقبولها، مع عدم نظركم إليها، و عدم تأمّلكم فيها، و إعراضكم عنها؟ كلا، لا نقدر على ذلك. و فيه إظهار غاية تمرّدهم، و اليأس عن إيمانهم.

و قيل: إنّ المقصود صرفهم عن الإعراض، و حثّهم على التدبّر في حججه و معجزاته (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 29

ثمّ لمّا كان من موجبات الإعراض أو توهّم الكذب توهّمهم طمعه في أموالهم، أعلمهم ببراءته عن الطّمع في أموالهم بقوله: وَ يا قَوْمِ إن كان سبب إعراضكم عنّي، و تكذيبكم قولي توهّم طمعي في أموالكم، فاعلموا أنّي مأمور من قبل ربّي بتبليغ دينه، و لذا لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً و إن كان يسيرا؛ لأنّ عملي ليس لكم حتّى استحقّ عليكم أجره إِنْ أَجرِيَ و ما جزاء عملي على أحد إِلاّ عَلَى اَللّهِ لأنّي عامل له، فلا تحرموا أنفسكم عن السّعادة في الدّارين، باحتمال طمعي في أموالكم، و تضرّركم بسبب قبول قولي و الإيمان بي، و أمّا اعتراضكم بأن أتباعي الفقراء و أداني النّاس، فلا وقع له، لأنّي رسول اللّه إلى النّاس، و إنّما غرضي هدايتهم، و لذا لا يتفاوت في نظري كون المهتدي غنيا أو فقيرا، شريفا أو وضيعا وَ ما أَنَا بِطارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته من مجلسي و من حولي، و إن كانوا أفقر خلق اللّه و أرذلهم، حيث إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ يوم القيامة، فيشكون إليه طاردهم و يخاصمونه.

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اَللّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)

ص: 308


1- . تفسير أبي السعود 4:201.

أو المراد: كيف أطردهم، مع أنّهم أعظم الناس قدرا، و أعلاهم منزلة؟ لأنّهم ملاقو ربّهم، و الفائزون بقرب مليكهم، بسبب إيمانهم و حسن عملهم. ثمّ أنتم ترون أنفسكم أعقل و أعلم منّي و منهم وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ بالواقعيّات، و ما وراء المحسوسات، و عواقب الامور، و تغترّن بالظّواهر لقصور نظركم، و عدم تدبّركم، و لذا تدّعون أنهم أرذل النّاس و تسألون طردهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 30 الی 31

ثمّ بالغ في الاعتذار عن عدم طردهم بقوله: وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي و ينجيني مَنْ عذاب اَللّهِ و يدفع عنّي عقابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ و أبعدتهم من حولي، مع أنّي مأمور بتقريبهم و إكرامهم؟ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أنّ هذا أبلغ الإعذار في ترك طردهم؟

وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ وَ لا أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللّهُ خَيْراً اَللّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (31)ثمّ لمّا كان في قوله: لا أَسْئَلُكُمْ إيهام بغناه المطلق، و في دعوى رسالته إيهام بكونه ملكا في اعتقاد القائلين بأنّه بشر، و في قوله: إني أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ إيهام بكونه عالما بالبواطن و المغيّبات، و في قوله: ما أَنَا بِطارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إيهام بكونه عالما بما في أنفسهم من الخلوص في الإيمان، و كلّ ذلك كان موردا لتكذيبهم؛ لغاية استبعاده في نظرهم، دفع جميع التوهّمات بقوله: وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اَللّهِ و بيدي مفاتيح كنوزه، ولي الغنى المطلق، حتّى تجحدوا ذلك و تقولوا: ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، فإنّ النبوّة لا تنال بالمال و الجاه وَ لا أقول: إنّي أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ حتّى تستبعدوه منّي وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ من الملائكة، حتّى تكذّبوني و تقولوا: ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ، فإنّ البشريّة من مبادئ النبوّة لا من موانعها وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ و تسترذلوهم في أنظاركم: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللّهُ خَيْراً كما تقولون ذلك في شأنهم، أو آتاهم جميع الخيرات بخلوص إيمانهم. و إنّما أنظر أنا بظاهر حالهم و مقالهم، و اَللّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الخلوص و النّفاق إِنِّي إِذاً و اللّه لَمِنَ اَلظّالِمِينَ على نفسي بادّعاء ما ليس لي، و على المؤمنين بطردهم و تحقيرهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 32 الی 33

ص: 309

فلمّا ردّ نوح شبههم، و ألزمهم بالحجج و البيّنات الواضحة، ضاقت عليهم الحيل و قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا و خاصمتنا في إثبات نبوّتك فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا و أطلته حتّى مللتنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب العاجل، عى ترك إيماننا بك، و بما ادّعيت من التّوحيد إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعوى نبوّتك و وعيدك، فإنّ مواعظك و مناظرتك لا تؤثّر فينا قالَ نوح: أنا لا أقدر على إتيان العذاب، بل إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّهُ القادر على كلّ شيء إِنْ شاءَ إتيانه عاجلا أو آجلا وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له و مانعيه من تعذيبكم بالهرب و الدّفاع.

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)

سوره 11 (هود): آیه شماره 34

ثمّ نبّههم بكونه ناصحا لهم لا مجادلا، و أظهر يأسه عن إيمانهم متأسّفا عليهم بقوله: وَ لا يَنْفَعُكُمْ و لا يؤثّر فيكم نُصْحِي و موعظتي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ و أرشدكم بما فيه خيركم، و أزجركم عمّا فيه ضرّكم و شرّكم، لا تسمعوا قولي، و لا تعتنوا إلى نصحى إِنْ كانَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ و يضلّكم عن صراط الحقّ لخبث طينتكم و سوء اختياركم و إعمالكم له ذلك، إذ هُوَ رَبُّكُمْ و مالك أمركم، العالم بطينتكم و سوء أخلاقكم و أعمالكم، حيث إنّه خلقكم أوّلا، و ربّاكم في مدّة عمركم وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ آخرا؛ فيجازيكم بما تستحقّون.

وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)عن الرضا عليه السّلام: «يعني: الأمر إلى اللّه يهدي من يشاء» (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 35

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية محاجّة نوح مع قومه-التي [هي]من الأخبار الغيبيّة بالنّسبة إلى النبيّ الامّي، و الدّلائل الواضحة على صدق القرآن-وبّخ المشركين بنسبة الافتراء إليه بقوله: أَمْ يَقُولُونَ هؤلاء المشركون في شأن القرآن العظيم: إنّ محمّدا اِفْتَراهُ و اختلقه من عند نفسه قُلْ يا محمّد لهؤلاء المعاندين المصرّين على الكفر و اللّجاج: إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ كما تقولون فَعَلَيَّ إِجْرامِي و عقوبة ذنبي، و إن كنت صادقا في نسبة القرآن إلى ربّي؛ و أنتم تكذّبوني، فعليكم عقاب ذنبكم و وبال جرمكم وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ من إسناد الافتراء إليّ، فلا وجه لمعاداتكم لي.

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ (35)و قيل: هذه الآية تتمّة قول نوح، و الضّمير المنصوب في اِفْتَرَيْتُهُ راجع إلى الوحي الذي ادّعاه (2).

ص: 310


1- . تفسير العياشي 2:304/2002، و فيه: يهدي و يضلّ، تفسير الصافي 2:442.
2- . تفسير الرازي 17/220.

سوره 11 (هود): آیه شماره 36

ثمّ لمّا كان يئس نوح عليه السّلام من إيمان معارضيه دون غيرهم من الكفّار و من في أصلابهم، أخبره سبحانه بعدم إيمان الموجودين في عصره، و لا من في أصلابهم أبدا بقوله: وَ أُوحِيَ من قبل اللّه إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ و من في أصلابهم أحد أبدا إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ بك، فلا تحتمل في حقّهم و في حقّ نسلهم الإيمان، ثمّ أنّهم إن عصوك و كذّبوك فَلا تَبْتَئِسْ و لا تحزن بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من العصيان و الإيذاء، و بما كانوا يرتكبون من التّكذيب و الاستهزاء، لأنّه قد انتهت مدّة إمهالهم، و قربت ساعة مجازاتهم.

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ نوحا [كان]إذا جادل قومه ضربوه حتّى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللّهمّ اهد قومي فانّهم لا يعلمون» (1).

قيل: لمّا جاء هذا الوحي، دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ. . . الآية (2).

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لبث فى قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاما، يدعوهم سرّا و علانية، فلمّا أبوا و عتوا قال: رب أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فأوحى اللّه تعالى إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ. . . الآية. فلذلك قال نوح: وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً (3). الخبر (4).

سوره 11 (هود): آیه شماره 37 الی 38

ثمّ أمره اللّه بصنع الفلك بقوله: وَ اِصْنَعِ يا نوح اَلْفُلْكَ حال كونك محفوظا بِأَعْيُنِنا و حفظنا إيّاك من أن يمنعك الكفّار من صنعه، أو من الخطأ فيه، أو بحفظ الملائكة المؤيّدين لك الموكّلين بحفظك و إعانتك، و ليكن صنعك إيّاه بتعليمنا وَ وَحْيِنا إليك كيفيّة صنعه.

وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38)عن ابن عبّاس: لم يعلم نوح كيفيّة صنعة الفلك، فاوحي إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر، فأخذ القدوم و جعل يضرب و لا يخطأ (5).

ص: 311


1- . تفسير روح البيان 4:122.
2- . تفسير روح البيان 4:122، و الآية من سورة نوح:71/26.
3- . سورة نوح:71/26.
4- . تفسير العياشي 2:305/2004، الكافي 8:282/424، تفسير الصافي 2:442.
5- . تفسير روح البيان 4:123.

و روي أنّه أمر بغرس الأشجار، فنمت تلك الأشجار، في مدّة عشرين سنة، فلم يولد في تلك المدّة مولود، و بلغت الأطفال التي ولدت من قبل، و كفروا و عارضوا نوحا تبعا لآبائهم (1).

ثمّ لمّا كان نوح عليه السّلام كثير الشّفقة على قومه، أوحى اللّه إليه بقوله: وَ لا تُخاطِبْنِي و لا تراجعني فِي شأن اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و الطّغيان، و لا تشفع لهم في دفع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بالطّوفان لا محالة في حكمي و قضائي، فلا يمكن صرفه عنهم.

وَ كان نوح يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ التي أمر بصنعها وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ و أشراف مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ إمّا لعدم معرفتهم بنفعها-قيل: إنّ قومه قالوا: ما تصنع يا نوح؟ فقال: أصنع بيتا يمشي على الماء، فتعجّبوا و سخروا منه-و إمّا لأنّه كان يصنعها في أبعد موضع من الماء في وقت غاية عزّته (2)، و كان القوم يتضاحكون و يقولون: يا نوح، صرت نجّارا بعد ما كنت نبيّا، و يقولون: أتجعل للماء إكافا (3)، فأين الماء (4)؟ !

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لمّا غرس النّوى، مرّ عليه قومه فجعلوا يضحكون و يسخرون و يقولون: قد قعد غرّاسا، حتّى إذا طال النّخل، و كان جبّارا طوالا، قطعه ثمّ نحته، فقالوا: قد قعد نجّارا. ثمّ ألّفه فجعله سفينة، فمرّوا عليه فجعلوا يضحكون و يسخرون و يقولون: قد قعد ملاّحا في فلاة الأرض؛ حتّى فرغ منها» (5).

و قيل: إنّه كان ينذرهم بالغرق، فلمّا طال مكثه فيهم و لم يشاهدوا منه عينا و لا أثرا، عدّوه من المحالات، ثمّ لمّا رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص منه سخروا منه (6).

فلمّا رأى نوح عليه السّلام سخريتهم قالَ لهم: إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا اليوم فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا وقع عليكم الغرق في الدّنيا، و الحرق في الآخرة كَما تَسْخَرُونَ منّا.

سوره 11 (هود): آیه شماره 39

ثمّ هدّدهم بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و عن قريب تشهدون مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ عظيم في الدّنيا يُخْزِيهِ و يذلّه، و هو الطّوفان وَ يَحِلُّ و يرد عَلَيْهِ في الآخرة عَذابٌ بالنّار مُقِيمٌ دائم لا انقطاع له أبدا.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)

ص: 312


1- . تفسير روح البيان 4:123.
2- . أي قلّته.
3- . الإكاف: البرذعة أو البردعة، و هي ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه كالسّرج للفرس.
4- . تفسير روح البيان 4:125.
5- . الكافي 8:283/425، تفسير الصافي 2:443.
6- . تفسير الرازي 17:224.

قيل: صنع نوح السفينة في سنتين، و استأجر اجراء ينحتون معه (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان منزل نوح و قومه في قرية على منزل من الفرات ممّا يلي غربي الكوفة، و كان نوح رجلا نجّارا، فجعله اللّه نبيّا و انتجبه، و نوح أوّل من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء» .

قال: «و لبث نوح في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى الهدى، فيمرّون به و يسخرون منه، فلمّا رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيّاراً. . . (2)، فأوحى اللّه إليه: يا نوح، اصنع الفلك و أوسعها و عجّل عملها بأعيننا و وحينا، فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده يأتي بالخشب من بعد، حتّى فرغ منها.

فسئل [عليه السّلام]: في كم عمل نوح سفينته حتّى فرغ منها؟ قال: في دورين. قيل: و كم الدّوران؟ قال: ثمانون سنة. قيل: إنّ العامّة يقولون: عملها في خمسائة عام، فقال: كلاّ و اللّه، كيف و اللّه يقول: وَ وَحْيِنا» (3).

قيل: إنّ المراد بالوحي السّرعة و العجلة (4).

و عن (حياة الحيوان) : أنّ أوّل من اتّخذ الكلب للحراسة نوح عليه السّلام، قال: يا ربّ أمرتني أن أصنع الفلك، و أنا في صناعته أصنع أيّاما فيجيئون باللّيل فيفسدون كلّ ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به، قد طال عليّ أمري؟ فأوحى اللّه إليه: يا نوح، اتّخذ كلبا يحرسك. فاتّخذ نوح كلبا، و كان يعمل بالنّهار و ينام باللّيل، فإذا جاء قومه ليفسدوا باللّيل ينبحهم الكلب، فينتبه نوح فيأخذ الهراوة (5)و يثب إليهم فينهزمون منه، فالتأم ما أراد، و فعل السّفينة (6).

سوره 11 (هود): آیه شماره 40

ثمّ أنّه كان مشتغلا بصنع الفلك حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا للتنّور بالفوران، أو عذابنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ و نبع الماء منه بشدّة كغليان القدر. قيل: كان التنّور في مسجد الكوفة، و السّفينة أيضا فيه (7).

حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ (40)و عن الصادق عليه السّلام: «كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد» يعني مسجد الكوفة، فقيل له: فإنّ ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثمّ سئل: أو كان بدو خروج الماء من ذلك

ص: 313


1- . تفسير روح البيان 4:123.
2- . نوح:71/27.
3- . تفسير العياشي 2:305/2005، الكافي 8:280/421، تفسير الصافي 2:446.
4- . تفسير الصافي 2:446.
5- . الهراوة: العصا الضّخمة.
6- . تفسير روح البيان 4:123.
7- . تفسير أبي السعود 4:208.

التنّور؟ قال: «نعم، إنّ اللّه أحبّ أن يري قوم نوح آية» (1).

و عنه عليه السّلام: «جاءت امرأة نوح إليه، و هو يعمل السّفينة، فقالت له: إن التنّور قد خرج منه ماء، فقام إليه مسرعا حتّى جعل الطّبق عليه، فختمه بخاتمه فقام الماء (2)، فلمّا فرغ من السّفينة جاء إلى خاتمه، ففضّه و كشف الطّبق ففار الماء» (3).

في بيان ركوب نوح

في السفينة و حمل

الحيوانات

فيها

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ نوحا لمّا فرغ من السّفينة، و كان ميعاده فيهما بينه و بين ربّه في إهلاك قومه أن يفور التنّور، ففار فقالت امرأته: إنّ التنّور قد فار، فقام إليه فختمه، فقام الماء» . الخبر (4).

ثمّ قُلْنَا لنوح: اِحْمِلْ فِيها معك مِنْ كُلٍّ من أنواع الحيوان التي لا بدّ من وجودها في الأرض زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ الذّكر و الانثى، لئلاّ ينقرض نسلها.

روي أنّ نوحا عليه السّلام قال: يا ربّ، كيف أحمل من كلّ زوجين اثنين؟ فحشر اللّه إليه السّباع و الطّير، فجعل يضرب يديه في كلّ جنس، فيقع الذّكر في يده اليمنى و الانثى في اليسرى، فيجعلها في السّفينة (5).

و قيل: لم يحمل فيها إلاّ ما يلد و يبيض، دون ما يتولّد من التراب كالحشرات (6).

و قيل: أوّل ما حمله الذرة (5)، و آخر ما حمله الحمار، فلمّا دخل صدره تعلّق إبليس بذنبه فلم تستقلّ رجلاه، فجعل نوح عليه السّلام يقول: ويحك ادخل، فينهض فلا يستطيع، حتّى قال نوح عليه السّلام ادخل و الشّيطان معك، فلمّا قال نوح عليه السّلام ذلك خلّى الشّيطان سبيله، فدخل و دخل الشّيطان معه، فقال نوح عليه السّلام: ما أدخلك يا عدوّ اللّه؟ قال: ألم تقل: ادخل و الشّيطان معك؟ قال: اخرج عنّي يا عدوّ اللّه. قال: مالك بدّ من أن تحملني معك (6).

و نقل أنّه عليه السّلام قال للحمار: ادخل يا ملعون، فدخل الحمار [السفينة]و دخل معه إبليس، فلمّا كان بعد ذلك رأى نوح إبليس في السّفينة، فقال له: دخلت السّفينة بغير أمري؟ فقال إبليس: ما دخلت إلاّ بأمرك، فقال له: أنا ما أمرتك، فقال: أمرتني حين قلت للحمار: ادخل يا ملعون، و لم يكن ثمّة ملعون

ص: 314


1- . الكافي 8:281/421، مجمع البيان 5:247، تفسير الصافي 2:443.
2- . قام الماء: إذا ثبت لا يجد منفذا.
3- . تفسير العياشي:2:307/2008، الكافي 8:282/423، تفسير الصافي 2:443.
4- . الكافي 8:281/422، تفسير الصافي 2:443. (5 و 6) . تفسير روح البيان 4:126.
5- . الذرّ: صغار النّمل.
6- . تفسير روح البيان 4:126.

إلاّ أنا فدخلت، فتركه (1).

عن الصادق عليه السّلام: «حمل نوح في السفينة الأزواج الثّمانية التي قال اللّه: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (2)، فكان من الضّأن اثنين؛ زوج داجنة يربّيها النّاس، و الزّوج الآخر التي تكون في الجبال وحشيّة، احلّ لهم صيدها» (3).

القمّي: عنه عليه السّلام: «لمّا أراد اللّه هلاك قوم نوح عقّم أرحام النّساء أربعين سنة، فلم يولد لهم مولود، و لمّا فرغ نوح عليه السّلام من إيجاد السّفينة أمره اللّه أن ينادي بالسّريانيّة أن تجتمع جميع الحيوانات، فلم يبق حيوان إلا حضر، فأدخل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين، ما خلا الفأر و السّنّور، و إنّهم لمّا شكوا من سرقين (4)الدّواب و القذر، دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس، فسقط من أنفه فأر، فتناسل، فلمّا كثروا شكوا إليه منها، فدعا بالأسد فمسح جبينه فعطس، فسقط من أنفه زوج سنّور» . و في رواية: «شكوا العذرة (5)، فأمر اللّه الفيل فعطس فسقط الخنزير» (6).

و عنه عليه السّلام: «كان طول سفينة نوح ألف ذراع و مأتي ذراع، و عرضها ثمانمائة و مائتي [ذراع]، و طولها في السّماء ثمانين [ذراعا]» (7).

و في رواية اخرى: «طولها ثمانمائة [ذراع]، و عرضها خمسمائة [ذراع]» (8).

و عن الرضا عليه السّلام: «اتّخذ نوح عليه السّلام في الفلك تسعين بيتا للبهائم» (9).

و في رواية: «و كان نوح عليه السّلام قد اتّخذ لكلّ ضرب من أجناس الحيوان موضعا في السّفينة، و جمع لهم فيها ما يحتاجون إليه من الغذاء» (10).

و قيل: كانت من خشب السّاج، و جعلت ثلاثة بطون؛ حمل في البطن الأوّل الوحوش و السّباع و الهوامّ، و في البطن الأوسط الدّوابّ و الأنعام، و في البطن الأعلى هو و من معه، مع ما يحتاجون إليه من الزّاد، و حمل معه جسد آدم (11).

ص: 315


1- . تفسير روح البيان 4:127.
2- . الزمر:39/6.
3- . تفسير العياشي 2:308/2012، الكافي 8:283/427، تفسير الصافي 2:445.
4- . السّرقين: السّرجين، و هو زبل الحيوان.
5- . العذرة: الغائط.
6- . مجمع البيان 5:242، تفسير الصافي 2:445، تفسير القمي 1:326 «قطعة منه» .
7- . تفسير العياشي 2:310/2022، الكافي 8:283/426، تفسير الصافي 2:446.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:244/1، تفسير الصافي 2:446.
9- . الخصال:598/1، عن ابن عباس، تفسير الصافي 2:445.
10- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:444.
11- . تفسير أبي السعود 4:206.

و قيل: جعل في الأوّل الدّوابّ و الوحوش، و في الثّاني الإنس، و في الأعلى الطّير (1).

وَ احمل معك أَهْلَكَ و هم: امرأته و بنوه و نساؤهم-عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «كانوا ثمانية: نوح و أهله: و بنوه الثّلاثة، و نساؤهم» (2)- إِلاّ مَنْ سَبَقَ في علمي عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ و الحكم بأنّه من المغرقين، و هو ابنه كنعان، و امّه غائلة، لأنّهما كانا كافرين وَ احمل مَنْ آمَنَ بك من سائر النّاس وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ.

و عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «و كان الّذين آمنوا به من جميع الدّنيا ثمانين رجلا» . الخبر (3).

و عنه عليه السّلام: «آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «ليس كلّ من في الأرض من بني آدم من ولد نوح، قال اللّه في كتابه: اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ. . . إلى قوله: وَ مَنْ آمَنَ و قال: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. . .» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ نوحا حمل الكلب في السّفينة، و لم يحمل ولد الزّنا» (6).

و عنه عليه السّلام: «ينبغي لولد الزّنا أن لا تجوز له شهادة، و لا يوم النّاس، لم يحمله نوح في السّفينة، و قد حمل فيها الكلب و الخنزير» (7).

سوره 11 (هود): آیه شماره 41 الی 43

ثمّ أنّه روي عن الصادق عليه السّلام: «ثمّ [إنّ اللّه]أرسل [عليهم]

المطر يفيض فيضا، و فاض الفرات فيضا، و العيون كلّهنّ فيضا» (8).

وَ قالَ اِرْكَبُوا فِيها بِسْمِ اَللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ اِبْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ اَلْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْماءِ قالَ لا عاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فَكانَ مِنَ اَلْمُغْرَقِينَ (43)و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و انكسفت الشّمس، و جاء من السّماء ماء منهمر صبّ بلا قطر،

ص: 316


1- . تفسير أبي السعود 4:206.
2- . تفسير روح البيان 4:128.
3- . تفسير القمي 1:327.
4- . مجمع البيان 5:248، تفسير الصافي 2:444.
5- . تفسير الصافي 2:444، و الآية من سورة الأسراء:17/3.
6- . تفسير العياشي 2:309/2013، تفسير الصافي 2:445.
7- . تفسير العياشي 2:309/2014، تفسير الصافي 2:445.
8- . تفسير العياشي 2:307/2007.

و تفجّرت الأرض عيونا فَالْتَقَى اَلْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» (1).

وَ قالَ نوح لمن معه من المؤمنين بعد حمل الأزواج في السّفينة: اِرْكَبُوا أيّها المؤمنون، و ادخلوا فِيها حال كونكم مستعينين بِسْمِ اَللّهِ أو قائلين: له مَجْراها و حين سيرها على الماء وَ مُرْساها و وقت وقوفها عليه.

و عن الصادق عليه السّلام: «أي مسيرها و موقفها» (2).

و قيل: إن المعنى: بسم اللّه إجراؤها و إرساؤها، فكان عليه السّلام إذا أراد أن تجري قال: بسم اللّه؛ فجرت، و إذا أراد أن ترسو قال: بسم اللّه؛ فرست (3).

ثمّ بيّن نوح عليه السّلام علّة نجاتهم بقوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ للذّنوب رَحِيمٌ بالمؤمنين، و لذا أنجاكم مع زلاّتكم و فرطاتكم.

قيل: سارت السّفينة لأوّل يوم من رجب، أو لعشر منه (4).

فركب نوح عليه السّلام و المؤمنون في السّفينة مسمّين وَ هِيَ كانت تَجْرِي على الماء، و تسير بِهِمْ فِي خلال مَوْجٍ و مياه مرتفعة على الماء لشدّة الرّياح، و كانت الأمواج في عظمتها و ارتفاعها كَالْجِبالِ.

عن الرضا عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لمّا ركب السّفينة أوحى اللّه إليه: يا نوح، إن خفت الغرق فهلّلني ألفا، ثمّ سلني النّجاة، انجك و من آمن معك من الغرق. قال: فلمّا استوى نوح و من آمن معه في السّفينة و رفع القلس (5)، عصفت الرّيح عليهم، فلم يأمن نوح عليه السّلام [الغرق]، و أعجلته الرّيح فلم يدرك أن يهلّل [اللّه]ألف مرّة، فقال بالسريانيّة هيلوليلا (6)ألفا ألفا، يا ماريا اتقن (7). قال: فاستوى القلس و استقرّت السّفينة، فقال نوح عليه السّلام: إنّ كلاما نجّاني اللّه به من الغرق لحقيق أن لا يفارقني. قال: فنقش في خاتمه: لا إله إلاّ اللّه ألف مرّة، يا ربّ أصلح» (8).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ نوحا عليه السّلام لمّا ركب السّفينة و خاف الغرق، قال: اللّهمّ إنّي أسألك بمحمد (9)و آل محمّد لمّا أنجيتني من الغرق، فنجّاه اللّه عزّ و جلّ» (10).

ص: 317


1- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:444، و الآية من سورة القمر:54/12.
2- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:447.
3- . تفسير روح البيان 4:129.
4- . تفسير الرازي 17:229.
5- . القلس: العظيم من حبال السّفينة.
6- . في تفسير الصافي و عيون أخبار الرضا عليه السّلام: هيلوليا.
7- . في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: أيقن.
8- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:55/206، و فيه: يا رب أصلحني، تفسير الصافي 2:447.
9- . في الاحتجاج: بحقّ محمد.
10- . الإحتجاج:48، تفسير الصافي 2:447.

وَ نادى نُوحٌ اِبْنَهُ كنعان، و قيل: اسمه يام (1).

و قيل: إنّه كان ربيبه (2)، ابن واغلة (3)الكافرة (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّه قرأ: «ابنها» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «ليس بابنه، إنّما هو ابن امرأته، و هو لغة طيّئ، يقولون لابن المرأة: ابنه» (6).

وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ و ناحية بعيدة من نوح: يا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنا في السّفينة وَ لا تَكُنْ مَعَ اَلْكافِرِينَ و تغرق و تهلك. عن الصادق عليه السّلام: «نظر نوح إلى ابنه يقع و يقوم، فقال له: يا بُنَيَّ اِرْكَبْ . . . (7)الآية» . قالَ ابنه: سَآوِي و ألتجئ إِلى جَبَلٍ من الجبال العظيمة المرتفعة، فإنّه يَعْصِمُنِي و يحفظني بارتفاعه مِنَ اَلْماءِ و الغرق، فلا أحتاج إلى سفينتك قالَ نوح: يا بني لا عاصِمَ و لا حافظ اَلْيَوْمَ لأحد مِنْ أَمْرِ اَللّهِ و عذابه إِلاّ مَنْ رَحِمَ العباد، و هو اللّه تعالى. قيل: إنّ المعنى: لا معصوم من العذاب إلاّ من رحمه اللّه (8).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّه قال حين أشرف على النّجف: هو الجبل الذي اعتصم به ابن جدّي نوح عليه السّلام، فقال: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْماءِ، فأوحى اللّه إليه: يا جبل، أيعتصم بك منّي أحد، فغار في الأرض و تقطّع إلى الشّام» (9).

وَ حالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فانقطع كلامهما بسبب الحيلولة فَكانَ كنعان بن نوح مِنَ جملة اَلْمُغْرَقِينَ و المهلكين.

عن ابن عبّاس أنّه قال: أمطرت السّماء أربعين يوما و ليلة، و خرج ماء الأرض كذلك، فارتفع الماء على أطول جبل في الأرض بخمسة عشر ذراعا، أو بثلاثين، أو بأربعين، و طافت بهم السّفينة الأرض كلّها في خمسة أشهر لا تستقرّ على شيء، حتّى أتت الحرم فلم تدخله، و دارت حول الحرم اسبوعا، و قد اعتق اللّه البيت من الغرق (10).

القمّي: عن الصادق عليه السّلام في حديث: «فدارت السّفينة و ضربتها الأمواج، حتّى وافت مكّة و طافت بالبيت، و غرق جميع الدّنيا إلاّ موضع البيت، و إنّما سمّي البيت العتيق، لأنّه اعتق من الغرق، فبقي الماء

ص: 318


1- . مجمع البيان 5:249، تفسير روح البيان 4:130.
2- . الرّبيب: ابن امرأة الرّجل من غيره.
3- . في تفسير روح البيان: واعلة.
4- . تفسير روح البيان 4:130.
5- . تفسير الرازي 17:231.
6- . تفسير القمي 1:328، تفسير العياشي 2:309/2017، تفسير الصافي 2:447، و ابنه: بفتح الهاء، أي: ابنها.
7- . تفسير القمي 1:327، تفسير الصافي 2:448.
8- . تفسير روح البيان 4:132.
9- . من لا يحضره الفقيه 2:351/1612، تفسير الصافي 2:448.
10- . تفسير روح البيان 4:133.

ينصبّ من السّماء أربعين صباحا، و من الأرض العيون، حتّى ارتفعت السّفينة فسحّت (1)السّماء. قال: فرفع نوح عليه السّلام يده فقال: يا رهمان أتقن، و تفسيرها: يا ربّ، أحسن» (2).

و عنه عليه السّلام: «ارتفع الماء على كلّ جبل و كلّ سهل خمسة عشر ذراعا» (3).

و قيل: رفع البيت الذي بناه آدم إلى السّماء السّادسة (4)، و استودع الحجر الأسود أبا قبيس إلى زمن إبراهيم (5).

و عن الكاظم عليه السّلام: «أنّ نوحا كان في السّفينة، و كان فيها ما شاء اللّه، و كانت السّفينة مأمورة، فطافت بالبيت، و هو طواف النّساء» (6).

و في رواية: وسعت بين الصّفا و المروة (7).

سوره 11 (هود): آیه شماره 44

و عن الصادق عليه السّلام، بعد حكاية دعاء نوح عليه السّلام: «فأمر اللّه عزّ و جلّ الأرض أن تبلع ماءها بقوله: وَ قِيلَ يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ، قال: نزلت بلغة الهند: اشربي» (8). وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي و أمسكي ماءك وَ غِيضَ و نقص اَلْماءُ من وجه الأرض وَ قُضِيَ و تمّ اَلْأَمْرُ و هو إنجاز ما وعد، و فرغ من إهلاك الكافرين و إنجاء المؤمنين.

وَ قِيلَ يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْماءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (44)و في رواية: «فبلعت الأرض ماءها، فأراد ماء السّماء أن يدخل في الأرض، فامتنعت الأرض من قبوله، و قالت: إنّما أمرني اللّه أن ابلع مائي، فبقي ماء السّماء على وجه الأرض وَ اِسْتَوَتْ السّفينة، و استقرّت عَلَى جبل اَلْجُودِيِّ و هو جبل عظيم بالموصل، فبعث اللّه عزّ و جلّ جبرئيل، فساق الماء إلى البحار حول الدّنيا» (9).

و في رواية عن الكاظم عليه السّلام: «فأوحى اللّه إلى الجبال: إنّي واضع سفينة نوح عبدي على جبل منكنّ، فتطاولت و شمخت، و تواضع الجوديّ، و هو جبل عندكم، فضربت السّفينة بجؤجؤها (10)الجبل، قال:

ص: 319


1- . سحّت السماء: صبّت الماء.
2- . تفسير القمي 1:328، تفسير الصافي 2:448.
3- . الكافي 8:284/428، تفسير الصافي 2:450.
4- . زاد في تفسير روح البيان: و هو البيت المعمور.
5- . تفسير روح البيان 4:133.
6- . الكافي 2:101/12، تفسير الصافي 2:449.
7- . تفسير العياشي 2:310/2022، الكافي 8:283/426، تفسير الصافي 2:450.
8- . تفسير العياشي 2:310/2020، تفسير الصافي 2:448.
9- . تفسير القمي 1:328، تفسير الصافي 2:449.
10- . الجؤجؤ: صدر السّفينة.

فقال نوح عند ذلك: يا ماري أتقن، و هو بالسّريانيّة: ربّ أصلح» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «سمع نوح صرير السّفينة على الجوديّ، فخاف عليها، فأخرج رأسه من كوّة كانت فيها، فرفع يده و أشار بإصبعه و هو يقول: يا رهمان (2)أتقن، تأويلها: ربّ أحسن» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى نوح و هو في السّفينة أن يطوف بالبيت اسبوعا، فطاف كما أوحى [اللّه تعالى]إليه، ثمّ نزل في الماء إلى ركبتيه، فاستخرج تابوتا فيه عظام آدم عليه السّلام، فحمله في جوف السّفينة، حتّى طاف ما شاء اللّه أن يطوف، ثمّ ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها، ففيها قال اللّه للأرض: اِبْلَعِي ماءَكِ، فبلعت [ماءها]من مسجد الكوفة كما بدأ الماء منه، و تفرّق الجمع الذي كان مع نوح عليه السّلام في السّفينة» الخبر (4).

وَ قِيلَ على سبيل اللّعن و الطّرد: بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ (5)قيل: إنّ القائل هو اللّه (6)، و قيل: نوح (7).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل: كم لبث نوح عليه السّلام و من معه في السّفينة حتّى نضب الماء و خرجوا منها؟ فقال: «لبثوا فيها سبعة أيّام و لياليها، و طافت بالبيت اسبوعا، ثمّ استوت على الجوديّ، و هو فرات الكوفة» (8).

سوره 11 (هود): آیه شماره 45 الی 47

ثمّ حكى سبحانه اعتراض نوح عليه السّلام عند هلاك كنعان بالغرق، مع وعده إيّاه بإنجاء أهله؛ بقوله: وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ حزنا على ابنه فَقالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي كنعان-أو يام-كان مِنْ أَهْلِي الّذين وعدتني إنجاءهم في قولك: وَ أَهْلَكَ، وَ إِنَّ وَعْدَكَ هذا، بل جميع وعودك (9)اَلْحَقُّ و الصّدق، لا يمكن تطرّق الخلف إليه وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحاكِمِينَ و أعدلهم قالَ اللّه: يا نُوحُ إِنَّهُ

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (47)

ص: 320


1- . الكافي 2:101/12، تفسير الصافي 2:449.
2- . في تفسير العياشي: ربعمان.
3- . تفسير العياشي 2:311/2026، تفسير الصافي 2:450.
4- . التهذيب 6:23/51، تفسير الصافي 2:449.
5- . تفسير الرازي 17:235.
6- . مجمع البيان 5:250.
7- . مجمع البيان 5:250.
8- . تفسير العياشي 2:307/2007، الكافي 8:281/421، تفسير الصافي 2:450.
9- . في النسخة: وعدك.

لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الّذين وعدتك بنجاتهم؛ لأنّه لم يكن على دينك إِنَّهُ بذاته عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ و فيه مبالغة في ذمّه.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه قال لنوح عليه السّلام: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لأنّه كان مخالفا له، و جعل من اتّبعه من أهله» (1).

و في رواية: «نفاه عنه حين خالفه في دينه» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد تنبيه نوح عليه السّلام بخطأه، و أن ولده كان ممّن سبق عليه القول، عاتبه على عدم تأمّله في حسن مطلوبه بقوله: فَلا تَسْئَلْنِي و لا تطلب منّي عمل ما لَيْسَ لَكَ بِهِ و بصلاحه و صوابه عِلْمٌ أجد مثل هذا السّؤال [ليس]من شأنك الرّفيع و مقامك المنيع عندي، و إِنِّي لحبّي لك و شفقتي عليك أَعِظُكَ و أنصحك كراهة أَنْ تَكُونَ في آن مِنَ اَلْجاهِلِينَ بعلوّ منزلتك المنافي للسّؤال الذي يكون تركه أولى و أفضل، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

قالَ نوح معتذرا من تركه الأولى، و مستغفرا من زلّته: رَبِّ إِنِّي لا أملك لنفسي أن أحفظها من مثل هذه الزلاّت، و أَعُوذُ بِكَ و ألتجئ إليك و إلى حفظك في بقيّة عمري من أَنْ أَسْئَلَكَ فيما بعد ما لَيْسَ لِي برضاك بِهِ و ما صوّبته (3)عندك عِلْمٌ فضلا عمّا أعلم فساده و عدم رضاك به، فاغفر لي ما صدر منّي وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِي زلّتي وَ تَرْحَمْنِي بقبول توبتي و معذرتي أَكُنْ ألبتّة مِنَ اَلْخاسِرِينَ أعمالا، فإنّ الانصراف عن شكر نعمك، و الاشتغال بما ليس فيه رضاك؛ كطلب نجاة من يستحقّ العذاب، خسران ظاهر، و غبن فاحش. و فيه غاية التّذلّل و الاستكانة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 48

و إنّما أخّر سبحانه ذكر نداء نوح عليه السّلام عن ذكر زوال الطّوفان مع كونه في بدوه، رعاية للتّرتيب بين توبته و اعتذاره، و بين إظهار غاية لطفه به بأمره تعالى بنزوله من الفلك بسلام و بركات عليه و على أتباعه بقوله: قِيلَ يا نُوحُ اِهْبِطْ و انزل من الفلك على الأرض متلبّسا بِسَلامٍ و أمّن من الآفات و المكاره، و حفظ كامل كائن مِنّا أو تحيّة عظيمة من قبلنا وَ بَرَكاتٍ كثيرة و خيرات نامية فائضة عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ و جماعات كثيرة مؤمنة متولّدة و منشعبة مِمَّنْ مَعَكَ.

قِيلَ يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)

ص: 321


1- . تفسير العياشي 2:312/2028، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:75/3، مجمع البيان 5:253، تفسير الصافي 2:450.
2- . تفسير العياشي 2/312/2028، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:76/3، تفسير الصافي 2:451.
3- . كذا، و الظاهر صوابيّته.

قيل: لمّا خرج نوح عليه السّلام من السّفينة خاف من الشدّة و ضيق المعاش، لعلمه بفناء ما على الأرض ممّا ينتفع به البشر، فبشّره اللّه بالسّلامة المستلزمة للأمن من الآفات، و السّعة في العيش، و بالبركات و هي الثّبات و البقاء ببقاء نسله، حيث إنّه لم يكن معه إلاّ نسله، أو كان و لكن مات من لم يكن من نسله، و لذا قالوا إنّه آدم الثاني (1).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «فنزّل نوح عليه السّلام بالموصل من السّفينة مع الثّمانين، و بنوا مدينة الثّمانين، و كانت لنوح ابنة ركبت معه السّفينة، فتناسل النّاس منها، و ذلك قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نوح أحد الأبوين» (2).

ثمّ أنّه تعالى بعد تبشيره بحسن حال المؤمنين من ذريّته و ذريّة من معه، بيّن حال الكفّار منهم بقوله: وَ أُمَمٌ و جماعات منهم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدّنيا قليلا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ و يصيبهم بعد الموت و في الآخرة مِنّا عقوبة على كفرهم و سوء أعمالهم عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره.

قيل: إنّه لمّا رست السّفينة على الجوديّ كشف نوح عليه السّلام الطّبق الذي فيه الطّير، فبعث الغراب لينظر هل غرقت البلاد، و كم بقي من الماء، فيأتيه بخبر الأرض؟ فأبصر جيفة، فوقع عليها و اشتغل بها و لم يرجع، ثمّ أرسل الحمامة فلم تجد موضعا في الأرض، فجاءت بورق الزّيتون في منقارها، فعرف نوح عليه السّلام أنّ الماء قد نقص، و طهرت الأشجار، ثمّ أرسلها فوقعت على الأرض، فغابت رجلاها في الطّين قدر حمرتها، فجاءت إلى نوح عليه السّلام فأرته، فعرف أنّ الأرض قد ظهرت، فبارك على الحمامة و طوّقها الخضرة التي في عنقها، و دعا لها بالأمان، فمن ثمّ تألف البيوت، و دعا على الغراب بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، و تتشأّم العرب به» (3).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا حسر الماء عن عظام الموتى، فرأى ذلك نوح عليه السّلام جزع جزعا شديدا و اغتمّ لذلك، فأوحى اللّه عزّ و جلّ [إليه]هذا عملك (4)، أنت دعوت عليهم، فقال: يا ربّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك. فأوحى اللّه إليه أن كل العنب الأسود ليذهب غمّك» (5).

و قيل: لمّا ارتفع الطّوفان قسّم نوح عليه السّلام الأرض بين أولاده الثّلاثة، فأمّا سام فأعطاه بلاد الحجاز و اليمن و الشّام، فهو أبو العرب، و أمّا حام: فأعطاه بلاد السّودان، فهو أبو السّودان، و أمّا يافث فأعطاه بلاد المشرق، فهو أبو التّرك» (6).

ص: 322


1- . تفسير الرازي 18:6.
2- . تفسير القمي 1:328، تفسير الصافي 2:451.
3- . تفسير روح البيان 4:142.
4- . زاد في الكافي: بنفسك.
5- . الكافي 6:350/2، تفسير الصافي 2:454.
6- . تفسير روح البيان 4:141.

عن الصادق عليه السّلام: «كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة» (1).

و عنه عليه السّلام: «عاش نوح عليه السّلام ألفي [سنة]و ثلاثمائة سنة، منها ثمانمائة و خمسون سنة قبل أن يبعث، و ألف سنة إلاّ خمسين عاما و هو في قومه يدعوهم، و خمسمائة عام بعد ما نزل من السّفينة، و نضب الماء فمصّر الأمصار، و أسكن ولده البلدان. ثمّ إنّ ملك الموت جاءه و هو في الشّمس، فقال: السّلام عليك، فردّ عليه نوح فقال: ما جاء بك يا ملك الموت؟ فقال: جئتك لأقبض روحك، قال: دعني أدخل من الشّمس إلى الظلّ، فقال له، نعم، فتحوّل ثمّ قال: يا ملك الموت كلّ ما مرّبي من الدّنيا مثل تحويلي من الشّمس إلى الظّل، فامض لما امرت به، فقبض روحه» (2).

و عنه عليه السّلام: «عاش نوح بعد الطّوفان خمسمائة سنة، ثمّ أتاه جبرئيل فقال: يا نوح، إنّه قد انقضت نبوّتك، و استكملت أيّامك، فانظر إلى الاسم الأكبر، و ميراث العلم، و آثار النّبوّة التي معك، فادفعها إلى ابنك سام، فإنّي لا أترك الأرض إلاّ و فيها عالم تعرف به طاعتي، و يعرف به هداي، و يكون نجاة [فيما]بين مقبض النبيّ و مبعث نبيّ آخر، و لم [أكن]أترك النّاس بغير حجّة [لي]و داع إليّ و هاد إلى سبيلي، و عارف بأمري، فإنّي [قد]قضيت أن أجعل لكلّ قوم هاديا أهدي به السّعداء، و يكون حجّة لي على الأشقياء. قال: فدفع نوح عليه السّلام الاسم الأكبر، و ميراث العلم، و آثار النّبوّة إلى سام، و أمّا حام و يافث فلم يكن عندهما ما ينتفعان به. قال: و بشّرهم نوح عليه السّلام بهود، و أمرهم باتّباعه، و أمرهم أن يفتحوا الوصيّة في كلّ عام، و ينظروا فيها، و يكون عيدا لهم» (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 49

ثمّ نبّه سبحانه على إعجاز القرآن من جهة تضمّنه للمغيّبات، إثباتا لصدقه و صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: تِلْكَ القصّة التّي قصصناها عليك من تفصيل دعوة نوح، و محاجّته مع قومه، و صنعه الفلك، و استهزاء قومه به، و غرقهم بالطّوفان، و مكالمته مع ابنه كنعان، إلى آخرها، كلّها مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ و من الأخبار التي لا يعلم بها أحد إلاّ بطريق الوحي، و نحن نُوحِيها إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ و إن لم تكن اميّا وَ لا يعلمها قَوْمُكَ بهذا التّفصيل مِنْ قَبْلِ نزول هذا القرآن، و إن علموا بها إجمالا، فمع هذه المعجزة العظيمة إن أصرّوا على تكذيبك في النّبوّة،

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

ص: 323


1- . كمال الدين:523/2، تفسير الصافي 2:454.
2- . الكافي 8:284/429، تفسير الصافي 2:454.
3- . الكافي 8:285/430، تفسير الصافي 2:454.

و تكذيب كتابك فَاصْبِرْ على تكذيبهم و إيذائهم، كما صبر نوح عليه السّلام سنين متطاولة على ذلك، و ابشر بأنّه كما كانت عاقبة صبر نوح النّصر و الظّفر و الفرح و السّرور، تكون عاقبة صبرك كذلك، بل نقول: إِنَّ اَلْعاقِبَةَ المحمودة في الدّنيا و الآخرة لِلْمُتَّقِينَ و المؤمنين الصّابرين كافّة، [سواءأ] كانوا رسلا أو غيرهم. و فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين.

سوره 11 (هود): آیه شماره 50 الی 51

ثمّ أردف سبحانه قصّة نوح بقصّة هود، ازديادا للاعتبار و التّسلية بقوله: وَ إِلى عادٍ أرسلنا أَخاهُمْ و من هو من قبيلتهم، و كان اسمه هُوداً و هذه القبيلة كانت من العرب، بناحية اليمن، على ما قيل (1).

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اَلَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51)ثمّ أنّه عليه السّلام دعاهم إلى التّوحيد، و قالَ لهم: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده، فإنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ تعالى، لدلالة جميع الموجودات على الوهيّته و وحدانيّته إِنْ أَنْتُمْ و ما كنتم إِلاّ مُفْتَرُونَ و كاذبون في دعوى كون غيره شريكا له في الالوهيّة، لظهور آثار الحدوث في غيره، الدّالّة (2)على كونه مخلوقا مثلكم.

ثمّ دفع توهّم طمعه في أموالهم، استجلابا لقلوبهم بقوله: يا قَوْمِ إن تحترزوا من قبول قولي لتوهّمكم طمعي في أموالكم، فاعلموا أنّي بعملي هذا من الدّعوة و الهداية إلى التّوحيد لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً و عوضا من أموالكم إِنْ أَجْرِيَ و ما عوض عملي إِلاّ عَلَى اللّه اَلَّذِي فَطَرَنِي و خلقني بقدرته، أتنكرون توحيده أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّه حقّ لا محيص عنه بحكم العقل السّليم؟ و إنّي بريء من الطّمع في أموالكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 52

ثمّ حثّهم على ترك الشّرك و التّوبة منه بقوله: وَ يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا و اسألوا رَبَّكُمْ ستر ما سلف من إشراككم به ثُمَّ تُوبُوا و ارجعوا إِلَيْهِ بالنّدم على عصيانكم، و بالعزم على عدم العود إلى

وَ يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)

ص: 324


1- . تفسير الرازي 18:9.
2- . في النسخة: الدلالة.

مثله، فإن فعلتم ذلك يقبل اللّه توبتكم، و يُرْسِلِ و يمطر اَلسَّماءَ عَلَيْكُمْ برحمته، حال كونه مِدْراراً و متتابعا في أوقات الحاجة إليه، فعند ذلك تكثر نعمكم و توفر حظوظكم وَ يَزِدْكُمْ مع ذلك قُوَّةً في الجسم إِلى قُوَّتِكُمْ التي تكون في الحال، فلذا تتمكّنون من كمال الانتفاع بتلك النّعم، فتجتمع لكم السّعادة الجسمانيّة و الماليّة.

ثمّ أكّد أمره بالمعروف بنهيه عن المنكر بقوله: وَ لا تَتَوَلَّوْا و لا تعرضوا عن نصحي و إرشادي لكم إلى خيركم، حال كونكم مُجْرِمِينَ و عاصين لربّكم، مستحقّين لعقوبة مليككم.

قيل: إنّهم كانوا أصحاب زروع و بساتين و عمارات، حرّاصا عليها أشدّ الحرص، و كانت بساتينهم في غاية اللّطف و البهجة، و كانوا أحوج شيء إلى الماء، و كانوا في غاية القوّة و البطش، محفوظين بها من العدوّ، مهيبين في كلّ ناحية (1)، مفتخرين بكثرة المال و القوّة، و لذا وعدهم هود بالزّيادة فيها.

سوره 11 (هود): آیه شماره 53

ثمّ أنّ القوم بعد ما سمعوا دعوة هود إلى التّوحيد، و ترغيبهم إلى التّوبة من الشّرك قالُوا تكذيبا له: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ و ما أقمت حجّة على نبوّتك، و صدق قولك وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي عبادة آلِهَتِنا و أصنامنا التي كنّا نلتزم بها تقليدا لآبائنا، حال كون التّرك صادرا عَنْ مجرّد قَوْلِكَ بلا حجّة و لا معجزة دالّة على صدقه وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ و لقولك بمصدّقين.

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)

سوره 11 (هود): آیه شماره 54 الی 56

ثمّ لم يكتفوا بتكذيبه، بل نسبوه إلى الجنون بقوله: إِنْ نَقُولُ في شأنك إِلاَّ قولا خاصّا و صدقا، و ما نعتقد إلاّ اعتقادا صائبا، و هو أنّه اِعْتَراكَ و أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا و أصنامنا بِسُوءٍ و جنون، لأنّك تشتمهم، و تمنع عن عبادتهم، و تحطّهم عن مقام الالوهيّة بقولك: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، فلا اعتداد بقولك، و لا ينبغي للعاقل تصديقك و الإيمان بك.

إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اَللّهَ وَ اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

ص: 325


1- . تفسير روح البيان 4:147.

و في تنكير السّوء، و نسبته إلى بعض آلهتهم، إشعار بعدم مبالغتهم فيه، و إن بالغوا في تكذيبه بدعوى عدم قابليّة كلامه للتّصديق و نظمه في الهدايات، و لذا بالغ هو عليه السّلام أيضا في الإجهار بعدم الوهيّة أصنامهم، و قالَ: يا قوم إِنِّي أُشْهِدُ اَللّهَ وَ اِشْهَدُوا جميعا أَنِّي بَرِيءٌ ما دامت حياتي مِمّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ صنما كان أو غيره، فإن استثقلتم قولي، و نصبتم لي العداوة، و صدّقتم في دعوى قدرة أصنامكم على الإساءة بي فَكِيدُونِي و احتالوا أنتم و أصنامكم جَمِيعاً في قتلي ثُمَّ بعد احتيالكم لا تُنْظِرُونِ ساعة و لا تمهلوا فىّ لحظة، فإنّي لا ابالي مع انفرادي منكم مع كثرتكم و قوّتكم، و شدّة بطشكم و بأسكم إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ و مالكي و مالككم، و وتقت به، و التجأت إليه، فانّه القادر على حفظي فيكم، و دفعكم عنّي، لوضوح أنّه ما مِنْ دَابَّةٍ في الأرض إِلاّ هُوَ تعالى مالكها، و القاهر عليها، يصرّفها حيث يشاء، كأنّه تعالى آخِذٌ بِناصِيَتِها لا تقدر على أن تتحرّك إلاّ بإرادته تعالى إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ من الحقّ و العدل، و لذا لا يكاد يسلّطكم عليّ، و يضيع من توكّل عليه و اعتصم به.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني أنّه على الحقّ، يجزي بالإحسان إحسانا، و بالسّيء سيّئا، و يعفو عمّن يشاء و يغفر [سبحانه و تعالى]» (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 57

ثمّ أعلمهم بتماميّة الحجّة عليهم بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا و تعرضوا عن قبول قولي، و تصرّوا على تكذيبي فَقَدْ أتممت عليكم الحجّة، حيث إنّي أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ بلا تفريط منّي في أداء رسالتي، و تقصير منّي في القيام بوظيفتي، و إنّما التفريط من قبلكم، حيث إنّكم مع وضوح الحقّ عندكم أبيتم إلاّ الجحود و التّكذيب، فاحذروا من أن يهلككم اللّه على كفركم عن آخركم وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي في دياركم و أموالكم بعد إهلاككم قَوْماً غَيْرَكُمْ و فريقا سواكم، أطوع له منكم، وَ أنتم لا تَضُرُّونَهُ بتولّيكم و إعراضكم عن قبول دعوة رسوله، و الإيمان بتوحيده شَيْئاً يسيرا، و لا تنقصون من ملكه و سلطانه نقيرا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ و مستول و رقيب، فكيف يقدر شيء على الإضرار به؟

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)و قيل: يعني هو مطّلع على كلّ شيء، فلا يخفى عليه عصيانكم و طغيانكم، فيجازيكم عليه أسوأ

ص: 326


1- . تفسير العياشي 2:312/2029، تفسير الصافي 2:456.

الجزاء. أو هو مطّلع على عملي و عملكم، فيحفظني من مكركم و شرّكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 58

ثمّ أنّهم بعد تلك المواعظ و التّهديدات، بالغوا في الإصرار على الكفر و معارضة الرّسول، فاستحقّوا عذاب الاستئصال، فأخبر سبحانه بنزوله عليهم بقوله: وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا و نزّل عذابنا نَجَّيْنا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و هم أربعة آلاف-على ما قيل (1)- بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنّا و هي التّوفيق للإيمان الذي أنعمناه عليهم، و الهداية له.

وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)ثمّ بيّن سبحانه المراد من الأمر، و ما نجّاهم منه بقوله: وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ و شديد، أنزلناه على الكافرين.

و قيل: اريد بالتّنجية الثّانية عذاب الآخرة (2).

و إنّما ذكره لبيان تكملة النّعمة عليهم بالنّجاة في الدّارين، و تشديده فيها على الكفّار.

عن القمّي رحمه اللّه: أنّ عادا كانت بلادهم في البادية من المشرق (1)إلى الأجفر أربعة منازل، و كان لهم زرع و نخل كثير، و لهم أعمار طويلة و أجساد طويلة، فعبدوا الأصنام، و بعث اللّه إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد، فأبوا و لم يؤمنوا بهود و آذوه، فكفّت السّماء عنهم سبع سنين حتّى قحطوا. و كان هودا زرّاعا، و كان يسقي الزّرع، فجاء قوم إلى بابه يريدونه، فخرجت إليهم امرأة شمطاء عوراء فقالت: من أنتم؟ قالوا: نحن من بلاد كذا و كذا، أجدبت بلادنا فجئنا إلى هود نسأله أن يدعو اللّه حتّى تمطر و تخصب بلادنا، فقالت: لو استجيب لهود لدعا لنفسه، فقد احترق زرعه لقلّة الماء. قالوا: فأين هو؟ قالت: في موضع كذا و كذا، فجاءوا إليه فقالوا: يا نبيّ اللّه، قد أجدبت بلادنا و لم تمطر فاسأل اللّه أن تخصب بلادنا و تمطر. فتهيّأ للصلاة و صلّى و دعا لهم فقال: ارجعوا فقد امطرتم و أخصبت بلادكم، فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّا رأينا عجبا، قال: و ما رأيتم؟ قالوا: رأينا في منزلك امرأة شمطاء عوراء قالت لنا: من أنتم [و ما]تريدون؟ فقلنا: جئنا إلى هود ليدعو اللّه لنا فنمطر، فقالت: لو كان هود داعيا لدعا لنفسه، فإنّ زرعه قد احترق. فقال هود: هي أهلي، و أنا أدعو اللّه أن يطول لها البقاء. فقالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأنّه ما خلق اللّه مؤمنا إلاّ و له عدوّ يؤذيه، و هي عدوّ لي، فلئن يكون عدو ممّن أملكه خير من أن يكون عدوّ من يملكني.

ص: 327


1- . في المصدر: الشقيق.

فبقي هود عليه السّلام في قومه يدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عن عبادة الأصنام حتّى أخصبت بلادهم، و أنزل اللّه عليهم المطر، و هو قوله عزّ و جلّ: يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ. . . الآيات.

فلمّا لم يؤمنوا أرسل اللّه عليهم الرّيح الصّرصر-يعني: الباردة-و هو قوله تعالى في سورة القمر: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ* إِنّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (1)، و حكى في سورة الحاقّة فقال: وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ* سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً (2)، قال: كان القمر منحوسا بزحل سبع ليال و ثمانية أيّام (3).

و قيل: إنّ العذاب الغليظ هو السّموم (4)، كانت تدخل انوف الكفرة، و تخرج من أدبارهم، فتقطّعهم إربا إربا (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 59 الی 60

ثمّ ذمّهم اللّه بعد إهلاكهم بقوله: وَ تِلْكَ القبيلة المهلكة عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ و دلائل توحيده، و معجزات نبيّه وَ عَصَوْا رُسُلَهُ جميعا بعصيانهم هودا، لكون جميعهم على قول واحد وَ اِتَّبَعُوا في الكفر و العصيان أَمْرَ كُلِّ جَبّارٍ و متمرّد عن الحقّ عَنِيدٍ و معارض له.

وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اِتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)قيل: «تلك» إشارة إلى قبورهم (6).

ثمّ بيّن سبحانه سوء عاقبتهم عبرة للنّاس بقوله: وَ اِتَّبَعُوا و اردفوا باتّباعهم رؤساء الضّلال، الدّعاة إلى الكفر بالآيات، و تكذيب الرّسل فِي هذِهِ اَلدُّنْيا لَعْنَةً و بعدا عن الرّحمة و عن كلّ خير، بحيث لا يفارقهم أبدا، بل يدور معهم حيثما داروا وَ كذا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و يكون أثر بعدهم الدّخول في النّار، و الخلود فيها.

ثمّ بالغ سبحانه في تفضيح حالهم، و الحثّ في الاعتبار بهم بقوله: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ و نعمه، و جحدوا وحدانيّته. ثمّ دعا عليهم بالهلاك تسجيلا لاستحقاقهم له بقوله: أَلا بُعْداً و هلاكا قطعيّا لِعادٍ. ثمّ بيّن المراد من عاد بقوله: قَوْمِ هُودٍ لئلا يشتبه بعاد الثانية؛ و هم عاد بن إرم.

ص: 328


1- . القمر:54/18 و 19.
2- . الحاقة:69/6 و 7.
3- . تفسير القمي 1:329، تفسير الصافي 2:457.
4- . السّموم: هي الريح الحارّة، و الحرّ الشديد النافذ في المسام.
5- . تفسير أبي السعود 4:219.
6- . تفسير البيضاوي 1:461.

سوره 11 (هود): آیه شماره 61

ثمّ أتبع سبحانه قصّة ثمود بالقصّتين ازديادا لعبرة المشركين، و تسلية للنبيّ عليه السّلام و المؤمنين بقوله: وَ إِلى قبيلة ثَمُودَ الّذين هم من العرب سمّوا باسم أبيهم الأكبر (1)، أرسلنا أَخاهُمْ و رجلا منهم سمّي صالِحاً قيل: هو ابن عبيد بن اسف بن ماشح بن عتيد بن حادر (2)بن ثمود (3)قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده لأنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)ثمّ استدلّ على استحقاقه العبادة بنعمه الدالّة على كمال قدرته و رحمته حثّا لهم عليها بقوله: هُوَ أَنْشَأَكُمْ و خلقكم بقدرته من آدم، أو من المنيّ المتكوّن من الأغذية النباتيّة، و معلوم أنّ آدم أو النّبات مخلوق مِنَ اَلْأَرْضِ و ترابها وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ و استبقاكم مدّة طويلة، أو أقدركم على العمارة فِيها أو جعلها لكم نحو العمري (4)، بأن أسكنكم فيها مدّة حياتكم، ثمّ جعلها بعد موتكم لغيركم، فإذا كان اللّه بهذه المرتبة من القدرة عليكم، و الإحسان إليكم، المقتضيين للخوف من عصيانه و الشّكر له فَاسْتَغْفِرُوهُ عمّا صدر منكم من العصيان و كفران النّعمة ثُمَّ تُوبُوا و ارجعوا إِلَيْهِ بالإيمان بوحدانيّته، و النّدم على الشّرك، و العزم على عدم العود إليه إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ منكم علما و إحاطة، يسمع استغفاركم، و يرى تضرّعكم، أو قريب الرّحمة منكم مُجِيبٌ لدعائكم.

قيل: إنّ قوله: (قريب) ناظر إلى أمره بالتّوبة، و (مجيب) إلى أمره بالاستغفار، كأنّه قال: ارجعوا إليه فإنّه قريب، و اسألوه المغفرة فإنّه مجيب (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 62 الی 64

ص: 329


1- . تفسير أبي السعود 4:220، تفسير روح البيان 4:153.
2- . في تفسير أبي السعود: ماشج بن عبيد بن جادر، و في تفسير روح البيان: ماسح بن عبيد بن خاور.
3- . تفسير أبي السعود 4:220، تفسير روح البيان 4:153.
4- . العمري: من عقود التمليك، كأن تقول: هذه الدار لك عمرك، أي ما دمت حيا.
5- . تفسير روح البيان 4:154.

ثمّ أنّ القوم بعدما دعاهم صالح إلى القول بالتّوحيد قالُوا في جوابه: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا و محلاّ للآمال من حيث قوّة عقلك، و رزانة رأيك، و حسن تدبيرك، و كمال شفقتك. عن ابن عبّاس: يعني فاضلا خيرا نقدّمك على جميعنا (1)قَبْلَ هذا الوقت الذي ادّعيت بطلان مذهبنا و فساد عقائدنا، و دعوتنا إلى التّوحيد و ترك عبادة الأصنام، يا للعجب أَ تَنْهانا عن أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا الأقدمون، و تأمرنا بأن نترك تقليد أسلافنا الأكرمين؟ ! إذن قد انقطع رجاؤنا عنك، و تبيّن خطؤنا فيك وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونا من التّوحيد و ترك عبادة الأصنام، و ذلك الشّكّ فيما تدعونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ و موقع للقلق و الاضطراب في قلوبنا، أو نحن في (2)ريبة عظيمة.

و قيل: إنّ الشّكّ هو تساوي الاحتمالين، و الرّيب هو رجحان احتمال السّوء و الفساد (3).

قالَ صالح برفق و لين: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ كُنْتُ في ادّعائي عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة ظاهرة، أو معرفة و بصيرة كاملة كائنة مِنْ رَبِّي و مليكي وَ آتانِي مِنْهُ في الواقع و الحقيقة رَحْمَةً و رسالة، أو معجزة قاهرة فَمَنْ يَنْصُرُنِي و يحفظني مِنْ عذاب اَللّهِ و بأسه إِنْ عَصَيْتُهُ و خالفت أمره بتبليغ رسالته إليكم، و نهيه [عن]المساهلة فيه و المداراة معكم فَما تَزِيدُونَنِي إذن بتوقعكم السّكوت عن دعوتكم إلى التّوحيد، و الموافقة معكم في الشّرك، شيئا غَيْرَ تَخْسِيرٍ و تضرّر، حيث إنّه ليس في موافقتكم إلاّ التعرّض لسخط اللّه و عذابه.

و قيل: إنّ المراد: ما تزيدونني بما تقولون غير أن [أنسبكم إلى الخسران و]أقول لكم إنّكم لخاسرون (4).

وَ يا قَوْمِ إن تريدون منّي آية و معجزة دالّة على صدق نبوّتي و صحّة ما أدعوكم إليه من التّوحيد، فانظروا هذِهِ الجثّة العظيمة ناقَةُ اَللّهِ التي خلقها بقدرته من الصّخرة بهذه الصّورة دفعة من غير ولادة، و هي لَكُمْ آيَةً عظيمة، و حجّة ظاهرة على نبوّتي، و صدق قولي، و لا يثقل عليكم كونها فيكم، لأنّكم ليس عليكم علوفتها (5)فَذَرُوها و خلّوها تَأْكُلْ النّباتات و الحشائش التي تجدها فِي أَرْضِ اَللّهِ و إنّما عليكم أن لا تؤذوها وَ لا تَمَسُّوها و لا تصيبوها بِسُوءٍ من ضرب و قتل لبغضكم إيّاها فَيَأْخُذَكُمْ و ينزل عليكم إذن عَذابٌ قَرِيبٌ سريع النّزول.

في قصة ناقة

صالح

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لمّا دعا صالح قومه إلى اللّه كذّبوه، فضاق صدره فسأل

ص: 330


1- . تفسير أبي السعود 4:221.
2- . في النسخة: ذو.
3- . تفسير الرازي 18:18.
4- . تفسير أبي السعود 4:222.
5- . أي علفها.

ربّه أن يأذن له في الخروج من عندهم، فأذن له، فخرج فانتهى إلى ساحل البحر، فإذا برجل يمشي على الماء، فقال له صالح: ويحك من أنت؟ فقال: أنا من عباد اللّه، كنت في سفينة كان قومها كفرة غيري، فأهلكهم اللّه و نجّاني منهم، فخرجت إلى جزيرة أتعبّد هناك، فأخرج أحيانا و أطلب شيئا من رزق اللّه، ثمّ أرجع إلى مكاني.

فمضى صالح فانتهى إلى تلّ عظيم، فرأى رجلا فانتهى إليه و سلّم عليه فردّ عليه السّلام، فقال له صالح: من أنت؟ قال: كانت هاهنا قرية كان أهلها كفّارا غيري، فأهلكهم اللّه و نجّاني منها، فجعلت على نفسي أن أعبد اللّه تعالى هاهنا إلى الموت، و قد أنبت اللّه لي شجرة رمّان، و أظهر عين ماء، آكل من الرّمان، و أشرب من ماء العين و أتوضّأ منه. فذهب صالح و انتهى إلى قرية كان أهلها كفّارا كلّهم غير أخوين مسلمين يعملان عمل الخوص.

فضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثلا و قال: لو أنّ مؤمنا دخل قرية فيها ألف رجل كلّهم كفّار و فيهم مؤمن واحد، فلا يسكن قلبه مع أحد حتّى يجد المؤمن. و لو أنّ منافقا دخل قرية فيها ألف رجل كلّهم مؤمنون و فيهم منافق واحد لم يسكن قلب المنافق مع أحد ما لم يجد المنافق.

فدخل صالح و انتهى إلى الأخوين، فمكث عندهما أيّاما، و سأل عن حالهما، فأخبرا أنّهما يصبران على أذى المشركين، و أنّهما يعملان عمل الخوص، و يمسكان قوتهما و يتصدّقان بالفضل، فقال صالح: الحمد للّه الذي أراني في الأرض من عباده الصّالحين الذين صبروا على أذى الكفّار، فأنا أرجع إلى قومي و أصبر على أذاهم، فرجع إليهم و قد كانوا خرجوا إلى عيد لهم، فدعاهم إلى الإيمان، فسألوه آية، فقال: أيّ آية تريدون؟ فأشار سيّدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها الكائنة، و قال له: أخرج من هذه الصّخرة ناقة واسعة الجوف، كثيرة الوبر، عشراء-أي أتت عليها من يوم ارسل الفحل عليها عشرة أشهر-فإن فعلت صدّقناك، فأخذ عليهم مواثيقهم: لئن فعلت ذلك لتؤمننّ، قالوا: نعم، فصلّى و دعا ربّه، فتمخّضت الصّخرة تمخّض النتوج بولدها، فانشقّت عن ناقة عشراء جوفاء و براء كما وصفوا، فقال: يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اَللّهِ لَكُمْ آيَةً. . . ، فآمن جندع في جماعة و امتنع الباقون» (1).

و في رواية اخرى: «و منع الباقين [من الإيمان]دواب بن عمرو، و الحبّاب صاحب أوثانهم، و رباب كاهنهم، فمكثت النّاقة مع ولدها ترعى الشّجر و ترد الماء غبّا (2)، فما ترفع رأسها من البئر حتّى تشرب

ص: 331


1- . تفسير روح البيان 4:157.
2- . و ترد الماء غبّا: أن تشرب يوما و تترك يوما.

كلّ ما فيها، ثمّ تتفحّج (1)فيحلبون ما شاءوا حتّى تمتلئ أوانيهم فيشربون و يدّخرون» (2)، و هم تسعمائة أهل بيت، و قيل: ألف و خمسمائة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 65 الی 66

ثمّ أنّه عليه السّلام لمّا خاف عليها لما شاهد من إصرارهم على الكفر، قال: لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و كانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، و تشتو ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشقّ عليهم ذلك فَعَقَرُوها و اقتسموا لحمها فرقي فصيلها (3)جبلا اسمه قارة فرغا (4)ثلاثا، فقال لهم صالح: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، و انفجرت الصّخرة بعد رغائه فدخلها (5)فَقالَ لهم صالح: تَمَتَّعُوا و تعيّشوا فِي دارِكُمْ و منازلكم، أو في الدّنيا ثَلاثَةَ أَيّامٍ بلا نقص و زيادة ذلِكَ الوعد الذي وعدتكم من نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه، أو غير كذب لا يتطرّق إليه الخلف.

فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ (66)ثمّ حكى سبحانه إنجاء صالح و المؤمنين بقوله: فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا و حكمنا بنزول العذاب، أو نزل عذابنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و اتّبعوه بِرَحْمَةٍ عظيمة فائضة عليهم من النّبوة و خلوص الإيمان، أو برأفة خاصّة بهم مِنّا من عذاب الاستئصال وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ و ذلّة و فضيحة كائنة لهم حينئذ من الموت بالصّيحة، أو من خزي يوم القيامة، و هو أنّه إِنَّ رَبَّكَ يا محمّد هُوَ اَلْقَوِيُّ القادر على كلّ شيء اَلْعَزِيزُ الغالب على جميع خلقه، المسلّط على إنفاذ إرادته.

سوره 11 (هود): آیه شماره 67 الی 68

ثمّ أنّه تعالى بعد إخباره بما هو الأهمّ من نجاة أوليائه، أخبر بهلاك أعدائه بقوله: وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بظلمهم اَلصَّيْحَةُ التي فيها صوت كلّ صاعقة، و صوت كلّ شيء في الأرض-على ما

وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

ص: 332


1- . أي تباعد ما بين رجليها ليحلبوها.
2- . تفسير أبي السعود 4:222.
3- . الفصيل: ولد النافة.
4- . أي صوّت و ضجّ.
5- . تفسير أبي السعود 4:222.

قيل (1)، و قيل: المراد صيحة جبرئيل (2)-فتقطّعت قلوبهم-و قيل: لمّا وقع بعدها التموّج في الهواء، وقعت بعدها الرّجفة التي أخبر اللّه بها في سورة الأعراف (1)فَأَصْبَحُوا و صاروا فِي دِيارِهِمْ و مساكنهم، أو بلادهم جاثِمِينَ خامدين، لا صوت لهم و لا حركة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا في الدّنيا، أو في ديارهم و مساكنهم، و لم يتعيّشوا فِيها أبدا.

ثمّ أعلن سبحانه بذمّهم و شدّة استحقاقهم بقوله: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ و لم يؤدّوا شكر نعمه، و لذا استحقّوا أشدّ العذاب أَلا بُعْداً من الرّحمة لِثَمُودَ و هلاكا فضيعا لهم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 69 الی 71

في ذكر قصة لوط

و قومه

ثمّ عقّب سبحانه قصّتهم بقصّة قوم لوط بقوله: وَ لَقَدْ جاءَتْ الملائكة الّذين هم رُسُلُنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، إِبْراهِيمَ أوّلا بِالْبُشْرى و الخبر الموجب لسرور قلبه، و هو إخباره بولادة إسحاق من سارة؛ كما عن العيّاشي (2)، أو بولادة إسماعيل من هاجر؛ كما عن الباقر عليه السّلام (3)، أو بسلامة لوط و إهلاك قومه؛ كما قيل (6).

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ اِمْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)و عن ابن عبّاس: كانوا ثلاثة: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «كانوا أربعة: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل، و كروبيل» (4).

و قيل: هم جبرئيل، و اثنا عشر ملكا على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن (5). و قيل: كانوا تسعة (6).

فلمّا حضروا عند إبراهيم قالُوا: نسلّم عليك سَلاماً، و قيل: يعني قالوا قولا ذا سلام، أو ذكروا سلاما (7)قالَ إبراهيم عليه السّلام مجيبا لهم: عليكم سَلامٌ كامل تامّ من ربّكم، أو منّي. قيل: إنّه عليه السّلام كان كثير المحبّة للضّيافة، و مرّ عليه خمس عشرة ليلة لا يأتيه الضّيف، فاغتمّ لذلك، ثمّ جاءته

ص: 333


1- . تفسير أبي السعود 4:223، تفسير روح البيان 4:160.
2- . تفسير العياشي 2:314/2032، تفسير الصافي 2:459.
3- . تفسير العياشي 2:313/2031، تفسير الصافي 2:459. (6 و 7) . تفسير الرازي 18:23.
4- . مجمع البيان 5:272، تفسير الصافي 2:459.
5- . تفسير الرازي 18:23.
6- . تفسير الرازي 18:23، مجمع البيان 5:272.
7- . تفسير أبي السعود 4:224.

الملائكة في صورة الأضياف ليسرّ برؤيتهم، فلمّا رآهم بصورة لم ير مثلهم فَما لَبِثَ و ما توقّف حتّى أَنْ جاءَ عندهم بِعِجْلٍ حَنِيذٍ و مشويّ في حفرة من الأرض بحجارة محماة بغير تنور و مسّ نار، كفعل أهل البادية (1).

و عن الباقر عليه السّلام: يعني: «زكيّا مشويّا نضيجا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: يعني: «مشويّا نضيجا» (3).

و قيل: يعني: مشويّا يقطر منه دسمه (4).

و عنه عليه السّلام: «قال عليه السّلام (5): كلوا، فقالوا: لا نأكل حتّى تخبرنا ما ثمنه، فقال: إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه، و إذا فرغتم فقولوا: الحمد للّه» . قال الصادق عليه السّلام: «فالتفت جبرئيل إلى أصحابه؛ و كانوا أربعة رئيسهم جبرئيل، فقال: حقّ للّه أن يتخذ هذا خليلا» (6).

فلم يأكلوا من العجل، و لم يمدّوا أيديهم إليه فَلَمّا رَأى إبراهيم عليه السّلام أن أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ بل كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللّحم و يأكلون منه-على ما روي (7)-و كان ترك الأكل أمارة إرادة السّوء بالمضيف نَكِرَهُمْ و كره ذلك منهم وَ أَوْجَسَ و أدرك في نفسه مِنْهُمْ خِيفَةً لظنّه من عدم أكلهم الطّعام إرادتهم السّوء به، أو أنّهم ملائكة أرسلهم اللّه إليه لأمر أنكره عليه، أو لتعذيب قومه.

فلمّا رأت الرّسل تشويش قلبه الشّريف قالُوا تسكينا له: لا تَخَفْ منّا على نفسك و قومك إِنّا ملائكة أُرْسِلْنا من جانب اللّه بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ خاصّة، فطب نفسا.

وَ اِمْرَأَتُهُ ابنة عمّه هاران بن ناحور (8)-على ما قيل (9)- قائِمَةٌ وراء السّتر، أو في المجلس للخدمة-لكون خدمة الضّيفان من مكارم الأخلاق-فسمعت كلامهم فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخوف عن إبراهيم، أو بالبشارة بهلاك أهل الفساد، أو بهما، أو بقول جبرئيل: حقّ لمثل هذا الرّجل أن يتّخذه ربّه خليلا، أو موافقة قول الملائكة لقولها لإبراهيم عليه السّلام قبل مجيئهم: إنّ اللّه لا يترك قوم لوط حتّى يعذّبهم، أو برؤيتها أنّ الملائكة أحيوا العجل المشويّ حين سألهم إبراهيم عليه السّلام معجزة دالّة

ص: 334


1- . تفسير الرازي 18:24.
2- . تفسير العياشي 2:313/2031، تفسير الصافي 2:459.
3- . تفسير العياشي 2:315/2034، تفسير الصافي 2:459.
4- . تفسير الرازي 18:24، تفسير روح البيان 4:162.
5- . أي إبراهيم عليه السّلام.
6- . تفسير العياشي 2:315/2032، تفسير الصافي 2:459.
7- . تفسير أبي السعود 4:224.
8- . في مجمع البيان: هاران بن ياحور.
9- . مجمع لبيان 5:273.

على كونهم رسل اللّه، على ما قيل (1).

و قيل: إنّ معنى «ضحكت» تعجّبت، كما عن الباقر عليه السّلام (2). أو حاضت من الفزع. و عن الصادق عليه السّلام: «يعني حاضت» (3). و عن القمّي: أي حاضت، و قد كان ارتفع حيضها منذ دهر طويل (4).

فَبَشَّرْناها بتوسّط أولئك الرّسل بِإِسْحاقَ عقيب سرورها أو تعجّبها وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ و بعده يَعْقُوبَ، قيل: لمّا حاضت بشّرت بالولد (5).

سوره 11 (هود): آیه شماره 72 الی 74

فمّا سمعت سارة تلك البشارة قالَتْ إظهارا لفضاعة هذا الخبر، و تعجّبا منه: يا وَيْلَتى و يا عجبا أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ بنت تسعة و تسعين سنة، كما قيل (6)، أو تسعين سنة، كما عن أحدهما عليهما السّلام (7)وَ هذا الرّجل بَعْلِي و زوجي ترونه شَيْخاً ابن مائة سنة، كما قيل (8)، أو ابن مائة و عشرين سنة، كما عن أحدهما عليهما السّلام (9). لا يكون ذلك بحسب العادة إِنَّ هذا الخبر الذي تخبرون به لو وقع لَشَيْءٌ عَجِيبٌ وقع بالنّسبة إلى عادة اللّه المسلوكة في عباده. و إنّما كان مقصودها استعظام الأمر، لا إظهار الشّك في قدرة اللّه.

قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ اَلْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)فلمّا رأى الرّسل تعجّبها ممّا بشّروها به قالُوا منكرين عليها: أَ تَعْجَبِينَ يا سارة مِنْ أَمْرِ اَللّهِ و شأنه بسبب إيجاد الولد من الكبيرين الفانيين، مع أنّ قدرته أعظم من ذلك، حيث إنّه خلق الإنسان من تراب، و سنّته في عموم النّاس غير سنّته في خواصّ أوليائه إظهارا للآية. و اعلمي أنّه تكون رَحْمَةِ اَللّهِ و نعمه الفاضلة وَ بَرَكاتُهُ النامية و خيراته المتكاثرة نازلتين عَلَيْكُمْ محيطتين بكم، لازمتين لكم يا أَهْلَ اَلْبَيْتِ و منها إكرامكم بهذه الولادة.

قيل: إنّ الرّحمة هي النبوّة، و البركات هي الأسباط (10).

ص: 335


1- . تفسير الرازي 18:26.
2- . تفسير العياشي 2:313/2031، تفسير الصافي 2:460.
3- . تفسير العياشي 2:314/2031، تفسير الصافي 2:460.
4- . تفسير القمي 1:334، تفسير الصافي 2:460.
5- . تفسير الرازي 18:26.
6- . مجمع البيان 5:273.
7- . علل الشرائع:551/6، تفسير الصافي 2:460.
8- . مجمع البيان 5:273.
9- . علل الشرائع:551/6، تفسير الصافي 2:460.
10- . تفسير روح البيان 4:164.

ثمّ حثّوها على الحمد و الثّناء على اللّه بقوله: إِنَّهُ حَمِيدٌ و محمود بذاته، أو مستحقّ للحمد من عباده مَجِيدٌ فيما ينعم عليهم. قيل: إن المجيد الشّريف ذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه (1).

فَلَمّا ذَهَبَ و زال عَنْ إِبْراهِيمَ اَلرَّوْعُ و الخوف الذي طرأ عليه (2)من عدم أكل الرّسل عنده، لمّا عرف أنّهم الملائكة و لم يجيئوا لتعذيب قومه وَ جاءَتْهُ اَلْبُشْرى بنجاة قومه، أو بالولد، كان يُجادِلُنا و يكلّمنا بمكالمة رسلنا فِي شأن قَوْمِ لُوطٍ و رفع العذاب عنهم بشفاعته.

قيل: إنّه قال لهم-حين قالوا: إنّا مهلكو أهل هذه القرية: أ رأيتم إن كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين، أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتّى بلغ العشرة، قالوا: لا، قال: فرجل واحد مسلم؟ قالوا: لا، قال: إنّ فيها لوطا (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 75 الی 81

ثمّ لمّا كان الباعث على المجادلة صفاته الحميدة، مدحه اللّه بها بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ و مساهل في الانتقام من المسيئين أَوّاهٌ و شديد الأسف على المذنبين مُنِيبٌ و رجّاع إلى اللّه، ضرّاع إليه.

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)ثمّ قالت الرّسل: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ و كفّ عَنْ هذا الجدال و الترحّم بمن ليس أهلا للرّحمة، و الإشفاق على من لا يليق بالشّفقة إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ و بلغ وقت جريان قدره على وفق قضائه في حقّ قوم لوط وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ و نازل عليهم عَذابٌ شديد غَيْرُ مَرْدُودٍ و لا مدفوع عنهم بجدال أو شفاعة و دعاء.

ص: 336


1- . تفسير روح البيان 4:164.
2- . في النسخة: طرأه.
3- . تفسير الرازي 18:29.

عن ابن عبّاس: ثمّ انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط، و بين القريتين أربعة فراسخ، و دخلوا عليه على صورة شبّان مرد من بني آدم، و كانوا في غاية الحسن (1).

وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً و رآهم بتلك الصّفة من الحسن و الجمال سِيءَ بِهِمْ و خاف من قومه عليهم، أو على نفسه حيث منعوه من أن يدخل عليه الضّيف وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و قلّت بمكانهم طاقة تحمّله، أو ضاق صدره أو قلبه و انقبض من ورودهم عليه، لعلمه بخبث قومه، و عجزه عن دفاعهم عنهم وَ قالَ تلهّفا: هذا اليوم يَوْمٌ عَصِيبٌ و شديد عليّ أمره.

روي أنّ اللّه تعالى قال للملائكة: لا تهلكوهم حتّى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلمّا مشى منطلقا بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: و ما أمرها؟ قال: أشهد باللّه أنّهم لشرّ قوم في الأرض عملا-يقول ذلك أربع مرّات-، فدخلوا منزله و لم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت به قومها و قالت: إنّ في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قطّ (2).

وَ جاءَهُ قَوْمُهُ و هو في بيته مع أضيافه، و هم يُهْرَعُونَ و يسرعون إِلَيْهِ لشدّة طلبهم الفاحشة من أضيافه وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ و يرتكبون القبائح، و يتمرّنون عليها، بحيث لم يبق في نظرهم قبحها (3)، و لذا كانوا متجاهرين بها، غير مستحيين منها. فلمّا رآهم لوط و علم بقصدهم قالَ لهم وقاية لأضيافه، و إظهارا لغاية كرامة نفسه: يا قَوْمِ إن تريدون قضاء الشّهوة فانظروا هؤُلاءِ النّسوة بَناتِي فاقضوا بهنّ الشّهوة هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ و أنزه.

قيل: كانوا يطلبونهنّ من قبل و لا يجيبهم، لخبثهم و عدم كفاءتهم (4)، و لم يقل ذلك على الجدّ و الحقيقة، و إنّما قاله طمعا في أن يستحيوا أو يرقّوا له، فينزجروا عمّا أرادوا.

و عن القمّي: عنى به أزواجهم، و ذلك أنّ النبيّ أبو امّته، فدعاهم إلى الحلال، و لم يكن يدعوهم إلى الحرام (5).

و حكي ذلك عن مجاهد و سعيد بن جبير (6).

ثمّ نصحهم بقوله: فَاتَّقُوا اَللّهَ في ارتكاب الفاحشة بإتيان الذّكران، ثمّ تضرّع إليهم بقوله: وَ لا تُخْزُونِ و لا تفضحوني، أو لا تخجلوني عند النّاس فِي شأن ضَيْفِي هؤلاء أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ و مهتد إلى الحقّ، و منكر لفعل القبيح يردّ هؤلاء الأوباش.

ص: 337


1- . تفسير الرازي 18:31.
2- . تفسير أبي السعود 4:227.
3- . في تفسير روح البيان 4:167 و استمروا حتى لم تعب عندهم قباحتها.
4- . تفسير أبي السعود 4:228.
5- . تفسير القمي 1:335، تفسير الصافي 2:461.
6- . مجمع البيان 5:279.

عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّه وضع يده على الباب، ثمّ ناشدهم فقال: «اتّقوا اللّه و لا تخزون في ضيفي، ثمّ عرض عليهم بناته بنكاح» (1).

ثمّ أنّهم مع جميع ذلك قالُوا مجيبين له: يا لوط لَقَدْ عَلِمْتَ بعد إقامتك فينا مدّة طويلة أنّه ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ و حاجة في رفع الشّهوة، أو حقّ تمتّع، لأنّهنّ لسن لنا بأزواج، و لا تميل طباعنا أيضا إليهنّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ و ما نشتهي، و هو مواقعة الذّكران، و لا ننصرف عنها.

فلمّا يئس لوط من انصرافهم عمّا هم عليه قالَ تمنّيا: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً و على دفعكم قدرة بنفسي أَوْ آوِي و ألتجئ إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ و ناصر قاهر امتنع به عنكم.

و قيل: يعني: أو أنّ لي أحد الأمرين لفعلت ما فعلت (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «رحم اللّه أخي لوطا، كان يأوي إلى ركن شديد» (3).

عن الباقر عليه السّلام: «رحم اللّه لوطا لو يدري من معه في الحجرة لعلم أنّه منصور حيث يقول: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي ركن أشدّ من جبرئيل؟» (4).

روي أنّه أغلق أبوابه دون أضيافه، و أخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوّروا الجدار، فلمّا رأت الملائكة كرب لوط و عجزه عن مدافعتهم قالُوا تسلية له: يا لُوطُ لا تغتمّ و لا تبال بهم إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ و إنّهم لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بسوء و مكروه، فافتح الباب و دعنا و إيّاهم (5).

و في (الجوامع) : قال جبرئيل: إنّ ركنك لشديد، افتح الباب و دعنا و إيّاهم، ففتح الباب فدخلوا (6)، فاستأذن جبرئيل ربّه في عقوبتهم فأذن له، فقام جبرئيل في الصّورة التي يكون فيها، فنشر جناحه، و له جناحان، و عليه و شاح من درّ منظوم، و هو برّاق الثّنايا، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم و أعماهم، فصاروا لا يعرفون الطّريق، فخرجوا و هم يقولون: النّجاء النّجاء، فإنّ في بيت لوط قوما سحرة (7).

ثمّ قالوا للوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ و عيالك بِقِطْعٍ و طائفة مِنَ اَللَّيْلِ و اخرجوا جميعا من القرية وَ لا يَلْتَفِتْ و لا ينظر إلى الوارء مِنْكُمْ أَحَدٌ أنت و أهلك. قيل: لئلاّ يبطئوا في السّير، أو لئلاّ يروا ما ينزل بالقوم من العذاب، فيرقّوا (8)لهم، أو المراد: لا يتخلّف منكم [أحد] إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ.

ص: 338


1- . تفسير العياشي 2:318/2040، تفسير الصافي 2:461.
2- . تفسير أبي السعود 4:229.
3- . تفسير الرازي 18:35، تفسير أبي السعود 4:229.
4- . الكافي 5:546/5، تفسير الصافي 2:462.
5- . تفسير أبي السعود 4:229.
6- . جوامع الجامع:208.
7- . تفسير أبي السعود 4:229، تفسير روح البيان 4:169.
8- . تفسير روح البيان 4:169.

روي أنّه لمّا أسرى بأهله تبعتهم، فلمّا سمعت هدّة العذاب التفتت و قالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها (1).

و الظّاهر؛ كما عن الأكثر، الاستثناء راجع إلى قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ لا إلى قوله: وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، و المعنى: فأسر بأهلك إلاّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ من العذاب لا محالة، فتكون من الهالكين.

ثمّ ذكروا علّة خروجه باللّيل بقولهم: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ و وقت نزول العذاب عليهم هو اَلصُّبْحُ روي أنّما لمّا قالوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ قال لوط: اريد أعجل من ذلك، بل السّاعة، فقالوا: أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (2).

قيل: إنّ علّة توقيت العذاب بالصّبح أنّه وقت الدّعة و الرّاحة، و العذاب فيه أشدّ (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 82 الی 83

ثمّ حكى سبحانه كيفيّة العذاب و شدّته بقوله: فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا و عذابنا، أو وقت نزوله على القرى السّبعة (4)، و فيها أربعمائة ألف ألف-على ما قيل (5)أو أمرنا به بقولنا: (كن) ، أو أمرنا للملائكة بإهلاكهم، قلبناها، بأن جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها بتوسّط جبرئيل وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها بعد قلبها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قيل: إنّه معرّب «سنگ گل» (6). و قيل: إنّه «سجين» قلبت نونه لاما (7). و قيل: يعني: من طين، فإنّ أصل الحجر الطّين (8)، و قيل: مأخوذ من (سجلّ) ، و المعنى أنّه ممّا كتب اللّه أن يعذّبهم به (9). و قيل: إنّه اسم سماء الدّنيا (10). و قيل: معناه موضع الحجارة، و هي جبال مخصوصة (11)، و ذلك السجّيل (6)مَنْضُودٍ و موضوع بعضه فوق بعض، ليكون معدّا للعذاب، أو المعنى كان ذلك المطر متتابعا بنزول بعضه إثر بعض؛ كقطر الأمطار. و كلّ حجارة مُسَوَّمَةً و معلّمة بخطوط حمراء مثل الجزع (7)، أو بنقط فيها-كما عن القمّي (8)أو بأمثال الخواتيم، أو بسيماء لا تشارك حجارة الأرض، أو

فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ اَلظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

ص: 339


1- . تفسير الرازي 18:36، تفسير أبي السعود 4:229.
2- . تفسير الرازي 18:37، تفسير أبي السعود 4:230.
3- . تفسير أبي السعود 4:230، تفسير روح البيان 4:170.
4- . في تفسير أبي السعود: قرى قوم لوط، و هي التي عبّر عنها بالمؤتفكات، و هي خمس مدائن.
5- . تفسير أبي السعود 4:230. (6و7و8) تفسير الرازي 18:38. (9و10و11) . تفسير الرازي 18:38.
6- . هذا التعبير لا يتناسب مع قوله: مَنْضُودٍ من حيث الإعراب، فهو يقتضي أن يكون (منضودة) بالرفع.
7- . الجزع: ضرب من العقيق بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان.
8- . تفسير القمي 1:336، تفسير الصافي 2:463.

بأنّه كان عليها اسم من رمى بها. و على أيّ تقدير كانت تلك الحجارة عِنْدَ رَبِّكَ و في خزائنه لا يتصرّف فيها غيره.

ثمّ هدّد سبحانه مشركي عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ ما هِيَ مِنَ اَلظّالِمِينَ الّذين هم في هذا العصر بِبَعِيدٍ.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سأل جبرئيل عن هذا، فقال: يعني ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلاّ و هو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة (1).

عن الباقر عليه السّلام: «وَ ما هِيَ مِنَ اَلظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [من]ظالمي امّتك، إن عملوا ما عمل قوم لوط» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من مات مصرّا على اللّواط لم يمت حتّى يرميه اللّه بحجر من تلك الحجارة تكون فيه منيّته، و لا يراه أحد» (3).

و عنه عليه السّلام: «ما من عبد يخرج من الدّنيا يستحلّ عمل قوم لوط إلاّ رمى اللّه كبده من تلك الحجارة تكون منيّته فيها، و لكنّ الخلق لا يرونه» (4).

و قيل: إنّ المراد: ليست القرى المؤتفكات من مشركي مكّة ببعيد، لأنّها كانت في الشّام، و هو قريب من مكّة (5).

عن الباقر عليه السّلام: «كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم اللّه، فطلبهم إبليس الطّلب الشّديد، و كان من فضلهم و خيرهم أنّهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النّساء خلفهم، فلم يزل إبليس يعتادهم، و كانوا إذا رجعوا خرّب إبليس ما كانوا يعملون، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرّب متاعنا، فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقالوا له: أنت الذي تخرّب متاعنا مرّه بعد مرّة، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه، فجعلوه عند رجل، فلمّا كان اللّيل صاح، فقال له: مالك؟ فقال: كان أبي ينوّمني على بطنه، فقال له: تعال فنم على بطني، قال: فلم يزل بذلك الرّجل حتّى علّمه أن يفعل بنفسه، فأوّلا علّمه إبليس و الثانية علّمه هو، ثمّ انسلّ ففرّ منهم، و أصبحوا و جعل الرّجل يخبر بما فعل الغلام و يعجّبهم منه و هم لا يعرفونه، فوضعوا أيديهم فيه حتّى اكتفى الرّجال بالرّجال بعضهم ببعض، ثمّ جعلوا يرصدون مارّة الطّريق فيفعلون بهم، حتّى تنكّب (6)مدينتهم الناس، ثمّ تركوا نساءهم و أقبلوا على الغلمان.

ص: 340


1- . تفسير الرازي 18:39.
2- . الكافي 5:546/5، تفسير الصافي 2:463.
3- . تفسير العياشي 2:321/2046، الكافي 5:548/9، تفسير الصافي 2:463.
4- . تفسير القمي 1:336، تفسير الصافي 2:463.
5- . تفسير الرازي 18:39.
6- . أي أعرض عنها و تجنّبها.

فلمّا رأى أنّه قد أحكم أمره في الرّجال، جاء إلى النّساء فصيّر نفسه امرأة، ثمّ قال: إن رجالكنّ يفعل بعضهم ببعض، قلن: نعم، قد رأينا ذلك. و كلّ ذلك يعظهم لوط و يوصيهم، و إبليس يغويهم حتّى استغنى النّساء بالنّساء.

فلمّا كملت عليهم الحجّة بعث اللّه جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في زيّ غلمان عليهم أقبية، فمرّوا بلوط و هو يحرث فقال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قطّ، قالوا: إنّا أرسلنا سيّدنا إلى ربّ هذه المدينة. قال: أو لم يبلغ سيّدكم ما يفعل أهل هذه المدينة؟ يا بنيّ إنّهم و اللّه يأخذون الرّجال فيفعلون بهم حتّى يخرج الدّم، قالوا: أمرنا سيّدنا أن نمرّ وسطها، قال: فلي إليكم حاجة، قالوا: و ما هي؟ قال: تصبرون هاهنا إلى اختلاط الظّلام، فجلسوا، فبعث ابنته فقال: جيئي لهم بخبز و بماء في القرعة (1)و عباء يتغطّون بها من البرد.

فلمّا أن ذهبت الابنة أقبل المطر و الوادي، فقال [لوط]: السّاعة يذهب بالصّبيان الوادي، قال: قوموا حتّى نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط، و جعل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل يمشون وسط الطّريق، فقال يا بنيّ امشوا هاهنا، فقالوا: أمرنا سيّدنا أن نمرّ في وسطها، و كان لوط يستغنم الظّلام، و مرّ إبليس فأخذ من حجر امرأة صبيّا فطرحه في البئر، فتصايح أهل المدينة كلّهم على باب لوط، فلمّا نظروا إلى الغلمان في منزل لوط، قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا، قال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني في ضيفي، قالوا: هم ثلاثة، خذ واحدا و أعطنا اثنين. قال: فأدخلهم في حجرة، و قال: لو أنّ لي أهل بيت يمنعونني منكم، فتدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا، فقال له جبرئيل: إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فأخذ كفّا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قال: شاهت الوجوده فعمي أهل البلد كلّهم، فقال لهم لوط: يا رسل ربّي فما أمركم ربّي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسّحر، قال: فلي إليكم [حاجة]قالوا: فما حاجتك؟ قال: تأخذونهم السّاعة (2)، فقالوا: يا لوط إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ لمن يريد أن يأخذ، فخذ أنت بناتك ودع امرأتك» (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل و كروبيل، فمرّوا بإبراهيم عليه السّلام و هم معتمّون، فسلّموا عليه فلم يعرفهم، و رأى هيئة حسنة فقال: لا يخدم هؤلاء إلاّ أنا بنفسي، و كان صاحب ضيافة، فشوى لهم عجلا سمينا حتّى أنضجه، ثمّ قرّبه إليهم، فلمّا وضعه بين أيديهم رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة، فلمّا رأى

ص: 341


1- . القرعة: واحدة القرع: و هو نبات الدّبّاء، تستخدم قشرته كإناء للماء و غيره.
2- . زاد في الكافي: فإني أخاف أن يبدو لربّي فيهم.
3- . الكافي 5:544/5، تفسير الصافي 2:464.

ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم، فقال: أنت هو، قال: نعم. و مرّت سارة امرأته فبشّرها بإسحاق، و من وراء إسحاق يعقوب، فقالت: ما قال اللّه عزّ و جلّ، و أجابوها بما في الكتاب العزيز، فقال لهم إبراهيم: لماذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط، فقال: إن كان فيهم مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا: لا» . . . إلى آخر ما سبق من مجادلة إبراهيم، بتفاوت يسير.

قال الرّاوي: [قال عليه السّلام] «لا أعلم هذا القول إلاّ و هو يستبقيهم، و هو قول اللّه عزّ و جل: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ، فأتوا لوطا و هو في زراعة قرب القرية، فسلّموا عليه و هم معتمّون، فلمّا رأى هيئة حسنة، عليهم ثياب بيض، و عمائم بيض، فقال لهم: المنزل؟ فقالوا: نعم، فتقدّمهم و مشوا خلفه فتندّم على عرضه المنزل عليهم و قال: أيّ شيء صنعت، أن آتي [بهم]قومي و أنا أعرفهم! فالتفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه، قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتّى يشهد عليهم ثلاث مرّات، و قال هذه واحدة، ثمّ مشى ساعة ثمّ التفت إليهم و قال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه، قال جبرئيل: هذه ثنتان، ثمّ مشى فلمّا بلغ المدينة التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه، فقال جبرئيل: هذه الثالثة، ثمّ دخل و دخلوا معه حتّى دخل منزله، فلمّا رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة، فصعدت فوق السطح و صفّقت: فلم يسمعوا، فدخّنت، فلمّا رأوا الدّخان أقبلوا يهرعون حتّى جاءوا إلى الباب، فنزلت إليهم فقالت: عنده قوم، ما رأيت قوما قطّ أحسن منهم هيئة، فجاءوا إلى الباب ليدخلوا، فلمّا رآهم لوط قام إليهم، فقال لهم: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، و قال: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فدعاهم إلى الحلال، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ، فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، فقال جبرئيل: لو يعلم أيّ قوّة له.

قال: فكاثروه (1)حتّى دخلوا البيت، فصاح به جبرئيل و قال: يا لوط دعهم يدخلون، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم، فذهبت أعينهم، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ (2)، ثمّ ناداه جبرئيل فقال له: إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ، و قال له جبرئيل: إنّا بعثنا في إهلاكهم، فقال: يا جبرئيل عجّل، فقال: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، فأمره فتحمّل هو و من معه إلاّ امرأته، ثمّ اقتلعها-يعني المدينة-جبرئيل بجناحيه من سبعة أرضين، ثمّ رفعها حتّى سمع أهل السّماء (3)نباح الكلاب و صراخ الدّيوك، ثمّ قلبها و أمطر عليها و على

ص: 342


1- . أي غالبوه بالكثرة.
2- . القمر:54/37.
3- . في الكافي: أهل سماء الدّنيا.

من حول المدينة حجارة من سجّيل» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ يا لوط، إذا مضى من يومك هذا سبعة أيّام و ليالها بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ. قال: فلمّا كان اليوم الثّامن مع طلوع الفجر قدّم [اللّه]رسلا إلى إبراهيم يبشّرونه بإسحاق و يعزّونه بهلاك قوم لوط، و ذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى» (2).

أقول: لا يخفى ما في روايات هذه القصّة من الاختلاف من جهات كثيرة، و الذي يهوّن الخطب أنّه لا حجّية فيها. و لا بأس بالتبرّع بحمل بعضها على الإجمال، و بعضها على التّفصيل، و بعضها على اشتباه الرّاوي.

سوره 11 (هود): آیه شماره 84

ثمّ ذكّر سبحانه بعد قصّة هلاك قوم لوط قصّة هلاك قوم شعيب، بعد إتمام الحجّة عليهم، و إصرارهم على الكفر و الطّغيان، إرعابا لقلوب المشركين، و تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ إِلى قبيلة مَدْيَنَ و هم أولاد مدين بن إبراهيم الخليل، سمّوا باسم جدّهم الأعلى، أو المراد: أهل مدين- و هي بلدة بناها مدين و سمّيت باسمه (3)-أرسلنا أَخاهُمْ و واحدا منهم، كان اسمه شُعَيْباً ليدعوهم إلى التوحيد و ترك عبادة الأصنام قالَ لهم بلين و رفق: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده و اتركوا عبادة غيره، لأنّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ و معبود مستحقّ للعبادة غَيْرُهُ.

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)ثمّ أنّه عليه السّلام بعد ردعهم عن أشنع العقائد التي كانوا عليها، نهاهم عن أقبح الأعمال التي كانوا حريصين عليها بقوله: وَ لا تَنْقُصُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ حين تؤدّون حقوق النّاس بالكيل أو الوزن، و لا تظلموهم بالسّرقة من أموالهم عند إيفائها.

ثمّ نصحهم بقوله: إِنِّي أَراكُمْ متلبّسين بِخَيْرٍ وسعة في المعاش، و ثروة مغنية لجميع حوائجكم، فلا تتوسّلوا إلى ازديادها بالظّلم على النّاس، أو المراد: إنّي أراكم محاطين بنعم اللّه التي كان حقّها أن تشكروها بالإحسان إلى غيركم، فلا تزيلوها بكفرانها بما أنتم عليه من الظّلم.

ثمّ هدّدهم عليه بقوله: وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من أن تلاقوا في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما،

ص: 343


1- . الكافي 5:546/6، تفسير الصافي 2:465.
2- . تفسير العياشي 2:433/2339، علل الشرائع:549/4، تفسير الصافي 2:463.
3- . تفسير أبي السعود 4:231.

بعملكم هذا عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ بكم، ذلك اليوم بما فيه من الشّرور، إحاطة الدّائرة بما فيها، بحيث لا ينجو منها أحد.

قيل: إنّ التّهديد بتوصيف اليوم بالإحاطة، أبلغ من توصيف العذاب بها (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 85

ثمّ أكّد ردعهم عن عادتهم الشّنيعة بقوله: وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ و العدل عند إيفائكم الحقوق إلى صاحبها، أو استيفائكم حقوق أنفسكم من غيركم. و من المعلوم أنّ لازم وجوب الوفاء الاحتياط فيه عند الشكّ فيه، حتّى يعلم بحصوله.

وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)عن الباقر عليه السّلام: «وجدنا في كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا طفّف (2)المكيال و الميزان أخذهم اللّه بالسّنين و النّقص» (3).

و في رواية اخرى: «و شدّة المؤنة، و جور السّلطان» (4).

ثمّ عمّم النّهي عن تنقيص جميع الحقوق و لو كان إيفاؤها بغير المكيال و الميزان بقوله: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ و لا تنقصوهم أَشْياءَهُمْ التي يجب عليكم أن تؤدّوها إليهم بالكيل و الوزن، أو بغيرهما من الأموال و الحقوق.

ثمّ عمّم النّهي لمطلق الإضرار على الغير، و الإفساد في دينهم أو دنياهم بقوله: وَ لا تَعْثَوْا و لا تسعوا فِي اَلْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ مصالح أنفسكم و أبناء نوعكم، دنيويّا و اخرويّا، أو المراد: لا تسعوا في إفساد امور غيركم حال كونكم بهذا الإفساد مفسدين في امور أنفسكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 86

ثمّ بالغ في النّصح بقوله: بَقِيَّتُ اَللّهِ و ما رزقكم من الحلال خَيْرٌ لَكُمْ و أنفع ممّا تكتسبون بالتّطفيف و البخس و غيرهما إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بأحكام اللّه و ثوابه و عقابه في الآخره، تصدّقون قولي، أو المراد: إن كنتم مصدّقين بأنّي ناصح لكم وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ و رقيب حتّى أجبركم على ترك القبائح، أو حافظ لأعمالكم كي اجازيكم بها، و إنّما أنا نذير و اللّه هو الحفيظ، أو المراد: و ما

بَقِيَّتُ اَللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)

ص: 344


1- . تفسير أبي السعود 4:231.
2- . طفّف المكيال: إذا بخسه و نقصه.
3- . الكافي 2:277/2، تفسير الصافي 2:467.
4- . الكافي 2:277/1، تفسير الصافي 2:467.

أنا بحافظ عليكم نعم اللّه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من الكفران الموجب لزوالها.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أوّل ما ينطق [به]القائم حين يخرج، هذه الآية: بَقِيَّتُ اَللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، ثمّ يقول: أنا بقيّة اللّه [في أرضه]و حجّته و خليفته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلّم إلاّ قال: السّلام عليك يا بقية اللّه في أرضه» (1).

روي أنّ الباقر عليه السّلام صعد جبلا يشرف على مدين حين اغلق دونه باب مدين، و منع أن يخرج إليه بالأسواق، فخاطبهم بأعلى صوته: «يا أهل المدينة الظّالم أهلها، أنا بقيّة اللّه، يقول اللّه: بَقِيَّتُ اَللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. و كان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال لهم: يا قوم، هذه و اللّه دعوة شعيب النبي، و اللّه لئن لم تخرجوا إلى هذه الرّجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم و من تحت أرجلكم» (2).

سوره 11 (هود): آیه شماره 87 الی 88

ثمّ أنّ القوم بعد إبلاغ النّصح و الإنذار قالُوا لشعيب عنادا و استهزاء: يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ و تدعوك إلى أن تأمرنا أَنْ نَتْرُكَ عبادة ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، أَوْ نترك أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا من التصرّف بالزّيادة و النّقص، و الأخذ و الإعطاء.

قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88)قيل: إنّه عليه السّلام كان يصلّي باللّيل، و يعظ قومه بالنّهار و ينهاهم عن تقطيع أطراف الدّراهم و الدّنانير (3)، و البخس و التّطفيف. و كانوا إذا رآوه يصلّي يتغامزون و يتضاحكون (4)، و لذا أسندوا مواعظه إلى الخطرات الحاصلة له من مواظبته على الصّلاة.

ثمّ وصفوه بالعقل و الرّشد تهكّما بقولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ و العاقل المهتدي إلى كلّ خير. و المقصود ضدّهما، و الإشعار بأنّه السّفيه الضّال. و عليه يحمل ما عن القمّي: أنّهم قالوا: إنّك

ص: 345


1- . كما الدين:331/16، تفسير الصافي 2:468.
2- . الكافي 1:392/5، تفسير الصافي 2:468.
3- . تفسير البيضاوي 1:466، تفسير روح البيان 4:174.
4- . تفسير أبي السعود 4:232.

لأنت السّفيه الجاهل، فحكى (1)اللّه عزّ و جل قولهم: فقال: إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ (2).

و قيل: إنّ الحليم الرّشيد؛ بلغة أهل مدين، الأحمق السّفيه (3).

و قيل: إنّه تعليل لما سبق من استبعادهم قوله، و المعنى: إنّك لأنت الحليم الرّشيد على زعمك، فلا ينبغي منك هذه الأقوال الفاسدة (4).

قالَ شعيب: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ و أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ و حجّة واضحة على نبوّتي، أو حكمة كاملة اوتيتها مِنْ قبل رَبِّي و مليكي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ بفضله رِزْقاً حَسَناً و مالا حلالا يكفيني في معيشتي و راحتي، أو وهبني من النّبوّة مرتبة عالية، فهل يسعني؛ مع هذا الإنعام العظيم و تفضّله عليّ بالسّعادة الجسمانيّة و الرّوحانيّة، أن اقصّر في تبليغ وحيه، و اخالفه في أمره و نهيه، بأن اوافق معكم و لا آمركم بترك عبادة الأصنام و قبائح الأعمال، مع أنّه تعالى أرسلني إليكم لذلك؟ ! وَ ما أُرِيدُ بنصحي لكم و ردعكم عمّا أنتم عليه أَنْ أُخالِفَكُمْ و ما أنا مائل إِلى ما أَنْهاكُمْ و أزجركم عَنْهُ من المشتهيات، بل أختار لكم ما أختار لنفسي، و أزجركم عمّا أنزجر عنه، و أنتم تعرفون من حالي مدّة عمري بينكم أنّي إِنْ أُرِيدُ و ما أطلب بنصحي إِلاَّ اَلْإِصْلاحَ لنفوسكم و أعمالكم، و تنزيهكم عن القبائح مقدار مَا اِسْتَطَعْتُ من الإصلاح، أو ما دمت متمكّنا منه، و ما اريد إلقاء الفتنة فيكم وَ ما تَوْفِيقِي لإنفاذ مقصودي و تحقيق مرامي المذكور إِلاّ بِاللّهِ الموفّق لكلّ خير. و فيه تنبيه على عدم جواز اعتماد المؤمن في أعماله على قدرته.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: عَلَيْهِ تعالى تَوَكَّلْتُ و اعتمدت في القيام بوظيفتي عمّا سواه؛ لأنّه القادر على كلّ شيء، و ما سواه عاجز عن كلّ شيء وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ و أرجع فيما أنا بصدده من الإصلاح و الإرشاد، أو إليه أقبل بشراشري في جميع اموري. و فيه إعلان بكمال توحيده، و بعدم مبالاته بعداوة النّاس، و إشعار بمعرفته بالمعاد.

سوره 11 (هود): آیه شماره 89 الی 92

ص: 346


1- . في المصدر: فكنى.
2- . تفسير القمي 1:337، تفسير الصافي 2:468.
3- . تفسير روح البيان 4:174.
4- . تفسير أبي السعود 4:233.

سوره 11 (هود): آیه شماره 93

ثمّ بالغ في نصحهم بقوله: وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ و لا يحملنّكم شِقاقِي و عداوتي على أَنْ يُصِيبَكُمْ بكفركم و لجاجكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من العذاب، فإن لم تعتبروا باولئك الامم المهلكة؛ لبعد مكانهم و زمانهم، فاعتبروا بقوم لوط وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ مكانا لقرب بلادهم من مدين، و زمانا لكون زمان إهلاكهم أقرب إلى زمانكم من زمان هلاك هؤلاء الأقوام وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الإشراك به ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من التّطفيف و غيره من المعاصي، حتّى يغفر لكم، و يتوب عليكم إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بعباده التّائبين وَدُودٌ و محبّ لهم، ينجيهم من العذاب، و يعطيهم الثّواب.

وَ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)قالُوا بعد تلك المواعظ الكافية، إهانة له: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ و لا نفهم كَثِيراً مِمّا تَقُولُ. قيل: إنّما كانت علّة عدم فهمهم غاية نفرتهم عن كلامه (1)، أو عدم معرفتهم صحّة دلائل التّوحيد، و شناعة البخس و التّطفيف.

ثمّ بالغوا في تحقيره بقولهم: وَ إِنّا لَنَراكَ فِينا و بيننا ضَعِيفاً في القوى الجسمانيّة، بحيث لا تقدر على الدّفاع إن آذيناك و قتلناك، أو مهينا لا عزّ لك وَ لَوْ لا رَهْطُكَ و حرمة أقاربك الّذين هم على ديننا لَرَجَمْناكَ و قتلناك بأسوأ القتل، و هو رميك بالحجارة وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ و مكرم، و إنّما يحفظك من الرّجم حرمة قومك لا حرمتك.

قالَ شعيب: يا قَوْمِ أَ رَهْطِي و عشيرتي أَعَزُّ و أكرم عَلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ العزيز القاهر الذي أرسلني إليكم لتبليغ توحيده و أحكامه، فإنّ إهانتي و إيذائي إهانته و إيذاؤه وَ أنتم اِتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا و نبذتموه خلف أظهركم، و جعلتموه منسيّا لا تعتنون به أبدا.

ثمّ إنّه بعد توبيخهم على جعل رعاية قومه أولى من رعاية حرمة اللّه، هدّدهم بقوله: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من القبائح و السيّئات مُحِيطٌ و مطّلع، بحيث لا يخفى منه شيء، فيجازيكم عليها أسوأ الجزاء وَ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا و اسعوا في الإضرار بي، و إيصال الشرّ إليّ عَلى قدر مَكانَتِكُمْ و وسعكم، بلا تقصير و توان، و إِنِّي أيضا عامِلٌ و مجدّ قدر وسعي في التّبليغ و إتمام الحجّة

ص: 347


1- . تفسير البيضاوي 1:467.

عليكم، إذن سَوْفَ تَعْلَمُونَ و عن قريب تشهدون مَنْ يَأْتِيهِ من قبل اللّه عَذابٌ شديد يُخْزِيهِ و يذلّه فوق الذّلّ الذي يلازمه الهلاك بمطلق العذاب وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ في دعواه، أنتم في دعوى الشّرك، أو أنا في دعوى التّوحيد وَ اِرْتَقِبُوا و انتظروا عاقبة أمري و أمركم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ و منتظر لذلك.

عن الرضا عليه السّلام: «[ما]أحسن الصّبر و انتظار الفرج! أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ: وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» (1).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إذا ذكر شعيبا قال: «ذاك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته في كلامه بين قومه (2).

سوره 11 (هود): آیه شماره 94 الی 95

ثمّ حكى اللّه لطفه بشعيب و المؤمنين، و غضبه على أعدائهم بقوله: وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا و عذابنا، أو وقت أمرنا ملكا بإهلاكهم بالصّيحة نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ و فضل مِنّا أو بإيمان و طاعة وفّقناهم لهما وَ أَخَذَتِ الكافرين اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر اَلصَّيْحَةُ السّماويّة المهلكة فَأَصْبَحُوا أو صاروا دفعة فِي دِيارِهِمْ و مساكنهم جاثِمِينَ ميّتين لا حراك لهم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا في الدّنيا، و لم يعيشوا فِيها أبدا أَلا يا أهل العالم بُعْداً من الرّحمة الواسعة الإلهيّة، و هلاكا دائما لِمَدْيَنَ و أهله كَما بَعِدَتْ و هلكت ثَمُودُ.

وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)عن ابن عبّاس: لم يعذّب اللّه تعالى امّتين بعذاب واحد، إلاّ قوم شعيب، و قوم صالح. فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصّيحة من تحتهم، و أمّا قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم (3).

سوره 9 (التوبة): آیه شماره 96 الی 99

ص: 348


1- . كمال الدين:645/5، مجمع البيان 5:288، تفسير الصافي 2:470.
2- . تفسير روح البيان 4:179.
3- . تفسير الرازي 18:51.

ثمّ ختم سبحانه قصص الأنبياء و هلاك اممهم بقصّة موسى و هلاك فرعون و قومه بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا و هي التّوراة و الشّرائع، كما قيل (1)، أو المعجزات الباهرات؛ على قول آخر (2)، وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و البرهان القاطع، على قول، أو المعجزات التّسع، على آخر (3)، إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ و أشراف قومه، أمّا فرعون فجحده و عارضه، و أمّا ملأه فَاتَّبَعُوا و امتثلوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ إيّاهم بالكفر و الجحود لنبوّة موسى عليه السّلام، و تكذيبه فيما جاء به وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ و ذي صلاح أو محمود العاقبة، بل كان عين الغيّ و الضّلال.

و كما كان هو قدوة و متّبعا لهم في الكفر و الفساد في الدّنيا يَقْدُمُ قَوْمَهُ الأشراف منهم و الأراذل يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و هم يتبعونه في طريق جهنّم فَأَوْرَدَهُمُ اَلنّارَ الموقدة وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ و ساء المكان الذي يدخلونه وَ أُتْبِعُوا و اردفوا، اولئك القوم الذين اتّبعوه فِي هذِهِ الدّنيا لَعْنَةً عظيمة دائمة، حيث تلعنهم الامم إلى يوم القيامة وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ حيث يلعنهم جميع أهل الموقف، بسبب اتّباعهم أمر فرعون بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ و ساء العطاء المعطى، أو العون المعان به تلك اللّعنة.

القمّي: فِي هذِهِ لَعْنَةً يعني: الهلاك و الغرق، وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [أي]يرفدهم اللّه بالعذاب (4). فإذا كان حال الأتباع هكذا، فكيف يكون حال المتبوع؟ !

سوره 11 (هود): آیه شماره 100

ثمّ استدلّ سبحانه بصدق هذه القصص على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، مع كونه اميّا، بقوله: ذلِكَ المذكور مِنْ أَنْباءِ اَلْقُرى المهلكة، الذي لا تعلمه أنت و لا قومك، و إنّما نحن نَقُصُّهُ بالوحي عَلَيْكَ فلا مجال للشكّ في نبوّتك.

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100)و أمّا تلك القرى التي نزل فيها العذاب، فبعض مِنْها قائِمٌ و باق إلى الآن بأساسه و بنيانه (5)كالزّرع القائم على ساقه، وَ منها حَصِيدٌ و عافي الأثر كالزّرع المحصود.

سوره 11 (هود): آیه شماره 101 الی 103

ص: 349


1- . تفسير الرازي 18:52.
2- . تفسير الرازي 18:52.
3- . تفسير الرازي 18:53.
4- . تفسير القمي 1:337، تفسير الصافي 2:471.
5- . في النسخة: بأساسها و بنيانها.

ثمّ نبّه سبحانه على أن تعذيب أهالي القرى كان بمقتضى العدل بقوله: وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتعذيبهم وَ لكِنْ هم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للهلاك بسبب اختيارهم الكفر، و ارتكابهم العصيان.

ثمّ وبّخهم على عبادة الأصنام بقوله: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ و ما نفعتهم في دفع العذاب عنهم بالقدرة أو الشّفاعة آلِهَتُهُمُ و أصنامهم اَلَّتِي كانوا يَدْعُونَ و يعبدونها مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ يسير لَمّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ و عذابه، لعدم قدرتهم و مكانتهم عند اللّه وَ ما زادُوهُمْ بعبادتهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ و هلاك و تخسير.

ثمّ بيّن سبحانه عموميّة عذابه لكلّ امّة ظالمة بقوله: وَ كَذلِكَ الأخذ الشّديد الذي كان للامم المذكورة أَخْذُ رَبِّكَ و عذابه إِذا أَخَذَ اَلْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ و عذّب أهاليها و هم كفّار طغاة إِنَّ أَخْذَهُ و عذابه أَلِيمٌ و موجع شَدِيدٌ في الغاية.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه يمهل الظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» . ثمّ تلا هذه الآية (1).

إِنَّ فِي ذلِكَ الأخذ للامم الهالكة، أو في المذكور من قصصهم لَآيَةً و عبرة كاملة، و موعظة شافية لِمَنْ خافَ عَذابَ اَلْآخِرَةِ لأنّه المعتبر به، حيث إنّه يستدلّ بما حاق بهم من العذاب في الدّنيا بسبب الكفر و العصيان على شدّة عذاب الآخرة. و أمّا من ينكر الآخرة، فإنّه لا يتأثّر بهذه الحوادث، لأنّه يسندها إلى الأوضاع الفلكيّة و الأسباب الاتّفاقيّة.

ثمّ وصف سبحانه يوم القيامة ترهيبا للقلوب بقوله: ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّاسُ من الأوّلين و الآخرين، للحساب و الجزاء وَ ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَشْهُودٌ و محضر فيه جميع الخلائق من أهل السّماوات و الأرضين، ليشهدوا أعمال العباد و جزاءهم عليها.

القمّي: يشهد عليهم الأنبياء و الرّسل (2).

و عن أحدهما عليهما السّلام، في هذه الآية: «فذلك يوم القيامة، و هو اليوم الموعود» (3).

عن السجاد عليه السّلام: «و اعلم أنّ من وراء هذا أعظم و أفظع و أوجع للقلوب، يوم القيامة ذلِكَ يَوْمٌ

ص: 350


1- . مجمع البيان 5:292، تفسير الصافي 2:471.
2- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:472.
3- . تفسير العياشي 2:322/2052، تفسير الصافي 2:472.

مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يجمع اللّه عزّ و جلّ فيه الأوّلين و الآخرين» (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 104 الی 107

ثمّ بيّن سبحانه علّة تأخيره بقوله: وَ ما نُؤَخِّرُهُ لعلّة من العلل إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ و انقضاء مدّة قليلة تقتضيها الحكمة البالغة، فإذا انقضت فلا بدّ من خراب الدّنيا و قيام القيامة، و كلّ آن قريب.

وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105) فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ (107)ثمّ قرّر سبحانه عظمة ذلك اليوم، بذكر بعض أحواله بقوله: يَوْمَ يَأْتِ الأمر المهيب الهائل، أو ذلك اليوم؛ بتأويل اليوم المذكور بحين، إذن لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ و لا تنطق فيه بما ينفعها من الاعتذار و الشّفاعة و الجواب إِلاّ بِإِذْنِهِ و إرادته، أو بترخيصه لها في التكلّم. قيل: إنّه في بعض المواقف (2).

ثمّ بيّن سبحانه أحوال أهل الموقف بقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ و خبيث النّفس و العمل، مستحقّ للعذاب وَ منهم سَعِيدٌ طيّب النفس و العمل، مستحقّ للثّواب و الإكرام.

ثمّ كأنّه قيل: ما حالهم و شأنهم؟ فأجاب تعالى بقوله: فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّارِ يدخلون و يستقرّون، فيشتدّ كربهم و بلاؤهم، بحيث يكون لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ و صوت كصوت الحمار عند ردّ نفسه وَ شَهِيقٌ و صوت كصوته عند إخراج نفسه.

و قيل: الزّفير في الحلق، و الشّهيق في الصّدر (3).

و قيل: الزّفير الصّوت الشّديد، و الشّهيق الصوت الضّعيف (4).

و قيل: الزّفير ما يجتمع في الصّدر من النفس عند البكاء الشّديد؛ فينقطع النّفس، و الشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكرب و الحزن، و ربّما تتبعهما الغشية، و ربّما حصل عقيبهما الموت (5).

و المراد وصف شدّة كربهم و تشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة، و انحصر فيه روحه.

و عن ابن عبّاس قال: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ يريد ندامة، و نفسا عاليا، و بكاء لا ينقطع، و حزنا لا يندفع (6).

و قيل: الزّفير لهيب جهنّم، يرفعهم بقوّته، حتّى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنّم و طمعوا في أن

ص: 351


1- . الكافي 8:73/29، تفسير الصافي 2:472.
2- . تفسير أبي السعود 4:241.
3- . تفسير الرازي 18:62.
4- . تفسير الرازي 18:63.
5- . تفسير الرازي 18:62.
6- . تفسير الرازي 18:63.

يخرجوا منها اعيدوا فيها، و يردّوا إلى أسفل دركاتها، فالزّفير ارتفاعهم في النّار، و الشّهيق انحطاطهم فيها (1)، حال كونهم خالِدِينَ و دائمين فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ و بقيا في عالم الآخرة، فإنّ لأهل الآخرة سماوات و أرضا لقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ (2)، و للرّوايات الدالّة على أنّ لجهنّم جبالا و أودية.

و قيل: إنّ الكلمة كناية في لسان العرب عن الدّوام (3)؛ كقولهم: ما لاح كوكب، و ما اختلف اللّيل و النّهار، و لو لم تكن سماوات و أرض و كوكب، للنّصوص القاطعة على دوام العذاب و النّعمة في الآخرة و أبديّتهما، فلا مجال للقول بانقطاع عذاب الكفّار للآية و بعض الوجوه الفاسدة.

و قيل: إنّ المراد: السماوات و الأرض الدّنيويّة (4).

و عن القمّي: هذا في نار الدّنيا قبل يوم القيامة (5).

و قيل: إنّ الأبديّة مفهومة من قوله: إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ بناء على أن (إلاّ) بمعنى سوى، و المعنى: أنّهم يكونون في النّار في مدّة بقاء السماوات و الأرض سوى ما يتجاوز عن ذلك من الزّيادة التي لا آخر لها (6).

و فيه من الضّعف ما لا يخفى، و أكثر المفسّرين على أنّ الاستثناء على (حقبا) ، و أنّ الآية في بيان عذاب الكفّار في الآخرة لا في البرزخ، و المعنى: إلا زمانا شاء ربّك عدم خلودهم فيها، و لم يشأ و لا يشاء ذلك أبدا، و إنّما المقصود بيان أنّ خلودهم فيها بإرادة اللّه و لو شاء لا يخلّدهم، و لكن لا يشاء ذلك البتّة، للأدلّة القطعيّة على خلودهم فيها و عدم خروجهم منها. و يؤيّد ذلك تذييل الآية بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ.

و قيل: إنّ المراد من المستثنى مدّة أعمارهم في الدّنيا، أو مدّة مكثهم في القبر و البرزخ، أو في المحشر للحساب، ثمّ يصيرون إلى النّار (7). و الكلّ فاسد.

و قيل: زمان خروجهم من النّار، و انتقالهم إلى الزّمهرير و سائر أنواع العذاب (8).

و قيل: إنّ المراد استثناء أشقياء أهل التّوحيد، فإنّه لا خلود لهم فيها (9).

و عن الباقر عليه السّلام: «هاتان الآيتان-يعني: هذه الآية، و ما بعدها-في غير أهل الخلود من الأشقياء و السّعداء» (7).

ص: 352


1- . تفسير الرازي 18:62.
2- . إبراهيم:14/48.
3- . تفسير الرازي 18:64.
4- . تفسير الصافي 2:473.
5- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:473.
6- . تفسير الرازي 18:65. (7 و 8 و 9) . تفسير الرازي 18:66.
7- . تفسير العياشي 2:323/2054، تفسير الصافي 2:473، و فيهما: من أهل الشقاوة و السعادة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 108

ثمّ بيّن سبحانه حال السّعداء بقوله: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا و وحّدوا ربّهم، و بذلوا جهدهم في طاعته فَفِي اَلْجَنَّةِ يدخلون و يستقرّون، حال كونهم خالِدِينَ و دائمين فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ و هو يعطيهم ذلك عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ و يفضّل عليهم تفضّلا غير مقطوع عنهم أبدا.

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)و يأتي في الآية كلّ ما ذكر في سابقتها من الوجوه، لدفع المنافاة بين تقييد الدّوام فيها بدوام السّماوات و الأرض و الاستثناء، و بين ما علم من الأدلّة القطعيّة من الدّوام الأبدي بلا استثناء.

و قيل في الآية: إنّ السّعداء قد يرفعون إلى العرش، و مقام الرّضوان، و المنازل الرّفيعة التي لا يعلمها إلاّ اللّه (1).

و فيه: إنّ الخروج من الجنّة و لو آنا ما مناف للأدلّة القطعيّة على الخلود فيها. و أمّا مقام الرّضوان و المنازل الرّفيعة، فكلّها في الجنّة ليس بخارج منها.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «قال الجاهل بعلم التّفسير: إنّ هذا الاستثناء من اللّه إنّما هو لمن دخل الجنّة و النّار، و ذلك أنّ الفريقين جميعا يخرجان منهما فتبقيان و ليس فيهما أحد و كذّبوا، فإنّ اللّه تعالى ليس يخرج أهل الجنّة و لا كلّ أهل النّار منهما أبدا، كيف يكون ذلك و قد قال اللّه في كتابه: ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (2)ليس فيه استثناء؟» (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 109

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة المشركين الماضين، و ابتلائهم بالعذاب، و عدم انتفاعهم بآلهتهم في دفعه، و ذكر حال الأشقياء و السّعداء في الآخرة، بيّن مساواة حال المشركين المعاصرين للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و آلهتهم، مع السّابقين المهلكين و آلهتهم، في سوء العاقبة و ابتلائهم بالعذاب، و عدم إغناء آلهتهم عنهم، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تبشيرا له بالنّصر، و تهديدا للمشركين بقوله: فَلا تَكُ يا محمّد، بعد ما انزل إليك من القرآن، و اطّلعت بما فيه من قصص الامم، كائنا فِي مِرْيَةٍ و شكّ مِنْ حال

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

ص: 353


1- . تفسير الرازي 18:67.
2- . الكهف:18/3.
3- . تفسير العياشي 2:323/2053، تفسير الصافي 2:473.

ما يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون المعاصرون لك من الأصنام، في أنّها لا تدفع عنهم شيئا من العذاب، و اعلم أنّهم ما يَعْبُدُونَ الأصنام إِلاّ كَما كان يَعْبُدُ ها آباؤُهُمْ و كبراؤهم الذين بيّنت لك سوء عاقبتهم مِنْ قَبْلُ بلا تفاوت، فكما كانت عبادة قدمائهم إيّاها عن جهل و تقليد بلا تحقيق و برهان، كانت عبادة هؤلاء المشركين الموجودين في عصرك لها كذلك وَ إِنّا كما وفّينا نصيب آبائهم من الرّزق و السّعة و العمر، و إرسال الرّسل، و إنزال الكتب، و إتمام الحجّة عليهم في الدّنيا، و إنزال العذاب عليهم فيها و في الآخرة، و اللّه لَمُوَفُّوهُمْ و معطوهم كاملا نَصِيبَهُمْ و حظّهم المعيّن لهم من المذكورات، حال كون ذلك النّصيب غَيْرَ مَنْقُوصٍ منه مثقال ذرّة، و يكون حال هؤلاء كحال قدمائهم بدوا و ختما بلا تفاوت. فليكونوا على حذر، و كن أنت على ما أنت عليه من التّبليغ، و القيام بوظيفه الرّسالة.

سوره 11 (هود): آیه شماره 110

ثمّ أنّه تعالى بعد تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في إنكار المشركين التّوحيد، و معارضتهم له فيه، سلاّه سبحانه في إنكارهم صدق كتابه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمن قومه من آمن به، و منهم من أنكر صدقه، كما اختلف قومك في شأن كتابك أنّه من عند اللّه أو من اختلاق البشر، فلا تبال يا محمّد باختلاف قومك و تكذيبهم كتابك، فإنّهم على سيرة من قبلهم، و اصبر كما صبر موسى عليه السّلام.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)عن الباقر عليه السّلام: «اختلفوا كما اختلفت هذه الامّة [في الكتاب]، و سيختلفون في الكتاب الذي مع القائم الذي يأتيهم به، حتّى ينكره ناس منهم (1)، فيقدّمهم و يضرب أعناقهم» (2).

ثمّ بيّن اللّه شدّة استحقاقهم العذاب بقوله: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من وعده أو حكمه بتأخير عذاب هذه الامّة، أو حكمه بين المختلفين إلى القيامة، لحكمة داعية إليه، أو إخباره بسبق رحمته غضبه لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ و حكم عليهم في الحال بعذاب الاستئصال، أو بالتميّز بين المحقّ و المبطل من قومك بإهلاك مكذّبي كتابك، مع أنّهم ليسوا على يقين من كذبه وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ عظيم من صدقه، و ترديد مِنْهُ مع وضوح دلائله مُرِيبٍ ذلك الشكّ، و موقع لقلوبهم في اضطراب و تشويش، مع أنّ الحقّ الاطمئنان به.

ص: 354


1- . في الكافي: ناس كثير.
2- . الكافي 8:287/432، تفسير الصافي 2:474.

سوره 11 (هود): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر الاختلاف في صدق كتابه، وعد المصدّقين و أوعد المكذّبين بقوله: وَ إِنَّ كُلاًّ من المصدّقين لكتابك و المكذّبين له لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ و ليعطينّهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ و جزاء تصديقهم و طاعتهم، و عقوبة تكذيبهم و عصيانهم، حسبما يستحقّون إِنَّهُ تعالى بِما يَعْمَلُونَ من خير و شر خَبِيرٌ و مطّلع بحيث لا يخفى عليه جلائله و دقائقه، و مقدار ما يستحقّون من الثّواب و العقاب، فلا ينقص من حقوق كلّ منهم شيء.

وَ إِنَّ كُلاًّ لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)و قيل: إنّه تعالى لمّا أخبر بتوفية الأجزية، أكّده بسبعة أنواع من التأكيدات: كلمة (إنّ) و كلمة (كلّ) ، و اللام الداخلة على خبر (إنّ) ، و ماء الموصولة، و القسم المضمر في (ليوفّينّ) ، و اللام الدّاخلة على جوابه، و النّون المؤكّدة. فجميع هذه التأكيدات تدلّ على أنّ أمر الرّبوبيّة و العبوديّة، لا يتمّ إلاّ بالبعث و القيامة و العقاب و الثّواب (1).

سوره 11 (هود): آیه شماره 112 الی 113

ثمّ أنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تكذيب نبوّته و كتابه، و معارضة المشركين له، أمره بالثّبات على دينه و دعوته بقوله: فَاسْتَقِمْ يا محمّد، و اثبت على ما أنت عليه من الدّين و الدّعوة إليه. و عن الصادق عليه السّلام: «أي افتقر إلى اللّه بصحّة العزم» (2)كَما أُمِرْتَ به من ربّك، و على النّحو الّذي أراد منك، غير عادل عنه، و لا متوان فيه وَ كذا مَنْ تابَ من الشّرك و العصيان، و كان مَعَكَ في الإيمان، و تبعك في العقائد و الأعمال.

فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)و عن ابن عبّاس: ما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جميع القرآن آية أشدّ عليه من هذه الآية، و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله: «شيّبتني سورة هود و أخواتها» (3).

و عن بعض أنّه قال: رأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله في النّوم، فقلت له: روي عنك أنّك قلت: «شيّبتني سورة هود و أخواتها» . فقال: نعم، فقلت: و بأيّ آية؟ قال: «بقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» (4).

ثمّ خصّ سبحانه الخطاب بالمؤمنين بقوله: وَ لا تَطْغَوْا و لا تتجاوزوا عن حدود اللّه و أوامره

ص: 355


1- . تفسير الرازي 18:70.
2- . جوامع الجامع:211، تفسير الصافي 2:474. (3 و 4) . تفسير الرازي 18:71.

و نواهيه بطرفيّ الإفراط و التّفريط، و لا تدخلوا طاعة أهويتكم في طاعة ربّكم، عن ابن عبّاس: تواضعوا للّه، و لا تتكبّروا على أحد (1). و قيل: يعني: لا تعدلوا عن طريق شكره و التواضع له عند عظيم نعمه (2)إِنَّهُ تعالى بِما تَعْمَلُونَ من التعدّي و التّقصير بَصِيرٌ و مطّلع غايته، فيجازيكم عليه، فاتّقوا في المحافظة على حدوده. و فيه غاية التّهديد وَ لا تَرْكَنُوا و لا تسكنوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان، و لا تميلوا إليهم بالمحبّة و النّصح و لو قليلا.

و عنهم عليهم السّلام: «الرّكون المودّة و النّصيحة و الطّاعة» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «هو الرّجل يأتي السّلطان، فيحبّ بقاءه إلى أن يدخل يده في كيسه فيعطيه» (2).

أقول: الظّاهر من السّلطان السّلاطين المعاصرون لهم الغاصبون لحقّهم.

و عن ابن عبّاس: لا تداهنوا الظّلمة (3). فَتَمَسَّكُمُ و تصيبكم اَلنّارُ في الآخرة، وَ الحال أنّه ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ و ممّا سواه مِنْ أَوْلِياءَ و أعوان يدفعون عنكم العذاب ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ من قبل اللّه، لشدّة استحقاقكم.

عن الصادق عليه السّلام: «أما أنّه لم يجعلها خلودا، و لكن قال: فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ، فلا تركنوا إليهم» (4).

قال السّدّي: إنّ الرّكون [المنهيّ عنه]هو الرّضا بما عليه الظّلمة من الظّلم، و تحسين طريقتهم و تزيينها عندهم و عند غيرهم، فأمّا مداخلتهم لدفع ضرر، أو اجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخل في الرّكون إليهم (5). فإذا كان الرّكون إليهم موجبا لمسّ النار، فكيف حال أنفسهم؟

سوره 11 (هود): آیه شماره 114

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالاستقامة، و نهيه عن التعدّي عن حدوده و الرّكون إلى الكفّار، و التّهديد عليه، أمرنا بالصّلاة التي هي أعظم العبادات، و أتمّ الرّكون و الإقبال إلى اللّه بقوله: وَ أَقِمِ يا محمّد و أدّ اَلصَّلاةَ التي هي عمود دينك، و معراج امّتك في طَرَفَيِ اَلنَّهارِ و هما الغداة و العشيّ وَ زُلَفاً و ساعات قريبة من النّهار، كائنة مِنَ اَللَّيْلِ.

وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ (114)

ص: 356


1- . مجمع البيان 5:306، تفسير الصافي 2:475.
2- . الكافي 5:108/12، تفسير الصافي 2:475.
3- . مجمع البيان 5:306 عن السدي.
4- . تفسير العياشي 2:324/2059، تفسير الصافي 2:475.
5- . تفسير الرازي 18:72، و القول منسوب إلى المحققين.

قيل: «طَرَفَيِ اَلنَّهارِ الغداة و العصر، و زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ المغرب و العشاء» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «طَرَفَيِ اَلنَّهارِ الغداة و المغرب، و زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ العشاء الآخرة» (2).

ثمّ حثّ سبحانه على الصّلاة بقوله: إِنَّ اَلْحَسَناتِ و الأعمال الخيريّة التي منها الصّلاة يُذْهِبْنَ و يمحنّ اَلسَّيِّئاتِ الصّغار.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الصّلاة إلى الصّلاة كفّارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر» (3).

و عن ابن عبّاس: إن الصّلوات الخمس كفّارات لسائر الذّنوب، بشرط الاجتناب عن الكبائر (4).

و في رواية: «الصّلوات الخمس، و الجمعة إلى الجمعة، و رمضان إلى رمضان، مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر» (5).

و عن مجاهد: الحسنات قول العبد: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر (6).

عن الصادق عليه السّلام: «صلاة المؤمن باللّيل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار» (7).

و عنه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أربع من كنّ فيه لم يهلك-إلى أن قال: -و يهمّ بالسيّئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، و إن هو عملها اجّل سبع ساعات، و قال صاحب الحسنات لصاحب السّيئات؛ و هو صاحب الشمال: لا تعجل، عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإنّ اللّه يقول: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ أو الاستغفار» الخبر (8).

و عنه عليه السّلام: «إعلم أنّه ليس شيء أضرّ عاقبة، و لا أسرع ندامة، من الخطيئة، و أنّه ليس شيء أشدّ طلبا و لا أسرع دركا للخطيئة، من الحسنة. أما أنّها لتدرك الذّنب العظيم القديم المنسيّ عند صاحبه، فتحطّه و تسقطه و تذهب به بعد إثباته، و ذلك قوله: إِنَّ اَلْحَسَناتِ. . . إلى آخره» (9).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّ عليّا عليه السّلام قال: سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أرجأ آية في كتاب اللّه: وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ. . . و قرأ الآية كلّها. و قال: يا عليّ، و الذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا [إنّ]أحدكم ليقوم إلى (10)وضوئه فتساقط عن جوارحه الذّنوب، فإذا استقبل اللّه بقلبه و وجهه، لم ينفتل [عن صلاته]و عليه من ذنوبه شيء، كما ولدته امّه، فإن أصاب شيئا بين الصّلاتين كان له مثل ذلك، حتّى عدّ الصّلوات الخمس. ثمّ قال: يا عليّ، إنّما مثل الصّلوات الخمس لامّتي كنهر جار على باب

ص: 357


1- . تفسير أبي السعود 4:246.
2- . التهذيب 2:241/954، تفسير الصافي 2:475.
3- . تفسير البيضاوي 1:472، تفسير الصافي 2:475.
4- . تفسير الرازي 18:74.
5- . تفسير روح البيان 4:197.
6- . تفسير الرازي 18:74.
7- . الكافي 3:266/10، تفسير الصافي 2:475.
8- . الكافي 2:313/4، تفسير الصافي 2:475.
9- . تفسير العياشي 2:328/2067، مجمع البيان 5:307، تفسير الصافي 2:476.
10- . في مجمع البيان: من.

أحدهم، فما يظنّ أحدهم إذا كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النّهر خمس [مرّات في اليوم] أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و اللّه الصّلوات الخمس [لأمّتي]» (1).

و عن عليّ عليه السّلام: «أنّ اللّه يكفّر بكلّ حسنة سيّئة» . [ثمّ]تلا هذه الآية (2).

في قصة أبي

اليسر

و روت العامة في سبب نزول الآية: أنّ أبا اليسر الأنصاري كان يبيع التّمر، فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إنّ في البيت أجود من هذا التّمر، فذهب بها إلى داخل البيت، فضمّها إلى نفسه و قبّلها، و فعل بها كلّ شيء إلاّ الجماع، فقالت له: اتّق اللّه، فتركها و ندم، فأتى أبا بكر فأخبره، فقال: استر على نفسك و تب إلى اللّه، فلم يصبر فأتى عمر، فقال له مثل ذلك، فلم يصبر، ثمّ أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بما فعل، فقال: «أنتظر أمر ربّي، فاستر على نفسك» ، فلمّا صلّى العصر نزلت هذه الآية، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «صلّيت العصر معنا؟» قال: نعم، فقال: «اذهب، فإنّها كفّارة لما فعلت» ، فقال الحاضرون: هذا له خاصّة أم للنّاس عامّة؟ قال: «بل للنّاس كافّة» (3).

ثمّ حثّ سبحانه على العمل بالتّكاليف بقوله: ذلِكَ المذكور من الاستقامة على الدّين، و ترك الرّكون إلى الظّالمين، و إقامة الصّلاة ذِكْرى و عظة لِلذّاكِرِينَ و المتّعظين.

سوره 11 (هود): آیه شماره 115 الی 116

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بالأمر بالصّبر و الوعد بالأجر بقوله: وَ اِصْبِرْ يا محمّد، على مشاقّ التّكاليف، و احمل نفسك على الطّاعة فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ و لا يبطل أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ بل يوفّيهم اجور أعمالهم على حسب استحقاقهم.

وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْفَسادِ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116)ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بالاستقامة على الدّعوة و الإرشاد، و عدم الرّكون إلى الكفّار، و الرّكون إلى اللّه بالقيام إلى الصّلاة، و الصّبر على مشاقّ التكليف، نبّه على أنّ رفع الكفر و الفساد لا يكون إلاّ بالدّعوة إلى الحقّ، و النّهي عن المنكر بقوله: فَلَوْ لا كانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ و هلاّ وجد من الامم الهالكة السّابقة على عصركم فريق أُولُوا بَقِيَّةٍ و أصحاب فضل و خير يَنْهَوْنَ المفسدين عَنِ اَلْفَسادِ فِي اَلْأَرْضِ و العصاة عن العصيان في الدّنيا إِلاّ قَلِيلاً و غير

ص: 358


1- . تفسير العياشي 2:325/2061، مجمع البيان 5:308، تفسير الصافي 2:476.
2- . أمالي الطوسي:26/31، تفسير الصافي 2:475.
3- . تفسير روح البيان 4:197.

شرذمة (1). و الاستثناء راجع إلى النّفي المستفاد من كلمة التّحضيض، و المعنى: ما كان من القرون غير قليل من ذوي عقل و فضل.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن قليلا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ (2).

و عليه يكون حاصل المفاد أنّه لم يكن في الامم السّابقة الطّاغية رجال صلحاء ينهونهم عن المنكر، حتّى لا ينزل عليهم العذاب، نعم قليل منهم نهوهم عن المنكر، فنجوا من العذاب، و هم أتباع الأنبياء.

و أمّا غيرهم فتركوه وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب الفساد، و ترك النّهي عن المنكر ما أُتْرِفُوا و انعموا، أو اطلقوا و تركوا فِيهِ من الشّهوات و اللّذّات التي آثروها على رضا اللّه تعالى و النّعم الاخرويّة وَ كانُوا لذلك مُجْرِمِينَ و صاروا عصاة طاغين، و مستحقّين لعذاب الاستئصال، مبتلين بأشدّ النّكال. أمّا جهّالهم فبسبب العصيان و الطّغيان، و أمّا علماؤهم فبسبب المداراة و ترك النّهي عن المنكر.

روي أنّ اللّه لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة، حتّى يروا المنكر بين ظهرانيهم و هم قادرون على أن ينكروا فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلك عذّب اللّه العامّة و الخاصّة (3).

سوره 11 (هود): آیه شماره 117

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ تعذيبهم كان بمقتضى عدله بقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ و ما صحّ له لِيُهْلِكَ اَلْقُرى بالعذاب بِظُلْمٍ منه لهم، أو بظلمهم على أنفسهم بسبب الشّرك و العصيان وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ فيما بينهم، منصفون في حقوق إخوانهم.

وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ينصف بعضهم من بعض» (4).

حاصل الآية: أنّ اللّه لا يهلك قوما بمجرّد الشّرك و اعتقاد الباطل، و إنّما يهلكهم إذا سعوا في الفساد، و ظلموا النّاس، فإنّ من رحمته تعالى أن يسامح في حقوق نفسه دون حقوق النّاس.

سوره 11 (هود): آیه شماره 118 الی 119

ص: 359


1- . الشّرذمة: الجماعة القليلة من الناس.
2- . تفسير روح البيان 2:200.
3- . تفسير روح البيان 2:200.
4- . مجمع البيان 5:309، تفسير الصافي 2:477.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ أمره بدعوة النّاس إلى التّوحيد و نهيهم عن المنكر، ليس لعجز نفسه عن حملهم على الإيمان؛ بقوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ بالمشيئة التّكوينيّة إيمانهم لَجَعَلَ اَلنّاسَ في جميع الأزمنة أُمَّةً واحِدَةً و جماعة متّفقة على دين الحقّ و ألزمهم و قهرهم على ملّة التّوحيد، و لكن لم يشأ ذلك لحكمة داعية إلى إيكالهم إلى اختيارهم وَ لذا لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في العقائد و الأخلاق في القرون و الأعصار، فتاهوا في شعب الباطل و مسالك الضّلال إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و وفّقه للاهتداء إلى الحقّ، و أرشده إلى الصّراط المستقيم وَ لِذلِكَ المذكور من الرّحمة خَلَقَهُمْ و للاهتداء إلى الحقّ بفضله أوجدهم.

عن الصادق عليه السّلام (1)، في هذه الآية: «النّاس مختلفون في إصابة القول، و كلّهم هالك، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و هم شيعتنا، و لرحمته (2)خلقهم، [و هو قوله: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ]، يقول: لطاعة الامام عليه السّلام» (3).

و عنه عليه السّلام: «خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته، فيرحمهم» (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الدّين إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يعني: آل محمّد و أتباعهم. يقول اللّه: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ يعني: أهل الرحمة لا يختلفون [في الدين]» (5).

و قيل: إنّ لام (لذلك) لام العاقبة، و اسم الإشارة إشارة إلى الاختلاف بمعنى المخالفة (6)و ضمير خَلَقَهُمْ راجع إلى عموم الناس، و المعنى: و كان عاقبة خلقهم المخالفة للحقّ.

و قيل: إنّ اسم الإشارة راجع إلى المذكور من الرّحمة و الاختلاف، و المراد: أنّه خلق أهل الرّحمة للرّحمة، و أهل العذاب للاختلاف (7).

عن ابن عبّاس قال: خلق [اللّه]أهل الرّحمة لئلاّ يختلفوا، و أهل العذاب لأن يختلفوا، و خلق الجنّة و خلق لها أهلا، و خلق النّار و خلق لها أهلا (8).

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ و حقّت، أو وصل وعيده إلى عباده، أو مضى حكمه و قضاؤه من قوله: لَأَمْلَأَنَّ في القيامة جَهَنَّمَ البتّة مَنْ الشّياطين و عصاة اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ.

عن القمّي رحمه اللّه: «و هم الذّين سبق الشّقاء لهم، فحقّ عليهم القول أنّهم للنار خلقوا، و هم الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك أنّهم لا يؤمنون» (9).

ص: 360


1- . في الكافي: عن الباقر عليه السّلام.
2- . في النسخة: و لرحمتهم.
3- . الكافي 1:355/83، تفسير الصافي 2:477.
4- . التوحيد:403/10، تفسير الصافي 2:477.
5- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:478.
6- . تفسير البيضاوي 1:473.
7- . تفسير روح البيان 4:202.
8- . تفسير الرازي 18:79.
9- . تفسير القمي 1:338، تفسير الصافي 2:478.

سوره 11 (هود): آیه شماره 120 الی 122

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كثير من قصص الأنبياء و اممهم، نبّه على فوائده بقوله: وَ كُلاًّ نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ يا محمّد شيئا مِنْ أَنْباءِ اَلرُّسُلِ و بعضا من أخبارهم ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ و نقوّي به قلبك في القيام بوظيفة الرّسالة، و نزيد به يقينك بأنّك مؤيّد من ربّك و تطيب به نفسك، و تعلم أنّ ما يفعل بك من التّكذيب و الإيذاء فقد فعل بغيرك من الأنبياء. و فيه تسلية عظيمة، فإنّ من رأى لنفسه شركاء في المصيبة هانت عليه، و سلا قلبه.

وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ اَلرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ اَلْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّا عامِلُونَ (121) وَ اِنْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ (122)وَ جاءَكَ من قبلنا و وحينا فِي هذِهِ السّورة؛ كما عن ابن عبّاس (1)، أو هذه الأنبياء المقتصّة عليك، و الوعد و الوعيد، أو في هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع، أو في هذه الدّنيا اَلْحَقُّ و التّبيان الصّدق الذي هو دليل نبوّتك، أو البرهان القاطع على التّوحيد و سائر المعارف، أو بيان أنّ الخلق يجازون بأنصبائهم المذكورة في قوله: وَ إِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَ فيه مَوْعِظَةٌ و نصيحة وَ ذِكْرى و تنبيه لِلْمُؤْمِنِينَ بك و بكتابك، لأنّهم المتّعظون.

وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بك و لا يصدّقون كتابك، و لا ينتفعون بالإعذار و الإنذار، و الوعد و الوعيد، و الوعظ و التّهديد: اِعْمَلُوا و اجتهدوا في كفركم، و تكذيب كتاب ربّكم، أو في إهلاكي و الإضرار بي عَلى قدر مَكانَتِكُمْ و استطاعتكم، أو المراد: لا تقصّروا و لا تّتوانوا فيما تعزمون عليه من الإخلال في أمر رسالتي، على حالكم الذي أنتم عليه إِنّا أيضا عامِلُونَ و مبالغون في أداء الرّسالة، و مجدّون في إحياء الحقّ و إماتة الباطل، على قدر وسعنا، أو على ما نحن عليه من الحال. القمّي: أي نعاقبكم (2)وَ اِنْتَظِرُوا بنا الدائرة، أو خذلانكم، أو نزول العذاب عليكم كما نزل على الّذين من قبلكم إِنّا أيضا مُنْتَظِرُونَ نصرنا من قبل ربّنا، أو نزول العذاب عليكم.

سوره 11 (هود): آیه شماره 123

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقصص الأنبياء و اممهم، و أمره بإظهار عدم المبالاة بمكائد الكفّار، أعلن بكمال علمه وسعة قدرته، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالقيام بوظائف عبوديّته و رسالته، و التوكّل

وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (123)

ص: 361


1- . تفسير روح البيان 4:204.
2- . تفسير القمي 1:339، تفسير الصافي 2:478.

عليه بقوله: وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و يختصّ به العلم بخفيّاتهما، لا يشركه فيه غيره، و لا تخفى عليه خافية وَ إِلَيْهِ تعالى وحده يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ المتعلّق بعوالم الوجود كُلُّهُ من الإيجاد و الإعدام، و الإماتة و الإحياء، و التّنمية و التربية، و إرسال الرّسل، و توفيق النّاس و هدايتهم إلى الحقّ و إضلالهم عنه، و نصر الرّسل و خذلان معارضيهم، أو المراد: أنّه إليه تعود عواقب الامور في القيامة، كما أنّه مصدر جميعها، فهو يثيبك على طاعتك و تبليغك، و يعاقب أعداءك على عدم الإيمان بك و معارضتك، فإذا كان ربّك كذلك فَاعْبُدْهُ حقّ عبادته، و أطعه حقّ طاعته، و استقم على تبليغ رسالته و مكابدة أعدائه وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ و فوّض امورك إليه، فإنّه ناصرك و كافيك و عاصمك وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ أنت و هؤلاء الكفّار، فإنّ الغفلة لا تجوز على العالم بغيب السّماوات و الأرض، فيجازيك و إيّاهم على حسب الأعمال و الاستحقاق.

روي أنّ هذه الآية خاتمة التّوراة (1).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة هود في كلّ جمعة، بعثه اللّه يوم القيامة في زمرة النبيّين، و لم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة» (2).

الحمد للّه على التّوفيق لإتمام تفسير سورة هود، و نسأله التّوفيق لتفسير ما يتلوها بمحمّد و آله الطّيبين.

ص: 362


1- . مجمع البيان 5:314، تفسير روح البيان 4:205.
2- . ثواب الاعمال:106، تفسير الصافي 2:478.

في تفسير سورة يوسف عليه السّلام

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم اللّه سبحانه سورة هود بذكر كمال علمه و سعة قدرته، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالعبادة و التوكّل عليه، أردفها بسورة يوسف لما فيها من الشّواهد على علمه و قدرته، و من عبادة يوسف و توكّله و نتائجها، فابتدأها على دأبه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ، ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعات من قوله: الر قيل: هي رمز من: أنا اللّه أرى صنيع إخوة يوسف، و ما جرى عليه، أو أرى ما لا يرى الخلق (1).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ (1)و عن الصادق عليه السّلام: «يعني: أنا اللّه الرّؤوف» (2).

ثمّ وصف كتابه العظيم بقوله: تِلْكَ الآيات أو السّورة آياتُ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ و القرآن الظّاهر أمره من كونه كلام اللّه، لدلالة ما فيه من وجه الإعجاز، أو المظهر للمعارف و الأسرار و الأحكام، أو المراد: تلك الآيات آيات مكتوبة في اللّوح المحفوظ.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح كتابه بالشرف الذاتي، وصفه بالشّرف الإضافي بقوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ إلى النبيّ الصّادق بتوسّط جبرئيل، حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مضامينه، و تفهمون معانيه، حتّى تتمّ عليكم الحجّة، و لا يبقى لكم العذر في ضلالتكم، بأن تقولوا أنّه ليس بلغتنا و ما خاطبنا اللّه به.

إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا اَلْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغافِلِينَ (3)ثمّ روي أنّ جمعا من أحبار اليهود قالوا لرؤساء المشركين: سلوا محمّدا لم انتقل [آل]يعقوب من

ص: 363


1- . تفسير روح البيان 4:207.
2- . معاني الأخبار:22/1.

الشّام إلى مصر، و عن قصّة يوسف؟ فنزلت (1).

و عن سعيد بن جبير: لمّا نزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كان يتلوه على قومه، فقالوا: يا رسول اللّه، لو قصصت علينا فنزل قوله (2): نَحْنُ نَقُصُّ و نتلو عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ و أنفع الأخبار، لكثرة ما فيه من العبر و الحكم و العجائب و الفوائد التي تصلح للدّين و الدّنيا، كسير الملوك و المماليك، و مكر النّساء، و الصّبر على أذى الأعداء، و التّجاوز عنهم بعد القدرة عليهم، و غير ذلك.

و قيل: إنّ المراد أنّ هذه القصّة بِما أَوْحَيْنا و بسبب إيحائنا إِلَيْكَ هذَا اَلْقُرْآنَ.

ثمّ علّل سبحانه كون علمه بها بسبب الوحي بقوله: وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغافِلِينَ و الذّاهلين عنها.

قيل: إنّما عبّر سبحانه عن عدم علمه بالغفلة، إجلالا لشأنه (3). و يمكن كون التّعبير على وجه الحقيقة، لأنّ جميع القصّة كان بمنظره و مرآه عليه السّلام في عالم الأشباح، و بعد انتقاله إلى هذا العالم ذهل عنها لاستغراقه في التوجّه إلى اللّه و عبادته، و إرشاد الخلق و هدايتهم.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 4

ثمّ شرع سبحانه في القصّة بقوله: إِذْ قالَ يُوسُفُ بعد انتباهه من النّوم لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ في المنام أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ.

إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)ثمّ كأنّه قيل له: كيف رأيتهم؟ فقال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ و خاضعين.

و إنّما ذكر الشّمس و القمر، مع كونهما من الكواكب، لإظهار شرفهما. و إنّما أخّرهما في الذّكر للإشارة إلى تأخّر رؤيتهما عن رؤية الكواكب كما تأخّر ملاقاة أبويه عن ملاقاة أخويه. و إنّما أرجع ضمير العقلاء إلى الكواكب لإسناد السّجدة؛ التّي هي فعل العقلاء، إليها، أو للإشعار بكون الأجرام الفلكيّة حيّة عاقلة؛ كما عليه الفلاسفة.

عن وهب: أنّه قال: رأى يوسف؛ و هو ابن سبع سنين، أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدّائرة، و إذا عصا صغيرة و ثبت عليها و ابتلعتها، فذكر ذلك لأبيه، فقال: إيّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمّ رأى و هو ابن اثنتي عشرة سنة-و قيل: ابن عشر سنين ليلة الجمعة و القدر (4)-

ص: 364


1- . جوامع الجامع:213، تفسير الصافي 3:7، تفسير الرازي 18:83، تفسير روح البيان 4:207.
2- . تفسير الرازي 18:84.
3- . تفسير روح البيان 4:210.
4- . تفسير روح البيان 4:212.

الشّمس و القمر و الكواكب تسجد له فقصّها على أبيه (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «رأى الرّؤيا و هو ابن تسع سنين» (2).

عن جابر [بن عبد اللّه]قال: أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رجل من اليهود يقال له بشان، فقال: يا محمّد، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له، ما أسماؤهنّ؟ فلم يجبه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يومئذ في شيء. فنزل جبرئيل فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأسمائها، فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى بشان، فلمّا أن جاءه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «هل أنت مسلم إن أخبرتك بأسمائها؟» قال: نعم، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «جوبان-و في نسخة: جربان-، و الطّارق، و الذيال، و ذو الكتفين، و قايس (3)، و وثّاب، و عمودان، و الفيلق-و في رواية: و الفليق-، و المصبح، و الصّدوح-و في رواية: و الضروح-، و ذو الفروغ-و في رواية: و الفزع-، و الضّياء، و النور، رآها في افق السّماء ساجدة له» .

و في رواية: «أنّه رآهن نزلن من السّماء و سجدن له» . فقال بشأن: و اللّه إنّ هذه لأسماؤها، ثمّ أسلم (4).

أقول: المراد بالضّياء و النّور الشّمس و القمر.

و قيل: إنّه عليه السّلام رأى أنّه على جبل شامخ، حوله أنهار جارية و أشجار خضرة، فرأى الكواكب سجدن له (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 5

فلمّا ذكرها لأبيه، و كان شديد الحبّ له و لأخيه بنيامين، و عالما بشدّة حسد إخوته عليه قالَ إشفاقا عليه: يا بُنَيَّ إنّ هذا أمر متشتّت يجمعه اللّه من بعد-على رواية جابر (5)-و لكن لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ و لا تخبرهم بها، فإنّهم يعرفون تعبيرها فَيَكِيدُوا لَكَ و يحتالوا في إهلاكك كَيْداً عظيما و يدبّروا تدبيرا خفيّا عنك، لا تقدر على دفعه.

قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ اَلشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (6)ثمّ أكّد نهيه بقوله: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ كائنا من كان عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، فلا تستبعد صدور قتلك من إخوتك الّذين هم أولاد الأنبياء و مربوبون في حجر النبيّ، مع أنّك الأخ النّسبي و الدّيني لهم.

نقل أنّه لمّا بلغ إسحاق إلى مائة و ثمانين [سنة]من العمر، وصّى إلى يعقوب بأن يخرج إلى خاله

ص: 365


1- . تفسير الرازي 18:87.
2- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:6.
3- . في الخصال و تفسير الصافي: قابس.
4- . الخصال:454/2، تفسير روح البيان 4:212، تفسير الصافي 3:5.
5- . الرواية المتقدمة الواردة عن الخصال.
6- . تفسير روح البيان 4:212.

في جانب الشّام حذرا من أن يقتله أخوه عيص حسدا، لأنّه أقسم باللّه (1)أن يقتل يعقوب، فانطلق يعقوب إلى خاله ليا بن فاهر و أقام عنده، و كانت لخاله بنتان إحداهما لايا و هي كبراهما، و الاخرى راحيل و هي صغراهما، فخطب يعقوب إلى خاله أن يزوّجه إحداهما، فقال له خاله: هل لك مال؟ قال: لا، و لكن أعمل لك، فقال: نعم، صداقها أن تخدمني سبع سنين، فقال يعقوب: أخدمك سبع سنين على أن تزوّجني راحيل، قال: ذلك بيني و بينك. فرعى له يعقوب سبع سنين، فزوّجه الكبرى و هي لايا، قال يعقوب: [إنك]خدعتني، إنّما أردت راحيل، فقال له خاله: [إنا]لا ننكح الصّغيرة قبل الكبيرة، فهلمّ فاعمل سبع سنين اخرى فازوّجك اختها-و كان النّاس يجمعون بين الاختين، إلى أن بعث اللّه موسى-، فرعى [له]سبع سنين اخرى، فزوّجه راحيل فجمع بينهما، و كان خاله حين جهّزها دفع إلى كلّ واحدة منهما أمة تخدمها، اسم إحداهما زلفة و الاخرى بلهة، فوهبتا الأمتين ليعقوب، فولدت لايا ستّة بنين و بنتا واحدة اسمها دينة، و اسم البنين: روبيل، و شمعون، و يهودا، و لاوي، و يسجر، و زيالون. و ولدت زلفة ابنين: دان، و يغثالي. و ولدت بلهة حاد و اشير. و بقيت راحيل عاقرا سنين، ثم حملت و ولدت يوسف.

و ليعقوب إحدى و تسعون سنة، و أراد يعقوب أن يهاجر إلى موطن أبيه إسحاق بكل الحواشي، و كان ليوسف خال له أصنام من ذهب، فقالت لايا ليوسف: اذهب و استرق منه صنما، لعلّنا نستنفق منه، فذهب يوسف فأخذ صنما. و قيل: إنّ خاله جهّزه، و في سنة هجرته حملت راحيل ببنيامين، و ماتت في نفاسها و يوسف ابن سنتين (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 6

ثمّ عبّر يعقوب رؤياه بقوله: وَ كَذلِكَ الاجتباء، و مثل هذا الاصطفاء الذي لك من بين إخوتك، لمثل هذه الرّؤيا العظيمة يَجْتَبِيكَ و يصطفيك رَبُّكَ للنبوّة التي هي أعظم منها، أو لعلوّ الدّرجة وَ يُعَلِّمُكَ شيئا مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ و تعبير الرّؤى-و إنّما عبّر عن الرّؤى بالأحاديث، لكونها أحاديث الملك إن كانت صادقة، و أحاديث النّفس و الشّيطان إن كانت كاذبة-أو العلم بحقائق الأشياء، أو تفسير كتب اللّه المنزلة، و بيان المراد من عبارات الأنبياء وَ يُتِمُّ اللّه باصطفائك للسّلطنة

وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

ص: 366


1- . زاد في تفسير روح البيان: في قصة الشواء.
2- . تفسير روح البيان 4:211.

نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ و يضمّ في حقّك إلى النبوّة التي هي أعظم نعمه الواقعيّة الرّوحانيّة، الملك الذي هو أعظم نعمه الظّاهريّة الجسمانيّة، أو المراد به: يكمل عليك الحظوظ الدّنيويّة و الاخرويّة وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ و نسله و أشراف قومه، بأن يصل نعمهم الدّنيويّة بالنّعم الاخرويّة، و يجمع لهم السّعادة في الدّارين، من كثرة الأولاد و الخدم، و التّوسعة في المال و الجاه، و الوقع في القلوب، و معرفة اللّه، و وفور العلم، و حسن الأخلاق و العاقبة، دون النبوّة في أولاده الصّلبيين، لكونهم بالظّلم على يوسف عصاة، و لا يكون النبيّ إلاّ معصوما من المعاصي و الخطأ و الزلل من أوّل عمره، و لا دلالة لرؤيتهم في المنام بصورة الكواكب التي يهتدى بها في ظلمات البرّ و البحر، على نيلهم منصب النبوّة، لكفاية صيرورتهم ذوي الفضل و العلم، بحيث يستضاء بهم في ظلمات الجهل و الضّلال كسائر العلماء الرّاشدين، في تعبير الكواكب، و لا شبهة في صدق إتمام النّعم عليهم بذلك، و صحّة التّشبيه بقوله: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ أعني إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ حيث جمع اللّه لهما حظّ الدّنيا؛ من السّعة في المال و الجاه، و العظمة في القلوب، و حظّ الآخرة؛ من النبوّة و الرّسالة.

و قيل: يعني: يتمّ نعمته عليك بخلاصك من السّجن و المحن، كما أتمّها على أبويك إبراهيم بنجاته من النّار، و إسحاق بتخليصه من الذّبح (1).

و فيه: أنّه قد ثبت أنّ الخلاص من الذّبح كان لإسماعيل، لا لإسحاق.

و قيل: إتمام النّعمة على إبراهيم عليه السّلام بإنجائه من النّار و ذبح الولد، و اتّخاذه خليلا، و على إسحاق بإخراج يعقوب و الأسباط من صلبه، و اتّخاذه رسولا (2).

و إنّما عبّر عن إبراهيم و إسحاق بالأبوين مع كونهما جدّيه، لكون الجدّ أبا حقيقة، و لبيان كمال ارتباطه بالأنبياء العظام.

ثمّ بيّن استحقاقه للاجتباء بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يفعل ذلك لأنّه عَلِيمٌ بحقائق الأمور، فلا يخفى عليه استحقاقك للاجتباء و إتمام النّعمة، و حَكِيمٌ و معطي كلّ شيء ما يستحقّه، و فاعل لما هو صلاح و صواب.

عن الباقر عليه السّلام: «تأويل رؤيا يوسف أنّه سيملك مصر، و يدخل عليه أبواه و إخواته، أمّا الشّمس فإنّها امّه راحيل-و في رواية: خالته-، و القمر يعقوب، و أمّا الأحد عشر كوكبا فإخوته. فلمّا دخلوا عليه سجدوا للّه شكرا للّه وحده حين نظروا إليه» . الخبر (3).

ص: 367


1- . تفسير الرازي 18:90.
2- . تفسير روح البيان 4:216.
3- . تفسير القمي 1:339، تفسير الصافي 3:5.

قيل: كان بين رؤيا يوسف و وقوع تعبيره عشرون أو أربعون، أو ثمانون سنة (1).

قال بعض الحكماء: إنّ الرّؤيا الرّديئة يقع تعبيرها عن قريب؛ لأنّ رحمة اللّه بعباده أن لا يعلمهم بسوء أو شرّ إلا قريبا من وقوعه لئلاّ تطول مدّة حزنهم، بخلاف الرّؤيا الحسنة المبشّرة، فإنّها تطول مدّة وقوع تعبيرها، ليكون السّرور الحاصل بها أكثر و أتمّ (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 7

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقصّة يوسف دليل على صدق دعواه في التّوحيد [و] النبوّة بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قصّة يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ الأحد عشر آياتٌ باهرة، و دلالات ظاهرة على توحيد اللّه و قدرته و حكمته، و حجج تامّة على صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صدق كتابه؛ لأنّه اميّ، و على حفظه من شرّ الأعداء و إن حسده الحاسدون، و على نصره عليهم و تعلية قدره و إن طال الزّمان لِلسّائِلِينَ عنها و المستمعين لها.

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسّائِلِينَ (7)و عن ابن عبّاس قال: دخل حبر من اليهود على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسمع منه قراءة يوسف، فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنّه سمعها منه كما في التّوراة، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع، فقالوا: من علّمك هذه [القصة]؟ فقال: «اللّه علّمني» ، فنزل: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ. . . الآية (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 8

ثمّ شرح سبحانه قصّتهم بقوله: إِذْ الإخوة قالُوا فيما بينهم: و اللّه لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ بنيامين أَحَبُّ إِلى أَبِينا يعقوب مِنّا و الحال أنّهما صبيّان ضعيفان وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ و رجال أقوياء و كفاة، قوّامون باموره و مصالحه، قيل: إنّ العصبة عشرة رجال فصاعدا (4)، و قالوا: إنّه لحبّه لهما يفضّلهما علينا، و اللّه إِنَّ أَبانا بعمله ذلك لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ و خطأ ظاهر. و إنّما قالوا ذلك مع اعترافهم بنبوّة أبيهم، لقصور معرفتهم بشأن النبيّ من كونه معصوما عن الخطأ حتّى في العاديّات.

إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)قيل: إنّ شدّة حبّ يعقوب لهما إنّما كان لموت امّهما في صغرهما، و ظهور آثار الرّشد و النّجابة فيهما أزيد ممّا كان يجده في سائر أولاده (5)، و لعلمه بأنّ يوسف وارث نبوّته.

ص: 368


1- . مجمع البيان 5:320، تفسير الرازي 18:87، تفسير أبي السعود 4:252.
2- . تفسير الرازي 18:87.
3- . تفسير الرازي 18:92.
4- . تفسير الرازي 18:92، تفسير روح البيان 4:218.
5- . تفسير الرازي 18:93.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 9

ثمّ اشتدّ حسدهم على يوسف حتّى قال بعضهم-قيل: إنه دان (1)، و قيل: إنّه شمعون (2)، و قيل: إنّه يهودا (3)، و قيل: إنّهم شاوروا أجنبيّا (4)، و قيل: إنّ القائل الشّيطان، فإنّه جاءهم بصورة الشيخ، فقال لهم: - إنّ يوسف يريد أن يتّخذكم عبيدا لنفسه، فقالوا: فما التّدبير (5)؟ فقال: اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ و ألقوه أَرْضاً بعيدة من العمران حتّى يهلك فيها من الجوع و العطش، أو تأكله السّباع، إذن يَخْلُ و يخلص لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ و يكن محبّا لكم، مقبلا عليكم، مشتغلا بشأنكم، غير متوجّه إلى غيركم وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ و وراء الفراغ من أمره قَوْماً و جماعة صالِحِينَ، حسني (6)الحال عند أبيكم، أو في الدّنيا، أو تائبين من ذنبكم.

اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)عن السجاد عليه السّلام: «أي تتوبون» (7).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 10

ثمّ كأنّه قيل: هل اتّفقوا على هذا الرّأي؟ فقيل: لا، بل قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ -قيل: هو يهودا، و كان أقدمهم في السّنّ و الرّأي و الفضل (8). و قيل: هو روبيل، و كان ابن خالته، و أحسنهم في الرّأي (9). و عن القمّي: أنّه لاوي (8)-: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإنّ القتل بغير الجرم من أقبح القبائح، و لا تطرحوه أرضا بعيدة، فإنّه مثل القتل، بل هو عينه لعدم احتمال السّلامة له وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ و قعر البئر الذي يستسقى منه يَلْتَقِطْهُ و يأخذه إذن بَعْضُ القوافل اَلسَّيّارَةِ و المارّة، و يذهب به معه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ بمشورتي، و عاملين برأيي، فافعلوا ذلك، فإنّ فيه غرضكم و هو التّفريق بينه و بين أبيه، و مظنّة حفظه من التّلف. و إنّما لم يحتّم رأيه عليهم لتألّف قلوبهم و توجيههم إلى رأيه.

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ اَلسَّيّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)و قيل: يعني: إن كنتم فاعلين ما يفرّق بينه و بين أبيه (9).

ص: 369


1- . تفسير أبي السعود 4:256.
2- . تفسير أبي السعود 4:256، تفسير الرازي 18:95.
3- . تفسير روح البيان 4:219.
4- . تفسير الرازي 18:95.
5- . تفسير روح البيان 4:219.
6- . في النسخة: حسن.
7- . علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:7. (8 و 9) . تفسير الرازي 18:95.
8- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:7.
9- . تفسير الصافي 3:7.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 11 الی 12

ثمّ أنّه لمّا اتّفقوا على رأي القائل جاءوا أباهم و قالُوا مكرا و استعطافا و استنزالا له عن تصميمه على تحفّظه عنهم: يا أَبانا ما العذر لَكَ و أيّ داع يدعوك إلى أن لا تَأْمَنّا عَلى أخينا يُوسُفَ و نحن بنوك؟ و لم تخاف منّا عليه؟ وَ الحال إِنّا لَهُ و اللّه لَناصِحُونَ و عليه لمشفقون، لا نطلب إلاّ خيره.

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)قيل: لمّا كان عادتهم أن يذهبوا إلى الرّعي (1)، قالوا: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصّحراء يَرْتَعْ من الفواكه، و يأكل منها كثيرا وَ يَلْعَبْ بالاستباق و التّناضل، و غيرهما ممّا يناسب الصّبيان وَ إِنّا لَهُ و اللّه لَحافِظُونَ من المكاره و المضارّ و الآفات، فأكّدوا وعد حفظه بأنواع التّأكيدات.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 13 الی 15

ثمّ كأنّه قيل: هل قبل يعقوب قولهم و أجاب مسألتهم؟ فقيل: لا، بل قالَ يا بني إِنِّي و اللّه لَيَحْزُنُنِي فراق يوسف، و يؤلم قلبي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لقلّة صبري عنه وَ مع ذلك أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرّعي و الرّتع و اللّعب، و تهاونكم في حفظه.

قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)قيل: إنّه عليه السّلام قال ذلك لأنّ الأرض كانت مذأبة (2). و روي أنّه عليه السّلام رأى في المنام كأنّه على رأس جبل، و يوسف في الصّحراء، فهجم عليه أحد عشر ذئبا، فغاب يوسف بينهن (3). و قد لقّنهم عليه السّلام بتلك الحجّة.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا تلقّنوا الكذب فيكذبوا، فإنّ بني يعقوب لم يعلموا أنّ الذّئب يأكل الإنسان حتى لقّنهم أبوهم» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «قرّب يعقوب لهم العلّة فاعتلّوا بها في يوسف» (5).

ص: 370


1- . تفسير الرازي 18:96.
2- . تفسير روح البيان 4:221، و الأرض المذأبة: الكثيرة الذئاب.
3- . تفسير روح البيان 4:221.
4- . مجمع البيان 5:331، تفسير الصافي 3:8.
5- . علل الشرائع:600/56، تفسير الصافي 3:8.

قيل: إنّ البلاء موكّل بالمنطق (1).

ثمّ لمّا سمع الإخوة ذلك الكلام من أبيهم، و كانوا يعلمون أنّ الخوف أقوى السّببين لامتناعه من الإجازة، اقتصروا على دفعه و قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ بيننا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ و رجال أقوياء حافظون له إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ و هالكون ضعفا و عجزا، أو مستحقّون للهلاك لعدم الخير في حياتنا، أو لأن يدعى علينا بالخسار و الدّمار، أو مغبونون بترك حرمة الوالد و الأخ.

قيل: لمّا رأى يعقوب إلحاح بنيه في إخراج يوسف معهم إلى الصّحراء، و مبالغتهم بالعهد و اليمين، و رأى ميل يوسف إلى التفرّج و التّفريح (2)، رضي بالقضاء و أذن لهم في إخراجه معهم، فأمر أن يغسل بدن يوسف في طست كان أتى به جبرئيل إلى إبراهيم حين مجيء الفداء، فأجرى فيه دم الكبش، و أمر أن يرجّل شعره (3)و يدهن بدهن إسماعيل الذي جاء به جبرئيل من الجنّة، و أن يكحل ففعلوا (4).

و روي أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا القي في النّار و جرّد عن ثيابه، أتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، و إسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة (5)و علّقها في عنق يوسف. ثمّ شايعه إلى شجرة كانت على باب كنعان تسمّى بشجرة الوداع، فضمّه إليه و ودّعه و بكى بكاء شديدا، فقال يوسف: لم تبكي يا أبة؟ فقال: حزنا على فراقك، و ما أدري إلى ما تصير عاقبة أمرك. ثمّ قال: يا بني اوصيك بأربع، فاجعلها نصب عينيك: يا بني، لا تنس اللّه على كلّ حال، فإنّه لا قرين خير من ذكر اللّه و شكره. و إذا وقعت في بليّة فاستعن باللّه. و أكثر من قول: حسبي اللّه و نعم الوكيل، فإنّه لمّا القي جدّك خليل اللّه في النّار قاله، فدفع اللّه عنه ضرّ أصحاب نمرود و شرّهم، و ما أصابه حرّ النّار، يا بني لا تنسني فإنّي لا أنساك. ثمّ بالغ في الوصيّة بحفظه إلى بنيه (6).

و عن السّجاد عليه السّلام: «لمّا خرجوا [به]من منزلهم لحقهم أبوهم مسرعا فانتزعه من أيديهم، فضمّه إليه و اعتنقه و بكى، ثمّ دفعه إليهم» (7).

فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ و هم يحملونه على عواتقهم، و يعقوب عليه السّلام ينظر إليهم و يبكي، فأسرعوا في المشي مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم، فلمّا بعدوا عن العيون تركوا وصايا إبيهم، فألقوه على الأرض و قالوا: يا صاحب الرّؤيا الكاذبة، أين الكواكب التي رأيتهم لك ساجدين حتّى يخلّصوك من أيدينا اليوم؟ قيل: لمّا حكى يوسف رؤياه سمعها بعض أزواج إخوته، فحكتها لهم، فاطّلعوا على

ص: 371


1- . تفسير الرازي 18:97، تفسير روح البيان 4:222.
2- . في تفسير روح البيان: و التنزه.
3- . رجل شعره: سوّاه و زيّنه و سرّحه.
4- . تفسير روح البيان 4:222.
5- . التّميمة: ما يعلّق في العنق لدفع العين.
6- . تفسير روح البيان 4:222.
7- . تفسير العياشي 2:335/2077، علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:8.

رؤياه (1)فجعلوا يؤذونه و يضربونه، و كلّما لجأ إلى واحد منهم ضربه، و لا يزدادون عليه إلاّ غلظة و حنقا، و هو يبكي و ينادي: يا أبتاه، ما أسرع ما نسوا عهدك، و ضيّعوا وصيّتك، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء (2)!

و قيل: إنّهم جرّوه على الأرض جائعا عطشانا، حتّى أشرف على الهلاك (3).

و روي: أنّهم أتوا به غيظة (4)أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت [هذه]الشّجرة فيأكله الذّئب اللّيلة (5).

و قيل: إنّه أخذه روبيل فجلد به الأرض (6)، و وثب على صدره، و أراد قتله، و لوى عنقه ليكسره، فنادى يوسف: يا يهودا-و كان أرفقهم به-اتّق اللّه و حل بيني و بين من يريد قتلي، فأخذته الرّأفة و الرّحمة، فقال يهودا: أ لستم قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه؟ قالوا: بلى (7)، قال: ألقوه في غيابة الجبّ، فسكن غضبهم.

وَ أَجْمَعُوا و عزموا و اتّفقوا على أَنْ يَجْعَلُوهُ و يلقوه فِي غَيابَتِ اَلْجُبِّ و قعره، فأتوا به على رأس البئر الذي حفره شدّاد حين عمّر بلاد الاردنّ، و كان على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب بكنعان، و كان عمقها سبعين ذراعا، و كان رأسها ضيّقا و أسفلها واسعا-على ما قيل (8)، و قيل: هو بئر ببيت المقدس (7)-فنزعوا قميصه ليلطّخوه بالدّم الكذب، فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في حياتي، و يكون كفني بعد مماتي، فلم يفعلوا فتعلّق بثيابهم فنزعوها من يديه، فدلّوه فيها بحبل مربوط على وسطه فتعلّق بشفيرها، فربطوا يديه، فلمّا بلغ نصفها قطعوا الحبل و ألقوه فيها ليموت، و كان في البئر ماء فسقط فيه، ثمّ آوى إلى صخرة بجانب البئر، فقام عليها و هو يبكي، فنادوه فظنّ أنّها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأراد أن يرضخوه، فمنعهم يهودا (8).

و في رواية عن السجّاد عليه السّلام: «و ألقوه في البئر و هم يظنّون أنّه يغرق في الماء، فلمّا صار في قعر الجبّ ناداهم: يا ولد رومين اقرأوا يعقوب منّي السّلام، فلمّا سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض: لا تزالوا من هاهنا حتّى تعلموا أنّه قد مات، فلم يزالوا بحضرته حتّى أمسوا و رجعوا» (9).

و عن القمّي رحمه اللّه: فأدنوه من رأس الجبّ و قالوا له: انزع قميصك، فبكى و قال: يا إخوتي [لا]

ص: 372


1- . تفسير روح البيان 4:217.
2- . تفسير روح البيان 4:223.
3- . تفسير روح البيان 4:223.
4- . الغيظة: الموضع الكثير الشجر.
5- . تفسير العياشي 2:335/2077، علل الشرائع:47/1.
6- . جلد به الأرض: ضربها به. (7 و 8) . تفسير روح البيان 4:223.
7- . تفسير الرازي 18:96.
8- . تفسير روح البيان 4:223.
9- . تفسير العياشي 2:335/2077، علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:8.

تجرّدوني، فسلّ واحد منهم عليه السكّين و قال: لئن لم تنزعه لأقتلنّك، فنزعه فدلّوه في البئر و تنحّوا عنه، فقال يوسف في الجبّ: يا إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، ارحم ضعفي و قلّة حيلتي و صغري (1).

و روي أنّه قال: يا شاهدا غير غائب، و يا قريبا غير بعيد، و يا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا و مخرجا (2).

و في رواية اخرى: اجعل لي فرجا ممّا أنا فيه (3).

و روي أنّه ذكر اللّه بأسمائه الحسنى، فسمعه الملائكة فقالوا: يا ربّ نسمع صوتا حسنا في الأرض (4)، فأمهلنا ساعة، فقال اللّه: أ لستم قلتم: أ تجعل فيها من يفسد فيها؟ فحفّته الملائكة فأنس بهم (5).

و قيل: إنّ اللّه أوحى إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصل إلى قعر البئر، فأدركه جبرئيل و أخذه بيده، و أجلسه على صخرة كانت في قعر البئر، و ألبسه قميص الخليل الذي عوذه به يعقوب، و أطعمه من طعام الجنّة و شرابها (6).

و روي أن هوامّ الأرض (7)قال بعضها لبعض: لا تخرجنّ من مساكنكنّ، فإنّ نبيّا من الأنبياء نزل بساحتكنّ، فأنجحرن إلاّ الأفعى، فإنّها قصدت يوسف، فصاح بها جبرئيل، فصمّت و بقي الصّمم في نسلها (8).

ثمّ حكى سبحانه ألطافه بيوسف، و كأنّه قال: فحفظناه وَ أَوْحَيْنا بتوسّط جبرئيل إِلَيْهِ إيناسا له، و إزالة لوحشته، و تبشيرا له أن لا تخف و لا تحزن، إنّا نخلّصك من الجبّ، و نرفع مكانك، و نمكّنك في الأرض، و نحوج إليك إخوتك حتّى يجيئوك خاضعين متذلّلين، فعند ذلك و اللّه لَتُنَبِّئَنَّهُمْ و تخبرنّهم بِأَمْرِهِمْ و عملهم هذا الذي صدر منهم وَ الحال أنّ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنّك يوسف لتباين حالك هذا و حالك حين ملاقاتهم، حيث إنّك يومئذ عالي الشّأن، عظيم السّلطان، متغيّر الهيئة و الصّورة، لطول عهدهم بك.

و فيه إشارة إلى دخولهم عليه بمصر ممتارين (9)، فعرفهم و هم له منكرون.

ص: 373


1- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:9.
2- . تفسير الرازي 18:99، تفسير روح البيان 4:224.
3- . تفسير روح البيان 4:224.
4- . في تفسير روح البيان: الجب.
5- . تفسير روح البيان 4:224.
6- . تفسير روح البيان 4:224، و في النسخة: شرابه، بدل: شرابها.
7- . في تفسير روح البيان: البئر.
8- . تفسير روح البيان 4:224.
9- . ممتارين: طالبين و جامعين للميرة، و هي الطعام.

روي أنّهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم و هم له منكرون، ثم دعا بصواع (1)فوضعه على يده ثمّ نقره فطنّ، فقال: إنّه ليخبرني هذا الصّواع بأنّه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، فطرحتموه في البئر و قلتم لأبيكم أكله الذّئب (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «يقول: لا يشعرون أنّك أنت يوسف، أتاه جبرئيل فأخبره بذلك» (3).

و قيل: يعني: أنّهم لا يشعرون بنزول الوحي إليه، و إزالة الوحشة عنه (4).

عن السجّاد عليه السّلام، أنّه سئل: ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجبّ؟ قال: «كان ابن تسع سنين» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه كان ابن سبع سنين» (6).

أقول: يمكن أن تكون السّبع تحريف التّسع.

و قيل: إنّه كان ابن اثنتي عشرة سنة (7). و قيل: سبع عشرة سنة (8). و قيل ثماني عشرة سنة (9).

ثمّ قيل: إنّهم ذبحوا جديا على قميصه (10).

و عن القمّي رحمه اللّه: فقالوا: نعمد إلى قميصه فنلطّخه بالدّم، و نقول لأبينا: إنّ الذّئب أكله، فقال لهم أخوهم لاوي: يا قوم، ألسنا بني يعقوب إسرائيل اللّه، ابن إسحاق نبي اللّه، ابن إبراهيم خليل اللّه، أفتظنّون أنّ اللّه يكتم هذه الخبر عن أنبيائه؟ فقالوا: ما الحيلة؟ قال: نقوم و نغتسل، و نصلّي جماعة، و نتضرّع إلى اللّه تعالى أن يكتم ذلك عن أبينا، فإنّه جواد كريم، فقاموا و اغتسلوا، و كان في سنّة إبراهيم و إسحاق و يعقوب أنّهم لا يصلّون جماعة حتّى يبلغوا أحد عشر رجلا، فيكون واحد منهم إماما و عشرة يصلّون خلفه. فقالوا: كيف نصنع، و ليس لنا إمام؟ فقال لاوي: نجعل اللّه إمامنا، فصلّوا و تضرّعوا و بكوا و قالوا: يا ربّ اكتم علينا هذا (11).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 16 الی 18

ص: 374


1- . الصّواع: الصاع، و هو المكيال، أو إناء يشرب به.
2- . تفسير الرازي 18:100.
3- . تفسير القمي 1:340، تفسير الصافي 3:9.
4- . جوامع الجامع:214.
5- . علل الشرائع:48/1.
6- . تفسير العياشي 2:336/2080، تفسير الصافي 4:9.
7- . تفسير روح البيان 4:223.
8- . تفسير روح البيان 4:224، تفسير الرازي 18:99.
9- . تفسير روح البيان 4:224.
10- . تفسير القمي 1:341، تفسير الرازي 18:102.
11- . تفسير القمي 1:341، تفسير الصافي 4:9.

فرجعوا إلى كنعان وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً و دخلوا عليه آخر النّهار و هم يَبْكُونَ فلمّا رأى يعقوب بكاءهم فزع و قال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما فعل يوسف؟ قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا من عند يوسف كي نَسْتَبِقُ بالتّناضل و العدو وَ تَرَكْنا و خلّينا يُوسُفَ وحده عِنْدَ مَتاعِنا و زادنا و ثيابنا و أثاثنا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ بلا ريث و طول زمان يحتاج إلى التعهّد وَ ما أَنْتَ يا أبه بِمُؤْمِنٍ و مصدّق لَنا في ما نذكره، لفرط حبّك ليوسف، و سوء ظنّك بنا وَ لَوْ كُنّا من قبل عندك في سائر أخبارنا صادِقِينَ غير متّهمين بالكذب أو المراد: و إن كنّا في هذا الذي نقول صادقين في الواقع وَ جاؤُ للشّهادة على صدقهم بقميص يوسف، حال كونهم صابّين عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ مكذوب كأنّه عين كَذِبٍ بحيث لا يشكّ فيه كلّ من يراه.

روي أنّه لمّا سمع يعقوب بخبر يوسف صاح بأعلى صوته، ثمّ قال: أين قميصه؟ فأخذه و ألقاه على وجهه، و بكى حتّى خضب وجهه بدم القميص. ثمّ قال: تاللّه، ما رأيت إلى اليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني و لم يمزّق عليه قميصه (1).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية قال: «اللّهمّ لقد كان ذئبا رفيقا حيث لم يشقّ القميص» (2).

و القمّي رحمه اللّه: قال [يعقوب]: ما كان أشدّ غضب ذلك الذّئب على يوسف، و أشفقه على قميصه، حيث أكل يوسف و لم يمزّق قميصه (3).

ثمّ قالَ: ليس الأمر كما تقولون بَلْ سَوَّلَتْ و سهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أو هوّنت في نظركم أَمْراً عظيما، أمّا ما عليكم فتدارك الذّنب، و أمّا ما عليّ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أو المراد: فصبر جميل وظيفتي و تكليفي، و هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق-على رواية (4)، أو: ما لا جزع فيه؛ على قول آخر (5)- وَ اَللّهُ اَلْمُسْتَعانُ و المطلوب منه الإعانة عَلى تحمّل ما تَصِفُونَ و تخبرون به من أمر يوسف، و الصّبر على فراقه.

عن السجّاد عليه السّلام: «أنّه لمّا سمع مقالتهم، استرجع و استعبر، و ذكر ما أوحى اللّه إليه من الاستعداد للبلاء» (6).

قيل: إنّ اللّه ابتلى يعقوب بفراق يوسف، لأنّه ذبح جديا بين يدي امّه (7).

و قيل: إنّه استطعمه فقير يوما فما اهتمّ بإطعامه، فانصرف الفقير حزينا (8).

ص: 375


1- . تفسير روح البيان 4:226.
2- . تفسير العياشي 2:337/2082، تفسير الصافي 3:10.
3- . تفسير القمي 1:342، تفسير الصافي 3:10.
4- . تفسير الرازي 18:103، تفسير روح البيان 4:227، تفسير الصافي 3:10.
5- . تفسير الرازي 18:103.
6- . علل الشرائع:47/1، تفسير الصافي 3:10. (7 و 8) . تفسير روح البيان 4:225.

و قيل: لمّا ولد يوسف اشترى له ظئرا (1)، و كان لها ابن رضيع، فباع ابنها تكثيرا للّبن على يوسف، فبكت و تضرّعت، و قالت: يا ربّ، إنّ يعقوب فرّق بيني و بين ولدي، ففرّق بينه و بين ولده يوسف، فاستجاب اللّه دعاءها، فلم يصل يعقوب إلى يوسف إلاّ بعد أن لقيت تلك الجارية ابنها (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ما جرى بين يعقوب و إخوة يوسف، ذكر كيفيّة تخليص يوسف من البئر، و ما جرى عليه بعد خلاصه بقوله: وَ جاءَتْ من طرف مدين قافلة سَيّارَةٌ و مارّة من الأرض التي فيها البئر، قاصدين مصر، بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في البئر، فنزلوا قريبا منها، و كانت البئر معروفة ترد عليها القوافل كثيرا، و إنّما ألقوه فيها ليلتقطه السيّارة، و ليكون أقرب إلى السّلامة؛ كما قيل.

وَ جاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ (20)عن ابن عبّاس: جاءت سيّارة-أي قوم يسيرون-من مدين إلى مصر، فأخطأوا الطّريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فها جبّ يوسف، و كان الجبّ في قفرة بعيدة من العمران، لم يكن إلاّ للرّعاة (3).

و في رواية: لمّا دعا يوسف بالدّعاء الذي نقلناه سابقا، ما بات في الجبّ، و خرج منه بعد رجوع إخوته (4).

قيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين القي فيه (5).

و على أي تقدير احتاجت (6)القافلة إلى الماء فَأَرْسَلُوا رجلا كان وارِدَهُمْ و سقّاءهم الذي يرد الماء-يقال له مالك بن ذعر الخزاعي-ليطلب لهم الماء، فجاء على رأس الجبّ فَأَدْلى و أرسل دَلْوَهُ في الجبّ ليملأها من الماء، و كان يوسف في ناحية من قعره، فتعلّق بالحبل-و قيل: اوحي إليه بأن يتعلّق به (7)فتعلق به-و خرج منه، فلمّا نظر مالك، فإذا بغلام وجهه كفلقة القمر، فنادى من فرط الشّغف: يا للبشارة، لنفسه و أصحابه، و قالَ يا بُشْرى احضري، فهذا أوانك-و قيل: معناه: ابشروا يا أصحابي- هذا غُلامٌ لا نظير له، قد أنعم اللّه به علينا بدل الماء، نبيعه بثمن عال (8)، أو صرنا

ص: 376


1- . الظّئر: المرضعة لغير ولدها.
2- . تفسير روح البيان 4:225.
3- . تفسير الرازي 18:105.
4- . تفسير روح البيان 4:224.
5- . تفسير الرازي 18:105، تفسير أبي السعود 4:261.
6- . في النسخة: احتاج.
7- . تفسير روح البيان 4:228.
8- . تفسير الرازي 7:106.

سببا لحياته.

و قيل: إنّ البشرى كان علما لصاحبه، ناداه، ليعينه على نزع الدّلو من البئر (1).

و عن الأعمش: أنّه دعا امرأة اسمها بشرى (2).

قيل: لمّا خرج يوسف من البئر بكت أطراف البئر على مفارقته (3).

ثمّ أنّ مالكا و أصحابه لمّا خافوا من أهل القافلة أن يشاركوهم في يوسف أخفوه وَ أَسَرُّوهُ منهم، بأن جعلوه بِضاعَةً و متاع تجارة، و قالوا: إنّ أهل الماء أو دعوه عندنا لنبيعه بمصر؛ كذا قيل (4).

و عن ابن عبّاس: أنّ إخوة يوسف لمّا طرحوه في الجبّ و رجعوا إلى كنعان، عادوا بعد ثلاثة أيّام ليتعرّفوا خبره، فوجدوه عند السيّارة (5).

و قيل: إنّ يهودا كان يأتيه كلّ يوم بالطّعام، فأتاه يومئذ فلم يجده فيها، فأخبر إخوته فأتوا و رأوا آثار السيّارة، فطلبوهم فلمّا رأوا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منّا، و وافقهم يوسف على ذلك، لأنّهم توعّدوه بالقتل بلسان العبرانيّة (6).

و عن السجّاد عليه السّلام: «أنّهم لمّا أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتّى ننظر ما حال يوسف، أمات أم هو حيّ؟ فلمّا انتهوا إلى الجبّ، وجدوا بحضرة الجبّ سيّارة، و قد أرسلوا واردهم و أدلى دلوه، فلمّا جذب دلوه فإذا هو بغلام متعلّق بدلوه، فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام، فلمّا أخرجوه أقبل إليهم إخوته فقالوا: هذا عبدنا سقط [منّا]أمس في هذا الجبّ، و جئنا اليوم لنخرجه، فانتزعوه من أيديهم و تنحّوا به ناحية، فقالوا: إمّا أن تقرّ لنا أنّك عبدنا فنبيعك [على]بعض هذه السيّارة، أو نقتلك، فقال لهم يوسف: لا تقتلوني، و اصنعوا ما شئتم، فأقبلوا به إلى السيّارة فقالوا: أمنكم من يشتري منا هذا العبد؟ (7)و عن ابن عبّاس: أسرّوا شأنه، يعني: أخفوا كونه أخا لهم (8).

وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ممّا يسرّون و ما يعلنون وَ شَرَوْهُ و باعوه من السيّارة-و عن مجاهد: أنّهم قالوا للقوم: استوثقوه لئلاّ يأبق (9). و قيل: إنّهم باعوه ممّن استخرجه (10). و قيل: إنّ الوارد و أصحابه باعوه (9).

ص: 377


1- . تفسير البيضاوي 1:479، تفسير روح البيان 4:229.
2- . تفسير الرازي 18:106.
3- . تفسير روح البيان 4:228.
4- . تفسير الرازي 18:106.
5- . تفسير الرازي 18:107.
6- . تفسير أبي السعود 4:261، تفسير الرازي 18:106.
7- . علل الشرائع:48/1، تفسير الصافي 3:11.
8- . تفسير الرازي 18:106. (9 و 10) . تفسير الرازي 18:107.
9- . تفسير أبي السعود 4:261.

و قيل: إنّ الشّراء بمعنى الإشراء، و المراد أنّ القوم اشتروه (1)- بِثَمَنٍ و عوض بَخْسٍ و ناقص من حيث الغشّ و قلّة العيار.

و عن ابن عبّاس: يعني: بثمن حرام، لأن ثمن الحرّ حرام (2). لأنّ البخس بمعنى النّاقص، و الحرام ناقص البركة.

و قيل: يعني: بثمن ظلم، لكون الظّلم نقصا (3).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قلّة الثّمن في نفسه، بيّن قلّته من حيث المقدار بقوله: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ قليلة لا توزن.

قيل: إنّهم كانوا لا يوزنون الدّراهم إلاّ إذا بلغت اوقيّة؛ و هي الأربعون (4).

و قيل: إنّ قوله دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ بيان للثّمن البخس، بمعنى: ثمن قليل (5).

و قيل: يعني: ثمن ناقص عن قيمة يوسف نقصانا ظاهرا (1)، و هو دراهم معدودة.

عن ابن عبّاس: كانت عشرين درهما (2)، و هو مرويّ عن السّجاد عليه السّلام (3).

و عن السّدي كانت: اثنين و عشرين [درهما]، و الإخوة كانوا أحد عشر، فكلّ واحد أخذ اثنين إلاّ يهوذا (4).

أقول: لا شبهة في وقوع السّهو في ذكر عدد الإخوه، لأنّهم كانوا عشرة، و كذا في التّقسيم.

وَ كانُوا بائعو يوسف فِيهِ مِنَ اَلزّاهِدِينَ و غير الرّاغبين، أمّا لو كانوا إخوته فوجهه واضح، و أمّا لو كانوا ملتقطوه، فلأنّ الملتقط متهاون لما يلتقطه، أو لخوفهم أن يظهر له مالك أو صاحب، فينزعه من أيديهم، و أمّا لو كان المراد القوم الّذين اشتروه، فلا يظهرون الرّغبة فيه، للتّوصّل بذلك إلى تقليل الثّمن، أو لاطمئنانهم بكذب دعوى رقيّته، و احتمالهم أن ينتزع منهم.

قيل: إنّ يوسف أخذ يوما مرآة، فنظر إلى صورته، فأعجبه حسنه و بهاؤه، فقال: لو كنت عبدا فباعوني لما وجد لي ثمن، فابتلى بالعبوديّة، و بيع بثمن بخس (5).

روى بعض العامّة: أنّ الصّبيان أخذوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في طريق المسجد، و قالوا: كن لنا جملا، كما تكون للحسن و الحسين، فقال لبلال: اذهب إلى البيت و آت بما وجدته لأشتري نفسي منهم، فأتي بثماني جوزات، فاشترى بها منهم نفسه، و قال: أخي يوسف باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، و باعوني بثماني جوزات (6).

ص: 378


1- . تفسير الرازي 18:107.
2- . تفسير الرازي 18:108، تفسير أبي السعود 4:261.
3- . علل الشرائع:48/1، تفسير الصافي 3:11.
4- . تفسير الرازي 18:108.
5- . تفسير روح البيان 4:225.
6- . تفسير روح البيان 4:229.

قيل: حمل القوم يوسف إلى مصر، فاطّلع أهل مصر بمجيء تجّار مدين، فخرجوا ليشتروا من أمتعتهم، و خرج فيهم بعض خدم العزيز، فلمّا رأوا يوسف تحيّروا من غاية حسنه و نعت جماله، فرجعوا و أخبروا به العزيز، و هو كان يعشقه لما سمع من صيت حسنه، و افتتن أهل مصر به، و التمسوا من مالكه أن يعرضه للبيع، فزيّنه و أخرجه إلى السّوق و عرضه للبيع مزايدة ثلاثة أيّام، و اجتمع النّاس لشرائه، و فيهم عجوز أتت بشيء من الغزل لتشتريه به، فتزايدوا في ثمنه حتّى بلغ إلى ما لا يقدر عليه أحد غير العزيز، فاشتراه بوزنه مرّة مسكا، و مرّة لؤلؤا، و مرّة ذهبا، و مرّة فضّة، و مرّة حريرا. و كان وزنه أربعمائة رطل، و سنّة سبع عشرة سنة (1).

و قيل: إنّه اشتراه بعشرين دينارا (2).

و قيل: [اشتراه العزيز بأربعين دينارا]و زوج نعل، و ثوبين أبيضين (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 21

وَ قالَ العزيز اَلَّذِي اِشْتَراهُ و كان مِنْ أهل مِصْرَ بعد أن ذهب به إلى بيته لاِمْرَأَتِهِ راعيل، الملقّبة بزليخا بنت دعائل، أو هيكاهم: أن أَكْرِمِي مَثْواهُ و مسكنه، و اجعليه أحسن ما يكون.

وَ قالَ اَلَّذِي اِشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ وَ اَللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)قيل: هو كناية عن المبالغة في إكرام نفسه، و إحسان تعهّده في المطعم و المشرب، و غيرهما (4).

ثمّ ذكر علّة لزوم إكرامه بقوله: عَسى و يرجى أَنْ يَنْفَعَنا في امورنا، و يكفينا مهمّاتنا أَوْ نَتَّخِذَهُ و نختاره لأنفسنا وَلَداً لمّا تفرّس منه الرّشد و النّجابة و كرامة النّفس، و لم يكن له ولد. و لذا قالوا: هو أفرس النّاس.

قيل: إنّه كان على خزائن مصر، و صاحب جنود الملك، و كان اسمه قطفير-أو أطفير-و لقبه العزيز، لغلبته على أهل مملكته، و قربه من الملك، و هو يومئذ ريّان بن الوليد العماليقي (5).

قيل: إنّه عمّر إلى زمان موسى، و كان هو فرعون موسى (6).

و قيل: إنّه كان من أجداد فرعون موسى، و آمن بيوسف، و مات في حياته، و ملك بعده قابوس (5)بن

ص: 379


1- . تفسير روح البيان 4:230.
2- . تفسير الرازي 18:109.
3- . جوامع الجامع:215.
4- . تفسير روح البيان 4:231. (5 و 6) . تفسير الرازي 18:108، تفسير أبي السعود 4:262، تفسير روح البيان 4:230.
5- . في النسخة: قامومن.

مصعب (1).

وَ كَذلِكَ التّمكين البديع و الرّفعة التي حصلت ليوسف في قلب العزيز، حتّى أمر امرأته بإكرام مثواه. أو التّمكين الذي حصل له في منزله مَكَّنّا لِيُوسُفَ و جعلنا له مقاما عاليا فِي أهل تلك اَلْأَرْضِ و وجاهة تامّة في أنظار سكنة تلك المملكة، و محبوبيّة كاملة في قلوبهم، ليترتّب على تلك المكانة و الوجاهة ما جرى بينه و بين امرأة العزيز وَ لِنُعَلِّمَهُ و نلهمه مقدارا كافيا مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ و تعبير الرّؤى و المنامات التي عمدتها رؤيا صاحبي السّجن، و رؤيا الملك. و إنّما أراد إخوته إذلاله و إهلاكه، و أراد اللّه إعزازه و رفعة محلّه وَ اَللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ و قادر على إنفاذ إرادته، لا دافع لقضائه، و لا مانع عن إجراء حكمه-في أرضه و سمائه-قيل: إنّ ضمير أَمْرِهِ راجع إلى يوسف، و المعنى: أنّه تعالى غالب على أمر يوسف (2)-و بيده انتظامه، لا بسعيه و إرادته وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنّ زمام جميع الامور بيد اللّه، بل يزعمون أنّ لهم فيها دخلا، و لتدبيرهم فيها تأثيرا، أو المراد: أنّهم لا يعلمون لطائف صنع اللّه، و خفايا فضله.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 22 الی 24

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان صبر يوسف على البلايا و المحن، و مكافاته بالنّعم الجسمانيّة الظّاهريّه؛ من التّمكين في قلب العزيز، و علوّ منزلته عند أهل مصر، ذكر مكافاته بالنّعم الرّوحانيّة الباطنيّة بقوله: وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ و كملت قواه الجسمانيّة و الرّوحانيّة آتَيْناهُ و أعطيناه حُكْماً و نبوّة، أو حكمة عمليّة، التي هي الاستيلاء على النّفس، بحيث يسهل عليه منعها عن اتّباع الهوى، و ارتكاب الرّذائل وَ عِلْماً كاملا بجميع ما يحتاج إليه النّاس من المعارف و الأحكام، جزاء على حسن صبره وَ كَذلِكَ الجزاء البديع الجزيل نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ جميعا على أعمالهم الحسنة.

وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (22) وَ راوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اَللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ (23) وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ (24)قيل: إنّه عليه السّلام صار نبيّا و له ثلاث و ثلاثون سنة (3).

ص: 380


1- . تفسير الرازي 18:108، تفسير أبي السعود 4:262، تفسير روح البيان 4:230.
2- . تفسير الرازي 18:110.
3- . تفسير الرازي 18:110.

و الأشدّ: سنّ الوقوف، و هو ما بين ثلاثين و أربعين؛ كما هو مرويّ عن ابن عبّاس (1).

و قيل: إنّه كان نبيّا حين القي في الجبّ (2). و كان له ثماني عشرة سنة، و هو الأشدّ، لأنّه سن الشّباب، و هو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين.

قيل إنّ زليخا كانت أجمل نساء عصرها، و كانت بنت جلموس (3)سلطان المغرب، فرأت ذات ليلة في المنام غلاما على أحسن ما يكون من الحسن و الجمال، فسألت عنه، فقال: أنا عزيز مصر، فلمّا استيقظت افتتنت بما رأت في الرّؤيا، و أدّى ذلك إلى تغيّر حالها، و لكنّها كتمت حالها عن الأغيار دهرا. ثمّ تفطّن من في البيت من الجواري و غيرهنّ أنّ بها أمرا، فقال بعض: أصابتها عين، و بعض: أصابها سحر، و بعض: مسّها الجنّ، و بعض: ابتلت بالعشق، ففتّش عن أمرها، فما وجد فيها غير العشق، و قد كان خطبها ملوك الأطراف، فابت إلاّ عزيز مصر، فجهّزها أبوها بما لا يحصى من العبيد و الجواري و الأموال، و أرسلها مع حواشيه إلى جانب مصر، فاستقبلها العزيز بجمع كثير في زينة عظيمة، فلمّا رأته زليخا علمت أنّه ليس الذي رأته في المنام، فأخذت تبكي و تتحسّر على ما فات من المطلوب، فسمعت هاتفا يقول: لا تحزني يا زليخا، فإنّ مقصودك يحصل بواسطة هذا.

ثمّ لمّا دخلوا مصر أنزلوا زليخا في دار العزيز بالعزّ و الاحترام، و هي في نفسها على آلام الفراق، و كانت على هذه الحال سنين، و بقيت بكرا لأنّ العزيز كان عنّينا، ثمّ كان ما كان من حسد إخوان يوسف عليه، و وصوله إلى مصر بالعبوديّة، فلمّا رأته زليخا علمت أنّه هو الذي رأته في المنام، فلمّا ورد يوسف في دار العزيز ملك سلطان العشق مملكة قلب زليخا (4).

روي أنّ يوسف كان يأوي إلى بستان في قصر زليخا يعبد اللّه فيه، و كان قد قسّم نهاره ثلاثه أقسام: ثلثا لصلواته، و ثلثا لبكائه، و ثلثا لذكر اللّه و تسبيحه، فلمّا أدرك يوسف مبالغ الرّجال، طلبت منه الوقاع.

وَ راوَدَتْهُ و جاءت و ذهبت عنده المرأة اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها لتخادعه عَنْ نَفْسِهِ و هو يهرب منها إلى البستان، فلمّا طال ذلك عليها تغيّر لونها و اصفر وجهها، فدخلت عليها دايتها فأخبرتها بذلك، فأشارت عليها أن تبني له بيتا مزيّنا بكلّ ما تقدر عليه من الزّينة و الطّيب، ليكون وسيلة إلى صحبة يوسف، فبنته، فلمّا فرغ الصنّاع من عمله دعت العزيز، فدخل فيه فأعجبه، لكونه على اسلوب عجيب، و قال لها: سمّيه بيت السّرور ثمّ فرح، فاستدعت يوسف فزينه بكلّ ما يمكن من الزّينة،

ص: 381


1- . تفسير أبي السعود 4:263، تفسير روح البيان 4:232.
2- . تفسير الرازي 18:110، تفسير روح البيان 4:233.
3- . في تفسير روح البيان: طيموس.
4- . تفسير روح البيان 4:234.

و تزيّنت هي أيضا، و كانت بيضاء حسناء، بين عينيها خال يتلألأ حسنا، و لها أربع ذوائب قد نظمتها بالدّر و الياقوت، و عليها سبع حلل، و أرسلت قلائدها على صدرها، فجاءوا بيوسف، فلمّا دخل عليها في البيت الأوّل أغفلته و أغلقته، و راودته عن نفسه بكلّ حيلة، فلم يجبها، ثمّ أدخلته في البيت الذي يليه، و راودته بكلّ ما يمكن، فلم يساعدها يوسف، و دفعها بكلّ ما قدر عليه، ثمّ إلى أن انتهى إلى البيت السّابع (1)وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوابَ السّبعة كلّها عليه، بحيث لم يمكن فتحها عادة.

ثمّ دعته إلى نفسها وَ قالَتْ له: هَيْتَ لَكَ و أقبل و أسرع إليّ-قيل: هذه الكلمة بالعبريّة: هيا لج (2)، فعرّبه القرآن-فامتنع يوسف من إجابتها، و قالَ مَعاذَ اَللّهِ و ألتجئ إليه من أن أعصيه، و اضيع حقوقه، و أكفر نعمه العظام عليّ.

ثمّ اعتذر أوّلا بأنّ هذا العمل كفران نعمة العزيز بقوله: إِنَّهُ رَبِّي و منعمي، و سيّدي الذي أَحْسَنَ مَثْوايَ و أكرمني غاية الكرامة، ثمّ اعتذر ثانيا بأنّ في هذا العمل خسران الدّارين بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ على أنفسهم بفعل القبيح، و على منعميهم بالخيانة في عرضهم.

و يحتمل أن تكون كلمة مَعاذَ اَللّهِ حقيقة عرفيّة في إظهار الامتناع الشّديد، و قوله إِنَّهُ رَبِّي علّة له، و قوله إِنَّهُ لا يُفْلِحُ علّة للعلّة. و يكون حاصل المعنى: لا يكون ذلك العمل منّي أبدا، لأنّ العزيز ربّي الذي أحسن إليّ بإكرام مثواي، و حقّه أن لا أخونه في عرضه، لأنّه ظلم في حقّه، و لا يفلح الظالمون.

و يحتمل أن يكون ضمير إِنَّهُ رَبِّي راجعا إلى اللّه، و المعنى: إنّ اللّه ربّي و منعمي، حيث أكرمني غاية الإكرام، و عصيانه كفران نعمته، و ظلم في حقّه، و لا يفلح الظّالم.

عن ابن عبّاس قال: كان يوسف إذا تبسّم رؤي النّور في ضواحكه، و إذا تكلّم رؤي شعاع النّور في كلامه يذهب من بين يديه، و لا يستطيع آدميّ أن ينعت نعته، فقالت له: يا يوسف، إنّما صنعت هذا البيت المزيّن لأجلك، فقال يوسف: يا زليخا، إنّي أخشى أن يكون هذا البيت الذي سمّيته بيت السّرور بيت الأحزان و الثّبور، و بقعة من بقاع جهنّم. فقالت زليخا: يا يوسف، ما أحسن عينيك! قال: هما أوّل شيء يسيل إلى الأرض من جسدي. قالت: ما أحسن وجهك! قال: هو للتّراب يأكله. قالت: ما أحسن شعرك! قال: هو أوّل ما ينتشر من جسدي. قالت: إن فراش الحرير مبسوط فقم و اقض حاجتي، قال: إذن يذهب نصيبي من الجنّة. قالت: إن طرفي سكران من محبّتك، فارفع طرفك إلى

ص: 382


1- . تفسير روح البيان 4:236.
2- . تفسير الرازي 18:113.

حسني و جمالي، قال: صاحبك أحقّ بحسنك و جمالك (1).

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ و عزمت على مخالطته و مجامعته عزما جزما بعد تغليق الأبواب، و دعوتها إلى نفسها، و الإلحاح في مقاربتها، و مدّ يدها إليه لتعانقه وَ هَمَّ بِها و عزم على إجابتها بمقتضى الطبيعة البشرية و قوّة شهوة الشباب مع وجود أسباب هيجان الرغبة لَوْ لا أَنْ رَأى يوسف بُرْهانَ رَبِّهِ و حجّته الباهرة الدالة على قبح الزنى، و كونه مبغوضا له تعالى، و كمال إيقانه الواصل إلى مرتبة عين اليقن التي تتجلّى عندها حقائق الأشياء بصورتها الواقعية البرزخية.

و هذه المرتبة هي العصمة الالهية، و لكن رأى البرهان فلم يهتمّ بها أصلا، و كان فاقد الشرط، و المقصود بيان أنّه لم يكن امتناعه عن ارتكاب الفاحشة لقصور في قواه الطبيعية و نقص في موجبات الرغبة، بل كان بمقتضى العفّة و العصمة الألفية (2)مع وفور الدواعي النفسانية و تمامية الموجبات الخارجية لظهور أحكام الطبيعة.

عن الرضا عليه السّلام، و قد سأله المأمون عن عصمة الأنبياء: قال عليه السّلام: «لقد همّت به، و لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها كما همّت به، لكنّه كان معصوما، و المعصوم لا يهمّ بذنب و لا يأتيه» .

قال: «و لقد حدّثني أبي، عن أبيه الصادق عليه السّلام، أنّه قال: همّت بأن تفعل، و همّ بأن لا يفعل» (3).

و في رواية: «أنّها همّت بالمعصية، و همّ يوسف بقتلها إن أجبرته، لعظم ما تداخله، فصرف اللّه عنه قتلها و الفاحشة» (4).

و قيل: إنّ البرهان هو أنّه رأى مكتوبا في جانب البيت: لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى (5).

و قيل: إنّه قال له ملك: أنت تهمّ بفعل السفهاء، و أنت (6)مكتوب في ديوان الأنبياء (7)و في هذا القول ما لا يخفى.

و قيل: إنّه انفرج له سقف البيت، فرأى يعقوب عاضّا على يديه (8).

و قيل: إنّ يعقوب ضرب على صدره، فخرجت شهوته من أنامله (7).

و قيل: بدت كفّ [فيما بينهما]لا عضد لها و لا معصم، مكتوب فيها: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ*

ص: 383


1- . تفسير روح البيان 4:236.
2- . كذا، و لعلّ مراده المألوفة.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:201/1، تفسير الصافي 3:13.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:193/1، تفسير الصافي 3:13.
5- . تفسير روح البيان 4:238.
6- . زاد في النسخة: و اسمك. (7 و 8) . تفسير روح البيان 4:238.
7- . تفسير أبي السعود 4:266.

كِراماً كاتِبِينَ (1) فلم ينصرف، ثمّ رأى فيها: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (2)فلم يتنبّه (3)، ثمّ رأى فيها: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ (4)فلم ينجع. فقال اللّه عزّ و جلّ لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الفاحشة (5). فانحطّ جبرئيل عليه السّلام و هو يقول: يا يوسف، اتعمل عمل السّفهاء و أنت مكتوب في ديوان الأنبياء (6).

في عصمة الأنبياء

أقول: لا شبهة في فساد هذا القول و كذبه، و قيل: إنّه رأى تمثال العزيز (7).

و قيل: إنّه رأى شخصا يقول له: يا يوسف، انظر إلى يمينك، فنظر [فرأى]ثعبانا أعظم ما يكون، فقال: هذا يكون في بطن الزاني غدا (8).

و قيل: إنّه سمع قائلا يقول: يابن يعقوب، المؤمن كالطير (9)له ريش، فاذا زنى سقط ريشه (10).

و قيل: إنه رأى جبرئيل عاضّا على يده (11).

عن السجّاد عليه السّلام: قامت امرأة العزيز إلى الصنم، فألقت عليه ثوبا، فقال لها يوسف: [ما هذا؟ قالت: أستحيي من الصنم أن يرانا، فقال لها يوسف:]أتستحيين ممّن لا يسمع و لا يبصر و لا يفقه، و لا يأكل و لا يشرب، و لا أستحيي أنا ممّن خلق الانسان فعلمه، فذلك قوله: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ (12).

و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام بعد أن كذّب قول الناس إنّه رأى يعقوب عاضا على إصبعه (13).

و عن الصادق عليه السّلام: «أن رضا الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، و كيف تسلمون ممّا لا يسلم منه أنبياء اللّه و رسله و حجج اللّه عليهم السّلام، ألم ينسبوا يوسف عليه السّلام إلى أنه همّ بالزنا» (14).

أقول: و العجب أنّه مع ذلك روى بعض العامه عن الصادق عليه السّلام باسناده عن علي عليه السّلام أنه قال: «طمعت فيه و طمع فيها، فكان طمعه فيها أنّه همّ أن يحلّ التّكّة» (15)بل نقلوا عن ابن عباس أنه قال: حلّ الهميان (16)، و جلس منها مجلس الخائن (17). و عنه أيضا: أنّها استلقت له و جلس بين رجليها ينزع ثيابه (18).

أقول: لا شبهة أن كلّها من الأكاذيب بحكم العقل و النقل و إجماع أهل الحلّ و العقد.

ص: 384


1- . الإنفطار:82/10 و 11.
2- . الإسراء 17/32.
3- . في تفسير أبي السعود: فلم ينته.
4- . البقرة:2/281.
5- . في تفسير أبي السعود: الخطيئة.
6- . تفسير أبي السعود 4:266.
7- . تفسير أبي السعود 4:267.
8- . تفسير روح البيان 4:238.
9- . في تفسير الرازي: يا ابن يعقوب لا تكون كالطير يكون.
10- . تفسير الرازي 18:120.
11- . مجمع البيان 5:345.
12- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:45/162، تفسير الصافي 3:14.
13- . تفسير العياشي 2:340/2092، تفسير الصافي 3:14.
14- . أمالى الصدوق:164/163، تفسير الصافي 2:14.
15- . تفسير الرازي 18:115.
16- . الهميان: شداد السّراويل. (17 و 18) . تفسير الرازي 18:115.

قال الفخر الرازي: إن كلّ من له تعلّق بتلك الواقعة، شهد ببراءة يوسف من المعصية، فانّ الذين لهم تعلّق بتلك الواقعة يوسف و المرأة و زوجها و النسوة و الشهود و ربّ العالمين، و كلّهم شهدوا ببراءته، و الشيطان أقرّ أيضا ببراءته من المعصية، فاذا كان الأمر كذلك لم يبق لمسلم مجال التوقّف في هذا الباب.

أمّا ادّعاء يوسف ببراءته فقوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي (1)و قوله: رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (2).

و أما المرأة فانّها اعترفت بذلك بقولها للنسوة: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ (3)و بقولها: اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ (4).

و أمّا زوج المرأة فبقوله: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخاطِئِينَ (5).

و أمّا الشهود فيقول الشاهد: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (6).

و أمّا النسوة فبقولهنّ: اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (7)و قولهن: حاشَ لِلّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (8).

و أمّا شهادة اللّه فبقوله: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ

و أمّا اقرار إبليس بذلك فبقوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (9)فأقرّ بأنّه لا يمكنه إغواء العباد المخلصين.

ثمّ بيّن اللّه منّته على يوسف بقوله: كَذلِكَ الاراءة للبرهان أريناه، و مثل ذلك التبصير بصّرناه فيما قيل، أو مثل ذلك التثبّت ثبّتناه لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ كلّه، و منه خيانة العزيز، أو قتل زليخا وَ اَلْفَحْشاءَ كان هو الزنا، أو ما شابهه في شدّة القباحة.

ثمّ علّل ذلك اللّطف به بقوله: إِنَّهُ أحد مِنْ عِبادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ و المصطفين لعبادتي و طاعتي.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 25 الی 29

ص: 385


1- . يوسف:12/26.
2- . يوسف:12/33.
3- . يوسف:12/32.
4- . يوسف:12/51.
5- . يوسف:12/28 و 29.
6- . يوسف:12/26.
7- . يوسف:12/30.
8- . يوسف:12/51.
9- . تفسير الرازي 18:116، و الآية من سورة ص:38 و 82 و 83.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه شدّة طلب زليخا و شدّة امتناع يوسف من إجابتها بقوله: وَ اِسْتَبَقَا اَلْبابَ البرّاني و تسابقا إليه، أما يوسف فللهرب من زليخا، و أمّا زليخا فلصدّ يوسف عن الفرار و الخروج.

و في رواية: كانت الأقفال تتساقط و الأبواب تفتح (1)ليوسف، فلمّا بلغته زليخا اجتذبت قميصه من خلفه، لتوقفه و تمنعه من الخروج وَ لذا قَدَّتْ و شقّت قَمِيصَهُ طولا مِنْ دُبُرٍ و خلف بالاجتذاب وَ أَلْفَيا و وجدا العزيز الذي كان سَيِّدَها و زوجها لَدَى اَلْبابِ و هو يريد أن يدخل البيت كما قيل، و قيل: إنه كان جالسا عند الباب مع تمليخا ابن عمّ زليخا (2)، و إنما قال سبحانه سيّدها لأنّ الزوج سيد المرأة، و لم يكن سيد يوسف لأنّه لم يكن مالكه في الواقع.

ثمّ كأنّه قيل: ما قالت زليخا لسيدها عند ذلك؟ فأجاب سبحانه بقوله: قالَتْ زليخا لسيدها تنزيها لنفسها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ و زوجتك سُوءاً أو فحشا، و ليس جزاؤه و عقوبته إِلاّ أَنْ يُسْجَنَ و يحبس في المحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ كالقتل بالسيف أو الضرب الشديد، و قيل: إن كلمة ما استفهامية، و المعنى أيّ شيء جزاؤه (3)غير السجن أو العذاب الشديد؟

قال العزيز: من أراد بك سوءا؟ قالت زليخا: إنّي كنت نائمة في فراشي، فجاء هذا الغلام العبرى، و كشف عن ثيابي، و راودني عن نفسي. فالتفت العزيز إلى يوسف، و قال: يا غلام، أهذا جزائي منك؟ ! أنا أحسنت إليك، و أنت تخونني (4)! قالَ يوسف تنزيها لعرضه و تبرئة لنفسه و حفظا لها من السجن و التعذيب: هِيَ راوَدَتْنِي لتخادعني عَنْ نَفْسِي و طالبتني مواقعتها، و أنا امتنعت من إجابتها حتّى فررت منها.

قيل: إنّ العزيز قال: لا أقبل قولك إلا بالبرهان (5). و قيل: إنّه نظر إلى ظاهر حال (4)زليخا و تظلّمها، فأمر بأن يسجن يوسف، فعند ذلك دعا يوسف بانزال براءته، و كان لزليخا خال له ابن في المهد-ابن ثلاثة أشهر على رواية، أو ابن أربعة على اخرى، أو ابن ستة أشهر على ثالثة-فهبط جبرئيل إلى ذلك الطفل

ص: 386


1- . تفسير أبي السعود 4:267، تفسير روح البيان 4:240.
2- . تفسير روح البيان 4:240.
3- . جوامع الجامع:216، تفسير روح البيان 4:240. (4 و 5) . تفسير روح البيان 4:240.
4- . في تفسير روح البيان: قول.

و أجلسه في المهد، و قال له: اشهد ببراءة يوسف: فقام الطفل من المهد فجعل يسعى حتى قام بين يدي العزيز (1)وَ شَهِدَ ببراءة يوسف، مع أنه شاهِدٌ كان مِنْ أَهْلِها و أقاربها.

و عن ابن عباس: أن الشاهد كان صبيا انطقه اللّه تعالى في المهد (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «ألهم اللّه عز و جل يوسف أن قال للملك: سل هذا الصبيّ في المهد، فإنّه يشهد بأنّها راودتني عن نفسي. فقال العزيز للصبي: فأنطق اللّه الصبيّ في المهد» (3).

و قيل: كان لها ابن عمّ، و كان رجلا حكيما، و اتّفق أنه كان مع العزيز في ذلك الوقت، يريد أن يدخل عليها. فقال: فقد سمعنا الجلبة (4)من وراء الباب، و شقّ القميص و لا ندري أيّكما قدّام صاحبه (5)، ثمّ قال: انظروا إلى قميص يوسف إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ و شقّ مِنْ قُبُلٍ و قدّام فَصَدَقَتْ زليخا في أن يوسف أراد بها سوءا وَ هُوَ مِنَ اَلْكاذِبِينَ في قوله: هي راودتني عن نفسي وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ و شقّ مِنْ دُبُرٍ و خلف فَكَذَبَتْ زليخا في قولها و رميها يوسف وَ هُوَ مِنَ جملة اَلصّادِقِينَ في رمي زليخا بمراودته عن نفسه، لأنّه إن كان يوسف طالبا لها و مقبلا إليها، فإما أن تقوم زليخا في قباله و تدفعه عن نفسها، و إمّا أن تهرب منه، و يتبعها يوسف، و يسرع في المشي، فيعثر بذيله، و على أي تقدير لا بدّ أن ينشقّ قميص يوسف من قدّام، و أما إن كانت زليخا طالبة له، و يوسف هاربا منها، فلا بدّ من أن ينشقّ قميصه من خلف، لأنّها تتبعه و تجتذب قميصه من خلف.

و اعترض عليه بأنّ شقّ القميص من خلف ليس له دلالة قطعية على براءة يوسف، لاحتمال أنّه لمّا طلب منها الزنا غضبت عليه، و أرادت إيذاءه فهرب منها، و ركضت خلفه و جذبته لتضربه، فخرق قميصه من خلف.

و فيه: أنه كانت على تقدير كون الشاهد ابن عمها أمارات اخرى على صدقه:

منها: أنه عليه السّلام كان بحسب الظاهر عبدا، و العبد يبعد أن يتجاسر على مولاه و زوجته.

و منها: أنّهم رأوا زليخا زيّنت نفسها بأكمل الزينة التي لم تتزين بها إلى ذلك اليوم.

و منها: أن إثار الشهوة كانت فيها متكاملة بصبرها على الزوج سنين متطاولة، لأنّ زوجها كان عنينا.

و منها: أنهم رأوا يوسف في غاية العفّة مدّة مديده، إلى غير ذلك من القرائن.

و لذا فَلَمّا رَأى العزيز أو ابن عمها قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ علم ببراءة يوسف و صدقه في قوله

ص: 387


1- . تفسير روح البيان 4:240.
2- . تفسير الرازي 18:123.
3- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:15.
4- . الجلبة: الصّياح و الصّخب.
5- . تفسير الرازي 18:123.

و قالَ لزليخا: إن الأمر قد ظهر إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ و مكركنّ أيتها النساء الماكرات، لا من كيد يوسف إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ لأنّه أشدّ تاثيرا في النفوس من كيد الرجال، و أعلق بالقلوب منه، بل من كيد الشيطان لأنّه يوسوس مسارقة، و هنّ يواجهن به الرجال، فخجلت زليخا بعد انكشاف الأمر، و استحيى العزيز و سكت.

ثمّ لمّا كان حليما قليل الغيرة، محبّا لزليخا غاية الحبّ، خائفا من أن يشتهر الأمر في الناس، قال ليوسف: يا يُوسُفُ أَعْرِضْ و اغمض عَنْ هذا الأمر و اكتمه عن الناس، و لا تحدّث به أحدا، لأنّهم يعيّرونني إن سمعوا به، و يا زليخا توبي وَ اِسْتَغْفِرِي اللّه لِذَنْبِكِ الذي ارتكبته إِنَّكِ كُنْتِ و صرت بسببه مِنَ جملة القوم اَلْخاطِئِينَ و المتعمّدين لفعل القبيح. قيل: إن تذكير الجمع لتغليب الذكور على الإناث (1).

روي أنّ العزيز حلف أن لا يدخل عليها إلى أربعين يوما، و أخرج يوسف من عندها، و شغله بخدمة نفسه، و بقيت زليخا لا ترى يوسف (2).

و قيل: إنّ الآية من كلام الشاهد (3)، و كان هو الصبيّ، أو ابن عمّها.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 30 الی 32

ثمّ قيل: إن امرأة ساقي الملك و امرأة خبّازه و امرأة صاحب دوابّه و امرأة صاحب سجنه و امرأة حاجبه، كنّ كثير المراودة مع زليخا: فاطّلعن على قضيتها مع يوسف، فأفشين الخبر في نسوة مصر (4)، وَ عند ذلك قالَ نِسْوَةٌ كن فِي اَلْمَدِينَةِ و بلدة مصر، أو المراد أنّ النسوة الخمس في المدينة [قلن]

للنساء تشنيعا و لوما على زليخا: اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ مع جلالة شأنها و غاية خطرها

وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصّاغِرِينَ (32)

ص: 388


1- . تفسير الرازي 18:125، تفسير روح البيان 4:343.
2- . تفسير روح البيان 4:343.
3- . تفسير الرازي 18:124.
4- . مجمع البيان 5:352، تفسير الرازي 18:126.

تُراوِدُ فَتاها و تطالب مملوكها مواقعته لها و تخادعه عَنْ نَفْسِهِ، و تحتال في تحصيل مقصودها القبيح منه قَدْ شَغَفَها و وصل ذلك الفتى إلى سويداء قلبها حُبًّا و عشقا، و حاصل المراد أنّه تمكّن حبّه في قلبها بحيث شغلها عن غيره.

و قيل: إنّ المعنى أحاط بقلبها حبّه كإحاطة الشّغاف، و هو الجلدة المحيطة بالقلب (1).

و قيل: إن المعنى أنّ حبّه شقّ شغاف قلبها: و دخل فيه (2).

عن القمي، عن الباقر عليه السّلام، يقول: «قد حجبها حبّه عن الناس فلا تعقل غيره» (3).

إِنّا و اللّه لَنَراها و نعلمها، كعلمنا بالشيء بطريق المشاهده غائرة فِي ضَلالٍ و انحراف عن طريق العفاف و الرّشد و الصواب مُبِينٍ و ظاهر ضلالها عند كلّ أحد، أو مظهر بين الناس.

قيل: إنّما قلن: لنراها في ضلال، و لم يقلن: إنّها في ضلال، إشعارا بانّ حكمهنّ بضلالها عن علم و يقين، لا عن ظنّ و تخمين، و إعلانا بتنزّههنّ عمّا هي عليه (4).

قيل: لذا ابتلاهنّ اللّه بما عيّروها، لأنّه ما عيّر أحد أخاه بذنب إلاّ ارتكبه قبل أن يموت (5).

عن القمي: و شاع الخبر بمصر، و جعلن النساء يتحدّثن بحديثها، و يعذلنها (6)و يذكّرنها (7).

فَلَمّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ و تعيّبهنّ إياها في الخفاء و السرّ، كاخفاء الماكر مكره. و قيل: مكرهنّ إفشاؤهن سرّ زليخا (8)، فانّ إفشاء السرّ يسمى مكرا.

و قيل: إنّ النسوة كنّ مشتاقات لأنّ ينظرن إلى وجه يوسف، فاحتلن تعييب زليخا في ذلك، لأنهنّ عرفن أنّهن إذا قلن ما قلن عرضت زليخا عليهن يوسف ليظهر عذرها عندهن (9).

و لذا أَرْسَلَتْ زليخا خدمها إِلَيْهِنَّ لتدعوهن لضيافتها، إكراما لهنّ، قيل: دعت أربعين امرأة، منهنّ الخمس المذكورات (10). عن القمي: بعثت إلى كلّ امرأة رئيسة فجمعتهن في منزلها (11)وَ أَعْتَدَتْ و هيئت لَهُنَّ مُتَّكَأً و نمارق يعتمدن عليها، و قيل: إن المتّكأ هو الطعام، أو الاترج، أو الطعام المحتاج إلى القطع بالسكين (12).

وَ آتَتْ و أعطت زليخا كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ بعد الاتكاء سِكِّيناً : لقطع الفواكه أو الأطعمة

ص: 389


1- . تفسير الرازي 18:126.
2- . تفسير روح البيان 4:245.
3- . تفسير القمي 1:357، تفسير الصافي 3:16.
4- . تفسير روح البيان 4:245.
5- . تفسير روح البيان 4:245.
6- . في المصدر: و يعيرنها.
7- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:16.
8- . تفسير الرازي 18:126، تفسير أبي السعود 4:271.
9- . تفسير الرازي 18:126.
10- . تفسير أبي السعود 4:271، تفسير روح البيان 4:246.
11- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:16.
12- . تفسير الرازي 18:127.

التي حضرت عندهنّ، روي أنّ زليخا اتخذت لهنّ ضيافة عظيمة من أنواع الفواكه و ألوان الأطعمة و الأشربة ما لا يوصف (1).

قيل: جاءت زليخا عند يوسف، فالبسته حلّة خضراء، و أرسلت ذوابته على صدره، و شدّت في وسطه منطقة من الذهب، و ألبسته نعلين مزيّنين بالجواهر (2).

وَ قالَتِ له حين اشتغالهنّ باستعمال السكاكين في ما بأيديهنّ من الفواكه و أضرابها: اُخْرُجْ يا يوسف عَلَيْهِنَّ و ابرز لهنّ، فخرج عليهنّ لمّا لم يقدر على مخالفتها.

فَلَمّا رَأَيْنَهُ بذلك الحسن الفائق و الجمال الرائق الذي يضمحل عنده جمال كلّ جميل، إذن أَكْبَرْنَهُ و أعظمنه، و دهشن من فرط حسنه، بحيث غفلن عن أنفسهن، و خرجت أفعالهنّ عن اختيارهنّ، و لم يعلمن ما يفعلن. و قيل: يعني حضن من شدّة الشّبق ليوسف (3)وَ قَطَّعْنَ بالسكاكين أَيْدِيَهُنَّ بدل الفواكه و الأطعمة. عن وهب: ماتت جماعة منهنّ (4).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: «رأيت في السماء الثانية رجلا صورته كالقمر ليلة البدر، فقلت لجبرئيل: من هذا؟ قال: أخوك يوسف» (5).

قيل: كان فضل يوسف على الناس في الفضل و الحسن كفضل القمر ليل البدر على سائر الكواكب (6). و قيل: إنه إذا سار في أزقّة مصر، يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس عليها (7). و قيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه (8).

وَ لذا قُلْنَ من فرط التعجّب من حسنه و كمال قدرة اللّه على الخلق: حاشَ لِلّهِ و نزّه عن العجز حيث قدر على خلق مثل هذا الغلام الذي لا يتصوّر له نظير في الجمال و الحسن.

ثمّ لمّا كان المركوز في الأذهان أنّ الملك أحسن المخلوقات بالغن في توصيف حسنه بقولهن: ما هذا الذي نراه بَشَراً و من جنس بني آدم لعدم إمكان وجود هذه الدرجة من الحسن فيهم، بل إِنْ هذا الجميل الذي لا نظير له، و ما هو إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ على ربّه.

قيل: إنّ النساء لمّا رأين غاية عفّته و كرامة نفسه قلن ذلك (7). فلمّا رأت زليخا دهشة النساء من رؤية يوسف قالَتِ اعتذارا من عشقها إياه و حبها له: فَذلِكُنَّ الشاب الذي رأيتنه افتتنتنّ به هو العبد

ص: 390


1- . تفسير روح البيان 4:246.
2- . تفسير روح البيان 4:246.
3- . تفسير أبي السعود 4:272، تفسير روح البيان 4:247.
4- . تفسير روح البيان 4:247.
5- . مجمع البيان 5:353، تفسير الصافي 3:16.
6- . تفسير الرازي 18:127. (7 و 8) . تفسير الرازي 18:127، تفسير روح البيان 4:248.
7- . تفسير الرازي 18:128، مجمع البيان 5:353.

الكنعاني اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ و عذلتنني على حبّه و افتتاني به، و لو رأيتنه قبل المجلس أو تصوّرتم صورته لما كنتم تلومونني على حبّه، بل ظهر أنكنّ أحقّ باللوم لأنكنّ بنظرة واحدة إليه ظهر فيكن ما لم يظهر في المدة المديدة.

قيل: أنّما أشارت زليخا إليه بذلك الذي للبعيد لكونها بعد انصرافه من المجلس (1)، أو لاظهار رفعة منزلته في الحسن.

ثمّ إنها لمّا ظهر عذرها عند النسوة، كشفت السرّ عمّا كانت تستره، و أعلنت بحقيقة الحال بقولها: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و طلبت منه أن يمكّننى من قربه فَاسْتَعْصَمَ باللّه و استجار إليه من إجابتي، وَ و اللّه لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ و لم يجب ما أسأله من المواقعة لَيُسْجَنَنَّ البتة وَ لَيَكُوناً لا محالة مِنَ جملة اَلصّاغِرِينَ و المهانين في الناس، و إنما أوعدته بالصّغار و الذلّ لعلمها بأن له تأثيرا عظيما في قلب من كان عزيز النفس رفيع المقام عظيم الخطر كيوسف، فتضيق عليه الحيل، و إنّما قالت ذلك بين النساء ليعلم يوسف أنّها ليست من أمرها على خيفة و خفية.

قيل: إنّ النسوة لمّا سمعن منها هذا التهديد اجتمعن على يوسف، و قلن: إنّا نرى صلاحك في موافقتها، و إلاّ توقعك في السجن، و تبتليك بالذلّ و الصّغار (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 33 الی 36

ثمّ لمّا رأى يوسف عليه السّلام موجبات الرغبة في إجابة مسؤولها كثيرة من حسنها و كثرة أموالها و موافقة النسوة معها، و توقّع شرّها كالقتل و السجن و نظائرهما، التجأ إلى اللّه و اعتصم به بقوله: قالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ الذي تهدّدني به زليخا، و تخوّفني به النسوة أَحَبُّ إِلَيَّ و أولى بالتحمّل لديّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الزنا و الفحش لقلّة المحاذير الدنيوية بالنسبة إلى المحاذير الاخروية وَ إِلاّ تَصْرِفْ و لا تدفع عَنِّي كَيْدَهُنَّ و مكرهنّ بي في إلقائي في الخطر و بعثي إلى خلاف رضاك

قالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا اَلْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ (35) وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (36)

ص: 391


1- . تفسير الرازي 18:130.
2- . تفسير الرازي 18:130.

أَصْبُ و أميل إِلَيْهِنَّ و اوافق ميلهنّ و أقدم في إجابة مسؤولهن وَ أَكُنْ بعملي هذا مِنَ اَلْجاهِلِينَ و السفهاء الذين لا ينظرون إلى سوء عواقب أعمالهم.

القمي رحمه اللّه: فما أمسى يوسف في ذلك البيت حتى بعثت إليه كلّ امرأة رأته تدعوه إلى نفسها، فضجر يوسف في ذلك البيت فقال: رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ (1)الآية.

قيل: عند ذلك بكت الملائكة رحمة له، و هبط إليه جبرئيل فقال له: يا يوسف، ربّك يقرئك السّلام و يقول لك: اصبر فإن الصبر مفتاح الفرج، و له عاقبة (2)محمودة (3).

قيل: إنّه لو قال ربّ العافية أحبّ إليّ، لعافاه اللّه (4)، و لم يبتل بالسجن فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه و مسألته فَصَرَفَ و دفع عَنْهُ برحمته كَيْدَهُنَّ حسب دعائه، و ثبّته على العصمة و العفّة التي كان عليها حتّى وطّن نفسه على مقاساة السجن و اختيار المحنة و الشدّة على اللذّة و الراحة إِنَّهُ تعالى هُوَ اَلسَّمِيعُ لدعاء الداعين له و تضرّع المتضرّعين إليه اَلْعَلِيمُ بما في قلوبهم من الخلوص و بما يصلحهم.

في (العلل) عن السجاد عليه السّلام: «كان [يوسف]من أجمل أهل زمانه، فلمّا راهق راودته امرأة الملك عن نفسه، فقال لها: معاذ اللّه إنّا من أهل بيت لا يزنون: فغلّقت الأبواب عليها و عليه. و قالت لا تخف، و ألقت نفسها عليه، فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه، فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه، فأفلت منها في ثيابه، و ألفيا سيدها لدى الباب، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلاّ أن يسجن أو عذاب أليم.

قال: فهمّ الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف: و إله يعقوب، ما أردت بأهلك سوءا، بل هي راودتني عن نفسي، فسل هذا الصبي أيّنا راود صاحبه عن نفسه. قال: و كان عندها صبيّ من أهلها زائر لها، فأنطق اللّه الصبي لفصل القضاء، فقال: أيّها الملك، انظر إلى قميص يوسف، فان كان مقدودا من قدّامه فهو الذي راودها، و إن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته.

فلمّا سمع الملك كلام الصبيّ و ما اقتصّ، أفزعه ذلك فزعا شديدا، فجيء بالقميص فنظر إليه، فلمّا رآه مقدودا من خلفه قال لها: إنه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم. و قال ليوسف: أعرض عن هذا و لا يسمعه منك أحد و اكتمه. قال: فلم يكتمه يوسف و أذاعه في المدينة حتّى قلن نسوة فيها: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، فبلغها ذلك فأرسلت إليهنّ و هيأت لهنّ طعاما و مجلسا، ثمّ أتتهنّ بأترجّ،

ص: 392


1- . تفسير القمي 1:343، تفسير الصافي 3:17.
2- . في تفسير روح البيان: و عاقبته. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:252.

و أتت كلّ واحدة منهنّ سكّينا، ثمّ قالت ليوسف: اخرج عليهنّ: فلمّا رأينه أكبرنه و قطّعن أيديهن و قلن ما قلن. فقالت لهنّ هذا اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ يعني في حبّه، و خرجن النسوة من عندها فأرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف سرّا من صواحبها تسأله الزيارة، فأبى عليهنّ، و قال: إِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجاهِلِينَ فصرف اللّه عنه كيدهنّ» (1).

ثمّ قيل: لمّا ظهر للعزيز براءة يوسف، لم يتعرّض له، و خصّه بخدمة نفسه، فاحتالت زليخا بعد ذلك بحيل تضطرّ يوسف إلى موافقتها، فلم توثّر فيه، فلمّا أيست منه قالت لزوجها: إنّ هذا العبد فضحني في الناس، و لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي في الخروج للاعتذار، أو تحبسه كما حبستني (2).

و قيل: إنّ النسوة كنّ يدعون يوسف إلى أنفسهن، فلمّا يئسن منه جئن إلى زليخا، و قلن: نرى أن تحبسه أياما قلائل، لعلّه بعد ابتلائه بذلّ السجن و تعبه انقاد لك، فقالت زليخا للعزيز: أرى أنّ الأصلح أن تحبسه لينقطع عن الناس ذكر هذا الحديث (3)، أو يحسبون أنّه المجرم، و كان العزيز مطيعا لها، فاغترّ بقولها ثُمَّ بَدا لَهُمْ و تغيّر رأيهم عمّا كان عليه من عدم التعرّض له مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا اَلْآياتِ و الشواهد على براءة يوسف لَيَسْجُنُنَّهُ و ليحبسنّه حَتّى حِينٍ انقطاع قالة الناس بنظر العزيز، و إلى زمان انقياد يوسف أو حسبان الناس أنّه المجرم بنظر زليخا.

عن الباقر عليه السّلام: «الآيات: شهادة الصبي، و القميص المخرّق من دبر، و استباقهما الباب حتّى سمع مجاذبتها إياه على الباب، فلمّا عصاها لم تزل مولعة (4)بزوجها حتى حبسه» (5).

قيل: كان للعزيز ثلاثة سجون: سجن العذاب، و سجن القتل، و سجن العافية، فأمّا سجن العذاب فهو محفور في الأرض و فيه الحيّات و العقارب، و هو مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار، و أمّا سجن القتل فهو محفور في الأرض أربعين ذراعا، و كان الملك إذا سخط على أحد يلقيه فيه على امّ رأسه فلا يصل إلى قعره إلاّ و قد هلك، و أمّا سجن العافيه فإنّه كان على وجه الأض إلى جانب قصره، فإذا غضب على أحد من حواشيه حبسه في ذلك السجن، فلمّا أرادت زليخا أن يسجن يوسف أرسلت إلى سجّان سجن العافية، و أمرته أن يصلح فيه مكانا متفرّدا ليوسف، ثمّ قالت ليوسف: لقد أعييتني، و انقطعت فيك حيلتي، فلأسلّمنّك إلى المعذّبين يعذّبونك كما عذّبتني، و لألبسنك بعد الحليّ

ص: 393


1- . علل الشرائع:48/1، تفسير الصافي 3:18.
2- . تفسير الرازي 18:132.
3- . تفسير روح البيان 4:254.
4- . ولع به: اغري به، في تفسير القمي: ملحة.
5- . تفسير القمي 1:244، تفسير الصافي 3:19.

و الحلل جبّة صوف تأكل جلدك، و لأقيّدنك بقيد من حديد يأكل رجليك.

ثمّ نزعت ما كان عليه من اللباس، و البسته جبّة صوف، و قيّدته بقيد من حديد، فلمّا دنا من باب السجن نكّس رأسه، فلمّا دخل قال: بسم اللّه (1)وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيانِ و عبدان من عبيد الملك الأكبر: أحدهما صاحب طعامه، و الآخر صاحب شرابه.

قيل: إنّ جماعة من أهل مصر و عدوهما (2)مالا كثيرا ليسمّا الملك في طعامه و شرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثمّ أنّ الساقي نكل عن ذلك، و مضى عليه الخبّاز فسمّ الخبز، فلمّا حضر الطعام قال الساقي: لا تأكل أيّها الملك من الخبز فإنّه مسموم. و قال الخباز: لا تشرب أيّها الملك من الشراب فانّه مسموم، فقال الملك للساقي: اشربه فشربه فلم يضرّه، و قال للخباز: كله فأبى، فجرّبه بدابّة فهلكت، فأمر الملك بحبسهما، فاتفق أن ادخلا في السجن مع يوسف (3).

فلمّا دخل يوسف في السجن جلس في ناحية منه، و أحاط به أهل السجن و هو يبكي، فأتاه جبرئيل فقال له عليه السّلام: ممّ بكاؤك و أنت اخترت السجن لنفسك؟ فقال: إنّما بكائي لانّه ليس في السجن مكان طاهر [أصلي فيه]فقال له جبرئيل: صلّ حيث شئت، فإنّ اللّه قد طهّر خارج السجن و داخله أربعين ذراعا لأجلك، فكان يصلّي حيث أراد، و كان يصلّي ليلة الجمعة عند باب السجن، فطلبت زليخا السجّان، و قالت له: ارفع الغلّ عن يوسف، و ألبسه حلل الحرير و الاستبرق، و ارفق به غاية الرّفق.

ثمّ أثّر في قلبها الفراق، و احترقت بنار الاشتياق، فجاءت ليلة مع دايتها (4)إلى السجن و طالعت جمال يوسف من بعيد: ثمّ كانت تنظر إليه من روزنة (5)القصر إلى السجن، و كان يوسف على عادته مشغولا بالعبادة، و يسلّي أهل السجن، و يحسن إليهم بكلّ ما قدر، فقالوا، بارك اللّه عليك، ما أحسن وجهك! و ما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك. فمن أنت يا فتى؟ فقال عليه السّلام: أنا يوسف ابن صفي اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه إسحاق بن خليل اللّه إبراهيم. فقال له السجان: لو استطعت لخلّيت سبيلك، و لكن احسن جوارك، فكن في أيّ بيت شئت (6).

و روي أنّ الفتيين قالا له: إنّا لنحبّك من حين رأيناك. فقال: أنشد كما باللّه أن لا تحبّاني، فو اللّه ما أحبّني أحد قطّ إلاّ دخل من حبّه عليّ بلاء، لقد أحبّتني عمّتي فدخل عليّ من حبّها بلاء، ثمّ أحبّني

ص: 394


1- . تفسير روح البيان 4:254.
2- . في تفسير أبي السعود و روح البيان: ضمنوا لهما.
3- . تفسير أبي السعود 4:275، تفسير روح البيان 4:257.
4- . الداية: المرضعة الأجنبية، و الحاضنة، و القابلة.
5- . الروزنة: الكوّة.
6- . تفسير روح البيان 4:255-258.

أبي فدخل عليّ من حبّه بلاء، ثمّ أحبّتني امرأة صاحبي فدخل عليّ من حبّها بلاء، فلا تحبّاني بارك اللّه فيكما (1).

و في رواية عن الراضا عليه السّلام، «قال: قال السجان ليوسف: [إني]لاحبّك. فقال يوسف: ما أصابني [بلاء]إلاّ من الحبّ، إن كانت خالتي أحبّتني فهي سرقتني، و إن كان أبي أحبّني فقد حسدني إخوتي، و إن كانت امرأة العزيز أحبّتني فحبستني» (2).

و عن القمي رحمه اللّه: إنّ يوسف شكا إلى اللّه في السجن، فقال: يا رب، بما استحققت السجن؟ فأوحى اللّه إليه: أنت اخترت السجن حين قلت: ربّ السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه، هلاّ قلت: العافية أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «البكّاؤن خمسة» إلى أن قال: «و أمّا يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذّى به أهل السجن، فقالوا له: إمّا أن تبكي الليل و تسكت بالنهار، و إمّا أن تبكي بالنهار و تسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما» (2).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «ما بكى أحد بكاء الثلاثة إلى أن قال: و أمّا يوسف فإنّه كان يبكي على أبيه يعقوب و هو في السجن، فتأذّى به أهل السجن، فصالحهم على أن يبكي يوما و يسكت يوما» (3).

قيل: إن زليخا سالت من العزيز بعد أيام أن يخرج يوسف من السجن، فلم يفعل، فأنساهم اللّه أمر يوسف فلم يذكره حتّى مضى عليه خمس سنين، و بقي الفتيان اللذان دخلا معه السجن فيه خمس سنين، ثمّ رأيا الرؤيا قبل انقضاء المدّة بثلاثة أيام (4).

ثمّ قالَ: الساقي الذي هو أَحَدُهُما: و كان اسمه ابروها أو بوقا (5)على ما قيل إِنِّي أَرانِي: في المنام كأنّي في بستان، فإذا أنا بأصل عنبه (6)حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها، و كأنّ كأس الملك بيدي، و إنّي أَعْصِرُ فيه العنب الذي يكون مصيره خَمْراً و سقيت الملك فشربه (7).

و قيل: إن أهل عمان يسمّون العنب بالخمر، فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكّة فنطقوا بها (8).

ص: 395


1- . تفسير روح البيان 4:258. (2 و 3) . تفسير القمي 1:354، تفسير الصافي 3:19.
2- . الخصال:273/15، تفسير الصافي 2:19.
3- . تفسير العياشي 2:344/2102، تفسير الصافي 3:19.
4- . تفسير روح البيان 4:264.
5- . في تفسير روح البيان: يونا.
6- . في تفسير روح البيان: حبلة، و كلاهما بمعنى، فالحبلة: الكرم.
7- . تفسير روح البيان 4:257، تفسير الرازي 18:134.
8- . تفسير الرازي 18:134.

وَ قالَ: الخبّاز و هو اَلْآخَرُ منهما اسمه غالب أو مخلب على ما قيل (1): إِنِّي أَرانِي في المنام كأنّي في مطبخ الملك، و أنا أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي ثلاث سلال ملئن خُبْزاً و أرى أنّه تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ.

قيل: إنّ يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله: إنّي أعبّر الرؤيا و المنامات (2). و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا أمر الملك بحبس يوسف في السجن ألهمه اللّه تعالى تأويل الرؤيا، فكان يعبّر لأهل السجن رؤياهم، و إنّ فتيين أدخلا معه في السجن يوم حبسه، فلمّا باتا أصبحا فقالا له، إنّا رأينا» (3)الخبر.

قيل: إنّهما لم يريا شيئا، و كذبا في ذلك (4).

و قيل: إنّ الساقي كان صادقا، و الآخر كاذبا (5).

و عن مجاهد: أنّهما كانا صادقين (6). ثم قالا ليوسف استعلاما و اختبارا: يا يوسف نَبِّئْنا و أخبرنا بتعبير رؤيانا و بِتَأْوِيلِهِ و لمّا رأياه أنه يأوّل رؤيا أهل السجن تأويلا حسنا عللا سؤالهم التعبير عنه بقولهم: إِنّا نَراكَ و نشاهدك مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ في تأويل الرؤيا. و قيل: يعني من المتخلّقين بالأخلاق الكريمة، و الملتزمين بالأعمال الحسنة، و من كان كذلك يهتمّ بإزالة الغمّ عن القلوب، بحسن التعبير (7).

عن الصادق عليه السّلام: «كان يوسّع المجلس، و يقرض (8)للمحتاج، و يعين الضعيف» (9).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «كان يقوم على المريض، و يلتمس للمحتاج، و يوسّع على المحبوس (10).

و قيل: كان يعامل مع أهل السجن بمكارم الأخلاق، و يحسن إليهم غاية الإحسان (11). و قيل: يعني من المحسنين في أمر الدين، و المواظبين على العبادات، و من كان كذلك يوثق بقوله في التعبير (12).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 37

قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37)

ص: 396


1- . تفسير روح البيان 4:257.
2- . تفسير الرازي 18:134، تفسير روح البيان 4:257.
3- . تفسير العياشي 2:342/2097، تفسير الصافي 3:20.
4- . تفسير الرازي 18:134، تفسير أبي السعود 4:276.
5- . مجمع البيان 5:356، تفسير روح البيان 4:257.
6- . مجمع البيان 5:356.
7- . تفسير الرازي 18:135.
8- . في الكافي و تفسير الصافي: يستقرض.
9- . الكافي 2:465/3، تفسير الصافي 3:20.
10- . تفسير القمي 1:344، تفسير الصافي 3:20. (11 و 12) . تفسير الرازي 18:135.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 38

ثمّ أنّه أراد دعوتهما إلى التوحيد الذي هو أولى بهما ممّا سألاه قبل إسعاف حاجتهما على ما هو وظيفة النبوه و طريقة الأنبياء، فبدأ باظهار معجزة دالة على صدقه في الدعوة، و هي الإخبار بالمغيبات (1)، حيث قالَ لا يَأْتِيكُما من الخارج طَعامٌ كان مأكولا أو مشروبا تُرْزَقانِهِ و تطعمانه في مقامكما وقتا من الأوقات إِلاّ نَبَّأْتُكُما و أخبرتكما بِتَأْوِيلِهِ و بجميع خصوصياته من جنسه و مقداره و كيفية طعمه و لونه و خواصه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما و يحضر عندكما. قيل: إنّه كان يخبرهما بما يؤتى إليهما في السجن و يصفه لهما قبل أن يأتيهما، و يقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت و كيت، و كم تأكلان منه، فيجدان كما أخبرهما (2).

وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)و قيل: إنّما قال ذلك لاعلامهما بعدم اختصاص علمه بتعبيير الرؤيا، بل هو عالم بالمغيبات (3).

و قيل: إنّ الملك كان إذا أراد قتل أحد أدخل في طعامه السّمّ و أرسله إليه، و لذا قال ذلك، و أراد من قوله: نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أخبرتكما بأنّه مسموم أم لا. فتعجبوا من ذلك، و قالوا: من أين لك العلم الذي يكون للعرّاف و الكهنة؟ قال: ذلِكُما الاخبار بالتأويل الذي من العلم بالمغيبات مِمّا عَلَّمَنِي رَبِّي بطريق الإلهام و الوحي، و ليس من التكهّن و التنجيم (4).

ثمّ بيّن علّة تفضّل اللّه عليه بهذه الفضيلة بقوله: إِنِّي تَرَكْتُ و رفضت مِلَّةَ قَوْمٍ و دين جمع لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ و لا يوحّدونه، بل يعبدون الأصنام و يشركون به وَ هُمْ مع ذلك بِالْآخِرَةِ و دار الجزاء و الجنّة و النار هُمْ كافِرُونَ و منكرون وَ اِتَّبَعْتُ من بين الملل التي عليها الناس مِلَّةَ آبائِي الكرام، أعني إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ و فيه تعريف نفسه بشرف النسب الموجب لازدياد الرغبة في قبول قوله و الاقتداء به.

ثمّ بالغ في إظهار بطلان الشرك و التبرئ منه بقوله: ما كانَ يصحّ لَنا معاشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللّهِ المتفرّد بالالوهية مِنْ شَيْءٍ من الأشياء ملك أو جنّ أو إنس فضلا عن الجماد الذي لا روح له و لا شعور ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اَللّهِ و رحمته عَلَيْنا حيث أوحاه إلينا لقوة نفوسنا، و وفور عقلنا، و كمال بصيرتنا وَ عَلَى سائر اَلنّاسِ ببعثنا إليهم لهدايتهم إليه وَ لكِنَّ

ص: 397


1- . تفسير روح البيان 4:259.
2- . تفسير روح البيان 4:260.
3- . تفسير الرازي 18:136.
4- . في النسخة: و التنجم.

أَكْثَرَ اَلنّاسِ المبعوث إليهم الرسل لا يَشْكُرُونَ اللّه على هذه الرحمة العظيمة و الفضل الجسيم، فلا يقدمون بقبوله و الالتزام به، بل يعرضون عنه و يشركون به الأصنام، و يعبدون الأوثان.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 39

ثمّ أخذ عليه السّلام في الاستدلال على صحّة التوحيد و بطلان الشرك بعد مخاطبتهما بما يوجب تهييج المودة و جلب التوجّه بقوله: يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ و مشاركي في الضّيق و الضّنك، أو يا ملازمي السجن أَ أَرْبابٌ و آلهة كثيرة مُتَفَرِّقُونَ في أطراف العالم على ما تعتقدون، أو متفاوتون في الجنس كالذهب و الفضّة و الخشب و الحجارة، و في المقدار كالطول و العرض و القصر و الصغر و الكبر خَيْرٌ لنظام العالم و تربية الموجودات على الوجه الأتمّ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ لجميع الأشياء بحيث يكون كلّ شيء تحت قدرته، و لا يمنعه شيء عن إنفاذ إرادته، فمن البديهي أنّ الواحد القادر الذي يتمّ به النظام خير من الكثير العاجز الذي يختلّ به النظام.

يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (39)و قيل: إنّ المراد أنّ الواحد القادر الذي لا يقهره شيء و هو يقهر كلّ شيء خير، أم الأصنام المتفرقة بالشكل، المصنوعة بيد الغير، المقهورة تحت قدرة الخلق (1)؟ أو المراد: أن الإله الواحد الذي نعلم أنّه المنعم علينا و المستحقّ لعبادتنا خير، أم الآلهة الكثيرة التي لا نعلم أيّها خالقنا و رازقنا و المنعم علينا حتى نعبده.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 40

ثمّ استدلّ ثانيا مخاطبا لهما، و لمن كان على دينهما بقوله: ما تَعْبُدُونَ إذ تعبدون مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه شيئا إِلاّ أَسْماءً صرفه لا مسمّيات لها، و لا واقعية لمعانيها، و لا وجود لمفاهيمها في الخارج، و إنما سَمَّيْتُمُوها و جعلتموها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ أسماء لهذه الأجسام بمحض جهلكم و ضلالكم، و كانت تسميتها بالآلهة و عبادتها من قبل أنفسكم ما أَنْزَلَ اَللّهُ بِها شيئا مِنْ سُلْطانٍ و برهان يوجب جوازها إِنِ اَلْحُكْمُ و ما الأمر في جواز العبادة المتفرّعة على التسمية إِلاّ لِلّهِ وحده لأنّه المستحقّ لها بالذات، لكونه الواجب الموجد لجميع الأشياء، المالك لأمرها.

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اَللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

ص: 398


1- . تفسير الرازي 18:140.

ثمّ كأنّه قيل: ماذا أمره في العبادة؟ فقال: أَمَرَ أيها الناس بتوسط الأنبياء أَلاّ تَعْبُدُوا شيئا إِلاّ إِيّاهُ و أن لا تضرّعوا و لا تخضعوا إلاّ له ذلِكَ التوحيد و التخصيص للعبادة به، هو اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ و السنّة المرضية الثابتة من أول الخلق إلى آخر الأبد وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيتبعون بجهلهم هوى أنفسهم.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 41

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد دعوتهما إلى التوحيد و إقامة البرهان عليه، عبّر رؤياهما بقوله: يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمّا الساقي الذي هو أَحَدُكُما فيتخلّص من السجن فَيَسْقِي عن قريب رَبَّهُ و مالكه الذي هو الملك خَمْراً كما كان يسقيه من قبل.

يا صاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)روي أنّه قال للساقي: ما أحسن ما رأيت! أمّا الكرمة فهو الملك، و أمّا حسنها فهو حسن حالك عنده، و أمّا الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضي عليك في السجن، ثمّ يرسل إليك الملك عند انقضائها، فيردّك إلى عملك، فتصير كما كنت بل أحسن (1).

وَ أَمَّا الخبّاز الذي هو اَلْآخَرُ منكما فيخرج من السجن فَيُصْلَبُ و يبقى مصلوبا فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ مخّ رَأْسِهِ.

روي أنّه قال للخبّاز: بئسما رأيت، أمّا خروجك من المطبخ فخروجك من عملك، و أما السلال الثلاث فثلاثة أيام ثمرّ عليك، ثمّ يوجّه إليك الملك عند انقضائهنّ فيصلبك، فتأكل الطير من رأسك (2).

عن القمي رحمه اللّه: و لم يكن رأى ذلك و كذب، فقال له يوسف: أنت يقتلك الملك و يصلبك و تأكل الطير من دماغك، فجحد الرجل، و قال: إني لم أر ذلك، فقال يوسف عليه السّلام: قُضِيَ و اتمّ و احكم اَلْأَمْرُ (1)و التأويل اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ و تسألان عنه، فكان كما عبّر يوسف حيث أخرج الملك صاحب الشراب فردّه إلى مكانه و خلع عليه و أحسن إليه لمّا تبيّن عنده حاله في الأمانة، و أخرج الخبّاز و نزع ثيابه و جلده بالسياط حتى مات لمّا ظهر عنده خيانته، و صلبه على قارعة الطريق، و أقبلت طيور سود فأكلت من رأسه، و هو أول من استعمل الصلب، ثمّ استعمله فرعون موسى، أقول: بناء على أنه لم يكن هو، بل كان من أجداده.

ص: 399


1- . تفسير القمي 1:344، تفسير الصافي 3:21.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 42

وَ قالَ يوسف لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا و علم بحصول مكانه له عند الملك، و قيل: إن المراد بمن ظنّ هو الساقي اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ و سيدك، و قل له: غلام محبوس في السجن قد طال حبسه لعلّه يرحمني و يخلّصني منه (1)، فلمّا نجا الساقي و تقرّب إلى الملك اشتغل بجمع الأموال و انغمر في اللذائذ و الحظوظ فَأَنْساهُ اَلشَّيْطانُ بصرف قلبه إلى المهام الدنيوية ذِكْرَ يوسف عند رَبِّهِ و سيده، أو أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه و خالقه حتى توسّل بغيره في خلاصه فَلَبِثَ و أقام فِي اَلسِّجْنِ عقوبة على توسّله بغير اللّه بِضْعَ سِنِينَ و سبعة أعوام من يوم التوسّل.

وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ اَلشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)عن الصادق عليه السّلام: «لم يفرغ (2)يوسف في حاله إلى اللّه فيدعوه، فلذلك قال اللّه: فَأَنْساهُ اَلشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» (3).

و في رواية قال: «سبع سنين» (4).

قال: «فأوحى اللّه إلى يوسف في ساعته تلك: يا يوسف، من أراك الرؤيا التي رأيتها؟ فقال: أنت يا ربّي. قال: فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن وجّه السيارة إليك؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن علمك الدعاء الذي دعوت به حتى جعل لك من الجبّ فرجا؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن جعل لك من كيد المرأة مخرجا؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن أنطق لسان الصبي بعذرك؟ قال: أنت يا ربي. قال: فمن صرف كيد امرأة العزيز و النسوة عنك؟ قال: أنت يا ربي قال: فمن ألهمك تأويل الرؤيا؟ قال: أنت يا ربي. قال: فكيف استعنت (5)بغيرى و لم تستعن (6)بي؟ و تسألني أن اخرجك من السجن و استعنت (7)و أمّلت عبدا من عبادي ليذكرك إلى مخلوق من خلقي في قبضتي، و لم تفزع إليّ، البث في السجن بذنبك بضع سنين» (8).

و في رواية: «ذكر عند كلّ وحي (9)فصاح و وضع خده على الأرض، ثمّ قال: أنت يا ربي» (10).

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «رحم اللّه أخي يوسف، لو لم يقل اذكرني عند ربك، لما لبث في السجن سبعا بعد

ص: 400


1- . تفسير روح البيان 4:263.
2- . في تفسير العياشي و تفسير الصافي: يفزع.
3- . تفسير العياشي 2:342/2097، تفسير الصافي 3:22.
4- . تفسير العياشي 2:345/2104، تفسير الصافي 3:22.
5- . في تفسير العياشي: استغثت.
6- . في تفسير العياشي: تستغث.
7- . في تفسير العياشي: و استغثت.
8- . تفسير العياشي 2:343/2097، تفسير الصافي 3:22.
9- . في تفسير الصافي: و في رواية اخرى عنه عليه السّلام اقتصر على بعضها و زاد في كل مرّة.
10- . تفسير العياشي 2:345/2103، تفسير الصافي 3:22.

الخمس» (1).

قيل: لبث يوسف في السجن اثنتي عشرة سنة عدد حروف اذكرني عند ربك (2).

و قيل: إن في هذا العدد كمال القوة و التاثير، و لذا كان الأئمة اثني عشر، و البروج اثني عشر، و الملائكة الموكّلون بالبروج اثني عشر (3).

أقول: ببالي أنه روي أنّ القائم يخرج في اولى القوة (1)، قيل: ما أولو القوة؟ قال: اثني عشر ألفا (2). و قيل: هو عدد لا إله إلاّ اللّه، و عدد محمد رسول اللّه (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ يوسف قال: أسألك بحقّ آبائي [و أجدادي]عليك إلاّ فرّجت عنّي، فأوحى اللّه إليه ما يكون (4)أي حق لآبائك و أجدادك عليّ، إن كان أبوك آدم فانّي خلقته بيدي، و نفخت فيه من روحي، و أسكنته جنّتي، و أمرته أن لا يقرب شجرة منها، فعصاني و سألني فتبت عليه. و إن كان أبوك نوح فإني انتجبته من بين خلقي، و جعلته رسولا اليهم، فلمّا عصوا دعاني فاستجبت له و أغرقتهم و أنجيته و من معه في الفلك. و إن كان أبوك إبراهيم، فإنّي اتخذته خليلا، و أنجيته من النار و جعلتها عليه بردا و سلاما، و إن كان [أبوك]يعقوب فإنّي و هبت له اثني عشر ولدا، فغيّبت عنه واحدا، فما زال يبكي حتى ذهب بصره، و قعد في الطريق يشكوني إلى خلقي، فأي حقّ لآبائك [و أجدادك]عليّ.

قال: فقال له جبرئيل: قل يا يوسف أسألك بمنّك العظيم، و إحسانك (5)القديم، فقالها فرأى الملك الرؤيا» (6).

و عنه عليه السّلام: «لمّا انقضت المدّة و أذن اللّه له في دعاء الفرج، وضع خدّه على الأرض، ثمّ قال: اللهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فانّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ففرج اللّه عنه» (7).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 43

وَ قالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)

ص: 401


1- . تفسير القمي 1:336، تفسير العياشي 2:319/2042.
2- . لم نعثر عليه.
3- . تفسير روح البيان 4:264.
4- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: يا يوسف و.
5- . في تفسير القمي: و سلطانك.
6- . تفسير القمي 1:353، تفسير الصافي 3:22.
7- . تفسير القمي 1:345، تفسير الصافي 3:23.

وَ قالَ اَلْمَلِكُ بعد ما رأى رؤيا اضطرب منها قلبه و خاف من رؤيته غلبة الضعيف على القوي ذهاب ملكه و سلطانه، و أحضر العلماء و الحكماء و الكهنة و المعبّرين و السّحرة و المنجّمين اجتهادا لتحصيل العلم بتعبيرها إِنِّي كنت أَرى البارحة-و هي ليلة الجمعة على ما قيل (1)-في المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خرجن عن النهر اليابس على قول-أو من البحر على آخر (2)-ثمّ أرى سبع بقرات عجاف مهازيل خرجن من المكان الذي خرجت السّمان، ثم رأيت أنّه يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ مهازيل و يبتلعهن بحيث لم تبق من البقرات السّمان شيء وَ أرى أيضا سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ رطاب قد انعقدت حبّاتها، وَ سبع أُخَرَ يابِساتٍ فالتوت على الخضر حتى غلبن عليها على ما قيل (3).

ثمّ أمر الحضّار بتعبير رؤياه و قال: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ و الجماعة الحاضرة من الأشراف أَفْتُونِي و أخبروني ممّا تتفرّسون و تعتقدون فِي تعبير رُءْيايَ هذه إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ و على تأويلها تقدرون.

ثمّ لمّا أراد اللّه خلاص يوسف من السجن، و كانت الرؤيا من توجّه النفس و تصاعدها إلى عالم الملكوت و المثال بعد قلّة اشتغالها بتدبير البدن، فكلّما رأت شيئا من المعاني الحقيقية في تلك العالم، فإما أن لا تتصرف القوة الخيالية فيه، فتقع عيناه في الخارج، و لا تحتاج إلى التعبير، و إما أن تتصرف فيه القوة الخيالية بتصوير المعاني العقلية بصور مناسبة لها، كتصوير العلم بصورة اللبن، و الزوجة بصورة النعل، و المال بصورة القاذورات و أمثال ذلك، فهي محتاجة إلى التعبير، و هو الانتقال من الصور إلى ما يناسبها من المعاني، و كلّما تلقى النفس الشياطين حين صعودها فيرونها امورا باطلة مشوّشة مختلطة، أو تطالع الصور الخيالية المرتكزة في الخاطر، فهي الرؤيا الكاذبة، و تسمّى بالأضغاث و الأحلام.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 44 الی 48

ص: 402


1- . تفسير روح البيان 4:265.
2- . تفسير روح البيان 4:265.
3- . تفسير روح البيان 4:265.

و لمّا ذكر من تقدير خلاص يوسف، عجز الحكماء و العلماء و الكهنة عن تعبير رؤيا الملك و قالُوا أيها الملك رؤياك هذه أَضْغاثُ أَحْلامٍ و تخاليط الرّؤى و أباطيلها وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلامِ و تعبير أباطيل الرّؤى التي هي من الشيطان أو من قوة الخيال بِعالِمِينَ و إنّما الذي نعلم هو تعبير الرؤيا الصادقة الحاصلة من رؤية المعاني الحقيقية في عالم الملكوت.

وَ إذن قالَ الساقي اَلَّذِي كان أحد الفتيين و نَجا مِنْهُما من السجن وَ اِدَّكَرَ و تذكّر ما أوصاه به يوسف بعد تأويل رؤياه في السجن، أو حين خروجه منه و مفارقته يوسف بَعْدَ أُمَّةٍ و أوقات كثيرة من نجاته منه: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم أيها الملأ الحاضرون العاجزون عن تعبير رؤيا الملك بِتَأْوِيلِهِ و تعبيره.

قيل: إنّه لمّا رأى الملك متفكّرا، تذكّر حال يوسف و تأويله رؤياه في السجن، و ما وصاه به، فجلس بين يدي الملك على ركبتيه، و خاطب الملك بقوله: أنا انبئكم، و إنّما أتى في خطاب الملك بضمير الجمع للتعظيم، فان أردتم تعبير الرؤيا فَأَرْسِلُونِ و ابعثوني إلى السجن، فان فيه رجلا حكيما عارفا بتعبير الرؤيا (1)، فأرسله الملك إلى يوسف، فلمّا جاءه و اعتذر إليه من نسيانه قال: يا يُوسُفُ ثمّ عظّمه بقوله: أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ المبالغ في الصدق في تأويل الرؤيا أَفْتِنا و أخبرنا برأيك فِي تأويل رؤيا سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ تأويل رؤيا سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ و علّمني تعبيره لَعَلِّي أَرْجِعُ من عندك إِلَى اَلنّاسِ و أهالي مصر و اخبرهم ما اوّلت و عبّرت لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تعبيرها بتعليمك، أو يعلمون مكانك و فضلك، و كان من صبر يوسف و متانته أنّه لم يعلّق إسعاف حاجته بإخراجه من السجن، بل قالَ من غير ريث و توان قل لهم، أيها النّاس تَزْرَعُونَ في الأرض من الغلاّت و الحبوب سَبْعَ سِنِينَ حال كونكم دَأَباً و مستمرين على الزراعة بجد و اجتهاد، أو زراعة متوالية على عادتكم فَما حَصَدْتُمْ منها فَذَرُوهُ و اتركوه فِي سُنْبُلِهِ و لا تدوسوه حتّى لا يفسد و لا يقع فيه السّوس إِلاّ قدرا قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ منه في تلك السنة، هذا تعبير سبع بقرات سمان و سبع سنبلات خضر ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ السبع سنين الرّخص سَبْعٌ اخر من السنين شِدادٌ و صعاب على الناس لأجل الجدب و الجوع و الغلاء بحيث أنّ تلك السنين الشداد يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ و ادّخرتم لَهُنَّ من الحبوب و الغلاّت المتروكة في سنابلها إِلاّ مقدارا قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ و تحرزون للبذر،

ص: 403


1- . تفسير روح البيان 4:268.

و هذه السبع الشداد تأويل سبع بقرات عجاف و سبع سنبلات يابسات، و إنّما أسند الأكل إلى السنين مع أنه فعل أهل السنين للتطبيق بين المعبّر و المعبّر به.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 49

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من السنين الشداد عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ و يمطرون أو ينقذون من الشدّة وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ما من شأنه أن يعصر و يؤخذ ماؤه و دهنه كالعنب و الرّمان و الزيتون و أمثال ذلك، و هذا التعبير كناية عن وفور النّعم، لأنه إذا كان الناس في ضيق من المأكول يأكلون جميع ذلك و لا يعصرون شيئا ليفسد ما سوى مائه.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)و قيل: يعني يحلبون الضّروع (1).

و قيل: أي ينجون (2)من الشدّة، أو يمطرون (3)، و هذان المعنيان على قراءة يَعْصِرُونَ مبنيا للمفعول، كما نسبها العياشي إلى الصادق عليه السّلام (4).

و روي عنه عليه السّلام أنه قال «أما سمعت قول اللّه تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً» (5).

و القمي رحمه اللّه عنه عليه السّلام: «قرأ رجل على أمير المؤمنين عليه السّلام ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ -يعني على البناء للفاعل-فقال: ويحك و أيّ شيء يَعْصِرُونَ يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين، كيف أقرؤها؟ فقال: إنما أنزلت عامٌ فِيهِ يُغاثُ اَلنّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ أي يمطرون بعد [سنين]المجاعة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً» (6).

و إنّما كرّر سبحانه لفظ فِيهِ إمّا للاشعار بكون الإغاثة و العصر متغايرين، أحدهما فعل اللّه، و الآخر فعل الناس، و إما لأنّ المقام مقام تعداد منافع ذلك العام، و لذا قدّم في الموضعين.

و يحتمل أن يكون التقديم لبيان الحصر، كأنه فرض أن الإغاثة و العصر في سائر السنوات بالنسبة إلى تلك السنة كالمعدوم، أو لمراعاة الفواصل.

ص: 404


1- . تفسير الرازي 18:151، تفسير البيضاوي 1:486.
2- . جوامع الجامع:218، تفسير البيضاوي 1:486، تفسير أبي السعود 4:283.
3- . جوامع الجامع:218، تفسير الرازي 18:151، تفسير أبي السعود 4:283.
4- . تفسير العياشي 2:347/2109، تفسير الصافي 3:24.
5- . تفسير الصافي 3:25، و الآية من سورة النبأ:78/14.
6- . تفسير القمي 1:346، تفسير الصافي 3:25.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 50

ثمّ رجع الرسول إلى الملك، و حكى له التعبير الذي بيّنه يوسف للرسول في ضمن الدستور الذي أمر به، فلمّا سمع الملك التعبير سكن قلبه و فرح وَ قالَ اَلْمَلِكُ لخدمه بعد اطّلاعه على فضيلة يوسف في العلم: اِئْتُونِي بِهِ و أحضروه عندي لأسمع التعبير منه و اكرمه فَلَمّا جاءَهُ اَلرَّسُولُ من جانب الملك ليخرجه من السجن و يذهب به إلى الملك أبى يوسف من إجابته حتّى تظهر طهارة ذيله ممّا اتهموه، و مظلوميته في الحبس و قالَ للرسول: اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ و سيدك فَسْئَلْهُ أن يتفحّص من أنه ما بالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ في مجلس ضيافة زليخا بالسكاكين، و كيف كان حالهن و حالي؟ حتّى يتحقّق عنده واقع الأمر، و أنّي بريء من التّهمة و الخيانة، ثمّ استشهد بعلم اللّه بمكر النسوة و اتهامهنّ له بقوله: إِنَّ رَبِّي و هو اللّه وحده لا الملك و لا العزيز و لا غيرهما، بمكر النساء و بِكَيْدِهِنَّ في حقّي و اتهامهن إياي عَلِيمٌ.

وَ قالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ فَلَمّا جاءَهُ اَلرَّسُولُ قالَ اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)قيل: فيما قاله يوسف للرسول لطائف، منها أنه أمر الرسول أن يسأل الملك عن حال النسوة، و لم يقل قل له تفحّص عن ذلك، لئلاّ يكون في كلامه أمر للملك حتّى يلزم خلاف الأدب (1). و منها: أنه لم يذكر اسم زليخا تأدّبا، و مراعاة لحقّها (2)، و احترازا من أن تبالغ في المكر به مع كونها قادرة على ما لم تقدر عليه غيرها. و منها: أنه لم يشك من النسوة مع أنّهنّ على ما قيل دعينه إلى أنفسهن، و بالغن في ترغيبه إلى موافقة زليخا، بل قيل: إنّهن اتّهمنه بالفحش عند الملك (3).

روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لقد عجبت من يوسف و كرمه و صبره، و اللّه يغفر له، حين سئل عن البقرات السّمان و العجاف، و لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت عليهم أن يخرجوني من السجن، و لقد عجبت [منه]حين أتاه الرسول فقال: اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ الآية، و لو كنت مكانه و لبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الاجابة و بادرتهم إلى الباب و ما ابتغيت العذر، إنّه كان حليما ذا أناة» (4).

قيل: إن هذا الكلام من الرسول على سبيل التواضع لا إظهار أنه كان مستعجلا في الامور غير متأن فيها (5)، و إنّما لم يسرع يوسف في الخروج ليزول عن قلب الملك ما كان متّهما به و لا ينظر إليه بعين

ص: 405


1- . تفسير الرازي 18:152.
2- . تفسير روح البيان 4:271.
3- . تفسير الرازي 18:152.
4- . تفسير الرازي 18:151.
5- . تفسير روح البيان 4:272.

الصّغار و الذّل (1).

عن العياشي عنهما عليهما السّلام: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عن رؤياه ما حدّثته حتّى اشترط عليه أن يخرجني من السجن، و تعجبت (2)لصبره عن شأن امرأة الملك حتّى أظهر اللّه عذره» (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 51

ثمّ قيل: إنه لمّا رجع الرسول إلى الملك و أخبره بالتماس يوسف، أمر باحضار النسوة (4). و قالَ لهن ما خَطْبُكُنَّ و أي شأن شأنكنّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قيل: إنّ الخطاب في الواقع و الظاهر للنسوة؛ لأنّ كلّ واحدة منهنّ كنّ يدعين يوسف إلى نفسه أو كلّ يراودنّ (5)يوسف ليهيجنه لإجابة زليخا (6).

قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّادِقِينَ (51)و قيل: إنّ الخطاب و إن كان في الظاهر إليهنّ إلاّ أنه أريد به واحدة منهنّ (7)و هي زليخا (8)، و على أي تقدير قُلْنَ جميعهنّ في جواب الملك: حاشَ لِلّهِ و ننزّهه عن العجز من خلق هذا البشر العفيف ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ و ذنب و خيانة، فلمّا شهدن (9)كلّهن ببراءة يوسف و تنزّهه قالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ و كانت حاضرة في المجلس بعد ما رأت رعايه يوسف حقّها بتركه ذكر اسمها مع النسوة مع أنّها كانت أكثر إساءة إليه، و أنّه لا ينفع الكتمان: اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ و انكشفت حقيقية الواقع أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و طلبت منه القرب وَ إِنَّهُ -في قوله: هي راودتني-و اللّه لَمِنَ اَلصّادِقِينَ.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 52

قيل: إن الملك أرسل إلى يوسف بأن النسوة اعترفن بذنبهن و براءتك، فاحضر حتى اعاقبهن بحضورك بما تريد. قال يوسف للرسول في جواب الملك: ذلِكَ الالتماس الذي صدر منّي لم

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ اَلْخائِنِينَ (52)

ص: 406


1- . تفسير روح البيان 4:272.
2- . في تفسير العياشي: و عجبت.
3- . تفسير العياشي 2:346/2106، تفسير الصافي 3:25.
4- . تفسير الرازي 18:153.
5- . في النسخة: يراودون.
6- . تفسير الرازي 18:153.
7- . في النسخة: منهم.
8- . تفسير الرازي 18:153.
9- . في النسخة: شهدت.

يكن لأن اعاقب النسوة بما صدر منهن (1)بل لِيَعْلَمَ العزيز المنعم عليّ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في عرضه بِالْغَيْبِ و في الخطأ منه، أو لم أخن الملك، فإنّ الخيانة بالوزير خيانة بالملك وَ ليعلم أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا ينفذ كَيْدَ اَلْخائِنِينَ و لا يجعله مؤثّرا في حصول المقصود، بل يبطله كما أبطل مكائد زليخا حتّى أقرّت بأنّها خانت زوجها.

و قيل: إنه قال هذا الكلام في محضر الملك كما روي عن ابن عباس، و إنما ذكره على لفظة الغيبة تعظيما للملك عن الخطاب (2).

و قيل: إنّ الآيه من تتمة كلام امرأة العزيز، و المعنى أنّي و إن بالغت في إثبات الذنب على يوسف في حضوره إلاّ أنّ ذلك الاعتراف منّي بذنبي ليعلم يوسف أنّي لم أخنه و لم أقل في حقّه خلاف الحقّ و هو في السجن، ثمّ بالغت في تأكيد الحقّ بقولها: وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ اَلْخائِنِينَ (3)و لذا افتضحت أنا لأنّي كنت خائنة، و إنه طهّر يوسف من الذنب و أخرجه من السجن، لأنّه كان بريئا.

أقول: هذا في غاية البعد.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 53

ثمّ قال يوسف تواضعا للّه و هضما للنفس و تحديثا بانعام اللّه عليه بالتوفيق و العصمة: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي و لا انزّهها عن السوء و لا ازكيها من الخطأ و الذنب من حيث هي و مقتضى طبعها إِنَّ اَلنَّفْسَ بجنسها و بذاتها و اللّه لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ و باعثه إلى القبايح و الشهوات لميلها إليها و التذاذها بها إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي من النفوس بعصمتها من الوقوع في الهلكات و ارتكاب المنكرات، و هي نفوس الأنبياء و الأولياء المعصومين، فانّها لا تميل إليها، و لا تأمر بها.

وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)و قيل: إنّ كلمة ما بمعنى الزمان، و المعنى إلاّ زمان رحمة ربي (2)و عصمته لها بتقويته القوة العاقلة و إعلامها بحقائق الأشياء و الأعمال.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى و لكن رحمة ربي تصرفها عن السوء (3).

إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ و ستّار لخطايا النفوس رَحِيمٌ لها بعصمتها من الزلل.

قيل: هذه الآية أيضا بقية كلام زليخا (4)، و المعنى و ما ابرئ نفسي من الخيانة بزوجي و الإساءة

ص: 407


1- . تفسير روح البيان 4:273. (2 و 3) . تفسير الرازي 18:154.
2- . جوامع الجامع:219.
3- . تفسير أبي السعود 4:286.
4- . جوامع الجامع:219.

بيوسف، و المقصود اعتذارها ممّا صدر منها، أو تأكيد تصديقها إياه.

ثمّ أنّه روي أنّ جبرئيل أتى يوسف في السجن و قال: قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا و مخرجا، و ارزقني من حيث احتسب و من حيث لا احتسب (1)، فقبل اللّه دعاءه، فعظم يوسف في عين الملك علما من حيث تعبيره الرؤيا، و صبرا و ثباتا من حيث عدم مبادرته إلى الخروج من السجن، و أدبا من حيث عدم أمره للملك بالتفتيش للحقّ، و مراعاة للحقوق من حيث عدم ذكره اسم زليخا مع علم الملك بأنّها أكثر النسوه إساءة إليه، و عفّة من حيث ظهور براءته من التهمة مع وفور أسباب ارتكابه للزنا بمثل زليخا، و نسيا لذكر الساقي نسبة له، فلذا اشتاق إلى لقائه غاية الاشتياق.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 54

وَ قالَ اَلْمَلِكُ لخدمه: اذهبوا إلى يوسف و اِئْتُونِي بِهِ و احضروه لديّ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي و أخصّه بقربي.

وَ قالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)روي أنّ الرسول-و قيل: كان هو الساقي-قال ليوسف: قم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة و الهيئة الحسنة (2).

و قيل: إنّ الملك أرسل سبعين حاجبا على سبعين مركبا، و معهم تاج و ثياب فاخرة إلى السجن، فلمّا أتوه وضعوا التاج على رأسه، و ألبسوه الثياب النظيفة، ثمّ قالوا: أجب الملك. فقام و ودّع أهل السجن و دعا لهم، و قال: اللهم اعطف قلوب الصالحين عليهم، و لا تستر الأخبار عنهم، فخرج من السجن و كتب على بابه: هذه منازل البلوى، و قبور الأحياء، و شماتة الأعداء، و تجربة الأصدقاء. ثمّ اغتسل و تنظّف و لبس ثيابا جديدة، و ركب مركبا فارها مكلّلا بالدّر و الجواهر، فلمّا قرب من الملك استقبله و أكرمه غاية الإكرام (3).

روي أنّه لمّا دخل على الملك قال: اللهمّ إنّي سألك بخيرك من خيره، و أعوذ بعزّتك و قوّتك من شرّه. ثمّ سلّم على الملك و دعا له بالعبرانية، و كان يوسف يتكلّم باثنين و سبعين لسانا، فلم يفهمها الملك فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب. ثمّ كلّمه بالعربيّة فلم يفهمها الملك، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمّي إسماعيل، و كان الملك يتكلّم بسبعين لسانا، فكلّمه بها

ص: 408


1- . تفسير الرازي 18:158.
2- . تفسير الرازي 18:159، تفسير روح البيان 4:277.
3- . تفسير روح البيان 4:277.

فأجابه بجميعها فتعجّب منه (1).

قيل: لمّا دخل على الملك كان ابن ثلاثين سنة، فلمّا رآه الملك شابا قال للساقي: هذا الذي علم تأويل رؤياي مع أنّ السحرة و الكهنة ما علموها؟ قال: نعم. فأقبل على يوسف و قال: إنّي أحبّ أن أسمع التعبير منك فَلَمّا أجابه و كَلَّمَهُ و عبّر عنده الرؤيا شفاها، و شهد قلبه بصحّة تعبيره قالَ ليوسف: إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ (2)و ذو منزلة رفيعة أَمِينٌ على كلّ شيء في مملكتي بحيث لا تتّهم.

قيل: لمّا عبّر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيّها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا، و تأخذ من الناس خمس زروعهم، و تذر الجميع في سنبله، و تبني الخزائن، و تجمع فيها الطعام، فإذا جاءت السنين المجدبة تبيع الغلاّت لأهل مصر، و تحفظهم من المخمصة، و يحصل لك مال عظيم. فقال الملك: من لي لهذا الشّغل (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 55

قالَ يوسف: اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ هذه اَلْأَرْضِ و تلك المملكة، و ولّني أمرها من الايراد و الحفظ و الصرف، و إنّما طلب الولاية لكونها وسيلة إلى هداية الناس، و نفوذ قوله، و قبول دعوته إلى الحقّ، و نشر الأحكام الالهية، و وضع الحقوق مواضعها، و بسط العدل، و إعانة الخلق و حفظهم من التلف في السنين المجدبة شفقة عليهم.

قالَ اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)عن ابن عباس، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية، أنّه قال: «رحم اللّه أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، لكنّه لمّا قال ذلك أخّره عنه سنة» (4).

ثمّ وصف نفسه بما يوجب أهليته لذلك بقوله: إِنِّي حَفِيظٌ لخزائنك من التلف و الضّياع و الصرف في غير المصرف عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها.

عن الرضا عليه السّلام: «حفيظ لما تحت يدي، عليم بكلّ لسان» (5).

جواز تزكية المرء

نفسه عند الاضطرار

عن الصادق عليه السّلام: «يجوز أن يزكّي الرجل نفسه إذا اضطرّ إليه، أما سمعت قول يوسف: اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ و قول العبد الصالح:

ص: 409


1- . تفسير روح البيان 4:277.
2- . تفسير الرازي 18:159.
3- . تفسير الرازي 18:160، تفسير روح البيان 4:278.
4- . تفسير الرازي 18:160.
5- . تفسير العياشي 2:348/2112، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:139/1، تفسير الصافي 3:37.

وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ» (1) .

عن ابن عباس: لمّا انصرمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة، دعاه الملك فتوجّه و ختمه بخاتمه، و ردّاه بسيفه، و وضع له سريرا من ذهب مكلّلا بالدّرّ و الياقوت طوله ثلاثون ذراعا و عرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا، فقال يوسف: أمّا السرير فأشدّ به ملكك، و أمّا الخاتم فأدّبر به أمرك، و أمّا التاج فليس من لباسي و لباس آبائي، فقال الملك: فقد وضعته إجلالا لك، و إقرارا بفضلك. فجلس عليه و أتت له الملوك (2).

و روي أنّ الملك لمّا عيّن يوسف لأمر الخزائن توفّى قطفير عزيز مصر في تلك الليالي (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 56

ثمّ لمّا كانت رفعة مكان يوسف مستندة في الظاهر إلى الملك، نبّه اللّه على أنّها كانت بقدرته و إنعامه عليه بقوله: وَ كَذلِكَ التمكين العظيم، و مثل هذا الإنعام الجسيم الذي على يوسف من تقريبنا إياه من الملك، و تحبيبنا إياه في قلبه مَكَّنّا لِيُوسُفَ و أقدرناه على إنفاذ ما أراد فِي تلك اَلْأَرْضِ و المملكة، و هي أربعين فرسخا في أربعين على ما قيل (4)، فهو يَتَبَوَّأُ مِنْها و ينزل من بلادها حَيْثُ يَشاءُ و أيّ مكان يريد، لا يدافعه مدافع (5)، و لا ينازعه منازع، رحمة منّا عليه، و جزاء منّا على صبره على البلاء و تسليمه للقضاء و قيامه بوظائف العبودية، فإنّا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا و فضلنا مَنْ نَشاءُ أن نرحمه و نتفضّل عليه على حسب استعداده و قابليته و عمله وَ لا نُضِيعُ و لا نبطل أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ و جزاءهم على إحسانهم من الصبر و القيام بوظائف العبودية.

وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (56)

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 57

ثمّ بيّن سبحانه أفضلية الأجر الاخروي على الدنيوي بقوله: وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ و الثواب الذي نعطيهم فيها خَيْرٌ و أفضل بمراتب من أجر الدنيا و ثوابه فيها، و لكن إنما يكون أجر الآخرة لِلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيته وَ كانُوا يَتَّقُونَ السيئات و القبائح، و هم الأنبياء و أتباعهم.

وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (57)قيل: إنّ يوسف أمر أهل كلّ قرية و بلدة بالاشتغال بالزّرع و ترك غيره، فلم يدعوا مكانا إلاّ زرعوه

ص: 410


1- . تفسير العياشي 2:348/2113، تفسير الصافي 3:37، و الآية من سورة الأعراف:7/68.
2- . تفسير روح البيان 4:283.
3- . تفسير روح البيان 4:279.
4- . تفسير أبي السعود 4:287، تفسير روح البيان 4:283.
5- . في النسخة: دافع.

حتى بطون الأودية و رؤوس الجبال مدة سبع سنين، و هو يأمرهم أن يدعوه في سنبله، و كان ياخذ منهم الخمس و يجعله في الأهراء (1)، و كذا ما زرعه السلطان و أعوانه و خدمه، ثمّ أقبلت السنون المجدبة، فحبس اللّه عنهم القطر من السماء، و النبات من الأرض حتى لم ينبت لهم في جميع أراضي مصر حبّة واحدة (2)من المأكولات.

قيل: إن زليخا بعد وفاة قطفير زوجها انقطعت عن كلّ شيء و سكنت خرابة سنين كثيرة، و كانت لها جواهر كثيرة [جمعت في زمان زوجها]فاذا سمعت من أحد خبر يوسف أو اسمه، بذلت منها حبا له حتّى نفدت، و كانت تبكي شوقا إلى يوسف.

ثمّ لمّا اشتدّ حالها لشدائد الخلوة في الخرابة اتخذت بيتا من القصب على الطريق التي هي ممرّ يوسف، و كان يوسف يركب في بعض الأحيان و له فرس لا يصهل إلاّ وقت ركوبه، و يسمع صهيله على ميلين، فيعلم الناس بركوبه، فتقف زليخا على قارعة الطريق، فاذا مرّ بها يوسف تناديه بأعلى صوتها، فلا يسمع لكثرة اختلاط أصوات الناس، فأقبلت يوما على صنمها الذي كانت تعبده، و قالت له: تبا لك و لمن يسجد لك، أما ترحم كبري و عماي و فقري و ضعفي، فأنا اليوم كافرة بك و مؤمنة بربّ يوسف، و صارت تذكر اللّه صباحا و مساء.

فبعد ذلك ركب يوسف يوما، فلمّا صهل فرسه اجتمع الناس للنظر إلى جماله و احتشامه، فخرجت زليخا من بيتها، فلمّا مرّ بها يوسف نادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، و جعل العبيد بطاعتهم ملوكا، فأمر اللّه الريح فألقت كلامها في مسامع يوسف، فأثّر فيه فبكى، ثمّ التفت فرآها، فقال لغلامه: اقض حاجة المرأة: فقال: ما حاجتك؟ قالت: إنّ حاجتي لا يقضيها إلاّ يوسف. فذهب بها إلى دار يوسف.

فلمّا رجع يوسف إلى قصره نزع ثياب الملك، و لبس مدرعة من الشعر، و جلس في بيت عبادته يذكر اللّه تعالى، فذكر العجوز و دعا بالغلام و قال له: ما فعلت بالعجوز؟ فقال: إنّها زعمت أنّ حاجتها لا يقضيها غيرك. فقال: إئتني بها، فأحضرها فسلمت عليه و هي منكّسة الرأس، فرقّ لها، و ردّ عليها السّلام، و قال لها: يا عجوز، إنّي سمعت منك كلاما فأعيديه. فقالت: إنّي قلت: سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، و جعل العبيد بطاعتهم ملوكا.

في تزويج يوسف

بزليخا

فقال: نعم ما قلت، فما حاجتك؟ قالت: يا يوسف، ما أسرع ما نسيتني! فقال: من

ص: 411


1- . الأهراء: جمع هري، و هو بيت كبير ضخم يجمع فيه طعام السلطان.
2- . تفسير روح البيان 4:283.

أنت؟ ما لي بك معرفة. قالت: زليخا. فقال يوسف: لا إله إلاّ اللّه الذي يحيي و يميت و هو حي لا يموت، أنت بعد في الدنيا [يا]رأس الفتنة و أساس البلية! فقالت: يا يوسف، أبخلت عليّ بحياة الدنيا! فبكى يوسف و قال: ما صنع حسنك و جمالك و مالك؟ قالت: ذهب به الذي أخرجك من السجن و أورثك هذا الملك. فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: أو تفعل؟ قال: نعم و حقّ شيبة إبراهيم. فقالت: لي ثلاث حاجات: الاولى و الثانية أن تسأل اللّه أن يردّ عليّ بصري و شيابي و جمالي، فانّي بكيت عليك حتّى ذهب بصري و نحل جسمي. فدعا لها يوسف فردّ اللّه عليها بصرها و شبابها و حسنها. قالت: و الثالثة أن تتزوجني. فسكت يوسف و أطرق رأسه، فأتاه جبرئيل، و قال: يا يوسف، ربك يقرئك السّلام، و يقول لك: لا تبخل عليها بما طلبت، فتزوّج بها فانّها زوجتك في الدنيا و الآخرة، فدعا ملك مصر و جميع الأشراف فعقد عليها لنفسه، و نزلت الملائكة عليه تهنّئه بزواجها، و قالوا: هنّأك اللّه بما أعطاك، فهذا ما وعدك ربّك و أنت في الجب. فقال يوسف: الحمد للّه الذي أنعم عليّ و أحسن إلي و هو أرحم الراحمين.

ثمّ قال: إلهي و سيدي أسألك أن تتمّ هذه النعمة، و تريني وجه يعقوب، و تقرّ عينه بالنظر إليّ، و تسهّل لإخوتي طريقا إلى الاجتماع بي، فانّك سميع الدعاء، و أنت على كلّ شيء قدير، و أرسل زليخا إلى بيت الخلوة فاستقبلتها الجواري بأنواع الحليّ و الحلل، فتزيّنت بها، فلمّا جنّ الليل دخل يوسف عليها، و قال لها: أ ليس هذا خيرا ممّا كنت تريدين؟ فقالت: أيّها الصدّيق، لا تلمني فإنّي كنت امرأة حسناء ناعمة في ملك و دنيا، و كان زوجي عنينا لا يصل إلى النساء، و كنت كما جعلك اللّه في صورة حسنة، فغلبتني نفسي، فلما بني بها وجدها عذراء (1).

و عن الهادي عليه السّلام: «لمّا مات العزيز في السنين الجدبة، افتقرت امرأة العزيز و احتاجت حتى سألت [الناس]فقالوا لها: لو قعدت للعزيز؟ و كان يوسف يسمّى العزيز. فقالت: أستحي منه، فلم يزالوا بها حتّى قعدت له [على الطريق]، فأقبل يوسف في موكبه، فقامت إليه و قالت: سبحان الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا، و جعل العبيد بالطاعة ملوكا. فقال يوسف لها: أنت تيك؟ فقالت: نعم. فقال لها: هل لك فيّ رغبة؟ قالت: دعني بعد ما كبرت أتهزأني! قال: لا، [قالت: نعم]فأمر بها فحوّلت إلى منزله و كانت هرمه، فقال لها [يوسف]: الست فعلت [بي]كذا و كذا؟ فقالت: إني بليت بثلاثة لم يبل بها أحد. قال: و ما هي؟ قالت: بليت بحبّك و لم يخلق اللّه لك في الدنيا نظيرا، و بليت [بحسني]بأنّه لم تكن بمصر امرأة أجمل منّي و لا أكثر مالا منّي، و بليت بزوج عنين. فقال لها يوسف: فما تريدين؟

ص: 412


1- . تفسير روح البيان 4:279-282.

فقال: تسأل اللّه أن يردّ عليّ شبابي. فسأل اللّه، فردّ عليها شبابها، فتزوّجها و هي بكر» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «استأذنت زليخا على يوسف، فقيل لها: إنّا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه قالت: إنّي لا أخاف ممن يخاف اللّه. فلمّا دخلت قال لها: يا زليخا، مالي أراك قد تغيّر لونك؟ قالت: الحمد اللّه الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، و جعل العبيد بطاعتهم ملوكا. فقال لها: ما الذي دعاك إلى ما كان منك؟ قالت: حسن وجهك. فقال: كيف لو رأيت نبيا يقال له محمد يكون في آخر الزمان أحسن منّي وجها، و أحسن منّي خلقا، و اسمح [مني]كفّا؟ قالت: صدقت. قال: و كيف علمت أنّي صدقت؟ قالت: لأنّك حين ذكرته وقع حبّه في قلبي فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى يوسف أنّها قد صدقت، و أني قد أحببتها لحبّها محمّدا، فأمره اللّه عز و جل أن يتزوّجها» (2).

قيل: فحملت من يوسف و ولدت له ابنين في بطن واحد، أحدهما افرائيم، و الآخر ميشا، و كانا كالشمس و القمر في الحسن و البهاء، و باهى اللّه بحسنهما الملائكة في السماوات السبع، و أحبّ يوسف زليخا حبا شديدا، و تحوّل عشق زليخا و حبّها الأول إليه حتّى لم يبق له بدونها قرار، و حوّل اللّه تعالى عشق زليخا و ميلها إلى الطاعة و العبادة، و راودها يوسف يوما ففرّت منه فتبعها و قدّ قميصها من دبر، فقالت: إن قددت قميصك من قبل، فقد قددت قميصي الآن، فهذا بذاك (3).

ثمّ أقبلت السنون المجدبة، فحبس اللّه عنهم قطر السماء و نبات الأرض حتى لم ينبت لهم حبة واحدة، فاجتمع الناس إليه، و قالوا: يا يوسف، قد فنى ما في أموالنا من الطعام، فبعنا ممّا عندك، فأمر يوسف بفتح الأهراء (4)، و باع من أهل مصر، و لا يبيع من أحد أكثر من حمل بعير، تقسيطا على الناس، و كان لم يشبع مدة القحط مخافة نسيان الجياع (5).

عن الصادق عليه السّلام: «لمّا صارت الأشياء ليوسف بن يعقوب، جعل الطعام في بيوت، و أمر بعض و كلائه ببيعه، و كان يقول: بع بكذا و كذا، و السعر قائم، فلمّا علم أنّه يزيد في ذلك اليوم كره أن يجري الغلاء على لسانه، فقال له: اذهب وبع، و لم يسمّ له سعرا، فذهب الوكيل غير بعيد، ثمّ رجع إليه، فقال له: اذهب وبع، و كره أن يجري الغلاء على لسانه، فذهب الوكيل فجاء أوّل من اكتال، فلمّا بلغ دون ما كان بالأمس بمكيال قال المشتري: حسبك إنّما أردت بكذا و كذا، فعلم الوكيل أنّه قد غلا بمكيال، و هكذا» (6)الخبر.

ص: 413


1- . تفسير القمي 1:357.
2- . علل الشرائع:55/1.
3- . تفسير روح البيان 4:282.
4- . تفسير روح البيان 4:283.
5- . تفسير روح البيان 4:284.
6- . الكافي 5:163/5، تفسير الصافي 3:27.

عن الرضا عليه السّلام: «باعهم في السنة الاولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق في مصر و ما حولها دينار و لا درهم إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر حتّى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جواهر إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة الثالثة بالدوابّ و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها دابّة و لا ماشية إلاّ صار في ملكية يوسف. و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة الخامسة بالدور و العقار حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دار و لا عقار إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلاّ صار في ملكيّة يوسف، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حرّ إلاّ صار عبد يوسف [فملك]أحرارهم و عبيدهم و أموالهم، و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه اللّه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما [و علما]و تدبيرا» (1)الخبر.

أقول: إنّما صيّر اللّه أهل مملكة مصر عبيدا و إماء له، لأنّهم في البدو نظروا إليه بعنوان العبودية، ثمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك، ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و أهلها، أشر عليّ برأيك، فإنّي لم اصلحهم لا فسدهم، و لم انجهم من البلاء ليكون و بالا عليهم. قال له الملك: الرأي رأيك. قال يوسف: إنّي اشهد اللّه و اشهدك أيّها الملك أنّي قد اعتقت أهل مصر كلّهم، و رددت إليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت إليك خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلاّ بسيرتي، و لا تحكم إلاّ بحكمي.

فقال الملك: أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أنّك رسوله، فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين (2).

قيل: إنّه سرى القحط إلى كنعان و بلاد الشام و ضاق المعاش على يعقوب و أولاده، فقالوا لأبيهم: إنّا سمعنا أنّ في مصر ملكا يعين الناس و يبيع الطعام من المحتاجين، فأذن لنا أن نذهب إليه و نشترى منه الطعام بالبضاعة التي عندنا، فأذن لهم جميعا إلاّ بنيامين ليقوم بخدمته، فتجهّزوا للسفر، و أخذوا معهم أحد عشر بعيرا لكلّ منهم بعير، و بعير لبنيامين، و حملوا عليها البضاعة (3)، قيل: كانت نعالا و أدما (4). و قيل: دراهم (5). و قيل: مقلا (6).

ص: 414


1- . مجمع البيان 5:373، تفسير الصافي 3:28.
2- . مجمع البيان 5:373، تفسير الصافي 3:28.
3- . تفسير روح البيان 4:285.
4- . تفسير الرازي 18:201، تفسير البيضاوي 1:489، تفسير أبي السعود 4:289.
5- . تفسير الرازي 18:201، تفسير روح البيان 4:288.
6- . تفسير الرازي 18:201، تفسير البيضاوي 1:494، و المقل: حمل شجرة الدّوم، و هي تشبه النخلة، و ثمرتها في غلظ التفاحة ذات قشر صلب أحمر، و له نواة ضخمة ذات لبّ اسفنجي، يكثر في صعيد مصر و في بعض بلاد العرب.

و قيل: لمّا أجدبت بلاد الشام و غلت أسعارها، جمع يعقوب بنيه، و قال لهم: اذهبوا إلى مصر، و اشتروا منها طعاما من العزيز. قالوا: يا نبي اللّه، كيف يطيب قلبك بأن (1)ترسلنا إلى الفراعنة، و أنت تعلم عداوتهم لنا، و لا نأمن أن ينالنا منهم شرّ؟ فقال: بلغني أنّه ولي أهل مصر ملك عادل، فاذهبوا إليه، و أقرئوه منّي السّلام، فانّه يقضي حاجتكم، ثمّ جهّز أولاده العشر، و أرسلهم إلى مصر، و كان بين مصر و كنعان ثماني-أو اثنى عشر-مراحل (2).

و عن القمي: ثمانية عشر يوما (3)، و كان يوسف أوّل من صنع القرطاس، و مع ذلك أخفى اللّه أمر يوسف على يعقوب، و لم يأذن ليوسف أن يخبره عن حاله إلى الأجل المعين.

القمي: كان الناس من الآفاق يخرجون إلى مصر ليمتاروا (4)طعاما، و كان يعقوب و ولده نزولا في بادية فيها مقل، فأخذ إخوة يوسف من ذلك المقل، و حملوه إلى مصر ليمتاروا به، و كان يوسف يتولّى البيع بنفسه (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 58

وَ جاءَ إذن إِخْوَةُ يُوسُفَ ممتارين في مصر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ و هو في مجلس حكومته على زينة و احتشام فَعَرَفَهُمْ يوسف في أول نظرة لكمال فراسته، و ترصّده لمجيئهم، و تقارب حال مفارقتهم و حال لقائهم، و تشابه هيئاتهم و زيّهم في الحالين وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ غير عارفين به لبعد عهدهم منه-عن ابن عباس: كان بين أن قذفوه في البئر و بين أن دخلوا عليه أربعون سنة (6)-و لتباين حاله عند مفارقتهم له، لأنّه كان في سنّ الحداثة و غاية الضعف و الحالة التي زاده عليها من الكبرو و السّلطان.

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)عن الباقر عليه السّلام: «لم يعرفه إخوته لهيبة الملك و عزّه» (7).

قيل: إنّهم رأوه على السرير، و عليه ثياب الحرير، و في عنقه طوق من ذهب، و على رأسه تاج من ذهب (8).

روي أنّهم كلّموه بالعبرانية، فقال لهم: من أنتم، و ما شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا للميرة فقال: لعلكم جئتهم عيونا تنظرون إلى عورة بلادي؟ قالوا: معاذ اللّه نحن إخوة بنو أب واحد، و هو شيخ صدّيق نبي اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنّا اثني عشر، فهلك منّا

ص: 415


1- . في النسخة: فان، و لم ترد في المصدر.
2- . تفسير روح البيان 4:285.
3- . تفسير القمي 1:346، تفسير الصافي 3:29.
4- . زاد في النسخة: به.
5- . تفسير القمي 1:346، تفسير الصافي 3:29.
6- تفسير روح البيان 4:286.
7- . تفسير العياشي 2:349/2115، تفسير الصافي 3:29.
8- . تفسير الرازي 18:166.

واحد. قال: كم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الآخر الحادي عشر؟ قالوا: عند أبيه يتسلّى به من الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنّكم لستم بعيون، و أنّ الذي تقولون حقّ؟ قالوا: نحن أهل بلاد بعيدة لا يعرفنا هنا أحد، فأمر أن يعطى كلّ واحد منهم حمل بعير من الحنطة (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 59

وَ لَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ و بذل لهم كلّ ما يحتاجون إليه من الزاد و مؤنة السفر قالَ: دعوا بعضكم عندي رهينة اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ و معه رسالة من أبيكم على صدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، فخلّفوه عنده، ثمّ حثّهم على إتيانه بقوله: أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي و اتمّ لكم اَلْكَيْلَ و لا انقص شيئا من حقّ أحد وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ و أكرم المضيفين.

وَ لَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ (59)قيل: إنّه لمّا أعطى كلّ واحد حمل بعير سألوا حملا آخر لبنيامين، فسألهم عنه قالوا: هو أخونا من أبينا بقي عنده لخدمته. قال يوسف: أنا أعطي على عدد الرؤوس لا عدد البعير، ثمّ أعطاهم حملا آخر و شرط عليهم أن يأتوا به (2).

عن القمي رحمه اللّه: قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن بنو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه الذي ألقاه نمرود في النار فلم يحترق، و جعلها اللّه عليه بردا و سلاما. قال: فما فعل أبوكم؟ قالوا: شيخ ضعيف. قال: ألكم أخ غيركم؟ قالوا: لنا أخ من أبينا لا من امّنا. قال: فإذا رجعتم إليّ فأتوني به (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «قال لهم يوسف: قد بلغني أنّ لكم أخوين من أبيكم، فما فعلا؟ قالوا: أما الكبير منهما فانّ الذئب أكله، و أمّا الصغير فخلّفناه عند أبيه، و هو به ضنين، و عليه شفيق. قال: فإنّي احبّ أن تأتوني به معكم إذا جئتم تمتارون» (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 60 الی 62

ثمّ هدّدهم على التخلّف بقوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ و خالفتم عهدكم فَلا كَيْلَ من الغلّة لَكُمْ

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنّا لَفاعِلُونَ (61) وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اِجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

ص: 416


1- . تفسير روح البيان 4:286.
2- . تفسير روح البيان 4:286.
3- . تفسير القمي 1:347، تفسير الصافي 3:30.
4- . تفسير العياشي 2:349/2115، تفسير الصافي 3:30.

عِنْدِي من بعد أصلا فضلا عن إيفائه وَ لا تَقْرَبُونِ و لا تدخلون عليّ، بل لا تدخلون بلادي، و إنّما قال ذلك لعلمه بأنّهم مضطرّون إلى المراجعة للامتيار، و لكونه مأمورا من اللّه أن يطلب أخيه، ليعظم أجر أبيه على فراقه.

قالُوا ليوسف: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ و نحتال في انتزاعه من يد أبيه، و نجتهد فيه وَ إِنّا و اللّه لَفاعِلُونَ ذلك غير مفرطين و لا متوانين في طاعة أمرك.

وَ قالَ يوسف بعد أخذ العهد من إخوته على إتيان بنيامين، سرّا منهم لِفِتْيانِهِ و مماليكه الموكلين على بيع الطعام و أخذ الأثمان: اِجْعَلُوا و دسّوا بِضاعَتَهُمْ و متاعهم الذي أخذتموه منهم ثمنا للحنطة فِي رِحالِهِمْ و جواليقهم تفضّلا عليهم، و إكراما لهم، و حثا لهم على الرجوع، و إعانة لهم على مؤنته لَعَلَّهُمْ يطّلعون على مكرمتهم و يَعْرِفُونَها، و يراعون حقّها إِذَا اِنْقَلَبُوا و رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ و أقاربهم، و فتحوا جواليقهم و رأوا ردّ أمتعتهم إليهم تفضّلا و إحسانا لَعَلَّهُمْ لشكرهم ذلك الإنعام يجدّون في الوفاء بالعهد و يَرْجِعُونَ إلينا مع أخيهم بنيامين.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 63 الی 64

فوضع الغلمان بضاعتهم في أوعيتهم خفية منهم، ثمّ أذن لهم يوسف بالرجوع إلى وطنهم و أهلهم فَلَمّا رَجَعُوا من مصر إِلى كنعان و دخلوا على أَبِيهِمْ يعقوب قالُوا له قبل فتح الأوعية و اطّلاعهم على ردّ البضاعة: يا أَبانا أخذ منا العهد على أن نذهب ببنيامين معنا إلى مصر، و إلاّ مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ و حرمنا من الطعام فيما بعد، و [من]

رجوع شمعون إليك فَأَرْسِلْ مَعَنا إلى مصر أَخانا بنيامين إذن نَكْتَلْ ما نشاء من الطعام وَ إِنّا و اللّه لَهُ لَحافِظُونَ من كلّ آفة- و مكروه-، و ضامنون لسلامته و عوده إليك.

فَلَمّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (64)فامتنع يعقوب من إجابتهم قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ و الحال أنه ليس تأمينكم على حفظه و ردّه إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى حفظ أَخِيهِ يوسف و ردّه إليّ مِنْ قَبْلُ و ما اعتمادي على قولكم في حفظه ورده إلاّ كاعتمادي على قولكم في حفظ يوسف في الزمان السابق، و قد قلتم في حقّه ما قلتم، و فعلتم ما فعلتم، فلا ينبغي الوثوق بعد ما رأيت منكم بقولكم و عهدكم في حفظه، فإن ارسله معكم فلا اعتمد في حفظه إلاّ على اللّه.

ص: 417

فَاللّهُ خَيْرٌ منّي و منكم لحفظه لكونه تعالى حافِظاً لكلّ شيء، فأتوكّل عليه، و افوّض أمر حفظه إليه وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ من أهل السماوات و الأرضين بعباده، فيرحم شيبتي و ضعفي، فلا يرضى بأن يجمع عليّ مصيبتين، و فيه إشعار برضاه في ذهابهم به، لاحتياجه إلى الطعام، و إيناسه الخير و الصلاح فيهم، و عدم شدّة الحسد و الحقد بينهم و بين بنيامين، كذا قيل عن كعب، لمّا قال يعقوب: فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً قال اللّه تعالى: و عزّتي لأردّن عليك كليهما بعد ما توكّلت عليّ (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 65 الی 66

ثمّ قيل: إنّ يعقوب قال لبنيه: يا بنيّ، قدّموا أحمالكم لأدعو لكم فيها بالبركة، فقدّموها إليه (2)وَ لَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ و أبواب جواليقهم وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي سلّموها إلى ملك مصر ثمنا للطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ بأن وضعت في رؤوس أجمالهم، فلمّا رأوا ذلك قالُوا لأبيهم: يا أَبانا ما نَبْغِي و لا نطلب بمدحنا ملك مصر في الكرم كذبا، أو لا نطلب منه إكراما و تفضلا فوق هذا الاكرام و التفضّل، أو لا نطلب منك مؤنة الرجوع هذِهِ البضاعة التي ترى هي بِضاعَتُنا التي سلّمناها له عوض الطعام رُدَّتْ إِلَيْنا.

وَ لَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اَللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)أو المعنى أي شيء نطلب بعد إيفائه الكيل لنا و ردّ ثمنه إلينا بأحسن وجه، فاذا رجعنا إليه نأخذ ما نريد من الطعام وَ نَمِيرُ أَهْلَنا و نأتيهم ما يكفيهم من الطعام وَ نَحْفَظُ من كلّ مكروه أَخانا بنيامين وَ نَزْدادُ على كيل أحمال أباعرنا كَيْلَ بَعِيرٍ آخر بسبب حضوره عند الاكتيال، فإنّ ذلِكَ الذي تحمله أباعرنا كَيْلَ و طعام يَسِيرٌ و قليل لا يكفي لحاجتنا، أو ذلك الذي يعطينا الملك من الزيادة يسير و سهل عليه، فانّه سخيّ كريم لا يضايقه من (3).

قالَ يعقوب: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ إلى مصر أبدا حَتّى تُؤْتُونِ و تعطوني مَوْثِقاً و عهدا أكيدا منضما بالحلف باللّه-أو بمحمد خاتم الأنبياء (4)على قول-أو بالإشهاد (5)أو بالإذن (6)مِنَ اَللّهِ

ص: 418


1- . تفسير روح البيان 4:289، عن كعب.
2- . تفسير روح البيان 4:291.
3- . في النسخة: منّا.
4- . مجمع البيان 5:379.
5- . تفسير الرازي 18:171.
6- . تفسير الرازي 18:170.

لَتَأْتُنَّنِي بِهِ و تردّونه صحيحا سالما إليّ على أيّ حال إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ و يغلب عليكم بحيث لا تقدرون على حفظه و إتيانه إليّ.

و قيل: يعني إلاّ أن تهلكوا جميعا (1).

قيل: البلاء موكل بالمنطق، فانّه عليه السّلام قال في حقّ يوسف: أخاف أن يأكله الذئب، فابتلي بهذا القول، و قال هنا: إلاّ أن يحاط بكم، فابتلي أيضا بهذا القول، حيث إنّهم احيط بهم و غلبوا عليه (2).

فَلَمّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ و عاهدوه عهدا مؤكّدا بالحلف على حفظه و ردّه سالما إليه، حثّهم على الوفاء به بقوله: قالَ اَللّهُ القادر القاهر عَلى ما نَقُولُ من التعاهد وَكِيلٌ و شهيد، أو مراقب و كاف، يثيب على الوفاء به، و يعاقب على الخلف.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 67

ثمّ أذن عليه السّلام في أن يذهبوا ببنيامين معهم إلى مصر، فتهيّئوا للسفر، فلمّا أرادوا أن يخرجوا خاف يعقوب عليهم العين، لكونهم ذوي جمال فائق، و كمال رائق، و هيئة حسنة، و بني أب واحد، وَ لذا قالَ يا بَنِيَّ اوصيكم بأنّه إذا وصلتم إلى مصر لا تَدْخُلُوا فيها مِنْ بابٍ واحِدٍ للمدينة على ما أنتم عليه من العدد و الهيئة وَ اُدْخُلُوا فيه متفرّقين مِنْ أَبْوابٍ متعدّدة مُتَفَرِّقَةٍ و طرق متشتته، و مسالك مختلفة، و إنّما وصّاهم في هذه الكرّة، لأنّهم صاروا في السفر الأول مشتهرين في المصر بالقرب عند الملك، و كانت ترفع إليهم الأبصار دون الكرّة الاولى، فانّهم كانوا حين الورود مجهولين مقهورين بين الناس غير متجمّلين تجمّلهم في الثانية، و إنّما كانت تلك الوصية بالنظر إلى حبّ الأبوة.

وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ (67)ثمّ التفت إلى أنّ التدبير لا يردّ التقدير، و أنّ القضاء لا يدفع بالحيل و الأداء، فقال: وَ ما أُغْنِي و لا أنفعكم بتدبيري في دفع إصابة العين عَنْكُمْ إذا كان مِنْ قضاء اَللّهِ يسيرا مِنْ شَيْءٍ من الضّرر.

القمي: رحمه اللّه: أعلن بتفويضه الأمر إلى اللّه بقوله إِنِ اَلْحُكْمُ و ما القضاء في الامور من النفع و الضرّ و الخير و الشرّ لأحد إِلاّ لِلّهِ وحده لا يشاركه فيه أحد، و لا يمانعه عنه شيء، فإذا كان ذلك فإنّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و إليه فوّضت جميع اموري التي منها حفظ أولادي من الآفات في جميع

ص: 419


1- . مجمع البيان 5:379.
2- . تفسير روح البيان 4:291.

الأوقات وَ عَلَيْهِ تعالى فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ البتّه بتبع أنبيائهم.

ثمّ لمّا أنكر بعض تأثير العين، حملوا وصية يعقوب على أنّه لمّا علم اشتهارهم في المصر بالحسن و الكمال خاف عليهم أن يحسدهم الناس، و يسعوا عليهم عند الملك، أو خاف أن يخافهم الملك الأكبر على ملكه فيحبسهم.

أقول: و إن كان هذا الوجه ممكنا و محتملا إلاّ أن إنكار تأثير العين إنكار لما هو ثابت بالشرع و التجربة، فقد روى بعض العامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «العين تدخل الرجل في القبر، و البعير في القدر» (1).

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أن جبرئيل أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فرآه مغتما فقال: يا محمد، ما هذا الغمّ الذي أراه في وجهك؟ فقال: الحسن و الحسين أصابتهما عين. فقال: صدقت، فانّ العين حقّ» (2). إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة من طرق العامة و الخاصة التي لا مجال لانكارها.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 68

وَ لَمّا وصل أولاد يعقوب إلى مصر دَخَلُوا فيها مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ و بنحو [ما] وصّاهم والدهم من دخولهم من أبواب متفرّقة ما كانَ رأي يعقوب و تدبيره في حفظهم من الابتلاء يُغْنِي و ينفع عَنْهُمْ مِنَ قضاء اَللّهِ و مشيئته في حقّهم مِنْ شَيْءٍ يسير، و لا يردّه عنهم بوجه إِلاّ حاجَةً قيل: إنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: و لكن حاجة كانت فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ و هو إظهار خوفه من أن تصيبهم العين أو يحسدهم أهل مصر (3)، و هو قَضاها بتلك التوصية.

وَ لَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)عن ابن عباس: «ذلك التفرّق ما كان يردّ قضاء اللّه، و لا أمرا قدّره اللّه (4). و فيه تصديق اللّه لما قال يعقوب: «ما اغني عنكم من اللّه شيء» وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ بأن التدبير لا يدفع التقدير لِما عَلَّمْناهُ و لاجل و حينا إليه.

و قيل: أي لذو حفظ و مراقبة لما علمناه، أو لذو علم بفوائد ما علمناه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و هم الجهّال غير العارفين لا يَعْلَمُونَ ما علم يعقوب، أو أن يعقوب بهذه الصفة أو القضاء لا يردّ التدبير. و قيل: إنّ المراد أنّ المشركين لا يعلمون أنّ اللّه كيف أرشد أولياءه إلى العلوم النافعة لهم في

ص: 420


1- . تفسير أبي السعود 4:292، تفسير روح البيان 4:293.
2- . تفسير روح البيان 4:293. (3 و 4) . تفسير الرازي 18:176.

الدنيا و الآخرة (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 69

وَ لَمّا دَخَلُوا مع بنيامين عَلى يُوسُفَ و هو جالس في قصره منقّبا على السرير، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن كنعانيون، الذين أمرتنا بأن نأتي بأخينا من أبينا فامتثلنا أمرك و أتينا به. قال: أحسنتم، و ستجدون جزاءكم عندي فاجلسوا. فجلسوا على حاشية البساط، فأكرمهم و أمر باحضار الطعام، و قال: فليجلس كلّ أخوين من أب و امّ على خوان من الطعام، فجلس كلّ منهم مع أخيه الأبويني على خوان واحد، و بقي بنيامين فردا لا قرين له، فبكى حتى غشي عليه، فأمر يوسف بأن يرشّوا الجلاّب (2)على وجهه حتّى أفاق، فقال له يوسف: يا شاب، ما كان سبب بكائك و غشيتك؟ قال: كان لي أخ من امّي يقال له يوسف و فقد سنين متطاولة، فلمّا أمرت أن يجلس كلّ أخوين من أبّ و امّ على خوان واحد ذكرته، و قلت في نفسي: لو كان معي أخ لأجلسني معه، فأخذتني العبرة و تغيّر حالي. قال يوسف: أترضى أن أكون أخاك آكل معك، فأمر أن يوضع خوانا في بيت آخر أو وراء الستر، فقام يوسف إليه، و دعا بنيامين و آوى إِلَيْهِ أَخاهُ بنيامين و ضمّه إلى نفسه في الطعام و المنزل و المبيت، و عيّن لكلّ اثنين من إخويه بيتا ثمّ قال لبنيامين: هل تزوّجت؟ قال: نعم، ولي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك.

وَ لَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)و قيل: إنّه قال: رزقت ثلاثة أولاد ذكور. قال: ما أسماؤهم؟ قال: اسم أحدهم ذئب. فقال يوسف: أنت ابن نبي، فكيف سمّيت ولدك بأسماء الوحوش؟ فقال: إنّ إخوتي لمّا زعموا أنّ أخي أكله الذئب سمّيت ابني ذئبا حتى إذا صحت به ذكرت أخي، فبكى و بكى يوسف. و قال: ما اسم الآخر؟ قال: دم. قال: لم سميّته بهذا الاسم؟ قال: إخوتي جاءوا بقميص أخي متضمّخا بالدم، فسمّيته بذلك حتى إذا صحت به ذكرت أخي، فبكى و بكى يوسف. فقال: و ما اسم الثالث؟ قال: يوسف، سمّيته به حتى إذا صحت به ذكرت أخي، فبكى و بكى يوسف و قال في نفسه: يا الهي و سيدي، هذا أخي أراه بهذا الحزن، فكيف يكون حال الشيخ يعقوب، اللّهم اجمع بيني و بينه قبل فراق الدنيا. ثمّ قال: أ تحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، و لكن لم يلدك يعقوب و لا راحيل، فبكى

ص: 421


1- . تفسير الرازي 18:177.
2- . الجلاّب: ماء الورد، فارسي معرب.

يوسف و قام إليه و عانقه و قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف (1).

و قيل: إنّ يوسف مدّ يده إلى الطعام و هو متنقّب، فلمّا نظر بنيامين إلى يد يوسف بكى، فقال يوسف: مما بكائك؟ قال: أيها الملك ما أشبه يدك بيد أخي يوسف، فلمّا سمع منه هذا الكلام لم يتمالك و ألقى النقاب من وجهه، و قال: إنّي أنا أخوك (2).

و قيل: إنّ بنيامين لما جلس على الخوان جعل يأكل و يغصّ بأكله و يطيل النظر إلى يوسف، فقال له يوسف: أراك تطيل النظر إليّ؟ فقال: إنّ أخي الذي أكله الذئب يشبهك. فقال يوسف: أنا أخوك (3)فَلا تَبْتَئِسْ و لا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بنا فيما مضى، فإنّ اللّه أحسن إلينا و جمعنا بالخير، و أمره أن لا يخبرهم، بل تخفى الحال عنهم.

عن الصادق عليه السّلام: «قد كان يوسف هيّأ لهم طعاما، فلمّا دخلوا عليه قال: ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة، فجلسوا و بقى بنيامين قائما، فقال له يوسف: مالك لا تجلس؟ قال له: إنّك قلت ليجلس كلّ بني امّ على مائدة، و ليس لي فيهم ابن امّ فقال يوسف: أما كان لك ابن امّ؟ قال له بنيامين: بلى. قال يوسف: فما فعل؟ قال: زعم هؤلاء أنّ الذئب أكله. قال: فما بلغ من حزنك عليه؟ قال: ولد لي أحد عشر ابنا كلّهم شققت (2)له أسماء من اسمه. فقال له يوسف: أراك قد عانقت النساء، و شممت و الولد من بعده؟ قال له بنيامين: إنّ لي أبا صالحا، و إنّه قال [لي]تزوّج لعلّ اللّه أن يخرج منك ذريّة تثقل الأرض بالتسبيح. فقال له [يوسف]: تعال فاجلس معي على مائدتي. فقال إخوة يوسف: لقد فضّل اللّه يوسف و أخاه علينا حتى إن الملك قد أجلسه معه على مائدته (3).

و في رواية: أنه حين أجلسه على المائدة، تركوا الأكل و قالوا: إنا نريد أمرا و يأبى اللّه [إلاّ]أن يرفع ولد ياميل (4)علينا (5).

و عن القمي رحمه اللّه: فخرجوا و خرج معهم بنيامين، و كان لا يؤاكلهم و لا يجالسهم و لا يكلّمهم، فلمّا وافوا مصر دخلوا على يوسف و سلّموا، فنظر يوسف إلى اخيه فعرفه، و جلس منهم بالبعيد، فقال يوسف: أنت أخوهم؟ قال: نعم. قال: فلم لا تجلس معهم؟ قال: لأنّهم أخرجوا أخي من امّي و أبي ثمّ رجعوا و لم يردّوه، و زعموا أنّ الذئب أكله، فاليت على نفسي أن لا اجتمع معهم على أمر مادمت حيا. قال: فهل تزوّجت؟ قال: بلى. قال: فولد لك ولد؟ قال: بلى. قال: كم ولد لك؟ قال: ثلاثة بنين؟ قال:

ص: 422


1- . تفسير روح البيان 4:297. (2 و 3) . تفسير روح البيان 4:297.
2- . في مجمع البيان: اشتققت.
3- . مجمع البيان 5:384، تفسير الصافي 3:32.
4- . في تفسير العياشي: يامين.
5- . تفسير العياشي 2:351/2116، تفسير الصافي 3:33.

فما سمّيتهم؟ قال: سمّيت واحدا منهم بالذئب، و واحدا القميص، و واحدا الدم. قال: و كيف اخترت هذه الأسماء؟ قال: لئلا أنسى أخي، كلّما دعوت واحدا منهم ذكرت أخي. قال لهم يوسف: اخرجوا، و حبس بنيامين [عنده]، فلمّا خرجوا من عنده قال يوسف لأخيه: أَنَا أَخُوكَ [يوسف] فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.

ثمّ قال له: أنا احبّ أن تكون عندي، فقال: لا يدعوني إخوتي، فانّ أبي قد أخذ عليهم عهد اللّه و ميثاقه أن يردّوني إليه. قال: أنا احتال بحيلة، فلا تنكر إذا رأيت شيئا و لا تخبرهم. فقال: لا (1).

و في رواية عامية: أنّ بنيامين لمّا عرف أخاه أخذته الغشوة من الشوق و الفرح، فلمّا أفاق عانقه و قاله له: لا افارقك، قد علمت اعتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمّه، و لا سبيل إلى ذلك إلاّ أن أشهرك بأمر فظيع. قال: لا ابالي، فافعل ما بدا لك. قال: أدسّ صاعي في رحلك، ثمّ انادى عليك: بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال: افعل.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 70

ثمّ قال يوسف لإخوته: أتحبّون سرعة الرجوع إلى أبيكم؟ قالوا: نعم، فأمر الكيّال بكيل الطعام، و قال له: زدهم وقر (2)بعير، ثمّ جهّزهم بأحسن جهاز فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ و أكمل مؤنة سفرهم جَعَلَ بمباشرته أو بواسطة افرائيم أو بعض خواصه و محارمه اَلسِّقايَةَ و المشربه التي كانت من فضّة، أو من بلور، أو من زمرّدة خضراء، أو ياقوتة حمراء تساوي مائتي ألف دينارا، أو من ذهب مرصّعة بالجواهر، جعلت صواعا وكيلا يكال به الطعام لعزّته، أو يكال به طعام إخوته إكراما لهم (3)فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين و دسّها في حمله.

فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70)ثمّ أمر إخوته بالمسير، ثمّ لمّا انفصل الإخوة من مصر، طلب أصحاب يوسف السّقاية، فما وجدوها، و ما كان أحد هناك غير الذين ارتحلوا، فأخبروا يوسف، فأرسل من استوقفهم فوقفوا ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ و نادى مناد من قبل الملك اسمه افارائيم على ما قيل (4): أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ و قافلة الكنعانيون إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ.

قيل: أراد يوسف من نسبة السرقة إليهم سرقتهم إياه من أبيه (3).

ص: 423


1- . تفسير القمي 1:348، تفسير الصافي 3:33.
2- . الوقر: الحمل الثقيل. (3 و 4) . تفسير روح البيان 4:298.
3- . تفسير روح البيان 4:299.

كما روي أيضا عن الصادق عليه السّلام قال: «ما سرقوا و ما كذب يوسف، إنّما عنى سرقتم يوسف من أبيه» (1).

و في رواية: «ألا ترى [أنّه]قال لهم حين قالوا: ماذا تفقدون. قالوا: نفقد صواع الملك، و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك» (2).

و عنه عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا كذب على مصلح، ثمّ تلا أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ثمّ قال: و اللّه ما سرقوا و ما كذب» (3).

و عنه عليه السّلام قال: «إرادة الاصلاح» (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 71 الی 75

و قيل: إنّ النداء كان من قبل الكيّالين على ظنّ سرقتهم (5)، فلمّا سمعت الإخوة هذا النداء قالُوا للذين جاءوا لطلب السّقاية وَ هم أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ازعاجا من نسبتهم إلى السرقة مع كونهم في غاية الشرف: ما هذه النسبة و ما ذا تَفْقِدُونَ و تعدمون، و أي شيء ضاع منكم؟ فلمّا رأى فتيان يوسف في وجوههم غضبا شديدا قالُوا في جوابهم نَفْقِدُ و نعدم صُواعَ اَلْمَلِكِ وكيله الذي كلنا به طعامكم.

قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ ما كُنّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي اَلظّالِمِينَ (75)عن الباقر عليه السّلام: «الصاع (6): الطاس الذي يشرب فيه» (7).

ثمّ قال المؤذن تسكينا لقلوبهم و إيهاما لعدم اعتقادهم السرقة في حقّهم: وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ قبل تفتيش الغلمان له حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلا (8)له وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ و كفيل بأن اؤديه (9)إليه من مالي لئلا يتهمني الملك.

فأجابهم الإخوة و قالُوا تعجبا من هذه النسبة إليهم مع ظهور الشرف و النجابة و الصلاح منهم:

ص: 424


1- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:34.
2- . تفسير العياشي 2:354/2122، تفسير الصافي 3:34.
3- . الكافي 2:256/22، تفسير الصافي 3:34.
4- . الكافي 2:256/17.
5- . تفسير روح البيان 4:299.
6- . في تفسير العياشي: صواع الملك.
7- . تفسير العياشي 2:354/2123، تفسير الصافي 3:34.
8- . الجعل: ما يجعل على العمل من أجر.
9- . في النسخة: كفيل لأديه.

يا أيها الفتية تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ و تبيّن لكم من حالنا أنّا ما جِئْنا من بلدنا إليكم لِنُفْسِدَ فِي هذه اَلْأَرْضِ و تلك البلدة بالسرقة وَ ما كُنّا في مدّة عمرنا سارِقِينَ فانّ العلم بالأحوال المشاهدة يستلزم العلم بالغائبة قالُوا في جوابهم فَما عقوبة السرق أو السارق و أيّ شيء جَزاؤُهُ في شرعكم؟ إِنْ كُنْتُمْ في جحودكم السرقة و إنكار كون الصّواع عندكم كاذِبِينَ فلمّا كانوا مطمئنين ببراءة أنفسهم قالُوا في شرع يعقوب عقوبة السارق أو السرق و جَزاؤُهُ استرقاق مَنْ وُجِدَ الصّواع فِي رَحْلِهِ و أمتعته فَهُوَ جَزاؤُهُ.

قيل: كان في شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة (1).

ثمّ أكّدوا الحكم المذكور بعد بيانه بقولهم: كَذلِكَ الجزاء و مثل تلك العقوبة نَجْزِي و نعاقب اَلظّالِمِينَ على أنفسهم بالعصيان، و على غيرهم بسرقة ماله.

عن الصادق عليه السّلام: «يعنون السّنّة التي كانت تجري فيهم أن يحبسه» (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 76

ثمّ روي أنّ غلمان يوسف قالوا للإخوة: أنيخوا حتى نفتّش رحالكم، فأناخوا (3)فَبَدَأَ المفتّش بأمر يوسف بِأَوْعِيَتِهِمْ و جواليقهم في التفتيش قَبْلَ تفتيش وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين دفعا للتّهمة.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)ثُمَّ اِسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ قيل: فتّشوا رحل الأخ الأكبر، ثمّ الذي يليه، ثمّ و ثمّ إلى أن بلغت النوبة إلى رحل بنيامين، فقال يوسف: ما أظنّ أنّ هذا أخذ شيئا. فقال فتيانه: و اللّه ما نتركه حتّى ننظر في رحله، فانّه أطيب لنفسك و لأنفسنا، ففتحوا متاع بنيامين، فرأوا الصّواع فأخذوه و ما معه من الصّواع، و ردّوه إلى مصر (4).

و أخذ إخوته يشتمونه بالعبرانية و قالوا: يا لعين (5)، ما حملك على سرقة صواع الملك؟ و لا يزال ينالنا منك بلاء كما لقينا من ابن راحيل. فقال بنيامين: بل ما لقي ابنا راحيل البلاء إلاّ منكم، فأمّا يوسف فقد فعلتم به ما فعلتم، و أمّا أنا فنسبتموني إلى السرقة. قالوا: فمن جعل الإناء في متاعك؟ قال: إن

ص: 425


1- . تفسير روح البيان 4:300.
2- . تفسير العياشي 2:351/2116، تفسير الصافي 3:35.
3- . تفسير روح البيان 4:300.
4- . في تفسير روح البيان: إلى يوسف.
5- . في تفسير روح البيان: و قالوا له: يا لصّ.

كنتم سرقتم بضاعتكم الاولى و جعلتموها في رحالكم، فأنا جعلت الصّواع في رحلي. فقال روبيل: و اللّه لقد صدق و أراد بنيامين أن يخبرهم بخبر يوسف، فذكر وصيته له فسكت (1).

ثمّ ذكر اللّه سبحانه لطفه بيوسف و منّته عليه بقوله: و كَذلِكَ الكيد المعجب و التدبير البديع كِدْنا و دبّرنا نفعا لِيُوسُفَ و تحصيلا لغرضه حيث ألهمناه أن يسألهم عن جزاء السارق في شرعهم ليلزمهم بما التزموا به، و إلاّ فانّه ما كانَ لِيَأْخُذَ و يسترقّ أو يحبس أَخاهُ بنيامين بالجزاء المقرّر فِي دِينِ اَلْمَلِكِ الأكبر و سنّته، أو في حكمه و قضائه، لأنّ جزاء السارق في دينه هو ضربه و تغريمه ضعف ما سرق دون الاسترقاق و الحبس إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ ذلك الكيد الذي علّمناه، أو يشاء تغيير دين الملك، أو أخذه بوجه آخر.

ثمّ مدح سبحانه رفعة مقام يوسف في العلم بقوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ كثيرة في العلم مَنْ نَشاءُ رفعه و نعلي إلى مراتب عالية من نريد تعليته بالحكمة حسب استعداد الخلق و قابليتهم، و اقتضاء الحكمة و المصلحة، كما رفعنا درجة يوسف و مرتبته في العلم على درجة علم إخوته و غيرهم من أهل عصره وَ فَوْقَ درجة كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عَلِيمٌ و يكون من كلّ صاحب علم من هو أرفع منه في العلم إلى أن ينتهى إلى اللّه.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 77

ثمّ أن الإخوة قالُوا ليوسف تنزيها لساحتهم من صنع بنيامين: إِنْ يَسْرِقْ هو فليس هذا العمل منه ببعيد و لا عجب فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ كان لَهُ من امّه مِنْ قَبْلُ و كنّا نحن برئاء منهم. فسمع يوسف الكلمة الشنيعة فَأَسَرَّها و أخفاها يُوسُفُ منهم فِي نَفْسِهِ و قلبه وَ لَمْ يُبْدِها و لم يظهرها لَهُمْ بوجه حلما و صفحا.

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)ثمّ قالَ في نفسه: يا إخوتي أَنْتُمْ شَرٌّ مني مَكاناً و منزلة حيث سرقتموني من أبي، و فعلتم بي ما فعلتم وَ اَللّهُ العالم بحقايق الامور أَعْلَمُ منكم و من كلّ أحد بِما تَصِفُونَ و تنسبون إليّ.

قيل: كان جدّه لامّه يعبد الصّنم، فقالت له امّه راحيل: خذ صنم أبي و اكسره لعلّه يترك عبادته، فأخذه يوسف و كسره و ألقاه بين الجيف في الطريق (2).

ص: 426


1- . تفسير روح البيان 4:300.
2- . تفسير روح البيان 4:301.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «سرق يوسف صنما لجدّه أبي امّه من فضّة و ذهب فكسره و ألقاه على الطريق» .

و قيل: كانت لإبراهيم منطقة (1)يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق، ثمّ وقعت إلى ابنته، و كانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف و هي عمّته بعد وفاة [امه]راحيل، و كانت تحبّه حبا شديدا بحيث لا تصبر عنه، فلمّا شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فاحتالت بأن شدّت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه و هو نائم، و قالت: فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها. ففتّشوا فوجدوها مشدودة على وسط يوسف تحت ثيابه، فقالت: إنّه سرقها منّي، فكان سلما لي، و كان حكمهم أنّ من سرق يسترق، فتوسّلت بهذه الحيلة، إلى إمساكه عند نفسها، فتركه يعقوب عندها إلى أن ماتت (2).

عن الرضا عليه السّلام قال: «كانت لاسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر، و كانت عند عمّة يوسف، و كان يوسف عندها، و كانت تحبه فبعث إليها أبوه: أن ابعثيه، إليّ و أردّه إليك، فبعثت إليه: أن دعه عندي الليلة أشمّه ثمّ ارسله إليك غدوة، فلمّا أصبحت أخذت المنطقة فربطتها في حقوه (3)و ألبسته قميصا و بعثت به إليه، و قالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع به إلى صاحب السرقة» (4).

و في رواية: «فقال لها يعقوب: فإنّه عبدك على أن لا تبيعيه و لا تهبيه، قالت: فأنا أقبله على أن لا تأخذه منّي و اعتقه الساعة. فأعطاها إياه و أعتقته» (5).

و قيل: إنّه كان يسرق من مائدة أبيه و يدفعه إلى الفقراء (6).

و قيل: إنّه سرق عناقا (7)من أبيه (8). و قيل: دجاجة، و دفعه إلى مسكين (9).

أقول: فساد هذين القولين واضح.

و قيل: إنّ الإخوة اتهموه و كذبوا عليه، و كانت قلوبهم مملوءة من الغضب عليه (8).

و قيل: إنّ يوسف نسبهم إلى السرقة بقوله إنكم لسارقون، فكوفي بقولهم: سرق أخ له (9).

ثمّ لمّا حبس يوسف بنيامين كلمه إخوته في إطلاقه، روي أنّه قال له روبيل: أيها الملك لتردنّ إلينا

ص: 427


1- . المنطقة: ما يشدّ به الوسط.
2- . تفسير روح البيان 4:301.
3- . الحقو: الخصر.
4- . تفسير العياشي 2:355/2125، تفسير الصافي 3:35.
5- . الخرائج و الجرائح 2:739/53، تفسير الصافي 3:36.
6- . تفسير الرازي 18:184.
7- . العناق: الانثى من أولاد المعز و الغنم من حين الولادة إلى تمام الحول. (8و9) . تفسير الرازي 18:184.
8- . تفسير الرازي 18:184.
9- . تفسير روح البيان 4:302.

أخانا، أو لأصيحنّ صيحة تضع منها الحوامل في مصر، و قامت شعور جسده، فخرجت من ثيابه، و كان بنو يعقوب إذا غضبوا لا يطاقون خلا أنّه إذا مسّ من غضب واحد منهم سكن غضبه، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنبه فمسّه-و في رواية، قال: خذ بيده فمسّه-فسكن غضبه. فقال روبيل: إن هنا لبذرا من بذور يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 78

روي أنّه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله، و أخذ بتلابيبه، فوقع على الأرض، فقال: أنتم معشر العبرانيين تظنّون أن لا أحد أشدّ منكم، فلمّا رأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليص بنيامين خضعوا (2)ليوسف و قالُوا استعطافا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ في كنعان أَباً يكون شَيْخاً كَبِيراً في السنّ، أو في القدر والدين بحيث يجب على كلّ أحد رعاية حاله و الترحّم عليه، فانّ له محبة شديدة و انسا تاما بهذا الولد بعد هلاك أخيه من أمه فَخُذْ أَحَدَنا استعبادا مَكانَهُ و عوضه -أو رهنا-حتى نأتيك بفداء لك إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إلينا بالإكرام و المتفضلين علينا بايفاء كيل (1)الطعام و البذل الكثير و ردّ البضاعة فأتمم إحسانك بردّ أخينا.

قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ (78)أو المراد نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إلى جميع أهل مملكتك باعتاقهم ورد أموالهم إليهم بعد استرقاقهم و تملّك أموالهم عوض الطعام، فكن محسنا إلينا أيضا و إلى أبيه الضعيف بإعتاق ولده الذي لا يصبر على فراقه (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إن فعلت» (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 79 الی 81

ص: 428


1- . في النسخة: الكيل.
2- . في النسخة: بفراقه.
3- . تفسير العياشي 2:350/2115، تفسير الصافي 3:36.

قالَ يوسف مَعاذَ اَللّهِ لا يمكن أَنْ نَأْخُذَ بالعبودية أو بالحبس أحدا إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا و صواعنا عِنْدَهُ.

القمي: قال إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ و لم يقل: إلا من سرق متاعنا (1)، لأنّ أخذه إنما كان بقضية شرعكم و فتواكم، فلو أخذنا البريء بدلا عن المجرم و لو برضاه إِنّا إِذاً لَظالِمُونَ في حكمكم و شرعكم و ليس لنا ذلك فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا من يوسف و انقطع رجاءهم مِنْهُ بالكلية في تخليص بنيامين خَلَصُوا و انفردوا من غيرهم حال كونهم نَجِيًّا و مسرين في التشاور في تدبير رجوعهم إلى أبيهم و اعتذارهم عنده من عدم ردّ بنيامين إليه مع كونهم مضطرّين إلى الرجوع لشدّة انتظارهم و كمال حاجة أهليهم إلى الطعام.

و لمّا رأى بعضهم رجوعهم بالاتفاق قالَ كَبِيرُهُمْ في السنّ-و هو روبيل، أو في الرياسة و هو شمعون، أو في العقل و هو يهودا (2)، أو لاوي على قول القمي (3)-إنكارا عليهم الرجوع بالاتفاق: أَ لَمْ تَعْلَمُوا يا إخواني و لم تتيقّنوا أَنَّ أَباكُمْ أبى أن يأذن في أن يسافر بنيامين معكم إلى مصر حتى أن قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً و عهدا أكيدا بالحلف المأذون فيه مِنَ اَللّهِ على أن ترجعوا إليه ابنه و لا تغدروه وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ و قصّرتم فِي العهد على إرجاع يُوسُفَ و لم تغنوا به و لم تحفظوه فيه.

عن ابن عباس: لمّا قال يوسف: معاذ اللّه أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده، غضب يهودا، و كان إذا غضب يقوم شعره على جسده (4).

و في رواية القمي: [و كانوا ولد يعقوب إذا غضبوا خرج من ثيابهم شعر و]يقطر من رؤوسهم (5)دم أصفر (6).

قال ابن عباس: و إذا صاح فلا تسمع صوته حامل إلاّ وضعت، و لا يسكن غضبه حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه. فقال لبعض إخوته: أكفوني (7)أهل مصر، و أنا اكفيكم الملك. فقال يوسف عليه السّلام لابن صغير له: مسّه فمسّه فذهب غضبه، و همّ أن يصيح فركض (8)يوسف عليه السّلام رجله على الأرض، و أخذ بملابسه و جذبه فسقط، فعنده قال: يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إلى آخره.

فلمّا أيسوا من قبول الشفاعة، تذاكروا و قالوا: إن أباكم قد أخذ عليكم موثقا عظيما من اللّه، و أيضا

ص: 429


1- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:36.
2- . تفسير روح البيان 4:303.
3- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:37.
4- . تفسير الرازي 18:188.
5- . في النسخة: رؤوسها.
6- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:36.
7- . زاد في تفسير الرازي: اسواق.
8- . ركض: رفس.

نحن متّهمون بواقعة يوسف، فكيف المخلص من هذه الورطة؟ (1). قال يهودا: فَلَنْ أَبْرَحَ و لا افارق أبدا هذه اَلْأَرْضَ و تلك البلدة حَتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اَللّهُ لِي بالخروج منها و الرجوع إلى أبي على وجه لا يؤدّي إلى نقض الميثاق، أو يجعل لي مخلصا بسبب من الأسباب.

و قيل: يعني يقضي اللّه عليّ بالموت (2)وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ لأنّه لا يحكم إلاّ بالعدل و الحقّ و لا يجور و لا يداهن، يا إخوتي اِرْجِعُوا أنتم إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا له يا أَبانا إِنَّ اِبْنَكَ بنيامين سَرَقَ صواع الملك بمصر وَ ما شَهِدْنا عليه عندك بالسرقة إِلاّ بِما عَلِمْنا و رأينا من استخراج الصّواع من وعائه وَ ما كُنّا لِلْغَيْبِ و باطن الأمر و واقع الحال ب حافِظِينَ فلعلّ أهل مصر رموه في وعائه ليتّهموه بالسرقة حسدا و عداوة.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 82

و قيل: يعني ما كنا نعلم أنّ ابنك هذا يسرق، و لو علمنا ذلك منه ما ذهبنا به إلى ملك مصر، و لم نحضره معنا عند الملك، و ما أعطيناك العهد على إرجاعه إليك (3)، و إن لا تصدّقنا فيما نقول لاتّهامنا عندك بالكذب و خلف العهد، ففتّش عن القضية وَ سْئَلِ عنها اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها و أهل البلدة التي وقعت القضية فيها-قيل: هي مصر (4)و قيل: هي قرية قريبة من مصر، فانّه وقعت القضية فيها (5)- وَ اسأل اَلْعِيرَ و القافلة اَلَّتِي أَقْبَلْنا و توجّهنا إليك فِيها فانّهم كانوا معنا ذهابا و إيابا، و في الوقعة.

وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنّا لَصادِقُونَ (82)و قيل: يعني اسأل حيطان القرية و جدرانها و الأباعير التي كانت معنا حتى يخبروك بها، فانّك من أكابر الأنبياء فينطق اللّه لك الجمادات و الحيوانات (6).

و قيل: إنّ الشيء إذا ظهر ظهورا تاما يقال [فيه]: سل الجمادات (4)و جميع الأشياء عنه (5).

قيل: كان معهم قوم من كنعان من جيران يعقوب (6).

ثمّ أكّدوا قولكم بالحلف باللّه، وَ قولوا (7)إِنّا و اللّه لَصادِقُونَ فيما نخبرك به.

ثمّ لما اخذوا دستور كيفية إخبار يعقوب بالقضية، رجعوا إلى كنعان، و رجع يهودا إلى يوسف، فقال

ص: 430


1- . تفسير الرازي 18:188.
2- . مجمع البيان 5:391.
3- . تفسير الرازي 18:190. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 18:190.
4- . في تفسير الرازي: سل السماء و الأرض.
5- . تفسير الرازي 18:190.
6- . تفسير روح البيان 4:304.
7- . في النسخة: و قالوا.

له: لم رجعت؟ قال: إنّك اتّخذت أخي رهينة، فخذني معه، فجعله عند أخيه، و أحسن إليهما.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم، و تخلّف يهودا، فدخل على يوسف يكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينهما حتى غضب يهودا، و كان على كتفه شعره إذا غضب قامت الشعرة، فلا تزال تقذف بالدم حتّى يمسّه بعض ولد يعقوب، و كان بين يدي يوسف ابن له صغير في يده رمّانه من ذهب يلعب بها، فلمّا رآه يوسف قد غضب و قامت الشعره تقذف بالدم، أخذ الرمّانة من يد الصبيّ، ثمّ دحرجها نحو يهودا، و تبعها الصبيّ ليأخذها، فوقعت يده على يد يهودا فذهب غضبه، فارتاب يهودا، و رجع الصبيّ بالرّمّانه إلى يوسف، ثمّ عاد يهودا إلى يوسف فكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينهما، حتى غضب يهودا، و قامت الشعرة، فجلعت تقذف بالدم، فلمّا رأى ذلك يوسف دحرج الرمّانة نحو يهودا، و تبعها الصبيّ ليأخذها، فوقعت يده على يد يهودا، فسكن غضبه، فقال يهودا: «إنّ في البيت معنا بعض ولد يعقوب، حتّى صنع ذلك ثلاث مرات» (1)الخبر.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 83 الی 84

ثمّ إن الإخوة التسعة لمّا دخلوا على يعقوب و أخبروه بقضية بنيامين حسبما لقّنهم يهودا قالَ لهم يعقوب على ما روى: هبوا أنّه سرق، و لكن كيف عرف الملك أنّ شرع بني إسرائيل أنّ من سرق يسترق (2)؟ فما كنتم بريئين من التقصير في حقّه بَلْ سَوَّلَتْ و احتالت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً عظيما، و هو تهمة بنيامين بالسرقة مع أنّه بريء، أو إخراجه معكم إلى مصر بظنّ النفع فترتب عليه هذا الضرر، أو فتواكم عند الملك بأنّ جزاء السارق استرقاقه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا شكوى فيه إلى الخلق، تكليفي و وظيفتي.

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ (83) وَ تَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)قيل: لمّا أخبروا أبيهم بالواقعة بكى، و قال: يا بنيّ لا تخرجون من عندي مرة إلاّ و نقص بعضكم، ذهبتم مرة فنقص يوسف، و في الثانية نقص شمعون، و في هذه المرة نقص كبيركم روبيل-أو يهودا- و بنيامين، ثمّ بكى و قال: عَسَى اَللّهُ و أرجو منه أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً (3)لحسن ظنّي برحمته إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ بشدّة حزني و غاية ضعفي اَلْحَكِيمُ في فعاله، لا يفعل بعبده إلاّ ما هو عين

ص: 431


1- . تفسير القمي 1:349، تفسير الصافي 3:37.
2- . تفسير الرازي 18:190.
3- . تفسير الرازي 18:191.

التفضّل و الاحسان و الصلاح وَ تَوَلّى و أعرض عَنْهُمْ بوجهه كراهة لما سمع منهم، و ذهب إلى بيت الأحزان، و هاج حزنه على يوسف لكون مصيبته أصل مصائبه، و لأنّه كان يعلم بحياة غيره دونه، و كان يتسلّى برؤية بنيامين عن رؤيته، لكونهما من امّ واحدة، و في غاية المشابهة، فضاق قلبه وَ قالَ يا أَسَفى و يا حزنا عَلى يُوسُفَ تعال فهذا أوانك. في الحديث: «لم تعط امّة من الامم إنّا للّه و إنّا إليه راجعون [عند المصيبة]إلاّ امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع بل قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» (1).

و عن القمي رحمه اللّه: إنّ يعقوب لم يعلم الاسترجاع، فمن هنا قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (2).

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل: ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف؟ قال: «حزن سبعين ثكلى بأولادها» (3).

و روي أنّ يوسف قال لجبرئيل: أيها الروح الأمين، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم، وهب اللّه له الصبر الجميل، و ابتلاه بالحزن عليك، قال: فما قدر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى. قال: فما له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، و ما أساء ظنّه باللّه ساعة قطّ (2).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية-قيل له: كيف حزن يعقوب على يوسف و قد أخبره جبرئيل أنه لم يمت، و أنّه سيرجع إليه؟ قال: «إنه نسي ذلك» (3)الخبر، فأكثر البكاء عليه وَ اِبْيَضَّتْ عَيْناهُ و محقت سوادهما مِنَ اَلْحُزْنِ روي أنّه ما جفّت عينا يعقوب من يوم فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين سنه (4)فَهُوَ كَظِيمٌ ممسك عن النياحة و ذكر ما لا ينبغي.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 85 الی 86

و قيل: يعني مملوءا من الغيظ على أولاده، ممسكا له قلبه (5)، أو متجرّعا غصّته لا يظهرها عند أحد، ثمّ لامه أو سلاّه بعض ولده أو أقربائه و قالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا و لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجّعا عليه حَتّى تَكُونَ حَرَضاً و مريضا أو فاسد الجسم و العقل أَوْ تَكُونَ هالكا مِنَ اَلْهالِكِينَ من شدّة الحزن عليه قالَ يعقوب لا أشكو حزني عند أحد إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي و غمّي الذي لا يطاق له وَ حُزْنِي و همّي الذي يطاق له إِلَى اَللّهِ لأنّه لا أرجو كشف الغمّ الشديد، و لا تفريج الغمّ

قالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)

ص: 432


1- . تفسير روح البيان 4:306. (2 و 3) . تفسير القمي 1:350، تفسير الصافي 3:38.
2- . تفسير روح البيان 4:309.
3- . تفسير العياشي 2:358/2131، تفسير الصافي 3:38.
4- . تفسير أبي السعود 4:301.
5- . تفسير أبي السعود 4:302، تفسير الصافي 3:38.

الضعيف إلاّ منه وَ أنا أَعْلَمُ مِنَ لطف اَللّهِ و رحمته بعباده ما لا تَعْلَمُونَ و لذا أرجو أن يرحمني و يكشف ما بي من الغمّ و الهمّ.

و قيل: يعني أعلم بالهام اللّه ما لا تعلمون من حياة يوسف و لقائي إياه (1).

قيل: إنّ اللّه أوحى إليه أنّه سيوصل إليه يوسف، و لكنّه تعالى ما عيّن الوقت (2).

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ يعقوب عليه السّلام لما ذهب منه بنيامين نادى: يا رب، أما ترحمني، أذهبت عيني، و أذهبت ابني. فأوحى اللّه تعالى: لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك و بينهما و لكن تذكر الشاة التي ذبحتها و شويتها و أكلتها، و فلان و فلان إلى جانبك صائم لم تعطهم منها شيئا» (3).

و روى أنّه عليه السّلام رأى ملكا (4)في منامه، فسأله عن يوسف فقال: هو حي (5).

و قيل: علم من رؤيا يوسف أنّه لا يموت حتّى يخرّوا له سجّدا (6).

و عن السّديّ: لما أخبره أولاده بسيرة ملك مصر أحسّت نفسه و قال: لعلّه يوسف (7).

و عن الصادق عليه السّلام: أنّ أعرابيا اشترى من يوسف طعاما فقال له: إذا مررت بوادي كذا فناد: يا يعقوب فانّه يخرج إليك شيخ، فقل له: إنّي رأيت بمصر رجلا يقرئك السّلام و يقول: إنّ وديعتك عند اللّه محفوظة لن تضيع. فلمّا بلغه الأعرابي خرّ يعقوب مغشيا عليه، فلمّا أفاق قال: هل لك [من] حاجة؟ قال: لي ابنة عمّ-و هي زوجتي-لم تلد، فدعا له فرزق منها أربعة أبطن في كلّ بطن اثنين (8).

و في رواية: كان يعقوب يعلم أنّ يوسف حيّ لم يمت، و أنّ اللّه سيظهره له بعد غيبته، و كان يخبر بنيه، و كان أهله و أقرباؤه يفنّدونه على ذكر يوسف (9).

[سوره 12 (يوسف): آیه شماره 87]

و قيل: إنّه عليه السّلام لمّا علم أنّ بنيامين لا يسرق، و سمع أنّ الملك ما آذاه و ما أهانه، غلب على ظنّه أنّ الملك هو يوسف (10)، فرجع إلى أولاده باللّطف، و تكلّم معهم باللّين و الرحمة، و قال: يا بَنِيَّ اِذْهَبُوا إلى مصر فَتَحَسَّسُوا و فتّشوا بأسماءكم و أبصاركم بعضا مِنْ أخبار يُوسُفَ

يا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ (87)

ص: 433


1- . تفسير روح البيان 4:309.
2- . تفسير الرازي 18:198.
3- . الكافي 2:489/4، تفسير الصافي 3:39.
4- . في تفسير أبي السعود و تفسير الصافي: ملك الموت.
5- . تفسير أبي السعود 4:302، تفسير روح البيان 4:309.
6- . تفسير روح البيان 4:309.
7- . تفسير الرازي 18:198، تفسير روح البيان 4:309.
8- . الخرائج و الجرائح 2:931، تفسير الصافي 3:39.
9- . إكمال الدين:142/9، تفسير الصافي 3:39.
10- . تفسير الرازي 18:198.

وَ أَخِيهِ بنيامين، و إنّما لم يذكر الثالث لكون إقامته بمصر اختيارية.

ثمّ رغّبهم في التفتيش بقوله: وَ لا تَيْأَسُوا و لا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اَللّهِ و رحمته و تفريجه و تنفيسه.

عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل أنّ يعقوب حين قال لولده: اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ أكان يعلم أنّه حيّ و قد فارقه منذ عشرين سنة، و ذهبت عيناه من الحزن؟ قال: «نعم إنّه كان يعلم [أنه]حيّ» .

قيل: و كيف علم؟ قال: «إنّه دعا في السّحر أن يهبط عليه ملك الموت، فهبط عليه تريال (1)-و هو ملك الموت-فقال له تريال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقّة؟ قال: بل متفرّقة روحا. قال: فمرّ بك روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنّه حيّ، فقال لولده: اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ» (2).

ثمّ هدّدهم على اليأس بقوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ لجهلهم بسعة رحمته و كمال لطفه و بعباده، و أمّا المؤمنون فلمعرفتهم بكمال صفاته يرجونه في جميع الأحوال، و إن كانت معاصيهم أكثر من الرمل و الحصا و عدد نجوم السماء، و ما يرى و ما لا يرى، فامتثل أولاد يعقوب أمره، و أرادوا الرجوع إلى مصر.

قيل: كتب يعقوب إلى يوسف:

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من يعقوب إسرائيل اللّه ابن اسحاق [ذبيح اللّه]ابن إبراهيم خليل اللّه، إلى عزيز مصر.

أمّا بعد، فانّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أمّا جدّي إبراهيم فانّه ابتلي بنار نمرود فصبر، فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما [و أمّا أبي إسحاق فابتلي بالذبح فصبر، ففداه اللّه بذبح عظيم]، و أمّا أنا فابتلاني اللّه بفقد ولدي يوسف، فبكيت عليه حتى ذهب بصري و نحل جسمي، و قد كنت أتسلّى بهذا الغلام الذي أمسكته عندك و زعمت أنّه سارق، و إنّا أهل بيت لا نسرق، و لا نلد سارقا فان رددته عليّ و إلاّ دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك. و السّلام (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ يعقوب كتب إلى يوسف.

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ص: 434


1- . في تفسير العياشي: تربال، و كذا التي بعدها.
2- . تفسير القمي 1:350، تفسير العياشي 2:360/2137، الكافي 8:199/238، علل الشرائع:52/1، تفسير الصافي 3:39.
3- . تفسير أبي السعود 4:303، تفسير روح البيان 4:310.

إلى عزيز مصر، و مظهر العدل، و موفي الكيل.

عن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صاحب نمرود، الذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما و انجاه منها.

اخبرك-أيها العزيز-أنّا أهل بيت لم يزل البلاء [إلينا]سريعا من اللّه ليبلونا عند السرّاء و الضرّاء، و إن المصائب تتابعت على منذ عشرين سنة، أوّلها أنّه كان لي ابن سمّيته يوسف، و كان سروري من بين ولدي و قرّة عيني و ثمرة فؤادي و [أن]إخوته من غير امّه سألوني أن أبعثه معهم [يرتع و يلعب، فبعثته معهم]بكرة فجاؤني عشاء يبكون، و جاءوا على قميصه بدم كذب، و زعموا أنّ الذئب أكله، فاشتدّ لفقده حزني و كثر على فراقه بكائي حتّى ابيضت عيناي من الحزن، و إنّه كان له أخ، و كنت به معجبا، و كان لي أنيسا، و كنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري فسكن بعض ما أجد في صدري، و إنّ إخوته ذكروا أنك سألتهم عنه، و أمرتهم أن يأتوك به، فان لم يأتوك به منعتهم الميرة، فبعثته معهم ليمتاروا لنا قمحا، فرجعوا إليّ و ليس هو معهم، و ذكروا أنّه سرق مكيال الملك، و نحن أهل بيت لا نسرق، و قد حبسته عنّي، و فجعتني به، و قد اشتدّ لفراقه حزني حتّى تقوّس لذلك ظهري، و عظمت به مصيبتي مع مصائب تتابعت عليّ، فمنّ عليّ بتخلية سبيله و إطلاقه من حبسك، و طيّب لنا القمح، و اسمح لنا في السعر، و أوف لنا الكيل، و عجّل سراح آل إبراهيم (1).

ثمّ أعطى الكتاب ولده، و أعطاهم بضاعة من صوف و سمن (2). و قيل: من الصنوبر و الحبة الخضراء (3). و قيل: من سويق المقل و الأقط (2). و قيل: الدراهم الزيوف (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «كانت المقل، و كانت بلادهم بلاد المقل» (4).

فجاءوا إلى مصر، فلمّا وردوها رأوا أخاهم الذي تخلّف عنهم بمصر، فذهبوا معه إلى يوسف (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 88

فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أعطوه كتاب يعقوب و خضعوا له و قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ و الملك القادر

فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اَللّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ (88)

ص: 435


1- . مجمع البيان 5:399، تفسير الصافي 3:41. (2 و 3) . تفسير البيضاوي 1:494، تفسير أبي السعود 4:303.
2- . تفسير البيضاوي 1:494، تفسير أبي السعود 4:303، الأقط: لبن محمض يجمد حتى يستحجر و يطبخ.
3- . تفسير البيضاوي 1:494.
4- . تفسير العياشي 2:363/2140، تفسير الصافي 3:40.
5- . تفسير روح البيان 4:310.

القاهر مَسَّنا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ و أصابتنا الشدّة من الجوع و الضعف و الهزال وَ جِئْنا إليك بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ و عوض غير قابل للقبول لغاية قلّته و حقارته و فَأَوْفِ و أكمل مع ذلك بكرمك لَنَا اَلْكَيْلَ من الطعام كما توفيه لغيرها بالأمتعة المرغوبة و الدراهم الجياد وَ تَصَدَّقْ و منّ عَلَيْنا بقبول ما عندنا من العوض القليل و المتاع الحقير باعطاء (1)الطعام الكثير، أو باطلاق أخينا بنيامين-عن الصادق عليه السّلام: «و تصدق علينا بأخينا بنيامين» (2)-و هذا كتاب يعقوب أرسله إليك في أمره يسألك تخلية سبيله، فمنّ به علينا إِنَّ اَللّهَ يَجْزِي أحسن الجزاء، و يثيب بفضله أعلى الثواب اَلْمُتَصَدِّقِينَ على المحتاجين، و المتفضّلين على السائلين.

قيل: إنّهم لم يقولوا: إنّ اللّه يجزيك لأنّهم لم يعلموا بأنّه مؤمن (3).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 89

ثمّ روي أنّه لمّا سمع من إخوته عرض الحاجة الشديدة، و إظهار غاية المسكنة، و تضرّعهم إليه و إلحاحهم لديه، اغرورقت عيناه، و سال دمعه، و لما قرأ كتاب أبيه ارتعدت فرائصه، و اقشعر جلده، و كثر بكائه، و عيل صبره، و لم يتمالك حتّى عرّفهم نفسه (4)و قالَ لهم تصديقا لما أوحى اللّه إليه حين ألقوه في الجبّ من قوله: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا (5)هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ من القبائح و الشنائع بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ بنيامين و هل تنبّهتم بسوء ما أقدمتم عليه في حقّها حين كانا مقهورين تحت أيديكم من ضربكم يوسف و إلقائه في الجبّ، و إيذائكم أخيه، و نسبتكم إياه إلى السرقة، و شتمكم له إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ بشدّة قبحه لغروركم، أو بما يئول إليه أمر يوسف، و إنّما كان كلامه هذا شفقة عليهم و نصحا لهم في الدين، و حثّا لهم على التوبة، لا معاتبة و تثريبا عليهم، إيثارا لحقّ اللّه تعالى على حقّ نفسه.

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 90 الی 91

ص: 436


1- . في النسخة: و اعطاء.
2- . مجمع البيان 5:399، نسبه إلى القيل، تفسير الصافي 3:40.
3- . تفسير روح البيان 4:311.
4- . تفسير الرازي 18:203.
5- . يوسف:12/15.

ثمّ قيل: إنه عليه السّلام رفع النّقاب عن وجهه، و ألقى التاج من رأسه، فنظر إخوته إلى وجهه (1)، و قالُوا تقريرا له و استعجابا من مقامه: أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ أخونا يُوسُفُ قالَ نعم أَنَا أخوكم يُوسُفُ الذي ظلمتموني بأعظم ظلم.

ثم بالغ في تعريف نفسه و تفخيم بنيامين بقوله: وَ هذا الجالس عندي أَخِي من أبي و امّي قَدْ مَنَّ اَللّهُ و أنعم عَلَيْنا بالسلامة، و العزّة بعد الذلّة، و الاجتماع بعد الفرقة.

عن ابن عباس: أي بكلّ عزّ في الدنيا و الآخرة (2).

ثمّ ذكر علّة منّة اللّه على نفسه و أخيه بقوله: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللّه، و يخافه في معاصيه و يحفظ نفسه من ارتكاب ما يسخطه وَ يَصْبِرْ على الطاعة، و يتحمل أذى الناس يؤجر أجرا عظيما فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ و لا يبطل أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ و هم المتقون الصابرون.

ثمّ أن الإخوة خضعوا له و قالُوا اعتذارا من تفريطهم في حقّه، و تواضعا له: تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللّهُ و فضلّك عَلَيْنا بالعلم و الحلم و العقل و الفضل و حسن الخلق و الخلق و السعادة في الدارين وَ إِنْ كُنّا في الإساءة إليك لَخاطِئِينَ و متعمّدين بالذنب، و فيه إشعار بالتوبة و الاستغفار.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 92

و عن الباقر عليه السّلام: «قالوا فلا تفضحنا و لا تعاقبنا اليوم و اغفر لنا» (3). قالَ يوسف لهم كرما و صفحا: يا إخوتي لا تَثْرِيبَ و لا تقصير و لا توبيخ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ فيما فعلتم بي فضلا عن العتاب و العقوبة.

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (92)و قيل: اليوم متعلّق بما بعد (4)فالآية اليوم يَغْفِرُ اَللّهُ لَكُمْ و يستر ذنوبكم وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذ بعضادتي (5)باب الكعبة يوم الفتح فقال لقريش: «ما تروني فاعلا بكم؟» قالوا: نظنّ خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم و قد قدرت. فقال: «أقول ما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ» (6).

روي أنّه لمّا قرأ الكتاب-كتاب أبيه-بكى و كتب في جوابه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ص: 437


1- . تفسير روح البيان 4:312.
2- . تفسير الرازي 18:204.
3- . تفسير العياشي 2:363/2138، تفسير الصافي 3:41.
4- . تفسير الرازي 18:206.
5- . عضادتا الباب: خشبتان تكونان على جانبيه مثبتتان في الحائط.
6- . تفسير الرازي 18:206، تفسير روح البيان 4:313.

إلى يعقوب إسرائيل اللّه من ملك مصر.

أمّا بعد، أيّها الشيخ، فقد بلغني كتابك و قرأته و أحطت به علما و ذكرت فيه آباءك الصالحين، و ذكرت أنهم أصحاب البلايا، فانّهم ابتلوا و صبروا و ظفروا، فاصبر كما صبروا، و السّلام.

فلمّا قرأ يعقوب الكتاب قال: و اللّه ما هذا كتاب الملوك، و لكنّه كتاب الأنبياء، و لعلّ صاحب الكتاب هو يوسف (1).

روي أنّ إخوة يوسف لمّا عرفوه أرسلوا إليه: أنّك تدعونا إلى طعامك بكرة و عشيا، و نحن نستحي منك بتفريطنا فيك. فقال يوسف: إنّ أهل مصر-و إن ملكت فيهم-كانوا ينظرون إليّ بالعين الاولى، و يقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، و لقد شرفت بكم الآن، و عظمت في العيون، حيث علم الناس أنّكم إخوتي، و أنّي من حفدة إبراهيم (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 93

ثمّ قيل: إنه عليه السّلام سأل إخوته عن أبيه، فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه. فأعطاهم قميصه الذي علّق عليه يعقوب كالتّميمة (3)حين خروجه مع إخوته، و قال لهم: يا إخوتي اِذْهَبُوا (4)معكم بِقَمِيصِي هذا إلى كنعان فَأَلْقُوهُ و اطرحوه عَلى وَجْهِ أَبِي فان فعلتم ذلك يردّ اللّه إليه عينه يَأْتِ إلى حال كونه بَصِيراً و قيل: بصيرا، يعني يصير بصيرا (5).

اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أمّا قوله: اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فانّ نمرود الجبّار لمّا ألقى إبراهيم في النار، أنزل اللّه جبرئيل بقميص من الجنّة، و طنفسة (6)من الجنّة، فألبسه القميص، و أقعده على الطّنفسة، و قعد معه يحدّثه، فكسا إبراهيم ذلك القميص إسحاق، و كساه إسحاق يعقوب، و كساه يعقوب يوسف، فجعله في قصبة من فضة و علّقها عليه مخافة من إخوته، فألقي في الجبّ و القميص في عنقه، و كان فيه ريح الجنّة، و لا يقع على مبتلى أو سقيم إلاّ صحّ و عوفي (7).

ثمّ هيّأ يوسف أسباب مسافرة أبيه و جميع أقاربه من كنعان إلى مصر و مؤنتهم، فأعطاها إخوته، قال لهم: اذهبوا إلى كنعان وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ و أقاربكم و من اتصل بكم من النساء و الذراري و العبيد

ص: 438


1- . تفسير روح البيان 4:312.
2- . تفسير الرازي 18:206، تفسير روح البيان 4:313.
3- . التّميمة: ما يعلق في العنق لدفع العين.
4- . تفسير روح البيان 4:314.
5- . تفسير الرازي 18:206.
6- . الطّنفسة: البساط، و النمرقة التي فوق الرحل.
7- . تفسير روح البيان 4:314.

و الاماء أَجْمَعِينَ لا يشذّ منهم أحد.

روى أن يهودا حمل القميص و قال: أنا أحزنت أبي بحمل القميص الملطّخ بالدم إليه، فافرحه كما أحزنته، فحمله و هو حاف حاسر من مصر إلى كنعان و معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتاه، و كانت المسافة ثمانين فرسخا (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 94

وَ لَمّا فَصَلَتِ و جاورت اَلْعِيرُ و قافلة الإخوان من حيطان بلد مصر و عمرانه، هاجت الريح، فحملت ريح القميص من مسافة ثمانين فرسخا.

وَ لَمّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)قيل: إنّ ريح الصّبا استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها، فأتته بها، و لذا يستروح كلّ محزون بريح الصّبا، و يشمّها المكروب فيجد بها روحا، فلمّا اتصلت بيعقوب وجد ريح الجنّة، فعلم أنّه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلاّ ما كان من ذلك القميص (2)، فلذا قالَ أَبُوهُمْ لمن حوله من الأهل و الأرقاب: إِنِّي و اللّه لَأَجِدُ و أشمّ رِيحَ قميص يُوسُفَ ابني لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ و تنسبوني إلى السّفه أو الخطأ في الحواسّ بسبب الهرم، أو إلى الكذب في القول لصدّقتموني.

عن الصادق عليه السّلام: «وجد يعقوب ريح قميص إبراهيم حين فصلت العير من مصر و هو بفلسطين» (3).

و عن العياشي مرفوعا: «أنّ يعقوب وجد ريح قميص يوسف من مسيرة عشر ليالي، و كان يعقوب ببيت المقدس، و يوسف بمصر، و هو القميص الذي نزل على إبراهيم من الجنة» الخبر (4).

و عنه عليه السّلام: «كان قميص إبراهيم الذي نزل (5)على إبراهيم من الجنّة في قصبة من فضّة (6)، و كان إذا لبس كان واسعا كبيرا، فلمّا فصلوا و يعقوب بالرّملة و يوسف بمصر، قال يعقوب: إنّي لأجد ريح يوسف، يعني ريح الجنة» (7)الخبر.

قيل: لمّا انقضت أيام المحنة، أوصل اللّه إليه ريح يوسف من المكان البعيد، و منع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الاخرى في مدّة ثمانين سنة، و ذلك دليل على أنّ كلّ سهل في زمان المحنة صعب، و كلّ صعب في زمان الاقبال سهل (8).

ص: 439


1- . تفسير روح البيان 4:315.
2- . تفسير روح البيان 4:316.
3- . مجمع البيان 5:402.
4- . تفسير العياشي 2:365/2146، تفسير الصافي 3:46.
5- . في المصدر: كان القميص الذي انزل به.
6- . زاد في المصدر: أو حديد.
7- . تفسير العياشي 2:365/2145.
8- . تفسير الرازي 18:208.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 95 الی 96

فلمّا سمع الحاضرون عنده هذا الكلام منه مع اعتقادهم موت يوسف قالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ يا يعقوب لَفِي ضَلالِكَ اَلْقَدِيمِ و انحرافك عن الصواب الذي كنت عليه من زمان فقد يوسف باعتقادك حياته، و إفراطك في حبّه و ذكره فَلَمّا أَنْ جاءَ يهودا الذي هو اَلْبَشِيرُ ليعقوب بحياة يوسف و سلطنته، كما عن الصادق عليه السّلام (1)، و أتى بالقميص أَلْقاهُ و طرحه عَلى وَجْهِهِ.

قالُوا تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ اَلْقَدِيمِ (95) فَلَمّا أَنْ جاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96)و قيل: إنّ يعقوب أخذ القميص من يهودا و ألقاه على وجهه فَارْتَدَّ و رجع إلى ما كان عليه من كونه بَصِيراً بقدرة اللّه و فضله (2).

قيل: لمّا عظم فرحه و زالت أحزانه، عادت قوة بصره، و قالَ لولده و أهله: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ (3)حين لمتموني على ذكر يوسف إِنِّي أَعْلَمُ بالهام مِنَ قبل اَللّهِ و تفضّله ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف و فرحي بلقائه.

عن الصادق عليه السّلام: «كتب عزيز مصر إلى يعقوب: أمّا بعد، فهذا ابنك [يوسف]اشتريته بثمن بخس دراهم معدودة و اتّخذته عبدا، و هذا ابنك بنيامين قد سرق فاتّخذته عبدا» .

قال: «فما ورد على يعقوب شيء أشدّ عليه من ذلك الكتاب، فقال للرسول: مكانك حتى اجيبه، فكتب إليه يعقوب: أمّا بعد، فقد فهمت كتابك بأنك اتّخذت ابني بثمن بخس، و اتّخذته عبدا، و أنّك اتّخذت ابني بنيامين و قد سرق، و اتّخذته عبدا، فانّا أهل بيت لا نسرق، و لكنّا [أهل بيت]نبتلى، و قد ابتلي أبونا إبراهيم بالنار فوقّاه اللّه، و ابتلي أبونا إسحاق بالذبح فوقّاه اللّه، و إنّي قد ابتليت بذّهاب بصري و ذهاب ابنيّ، و عسى اللّه أن يأتيني بهم جميعا» .

قال: «فلمّا ولّى الرسول عنه رفع يديه إلى السماء، ثمّ قال: يا حسن الصّحبة، يا كريم المعونة يا خيرا كلّه، ائتني بروح (2)و فرج من عندك، فما انفجر عمود الصّبح حتّى اتي بالقميص و طرح على وجهه، فردّ اللّه عليه بصره، و ردّ عليه ولده (3).

روي أنّ يوسف وجّه إلى أبيه جهازا كثيرا و مأتي راحلة، و سأله أن يأتيه بأهله أجمعين، فتهيّأ [يعقوب]للخروج إلى مصر (4).

ص: 440


1- . إكمال الدين:142/9، تفسير الصافي 3:43. (2 و 3) . تفسير الرازي 18:209.
2- . زاد في تفسير الصافي: منك.
3- . تفسير العياشي 2:366/2151، تفسير الصافي 3:44.
4- . تفسير روح البيان 4:319.

و عن الباقر عليه السّلام-في رواية- «و ردّهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، و جهّزهم بجميع ما يحتاجون إليه، فلمّا فصلت عيرهم من مصر، وجد يعقوب ريح يوسف، فقال لمن بحضرته من ولده: إنّي لأجد ريح يوسف لو لا أن تفنّدون. قال: و أقبل ولده يحثّون السير بالقميص فرحا و سرورا [بما رأوا]من حياة (1)يوسف و الملك الذي أعطاه اللّه (2)، فكان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام [فلمّا أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه، فارتدّ بصيرا]و قال لهم: ما فعل بنيامين؟ قالوا: أخلفناه عند أخيه صالحا، فحمد اللّه يعقوب و سجد لربّه شكرا، و رجع إليه بصره، و تقوّم ظهره، و قال لولده: تحوّلوا إلى مصر (3)بأجمعكم في يومكم هذا (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 97 الی 98

قالُوا يا أَبانَا اِسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا بما فعلنا بك و بيوسف و بنيامين خاطِئِينَ و متعمدين بالذنب و لو لا استغفارك لنا لكنّا هالكين قالَ أبوهم: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي البتّة فيغفر لكم إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ للذنوب اَلرَّحِيمُ بالتائبين.

قالُوا يا أَبانَا اِسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (98)عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خير وقت دعوتم اللّه عزّ و جل فيه الأسحار» و تلا هذه الآية في قول يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. و قال: «أخّرهم إلى السّحر» (5).

و في رواية عنه عليه السّلام: «أخّره إلى السحر ليلة الجمعة» (6).

و عنه عليه السّلام أيضا: «أخّرهم إلى السحر، و قال: يا ربّ إنما ذنبهم فيما بيني و بينهم. فأوحى اللّه [إنّي] قد غفرت لهم» (7).

و عنه عليه السّلام أنّه سئل [عن يعقوب أنه]لمّا قال له بنوه: يا أَبانَا اِسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فأخّر الاستغفار لهم، و يوسف لمّا قالوا [له]: تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ* قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ (8)؟

قال: «لأنّ قلب الشاب أرقّ من قلب الشيخ، و كانت جناية ولد يعقوب على يوسف، و جنايتهم

ص: 441


1- . في تفسير العياشي: من حال.
2- . زاد في تفسير العياشي: و العزّ الذي صاروا إليه في سلطان يوسف.
3- . في تفسير العياشي: تحملوا إلى يوسف.
4- . تفسير العياشي 2:368/2152، تفسير الصافي 3:45.
5- . الكافي 2:346/6، تفسير الصافي 3:46.
6- . تفسير العياشي 2:369/2154، مجمع البيان 5:403، تفسير الصافي 3:46.
7- . تفسير العياشي 2:368/2153، تفسير الصافي 3:46.
8- . يوسف:12/91 و 92.

على يعقوب [إنّما]كانت بجنايتهم على يوسف، فبادر يوسف إلى العفو [عن حقّه]، و أخّر يعقوب العفو لأنّ عفوه [إنّما]كان عن حقّ غيره، فأخّرهم إلى السحر ليلة الجمعة» (1).

و عن الشّعبي، قال: «قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي قال: أسأل يوسف، فان عفا عنكم استغفر لكم، فأخّر الاستغفار إلى وقت الاجتماع بيوسف» (2).

ثمّ أنّهم خرجوا من كنعان متوجّهين إلى مصر، فلمّا دنوا منه أخبر بذلك يوسف، فاستقبلهم مع الملك الأكبر ريّان في أربعة آلاف من الجند، و قيل: في ثلاثمائة ألف فارس و العظماء و أهل مصر، و مع كلّ فارس جنّة من فضة و راية من ذهب، فتزينت الصحراء بهم، و اصطفوا صفوفا، و كان الكلّ غلمان يوسف و مراكبه، و صعد يعقوب و أولاده تلاّ نظروا إلى الصحراء مملوءة من الفرسان، مزينة بالألوان، فتعجّب من ذلك فقال له جبرئيل: انظروا إلى الهواء، فانّ الملائكة قد حضرت سرورا بحالكم، كما كانوا محزونين مدّة لأجلك، ثمّ نظر يعقوب إلى الفرسان فقال: إنّ فيهم ولدي يوسف: فقال جبرئيل: هو ذاك فوق رأسه الظّلّة، فلم يتمالك أن دفع نفسه عن البعير، فجعل يمشي متوكّأ على يهودا، فقال جبرئيل: يا يوسف، إنّ أباك يعقوب قد نزل لك فانزل له منزلا، فنزل من فرسه، و جعل كل واحد منهما يعدو إلى الآخر، فلمّا تقرّبا قصد يوسف أن يبدأ بالسلام، فقال جبرئيل: لا، حتى يبدأ يعقوب به لأنّه أفضل و أحقّ. فابتدأ يعقوب بالسلام، و قال: السّلام عليك يا مذهب الأحزان، فتعانقا و بكيا سرورا، و بكت ملائكة السماء، و ماج الفرسان بعضهم في بعض و صهلت الخيول و سبّحت الملائكة (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ يوسف لمّا قدم على (4)الشيخ يعقوب دخله عزّ الملك فلم ينزل إليه، فهبط عليه جبرئيل، فقال: يا يوسف، ابسط راحتك، فخرج منها نور ساطع، فصار في جوّ السماء» فقال يوسف: يا جبرئيل، ما هذا النور الذي خرج من راحتي فقال: نزعت النبوة من عقبك عقوبة لمّا لم تنزل إلى الشيخ يعقوب، فلا يكون في عقبك نبي» (5).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 99

فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اَللّهُ آمِنِينَ (99)

ص: 442


1- . علل الشرائع:54/1، تفسير الصافي 3:46.
2- . تفسير روح البيان 4:318.
3- . تفسير روح البيان 4:319.
4- . في الكافي و تفسير الصافي: عليه.
5- . الكافي 2:235/15، تفسير الصافي 3:47.

ثمّ قيل: إنّه هيأ بيتا في خارج مصر أو مضربة هناك قعد يوسف فيه (1)و قيل: كان له في خارج مصر قصر رفيع، فلمّا استقبل أبويه أنزلهم هناك أولا فَلَمّا جاء يعقوب و زوجته اسمها أليا أو ياميل، و كانت خالته و مربيته بعد امّه راحيل، و لعلّه كان يقول لها امّ و سائر إخوته دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ في القصر أو البيت أو المضربة آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ يعقوب و راحيل، أو خالته التي كانت بمنزلة امّه، و عانقهما ثمّ قام وَ قالَ لأبويه و إخوته و أقاربه (2): اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اَللّهُ حال كونكم آمِنِينَ من الجوع و إساءة الجبابرة إليكم و سائر المكارة.

قيل: إنّهم كانوا من قبل يخافون ملك مصر و جبابرته، و لا يدخلونها إلا باجازتهم، و كانوا اثنين و سبعين رجلا و امرأة، فدخلوا جميعا مصر (3). و [عن]القمي: لمّا وافى يعقوب و أهله و ولده مصر قعد يوسف على سريره، و وضع تاج الملك على رأسه، فأراد أن يراه أبوه على تلك الحالة، فلمّا دخل عليه أبواه لم يقم لهما (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 100

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ و أجلسهما على السرير المختصّ به إكراما لهما، بعد أن تواضع له أبواه و إخوته وَ خَرُّوا لَهُ على الأرض حال كونهم سُجَّداً له تحية و مكرمة.

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ (100)قيل: إنّ السجود كان في ذلك الزمان بمنزلة المصافحة و تقبيل اليد في هذا الزمان (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان سجودهم ذلك عبادة للّه» (6).

قيل: يعني لأجل وجدانه و لقائه سجدوا شكرا للّه، و جعلوا يوسف كالقبلة. و قيل: إنّه لم يسجد له أبواه بل إنّما سجد له إخوته (7)، و المراد في تعبير الرؤيا من سجود الأبوين تعظيمهما له.

و قيل: إنّما سجد يعقوب لأجل أن لا يستنكف من السجود له أنفة و استعلاء عليه. و قيل: إن اللّه أمر يعقوب بالسجود له لحكمة لا يعلمها غيره، كما أمر الملائكة بالسجود لآدم (8).

ص: 443


1- . تفسير روح البيان 4:320.
2- . تفسير روح البيان 4:320.
3- . تفسير روح البيان 4:320.
4- . تفسير القمي 1:356، تفسير الصافي 3:48.
5- . تفسير روح البيان 4:320.
6- . تفسير العياشي 2:370/2158، تفسير الصافي 3:48.
7- . تفسير الرازي 18:212.
8- . تفسير الرازي 18:213.

عن ابن عباس: أنّ يوسف لمّا رأى سجود أبويه و إخوته له، هاله ذلك، و اقشعرّ جلده منه وَ قالَ ليعقوب: يا أَبَتِ هذا السجود تَأْوِيلُ رُءْيايَ التي رأيتها مِنْ قَبْلُ و في زمن الصبى قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا و صدقا و مطابقة لما وقع الآن بعد أربعين سنة، أو ثمانين، أو عشرين.

و عن الباقر عليه السّلام: «لما دخلوا على يوسف في دار الملك، اعتنق أباه و بكى، [و رفعه]و رفع خالته على سرير الملك، و دخل منزله فادّهن و اكتحل، و لبس ثياب العزّ و الملك، ثمّ خرج إليهم، فلمّا رأوه سجدوا [جميعا]له إعظاما و شكرا للّه، فعند ذلك قال: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» (1).

وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي ربي صنيعه إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ و إنّما لم يذكر خروجه من الجبّ لأن لا يستحي إخوته، و لا يكون تثريبا عليهم، و لا يتألم قلب أبيه بتذكّر إلقائه في الجبّ، و لأنّه كان الإحسان بإخراجه من السجن أتمّ، لانّه كان في الجبّ مع جبرئيل، و في السجن مع الكفّار، و إنّه بعد الخروج من الجب صار عبدا، و بعد الخروج من السجن صار ملكا.

ثمّ ذكر الإحسان الثاني بقوله: وَ جاءَ بِكُمْ إليّ مِنَ اَلْبَدْوِ و الصحراء.

و قيل: إنّ البدو كان اسم موضع معمور من فلسطين قريبا من كنعان يسكنه يعقوب (2)، و كان ذلك الاحسان مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ و أفسد اَلشَّيْطانُ بتسويلاته بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي و في هذا التعبير مبالغة في الاحسان إلى إخوته حيث نسب ما فعله الإخوة به إلى الشيطان، و عبّر عنه بالنّزغ.

ثمّ اثنى على اللّه بقوله: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ و ذو إحسان خفيّ بعباده و مسبّب الأسباب لِما يَشاءُ وجوده بسهولة، و إن كان عند العقول في غاية البعد و الصعوبة.

ثمّ ذكر علّة لطف تدابيره بقوله: إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ بجميع الخصوصيات و خفايا الممكنات اَلْحَكِيمُ و متقن في أفعاله، آت بما هو الصواب و الصلاح لعباده.

عن الغزالي: لا يستحقّ اسم اللطيف إلاّ من يعلم دقائق المصالح و غوامضها، و ما دقّ منها و لطف، ثمّ يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف، و لا يتصوّر كمال ذلك في العلم و العقل إلاّ اللّه تعالى (3).

عن الهادي عليه السّلام: «قال يعقوب لابنه: أخبرني بما فعل إخوتك بك حين أخرجوك من عندي. قال: يا أبه، أعفني من ذلك. قال: فأخبرني ببعضه. قال: إنّهم لمّا أدنوني من الجبّ قالوا: انزع القميص.

ص: 444


1- . تفسير العياشي 2:369/2156، تفسير الصافي 3:48.
2- . تفسير روح البيان 4:322.
3- . تفسير روح البيان 4:323.

فقلت: يا إخوتي، اتّقوا اللّه و لا تجرّدوني، فسلّوا عليّ السكّين و قالوا: لئن لم تنزع لنذبحنّك، فنزعت القميص و ألقوني في الجبّ عريانا. قال: فشهق يعقوب شهقة و أغمي عليه، فلمّا أفاق قال: يا بنيّ حدّثني. قال: يا أبه أسألك بإله إبراهيم و إسحاق و يعقوب إلاّ أعفيتني، فأعفاه» (1).

و روي أنّ يوسف قال ليعقوب: [يا أبه]لا تسألني عن صنيع إخوتي، و اسألني عن صنيع اللّه بي (2).

روي أنّ يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله في خزائن الورق (3)و الذهب، و خزائن الحليّ، و خزائن الثياب، و خزائن السلاح و غير ذلك، فلمّا أدخله في خزائن القراطيس-و هو أول من عملها-قال يعقوب: يا بنيّ، ما أعقّك (4)! عندك هذه القراطيس و ما كتبت إليّ على ثماني مراحل؟ ! قال: أمرني جبرئيل. قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه منّي فاسأله. قال جبرئيل: اللّه أمرني بذلك لقولك: إني أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ قال: فهلا خفتني (5)؟

قيل: لمّا قدم يعقوب على يوسف و قد سأله أولاده أن يستغفر لهم قام في مصلاه إلى الصلاة في السحر ليلة الجمعة، و كانت ليلة عاشوراء، فلمّا فرغ رفع يديه و قال: اللهم اغفر جزعي على يوسف و قلّه صبري عنه و اغفر لولدي ما أتوا به أخاهم. و قام يوسف خلفه يؤمّن، و قام إخوته خلفهما خاشعين، فأوحى اللّه إليه: أنّ اللّه قد غفر لك و لهم أجمعين، ثمّ لم يزل يدعو لهم كلّ ليلة جمعة مائة و (6)نيف و عشرين سنة إلى أن حضرته الوفاة (7).

قيل: ولد ليوسف من راعيل الملقّبة بزليخا افرائيم و ميشا و حمة امرأة أيوب، و ولد لافرائيم نون، و لنون يوشع فتى موسى، فلمّا نزل يعقوب في قصر يوسف جاء أولاد يوسف فوقفوا بين يدي يعقوب، ففّرح بهم و قبّلهم، و حدّثه يوسف بحديثه مع زليخا، و ما كان بينه و بين زليخا (8)، و أخبره أنّ هؤلاء أولاده منها، فدعاها (9)يعقوب، فحضرت و قبّلت يده، و سالته زليخا أن ينزل عندها، فقال: لا أرضى بزينتكم هذه، و لكن اصنعوا لي عريشا من البردي و القصب مثل عريشي بأرض كنعان، فصنعوا له عريشا كما أراد و نزل فيه في أتمّ سرور (10).

و روي أن يعقوب أقام مع يوسف مائة و سبعا-أو أربعا-و عشرين سنة (11)، و أوصى أن يدفنه

ص: 445


1- . تفسير القمي 1:357، تفسير الصافي 3:49.
2- . مجمع البيان 5:407، تفسير الصافي 3:50.
3- . الورق: الفضّة.
4- . في تفسير الرازي: ما أغفلك.
5- . تفسير الرازي 18:216، تفسير روح البيان 4:323.
6- . في تفسير روح البيان: جمعة في.
7- . تفسير روح البيان 4:318.
8- . في تفسير روح البيان: كان منه و منها.
9- . في تفسير روح البيان: فاستدعاها.
10- . تفسير روح البيان 4:323.
11- . في تفسير الرازي 18:216: أقام معه أربعا و عشرين سنة.

بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فنقله يوسف بنفسه في تابوت من ساج فوافق يوم وفاة عيص فدفنا في قبر واحد، و كانا في بطن واحد، و كان عمرهما مائة و سبعا و أربعين سنة، ثمّ عاد إلى مصر، و عاش بعد أبيه ثلاثا و عشرين سنة، و كان عمره مائة و عشرين سنة (1).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «دخل يوسف في السجن و هو ابن اثنتي عشرة سنة، و مكث فيها ثماني عشر سنة، و بقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك مائة سنة و عشر سنين» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: أنّه سئل كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر؟ قال: «عاش حولين» .

قيل: فمن كان الحجة للّه في الأرض، أيعقوب أم يوسف؟ قال: «كان يعقوب [الحجة]، و كان الملك ليوسف، فلمّا مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام فدفن في بيت المقدس، فكان يوسف بعد يعقوب الحجة»

قلت: و كان [يوسف]رسولا نبيا؟ قال: «نعم، اما تسمع قول اللّه عز و جل: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ» (3).

أقول: لعلّ الرواية محمولة على أنّ يوسف لم يكن حجّة على جميع الناس، بل على غير يعقوب، و إنّما صار حجّة على الجميع بعد موت يعقوب لوضوح أنّه عليه السّلام كان يوحى إليه، و ينزل عليه جبرئيل، و يكلّمه و يؤنسه، و لا يكون ذلك إلاّ النبيّ و الرسول.

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا جمع اللّه شمله، و بلغ ملكه و أمره إلى الكمال، علم أنه أشرف إلى الزوال فسأل اللّه الموت (4).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 101

و قيل: إنّه رأى أبيه في المنام، فقال: يا يوسف، إنّي مشتاق إلى لقائك فأسرع إليّ إلى ثلاثة أيام. ثمّ انتبه من نومه و دعا إخوته، و أوصى بوصاياه، و ولي يهودا ملكه، و أوصى إليه في حقّ أولاده، ثمّ ناجى ربه و قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي (5)مقدارا و قليلا مِنَ اَلْمُلْكِ و السلطنة الدنيوية، و هو ملك مصر وَ عَلَّمْتَنِي بالالهام و الوحي شيئا مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ و تعبير الرؤى، أو قليلا من العلم

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ (101)

ص: 446


1- . تفسير روح البيان 4:324.
2- . مجمع البيان 5:407، تفسير الصافي 3:50.
3- . مجمع البيان 5:407، تفسير الصافي 3:50. (4 و 5) . تفسير روح البيان 4:324.

بحقائق الأشياء و الامور، يا فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خالقهما بقدرتك و حكمتك أَنْتَ مع كمال الصفات وَلِيِّي و الناظر في صلاحي و مدبّر اموري فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ إذن تَوَفَّنِي و اقبض روحي، و أخرجني من الدنيا حال كوني مُسْلِماً و موحّدا و مطيعا لأحكامك، مهذّب الأخلاق، كريم الصفات، كاملا من جميع الجهات وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ و الكمّلين في صفات العبودية، و الراقين في أعلى درجات المعرفة و الانسانية من آبائي العظام، و أوليائك الكرام، و اجعلني في زمرتهم و رفقائهم.

قيل: إنّ الصلاح مرتبة عظيمة جامعة لجميع المراتب الكمالية (1).

قيل: ما تمنّى الموت نبي غير يوسف (2).

و قيل: إنّه عليه السّلام ناجى ربّه بعد ملاقاة أبيه بتلك الكلمات تشكرا لنعم اللّه عليه (3).

و في رواية عن الهادي عليه السّلام: «فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا للّه لاجتماع شملهم، أ لم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ» الآية (1).

قيل: إنّ يوسف ذكر رؤياه الناعية لزليخا، و دعا بالدعاء، فعلمت أنّ اللّه يقبل دعاءه، و أن الأمر يصير إلى الفرقة، دعت اللّه أن يعجّل وفاتها قبل وفاة يوسف (2).

و قيل: ماتت زليخا قبل وفاة يوسف مدة مديدة، فحزن عليها، و لم يتزوج، و لمّا قربت وفاة يوسف أوصى إلى ولده افرائيم أن يسوس الناس (3).

و قيل: إنّ يوسف خرج بأهله و ولده و جميع من آمن معه من مصر، و نزل عليه جبرئيل، فخرق له من النيل خليجا إلى الفيّوم (4)، و لحق به كثير من الناس، و بنوا هناك مدينتين، و سمّوهما الحرمين، و كان يوسف هناك سنين إلى أن مات، فتخاصم المصريون في مدفنه من جانبي النيل كلّ طائفة أرادوا أن يدفن يوسف في جانبهم تبرّكا بقبره الشريف، و جلبا للخصب حتّى همّوا بالقتال، ثمّ تصالحوا على أن يدفن سنة في جانب مصر، و سنة اخرى في جانب آخر من البدو، فدفن في الجانب المصري فأخصب ذلك الجانب و أجدب الجانب الآخر من البدو، ثمّ نقل إلى الجانب البدوي فأخصب ذلك الجانب و أجدب الجانب الآخر المصري، ثمّ اتفقوا على دفنه في وسط النيل، و قدّروا ذلك بسلسلة، و عملوا له صندوقا من مرمر (5).

ص: 447


1- . تفسير القمي 1:356، تفسير الصافي 3:49.
2- . تفسير روح البيان 4:326.
3- . تفسير روح البيان 4:327.
4- . الفيّوم: موضع في مصر، بينها و بين الفسطاط أربعة أيام.
5- . تفسير روح البيان 4:327.

قيل: إنّ اللّه تعالى حين أمر موسى بالسير ببني إسرائيل، أمره أن يحمل عظام يوسف معه حتى يضعها في الأرض المقدّسة (1).

قيل: إنّه عليه السّلام لمّا أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك، و كان نقل موسى عظامه للوفاء بما أوصى به فسأل موسى عمن يعرف موضع قبره، فما وجد أحدا يعرفه إلاّ عجوزا في بني إسرائيل، فقالت له: يا نبي اللّه، أنا أعرف مكانه و أدلّك عليه إن أنت تخرجني معك و لم تخلّفني بأرض مصر. قال: أفعل ذلك.

و قيل: إنّها قالت: أكون معك في الجنّة، فكأنّه ثقل عليه ذلك فقيل له: أعطها طلبتها فأعطاها، و قد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر، فدعا ربّه أن يؤخّر طلوع القمر حتى يفرغ من أمر يوسف ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل-و قيل: في مستنقع ماء في ناحية [من]النيل، فقالت لهم: أنضبوا و ارفعوا عنها الماء ففعلوا، فقالت: احفروا فحفروا [و أخرجوه].

و قيل: ذهبت بموسى إلى عمود في شاطىء النيل في أصله سكّة من حديد فيها سلسلة مربوطة بصندوق من حديد في وسط النيل، فاستخرجه موسى و فتح الصندوق، فوجد صندوقا من مرمر داخلا في ذلك الصندوق الذي من الحديد فأخرجه (2).

و قيل: إنّه جاء موسى شيخ له ثلاثماثة سنة، فقال له: يا نبي اللّه، ما يعرف قبر يوسف إلاّ والدتي. فقال له موسى: قم معي إلى والدتك، فقام الرجل و دخل منزله، و أتى بقفّة فيها والدته، فقال لها موسى: ألك علم بقبر يوسف؟ قالت: نعم، و لا أدلّك على قبره، إلا إن دعوت اللّه أن يردّ عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة، و يزيد في عمري مثل ما مضى، فدعا لها موسى و قال لها: كم عمرك؟ قالت: تسعة مائة سنة، فعاشت ألفا و ثمانمائة سنة، فأدّته إلى (3)قبر يوسف، و كان في وسط النيل ليمرّ النيل عليه فيصل إلى جميع مصر، فيكونوا شركاء في بركته، فأخصب الجانبان، و كان بين دخول يوسف مصر إلى يوم خروج موسى أربعمائة سنة (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه أوحى إلى موسى بن عمران، أن أخرج عظام يوسف من مصر، فاستخرجه من شاطئ النيل، و كان في صندوق مرمر، فحمله إلى الشام، فلذلك يحمل أهل الكتاب

ص: 448


1- . تفسير روح البيان 4:327.
2- . في تفسير روح البيان: فاحتمله.
3- . في تفسير روح البيان: فأرته.
4- . تفسير روح البيان 4:328.

موتاهم إلى الشام، و هو يوسف بن يعقوب، و ما ذكر اللّه يوسف في القرآن غيره» (1).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 102 الی 103

ثمّ لمّا كان الأخبار المغيبات من أعظم المعجزات، استدلّ سبحانه بأخبار النبيّ الامي الذي لم يجالس عالما و لم يقرأ كتابا على صدق نبوته بقوله: ذلِكَ المذكور من قصة يوسف مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ و الأخبار التي لا يطّلع مثلك يا محمد عليها بالأسباب العادية، بل نحن نُوحِيهِ إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل، لأنّها منحصرة في السماع من المطّلعين، و مطالعة الكتب، و هما منتفيان في حقّك بتسليم المخالف و الموالف، و في الحضور عند وقوع القضية، و هذا أيضا منتف بالضرورة لوضوح أنّك ما كنت في ذلك الزمان في العالم وَ ما كُنْتَ عند إخوة يوسف، و حاضرا لَدَيْهِمْ لا سيما إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ و حين عزموا على ما رأوا من إلقاء يوسف في الجبّ، أو حين اتّفقوا عليه مع كونهم في غاية التستّر فيه وَ هُمْ يَمْكُرُونَ به بترغيبه في الخروج معهم إلى التفرّج، و بأبيه بترضيته خاطره في إرساله معهم، فمع انتفاء الحضور عندهم، و عدم كونك قارئا للكتب، و متعلما من العلماء، ثبت كونك عالما بها بالايحاء إليك من اللّه، و نبيا صادقا في دعوى نبوتك، و مع ذلك وَ ما أَكْثَرُ اَلنّاسِ من اليهود و النصارى و المشركين وَ لَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم، و بالغت في دعوتهم و إظهار المعجزات لهم بِمُؤْمِنِينَ بك لعنادهم و شدّة لجاجهم و إصرارهم على إنكار نبوتك.

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَ ما أَكْثَرُ اَلنّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)روي أنّ كفّار قريش و جماعة من اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن قصة يوسف على سبيل التعنّت، فلمّا أخبرهم على طبق التوراة لم يسلموا، فحزن النبي صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت الآية تسلية له (2).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 104 الی 106

ثمّ لمّا كان من دواعي التكذيب توهّم طمع المال في المبلّغ، دفع اللّه هذا التوهم بقوله: وَ ما تَسْئَلُهُمْ يا محمد، عند تبليغ المعارف و الأحكام عَلَيْهِ شيئا مِنْ أَجْرٍ و مال يعطونك ما يسأله

وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106)

ص: 449


1- . من لا يحضره الفقيه 1:123/594، تفسير الصافي 3:51.
2- . تفسير روح البيان 4:328.

أهل الطمع على تعليماتهم إِنْ القرآن و ما هُوَ أو ما تبليغك إِلاّ ذِكْرٌ و عظة لِلْعالَمِينَ عامة، و بعثا لهم على سلوك سبيل النجاة، و إنّما هو لي و عليّ أجره لا على الناس، فلا مجال لتوهّم شوب غرضك في تبليغك بالدنيا.

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيه صلّى اللّه عليه و آله في إعراض الكفار عنه و عدم اعتنائهم بمعجزاته بقوله: وَ كَأَيِّنْ و كثير مِنْ آيَةٍ و كم من دليل واضح على وجود الصانع الحكيم و توحيده فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و هؤلاء الكافرون المعاندون يَمُرُّونَ عَلَيْها و يشاهدونها وَ هُمْ لا يلتفتون إليها، بل هم عَنْها مُعْرِضُونَ و بها لا يعتنون، و فيها لا يتفكّرون، و لا يعتبرون بها.

قيل: لمّا سمع المشركون تلك الآية قالوا: إنا نؤمن باللّه الذي خلق الأشياء، فردّهم اللّه بقوله: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ (1)و لا يعترفون بألوهيّته إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ به في العبوديّة و الطاعة.

عن ابن عباس، أنّه قال: نزلت في تنبيه المشركين (2)، لأنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه و ما ملك.

و عنه أيضا: هم الذين يشبّهون اللّه بخلقه.

و عنه أيضا: أنّ أهل مكة قالوا: اللّه ربنا وحده لا شريك له، و الملائكة بناته، فلم يوحّدوه، بل أشركوا و قال عبدة الأصنام: ربّنا اللّه وحده، و الأصنام شفعاؤنا عنده، و قالت اليهود: ربنا اللّه وحده و عزير ابن اللّه، و قالت النصارى: ربنا اللّه وحده لا شريك له و المسيح ابن اللّه، و قال عبدة الشمس و القمر: ربنا اللّه وحده، و هؤلاء أربابنا، و قال المهاجرون و الأنصار: ربّنا اللّه وحده لا شريك معه (3).

عن الباقر عليه السّلام: «شرك طاعة و ليس شرك [عبادة]» (4).

و زاد القمي رحمه اللّه: و المعاصي التي يرتكبون، فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا باللّه في الطاعة لغيره، و ليس باشراك عبادة (5).

و عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيشرك» (6).

و عنه عليه السّلام: «هم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها» (7).

و عنه عليه السّلام أيضا: «هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا، و لو لا فلان

ص: 450


1- . تفسير روح البيان 4:329.
2- . في تفسير الرازي: تلبية مشركي العرب.
3- . تفسير الرازي 18:224.
4- . تفسير العياشي 2:373/2168، تفسير القمي 1:358، تفسير الصافي 3:52.
5- . تفسير القمي 1:358، تفسير الصافي 3:52.
6- . الكافي 2:292/3، تفسير الصافي 3:53.
7- . التوحيد:324/1، تفسير الصافي 3:53.

لضاع عيالي، ألا ترى أنّه قد جعل للّه شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه» .

قيل: فيقول لو لا أن منّ اللّه عليّ بفلان لهلكت؟ قال: «نعم، لا بأس بهذا» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «من ذلك قول الرجل: لا و حياتك» (2).

و عنهما عليهما السّلام: «هو شرك النّعم» (3).

و عن الرضا عليه السّلام: «شرك لا يبلغ به الكفر» (4).

أقول: الوجه هو حمل الروايات على بيان عدم انحصار مدلول الآية بالشّرك في العبادة، و إنّ المراد منها جميع مراتب الشّرك و لو بأن يرى مع اللّه غيره بقوله لغيره: و حياتك، مع أنّ هذا الكلام ليس من الشّرك في الطاعة.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 107

ثمّ هدّد اللّه سبحانه المشركين و الكافرين بنبوة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ فَأَمِنُوا مع كفرهم و شركهم من أَنْ تَأْتِيَهُمْ و تنزل عليهم بسبب مشاقّتهم اللّه و رسوله عقوبة غاشِيَةٌ لهم منبسطة عليهم مِنْ عَذابِ اَللّهِ بحيث لا ينجو منها أحد منهم، كالصّاعقة و الخسف و الطّوفان أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ و أهوال القيامة بَغْتَةً و فجأة، و في حال عدم كونهم متوقّعين لها، و غير محتملين إتيانها وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمجيئها، و لاشتغالهم بالدنيا لا يلتفتون إليها، و فيه تأكيد معنى البغتة.

أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اَللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 108

ثمّ أنّه تعالى بعد تسليه نبيه صلّى اللّه عليه و آله و ذمّ المشركين بإعراضهم عن الآيات الدالّة على توحيده و كمال صفاته، و تهديدهم عليه، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالثبات على الدعوة إلى توحيده رغما لانوفهم و عدم المبالاة بجحدوهم بقوله: و قُلْ يا محمد للمشركين و المكذّبين لك هذِهِ السبيل التي أسلكها، و الطريق التي أنا فيها سَبِيلِي التي لا انحراف لي منها أبدا ما دمت حيا، و هي أنّي أَدْعُوا جميع

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اَللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (108)

ص: 451


1- . تفسير العياشي 2:374/2169، تفسير الصافي 3:53.
2- . تفسير العياشي 2:372/2163، تفسير الصافي 3:53.
3- . تفسير العياشي 2:374/2170، تفسير الصافي 3:53.
4- . تفسير العياشي 2:373/2165، تفسير الصافي 3:53.

أهل العالم من الأبيض و الأسود و العرب و العجم إِلَى توحيد اَللّهِ ذاتا و صفاة و أفعالا، و إلى دينه و طاعته، حال كوني عَلى بَصِيرَةٍ كاملة، و حجّة قاطعة، و برهانا واضحا، بل على تنوّر القلب و شهود به لما اعتقده و أدعو إليه، و لا أكون متفرّدا بهذه الطريقة، بل أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي من الأنبياء السابقين و الأولياء اللاحقين و المؤمنين الكمّلين عليها.

روى العلامة في (نهج الحق) عن العامة قوله تعالى: أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي هو علي (1).

عن الباقر عليه السّلام: «ذاك رسول اللّه و أمير المؤمنين و الأوصياء من بعدهما» (2).

و عنه عليه السّلام: «عليّ اتّبعه» (3).

و عن الجواد عليه السّلام حين أنكروا عليه حداثة سنّة قال: «و ما تنكرون؟ قال اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي الآية، فو اللّه ما تبعه إلاّ عليّ و له تسع سنين، و أنا ابن تسع سنين» (4).

ثمّ بالغ في الاعلان بتوحيد اللّه بتنزيهه عن الشرك بقوله: وَ سُبْحانَ اَللّهِ عمّا يقول الظالمون من الإشراك، ثمّ بالتبرّي منه بقوله: وَ ما أَنَا أيها الناس مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ الذين اتّخذوا للّه ضدّا و ندّا و ولدا.

و في رواية عن الصادق عليه السّلام في تفسير سُبْحانَ اَللّهِ قال: «تنزيهه» (5).

و في رواية اخرى، قال: «أنفة اللّه، أما ترى الرجل إذا عجب من الشيء قال: سبحان اللّه» (6).

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 109 الی 110

ثمّ لمّا كان من شبهات المشركين في نبوته صلّى اللّه عليه و آله أنّ اللّه لو أراد أن يرسل رسولا لأرسل ملكا، فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى الناس مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على إرسالك لتبليغ التوحيد و المعارف و الأحكام و هداية البشر إِلاّ رِجالاً مثل سائر الرجال يأكلون و يشربون و يمشون في الأسواق، و إنّما كانوا يمتازون من غيرهم بأنّا كنّا نُوحِي إِلَيْهِمْ العلوم و المعارف

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ (110)

ص: 452


1- . نهج الحق و كشف الصدق:196.
2- . الكافي 1:352/66، مناقب ابن شهر آشوب 4:378، تفسير الصافي 3:53.
3- . روضه الواعظين:105، تفسير الصافي 3:53.
4- . الكافي 1:315/8، تفسير الصافي 3:53.
5- . الكافي 1:92/11، تفسير الصافي 3:54.
6- . الكافي 3:329/5، تفسير الصافي 3:53.

و الأحكام لامتيازهم بكمال العقل و نزاهة النفس من الراذئل، و تزيّنهم بالصفات الحميدة و الأخلاق الكريمة، و كانوا مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى من الأمصار و الرساتيق، لا البوادي، و لا الملائكة، و لا الجنّة (1)و لا النساء، و مع ذلك كيف يتعجّب هؤلاء المشركون من إرسالك رسولا إليهم.

ثمّ استدلّ سبحانه على رسالة هؤلاء الرجال بتعذيب مكذّيبهم بقوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا هؤلاء المشركون فِي اَلْأَرْضِ و لم يسافروا إلى البلاد فَيَنْظُرُوا بنظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الامم المكذّبة اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ بتكذيبهم اولئك الرجال المرسلين إليهم، فانّ آثار نزول عذاب الاستئصال عليهم باقية إلى الآن في محالّهم و أماكنهم، و فيه تهديد مكذّبي النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ لمّا كان عمدة الباعت على تكذيب الرسل حبّ الدنيا و زخارفها، و عظهم اللّه تعالى و رغّبهم في الآخرة بقوله: وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ و نعمها (2)الباقية خَيْرٌ و أفضل ما حسن من الدنيا و نعيمها لو كان فيها حسن و فضيلة، و إنّما هي لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشرك و المعاصي، و احترزوا من مخالفة اللّه و أحكامه أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها المشركون الذين تدعون لأنفسكم العقل هذه الافضلية مع كمال وضوحها، و لا تدركون هذه الخيرية مع بداهتها، لأنّ العقل يحكم بالبديهة بأنّ الباقي و إن كان فى غاية القلّة خير من الزائل و إن كان في غاية الكثرة، مع أنّ نعم الآخرة أكثر و أهنأ من نعم الدنيا.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بالعذاب بقوله: أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اَللّهِ و قوله: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ و قد كانوا في أرغد عيش و طول عمر، نبّه سبحانه على أنّ الحكمة مقتضية لتأخيره عنهم، كما أخّر نزوله على الامم السابقة المهلكة.

حَتّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ الذين كانوا قبلك من إيمان قومهم، و انقطع رجاؤهم من قبولهم التوحيد و دخولهم في دين الحقّ، و قومهم قد تجرأوا في تكذيبهم وَ ظَنُّوا و توهّموا أَنَّهُمْ فيما أخبروا به على لسان رسلهم من نصر لرسلهم و هلاك أنفسهم العذاب الاستئصال قَدْ كُذِبُوا و اجترأوا بما هو خلاف الواقع جاءَهُمْ و نزل على اولئك الرسل نَصْرُنا و إعانتنا لهم بنزول العذاب على قومهم فَنُجِّيَ من ذلك العذاب مَنْ نَشاءُ نجاته و هم الرسل و أتباعهم المؤمنون بهم، و هلك به غيرهم ممّن خالفهم و كذّبهم وَ لا يُرَدُّ و لا يصرف بَأْسُنا و عذابنا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ و العاصين لنا بانكار التوحيد و تكذيب الرسل.

و اعلم أنّ تفسير الآية المباركة بالوجه الذي ذكرنا بناء على القراءة المعروفة-و هي قراءة كذّبوا بالتخفيف-سليم من الاشكال. و أمّا سائر التفسيرات التي ذكرها المفسّرون-و إن كان بعضها منقولا

ص: 453


1- . في النسخة: الأجنة.
2- . في النسخة: و نعيمها.

عن ابن عباس، و بعضها مرويا عن أئمتنا عليهم السّلام-ففيها إشكالات عظيمة لا يمكن دفعها، فلذا أعرضنا عن ذكرها، و أطرحنا تلك الروايات لعدم صحّتها و اعتبارها.

سوره 12 (يوسف): آیه شماره 111

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر قصة يعقوب و يوسف مفصّلا في هذه السورة المباركة، و ذكر قصص سائر الأنبياء فيها مجملا و في غيرها مفصلا، بيّن الغرض من ذكرها بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ و بيان أحوالهم، و كيفية دعوتهم و معاملتهم مع اممهم، و معارضة اممهم لهم، و ابتلاء المعارضين لهم بالعذاب عِبْرَةٌ و عظة و فائدة عظيمة من معرفة اللّه بالقدرة الكاملة و الحكمة البالغة، و غاية لطفه بعباده الصالحين، و شدّة قهره على الكفّار و المجرمين لِأُولِي اَلْأَلْبابِ و ذوي العقول السليمة، فانّهم الذين يعتبرون بها و يستفيدون منها.

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)ثمّ مدح سبحانه كتابه المجيد المشتمل على تلك القصص بالصدق لتوقّف الاعتبار بها على العلم به بقوله: و ما كانَ حَدِيثاً و قولا صادرا من البشر يُفْتَرى على اللّه و ينسب إليه كذبا وَ لكِنْ كان تَصْدِيقَ مطلق الكتاب اَلَّذِي نزل من السماء بَيْنَ يَدَيْهِ و من قبل نزوله، و مطابقا له، أو سببا لكون الأخبار التي في الكتاب بنزول هذا القرآن في آخر الزمان صدقا، لأنّه لو لم ينزل لكان جميع تلك الأخبار كذبا، أو سببا لتصديق الناس نزول الكتب السابقة من اللّه لثبوت صحّة هذا القرآن المخبر بنزول التوراة و الانجيل و الزّبور و صحف إبراهيم من السماء، لاشتمال هذا القرآن على الاعجاز بجهات عديدة دون سائر الكتب، و انقطاع تواتر كون سائر الكتب نازلا من اللّه، فلولا تصديق القرآن المشتمل على الاعجاز لها، لم يكن لأحد طريق إلى تصديقها و أنّها ممّا أتى بها الرسل.

وَ في القرآن يكون تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ من امور الدين، بل تبين جميع ما يحتاج إليه البشر من العلوم و الآداب، لأنّه ما من علم إلاّ و فيه أصله، بل فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و إنّما يختصّ استفادتها عنه بالراسخين في العلم، بل لا يعلمون شيئا إلاّ من القرآن وَ يكون هو هُدىً و رشادا من الضلال لمن استهدى به، و دلالة إلى جميع الخيرات الدنيوية و الاخروية لمن تدبّر فيه و استدلّ به وَ رَحْمَةً و سببا للفوز بالمراتب العالية من الكمالات الانسانية و بالدرجات الرفيعة من القرب، و بالنّعم الدائمة و الراحة الأبدية لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به، العاملون بما فيه، فالكتاب الذي له هذه الصفات الجليلة و الآثار الكريمة و البركات العظيمة، لا يمكن أن يكون

ص: 454

باختلاق البشر و من مفترياتهم على اللّه، سيما إذا جاء به الامّي الذي لم يقرأ كتابا و لم يجالس عالما، و لم يتلمذ عند أحد باتفاق من أهل الانصاف من الأحبّاء و الأعداء.

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم، أو في كلّ ليلة، بعثه اللّه يوم القيامة و جماله على جمال (1)يوسف، و لا يصيبه فزع يوم القيامة، و كان من خيار عباد اللّه الصالحين» (2). و زاد العياشي: «و اومن في الدنيا أن يكون زانيا أو فحّاشا» (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف و لا تقرئوهنّ إياها، فانّ فيها الفتن، و علّموهن سورة النّور، فان فيها المواعظ» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «يكره لهنّ تعلّم سورة يوسف» (5).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسيرها.

ص: 455


1- . في تفسير العياشي: كجمال، و في ثواب الأعمال: مثل جمال.
2- . ثواب الأعمال:106، تفسير الصافي 3:55.
3- . تفسير العياشي 2:321/2073، تفسير الصافي 3:55.
4- . الكافي 5:216/2، تفسير الصافي 3:55.
5- . الخصال:586/12، تفسير الصافي 3:55.

ص: 456

في تفسير سورة الرعد

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 1

ثمّ لمّا نبّه سبحانه إجمالا بقوله: وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ (1)إلى آخره، على أن العالم مملوء من آيات توحيده و قدرته و حكمته و كمال صفاته، ثمّ وصف في آخر السورة كتابه العزيز بأنّه تفصيل كلّ شيء، و كانت آيات أوائل سورة الرعد تفصيل الآيات السماوية و الأرضية، أردف سورة يوسف بها، فابتدأها تيمّنا و تبرّكا بذكر أسمائه المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ثمّ أفتتحها بالحروف المقطّعات من قوله: المر و قد مرّ تأويلها و بيان حكمة الابتداء بها (2).

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)عن الصادق عليه السّلام: «معناه أنا المحيي المميت الرازق» (3).

و عن ابن عبّاس: أي أنا اللّه أعلم و أرى (4).

و في نقل آخر: أنا اللّه الملك الرحمن (5).

ثمّ أنه تعالى بعد جلب القلوب بذكر الحروف إلى الاستماع، شرع في بيان أهمّ المطالب، و هو عظمة الكتاب المجيد، الدالّ على صحّة نبوة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و صحّة دين الاسلام بقوله: تِلْكَ الآيات المرتّبة في هذه السورة المباركة آياتُ اَلْكِتابِ المنزل عليك يا محمّد، ليكون معجزة باقية لك إلى آخر الدهر، أو آيات الكتاب المنير الذي هو اللوح، أو الذي بشّر اللّه الأنبياء بنزوله في آخر الزمان وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في ذلك الكتاب من المعارف و الأحكام و القصص و المواعظ هو اَلْحَقُّ الثابت الذي يجب على الناس التمسّك به و الاتّباع له وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ و أغلبهم، و هم

ص: 457


1- . يوسف:12/105.
2- . راجع الطرفة (18) من مقدمة المفسّر.
3- . معاني الأخبار:22/1، تفسير الصافي 3:56.
4- . تفسير الرازي 18:230، تفسير روح البيان 4:334.
5- . تفسير الرازي 18:230.

المتّبعون للشهوات لا يُؤْمِنُونَ به بغيا و حسدا و استكبارا و عنادا.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 2

ثمّ أنه تعالى بعد ذمّ الأكثر بعدم الايمان بالكتاب و ما فيه، و كان أهمّ ما فيه الدعوة إلى التوحيد و المعاد، [شرع]في الاستدلال عليهما بقوله: اَللّهُ و المعبود بالاستحقاق هو القادر اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّماواتِ على الأرض مسيرة خمسمائة عام على ما قيل (1)، بقدرته القاهرة بِغَيْرِ عَمَدٍ و اسطوانة مع غاية عظمة أجرامها، و أنتم تَرَوْنَها مرفوعة بلا عمد، فلولا قدرة اللّه القاهرة لا ستحال رفعها و إبقاؤها مرفوعة بلا عمد.

اَللّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)و قيل: إنّ تَرَوْنَها صفة للعمد، و الضمير راجع إليها، و المعنى أنّه تعالى رفع السماوات بغير عمد مرئية (2).

و عن الرضا عليه السّلام «فثمّ عمد، و لكن لا ترونها» (3).

و يمكن أنّ يراد بالعمد غير المرئية قدرة اللّه تعالى. و قيل: إنّها معتمدة على جبل قاف، و هو جبل من زبرجد محيط بالدنيا و لا يراه أحد (4)، و عليه يكون الاستدلال برفعه و وضعه على الجبل لوضوح عدم اقتضاء طبيعتها الرفع و الوضع، و إلاّ لاشتركت الأجسام فيها لاشتراك جميعها في مقتضيات الطبيعة، و يمكن أن يكون عمدها كونها كروية، فإنّ كلّ جزء من الكرة معتمد على الأجزاء الاخر.

ثُمَّ اِسْتَوى سبحانه عَلَى اَلْعَرْشِ و استولى على عالم الوجود بالقدرة و القهر و العلم و التدبير و الحفظ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ مع عظم جرمهما تحت قدرته بأن سيّرهما بكيفية خاصة بارادته، فلولا كونهما مقهورين تحت إرادة القادر لا متنع اختصاصهما بالحركة دون السكون، و اختصاص كُلٌّ منهما بحركة خاصة، و كلّ منهما يَجْرِي و يسير لِأَجَلٍ مُسَمًّى و إلى مدّة معينة، تتمّ فيها أدوارهما.

قيل: هي القيامة التي تكوّر فيها الشمس، و تتكدّر فيها النجوم (5)، و حينئذ تنقطع حركتهما، و ينقضي سيرهما.

ص: 458


1- . تفسير روح البيان 4:335.
2- . تفسير الرازي 18:232.
3- . تفسير العياشي 2:378/2182، تفسير القمي 2:328، تفسير الصافي 3:56.
4- . تفسير الرازي 18:232.
5- . مجمع البيان 6:421.

عن ابن عبّاس: للشمس مائة و ثمانون منزلا (1)، فالمراد ب كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هذا.

يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ في عالم الوجود و ينظّمه، بأن يعطي كلّ موجود من المجرّدات و الماديات و الروحانيات و الجسمانيات ما يحتاج إليه في بقائه و كماله، و يخصّص كلا منهما بوضع و موضع و صفة و حلية مناسبة له، و ينظّم الدنيا بالايجاد و الاعدام، و الإمانة و الإحياء، و الإغناء و الإفقار و غيرها، و لا يشغله شأن عن شأن، فانظروا-أيّها العقلاء-كيف بلطفه يُفَصِّلُ اَلْآياتِ و يبيّن الدلائل على وحدانيته و كمال قدرته و حكمته و سائر صفاته لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ و الحضور في القيامة عند مدبّر اموركم تُوقِنُونَ فانّ اليقين بكمال قدرته و حكمته الموجبة لتنزّهه عن اللغو و العبث، مستلزم لليقين بإعادة الخلق للحساب و جزاء الأعمال.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 3

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات السماوية، استدلّ بالآيات الأرضية بقوله: وَ هُوَ الواحد القادر اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ و بسطها من تحت الكعبة يوم دحو الأرض على الماء، لتثبت عليها الأقدام، و يعيش عليها الانسان، و ينقلب فيها الحيوان. ثمّ كانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة، فأثقلها بأن خلق وَ جَعَلَ فِيها بقدرته جبالا رَواسِيَ و ثوابت كالأوتاد لها، تمنعها عن الاضطراب و الانكفاء.

وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2)و قيل: كان اضطرابها من مهابة اللّه و عظمته (3).

قيل: إنّ اللّه خلق الماء، فأرسل عليه ريحا هفّافة، فصفقت الريح الماء، و ضرب بعضه ببعض، فأبرز منه حجارة في موضع الكعبة كأنّها قبّة، فبسط سبحانه من ذلك الموضع جميع الأرض طولا و عرضا (3).

و عن ابن عباس: أوّل جبل وضع على الأرض أبو قبيس (4).

و قيل: أفضل الجبال جبل أحد، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «احد يحبّنا و نحبّه» (5).

ثمّ لمّا كانت الأنهار متولدة من الجبال، أردفها بذكرها بقوله: وَ أَنْهاراً جارية كثيرة لحياة الأرض

ص: 459


1- . تفسير الرازي 18:233.
2- . تفسير روح البيان 4:337.
3- . تفسير روح البيان 4:338.
4- . تفسير روح البيان 4:338، و أبو قبيس: جبل مشرف على مسجد مكة.
5- . تفسير روح البيان 4:338.

و من عليها.

قيل: إنّ الأبخرة تتصاعد من قعر الأرض فتقبل إلى الجبل فتحتبس، فلا تزال تتناسب فتقلب ماء حتّى تحصل مياه عظيمة، ثمّ لكثرتها و قوّتها تثقب الجبل، و تسيل على الأرض (1).

و قيل: إنّ اللّه ينزل الأمطار و الثلوج فتشربها الأرض، فتجتمع المياه الكثيرة في عروقها، ثمّ تنشقّ عنها في المكان الذي تؤمر بالانشقاق، فيه فتظهر على وجه الأرض (2).

و قيل: إنّ اللّه ينزل الأمطار و الثلوج لانتفاع الخلق، و الملك الموكّل بالمياه ميكائيل و أعوانه (3).

أقول: الظاهر أن تكوّن الماء في الأرض يكون بكلّ واحد من السببين، و لا ينحصر بأحدهما.

قيل: إنّ الأنهار العظيمة في الدنيا خمسة: الفرات، و دجلة، و سيحون بالهند، و جيحون ببلخ، و النيّل بمصر (4).

ثمّ استدلّ سبحانه بالنباتات المتولّدة من الأرض و الماء بقوله: وَ مِنْ كُلِّ نوع من اَلثَّمَراتِ كالتّمر و العنب و المشمش و الخوخ و نظائرها جَعَلَ سبحانه و خلق فِيها بفضله زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ و صنفين مختلفين بالطبع كالحارّ و البارد، أو بالطعم كالحلو و الحامض، أو باللون كالأبيض و الأحمر.

قيل: إنّ اللّه خلق من كلّ نوع في بدو الخلق اثنين لا أقلّ و لا أزيد، كما خلق من نوع الانسان اثنين آدم و حوّاء، فكذلك القول في جميع الأشجار و الزروع (2).

ثمّ لمّا كان الليل و النهار موجودين بحركة السماوات و الشّمس، و بهما و بتعاقبهما يتمّ النظام و يكمل الإنعام، استدلّ سبحانه بهما على قدرته و حكمته بقوله: يُغْشِي و يستر اللّه اَللَّيْلَ و ظلمته اَلنَّهارَ أو يلبس ظلمة الليل ضياء النهار فتذهب به.

ثمّ لمّا كان بعض الناس يسندون الحوادث إلى الاختلافات الحاصلة في أشكال الكواكب من غير تفكّر، نبّه سبحانه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الحوادث لَآياتٍ عظيمة و دلالات واضحة على وحدانية الصانع و قدرته و حكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها حقّ التفكّر، لا لمن لا فكر له و لا تأمّل، و فيه دلالة على وجوب التفكّر فيها، فانّ من نظر إلى فوائدها و مصالحها و الحكم التي اعملت فيها، لا مناصّ له من الإذعان بوجود صانع قادر واحد حكيم.

أمّا الأرض فمن حيث امتدادها و رخاوتها و ملائمة طبعها لما عليها، و كونها كالبساط لساكنيها،

ص: 460


1- . تفسير روح البيان 4:338. (2 و 3 و 4) . تفسير روح البيان 4:338.
2- . تفسير الرازي 19:5.

و انشعاب المسالك و الفجاج للماشين في مناكبها و انفجار العيون، و تكوّن المعادن فيها، و خروج النباتات الكثيرة النافعة منها.

و أمّا الجبال فمن حيث رسوّها و علوّها، و خروج النباتات و المعادن و المياه الكثيرة منها، و غيرها من منافعها التي لا تحصى.

و أمّا الأنهار فمن حيث كثرة منافعها و حياة الأرض و ما عليها بها، و حصولها في بعض الأمكنة دون بعض.

و أمّا الثّمار فمن حيث كثرة أنواعها، و اختلاف مقاديرها و ألوانها و طعومها، و صلابتها و لطافتها، و منافعها و خواصها و روائحها، و اختلاف قشورها في الكثرة و القلّة و الغلظة و الرّقّة و الخاصية، و اختلاف طبائع أجزاء كلّ منها من قشره و لحمه و عجمه (1)و مائه، مع تكوّن مجموعها و مجموع شجرها من حبّة واحدة و ماء واحد و أرض واحدة و هواء واحد و إشراق شمس واحدة.

و أمّا الليل و النهار فمن حيث كثرة فوائدهما و كثرة اختلافهما في الفصول الأربعة في الطول و القصر.

و الحاصل أنّ الناظر في تلك الآيات بعين الاعتبار، يرى وحدة مدبّرها و قدرته و حكمته.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 4

ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال بالآيات الأرضية بقوله: وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ و بقاع متلاصقات مختلفات في الصلابة و الرّخاوة، و الارتفاع و الانخفاض، و كثرة النباتات (2)و قلّتها، و قابلية الزّرع و عدمها، و صلاحيتها العامة [لإنبات]الأشجار بعضها دون بعض و عدم صلوحها لها بالكلية، و أمثالها. و لو لم يكن ذلك الاختلاف بارادة القادر الحكيم، لامتنع تحقّقه لاشتراك القطعات في الجسمية و الأرضية.

وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)وَ فيها جَنّاتٌ و بساتين كثيرة مِنْ أَعْنابٍ مختلفة بالصّنف و اللّون وَ منها زَرْعٌ مختلف ألوانه و صنوفه وَ نَخِيلٌ مختلف بالصّنف بعضها صِنْوانٌ و نخل له ساقان أو أكثر على أصل واحد وَ بعضها غَيْرُ صِنْوانٍ و نخل له ساق واحد.

ص: 461


1- . العجم: جمع عجمة، و هو نوى كلّ شيء كالزّبيب و الرّمان و البلح و غيرها.
2- . في النسخة: النبات.

و قيل: يعني بعضها متشابه، و بعضها غير متشابه، مع أنّ جميع القطعات و الجنّات و الزّرع و النخيل يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ (1)و تنبت الزروع و الأشجار في أرض واحدة.

روى العلامة في (نهج الحق) عن جابر، و قال القاضي في (إحقاق الحق) : أنّ في (كشف الغمة) نقلا عن الحافظ أبي بكر بن مردويه، عن جابر، أنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «النّاس من شجر شتّى، و أنا و أنت يا عليّ من شجرة واحدة» ثمّ قرأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الآية (2).

وَ بعد ذلك نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ آخر فِي اَلْأُكُلِ و الثمر من حيث المقدار و الشّكل و الطعم و اللون و الرائحة و الخواصّ إِنَّ فِي ذلِكَ الاختلاف بين القطع المتجاورة من الأرض و بين الأشجار المتّحدة في المنبت و الهواء و الماء و إشراق الشمس لَآياتٍ واضحة و أدلّة قاطعة على وجود الصانع القادر الحكيم لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ من غير حاجة إلى التفكّر.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 5

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات قدرته المستلزمة لعدم عجزه عن إعادة الخلق للحساب و حكمته الملازمة لتنزّهه عن العبث، أظهر غاية التعجّب من قول منكري المعاد بقوله: وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد، أو أيّها الانسان من شيء في العالم و من عجائب الدهر فَعَجَبٌ كلّ العجب قَوْلُهُمْ استبعادا للبعث: أَ إِذا كُنّا بعد الموت تُراباً نبعث؟ !

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ اَلْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)ثمّ أكّدوا الانكار و قالوا: أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و نحيى مرّة اخرى بعود أجسادنا و عود أرواحنا إليها، مع أنّ اللّه خلقهم أولا بلا مثال من تراب أو من نطفة، و من الواضح أنّ خلقهم ثانيا من التراب أهون أُولئِكَ المنكرون للمعاد هم اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ حيث أنكروا قدرته و حكمته و كذّبوا وعده وَ أُولئِكَ تجعل اَلْأَغْلالُ يوم القيامة فِي أَعْناقِهِمْ و يسحبون في السلاسل.

و قيل: إنّ المعنى أنّ الكفر كالاغلال التي في الأعناق ملازم لهم (3)وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

ص: 462


1- . تفسير روح البيان 4:342.
2- . نهج الحق و كشف الصدق:195، إحقاق الحق 3:360، كشف الغمة 1:316.
3- . مجمع البيان 6:426، تفسير روح البيان 4:343.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 6

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكارهم البعث حكى استهزاءهم بوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالعذاب الدنيوي بقوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ و يطالبونك أن تسرع إليهم بِالسَّيِّئَةِ و العذاب الدنيوي الذي تعدهم قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ و انقضاء مدّة العافية و الإمهال.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقابِ (6)قيل: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّما هدّد المشركين بعذاب القيامة أنكروا البعث، و كلّما هدّدهم بعذاب الدنيا استعجلوه و قالوا: متى يجيئنا؟ استهزاء و سخرية، فيطلبون العذاب بدل العافية و الرحمة (1).

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: وَ قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِهِمُ و في الأزمنة السابقة على وجودهم اَلْمَثُلاتُ و العقوبات التي صارت مثلا، و نزلت على أمثالهم، و بقيت آثارها، فكيف لا يعتبرون بها مع اطّلاعهم عليها وَ إِنَّ رَبَّكَ لا يعاجل في إهلاكهم، لكونه تعالى و اللّه (2)لَذُو مَغْفِرَةٍ و تجاوز لِلنّاسِ مع إصرارهم عَلى ظُلْمِهِمْ و عصيانهم، و تماديهم في طغيانهم، و إلاّ لما بقي على ظهر الأرض من دابة وَ إِنَّ رَبَّكَ إذا حان حين العقوبة، و اقتضت حكمته تعذيبهم البتّة لَشَدِيدُ اَلْعِقابِ و العذاب.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 7

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين البعث و نبوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استهزائهم به، حكى تعنّتهم عليه بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ اخرى و معجزة باهرة زائدة على ما أتى بها من القرآن، و نبوع الماء من أصابعه، و حنين الجذع لفراقه، و تسبيح الحصاة في كفّه و نظائرها مِنْ رَبِّهِ.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ و واعظ لهم و مبيّن لهم المعارف، من توحيد اللّه و قدرته و حكمته و كمال صفاته، و معلّم لهم أحكام الاسلام و شرائعه، و آت بما يثبت صدق دعواك من المعجزات وَ لِكُلِّ قَوْمٍ في الأعصار السابقة هادٍ من قبل اللّه و منذر لهم مثلك، و لم يأتوا من المعجزات إلاّ مقدارا كافيا في إثبات نبوّتهم، و إن كان قومهم تعنّتوا عليهم، و إنّما اللازم على اللّه إتمام الحجة و إعطاء النبيّ ما يثبت نبوّته، و لا يحسن منه إجابة المتعنّت لانجرارها إلى ما لا نهاية له، أو أخذهم بعذاب الاستئصال، و ليس عليك إلاّ البلاغ، فلا يضيق صدرك بما يقولون.

ص: 463


1- . تفسير روح البيان 4:344.
2- . كذا، و لا محلّ للقسم في الآية.

عن ابن عباس: الهادي هو اللّه (1).

و عنه أيضا: أنّ المراد بالهادي هو عليّ عليه السّلام، قال: وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده على صدره فقال: «أنا المنذر» ثمّ أومأ إلى منكب عليّ و قال: «أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون» رواه الفخر الرازي (2)و غيره من مفسري العامة (1).

و عن (المجمع) : لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنا المنذر، و عليّ الهادي من بعدي، يا علي بك يهتدي المهتدون» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنذر، و لكلّ زمان منّا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي اللّه، الهادي (3)من بعده عليّ ثمّ الأوصياء واحدا بعد واحد» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «كلّ إمام هاد للقرن الذي هو فيهم» (5).

و القمي رحمه اللّه: هو ردّ على من أنكر أنّ في كلّ عصر و زمان إماما، و أنّه لا تخلو الأرض من حجّة (8).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و حكمته، بيّن سعة علمه، لكمال مدخليته في البعث و جمع ذرات تراب كلّ جسد لاعادة خلقه، و غاية مدخليته في تهديد المعنّتين بقوله: اَللّهُ تعالى بصفة علمه يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من الذكر و الانثى، و الجميل و القبيح، و الطويل و القصير وَ ما تَغِيضُ اَلْأَرْحامُ و تنقصه من أعضاء الجنين و مدّة حمله التي أقلّها ستة أشهر، و عدده الذي أقلّه واحد وَ ما تَزْدادُ الأرحام في أعضاء الجنين و تماميتها، و في مدّة حمله التي أكثرها تسعة أشهر على ما هو المشهور المنصور (9). و قيل: عشرة أشهر (10). و قيل: سنة (11)، و عند الشافعي أربع سنين (12)، و عند مالك خمس سنين (13)، و في العدد (6): و هو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة على ما قيل (7).

اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ اَلْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعالِ (9)عن أحدهما عليهما السّلام: «ما تَغِيضُ كلّ حمل دون تسعة أشهر، وَ ما تَزْدادُ كلّ شيء يزداد على

ص: 464


1- . تفسير الطبري 14:72، تفسير النيسابوري 14:68(هامش الطبري) ، روح المعاني 13:108، و راجع: إحقاق الحق 3:88-92 و 532 و 14:166-171.
2- . مجمع البيان 6:427، تفسير الصافي 3:59.
3- . في الكافي: نبي اللّه، ثم الهداة.
4- . الكافي:1:148/2، تفسير الصافي 3:59.
5- . الكافي 1:147/1، تفسير الصافي 3:59.
6- . أي عدد الأولاد في البطن الواحد.
7- . تفسير الرازي 19:15، تفسير روح البيان 4:348.
8- . تفسير القمي 1:359، تفسير الصافي 3:59. (9 و 10 و 11) . تفسير روح البيان 4:347. (12 و 13) . تفسير روح البيان 4:347.

تسعة أشهر، فكلّما رأت المرأة الدم في حملها من الحيض فانّها تزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم» (1).

عن الصادق عليه السّلام: «ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الذكر و الانثى، وَ ما تَغِيضُ اَلْأَرْحامُ ما كان دون تسعة و هو غيض، وَ ما تَزْدادُ ما رأت الدم في حال حملها ازداد به على تسعة أشهر» (2).

و في رواية: «ما تَغِيضُ [ما]لم يكن حملا، وَ ما تَزْدادُ الذكر و الانثى جميعا» (3).

و عن القمي: ما تَغِيضُ ما تسقط من قبل التمام، وَ ما تَزْدادُ على تسعة أشهر (4).

و قيل: ما تَغِيضُ من دم الحيض، وَ ما تَزْدادُ فيه (5).

وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ و في علمه و حكمه محدود بِمِقْدارٍ و حدّ مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وجوده لا يجاوزه و لا ينقص عنه، و هو تعالى عالِمُ اَلْغَيْبِ و مطّلع على كلّ مستور عن الحواسّ كالضمائر و ما هو في ستر العدم وَ اَلشَّهادَةِ و الحاضر عند الحواسّ، و هو اَلْكَبِيرُ و العظيم الذي لا يعزب عن علمه شيء اَلْمُتَعالِ و المستعلي على جميع الممكنات بقدرته.

في تحقيق معنى

الكبير

قيل: إنّ الكبير هو ذو الكبرياء، و ذو الكبرياء عبارة عن كامل الذات، و هو عبارة عن كامل الوجود و كمال الوجود، و أنّه أزل و أبد (6)، فإن كلّ موجود محدود بالعدم السابق و اللاحق فهو ناقص، و لذا يقال لمن طالت مدّة وجوده: إنّه كبير، و لا يقال: إنّه عظيم، فالكبير أعظم من العظيم، فالدائم الأزلي الذي يستحيل عليه العدم أولى بأن يكون كبيرا، و أيضا نقول: إنّ وجوده تعالى هو الوجود الذي يصدر منه كلّ وجود و موجود، فان كان الذي تمّ وجوده في نفسه كاملا كبيرا، فالذي فاض منه الوجود لجميع الموجودات أولى بأن يكون كاملا كثيرا، و أمّا المتعال فهو المبالغة في العلى، و هو الذي لا رتبة فوق رتبته، فالعليّ المطلق هو الذي له الفوقية بحسب الوجوب لا بالاضافة، و بحسب الوجود الذي يقارنة إمكان النقص (7).

و قيل: إنّ المتعال هو الذي تنزّه عن كلّ ما لا ينبغي، فيدلّ على كونه تعالى قادرا على البعث الذي أنكروه، و على إتيان الآيات [التي]اقترحوها، و على العذاب الذي استعجلوه، و إنّما يوخّره لأجل

ص: 465


1- . تفسير العياشي 2:380/2189، تفسير الصافي 3:59.
2- . تفسير العياشي 2:381/2193، تفسير الصافي 3:59.
3- . تفسير العياشي 2:381/2192، تفسير الصافي 3:59.
4- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:59.
5- . تفسير البيضاوي 1:502.
6- . في النسخة: أزلا و أبدا.
7- . تفسير روح البيان 4:349.

معدود (1).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 10

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير سعة علمه بقوله: سَواءٌ عليكم و مستوفى علمه إن كان مِنْكُمْ أيها النّاس مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ و أضمره وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ و أظهره.

سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (10)عن ابن عباس: سواء ما أضمرته القلوب، و أجهرت به (2)الألسنة (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «يعني السّر و العلانية عنده سواء» (4). و كلّ من أسرّ و جهر وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ و مستتر بِاللَّيْلِ و في الظلمات وَ من هو سارِبٌ و بارز بِالنَّهارِ و ظاهر في الطرقات.

و قيل: المستخفي: الظاهر، و السارب: المتواري (5).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 11

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع علمه بذاته بأعمال العباد و أحوالهم و قدرته على حفظهم لَهُ ملائكة مُعَقِّباتٌ من قبله تعالى يتعاقبون في حفظه و كلاءته و يحيطون به مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ في الليل و النهار، يعدّون عليه أعماله و أقواله، و يطلّعون على أحواله و يَحْفَظُونَهُ من الآفات و المهالك، و يكون حفظهم له مِنْ أجل أَمْرِ اَللّهِ و حكمه به و ممّا أراده منهم.

لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اَللّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)و قيل: إنّ معنى (من) بمعنى باء، و المعنى: يحفظونه بأمر اللّه (6).

و عن الصادق عليه السّلام: «يحفظونه بأمر اللّه، و من ذا الذي [يقدر أن]يحفظ الشيء من أمر اللّه» (7).

و عن الباقر عليه السّلام: «مِنْ أَمْرِ اَللّهِ، يقول: بأمر اللّه من أن يقع في ركيّ (8)أو يقع عليه حائط، أو يصيبه شيء، حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه و بينه، و يدفعونه إلى المقادير» (9).

ص: 466


1- . تفسير الرازي 19:17.
2- . في تفسير الرازي: و أضهرته.
3- . تفسير الرازي 19:17.
4- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.
5- . تفسير الرازي 19:17.
6- . تفسير الرازي 19:19.
7- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.
8- . الرّكيّ: جنس للرّكيّة، و هي البئر، و جمعها: ركايا.
9- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا به إلى المقادير، فيخلّون (1)بينه و بين المقادير» (2).

و عن عمرو بن جندب، قال: كنا جلوسا عند سعيد بن قيس بصفين إذ أقبل عليّ عليه السّلام يتوكأ على عنزة (3)له بعد ما اختلط الظلام، فقال سعيد: أأمير المؤمنين. قال: «نعم» قال: أما تخاف أن يغتالك أحد؟ قال: «إنّه ليس من أحد إلاّ و معه من اللّه حفظة من أن يتردّى في بئر، أو يخرّ من جبل، أو يصيبه حجر، أو تصيبه دابة، فإذا جاء القدر خلّوا بينه و بين القدر» (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «هما ملكان يحفظانه بالليل و النهار (5)يتعاقبانه» (6).

و عن عثمان أنّه قال: يا رسول اللّه، أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال: «ملك عن يمينك يكتب الحسنات، و هو أمين على الذي على الشمال، فاذا عملت حسنة كتب عشرا و إذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين: اكتب، فيقول: لا، لعلّه يتوب، فاذا قال ثلاثا قال: نعم اكتب أراحنا اللّه منه، فبئس القرين، ما أقلّ مراقبته للّه تعالى و استحياءه منّا! و ملكان من بين يديك و من خلفك، فهو قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و ملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت للّه رفعك، و إذا تجبّرت قصمك، و ملكان على شفتيك يحفظان عليك صلاتك عليّ، و ملك على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك، و ملكان على عينيك، فهؤلاء عشرة أملاك على كلّ آدمي، تبدّل ملائكة الليل بملائكة النّهار، فهم عشرون ملكا على كلّ آدمي» (7).

و عنه عليه السّلام: «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل، و ملائكة بالنهار، و يجتمعون في صلاة الصبح و صلاة العصر» (8).

قيل: فائدة كون الملائكة في جوانبه لحفظه، و معه لاحصاء أعماله و كتبها، أنّ الانسان إذا علم به و علم جلالة الملك و علوّ مقامه، كان إلى الحذر من المعاصي أقرب، و كذا يكون عظمة الربّ في نظره أجلى، و في قلبه أظهر (9).

و قيل: إنّ الملائكة يحفظونه من بأس اللّه و نقمته إذا أذنب بدعائهم له، و مسألتهم ربّهم أن يمهله

ص: 467


1- . في مجمع البيان: فيحيلون.
2- . مجمع البيان 6:431، تفسير الصافي 3:61.
3- . العنزة: أطول من العصا و أقصر من الرمح، في أسفلها زجّ كزجّ الرمح، يتوكّأ عليها.
4- . تفسير روح البيان 4:350.
5- . في تفسير القمي و تفسير الصافي: بالليل و ملكان بالنهار.
6- . تفسير القمي 1:360، تفسير الصافي 3:60.
7- . تفسير الرازي 19:18.
8- . تفسير الرازي 19:19.
9- . تفسير الرازي 19:20.

رجاء أن يتوب (1).

و نسب إلى ابن عباس أنه قال: إنّ المراد من المعقّبات الحرس و الأعوان الذين يكونون حول الملوك و الأمراء ليحفظونهم من أمر اللّه، و المقصود بعثهم إلى أن يطلبوا الحفظ من اللّه، و لا يعوّلوا في دفع البلايا على الأعوان و الأنصار (2).

ثمّ ذكر سبحانه علّة اخرى لتأخير العذاب بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية و النّعم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الشكر و الأخلاق الحسنة و الأحوال الحميدة بالإصرار على الكفر و الصفات الرذيلة و الأعمال القبيحة.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه قضى قضاء حتما لا ينعم على عبده نعمة فيسلبها إيّاه قبل أن يحدث العبد ذنبا يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النّعمة، و ذلك قول اللّه: إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ» إلى آخره (3).

و عن السجاد عليه السّلام: «الذنوب التي تغيّر النّعم البغي على الناس، و الزوال عن المعاودة (4)في الخير و اصطناع المعروف [و كفران النعم]و ترك الشّكر» ثمّ تلا الآية (5).

وَ إِذا أَرادَ اَللّهُ بِقَوْمٍ بسبب سوء عقائدهم و قباحة أعمالهم (6)سُوْءاً و عذابا فَلا مَرَدَّ لَهُ و لا دافع عنه وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ على أمرهم يدفع عنهم ضرّهم و عذابهم المستحقّ.

عن ابن عباس: لم تغن المعقّبات شيئا (7).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 12

ثمّ أنّه تعالى بعد التخويف بأنّه لا مردّ لعذابه، ذكر الآيات الدالة على كمال قدرته الجامعة لجهتي النّعمة و النّقمة بقوله: هُوَ القادر الحكيم اَلَّذِي يُرِيكُمُ و يظهر لكم اَلْبَرْقَ و اللّمعة الحاصلة من السّحاب، ليحدث في قلوبكم خَوْفاً من نزول الصاعقة عليكم وَ طَمَعاً في نزول المطر النافع لكم.

هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحابَ اَلثِّقالَ (12)قيل: إنّ المراد حال كونهم خائفين منه و طامعين فيه (8).

ص: 468


1- . تفسير روح البيان 4:350.
2- . تفسير الرازي 19:21 و 22.
3- . تفسير العياشي 2:382/2198، تفسير الصافي 3:61.
4- . في معاني الأخبار و تفسير الصافي: عن العادة.
5- . معاني الأخبار:270/2، تفسير الصافي 3:61.
6- . في النسخة: عقائده و قباحة أعماله.
7- . تفسير الرازي 19:23.
8- . تفسير الرازي 19:23.

قيل: يخاف منه من له فيه ضرر كالمسافر، و من في خزانه (1)التمر و الزّبيب، و يطمع [فيه]من له نفع فيه (2).

و عن الرضا عليه السّلام: «خوفا للمسافر، و طمعا للمقيم» (3).

قيل: إنّ البرق مركّب من أجزاء مائية، و أجزاء هوائية و نارية، و الغالب عليه هو الأجزاء المائية، و من الواضح أنّ الماء و النار ضدّان لا يمكن الجمع بينهما إلاّ بقدرة اللّه القادر الحكيم (4).

وَ هو يُنْشِئُ و يخلق اَلسَّحابَ اَلثِّقالَ بالماء. القمي: يعني يرفعها من الأرض (5).

قيل: إنّ السّحاب جسم مركّب من الأجزاء المائية و أجزاء هوائية، و إنّما يحدث هذا المركّب في الجوّ بقدرة اللّه (6).

و قيل: إنّه أجزاء لطيفة مائية تتصاعد مع الأبخرة إلى الطبقة الباردة من الهواء، فاذا وصلت إليها بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض (7).

أقول: قد مرّ بعض الكلام فيه، و ظاهر كثير من الروايات أنّه جسم غير سائر الأجسام، يحمل الماء من الأرض أو من السماء، و على أي تقدير فهو دالّ على قدرة اللّه تعالى، فانّه تعالى جعل لكلّ شيء سببا طبيعيا لتمييز التابع للعقل الناظر إلى ما وراء الطبيعة عمّن قصر نظره إلى الأسباب و المحسوسات، و لا يتجاوز فكره عنها، و ممّا يدلّ على كونه بقدرة اللّه تأثير الدعاء في وجوده على ما شوهد بالتجربة.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 13

ثمّ بيّن سبحانه عظمته و كبرياءه بقوله: وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ مقرونا بِحَمْدِهِ و ثنائه وَ تسبّح اَلْمَلائِكَةُ له، خاضعين له مِنْ خِيفَتِهِ و خشيته لظهور أثر مهابته.

وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اَللّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحالِ (13)قيل: إنّ الرعد اسم ملك خلق من نور مهابته، و يطلق على صوته الشديد، يسوق السّحاب به كما يسوق الحادي الإبل لحدائه، فاذا سبّح أوقع الهيبة على الخلق كلّهم حتّى الملائكة (6).

عن ابن عباس: أنّ اليهود سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الرّعد ما هو؟ فقال: «ملك من الملائكة موكّل

ص: 469


1- . في تفسير الرازي: و كمن في جرابه.
2- . تفسير الرازي 19:24، تفسير روح البيان 4:352.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:294/51، تفسير الصافي 3:61.
4- . تفسير الرازي 19:24.
5- . تفسير القمي 1:361، تفسير الصافي 3:61. (6 و 7) . تفسير روح البيان 4:352.
6- . تفسير روح البيان 4:352.

بالسّحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السّحاب حيث شاء اللّه» . قالوا: فما الصوت الذي يسمع؟ قال: «زجره السّحاب» (1).

و في (الفقيه) : روي «أنّ الرّعد صوت ملك أكبر من الذّباب و أصغر من الزّنبور» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه بمنزلة الرجل يكون في الإبل فيزجرها: هاي هاي، كهيئة ذلك» (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه إذا سمع صوت الرعد قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده» (4).

و عن ابن عبّاس: من سمع [صوت]الرّعد فقال: سبحان الذي يسبح الرّعد بحمده و الملائكة من خيفته و هو على كلّ شيء قدير؛ فأصابته (5)صاعقة فعليّ ديته (6).

قيل: إذا سبّح الرّعد-و تسبيحه ما يسمع من صوته-لم يبق ملك إلاّ رفع صوته بالتسبيح، فينزل القطر و الملائكة خائفون من اللّه (7).

و في الحديث: «البرق و الرّعد و عيد لأهل الأرض، فإذا رأيتموه فكفّوا عن الحديث و عليكم بالاستغفار» ، و إذا اشتدّ الرّعد قال صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ لا تقتلنا بغضبك، و لا تهلكنا بعذابك، و عافنا قبل ذلك» (8).

و قيل: إنّ الرّعد هو نفس الصوت، و ليس بملك، و معنى تسبيحه دلالة هذا الصوت على وجود موجود متعال عن النقص و الامكان، كما هو معنى قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (9).

و قيل: إنّ المراد من كون الرّعد مسبّحا أنّ كلّ من يسمع الرعد [فإنّه]يسبّح اللّه تعالى (10).

وَ هو تعالى يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ من السماء إلى هذا العالم فَيُصِيبُ اللّه و يهلك بِها مَنْ يَشاءُ إصابته و إهلاكه.

قيل: إنّ الصّاعقة نار لا دخان لها، تسقط من السماء، و تتولّد من (11)السّحاب، و هي أقوى نيران [هذا العالم]، فإنّها إذا نزلت من السّحاب فربما غاصت في البحر فأحرقت الحيتان تحت البحر (12).

و في [الحديث]النبوي السابق في بيان الرّعد و أنّه ملك قال: «و إذا اشتدّ غضبه طارت من فيه نار

ص: 470


1- . تفسير الرازي 19:25.
2- . من لا يحضره الفقيه 1:334/1501، تفسير الصافي 3:61.
3- . تفسير العياشي 2:384/2202، تفسير الصافي 3:61.
4- . مجمع البيان 6:434، تفسير الصافي 3:61.
5- . في مجمع البيان: فأن أصابته.
6- . مجمع البيان 6:435.
7- . تفسير روح البيان 4:353.
8- . تفسير روح البيان 4:353.
9- . تفسير الرازي 19:26، و الآية من سورة الإسراء:17/44.
10- . تفسير الرازي 19:26.
11- . في تفسير روح البيان: في.
12- . تفسير روح البيان 4:353.

هي الصاعقة» (1).

قيل في شأن نزول الآية: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث رجلا إلى واحد (2)من فراعنة العرب، قال: «فاذهب و ادعه لي» فقال: يا رسول اللّه، إنّه أعتى من ذلك. قال: «فاذهب فادعه لي» قال: فذهبت إليه فقلت: يدعوك رسول اللّه، فقال: و ما اللّه؟ أ ذهب هو، أم فضّة، أم من نحاس؟ قال الراوي-و هو أنس-: فرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبره و قال: قد أخبرتك أنّه أعتى من ذلك، قال لي كذا و كذا قال: «فارجع إليه الثانية فادعه» فرجع إليه فأعاد عليه مثل الكلام الأول، فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره، فقال: «ارجع إليه» فرجع إليه الثالثة فأعاد عليه مثل ذلك الكلام، فبينما هو يكلّمه إذ بعث اللّه سحابه حيال رأسه فرعدت، فوقع منها صاعقة فذهبت بقحفة رأسه، فأنزل اللّه وَ يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ (3).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الصواعق لا تصيب ذاكرا» . قيل: من الذاكر؟ قال: «من قرأ مائة آية» (4).

ثمّ وبّخ سبحانه المشركين بقوله: وَ هُمْ مع تلك الآيات الباهرة الدالة على توحيد اللّه و قدرته يُجادِلُونَ و يشدّدون الخصومة فِي توحيد اَللّهِ و يكذّبون الرسول الداعي إليه الواصف له بالعظمة و القدرة وَ هُوَ تعالى شَدِيدُ اَلْمِحالِ و عظيم الكيد لأعدائه، فانّه يهلكهم من حيث لا يشعرون.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «شديد الأخذ» (5). و عن القمي: شديد الغضب (6). عن ابن عباس: شديد الحول (7). و قيل: شديد العقوبة (8). و قيل: شديد الفقار، و هو مثل في القوة (7).

عن ابن عباس: نزلت هذه الآية و التي قبلها في عامر بن الطفيل و إربد بن قيس-و هو أخو لبيد (8)بن ربيعة الشاعر لأمّه-و ذلك أنّهما أقبلا يريدان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللّه، هذا عامر بن الطّفيل قد أقبل نحوك. قال: «دعه، فان يرد اللّه به خيرا يهده» . فأقبل حتّى قام عليه فقال: يا محمد، مالي إن أسلمت؟ قال: «لك ما للمسلمين، و عليك ما عليهم» قال: أ تجعل لي الأمر بعدك؟ قال: لا، ليس ذلك إليّ، إنّما ذلك إلى اللّه تعالى يجعله حيث يشاء» . قال: أسلم على أن لك المدر، و لي الوبر؟ يعني لك ولاية القرى، و لي ولاية البوادي. قال: «لا» . قال: فماذا تجعل لي؟ قال: «أجعل

ص: 471


1- . تفسير روح البيان 4:353.
2- . في تفسير روح البيان: رجل.
3- . تفسير روح البيان 4:353.
4- . الكافي 2:363/2، تفسير الصافي 3:62.
5- . مجمع البيان 6:435، تفسير الصافي 3:62.
6- . تفسير القمي 1:361، تفسير الصافي 3:62. (7 و 8) . تفسير الرازي 19:28.
7- . تفسير أبي السعود 5:11.
8- . في النسخة: يعبد.

لك أعنّة الخيل تغزو عليها» قال: أو ليس ذلك إليّ اليوم؟ و كان أوصى إلى إربد إذا رأيتني أكلّمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يراجعه، فدار إربد خلفه ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا ثمّ حبسه اللّه، فلم يقدر على سلّه، و جعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرأى إربد و ما يصنع بسيفه، فقال: «اللهم اكفنيهما بما شئت» فأرسل اللّه على إربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته، و ولّى عامر هاربا، فقال: يا محمّد، دعوت ربّك فقتل إربد، و اللّه لا ملأنّ عليك الأرض رجالا؛ ألفا أشعر و ألفا أمرد. فقال: «يمنعك اللّه من ذلك، و أبناء قيلة (1)» يريد الأوس و الخزرج.

فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلمّا أصبح ضمّ إليه سلاحه، و خرج و هو يقول: و اللات لئن أصحر محمّد إليّ و صاحبه-يعني ملك الموت-لأنفذنّهما (2)برمحي، فلمّا رأى اللّه ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه، فأذراه بالتراب، و خرجت على ركبته غدّة عظيمة في الوقت، فعاد إلى بيت السّلولية و هو يقول: غدّة كغدّة البعير، و موت في بيت سلولية، ثمّ مات على ظهر فرسه (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية مجادلة المشركين في اللّه و إصرارهم على عبادة الأصنام، خصّ العبادة و الدعوة الحقّة المفيدة بنفسه بقوله: لَهُ تعالى خاصة دَعْوَةُ اَلْحَقِّ التي لا مجال لتوهّم بطلانها، كما أنّ وجوده هو الحقّ في الموجودات، و اعتقاد وجوده و وحدانيته هو الحقّ في الاعتقادات، و عبادته هي الحقّ في العبادات.

لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ (14) وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصالِ (15)و عن ابن عبّاس: الدعوة الحقّ قول لا إله إلاّ اللّه (4).

و قيل: يعني الدعوة المجابة غير الضائعة (5). و قيل: يعني له دعوة المدعو إلى الحق الذي سمع (6)فيجيب (7).

ص: 472


1- . في النسخة و تفسير روح البيان: قبيلة، تصحيف، و قيلة: اسم أمّ للأوس و الخزرج قديمة، و هي قيلة بنت كاهل.
2- . في النسخة: لأنقذتهما، و التصويب من روح البيان.
3- . تفسير روح البيان 4:354.
4- . تفسير الرازي 19:28.
5- . تفسير روح البيان 4:355.
6- . في تفسير الرازي: المدعو الحق الذي يسمع.
7- . تفسير الرازي 19:29.

وَ أمّا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون شيئا، أو الأصنام الذين يدعون هؤلاء المشركون باللّه مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه لا يَسْتَجِيبُونَ دعاء الذين دعوهم، و لا يقضون لَهُمْ بِشَيْءٍ من حوائجهم، و لا يكون دعاؤهم و عبادتهم لهم إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ و مادّ يديه إِلَى اَلْماءِ الذي في قعر البئر لِيَبْلُغَ ذلك الماء فاهُ من دون أن يخرجه بدلو و حبل، و من الواضح أنّ ذلك الماء لا يكون و اصلا إلى فيه بنفسه وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ بصرف بسط اليد إليه و استدعائه أن يخرج من البئر و يبلغ فاه؛ لأنّه جماد لا يسمع الدعاء، و لا يتحرّك من محلّه بغير محرّك شاعر، فكذا ما يدعو المشركون من الجمادات لا يسمعون دعاءهم، و لا يستطيعون إجابتهم، و لا يقدرون على نفعهم.

عن الباقر عليه السّلام: «هذا مثل ضربه اللّه للذين يعبدون الأصنام و الذين يعبدون الآلهة من دون اللّه فلا يستجيبون لهم بشيء، و لا ينفعهم إلاّ كباسط كفّيه إلى الماء ليتناوله من بعيد و لا يناله» (1).

ثمّ بيّن عدم انتفاع المشركين بدعوتهم و عبادتهم بقوله: وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ و عبادتهم إِلاّ فِي ضَلالٍ و ضياع لا ينتفعون بها أبدا، ثمّ أنّه تعالى بعد تخصيص الدعوة الحقّة بذاته المقدسة، خصّ الخضوع و الانقياد أيضا بنفسه بقوله: وَ لِلّهِ وحده يَسْجُدُ و يخضع مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ من الملائكة و الجن و الانس لظهور عظمته للكلّ، و نفوذ إرادته في الكلّ، و مقهورية الجميع تحت قدرته، فان كانت إرادته موافقة لاشتياقهم كالايجاد و الاغناء و الصحة، كان انقيادهم له طَوْعاً و رغبة و نشاطا، و إن كانت مخالفة له كالاعدام و الإفقار و الإسقام، كان انقيادهم له اضطرارا وَ كَرْهاً .

و الحاصل أنّ السجود على ما قيل هو الانقياد التكويني، فان كانت التغييرات الحاصلة في الأشياء بارادته تعالى موافقة لطباعها يكون انقيادها لها بالطوع، و إن كانت مخالفة لها يكون انقيادها بالكره.

وَ ظِلالُهُمْ يسجدون بهذا المعنى للّه بِالْغُدُوِّ و الصباح وَ اَلْآصالِ و الأعصار، في أول النهار و آخره، و هما كناية عن جميع الأوقات من النهار، و إنما خصّهما بالذّكر لكثرة ميلانها فيهما.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و سجدت له بالغدوّ و الآصال الأشجار» (2).

و عن القمي: ظلّ المؤمن يسجد طوعا، و ظلّ الكافر يسجد كرها، و هو نموهم و حركتهم (3).

و عنه أيضا: تحويل كلّ ظلّ خلقه اللّه هو سجوده للّه؛ لأنّه ليس شيء إلاّ له ظلّ يتحرّك بتحريكه، و تحويله (4)سجوده (5).

ص: 473


1- . تفسير القمي 1:361، تفسير الصافي 3:62.
2- . نهج البلاغة:191/الخطبة 133، تفسير الصافي 3:63.
3- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:63.
4- . في المصدر: و تحريكه.
5- . تفسير القمي 1:386، تفسير الصافي 3:63.

و قيل: إنّ المراد بالسجود السجود المعهود اختيارا، و العموم مخصوص بالمؤمنين (1).

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا من يسجد من أهل السماوات طوعا فالملائكة يسجدون للّه طوعا، و من يسجد من أهل الأرض فمن ولد في الاسلام و هو يسجد طوعا، و أمّا من يسجد له كرها فمن اجبر على الاسلام، و أمّا من لم يسجد فظلّه يسجد بالغداة و العشيّ» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في (نهج البلاغة) : «فتبارك اللّه الذي يسجد له من في السماوات و الأرض طوعا و كرها، و يعفّر له خدّا و وجها، و يلقي بالطاعة إليه سلما و ضعفا، و يعطي العباد (3)رهبة و خوفا» (4).

و قيل: إنّ المراد بالظلّ الجسد، لأنّه عنه الظّلّ، أو لأنّه ظلّ للروح لأنّه ظلماني، و الروح نوراني، و هو تابع له يتحرّك بحركته النفسانية، و يسكن بسكونه (5).

و قيل: لا يبعد أن يخلق اللّه للظلال عقولا و أفهاما تسجد و تخشع بها، كما جعل للجبال أفهاما حتّى اشتغلت بتسبيح اللّه و [حتى]ظهر آثار التجلّي فيها كما قال: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا (6).

أقول: قد حقّقنا فيما سبق غير مرة أنّ الوجود ملازم للشعور، و كلّما كمل الوجود كمل الشعور، و كلّما ضعف ضعف، و عليه نقول: إنّ لكلّ شيء سجودا و خشوعا و تسبيحا (7)للّه بحسب حاله، فجسم الكافر و روحه من حيث إنّه موجود لهما سجود و تسبيح للّه، و لا يدركهما الكافر لفقد بصيرته و عمى قلبه.

قال الزجاج: جاء في التفسير أنّ الكافر يسجد لغير اللّه، و ظلّه يسجد للّه (8).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 16

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة البراهين الكثيرة على توحيده و كمال ذاته و صفاته و غاية عظمته و تخصيص الدعوة الحقّ و الخضوع لها (9)، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأن يلزم المشركين بما هو بديهي العقل و الفطرة بقوله:

قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُماتُ وَ اَلنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ (16)

ص: 474


1- . تفسير الرازي 19:29.
2- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:63.
3- . في المصدر: له القياد.
4- . نهج البلاغة:272/الخطبة 185، تفسير الصافي 3:63.
5- . تفسير الصافي 3:63.
6- . تفسير الرازي 19:30، و الآية من سورة الأعراف:7/143.
7- . في النسخة: سجود و خشوع و تسبيح.
8- . تفسير الرازي 19:30.
9- . في النسخة: به.

قُلْ يا محمّد للمشركين مَنْ رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و خالقهما و مالكهما و مدبّر امورهما؟ . ثمّ لمّا كان الجواب من الوضوح بمثابة [ما]لا يليق التأمّل فيه، و كانوا أيضا معترفين به، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالسرعة في الجواب بقوله: قُلْ من غير ريث و انتظار لجوابهم: هو اَللّهُ وحده لا شريك له.

ثمّ أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتوبيخهم على الشرك بقوله: قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ و اخترتم مع ذلك مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه من مخلوقاته لأنفسكم أَوْلِياءَ و نظّارا في مصالحكم، و وكلاء في أموركم مع كونهم جمادات لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً يستجلبونه وَ لا ضَرًّا يدفعونه لغاية عجزهم و عدم شعورهم، فاذا عجزوا عن تحصيل النفع لأنفسهم و دفع الضرر عنهم، كانوا من تحصيل نفعكم و دفع الضرر عنكم أعجز، فاذن كانت عبادتهم و الخضوع لهم عين السّفه و العبث.

ثمّ لمّا كان المشركون يمتنعون من اتّباع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يدّعون تساويهم معه في البشرية و عدم فضيلة له عليهم، و كان ذلك من عمى قلوبهم، أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالزامهم بما هو البديهي عند جميع العقلاء من عدم التساوي بين العالم و الجاهل بقوله: قُلْ يا محمّد، لمن يقدح في نبوتك بكونك بشرا مثلهم: هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى الواقعي الذي لا بصيرة له وَ اَلْبَصِيرُ بجميع المعارف و العلوم الحقيقية؟ فأنتم ذلك الأعمى، و أنا ذلك البصير، فكيف أكون مثلكم؟ ثم تدّعون أنّ الشرك أفضل من التوحيد، و أنا أسألكم أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُماتُ و هي شعب الشرك و أنواعه التي أنتم فيها وَ اَلنُّورُ الذي هو التوحيد الخالص الذي أنا فيه.

و يحتمل أن يكون المقصود من الجملتين ترغيبهم إلى الإيمان، كما عن القمّي حيث قال في تفسير الأعمى و البصير: يعني الكافر و المؤمن. و في تفسير الظلمات و النور: يعني الكفر و الايمان (1).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غاية خطأ المشركين في اتخاذ الأصنام أولياء، أكّد ذلك ببيان عدم علّة لخطئهم ذلك إلاّ ما هو أوضح في البطلان ممّا ادّعوه بقوله: أَمْ جَعَلُوا قيل: يعني بل جعلوا (2)لِلّهِ شُرَكاءَ و لا وجه لذلك إلاّ أنهم رأوا أصنامهم خَلَقُوا أشياء كَخَلْقِهِ تعالى فَتَشابَهَ و التبس اَلْخَلْقُ و الخالق عَلَيْهِمْ بسبب ذلك، و قالوا: إنّ الأصنام لمّا تشارك اللّه في الخلق، وجب أن تشاركه في الالوهية و العبادة، مع وضوح أنّهم لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له.

إذن قُلْ لهم-يا محمّد-إرشادا لهم إلى الخلق، و إعلانا بما في قلوبهم: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الأرواح و الأجسام و الجواهر و الأعراض، لا خالق غيره حتى يشاركه في استحقاق العبادة وَ هُوَ تعالى اَلْواحِدُ بلا شبيه، المتوحّد بالألوهية اَلْقَهّارُ لكلّ شيء الغالب على جميع الممكنات،

ص: 475


1- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:64.
2- . تفسير روح البيان 4:358، تفسير الصافي 3:64.

و منها آلهتكم و أصنامكم، فكيف يمكن أن يكون أولياؤكم شركاءه تعالى في الالوهية و العبادة؟ !

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 17

ثمّ أنّه تعالى بعد ضرب المثل لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و للمشركين و للشرك و التوحيد، أو للكافر و المؤمن، و للايمان و الكفر، بالأعمى و البصير، و الظلمات و النور، ضرب مثلين للحقّ و الباطل توضيحا للحق بقوله: أَنْزَلَ اللّه مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ (1)، أو من جهة العلوّ ماءً مباركا إلى الأرض فَسالَتْ من ذلك الماء المنزل أَوْدِيَةٌ و أراض منخفضة عن الجبال و التلال، و جرى الماء فيها بِقَدَرِها و حدّ سعتها، أو بمقدارها الذي علم اللّه أنّها النافع للناس، فيسيل ذلك الماء فَاحْتَمَلَ ذلك اَلسَّيْلُ و الماء الكثير الجاري في تلك الأودية لشدّة جريانه زَبَداً و رغوا رابِياً و مرتفعا عليه، أو طافيا فوقه.

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنّارِ اِبْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْباطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ (17)ثمّ بعد ضرب المثل للباطل بالزّبد الحاصل من الماء، ذكر الزّبد الحاصل من النار بقوله: وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ و يذوّبه الناس فِي اَلنّارِ من الفلزّات السبعة: الذّهب، و الفضّة، و النّحاس، و الرّصاص، و الصّفر، و الحديد، و الزّئبق اِبْتِغاءَ حِلْيَةٍ و طلبا للزّينة كالقرط و السّوار و الخلخال و غيرها أَوْ طلب مَتاعٍ من أثاث و آلات ينتفع بها كالأواني و أسلحة الحرب و أدوات الحرث، فانّه بعد ذوبه ينشأ عليه زَبَدٌ مِثْلُهُ كزبد الماء، يقال له الخبث كَذلِكَ المثل البديع المطابق للممثّل له يَضْرِبُ اَللّهُ العالم بحقائق الأشياء ليبيّن اَلْحَقَّ وَ اَلْباطِلَ فانّ الحقّ كالماء الصافي و مذابّ الفلزّ الخالص، و الباطل كالزّبد و الخبث.

ثمّ بيّن سبحانه وجه الشّبه بقوله: فَأَمَّا اَلزَّبَدُ الذي للماء و مذابّ الفلزّ فَيَذْهَبُ و يعدم من بين النّاس حال كونه جُفاءً و غير منتفع به، و إن كان على الماء و الفلزّ المذابّ في بدو حدوثه وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ في معاشهم و معادهم كالماء الصافي الذي به حياة كلّ شيء، و الفلزّ الخالص الذي صار زينة و متاعا لهم فَيَمْكُثُ و يبقى فِي وجه اَلْأَرْضِ ينتفع به أهلها، فإنّ الماء ينفذ في عروق الأرض، ثمّ ينبع من العيون و الآبار و القنوات، و الفلزّ الخالص يدوم سنين متطاولة

ص: 476


1- . السماء مؤنث، و قد يذكّر.

كَذلِكَ المثل الذي هو في غاية المطابقة للممثّل له يَضْرِبُ اَللّهُ و يبيّن اَلْأَمْثالَ الاخر التي يأتي بها في كتابه الكريم لإيضاح المطالب العالية للذين لا يدركونها إلاّ بذكر ما يشابهها من المحسوسات.

قيل: إنّ الماء الذي به حياة الأشياء مثل للقرآن الذي به حياة القلوب، و الأودية مثل للقلوب، فانّ كلاّ منهما يستفيض من القرآن بقدر استعداده و ظرفيته، و الزّبد مثل الهواجس النفسانيّة و الوساوس الشيطانية، و كما أنّ الزّبد لا وزن له و لا نفع، كذلك الباطل لا قدر له و لا ثواب عليه، و الحقّ و الايمان ينتفع به في الدنيا و الآخرة، كما ينتفع بالماء في الدنيا غاية الانتفاع، و الكفر و الباطل لا ينتفع بهما لا في الدنيا و لا في الآخرة (1).

عن القمي رحمه اللّه يقول: أنزل اللّه الحقّ من السماء فاحتملته القلوب بأهوائها؛ ذو اليقين على قدر يقينه، و ذو الشكّ على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلا كثيرا و جفاء، فالماء هو الحقّ، و الأودية هي القلوب، و السيل هو الهوى، و الزّبد و خبث الحلية هو الباطل (2)، و المتاع هو الحقّ، من أصاب الحلية و المتاع في الدين انتفع به، و كذلك صاحب الحقّ يوم القيامة ينفعه، و من أصاب الزّبد و خبث الحلية لم ينتفع، و كذلك صاحب الباطل يوم القيامة لا ينتفع به (3).

و في (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قد بيّن اللّه تعالى قصص المغيّرين، فضرب مثلهم بقوله: فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ فالزّبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن، و هو يضمحلّ و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الذي ينفع الناس منه فالتنزيل الحقيقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا و من خلفه، و القلوب تقبله، و الأرض في هذا الموضع هي محلّ العلم و قراره» الحديث (4).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 18

ثمّ بيّن سبحانه فائدة الحقّ و الخلوص في عبادته بقوله: لِلَّذِينَ اختاروا دين الحقّ و اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ دعوته الحقّ بأن آمنوا بتوحيده و رسالة رسوله و عملوا بمرضاته الاستجابة اَلْحُسْنى من

لِلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ (18)

ص: 477


1- . تفسير روح البيان 4:360.
2- . في المصدر: و الزبد هو الباطل و الحلية.
3- . تفسير القمي 1:362، تفسير الصافي 3:64.
4- . الاحتجاج:249، تفسير الصافي 3:65.

اللّه أو المثوبة الحسنى و هي الجنّة و النّعم الدائمة، أو الحالة الحسنى في مدّة عمرهم و هي الإعراض عن الدنيا و فراغة القلب من همّها، و الانس مع اللّه و الالتذاذ بمناجاته، و إقبال القلب إلى الآخرة، و الاشتغال بما يوجب الفوز بنعمها.

وَ أمّا اَلَّذِينَ سمعوا دعوة ربّهم و لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ و لم يقبلوا دين الحق و اتّبعوا الباطل لَوْ فرض أَنَّ لَهُمْ في القيامة ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً من النقود و الأمتعة و الضّياع و العقار و غيرها وَ أن مِثْلَهُ مَعَهُ و كان لهم ضعف ما في الدنيا لاَفْتَدَوْا بِهِ أنفسهم من العذاب، و بذلوه لتخليص أنفسهم منه، ما تقبّل منهم أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسابِ.

عن عائشة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلاّ هلك» قلت: أو ليس يقول اللّه: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ (1)فقال: «إنّما ذلك العرض، و لكن من نوقش في الحساب يهلك» (2).

عن الصادق عليه السّلام-في تفسير سوء الحساب-قال: «هو أن لا يقبل منهم حسنة، و لا يغفر لهم سيئة» (3).

ثمّ بيّن اللّه ما يترتّب على سوء الحساب و المناقشة فيه بقوله: وَ مَأْواهُمْ و مرجعهم بعد المناقشة في الحساب جَهَنَّمُ وَ هي بِئْسَ اَلْمِهادُ و المستقرّ الذي مهّدوه لأنفسهم.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ أنّه تعالى بعد إنكاره التساوي بين الأعمى و البصير، بيّن المراد منهما بقوله: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ ببصارة قلبه و تنوّر ضميره أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن و ما فيه من المعارف و الأحكام هو اَلْحَقُّ و الثابت في الواقع كَمَنْ هُوَ لظلمة باطنه و خبث ذاته و الختم على قلبه أَعْمى فاقد البصيرة بحيث لا يرى المهلكة و المأمن، و لا يميز الضارّ و النافع، لا و اللّه ليس أحدهما كالآخر و إِنَّما يَتَذَكَّرُ التباين بينهما، أو نفع هذه الأمثلة، أو نصائح القرآن أُولُوا اَلْأَلْبابِ و أصحاب العقول السليمة عن شوائب الأوهام.

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (19) اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ اَلْمِيثاقَ (20)قال العلامة في (نهج الحق) : أَ فَمَنْ يَعْلَمُ هو عليّ عليه السّلام (4).

ثمّ وصف اللّه العالمين بحقّانية ما أنزل، أو اولوا الألباب بقوله: اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ الذي اخذ منهم على الايمان بتوحيده و رسالة رسله و العمل بأحكامه وَ لا يَنْقُضُونَ ذلك اَلْمِيثاقَ الذي

ص: 478


1- . الانشقاق:84/8.
2- . تفسير روح البيان 4:361.
3- . مجمع البيان 6:442، تفسير الصافي 3:65.
4- . نهج الحق و كشف الصدق:197.

و اثقهم به بالشّرك و ارتكاب المعاصي.

عن ابن عباس: يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم و أشهدهم على أنفسهم أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ (1).

و قيل: إنّ الميثاق ما واثقه (2)المكلّف على نفسه و التزم به بنذر و شبهه (3).

عن الكاظم عليه السّلام: «نزلت هذه الآية في آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ما عاهدهم عليه، و ما أخذ عليهم من الميثاق في الذرّ من ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة عليهم السّلام بعده» (4).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 21 الی 24

ثمّ وصفهم بالعمل بأهمّ التكاليف بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و رحم نفسه. عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قد تكون في قرابتك» الخبر (5).

وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ اَلْحِسابِ (21) وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدّارِ (22) جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ (24)و عنه عليه السّلام: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: اللهمّ صل من وصلني و اقطع من قطعني. و هي رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ و رحم كلّ ذي رحم» (6).

و قيل: إنّ المراد رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه [صلة الرّحم و]صلة القرابة الثابتة بسبب إخوّة الإيمان، و من صلتهم إمدادهم بايصال الخيرات إليهم، و دفع المكارة و الآفات عنهم (7).

وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و عذابه، أو مهابته وَ يَخافُونَ سُوءَ اَلْحِسابِ بالخصوص، فلذا يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

ص: 479


1- . تفسير الرازي 19:40، و الآية من سورة الأعراف:7/172.
2- . في تفسير الرازي: ما وثقه.
3- . تفسير الرازي 19:41.
4- . تفسير القمي 1:363، تفسير الصافي 3:66.
5- . الكافي 2:125/28، تفسير الصافي 3:66.
6- . الكافي 2:121/7، تفسير الصافي 3:66.
7- . تفسير الرازي 19:41.

عن الصادق عليه السّلام: «هو أن تحسب عليهم السيئات، و لا تحسب لهم الحسنات، و هو الاستقصاء» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه تلا هذه الآية حين رأى رجلا استقصى حقّه من أخيه، و قال: «أتراهم يخافون أن يظلمهم أو يجور عليهم؟ لا و لكنّهم خافوا الاستقصاء و المداقّة، فسمّاه اللّه سوء الحساب، فمن استقصى فقد أساء» (2).

و عنه عليه السّلام: «لو لم يكن للحساب مهولة إلاّ حياء العرض على اللّه، و فضيحة هتك الستر على المخفيات، لحقّ للمرء أن لا يهبط من روؤس الجبال، و لا يأوي إلى عمران، و لا يأكل و لا يشرب و لا ينام إلاّ عن اضطرار متّصل بالتّلف» (3).

وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا على طاعة اللّه و ترك المشتهيات و مصائب الدهر اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ و طلبا لمرضاته و مثوباته، و استغراقا في محبّته (4).

ثمّ لمّا كانت الصلاة و الزكاة أهم العبادات، خصّهما بالذكر بقوله: وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ الواجبة وَ أَنْفَقُوا على الفقراء و المحتاجين و وجوه البرّ بعضا مِمّا رَزَقْناهُمْ و أنعمنا عليهم من الأموال الزكوية بقصد الزكاة و القربة سِرًّا إذا لكم يكن في معرض الاتهام بترك أداء الزكاة وَ عَلانِيَةً و جهرا إذا كان في معرضه.

و قيل: إن المراد الصدقات المندوبة، فانّها تنفق سرّا، أو الزكاة الواجبة فانّها تودّى علانية (5).

و قيل: إنّ المراد الإنفاق من جميع ما أعطاه اللّه من المال و العلم و الجاه و القوى.

وَ يَدْرَؤُنَ و يدفعون بِالْحَسَنَةِ و الأعمال الخيرية، أو بالتوبة اَلسَّيِّئَةَ من المعاصي و الخطايا.

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، ما من دار فيها فرحة إلاّ تتبعها ترحة، و ما من همّ إلاّ و له فرج إلاّ همّ أهل النار. يا علي، إذا عملت سيئة فاتبعها بحسنة تمحها سريعا، و عليك بصنائع الخير فإنّها تدفع مصارع السوء» (6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، قال لمعاذ بن جبل: «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها» (7).

و قيل: إنّ المعنى يجازون الإساءة بالاحسان، و الظلم بالعفو، و المنع بالعطاء، و القطع بالصلة (8).

ص: 480


1- . تفسير العياشي 2:388/2217، مجمع البيان 6:444، تفسير الصافي 3:67.
2- . تفسير العياشي 2:388/2218، تفسير القمي 1:364، تفسير الصافي 3:66.
3- . مصباح الشريعة:85، تفسير الصافي 3:67.
4- . في النسخة: محبة.
5- . تفسير الرازي 19:43.
6- . تفسير القمي 1:364، تفسير الصافي 3:67.
7- . مجمع البيان 6:444، تفسير الرازي 19:43.
8- . تفسير روح البيان 4:366.

أُولئِكَ الكاملون المتّصفون بتلك الصفات الحميدة لَهُمْ عُقْبَى حسنة محمودة لهذه اَلدّارِ الفانية، و تلك العاقبة جَنّاتُ عَدْنٍ و بساتين إقامة. و قيل: جنّات عدن هي جنات في وسط الجنان (1)، هم يَدْخُلُونَها في الآخرة وَ معهم مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ قيل: المراد بالآباء أعمّ من الأمهات، و إنّما الصلاح بالايمان و العمل (2).

عن ابن عباس: يريد من صدّق بما صدّقوا به، و إن لم يعملوا مثل عملهم (3).

وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ و أولادهم و أولاد أولادهم و إن نزلوا، تبعا لهم، و تعظيما لشأنهم، و ليكونوا مسرورين بهم، آنسين بصحبتهم و إن لم يبلغوا في الفضل مبلغهم، كما عن ابن عباس (4).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن المؤمن له امرأة مؤمنة يدخلان الجنة، يتزوج أحدها الآخر؟ فقال: «إنّ اللّه حكم عدل، إذا كان أفضل منها خيّره، فان اختارها كانت من أزواجه، و إن كانت هي خير منه خيّرها، فان اختارته كان زوجا لها» (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ أمّ سلمة قالت له: بأبي أنت و أمّي، المرأة يكون لها زوجان فيموتان، لأيّهما تكون؟ فقال: «يا أمّ سلّمة، تخيّر أحسنهما خلقا، و خيرهما لأهله. يا امّ سلمة، إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا و الآخرة» (3).

ثمّ روي عن ابن عباس: أنّ لهم خيمة من درّة مجوّفة، طولها فرسخ، و عرضها فرسخ، لها ألف باب، مصاريعها من ذهب (4).

وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ و قيل: يدخلون من كلّ باب من أبواب البرّ، كباب الصلاة، و باب الزكاة، و باب الصوم، و باب الصبر (5). أو من أبواب غرفهم و قصورهم، و هم مع غاية جلالتهم و عظمة منزلتهم يقولون لهم تحية و إكراما و بشارة بدوام سلامتهم من المكاره: أيها المؤمنون سَلامٌ عَلَيْكُمْ و إنّما يكون ذلك السّلام و التكريم لكم بِما صَبَرْتُمْ في الدنيا على طاعة اللّه و شدائد الدهر، و أبشروا بأنّ مصيركم إلى الجنة و نعيمها، فتلك عاقبة أمركم فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ التي كنتم فيها.

روى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يأتي قبور الشهداء رأس كلّ حول، فيقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ (6).

ص: 481


1- . تفسير روح البيان 4:367. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 19:44.
2- . مجمع البيان 9:318، تفسير العياشي 3:154/61، تفسير الصافي 3:68.
3- . الخصال:42/34، تفسير الصافي 3:68.
4- . تفسير الرازي 19:45.
5- . تفسير الرازي 19:45.
6- . تفسير الرازي 19:45، تفسير أبي السعود 5:18.

القمي: نزلت في الأئمّة عليهم السّلام و شيعتهم الذين صبروا (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «نحن الصبّر، و شيعتنا أصبر منّا، لأنّا صبرنا على ما نعلم، و هم صبروا على ما لا يعلمون» (2).

و عن الباقر عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث يصف فيه حال المؤمن إذا دخل الجنان و الغرف- [قال:] «ثمّ يبعث اللّه له ألف ملك يهنّئونه بالجنّة، و يزوّجونه بالحوراء، فينتهون إلى أول باب من جنانه، فيقولون للملك الموكّل بأبواب الجنان: استاذن لنا على وليّ اللّه، فانّ اللّه قد بعثنا مهنّئين. فيقول الملك: حتّى أقول للحاجب، فيعلمه مكانكم. فيدخل الملك إلى الحاجب، و بينه و بين الحاجب ثلاث جنان، حتّى ينتهي إلى أول باب فيقول للحاجب: إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم اللّه ربّ العالمين يهنّئون وليّ اللّه [و قد سألوني أن آذن لهم عليه، فيقول الحاجب: إنّه ليعظم عليّ أن أستأذن لأحد على وليّ اللّه و هو مع زوجته الحوراء. قال: و بين الحاجب و بين وليّ اللّه جنّتان، قال: فيدخل الحاجب إلى القيّم فيقول له: إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم ربّ العزّة يهنّئون وليّ اللّه]فاستاذن [لهم]. فيقوم القيّم إلى الخدّام فيقول لهم: إنّ رسل الجبّار على باب العرصة، و هم ألف ملك يهنّئون ولي اللّه، فأعلموه مكانهم، فيعلمه الخدّام مكانهم، فيؤذن لهم فيدخلون على وليّ اللّه و هو في الغرفة، و لها ألف باب، و على كلّ باب من أبوابها ملك موكّل به، فاذا أذن للملائكة بالدخول على وليّ اللّه، فتح كلّ ملك بابه الذي وكّل به، فيدخل [القيّم]كلّ ملك من باب من أبواب الغرفة، فيبلّغونه رسالة الجبّار، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ يعني من أبواب الغرفة سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ» (1).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 25

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف المؤمنين الذين هم أهل البصيرة و تنوّر القلب بالصفات الكريمة، و بيان ما يترتّب عليها من الكرامة و النّعم و حسن العاقبة، ذكر صفات الكفّار الذين هم عمي القلوب بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ الذي أخذ عليهم بالإيمان و الطاعة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ و توكيده بالاقرار و القبول.

وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ (25)القمي: يعني في أمير المؤمنين عليه السّلام، و هو الذي أخذ اللّه عليهم في الذرّ، و أخذ عليهم رسول

ص: 482


1- . الكافي 8:98/69، تفسير الصافي 3:68.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غدير خمّ (1).

أقول: يعني هذا العهد من جملة العهود التي نقضوها.

وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من حبل ولاية اللّه و رسوله و الأئمة و المؤمنين و الأرحام وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ بالكفر و الطغيان و العصيان و الظلم على العباد و تهييج الفتن بين المسلمين.

ثمّ بيّن اللّه نتيجة تلك الرذائل بقوله: أُولئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ و البعد عن الرحمة في الآخرة وَ لَهُمْ سُوءُ العاقبة في هذه اَلدّارِ الدنيّة، و هي جهنم و بئس القرار.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 26 الی 27

ثمّ لمّا كان مجال توهّم المنافاة بين البعد عن الرحمة و وفور النعمة عليهم في الدنيا، دفعه اللّه سبحانه بقوله: اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ و يوسّعه في الدنيا لِمَنْ يَشاءُ بسطه و توسيعه عليه وَ يَقْدِرُ و يضيّق على من يشاء تقديره و تضييقه عليه على حسب اقتضاء حكمته في نظام العالم و صلاح الأشخاص من غير مدخلية للايمان و الكفر فيه، بل كثيرا ما يكون صلاح المؤمن في الفقر و الشدّة؛ لأنّه موجب لإقبال قلبه إلى اللّه، و إعراضه عن الدنيا، و استحقاقه مثوبة الصبر، و الكفر يكون من عقوبته توفير النّعم الموجب لخذلان الكافر و بعده من اللّه و استغراقه في الدنيا.

اَللّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ مَتاعٌ (26) وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)ثمّ وبّخ الكفّار على حبّهم الدنيا و فرحهم بها بقوله: وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا و نعيمها و لذائذها وَ الحال أنّه مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا و نعمها فِي جنب اَلْآخِرَةِ و نعهما إِلاّ مَتاعٌ قليل و نفع يسير في أيام قلائل، ثمّ يفنى و يزول، و لذا لا ينبغي للعاقل أن يفرح به، و عليه أن يهتمّ في تحصيل الآخرة و نعمها الدائمة التي لا انقطاع لها أبدا.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار بالصفات الرذيلة، ذمّهم باللّجاج و التعنّت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ و معجزة زائدة على ما أتى به، أو كمعجزات موسى و عيسى عليهما السّلام مِنْ رَبِّهِ الذي يدّعي رسالته من قبله قُلْ يا محمّد: قد أنزل اللّه عليّ من المعجزات زائدا على ما يكتفي به العاقل المنصف في الإيمان و التصديق، كما ترون أنّه اكتفى به جمع كثير، و إنّما لا تكتفون بما أتيت لعدم قابليتكم (2)للهداية إِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ و يحرف عن طريق

ص: 483


1- . تفسير القمي 1:363، تفسير الصافي 3:69.
2- . كذا، و لعلّه يريد استحقاقكم.

الحقّ مَنْ يَشاءُ ضلالته و انحرافه عنه بسبب خذلانه المترتّب على خبث ذاته و رذالة صفاته و سيئات أعماله وَ يَهْدِي إلى الحقّ، و يوصل إِلَيْهِ بلطفه و توفيقه مَنْ أَنابَ إلى الحقّ و طلبه و أعرض عن العناد و اللّجاج.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 28

ثمّ وصف سبحانه المهتدين بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيّته وَ تَطْمَئِنُّ و تسكن قُلُوبُهُمْ عند شدائد الدنيا و زلازلها بِذِكْرِ اَللّهِ و تذكّر ألطافه بالمؤمنين و رحمته بالذاكرين، و كونه وليا لهم، و ناظرا في صلاحهم، و محبّا لهم بحيث لا يرضى بمساءتهم.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّهِ أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ (28)عن ابن عباس: يريد أنّهم إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم و اطمأنّت. و قيل: إنّ علمهم بكون القرآن معجزا، يوجب الطّمأنينة لهم بكون محمّد صلّى اللّه عليه و آله نبيا حقّا من عند اللّه. و قيل: إنّه اطمأنّت قلوبهم بصدق اللّه في وعده و وعيده (1).

أَلا تنبهّوا أيها النّاس أنّه بِذِكْرِ اَللّهِ و التفكّر في عظمته و قدرته و كرمه و لطفه و رأفته تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ و تستقرّ الأفئدة من الاضطراب و الشكّ بنور اليقين.

عن الصادق عليه السّلام: «بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله تطمئنّ» (2).

القمي: الذين آمنوا الشيعة، و ذكر اللّه أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 29

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حسن حال المؤمنين في الدنيا، نبّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على حسن حالهم في الآخرة بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ طُوبى التي هي شجرة عظيمة في الجنّة لَهُمْ خاصة وَ حُسْنُ مَآبٍ و مرجع في الآخرة لهم.

اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (29)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «طوبى شجرة في الجنّة غرسها اللّه بيده، تنبت الحلي و الحلل، و إنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنّة» (4).

روي أن أصل هذه الشجرة في دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في دار كلّ مؤمن منها غصن (5).

عن الصادق عليه السّلام: «طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ليس مؤمن إلاّ و في داره

ص: 484


1- . تفسير الرازي 19:49.
2- . تفسير العياشي 2:390/2223، تفسير الصافي 3:70.
3- . تفسير القمي 1:365، تفسير الصافي 3:70.
4- . تفسير الرازي 19:50.
5- . تفسير الرازي 19:50.

غصن منها، لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلاّ أتاه به، و لو أن راكبا مجّدا سار في ظلّها مائة عام ما خرج منه، و لو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتّى يسقط هرما، ألا ففي هذا فارغبوا» (1).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام، قال: «أصلها في دار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» (2).

و عن الكاظم عليه السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه سئل عن طوبى، قال: شجرة أصلها في داري، و فرعها على أهل الجنّة. ثمّ سئل عنها مرّة اخرى فقال صلّى اللّه عليه و آله: في دار عليّ. فقيل له في ذلك فقال: إنّ داري و دار عليّ في الجنّة بمكان واحد» (3).

أقول: يمكن أن يقال شجرة طوبى صورة مثالية لدين الإسلام، فانّ مبدأها و منشأها الرسول و أمير المؤمنين عليهما السّلام، ثمّ انبسط منهما في قلوب المؤمنين، و كان انتفاع المؤمنين و سعادتهم الأبدية و حظوظهم به.

و قيل: إنّ طوبى اسم الجنّة (4). و قيل: إنّ طوبى مشتقّ من طاب كبشرى (5).

عن ابن عباس: المعنى فرح و قرّة عين لهم. و عن عكرمة: نعم مالهم. و عن الضحّاك: غبطة لهم و قيل: يعني حسنى لهم (6).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان التوحيد و الفرق بين الحقّ و الباطل و سائر المطالب العالية التي [هي]دليل صدق نبوة النبيّ الامّي صلّى اللّه عليه و آله، دفع سبحانه استبعاد المشركين نبوته بقوله: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ و التقدير: كما أرسلنا إلى الامم الكثيرة رسلا كثيرة ليتلوا عليهم الكتب المنزلة، كذلك أرسلناك إرسالا له شأن و فضل فِي أُمَّةٍ هي آخر الامم، كما أنت آخر الرسل قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ كثيرة لتهدي تلك الامّة و لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الكتاب العظيم اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل وَ الحال أنّ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و اللّه الواسع الرحمة بحيث وسعت رحمته كلّ شيء.

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ (30)قيل: كانوا يقولون: إنّ محمدا يدعو إلهين، يدعو اللّه و يدعو آخر يسمّى بالرحمن، و لا نعرف

ص: 485


1- . الكافي 2:187/30، تفسير الصافي 3:70.
2- . إكمال الدين:358/55، تفسير الصافي 3:70.
3- . مجمع البيان 6:448، تفسير الصافي 3:70.
4- . تفسير الرازي 19:51.
5- . تفسير الرازي 19:50.
6- . تفسير الرازي 19:50.

الرحمن إلاّ رحمن اليمامة، يريدون مسيلمة الكذّاب (1). فأمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بردّهم بقوله: قُلْ لهم هُوَ رَبِّي و خالقي و متولّي اموري لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا معبود سواه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في جميع اموري، و به اعتمدت في العصمة من شركم و النّصرة عليكم وَ إِلَيْهِ لا إلى غيره مَتابِ و مرجع، فيرحمني و ينتقم لي منكم، و يثبّتني على مصابرتكم و أذاكم.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 31 الی 32

ثم بيّن اللّه سبحانه عظمة شأن القرآن و الكتاب الذي أنزله عليه و أوحاه إليه بقوله: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً كانت له الآثار العظيمة في العالم حتّى أنّه سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبالُ بعد ما قلعت به من أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ و انشقّت بِهِ اَلْأَرْضُ فجعلت أنهارا و عيونا، أو تطوى به الأرض، و يسار به إلى البلدان أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى بعد إحيائهم به، لكان ذلك هذا القرآن، لوجود تلك الآثار العظيمة له، أو لما آمنوا به، و لا استبعاد لوجود هذه الآثار لكلام اللّه، فانه قادر على هذه الامور و ترتيبها على كلامه.

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى بَلْ لِلّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لَهَدَى اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ (31) وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)بَلْ لِلّهِ الخالق لجميع الأشياء اَلْأَمْرُ من التصرّف و التغيير في الموجودات و القدرة على ما أراد جَمِيعاً إن شاء فعل، و إن لم يشأ لم يفعل.

روي أنّ أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة، فأتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عرض عليهم الإسلام، فقال له عبد اللّه بن امية المخزومي: سيّر لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا، و اجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها، أواحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحقّ ما تقول أم باطل، فقد كان عيسى يحيي الأموات، أو سخّر لنا الريح حتى نركبها و نسير في البلاد، فقد كانت الريح مسخّرة لسليمان، فلست بأهون على ربّك من سليمان، فنزلت هذه الآية (2).

عن الكاظم عليه السّلام: «قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي (3)تسيّر به الجبال، و تقطع به البلدان، و تحيى به الموتى» (4).

ص: 486


1- . تفسير الرازي 19:52، تفسير روح البيان 4:375.
2- . تفسير الرازي 19:52.
3- . زاد في الكافي: فيه ما.
4- . الكافي 1:176/7، تفسير الصافي 3:71.

ثمّ روي أنّ طائفة من المؤمنين قالوا: يا رسول اللّه، أجب هؤلاء الكفّار إلى ما اقترحوه من الآيات، فعسى أن يؤمنوا (1)، فأظهر اللّه سبحانه التعجّب من توقّع المؤمنين إيمان هؤلاء المقترحين و رجائهم فيه بقوله: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا و لم ينقطع رجاءهم من إيمان هؤلاء، و ليعلموا أَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ الإجبار على الهداية و الإيمان لَهَدَى اَلنّاسَ جَمِيعاً حتى هؤلاء المصرّين على الكفر، و لكن إجبارهم على الهداية و الايمان خلاف الحكمة، و لذا لم يشأ ذلك، و هم باختيارهم لا يؤمنون أبدا لشدّة لجاجهم و عنادهم للرسول و دين الحقّ.

و قيل: إنّ ييئس بمعنى يعلم حقيقة على لغة النّخع (2)، أو مجازا بعلاقة أنّ العلم بأنّ الشيء لا يكون يوجب اليأس من كونه، و عليه يكون المعنى أ فلم يعلم المؤمنون أن لو يشاء اللّه، الى آخره.

و روي أنه قرأ أمير المؤمنين و السجّاد و جعفر بن محمد عليهم السّلام (أ فلم يتبين) و نسبت تلك القراءة إلى جماعة من الصحابة و التابعين (3). و لا بدّ من حمل القراءة في الروايات على التفسير.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان لجاج الكفّار و اقتراحهم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سلّى قلبه الشريف بقوله: وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا و أصرّوا على كفرهم و عنادهم تُصِيبُهُمْ و تنزل عليهم جزاء بِما صَنَعُوا من الكفر و الاقتراح عليك و استهزائهم بك قارِعَةٌ و داهيّة عظيمة تفزعهم و تفجأهم من البلايا و المصائب الشديدة أَوْ تَحُلُّ و تنزل الداهية قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ و بلدهم و هو مكة، و يفزعون و يضطربون، و تصل إليهم شرارها، و يتعدّى إليهم شرورها حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللّهِ من الموت أو القيامة.

و قيل: إنّ المعنى لا يزال كفّار مكّة تصيبهم بما صنعوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من العداوة و التكذيب قارعة؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة، و تختطف منهم، و تصيب من مواشيهم، أو تحلّ أنت-يا محمّد-قريبا من دارهم بجيشك، كما حلّ بالحديبية حتى يأتي وعد اللّه، و هو فتح مكة، و قد كان اللّه وعده ذلك (4)إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ.

عن الباقر عليه السّلام: «و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة، و هي النّقمة، أو تحلّ قريبا من دارهم، فتحلّ بقوم غيرهم فيرون ذلك و يسمعون به، و الذين حلّت بهم عصاة كفّار مثلهم و لا يتّعظ بعضهم ببعض، و لا يزالون كذلك حتى يأتي وعد اللّه الذي وعد المؤمنين من النصر» الخبر (5).

ص: 487


1- . تفسير روح البيان 4:377.
2- . تفسير الرازي 19:53.
3- . مجمع البيان 6:449، تفسير الصافي 3:71.
4- . تفسير الرازي 19:54.
5- . تفسير القمي 1:365، تفسير الصافي 3:71.

ثمّ لمّا كان اقتراح الكفّار على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مقرونا باستهزائه، بالغ سبحانه في تسليته بقوله: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ قومك بك فَأَمْلَيْتُ و أمهلت لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الأخذ و العقوبة ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بغتة بالعقاب فَكَيْفَ كانَ عِقابِ النازل على هؤلاء الأقوام، و كيف رأيت و سمعت معاملتي معهم؟ ! و في الاستفهام التعجّبي (1)إشارة إلى غاية شدّة عقوبتهم.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 33

ثمّ وبّخ اللّه المشركين على ضعف عقولهم بإظهار التعجّب من سوء عقيدتهم بقوله: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ و قاهر عَلى كُلِّ نَفْسٍ من النفوس، مؤمنة كانت أو كافرة، و قيّم عليها، و عالم بِما كَسَبَتْ من الطاعات و السيئات و جازيها حسب استحقاقها من الثواب و العقاب، كيف يمكن أن يكون كالأصنام التي لا قدرة و لا علم و لا شعور لها، فما أعجب كفر هؤلاء إذ سوّوا بين الكامل القادر على كلّ شيء و العالم بكلّ شيء، و بين الجمادات وَ جَعَلُوا تلك الأصنام لِلّهِ العظيم المتعال شُرَكاءَ في الالوهية و العبادة مع علمهم بعدم التساوي بينهما.

أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)و قيل: إنّ المعنى أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت لم يوحّدوه و لم يمجّدوه، و جعلوا للّه شركاء (2).

ثمّ أمر نبيه بإقامة الحجّة على بطلان شركهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المشركين ما هذه الأصنام التي تعبدونها؟ سَمُّوهُمْ و بيّنوا ما يقال لهم وصفوهم بأوصافهم، فانظروا هل لهم صفة يستحقّون بها العبادة، فان لم يكن لهم اسم يشير إلى تلك الصفة، فكيف تشركون بهم مع الذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية المعطي لكلّ شيء ما به كماله؟

و قيل: إنّ كلمة (سمّوهم) كناية عن غاية حقارة الأصنام، فانّ العرب تقول للشيء المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يكون قابلا للذكر و تسميته باسم لا اسم له (3): سمّه بما شئت، يعني أنّه أخسّ من أن يسمّى و يذكّر، و لكنّك إنّ شئت أن تضع له اسما فافعل، فإنّه في الحقارة إلى حدّ لا يستحقّ أن يلتفت إليه عاقل (4).

ص: 488


1- . في النسخة: التعجيبي.
2- . تفسير الرازي 19:56.
3- . في تفسير الرازي: الحقارة إلى أن لا يذكر و لا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال:
4- . تفسير الرازي 19:56.

ثمّ زاد سبحانه في الاحتجاج بقوله: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ قيل: إنّ المعنى بل أتخبرون اللّه (1)و تنبّئونه بِما لا يَعْلَمُ وجوده فِي اَلْأَرْضِ مع أنّه عالم و محيط بما في السماوات و الأرض لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة، فإذا علمتم بالوهية الأصنام فقد علمتم بما لا يعلمه اللّه، و هو محال، فعدم علمه تعالى بالوهية هذه الأصنام و إله آخر غير ذاته المقدّسة، إنّما هو دليل قاطع على عدم الوهية كلّ ما يدّعون الوهيته في الأرض أَمْ يتفوّهون بِظاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ و صورة لفظ لا معنى و لا واقع لها و لا حقيقة، فيكون من قبيل لقلقة اللسان، أو يريدون من تسمية الأصنام باسم الإله ما يكون بذاته و صفاته في غاية البينونة مع الالوهية، فيكون من قبيل تسمية الزنجيّ بالكافور.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ عقيدة الشّرك ليس ممّا يكون نظر صاحبه إلى الدليل حتى يتكلّف ببيان بطلانه أو إقامه الدليل العقلي على خلافة بَلْ زُيِّنَ بتسويلات الشيطان و اقتضاء الأهواء الرائعة لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ و اعتقادهم الفاسد و تخيّلهم الباطل، فلا تكلّف نفسك باقامة الحجّة العقلية على بطلان اعتقادهم، لأنّهم لا ينتفعون بها وَ صُدُّوا و منعوا عَنِ طريق الحقّ و اَلسَّبِيلِ المستقيم بسلب توفيق سلوكها عنهم، فأضلّهم اللّه وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ عن الهدى بالخذلان فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى الحقّ، و يوصله إلى السعادة و الخير.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 34

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة ضلالهم و عاقبته بقوله: لَهُمْ عَذابٌ شاقّ شديد فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و مدّة أعمارهم فيها بالقتل و الأسر و الخزي و سائر المصائب وَ و اللّه (2)لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ المعدّ لهم فيها أَشَقُّ و أصعب و أخزى لغاية شدّته و دوامه وَ ما لَهُمْ مِنَ عذاب اَللّهِ و قهره مِنْ واقٍ و حافظ يقيهم و يحفظهم منه.

لَهُمْ عَذابٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ واقٍ (34)في حديث المعراج: ثمّ أتى صلّى اللّه عليه و آله على واد، فسمع صوتا منكرا، فقال: «يا جبرئيل، ما هذا الصوت؟» قال: صوت جهنّم تقول: يا ربّ إئتني بأهلي و بما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي و أغلالي و سعيري و حميمي و غسّاقي و غسليني، و قد بعد قعري، و اشتدّ حرّي، ائتني بما وعدتني. قال: لك كلّ مشرك و مشركة و خبيث و خبيثة و كلّ جبّار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت: رضيت (3).

ص: 489


1- . تفسير روح البيان 4:379.
2- . كذا، و لا موضع للقسم في الآية.
3- . تفسير روح البيان 4:380.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 35

ثمّ أنّه تعالى بعد توعيد المشركين بالعذاب الدنيوي و الاخروي و إظهار غضبه عليهم، وعد الموحّدين بالجنة الموصوفة بالصفات العالية، و أعلن برحمته و لطفه بهم بقوله: مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ عن الشرك و المعاصي و صفتها العجيبة أنّ فيها قصورا و غرفا و أشجارا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة من الماء و اللّبن و الخمر و العسل و أُكُلُها و ثمراتها دائِمٌ لا انقطاع لها و لا نفاد وَ ظِلُّها أيضا دائم لا زوال له كما يزول في الدنيا بالشمس.

مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكافِرِينَ اَلنّارُ (35)و قيل: إنّ لفظ الظلّ كناية عن الاستراحة؛ لأنّ الظلّ عند العرب ممّا يعظم فيه استراحتهم (1).

تِلْكَ الجنّة الموصوفة بالأوصاف عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و ما لهم و نتيجة أعمالهم وَ عُقْبَى اَلْكافِرِينَ و مآل أمرهم في الآخرة اَلنّارُ التي سخّرها الجبّار بغضبه.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 36

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده، و بيان كثير من المطالب العالية الموافقة لما في الكتب السماوية، استدلّ على صحّتها بتصديق أهل الكتاب و علمائهم لها بقوله: وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ من التوراة و الانجيل و غيرهما من الكتب يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن؛ لأنّهم يجدونه موافقا لما في كتبهم، و مصدّقا له.

وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ اَلْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36)عن الباقر عليه السّلام: «أي يفرحون بكتاب اللّه إذا تلي عليهم، و إذا تلوه تفيض أعينهم دمعا من الفزع و الحزن» (2).

و عن ابن عباس: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ هم الذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلاّم و كعب و أصحابهما، و من أسلم من النصارى و هم ثمانون رجلا، أربعون بنجران، و ثمانية باليمن، و اثنان و ثلاثون بالحبشة، فهم فرحوا بالقرآن كلّه لأنّهم آمنوا به و صدّقوه (3).

وَ مِنَ اَلْأَحْزابِ و هم بقية أهل الكتاب و كفرتهم الذين تحزبّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالعداوة، ككعب بن الأشرف و أتباعه و السيد و العاقب أسقفي نجران و أتباعهما مِنَ إذا سمع القرآن يُنْكِرُ

ص: 490


1- . تفسير روح البيان 4:381.
2- . تفسير القمي 1:366، تفسير الصافي 3:73.
3- . تفسير الرازي 19:60.

بَعْضَهُ المخالف لشرائعهم.

عن ابن عباس: آمن اليهود بسورة يوسف، و كفر المشركون بجميعه (1).

و قيل: إنّ المراد من الكتاب القرآن، فالمعنى أنّ أهل القرآن يفرحون بما انزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله من التوحيد و العدل و النبوة و البعث و الأحكام و القصص، و من الأحزاب: الجماعات [من]اليهود و النصارى (2)، و المشركين فانّهم يؤمنون ببعض القرآن من إثبات اللّه و إثبات علمه و قدرته و قصص الأنبياء، و ينكرون بعضه من توحيده و عدم الولد له و غيرهما ممّا يخالف عقائدهم و أحكامهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات المبدأ و توحيده، أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة إليه، و صرف الناس عن مطلق الشرك بقوله: قُلْ يا محمّد للناس إِنَّما أُمِرْتُ من قبل ربّي أَنْ أَعْبُدَ اَللّهَ و اطيعه في أحكامه وَ لا أُشْرِكَ بِهِ شيئا من خلقه من الشمس و القمر و الكواكب و الأصنام و غيرها من الموجودات، و أنا على حسب وظيفة رسالتي إِلَيْهِ تعالى خاصة أَدْعُوا الناس كلّهم، أو المراد أخصّه بالدعاء إليه، و لا أدعو معه غيره وَ إِلَيْهِ مَآبِ كلّ أحد منّي و منكم للحساب و الجزاء.

و قيل: إنّ المراد إنّما امرت فيما انزل إليّ بأن أعبد اللّه و أوحّده، و هو العمدة في الدين، و لا سبيل لكم إلى إنكاره، و أمّا ما تنكرونه من الأحكام المخالفة لشرائعكم، فليس ببدع مخالفة الشرائع و الكتب الإلهية في جزئيات الأحكام، و أنا إلى توحيده أدعو العباد و أقول: إِلَيْهِ مَآبِ و هذا هو المتّفق عليه بين الأنبياء، و أما ما عدا ذلك من الفروع فمما يختلف بالأعصار و الامم، فلا معنى لإنكار المخالف فيه (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 37

ثمّ قرّر هذا المعنى و أوضحه بقوله: وَ كَذلِكَ و المراد كما أنزلنا على الرسل الذين كانوا قبلك كتابا بلسان اممهم فيه جميع أحكام شريعتهم، كذلك آتيناك القرآن و أَنْزَلْناهُ عليك حال كونه محتويا (4)لجميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس، صحّ أن يقال: إنّ هذا الكتاب بنفسه يكون حُكْماً في كلّ شيء.

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (37)و قيل: إنّ المعنى أنّه محكم لا يقبل النسخ و التغيير (5).

ص: 491


1- . تفسير روح البيان 4:382.
2- . تفسير الرازي 19:60.
3- . تفسير روح البيان 4:382.
4- . في النسخة: لا حتوائه.
5- . تفسير روح البيان 4:383.

و لمّا كان قومك عربا جعلناه عَرَبِيًّا ليسهل عليهم فهمه و حفظه، إذن فاتّبعه و أعمل به وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ بدع المشركين و أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها، و سلكت طريقتهم الباطلة التي مالت إليها طباعهم بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ قبل اللّه اَلْعِلْمِ بصحّة دينك و استقامة طريقتك بالآيات الباهرة و البراهين المتقنة ما لَكَ مِنَ عذاب اَللّهِ و نقمته مِنْ وَلِيٍّ و ناصر يدفعه عنك وَ لا واقٍ و حافظ يحفظك منه.

روي أنّ المشركين كانو يدعونه عليه السّلام إلى [اتباع ملّة آبائهم المشركين، و كان اليهود يدعونه إلى] الصلاة إلى قبلتهم [أي بيت المقدس]بعد ما حوّل عنها (1)، فتوعّده اللّه على متابعتهم.

قيل: إنّ الغرض [منه]حثّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله على القيام بحقّ الرسالة و تحذيره من خلافها، و فيه تحذير عامة المكلفين (2).

عن ابن عباس: الخطاب مع النبي صلّى اللّه عليه و آله، و المراد امّته (3).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 38 الی 39

ثمّ لمّا كان من شبهاتهم في نبوته أنّه بشر، و لا يكون النبي إلاّ ملكا، فدفعه اللّه بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً كثيرة عظيمة الشأن مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على عصرك، كلّهم كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ (39)و منها أنّ محمّدا لو كان نبيا لما كان مشتغلا بالنساء، بل كان معرضا عنهنّ مشتغلا بالعبادة، فردّهم اللّه بقوله: وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً فقد كان لداود مائة امرأة و لسليمان ثلاثمائة مهيرة و سبعمائة سرّية (2).

و منها أنّ محمّدا لو كان رسولا صادقا، لكان يأتي بما طلبنا منه من المعجزات، فأجاب اللّه تعالى عنها بقوله: وَ ما كانَ و ما صحّ لِرَسُولٍ من الرسل أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ و معجزة إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و مشيئته التي يدور عليها أمر الكائنات.

و من المعلوم أنّه لا يجب على اللّه أن يأذن في إتيان المعجزة إلاّ بمقدار كاف في إثبات الرسالة

ص: 492


1- . تفسير روح البيان 4:383. (2 و 3) . تفسير الرازي 19:62.
2- . المهيرة: الغالية المهر، و السّرّيّة: الأمّة التي أنزلتها بيتا.

حتى لا يبقى لأحد مجال الشكّ و الترديد فيها، و أمّا الزائد عليه فليس على اللّه بحتم، بل إن شاء أذن و إن لم يشأ لم يأذن.

و منها أنّ محمّدا لو كان نبيا لأنزل علينا بالعذاب الذي أو عدنا به على إنكار التوحيد و رسالته، فأبطلها سبحانه بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ و حادث قضاه اللّه، أو لكل أجل من آجال الناس، أو لكلّ وقت من الأوقات كِتابٌ و وقت معين مثبوت عند اللّه في اللوح المحفوظ لا يزاد و لا ينقص، و لا يتقدّم و لا يتأخّر، و لا يطّلع عليه أحد غيره، فنزول العذاب على الكفّار و نصرة الأنبياء، و إن كانا ممّا قضاه اللّه، و لكن لهما وقت معين مكتوب، فلا يدلّ تأخيرهما على كون المخبر بهما كاذبا.

و منها أن محمّدا لو كان رسولا صادقا لما نسخ الأحكام التي أنزل اللّه بها في الكتب السماوية كالتوراة و الانجيل، فأزاحها اللّه بقوله: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ محوه من الأحكام، و ينسخ ما يريد نسخه وَ يُثْبِتُ بدله ما يشاء إثباته من الأحكام على حسب اقتضاء المصلحة في الأزمنة المختلفة و الامم المتغايرة.

و قيل: إنّ قوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ كالمقدمة لتقرير دفع الشّبهة، إمّا بالقول بأنّ الكلام مقلوب، و المعنى لكلّ كتاب من الكتب السماوية أجل ينزله فيه وقت يعمل به، فوقت العمل بسائر الكتب قد انقضى و حضر وقت العمل بالقرآن، أو المراد لكلّ حادث وقت معين قضى اللّه حصوله و بقاءه فيه كالحياة و الموت، و الغنى و الفقر، و غير ذلك (1). فاذا لم يمتنع أن يحيي أولا ثم يميت ثانيا، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات ثمّ ينسخه في بعض آخر منها؟

ثمّ أنّه تعالى بعد تقرير هذه المقدمة قال: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ و المعنى أنّه يوجد تارة و يعدم تارة اخرى، و يحيي تارة و يميت اخرى، و كذلك يشرّع الحكم و ينسخه حسب ما اقتضته الحكمة و المصلحة.

و قيل: يمحو من ديوان الحفظة الذين شغلهم كتب كلّ قول و عمل ما يترتّب عليه الجزاء و يثبت الباقي. أو يمحو سيئات التائب و يثبت مكانها الحسنات. أو يمحو قرنا و يثبت آخرين. أو يمحو الفاسدات من العالم الجسماني، و يثبت الكائنات. أو يمحو الرزق، و يثبت و يزيد فيه. أو يمحو الأجل أو السعادة و الشقاوة (2). و روى [هذا] (3)عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الظاهر تعميم المحو و الاثبات للكلّ (4).

ص: 493


1- . تفسير الرازي 19:64.
2- . تفسير أبي السعود 5:27.
3- . في تفسير أبي السعود: و هذا رواه.
4- . تفسير أبي السعود 5:27.

وَ عِنْدَهُ تعالى أُمُّ اَلْكِتابِ و أصل الكتب المحفوظه من المحو و التغيير، إذ ما من الممحوّ و الثابت إلاّ فيه، و لذا يسمّى باللوح المحفوظ.

عن الصادق، عن أبيه عليهما السّلام، قال «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ المرء ليصل رحمه و ما بقي من عمره إلاّ ثلاث سنين، فيمدّه اللّه إلى ثلاث و ثلاثين سنة، و إن المرء ليقطع رحمه و قد بقي من عمره ثلاث و ثلاثون سنه، فينقصه اللّه إلى ثلاث سنين أو أدنى» و كان الصادق عليه السّلام يتلو هذه الآية (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو اللّه فيه ما يشاء و يثبت، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء، و ذلك الدعاء مكتوب عليه: الذي يردّ به القضاء، حتى إذا صار إلى امّ الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا» (2).

أقول: هكذا الرواية في النسخة. و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن قول اللّه تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ (3)قال: «كتبها لهم ثمّ محاها، ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها، و اللّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده امّ الكتاب» (4).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء و يثبت، و امّ الكتاب لا يغيّر منه شيء» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: «الأمر (6)أمران: موقوف و محتوم، فما كان من محتوم أمضاه، ما كان من موقوف فله فيه المشيئة يقضي فيه ما يشاء» (7).

و عنه عليه السّلام: «إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة و الروح و الكتبة إلى سماء الدنيا، فكتبوا ما يكون من قضاء اللّه تبارك و تعالى [في]تلك السنة، فإذا أراد اللّه أن يقدّم شيئا أو يؤخّره أو ينقص شيئا [أو يزيد]أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثمّ أثبت الذي أراد» (8).

و عنه عليه السّلام: «هل يمحو إلاّ ما كان ثابتا، و هل يثبت إلاّ ما لم يكن» (9).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يقول: لو لا آية في كتاب اللّه لحدّثتكم بما يكون

ص: 494


1- . تفسير العياشي 2:400/2254، تفسير الصافي 3:74.
2- . تفسير العياشي 2:400/2253، تفسير الصافي 3:75.
3- . المائدة:5/21.
4- . تفسير العياشي 2:26/1232، تفسير الصافي 3:74.
5- . مجمع البيان 6:458، تفسير الصافي 3:75.
6- . في مجمع البيان: هما.
7- . مجمع البيان 6:458، تفسير الصافي 3:75.
8- . تفسير العياشي 2:395/2241، تفسير القمي 1:366، تفسير الصافي 3:74.
9- . تفسير العياشي 2:395/2239، تفسير الصافي 3:74.

إلى يوم القيامة. فقلت له: أية آية؟ قال: قول اللّه: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ» (1).

و عنه عليه السّلام: «العلم علمان؛ فعلم عند اللّه مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، و علم علّمه ملائكته و رسله، فما علّمه ملائكته و رسله فانّه سيكون، لا يكذب نفسه و لا ملائكته و لا رسله، و علم عنده مخزون يقدّم منه ما يشاء و يوخّر ما يشاء [و يمحو ما يشاء]و يثبت ما يشاء» (2).

أقول: لا منافاة بين تلك الروايات إلاّ الأخيرتين، و لا يهمّنا الجمع بينهما لعدم حجّيتهما.

ثمّ العجب من الفخر الرازي حيث إنّه ينسب القول بالبداء الحقيقي إلى الشيعة. قال في تفسيره: قالت الرافضة: البداء جائز على اللّه تعالى، و هو أن يعتقد شيئا ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، و تمسّكوا فيه بقوله: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ.

ثمّ قال: و اعلم أنّ هذا باطل؛ لأنّ علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة، و ما كان كذلك كان دخول التغيّر و التبدّل فيه محالا (3)، انتهى.

فانّ أحدا من الشيعة لم يجوّز البداء الحقيقي عليه تعالى، و قوله: يكون العلم من لوازم ذاته تعالى، في غاية الفساد؛ لأنّ اللازم مغاير في الوجود مع ملزومه، و تلك الغايرة مقتضية لكون العلم عارضا لذاته المقدّسة، و هو محال، فان الواجب لا يمكن أن يكون معروضا لعارض أبدا، فلا بدّ من كون العلم عين ذاته، بمعنى أنّه ينتزع من إحاطته على الموجودات-و قيّوميته عليها، و حضورها عنده نحو حضور المعلول عند العلة-مفهوم العلم له، مع أنّه ليس لهذا المفهوم خارج إلاّ ذاته البحت البسيط على الاطلاق، و عليه فلا يمكن القول بالبداء الحقيقي؛ لأنّه مستلزم للعلم بعد الجهل، بل مرادهم أنّ اللّه تعالى يظهر ما هو في صورة البداء مع أنّه ليس ببداء في الواقع كالنّسخ في الأحكام، مع أنّه ليس بنسخ في الحقيقة، بل هو إظهار غاية الحكم مع توهّم الناس إطلاقه و أبديته من إطلاق الخطاب، بل القائل بالبداء الحقيقي هو و أصحابه الذين يروون عن أبي الدرداء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أن اللّه سبحانه و تعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء» (4)و هذا الكتاب الذي في الرواية هو اللوح المحفوظ، و من المعلوم من مذهبنا أنّه محفوظ من التغيير.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 40 الی 41

ص: 495


1- . تفسير العياشي 2:394/2238، تفسير الصافي 3:75.
2- . تفسير العياشي 2:396/2246، تفسير الصافي 3:75.
3- . تفسير الرازي 19:66.
4- . تفسير الرازي 19:66.

ثمّ أنه تعالى بعد رفع شبهات الكفّار في نبوة نبيه صلّى اللّه عليه و آله، هدّدهم بالعذاب، و أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالثبات على التبليغ، و عدم الاعتناء بترّهاتهم بقوله: وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ يا محمّد بَعْضَ العذاب اَلَّذِي نَعِدُهُمْ نزوله عليهم في الدنيا أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم، و نعذّبهم بعد وفاتك، و على أيّ تقدير لا تعتن بمقالاتهم، و اشتغل بما هو وظيفتك فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ و بيان ما انزل عليك و إتمام الحجّة عليهم وَ عَلَيْنَا اَلْحِسابُ و مجازاة العصاة و الطغاة في الدنيا و الآخرة، لا عليك.

ثمّ أنهم كيف ينكرون نزول العذاب عليهم مع أنّهم يرون أمارات صدق وعدنا أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ التي سكنوها (1)نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها و جوانبها باستيلاء المسلمين عليها و إلحاقها بدار الاسلام، و إهلاك أهلها بالقتل، و إذلالهم بالأسر، و إجلائهم منها بالإلجاء، و ذلك من أعظم الأمارات و أقوى الدلالات على أنّ اللّه ينجز وعده.

عن ابن عباس: المراد من نقص أطرافها موت أشرافها و كبرائها و علمائها، و ذهاب الصّلحاء و الأخيار (2).

و قيل: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني بموت أهلها، و تخريب ديارهم و بلادهم (3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «يعني بذلك ما يهلك من القرون، فسمّاه إتيانا» (2).

أقول: فيكون المراد أنّهم كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال تلك الوقائع.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: وَ اَللّهُ يَحْكُمُ بما يشاء، و قد حكم بنزول الدواهي و البلايا على الكفّار، و بنصرة المسلمين عليهم لا مُعَقِّبَ و لا رادّ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ بل هو نافذ في كلّ شيء.

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 42

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد وعده بقوله: وَ قَدْ مَكَرَ الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ بأنبيائهم (3)و سعوا في الاضرار بهم، كما مكر كفّار قومك بك و دبّروا في قتلك، و صرف الناس عنك، و في إبطال

وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفّارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدّارِ (42)

ص: 496


1- . في النسخة: سكونها. (2 و 3) . تفسير الرازي 19:67.
2- . الاحتجاج:250، تفسير الصافي 3:76.
3- . كذا أثبتناها، و هي في النسخة غير مقروءة.

دعوتك و تكذيب نبوّتك فَلِلّهِ اَلْمَكْرُ بهم بأنواعه جَمِيعاً فانّه يبطل سعيهم و يعذّبهم بأنواع العذاب من حيث لا يشعرون.

القمي: المكر من اللّه هو العذاب (1). و قيل: يعني بيده أسباب المكر و جزاؤه (2).

و من مكره أنّه يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ و تعمل كُلُّ نَفْسٍ من النفوس من خير أو شرّ و يهيّء جزاءه وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفّارُ البتة، حين يعمل بمقتضى علمه و يوفّي جزاء كلّ نفس على ما كسبت أنّه لِمَنْ يكون من الفريقين عُقْبَى محمودة لهذه اَلدّارِ الفانية.

قيل: إنّ المراد سيعلم الكفار من يملك الدنيا (3).

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر في غزوة بدر أن تطرح جيف الكفّار في القليب، و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال إلى أن قال الراوي: ثمّ مشى صلّى اللّه عليه و آله و تبعه أصحابه حتى وقف على شفير القليب، و جعل يقول: «يا فلان يا فلان، هل وجدتم ما وعد اللّه و رسوله حقا، فاني وجدت ما وعدني حقا» (4)الخبر.

روي أنّ أبا لهب قد تأخّر في مكه، و عاش بعد أن جاء الخبر عن مصائب (5)قريش ببدر أياما قليلة، ثمّ رمي بالعدسة-و هي بثرة تشبه [العدسة، من جنس]الطاعون-فقتلته، فلم يحفروا له حفرة، بل أسندوه إلى حائط، و قدفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتّى واروه، لأنّ العرب كانت تتشأم بالعدسة، و يرون أنّها تعدي أشدّ العدوى (6).

و في رواية: حفروا له ثمّ دفعوه بعود في حفرته، و قذفوه بالحجارة [من بعيد]حتّى واروه (7).

سوره 13 (الرعد): آیه شماره 43

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية استهزاء الكفّار بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و مكرهم به، حكى تصريحهم بانكار رسالته بقوله: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من المشركين و اليهود لك: لَسْتَ يا محمّد مُرْسَلاً من قبل اللّه قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً على رسالتي و حاكما بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ بصدق دعواي، فانّ إظهاره المعجزات الدالة على رسالتي شهادة قاطعة منه عليها، وَ كذا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ و إحاطة كاملة بجهات إعجاز القرآن، و هم المؤمنون المصدّقون به المتدبّرون فيه.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ (43)

ص: 497


1- . تفسير القمي 1:367، تفسير الصافي 3:76.
2- . تفسير روح البيان 4:389.
3- . تفسير روح البيان 4:390.
4- . تفسير روح البيان 4:390.
5- . في تفسير روح البيان: مصاب. (6 و 7) . تفسير روح البيان 4:390.

روى العلامة في (نهج الحق) عن العامة، عن ابن عباس، قال: هو علي عليه السّلام (1).

و في (المجالس) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن هذه الآية قال: «ذاك أخي علي بن أبي طالب» (2).

و عن (الاحتجاج) : سأل رجل علي بن أبي طالب عليه السّلام عن أفضل منقبة له فقرأ الآية و قال: «إيّانا (3)عنى بمن عنده علم الكتاب» (4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «إيانا عنى، و عليّ أولنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله» (5).

و عنه عليه السّلام: «نزلت في عليّ عليه السّلام، إنه عالم هذه الأمّة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله» (6).

عن الصادق عليه السّلام: «هو أمير المؤمنين عليه السّلام» (7).

و قيل: إنّ المراد به عبد اللّه بن سلاّم (8). و روى بعض العامّة عن عبد اللّه بن سلاّم: أنّ هذه الآية نزلت فيّ (9).

و قال الفخر: روي عن سعيد بن جبير أنه يبطل هذه الوجه، و يقول: إن السورة مكيّة، و إسلام عبد اللّه كان في المدينة (10).

و قال القاضي في (إحقاق الحق) : قد علمت فيما مرّ أنّ رواية نزول الآية في عبد اللّه بن سلاّم موضوعة، و أنّ عبد اللّه بن سلاّم نفسه روى ذلك في شأن عليّ عليه السّلام (11).

و العياشي: عن الباقر عليه السّلام أنّه قيل له: هذا ابن عبد اللّه بن سلاّم يزعم أنّ أباه الذي يقول اللّه: قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ؟ قال: «كذّب، هو علي بن أبي طالب عليه السّلام» (12).

أقول: يؤيده جميع الروايات الواردة بطرق الخاصة و العامة في أنّ المراد بالشاهد في قوله تعالى: وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (13)عليّ بن أبي طالب عليه السّلام (14).

ص: 498


1- . نهج الحق:188.
2- . أمالي الصدوق:659/892، تفسير الصافي 3:77.
3- . في المصدر: إياي.
4- . الاحتجاج:159، تفسير الصافي 3:77.
5- . تفسير العياشي 2:401/2255، الكافي 1:179/6، الخرائج و الجرائح 2:799/8، تفسير الصافي 3:77.
6- . تفسير العياشي 2:401/2258، تفسير الصافي 3:77.
7- . تفسير القمي 1:367، تفسير الصافي 3:77.
8- . تفسير الرازي 19:69.
9- . تفسير روح البيان 4:391.
10- . تفسير الرازي 19:69.
11- . احقاق الحق 3:280-285 و 452.
12- . تفسير العياشي 2:401/2256، تفسير الصافي 3:77.
13- . هود:11/17.
14- . انظر: بحار الأنوار 35:386-394، و إحقاق الحق 3:352 و 14:309-314 و 20:33-36.

في تفسير سورة إبراهيم

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 0

قد تمّ تفسير سورة الرعد بتوفيق اللّه و منّه، و يتلوها سورة إبراهيم بمناسبة تضمّن الاولى أدلة المبدأ و المعاد، و ضرب مثلين للحقّ الذي هو التوحيد، و الباطل الذي هو الشرك، و حكاية استهزاء الامم السابقة برسلهم و مكر الكفار بهم، و وعيد المتمرّدين بالعقوبة، و اختتامها بحكاية إنكار كفّار مكّة رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و استدلال اللّه عليها بمعاجزه و إعجاز كتابه، و افتتاح الثانية بالاستدلال على رسالته بالقرآن المجيد، و تضمّنها حكاية معارضة الامم رسلهم، و تهديد المعارضين بالعذاب، و ضرب المثل للتوحيد و الشرك، و ذكر مكر كفّار مكّة لابطال الحقّ و تشييد الباطل، فابتدأ سبحانه فيها بذكر أسمائه الحسنى بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتابِ (43)ثمّ افتتحها بقوله: الر و قد مرّ تأويلها و بيان الحكمة في الافتتاح بها.

ثمّ استدلّ سبحانه بكتابه الكريم على رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله بقوله: كِتابٌ عظيم الشأن، مشتمل على المعجزات الدالة على رسالتك أَنْزَلْناهُ من اللوح المحفوظ إِلَيْكَ بتوسّط جبرئيل لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ كافه بتلاوته عليهم، و دعائك إياهم إلى التدبّر فيه و العمل به مِنَ أنواع الكفر و الضلال التي هي مثل اَلظُّلُماتِ في كونها موجبة لنهاية التحيّر إِلَى الإيمان و الهدى الذي هو مثل اَلنُّورِ في إضاءة طريق الحقّ و كمال إيضاحه بِإِذْنِ رَبِّهِمْ اللطيف بهم و توفيقه و حوله.

ثمّ أوضح المراد من النور بأبداله بقوله: إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ القادر اَلْحَمِيدِ في فعاله و أنعامه، و هو دين الاسلام. قيل: هو استئناف، كأنّه قيل: إلى أي نور؟ فقال: إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ (1). و في ذكر الوصفين إشعار بكون سالكه آمن محمود العاقبة.

ص: 499


1- . تفسير أبي السعود 5:30.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 2 الی 3

ثمّ بالغ سبحانه في تفخيم شأن الصراط باضافته إلى ذاته المقدسة، بذكر اسم الجلالة بيانا للوصفين بقوله: اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [من]

الموجودات الجسمانية و الروحانية و الجوهرية و العرضية بالملكية الاشراقية.

اَللّهِ اَلَّذِي لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (1) اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (2)و قيل: إنّ المشركين كانوا يصفون الوثن بالعزيز الحميد (3)، فلذا كان مجال توهّم إرادة الوثن من الوصفين، فرفع الابهام بقول له: اَللّهِ. . . .

ثمّ هدّد سبحانه المنكرين للكتاب الممتنعين من الخروج من الظلمات بقوله: وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ بكتاب اللّه مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ في الآخرة.

ثمّ عرّف الكافرين بقوله: اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ و يختارون اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و لذائذها و يؤثرونها عَلَى اَلْآخِرَةِ و نعمها الدائمة.

عن ابن عبّاس: يأخذون ما تعجّل فيها تهاونا بأمر الآخرة (2). و لا يقنعون بضلالة أنفسهم، بل يمنعون وَ يَصُدُّونَ النّاس عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دين الحقّ، و يطلبون لتلك السبيل وَ يَبْغُونَها بشبهاتهم عِوَجاً و انحرافا.

قيل: كانوا يقولون: إنّ دين الاسلام سبيل معوجّة منحرفة عن الحقّ، لا توصل إلى المقصود (3).

أُولئِكَ الضالون المضلّون منغمرون فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن طريق الحقّ غاية البعد بحيث لا يمكن ردّهم إليه.

و قيل: إنّ المعنى اولئك في هلاك طويل لا زوال له أبدا (4).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 4

ثمّ أنّه تعالى بعد المنّة على الناس بإنزال الكتاب، ذكر منّته الاخرى عليهم بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى النّاس مِنْ رَسُولٍ لهدايتهم إِلاّ رسولا متكلّما بِلِسانِ قَوْمِهِ الذين هو فيهم و بلغتهم إن

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (4)

ص: 500


1- . تفسير روح البيان 4:394.
2- . تفسير روح البيان 4:395.
3- . تفسير الرازي 19:77.
4- . تفسير الرازي 19:79.

كانت رسالته عامّة، أو بلغة الطائفة الذين ارسل إليهم إن كانت خاصة لِيُبَيِّنَ و يوضّح العلوم و المعارف و الأحكام لَهُمْ بلسانهم حتى يكون فهمهم لها أسهل، و وقوفهم على مقاصدها أكمل.

قيل في قوله تعالى: لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ (1)و قوله: إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ دلالة على أنّ رسالة رسولنا عامّة، و رسالة غيره من الرسل خاصة بقوم معينين (2).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله-في حديث-: «و منّ عليّ ربّي، و قال: يا محمّد، قد أرسلت كلّ رسول إلى امته بلسانها، و أرسلتك إلى كلّ أحمر و أسود من خلقي» (3).

أقول: لا بدّ من حمل عموم كلّ رسول على غير اولى العزم، لوضوح كون رسالتهم عامّة أيضا.

ثمّ نبّه سبحانه على أنه مع ذلك تكون الضلالة بخذلانة و الهداية بتوفيقه بقوله: فَيُضِلُّ اَللّهُ عن الحقّ مَنْ يَشاءُ ضلالته بسلب التوفيق عنه المترتّب على خبث ذاته و سوء أخلاقه و أعماله وَ يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه المترتّب على طيب طينته و حسن أخلاقه و أعماله وَ هُوَ تعالى اَلْعَزِيزُ الغالب على أمره، القادر على إنفاذ مشيئته اَلْحَكِيمُ في أفعاله، لا يصدر منه إلاّ ما هو الأصلح و الأصوب.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 5

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكمة إرسال النبيّ و إنزال الكتاب إليه، و هو إخراج النّاس من الظلمات إلى النور، بيّن أنّ إرسال موسى عليه السّلام أيضا كان لذلك بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى إلى بني إسرائيل متلبسا بِآياتِنا الدالة على رسالته من المعجزات التسع، و قلنا له: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ و خلّصهم من الكفر و الضلال، و اهدهم إلى الايمان و المعرفة و اليقين.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اَللّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (4)قيل: إنّ المراد باخراج بني إسرائيل من الظلمات، إخراجهم بعد إهلاك فرعون من الجهالة التي أدّتهم إلى عبادّة العجل (5).

و قيل: إنّ المراد القبط (5).

ثمّ أمر موسى عليه السّلام بوعظهم بقوله: وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اَللّهِ و الوقائع التي وقعت للامم السابقة من العقوبات النازلة عليهم بالكفر و معارضة الرسل.

ص: 501


1- . إبراهيم:14/1.
2- . تفسير الرازي 19:79، و في النسخة: معين، بدل: معينين.
3- . الخصال:425/1، تفسير الصافي 3:79.
4- . تفسير روح البيان 4:398.
5- . تفسير روح البيان 4:397.

و قيل: أيام اللّه: نعمائه و بلاياه (1)، و المعنى: رغّبهم في الطاعة بتذكيرهم النّعم التي أنعم اللّه عليهم و على من قبلهم من مصدّقي الرسل، و حذّرهم عن التكذيب و المخالفة بالبلايا النازلة على مكذّبي الرسل.

عن الصادق عليه السّلام: «بنعم اللّه و آلائه» (2).

و عن الباقر عليه السّلام: «أيام اللّه عزّ و جلّ [ثلاثة]: يوم قيام القائم، و يوم الكرّة، و يوم القيامة» (3).

ثمّ نبّه سبحانه على علّة التّذكار بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الأيام و الوقائع و اللّه (4)لَآياتٍ و علامات لتوحيد اللّه و قدرته و عظمته، و لكن الانتفاع بها لِكُلِّ مؤمن صَبّارٍ على لا الشدائد و الطاعات و كلّ شَكُورٍ لنعم اللّه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 6

ثمّ أمر سبحانه بتذكّر قيام موسى عليه السّلام بأداء وظيفته بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا بني إسرائيل اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ و خلّصكم بلطفه مِنْ أيدي آلِ فِرْعَوْنَ و قومه فانّهم كانوا يَسُومُونَكُمْ و يذوقونكم أو يكلّفونكم سُوءَ اَلْعَذابِ و شديده من استعبادكم و تحميل الأعمال الشاقة عليكم و الإهانة لكم (5)، وَ كانوا يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ المولودين لكم، و يكثرون القتل فيهم وَ يَسْتَحْيُونَ و يستبقون نِساءَكُمْ من الأزواج و البنات، ليكن إماءهم وَ فِي ذلِكُمْ المذكور من الأعمال الفظيعة أو الانجاء بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ شأنه.

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 7 الی 8

ثمّ أنّه تعالى بعد تذكيرهم نعمة ربهم، حثّهم على الشكر بقوله: وَ إِذْ تَأَذَّنَ و أوجب رَبُّكُمْ على نفسه، أو المراد: و اذكروا حين نادى بلسان رسله فيكم، أيّها الناس و اللّه لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمي

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)

ص: 502


1- . تفسير البيضاوي 1:513، تفسير أبي السعود 5:33.
2- . تفسير العياشي 2:403/2260، مجمع البيان 6:467، تفسير الصافي 3:80.
3- . الخصال:108/75، تفسير الصافي 3:80.
4- . كذا، و لا موضع للقسم في الآية.
5- . في النسخة: بكم.

لَأَزِيدَنَّكُمْ و لاضاعفنّها لكم وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمة من نعمائي بترك شكرها أو صرفها في معصيتي، لأسلبّنها منكم، و لاعذبنّكم على الكفران، و إنّما أشار إلى هذا التهديد بقوله: إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ لأنّ دأب الكرام-على ما قيل-عدم التصريح بالوعيد، فكيف بأكرم الأكرمين (1).

عن الصادق عليه السّلام: «ما أنعم اللّه على عبد من نعمة فعرفها بقلبه و حمد اللّه ظاهرا بلسانه فتمّ كلامه حتى يؤمر له بالمزيد» (2).

و عنه عليه السّلام: «من عرف نعمة اللّه بقلبه استوجب المزيد من اللّه قبل أن يظهر شكرها على لسانه» (3)

و عنه عليه السّلام: «ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد للّه، إلاّ أدّى شكرها» (4).

و في رواية: «و كان الحمد أفضل من تلك النعمة» (5).

و عنه عليه السّلام في تفسير وجوه الكفر «الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» (6).

وَ قالَ مُوسى زجرا عن الكفران: يا بني إسرائيل إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ من الجنّ و الإنس جَمِيعاً نعم اللّه فلن تضرّوا اللّه شيئا فَإِنَّ اَللّهَ لَغَنِيٌّ عنكم و عن شكركم حَمِيدٌ في ذاته مستحقّ للحمد بإنعامه، و إن لم يحمده حامد، مع أنّ جميع الموجودات يسبّحه و يحمده، و إنّما يريد شكركم لاحتياجكم إلى منافعه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 9 الی 12

ص: 503


1- . تفسير روح البيان 4:400.
2- . الكافي 2:78/9، تفسير الصافي 3:80.
3- . الكافي 8:128/98، تفسير الصافي 3:80.
4- . الكافي 2:79/14، تفسير الصافي 3:81.
5- . الكافي 7:78/13، تفسير الصافي 3:81.
6- . الكافي 2:287/1، تفسير الصافي 3:81.

ثمّ بالغ عليه السّلام في وعظهم بتذكيرهم الوقائع العظيمة و البلايا النازلة على مكذبي الرسل بقوله: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ و لم يبلغكم يا قوم نَبَؤُا الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ و في الأعصار السابقة على عصركم من قَوْمِ نُوحٍ كيف اهلكوا بالطوفان وَ قوم عادٍ كيف اهلكوا بريح صرصر عاتية وَ قوم ثَمُودَ كيف اهلكوا بالرجفة وَ اَلَّذِينَ كانوا مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم إبراهيم و قوم لوط و أصحاب مدين و غيرهم من الأقوام الذين لا يَعْلَمُهُمْ عددا و حالا إِلاَّ اَللّهُ لكثرتهم و قطع الأخبار عنهم.

ثمّ كأنه قيل: ما كان إجمال قصّتهم؟ فأجاب سبحانه بقوله: جاءَتْهُمْ من قبل اللّه رُسُلُهُمْ المبعوثون لهدايتهم مستدلّين بِالْبَيِّناتِ الباهرات على صدق نبوتهم، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور و ينجوهم من الكفر و الجهالة و يهدوهم إلى الحقّ، فلمّا دعوا أقوامهم إليه فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ليعضّوها تضجّرا من مقالة الرسل، كما عن ابن عباس و ابن مسعود (1).

و قيل: وضعوها عليها تعجّبا من قولهم و استهزاء بهم، أو أمرا لهم بالكفّ و بإطباق أفواههم (2)، أو إشارة إلى ما يصدر من ألسنتهم من المقالة اعتناء بشأنها، و تنبيها للرسل على تلقّيها و المحافظة عليها، و إقناطا لهم عن تصديقهم و الإيمان بهم.

و قيل: يعني ردّ الأقوام أيديهم في أفواه الرسل ليمنعوهم من التكلّم بالدعوة (3).

و قيل: يعني ردّ الرسل أيديهم في أفواههم تعجّبا من عتوّهم و عنادهم (4)وَ قالُوا إِنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بزعمكم من وجوب عبادة إله السماء و توحيده، أو من المعجزات التي أتيتم بها و أنكرناها وَ إِنّا لَفِي شَكٍّ عظيم مِمّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من التوحيد و الرسالة مُرِيبٍ ذلك الشكّ، و موقع قلوبنا في القلق و الاضطراب بحيث لا يطمئنّ بشيء قالَتْ رُسُلُهُمْ إنكارا عليهم و تعجّبا من مقالتهم الحمقاء: أَ فِي شأن اَللّهِ من وجوده و توحيده و وجوب الايمان به شَكٌّ ما، مع أنّه أظهر من كلّ شيء، لكونه فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و مبدعهما، لوضوح كونهما حادثين معروضين للحركة و التغيير، و كونهما حتمين مقدرين محدودين، فاذا ثبت حدوثهما فلا بدّ من انتهاء وجودهما إلى موجد واجب، فمن كان العالم من السماوات و الأرض و ما فيهما شاهدا على وجوده يكون أظهر من كلّ ظاهر.

ص: 504


1- . مجمع البيان 6:469، تفسير الرازي 19:89.
2- . تفسير أبي السعود 5:36.
3- . تفسير الرازي 19:89، تفسير أبي السعود 5:36.
4- . تفسير أبي السعود 5:36.

ثمّ لمّا نسب الكفّار الدعوة إليهم نفوها عن أنفسهم و نسبوها إلى اللّه بقولهم: يَدْعُوكُمْ اللّه إليه و إلى توحيده بألسنتنا لِيَغْفِرَ لَكُمْ ما كان بينكم و بينه مِنْ ذُنُوبِكُمْ لا ما كان بينكم و بين النّاس من المظالم.

و قيل: إن كلمة (من) زائدة (1)، و المراد ليغفر لكم جميع ذنوبكم، و فيه بشارتكم بغاية الرحمة و الكرم.

ثمّ بشروهم بجزائهم في الدنيا بقولهم: وَ يُؤَخِّرَكُمْ و يؤجّل موتكم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و أخّر أعماركم التي قدّر لكم فيها بأن لا ينزل عليكم العقوبة و الهلاك.

عن ابن عبّاس، قال: المعنى يمتّعكم في الدنيا بالطيبات و اللذات إلى الموت (2).

ثمّ استدلّ الكفّار على بطلان دعوى الرسل و قالُوا أولا: إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا و يمتنع أن يكون الرسول من البشر، بل لا بدّ أن يكون ملكا، أو المراد لا فضيلة لكم علينا، فإرسالكم ترجيح بلا مرجّح.

و ثانيا: أن آباءنا الأقدمين مع وفور عقلهم كانوا يعبدون الأصنام في أعمارهم المتطاولة، فلا بدّ لنا من أن نتّبعهم و نلتزم بما التزموا به، و أنتم تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا و تصرفونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام إلى عبادة اللّه.

و ثالثا: يجب عليكم أن تاتونا بالدليل القاطع على دعواكم و ما اتيتم به و سمّيتموه معجزة، و حسبتموه دليلا على صدق دعواكم، فما علمنا بكونه إعجازا و خارجا عن طوق البشر، فان كنتم صادقين في دعوى الرسالة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ و معجزة لا يشكّ في كونها معجزة حتى نصدّقكم في دعوى رسالتكم، و ننصرف عما كنا ثابتين عليه من عبادة الأصنام قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إلزاما لهم و إبطالا لقولهم: نعم إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصورة، و لا مجال لانكاره وَ لكِنَّ اَللّهَ يَمُنُّ و ينعم بالنبوة و الوحي عَلى مَنْ يَشاءُ نبوته مِنْ عِبادِهِ نظرا إلى طيب طينته و وفور عقله، و قوه نفسه، و كمال صفاته، و تنوّر قلبه، و شرح صدره، فانّ النبوة منصب يعطيه اللّه من يراه قابلا له من جهة كمال نفسه و صلوحه للوساطة بينه و بين خلقه فيوحي إليه.

ثمّ لمّا كان دليل التقليد أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الجواب، أعرضوا عنه و لم يتعرضوا لدفعه، و أجابوا عن اعتراضهم الثالث، و حاصله: إنّا عبيد مربوبون وَ ما كانَ يصحّ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ و معجزة جزئية إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ و مشيئته فضلا عن السلطان المبين و المعجزة العظيمة

ص: 505


1- . تفسير الرازي 19:93.
2- . تفسير الرازي 19:95.

القاهرة التي تعنّتونها علينا، و إنّما اللازم على اللّه أن يأذن في إتيان ما هو حجّة ظاهرة على رسالتنا من المعجزات، و قد أتينا بها و أتممنا عليكم الحجّة بها، و أما ما تطلبونه تعنّتا و لجاجا، فهي امور زائدة و الحكم فيها للّه إن شاء أذن لنا في إتيانها، و إن لم يشاء لم يأذن.

ثمّ قيل: إن الرسل لمّا أجابوا عن شبهات المعترضين، هدّدوهم و خوّفوهم بالقتل و الضرب، فأجابهم الرسل بأنّا لا نخاف من وعيدكم، فإنا توكّلنا على اللّه الذي هو حافظنا و ناصرنا (1). وَ عَلَى اَللّهِ وحده فَلْيَتَوَكَّلِ و إليه فليفوّض الأمر اَلْمُؤْمِنُونَ به، فكيف بنا و نحن أنبياء وَ ما لَنا و ليس يليق بنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللّهِ و لا نفوّض أمورنا من الحفظ و النصر و غيرهما إليه مع أنّا نرى غاية لطفه بنا، حيث إنّه قد عرّفنا نفسه و اصطفانا بالرسالة وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا و أرشدنا إلى المنهج الذي شرّع لنا وَ و اللّه لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا به من المكابرة و التكذيب و المعاداة، ثمّ أعلنوا بأنّ وظيفة كلّ من اتّبعهم التوكّل بقولهم: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 13 الی 14

ثمّ لمّا ألان الرسل في القول مع الأقوام، حكى اللّه مبالغتهم في السّفة بقوله: وَ قالَ عتاة اَلَّذِينَ كَفَرُوا من الأقوام لِرُسُلِهِمْ باللات و العزّى، أو بالأصنام التي نعبدها لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا و ديارنا أَوْ لَتَعُودُنَّ و لترجعنّ فِي مِلَّتِنا و إنّما أمروهم بالعود مع أنّهم لم يكونوا على ملّتهم أصلا لاعتقادهم أنّهم كانوا قبل ادّعاء الرسالة على ملّتهم، أو لتغليب أتباعهم عليهم في الخطاب، أو لإرادة الصيرورة من العود.

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14)ثمّ لمّا بلغ عناد الكفّار بالرسل إلى هذا الحدّ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اللطيف بهم: بعزّتنا لَنُهْلِكَنَّ بعذاب الاستئصال هؤلاء اَلظّالِمِينَ جميعا وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ التي سكنوها، و لنمكننكم في البلاد التي تمكنّوا فيها مِنْ بَعْدِهِمْ و بعد هلاكتهم ذلِكَ النصر على الأعداء باهلاكهم و توريث أرضهم حقّ ثابت عليّ لِمَنْ خافَ مَقامِي و محلّي من العظمة و الجلال و القهر، أو خاف موقفي عند الحساب في القيامة، أو خاف مقامي و مراقبتي إياه، أو المراد خافني وَ خافَ وَعِيدِ.

عن ابن عباس، قال: خاف ما أوعدت من العذاب (2).

ص: 506


1- . تفسير الرازي 19:97.
2- . تفسير الرازي 19:101.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 15 الی 17

ثمّ إنّ الرسل بعد يأسهم من إيمان أقوامهم تضرّعوا إلى اللّه وَ اِسْتَفْتَحُوا و سألوا الفتح و النّصرة عليهم، ففازوا بمقصودهم من النصر فنزل العذاب، أو سألوا من اللّه القضاء بينهم و بين أعدائهم فقضى لهم وَ خابَ و حرم من كلّ خير، أو خسر أو هلك كُلُّ جَبّارٍ و متكبّر عَنِيدٍ شديد العداوة.

وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يعني من أبى أن يقول لا إله إلاّ اللّه» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «العنيد: المعرض عن الحقّ» (2).

و قيل: المستفتحون هم الكفّار، فانّهم سألوا النصر على الرسل و خابوا و ابتلوا بالعذاب.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عاقبة الجبار في الدنيا، بيّن سوء حاله في الآخرة بقوله: مِنْ وَرائِهِ و خلفه، أو من قدّامه جَهَنَّمُ فإنّها منزله في الآخرة وَ يُسْقى كلّما عطش فيها مِنْ ماءٍ مخصوص، و هو القيح المختلط بالدم، أو ما يسيل من أجساد أهل النار و فروج الزواني على ما قيل (3)، سمّي باسم صَدِيدٍ لصدّ كراهته عن تناوله.

عن الصادق عليه السّلام-في تفسير صديد-قال: «يسقى ممّا يسيل من الدم و القيح من فروج الزواني [في النار» (4).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «يقرّب إليه]فيكرهه، فإذا ادني منه شوى جهه و وقعت فروة رأسه، فإذا شرب قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره» (5)الخبر.

يَتَجَرَّعُهُ و يشربه قليلا قليلا بتكلّف وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ و لا يمكنه أن يبتلعه بسهولة، بل يغصّ به فيشربه شيئا فشيئا بعسرة شديدة، فيطول بشربه عذابه بالحرارة تارة و بالعطش اخرى، فمعنى وَ لا يَكادُ ليس عدم الامكان، بل معناه الإبطاء.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان غاية شدّة عذابه بقوله: وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ و تحيط به أسبابه مِنْ كُلِّ مَكانٍ وجهة. و قيل: يعني من كلّ جزء من أجزاء جسده (6)، حتى اصول شعره و إبهام رجله وَ ما هُوَ

ص: 507


1- . التوحيد:20/9، تفسير الصافي 3:82.
2- . تفسير القمي 1:368، تفسير الصافي 3:82.
3- . تفسير روح البيان 4:406.
4- . مجمع البيان 6:474، تفسير الصافي 3:82.
5- . مجمع البيان 6:474، تفسير الصافي 3:82.
6- . تفسير الرازي 19:104.

بِمَيِّتٍ في الحقيقة وَ مِنْ وَرائِهِ و عقبه عَذابٌ غَلِيظٌ و شديد غايته.

قيل: إنّ في كلّ وقت يرد عليه عذاب أشدّ ممّا قبله. و قيل: العذاب الغليظ: قطع الأنفاس و حبسها في الأجساد (1). و قيل: إنّه الخلود (1).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 18

ثمّ بيّن سبحانه غاية خسرانهم بسبب ضياع أعمالهم الخيرية و عدم انتفاعهم بها بقوله: و مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ و حالهم الغريبة التي هي كالمثل في الغرابة أَعْمالُهُمْ و قيل: إنّ المراد مثلهم فيما يتلى عليكم.

مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ (18)ثمّ كأنّه قيل: كيف يكون مثلهم؟ أو ما بال أعمالهم التي عملوها في وجوه البرّ من صلة الأرحام، و إعتاق الرقاب، و إغاثة الملهوفين و أمثالها؟ فاجيب بأنّ تلك الأعمال كَرَمادٍ اِشْتَدَّتْ (2)و مرّت بِهِ اَلرِّيحُ الشديدة بقوة و سرعة فِي يَوْمٍ عاصِفٍ و زمان شديد الريح، فحملته و ذهبت به، فكما لا يوجد من الرماد في [ذلك]الوقت شيء، و لا يرى له أثر، فكذلك الكفّار لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمّا كَسَبُوا و علموا من الخيرات عَلى تحصيل شَيْءٍ يسير منه، و لا يرون له أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب، لكونه مع الكفر.

و قيل: إنّ المراد بأعمالهم عبادتهم الأصنام، و ما تكلّفوه لهم دهرا طويلا باعتقاد الانتفاع به (3).

و قيل: إنّ المراد كلا القسمين (4).

ذلِكَ الكفر الموجب لهذا الخسران هُوَ بالخصوص اَلضَّلالُ اَلْبَعِيدُ و الانحراف غير المتناهي عن طريق الصواب و الخسران العظيم الذي لا يتصوّر له حدّ.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 19 الی 20

ثمّ لمّا بيّن سبحانه شدّة عذاب الآخرة، و كان المشركون منكرين للمعاد، استدلّ سبحانه عليه بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد، أو يا عاقل ببصيرة قلبك و حكم عقلك أَنَّ اَللّهَ خَلَقَ بقدرته اَلسَّماواتِ

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَ ما ذلِكَ عَلَى اَللّهِ بِعَزِيزٍ (20)

ص: 508


1- . تفسير أبي السعود 5:40.
2- . تفسير الرازي 19:105، تفسير روح البيان 4:408.
3- . تفسير الرازي 19:105.
4- . تفسير الرازي 19:105.

وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة و الغرض الصحيح من معرفته بالوحدانية و الحكمة، لتنالوا بها الدرجات و المقامات العالية و النّعم الدائمة في الآخرة، و من المعلوم أنّ الذي له هذه القدرة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ و يعدّمكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ و يخلق قوما آخرين بدلا منكم.

عن ابن عبّاس: هذا الخطاب مع كفار مكة، يريد اميتكم يا معشر الكفار و أخلق قوما خيرا منكم و أطوع (1).

وَ ما ذلِكَ الإذهاب و الإتيان عَلَى اَللّهِ الخالق للعالم بِعَزِيزٍ و صعب أو ممتنع، فانّ من كان قادرا على إيجاد العالم و إفنائه، قادر على إعدام الأشخاص المعينين و إيجاد أمثالهم، بل أقدر.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 21

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته و حكمته الدالتين على المعاد، بيّن سوء حال المشركين فيه، و افتضاح رؤسائهم، و حسرة أتباعهم على متابعتهم بقوله: وَ بَرَزُوا من القبور بعد إحيائهم فيها، و ظهروا لِلّهِ و لأمره و خرجوا منها للمحاسبة [مع]قادتهم و أتباعهم جَمِيعاً لا يشذّ منهم أحد، و إنّما عبّر بصيغة الماضي للإشعار بتحقّق الوقوع، أو بتساوي الماضي و المستقبل إليه تعالى فَقالَ السّفلة اَلضُّعَفاءُ العقول و الآراء لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا في الأرض و ترأسوا عليهم، و استتبعوهم في الكفر: أيّها الروساء إِنّا كُنّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً في عبادة الأصنام و تكذيب الرسل و إيذائهم فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم مُغْنُونَ و كافّون و دافعون عَنّا بحقّ تبعيّتنا لكم مِنْ عَذابِ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ قليل؟ فلمّا سمع الرؤساء التوبيخ من أتباعهم اعتذارا عن إغوائهم قالُوا لَوْ هَدانَا اَللّهُ في الدنيا بتوفيقه إلى دينه الحقّ و اللّه (2)لَهَدَيْناكُمْ إليه، و لكن أضلّنا بخذلانه عن سبيله، فلذا أضللناكم و اخترنا لكم ما أخترناه لأنفسنا.

وَ بَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعاً فَقالَ اَلضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذابِ اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اَللّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)و قيل: إنّ المراد لو هدانا اللّه إلى طريق من طرق النجاة لهديناكم إليه، و أغنينا عنكم [العذاب]كما عرّضناكم له، و لكن سدّ علينا جميع طرق النجاة (3). إذن سَواءٌ عَلَيْنا و عليكم في عدم النجاة أَ جَزِعْنا من العذاب أَمْ صَبَرْنا عليه، على أي تقدير ما لَنا من العذاب مِنْ مَحِيصٍ

ص: 509


1- . تفسير الرازي 19:106.
2- . كذا، و لا موضع للقسم في الآية.
3- . تفسير روح البيان 4:411.

و مخلص أو مهرب.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 22

ثمّ لمّا حكى سبحانه اعتذار رؤساء الكفر من أتباعهم، حكى اعتذار الشيطان الذي كان إغواء الجميع بوسوسته و تسويلاته بقوله: وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لأهل النار لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ و تمّت المحاسبة، و استقرّ أهل الجنة في الجنة، و أهل النار في النار.

وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)قيل: عند ذلك يأخذ أهل النار في لوم إبليس، فيقوم خطيبا بينهم، و يقول: يا أهل النار إِنَّ اَللّهَ وَعَدَكُمْ (1)في الدنيا في كتابه و على لسان رسله على الإيمان و الطاعة وَعْدَ اَلْحَقِّ بالثواب.

قيل: إنّ إضافة الوعد إلى الحقّ إضافة الشيء إلى نفسه (2).

و قيل: إنّ المعنى وعد اليوم الحقّ، أو الأمر الحقّ من البعث و الجزاء على الأعمال فصدقكم (3). كما تشاهدون وَ وَعَدْتُكُمْ على الكفر و المعاصي النّعم الدنيوية.

و قيل: يعني وعدتكم أن لا جنة و لا نار و لا حشر و لا حساب (4)فَأَخْلَفْتُكُمْ موعدي، و ظهر لكم كذبي وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ شيء مِنْ سُلْطانٍ و قدرة و قهر حتى الجئكم إلى الكفر و العصيان، و لم يكن منّي في حقّكم عمل إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلى طاعتي بتزيين القبائح في نظركم، و ترغيبكم بالتسويل إليها فَاسْتَجَبْتُمْ لِي و وافقتموني طوعا و اختيارا فَلا تَلُومُونِي فيما دعوتكم إليه بالكذب و الباطل؛ لأنّي كنت لكم عدوا، فعلت بمقتضى عداوتي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث اخترتم طاعتي لحبّكم لها و اشتهائكم إياها، مع علمكم بأنّي عدوّ لكم لا اريد خيركم، فصدّقتموني فيما كذّبتكم، لكون أمري ملائما لهواكم، و كذبتم اللّه فيما صدقكم لكون قوله مخالفا لطباعكم، فأنتم أحقّ باللوم مني، فاليوم ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ و مغيثكم ممّا أنتم فيه وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ و مغيثي ممّا أنا فيه.

ثمّ قطع طمع أوليائه في إغاثته لهم بقوله: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ باللّه في الطاعة، و جعلتموني عدلا له في العبادة مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا.

ص: 510


1- . تفسير روح البيان 4:412، تفسير الرازي 19:110. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 19:110.

قيل: إنّ المراد أنّ إشراككم لي باللّه هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم، لأنّكم تخيّلتم أنّ لكم عليّ حقّ حيث جعلتموني معبودا، و كنت احبّ ذلك و أرغب فيه، فاليوم تبرّأت منه و منكم، فليس بيني و بينكم علاقة (1).

أو المراد أنّي كفرت باللّه الذي جعلتموني شريكا له في العبادة من قبل، و حين خلق آدم، و أبيت عن السجود له، أو من قبل كفركم، فلا يمكنني أن اصرخكم لأنّ الكافر بمعزل عن الإغاثة و الاعانة بالشفاعة (2).

ثمّ بالغ في قطع أطماعهم عن إغاثته بقوله: إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

و قيل: إنّه قول اللّه تعالى بعد حكاية كلام إبليس (3).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 23

ثمّ أنّه تعالى بعد شرح سوء حال الأشقياء في الآخرة شرح حسن حال السعداء و الأتقياء فيها بقوله: وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا باللّه و وحدانيته و رسله وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كان المدخل هو اللّه أو الملائكة جَنّاتٍ بساتين ذات أشجار و قصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم مكرمين و معظّمين بحيث يحيّون من قبل ربّهم، أو من قبل الملائكة، و تكون تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ كما قال اللّه: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (3)و قال في السور السابقة: وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ «2(4)» سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ (5).

وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)و في هذه التحية بشارة بالسلامة الأبدية من جميع آفات الدنيا و خسرانها، و فنون آلامها و أسقامها، و أنواع همومها و غمومها، و من عذاب الآخرة و مكارهها، و في ذكر عاقبة الفريقين إيقاظ للمؤمنين حتى يتدبّروا في عواقبهم، و يحاسبوا أنفسهم.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 24 الی 25

ص: 511


1- . تفسير روح البيان 4:413.
2- . تفسير أبي السعود 5:43.
3- . يس:36/58.
4- . تفسير الرازي 19:115، تفسير روح البيان 4:413.
5- . الرعد:13/23 و 24.

ثمّ لمّا كانت السعادة الأبدية بالإيمان باللّه و توحيده و الاقرار به، أوضح سبحانه بقاء كلمة التوحيد و كثرة فوائدها بضرب المثل بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمد، ببصيرة قلبك و نور نبوتك و قوة نظرك كَيْفَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً بديعا معجبا تامّ المطابقة للممثّل له، فتتعجّب منه، و هو الكلمة الطيبة.

قيل: إنّها كلمة (لا إله إلاّ اللّه) كما عن ابن عبّاس (1). أو هي و سائر الأذكار كالتسبيح و التحميد، و التكبير و الاستغفار، و القرآن و الدعاء و غيرها من الكلمات الحسنة الصادرة عن المؤمن عن المعرفة و خلوص النية، كما عن آخر (2).

و ذلك المثل أنّه تعالى جعل كَلِمَةً طَيِّبَةً صادرة من المؤمن في الطيب و اللذة و الحسن، و الثبات في النفس، و الرّسوخ في القلب، و البقاء في العوالم الالهية من عالم الأجسام و الأرواح و المثل، و الملكوت و الجبروت، و في ارتفاعها إلى العرش و فضاء عالم القرب، و في حسن الثمر و طيبه و كثرته و دوامه، و كثرة الانتفاع به، و هو محبّة اللّه و التوحيد و التفويض إليه، و التوكّل عليه و التسليم لأمره، و الرضا بقضائه، و الصبر على طاعته و بلائه، و الاعراض عن غيره، و الشوق إلى لقائه، و في كون جميع هذه الثمار بتوفيقه و تأييده كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ حسنة الصورة و المنظر و الريح، و النفع و الثمر أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض، و عروقها راسخة فيها بحيث لا يحتمل انقلاعها و انقطاعها وَ فَرْعُها و غصنها متصاعد فِي اَلسَّماءِ المطّل (3)أو جهة العلوّ تُؤْتِي أُكُلَها و تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ من الأحيان، و كلّ وقت من الأوقات بِإِذْنِ رَبِّها و إرادة خالقها و تدبير مدبّرها.

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هذه الشجرة الطيبة النّخلة» (4)و هو مروي عن ابن عبّاس. و عنه: أنّ الحين ستة أشهر. و قيل: إنّه شهران. و قيل: سنة (5)؛ لأنّه إذا ترك عليها الثمر انتفع به في جميع أوقات السنة (6).

و قيل: إنّ المراد بالشجرة شجرة تكون لها هذه الأوصاف التي يجب على العاقل تحصيلها و السعي في حفظها و ادّخارها لنفسه، و إن لم يكن لها وجود في العالم و كان فرضيا (7).

ثمّ نبّه سبحانه على حكمة ضرب المثل بقوله: وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ بتصوّر المحسوسات يَتَذَكَّرُونَ و يفهمون المعقولات و يتصوّرون المعاني العالية عن الأفهام بتطبيقها على المشهودات.

ص: 512


1- . تفسير الرازي 19:120.
2- . تفسير أبي السعود 5:43، تفسير روح البيان 4:414.
3- . لفظ السماء مؤنث و قد يذكّر.
4- . مجمع البيان 6:480، تفسير الصافي 3:85.
5- . مجمع البيان 6:480، تفسير الرازي 19:120. (6 و 7) . تفسير الرازي 19:120.

عن الصادق عليه السّلام: أنّه سئل عن الشجرة في هذه الآية، فقال: «رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصلها، و أمير المؤمنين فرعها، و الأئمة من ذريتهما أغصانها، و علم الأئمة ثمرتها، و شيعتهم المؤمنون ورقها، و اللّه إنّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، و إن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها» (1).

و في رواية (الاكمال) : «و الحسن و الحسين ثمرها، و التسعة من ولد الحسين أغصانها» (2).

و في رواية (المعاني) : «و غصن الشجرة فاطمة، و ثمرها أولادها، و ورقها شيعتها» (3). و زاد في (الاكمال) : «تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ما يخرج من علم الامام إليكم في كلّ سنة من كلّ فجّ عميق» (4).

أقول: هذه الروايات في بيان تأويل الآية، فلا منافاة بينها.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 26

ثمّ أنه تعالى بعد ضرب المثل للقول الحقّ و كلمة التوحيد ضرب مثلا للقول الباطل و كلمة الشرك و الكفر بقوله: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قبيحة باطلة تصدر من الشقي، و هي كلمة الشرك و الكفر في قباحة الصورة، و سوء المنظر، و نتن الرائحة، و كثرة الضرر، و سرعة الزوال كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ قبيحة الصورة و المنظر، كريهة الرائحة، ضارة الثمرة كالحنظل، غير ضاربة بعروقها في الأرض بحيث اُجْتُثَّتْ و انقلعت مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ لعدم رسوخ عروقها فيها، فلذا ما لَها شيء مِنْ قَرارٍ و ثبات فيها بحيث تقلع و تزول من محلّها بأخفّ تحريك.

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)قيل: إنّ اللّه شبّه الايمان بالشجر؛ لأنّ الشجر لا بدّ له من أصل ثابت و فرع قائم و رأس عال، فكذا الايمان لا بدّ له من تصديق في القلب، و إقرار (5)باللسان، و عمل بالاركان (6). و شبّه الكفر و عبادة الأصنام التي لا حجّة عليها و لا ينتفع بها بشجرة الحنظل التي لا أصل لها حتّى يكون لها قرار و لا نفع معتدّ به لها.

عن الباقر عليه السّلام: «كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء» (7)الخبر.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 27

يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللّهُ اَلظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّهُ ما يَشاءُ (27)

ص: 513


1- . الكافي 1:355/80، تفسير الصافي 3:85.
2- . إكمال الدين:345/30، تفسير الصافي 3:85.
3- . معاني الأخبار:400/61، و فيه: و ورقها شيعتنا، تفسير الصافي 3:85.
4- . إكمال الدين:345/30، و فيه: من حج و عمرة، تفسير الصافي 3:85.
5- . في تفسير روح البيان: قول.
6- . تفسير روح البيان 4:415، و فيه: و عمل بالابدان.
7- . تفسير القمي 1:369، تفسير الصافي 3:86.

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه ثبات كلمة التوحيد في القلوب، بيّن ثباتها في الدارين بقوله: يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بلطفه و توفيقه بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ و هو كلمة التوحيد الراسخة في نفوسهم فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فلا يزولون عنها و لو قطّعوا إربا إربا وَ فِي اَلْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عنها في القبر و في الموقف.

عن ابن عبّاس: من داوم على الشهادة في [الحياة]الدنيا يثبّته اللّه عليها في قبره و يلقّنه إياها (1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أنّه ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثمّ تعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان [له]: من ربك، و ما دينك، و من نبيك؟ فيقول: ربّي اللّه، و ديني الاسلام، و نبيي محمد صلّى اللّه عليه و آله، فينادي مناد من السماء أنّه صدّق عبدي. فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اَللّهُ» (2)الآية.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه و عن شماله ليضلّه (3)عما هو عليه، فيأبى اللّه عزّ و جلّ له ذلك، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» (4).

و قيل: إنّ المراد يثبّت اللّه الذين [آمنوا]على الثواب و الكرامة بسبب القول الثابت الذي يصدر عنهم في الدنيا و الآخرة (5). و على أيّ تقدير هو بيان لقوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه معاملته مع أصحاب الكلمة الطيبة، بيّن معاملته مع أصحاب الكلمة الخبيثة بقوله: وَ يُضِلُّ اَللّهُ اَلظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر عن كرامته، و يمنعهم عن الفوز بالثواب.

عن الصادق عليه السّلام: «يعني يضلّهم [يوم القيامة]عن دار كرامته (6)» و عن الحقّ الذي ثبّت المؤمنين عليه، فلا يثبتوا في الدنيا في مواقف الفتن، و إذا سئلوا عن دينهم في قبورهم قالوا: لا ندري، و تدهشهم أهوال القيامة فلا يقدرون على الجواب في الموقف وَ يَفْعَلُ اَللّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض و إضلال آخرين حسبما تقتضيه مشيئته التي هي عين حكمته البالغة و لا اعتراض عليه.

عن الصادق عليه السّلام في سؤال القبر: «و إن كان كافرا-إلى أن قال-: و يسلّط اللّه عليه في قبره الحيّات تنهشه نهشا، و الشيطان يغمّه غمّا-إلى أن قال-: و هو قول اللّه عزّ و جل: يُثَبِّتُ اَللّهُ إلى قوله: وَ يَفْعَلُ اَللّهُ ما يَشاءُ» (7).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 28 الی 29

ص: 514


1- . تفسير الرازي 19:122.
2- . تفسير البيضاوي 1:518.
3- . في تفسير العياشي: يساره ليصده.
4- . تفسير العياشي 2:407/2273، تفسير الصافي 3:86.
5- . تفسير الرازي 19:122.
6- . التوحيد:241/1، تفسير الصافي 3:86.
7- . الكافي 3:239 و 240/12، تفسير الصافي 3:86.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فوائد كلمة التوحيد و ضرر كملة الشرك بضرب المثل، أظهر التعجّب من الذين هيّأ لهم أسباب الهداية إلى التوحيد و دين الحقّ و مع ذلك اختاروا الكفر و الشّرك بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد، و لم تنظر إِلَى المشركين اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عليهم و الهداية التي رزقهم، ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيهم بالرسالة، و إنزال القرآن عليهم، فأبوا عن قبولها، و اختاروا مكانها كُفْراً باللّه و وحدانيته.

و قيل: يعني بدّلوا شكر نعمة اللّه كفرا بأن وضعوه مكانه، أو بدّلوا نفس النعمة كفرا، فانّهم لمّا كفروها سلبت منهم، فصاروا فاقدين لها، و واجدين للكفر بدلها (1).

قيل: نزلت في أهل مكة حيث أسكنهم اللّه حرمه، و جعلهم قوّام بيته، و وسّع عليهم أبواب رزقه، و شرّفهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله فكفروا ذلك و قحطوا سبع سنين، و قتلوا و اسروا يوم بدر، فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هم الأفجران: بنو المغيرة، و بنو امية، أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أمّا بنو امية فمتّعوا إلى حين» (3).

و في (المجمع) : سأل رجل أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية فقال: «هما الأفجران من قريش: بنو امية، و بنو المغيرة، فأمّا بنو امية فمتعّوا الى حين، و أمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر» (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «نزلت في الأفجرين من قريش: بنو المغيرة، و بنو اميّة، فأمّا بنو المغيرة فقطع اللّه دابرهم [يوم بدر]، و أمّا بنو اميّة فمتّعوا إلى حين» (5).

وَ أَحَلُّوا و أنزلوا قَوْمَهُمْ باضلالهم عن الحقّ دارَ اَلْبَوارِ و الهلاك، و هي جَهَنَّمَ و هم يَصْلَوْنَها و يدخلون فيها مقاسين لحرّها وَ بِئْسَ اَلْقَرارُ و المستقرّ جهنّم.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «ما يقولون في ذلك؟» قيل: يقولون: هما الأفجران من قريش: بنو اميّة، و بنو المغيرة. فقال: «هي و اللّه قريش قاطبة، إنّ اللّه تعالى خاطب به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّي فضلت قريشا على العرب، و أتممت عليهم نعمتي، و بعثت إليهم رسولي، فبدّلوا نعمتي كفرا، و أحلّوا قومهم دار البوار» (6).

ص: 515


1- . تفسير روح البيان 4:418.
2- . تفسير روح البيان 4:418.
3- . تفسير روح البيان 4:418.
4- . مجمع البيان 6:483، تفسير الصافي 3:87.
5- . تفسير القمي 1:371، تفسير الصافي 3:87.
6- . الكافي 8:103/77، تفسير الصافي 3:87.

و عن الصادق عليه السّلام: «عنى بها قريشا قاطبة الذين عادوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نصبوا له الحرب» ، و جحدوا الوصية» (1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّهم كفار قريش، كذّبوا نبيهم، و نصبوا له الحرب و العداوة» (2).

و يمكن الجمع بين الروايات بأن النزول و إن كان في قريش قاطبة، و لكن لمّا كان الأفجران أكفرهم للنعمة صحّ أن يقال نزلت فيهما.

و عن الصادق عليه السّلام-في رواية- «و نحن نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، و بنا يفوز من فاز» (3).

و عن (الكافي) و (القمي) عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عدلوا عن وصيه، ألا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب» ثمّ تلا هذه الآية، ثم قال: «نحن النعمة التي أنعم اللّه بها على عباده، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة» (4).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 30

ثمّ فسّر اللّه كفرانهم بقوله: وَ جَعَلُوا من الأصنام لِلّهِ أَنْداداً و شركاء في العبادة و النّعم التي أنعم بها عليهم بأن صرفوها فيها، و قالوا: هذا للّه، و هذا لشركائنا لِيُضِلُّوا و يحرفوا عباد اللّه عَنْ سلوك سَبِيلِهِ و قبول دينه الحقّ.

وَ جَعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّارِ (30)ثمّ أمر سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتهديدهم بقوله: قُلْ يا محمّد، لهؤلاء المشركين المضلّين: أنتم لا تتأهّلون للوعظ و النّصح و الهداية، فأنتم مخلّون و أنفسكم، إذن تَمَتَّعُوا و انتفعوا بالنّعم الدنيوية قليلا، و كلوا منها كما تأكل الأنعام، لا حظّ لكم في نعم الآخرة فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ بعد خروجكم من الدنيا إِلَى اَلنّارِ التي سجّرها القهّار بغضبه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 31

ثمّ لمّا أمر سبحانه الكفّار بالتمتّع بالنّعم الدنيوية تهديدا، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بأن يأمر المؤمنين بالإعراض عن الدنيا و الاقبال إلى العبادات لطفا بقوله: قُلْ يا محمّد لِعِبادِيَ اَلَّذِينَ عرفوني و آمَنُوا بوحدانيتي و دار جزائي، ليعرضوا عن التمتّع بالمشتهيات النفسانية و اللذائذ الدنيوية، و يقبلوا الى

قُلْ لِعِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ (31)

ص: 516


1- . الكافي 1:169/4، تفسير الصافي 3:87.
2- . مجمع البيان 6:483، تفسير الصافي 3:87.
3- . تفسير القمي 1:371، تفسير الصافي 3:87.
4- . الكافي 1:169/1، تفسير الصافي 3:87.

العبادات البدنية و المالية بأن يُقِيمُوا اَلصَّلاةَ التي هي عمود دينهم، و معراجهم إلى مقام قرب ربّهم وَ يُنْفِقُوا بعضا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً و أنعمنا عليهم في سبيلنا و تحصيل مرضاتنا مِنْ قَبْلِ أَنْ تنقضي مدد أعمارهم في الدنيا و يَأْتِيَ يَوْمٌ عظيم لا بَيْعٌ و معاوضة فِيهِ حتّى يبتاع المجرم نفسه بالمال و يفتدي به عنها من العذاب وَ لا خِلالٌ و صداقة حتى يشفّعه خليله و صديقه، أو يبذل عنه مالا ليخلّصه من العقوبة، فعلى العاقل أن يهيّأ أسباب خلاصة من العذاب في الدنيا بالقيام بوظائف العبودية و بذل الأموال في سبيله.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 32 الی 34

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال السعداء، و ترغيبهم في القيام بوظائف العبودية، و بيان حال الأشقياء، و ترهيبهم من الشرك، نبّه على كمال قدرته و حكمته و وفور نعمته، ازديادا لترغيب الأولين و ترهيب الآخرين بقوله: اَللّهُ هو اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بقدرته وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً نافعا بحكمته فَأَخْرَجَ بِهِ من الأرض كثيرا مِنَ أنواع اَلثَّمَراتِ ليكون رِزْقاً و معايش لَكُمْ بجوده وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ و سلّطكم على صنعها و استعمالها لِتَجْرِيَ و تسير الفلك المصنوعة فِي اَلْبَحْرِ إلى حيث توجّهتم بها بِأَمْرِهِ و إرادته وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهارَ بأن جعلها سهلة الانتفاع بها باتحاد الجداول منها تسقي زروعكم و بساتينكم.

اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ (33) وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ (34)قيل: لمّا لم ينتفع بماء البحر في الزراعات، أنعم اللّه على الخلق بتفجير الأنهار و العيون (1).

و قيل: زروعكم و بساتينكم (2).

و قيل: إنّ المراد بالأنهار الأنهار العظيمة الخمسة: سيحون و جيحون و الفرات و دجلة و النّيل، أنزلها اللّه من عين واحدة من عيون الجنة، فاستودعها الجبال، و أجراها، و سخّرها للناس، و جعل فيها منافع لهم في أصناف معائشهم، و سائر الأنهار تبع لها (3).

ص: 517


1- . تفسير الرازي 19:128.
2- . تفسير روح البيان 4:421.
3- . تفسير روح البيان 4:422.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ حال كونهما دائِبَيْنِ و دائمين في سيرهما بحيث لا ينقطع سيرهما إلى يوم القيامة، و لا يفتران لا صلاح ما يصلحان من الأرض و النبات و الأبدان و المعادن و غيرها وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لتسكنوا فيه وَ اَلنَّهارَ لتبتغوا من فضله وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ بجوده بعضا ما سَأَلْتُمُوهُ ممّا تحتاجون إليه ممّا لم يكن منافيا لحكمته، أو كلّ ما سألتموه بلسان الحال أو المقال على أنّ كلمة (من) تبيينية.

ثمّ نبّه على أنّ نعمة ليست منحصرة بالمذكورات بقوله: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللّهِ التي أنعمها عليكم جسمانية و روحانية لا تُحْصُوها و لا تقدرون على عدّها و حصرها لكثرتها و عدم إحاطة عقولكم بجميعها.

ثمّ إِنَّ اَلْإِنْسانَ المستغرق في تلك النّعم و اللّه لَظَلُومٌ و كثير العصيان لمنعمه مع أنّ حقّ نعمه الطاعة و صرف العمر في الشكر و كَفّارٌ لتلك النعم، و مبالغ في كفرانها بأن صرفها في ما يغضب المنعم و يجعل له أندادا.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 35

ثمّ لمّا كانت قريش مفتخرين بانتسابهم إلى إبراهيم، حكى سبحانه شدّة إنكاره عبادة الأصنام بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ حبّا لأولاده الساكنين في مكة من بني إسماعيل رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ الذي يسكنه (1)ذرّيتي آمِناً و محفوظا من ورود المكاره العمومية (2)على أهله، و قد مرّ في سورة البقرة تفصيل المراد من جعله آمنا (3)وَ اُجْنُبْنِي و بعّدني وَ بَنِيَّ من أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ بأن تثبّتنا على ما نكون عليه من التوحيد و دين الاسلام.

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ (35)قيل: إنّه عليه السّلام لمّا رأى القوم يعبدون الأصنام، فخاف على بنيه، فدعا لهم (4)، و إنّما أدخل نفسه الشريفة في الدعاء إمّا لإظهار هضمها، و إمّا لإظهار أنّ عصمته من العقائد الفاسدة و الزلاّت بعناية اللّه و لطفه لا بنفسه، و قد استجاب اللّه دعاءه، فجعل البلد آمنا بالمعاني التي سبق ذكرها، و جنّب كثيرا من ذراريه من عبادة الصنم، و كانت كلمة التوحيد باقية في عقبه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قد حظر على من مسّه الكفر تقلّد ما فوّضه إلى أنبيائه و أوليائه بقوله

ص: 518


1- . في النسخة: يسكنها.
2- . في النسخة: العمومي.
3- . تقدم في سورة البقرة:2/126.
4- . تفسير روح البيان 4:424.

لابراهيم عليه السّلام: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ (1)أي المشركين، لأنّه سمّى الشرك ظلما بقوله: إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (2)فلمّا علم إبراهيم عليه السّلام أنّ عهد اللّه تبارك و تعالى اسمه بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام قال: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ» (3).

و في رواية (الأمالي) : عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي عليّ لم يسجد أحد منّا لصنم قطّ، فاتّخذني نبيا و عليا وصيا» (4).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه أتاه رجل فسأله عن شيء فلم يجبه، فقال له الرجل: فان كنت ابن أبيك فانّك من أبناء عبدة الأصنام. فقال له: «كذبت إن اللّه أمر إبراهيم أن ينزل إسماعيل بمكّة ففعل، فقال إبراهيم: رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنما، و لكن العرب عبدة الأصنام، و قالت بنو إسماعيل: هؤلاء شفعائنا عند اللّه فكفرت و لم تعبد الأصنام» (5).

و قيل: إن دعاءه كان لأولاده من صلبه، و هم إسماعيل و إسحاق (6).

و قيل: لأولاده الذين كانوا في عصره (7).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 36

ثمّ بين عليه السّلام أنّ علة سؤال عصمة أولاده من عبادة الأصنام، شيوع الشرك بين الناس بقوله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ و صرن أسبابا لبعد غالب الخلق عن الحقّ، ثمّ أظهر غاية حبّه للموحّدين المطيعين للّه ترغيبا للنّاس إلى التوحيد و طاعة اللّه، و إظهارا لتبعية حبّه لحبّ اللّه بقوله: فَمَنْ تَبِعَنِي من الناس كان من أولادي أو غيرهم في ديني من عقائدي و أعمالي فَإِنَّهُ مِنِّي و بمنزلة عضو من أعضائي لفرط اختصاصه بي و حبّي إياه.

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)ثمّ أظهر عطوفته بعامة الناس بشفاعته في أهل الكبائر منهم بقوله: وَ مَنْ عَصانِي و خالف أحكامك التي بلغتها إليه، فاغفر له فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالمؤمنين العصاة فلا تحرمه من غفرانك و رحمتك.

عن الصادق عليه السّلام: «من اتّقى اللّه منكم و أصلح فانه منّا أهل البيت» [قيل: منكم أهل البيت؟ قال: «منا

ص: 519


1- . البقرة:2/124.
2- . لقمان:31/13.
3- . الاحتجاج:251، تفسير الصافي 3:89.
4- . أمالي الطوسي:379/811، تفسير الصافي 3:89.
5- . تفسير العياشي 2:414/2287، تفسير الصافي 3:89.
6- . تفسير الرازي 19:132.
7- . تفسير الرازي 19:133.

أهل البيت]قال [فيها]إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» (1).

و عن الباقر عليه السّلام: «من أحبّنا فهو منّا أهل البيت» قيل: منكم؟ قال: «منّا و اللّه، أما سمعت قول إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال: «تقدر أن تغفر له و ترحمه» (3).

قيل: إنّ المراد من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم، يعني أنك قادر على أن تغفر له و ترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإيمان (4).

و قيل: إنّ المراد من هذه المغفرة عدم التعجيل في عقوبته و إمهاله حتى يتوب، أو عدم التعجيل في موته فتفوته التوبة (5).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 37

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد طلب الأمن و الايمان اللذين هما أجلّ النّعم الدنيوية و الاخروية و أعلاها لأولاده، سأل و جاهتهم و محبوبيتهم عند الناس و السّعة في رزقهم بقوله: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ بعضا مِنْ ذُرِّيَّتِي و أولادي و هم إسماعيل و نسله بِوادٍ و صحراء غَيْرِ ذِي زَرْعٍ و هو وادي مكّة، فانّها حجرية لا ينبت فيها شيء من الزرع عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ و الكعبة العظيمة التي لا يحلّ انتهاكها، و إنّما كان إسكاني لهم فيه رَبَّنا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاةَ عند البيت، و يشتغلوا بعبادتك حوله، لا لغرض دنيوي، فاذا كان غرضي ذلك فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً كثيرة مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي و تشتاق إِلَيْهِمْ و تسرع إلى لقائهم محبّة لهم.

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)عن الباقر عليه السّلام: «نحن هم، و نحن بقيّة تلك الذرّية» (6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «و الأفئدة من الناس تهوي إلينا، و ذلك دعوة إبراهيم حيث قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (7).

ص: 520


1- . تفسير العياشي 2:414/2289، تفسير الصافي 3:90.
2- . تفسير العياشي 2:414/2288، تفسير الصافي 3:90.
3- . تفسير الصافي 3:90.
4- . تفسير الرازي 19:134، و فيه: إلى الإسلام.
5- . تفسير الرازي 19:134.
6- . تفسير العياشي 2:415/2291، تفسير الصافي 3:90.
7- . الاحتجاج:160، تفسير الصافي 3:91.

و عن الباقر عليه السّلام في رواية: «فنحن دعوة إبراهيم عليه السّلام» (1).

و عنه عليه السّلام-في رواية اخرى-: «و كانت دعوة إبراهيم لنا خاصة» (2).

و عنه عليه السّلام، أنّه نظر إلى النّاس يطوفون حول الكعبة فقال: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنّما أمروا أن يطوفوا بها ثمّ ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم و مودّتهم، و يعرضوا علينا نصرتهم» ثمّ قرأ هذه الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (3).

وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ أنواع اَلثَّمَراتِ و الفواكه و الأطعمة، بأن يجيء إليهم من البلاد البعيدة أو القرى القريبة لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ نعمك.

قيل: إنّه يجتمع في مكّة بدعائه عليه السّلام الفواكه الربيعية و الصيفية و الخريفية و الشتوية في يوم واحد (4).

و عن ابن عباس: أنّ الطائف التي على ثلاث مراحل من مكة، كانت من أرض فلسطين، فلمّا دعا إبراهيم بهذه الدعوة رفعها اللّه و وضعها قريبا من الحرم (5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الثمرات تحمل إليهم من الآفاق، و قد استجاب اللّه له حتى لا يوجد في بلاد المشرق و المغرب ثمرة لا (6)توجد فيها» (7).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني من ثمرات القلوب» (8)أي حبّبهم إلى الناس ليأتوا إليهم و يعودوا.

روي من طريق عامي: أنّ هاجر كانت أمة لسارة، فوهبتها لإبراهيم عليه السّلام، فولدت [له]إسماعيل، فقالت سارة: كنت أرجو أن يهب اللّه [لي]ولدا من خليله فمنعته (9)و رزقه خادمتي. و قالت لابراهيم بعّدهما عنّي. فنقلهما إلى مكة و إسماعيل رضيع، ثمّ رجع، فقالت هاجر: إلى من تكلنا؟ فقال: إلى اللّه، ثمّ دعا اللّه تعالى بقوله: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ الآية. ثمّ أنّها عطشت و عطش الصبيّ، فانتهت بالصبيّ إلى موضع زمزم، فضرب بقدمه، ففارت عينا، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رحم اللّه امّ إسماعيل، لو لا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا» (10).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ ابراهيم عليه السّلام كان نازلا في بلاد (11)الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمّت سارة من ذلك غما شديدا؛ لأنّه لم يكن له منها ولد، و كانت تؤذي إبراهيم عليه السّلام في هاجر،

ص: 521


1- . الكافي 8:312/485، تفسير الصافي 3:91.
2- . مجمع البيان 6:489، تفسير الصافي 3:90.
3- . تفسير العياشي 2:418/2299، الكافي 1:322/1، تفسير الصافي 3:94.
4- . تفسير البيضاوي 1:521، تفسير روح البيان 4:427.
5- . تفسير روح البيان 4:427، و فيه: و وضعها رزقا للحرم.
6- . في عوالي اللآلي: إلاّ.
7- . عوالي اللآلي 2:96/258، تفسير الصافي 3:91.
8- . تفسير القمي 1:371، تفسير الصافي 3:91.
9- . في تفسير الرازي: فمنعنيه.
10- . تفسير الرازي 19:136.
11- . في تفسيري القمي و الصافي: بادية.

و تغمه، فشكا إبراهيم عليه السّلام ذلك إلى اللّه عزّ و جلّ، فأوحى اللّه إليه: إنّما مثل المرأة مثل الضّلع العوجاء إن تركتها استمتعت بها، و إن أقمتها كسرتها. ثمّ أمره أن يبعد إسماعيل و أمّه عنها فقال: يا رب إلى أي مكان؟ قال: إلى حرمي و أمني و أول بقعة خلقتها من الأرض، و هي مكة.

فأنزل اللّه عليه جبرئيل بالبراق، فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم، و كان إبراهيم عليه السّلام لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع إلاّ و قال: يا جبرئيل، إلى هاهنا؟ فيقول جبرئيل: لا امض، حتى وافى مكة، فوضعه في موضع البيت.

و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلّوا تحته، فلمّا سرّحهم إبراهيم عليه السّلام و وضعهم و أراد الانصراف عنهم الى سارة، قالت هاجر: لم تدعنا في موضع ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع؟ فقال إبراهيم عليه السّلام: اللّه الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان حاضر عليكم.

ثمّ انصرف عنهم، فلمّا بلغ كداء-و هو جبل بذي طوى-التفت إليهم إبراهيم، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي الآية. ثم مضى و بقيت هاجر، فلمّا أرتفع النهار عطش إسماعيل و طلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى، فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب إسماعيل عنها، فصعدت على الصّفا و لمع لها السّراب في الوادي، و ظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت، فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل، ثمّ لمع [لها]السراب في ناحية الصفا، فهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلمّا كانت في الشوط السابع و هي على المروة و نظرت إلى إسماعيل، و قد ظهر الماء من تحت رجله، قعدت حتى جمعت حوله رملا، فانّه كان سائلا فزمّته بما جعلته حوله، فلذلك سمّي زمزم.

و كانت جرهم (1)نازلة بذي المجاز و عرفات، فلمّا ظهر الماء [بمكة]عكفت الطير و الوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير في ذلك المكان اتّبعوها حتّى نظروا إلى امرأة و صبيّ نازلين في ذلك الموضع، قد استظلا بشجرة، و قد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت و ما شأنك و شأن هذا الصبيّ؟ قالت: أنا أمّ ولد إبراهيم خليل الرحمن، و هذا ابنه، أمره اللّه أن ينزلنا هاهنا، فقالوا لها: أتأذنين أن نكون بالقرب منكما؟ [فقالت: حتى يأتي إبراهيم]فلما زارهم إبراهيم عليه السّلام يوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الرحمن، إنّ هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب

ص: 522


1- . اسم قبيلة.

منّا، أفتأذن لهم في ذلك؟ فقال إبراهيم عليه السّلام: نعم، فأذنت هاجر لجرهم، فنزلوا بالقرب منهم، و ضربوا خيامهم، فأنست هاجر و إسماعيل بهم، فلمّا زارهم إبراهيم في المرة الثالثة، نظر إلى كثرة الناس [حولهم]، فسرّ بذلك سرورا شديدا» (1).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 38

ثمّ أظهر عليه السّلام ذلّته و علمه تعالى بحاجته تقريبا لإجابة دعائه بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي في صدورنا من الحاجة وَ ما نُعْلِنُ و نظهر بألسنتنا من مطلوبنا لاظهار العبودية و المسكنة و الافتقار إلى رحمتك، و استعجالا بنيل أياديك، لا لأن تعلم حاجاتنا.

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اَللّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ (38)قيل: إنّ المراد ما نخفي في قلوبنا من الحزن بسب الفرقة بيني و بين ابني إسماعيل (2)، أو ما نخفي من الحزن على ما جرى (3)بيني و بين هاجر حيث قالت: حين الوداع: إلى من تكلنا؟ و ما نعلن من البكاء، أو من جوابها بأنّي أكلكم إلى اللّه (4).

ثمّ أنه عليه السّلام لمّا أضاف علمه تعالى بالأمرين الخاصين، دفع توّهم الاختصاص بقوله: وَ ما يَخْفى عَلَى اَللّهِ الخالق لجميع الأشياء العالم بحقائقها و دقائقها مِنْ شَيْءٍ حقير أو كبير يكون فِي اَلْأَرْضِ و تخومها وَ لا فِي اَلسَّماءِ لأنّ علمه عين ذاته، و الكلّ معلول لارادته. و قيل: إن الذيل كلام اللّه عزّ و جلّ تصديقا لابراهيم عليه السّلام (5)لا من تتمّة كلام إبراهيم عليه السّلام.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 39

ثمّ أنّه عليه السّلام أعلن بالشكر على نعمة اللّه عليه طلبا لا بقائها و ازديادها بقوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي بكرمه وجوده و أنا عَلَى حال اَلْكِبَرِ و الهرم الذي يقتضي العقم و الحرمان عن الولد إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ بدعائي.

اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعاءِ (39)ثمّ لمّا كان الثناء على اللّه من كمال الدعاء، أثنى عليه بقوله: إِنَّ رَبِّي و اللّه لَسَمِيعُ اَلدُّعاءِ و مجيبه، و في نسبة الهبة بحال الكبر إظهارا لكونها من الآيات و خوارق العادات.

ص: 523


1- . تفسير القمي 1:60، تفسير الصافي 3:91.
2- . تفسير الرازي 19:137.
3- . في تفسير الرازي: من الحزن المتمكّن في القلب، و ما نعلن يريد ما جرى.
4- . تفسير الرازي 19:137.
5- . تفسير الرازي 19:138.

قيل: ولد [اسماعيل]و لإبراهيم أربع و ستون. و قيل: تسع و تسعون سنة (1).

و عن سعيد بن جبير: أنّه لم يولد لابراهيم إلاّ بعد مائة و سبع عشرة سنه (2).

قيل: إنّما سمّاه إسماعيل لأنّه دعا اللّه أن يرزقه ولدا، و قال في داعائه: اسمع يا إيل، و إيل اسم اللّه، فلمّا ولد سمّاه به. و قيل: معناه بالعبرانية مطيع (1).

و في ذكر إسحاق دلالة على أنّ هذا الشكر و الثناء لم يكن في زمان إسكان إسماعيل في مكة، بل كان بعد كبره و ولادة إسحاق، و إنّما حكى اللّه هذا الحمد هنا بمناسبة ذكر إسماعيل لا لكونه في زمان سائر الأدعية.

قيل: ولد له إسحاق و له تسعون (2). و قيل: مائة و اثنتا عشرة سنة (3).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 40 الی 41

ثمّ لمّا ذكر أنّ غرضه من إسكان إسماعيل في محلّ البيت إقامة الصلاة عنده، سأل توفيقه و توفيق بعض ذرّيته لاقامة الصلاة بقوله: رَبِّ اِجْعَلْنِي بتوفيقك مُقِيمَ اَلصَّلاةِ و مواظبا عليها وَ بعضا مِنْ ذُرِّيَّتِي.

رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسابُ (41)و قيل: لمّا أخبره اللّه بأنّ بعض ذرّيته يكون كفّارا، خصّ هذا الدعاء ببعضهم (4).

ثمّ سأل استجابة دعائه بقوله: رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ و استجب دُعاءِ ثمّ ختم الدعاء بطلب المغفرة التي هي أهم المقاصد الاخروية بقوله: رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي ما صدر منّي من ترك الأولى وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسابُ و يتحقق فيه جزاء الأعمال.

قيل: إنّ المراد بوالديه آدم و حواء (5). و قيل: إنّ المراد والداه بلا واسطة (6)، و كان الدعاء قبل النهي عن الاستغفار للمشركين.

أقول: الحقّ أنّ المراد بوالديه تارخ و زوجته امّ إبراهيم، و هما كانا مسلمين، و كان آذر عمّه، أو أبا امّه، أو زوج امّه، و أمّا بعض الروايات المروية عن أئمتنا المعصومين عليهم السّلام بطرق أصحابنا الدالة على وقوع التحريف في الآية، و كان المنزل (ولولدي) (7)فمطروح غير معتبر، و لذا أعرضنا عنها.

ص: 524


1- . تفسير روح البيان 4:429.
2- . تفسير الرازي 19:138.
3- . تفسير الرازي 19:138، تفسير روح البيان 4:429.
4- . تفسير الرازي 19:139، تفسير أبي السعود 5:54.
5- . تفسير الرازي 19:140، تفسير أبي السعود 5:54.
6- . تفسير روح البيان 4:429.
7- . راجع: تفسير العياشي 2:419/2301 و 2303.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 42 الی 43

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد بالبراهين، و كونه ملة إبراهيم، و كون الشرك عصيانه، و خوف إبراهيم من عذاب اللّه يوم الحساب، هدّد اللّه المشركين بأهوال ذلك اليوم بقوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ يا محمد، و لا تحتمل أن يكون غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ و المشركون من العصيان و الطّغيان و عبادة الأوثان.

وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)قيل: إن المراد دم يا محمّد على ما أنت عليه من عدم حسبان الغفلة في حقّه تعالى (1).

و يحتمل أن يكون المقصود نهي المؤمنين، و المعنى: لا تحسبوا-أيّها المؤمنون-أنّ تأخير العذاب عن الظالمين لغفلته تعالى عن أعمالهم، بل إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ و يمهلهم لِيَوْمٍ عظيم تَشْخَصُ و ترتفع فِيهِ اَلْأَبْصارُ و تبقى مفتوحة، لا يقدرون على تحريكها من الدهشة، و هم مع شخوص أعينهم المقتضي لوقوفهم في أماكنهم يكونون مُهْطِعِينَ و مسرعين لاجابة الداعي، أو نحو البلاء و العذاب كإسراع الأسير الخائف، أو مقبلين إلى الحساب، أو المراد ناظرين في ذلّ و خشوع حال كونهم مُقْنِعِي و رافعي رُؤُسِهِمْ مع أنّ حقّ المشاهد للبلاء أطراق رأسه كي لا يراه.

ثمّ بيّن دوام شخوصهم بحيث لا يَرْتَدُّ و لا يرجع إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ و لا تحرّك أجفانهم، بل تبقى مفتوحة أبدا دائما لدوام حيرتهم و دهشتهم وَ أَفْئِدَتُهُمْ و قلوبهم هَواءٌ و خالية من العقل و القوة و الأفكار و الآمال، لعظم ما ينالهم من الوحشة و الدهشة و الحزن.

القميّ قال: تتصدّع قلوبهم من الخفقان (2). قيل: ذلك عند القيام من القبور. و قيل: عند قيام الحساب. و قيل: عند تميّز الأشقياء من السّعداء (3).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 44 الی 45

ص: 525


1- . تفسير روح البيان 4:431.
2- . تفسير القمي 1:372، تفسير الصافي 3:95.
3- . تفسير الرازي 19:142.

ثمّ أنّه تعالى بعد تخويف المشركين بأهوال القيامة، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله بتخويفهم من عذابه بقوله: وَ أَنْذِرِ اَلنّاسَ يا نذير البشر يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذابُ المعهود، و هو عذاب يوم القيامة فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم باختيار و عمل المعاصي و تكذيب الرسل عند رؤيتهم العذاب: رَبَّنا ردّنا إلى الدنيا و أَخِّرْنا و أمهلنا فيها إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ و أمد قليل نُجِبْ إذن دَعْوَتَكَ إلى توحيدك و طاعتك وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ و نعمل بقولهم، و نتدارك ما فرّطنا فيه، فيقال لهم توبيخا و تبكيتا: هيهات ألم نمهلكم فيها أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ و حلفتم بألسنتكم، أو بلسان حالكم مِنْ قَبْلُ و في زمان حياتكم حيث بنيتم شديدا و أمّلتم (1)بعيدا غرورا و استكبارا على أنّه ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ و انصراف عن التمتّع بالمشتهيات و الشرك و تكذيب الرسل، أو من زوال من هذه الدنيا و خروج منها و رجوع إلى دار الجزاء، مع أنّه قد تمّت عليكم الحجّة.

وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و الطّغيان كعاد و ثمود وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ بمشاهدة الآثار و تواتر الأخبار أنا كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ و عاملنا معهم من الإهلاك و العقوبة بسيئاتهم وَ ضَرَبْنا لَكُمُ في هذا القرآن العظيم اَلْأَمْثالَ و بيّنا لكم ممّا فعلوا و فعل بهم ما يكون فيه غاية الاعتبار، و مع ذلك لم تحدّثوا أنفسكم (2)أنّ أعمالكم كأعمالهم و مالكم كمالهم فترتدعوا عمّا كنتم فيه من الكفر و الطّغيان (3)و تكذيب الرسل، فلو رجعتم إلى الدنيا بعد هذا اليوم لترجعنّ إلى ما كنتم عليه، و لا ينفعكم النّصح و الموعظة.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 46

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين المكذّبين للرسول بأهوال القيامة و شدائدها و عذابها، بيّن شدّة سعيهم و مكرهم في إطفاء نور النبي صلّى اللّه عليه و آله و إبطال الحقّ، و وبخهم عليه بقوله وَ قَدْ مَكَرُوا و سعوا بتدبيراتهم في إخلال أمر النبوة و إطفاء نور الرسالة مَكْرَهُمْ العظيم المقدور لهم، و جهدهم البليغ الميسور لهم، بحيث لا يمكنهم فوقه وَ عِنْدَ اَللّهِ محفوظ و مكتوب مَكْرَهُمْ ليجازيهم بما هو أعظم من مكرهم وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في العظم و الشدّة لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ من أماكنها و مقارّها.

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اَللّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ (46)قيل: يعني مساو في العظم لازالتها من محالّها (4)، و قوله: لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ كناية عن غاية المتانة

ص: 526


1- . في النسخة: و أمنتم، و ما أثبتناه من روح البيان 4:433.
2- . في النسخة: لأنفسكم.
3- . في النسخة: و الطاغين.
4- . تفسير البيضاوي 1:522، تفسير روح البيان 4:435.

و الشدّة لكونه مثلا في ذلك.

و قيل: إنّ كلمة (إن) نافية (1)، و المعنى: و ما كان مكرهم في القوة و التأثير بحدّ تزول الجبال بسببه، يعني يزول به دين محمّد و حجتّه و دلائله، بل هو أوهن و أضعف من ذلك.

و قيل: إنّ المراد أنّ كفّار هذا العصر مكروا مكر كفّار الأعصار السابقة، كنمرود و من حذا حذوه، و عند اللّه جزاء مكرهم (2).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 47

ثم نبّه سبحانه على أنّ مكر الماكرين بالرسل لا يمكن أن يكون مخلا بأمر الرسل بقوله: فَلا تَحْسَبَنَّ و لا تتوهمنّ يا محمّد أن اَللّهَ الحكيم القادر مُخْلِفَ وَعْدِهِ الذي وعده رُسُلَهُ من تعذيب أعدائهم و نصرتهم على معارضيهم إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ و غالب على أمره، و قاهر على خلقه ذُو اِنتِقامٍ من أعدائه و أعداء رسله.

فَلا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقامٍ (47)قيل: إن اللّه قال: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ (3)و قال هنا: فَلا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، فنبّه بتلك القضيتين على أنّه إن لم تقم القيامة، و لم ينتقم للمظلوم من الظالم، يلزم إما كونه غافلا، أو مخلفا لوعده رسله، و كلاهما محال، فالقول بعدم قيام القيامة في غاية البطلان (4).

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 48

ثمّ عيّن سبحانه يوم إتيانهم العذاب أو وقت الانتقام بقوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ و تغيّر هذه اَلْأَرْضُ و تكون صفتها غَيْرَ صفة تلك اَلْأَرْضُ.

يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ (48)عن ابن عبّاس: هي تلك الأرض، إلاّ أنها تغيّرت في صفاتها، فتسيّر عن الأرض جبالها، و تفجّر بحارها و تسوّى، فلا يرى فيها عوج و لا أمّت (5).

و عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «يبدّل اللّه الأرض غير الأرض (6)، فيبسطها و يمدّها مدّ الأديم العكاظي، فلا ترى فيها عوجا و لا أمتا، ثم يزجر اللّه الخلق زجرة فاذا هم في [هذه المبدّلة في]مثل

ص: 527


1- . تفسير البيضاوي 1:522، تفسير أبي السعود 5:58.
2- . تفسير أبي السعود 5:59، تفسير الرازي 19:144.
3- . إبراهيم 14:42.
4- . تفسير الرازي 19:145.
5- . تفسير الرازي 19:146.
6- . زاد في مجمع البيان: و السماوات.

مواضعهم من الاولى، ما كان في بطنها كان في بطنها، و ما كان على ظهرها كان على ظهرها» (1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النّقي (2)، ليس فيها معلم لأحد» (3).

و في (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «تبدّل الأرض خبزة نقيّة، يأكل الناس منها حتّى يفرغوا من الحساب» .

قيل: إنّ الناس لفي شغل يومئذ عن الأكل و الشرب؟ فقال: «إنّهم في النار لا يشتغلون عن أكل الضّريع و شرب الحميم و هم في العذاب، فكيف يشتغلون عنه في الحساب؟» (4).

و في رواية اخرى: «أن اللّه عزّ و جلّ خلق ابن آدم أجوف، و لا بدّ له من الطعام و الشراب، أهم أشدّ شغلا يومئذ أم من في النّار؟ فقد استغاثوا و اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ بِئْسَ اَلشَّرابُ» (5).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أرض القيامة من نار ما خلا ظلّ المؤمن، فان صدقته تظلّه» (6).

عن الباقر-في رواية-أنّه قال: «لعلّكم ترون أنّه إذا كان يوم القيامة، و صيّر اللّه أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة، و صيّر أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار، أنّ اللّه تبارك و تعالى لا يعبد في بلاده، و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحّدونه و يعظّمونه، بلى [و اللّه]و ليخلقن خلقا من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه و يعظّمونه، و يخلق لهم أرضا تحملهم و سماء تظلّهم، أ ليس اللّه يقول: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ و قال اللّه: أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» (7).

أقول: ليس في الرواية دلالة على تغيير أرض المحشر.

و عن ابن مسعود: تبدّل بأرض كالفضّة البيضاء النقية لم يسفك فيها (8)دم، و لم تعمل عليها خطيئة (9).

و عن السجاد عليه السّلام: «و تبدّل الأرض غير الأرض، يعني بأرض لم تكتسب عليها الذنوب، بارزة ليس عليها جبال و لا نبات، كما دحاها أوّل مرّة» (10).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: المتحابون في اللّه عزّ و جل يوم القيامة على أرض من

ص: 528


1- . مجمع البيان 6:498، تفسير الصافي 3:97.
2- . العفراء: الأرض البيضاء التي لم توطأ، و قرصة النّقي: القرصة المتّخذة من خالص الدقيق و لبابه.
3- . مجمع البيان 6:499، تفسير الصافي 3:97.
4- . الكافي 6:286/1، تفسير الصافي 3:96.
5- . الكافي 6:287/4، تفسير الصافي 3:96، و الآية من سورة الكهف:18/29.
6- . ثواب الأعمال:140، بحار الأنوار 7:120/57.
7- . تفسير العياشي 2:423/2313، الخصال:359/45، تفسير الصافي 3:97، و الآية من سورة ق:50/15.
8- . في تفسير الرازي: عليها.
9- . تفسير الرازي 19:147.
10- . تفسير العياشي 2:421/2308، تفسير الصافي 3:96.

زبرجدة خضراء في ظلّ عرشه عن يمينه، و كلتا يديه يمين» (1).

أقول: لا منافاة بين الأخبار، لاحتمال اختلاف الأرض باختلاف الأصناف من المؤمنين على اختلاف مراتبهم و الكافرين، فبالنسبة إلى بعض المؤمنين كالفضة، و بالنسبة إلى بعض من الزبرجدة، و إلى بعض خبزة نقية، و هكذا بالنسبة إلى الكافر نار، و على أي تقدير وَ اَلسَّماواتُ أيضا تبدّل غير السماوات بانفطارها، و انتثار كواكبها، و تكوير شمسها، و خسوف قمرها، و كونها أبوابا، و تكون كالمهل تارة، و كالدّهان اخرى.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام بطريق عامي: «و سماوات من ذهب» (2).

وَ بَرَزُوا و ظهروا من قبورهم حين التبدّل أو بعده لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ ليحاسبهم و يجازيهم، فاذا كان الأمر إلى الغالب الذي لا يغالب و القهّار الذي لا يقهر فلا مغيث لأحد غيره و لا مستجار، و كلّ مقهور تحت قدرته، و منقلب في قبضته، و مسخّر لقضائه.

سوره 14 (إبراهيم): آیه شماره 49 الی 52

ثمّ أنه تعالى بعد بيان قهّاريته بيّن مقهورية الكفار له و عجزهم و ذلتهم لديه بقوله: وَ تَرَى يا محمّد، أو أيّها الرائي اَلْمُجْرِمِينَ و العصاة يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ و مشدّدين مع أقرانهم من الكفّار المشاركين معهم في العقائد و الأعمال، أو مع الشياطين المغوين لهم إلى الضلال، أو مع عقائدهم و أعمالهم المجسّمة المصوّرة بأقبح الصّور المتشكّلة بأسوأ الأشكال فِي اَلْأَصْفادِ و القيود و الأغلال.

وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ اَلنّارُ (50) لِيَجْزِيَ اَللّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (52)و قيل: إنّ المراد من مُقَرَّنِينَ قرنت أيديهم و أرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد (3)و سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ قيل: هو شيء يتحلّب من شجر يسمّى الأبهل (4).

و قيل: يتّخذ من حمل شجر العرعر، فيطبخ و تطلى به الإبل التي فيها الجرب، فيحرق بحدّته و حرارته الجرب، و قد يصل حرّه إلى داخل الجوف و يتسارع فيه اشتغال النّار، و لونه أسود، و ريحه

ص: 529


1- . الكافي 2:102/7، تفسير الصافي 3:97.
2- . تفسير روح البيان 4:436، تفسير الصافي 3:96.
3- . تفسير الرازي 19:148، و فيه: رقابهم بالأغلال.
4- . تفسير الرازي 19:148، و الأبهل: شجر كبير، ورقه كالطّرفاء، و ثمره كالنّبق.

نتنة، فيطلى به جلود أهل النار، فيصير كالسّربال و القميص، ليجتمع عليهم ألوان العذاب: لذع القطران و حرقته، و إسراع النار في جلودهم، و اللون الموحش، و نتن الريح (1)، فتشمئزّ عنهم النفوس، لأنّهم كانوا يستكبرون عن عبادة اللّه، فألبسهم بذلك الخزي و الهوان.

و قيل: إن القطران ما يسيل من أبدان أهل النار (2). و قيل: إنّه نحاس انتهى حرّه (3). و قيل: إنّه الحديد المذاب (4).

عن الباقر: «هو الصّفر الحارّ المذاب» (5).

عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال جبرئيل: لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء و الأرض، لمات أهل الأرض من ريحه و وهجه» (6).

وَ تَغْشى و يغطّي وُجُوهَهُمُ التي هي أعزّ أعضائهم و أشرفها في الظاهر اَلنّارَ التي تمسّ جلودهم المسربلة بالقطران؛ لأنّها ما أقبلت إلى الحقّ.

و قيل: إنّ الوجوه كناية عن الأبدان، و المعنى تشملهم النار لأنّ خطاياهم شملتها (7). و إنّما يفعل ذلك بهم لِيَجْزِيَ اَللّهُ في الآخرة كُلَّ نَفْسٍ مجرمة ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر و المعاصي إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب، فيتمّه في أعجل وقت، و يوفي الجزاء على حسب الاستحقاق.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أدلّة التوحيد و المعاد، و التهديد على إنكارهما، أعلن بإتمام الحجّة علىّ كلّ أحد بقوله. هذَا القرآن، أو السورة، أو التذكير و المواعظ بَلاغٌ و كفاية لِلنّاسِ لينصحوا وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا بالبراهين المذكورة أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ و معبود متفرّد وَ لِيَذَّكَّرَ و يتّعظ و يسترشد أُولُوا اَلْأَلْبابِ و ذوو العقول السليمة و الأذهان المستقيمة.

في (ثواب الأعمال) : من قرأ سورة إبراهيم و الحجر في ركعتين جميعا في كلّ جمعة لم يصبه فقر و لا جنون و لا بلوى (8).

الحمد للّه الذي وفّقني لاتمام تفسير سورة إبراهيم بمنّه و لطفه.

ص: 530


1- . تفسير الرازي 19:148، تفسير البيضاوي 1:523، تفسير روح البيان 4:437.
2- . تفسير روح البيان 4:437.
3- . تفسير أبي السعود 5:61، تفسير روح البيان 4:437.
4- . مجمع البحرين 3:1493، مادة «قطر» .
5- . تفسير القمي 1:372، تفسير الصافي 3:98.
6- . تفسير القمي 2:81، تفسير الصافي 3:98.
7- . تفسير روح البيان 4:437.
8- . تفسير العياشي 2:403/2259، ثواب الأعمال:107، تفسير الصافي 3:99.

في تفسير سورة الحجر

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 1 الی 2

ثمّ لمّا ختمت سورة إبراهيم التي فيها إثبات النبوة و التوحيد و المعاد، و الإشارة إلى شبهات المشركين في النبوّة و رفعها، و مكرهم في إطفاء نور الحقّ، و حكاية ابتلاء الامم السابقة بالعذاب على معارضة الرسل، و بيان حكمة تأخير العذاب عن هذه الأمّة، و تهديدهم بعذاب الآخرة، و حكاية دعاء إبراهيم عليه السّلام لأولاده، و شكره على نعمة ولادة إسماعيل و إسحاق له، أردفت بسورة الحجر التي فيها إثبات النبوة، و تهديد منكريها بالعذاب الاخروي، و بيان حكمة تأخير العذاب الدنيوي عن الأمم، و ذكر شبهات المشركين في نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و دفعها، و حكاية بشارة إبراهيم عليه السّلام بولادة إسحاق، و تفصيل مكر اللّه في حقّ بعض الامم بتعذيبهم كقوم لوط و أصحاب الأيكة و الحجر إلى غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة، فابتدأ بذكر أسمائه المباركات بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ اَلْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعات بقوله: الر و قد مرّ تأويلها و حكمة الافتتاح بها.

ثمّ بيّن عظمة القرآن بقوله: تِلْكَ السورة العظيمة الشأن، أو الآيات المباركات التي نزل بها جبرئيل هي آياتُ اَلْكِتابِ الذي وعدنا محمدا صلّى اللّه عليه و آله بنزوله عليه، أو بشّر الأنبياء السالفة بنزوله في آخر الزمان، أو آيات اللّوح الحفوظ، أو آيات الكتاب الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب به وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ و موضح لمجملات الكتب السماوية، أو مبين للحقّ و جميع الأحكام، أو مفهم الناس جميع ما يحتاجون إليه و لو بتشريح الراسخين في العلم مبهماته و تبيينهم مجملاته.

ثمّ أنه تعالى بعد تعظيم كتابه و توصيفه بالصفات الجليلة الموجبة لتوجّه القلوب إلى حسن تلقّيه، و كمال التدبّر فيه، و التصديق بنبوة النبي المتحدّي به، و الاعتقاد بصحّة دينه-و هو الإسلام-هدّد

ص: 531

منكريه بقوله: رُبَما و كثيرا ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دين الاسلام لَوْ كانُوا في الدنيا مُسْلِمِينَ و منقادين للّه و رسوله، و مطيعين لدين الإسلام و أحكامه.

روي أنّه لا يزال الربّ يرحم و يشفع إليه حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فعند ذلك يتمنّون الإسلام (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند اللّه لا يدخل الجنّة إلاّ مسلم، فيومئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» (2).

و عن أبي موسى الأشعري، أنّه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة، و اجتمع أهل النار في النار و معهم من شاء اللّه من أهل القبلة، قال لهم الكفّار: أ لستم مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم و قد صرتم معنا إلى النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيغضب اللّه سبحانه لهم بفضله و رحمته، فيأمر بكلّ من كان من أهل القبلة في النّار فيخرجون منها، فحينئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» (3).

و قيل: إنّ تمنّيهم عند الموت (4).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 3

ثمّ أعلن سبحانه بغضبه عليهم بقوله: ذَرْهُمْ و دعهم الآن يا محمّد يَأْكُلُوا كما تأكل الأنعام وَ يَتَمَتَّعُوا بالمشتهيات الدنيوية، و يستلذوا بلذائذها كما تتمتّع البهائم وَ يُلْهِهِمُ و يشغلهم عن ذكر اللّه و الدار الآخرة اَلْأَمَلُ الطويل في الدنيا، و توقّع بقائهم فيها، و توغّلهم في تعميرها و تحصيل مشتهياتها من الجاه و الأموال، و ما يوجب استقامة الأحوال فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعنا بهم، و وخامة عاقبتهم، و ضرر غفلتهم عن الاستعداد للآخرة، إذا خرجوا من الدنيا، و عاينوا ما أعدّ لهم في دار الجزاء من العذاب و النّكال.

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 4 الی 5

ثمّ بيّن سبحانه علّة تأخير عذاب الكفّار مع شدّة استحقاقهم له، و حكم إمهالهم و التخلية بينهم

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

ص: 532


1- . تفسير روح البيان 4:440.
2- . تفسير القمي 1:372، تفسير الصافي 3:100.
3- . تفسير أبي السعود 5:64، تفسير روح البيان 4:440 مرسلا.
4- . تفسير الرازي 19:154.

و بين تمتّعاتهم بقوله: وَ ما أَهْلَكْنا بعذاب الاستئصال مِنْ قَرْيَةٍ من القرى و بلدة من البلدان إِلاّ وَ لَها في الهلاك بالعذاب كِتابٌ مَعْلُومٌ و حكمة و أجل معيّن مثبوت في اللوح المحفوظ- من حكمة بالغة-لا يصحّ تغييره، و لا ينسى و لا يغفل عنه حتّى يتصوّر التخلّف و التقدّم و التأخّر فيه، و لذا ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من الامم المهلكة أَجَلَها و غاية المدّة المضروبة لهلاكها أو موتها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ عن ذلك الأجل و تلك الغاية بأن تموت أو تهلك بعد مدّة من انقضائها.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 6 الی 7

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عظمة القرآن الدالّة على صحّة نبوة نبيه صلّى اللّه عليه و آله، حكى سوء أدب المشركين و استهزائهم بالنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ قالُوا عنادا و تجرّيا على اللّه و رسوله و استهزاء به: يا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ من ربّه اَلذِّكْرُ و القرآن، و تدّعى هذا الأمر الخارق للعادة إِنَّكَ و اللات و العزّى لَمَجْنُونٌ مختلّ العقل، حيث إنّ مقالتك لا تشبه مقالات العقلاء، لأنّ النبي لا بدّ أن يكون ملكا و أنت بشر مثلنا، و على فرض أنّ اللّه جعلك نبيا لَوْ ما تَأْتِينا و هلاّ تجيئنا بِالْمَلائِكَةِ حتى يشهدوا بصدقك في دعوى الرسالة، أو يعاونوك في الانذار و التبليغ، أو يعاقبونا على تكذيبك إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ في دعواك، فانّ اللّه قادر على إنزالهم و تأييدك بهم، و أنت في نهاية الاحتياج إليهم في تمشية أمرك.

وَ قالُوا يا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّادِقِينَ (7)

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 8 الی 9

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله: ما نُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ بسبب من الأسباب إِلاّ بِالْحَقِّ و حكمة مقتضية لانزالهم، و هو استئصالهم بالعذاب وَ ما كانُوا إِذاً و عند ذلك مُنْظَرِينَ و ممهلين طرفة عين، كما لم نمهل سائر الامم المكذّبة للرسل المستهزئة بهم بعد نزول الملائكة لتعذيبهم، و إنما أخرّنا تعذيب هؤلاء مع غاية استحقاقهم له لما جرى قلم القضاء بإمهالهم، لازياد خبثهم، و اشتداد استحقاقهم، و خروج ما في أصلابهم من ذراري المؤمنين.

ما نُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)القمي: لو أنزلنا الملائكة لم ينظروا و هلكوا (1).

ص: 533


1- . تفسير القمي 1:373، تفسير الصافي 3:102.

ثمّ أنّه تعالى بعد ردّ اقتراحهم و إبطال شبهتهم في نبوة نبيه صلّى اللّه عليه و آله، أجاب عن مقالتهم الباطلة و استهزائهم بالقرآن بقوله: إِنّا نَحْنُ مع عظم شأننا، و كمال شرفنا، و علوّ جنابنا نَزَّلْنَا هذا اَلذِّكْرَ الذي أنكروه و القرآن الذي جحدوا نزوله عليك، و نسبوك بسبب تلك الدعوى إلى الجنون، ليكون لك معجزة باقية وَ إِنّا لَهُ و اللّه لَحافِظُونَ من التغيير و الطعن و التحريف إلى الأبد دون سائر الكتب السماويّة، و لذا (1)تطّرق إليها الخلل.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 10 الی 13

ثمّ أنّه تعالى بعد الجواب عن اقتراح المشركين و شبهاتهم و استهزائهم بالنبي صلّى اللّه عليه و آله، أخذ في تسليته بقوله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا كثيرة مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ و الفرق السابقين، و كان من دأب تلك الفرق أنّه ما يبعث فيهم وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ خاصّ بهم أو عام إِلاّ أنّهم كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و يسخرون كَذلِكَ الاستهزاء الذي سلكناه و أدخلناه في قلوب الامم السابقة لرسلهم، ندخل الاستهزاء و نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ من قومك، فيستهزئون بك ليظهر غاية خبث ذواتهم و رذالة أخلاقهم.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ (10) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ (13)و قيل: إنّ المراد كذلك الوحي المنزل على الأنبياء مقرونا بالاستهزاء (2). أو مثل المسلك الذي سلكناه في قلوب الامم المستهزئين برسلهم، نسلك الذكر في قلوب المجرمين من أهل مكّة أو عموم المجرمين (3)، و هم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ و لا يصدّقون بأنّه كلام اللّه المنزل.

قيل: كانوا يسمعون القرآن بقراءة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيدخل في قلوبهم و مع ذلك لا يؤمنون به (2)، لعدم استعدادهم لقبول الحقّ، و كونهم من أهل الخذلان (3).

ثمّ هدّد سبحانه المجرمين بقوله: وَ قَدْ خَلَتْ و مضت سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ و طريقتهم التي سلكوا فيها حتّى أهلكوا بالعذاب، أو مضت سنّة اللّه و طريقة معاملته معهم حيث خذلهم و سلك الكفر في قلوبهم، ثمّ أهلكهم بعذاب الاستئصال، أو أهلكهم حين فعلوا ما فعلوا من تكذيب الرسل و الاستهزاء بهم.

ص: 534


1- . زاد في النسخة: لا. (2 و 3) . تفسير روح البيان 4:445.
2- . (به) ليس في تفسير روح البيان.
3- . تفسير روح البيان 4:446.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 14 الی 15

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان استهزائهم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نسبته إلى ما لا يليق بة، و اقتراحهم عليه، و تهديدهم على الاصرار على الكفر، بيّن غاية عنادهم و لجاجهم بقوله: وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ اَلسَّماءِ و يسّرنا لهم الصعود إليها فَظَلُّوا و صاروا فِيهِ يَعْرُجُونَ و إليه يصعدون بآلة أو بغيرها، و يرون ما فيها من العجائب بأعينهم.

وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ اَلسَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)و قيل: يعني فظلّ الملائكة يصعدون في ذلك الباب، و هم يشاهدونهم طول نهارهم (1)، و اللّه لَقالُوا عنادا و لجاجا و تشكيكا في الحقّ: ليس الأمر في الواقع ما نرى بأعيننا، بل إِنَّما سُكِّرَتْ و سدّت عن النظر، أو حيّرت، أو غطّيت أَبْصارُنا بالشعبذة، و خيّل إلينا ما لا حقيقة له بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد، كما قالوه عند ظهور سائر المعجزات الباهرة، فلا فائدة في إجابة مسؤولهم فيما اقترحوه عليك.

قيل: إنّ في كلمة الحصر و إسناد الاسكار إلى الأبصار دلالة على أنّ المقصود عدم سراية الاسكار إلى عقولهم، كأنهم قالوا: نحن نتحايل هذه الأشياء بأبصارنا، و لكن نعلم بعقولنا أنّ الواقع بخلافه، ثمّ أضربوا عن الحصر في الأبصار، و قالوا: بل جاوز ذلك إلى عقولنا بسحر سحره لنا (2).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 16 الی 18

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته لئلا يتوهّم فيه العجز عن إتيان ما أقترحوه بقوله: وَ لَقَدْ جَعَلْنا و خلقنا فِي اَلسَّماءِ بُرُوجاً و قصورا تنزلها السيارات السبع، و رتّبنا تلك البروج و الكواكب وَ زَيَّنّاها بتلك البروج و الكواكب المختلفة الأشكال و الكواكب المنيرة لِلنّاظِرِينَ إليها، أو للمتفكّرين في بديع صنيعها، المستدلّين بما فيها و في كواكبها من حسن التدبير و كمال النظام المستتبع للآثار العجيبة على قدرة صانعها و حكمة مبدعها و مدبّرها وَ حَفِظْناها مِنْ اقتراب كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ و جنّ عاص مطرود من الرحمة، أو من القرب من السماء، برميه بالنجوم، كما يحفظ المنازل عن دخول من يخشى منه الفساد.

وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي اَلسَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ (16) وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)عن ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات، فكانوا يدخلونها و يسمعون أخبار

ص: 535


1- . تفسير روح البيان 4:446.
2- . تفسير روح البيان 4:446.

الغيوب من الملائكة، فيلقونها إلى الكهنة، فلمّا ولد عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات، فلمّا ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منعوا من السماوات كلّها (1).

و عن الصادق عليه السّلام ما يقرّب منه إلى أن قال: «و رميت الشياطين بالنجوم، و قالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتاب يذكرونه، و قال عمرو ابن امية و كان أزجر (2)أهل الجاهلية: انظروا إلى هذه النجوم التي يهتدى بها و تعرف بها أزمان الشتاء و الصيف، فان كان رمى بها فهو هلاك كلّ شيء، و إن كانت ثبتت و رمى بغيرها فهو أمر حدث» (3).

و عن القمي ما يقرب منه، ثمّ قال: و كان بمكة يهودي يقال له يوسف، فلمّا رأى النجوم تتحرّك و تسير في السماء خرج و نادى (4)قريش فقال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقالوا: لا. فقال: أخطأتم و التوراة، قد ولد في هذه الليلة آخر الأنبياء و أفضلهم، و هو الذي نجده في كتبنا أنّه إذا ولد ذلك النبيّ رجمت الشياطين، و حجبوا من السماء. فرجع كلّ أحد إلى منزله فسأل أهله، فقالوا: قد ولد لعبد اللّه بن عبد المطلب، الخبر (5).

فتحصّل أنّ أحدا من الشياطين لا يقدر أن يصعد إلى السماء و يطّلع على أحوالها إِلاّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ و اختلسه سرّا.

عن ابن عبّاس، قال: يريد الخطفة اليسيرة (6).

و قيل: إنّ المعنى و لكن من استرق السمع من مردة الشياطين (7)فَأَتْبَعَهُ و لحقه شِهابٌ مُبِينٌ و نجم كشعلة نار ساطع.

عن ابن عبّاس: أنّ المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيقتله (8).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 19 الی 22

ص: 536


1- . تفسير الرازي 19:169.
2- . الزجر: إثارة الطير للتيمّن بسنوحها أو التشاؤم ببروحها.
3- . أمالي الصدوق:360/444، تفسير الصافي 3:103.
4- . في المصد: خرج إلى نادي.
5- . تفسير القمي 1:373، تفسير الصافي 3:104.
6- . تفسير الرازي 19:169.
7- . تفسير الرازي 19:169.
8- . تفسير الرازي 19:169، و فيه: بالشهاب فيحرقه و لا يقتله.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان بدائع صنعه في السماوات، بيّن سعة قدرته في الأرض بقوله: وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْناها و بسطناها على وجه الماء، كما عن ابن عبّاس (1)وَ أَلْقَيْنا و أوجدنا فِيها جبالا رَواسِيَ و ثوابت وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من نبات و ثمار مَوْزُونٍ و متقدّر بقدر خاصّ.

و قيل: يعني موزون بميزان الحكمة و العقل، و متناسب بحكم العقل السليم بحسنه و مطابقته للمصلحة (2).

و قيل: يعني المقدّر بالميزان، فإنّ المعادن و النباتات كلّها كذلك (3).

و عن القمي: لكلّ ضرب من الحيوان قدّرنا شيئا موزونا (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «أن اللّه تعالى أنبت (5)في الجبال الذّهب و الفضة و الجوهر و الصّفر و النّحاس و الحديد و الرّصاص و الكحل و الزرنيخ، و أشباه ذلك لاتباع إلاّ وزنا» (6).

أقول: على هذا التفسير يكون الإنبات بمعنى الإيجاد، و مرجع ضمير فِيها [إلى]الرواسي، كما عليه بعض مفسري العامة (7).

ثمّ إنه تعالى بعد ذكر بسط الأرض، و إلقاء الجبال فيها، و إنبات الثّمار فيها، ذكر خلق ما يعيش به الخلق في الأرض دليلا على قدرته بقوله: وَ جَعَلْنا و خلقنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ و ما به قوام الحياة من الأطعمة و الأشربة و الألبسة وَ جعلنا لكم مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من العيال و العبيد و الخدم و الدوابّ، فانّ نفعهم لكم و رزقهم علينا.

و قيل: إنّ المعنى و جعلنا لكم و لمن لستم برازقيه من المذكورين معايش (8).

ثمّ بالغ سبحانه في توضيح سعة قدرته بقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ و ما من موجود إِلاّ عِنْدَنا و تحت قدرتنا خَزائِنُهُ شبّه سبحانه مقدوراته و ما يكون وجوده بإفاضة في الكثرة، و الستر عن الخلق، و الصّون من وصول الأيدي إليه مع شدّة الحاجة إليه و كمال الرغبة فيه بنفائس الأموال التي يجعلها السلطان في خزائنه.

قيل: إنّ الخزائن كناية عن الأعيان الثابتة (9)، و الماهيات المتقرّرة.

عن السجاد عليه السّلام: «أنّ في العرش تمثال جميع ما خلق اللّه من البّر و البحر» قال: «و هذا تأويل قوله:

ص: 537


1- . تفسير الرازي 19:170.
2- . تفسير الرازي 19:172.
3- . تفسير الرازي 19:172.
4- . تفسير القمي 1:374، تفسير الصافي 3:104.
5- . في النسخة: أثبت.
6- . تفسير القمي 1:374، تفسير الصافي 3:104.
7- . تفسير الرازي 19:171.
8- . تفسير روح البيان 4:452.
9- . تفسير روح البيان 4:452.

وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ» (1) .

وَ ما نُنَزِّلُهُ و لا نوجده إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ و حدّ معين تقتضيه الحكمة. و قيل: إنّ المراد بالخزائن المطر (2)، حيث إنّه تعالى بعد بيان إعطائه المعاش ذكر المطر الذي هو سببه و أنّه عنده، أي بأمره و تدبيره و حكمته، و ما ينزّله إلاّ بحدّ معين.

القمي: الخزائن الماء الذي ينزل من السماء، فينبت لكلّ ضرب من الحيوان ما قدّر اللّه له من الغذاء (3).

عن ابن عباس: يريد قدر الكفاية (4).

قيل: إنّ اللّه ينزل المطر كلّ عام بقدر معلوم غير أنّه يصرفه إلى من شاء كما شاء حيث شاء (5).

أقول: يبعد كون المراد لذكره تعالى الرياح و المطر بقوله: وَ أَرْسَلْنَا إليكم اَلرِّياحَ التي تكون لَواقِحَ و محبلات للشجر و للسحاب (4)، كما عن ابن عبّاس (5).

و عن ابن مسعود-في تفسير الآية-: يبعث اللّه الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء، و تمجّه في السّحاب، ثمّ أنّه يعصر السّحاب و يدرّه كما تدرّ اللّقحة (6).

القمي: تلقح الأشجار (7).

و قيل: إنّ اللواقح بمعنى الحاملات، فانّ الريح تحمل السّحاب و الماء (10).

و قيل: إنّه بمعنى آتيان بالخير، كما يقال لما لا خير له عقيم (11).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تسبّوا الرياح فإنّها بشر، و إنّها نذر، و إنها لواقح، فاسألوا اللّه من خيرها، و تعوّذوا به من شرها» (8).

فَأَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ بعد إنشاء السّحاب الماطر بالرياح ماءً مباركا نافعا فَأَسْقَيْناكُمُوهُ و أشربناكموه، و أشربناه مواشيكم و ضياعكم. قيل: هو أفصح (9)من «سقيناكموه» لدلالته على جعل الماء [معدّا]لهم ينتفعون (10)به متى شاءوا (11).

ص: 538


1- . روضة الواعظين:47، تفسير الصافي 3:105.
2- . تفسير الرازي 19:174، تفسير الصافي 4:453.
3- . تفسير القمي 1:375، تفسير الصافي 3:105. (4 و 5) . تفسير الرازي 19:174.
4- . في تفسير الرازي: عن ابن عباس: الرياح لواقح للشجر و للسحاب.
5- . تفسير الرازي 19:175.
6- . تفسير الرازي 19:175، و اللّقحة: الناقة الحلوب الغزيرة اللبن، و اللّقحة: المرأة المرضعة.
7- . تفسير القمي 1:375، تفسير الصافي 3:105. (10 و 11) . تفسير الرازي 19:176.
8- . تفسير العياشي 2:426/2317، تفسير الصافي 3:105.
9- . في تفسير روح البيان: أبلغ.
10- . في تفسير روح البيان: يرتفقون.
11- . تفسير روح البيان 4:454.

وَ ما تقدرون أَنْتُمْ على أن تكونوا لَهُ بِخازِنِينَ في السّحاب أو الغدران و الآبار و العيون، بل نحن نخزنه فيها ليكون سقيا لكم، مع أنّ الماء غائر بالطبيعة، فنفى عن الناس ما أثبته لجنابه.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 23 الی 24

ثمّ استدلّ على قدرته بظهورها في أنفسهم بقوله: وَ إِنّا و اللّه لَنَحْنُ نُحْيِي بالإحياء له وَ نُمِيتُ ماله الحياة من الحيوان و النبات وَ نَحْنُ الباقون بعد فناء الخلق اَلْوارِثُونَ للدنيا و ما فيها.

وَ إِنّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوارِثُونَ (23) وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ (24)ثمّ بيّن سعة علمه بقوله: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ و المتقدّمين مِنْكُمْ خروجا من الأصلاب و ولادة و موتا، أو دخولا في الاسلام، أو في صفّ الجهاد، أو في الطاعة كما عن ابن عباس (1)وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ في ذلك.

عن الباقر عليه السّلام: «هم المؤمنون من هذه الامّة» (2).

و في تكرير قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا تأكيد بليغ.

عن ابن عبّاس-في رواية-قال: كانت تصلّي خلف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله امرأة حسناء في آخر النساء، فكان بعضهم يتقدّم في الصفّ الأول لئلا يراها و تأخّر آخرون ليروها، فاذا ركع نظر من تحت إبطيه إليها فنزلت (3).

و قيل: كانت النساء يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال، فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة يتأخّر إلى آخر صف الرجال، و من النساء من في قلبها ريبة تتقدّم إلى أول صفّ النساء لتقرب من الرجال، فنزلت (4).

و قيل: رغب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الصّف الأول، فازدحموا عليه فنزلت (5).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 25

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه مبدأ الخلق و مماتهم، و أعلن بقدرته عليهما، بيّن قدرته على حشرهم من القبور للحساب و الجزاء بقوله: وَ إِنَّ رَبَّكَ القادر على الإحياء و الاماتة هُوَ يَحْشُرُهُمْ من القبور

وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

ص: 539


1- . تفسير الرازي 19:177.
2- . تفسير العياشي 2:426/2319، تفسير الصافي 3:106.
3- . تفسير الرازي 19:178، تفسير أبي السعود 5:73، تفسير روح البيان 4:455.
4- . تفسير روح البيان 4:455.
5- . تفسير روح البيان 4:456.

جميعا إلى المحشر دفعة واحدة لجزاء الأعمال بلا تقدّم و تأخّر إِنَّهُ تعالى حَكِيمٌ و محيط بحقائق الأشياء و مصالحها و مفاسدها، متقن في فعاله، فلا يخلق الخلق لعبا و عبثا عَلِيمٌ بخفيّات السماوات و الأرض، لا يعزب عن علمه شيء، فيعلم ذرات تراب كلّ جسد فيجمعه و يخلقه ثانيا بصورته الأولى، و في تقدّم صفة الحكمة دلالة على اقتضائها الحشر للجزاء، و في الآية ردّ على منكريه.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 26 الی 27

ثمّ استدلّ على الحشر ببدو خلق الانسان بغير مثال سابق من تراب بقوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ الأول و هو آدم مِنْ صَلْصالٍ و طين يابس غير مطبوخ، إذا نقر كان له صوت مع الترجيع كما قيل (1)، و كان ذلك الصلصال مِنْ حَمَإٍ و طين أسود متغير بطول مجاورة الماء مَسْنُونٍ و منتن على قول (2)، أو مصوّر على قول (3)، أو مصبوب و مفرغ على هيئة الانسان، كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب (4)و لعله المراد من قول ابن عباس المسنون: الطين الرطب (5)، فكأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصوّر تمثال الانسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوّت.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ اَلْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ اَلسَّمُومِ (27)قيل: لمّا صوّره اللّه تركه في الشمس أربعين سنة، فصار صلصالا كالخزف، و لا يدري أحد ما يراد به، و لم ير شيئا يشبهه، فكانت الريح إذا مرّت به سمع له صلصلة، فلذلك سمّاه اللّه صلصالا (6).

وَ اَلْجَانَّ الأول، و هو إبليس على قول (7)، أو غيره خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ عن ابن عبّاس: من قبل خلق آدم (8)مِنْ نارِ اَلسَّمُومِ و الشديدة الحرّ، أو لا دخان له، أو نافذة بلطافتها في مسامّ البدن.

عن ابن مسعود: هذه السّموم جزء من سبعين جزءا من السّموم التي خلق اللّه منها الجنّ (9).

و قيل: لم تكن قبل آدم خلق من تراب، و إنّما خلقه اللّه منه ليكون عبدا خضوعا وضوعا ذلولا مائلا إلى السجود لأنّه إظهار كمال العبودية، و لمّا كان كلّ جنس مائلا إلى جنسه و ظاهرا فيه آثار مبدئه، تواضع آدم للّه، و استكبر إبليس من التواضع (8).

ص: 540


1- . تفسير الرازي 19:179، تفسير روح البيان 4:457.
2- . تفسير روح البيان 4:457.
3- . مجمع البيان 6:516، تفسير الصافي 4:457.
4- . تفسير روح البيان 4:457.
5- . مجمع البيان 6:516، تفسير الرازي 19:180.
6- . تفسير الرازي 19:179.
7- . تفسير الرازي 19:180، تفسير روح البيان 4:458. (8 و 9) . تفسير الرازي 19:180.
8- . تفسير روح البيان 4:458.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ لمّا بيّن اللّه سبحانه خساسة مبدأ خلق الانسان، بيّن غاية شرفه الدالة على كمال قدرة اللّه و حكمته بقوله: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ من بعد بَشَراً و إنسانا أو خلقا مجسّما يلاقي و يباشر، أو بادي البشرة؛ لأنّه لا صوف له و لا شعر، يكون خلقه مِنْ صَلْصالٍ كائن مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ و أكملت خلقة جسده بأن خلقت أجزاء بدنه و صورته بصورة إنسانية و عدّلت طبائعه وَ نَفَخْتُ فِيهِ و أفضت عليه مِنْ رُوحِي الجوهرة التي هي من أمري فَقَعُوا و اسقطوا لَهُ حال كونكم ساجِدِينَ.

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)قيل: يعني اسجدوا تعظيما و خضوعا للّه، و جعلوا آدم بمنزلة القبلة لظهور تعاجيب آثار قدرته تعالى و حكمته فيه (1).

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن قوله تعالى: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فقال: «روح اختاره اللّه و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه، و فضّله على جميع الأرواح، [فأمر]فنفخ منه في آدم» (2).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عنه، فقال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق خلقا، و خلق روحا، ثمّ أمر ملكا فنفخ فيه، فليست بالتي نقصت من (3)اللّه شيئا، هي من قدرته» (4).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل: كيف هذا النفخ؟ فقال: «إنّ الروح متحرّك كالريح، و إنّما سمّي روحا لأنّه اشتق اسمه من الريح، و إنّما اخرجت (5)على لفظة الروح، لأنّ الروح مجانس للريح، و إنما أضافه إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر الأرواح، كما اصطفى بيتا من البيوت. فقال: بيتي، و قال لرسول من الرسل: خليلي و أشباه ذلك، فهو مخلوق (6)مصنوع محدّث مربوب مدبّر» (7).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 30 الی 38

ص: 541


1- . تفسير روح البيان 4:461.
2- . التوحيد:170/1، تفسير الصافي 3:108.
3- . زاد في التوحيد: قدرة.
4- . تفسير العياشي 2:427/2323، التوحيد:172/6، تفسير الصافي 3:108.
5- . في التوحيد: أخرجه.
6- . في التوحيد: ذلك، و كل ذلك مخلوق.
7- . التوحيد:171/3، تفسير الصافي 3:108.

ثمّ خلقه اللّه و سوّاه، و نفخ فيه الروح فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ بحيث لم يشذّ منهم أحد و أَجْمَعُونَ بحيث لم يتأخّر أحد في امتثال الأمر من أحد، أو المراد المبالغة في التأكيد و التعميم إِلاّ إِبْلِيسَ و إنّما الاستثناء مع كونه من الجنّ لكونه مغمورا بالوف من الملائكة.

و قيل: لأنّه كان من جنس الملائكة الذين يتوالدون (1)، و الحقّ هو الأول، و على أي تقدير لا شبهة أنّه كان مأمورا بالسجود، و مع ذلك أَبى و أمتنع من أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسّاجِدِينَ و موافقا لهم في الطاعة، فعاتبه اللّه عند ذلك و قالَ عتابا و توبيخا له: يا إِبْلِيسُ ما كان لَكَ من العذر في أَلاّ تَكُونَ موافقا مَعَ الملائكة اَلسّاجِدِينَ لآدم من عرفانك بشرفهم و منزلتهم لدي؟

قالَ إبليس: عذري في الامتناع من السجود له، أنّي علمت أنّك خلقتني من النار التي هي أشرف العناصر و أعلاها و لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ و مخلوق كثيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ كائن من حَمَإٍ مَسْنُونٍ مع شرفي و فضيلتي عليه، فانّه لا يصحّ تواضع الأشرف و الأفضل للأدنى و المفضول.

قالَ اللّه: إذن لا يجوز إقامتك في الجنّة، أو في السماوات، أو في المنزلة [التي]كانت لك، أو في زمرة الملائكة فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ قايست و عصيت، و كلّ من قاس و عصى فهو رَجِيمٌ و مطرود من دار كرامتي و من كلّ خير وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ و الدعاء بالشرّ من الملائكة و النّاس، أو الابعاد من الرحمة من الآن إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ و وقت جزاء الأعمال، و أمّا بعد ذلك فعليك العذاب الذي لا يقادر قدره.

قيل: إنّ التوقيت بيوم الدين كناية عن الدوام (2).

ثمّ قالَ إبليس: رَبِّ إذ جعلتني رجيما و ملعونا فَأَنْظِرْنِي و أمهلني في الدنيا، و لا تمتني إِلى يَوْمِ القيامة الذي فيه يحشر (3)الناس و يُبْعَثُونَ يوم البعث من القبور للحساب، و إنّما سأل ذلك ليكون له فسحة في إغواء بني آدم و أخذه الثأر، لا للنجاة من الموت لاستحالتها قالَ سبحانه: فَإِنَّكَ مِنَ جملة اَلْمُنْظَرِينَ و الممهلين، و لكن لا إلى يوم البعث، بل إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ و هو النفخة الاولى التي يصعق فيها من في السماوات و الأرض.

روي أنّ بين موته و بعثة أربعين سنة من سنيّ الدنيا، و هو ما بين النفختين (4).

ص: 542


1- . تفسير أبي السعود 5:75.
2- . تفسير روح البيان 4:465.
3- . في النسخة: يحشرون.
4- . تفسير أبي السعود 5:77.

عن كعب: لمّا حضر آدم الوفاة قال: يا ربّ سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا و هو منظر إلى يوم القيامة. فاجيب: أن يا آدم إنّك سترد الجنة و يؤخّر اللعين إلى النّظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين و الآخرين.

ثمّ قال آدم لملك الموت: صف لي كيف تذيقه الموت؟ فلمّا وصفه قال: حسبي. فقال الناس: يا أبا إسحاق، كيف ذلك؟ فأبى الجواب فألحّوا فقال: يقول اللّه لملك الموت بعد النفخة الاولى: قد جعلت لك قوة أهل السماوات و الأرضين، و ألبستك اليوم أثواب الغضب كلّها، فانزل بغضبي على إبليس و أذقه الموت، و احمل عليه أضعاف مرارة الأولين و الآخرين، و ليكن معك من الزّبانية سبعون ألفا قد امتلأوا غيظا، مع كلّ منهم سلسلة من سلاسل جهنم، و غلّ من أغلالها، و انزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاّب من كلاليبها، و ناد مالكا ليفتح أبواب النيران، فينزل ملك الموت بصورة لو نظر إليها أهل السماوات و الأرضين لماتوا من هولها.

فينتهي إلى إبليس فيقول: قف يا خبيث لأذيقنّك الموت، كم من عمر أدركت و قرون أضللت، و هذا هو الوقت المعلوم. فيهرب اللعين إلى المشرق، فاذا هو بملك الموت بين عينيه، فيهرب إلى المغرب، فاذا هو به بين عينيه، فيغوص البحار، فترميه البحار و لا تقبله، فلا يزال يهرب في الأرض و لا محيص له و لا ملاذ، ثمّ يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم، و يتمرّغ في التراب من المشرق إلى المغرب، و من المغرب إلى المشرق، حتى إذا كان في الموضع الذي اهبط آدم فيه و قد نصبت له الزبانية الكلاليب، و صارت الأرض كالجمرة، أحتوشته الزبانية، و طعنوه بالكلاليب، و يبقى في النّزع و العذاب إلى حيث يشاء اللّه (1).

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن الوقت المعلوم، فقال: «يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصّور نفخة واحدة، فيموت إبليس ما بين النفخة الاولى و الثانية» (2).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عنه فقال: «أتحسب أنّه يوم يبعث فيه الناس؟ إن اللّه أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا، فاذا بعث اللّه قائمنا كان في مسجد الكوفة، و جاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول: يا ويله من هذا اليوم، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم» (3).

و القمي: عنه عليه السّلام، قال: «يوم الوقت [المعلوم]يوم يذبحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الصخرة التي في

ص: 543


1- . تفسير أبي السعود 5:77، تفسير روح البيان 4:466.
2- . علل الشرائع:402/2، تفسير الصافي 3:112.
3- . تفسير العياشي 2:428/2327، تفسير الصافي 3:112.

بيت المقدس» (1). قال الفيض رحمه اللّه: أقول: يعني عند الرجعة (2).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 39 الی 41

ثمّ لمّا أمهل اللّه اللعين للحكم البالغة التي منها امتحان بني آدم قالَ إبليس: رَبِّ اقسم بِما أَغْوَيْتَنِي من التكليف بالسجود لآدم، و قد كنت تعلم أنّي أعصيك فيه، أو قال: ربّ بسبب إغوائك إياي و التكليف الذي صار سببا لعصياني، اقسم بعزّتك لاعادي بني آدم و لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ عصيانك فِي اَلْأَرْضِ و دار الغرور، و ارغّبنهم في مخالفتك، أو لأزينّن لهم المقام في الأرض كي يطمئنوا بها وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ و أبعثهم أَجْمَعِينَ إلى الضلالة بوسوستي و تسويلي و بما هيّأت من سبب عصيانهم بحيث لا ينجو أحد منهم من كيدي و إغوائي إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ و لكن لا عمومهم، بل أعني اَلْمُخْلَصِينَ الذين خصصتهم بعبوديتك و طاعتك، و طهّرتهم من الرذائل و الشهوات، فانّهم لا يؤثّر فيهم كيدي، و لا يتّبعون و ساوسي (3)قالَ سبحانه: هذا التخلّص من كيدك المخصوص بالمخلصين صِراطٌ و طريق حقيقي عَلَيَّ رعايته و تقريره، و هو مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه.

قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)و قيل: إنّ المراد أنّ هذا الإخلاص طريق من مرّ عليه فكأنّما مرّ عليّ و على رضواني و كرامتي.

و قيل: كلمة (عليّ) بمعنى إليّ، و المراد هذا الاخلاص طريق إليّ و هو مستقيم يؤدّيه إلى كرامتي و قربي. و قيل: إنّ المشار إليه بكلمة (هذا) هو الصراط، و المعنى هذا الطريق في العبودية طريق عليّ مستقيم (4).

و قيل: إنّ المشار إليه التفويض إلى مشيئة اللّه المستفاد من قول إبليس: إلاّ عبادك منهم المخلصين، و حاصله أنّي أغوي بني آدم إلاّ من عصمه اللّه بتوفيقه، يدلّ ذلك على أنّ المخلصين يفوّضون امورهم إلى اللّه، فقال اللّه: هذا التفويض إليّ و إلى مشيئتي طريق عليّ مستقيم (5).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 42

ثمّ لمّا كان في كلام إبليس إيهام سلطنته على غير المخلصين، نفى سبحانه سلطنته على العباد عموما بقوله: إِنَّ عِبادِي [سواءأ]كانوا مخلصين، أو غير مخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ بوجه من

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغاوِينَ (42)

ص: 544


1- . تفسير القمي 2:245، تفسير الصافي 3:113.
2- . تفسير الصافي 3:113.
3- . في النسخة: بوساوسي
4- . تفسير الرازي 19:189.
5- . تفسير الرازي 19:189.

الوجوه سُلْطانٌ و استيلاء و قهر إِلاّ مَنِ اِتَّبَعَكَ و أطاعك باختياره مِنَ اَلْغاوِينَ و الضالّين بسبب خبث ذاتهم من غير قهر منك.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن تفسيره فقال: «قال اللّه: إنك لا تملك أن تدخلهم جنة و لا نارا» (1).

و قيل: إنّ المراد بالعباد في الآية خصوص المخلصين، و المقصود تحقيق ما قاله اللعين، و تفخيم شأن المخلصين، و تأكيد لانقطاع مخالبه عنهم، و أن إغواءه الغاوين ليس بطريق القهر و السلطان، بل بطريق الاتباع بسوء الاختيار (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «و اللّه ما أراد بهذا إلاّ الأئمة و شيعتهم» (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 43 الی 44

ثمّ هدّد سبحانه الغاوين ببيان نتيجة اتّباع الشيطان بقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ و اللّه لَمَوْعِدُهُمْ و موقفهم أَجْمَعِينَ في القيامة لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ بعدد أقسام الغاوين لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ و قسمة معينة و فرقة خاصة.

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)قيل: إنّ قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام، و لكلّ قسم باب معين: القسم الأول جهنم، و الثاني لظى، و الثالث الحطمة، و الرابع سعير، و الخامس سقر، و السادس الجحيم، و السابع الهاوية (4).

و قيل: إنّ المراد بسبعة أبواب سبع طبقات بعضها فوق بعض، و تسمّى تلك الطبقات بالدّركات، الطبقة الاولى لأهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم ثمّ يخرجون، و الثانية لليهود، و الثالثة للنصارى، و الرابعة للصابئين، و الخامسة للمجوس، و السادسة للمشركين، و السابعة للمنافقين (5).

و هذا الاختلاف في الدّركات و العذاب لاختلاف مراتب الكفر بالغلظة و الخفّة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبعة أبواب النار متطابقات» (6).

و عنه عليه السّلام: «أنّ جهنم لها سبعة أبواب، أطباقها بعضها فوق بعض-و وضع إحدى يديه على الاخرى، فقال: هكذا-و إنّ اللّه وضع الجنان على العرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية» (7)

ص: 545


1- . تفسير العياشي 2:429/2329، تفسير الصافي 3:113.
2- . تفسير أبي السعود 5:79.
3- . الكافي 8:35/6، تفسير الصافي 3:113.
4- . تفسير الرازي 19:190.
5- . تفسير الرازي 19:190.
6- . الخصال:597/1، تفسير الصافي 3:114.
7- . مجمع البيان 6:519، تفسير الصافي 3:114.

و في رواية: «أسفلها الهاوية» (1).

و عن الصادق، عن أبيه، عن جده عليهم السّلام: «أنّ للنار سبعة أبواب، باب يدخل منه فرعون و هامان و قارون، و باب يدخل منه المشركون و الكفّار و من (2)لم يؤمن باللّه طرفه عين، و باب يدخل منه بنو امية هو لهم خاصّة لا يزاحمهم فيه أحد، و هو باب لظى، و هو باب سعير (3)و هو باب الهاوية، تهوى بهم سبعين خريفا، فكلما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفا، ثمّ تهوي بهم [كذلك سبعين خريفا، فلا يزالون]هكذا أبدا خالدين مخلّدين، و باب يدخل منه مبغضونا و محاربونا و خاذلونا، و إنّه لأعظم الأبواب و أشدّها حرّا» .

ثمّ قال: «و الباب الذي يدخل منه بنو امية هو لأبي سفيان و معاوية و آل مراوان خاصة، يدخلون من ذلك الباب فتحطمهم النار فيه حطما، لا تسمع لهم واعية و لا يحيون فيها و لا يموتون» (4).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 45 الی 48

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نتيجة إغواء الشيطان، بيّن نتيجة أحكام عبادته بقوله: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ و العباد المخلصين مستقرّون فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ لكلّ منهم بساتين متعدّدة و عيون متعدّدة، و واحد منهما يقول-اللّه أو الملائكة-لهم عند دخولها، أو حين الانتقال من جنّة إلى جنّة: اُدْخُلُوها متلبّسين (5)بِسَلامٍ من جميع الآفات و المكاره و المخوفات، أو بتحية من اللّه و الملائكة حال كونكم آمِنِينَ غير خائفين من زوال النعم و انقطاع الفيوضات، أو من موانع الدخول، أو من الآفات و الأسقام، فيكون تأكيدا لقوله: بِسَلامٍ على التفسير الأوّل.

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)وَ نَزَعْنا و أخرجنا ما فِي صُدُورِهِمْ و قلوبهم مِنْ غِلٍّ و حقد يسير كامن كان بينهم في الدنيا، و طيّبنا نفوسهم من الرذائل.

روي أنّ المؤمنين يحبسون على باب الجنة، فيقتصّ بعضهم (6)من بعض، فيؤمر (7)بهم إلى الجنّة و قد نقّى اللّه قلوبهم من الغل و الغشّ و الحقد و الحسد (8)، فيكونون إِخْواناً في المودّة و المخالصة

ص: 546


1- . مجمع البيان 6:519، تفسير الصافي 3:114.
2- . في الخصال: ممّن.
3- . في الخصال: سقر.
4- . الخصال:361/51، تفسير الصافي 3:114.
5- . في النسخة: متلبسا.
6- . في تفسير الرازي: لبعضهم.
7- . في تفسير الرازي: ثمّ يؤمر.
8- . تفسير الرازي 19:193.

و المخالطة، كما قال تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ (1)و هم جالسون عَلى سُرُرٍ مرفوعة حال كونهم مُتَقابِلِينَ و مواجهين.

عن ابن عبّاس: يريد على سرر من ذهب مكلّلة بالزّبرجد و الدّرّ و الياقوت، و السرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية (2).

و قيل: إنّ المراد من السرير: هو المجلس الرفيع المهيّا للسرور (3)، و المستقرّ الذي اطمئنّ إليه في حال الفرح لا يَمَسُّهُمْ في الجنّة و لا ينالهم فِيها من حين دخولها نَصَبٌ و عناء و تعب إلى الأبد وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فيكون لهم بقاء لا فناء له، و نعمة لا زوال لها، و فوز لا حرمان معه.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حسن حال عباده المخلصين أعلن بشمول عفوه و رحمته لكلّ من اعترف بعبوديته و توحيده بقوله: نَبِّئْ يا محمّد، و اخبر عِبادِي المؤمنين مطيعيهم و عصاتهم أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ للذنوب اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين حتّى لا ييأسوا من غفراني و رحمتي.

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ اَلْعَذابُ اَلْأَلِيمُ (50)عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه مرّ بنفر من أصحابه و هم يضحكون، فقال: «أتضحكون و النار بين أيديكم؟» (4)فنزل قوله: نَبِّئْ عبادي إلى آخره.

ثمّ أعلن بغضبه على العصاة بقوله: وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ اَلْعَذابُ اَلْأَلِيمُ و في تقديم الاعلان بالرحمة، و إضافة العباد إلى نفسه، و تأكيد الوعد بكلمة (إنّي) و (أنا) و تغيير اسلوب الإخبار بالوعيد، حيث لم يقل: أنا المعذّب، بل أخبر بكون عذابه أليما، دلالة واضحة على سبق رحمته و غلبتها على غضبه، و إن كان على المؤمنين التسوية بين الخوف و الرجاء بحيث لا يترجّح أحدهما على الآخر.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 51 الی 55

ثمّ لمّا كان في قصص الأنبياء و اممهم شهادة على رحمته بأوليائه و غضبه على أعدائه، شرع في

وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ (55)

ص: 547


1- . الزخرف:43/67.
2- . تفسير الرازي 19:193، و الجابية: قرية من أعمال دمشق.
3- . تفسير الرازي 19:193.
4- . تفسير الرازي 19:195.

بيانها، و بدأ بقصة إبراهيم عليه السّلام الذي هو أعظم منزلة بقوله: وَ نَبِّئْهُمْ و أخبرهم يا محمّد عَنْ قصّة ضَيْفِ إِبْراهِيمَ و هم الملائكة الذين جاءوا بالرحمة و السلامة على إبراهيم و لوط، و بالعذاب على قوم لوط.

قيل: كانوا اثني عشر أحدهم جبرئيل، و لم يعرفهم إبراهيم، و حسب أنّهم أضيافه (1).

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بصورة البشر فَقالُوا حين الدخول: سلام اللّه عليك، أو نسلّم عليك يا إبراهيم سَلاماً و كان إبراهيم عليه السّلام شديد الحبّ للضيافة، فما لبث حتى جاءهم بعجل مشويّ، فلمّا رأى أنّهم لم يمدّوا أيديهم إليه خاف منهم؛ لأنّ المعتاد عندهم أنّ الضيف إذا امتنع من الأكل ظنّوا أنّه عدوّ.

و قيل: إنّ سبب خوفه أنّهم دخلوا عليه بغير إذن و في غير وقت (2)، و لذا قالَ لهم: إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ و خائفون، فلمّا سمعت الملائكة منه ذلك قالُوا تأمينا لخاطرة: يا إبراهيم لا تَوْجَلْ و لا تخف منا إِنّا نُبَشِّرُكَ و نخبرك بما فيه سرور قلبك، و هو أنّ اللّه يريد أن يمنّ عليك بِغُلامٍ و ولد ذكر (3)عَلِيمٍ بالمعارف و الأحكام، أو بعلم النبوة، فتعجّب إبراهيم عليه السّلام من مقالتهم، و قالَ لهم: أَ بَشَّرْتُمُونِي بأن يولد لي ولد و أنا عَلى حال بعيد عادة من ذلك، و هو أَنْ مَسَّنِيَ و أصابني اَلْكِبَرُ و الهرم الذي لا يكون معه الولد.

قيل: إنّ (على) بمعنى مع، أو بمعنى بعد (4).

ثمّ بالغ في إظهار التعجّب بقوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ من الأعجوبة، فلمّا رأوا استبعاد إبراهيم عليه السّلام ما بشّروه به قالُوا له تأكيدا لقولهم: إنّا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ و الصدق، و بما هو كائن لا محالة، أو باليقين الذي لا شبهة فيه، أو بطريق حقّ و هو إخبار اللّه به فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ من رحمة اللّه عليك، و الآيسين من أن تلد و أنت شيخ كبير.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 56 الی 60

فلمّا سمع إبراهيم عليه السّلام كلامهم الموهم لنسبته إلى اليأس من رحمة اللّه قالَ تحاشيا منها و إنكارا عليهم: وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ اللطيف به إِلاَّ اَلضّالُّونَ و المخطئون طريق المعرفة

قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ اَلْغابِرِينَ (60)

ص: 548


1- . تفسير روح البيان 4:474.
2- . تفسير الرازي 19:196.
3- . في النسخة: ذكور.
4- . تفسير روح البيان 4:474.

و الصواب، فانّهم الذين لا يعرفون سعة رحمة اللّه و كمال قدرته و حكمته و لطفه بعباده، فنفي عن نفسه القنوط بأبلغ وجه، و بيّن أنّ مقاله كان استعظاما لهذه النعمة الخارقة للعادة، ثمّ لمّا عرف إبراهيم عليه السّلام أنّهم ملائكة أرسلوا لأمر عظيم قالَ فَما خَطْبُكُمْ و ما شأنكم أَيُّهَا الملائكة اَلْمُرْسَلُونَ؟

قيل: إنّه علم من كثرتهم و بشارتهم لرفع خوفه أنّهم ارسلوا لأمر آخر غير البشارة (1)قالُوا إِنّا أُرْسِلْنا من قبل اللّه إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ كي نهلكهم بالعذاب لتناهيهم في الإجرام و الطّغيان إِلاّ آلَ لُوطٍ و أهله المؤمنين إِنّا و اللّه لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ممّا يصيب قومه من العذاب إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ [و اسمها]واهلة-كما قيل (2)-فانّ ربّك قال: إنّا قَدَّرْنا و قضينا إِنَّها لَمِنَ اَلْغابِرِينَ و الباقين في المدينة مع الكفار، فيصيبها ما يصيبهم من العذاب لشركتها معهم في الكفر و إيذاء لوط.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 61 الی 65

فَلَمّا جاءَ لوطا و آلَ لُوطٍ الملائكة اَلْمُرْسَلُونَ بالعذاب قالَ لهم لوط إِنَّكُمْ في هذه البلدان قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا يعرفكم أحد.

فَلَمّا جاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)قيل: يعني أنكم لا في زيّ السفر، و لا من أهل الحضر، فأخاف أن تطرقوني بشرّ (3).

قالُوا ما جئناك بما تنكرنا لأجله بَلْ جِئْناكَ بِما فيه سرورك و يشفي (4)قلبك، و هو العذاب الذي تتوعّد به قومك و هم كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ و في وقوعه يشكّون وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ و اليقين الذي لا مجال للريب فيه وَ إِنّا

و اللّه لَصادِقُونَ في ما نخبرك به من العذاب.

قيل: إنّ المراد بالحقّ الإخبار بالعذاب، و ما بعده تأكيد له (5)، إذن فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ معدّ من المدينة بِقِطْعٍ و طائفة مِنَ اَللَّيْلِ و في بعض منه وَ اِتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ و كن من ورائهم لتسوقهم و تطلّع عليهم وَ لا يَلْتَفِتْ و لا ينظر مِنْكُمْ إلى الوراء أَحَدٌ.

ص: 549


1- . تفسير البيضاوي 1:532، تفسير روح البيان 4:475.
2- . تفسير روح البيان 4:476.
3- . تفسير روح البيان 4:476.
4- . في النسخة: و تشقي.
5- . تفسير أبي السعود 5:84.

قيل: إنّ النهي عن الالتفات كناية عن سرعة السير لاستلزام الالتفات الوقوف أو التواني (1)، أو عن إيجاب التوطين على الهجرة، أو عن قطع العلاقة عمّا خلّفوه، أو عن الانصراف و التخلّف.

وَ اُمْضُوا و اذهبوا إلى حَيْثُ تُؤْمَرُونَ من جانب اللّه بالمضيّ و الذّهاب إليه.

عن ابن عباس: يعني الشام (2). و قيل: يعني مصر (3). و قيل: يعني حيث يقول لكم جبرئيل، فانّه أمرهم ان يمضوا الى قرية قريبة لم يعمل أهلها مثل عمل أولئك القوم (4).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 66 الی 71

ثمّ أخبر اللّه تعالى بأنّه بعد إخبار الملائكة لوطا بإهلاك قومه، أوحى سبحانه إليه بلا واسطة الملك بتعذيب قومه بقوله: وَ قَضَيْنا و أوحينا إِلَيْهِ بنحو البتّ ذلِكَ اَلْأَمْرَ الذي أخبرته الرسل به في شأن قومه، و هو أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ الكفرة و عقبهم مَقْطُوعٌ بحيث لا يبقى منهم أحد بعذاب الاستئصال حال كونهم مُصْبِحِينَ و وقت دخول الصبح عليهم.

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَ جاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)ثمّ قيل: إنّ امرأة لوط أخبرت أهل سدوم (5)بقدوم أضياف على لوط جرد مرد في غاية الحسن و الجمال (6)وَ لذا جاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ إلى باب منزل لوط و هم يَسْتَبْشِرُونَ و يخبر بعضهم بعضا بأنّه نزل على لوط أضياف مرد و ضاء الوجوه، فلمّا أتوه و سألوه أن يسلّم إليهم أضيافه ليرتكبوا الفاحشة قالَ لوط: يا قوم إِنَّ هؤُلاءِ الشباب ضَيْفِي و النازلون عليّ في بيتي فَلا تَفْضَحُونِ بتفضيحهم، و لا تبتلوني بالعار بالاساءة إليهم، و عمل الفاحشة بهم، فانّ من أهين ضيفه فقد اهينت نفسه.

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و خافوه في الاساءة إليّ و الى ضيفي، و في ارتكاب الفحشاء بهم وَ لا تُخْزُونِ و لا تذللوني و لا تخجلوني عندهم بارتكاب الفعلة الشّنيعة بهم قالُوا يا لوط أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ أن

ص: 550


1- . تفسير أبي السعود 5:84، تفسير روح البيان 4:476.
2- . تفسير الرازي 19:201، تفسير روح البيان 4:476.
3- . تفسير البيضاوي 1:533، تفسير روح البيان 4:476.
4- . تفسير الرازي 19:201.
5- . سدوم: مدينة من مدائن قوم لوط، كان قاضيها يقال له سدوم.
6- . تفسير روح البيان 4:477.

تحامي أحدا من اَلْعالَمِينَ.

قيل: إنّ التقدير ألم نقدم إليك و لم ننهك عن أن تمنع الغرباء عن تعرّضنا لهم (1). قالَ لوط: هؤُلاءِ النسوة بَناتِي فتزوّجوهنّ و انصرفوا عن التعرّض لأضيافي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ و طالبين لقضاء الشهوة، فاقضوها فيما أحلّ اللّه لكم دون ما حرّم.

قيل: إنّ القوم كانوا يخطبون بناته و لا يجيبهم لخبثهم و عدم كفايتهم (2).

و قيل: إنّ المراد بنات القوم، و أضافهنّ إلى نفسه لكون بنات الامّة بمنزلة بنات نبيها (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 72 الی 75

ثمّ بيّن اللّه غاية شقاوتهم بقوله: لَعَمْرُكَ و حياتك يا حبيبي محمّد قسمي إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ و شدّة شهوتهم التي أزالت عقولهم، و في غاية شقاوتهم و غوايتهم التي أعمتهم عن رؤية طريقة الرشد و الصلاح يَعْمَهُونَ و يتحيّرون، فلم يؤثّر فيهم النّصح و الارشاد إلى البنات أطيب من البنين فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ التي صاح بها جبرئيل حال كونهم مُشْرِقِينَ و داخلين في وقت طلوع الشمس.

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)قيل: كان ابتداء العذاب-و هو قلع جبرئيل الأرض بهم و رفعها إلى السماء-أول الصبح، ثمّ هوى بها إلى الأرض، و كان ختمه-و هو الصيحة-أول طلوع الشمس (4).

فَجَعَلْنا بعد قلع البلاد الخمسة أو السبعة و رفعها إلى قريب من السماء على جناح جبرئيل و قلبها عليهم عالِيَها سافِلَها و سافلها عاليها، لكون هذا النحو من القلب أدخل في الهول و الفضاعة وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ من حين الرفع إلى تمام الانقلاب حِجارَةً كائنة مِنْ سِجِّيلٍ و طين متحجّر عليه اسم من رمى به على ما قيل (5). فهلكوا بأنواع من العذاب: الخسف و الامطار بالحجارة و الصيحة، و قيل: إنّ مطر الحجارة كان على الغائبين من تلك البلاد (6)إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من عصيان القوم لوطا و طغيانهم على اللّه و هلاكهم بعذاب الاستئصال و إنجاء لوط و أهله و اللّه لَآياتٍ و أدلّة واضحة على وحدانية اللّه و كمال قدرته و عظمته، و قهره على أعدائه، و لطفه

ص: 551


1- . تفسير أبي السعود 5:85، تفسير روح البيان 4:477.
2- . تفسير أبي السعود 5:86، تفسير روح البيان 4:478.
3- . تفسير الرازي 19:202، تفسير أبي السعود 5:86.
4- . تفسير روح البيان 4:479. (5 و 6) . تفسير روح البيان 4:480.

بأوليائه، و إنما الانتفاع لِلْمُتَوَسِّمِينَ و المتفرّسين، و من له ذكاء وجودة ذهن، فانّهم يستنبطون كثيرا من العلوم و المعاني الدقيقة من المحسوسات و الماديات (1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «اتقوا فراسة المؤمن، فانّه ينظر بنور اللّه، و ينطق بتوفيق اللّه» (2).

و عنه عليه السّلام-في رواية- «أنّ للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم» ثمّ قرأ هذه الآية (3).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الآية: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتوسّم، و أنا من بعده، و الأئمّة من ذريّتي المتوسّمون» (4).

و عنه أيضا، في هذه الآية: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتقّوا فراسة المؤمن» (5).

و عنه عليه السّلام: «ليس مخلوق إلاّ و بين عينية مكتوب، [أنّه]مؤمن أو كافر، و ذلك محجوب عنكم، و ليس محجوبا عن الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام» (6).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 76 الی 79

ثمّ استشهد سبحانه بوجود بلادهم و آثارهم بقوله: وَ إِنَّها و اللّه لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ و طريق ثابت يسلكه النّاس في مسافرتهم من مكة إلى الشام، و يرون آثار تلك البلاد، فانّها لم تندرس بعد إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من وجود آثارها و اللّه لَآيَةً و عظة و هداية لِلْمُؤْمِنِينَ باللّه و رسوله، فانّهم الذين يعرفون أنّ ما حاق (7)بهم من العذاب الذي ترك ديارهم بلاقع (8)، إنّما كان لسوء صنيعهم و طغيانهم على اللّه و رسوله.

وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)ثمّ ذكر سبحانه قصة هلاك قوم شعيب بقوله: وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ اَلْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و تكذيب الرسول.

قيل: إنّ الأيكة و مدين واحد (9)، فانّ أطراف مدين كانت أرض ذات أشجار كثيرة ملتفّة بعضها ببعض، و كانت عامة شجرهم المقل (10).

ص: 552


1- . في النسخة: العاديات.
2- . تفسير روح البيان 4:481.
3- . مجمع البيان 6:528، تفسير الصافي 3:118.
4- . الكافي 1:170/5، تفسير الصافي 3:118.
5- . تفسير العياشي 2:435/2341، الكافي 1:170/3، تفسير روح البيان 4:481، تفسير الصافي 3:118.
6- . بصائر الدرجات:374/1، تفسير الصافي 3:118.
7- . في النسخة: حلق، و الذي أثبتناه من روح البيان 4:480.
8- . أي خالية من كلّ شيء.
9- . تفسير روح البيان 4:481.
10- . المقل: حمل الدّوم، و هو يشبه النّخل.

عن ابن عباس: الأيكة شجر المقل (1).

و قيل: إنّ الأيكة اسم مكان آخر غير مدين كثير الأشجار، كانوا يسكنونها، فبعث اللّه إليهم شعيب كما بعثه إلى مدين فكذّبوه (2)فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ و عاقبناهم على تكذيبهم شعيبا.

قيل: أهلك اللّه أهل مدين بالصيحة، و أهل الأيكة بالنّار، و ذلك أنّ اللّه أرسل عليهم حرّا شديدا سبعة أيام، فخرجوا ليستظلّوا بالشجر من شدّة الحرّ، فجاءت ريح سموم بنار فأحرقتهم (3).

و قيل: بعث اللّه سحابة فالتجأوا إليها يلتمسون الرّوح، فبعث اللّه عليهم منها نارا فأحرقتهم، فهو عذاب يوم الظلّة (4).

و قيل: لمّا ذكر اللّه الأيكة، دلّ بذكرها على مدين، فجاء بضميرهما (2)بقوله: وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ و طريق واضح لكم و للناس، تمرون عليهما و ترون آثار العذاب فيهما. و قيل: إنّ ضمير التثنية راجع إلى سدوم و الأيكة (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 80 الی 84

[ثمّ]

ذكر اللّه قصّة قوم صالح بقوله: وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْحِجْرِ و هم قوم ثمود اَلْمُرْسَلِينَ.

وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)قيل: الحجر اسم واد كانوا يسكنونه (4). و إنّما نسب سبحانه إليهم تكذيب جميع المرسلين؛ لأنّ تكذيبهم صالحا تكذيب لجميع الرسل، و لأنّهم كانوا من البراهمة المنكرين لجميع الرسل، أو لأنّ المراد بالمرسلين جنس الرسل لا جميع أفرادهم، كما يقال لمن أهان عالما: إنك موهن العلماء.

ثمّ ذمّهم سبحانه بذنب أعظم من تكذيب الرسل بقوله: وَ آتَيْناهُمْ و أريناهم آياتِنا الكثيرة التي كانت في الناقة من خروجها من الصخرة، و عظم جثّتها و ظهور فصيلها عند خروجها، و كثرة شربها و لبنها فَكانُوا عَنْها و عن النظر و التفكّر في جهات إعجازها مُعْرِضِينَ و بها غير معتنين.

وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً و مساكن لأنفسهم حال كونهم آمِنِينَ من العذاب لغاية غفلتهم و اغترارهم، أو من الانهدام و نقب اللصوص و تخريب الأعداء لغاية استحكامها فَأَخَذَتْهُمُ

ص: 553


1- . تفسير الرازي 19:204. (2 و 3 و 4) . تفسير روح البيان 4:481.
2- . تفسير الرازي 19:204.
3- . تفسير أبي السعود 5:87.
4- . تفسير الرازي 19:205، تفسير أبي السعود 5:87.

مع ذلك اَلصَّيْحَةُ التي صاح بها جبرئيل حال كونهم مُصْبِحِينَ بسبب تكذيبهم صالحا، و إعراضهم عن الآيات فَما أَغْنى و لم ينفع في دفع العذاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ و يحصّلون من البيوت الوثيقة و الأموال الوفيرة و العدد المتكاثرة.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 85 الی 86

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ابتلاء الامم الماضية بالعذاب، نبّه على المعاد الذي عذاب الكفار فيه أشدّ مع الدليل القاطع بقوله: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ خلقا متلبّسا بِالْحَقِّ و الحكمة البالغة المستلزمة للمعاد، و إلاّ كان خلقهما عبثا و لعبا وَ إِنَّ اَلسّاعَةَ و القيامة التي تجزى فيها الناس على قدر أعمالهم، و اللّه (1)لَآتِيَةٌ فلا ينحصر عذاب العصاة بما ينزل بهم في الدنيا، فإنّه بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في القيامة كنسبة لا شيء إلى كلّ شيء، فاذا كان كذلك فلا تحزن يا محمّد بتأخير العذاب عن قومك مع كونهم مكذّبيك، فانّ اللّه سينتقم من أعدائك و يجازيهم أسوأ الجزاء على إساءتهم إليك فَاصْفَحِ و أعرض عنهم اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ و الإعراض المقرون بالحلم و احتمال آذاهم و لا تعجل في الانتقام منهم إِنَّ رَبَّكَ اللطيف بك هُوَ اَلْخَلاّقُ لك و لأعدائك و لسائر الموجودات اَلْعَلِيمُ بأحوالهم و أعمالهم و أحوالك و معاملتك معهم من مكابدتهم، و الصبر على إساءتهم، و الصّفح عنهم، فيجازيهم بأشدّ العذاب، و يكرمك بأعلى الكرامات و يفضّلك على العالمين بأفضل المثوبات، كما أكرمك في الدنيا بالنبوة، و فضلك على العالمين بأن ختم بك الرسالة.

وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاّقُ اَلْعَلِيمُ (86)

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 87

ثم نبّه سبحانه بأفضل مننه عليه بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ يا محمّد، و أنزلنا عليك سَبْعاً مِنَ الآيات اَلْمَثانِي و هي فاتحة الكتاب وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ الشأن.

وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ (87)عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ اللّه قال لي: يا محمّد، وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ، فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب، و جعلها بإزاء القرآن العظيم» (2).

ص: 554


1- . لا موضع للقسم في الآية.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:302/60، تفسير الصافي 3:120.

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «هي سورة الحمد، و هي سبع آيات منها بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» (1).

و عن أحدهما عليهما السّلام أنّه سئل عنها فقال: «فاتحة الكتاب» (2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام-في حديث- «زاد اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله السبع الطوال و فاتحة الكتاب، و هي السبع المثاني» (3).

قيل: سمّيت بالمثاني لأنّها تقرأ بعدها السورة في الصلاة و يثنّى بها (4).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّما سميّت مثاني لأنّها تثنّى في الرّكعتين» (5).

و عن أحدهما عليهما السّلام: «يثنّى فيها القول» (6). و لعلّ المراد منه ما قيل من أنّ كلماتها مثنّاة مثل اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ* إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ* اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ اَلَّذِينَ (7).

و قيل: لأنّ الفاتحة قسمت نصفين نصفها للّه، و نصفها للعبد، فانّ نصفها ثناء العبد للربّ، و نصفها عطاء الربّ للعبد (8).

و قيل: لأنّها نزلت مرتين: مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، و مرّة بالمدينة (9).

و قيل: إنّ المثاني جميع القرآن و صفته، لأنّه كرّر فيه الوعد و الوعيد، و الأمر و النهي، و الثواب و العقاب و القصص (10)، و الفاتحة بعض منه.

أقول: هذا القول أظهر.

و قيل: إنّ المثاني مأخوذ من الثناء، سميّت به الفاتحة لاشتمالها على الثناء على اللّه، و هو حمده و توحيده و ملكه (11).

و عن الباقر عليه السّلام: «نحن المثاني الذي أعطاه اللّه نبينا» (12).

و قال الصدوق رحمه اللّه: أي نحن الذين قرننا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى القرآن، و أوصى بالتمسّك بالقرآن و بنا،

ص: 555


1- . تفسير العياشي 1:99/76، تفسير الصافي 3:120.
2- . تفسير العياشي 2:437/2347، تفسير الصافي 3:120.
3- . الاحتجاج:215، تفسير الصافي 3:120.
4- . تفسير روح البيان 4:486.
5- . تفسير العياشي 1:100/76، تفسير الصافي 3:120.
6- . تفسير العياشي 2:437/2347، تفسير الصافي 3:120.
7- . تفسير الرازي 19:207.
8- . تفسير روح البيان 4:486.
9- . تفسير الرازي 19:207.
10- . تفسير روح البيان 4:486.
11- . تفسير الرازي 19:207.
12- . تفسير القمي 1:377، تفسير العياشي 2:437/2346، التوحيد:150/6، تفسير الصافي 3:120.

و أخبر أمّته أنّا لا نفترق حتّى نرد [عليه]حوضه (1).

روي أنّ سبع قوافل وافت من بصرى و أذرعات-ليهود قريظة و أذرعات (2)و النّضير-في يوم واحد مكة، فيها أنواع من البزّ و أفاويه (3)الطّيب و الجوهر و أمتعه البحر. فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها و أنفقناها في سبيل اللّه، فنزلت. و قال: قد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع قوافل (4).

و قيل: لمّا وردت قوافل قريش بمكة، و كانت فيها مطاعم و ملابس كثيرة، خطر في قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ المؤمنين جياع عراة و يكون للمشركين هذه الأموال الكثيرة فنزلت (5).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 88 الی 91

ثمّ لمّا عرّف اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله أعظم نعمه عليه، نهاه عن الرغبة فيما بأيدي الناس من الأمتعة الدنيوية الفانية بقوله: و لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ و لا تلتفت بقلبك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا و حطامها أصنافا من الكفّار و أَزْواجاً مِنْهُمْ كاليهود و النصارى و المجوس و المشركين بعد ما أنعمنا عليك بالرسالة و العلم و الحمكة و القرآن من النّعم التي عندها يستحقر جميع عالم الوجود.

لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ (90) اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ (91)عن ابن عباس: أي لا تتمنّ ما فضّلنا به أحدا من متاع الدنيا (6).

روي أنه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى نعم بني المصطلق و قد عبست في أبوالها و أبعارها فتقنّع و قرأ هذه الآية (7).

قيل: معنى عبست [في أبوالها و أبعارها: هو]أن تجفّ أبوالها و أبعارها على أفخادها إذا تركت من العمل [أيام الربيع، فتكثر]شحومها و لحومها (8).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لا ينظر إلى ما يستحسن من [متاع]الدنيا (9).

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الالتفات إلى أموال الكفّار، نهاه عن الالتفات إلى أنفسهم بقوله: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إذا لم يؤمنوا، و لا يكن لهم في قلبك قدر و منزلة.

ص: 556


1- . التوحيد:151/6، تفسير الصافي 3:120.
2- . (و أذرعات) ليست في المصادر.
3- . البزّ: نوع من الثياب، و الأفاويه: نوافج الطيب، و النوافج: الأوعية التي يوضع فيها الطيب. و قيل: الأفاويه: تطلق على ما يعالج به الطيب، كما أن التوابل ما يعالج به الأطعمة.
4- . تفسير الرازي 19:210، تفسير البيضاوي 1:535، تفسير روح البيان 4:486.
5- . تفسير روح البيان 4:486. (6 و 7 و 8 و 9) . تفسير الرازي 19:210.

و قيل: إنّ المراد لا تحزن على أتباعك و مصدّقيك لفقرهم (1)وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ و تواضع بنفسك لِلْمُؤْمِنِينَ بك المطيعين لأحكام ربك، و إن كانوا أفقر الناس، فانّ تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما يحبّون من الدنيا وَ قُلْ للناس: إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ من عذاب اللّه ببيان أحكامه و شدّة عقابه على عصيانه اَلْمُبِينُ و الموضّح لكم جميع ما أبلغكم، و ما يتعلّق بالمبدأ و المعاد، و قل للمشركين: إنا ننزّل عليكم العذاب كَما أَنْزَلْنا من العذاب عَلَى اليهود اَلْمُقْتَسِمِينَ للقرآن بجعل ما وافق التوراة منه حقا، و ما لم يوافقه باطلا، كما عن ابن عبّاس (2).

و قيل: اقتسامه بأن قال بعضهم استهزاء بالقرآن: هذه السورة لي، و قال الآخر: هذه السورة لي، أو قال بعضهم: إنّه سحر. و قال آخر: إنّه شعر، و قال ثالث: إنّه كذب، و قال رابع: إنّه أساطير. و قيل: إن المقتسمين قوم ثمود، فانّهم تقاسموا لنبيّتنّه و أهله (3).

و عن ابن عباس بنقل آخر: هم الذين اقتسموا طريق مكّة يصدّون الناس عن الإيمان، و يقرب عددهم من أربعين (4).

و قيل: كانوا ستة عشر [رجلا]بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة و طرقها، و يقولون لمن يسلكها: لا تغترّوا بالخارج منّا و المدّعي للنبوة فانه مجنون، و كانو ينفّرون الناس عنه صلّى اللّه عليه و آله بأنّه ساحر أو كاهن أو شاعر، و المعنى أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين (5)؛ و هم اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ و جزّءوه إلى سحر و شعر و كهانة و أساطير.

و عنهما عليهما السّلام، قالا: «هم قريش» (6). و قيل: يعني مفترى (7).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 92 الی 96

ثمّ هدّدهم بقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ سؤال توبيخ و تقريع عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ من تكذيب الرسول و الاستهزاء بكتابه.

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ (94) إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ (95) اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)ثمّ أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بترك المبالاة بالكفّار بقوله: فَاصْدَعْ و اشتغل بِما تُؤْمَرُ من التبليغ جهارا،

ص: 557


1- . تفسير روح البيان 4:487.
2- . تفسير الرازي 19:212، تفسير روح البيان 4:489.
3- . تفسير الرازي 19:212.
4- . تفسير الرازي 19:211.
5- . تفسير الرازي 19:211.
6- . تفسير العياشي 2:439/2357، تفسير الصافي 3:122.
7- . تفسير الرازي 19:213.

و لا تبال بكيد الأعداء وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ و لا تعتن بهم إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ بك و بكتابك اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء عاقبة شركهم في الدارين.

قيل: كان المستهزئون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله خمسة نفر من المشركين: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و عديّ بن قيس، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث. قال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى عقب الوليد فمرّ بنبّال فتعلّق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظّما لأخذه، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات، و أومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة، فقال: لذغت لدغت، فانتفخت رجله حتّى صارت كالرّحا و مات، و أشار إلى عيني الأسود بن المطّلب فعمي، و أشار إلى أنف عديّ بن قيس فأمتخط قيحا فمات، و أشار إلى الأسود بن عبد يغوث و هو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة و يضرب وجهه بالشوك حتى مات (1).

و قال بعض العامة: إنّ الآيات نزلت في خمسة نفر ذوي شأن و خطر، كانوا يبالغون في إيذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الاستهزاء به، فأهلكهم اللّه في يوم واحد، و كان إهلاكهم قبل بدر: منهم العاص بن وائل السّهمي والد عمرو بن العاص، كان يخلج (2)خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأنفه و فمه و يسخر به، فخرج في يوم مطير على راحلته مع ابنين له، فنزل شعبا من تلك الشّعاب، فلمّا وضع قدمه على الأرض قال: لدغت، فطلبوا فلم يجدوا شيئا، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه، و منهم الحارث بن قيس، أكل حوتا مالحا فأصابه العطش الشديد، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدّ-أي انشقّ-بطنه، فمات في مكانه، و منهم الأسود بن المطلب، خرج مع غلام له فأتاه جبرئيل و هو قاعد في أصل شجرة، فجعل جبرئيل ينطح رأسه على الشجرة، و كان يستغيث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحد يصنع بك شيئا غير نفسك، فمات مكانه، و كان هو و أصحابه يتغامزون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اصحابه و يصغرون إذا رأوه، و منهم الأسود بن عبد يغوث خرج من أهله فأصابه السّموم (3)[فاسودّ]حتى صار كالفحم، فأتى أهله فلم يعرفوه، فأغلقوا دونه الباب و لم يدخلوه دارهم حتى مات (4).

قيل: إنّه كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى و قيصر؛ و ذلك لأنّ ثيابهم رثّه و عيشهم خشن. و منهم الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد [و عم أبي جهل]خرج يتبختر في مشيته حتى وقف على رجل يعمل السّهام، فتعلق سهم في ثوبه، فلم ينقلب لينحيّه تعظّما، فأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه فأصاب السهم أكحله (5)فقطعه، ثمّ

ص: 558


1- . تفسير الرازي 19:215.
2- . خلج الشيء: حرّكه.
3- . السموم: الريح الحارة.
4- . تفسير روح البيان 4:491.
5- . الأكحل: وريد في وسط الذراع.

لم ينقطع الدم عنه حتى مات (1)، و كان جميع ذلك في يوم واحد.

القمي رحمه اللّه، قال: نزلت بمكة بعد أن نبّئ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بثلاث سنين، و كان المستهزئون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسة: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث، و الحارث بن طلاطلة الخزاعي (2).

عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام: «فأمّا المستهزئون فقال اللّه: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ فقتل اللّه خمستهم، كلّ واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأمّا الوليد بن المغيرة فمرّ بنبل لرجل من خزاعة قد راشه (3)و وضعه في الطريق، فأصابته [شظية]منه فانقطع أكحله حتى أدماه، فمات و هو يقول: قتلني رب محمّد، و أمّا العاص بن وائل السّهمي فانّه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر فسقط، فتقطّع قطعة قطعة، فمات و هو يقول: قتلني ربّ محمّد، و أمّا الأسود بن عبد يغوث فانّه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظلّ بشجرة، فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع هذا مني، فقال: ما أرى أحدا يصنع شيئا إلاّ نفسك، فقتله و هو يقول: قتلني ربّ محمّد، و أمّا الأسود بن المطّلب (4)فانّ النبي صلّى اللّه عليه و آله دعا عليه أن يعمي [اللّه]بصره و أن يثكله ولده، فلمّا كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع، فأتاه جبرئيل بورقة خضراء، فضرب بها وجهه فعمي، و بقي حتى أثكله اللّه ولده، و أمّا الحارث بن طلاطلة (5)فإنّه خرج من بيته في السّموم فتحوّل حبشيا، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحارث، فغضبوا عليه فقتلوه و هو يقول: قتلني ربّ محمّد» (6).

و روي «أنّ الأسود بن عبد يغوث (7)أكل حوتا مالحا فأصابه العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انشقّ بطنه، فمات و هو يقول: قتلني ربّ محمّد. كل ذلك في ساعة واحدة، و ذلك أنّهم كانوا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: يا محمّد، ننتظر بك إلى الظهر، فان رجعت عن قولك و إلاّ قتلناك، فدخل النبي صلّى اللّه عليه و آله منزله فأغلق عليه بابه مغتمّا لقولهم، فأتاه جبرئيل عن اللّه في ساعته فقال: يا محمّد، السّلام يقرئك السّلام، و هو يقول: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ يعني أظهر أمرك لأهل مكّة و ادعهم إلى الإيمان. فقال: يا جبرئيل، كيف أصنع بالمستهزئين و ما أوعدوني؟ قال: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ قال: يا جبرئيل، كانوا الساعة بين يدي؟ قال: كفيتهم، فأظهر أمره عند ذلك» (8).

و في رواية: «فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقام على حجر فقال: يا معشر قريش، يا معشر العرب، أدعوكم إلى

ص: 559


1- . تفسير روح البيان 4:492.
2- . تفسير القمي 1:378، تفسير الصافي 3:123.
3- . راش النبل: ركب عليه الريش.
4- . في الاحتجاج: الأسود بن الحارث.
5- . في الاحتجاج: الحارث بن أبي الطلالة.
6- . الاحتجاج:216، تفسير الصافي 3:123.
7- . في الاحتجاج: الأسود بن الحارث.
8- . الاحتجاج:217، تفسير الصافي 3:123.

شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه، و آمركم بخلع الأنداد و الأصنام، فأجيبوني تملكوا بها العرب، و تدين لكم العجم، و تكونوا ملوكا في الجنّة، فاستهزءوا منه، و قالوا: جنّ محمّد بن عبد اللّه، و لم يجسروا عليه لموضع أبي طالب» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «اكتتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [بمكة]مختفيا خائفا خمس سنين لم يظهر أمره و عليّ عليه السّلام معه و خديجة، ثمّ أمره اللّه أن يصدع بما أمر [به]فظهر و أظهر أمره» (2).

و في رواية: «ثمّ أمره اللّه أن يصدع بما يؤمر، فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب، فإذا أتاهم قالوا: كذّاب امض عنّا» (3).

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 97 الی 99

ثمّ لمّا أشار اللّه سبحانه إلى جسارة القوم على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله (4)و حبيبه و ضيق صدره بمقتضى الطبيعة البشرية، سلاّه بقوله: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ و يحزن قلبك بِما يَقُولُونَ من التكذيب و الاستهزاء و الإهانه، فانّ الالتفات الى أن المصائب بعين اللّه و مرآه من أقوى التسليات للمؤمن.

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسّاجِدِينَ (98) وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ (99)عن الصادق عليه السّلام: «عليك بالصبر في جميع امورك، فانّ اللّه عز و جل بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فأمره بالصبر و الرّفق. . . فصبر حتى نالوه بالعظائم و رموه بها، فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّ و جلّ [عليه]: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ» (5).

ثمّ أمره اللّه بذكره الموجب لاطمئنان القلب، و الاستغراق في أنوار الربوبية، و الانصراف عن الدنيا و مصائبها بقوله: فَسَبِّحْ اللّه مقرنا له بِحَمْدِ رَبِّكَ و ثنائه وَ كُنْ مِنَ جملة اَلسّاجِدِينَ و المبالغين في الخضوع له، أو من المصلين، فانّ الفزع إلى اللّه بالسجود و الصلاة يقرع الهمّ و يكشف الكرب وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ على أيّ حال كنت حَتّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ و الموت، عن ابن عبّاس (6)، و لا تكن في آن من آنات عمرك متوانيا في القيام بوظائف العبودية.

الحمد للّه الذي وفّقني لإتمام تفسير [سورة]الحجر.

ص: 560


1- . تفسير القمي 1:379، تفسير الصافي 3:124.
2- . كمال الدين:344/28، تفسير الصافي 3:122.
3- . تفسير العياشي 2:440/2360، تفسير الصافي 3:122.
4- . في النسخة: جسارة القوم بنبيّه.
5- . الكافي 2:72/3، تفسير الصافي 3:124.
6- . مجمع البيان 6:534، تفسير الرازي 19:216.

في تفسير سورة النحل

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

سوره 16 (النحل): آیه شماره 1

ثمّ لمّا ختم سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفار بالعذاب و تهديد المستهزئين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله باستعجال العذاب، و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالاعلان برسالته و دعوته و عدم المبالاة بمعارضيه، و تسليته بعلمه بضيق صدره، و أمره بالتوجّه إليه و اشتغاله بعبادته، و كان أوّل سورة النحل تأكيد الوعيد بنزول العذاب و النهي عن الاستعجال فيه، و بيان ما يجب الانذار به، و ختمه أمر النبيّ بالدعوة و الصبر على أذى الكفّار و عدم الاعتناء بهم، و عدم ضيق صدره من مكرهم، و اهتمامه بالعبادة و الأعمال الحسنة، و أهم المطالب المذكورة فيها و هو التوحيد و المعاد و النبوة موافقا لما في الحجر، أردفها بالنحل و نظمها بعدها (1)، فابتدأ سبحانه تبركا و تعليما للعباد بذكر أسمائه الحسنى حسب رسمه و دأبه بقوله: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اَللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (1)ثمّ شرع فيها بتأكيده وعيد المشركين بالعذاب بقوله: أَتى أَمْرُ اَللّهِ و عذابه الموعود به فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ و لا تطلبوا سرعة نزوله، فانّه لا خير لكم فيه و لا خلاص لكم منه.

عن ابن عبّاس: لمّا نزل قوله تعالى: اِقْتَرَبَتِ اَلسّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ (2)قال الكفار فيما بينهم: إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن [بعض]ما تعملون حتّى ننظر ما هو كائن. فلمّا تأخّرت قالوا: ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به؟ فنزل قوله تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ (3)فأشفقوا و انتظروا يومها، فلمّا امتدّت الأيام قالوا: يا محمّد، ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به. فنزل قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اَللّهِ فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رفع النّاس رؤوسهم، فنزل قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ (4)فيكون المعنى أنّ أمر القيامة و عذاب الكفار محقّق الوقوع يجب أن ينزل منزلة الواقع.

ص: 561


1- . في النسخة: أردف بالنحل و نظم بعده.
2- . القمر:54/1.
3- . الأنبياء:21/1.
4- . تفسير روح البيان 5:2، تفسير الرازي 19:218، و لم ينسبه إلى ابن عباس.

روي أنّه لمّا نزلت قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت أنا و الساعة كهاتين» (1)و جمع بين الوسطى و السبابة.

و في حديث آخر: «مثلي و مثل الساعة كفرسي الرّهان» (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا أخبر اللّه شيئا أنّه كائن، فكأنّه قد كان» (1).

و قيل: إنّ المراد أنّ حكمة [اللّه]تعالى بوقوع العذاب قد أتى و تحقّق، و إنّما لم يتحقّق المحكوم به لاقتضاء الحكمة وقوعه في وقت معين لم يجئ بعد (2).

و روي أيضا أنّ كفّار قريش كانوا يستبطئون نزول العذاب الموعود لهم سخرية بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و تكذيبا لوعده، و كانوا يقولون: إن صحّ ما تقول من مجيء العذاب، فالأصنام تشفع لنا و تخلّصنا منه، فنزلت (3).

ثمّ نزّه اللّه تعالى ذاته عن الشريك الدافع لمراده بقوله: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ فيدفع ما أراد بهم من العذاب عنهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 2

ثمّ لمّا كان عمدة شبهة المشركين في نبوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنكارهم إمكان نبوة البشر مع قدرة اللّه على إرسال الملك، دفع اللّه تعالى هذه الشّبهة بقوله: يُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ.

يُنَزِّلُ اَلْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)عن ابن عباس: يريد جبرئيل (4)وحده بِالرُّوحِ و الوحي الذي به حياة القلوب.

و عن الباقر عليه السّلام: «يقول بالكتاب و النبوة» (7). و القمي رحمه اللّه: بالقوة التي جعلها فيهم (8). و قيل: المراد بالرّوح جبرئيل، و الباء بمعنى مع، و المعنى ينزّل الملائكة مع جبرئيل (5)، و يكون نزولهم صادرا مِنْ أَمْرِهِ و إذنه عَلى مَنْ يَشاءُ نزولهم عليه مِنْ عِبادِهِ الأنبياء الذين خصّهم اللّه برسالته.

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «جبرئيل الذي نزل على الأنبياء، و الرّوح يكون معهم و مع الأوصياء لا يفارقهم، يفقّههم و يسدّدهم من عند اللّه» (6).

و قال بعض مفسري العامّة: ما ينزل ملك إلاّ و معه الرّوح، يكون الرّوح رقيبا عليه كما يكون

ص: 562


1- . تفسير العياشي 3:3/2362، تفسير الصافي 3:126.
2- . تفسير الرازي 19:218.
3- . تفسير روح البيان 5:2.
4- . تفسير الرازي 19:219. (7 و 8) . تفسير القمي 1:382، تفسير الصافي 3:127.
5- . تفسير الرازي 19:220.
6- . بصائر الدرجات:483/1، تفسير الصافي 3:127.

الملائكة الحفظة رقباء على بني آدم (1). و على أيّ تقدير يكون وحيهم إلى الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا و خوّفوا قومكم، و اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا و لا معبود سواي، و أنا اعاقبهم على القول بالاشراك بي في الالوهية و العبادة، و قولوا لهم: إذا كان الأمر كذلك فَاتَّقُونِ و خافوني و لا تشركوا بي غيري.

و قيل: إن الخطاب للمستعجلين على طريقة الالتفات (2)من الغيبة إلى الخطاب، و المراد أنّه إذا كان الأمر كما ذكر من أنّ اللّه يوحي إلى الأنبياء بتوسّط الملائكة توحيده، فاتّقوني في الاشراك بي و فروعه التي منها الاستهزاء برسولي و استعجال عذابي.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 3 الی 4

ثمّ لمّا أعلن سبحانه بتوحيده، أخذ في الاستدلال عليه بكمال قدرته و حكمته بقوله: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ خلقا مقرونا بِالْحَقِّ و الحكمة و الصواب، و الوجه الفائق، و النّمط اللائق، فمن قدر على هذا الخلق العظيم؟ تَعالى و تقدّس بذاته و صفاته عَمّا يُشْرِكُونَ به، و تنزّه عن أن يجعل له عبيده و غيره عدلا في الالوهية و استحقاق العبادة.

خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بخلق السماوات و الأرض، استدلّ بخلق ما فيهما من البدائع، و لمّا كان الانسان أكمل الكلّ و الآية العظمى، ابتدأ سبحانه بالاستدلال بخلقه بقوله: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ الذي انطوى فيه العالم الأكبر مِنْ نُطْفَةٍ قذرة منتنة متولّدة من الأغذية المتشابهة الأجزاء في الصورة بعد خلق أوّل فرد منه من تراب فَإِذا هُوَ بعد خلقه و تربيته و تكميله في الجسم و القوى خَصِيمٌ و معارض لخالقه مُبِينٌ و متجاهر في خصومته.

روي أن أبي بن خلف الجمحي أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعظم رميم فقال: يا محمّد، أترى اللّه يحيي هذا بعد ما رمّ (3)؟ ! فنزلت (4)و قيل: يعني منطيقا مجادلا عن نفسه، مكافحا للخصوم، مبينا لحجّته لقنا بها بعد أن كان نطفة لا حسّ لها و لا حراك، فانتقاله من أخسّ الأحوال إلى أشرفها دليل على وجود مدبّر قدير حكيم (5).

القمي رحمه اللّه، قال: خلقه من قطرة ماء منتن فيكون خصيما متكلما بليغا (6).

ص: 563


1- . تفسير روح البيان 5:4.
2- . تفسير أبي السعود 5:96.
3- . رمّ العظم: بلى.
4- . تفسير روح البيان 5:6.
5- . تفسير الرازي 19:226.
6- . تفسير القمي 1:382، تفسير الصافي 3:127.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 5 الی 7

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بخلق الانسان، استدلّ بخلق الحيوانات النافعة له، فابتدأ بخلق أنفعها بقوله: وَ اَلْأَنْعامَ الأربعة من الإبل و البقر و الضأن و المعز خَلَقَها نفعا لَكُمْ و أهمّ نفعها أن لكم فِيها دِفْءٌ و حافظ من البرد كاللباس المعمول من الشعر و الصوف و الوبر وَ لكم مَنافِعُ اخر منها كالنسل و اللبن و الركوب و الحرث وَ مِنْها تَأْكُلُونَ كاللحوم و الشحوم و سائر ما يؤكل منها.

وَ اَلْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)ثمّ نبّه سبحانه على منافعها غير الضرورية بقوله: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ و وجاهة عند الناس حِينَ تُرِيحُونَ تلك الأنعام و تردونها من مراعيها إلى محالّ راحتها بالعشيّ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ تلك و ترسلونها من مراحها إلى مراعيها بالغداة، فانّ الفضاء أمام الدور يتزيّن بها في الوقتين، و يعظم أهلها في أعين النّاس.

و إنّما قدّم الاراحة لأنّ الجمال عند عودها من مراعيها أظهر، لأنّها حينئذ ملأى البطون، حافلة الضّروع، مجتمعة في الحضائر، حاضرة لأهلها، و أمّا عند خروجها إلى المراعي فكلّها جائعة عادمة اللبن، ثمّ تأخذ في التفرّق و الانتشار وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ و أمتعتكم التي لا تقدرون على حملها إِلى بَلَدٍ بعيد لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ و لم تتمكنّوا أن تصلوا إليه مجرّدين عن الأثقال إِلاّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ و التعب الذي يصعب تحمّله، فكيف مع استصحابها؟

عن ابن عباس: يريد من مكة إلى المدينة، أو إلى اليمن، أو إلى الشام، أو إلى مصر (1).

أقول: هذا التخصيص لأنّ متاجر قريش كانت في زمان النزول إلى تلك البلاد (2).

ثمّ بيّن سبحانه علّة هذه الإنعامات على الإنسان بقوله: إِنَّ رَبَّكُمْ و اللّه لَرَؤُفٌ و كثير الوداد بكم رَحِيمٌ و عطوف على خلقه، و لذا أراد توسعة المعاش و تيسير الأمر عليكم بخلق الأنعام.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 8

16\ ثمّ استدلّ سبحانه بخلق الحيوانات التي نفعها دون الأنعام بقوله: وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغالَ وَ اَلْحَمِيرَ خلقها لِتَرْكَبُوها وَ لتكون زِينَةً لكم، أو لتتزينوا زينة و تتعظّموا بتملّكها و ركوبها عند الناس

وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغالَ وَ اَلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)

ص: 564


1- . تفسير الرازي 19:228.
2- . تفسير الرازي 19:228.

وَ يَخْلُقُ لانتفاعكم في الدنيا ما لا تَعْلَمُونَ خلقه و عدده و منافعه و كيفية الانتفاع به من أصناف النّعم، و إنّما أتى سبحانه بصيغه المضارع للدلالة على التجدّد و الحدوث.

القمي رحمه اللّه، قال: العجائب التي خلقها [اللّه]في البرّ و البحر (1).

و قيل: هذا إخبار بأنه سبحانه يخلق من الخلائق ما لا علم لنا به، مما فيه دلالة على قدرته الباهرة الموجبة لتوحيده كنعمته الباطنة و الظاهرة (2).

عن ابن عبّاس: أنّ عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع و الأرضين السبع و البحار السبعة، يدخل فيه جبرئيل كلّ سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نور، و جمالا إلى جمال، و عظما إلى عظم، ثمّ ينتفض فيخلق اللّه من كلّ قطرة تقع من ريشه كذا و كذا ألف ملك، فيدخل منهم كلّ يوم سبعون ألف [ملك]البيت المعمور، و سبعون ألف ملك الكعبة، لا يعودون إليه أبدا إلى يوم القيامة (3).

و قيل: يعني يخلق اللّه لكم في الجنة غير ما ذكر من النّعم الدنيوية ما لا يمكنكم أن تعلموه في الدنيا من النّعم التي لم ترها عين و ما سمعتها اذن، و ما خطرت (4)على قلب بشر (5).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 9

م ثمّ أنّه تعالى بعد بيان الأدلة القاطعة على توحيده و صفاته الكمالية، بيّن غاية لطفه بعباده بقوله: وَ عَلَى اَللّهِ واجب بمقتضى لطفه الهداية إلى توحيده و معارفه، بنصب الأدلّة القاطعه الواضحة حتى يتبين للناس قَصْدُ اَلسَّبِيلِ و الطريق المستقيم الموصل إلى كلّ حقّ و إلى كلّ خير، و يمتاز من سائر السبل، فانّ منها مستقيما وَ مِنْها جائِرٌ و منحرف عن الحقّ و مؤدّ إلى الهلاك، و لا يحصى عددها المندرج كلّها تحت الجائر.

وَ عَلَى اَللّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)و قد أدّى سبحانه ما عليه حيث أبدع هذه البدائع التي كلّ واحد منها نور يهتدى به، و أرسل رسلا و أنزل كتبا و أرشد إلى الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى، المنجية من مهاوي الرّدى، ألا ترى كيف بيّن في هذه السورة أولا تنزّهه تعالى عن توهّم الاشراك.

ثمّ بيّن سرّ إيحاء الوحي إلى الرسل، و كيفية أمرهم بانذار الناس، و دعوتهم إلى التوحيد، و تخويفهم من الشرك و زجرهم عنه، ثمّ عاد إلى بيان تعاليه عن الشرك بدلالة أفعاله و صنائعه، فبدأ بذكر صنعه

ص: 565


1- . تفسير القمي 1:382، تفسير الصافي 3:128.
2- . تفسير أبي السعود 5:98.
3- . تفسير الرازي 19:231، تفسير أبي السعود 5:98، تفسير روح البيان 5:12.
4- . في النسخة: تره عين، و ما سمعته اذن، و ما خطر.
5- . تفسير أبي السعود 5:98.

المتعلّق بمحيط العالم بقوله: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ (1). ثمّ بيّن صنعه المتعلّق بما بينهما، فبدأ بما يتعلّق بأنفس المخاطبين، ثمّ أردفه بما يتعلّق بما فيه ضرورة معايشهم، ثمّ بما يتعلّق بمنافعهم غير الضرورية، ثمّ بيّن قدرته على ما لا يحيط به علم البشر، و هذه غاية اللطف و نهاية الرحمة.

ثمّ نبّه على قدرته على إلجاء الناس إلى معرفته و توحيده و سلطنته على قلوبهم بقوله: وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ إلى توحيده و معارفه بالالجاء و الاضطرار كما تكونون مضطرين إليه في الآخرة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 10 الی 11

ثمّ استدلّ على توحيده و قدرته بانزال المطر و إنبات النباتات بقوله: هُوَ اَلَّذِي بقدرته و حكمته أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ المطلّ (2)، أو من جانب العلوّ، أو من السّحاب ماءً نافعا بالأمطار، فيحصل لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ تشربون وَ يتكوّن مِنْهُ بغير صنعكم شَجَرٌ و نبات ذو ساق أو غير ذي ساق في البراري و الجبال، و أنتم فِيهِ تُسِيمُونَ و ترعون مواشيكم، و من منافع المطر أنّ اللّه يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ من الأرض اَلزَّرْعَ الذي هو أصل أغذيتكم و عمود معاشكم وَ اَلزَّيْتُونَ الذي هو أشرف الأشجار من حيث كون ثمره إداما من وجه و فاكهة من وجه وَ اَلنَّخِيلَ الذي روي أنّها خلقت من فضل طينة آدم، و أنّها أكرم الأشجار على اللّه (3)وَ اَلْأَعْنابَ التي هي بعد النخل أنفع الأشجار، و إنما جمع الأعناب للاشارة إلى (4)كثرة أصنافها، و خصّ تلك الأنواع بالذكر للاشعار بفضلها.

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)ثمّ ذكر سائر الثّمار بنحو العموم بقوله: وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ قيل: إنّما قدّم ما هو غذاء الأنعام في الذّكر لحصوله بغير صنع البشر، أو للاشعار بفضيلة اغتداء الإنسان به رياضة للنفس، أو لكون أكثر المخاطبين أصحاب المواشي دون الزرع و البستان، أو للارشاد إلى اهتمام الناس بأمر ما تحت أيديهم أزيد من الاهتمام بأمر نفسه.

ثمّ أنّه تعالى بعد تعداد آيات وحدانيته، حثّ الناس إلى التفكّر فيها بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال المطر و إنبات النباتات المفصّلة و اللّه لَآيَةً عظيمة و دلالات واضحة على وجود صانع

ص: 566


1- . النحل:16/3.
2- . السماء مؤنث، و قد تذكّر.
3- . تفسير روح البيان 5:15.
4- . في النسخة: أن.

قدير و مدبّر حكيم لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و يتعقّلون غرائب الصنع و الحكم البالغة فيها، فانّ من تفكّر في أنّ الحبّة أو النواة تقع في الأرض و تصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشقّ أسفلها فتخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض، و ينشقّ أعلاها و إن كانت متنكّسة في الوقوع، و يخرج منها ساق فيسمو، و تخرج منه الأوراق و الأزهار و الحبوب و الثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال و الألوان و الطّباع و الخواصّ، و على نواة قابلة لتوليد الأمثال على النّمط المحرّر إلى غير نهاية مع اتحاد المولود و استواء نسبة الطبائع السفلية و التأثرات العلوية بالنسبة إلى الكلّ، يستدلّ على أنّ خالقها موجود لا يشبهه شيء في شيء من صفاته و كمالاته، فضلا عن أن يشاركه الجماد الذي هو أخسّ الأشياء في الوهيته و استحقاقه العبادة الذي هو أخصّ صفاته، و لمّا كان الاستدلال بتلك الأشياء محتاجا إلى ترتيب مقدّمات فكرية خصّ الاستدلال بها بأهل الفكر و التدبّر.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 12

ثمّ لمّا كان مجال توهّم استناد نزول الأمطار و نبت الزروع و الأشجار و أثمارها إلى الحركات الفلكية و اتصالات الكواكب، دفع سبحانه التوهّم بقوله: وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ و جعلهما متعاقبين لإنضاج ثماركم، و تنظيم معاشكم و غير ذلك من منافعكم و مصالحكم، كأنّهما يختلفان على حسب إرادتكم وَ سخّر اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ و جعلهما يد أبان في سيرهما و إنارتهما، و إصلاح ما يناط (1)بهما صلاحه من الموجودات التي منها بأفضل و أجمل وَ اَلنُّجُومُ في حركاتها و أوضاعها من التثليث و التربيع و الارتفاع و الانخفاض و غيرها مُسَخَّراتٌ لكم و دائرات في مصالحكم بِأَمْرِهِ تعالى و إرادته.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)و حاصل الدفع أنّ الحوادث السفلية لو كانت مستندة إلى الحركات الفلكية و الكوكبية، فلا بدّ أن تكون تلك الحركات مستندة إلى محرّك، لعدم اقتضاء الجسمية للحركة، و إلاّ لتحرّك كلّ جسم، و لا يمكن أن يكون فلك آخر، للزوم التسلسل المحال، فوجب أن تكون مستندة إلى إرادة قادر مدبر حكيم و هو اللّه تعالى.

ثمّ لمّا كانت تمامية هذا الدليل بمقدّمات عقلية، ختم سبحانه الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور و اللّه لَآياتٍ و أنواع دلالات على توحيد اللّه و عظمته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

ص: 567


1- . في النسخة: ينط.

و قيل: إنّه استدلال مستقلّ على توحيده، و ليس متمّما للدليل السابق؛ لأنّ المشركين لم يكونوا شاكّين في استناد الحوادث الأرضية من نزول الأمطار و إنبات النباتات إلى اللّه، كما قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اَللّهُ (1)و إنّما المقصود من ذكر هذا الدليل أنّ من هذا شأنه لا يجوز أن يتوهّم له شريك من الموجودات.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 13

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال بالآيات الأرضية بقوله: وَ ما ذَرَأَ و خلق لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ من الحيوانات و النباتات مسخرة لكم، أو مسخّر للّه تعالى حال كونه مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و أصنافه أو تراه مختلفا إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير و اللّه لَآيَةً و دلالة واضحة على توحيد المسخّر له لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ و يلتفتون إلى ذلك بأدنى التفات، و لا يغفلون عمّا علموا بالضرورة من العقل، فانّا نرى في حبّة من العنب طبائع مختلفة؛ لقشره طبيعة، و لعجمه طبيعة، و للحمه طبيعة، و لمائه طبيعة، بل نرى في ورقه من الورد ألوانا مختلفة مع كونها في غاية اللطافة و كون تأثير الأنجم و الأفلاك و الهواء و الماء و الشراب فيها واحدا، و الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تؤثر إلاّ أثرا واحدا، فنعلم أنّ المؤثّر في هذا الاختلاف ليس إلاّ الفاعل القادر الحكيم المختار.

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 14

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بعجائب البحر بقوله: وَ هُوَ القادر اَلَّذِي سَخَّرَ لكم اَلْبَحْرَ و جعله تحت تصرّفكم و محلّ انتفاعكم باصطيادكم منه السمك لِتَأْكُلُوا مِنْهُ باصطياده لَحْماً طَرِيًّا و عذبا لطيفا مع كون مائه مالحا زعاقا (2)، و بالغوص فيه لأجل أن تغوصوا فيه وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً و زينة مثل اللؤلؤ و المرجان، فتخيطونها (3)بالثياب، ثمّ تَلْبَسُونَها فكأنها كانت زينة و لباسا، و محلّ انتفاعكم بالركوب و حمل الأمتعة وَ كذا تَرَى اَلْفُلْكَ و السفن مَواخِرَ و جاريات فِيهِ لتركبوها وَ لِتَبْتَغُوا من رزق اللّه، و تطلبوا مِنْ فَضْلِهِ و إنعامه بالتجارة و حمل الأمتعة إلى البلدان و القرى البعيدة وَ لَعَلَّكُمْ تعرفون نعم اللّه و تَشْكُرُونَ أفضاله بالاعتراف بتوحيده و القيام بعبادته.

وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

ص: 568


1- . العنكبوت:29/63.
2- . الزّعاق من الماء: المرّ الغليظ لا يطاق شربه.
3- . في النسخة: فتخوطونهما.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 15 الی 16

ثمّ استدلّ سبحانه بخلق الجبال و فوائدها و خلق الأنهار و السبل بقوله: وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ و جعل عليها جبالا رَواسِيَ و ثوابت كراهة أَنْ تَمِيدَ و تميل الأرض بِكُمْ و تضطرب بحيث لا تستقرّون عليها، أو التقدير لئلاّ تميد بكم وَ جعل أَنْهاراً كثيرة وَ سُبُلاً مختلفة إلى البلدان و القرى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بها إلى مقاصدكم، أو إلى توحيد جاعلها وَ جعل عَلاماتٍ و أمارات لتعيين الطرق بالنهار من جبل و منهل.

وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)و قيل: إنّ جماعة كانوا يشمّون التراب و يتعرّفون السبل (1).

وَ بِالنَّجْمِ في الليل هُمْ يَهْتَدُونَ في البراري و البحار إلى مقاصدهم. قيل: إنّ المراد جنس النجم (2)، و قيل: إنّه الثّريا و الفرقدان و بنات النعش و الجدي (3).

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ الأرض فخرت و قالت: أيّ شيء يغلبني؟ فخلق اللّه الجبال فأثبتها في ظهرها أوتادا، منعتها من أن تميد بما عليها، فذلّت الأرض و أستقرّت» (2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ اللّه جعل الأئمة أركان الأرض أن تميد بأهلها» (3).

و عن الباقر عليه السّلام: «لو أنّ الامام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله» (4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ هو الجدي لأنّه نجم لا يزول، و عليه بناء القبلة، و به يهتدي أهل البرّ و البحر» (5).

و عن الصادق عليه السّلام-في هذه الآية-قال: «لها ظاهر و باطن، الجدي تبنى عليه القبلة، و به يهتدي أهل البرّ و البحر» (6).

و عنهم عليهم السّلام: «نحن العلامات، و النجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (7).

أقول: هذا هو الباطن.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 17 الی 21

ص: 569


1- . تفسير روح البيان 5:21. (2 و 3) . تفسير روح البيان 5:21.
2- . الخصال:442/34، تفسير الصافي 3:129.
3- . الكافي 1:152/1، تفسير الصافي 3:129.
4- . إكمال الدين:203/9، تفسير الصافي 3:129.
5- . تفسير العياشي 3:5/2371، تفسير الصافي 3:129.
6- . تفسير العياشي 3:6/2372، تفسير الصافي 3:129.
7- . تفسير العياشي 3:5/2369، الكافي 1:161/3، تفسير القمي 1:383، مجمع البيان 6:545، تفسير الصافي 3: 129.

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال ببادئع صنعه على توحيده، أنكر على من أشرك به الأصنام بقوله: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ هذه المخلوقات العظيمة النافعة، أو يخلق كلّ شيء يمكن أن يكون كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا؟ لا و اللّه لا يمكن أن يتوهّم العاقل تشابها بينهما أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و لا تلتفتون إلى عدم التشابه الذي هو أوضح من كلّ واضح.

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر بعض نعمه، أشار إلى عموم نعمه بقوله: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ عليكم لا تُحْصُوها و لا تقدرون على تعدادها؛ لعدم إمكان إحاطتكم بجميعها لكثرتها، فانّ كلّ عرق أو عصب في-البدن و إن كان في غاية الصغر-نعمة عظيمة، بحيث لو اختّل أحدها ليتمنّى أن ينفق جميع الدنيا لإزالة ذلك الخلل، مع أنّ الشّظاظ (1)و العروق الصغار في البدن لا يمكن إحصاؤها فكيف بالنّعم الخارجية، فانّ جميع ذرات الموجودات دخيل في مصالحه من غذائه و لباسه و صحته و تكميل نفسه، و أنتم تكفرون بتلك النّعم و إِنَّ اَللّهَ مع ذلك و اللّه لَغَفُورٌ لكفرانكم و رَحِيمٌ بإدامة نعمه عليكم و عدم قطع فضله و إحسانه عنكم.

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ من كفران نعمه من توطنتكم على توهين رسوله صلّى اللّه عليه و آله و تخريب دينه و الاستهزاء بكتابه وَ ما تُعْلِنُونَ و تجهرون من عبادتكم الأصنام، و إيذاء الرسول، و صدّكم الناس عن دين الحقّ.

و قيل: إنّ وجه النّظم أنّه تعالى أثبت وحدانيته في الآيات السابقة بإثبات قدرته الكاملة، و في هذه الآية بسعة علمه.

ثمّ استدلّ على عدم قابلية الأصنام للعبادة بعجزهم و عدم شعورهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ و يعبدون الأصنام مِنْ دُونِ اَللّهِ و متجاوزين عنه لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً و لا يقدرون على إيجاد شيء وَ هُمْ مع ذلك يَخْلُقُونَ بتخليق الغير.

و لو تنزّلنا عن لزوم كون الإله قادرا غير عاجز، و خالقا غير مخلوق، فلا مناصّ من القول بلزوم كون الإله حيا غير ميت، و من الواضح أنّ هؤلاء الأصنام أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ قيل: إنّ المراد أنّهم أموات

ص: 570


1- . كذا، و الظاهر: الشظايا.

لا يكون عقيب موتهم حياة (1). و أيضا لا بدّ من كونه شاعرا لعبادة عابديه عالما بأحوالهم، و هؤلاء الأصنام لا يعلمون بأحوال أنفسهم وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ و في أيّ وقت يحيون و يحشرون.

و إنّما ذكر سبحانه عدم شعورهم بوقت بعثهم مع أنّهم لا يشعرون شيئا، للاشعار بأنّهم يحشرون لازدياد حسرة عابديهم على عبادتهم.

عن ابن عبّاس: أنّ اللّه يبعث الأصنام و لها أرواح و معها شياطينها، فيؤمر بها إلى النار (2).

أقول: إلقاؤها في النّار ليس لتعذيبها، لأنّه لا معصية لها، بل لتعذيب عابديها.

قيل: إنّ اللّه وصف الأصنام بالموت و عدم الشعور مع أنّ الجماد لا يوصف بهما؛ لأنّ المشركين وصفوهم بالالوهية (3)، فحسن أن يقال: ليس الأمر كذلك، بل هي أموات لا شعور لها.

و قيل: إنّ المراد أنّهم لا يشعرون أنّ عبدتهم أيّان يبعثون (4)، فكيف يكون لهم شعور بوقت جزائهم على عبادتهم؟ !

سوره 16 (النحل): آیه شماره 22 الی 23

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد و تزييف عبادة الأصنام، أكّد توحيده في الالوهية بقوله: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إله إلاّ هو بالبراهين الساطعة و الحجج الباهرة، و إذا كان الأمر كذلك فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بوحدانية اللّه مع كمال وضوحها، إنّما هو لكونهم لا يؤمنون بِالْآخِرَةِ و لا يرجون ثواب اللّه على التوحيد، و لا يخافون عقابه على الشرك، و لذا قُلُوبُهُمْ تابعة لهوى أنفسهم، مصرّة على تقليد أسلافهم و نصرة أباطيلهم مُنْكِرَةٌ لكلّ حقّ يخالفه وَ هُمْ مع ذلك مُسْتَكْبِرُونَ عن قبول قول الغير، و مترفّعون عن طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ (23)ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله: لا جَرَمَ و حقا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ و يخفون من الكيد برسوله صلّى اللّه عليه و آله، و يضمرون من التصميم على إهانة أوليائه وَ ما يُعْلِنُونَ و يظهرون من تحزيب الأحزاب و إلقاء الشّبهات في القلوب و غيرهما، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ و لا يريد لهم خيرا، و لا يدفع عنهم شرا، بل يكلهم إلى أنفسهم، ليظهر خبث ذواتهم، و يتناهى طغيانهم و كفرهم.

عن الباقر عليه السّلام، في تأويل الآية: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني الرجعة قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ يعني

ص: 571


1- . تفسير الرازي 20:16. (2 و 3 و 4) . تفسير الرازي 20:16.

كافرة وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يعني عن ولاية عليّ عليه السّلام إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ يعني عن ولاية علي عليه السّلام» (1).

العياشي: مرّ الحسين بن علي عليهما السّلام على مساكين قد بسطوا كساء لهم، و ألقوا [عليه]كسرا، فقالوا له: هلمّ يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فثنى وركه فأكل معهم، ثمّ تلا إِنَّهُ لا يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ (2).

و عن الصادق عليه السّلام: «من يرى أنّ له على الآخر فضلا فهو من المستكبرين» فقيل: إنّما يرى أنّ له فضلا عليه بالعافيّة إذا رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال: «هيهات هيهات، فلعلّه أن يكون قد غفر له ما أتى و هو موقوف يحاسب، أما تلوت قصة سحرة موسى؟» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 24 الی 25

ثمّ حكى سبحانه بعض شبهات المشركين بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ استهزاء بالقرآن ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ و أيّ شيء هذا القرآن الذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و تحدّى به، و جعله دليلا على رسالته، و القائل بعض المشركين. و قيل: إنّه بعض المسلمين (4). و قيل: إنّه بعض الوفد من الحاجّ، قالوا للمقتسمين الذين قعدوا في طرق مكّة لينفّروا الناس عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله (5). و المراد أنّه ما هذا الذي يقال إنّه أنزله ربكم؟

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)قالُوا إضلالا لهم: ليس هو ممّا أنزله اللّه، و لا من المعجزات، بل هو أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أقاصيص السابقين و أباطيلهم، و إنما قالوا ذلك القول الشنيع لِيَحْمِلُوا على ظهورهم أَوْزارَهُمْ و أثقال معاصيهم كامِلَةً و بلا نقص يَوْمَ اَلْقِيامَةِ.

قيل: إنّ المعنى أنّه يكون عاقبة إضلالهم الناس أنّهم يحملون جميع أوزار أنفسهم وَ بعضا مِنْ أَوْزارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (4)لأنّ وزر مطاوعته كان عليه، فانّ الجاهل لا يعذر فيه لتقصيره في البحث و الفحص.

ثمّ ذمّ سبحانه ما يحمله بقوله: أَلا ساءَ و بئس وزرا و حملا ما يَزِرُونَ و ما يتحمّلون من الأثقال، و فيه غاية الزجر عنه.

ص: 572


1- . تفسير القمي 1:383، تفسير العياشي 3:6/2373، تفسير الصافي 3:130.
2- . تفسير العياشي 3:7/2374، تفسير الصافي 3:131.
3- . الكافي 8:128/98، تفسير الصافي 3:131. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:18، تفسير أبي السعود 5:107.
4- . تفسير روح البيان 5:26.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ في عليّ؟ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ سجع أهل الجاهلية في جاهليتهم [فذلك قوله أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و أما قوله] لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ليستكملوا الكفر يوم القيامة وَ مِنْ أَوْزارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ يعني [يتحمّلون]كفر الذين يتولّونهم» (1).

و القمي رحمه اللّه: يحملون آثامهم-يعني الذين غضبوا أمير المؤمنين عليه السّلام-و آثام كلّ من اقتدى بهم (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أيّما داع دعا إلى الهدى فاتّبع، فله مثل اجورهم من غير أن ينقص من اجورهم شيء، و إيّما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليه، فانّ عليه مثل أوزار من أتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم [شيء]» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 26

ثمّ هدّد سبحانه الماكرين برسوله صلّى اللّه عليه و آله بمثل ما نزل على الامم السابقة الذين مكروا برسلهم من العذاب الدنيوي بقوله: قَدْ مَكَرَ الكفّار اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ في الدنيا برسلهم فَأَتَى اَللّهُ بزلازل شديدة بُنْيانَهُمْ الذي بنوه ليمكروا به أنبياءهم فقلعه مِنَ اَلْقَواعِدِ و الأساطين فَخَرَّ و سقط عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ الذي كان لذلك البنيان مِنْ فَوْقِهِمْ فلهكوا جميعا بحيث لم ينج منهم أحد وَ أَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ و من وجه لا يتوقّعون.

قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)قيل: إنّ المراد نمرود، فإنّه بنى صرحا و قصرا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع، و عرضه فرسخان، ليقابل (4)عليه من في السماء و يطّلع على إله إبراهيم، فهبّت عليه ريح هائلة فألقت رأسه في البحر، و خرّ الباقي عليهم، فلمّا سقط الصّرح تبلبلت الألسن من الفزع يومئذ، يعني اختلفت اللغات فلم يفهم أحد لسان الآخر (5).

و قيل: إنّ اللّه شبّه حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكائد و المنصوبات التي أرادوا بها الايقاع بالرسل، و في إبطاله تعالى تلك الحيل و المكائد، و جعله إيّاها سببا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانا و عمّدوه بالأساطين، فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف فهلكوا (6)،

ص: 573


1- . تفسير العياشي 3:7/2377، تفسير الصافي 3:131.
2- . تفسير القمي 1:383، تفسير الصافي 3:131.
3- . مجمع البيان 6:549، تفسير الصافي 3:131.
4- . في تفسير روح البيان: ليقاتل.
5- . تفسير روح البيان 5:27.
6- . تفسير أبي السعود 5:108.

فخوّف اللّه الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطير بأنّه سيأتيهم من العذاب مثل ما أتاهم و هم لا يحتسبون إتيانه، بل يتوقّعون ما يشتهون.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 27

ثمّ هدّدهم بالعذاب الاخروي بقوله: ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ و يذلّهم بالعذاب، أو يفضحهم على رؤوس الأشهاد بأن يخاطبهم وَ يَقُولُ لهم تفضيحا و تقريعا و استهزاء: أَيْنَ الذين هم شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ في الدنيا تُشَاقُّونَ و تخاصمون أنبيائي و أوليائي فِيهِمْ و في الوهيتهم مع أنّهم أقاموا البراهين على عدم جواز عبادتهم، فاليوم أدعوهم ليشفعوا لكم (1)، و يدفعوا العذاب عنكم؟ فلم يقدروا على الجواب، فعند ذلك قالَ الملائكة كما عن ابن عبّاس، أو المؤمنون أو الأنبياء (2)اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ بالتوحيد و المعارف في الدنيا بالبراهين و المكاشفة توبيخا عليهم و شماتة لهم و تقريرا لما كانوا يهدّدونهم به: إِنَّ اَلْخِزْيَ و الفضيحة و الهوان اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ و العذاب عَلَى اَلْكافِرِينَ باللّه و بآياته و رسله.

ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكافِرِينَ (27)القميّ: الذين اوتوا العلم الأئمة عليهم السّلام، يقولون لأعدائهم: أين شركاؤكم و من أطعتموهم في الدنيا (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 28 الی 29

ثمّ خصّ سبحانه المستحقّين للخزي و العذاب بالذين يموتون على الكفر بقوله: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ و تقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكلون على قبض الأرواح، أو على تعذيب العصاة حال كونهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ باختيار الكفر و تعريضها للعذاب فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ و أظهروا الانقياد و أقرّوا للّه بالعبودية و قالوا كذبا و تخليصا لأنفسهم: ما كُنّا في الدنيا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ و نقول بالشرك. فقال اللّه، أو الملائكة ردّا عليهم: بَلى قلتم بالشرك و إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الشرك و تكذيب الرسل، فيجازيكم عليه أشدّ الجزاء، و لا ينفعكم هذا الكذب.

اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ (29)

ص: 574


1- . في النسخة: ليشفعوكم.
2- . تفسير الرازي 20:21.
3- . تفسير القمي 1:384، تفسير الصافي 3:132.

ثمّ يقال لهم: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي باب منها شئتم، أو كلّ فرقة منكم من باب حال كونكم خالِدِينَ فِيها غير خارجين منها أبدا فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ عن قبول التوحيد و تبعية الأنبياء.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 30

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء مقال الكفّار و سوء عاقبتهم، بيّن حسن مقال المؤمنين و حسن عاقبتهم بقوله: وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا الشرك و عصيان الرسول تفتيشا عن دين الاسلام، و تحقيقا عن حال القرآن ما ذا القرآن الذي أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيّكم؟

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ اَلدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ (30)روي أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أمام موسم الحجّ من يأتيهم بخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فاذا جاء الوفد لقيه (1)المقتسمون الذين اقتسموا طرق مكة، و أمروه بالانصراف و قالوا: إن لم تلقه كان خيرا لك، فانّه ساحر كاهن كذاب [مجنون]. فيقول: أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن استطلع أمر محمد و أراه. فيلقى أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيخبرونه بصدقه، فذلك قوله: وَ قِيلَ أي من طرف الوافدين للذين آمنوا: ماذا أنزل ربكم؟ قالُوا: أنزل ربنا خَيْراً و كتابا حقا (2).

و يحتمل أن يكون المراد بالخير المعارف و الأحكام المؤدية إلى كلّ خير في الدنيا و الآخرة، فيكون من إطلاق المسبّب على سببه، أو من باب المبالغة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «عليكم بتقوى اللّه فانّها تجمع الخير و لا خير غيرها، و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا و الآخرة [قال اللّه عزّ و جلّ] وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا إلى آخره» (3).

ثمّ بيّنوا وجه الخيرية بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في العقائد و الأعمال فِي هذِهِ اَلدُّنْيا تكون حَسَنَةٌ في الآخرة من الجنة و النعم الدائمة و الراحة الأبدية، أو المراد أنّه يكون لهم في هذه الدنيا حسنة من المدح و الثناء و التعظيم و الغلبة على الأعداء بالحجّة و الألطاف الخاصّة الإلهية و الانس باللّه و الانقطاع عمّا سواه وَ باللّه لَدارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ و أفضل من دار الدنيا، وَ باللّه لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ دار الآخرة.

و عن الباقر عليه السّلام: «وَ لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ الدنيا» (4).

ص: 575


1- . في تفسير روح البيان: الوافد كفه.
2- . تفسير روح البيان 5:29.
3- . أمالي الطوسي:25/31، تفسير الصافي 3:133.
4- . تفسير العياشي 3:8/2383، تفسير الصافي 3:133.

و قيل: إنّ قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الى آخره، هو كلام اللّه تقريرا لقول المتقين خيرا (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 31 الی 32

ثمّ شرح سبحانه دار المتقين و بيّنها، قيل: كأنّه قيل: أي دار هذه الدار الممدوحة؟ فأجاب سبحانه بأنّها جنات خاصة تسمّى جَنّاتُ عَدْنٍ (2)هي وسط الجنان. و قيل: يعني جنّات إقامة و خلود (3)يَدْخُلُونَها لها قصور مرتفعة و أشجار مثمرة كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المذكورة في سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله (4)، و لَهُمْ خاصة فِيها ما يَشاؤُنَ من المشتهيات النفسانية و الروحانية كَذلِكَ الجزاء الجزيل يَجْزِي اَللّهُ الكريم اَلْمُتَّقِينَ في الآخرة على إيمانهم و تقواهم.

جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اَللّهُ اَلْمُتَّقِينَ (31) اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)ثمّ بيّن سبحانه أنّ المراد بالمتقين هم الذين استمرّوا على التقوى إلى الموت بقوله: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ و تقبض أرواحهم اَلْمَلائِكَةُ الموكلون بقبض أرواح المؤمنين، و هم ملائكة الرحمة، حال كونهم طَيِّبِينَ و طاهرين من دنس الشرك و المعاصي، أو طيبة (5)أنفسهم بالموت، مشتاقين إلى لقاء اللّه و رضوانه، أو ببشارة الملائكة إياهم بالجنة.

و القمي قال: هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم (6)، فاذا كانوا كذلك فالملائكة يَقُولُونَ لهم تعظيما و تبشيرا: سَلامٌ من اللّه، أو منّا عَلَيْكُمْ أيّها المؤمنون، لا خوف عليكم بعد هذا اليوم من مكروه.

و قيل: إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السّلام عليك يا وليّ اللّه، اللّه يقرئك السّلام (7)، و قالت لهم [الملائكة]: إذا بعثتم في القيامة اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ فانّها معدّة لكم مشتاقة إليكم، أو قالت لهم: ادخلوا الجنة الآن بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من طاعة اللّه و ترك المعاصي.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أيّ المنزلين يصير؛ إلى الجنة أم النار، أعدوّ هو للّه أو وليّ، فان كان وليا للّه فتحت له أبواب الجنة، و شرعت له طرقها، و نظر إلى ما أعدّ اللّه [له فيها]ففزع من كلّ شغل، و وضع عنه كلّ ثقل، و إن كان عدوا للّه فتحت

ص: 576


1- . تفسير الرازي 20:24.
2- . تفسير الرازي 20:25.
3- . تفسير الصافي 3:133.
4- . سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله:47/15.
5- . في النسخة: طيبين.
6- . في تفسير القمي 1:385، تفسير الصافي 3:133.
7- . تفسير روح البيان 5:31.

له أبواب النار، و شرعت له طرقها، و نظر إلى ما اعدّ اللّه له فيها، فاستقبل كلّ مكروه و نزل كلّ شرور، و كلّ (1)هذا يكون عند الموت، و عنده يكون اليقين (2)، قال اللّه: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ الى آخره، و قال: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 33 الی 34

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية طعن المشركين في القرآن الذي هو أعظم المعجزات، و تهديدهم بالعذاب، بيّن إصرارهم على الشرك و الكفر مع عدم العذر لهم في ترك الايمان بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ و يتوقّعون في ترك الايمان بالنبي و كتابه شيئا إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ الموكّلون بقبض أرواحهم، أو ليشهدوا بصدقهما أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ و عذابه، أو حكمه بنزول العذاب، مع أنّ عند أحد الأمرين لا ينفع الايمان كَذلِكَ الإصرار على الكفر و معارضة الرسول فَعَلَ الامم الكافرة اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ فابتلوا بالعذاب وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ بتعذيبهم، لأنه كان حقّهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإصرارهم على الكفر و الطغيان الموجب لنهاية استحقاقهم له فَأَصابَهُمْ و وصل إليهم سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا و جزاء ما فعلوا وَ حاقَ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الموعود.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 35

ثمّ أنه تعالى بعد حكاية شبهتهم في النبوة و طعنهم في القرآن، حكى استدلالهم على صحة شركهم و بدعهم بقوله: وَ قالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا نحن مجبورون من قبل اللّه في عقائدنا و أعمالنا، فلا يصدر منا إلاّ ما أراد اللّه و لَوْ شاءَ اَللّهُ أن لا نعبد الأصنام، و لا نحرّم السائبة و أخواتها ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ و ممّا سواه مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فلمّا عبدنا الأصنام

وَ قالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اَللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ (35)

ص: 577


1- . في أمالي الطوسي: و ترك كل سرور، كل.
2- . في النسخة: بيقين.
3- . أمالي الطوسي:27/31، تفسير الصافي 3:133، و الآية من سورة النحل:16/28.

و حرّمنا ما حرّمنا علينا، إنّه تعالى أراد منّا تلك العبادة و الحرمة.

ثمّ أبطل اللّه دليلهم بقوله: كَذلِكَ الاستدلال الذي فعل هؤلاء المشركون فَعَلَ المشركون اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِهِمْ فابتلوا بالعذاب الذي هو أدلّ الدلائل على عدم رضائه تعالى بفعلهم، و قد بلّغهم الرسل ذلك فَهَلْ الواجب عَلَى اَلرُّسُلِ شيء إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و البيان الموضح للحقّ، و قد أدوا ما عليهم، و لم يكن لهم و عليهم إجبار الناس على قبول قولهم.

و اعلم أنّ الآية و أضربها أدلّ دليل على بطلان القول بالجبر كما عليه الأشاعرة، و العجب من بعضهم أنّه قال: هذا الكلام، صدر عنهم استهزاء، و لو قالوه اعتقادا لكان صوابا (1). و قال آخر منهم: لو قالوه معرفة باللّه و تعظيما له، لما كان فيه عيب (2).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 36

ثمّ أنّه تعالى بعد الاشارة إلى تبليغ الرسل بطلان الشرك و عدم رضا اللّه به، و تعذيب القائلين به، صرّح بالأمرين بقوله: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الامم رَسُولاً خاصا بهم أو عاما، كما بعثنا في هذه الامّة، و كانت رسالتهم أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وحده و لا تشركوا به شيئا وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ و ما يبعثكم إلى الطغيان من الشيطان، و الدّعاة إلى الشرك، و أمّا اممهم فتفرّقوا فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ و وفّقهم لقبول دعوة الرسل و الإقرار بالتوحيد و نفي الأنداد وَ مِنْهُمْ مَنْ شمله الخذلان و حَقَّتْ و ثبتت عَلَيْهِ اَلضَّلالَةُ.

وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (36)عن القمي: و رسخ في قلبه الشرك فلم يتّعظ بمواعظ الرسول إلى الموت، و ابتلى كثير منهم بالعذاب (3).

فان لم تصدّقوني فَسِيرُوا أيّها الناس فِي اَلْأَرْضِ و سافروا في أطرافها فَانْظُرُوا بعين الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ للرسل و كتبهم، كي تعتبروا من مشاهدة آثار العذاب في ديارهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 37

ص: 578


1- . تفسير روح البيان 5:32.
2- . تفسير روح البيان 5:32.
3- . لم نجده في تفسير القمي.

ثمّ بيّن سبحانه رسوخ الشرك في قلوب مشركي عصر النبيّ بقوله: إِنْ تَحْرِصْ يا محمّد عَلى هُداهُمْ و تجتهد كلّ الجهد في إيمانهم و هدايتهم، لم يفد شيئا فَإِنَّ الهداية و الضلالة بيد اللّه و اَللّهَ لا يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ يُضِلُّ عنه بخذلانه، فيبتلون بالعذاب في الآخرة، أو فيها و في الدنيا وَ ما لَهُمْ أحد مِنْ ناصِرِينَ يدافع عنهم بشفاعة أو قوة قهرية.

ثم أنّه تعالى بعد حكاية إنكارهم التوحيد، حكى إنكارهم البعث مقسمين عليه بقوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ و أغلظها، على أنّه لا يَبْعَثُ اَللّهُ من في القبور للحساب و الجزاء مَنْ يَمُوتُ في الدنيا.

قيل: إنّهم أنكروا النبوة لا دعائهم لغويّته إذا لم يكن دار جزاء، و لمّا لا تكون دار جزاء فلا يكون نبوّة (1)، فردّ اللّه عليهم بقوله: بَلى يكون دار جزاء، و يبعث اللّه من يموت البتة، لأنّه تعالى حسب حكمته وعد به وَعْداً ثابتا عَلَيْهِ إنجازه، لامتناع الخلف في وعده، و حقّ البعث عليه حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ بالبعث لجهلهم بقدرة اللّه و حكمته المقتضية لوجوبه عليه لِيُبَيِّنَ و يميّز لَهُمُ المطيع و العاصي، و المحقّ و المبطل، و الظالم و المظلوم و غيرها من الحق اَلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ و يتنازعون في شأنه وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بإنكار التوحيد و النبوة و البعث و تكذيب وعد اللّه و رسله أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كاذِبِينَ في جميع (2)ما يقولون، و في حلفهم باللّه على عدم البعث.

ثمّ استدلّ سبحانه بكمال قدرته على إمكان البعث بقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ جليل أو حقير أو عزيز أو هيّن إِذا اقتضى الصلاح وجوده و أَرَدْناهُ هو أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ و نفيض عليه الوجود فَيَكُونُ و يوجد بلا حاجة إلى مادة و مدّة و معين و آلة و دفع مانع و معارض، فمن كان نفاذ إرادته بهذه المثابة، كيف يمتنع عليه إعادة الخلق بعد إيجادهم أولا بغير مثال مع أنّ الاعادة أهون؟ .

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام أنّه قال لأبي بصير: «ما تقول في هذه الآية وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ

ص: 579


1- . تفسير الرازي 20:31.
2- . في النسخة: جمع.

أَيْمانِهِمْ قال: إنّ المشركين يزعمون و يحلفون باللّه أنّ اللّه لا يبعث الموتى. فقال: «تبا لمن قال هذا، سلهم هل كان المشركون يحلفون باللّه أم باللات و العزّى؟» .

قال: قلت: جعلت فداك، فأوجدنيه. فقال: «يا أبا بصير، لو قد قام قائمنا بعث اللّه قوما من شيعتنا (1)، سيوفهم على عواتقهم، فيبلغ [ذلك]قوما من شيعتنا لم يموتوا و يقولون: بعث فلان و فلان من قبورهم و هم مع القائم، فيبلغ ذلك قوما من عدوّنا فيقولون: يا معشر الشيعة، ما أكذبكم! هذه دولتكم و أنتم تقولون فيها الكذب؟ لا و اللّه ما عاش هؤلاء و لا يعيشون إلى يوم القيامة. [قال:]فحكى اللّه قولهم فقال: وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اَللّهُ مَنْ يَمُوتُ» (2)

و في رواية العياشي عنه عليه السّلام ما يقرب من ذلك (3).

و القمي عنه عليه السّلام أنّه قال: «ما يقول هؤلاء في هذه الآية» ؟ قيل: يقولون نزلت في الكفّار. قال: «إنّ الكفار لا يحلفون باللّه، و إنّما انزلت في قوم من أمّة محمّد قيل لهم: ترجعون بعد الموت قيل يوم القيامة، فيحلفون أنّهم لا يرجعون، فردّ اللّه عليهم فقال: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ يعني في الرجعة يردّهم فيقتلهم و يشفي صدور قوم مؤمنين» (4).

أقول: الظاهر أنّ المراد في الروايات بيان تأويل الآية، و المراد من قوله: «تبا لمن قال هذا» يعني قال بانحصار المراد فيه.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 41

ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء عقائد المشركين، أشار إلى سوء معاشرتهم للمسلمين و إيذائهم لهم، و رغّبهم في الهجرة من بلادهم بقوله: وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا من مكة و أوطان المشركين من المسلمين فِي سبيل اَللّهِ و طلبا لرضاه، و حفظا لدينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا و اوذوا في سبيلي لَنُبَوِّئَنَّهُمْ و لننزلنّهم فِي اَلدُّنْيا مباءة (5)و منزلة حَسَنَةً مرضيّة. قيل: هي المدينه المنورة حيث آواهم أهلها و نصروهم (6).

وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا فِي اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)روي عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في ستة نفر من الصحابة: صهيب، و بلال، و عمّار، و خبّاب،

ص: 580


1- . زاد في الكافي: قباع، و في الصافي: قبايع، و المراد جمع قبيعة: و هي ما على طرف مقبض السيف من فضّة أو ذهب.
2- . الكافي 8:50/14، تفسير الصافي 3:135.
3- . تفسير العياشي 3:9/2385.
4- . تفسير القمي 1:385، تفسير الصافي 3:135.
5- . في النسخة: مبواتا.
6- . تفسير الرازي 20:34، تفسير روح البيان 5:36.

و عابس و جبير موليين لقريش، فجعلوا يعذّبونهم ليردوهم عن الاسلام، أمّا صهيب فقال لهم: إني رجل كبير، إن كنت لكم لم أنفعكم و إن كنت عليكم لم أضرّكم، فافتدى منهم بماله، فلمّا رآه أبو بكر قال: ربح البيع يا صهيب، و أمّا سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر و الرجوع عن الاسلام، فتركوا عذابهم، ثمّ هاجروا (1).

و قيل: نزلت في المهاجرين إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة، فجمعوا بين الهجرتين (2).

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا رأى ما نزل بالمسلمين من توالي العذاب عليهم من كفّار قريش، قال لهم: «تفرّقوا في الأرض، فانّ اللّه سيجمعكم» . قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: «اخرجوا إلى الحبشة، فان بها ملكا عظيما لا يظلم عنده أحد، و هي أرض صدق، حتّى يجعل اللّه لكم فرجا ممّا أنتم فيه» . فهاجر إليها ناس ذو عدد، قيل: كانوا فوق ثمانين، مخافة الفتنة و فرارا إلى اللّه تعالى بدينهم (3).

ثمّ وعدهم بالأجر الاخروي بقوله: وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ المعدّ لهم بإزاء الهجرة أَكْبَرُ و أعظم ممّا يعجّل لهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ عظم قدر أجر الآخرة لازدادوا في الصبر و المجاهدة.

و قيل: إنّ ضمائر الجمع راجعة إلى الكفار، و المعنى: لو علم الكفّار أنّ اللّه تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدار لكفّوا عن أذاهم و وافقوهم في الدين (4).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 42 الی 44

ثمّ وصف اللّه المهاجرين و مدحهم بقوله: اَلَّذِينَ صَبَرُوا على أذى المشركين و مفارقة الوطن الذي هو حرم اللّه، و المجاهدة ببذل الأموال و الأنفس و سائر الشدائد في سبيل اللّه وَ عَلى رَبِّهِمْ اللطيف بهم خاصّة يَتَوَكَّلُونَ في جميع امورهم.

اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)ثمّ لمّا كان من شبهات المشركين في النبوة أنّ اللّه أعلى و أجلّ من أن يكون رسوله بشيرا، بل لو أراد إرسال رسول لأرسل ملكا من الملائكة، لأنّهم أشرف من البشر و إخباره أقرب إلى القبول، فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا إلى سائر الامم مِنْ قَبْلِكَ و في الأزمنة السابقة على بعثتك رسلا إِلاّ كانوا رِجالاً من البشر يأكلون و يشربون و ينكحون، و المائز بينهم و بين غيرهم أنّا نُوحِي

ص: 581


1- . تفسير الرازي 20:34.
2- . تفسير روح البيان 5:35.
3- . تفسير روح البيان 5:36.
4- . تفسير الرازي 20:34، تفسير البيضاوي 1:545، تفسير أبي السعود 5:115، تفسير روح البيان 5:36.

إِلَيْهِمْ بواسطة الملك، و قل يا محمّد لهم: إن لم تصدّقوا ذلك فَسْئَلُوا عن صدق ما أخبركم أَهْلَ اَلذِّكْرِ و العلم بأحوال الرسل الماضية و الكتب السماوية حتى تعلموا صدق ما أخبركم به إِنْ كُنْتُمْ في الواقع لا تَعْلَمُونَ بذلك.

ثمّ كأنّ قائلا قال: بما أرسل الرجال الموحى إليهم؟ فأجاب سبحانه: بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات وَ اَلزُّبُرِ و الكتب.

و قيل: إنّ الجار و المجرور متعلّقان ب(نوحي) و المعنى: نوحي إليهم بالبينات (1)من العلوم و المعارف و الأخلاق و الأحكام، و بالزّبر و الكتب السماوية. أو متعلّقان ب(تعلمون) و المعنى: إن كنتم لا تعلمون بالكتب السماوية و الدفاتر المعروفة المتضمّنة لذكر أحوال الأنبياء السابقة.

قيل: إنّهما متعلّقان ب(الذكر) و المعنى: فأسألوا أهل الذكر بالبينات و الزّبر، إن كنتم لا تعلمون بها (2).

عن الباقر عليه السّلام، قيل له: إن من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ أنّهم اليهود و النصارى؟ قال: «اذا يدعوكم (1)إلى دينهم» ثمّ أومأ إلى صدره و قال: «نحن أهل الذكر و نحن المسؤولون» (2).

و عن السجاد عليه السّلام: «على الائمة [من]الفرض ما ليس على شيعتهم، و على شيعتنا ما ليس علينا، أمرهم اللّه أن يسألونا، قال: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فأمرهم أن يسألونا، و ليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا، و إن شئنا أمسكنا» (3).

أقول: لا شبهة أنّ الآية في المحاجّة مع المشركين و إلزامهم على ما هو طريقة العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم، و المراد بالعلماء في عصر النزول هم المطّلعون على أحوال الرسل، فلا بدّ من حمل الروايتين على بيان عدم اختصاص أهل الذكر بعلماء أهل الكتاب، بل المراد عموم العلماء، و وجوب السؤال عنهم عن جميع المطالب، فلو وجب الرجوع إلى أهل الكتاب في جميع المطالب حتى الأحكام لأجابوا بأحكام دينهم و دعوكم إلى العمل بها، فالمؤمنون مأمورون بالسؤال من علماء الاسلام، و الأئمّة أظهر مصاديقهم، بل هم المتعيّنون من بينهم؛ لأنّ علمهم مأخوذ من الرسول و القرآن، و علم غيرهم مأخوذ من أفواه الرجال.

عن الرضا عليه السّلام: «قال اللّه تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اَللّهِ (4)فالذكر

ص: 582


1- . في البصائر: يدعونهم.
2- . تفسير العياشي 3:11/2391، بصائر الدرجات:61/17، تفسير الصافي 3:137.
3- . الكافي 1:165/8، تفسير الصافي 3:137.
4- . الطلاق:65/10 و 11.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نحن أهله» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: «الذكر القرآن، و أهله آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله» (2).

أقول: يحتمل أن يكون المراد بيان شرفهم لا تفسير هذه الآية.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الرسول نفسه أهل الذكر بقوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ و القرآن الذي هو تذكرة و تنبيه للغافلين لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ كافة من العرب و العجم، و الأسود و الأبيض ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من ربّهم من العلوم و المعارف و الأحكام و أحوال الماضين، و هلاك كثير منهم بالعذاب، بتلاوة هذا الكتاب عليهم، وَ توضيحك، لمعانيه لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في مطالبه العالية من المعارف و المواعظ و العبر، و ما فيه من وجوه الإعجاز حتّى يرتدعوا عمّا هم عليه من الكفر و اللّجاج و اتّباع الشهوات، و يؤمنوا بتوحيد اللّه و صحّة نبوتك و صدق كتابك.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 45 الی 47

ثمّ هدّد المشركين الماكرين بالرسول صلّى اللّه عليه و آله الساعين في الفساد بين المسلمين بقوله: أَ فَأَمِنَ المشركون اَلَّذِينَ مَكَرُوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله المكر اَلسَّيِّئاتِ و سعوا خفية في إيذائه و إطفاء نوره من أَنْ يَخْسِفَ اَللّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ كما خسفها بقارون لا يذائه موسى عليه السّلام أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ كالصيحة و الصاعقة من السماء مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ به و لا يترقبون له أَوْ يَأْخُذَهُمْ اللّه و يأتيهم بالعذاب و هم فِي حال تَقَلُّبِهِمْ و ذهابهم و إيابهم في الأسفار و التجارة و تنظيم امور الدنيا.

أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اَللّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)و قيل: يعني في حال تفكّرهم في طرق المكر و وجوه الكيد بك (3).

فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اللّه من تعذيبهم بالهرب منه، أو التحصّن بحصن منيع، أو معارضتة بالأنصار أَوْ يَأْخُذَهُمْ بالعقوبة، و هو عَلى حال تَخَوُّفٍ و تحذّر من العذاب الذي رأوا ابتلاء قوم به فصاروا وجلين من ابتلائهم به، أو على أن ينتقصوا في أنفسهم و أموالهم شيئا فشيئا حتّى يهلكوا، و المراد من ذكر الوجوه المذكورة بيان قدرته تعالى على إهلاكهم بأيّ وجه، و لمّا كان حال التقلّب

ص: 583


1- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1:239/1، تفسير الصافي 3:137.
2- . تفسير الصافي 3:137.
3- . تفسير الرازي 20:38.

و التخوّف معرضا للفرار، عبّر عن إصابتهم بالعذاب بالأخذ، و في غيرهما بالاتيان.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة إمهالهم و تأخير عذابهم بقوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ أيّها المشركون و اللّه لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة، و يمهلكم مع كمال الاستحقاق لها.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 48

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بأنواع العذاب، و كان الخوف متوقّفا على العلم بكمال القدرة، بيّن سعة قدرته، و يحتمل أن يكون وجه النظم أنّه تعالى بعد تهديد المشركين بيّن كمال قدرته و نهاية عظمته و مهابته، ازديادا للرعب في القلوب بقوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا و التقدير على الأول: ألم يتبيّن لهم كمال قدرة اللّه و لم يروا، و على الثاني: ألم يخافوا اللّه، و لم ينظروا إِلى ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ له ظلّ كيف يَتَفَيَّؤُا و يرجع ظِلالُهُ و فيؤه شيئا فشيئا عَنِ اَلْيَمِينِ إلى الشمائل وَ عن اَلشَّمائِلِ حال كونهم (1)سُجَّداً و منقادين و خاضعين لِلّهِ مقهورين لإرادته وَ هُمْ داخِرُونَ و صاغرون و مذلّلون تحت مشيئته، و إنّما أضاف سبحانه الظلال إلى ضمير المفرد مع أنّ المراد ذوي الظلّ و هي كثيرة اعتبارا بلفظ الشي، كما أنّ توصيف الظلال بالجمع و إرجاع ضمير الجمع إليه اعتبارا بمعنى الظلال، و هو كثير.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اَللّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ (48)و قيل: إنّ المراد باليمين يمين الفلك، و هو المشرق، لكونه أقوى الجانبين (2)منه؛ لأنّ منه تظهر الحركة القوية للفلك، فاذا طلعت الشمس حدث لكلّ شيء قائم على وجه الأرض ظلّ في طرف المغرب، و هو شمال الفلك، فكأنّه رجع من اليمين الى الشمال، فكلّما ارتفعت الشمس ينقص ذلك الظلّ و يرجع شيئا فشيئا إلى أن تبلغ وسط الفلك، فحينئذ ينعدم من الطرف، و يحدث أو يرجع في طرف المشرق، و هو معنى (عن الشّمائل) ثمّ يزداد شيئا فشيئا، فالرجوع من طرف اليمين واحد، و هو حدوث الظلّ في أوّل طلوع الشمس أو أوّل الزوال، و من طرف الشمال كثير باعتبار نقاط الأرض حين النقص، و لذا أفرد لفظ اليمين و جمع الشمال، و لعلّ إلى ما ذكرنا يرجع ما قيل من أنّ إفراد لفظ اليمين لأنّ نقطة مشرق الشمس واحدة، و أمّا الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على وجه الأرض، و هي كثيرة (3).

و قيل: إنّ لكلّ شيء يمينا و شمالا، و هما جانباه، استعارة من يمين الانسان و شماله، و ذكر اليمين

ص: 584


1- . في النسخة: كونها.
2- . تفسير الرازي 20:41.
3- . تفسير الرازي 20:42.

مفردا و الشمال جمعا، لأنّ العرب إذا ذكرت صيغتي الجمع عبّرت عن أحدهما بلفظ المفرد (1).

و أمّا سجود الأظلال فهو انقيادها و استسلامها لإرادة اللّه المتعلّقة بحركات الشمس موافقة للحكمة و حسن النظام. و قيل: إنّه انبساطها على وجه الأرض ملتصقة بها كهيئة الساجد (2). و لذا قيل: ظلّك يسجد اللّه و أنت لا تسجد له (3).

و أمّا إرجاع ضمير العقلاء إليها مثل: (هم) و (الواو و النون) فلاسناد فعل العقلاء إليها، و يمكن أن يكون بلحاظ أنّ جميع الموجودات في نظره تعالى شاعرون عاقلون، و إن كانوا في نظر الظاهر غير شاعرين.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 49 الی 50

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر سجود الظلال لعظمته، ذكر سجود الحيوانات و الملائكة له بقوله: وَ لِلّهِ العظيم وحده يَسْجُدُ و يخضع ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ.

وَ لِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)ثمّ بيّن أنّ المراد بما في الأرض بقوله: مِنْ دابَّةٍ و كلّ ما يتحرّك على وجه الأرض، كما عن ابن عبّاس (4).

ثمّ بيّن المراد بما في السماوات بقوله: وَ اَلْمَلائِكَةُ.

و قيل: إنّ المراد من الدابة كلّ ما يتحرّك بالإرادة (5)فيشمل الملائكة.

و قيل: إنّ المراد بما في السماوات جميع ما خلق فيها. و على القولين يكون ذكر الملائكة من باب ذكر الخاص بعد العام إظهارا لشرفهم و فضلهم.

و قيل: إنّ المراد بما في السماوات الخلق الذي يقال له الروح، و المراد من الملائكة جميعهم (6).

و قيل: إنّ المراد من ما فِي اَلسَّماواتِ ملائكة السماوات، و من اَلْمَلائِكَةُ المذكور في الآية ملائكة الأرض كالحفظة و غيرهم (7).

وَ هُمْ مع عظم خلقهم و علوّ شأنهم و رفعة مقامهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن السجود للّه و غاية الخضوع له و يَخافُونَ رَبَّهُمْ و مليكهم الذي هو مِنْ فَوْقِهِمْ بالقهر و الغلبة خوف المهابة و الإجلال.

ص: 585


1- . تفسير روح البيان 5:40.
2- . تفسير الرازي 20:43، تفسير أبي السعود 5:118.
3- . تفسير الرازي 20:43.
4- . تفسير الرازي 20:44.
5- . تفسير روح البيان 5:41. (6 و 7) . تفسير أبي السعود 5:119.

و قيل: يعني يخافون ربّهم من أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم (1). و على التقديرين هو تقرير لقوله: من يخاف اللّه لا يستكبر عن عبادته.

وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ به من الطاعات و التدبيرات، و إنما لم يذكر الآمر و هو اللّه لمعلوميته، و لإظهار العظمة و الجلالة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ للّه ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم اللّه إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة اللّه، لا تقطر من دموعهم قطرة إلاّ صارت ملكا، فاذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم و قالوا: ما عبدناك حقّ عبادتك» (2).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 51

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيده، و بيان عظمته و قدرته و مهابته، نهى عن الشرك بقوله: وَ قالَ اَللّهُ لجميع العقلاء بلسان جميع رسله و دلالة آيات توحيده لا تَتَّخِذُوا مع اللّه إلها آخر، فيكون مختاركم في العبادة إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ بداهة كون التعدّد و التثنّي منافيا للالوهية التي لا تكون إلا لواجب الوجود الذي يمتنع أن يجامع الحدود التي هي تلازم الاثنينية، فإذا ثبت ذلك فالهكم و معبودكم بالاستحقاق إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له و لا ندّ، فاذا علمتم أيّها الناس توحيدي و قدرتي و عظمتي و عدم رضاي بالاشتراك، إن كنتم راهبين من شيء فَإِيّايَ خاصة فَارْهَبُونِ لعدم قدرة أحد على الاضرار على أحد مع سلطنتي في عالم الوجود و قاهريّتي على جميع الممكنات، و إنما عدل سبحانه من الغيبة إلى الحضور لتربيتة المهابة في القلوب.

وَ قالَ اَللّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (51)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 52 الی 55

ثمّ بالغ سبحانه في تقرير الوهيّته و عظمته بقوله: وَ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ خلقا و تدبيرا و سلطانا وَ لَهُ اَلدِّينُ و الطاعة و الانقياد واصِباً و واجبا كما عن الصادق عليه السّلام (3)، أو دائما أو ثابتا (4).

وَ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اَللّهِ تَتَّقُونَ (52) وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

ص: 586


1- . تفسير الرازي 20:45، تفسير البيضاوي 1:546، تفسير أبي السعود 5:119.
2- . مجمع البيان 6:562، تفسير الصافي 3:139.
3- . تفسير العياشي 3:13/2396، تفسير الصافي 3:140.
4- . تفسير الرازي 20:49، تفسير أبي السعود 5:120، تفسير روح البيان 5:42، و فيه: واجبا ثابتا.

و قيل: إنّ له الدين ذا كلفة، أو له الجزاء الذي لا انقطاع له (1)أَ فَغَيْرَ اَللّهِ بعد تقرير الشؤون المذكورة له تَتَّقُونَ و تطيعون.

ثمّ أكدّ استحقاقه الطاعة و العبادة بقوله: وَ ما أحاط بِكُمْ أو يكون لكم شيء مِنْ نِعْمَةٍ أيّ نعمة كانت فَمِنَ فضل اَللّهِ هي لا من غيره.

عن الصادق عليه السّلام: «من لم يعلم أنّ للّه عليه من نعمة [إلاّ]في مطعم أو ملبس، فقد قصر عمله و دنا عذابه» (2).

ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ أقل مساس فَإِلَيْهِ تعالى خاصه تَجْئَرُونَ و تتضرعون في كشفه عنكم، و به تستغيثون بصوت عال لخلاصكم منه.

ثُمَّ إِذا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ بعد تضرّعكم إليه إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ و مالكهم اللطيف بهم يُشْرِكُونَ مع أنّ ترتيب الشرك الذي هو أبغض عنده من كلّ سوء على إنعامه عليهم بالنّعم الكثيرة و إعانتهم في كشف الضرّ غاية الكفران و نهاية القباحة، بل كأنّهم لشقاقهم معنا اختاروا الشرك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النّعم و كشف الضرّ.

ثمّ هدّدهم على كفرانهم بقوله: فَتَمَتَّعُوا أيّها الفرقة الكافرة، و انتفعوا باللذائذ الدنيوية أياما قليلة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ سوء عاقبة كفرانكم، و هو ابتلاؤكم بأشدّ العذاب، و في الالتفات من الغيبة إلى الخطاب أذان بغاية السّخط، و تأكّد الوعيد المنبئ عن الأخذ الشديد.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 56 الی 57

ثمّ ذمّهم على كفرانهم الآخر المشعر بغاية سفههم بقوله: وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ حقيقته و قدره الخسيس من الجمادات التي اتّخذوها شركاء للّه، أو لا يعلمون الوهيته، أو لا يعلمون في عبادته نفعا و لا ضرا، أو لا يعلمون له حقا نَصِيباً و سهما مِمّا رَزَقْناهُمْ و أنعمنا عليهم من الزرع و الأنعام تقربا إليه تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّ أيّها السّفهاء يوم القيامة سؤال توبيخ و تقريع عَمّا كُنْتُمْ في الدنيا تَفْتَرُونَ على اللّه من قولكم بأنّه اتّخذ الأصنام شركاء لنفسه، و رضي بالتقرب إليها.

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ اَلْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)ثمّ ذكر سبحانه كفرانهم الآخر بقوله: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ اَلْبَناتِ و يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه، و هم

ص: 587


1- . تفسير البيضاوي 1:547، تفسير أبي السعود 5:119 و 120.
2- . تفسير القمي 1:381، تفسير الصافي 3:140.

خزاعة و كنانة على ما قيل (1). و القمي: هم قريش (2).

ثمّ نزّه سبحانه ذاته المقدسة عن ذلك بقوله: سُبْحانَهُ و تقدّس من تلك النسبة، و قيل: إنّ المراد منه إظهار التعجّب من هذا القول الشنيع (3).

ثمّ كأنّه قال سبحانه: كيف يجعلون للّه البنات اللاتي هم يكرهونهنّ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ من البنين؟ !

سوره 16 (النحل): آیه شماره 58 الی 59

ثمّ بيّن سبحانه شدّة كراهتهم لهنّ بقوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى و أخبر بولادتها له ظَلَّ و صار أو دام نهاره كلّه وَجْهُهُ مُسْوَدًّا من شدّة الغمّ و تشويش الخاطر و الحياء من النّاس وَ هُوَ كَظِيمٌ و مملوء غيظا على امرأته لأجل ولادتها، هذا حاله، و أمّا عمله فهو أنّه يَتَوارى و يختفي مِنَ اَلْقَوْمِ الذي هو فيهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ.

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)قيل: كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطّلق بامرأته توارى و اختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرا ابتهج به، و إن كان انثى حزن و لم يظهر للناس أياما، يدبّر فيها أنه ما يصنع بما ولد له (4)أَ يُمْسِكُهُ و يبقيه عَلى هُونٍ و إذلال له.

عن ابن عبّاس: معناه أنّه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه و على رغم أنفه (5).

أَمْ يَدُسُّهُ و يستره فِي اَلتُّرابِ قيل: إنّ العرب (4)كانوا يحفرون حفيرة و يجعلونها فيها حتى تموت (7).

و روي أن قيس بن عاصم قال: يا رسول اللّه، إنّي واريت ثماني بنات في الجاهلية؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أعتق عن كلّ واحدة منهنّ رقبة» (8).

ثمّ أعلن سبحانه نسبة البنات إليه مع أبائهم عن نسبتها إلى أنفسهم بقوله: أَلا تنبهوا أيّها العقلاء

ص: 588


1- . تفسير الرازي 20:54، تفسير أبي السعود 5:121، تفسير روح البيان 5:43.
2- . تفسير القمي 1:386، تفسير الصافي 3:140.
3- . تفسير أبي السعود 5:131. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:55.
4- . و أد البنات ليست من العادات المتفشية عند جميع عرب الجاهلية، بل هي خاصة بمضر و خزاعة و تميم دون باقي القبائل. راجع: تفسير القرطبي 10:117. (7 و 8) . تفسير الرازي 20:55.

أنه ساءَ ما يَحْكُمُونَ به من أنّ للّه البنات اللاتي هذا محلهنّ عندهم، و اختيار البنين لأنفسهم.

[سوره 16 (النحل): آیه شماره 60]

ثمّ لمّا كان الاحتياج إلى الولد من صفات الممكنات، نبّه على مباينة صفاته تعالى لصفات خلقه بقوله: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ و الصفات الامكانية الذميمة من الحاجة إلى الولد و الفرح بالذكور و كراهة البنات وَ لِلّهِ الواجب الوجود اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى من مثل الممكنات و الصفة الفائقة على صفات الكائنات من وجوب الوجود الملازم للكمال من جميع الجهات و التنزّه عن الحاجة إلى الولد و عن سائر النقائص وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ و الغالب على كلّ شيء، القادر على إنفاذ إرادته اَلْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلاّ ما هو الأصلح، فيجازيهم على أحكامهم السيئة و أعمالهم القبيحة حسب استحقاقهم و شناعة أعمالهم.

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ وَ لِلّهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (60)

[سوره 16 (النحل): آیه شماره 61]

ثمّ بيّن اللّه تعالى تفضّله عليهم بتأخير عذابهم مع غاية استحقاقهم له بقوله: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِظُلْمِهِمْ و يعاقبهم على كفرانهم و عصيانهم في الأرض ما تَرَكَ عَلَيْها شيئا مِنْ دَابَّةٍ و متحرّك بالإرادة، أمّا الانسان فبظلمه (1)، و أمّا سائر الحيوانات فلأنّها خلقت للانسان، فإذا هلك الانسان فلا فائدة في وجود الحيوانات، أو لأنّ الانسان إذا هلك انقطع المطر و النبت.

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (61)عن أبي هريرة: أنّه سمع رجلا يقول: الظالم لا يضرّ إلاّ نفسه فقال: لا و اللّه، بل إنّ الحبارى (2)لتموت في وكرها بظلم الظالم (3).

و عن ابن مسعود: أنّه قال: كاد الجعل (4)يهلك في جحره بذنب ابن آدم (5). وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ و يمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و انقضاء العمر المقدّر لهم، ليتوالدوا و يخرج من أصلابهم الذراري

ص: 589


1- . في النسخة: فيظلمهم.
2- . الحبارى: طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة.
3- . تفسير الرازي 20:59، تفسير أبي السعود 5:122، تفسير روح البيان 5:45.
4- . الجعل: حشرة كالخنفساء تكثر في المواضع الندية.
5- . تفسير الرازي 20:59، تفسير أبي السعود 5:122، تفسير روح البيان 5:45.

الذين اقتضت الحكمة وجودهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمّى، و انقضاء عمرهم المقدّر، و بلغ وقت هلاكهم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً، و دقيقة وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 62 الی 63

ثمّ أكّد سبحانه ذمّهم بقوله: وَ يَجْعَلُونَ و يثبتون لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم من الشريك و البنات وَ مع ذلك تَصِفُ و تقول أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ و هو قولهم: أَنَّ لَهُمُ العاقبة اَلْحُسْنى من الجنّة و النّعم، إن كان حشر في الآخرة. و قيل: هذا قول المقرّين بالبعث (1).

وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ اَلْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)ثمّ ردّهم اللّه بقوله: لا جَرَمَ و حقا أَنَّ لَهُمُ في الآخرة اَلنّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ و متروكون أو منسيون فيها، أو معجّلون إليها.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غاية جهل هذه الامّة، أخذ في تسليّة نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا كثيرة إِلى أُمَمٍ كثيرة مِنْ قَبْلِكَ كما أرسلناك إلى هذه الامّة، فدعوهم إلى دين الحقّ كما دعوتهم إليه فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من إنكار التوحيد و النبوة و المعاد و تكذيب الرسل و الاستهزاء بهم، و لذا لم يجيبوا الرسل، و ثبتوا على ما هم عليه بتسويل الشيطان فَهُوَ وَلِيُّهُمُ و قرينهم أو مطاعهم اَلْيَوْمَ الذي يكذّبون الرسل أو يدعوهم النبيّ إلى دينه، و المعنى: زيّن الشيطان أعمال الكفّار في الأعصار السابقة في نظرهم، و هو وليّ الكفّار في عصرك، أو المراد من اليوم الدنيا أو القيامة وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 64 الی 65

ثمّ أنه تعالى بعد تهديد الكفّار بيّن تمامية الحجّة عليهم بإنزال القرآن بقوله: وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ العظيم لغرض من الأغراض إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد و النبوة و المعاد و الحلال و الحرام وَ ليكون هُدىً لهم من الضلالة وَ رَحْمَةً و سببا للفوز بالمقامات

وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَ اَللّهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

ص: 590


1- . تفسير الرازي 20:60.

العالية الانسانية و الدرجات الرفيعة في الجنّة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ القرآن العظيم رافع للاختلاف، و كان من أعظم ما أختلف فيه هو التوحيد، شرع في الاستدلال عليه بقوله: وَ اَللّهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها و أنبت به فيها أنواع النبات بعد يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال المطر و إحياء الأرض و اللّه لَآيَةً و دلائل واضحة لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ تلك الدلائل سماع تدبّر و إنصاف.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 66

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بعجائب أحوال الحيوانات بقوله: وَ إِنَّ لَكُمْ أيها الناس فِي اَلْأَنْعامِ الثلاثة (1)و اللّه لَعِبْرَةً و دلالة مؤدّية إلى العلم بالحقّ، و هي أنّا نُسْقِيكُمْ و نشربكم مِمّا فِي بُطُونِهِ و بعض ما في أجوافه مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ و سرجين وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً صافيا من أجزائهما و أوصافهما و سائِغاً و سهل المرور في الحلق لِلشّارِبِينَ قيل: خلق اللّه اللّبن في مكان وسط بين مكان الفرث و مكان الدم (2).

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ (66)و عن ابن عبّاس: إذا استقرّ العلف في الكرش صار أسفله فرثا، و أعلاه دما، و أوسطه لبنا، فيجري الدم في العروق، و اللّبن في الضّرع، و يبقى الفرث كما هو، و ذلك هو قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً لا يشوبه الدم و لا الفرث (3).

قيل في توجيهه: إنّ اللّبن يكون من صافي الغذاء و العلف المنجذب إلى الكبد، فبعد تصرّف الكبد فيه يجري إلى الضّرع مقدار منه فيصير لبنا، و الزائد عليه يجري في الأوردة (4).

عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ليس أحد يغصّ بشرب اللّبن؛ لأنّ اللّه عز و جلّ يقول: لَبَناً خالِصاً سائِغاً» (5).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهمّ بارك لنا فيه، و أطعمنا خيرا منه. و إذا شرب لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه و زدنا منه، فانّي لا أعلم شيئا أنفع في الطعام و الشراب منه» (6).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 67

وَ مِنْ ثَمَراتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

ص: 591


1- . و هي الإبل و البقر و الضأن.
2- . تفسير روح البيان 5:48.
3- . تفسير الرازي 20:64/المسألة الثالثة.
4- . تفسير البيضاوي 1:549.
5- . الكافي 6:336/5، تفسير الصافي 3:142.
6- . تفسير روح البيان 5:48.

ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بعجائب حالات النباتات و منافعها بقوله: وَ مِنْ ثَمَراتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنابِ نسقيكم و نطعمكم، حيث إنّكم تَتَّخِذُونَ مِنْهُ لانتفاعكم سَكَراً و خمرا.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّها نزلت قبل آية التحريم فنسخت بها (1)» . و قيل: إنّها لا تدلّ على حلّيته، لأنّ الخطاب للمشركين، و كان الخمر من أشربتهم (2)، بل أشار سبحانه إلى حرمته بقوله: وَ رِزْقاً و طعاما حَسَناً من الربّ (3)و الخلّ و الدّبس و غيرها، فإنّ توصيف الرزق بالحسن في مقابل السّكر مع كونه حسنا عند العرب بمقتضى الشهوة، يدلّ على عدم كون السّكر حسنا بحسب الشرع.

و قيل: إنّ المراد بالسّكر الخلّ، و عليه القمّي (4)و قيل: إنّ المراد به مطلق الطعام (5).

ثمّ لمّا ذكر تلك النّعم التي يكون كلّ واحد منها دليلا قاطعا على توحيده، حثّ العقلاء على التفكّر فيها بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً عظيمة و دلالة واضحة على التوحيد لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنّهم إذا التفتوا إليها، علموا بالضّرورة أنّ المدبّر ليس إلاّ الواحد الحكيم القدير.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 68 الی 69

ثمّ استدلّ سبحانه بعجائب حالات النحل و إخراج العسل منها، و هو مركّب من عجائب الحيوان و النبات بقوله: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ و زنبور العسل، بأن ألهمها و علّمها و قرّر في نفسها أَنِ اِتَّخِذِي لنفسك مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً و مساكن تأوي إليها وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ و يرفعونه من الأرض من كرم أو سقف أو جدار.

وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)و قيل: كلّ ذباب في النّار إلاّ ذباب العسل (6). و إنّما سمّيت نحلا لأنّ اللّه تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج منها، و من عجائبها أنّها تبني بيوتا مسدّسة متساوية الأضلاع لا يزيد بعضها على بعض بحيث لا يبقى بينها فرج خالية، و لو كانت مشكّلة بغيرها لبقيت بينها بالضّرورة فرج خالية ضائعة.

ص: 592


1- . تفسير العياشي 3:14/2399، تفسير الصافي 3:142.
2- . تفسير الرازي 20:68.
3- . الربّ: عصارة التمر و العنب المطبوخة.
4- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:142.
5- . تفسير الرازي 20:68، تفسير البيضاوي 1:550، تفسير أبي السعود 5:125.
6- . تفسير روح البيان 5:50.

ثمّ أنه تعالى بعد بيان مسكنها بيّن مأكولها بقوله: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ التي عندك من الحلو و الحامض، فتأكل الأجزاء اللطيفة الحلوة الواقعة على أوراق الأشجار و الأزهار، و تمصّ الثمرات الرطبة و الأشياء العطرة، فيوحي إليها أنّك إذا أكلت الثّمار في المواضع البعيدة من بيوتك فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ و الطّرق التي ألهمك الرجوع فيها إلى بيوتك التي في الجبال و الشجر و غيرهما، حال كون تلك السّبل ذُلُلاً و سهلة السلوك فيها بلا اشتباه و لا انحراف، و في ذكر ربك و إضافة السّبل إليه إشعار بأنّه لو لا تربيته تعالى لما اهتديت إليها.

ثمّ بيّن اللّه تعالى نتيجة الالهامات بقوله: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها بالقئ شَرابٌ و عسل مائع مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ حسب الاختلاف بين النحل كما قيل، فالشابّ منها يقيء الأبيض، و كهلها يقيء الأصفر، و شيبها تقيء الأحمر (1)، و قد يكون الاختلاف بسبب اختلاف لون مأكولها، و خاصيّته أن فِيهِ شِفاءٌ عظيم لِلنّاسِ و برء من الأوجاع التي يعرف شفاؤها منه.

و قيل: هو إما شفاء بنفسه كالأمراض البلغمية، و إما مع غيره كما في سائر الأمراض، إذ قلما معجون إلاّ و العسل جزء منه (2).

و قيل: إنّه بنفسه أو مع الخلط بالأدوية الحارة شفاء للأمراض البلغمية، و مع الخلط بالحوامض شفاء للأمراض الصفراوية، و مع الخلط بالأدهان شفاء للأمراض السوداوية، و عن (اعتقادات الصدوق) اعتقادنا في العسل أنّه يشفي الأمراض البلغمية (3).

أقول: عليه يكون تنوين الشّفاء للتنكير، و فيه أنّ الظاهر من كونه تعالى في مقام مدحه أنّه تعالى جعله بالخاصية شفاء لجميع الأمراض كالتربة الحسينية، و لا ينافي ذلك عدم ظهور هذا الأثر منه كثيرا؛ لأنّه من باب المقتضي الذي يجتمع مع ألف مانع، كما لا يحصل الشفاء من التربة المباركة في بعض الموارد.

روي أنّ رجلا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ أخي قد اشتكى بطنه؟ فقال: «اسقه عسلا» فسقاه [عسلا]فما زاده إلاّ استطلاقا، فعاد إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فذكر له ذلك، فقال: «اسقه عسلا» فسقاه ثانيا فما زاده إلاّ استطلاقا، فرجع فقال: يا رسول اللّه، [سقيته]فما نفع؟ فقال: «اذهب فاسقه عسلا، فقد صدق اللّه و كذب بطن أخيك» فسقاه فشفاه اللّه (4)، الخبر.

ص: 593


1- . تفسير روح البيان 5:52.
2- . تفسير البيضاوي 1:550، تفسير أبي السعود 5:126، تفسير روح البيان 5:52.
3- . باب 44 من اعتقاداته و الاحاديث الواردة في الطب.
4- . تفسير الرازي 20:73، تفسير روح البيان 5:53.

و في الحديث: «أنّ اللّه جعل الشفاء في أربعة: الحبّة السوداء، و الحجامة، و العسل، و ماء السماء» (1).

و جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و شكا إليه سوء الحفظ، فقال: «أترجع إلى أهل؟» قال: نعم. فقال: «قل لها تعطيك من مهرها درهمين عن طيب نفس، فاشتربهما لبنا و عسلا، و اشربهما مع شربة من ماء المطر على الرّيق ترزق حفظا» (2).

و عنه عليه السّلام: «لعق العسل شفاء من كلّ داء، ثمّ تلا هذه الآية، و قال: «هو مع قراءة القرآن و مضغ اللّبان -و هو الكندر-يذيب البلغم» (1).

و عنه عليه السّلام: «ثلاثة يزدن في الحفظ، و يذهبن بالبلغم» و ذكر هذه الثلاثة (2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إن يكن في شيء شفاء، ففي شرطة الحجّام، أو في شربة عسل» (3).

و القمي: عن الصادق عليه السّلام في تأويل الآية: «نحن و اللّه النّحل الذي أوحى اللّه إليه (4)أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً أمرنا أن نتّخذ من العرب شيعة وَ مِنَ اَلشَّجَرِ يقول من العجم وَ مِمّا يَعْرِشُونَ يقول من الموالي و الذي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي العلم الذي يخرج منّا إليكم» (5).

و عنه عليه السّلام أيضا: «النّحل: الأئمّة، و الجبال: العرب، و الشجر: الموالي عتاقة (6)، و مما يعرشون: الأولاد و العبيد ممّن لم يعتق و هو يتولّى اللّه و رسوله و الأئمّة، و الشراب المختلف ألوانه: فنون العلم الذي قد يعلّم الأئمة شيعتهم، فيه شفاء للنّاس [يقول: في العلم شفاء للناس]و الشيعة هم النّاس، و غيرهم اللّه أعلم بهم ما هم، و لو كان كما يزعم أنّه العسل الذي يأكله الناس، إذا ما أكل منه و ما شرب ذو عاهة إلاّ شفي، لقول اللّه تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ و لا خلف لقول اللّه، و إنّما الشفاء في علم القرآن لقوله: وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ [لِلْمُؤْمِنِينَ (7)فهو شفاء و رحمة]لأهله لا شكّ فيه و لا مرية، و أهله أئمّة الهدى الذين قال اللّه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» (8).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من أمر النحل لَآيَةً و حجّة واضحة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في دقائق صنعه.

ص: 594


1- . الخصال:623/10، الكافي 6:332/2، تفسير الصافي 3:143.
2- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:38/111، تفسير الصافي 3:143.
3- . عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2:35/83، تفسير الصافي 3:143.
4- . في المصدر: التي أوحى اللّه إليها.
5- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:144.
6- . المولى عتاقة: الذي اعتق من الرقّ.
7- . سورة الاسراء 17:82.
8- . تفسير العياشي 3:15/2402، تفسير الصافي 3:144، و الآية من سورة فاطر 35:32.

سوره 15 (الحجر): آیه شماره 70

ثمّ استدلّ بخلقة الانسان بقوله: وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ و أوجدكم ثُمَّ بعد مدّة من التعيّش يَتَوَفّاكُمْ و يميتكم على اختلاف أعماركم، فمنكم من يموت في الصّغر وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ و أخسّه و هو الهرم الذي يعود الانسان فيه إلى حال الصّغر من ضعف البدن و القوى و العقل و الفهم.

قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعالَمِينَ (70)عن أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه قال: «أرذل العمر خمس و سبعون سنة» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام: «إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر» (2).

أقول: لعلّ الاختلاف من جهة اختلاف الأشخاص.

لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ كثير شَيْئاً من العلم أو المعلومات، و قيل: يعني لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا (3).

عن القمي: إذا كبر لا يعلم ما علمه قبل ذلك (4)إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعماركم قَدِيرٌ على إبقاء الهرم الفاني و إماتة الشابّ القويّ النّشط، و لو كان ذلك بمقتضى الطبائع لما بلغ التفاوت هذا المبلغ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 71

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر تفاوت الآجال ذكر كثرة تفاوت أرزاق الناس بقوله: وَ اَللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ آخر فِي اَلرِّزْقِ و النّعم الدنيوية، حيث إنّكم ترون العاقل الكيّس الفطن في جميع الامور يجتهد مدّة عمره، و يدبّر في طلب القليل من الدنيا، و لا يتيسّر له، بل يعيش في غاية العسرة، و الجاهل الغبيّ تقبل عليه النّعم و تنفتح عليه أبوابها، و يحصل له كلّما أراد في الحال بأيسر وجه، و لو كان المؤثّر في ازدياد الرزق العقل و التدبير و الجهد، لكان الأمر بالعكس.

وَ اَللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي اَلرِّزْقِ فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ (71)فعلم أنّ التفاوت بتقدير العزيز العليم، كما قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا (5)فاذا علم أنّ الرازق هو اللّه فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا في الرزق على غيرهم بِرَادِّي معطي رِزْقِهِمْ و ما أعطاهم اللّه من النّعم عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من العبيد و الإماء، بل كلّ من المالك

ص: 595


1- . مجمع البيان 6:574، تفسير الصافي 3:144.
2- . تفسير القمي 2:79، تفسير الصافي 3:144.
3- . تفسير أبي السعود 5:127.
4- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:145.
5- . الزخرف 43:32.

و المملوك يرتزقون من رزق اللّه فَهُمْ جميعا من المالك و المملوك في الارتزاق برزق اللّه و تقديره فِيهِ سَواءٌ كلّ يرزق رزقه المقدّر له، و إنّما الفرق في مجراه؛ فمجرى رزق المالك ملكه، و مجرى رزق المملوك يد مالكه، فلا يحسبنّ الملاّك أنّهم رزاق مماليكهم.

و قيل: إنّ المقصود توبيخ الملاّك، و المعنى فلم لا يردّ الموالي فضل رزقهم على مماليكهم حتى يتساووا في المطعم و الملبس.

عن أبي ذرّ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تكتسون (1)، و أطعموهم ممّا تطعمون» قال: فما رأى بعد ذلك عبد أحد إلاّ ورداءه كردائه و إزاره كإزاره (2).

و قيل: إنّ الآية ردّ على عبدة الأصنام (3)، حيث جعلوها شركاء للّه و سوّوا بينه و بينها، و تقريره أنّ اللّه فضّل الملاك على مماليكهم، بحيث لا يقدر المملوك على ملك مع مولاه، و لا تجعلون عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات مع اللّه سواء في العبودية، فالمعنى فما الذين فضّلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكونوا مع عبيدهم في الملك و الرزق سواء.

عن ابن عباس: نزلت في نصارى نجران حيث قالوا: عيسى ابن اللّه، فالمعنى أنّكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولدا لي و شريكا في الالوهية؟ ! (4)

ثمّ لمّا كان الشرك يلازم إسناد النّعم إلى ما أشركوه من عيسى أو الأصنام، أنكر عليهم ذلك بقوله: أَ فَبِنِعْمَةِ اَللّهِ يَجْحَدُونَ و يكفرون.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 72

ثمّ استدلّ سبحانه بخلق الأزواج و الأولاد بقوله: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ و من جنسكم أَزْواجاً لتسكنوا إليها، و تأنسوا بها.

وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اَللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)عن القميّ: يعني خلق حوّاء من آدم (5).

وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً قيل: هم الأختان (6). و قيل: هم أولاد الأولاد (7). و قيل: هم الأعوان و الخدم من قبل الزوجة فيشمل الكلّ (6).

ص: 596


1- . في جوامع الجامع: تلبسون.
2- . جوامع الجامع:246، تفسير الصافي 3:145.
3- . تفسير الرازي 20:79/القول الثاني.
4- . تفسير الرازي 20:79.
5- . تفسير القمي 1:387، تفسير الصافي 3:146. (6 و 7) . تفسير أبي السعود 5:128.
6- . تفسير الرازي 20:81.

و عن الصادق عليه السّلام: بَنِينَ وَ حَفَدَةً قال: «هم الحفدة، و هم العون [منهم]يعني البنين» (1).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى قال: «الحفدة بنو البنت، و نحن حفدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (2).

و عنه أيضا: «هم أختان الرجل على بناته» (3).

ثمّ لمّا ذكر سبحانه التفضيل في الرزق و لم يبين فضله و صفه هنا بقوله: وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ و اللذائذ كالثمار و الفواكه و الحبوب و الحيوات و الأشربة كالعسل و أمثاله.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم الشرك مع ظهور دلائل التوحيد بقوله: أَ فَبِالْباطِلِ الذي أظهره الأصنام و الشرك يُؤْمِنُونَ مع تلك الحجج الباهرة على التوحيد وَ بِنِعْمَتِ اَللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ بنسبتها إلى غيره من الأصنام و الأنداد التي زعموها آلهة.

و قيل: كفرانهم النّعم تحريمهم البحيرة (4)و أخواتها (5).

و قيل: نعمة اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كتابه و دينه، و كفرهم بها إنكارها (6).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 73 الی 74

ثمّ لمّا ذكر سبحانه الدلائل على التوحيد، و نبّههم على ما رزقهم من العمر و المال و الأزواج و الأولاد و الطيبات من المأكولات و المشروبات، ذمّ المشركين و وبّخهم بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ مع وفور رزقه عليهم ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً يسيرا من المطر و النبات وَ لا يَسْتَطِيعُونَ أن يملكوه.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ اَلْأَمْثالَ إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)و قيل: إنّ ضمير الجمع راجع إلى المشركين، و المعنى أنّ المشركين مع حياتهم و شعورهم لا يقدرون على تملّك الرزق، فكيف بالجمادات؟ (7).

ثمّ قيل: إنّ المشركين كأنّهم قالوا: كما أنّ الأصاغر يخدمون الأكابر، و الأكابر يخدمون الملوك، كذلك نحن نعبد الأصنام و الأصنام يعبدون اللّه، لأنّه تعالى أجلّ و أعظم من أن نعبده (8)، فردّ اللّه عليهم

ص: 597


1- . تفسير العياشي 3:16/2406، تفسير الصافي 3:146.
2- . تفسير العياشي 3:16/2405، تفسير الصافي 3:146.
3- . مجمع البيان 6:576، تفسير الصافي 3:146.
4- . البحيرة: الناقة كانت في الجاهلية إذا ولدت خمسة أبطن شقّوا اذنها، و أعفوها من أن ينتفع بها، و لم يمنعوها من مرعى.
5- . تفسير الرازي 20:81.
6- . جوامع الجامع:247، تفسير الصافي 3:146.
7- . تفسير البيضاوي 1:551، تفسير أبي السعود 5:128.
8- . تفسير الرازي 20:83.

بقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ اَلْأَمْثالَ و لا تشبّهوه بخلقه، و قيل: يعني لا تجعلوا للّه مثلا، لأنّه واحد لا مثل له (1)إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ فساد مذهب الشرك و بطلان دليله و عظم عقوبة القائلين به، و لذا ينهاكم عنه وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئا من الامور المذكورة، و لو علمتموه لتركتموه، أو المراد أنّ اللّه يعلم ضرب الأمثال و أنتم لا تعلمونه.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 75 الی 76

ثمّ ضرب سبحانه المثل لتوضيح التباين بينه و بين ما أشركوه به بقوله: ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً بديعا، و هو أن تفرضوا عَبْداً مَمْلُوكاً لا شيء له و لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرّفات وَ مَنْ كان حرّا كريما رَزَقْناهُ مِنّا بإنعامنا و كرّمناه بطريق الملك رِزْقاً حَسَناً واسعا حلالا طيبا مرضيا عنده و عند كلّ أحد فَهُوَ بكرمه و سلطنته في التصرّف في رزقه يُنْفِقُ مِنْهُ على الغنيّ و الفقير تفضّلا و كرما سِرًّا وَ جَهْراً و خفية و علانية كيفما أراد، و أيّ قدر أراد بلا مانع و حاجز، فبعد فرض هذا المملوك العاجز، و هذا الحرّ الغنيّ الكريم، أنصفوا أيها العقلاء هَلْ يَسْتَوُونَ لا و اللّه لا تساوي بينهما أبدا، إذن فكيف تسوّون بين الأصنام التي هي أعجز و أفقد من كلّ شيء، و بين اللّه القادر الغنيّ بالذات الكريم الذي لا تناهي لكرمه، حيث إنّه يرزق من يشاء ما يشاء كيف يشاء بغير حساب.

ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)اَلْحَمْدُ لِلّهِ على نعمه غير المتناهية لا يشركه فيها غيره، و لا يليق بالحمد من سواه بَلْ أَكْثَرُهُمْ و هم المشركون لا يَعْلَمُونَ عدم التساوي بينهما، و لذا يعبدون الجمادات و يسوّون بينها و بين خالق الموجودات، و يحمدون الأصنام، و يكفّرون وليّ الأنعام.

ثمّ اعلم أنّ هذا المثل منطبق على الكافر المحروم عن عبادة اللّه و طاعته، و المؤمن المطيع للّه القائم بعبوديته المشفق على خلقه المنفق عليهم، و كذا على الجاهل الفاقد للعلم، و العالم العارف باللّه و أحكامه، فالأولان كالعبد الذليل الفاقد لكلّ شيء، و الثانيان كالحرّ الواجد المنفق.

وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً آخر أدلّ على المقصود، و هو أن تفرضوا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا قوة له

ص: 598


1- . تفسير الرازي 20:83.

على التكلّم من حين ولادته و لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ و أمره متعلق بنفسه أو بغيره وَ هُوَ لعجزه في جميع الامور كَلٌّ و ثقل عَلى مَوْلاهُ في ما يحتاج إليه و أَيْنَما يُوَجِّهْهُ مولاه، و حيثما يرسله لكفاية أمر و لو كان غير مهمّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ و لا يفعل ما فيه صلاح، إذن قولوا و أنصفوا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يكون منطيقا ذكيا ذا رأي و كفاية و عقل و رشد بحيث يَأْمُرُ غيره بِالْعَدْلِ و حسن الأخلاق و الأعمال، و ما فيه صلاح الحال و المال وَ هُوَ بنفسه مضافا إلى نفعه العام مقيم عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و المنهج القويم من صحة العقائد و حسن الأخلاق و الأعمال، لا و اللّه لا يمكن تساويهما.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 77

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غاية البينونة بيّن الجاهل العاجز و العالم القادر على كلّ شيء بضرب المثلين، بيّن كمال علمه و قدرته بقوله: وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و كان يختصّ به العلم بخفياتهما وَ ما أَمْرُ إيجاد اَلسّاعَةِ و القيامة أو جميع شؤونها بدوا و ختما عنده تعالى: إِلاّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ و حركة خفيفة للعين أو حركة الحدقة من الفوق إلى التحت، أو طرف العين في السهولة و السرعة أَوْ هُوَ أَقْرَبُ و أسرع و أسهل لاحتياج حركة العين إلى آنات متعاقبة، و توجد القيامة بأمره في آن واحد، و كلمة (أو) للابهام على المخاطبين، أو بمعنى بل، ثمّ قرّر قدرته بقوله: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من ابتداء الخلق و إعادته.

وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ اَلسّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 78

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده و قدرته و حكمته بقوله: وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ بقدرته مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ بالولادة حال كونكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً من البديهيات و النظريات و الحسيّات و العقليات من امور الدنيا و الآخرة وَ جَعَلَ و أنشأ لَكُمُ في الأرحام اَلسَّمْعَ لاستماع مواعظ اللّه و العلوم النافعة وَ اَلْأَبْصارَ لرؤية آيات اللّه و معاجز الأنبياء و قراءة الكتب وَ اَلْأَفْئِدَةَ لفهم معارف اللّه و درك العلوم العقلية لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الولادة و تركيب الأعضاء و القوى فيكم بأن تستعملوها فيما خلقت له.

وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

ص: 599

قيل: أول ما يبدو في الجنين حسّ السمع ثمّ البصر (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 79

ثمّ استدلّ سبحانه بعجائب أحوال الطيور بقوله: أَ و لَمْ يَرَوْا هؤلاء المشركون و لم ينظروا إِلَى اَلطَّيْرِ حال كونها مُسَخَّراتٍ و مذللات للطيران فِي جَوِّ اَلسَّماءِ و فضائها أو هوائها بأجنحتها و أسباب طيرانها التي خلقها لها، و مع ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ و يحفظهنّ من السقوط حين قبض أجنحتهن و بسطها و وقوفهنّ شيء إِلاَّ اَللّهُ القادر الحكيم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من تسخير الطير للطيران و إمساكها في الجوّ على خلاف طبع الجسم لَآياتٍ و حجج باهرة على قدرة خالقها و تدبيره و حكمته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم المنتفعون بها بالتفكّر فيها.

أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ اَلسَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 80

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بالنعم الداخلية على الانسان، استدلّ بالنعم الخارجية بقوله: وَ اَللّهُ جَعَلَ و خلق نفعا لَكُمْ و صلاحا لحالكم بعضا مِنْ بُيُوتِكُمْ و هي البيوت المبنية من الأحجار و الطين و الأخشاب سَكَناً و مأوى تستريحون فيه و تطمئنون به وقت إقامتكم لعدم إمكان نقلها من مواضعها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعامِ و الأدم المعمولة منها بُيُوتاً اخرى كالخيام و الأخبية و الفساطيط التي تَسْتَخِفُّونَها و تستسهلون حملها و نقلها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و سيركم في البوادي و الأسفار وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ و وقت حضوركم في البلد، توقّفكم في مكان تريدون الوقوف فيه وَ جعل مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً و لوازم البيت من الفرش و الملاحف و أمثالهما. عن ابن عباس: يريد طنافسا (2)و بسطا و ثيابا و كسوة (3)وَ مَتاعاً و أشياء اخر، فينتفع بها إِلى حِينٍ قضاء الوطر، أو حين البلى، أو حين الموت، أو حين بعد حين، أو حين القيامة.

وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 81 الی 83

ص: 600


1- . تفسير روح البيان 5:63.
2- . الطّنافس: جمع طنفسة: البساط و النّمرقة فوق الرّحل.
3- . تفسير الرازي 20:92.

ثمّ لمّا كانت أرض الحجاز شديدة الحرّ، استدلّ على توحيده بخلق ما يحفظ به من الحرّ بقوله: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ من الأشجار و الجبال و الغمام ظِلالاً يتّقون به حرّ الشمس. القمي، قال: ما يستظلّ به (1). وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبالِ أَكْناناً و محافظ من الحرّ كالكهوف و الغيران و السّروب (2)وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ و ثيابا من القطن و الصوف و غيرهما تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ و تحفظكم منه وَ سَرابِيلَ كالدّروع و الجواشن (3)تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ و تحفظكم من الطّعن و الضرب و نحوهما ممّا يضرّكم في الحروب.

قيل: إنّ اللّه تعالى ذكر نعمه الفائضة على جميع الطوائف، فبدأ بما يخصّ المقيمين حيث قال: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً (4)ثمّ بما يختصّ بالمسافرين ممّن لهم قدرة على الخيام و أضرابها حيث قال: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعامِ بُيُوتاً (5)، ثمّ بما يعمّ من لا يقدر على ذلك و لا بما دونه (4)إلاّ الظّلال حيث قال: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً ثمّ بما لا بدّ منه لأحد حيث قال: وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ ثمّ بما لا مناصّ عنه في الحرب حيث قال: وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ (5).

ثمّ قال: كَذلِكَ الإتمام البالغ لنعمه الجسمانية يُتِمُّ نِعْمَتَهُ الدنيوية و الدينيّة عَلَيْكُمْ لتنظروا إليها و تتفكّروا فيها لَعَلَّكُمْ تعرفون حقّ منعمها و تُسْلِمُونَ و تنقادون لربوبيته و أحكامه، أو تسلمون من الشرك.

عن ابن عباس: لعلّكم يا أهل [مكة]تخلصون للّه الربوبية، و تعلمون أنّه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه (6).

و قيل: يعني أعطيتكم هذه النّعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب اللّه (7).

فَإِنْ تَوَلَّوْا يا محمّد، و أعرضوا عن التفكّر في الآيات و النّعم، و لم يقبلوا قولك، و آثروا الدنيا و متابعة الآباء فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ و التبليغ الموضح للحقّ لا إجبارهم على القبول، و قد

ص: 601


1- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:148.
2- . السّروب: جمع سرب، الحفير تحت الأرض لا منفذ له.
3- . الجوشن: الدّرع. (4 و 5) . النحل 16:80.
4- . في تفسير أبي السعود: و لا يأويه.
5- . تفسير أبي السعود 5:133.
6- . تفسير الرازي 20:94.
7- . تفسير الرازي 20:94.

فعلت ما عليك، و بقي ما علينا من تعذيبهم على العناد و الإصرار على الكفر.

ثمّ ذمّهم سبحانه بغاية الكفران بقوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللّهِ عليهم من جميع الوجوه ثُمَّ يُنْكِرُونَها و يكفرونها بنسبتها إلى الأصنام و عبادتها، مع أنّ حقّ معرفة النّعم أن يقرّوا بها و يشكروها بتخليص العبادة للّه و صرفها فيما فيه رضاه، و قيل: نعمة اللّه نبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله (1)وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكافِرُونَ لتلك النعمة و الجاحدون لها.

قيل: نسبة الكفر الى الأكثر لكون بعضهم جاهلين بصدق النبي صلّى اللّه عليه و آله غير معاندين للحق (2). و قيل: إنّ المراد بالأكثر الجميع (3).

عن الصادق عليه السّلام: «نحن و اللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، و بنا فاز من فاز» (2).

و في رواية عنه عليه السّلام: «يعني يعرفون ولاية علي عليه السّلام» (3).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 84 الی 87

ثمّ هدّد الكافرين بنعمته بأهوال القيامة بقوله: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ و نحشر مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ و جماعة شَهِيداً يشهد بإيمان مؤمنيهم و كفر كافريهم ثُمَّ بعد الشهادة لا يُؤْذَنُ من قبل اللّه لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار عن كفرهم و عصيانهم، لكذبهم و تمامية الحجّة عليهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و لا يطلب منهم عمل موجب لرضا ربّهم عنهم و إصلاح ما فسد من أعمالهم، لكون ذلك اليوم يوم الجزاء لا العمل، بل يؤمرون بالدخول في النّار وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و الطغيان اَلْعَذابَ الشديد ضجّوا و سألوا تخفيفه فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ثقل العذاب و شدّته وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و لا يمهلون ساعة ليستريحوا، بل يزيد عذابهم مع أصنامهم وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه الشياطين و الأصنام التي جعلوها شُرَكاءَهُمْ و آلهتهم قالُوا إحالة لعذابهم إليها، أو تعجّبا من حضورها، أو إظهارا لخطابهم في عبادتها رَبَّنا هؤُلاءِ الأصنام شُرَكاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنّا في الدنيا

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَ إِذا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)

ص: 602


1- . تفسير البيضاوي 1:554، تفسير أبي السعود 5:134. (2 و 3) . تفسير الرازي 20:95.
2- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:149.
3- . الكافي 1:354/77، تفسير الصافي 3:149.

نَدْعُوا هم و نعبدهم مِنْ دُونِكَ و ممّا سواك، فأنطق اللّه الأصنام فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ و أجابوهم بالكلام، و قالوا: إِنَّكُمْ في دعوى عبادتكم إيانا و اللّه لَكاذِبُونَ بل عبدتم أهواءكم، أو لكاذبون في دعوى أننا شركاء اللّه في المعبودية و استحقاق العبادة وَ أَلْقَوْا اولئك المشركون إِلَى اَللّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ و الانقياد لربوبيته و أمره و أحكامه بعد ما كانوا في الدنيا مستكبرين و مستنكفين عنه وَ ضَلَّ و ضاع عَنْهُمْ ما كانُوا في الدنيا يَفْتَرُونَ على اللّه من أنه راض بعبادة الأصنام، و أنّه يقبل شفاعتهم في حقّ عبادهم و قيل: يعني ذهب [عنهم]ما زيّن لهم الشيطان من أنّ للّه شريكا و صاحبة و ولدا (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 88

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المشركين، هدّد الصادّين منهم عن سبيل اللّه بقوله: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا الناس و منعوهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اَللّهِ و الدخول في دين الاسلام زِدْناهُمْ في جهنم عَذاباً فَوْقَ اَلْعَذابِ لأنّهم زادوا على ضلال أنفسهم إضلال غيرهم، فعليهم مثل عذاب أتباعهم بِما كانُوا يُفْسِدُونَ في الأرض بترويج الباطل و تشييد الكفر و دعوة الناس إليه.

اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ اَلْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)القمي، قال: كفروا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و صدّوا عن أمير المؤمنين عليه السّلام (2).

أقول: هذا تأويل لا تفسير.

عن ابن عبّاس، قال: المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذّبون بها ثلاثة على مقدار الليل، و اثنان على مقدار النهار (3).

و قيل: زدناهم عذابا بحيّات و عقارب كأمثال البخت (4)لكلّ عقرب ثلاثمائة فقرة، في كلّ فقرة ثلاثمائة قلّة (5)من سمّ، و لها انياب كالنّخل الطّوال، فيستغيثون بالهرب منها إلى النار (6).

و عن ابن جبير، قال: زيادة عذابهم هي عقارب أمثال البغال، و حيّات أمثال البخت، تلسع إحداهنّ اللّسعة فيجد صاحبها حمتها (7)أربعين خريفا (8)

ص: 603


1- . تفسير الرازي 20:97.
2- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:150.
3- . تفسير الرازي 20:98، تفسير روح البيان 5:69.
4- . البخت: الإبل الخراسانية.
5- . القلّة: إناء من الفخّار يشرب منه.
6- . تفسير الرازي 20:98.
7- . الحمة: سمّ كلّ شيء يلدغ أو يلسع، و الإبرة التي تضرب بها العقرب و الزّنبور و نحوهما.
8- . تفسير روح البيان 5:69، تفسير أبي السعود 5:135، و لم ينسبه إلى ابن جبير.

و قيل: يسألون اللّه تعالى ألف سنة المطر ليسكن ما بهم من شدّة الحرّ، فتظهر لهم سحابة، فيظنّون أنها تمطر، فجعلت السّحابة تمطر عليهم بالحيّات و العقارب، فيشتد ألمهم لانّه إذا جاء الشرّ من حيث يؤمل الخير كان أغمّ (1).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 89

ثمّ بالغ سبحانه بتهديد المشركين بأهوال القيامة بقوله: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ و نحشر فيه فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الامم و جماعة من جماعات الناس شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ و جنسهم، ليكون أقطع لعذرهم لكونه بينهم وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الامم و شهدائهم.

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

نقل كلام الفخر

الرازي في المراد

من الشهيد

قال الفخر الرازي: إن كلّ جمع و قرن يحصل في الدنيا، فلا بدّ أن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم، أمّا الشهيد على الذين كانوا في عصر الرسول فهو الرسول صلّى اللّه عليه و آله بدليل قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (2)، و ثبت أيضا أنه لا بدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الشهيد، فتحصّل من هذا أن عصرا من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، و ذلك الشهيد لا بدّ و أن يكون غير جائز الخطأ، و إلا لافتقر إلى شهيد آخر، و يمتدّ ذلك إلى غير النهاية، و ذلك باطل، فثبت أنه لا بدّ في كلّ عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم، و ذلك يقتضى أن [يكون]إجماع الامّة حجّة (3).

أقول: هذا عين ما قاله أصحابنا الامامية، فانهم يقولون: إنّه لا بدّ في كلّ عصر من وجود حجّة معصوم، إما ظاهر مشهود، أو غائب مستور، و لو لا ذلك لساخت الأرض بأهلها، و لا حجّية للاجماع إلاّ إذا علم موافقة رأيهم لرأي المعصوم، و ذلك المعصوم هو الشهيد، و إنّما الفرق بيننا و بين هذا القائل أنّا نعرفه باسمه و نسبه، و هو يجحده لعصبيّته.

القمي في تفسير شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ قال: يعني على الأئمة عليهم السّلام، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شهيد على الأئمة عليهم السّلام، و هم شهداء على الناس (4).

و قال بعض العامة: المراد بذلك الشهيد هو أنّه تعالى ينطق عشرة [من]أعضاء الانسان حتّى تشهد عليه، و هي: الأذنان و العينان و اليدان و الرجلان و الجلد و اللسان، قال: و الدليل عليه أنّه تعالى قال في

ص: 604


1- . تفسير روح البيان 5:69.
2- . البقرة:2/143.
3- . تفسير الرازي 20:98.
4- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:150.

صفة الشهيد أنّه من أنفسهم (1). و فيه أنّه خلاف للظاهر الذي هو كالصريح في الآية خصوصا مع قوله: وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.

ثمّ بيّن سبحانه عظمة شأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله الذي هو الشهيد عليهم بنزول القرآن عليه بقوله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ العظيم الكامل في الكتابية بحيث يحقّ أن يخصّ به اسم الكتاب لكونه تِبْياناً و إيضاحا وافيا لِكُلِّ شَيْءٍ من امور الدين، أو لكلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، أو لكلّ شيء من امور الدين و الدنيا و الآخرة، و ما كان و ما يكون و ما هو كائن، كما هو الحقّ، و إنّما يستفيد منه الراسخون في العلم الذين نزل في بيوتهم و هم النبيّ و المعصومون عليهم السّلام من ولده.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال اللّه لموسى عليه السّلام: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (2)فعلمنا أنّه لم يكتب له الشيء كلّه، و قال اللّه لعيسى: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ (3). و قال لمحمد صلّى اللّه عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (4).

و عنه عليه السّلام: «أنّي لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض، و أعلم ما في الجنّة، و أعلم ما في النار، و أعلم ما كان و ما يكون» ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: «علمت ذلك من كتاب اللّه عز و جل، إن اللّه يقول: «فيه تبيان كل شيء» (5).

و عنه عليه السّلام: «نحن و اللّه نعلم ما في السماوات و ما في الأرض، و ما في الجنة و ما في النار، و ما بين ذلك» ثمّ قال: «إنّ ذلك في كتاب اللّه» ثمّ تلا هذه الآية (6).

و عنه عليه السّلام: «أن اللّه أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتى و اللّه ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا [انزل]في القرآن إلا [و قد]أنزله اللّه فيه» (7). إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ في القرآن بيان كلّ شيء.

ثمّ لمّا كان أهمّ الامور فائدة الهداية إلى الحقّ بالغ في توصيفه بها بحيث جعله عينها بقوله: وَ هُدىً من الضلالة إلى الحقّ، لاشتماله على المعارف الالهية بأكمل وجه، و على الأحكام الأخلاقية و العملية بأتمّ التفصيل، وَ ليكون رَحْمَةً للعالمين و فضلا على الخلق أجمعين، و إنما يكون حرمان الكفار بسبب تفريطهم و تقصيرهم، وَ ليكون بُشْرى بالفيوضات الدنيوية

ص: 605


1- . تفسير الرازي 20:99.
2- . الأعراف:7/145.
3- . الزخرف:43/63.
4- . تفسير العياشي 3:19/2417، تفسير الصافي 3:151.
5- . الكافي 1:204/2، تفسير الصافي 3:151، في المصحف: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:16/89]و لعله نقل بالمعنى.
6- . تفسير العياشي 3:18/2416، تفسير الصافي 3:151.
7- . الكافي 1:48/1، تفسير الصافي 3:151.

و الاخروية لِلْمُسْلِمِينَ و المؤمنين، أو المنقادين لأحكامه خاصّة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 90

ثمّ لمّا وصف سبحانه الكتاب بكونه تبيانا و هدى، ذكر علم الأخلاق و الأحكام فيه بكلمات موجزة جامعة لجميعها بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ في الكتاب الذي هو تبيان و هدى بِالْعَدْلِ و التوسط في الأخلاق و سائر الامور، و التسوية بين الناس في الحقوق و بين أنفسكم و غيركم في الرعاية وَ اَلْإِحْسانِ إلى أنفسكم بحفظها عن ارتكاب القبائح و الموبقات، و السعي في تكميلها و تعليتها إلى المراتب العالية الانسانية، و إلى غيركم بتعليمهم العلوم الدينية، و إرشادهم إلى السعادات الدنيوية و الاخروية، و مساعدتهم في امور معاشهم و معادهم وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى و الأرحام و إعطائهم جميع ما يحتاجون إليه من العلم و المال، و كل ما يؤهّلون له من الكمال، و إنّما خصّه بالذّكر مع دخوله في عموم الاحسان تنبيها على أهمية صلة الرّحم و فضلها وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ و الامور الشديدة القباحة كالشّرك و الزّنا و غيرهما من الكبائر وَ اَلْمُنْكَرِ و ما ينتفّر منه العقل السليم و يستقبحه ممّا لا يبلغ في القبح درجة الفحش وَ اَلْبَغْيِ و الظلم على الناس، و التعدّي في أموالهم و نفوسهم و أعراضهم و توهينهم و تضييع حقوقهم.

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)ثمّ حثّهم سبحانه على العمل بما في الآية بقوله: يَعِظُكُمْ اللّه بأمره و نهيه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و تتعظون.

عن ابن مسعود، أنه قال: هي أجمع آية في القرآن للخير و الشرّ، و لو لم يكون فيه غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكلّ شيء و هدى (1).

و عن ابن عباس: أنّ عثمان بن مظعون الجمحي قال: ما أسلمت أولا إلاّ حياء من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم يتقرّر الإسلام في قلبي، فحضرت عنده ذات يوم، فبينما هو يحدّثني إذا رأيت بصره شخص إلى السماء ثمّ خفضه عن يمينه، ثمّ عاد لمثل ذلك فسألته، فقال: «بينما أنا احدثك إذا بجبرئيل نزل عن يميني فقال: يا محمّد إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ العدل: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و الاحسان: القيام بالفرائض وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى [أي]صلة ذي القرابة وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ الزنا وَ اَلْمُنْكَرِ ما لا يعرف في شريعة و لا سنّة وَ اَلْبَغْيِ الاستطالة» .

ص: 606


1- . تفسير أبي السعود 5:136.

قال عثمان: فوقع الايمان في قلبي، فأتيت أبا طالب فأخبرته، فقال: يا معشر قريش، اتّبعوا ابن أخي ترشدوا، و لئن كان صادقا أو كاذبا، فانّه لا يأمر إلاّ بمكارم الاخلاق. فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من عمّه اللين، قال: «يا عمّ، أتأمر الناس أن يتّبعوني و تدع نفسك، و جهد عليه فأبى أن يسلم» (1).

أقول: يعني في الظاهر نظرا إلى صلاح حفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إلاّ فانّه كان من أول المسلمين و أفضلهم، لوضوح أنّ هذا الكلام لا يصدر إلاّ ممّن كان مسلما عن صميم القلب موقنا بصدق الرسول، و لذا قدّم التصديق بقوله: و لئن كان صادقا أو كاذبا.

و عن ابن عباس: العدل: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و الاحسان: أداء الفرائض (2).

و في رواية اخرى عنه: العدل: خلع الأنداد، و الاحسان: أن تعبد اللّه كأنّك تراه، و أن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، فإن كان مؤمنا أحببت أن يزداد إيمانا، و إن كان كافرا أحببت أن يصير أخاك في الاسلام (3).

و في رواية ثالثة، قال: العدل: هو التوحيد، و [الاحسان:]الاخلاص فيه (2).

و قيل: العدل في الأفعال، و الإحسان في الأقوال، فلا تفعل إلاّ ما هو عدل، و لا تقل إلاّ ما هو إحسان (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام «العدل: الانصاف، و الاحسان: التفضل» (3).

و عن القمي: العدل شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله رسول اللّه، و الاحسان: أمير المؤمنين عليه السّلام (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «العدل: محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فمن أطاعه فقد عدل، و الاحسان: عليّ عليه السّلام، فمن تولاّه فقد أحسن، و المحسن في الجنّة» (5).

و عن ابن عباس: وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى يريد صلة الرّحم بالمال، فان لم يكن فبالدعاء (6).

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم، إنّ أهل البيت ليكونون فقراء (7)فتمنى أموالهم و يكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم» (8).

ص: 607


1- . تفسير الرازي 20:100. (2 و 3 و 5) . تفسير الرازي 20:101.
2- . تفسير الرازي 20:101.
3- . تفسير العياشي 3:20/2420، معاني الأخبار:257/1، تفسير الصافي 3:151.
4- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:151.
5- . تفسير العياشي 3:21/2422، تفسير الصافي 3:151.
6- . تفسير الرازي 20:101.
7- . في تفسير الرازي: فجارا.
8- . تفسير الرازي 20:101.

و عن الباقر عليه السّلام: «إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى قرابتنا، أمر اللّه العباد بمودّتنا و إيتائنا» (1).

و عن الصادق عليه السّلام، أنّه قرأ عنده هذه الآية، فقال: «اقرأ كما أقول إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي اَلْقُرْبى حقّه» إلى أن قال الراوي: قيل: فما يعني بايتاء ذي القربى حقّه؟ قال: «أداء إمام إلى إمام بعد إمام» (2)

و قيل: إن المراد بالفحشاء الزنا (3)، كما في الرواية السابقة. و قيل: البخل (4). و قيل: كل الذنوب، سواء كانت في القول أو في الفعل، أو كبيرة أو صغيرة (5). و المراد بالمنكر هو الكفر باللّه (6). و قيل: ما لا يعرف في شريعة و لا سنّة (7)، كما في الرواية السابقة.

و قيل: المراد بالبغي الكبر و الظلم (8).

و عن القمي، في تأويله الفحشاء و المنكر و البغي: فلان و فلان و فلان (4).

و عن الباقر عليه السّلام: «الفحشاء الأول، و المنكر الثاني، و البغي الثالث» (5).

و عن الصادق عليه السّلام: وَ يَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ قال: «ولاية فلان [و فلان]» (6).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 91

ثمّ لمّا جمع اللّه جميع المأمورات و المنهيات التي كلّها عهود اللّه في الآية السابقة، بالغ في التأكيد في العمل بها بقوله: وَ أَوْفُوا أيّها المؤمنون بِعَهْدِ اَللّهِ و اعملوا بأحكامه إِذا عاهَدْتُمْ معه حين آمنتم به و سلّمتم له و بايعتم رسوله.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)و قيل: المراد بالعهد خصوص بيعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله (7). و قيل: هو كلّ ما يلزمه الانسان على نفسه بالنّذر و شبهه (13). و قيل: هو اليمين (14). و على التفسير الأوّل خصّ سبحانه حكم نقض اليمين بالذّكر اهتماما به بقوله: وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ باللّه التي تحلفون بها عند المعاهدات، و لا تحنثوا (8)فيها بَعْدَ تَوْكِيدِها و إحكامها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّهَ عَلَيْكُمْ بالوفاء بها كَفِيلاً و رقيبا، فإنّ من حلف باللّه جعله

ص: 608


1- . تفسير العياشي 3:21/2422، تفسير الصافي 3:152.
2- . تفسير العياشي 3:19/2419، تفسير الصافي 3:152.
3- . تفسير الرازي 20:100. (4 و 5 و 6) . تفسير الرازي 20:101. (7 و 8) . تفسير الرازي 20:101.
4- . تفسير القمي 1:388، تفسير الصافي 3:151.
5- . تفسير العياشي 3:20/2421، تفسير الصافي 3:151.
6- . تفسير العياشي 3:20/2419، تفسير الصافي 3:152.
7- . تفسير الرازي 20:106، تفسير روح البيان 5:73. (13 و 14) . تفسير الرازي 20:107.
8- . حنث في اليمين: لم يبرّ فيها و أثم.

كفيلا بالوفاء به.

ثمّ رغّب في الوفاء و رهّب عن الحنث بقوله: إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من الوفاء و الحنث، فيجازيكم على الأول بالثواب، و على الثاني بالعقاب.

قيل: نزلت في جماعة أسلموا بمكة، و عاهدوا الرسول، فلمّا رأوا غلبة قريش و ضعف المسلمين جزعوا و اضطربوا، و همّوا بنقض العهد بتسويل الشيطان، فثبّتهم اللّه بهذه الآية على عهدهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله (1).

و القميّ عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت ولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام، و كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، فكان ممّا أكّد اللّه عليهم في ذلك اليوم، و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهما: قوما فسلّما عليه بإمرة المؤمنين. فقالا: أمن اللّه أو من رسوله؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من اللّه و من رسوله. فأنزل اللّه وَ لا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يعني به قول رسول اللّه لهما، و قولهما: أمن اللّه أو من رسوله؟» (2).

أقول: يمكن تكرّر نزول الآية.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 92

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الوفاء بالعهود و حرمة نقضها بقوله: وَ لا تَكُونُوا أيّها المؤمنون في عهودكم و أيمانكم و نقضها بلا مجوّز شرعي و عقلائي كَالَّتِي غزلت الشعر و الصوف و فتلت الحبل كلّ يوم ثمّ نَقَضَتْ غَزْلَها و فتلها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ و إبرام و إحكام له حتى جعلته أَنْكاثاً و خيوطا، أو اجزاء متفرقة كالصوف المنفوش، ثمّ غزلت مرة ثانية، ثمّ فعلت ما فعلت بالغزل الأول.

وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اَللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)قيل: هي امرأة من قريش يقال لها رايطة أو ريطة (3)أو خطيئة بنت سعد بن تميم، تلقّب بالجعراء (4)، أو خضراء، أو خرقاء (5)، و كانت حمقاء (6)، و كانت أعدّت مغزلا قدر ذراع في رأسه حديدة مثل إصبع، و فلكة عظيمة على قدرها، و كانت هي و جواريها تغزل من الصبح إلى نصف النهار، ثمّ تأمرهنّ

ص: 609


1- . تفسير روح البيان 5:73.
2- . الكافي 1:231/1، تفسير الصافي 3:152، تفسير القمي 1:389 «نحوه» .
3- . تفسير الرازي 20:108، تفسير القمي 1:389.
4- . تفسير الرازي 20:108.
5- . مجمع البيان 6:590، تفسير البيضاوي 1:555.
6- . تفسير الرازي 20:108، تفسير الصافي 3:153.

بنقض جميع ما غزلت (1).

عن الباقر عليه السّلام: «التي نقضت غزلها امرأة من بني تيم بن مرّة يقال: له ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم بن لؤي بن غالب، كانت حمقاء تغزل الشعر، فإذا غزلته نقضته، ثمّ عادت تغزله، فقال اللّه: كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها الآية» قال: «إنّ اللّه أمر بالوفاء، و نهى عن نقض العهد، و ضرب لهم مثلا» (2).

و عن الصادق عليه السّلام في تأويلها «أنّ عائشة هي نكثت أيمانها» (3).

و قيل: إنّ المقصود تصوّر مثل المرأة التي تكون صفتها كذلك (4)، و لا يلزم وجودها في الخارج، و المراد لا تكونوا مثل هذه الامرأة حال كونكم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً و خديعة و غشّا بَيْنَكُمْ لأجل أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ و جماعة هِيَ أَرْبى و أكثر مِنْ أُمَّةٍ و جماعة اخرى عددا و مالا و قوة و شرفا.

و قيل: إنّ الجملة استفهامية إنكارية (5)، و المعنى أتتّخذون؟ ! إلى آخره.

قيل: كانوا يحالفون الحلفاء ثمّ يجدون من كان أعزّ منهم و أشرف، فينقضون حلف الأولين و يحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك (6).

و قيل: إنّ الأربى كفرة قريش، و الامّة الاخرى جماعة المؤمنين (5)، و على أيّ تقدير إِنَّما الغرض من جعل بعض الامم أربى، أو من الأمر و النهي أن يَبْلُوكُمُ اَللّهُ و يختبركم بِهِ بأن يظهر أنّكم تمسّكون بحبل الوفاء بعهد اللّه و بيعة رسوله، أم تغترّون بكثرة قريش و شوكتهم و ضعف المسلمين، أو تطيعون اللّه و رسوله، أو تتّبعون خطوات الشيطان و تسويلاته.

و القمي: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اَللّهُ بِهِ يعني يختبركم بعلي عليه السّلام (6).

وَ لَيُبَيِّنَنَّ اللّه لَكُمْ البتة يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و وقت جزاء الأعمال ما كُنْتُمْ في الدنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من صحّة دين الاسلام، و أنّه دين الحقّ المؤدّيّ إلى الثواب، و بطلان غيره و أنّه مؤدّ إلى العقاب.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 93

وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

ص: 610


1- . تفسير أبي السعود 5:137، تفسير روح البيان 5:75.
2- . تفسير القمي 1:389، تفسير الصافي 3:153.
3- . تفسير العياشي 3:22/2424، تفسير الصافي 3:153.
4- . تفسير روح البيان 5:75. (5 و 6) . تفسير الرازي 20:109.
5- . تفسير الصافي 3:153، تفسير روح البيان 5:75.
6- . تفسير القمي 1:389، الكافي 1:232/1، تفسير الصافي 3:154.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه اختلاف الناس في دينه، نبّه على قدرته على إلجائهم على الاتفاق على دين الاسلام، و إنّما الحكمة اقتضت إيكالهم إلى اختيارهم و حصول الاختلاف بينهم حسب اختلاف طينتهم بقوله: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ بالمشيئة التكوينية اتفاق الناس، و اللّه لَجَعَلَكُمْ بالقهر و الجبر أُمَّةً واحِدَةً متّفقة على دين الاسلام بقدرته القاهرة وَ لكِنْ لم يشأ ذلك لمنافاته الحكمة البالغة، بل يُضِلُّ عن الحقّ مَنْ يَشاءُ إضلاله بخذلانه و إيكاله إلى نفسه و مقتضى طينته لعدم قابليته للهداية و التوفيق وَ يَهْدِي إلى الحقّ مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه و طيب طينته و قابليتة للهداية وَ باللّه لَتُسْئَلُنَّ جميعا البتة يوم القيامة سؤال تبكيت و تقريع عَمّا كُنْتُمْ في الدنيا تَعْمَلُونَ من الوفاء بالعهد و الأيمان و نقضها و حنثها، فتجزون بما صدر عنكم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 94 الی 95

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن نقض العهد و اتّخاذه دخلا و خديعة بقوله: وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ و نكرا فَتَزِلَّ قَدَمٌ منكم أيّها المؤمنون عن محجّة الحقّ و الصراط المستقيم بَعْدَ ثُبُوتِها و استقرارها عليها، و إنّما أفرد لفظ القدم و نكّره إشعارا بأنّ زلة القدم الواحدة إذا كانت مستتبعة لهذا المحذور العظيم، فكيف بزلّة الأقدام الكثيرة.

وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اَللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)و قيل: إنّ هذا الكلام مثل يضرب لكلّ من وقع في الشدّة بعد الرخاء و ابتلي بالمحنة بعد النّعمة (1).

و قال القمي في تأويله: بَعْدَ ثُبُوتِها يعني بعد مقالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عليّ عليه السّلام (2).

و قيل: إنّ الآية السابقة في النهي عن نقض مطلق العهد و اليمين، و هذه الآية في النهي عن نقض عهد الرسول (3)و بيعته؛ لأنّ زلّة القدم بعد ثبوتها مناسبة لنقض هذا العهد الموجب لسقوط الانسان عن درجة الايمان في مهاوي الضلال و الهلاك، و لذا هدّدهم بقوله: وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ و العذاب الدنيوي بِما صَدَدْتُمْ و منعتم أنفسكم أو غيركم عَنْ السلوك في سَبِيلِ اَللّهِ و الالتزام بالاسلام، أو الدخول فيه، فان ارتدادهم يكون مانعا عن إيمان غيرهم وَ لَكُمْ في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ

ص: 611


1- . تفسير الرازي 20:110.
2- . تفسير القمي 1:390، الكافي 1:232/1، تفسير الصافي 3:154.
3- . تفسير الرازي 20:110.

و عقاب شديد.

ثمّ قيل: إنّ المشركين كانوا يعدون ضعفاء المسلمين و يشترطون لهم الحطام الدنيوية عن ارتدادهم (1)، فنهى اللّه المسلمين عن الرغبة في أموال المشركين بقوله: وَ لا تَشْتَرُوا أيّها المؤمنون بِعَهْدِ اَللّهِ و لا تأخذوا بمقابلتة و مقابلة بيعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ثَمَناً و عوضا من أموال المشركين، فانّه و إن كان بقدر الدنيا يكون قَلِيلاً و يسيرا إِنَّما عِنْدَ اَللّهِ من الأجر على الوفاء بالعهد من النصر و العزّ في الدنيا و الثواب في الآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ممّا يعدونكم من الأموال إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ عاقبة الايمان، و تميّزون الخير من الشرّ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 96 الی 97

ثمّ بيّن سبحانه أظهر وجوه الخيرية بقوله: ما عِنْدَكُمْ من الحطام الدنيوية يَنْفَدُ و يفنى و ينقضي وَ ما اعدّ لكم من النّعم عِنْدَ اَللّهِ و في خزائن رحمته باقٍ و دائم لا نفاد له، و من الواضح أنّ النعمة الباقية و إن كانت قليلة خير و أفضل من النعم الزائلة و إن كانت في غاية الكثرة.

ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)ثمّ لمّا كان الوفاء بالعهد و الثبات على الايمان موقوفا على الصبر على الفقر و الشدائد، وعد الصابرين بقوله: وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بالعهد و بيعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما التزموه من شرائع الاسلام أَجْرَهُمْ و ثوابهم الخاصّ بهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الواجبات و المندوبات.

و قيل: يعني بما عملوا من الصبر على المذكورات، و إنّما أضاف إليه الأحسن للايذان بغاية حسنه (2).

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على الأعمال الصالحة بقوله: مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً خالصا لوجه اللّه، أيّ عمل كان، و أيّ عامل كان مَنْ صنف ذَكَرٍ أو صنف أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ بتوحيد اللّه و رسالة رسوله و صدق ما جاء به فَلَنُحْيِيَنَّهُ و نعيشنّه حَياةً و عيشة طَيِّبَةً مرضية حسنة، و إن كان معسرا مبتلى بالأمراض و المصائب، فانّه يكون قانعا راضيا بالقسمة، متوكّلا على اللّه، راجيا أجره العظيم في الآخرة، فلا يحزن على ما فاته، و لا يفرح بما آتاه اللّه من الدنيا.

ص: 612


1- . تفسير روح البيان 5:76، و فيه: على الارتداد.
2- . تفسير روح البيان 5:78.

و قيل: إنّ الحياة الطيبة هو الرزق الحلال (1). و قيل: هي عبادة اللّه و الرزق الحلال (2). و قيل: هي حياة البرزخ (1). و قيل: حياة الآخرة (2).

ثمّ وعدهم الأجر العظيم فيها بقوله: وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من العبادات الخالصة عن شوب الرياء و العجب و الهوى.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 98

ثمّ لمّا كانت تلاوة القرآن من أحسن الأعمال، إذا كانت خالصة من الرياء و العجب الحاصلين بوساوس الشيطان، بيّن اللّه طريق الخلاص منها بقوله: فَإِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ يا محمّد، أو يا إنسان فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ و التجأ إليه مِنَ وساوس اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ و المطرود من الرحمة.

فَإِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ (98)روت العامة عن ابن مسعود، قال قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت: أعوذ باللّه السميع (3)العليم من الشيطان الرجيم. فقال: «قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، هكذا أقرانيه جبرئيل عن القلم عن اللوح المحفوظ» (4).

و عن الصادق عليه السّلام [قيل له:]كيف أقول؟ قال: «تقول: أعوذ (5)باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم» و قال: «الرجيم أخبث الشياطين» (6).

و عن [حنان بن]سدير قال: صلّيت خلف أبي عبد اللّه [المغرب]فتعوّذ بإجهار: «أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، و أعوذ باللّه أن يحضرون» ثمّ جهر ب (بسم اللّه الرحمن الرحيم) (7).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 99 الی 100

ثمّ نبّه سبحانه على فائدة الاستعاذة بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ بالولاية و الأمر عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد اللّه وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فانّهم لا يؤثّر فيهم أمره و تسويله، و فيه إشعار بعدم فائدة الاستعاذة القولية ما لم يكن معها استعاذة (8)قلبية إِنَّما سُلْطانُهُ و استيلاؤه بالتسويل و الدعوة المؤثرة

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

ص: 613


1- . تفسير الرازي 20:113.
2- . تفسير الرازي 20:113، تفسير البيضاوي 1:556.
3- . في تفسير البيضاوي و أبي السعود: أعوذ بالسميع.
4- . تفسير البيضاوي 1:557، تفسير أبي السعود 5:140، تفسير الصافي 3:155.
5- . في تفسير العياشي: استعيذ.
6- . تفسير العياشي 3:23/2426، تفسير الصافي 3:155.
7- . قرب الاسناد:124/436، تفسير الصافي 3:155.
8- . في النسخة: استفادة.

في القلب عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ و يحبّونه و يطيعونه وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ تعالى، أو بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ في الاولوهية و العبادة.

عن الباقر عليه السّلام: «يسلّط و اللّه من المؤمن على بدنه و لا يسلّط على دينه، قد سلّط على أيوب فشوّه خلقه، و لم يسلّط على دينه» . [قلت: قوله تعالى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ]قال: «الذين هم باللّه مشركون: يسلّط على أديانهم و على أبدانهم» (1).

و عنه عليه السّلام: أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «ليس له أن يزيلهم عن الولاية، فأما الذنوب و أشباه ذلك، فانّه ينال منهم كما ينال من غيرهم» (2).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 101

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر القرآن، ذكر طعن المشركين فيه بقوله: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ عن ابن عباس: أنّه كان إذا نزلت آية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها شدّة، أخذ الناس بها و عملوا ما شاء اللّه أن يعملوا، فيشقّ ذلك عليهم، فينسخ اللّه هذه الشدّة و يأتيهم بما هو ألين منها و أهون عليهم رحمة من اللّه تعالى، فيقول لهم كفّار قريش: إنّ محمّدا يسخر بكم، يأمركم اليوم بأمر و ينهاكم عنه غدا، و يأتيكم بما هو أهون عليكم، و ما هو إلاّ مفتر يقوله من تلقاء نفسه، و المعنى: إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه و جعلناها بدلا منها بأن نسخناها (3).

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)ثمّ أنّه تعالى قبل نقل كلامهم بادر في الجواب عنه بقوله: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من الناسخ و المنسوخ، و التغليظ و التخفيف، و ما هو مصالح العباد، فما بال هؤلاء المشركين حيث قالُوا إذا رأوا التبديل إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ على اللّه بدعوى نزوله منه، و كاذب في هذه النسبة، فانّ بعضهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن و حقانيته و فائدة نسخ الأحكام و تبديلها، و إنّه لمصالح العباد التي تتغيّر بتغيّر الزمان، و أمّا القليل الذي يعلمه فانّما يجحده لعناده و لجاجه.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 102 الی 104

ص: 614


1- . تفسير العياشي 3:23/2425، و الكافي 8:288/433، و تفسير الصافي 3:155، عن الصادق عليه السّلام.
2- . تفسير العياشي 3:24/2428، تفسير الصافي 3:155.
3- . تفسير روح البيان 5:81.

ثمّ بالغ سبحانه في ردّهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: ليس القرآن ممّا تقوّلته، بل نَزَّلَهُ تدريجا جبرئيل الذي لقبه رُوحُ اَلْقُدُسِ و أمين الوحي مِنْ قبل رَبِّكَ مقرونا بِالْحَقِّ و دلائل الصدق من إعجاز البيان و اشتماله على العلوم الوفيرة و الأخبار الغيبية، أو متلبّسا بالحكمة البالغة لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا على الايمان بأنّه كلام اللّه المنزل على رسوله، فانّهم إذا سمعوا الناسخ و تفكّروا فيما فيه من المصالح و الحكم، رسخت عقائدهم و طمأنّت قلوبهم وَ ليكون هُدىً و رشادا إلى كلّ حقّ و خير وَ بُشْرى بالثواب لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لأحكامه.

ثمّ حكى اللّه تعالى طعنهم الآخر في القرآن بقوله: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أنّ محمّدا كاذب في دعوى نزول القرآن من اللّه، بل إِنَّما يُعَلِّمُهُ القصص و التواريخ التي فيه بَشَرٌ قيل: اريد به سلمان الفارسي (1). و قيل: عبد لبني عامر بن لؤي (2)، و كان يقرأ الكتب (3)و قيل: عدّاس غلام عتبة بن ربيعة (4). و قيل: عبد لبني الحضرمي [صاحب]كتب و اسمه جبر، و كانت قريش تقول: إنّ عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة، و خديجة تعلّم محمّدا (5). و قيل: كان بمكّة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام. و كنيته أبو ميسرة، و كان يتكلّم بالرّومية (6).

ثمّ ردّهم اللّه تعالى بقوله: لِسانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ و ينسبون القرآن إِلَيْهِ أو يميلون قولهم عن الاستقامة بادّعاء أنّ القرآن بتعليمه أَعْجَمِيٌّ غير فصيح و غير مبين، أو غير عارف بلغة العرب وَ هذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ بالغ في الفصاحة إلى حدّ الإعجاز، ثمّ أتبع ردّهم بتهديدهم بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ و دلائل توحيده و كمال صفاته، و رسالة رسوله و معجزاته التي منها فصاحة القرآن و علومه المنطوية فيه، مع عدم اطّلاع الذي حسبوه معلّما له على أقل قليل منها لا يَهْدِيهِمُ اَللّهُ إلى الحقّ و طريق الجنّة، بل يسوقهم إلى النار وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 105 الی 106

ص: 615


1- . تفسير الرازي 20:117، تفسير البيضاوي 1:557، تفسير أبي السعود 5:141.
2- . زاد في تفسير الرازي: يقال له: يعيش. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:117. (5 و 6) . تفسير الرازي 20:117.

ثمّ نفى سبحانه الكذب عن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أثبته للمشركين بقوله: إِنَّما يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ و يقول ما هو خلاف الواقع عن علم و عمد اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ و لا يصدّقونها عنادا و لجاجا، و يدّعون أنّ الآيات افتراء و كذب، فانّهم اللائقون بالكذب وَ أُولئِكَ المتّصفون بأخبث الصفات هُمُ اَلْكاذِبُونَ في الحقيقة المبالغون في الكذب لعدم خوفهم من عقاب اللّه، لا النبيّ الصادق المصدّق الذي هو أخوف الخائفين و رأس المؤمنين.

ثمّ لمّا حكى اللّه سبحانه شبهات المشركين في صدق القرآن و نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله طمعا في ارتداد المسلمين، هدّد المرتدّين بقوله: مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ بسبب شبهات المشركين مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ و وضوح الحقّ عنده، كان من كان إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ على إظهار الكفر باللسان وَ الحال أنه قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ و موقن بِالْإِيمانِ و مستقرّ على التوحيد و نبوّة النبيّ و صدق القرآن.

قيل: إنّ قوله: مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ بدل من قوله: اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ و المعنى إنّما يفتري الكذب من كفر باللّه، و قوله: أُولئِكَ هُمُ اَلْكاذِبُونَ اعتراض بين المبدل و بدله (1)و قيل: بدل من اَلْكاذِبُونَ و المعنى اولئك هم من كفر باللّه (2). و قيل: إنّه منصوب على الذمّ، و المعنى اولئك هم الكاذبون، أعني من كفر باللّه (3).

ثمّ أنه تعالى بعد استثناء المكرهين بيّن الكافر المذموم بقوله: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً و طاب به نفسا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ عظيم مِنَ اَللّهِ في الدنيا وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.

عن ابن عبّاس: نزلت الآية في عمّار، و ذلك أنّ كفّار قريش أخذوه و أبويه ياسر و سميّة و صهيبا و بلالا و خبّابا و سالما فعذّبوهم ليرتدّوا، فأبى أبوا عمّار، فربطوا سميّة بين بعيرين و ضربت بحربة في قلبها، و قالوا: إنّما أسلمت من أجل الرجال و التعشّق بهم فقتلوها، و قتلوا ياسرا، و هما أول قتيلين في الاسلام، و أمّا عمّار فكان ضعيف البدن فلم يطق لعذابهم، فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، و هو سبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذكر الأصنام بخير، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ عمّارا كفر. فقال: «كلا، إنّ عمّارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدميه، و اختلط الايمان بلحمه و دمه» فأتى عمّار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يبكي، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمسح عينيه، و قال: «مالك، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» (1).

القمي: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فهو عمّار بن ياسر، أخذته قريش بمكة فعذّبوه بالنار حتّى أعطاهم بلسانه ما أرادوا و قلبه مطمئن و مقرّ بالايمان وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً

ص: 616


1- . تفسير روح البيان 5:84، تفسير الرازي 20:121، تفسير أبي السعود 5:143.

فهو عبد اللّه [بن سعد]بن أبي سرح بن الحارث بن لؤي (1)، و كان عاملا لعثمان بن عفّان على مصر (2).

و عن (الكافي) : قيل للصادق عليه السّلام: إنّ الناس يروون أن عليا عليه السّلام قال على منبر الكوفة: «أيّها الناس، إنّكم ستدعون إلى سبيّ فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرءوا منّي» .

فقال عليه السّلام: «ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السّلام!» ثمّ قال: إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي و أنا لعلى دين محمّد، و لم يقل: فلا تبرءوا منّي» .

فقال له السائل: [أ رأيت]إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: «و اللّه ما ذاك عليه و ما له إلاّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث اكره و قلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل اللّه فيه إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله عندها: يا عمّار، إن عادوا فعد فقد أنزل اللّه عندك، و أمرك أن تعود إن عادوا» (3).

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل: مدّ الرقاب أحبّ إليك أم البراءة من عليّ؟ فقال: «الرّخصة أحب إليّ، أما سمعت قول اللّه في عمّار: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» (4).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 107 الی 109

ثمّ ذكر اللّه علّة الارتداد مع وضوح الحقّ بقوله: ذلِكَ الارتداد بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا و شهواتها و آثروها عَلَى نعم اَلْآخِرَةِ و الجنة الباقية وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي و لا يوفّق اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ للتديّن بدين الحقّ، لخبث ذاتهم، و رسوخ حبّ الدنيا في قلوبهم.

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (109)ثمّ بيّن أنّه تعالى لا يكتفي في حقّهم بالكفّ عن توفيقهم للثبات على الايمان، بل يخذلهم و يميت قلوبهم [الموت]الملازم لعدم العقل و الصّمم و العمى بقوله: أُولئِكَ المحبّون للدنيا و مؤثورها على الآخرة هم اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ و ختم عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ فلا يعقلون شيئا من الحقّ، و لا يسمعون النّصح و الوعد و الوعيد، و لا يبصرون الآيات و المعجزات.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعو أصحابه، فمن أراد اللّه به خيرا سمع و عرف ما يدعوه إليه، و من أراد به شرّا طبع على قلبه فلا يسمع و لا يعقل، و هو قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ

ص: 617


1- . تفسير القمي 1:390، تفسير الصافي 3:157.
2- . تفسير القمي 1:391، تفسير الصافي 3:157.
3- . الكافي 2:173/10، تفسير الصافي 3:157.
4- . تفسير العياشي 3:25/2433، تفسير الصافي 3:158.

طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ (1) عن وخامة عاقبتهم، و عمّا يراد بهم من العذاب الدائم لا جَرَمَ و حقّا أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْخاسِرُونَ حيث ضيّعوا فطرتهم و أعمارهم و صرفوها في تحصيل العذاب الدائم مع تمكّنهم من صرفها في تحصيل النّعم الدائمة و الراحة الأبدية، فلا أخسر منهم، بل لعظم خسرانهم كأنّه لا خاسر غيرهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 110 الی 111

ثمّ بيّن سبحانه غاية لطفه بالذين عذّبهم الكفار و أكرهوهم على الكفر بقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا من أوطانهم حفظا لدينهم و نصرة لنبيهم مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا و عذّبوا بجور المشركين و اكرهوا على كلمة الكفر ثُمَّ جاهَدُوا في سبيل اللّه وَ صَبَرُوا على فتنة الكفّار و متاعب الهجرة و مشاقّ المجاهدة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها بلطفه و كرمة لَغَفُورٌ لما صدر عنهم من كلمة الكفر و سائر الزلاّت رَحِيمٌ بهم و منعم عليهم بالجنّة و سائر الخيرات.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)ثمّ بيّن سبحانه أنّ غفرانه لهم و رحمته عليهم يكونان في وقت غاية الحاجة إليهما بقوله: يَوْمَ و قيل: إنّ التقدير اذكر يا محمّد (2)أو ذكّرهم يوم تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة أو كافرة برّة أو فاجرة تُجادِلُ و تخاصم دفاعا عَنْ نَفْسِها و شخصها.

عن ابن عبّاس: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتّى يخاصم الروح الجسد، يقول الروح: يا ربّ، لم يكن لي يد أبطش بها و لا رجل أمشي بها، و لا عين أبصر بها. و يقول الجسد: خلقتني كالخشب، ليست لي يد أبطش [بها]، و لا رجل أمشي بها، و لا عين أبصر بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني، و أبصرت عيني، و مشت رجلي. قال: فيضرب لهما مثلا؛ مثل الأعمى و المقعد دخلا حائطا و فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثّمار، و المقعد لا ينالها، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثّمر، فعليهما العذاب (3).

و قيل: إنّ المعنى أنّ كلّ نفس تجادل نفسه، فيقول المطيع: لم لم اكثر من طاعة ربّي؟ و يقول العاصي لنفسه: لم عصيت ربّي.

ص: 618


1- . تفسير العياشي 3:26/2436، تفسير الصافي 3:158.
2- . تفسير روح البيان 5:87.
3- . تفسير روح البيان 5:88.

وَ تُوَفّى و تعطى كاملا كُلُّ نَفْسٍ من النفوس جزاء ما عَمِلَتْ من الطاعة و المعصية و الخير و الشرّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثواب أو زيادة العقاب.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 112

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب الاخروي، هدّدهم بالعذاب الدنيوي بقوله: وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً بديعا لتبيين حال الكفّار و المرتدين عن دين الحقّ، و ذكر لهم شبيها، و هو أنّ قَرْيَةً من القرى، قيل: هي مكة (1)، و قيل: هي أيلة، كانت بين ينبع و مصر (2)كانَتْ آمِنَةً من تعديّات القياصرة و ظلم الجبابرة و سائر المخوفات، و كانت مُطْمَئِنَّةً ساكنة أهلها، لا ينتقلون منها إلى غيرها لحسنها، و عذوبة مائها، و لطافة هوائها، و وفور نعمها، فانّه كان يَأْتِيها رِزْقُها و ما يحتاج إليه أهلها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ كان في نواحيها من البرّ و البحر فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّهِ بأن صرفها أهلها في عصيان ربّهم الذي تفضّل عليهم بتلك النّعم التي منها صحّة أمزجتهم، وسعة أرزاقهم، و أمنهم من المخوفات فَأَذاقَهَا اَللّهُ و ألبس أهلها لِباسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بسبب القحط و تهاجم الأعداء عليهم بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من كفران النعم.

وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّهِ فَأَذاقَهَا اَللّهُ لِباسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)روى بعض العامة: أنّ أهل أيلة كانوا يستنجون بالخبز (3).

و القمي رحمه اللّه، قال: نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له البليان (4)، و كانت بلادهم خصبة كثيرة الخير، و كانوا يستنجون بالعجين، و يقولون: هو ألين لنا، فكفروا بأنعم اللّه و استخفوا بنعمة اللّه، فحبس اللّه عليهم البليان، فجدبوا حتّى أحوجهم اللّه إلى [أكل]ما كانوا يستنجون به، حتّى كانوا يتقاسمون عليه (5).

و العياشي عن الصادق عليه السّلام: «كان أبي يكره أن يمسح يده بالمنديل و فيه شيء من الطعام تعظيما له، إلاّ أن يمصّها، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها له. قال: و إنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقّده، فيضحك الخادم» .

ثمّ قال: «إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم، كان اللّه قد وسع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شيء من هذا النّقي (6)فجعلناه نستنجي به، كان ألين علينا من الحجارة» قال: «فلمّا فعلوا ذلك بعث اللّه إلى أرضهم دوابا أصغر من الجراد، فلم يدع لهم شيئا خلقه اللّه [يقدر عليه]إلاّ أكله من

ص: 619


1- . تفسير الرازي 20:127.
2- . تفسير روح البيان 5:88.
3- . تفسير روح البيان 5:89.
4- . في تفسير القمي الثلثان (الثرثار خ ل) .
5- . تفسير القمي 1:391، تفسير الصافي 3:159.
6- . النقيّ: الدقيق الجيد الأبيض.

شجر و غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا إلى الذي كانوا يستنجون به [فأكلوه]، و هي القرية التي قال اللّه: ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً إلى قوله: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (1).

قيل: وجه استعارة اللباس للجوع و الخوف إحاطتهما به من جميع الجهات (2).

و قيل: تأثيرهما في الهزال و شحوب اللون المشتملين على البدن كاللباس (3)، و قيل: إنّ اللباس هنا بمعنى الامساس (4).

و قيل: إنّ الإذاقة بمعنى التّعرّف (5). و قيل: استعير لفظ الإذاقة للاصابة لما فيها من اجتماع إدراكي اللاّمسة و الذائقة (4).

سوره 16 (النحل): آیه شماره 113

ثمّ أنه تعالى بعد بيان سلب النعم عنهم بكفرانهم، بيّن ابتلاءهم بعذاب الاستئصال بتكذيبهم الرسول بقوله: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ من جانب اللّه رَسُولٌ مِنْهُمْ يعرفونه بأصله و نسبه و أخلاقه، لهدايتهم إلى الحقّ، و إرشادهم إلى وجوب شكر النعم و حرمة الكفران، و إخبارهم بسوء عاقبته فَكَذَّبُوهُ فيما أخبرهم به من رسالته من اللّه، و وجوب طاعته و طاعة أحكام اللّه التي منها وجوب شكر النعم فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ المستأصل و أهلكهم به وَ هُمْ ظالِمُونَ على أنفسهم بكفران النعم و الكفر باللّه و برسوله.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (113)عن ابن عبّاس، قال: هذا المثل لأهل مكة، فانّهم كانوا في حرم آمن و يتخّطف النّاس من حولهم، و ما يمرّ ببالهم طيف من الخوف، و كانت تجبى إليه ثمرات كلّ شيء، و لقد جاءهم رسول منهم، فكفروا بأنعم اللّه، و كذّبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأصابهم بدعائه-بقوله: «اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف» -ما أصابهم من القحط و الجدب حتى أكلوا الجيف و الكلاب الميتة و الجلود و العظام المحرّقة و العلهز-و هو الوبر و الدم-يعني كانوا يخلطون الدم بأوبار الإبل و يشوونه على النار، و صار الواحد منهم يرى ما بينه و بين السماء كالدّخان من الجوع، و قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد الهجرة، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم و عيرهم، فوقعوا في خوف عظيم من أهل الاسلام حتى تركوا سفر الشام و التردّد إليه، ثمّ أخذهم يوم بدر ما أخذهم [من العذاب] (5).

ص: 620


1- . تفسير العياشي 3:27/2438، تفسير الصافي 3:159.
2- . تفسير الرازي 20:129.
3- . تفسير روح البيان 5:89. (4 و 5) . تفسير الرازي 20:129.
4- . تفسير أبي السعود 5:145.
5- . تفسير روح البيان 5:89.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 114

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء عاقبة الكفران، أمر عموم النّاس بشكر نعمه بقوله: فَكُلُوا أيّها الناس مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ و أنعم عليكم من النّعم حال كونها حَلالاً لكم من قبل اللّه طَيِّباً و لذيذا عندكم.

فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (114)قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطع الميرة عن أهل مكّة، فكلّم رسلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين جهدوا (1)، و قالوا: عاديت الرجال فما بال النسوة و الصبيان؟ فأذن صلّى اللّه عليه و آله في حمل الطعام إليهم، فلّما حمل خاطبهم اللّه بقوله: فَكُلُوا (2)يا أهل مكّة مِمّا رَزَقَكُمُ.

و قيل: كأنه قال تعالى: لمّا تبين لكم يا أهل مكه حال من كفر بأنعم اللّه و كذّب رسوله و ما حلّ بهم (3)فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً و لا تحرّموا بأهوائكم ما أحلّ اللّه لكم وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ و أحكامه تطيعون، و رضاه تطلبون.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 115

ثمّ أعلمهم بما حرّم عليهم بقوله: إِنَّما حَرَّمَ اللّه عَلَيْكُمُ في دين الاسلام اَلْمَيْتَةَ و ما زهق روحه بغير التذكية من كلّ حيوان برّي وَ اَلدَّمَ مسفوحا كان أو غيره إلاّ المتخلّف في المذكّى وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ و سائر ما يؤكل منه وَ ما أُهِلَّ و رفع الصوت لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ بأن يقال عند ذبحة باللات أو العزى، أو بغيرهما من أسماء الأصنام، هذه هي المحرّمات عند اللّه دون ما تزعمون من البحيرة و أخواتها، و تلك المحرّمات أيضا لا تحرّم مطلقا، بل يجوز أكلها عند الضّرورة فَمَنِ اُضْطُرَّ و الجئ إلى أكل أحد من الامور المحرّمة إذا كان غَيْرَ باغٍ و غير متعدّ على مضطرّ آخر، أو غير طالب للّذة، أو غير باغ على إمام زمانه وَ لا عادٍ و متجاوز في أكله عن قدر الضّرورة و سدّ الرّمق فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لا يؤاخذه بذلك رَحِيمٌ لا يرضى بمشقّتهم و التضييق عليهم، بل يرخّص لهم في رفع اضطرارهم بأكل ما حرّم عليهم.

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

سوره 16 (النحل): آیه شماره 116 الی 117

ص: 621


1- . جهد الناس: أجدبوا.
2- . تفسير الرازي 20:130.
3- . تفسير روح البيان 5:90.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حصر محرّماته في شرع الاسلام في الأشياء الأربعة، نهى المشركين عن بدعتهم و تحريم ما أحلّه اللّه عليهم بهوى أنفسهم بقوله: وَ لا تَقُولُوا أيّها المشركون لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ من الأنعام المحلّلة عند اللّه بالحلّ تارة و بالحرمة اخرى بهوى أنفسكم، بلا إسناد إلى الوحي من اللّه اَلْكَذِبَ على اللّه، و ذلك الكذب هو قولكم: هذا الحيوان الذي زهق روحه بغير التذكية، أو هذا الخنزير، أو هذا الدم المشوي حَلالٌ لنا من قبل اللّه و في حكمه وَ هذا الحيوان الحامي أو البحيرة أو السائبة حَرامٌ علينا، و هذا الذي في بطون الأنعام حرام على أزواجنا، فانّ جميع ذلك مجرّد الوصف و القول بالأنواه بلا حجة و دليل من اللّه.

و قيل: إنّ المعنى: لا يقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال و هذا حرام (1). و قيل: جملة تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ من أفصح الكلام و أبلغه (2). و قيل: إنّ اَلْكَذِبَ هو المقول (3).

ثمّ بيّن سبحانه ذلك الكذب بقوله: هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ثمّ لمّا لم يصرّح سبحانه يكون كذبهم على اللّه صرّح به بقوله: لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ و لام (لتفتروا) لام العاقبة، و قيل: إنّ هذه الجملة بدل من قوله: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ لأنّ وصفهم الكذب هو عين الافتراء على اللّه (4).

ثمّ هدّد سبحانه المفترين عليه بقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ و لا ينجون من العذاب، أو لا يفوزون بخير و مطلوب، ثمّ لمّا كان مجال توهّم أنّ لهم الفوز بنعم الدنيا، دفعه اللّه سبحانه بقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ تلك النّعم، و منفعة سريعة الزوال، بحيث لا يصحّ أن يقال لوجدانها فوز و فلاح، و لذا لا يعتني بها عاقل.

عن ابن عباس: بل متاع كلّ الدنيا [متاع]قليل (5). ثمّ يردّون بالموت و الخروج من الدنيا إلى نار جهنم وَ لَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 118

وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

ص: 622


1- . تفسير الرازي 20:132، تفسير أبي السعود 5:147، تفسير روح البيان 5:92.
2- . تفسير الرازي 20:132.
3- . تفسير روح البيان 5:92، جوامع الجامع:250.
4- . تفسير الرازي 20:132.
5- . تفسير الرازي 20:132.

ثمّ لمّا حصر سبحانه المحرّمات في الأربع و نهى عن تحريم غيرها، كان مجال توهّم أنّ المحرّمات التي في دين اليهود زائدة على الأربع مع كونها من اللّه، فدفعه بقوله: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ في سورة الأنعام التي أنزلناها عليك مِنْ قَبْلُ حيث قلنا فيها: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (1)إلى آخره، و إنما كان ذلك عقوبة لهم وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتحريمها عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بنقضهم الميثاق و بغيهم و ارتكابهم الذنوب الموبقة.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 119

ثمّ لمّا ذكر اللّه تعالى المعاصي العظام من الافتراء على اللّه، و البدعة في الدين و أمثالهما تصريحا و تلويحا، نبّه على علاجها و السبب المنجي من العذاب عليها بقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ و ارتكبوا المعصية بِجَهالَةٍ و سفاهة و عدم التدبّر في سوء العاقبة كأنّه تعالى قال: إنا قد بالغنا في تهديد الكفار و المفترين و مكذّبي الرسول.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)ثمّ بعد ذلك نقول: إنّ الناس إذا ارتكبوا جميع المعاصي بسبب الغفلة و الجهل أمدا بعيدا و دهرا دهيرا ثُمَّ تابُوا عن معاصيهم و ندموا على ما صدر منم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذي علموا وَ أَصْلَحُوا عقائدهم و أعمالهم بأن صاروا مؤمنين بما يجب الايمان به مطيعين للّه و لرسوله، فاذا صدرت منهم التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها و اللّه لَغَفُورٌ للمعاصي كلّها رَحِيمٌ بالعصاة التائبين مثيب لهم على توبتهم و إنابتهم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 120 الی 121

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب الشرك و شبهات المشركين في النبوة و بدعهم في الأحكام و كفرانهم نعم اللّه، ذكر توحيد إبراهيم الذي كانوا مفتخرين بالانتساب إليه (2)، متّفقين على حسن عقيدته و سيرته، و ذكر انقياده و طاعته للّه و شكره لنعمه بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ وحده أُمَّةً من الامم واحدا كالالوف، لكمال توحيده و إيمانه و صفاته، و معارضته مع جميع الناس بالحجج.

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اِجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)

ص: 623


1- . الأنعام:6/146.
2- . في النسخة: بالانتساب به.

عن الباقر عليه السّلام: «و ذلك أنّه كان على دين لم يكن عليه غيره، فكأنّه امّة واحدة» (1).

و قيل: إنّه امّه لكونه سببا لوجود الامّة الموحّدة (2).

و قيل: إنّ الامّة بمعنى المقتدى، و اطلق عليه لأنّه كان إماما يؤتمّ به (3).

و عن الصادق عليه السّلام: «شيء فضله اللّه به» (2).

و كان قانِتاً لِلّهِ قائما بما أمره. عن الباقر عليه السّلام و ابن عبّاس: «يعني مطيعا للّه» (3)و كان عليه السّلام حَنِيفاً و مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى ملّة الاسلام ثابتا عليه.

عن الباقر عليه السّلام: «أمّا الحنيف فالمسلم» (4).

و عن ابن عباس: أنّه أول من اختتن، و أقام مناسك الحج و ضحّى، و هذه صفة الحنيفية (5).

وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بل كان رأس الموحّدين صغيرا و كبيرا شاكِراً للّه و لِأَنْعُمِهِ معترفا بها.

روي أنّه عليه السّلام كان لا يتغدّى إلاّ مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه، فجاء فوج من الملائكة في زيّ البشر، فقدّم له الطعام، فخيّلوا إليه أنّ بهم جذاما، فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم، شكرا للّه على أن عافاني و ابتلاكم (6).

اِجْتَباهُ اللّه و اختاره للرسالة و الخلّة و الإمامة وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الطريق الواضح الموصل إلى كلّ خير و سعادة، و في التوصيفات المذكورة تكذيب لقريش فيما كانوا يزعمون من أنّهم على ملّة إبراهيم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 122 الی 123

ثمّ بيّن سبحانه تشريفاته عنده بقوله: وَ آتَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا مثوبة حَسَنَةً من الذكر الجميل، و الثناء بين الناس، و العمر الطويل، و كثرة النّسل، و كون الأنبياء من ذرّيته، و كون خاتم الأنبياء و أوصيائه الطيبين من نسله وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ و ذوي الدرجات العالية في أعلى

وَ آتَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (123)

ص: 624


1- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:161. (2 و 3) . تفسير الرازي 20:134.
2- . تفسير العياشي 3:28/2440، تفسير الصافي 3:161.
3- . تفسير القمي 1:392، تفسير الرازي 20:135، تفسير الصافي 3:161.
4- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:161.
5- . تفسير الرازي 20:135.
6- . تفسير الرازي 20:135، تفسير روح البيان 5:94.

علّيين.

ثمّ بيّن اللّه تعالى أجلّ ما اوتي عليه السّلام بقوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ و دينه-فانّه كان حَنِيفاً و مائلا عن كلّ دين باطل-و هو دين الاسلام و الصراط المستقيم الذي هداه إليه.

ثمّ أكّد تنزيهه عن الشرك بقوله: وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ مبالغة في إبطال مذهب الشرك، و إنّما أمره عليه السّلام بالاتّباع لأنّه عليه السّلام كان بعده، و إلاّ فهو عليه السّلام في عالم الأنوار و الأنوار و الأشباح كان متبوعا لما سوى اللّه من الملائكة و الأنبياء أجمعين.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 124

ثمّ لمّا أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله باتباع إبراهيم، كان مجال توهّم أنه خالفه في دينه بجعل الجمعة عيدا لامّته، فدفعه سبحانه بقوله: إِنَّما جُعِلَ اَلسَّبْتُ عيدا و فرض تعظيمه عَلَى بني إسرائيل اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لا على إبراهيم و أتباعه.

إِنَّما جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)قيل: إنّ موسى أمر اليهود أن يجعلوا يوما واحدا في الاسبوع للعبادة، و أن يكون ذلك يوم الجمعة، فأبوا عليه، و قالوا: نريد اليوم الذي فرغ اللّه فيه من خلق السماوات و الأرض، و هو السبت، إلاّ شرذمة منهم قد رضوا بيوم الجمعة، فأذن اللّه لهم في السبت، و ابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر اللّه الذين رضوا بالجمعة، فكانوا لا يصيدون، و أمّا غيرهم فلم يصبروا عن الصيد، فمسخهم اللّه قردة دون اولئك المطيعين (1).

و عن ابن عباس: أمرهم موسى بالجمعة، و قال: تفرّغوا للّه في كلّ سبعة أيام يوما واحدا، و هو يوم الجمعة، لا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك، و قالوا: لا نريد إلاّ اليوم الذي فرغ اللّه فيه من الخلق، و هو يوم السبت، فجعل اللّه السبت لهم، و شدّد عليهم فيه، ثمّ جاء عيسى أيضا بالجمعة، فقالت: النصارى: لا نريد إلاّ أن يكون عيدنا بعد عيدهم (2)، فاتخذوا الأحد (3).

و عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه قال: «إنّ اللّه كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا، فاختلفوا فيه و هدانا اللّه له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، و النصارى بعد غد» (4).

ص: 625


1- . تفسير أبي السعود 5:150، تفسير روح البيان 5:96.
2- . في تفسير الرازي: عيدهم بعد عيدنا. (3 و 4) . تفسير الرازي 20:137.

القمي، قال: إنّ موسى أمر قومه أن يتفرّغوا إلى اللّه في كلّ سبعة أيام يوما يجعله اللّه عليهم، و هم الذين اختلفوا فيه (1).

و قيل: معنى اختلافهم أنّهم اختلفوا على نبيّهم في ذلك اليوم، لا أنهم اختلفوا فيما بينهم (2).

قيل: إنّ الجمعة أفضل الأيام، لأنّ السبت كان يوم الفراغ، و الأحد يوم الشروع، و الجمعة يوم الكمال و التمام، و هو أولى بالفرح الكامل و السرور العظيم (3).

و قيل: إنّ المراد من اختلاف بني إسرائيل في السبت أنّهم أحلّوا الصيد فيه تارة و حرّموه اخرى، و كان عليهم أن يتّفقوا في تحريمه على كلمة واحدة (4).

ثمّ وعد اللّه المحقّين، و أوعد المبطلين بقوله: وَ إِنَّ رَبَّكَ و اللّه لَيَحْكُمُ في شأن المختلفين، و يقضي بَيْنَهُمْ بالحقّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و الحكومة و القضاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بأن يثيب المحقّين و يعاقب المبطلين.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 125

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله باتّباع إبراهيم في الملّة و الدين، أمره باتّباعه في الدعوة إلى اللّه و توحيده و في كيفيتها بقوله: اُدْعُ يا محمّد إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ و دينه المرضيّ عند خواصّ امّتك بِالْحِكْمَةِ و الحجّة القاطعة، و عوامّهم بالدلائل الاقناعية وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ و النصائح الوافية و البيانات المؤثّرة الكافية و الحكايات النافعة، و أمّا المعاندون منهم الذين لا تؤثّر فيهم الدعوة، و كان غرضهم المجادلة فناجزهم وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من طرق المناظرة و المجادلة، و هو على ما قيل: اللين في الكلام، و اختيار ما هو أقرب إلى الإفحام، و أيسر في الإلزام، كما فعله الخليل عليه السّلام (5).

اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)عن الصادق عليه السّلام، أنّه ذكر عنده الجدال في الدين، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة [قد]نهوا عنه، فقال الصادق عليه السّلام: «لم ينه عنه مطلقا، و لكنّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، [أما تسمعون قوله تعالى: وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (6)و قوله تعالى: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فالجدال بالتي هي أحسن]قد أمر به العلماء بالدين، و الجدال بغير التي هي أحسن محرّم حرّمه اللّه على شيعتنا، و كيف يحرّم اللّه الجدال

ص: 626


1- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:162.
2- . تفسير الرازي 20:137.
3- . تفسير الرازي 20:137 و 138.
4- . تفسير الرازي 20:138.
5- . تفسير أبي السعود 5:151، تفسير روح البيان 5:97.
6- . العنكبوت:29/46.

جملة و هو يقول: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1)فجعل علم الصدق و الايمان بالبرهان، و هل يؤتى بالبرهان إلاّ في الجدال بالتي هي أحسن» .

قيل: يا بن رسول اللّه، فما الجدال بالتي هي أحسن، و التي ليست بأحسن؟ قال: «أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل مبطلا، فيورد عليك باطلا، فلا تردّه بحجّة قد نصبها اللّه، و لكن تجحد [قوله أو تجحد]حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة؛ لأنّك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أنّ يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم و على المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته و ضعف [ما] في يده حجّة له على باطله، و أمّا الضعفاء فتغتمّ قلوبهم لما يرون من ضعف المحقّ في يد المبطل.

و أمّا الجدال بالتي هي أحسن، فهو ما أمر اللّه به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت، و إحياء اللّه تعالى له، فقال اللّه له حاكيا عنه: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و قال اللّه في الرّد عليه: قُلْ يا محمّد يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً (2)إلى آخر السورة، فأراد اللّه من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام و هي رميم؟ فقال اللّه: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أفيعجز من ابتدأه لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى، بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته.

ثمّ قال: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي إذا أكمن (3)النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب [ثمّ]يستخرجها، فعرفكم أنّه على إعادة ما بلي أقدر، ثمّ قال: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ اَلْخَلاّقُ اَلْعَلِيمُ (4)أي إذا كان خلق السماوات و الأرض أعظم و أبعد في أذهانكم (5)و قدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوّزتم من اللّه خلق هذا الأعجب عندكم و الأصعب لديكم، و لم تجوّزوا ما هو الاسهل عندكم من إعادة البالي؟» .

قال الصادق عليه السّلام: «فهذا الجدال بالتي هي أحسن؛ لأنّ فيها قطع عذر الكافرين، و إزالة شبهتهم» (6).

ثمّ لمّا أمر اللّه سبحانه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة، وعد المجيبين له و المهتدين بهداه بالثواب، و أوعد

ص: 627


1- . البقرة:2/111.
2- . يس:36/78-80.
3- . في النسخة: كمن، و ما أثبتناه من الاحتجاج.
4- . يس:36/81.
5- . في الاحتجاج و تفسير الامام العسكري: في أوهامكم.
6- . الاحتجاج:21، تفسير الامام العسكري عليه السّلام:527/322، و فيهما: و إزالة شبههم، تفسير الصافي 3:163.

الضالين الذين لم يجيبوه و لم يهتدوا به بالعقاب بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ و انحرف عَنْ سَبِيلِهِ و دينه بعد دعوته إليه بالحكمة و الموعظة و العبر، فيعاقبه أشدّ العقاب وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى الحقّ الذي هو دين الاسلام، فيجازيهم بالثواب العظيم.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 126 الی 127

ثمّ لمّا كانت الدعوة ملازمة لايذاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين المستعقبة لإقدام المؤمنين على مكافاة الأعداء، أمرهم سبحانه بالعدل و الانصاف في مكافاتهم بقوله: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ أيّها المؤمنون و كافيتم الأعداء على إيذائهم بكم و ظلمهم عليكم فَعاقِبُوا هم و كافوهم على ظلمهم بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ و بما يساوي (1)ما تعدّوا عليكم، و لا تزيدوا على ما تعدّوا عليكم، و لا تزيدوا على ما فعلوا بكم غيظا و تشفّيا، و إطلاق العقاب على الأذى البدوي من باب مجاز المشاكلة و الازدواج.

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ (126) وَ اِصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ (127)ثمّ لمّا كان الصبر على الأذى أولى و أفضل عند اللّه من الانتقام، حثّهم سبحانه عليه بقوله: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ أيّها المؤمنون على ما نزل بكم من الأذى، و تركتم الانتقام و العقوبة باللّه لَهُوَ خَيْرٌ و أفضل عند اللّه، و أكثر ثوابا لِلصّابِرِينَ على المصائب و الشدائد.

ثمّ أنّه تعالى بعد التنبيه على فضيلة الصبر و حثّ المؤمنين عليه، أمر نبيه صلّى اللّه عليه و آله الذي هو أفضل خلقه بالصبر الذي هو أفضل الأعمال و أحمزها (2)بقوله: وَ اِصْبِرْ يا محمّد على ما أصابك من أذى الكفّار وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ و بتوفيقه و إعانته لك عليه.

روى بعض العامة عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «أمر اللّه أنبياءه بالصبر، و جعل الحظّ الأعلى منه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث جعل صبره باللّه لا بنفسه، و قال وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ» (3).

أقول: و فيه تسلية له عليه السّلام.

ثمّ بالغ في تسليته في اغتمامه في مشاقّة الكفار و إصرارهم على معارضته بقوله: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ و لا يتألّم قلبك من حرمانهم عن فيض الهداية و الإيمان و فوائد متابعتك، و سعيهم في تخريب أمرك و إيذائك وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ و غمّ شديد مِمّا يَمْكُرُونَ بك و يدبّرون في إطفاء نورك و إبطال دعوتك و الإضرار بنفسك.

ص: 628


1- . في النسخة: يسوى.
2- . أي أشدّها.
3- . تفسير روح البيان 5:101.

سوره 16 (النحل): آیه شماره 128

ثمّ قوّى سبحانه قلبه الشريف و آمنه من إضرارهم عليه بقوله: إِنَّ اَللّهَ بالولاية و التفضّل مَعَ المؤمنين و اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و تحرّزوا عن المعاصي و ما يخالف رضاه وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم و مؤدّون ما عليهم من تكاليف ربّهم، أو المراد مع الذين اتّقوا مكافاة المسيء إليهم، و الذين هم محسنون إلى من عاداهم و أساء إليهم.

إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رأى حمزة و قد مثّلوا به قال: «و اللّه لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» فنزل جبرئيل بخواتيم سورة النحل، فكفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمسك عمّا أراد (1).

و في رواية اخرى قال: «أما و اللّه لئن أظفرني اللّه بهم لأمثّلنّ بسعبين مكانك» (2). و قال الؤمنون: إن أظهرنا اللّه عليهم لنزيدنّ على صنعهم و لنمثّلنّ مثلة لم يمثّلها أحد من العرب بأحد قطّ (3).

و عن القمي، قال: إنّ المشركين مثّلوا بأصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله الذين استشهدوا يوم احد، و فيهم حمزة، فقال المسلمون: أما و اللّه لئن أدالنا اللّه عليهم لنمثّلنّ بأخيارهم، و ذلك قول اللّه تعالى: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (4)يعني بالأموات (5).

قيل: إنّ الكفار مثلّوا بجميع المقتولين من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في احد إلاّ بحنظلة الملقّب بغسيل الملائكة بن أبي عامر الراهب لمكان كفر أبيه (6).

و عن العياشي، عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما صنع بحمزة بن عبد المطلب قال: اللهم لك الحمد و إليك المشتكى و أنت المستعان على ما رأى، ثمّ قال: لئن ظفرت لأمثّلنّ و أمثّلنّ.

قال: فأنزل اللّه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ الآية. فقال رسول اللّه: أصبر أصبر» (7).

قيل: إنّ سورة النّحل كلّها مكيّة إلاّ هذه الآيات الثلاث (8).

عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة النحل في كلّ شهر دفع اللّه عنه المعرّة (9)في الدنيا و سبعين نوعا من أنواع البلاء أهونه الجنون و الجذام و البرص، و كان مسكنه في جنة عدن و هي وسط الجنان» (10).

الحمد للّه على التوفيق لاتمام تفسير سورة النحل، و له المنّة.

ص: 629


1- . تفسير الرازي 20:141، تفسير البيضاوي 1:561.
2- . تفسير البيضاوي 1:561، تفسير أبي السعود 5:152.
3- . تفسير روح البيان 5:100.
4- . النحل:16/126.
5- . تفسير القمي 1:392، تفسير الصافي 3:164.
6- . تفسير روح البيان 5:99.
7- . تفسير العياشي 3:29/2444، تفسير الصافي 3:165.
8- . مجمع البيان 5:535.
9- . في النسخة: شهر كفى العزم.
10- . تفسير العياشي 3:3/2361، تفسير الصافي 3:165.

ص: 630

الفهرس

اشارة

[145] و كتبنا له فى الألواح من كل شىء موعظة و تفصيلا لكل شىء فخذها بقوة 5

[146] سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية 6

[147] و الذين كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا 7

[148] و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ا لم يروا أنه 7

[149-151] و لما سقط فى أيديهم و رأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا و يغفر 8

[152] إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم و ذلة فى الحياة الدنيا 10

[153 و 154] و الذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها و آمنوا إن ربك من بعدها لغفور 11

[155] و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب 11

[156] و اكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة و فى الآخرة إنا هدانا إليك قال عذابى 13

[157] الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم في 13

[158] قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السماوات 16

[159] و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون 17

[160] و قطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما و أوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه 19

[161 و 162] أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس 20

[163] و سئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ 21

[164-166] و إذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا 21

[167] و إذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن 25

[168] و قطعناهم فى الأرض أمما منهم الصالحون و منهم دون ذلك و بلوناهم 25

[169] فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى 26

[170] و الذين يمسكون بالكتاب و أقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر 27

[171] و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة و ظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة 27

ص: 631

[172-174] و إذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم 28

[175] و اتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من 31

[176 و 177] و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فمثله كمثل 34

[178] من يهد الله فهو المهتدى و من يضلل فأولئك هم الخاسرون 35

[179] و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم 35

[180] و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون فى أسمائه 36

[181] و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون 38

[182] و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون 39

[183] و أملى لهم إن كيدى متين 39

[184] أ و لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين 40

[185] أ و لم ينظروا فى ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله من شىء و أن 40

[186] من يضلل الله فلا هادى له و يذرهم فى طغيانهم يعمهون 41

[187] يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها 41

[188] قل لا أملك لنفسى نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله و لو كنت أعلم الغيب 43

[189 و 190] هو الذى خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها ليسكن إليها فلما 44

[191] أ يشركون ما لا يخلق شيئا و هم يخلقون 46

[192 و 193] و لا يستطيعون لهم نصرا و لا أنفسهم ينصرون*و إن تدعوهم إلى الهدى 46

[194] إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن 47

[195 و 196] أ لهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها 47

[197 و 198] و الذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم و لا أنفسهم ينصرون*و إن 48

[199] خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين 49

[200] و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم 50

[201 و 202] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون 50

[203] و إذا لم تأتهم بآية قالوا لو لا اجتبيتها قل إنما اتبع ما يوحى إلى من ربى 51

[204] و إذا قرئ القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون 51

[205 و 206] و اذكر ربك فى نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو 53

في تفسير سورة الأنفال 55

ص: 632

[1] بسم الله الرحمن الرحيم يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول فاتقوا الله 55

[2 و 3] إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته 57

[4-6] أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم*كما 58

[7 و 9] و إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم و تودون أن غير ذات الشوكة 64

[10 و 11] و ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله إن 66

[12-14] إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى 72

[15 و 16] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار*و من 75

[17 و 18] فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رمت و لكن الله رمى و ليبلى 76

[19] إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح و إن تنتهوا فهو خير لكم و إن تعودوا نعد 77

[20-23] يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله و رسوله و لا تولوا عنه و أنتم تسمعون*و لا 77

[24] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم و اعلموا 78

[25] و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة و اعلموا أن الله شديد 80

[26] و اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض تخافون أن يتخطفكم 80

[27] يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم و أنتم 81

[28 و 29] و اعلموا أنما أموالكم و أولادكم فتنة و أن الله عنده أجر عظيم*يا أيها 82

[30] و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون 83

[31 و 32] و إذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا 87

[33] و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون 89

[34] و ما لهم ألا يعذبهم الله و هم يصدون عن المسجد الحرام و ما كانوا أولياءه 90

[35] و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية فذوقوا العذاب بما كنتم 90

[36 و 37] إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم 91

[38] قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف و إن يعودوا فقد مضت 93

[39 و 40] و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما 93

[41 و 42] و اعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه و للرسول و لذى القربى 94

[43] إذ يريكهم الله فى منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم فى 97

[44] و إذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا و يقللكم فى أعينهم ليقضى الله 97

[45-47] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 98

ص: 633

[48 و 49] و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس و إنى 99

[50 و 51] و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم 102

[52] كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم 102

[53] ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 103

[54-56] كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم 103

[57 و 58] فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون*و إما 104

[59] و لا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون 105

[60] و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله 105

[61] و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم 106

[62 و 63] و بالمؤمنين*و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت 107

[64] يا أيها النبى حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين 108

[65] يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون 108

[66] الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة 109

[67] ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض 110

[68-71] لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم*فكلوا مما 111

[72] إن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم فى سبيل الله و الذين 114

[73] و الذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض و فساد 115

[74 و 75] و الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا فى سبيل الله و الذين آووا و نصروا أولئك 115

في تفسير سورة براءة 119

[1] براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين 119

[2] فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر و اعلموا أنكم غير معجزى الله و أن الله 120

[3] و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برىء من 124

[4] إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا و لم يظاهروا عليكم 125

[5] فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم 126

[6] و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه 126

[7] كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند 127

[8] كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة يرضونكم بأفواههم 127

ص: 634

[9] اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون 127

[10-12] لا يرقبون فى مؤمن إلا و لا ذمة و أولئك هم المعتدون*فإن تابوا و أقاموا 128

[13] ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدؤكم أول 129

[14 و 15] قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم 130

[16] أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و لم يتخذوا من 131

[17 و 18] ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر 131

[19] أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم 132

[20 و 22] الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم و أنفسهم أعظم 134

[23 و 24] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم و إخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر 134

[25 و 26] لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن 136

[27] ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم 141

[28] يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد 141

[29] قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله 142

[30] و قالت اليهود عزيز ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم 144

[31] اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما 145

[32] يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره 145

[33] هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره 146

[34 و 35] يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس 148

[36] إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السماوات 150

[37] إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه 151

[38 و 39] يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى 152

[40] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى 153

[41] انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم فى سبيل الله ذلكم خير 159

[42] لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك و لكن بعدت عليهم الشقة 160

[43] عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم 161

[44] لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم 161

[45] إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و ارتابت قلوبهم فهم فى 161

ص: 635

[46] و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل 162

[47] لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة 162

[48] لقد ابتغوا الفتنة من قبل و قلبوا لك الأمور حتى جاء الحق و ظهر أمر الله 162

[49] و منهم من يقول ائذن لى و لا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا و إن جهنم 163

[50] إن تصبك حسنة تسؤهم و إن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل 164

[51 و 52] قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون 164

[53] قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين 165

[54] و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله و لا يأتون 166

[55] فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها فى الحياة 166

[56 و 57] و يحلفون بالله إنهم لمنكم و ما هم منكم و لكنهم قوم يفرقون*لو يجدون 167

[58] و منهم من يلمزك فى الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا 167

[59] و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله 169

[60] إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و فى 169

[61 و 62] و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله 171

[63-65] ا لم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك 173

[66] لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة 175

[67] المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر و ينهون عن 175

[68] وعد الله المنافقين و المنافقات و الكفار نار جهنم خالدين فيها هي 176

[69] كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة و أكثر أموالا و أولادا فاستمتعوا 176

[70] أ لم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم 177

[71] و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون 178

[72] وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين 179

[73] يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنم 179

[74] يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما 180

[75 و 76] و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين 183

[77 و 78] فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما 184

[79 و 80] الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين فى الصدقات و الذين لا يجدون 185

ص: 636

[81] فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم 186

[82] فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون 187

[83] فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي 187

[84] و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره إنهم كفروا بالله 188

[85] و لا تعجبك أموالهم و أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا 190

[86] و إذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله و جاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول 191

[87 و 88] رضوا بأن يكونوا مع الخوالف و طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون*لكن 191

[89 و 90] أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز 192

[91 و 92] ليس على الضعفاء و لا على المرضى و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون 192

[93 و 94] إنما السبيل على الذين يستأذنونك و هم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع 194

[95] سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم 195

[96] يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم 196

[97 و 98] الأعراب أشد كفرا و نفاقا و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله 196

[99] و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله 197

[100] و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان 197

[101] و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق 200

[102] و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن 200

[103] خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن 201

[104] ا لم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات و أن الله هو 201

[105] و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون و ستردون إلى عالم 203

[106] و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم 204

[107 و 108] و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و إرصادا لمن 204

[109] ا فمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أم من أسس بنيانه 210

[110] لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم و الله عليم 210

[111] إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى 211

[112] التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون 212

[113-115] ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولى قربى من 213

ص: 637

[116] إن الله له ملك السماوات و الأرض يحيى و يميت و ما لكم من دون الله من 216

[117] لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه فى ساعة 216

[118] و على الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت 219

[119] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين 221

[120 و 121] ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله 223

[122] و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا 224

[123] يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة 226

[124 و 125] أن و إذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما 226

[126] أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون و لا هم 227

[127] و إذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا 227

[128 و 129] لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم 228

في تفسير سورة يونس 231

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب الحكيم 231

[2] أ كان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس و بشر الذين 231

[3] إن ربكم الله الذى خلق السماوات و الأرض فى ستة أيام ثم استوى على 232

[4] إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين 233

[5] هو الذى جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدره منازل لتعلموا عدد 234

[6] إن فى اختلاف الليل و النهار و ما خلق الله فى السماوات و الأرض لآيات 234

[7 و 8] إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم 235

[9 و 10] إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من 235

[11] و لو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر 236

[12] و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره 237

[13 و 14] و لقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا و جاءتهم رسلهم بالبينات و ما 237

[15] و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير 238

[16] قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله 239

[17] فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح 240

[18] و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا 240

ص: 638

[19] و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي 242

[20] و يقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم 243

[21] و إذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر فى آياتنا قل الله 243

[22 و 23] هو الذى يسيركم فى البر و البحر حتى إذا كنتم فى الفلك و جرين بهم 244

[24] إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض 245

[25] و الله يدعوا إلى دار السلام و يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم 246

[26] للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة أولئك 247

[27] و الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها و ترهقهم ذلة ما لهم من الله من 248

[28] و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم 249

[29 و 30] فكفى بالله شهيدا بيننا و بينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين*هنالك تبلوا 249

[31-33] قل من يرزقكم من السماء و الأرض أمن يملك السمع و الأبصار و من 249

[34 و 35] قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم 251

[36 و 37] و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما 251

[38] أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله إن 252

[39] بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من 253

[40] و منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و ربك أعلم بالمفسدين 253

[41] و إن كذبوك فقل لى عملى و لكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل و أنا برىء 253

[42 و 43] و منهم من يستمعون إليك أ فأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون*و منهم 254

[44 و 45] إن الله لا يظلم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون*و يوم يحشرهم 255

[46 و 47] و إما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد 255

[48 و 49] و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين*قل لا أملك لنفسى ضرا و لا 256

[50-53] قل أ رأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون 257

[54] و لو أن لكل نفس ظلمت ما فى الأرض لافتدت به و أسروا الندامة لما رأوا 258

[55 و 56] ألا إن لله ما فى السماوات و الأرض ألا إن وعد الله حق و لكن أكثرهم لا 259

[57] يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم و شفاء لما فى الصدور و هدى 259

[58] قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون 260

[59] قل أ رأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل الله أذن 260

ص: 639

[60] و ما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على 261

[61] و ما تكون فى شأن و ما تتلوا منه من قرآن و لا تعملون من عمل إلا كنا 262

[62] ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون 262

[63 و 64] الذين آمنوا و كانوا يتقون*لهم البشرى فى الحياة الدنيا و فى الآخرة لا 263

[65] و لا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم 264

[66] ألا إن لله من فى السماوات و من فى الأرض و ما يتبع الذين يدعون من 265

[67 و 68] دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن و إن هم إلا يخرصون 265

[69 و 70] قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون*متاع فى الدنيا ثم إلينا 266

[71] و اتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى و تذكيرى 267

[72-74] فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله و أمرت أن أكون من 268

[75-77] ثم بعثنا من بعدهم موسى و هارون إلى فرعون و ملئه بآياتنا فاستكبروا 269

[78-82] قالوا أ جئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا و تكون لكما الكبرياء فى 269

[83-86] فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون و ملائهم أن يفتنهم 270

[87] و أوحينا إلى موسى و أخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا و اجعلوا بيوتكم 271

[88-89] و قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا فى الحياة الدنيا 272

[90] و جاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون و جنوده بغيا و عدوا حتى إذا 273

[91-92] آلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين*فاليوم ننجيك ببدنك لتكون 274

[93] و لقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات فما اختلفوا 276

[94 و 95] فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك 276

[96 و 97] إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون*و لو جاءتهم كل آية حتى 277

[98] فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم 277

[99] و لو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أ فأنت تكره الناس حتى 285

[100] و ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله و يجعل الرجس على الذين لا 285

[101] قل انظروا ما ذا فى السماوات و الأرض و ما تغنى الآيات و النذر عن قوم 286

[102] فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من 287

[103] ثم ننجى رسلنا و الذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجى المؤمنين 287

[104-106] قل يا أيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من 288

ص: 640

[107] و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو و إن يردك بخير فلا راد لفضله 289

[108] قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى 289

[109] و اتبع ما يوحى إليك و اصبر حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين 290

في تفسير سورة هود 291

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير 291

[2-4] ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير و بشير*و أن استغفروا ربكم ثم توبوا 292

[5] ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما 292

[6] و ما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل 293

[7] و هو الذى خلق السماوات و الأرض فى ستة أيام و كان عرشه على الماء 294

[8] و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم 296

[9 و 10] و لئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور*و لئن 297

[11 و 12] إلا الذين صبروا و عملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة و أجر كبير*فلعلك 298

[13] أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم 299

[14] فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل أنتم 300

[15 و 16] من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا 300

[17] ا فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماما 301

[18] و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم و يقول 304

[19] الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة هم كافرون 305

[20 و 21] أولئك لم يكونوا معجزين فى الأرض و ما كان لهم من دون الله من أولياء 305

[22 و 23] لا جرم أنهم فى الآخرة هم الأخسرون*إن الذين آمنوا و عملوا 306

[24] مثل الفريقين كالأعمى و الأصم و البصير و السميع هل يستويان مثلا ا فلا 306

[25-28] و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين*أن لا تعبدوا إلا الله إنى 307

[29] و يا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله و ما أنا بطارد الذين 308

[30 و 31] و يا قوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أ فلا تذكرون*و لا أقول لكم 309

[32 و 33] قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من 309

[34] و لا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو 310

[35] أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى و أنا برىء مما تجرمون 310

ص: 641

[36] و أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا 311

[37 و 38] و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون 311

[39] فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم 312

[40] حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين 313

[41-43] و قال اركبوا فيها بسم الله مجراها و مرساها إن ربى لغفور رحيم*و هى 316

[44] و قيل يا أرض ابلعى ماءك و يا سماء أقلعى و غيض الماء و قضى الأمر 319

[45-47] و نادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى و إن وعدك الحق و أنت أحكم 320

[48] قيل يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك و أمم 321

[49] تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل 323

[50 و 51] و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا 324

[52] و يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا و يزدكم 324

[53] قالوا يا هود ما جئتنا ببينة و ما نحن بتاركى آلهتنا عن قولك و ما نحن لك 325

[54-56] إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إنى أشهد الله و اشهدوا أنى برىء 325

[57] فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم و يستخلف ربى قوما غيركم و لا 326

[58] و لما جاء أمرنا نجينا هودا و الذين آمنوا معه برحمة منا و نجيناهم من 327

[59 و 60] و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله و اتبعوا أمر كل جبار عنيد 328

[61] و إلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو 329

[62-64] قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا 329

[65 و 66] فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب*فلما 332

[67 و 68] و أخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين*كأن لم يغنوا 332

[69-71] و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء 333

[72-74] قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلى شيخا إن هذا لشىء عجيب 335

[75-81] إن إبراهيم لحليم أواه منيب*يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر 336

[82 و 83] فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل 339

[84] و إلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره و لا 343

[85] و يا قوم أوفوا المكيال و الميزان بالقسط و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا 344

[86] بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين و ما أنا عليكم بحفيظ 344

ص: 642

[87 و 88] قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل فى 345

[89-93] و يا قوم لا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم 346

[94 و 95] و لما جاء أمرنا نجينا شعيبا و الذين آمنوا معه برحمة منا و أخذت الذين 348

[96-99] و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين*إلى فرعون و ملئه فاتبعوا أمر 348

[100] ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم و حصيد 349

[101-103] و ما ظلمناهم و لكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التى يدعون من 349

[104-107] و ما نؤخره إلا لأجل معدود*يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي 351

[108] و أما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض 353

[109] فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل 353

[110] و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي 354

[111] و إن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير 355

[112 و 113] فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير*و لا 355

[114] و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات 356

[115 و 116] و اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين*فلو لا كان من القرون من 358

[117] و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون 359

[118 و 119] و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين*إلا من رحم 359

[120-122] و كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك و جاءك فى هذه الحق 361

[123] و لله غيب السماوات و الأرض و إليه يرجع الأمر كله فاعبده و توكل عليه 361

في تفسير سورة يوسف 363

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب المبين 363

[2 و 3] إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون*نحن نقص عليك أحسن القصص 363

[4] إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر 364

[5] قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان 365

[6] و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليك 36

[7] لقد كان فى يوسف و إخوته آيات للسائلين 368

[8] إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفى ضلال 368

[9] اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده 369

ص: 643

[10] قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف و ألقوه فى غيابت الجب يلتقطه بعض 369

[11 و 12] قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون*أرسله معنا غدا 370

[13-15] قال إنى ليحزننى أن تذهبوا به و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون 370

[16-18] و جاؤ أباهم عشاء يبكون*قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف 374

[19 و 20] و جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام و أسروه 376

[21] و قال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو 379

[22-24] و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزى المحسنين*و راودته 380

[25-29] و استبقا الباب و قدت قميصه من دبر و ألفيا سيدها لدى الباب قالت ما 385

[30-32] و قال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا 388

[33-36] قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عنى كيدهن 391

[37 و 38] قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما 396

[39] يا صاحبي السجن أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار 398

[40] ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من 398

[41] يا صاحبى السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا و أما الآخر فيصلب 399

[42] و قال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه 400

[43] و قال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع 401

[44-48] قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين*و قال الذى نجا 402

[49] ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون 404

[50] و قال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسأله ما بال 405

[51] قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من 406

[52] ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدى كيد الخائنين 406

[53] و ما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور 407

[54] و قال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا 408

[55] قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم 409

[56] و كذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا 410

[57] و لأجر الآخرة خير للذين آمنوا و كانوا يتقون 410

[58] و جاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم و هم له منكرون 415

ص: 644

[59] و لما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى 416

[60-62] فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى و لا تقربون*قالوا سنراود عنه أباه 416

[63 و 64] فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل 417

[65 و 66] و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغى هذه 418

[67] و قال يا بني لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة و ما أغنى 419

[68] و لما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة 420

[69] و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما 421

[70] فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها 423

[71-75] قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون*قالوا نفقد صواع الملك و لمن جاء به 424

[76] فبدأ بأوعيتهم قبل و عاأ أخيه ثم استخرجها من و عاأ أخيه كذلك كدنا 425

[77] قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه و لم يبدها 426

[78] قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من 428

[79-81] قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون*فلما 428

[82] و اسأل القرية التى كنا فيها و العير التى أقبلنا فيها و إنا لصادقون 430

[83 و 84] قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم 431

[85 و 86] قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين 432

[87] يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيأسوا من روح الله إنه لا 433

[88] فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة 435

[89] قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون 436

[90 و 91] قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف و هذا أخى قد من الله علينا إنه من 436

[92] قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين 437

[93] اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا و أتونى بأهلكم 438

[94] و لما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون 439

[95 و 96] قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم*فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه 439

[97 و 98] قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين*قال سوف استغفر لكم 441

[99] فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله 442

[100] و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياى 443

ص: 645

[101] رب قد آتيتنى من الملك و علمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السماوات 446

[102 و 103] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم 448

[104-106] و ما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين*و كأين من آية فى 449

[107] أ فأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة و هم لا 451

[108] قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعنى و سبحان الله و ما 451

[109 و 110] و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى أ فلم يسيروا فى 465

[111] لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى و لكن 454

في تفسير سورة الرعد 457

[1] بسم الله الرحمن الرحيم المر تلك آيات الكتاب و الذى أنزل إليك من ربك الحق 457

[2] الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش و سخر 468

[3] و هو الذى مد الأرض و جعل فيها رواسى و أنهارا و من كل الثمرات جعل 459

[4] و فى الأرض قطع متجاورات و جنات من أعناب و زرع و نخيل صنوان 461

[5] و إن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولئك الذين 462

[6] و يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة و قد خلت من قبلهم المثلات و إن ربك 463

[7] و يقول الذين كفروا لو لا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر و لكل قوم 463

[8 و 9] الله يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد و كل شىء عنده 464

[10] سواء منكم من أسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل و سارب 466

[11] له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما 466

[12] هو الذى يريكم البرق خوفا و طمعا و ينشئ السحاب الثقال 468

[13] و يسبح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته و يرسل الصواعق فيصيب بها 469

[14 و 15] له دعوة الحق و الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط 472

[16] قل من رب السماوات و الأرض قل الله قل أ فاتخذتم من دونه أولياء لا 474

[17] أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما 476

[18] للذين استجابوا لربهم الحسنى و الذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى 477

[19 و 20] ا فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا 478

[21-24] و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء 479

[25] و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل 482

ص: 646

[26 و 27] الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و فرحوا بالحياة الدنيا و ما الحياة الدنيا 483

[28] الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب 484

[29] الذين آمنوا و عملوا الصالحات طوبى لهم و حسن مآب 484

[30] كذلك أرسلناك فى أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذى أوحينا 485

[31 و 32] و لو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله 486

[33] ا فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت و جعلوا لله شركاء قل سموهم أم 488

[34] لهم عذاب في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من الله من 489

[35] مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم و ظلها 490

[36] و الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك و من الأحزاب من ينكر 490

[37] و كذلك أنزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم 491

[38 و 39] و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية و ما كان لرسول أن 492

[40 و 41] و إن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ و علينا 495

[42] و قد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس 496

[43] و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بينى و بينكم و من 497

في تفسير سورة إبراهيم 499

[1] بسم الله الرحمن الرحيم الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات 499

[2 و 3] الله الذى له ما فى السماوات و ما فى الأرض و ويل للكافرين من عذاب 500

[4] و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدى 500

[5] و لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور 501

[6] و إذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون 502

[7 و 8] و إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابى لشديد*و قال 502

[9-12] أ لم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم 503

[13 و 14] و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا 506

[15-17] و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد*من و رآئه جهنم و يسقى من ماء 507

[18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف 508

[19 و 20] أ لم تر أن الله خلق السماوات و الأرض بالحق إن يشأ يذهبكم و يأت 508

[21] و برزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم 509

ص: 647

[22] و قال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم 510

[23] و أدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار 511

[24 و 25] أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها 511

[26] و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من 513

[27] يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا و فى الآخرة و يضل 513

[28 و 29] أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار*جهنم 514

[30] و جعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار 516

[31] قل لعبادى الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرا و علانية 519

[32-34] الله الذى خلق السماوات و الأرض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من 517

[35] و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا و اجنبنى و بنى أن نعبد 518

[36] رب إنهن أضللئن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى و من عصانى فإنك 519

[37] ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا 520

[38] ربنا إنك تعلم ما نخفى و ما نعلن و ما يخفى على الله من شىء فى الأرض 523

[39] الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربى لسميع 523

[40 و 41] رب اجعلنى مقيم الصلاة و من ذريتى ربنا و تقبل دعاء*ربنا اغفر لى 524

[42 و 43] و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه 525

[44 و 45] و أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل 525

[46] و قد مكروا مكرهم و عند الله مكرهم و إن كان مكرهم لتزول منه 526

[47] فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام 527

[48] يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار 527

[49-52] و ترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الأصفاد*سرابيلهم من قطران 529

في تفسير سورة الحجر 531

[1 و 2] بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب و قرآن مبين*ربما يود الذين 531

[3] ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل فسوف يعلمون 532

[4 و 5] و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم*ما تسبق من أمة أجلها و ما 532

[6 و 7] و قالوا يا أيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون*لو ما تأتينا بالملائكة 533

[8 و 9] ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين*إنا نحن نزلنا الذكر و إنا 533

ص: 648

[10-13] و لقد أرسلنا من قبلك فى شيع الأولين*و ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به 534

[14 و 15] و لو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون*لقالوا إنما سكرت 535

[16-18] و لقد جعلنا فى السماء بروجا و زيناها للناظرين*و حفظناها من كل 535

[19-22] و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسى و أنبتنا فيها من كل شىء موزون 536

[23 و 24] و إنا لنحن نحيى و نميت و نحن الوارثون*و لقد علمنا المستقدمين منكم 539

[25] و إن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم 539

[26 و 27] و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون*و الجان خلقناه من 540

[28 و 29] و إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون*فإذا 541

[30-38] فسجد الملائكة كلهم أجمعون*إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين 541

[39-41] قال رب بما أغويتنى لأزينن لهم فى الأرض و لأغوينهم أجمعين*إلا 544

[42] إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين 544

[43 و 44] و إن جهنم لموعدهم أجمعين*لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء 545

[45-48] إن المتقين فى جنات و عيون*ادخلوها بسلام آمنين*و نزعنا ما فى 546

[49 و 50] نبئ عبادى أنى أنا الغفور الرحيم*و أن عذابى هو العذاب 547

[51-55] و نبئهم عن ضيف إبراهيم*إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم 547

[56-60] قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون*قال فما خطبكم أيها 548

[61-65] فلما جاء آل لوط المرسلون*قال إنكم قوم منكرون*قالوا بل جئناك بما 549

[66-71] و قضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين*و جاء أهل 550

[72-75] لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون*فأخذتهم الصيحة مشرقين*فجعلنا 551

[76-79] و إنها لبسبيل مقيم*إن فى ذلك لآية للمؤمنين*و إن كان أصحاب 552

[80-84] و لقد كذب أصحاب الحجر المرسلين*و آتيناهم آياتنا فكانوا عنها 553

[85 و 86] و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و إن الساعة لآتية 554

[87] و لقد آتيناك سبعا من المثانى و القرآن العظيم 554

[88-91] لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم و لا تحزن عليهم و اخفض 556

[92-96] فو ربك لنسئلنهم أجمعين*عما كانوا يعملون*فاصدع بما تؤمر 557

[97-99] و لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون*فسبح بحمد ربك و كن من 560

في تفسير سورة النحل 561

ص: 649

[1] بسم الله الرحمن الرحيم أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه و تعالى عما يشركون 561

[2] ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا 562

[3 و 4] خلق السماوات و الأرض بالحق تعالى عما يشركون*خلق الإنسان من 563

[5-7] و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون*و لكم فيها جمال 564

[8] و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة و يخلق ما لا تعلمون 564

[9] و على الله قصد السبيل و منها جائر و لو شاء لهداكم أجمعين 565

[10 و 11] هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب و منه شجر فيه تسيمون 566

[12] و سخر لكم الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره إن فى 567

[13] و ما ذرأ لكم فى الأرض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون 568

[14] و هو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا و تستخرجوا منه حلية 568

[15 و 16] و ألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم و أنهارا و سبلا لعلكم تهتدون 569

[17-21] ا فمن يخلق كمن لا يخلق أ فلا تذكرون*و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 569

[22 و 23] إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة و هم مستكبرون 571

[24 و 25] و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين*ليحملوا أوزارهم 572

[26] قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف 573

[27] ثم يوم القيامة يخزيهم و يقول أين شركائى الذين كنتم تشاقون فيهم قال 574

[28 و 29] الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من 574

[30] و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هذه الدنيا 575

[31 و 32] جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك 576

[33 و 34] هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين 577

[35] و قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن و لا آباؤنا 577

[36] و لقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت فمنهم من 578

[37-40] إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل و ما لهم من ناصرين 578

[41] و الذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة و لأجر 580

[42-44] الذين صبروا و على ربهم يتوكلون*و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى 581

[45-47] أ فأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم 583

[48] أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيؤا ظلاله عن اليمين و الشمائل 584

ص: 650

[49 و 50] و لله يسجد ما فى السماوات و ما فى الأرض من دابة و الملائكة و هم لا 585

[51] و قال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياى فارهبون 586

[52-55] و له ما فى السماوات و الأرض و له الدين واصبا أ فغير الله تتقون*و ما 586

[56 و 57] و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون 587

[58 و 59] و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا و هو كظيم*يتوارى من القوم 588

[60] للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل الأعلى و هو العزيز 589

[61] و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة و لكن يؤخرهم إلى 589

[62 و 63] و يجعلون لله ما يكرهون و تصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم 590

[64 و 65] و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه و هدى و رحمة 590

[66] و إن لكم فى الأنعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث و دم لبنا 591

[67] و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا إن فى ذلك 591

[68 و 69] و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا و من الشجر و مما 592

[70] و الله خلقكم ثم يتوفاكم و منكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد 595

[71] و الله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برادى رزقهم 595

[72] و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجا و جعل لكم من أزواجكم بنين و حفدة 596

[73 و 74] و يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات و الأرض شيئا 597

[75 و 76] ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء و من رزقناه منا رزقا حسنا 598

[77] و لله غيب السماوات و الأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب 599

[78] و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع 599

[79] ا لم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن فى 600

[80] و الله جعل لكم من بيوتكم سكنا و جعل لكم من جلود الأنعام بيوتا 600

[81-83] و الله جعل لكم مما خلق ظلالا و جعل لكم من الجبال أكنانا و جعل لكم 600

[84-87] و يوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا و لا هم يستعتبون 602

[88] الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا 603

[89] و يوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم و جئنا بك شهيدا على 604

[90] إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذى القربى و ينهى عن الفحشاء 606

[91] و أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها و قد جعلتم 608

ص: 651

[92] و لا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا 609

[93] و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن يضل من يشاء و يهدى من يشاء 610

[94 و 95] و لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فنزل قدم بعد ثبوتها و تذوقوا السوء بما 611

[96 و 97] ما عندكم ينفد و ما عند الله باق و لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما 612

[98] فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم 613

[99 و 100] إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون*إنما سلطانه 613

[101] و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم 614

[102-104] قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا و هدى و بشرى 614

[105 و 106] إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون 615

[107-109] ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة و أن الله لا يهدى القوم 617

[110 و 111] ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من 618

[112] و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان 619

[113] و لقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب و هم ظالمون 620

[114] فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا و اشكروا نعمت الله إن كنتم إياه 621

[115] إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به فمن 621

[116 و 117] و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا 621

[118] و على الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل و ما ظلمناهم و لكن 622

[119] ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا إن 623

[120 و 121] إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين*شاكرا لأنعمه 623

[122 و 123] و آتيناه فى الدنيا حسنة و إنه فى الآخرة لمن الصالحين*ثم أوحينا إليك 624

[124] إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه و إن ربك ليحكم بينهم يوم 625

[125] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتى هى 626

[126 و 127] و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين 628

[128] إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون 659

الفهرس 631

ص: 652

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.