نفحات الرحمن في تفسیر القرآن جلد 1

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان واسم المؤلف: نفحات الرحمن في تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندي ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیة ، موسسة البعثه قم .

تفاصيل المنشور: قم : موسسة البعثة ، مرکز الطباعه و النشر، 1386.

مواصفات المظهر: 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

حالة الاستماع: فیپا

لسان : العربية.

ملحوظة : ج. 3 و 4 (الطبعة الأولى: 1428 ق. = 1386).

ملحوظة : ج. 5 (الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة : فهرس .

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

المعرف المضاف: موسسة البعثة. قسم الدراسات الاسلامیة

المعرف المضاف: موسسة البعثة. مركز النشر

ترتيب الكونجرس: BP98 /ن9ن7 1386

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-37490

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن

تألیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی (1291-1371ه)

الجزء الأول

تحقیق: قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

ص: 3

سرشناسه : نهاوندی ، محمد، 1252-1330.

عنوان و نام پديدآور : نفحات الرحمن فی تفسیر القرآن / تالیف محمدبن عبدالرحیم النهاوندی ؛ تحقیق قسم الدراسات الاسلامیه ، موسسه البعثه قم .

مشخصات نشر : قم : موسسه البعثه ، مرکز الطباعه و النشر ، 1386.

مشخصات ظاهری : 6ج.

شابک : دوره 964-309-765-X : ؛ ج . 1 964-309-759-5 : ؛ ج . 2 964-309-760-9 : ؛ ج . 3 964-309-761-7 : ؛ ج. 4 964-309-762-5 : ؛ ج . 5 964-309-763-3 : ؛ ج . 6 964-309-764-1 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 3 و 4 (چاپ اول: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه .

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. واحد تحقیقات اسلامی

شناسه افزوده : بنیاد بعثت. مرکز چاپ و نشر

رده بندی کنگره : BP98 /ن9ن7 1386

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 84-37490

ص: 4

مقدمة المؤسسة

إن تأسيس مؤسسة البعثة تعود الى الشهور الاولى بعد انتصار الثورة الاسلامية حيث بدأت نشاطاتها فى مدينة طهران أولا و كان الهدف من وراء إنشاء هذه المؤسسة تجميع كافة البرامج الثقافية و الخدمية الاجتماعية التى كنت نظمتها و أنجزتها قبل انتصار الثورة ضمن مؤسسة موحدة، و بفضل من اللّه سبحانه و تعالى و رعاية بقية اللّه الأعظم المهدى الموعود عجل اللّه فرجه الشريف فقد تم انجاز خطوات هامة جدا فى الأقسام المختلفة من المؤسسة لا أرى أن الفرصة سانحة لذكرها الآن.

و من نشاطاتها، قسم الدراسات الإسلامية، فقد نشط هذا القسم فى مدينة طهران أولا، ثم انتقل إلى مدينة قم، و باشر ادارته سماحة العلامة حجة الاسلام و المسلمين الحاج الشيخ جعفر الخراسانى.

و خلال اربعة عشر عاما من النشاط المستمر حسب الخطة المرسومة تم انجاز أكبر حجم من البحوث و الدراسات حول تراث، متقدمى أعلام الامامية و التى تدور حول موضوعين أساسيين هما القرآن و العترة و كذا ترجمة آثار فارسية مفيدة للقارئ العربى.

و من جملة كتب التفسير التى تم تحقيقها بأسلوب علمى فنى تفسير البرهان و تفسير آلاء الرحمن و تفسير العياشى و تفسير نفحات الرحمن، و كما تم تحقيق كتاب الأمالى للصدوق و أمالى للشيخ الطوسى و دلائل الإمامة، و من الكتب التى قام قسم الترجمة فى المؤسسة مجموعة طيبة من المؤلفات الفارسية الحديثة التى يستفيد منها القارئ العربى ك «تفسير الأمثل فى كتاب اللّه المنزل» و ترجمة مؤلفات الخطيب المعروف الشيخ الفلسفى رحمه اللّه و الكاتب الاسلامى الشهير الشهيد مطهرى رحمه اللّه و كتب قيمة أخرى.

و من ضمن التحقيقات التى اجريت بشأن التفاسير، نشير هنا إلى التفسير المروى عن أهل البيت عليهم السّلام حيث جمعت كافة الروايات التفسيرية المنتشرة فى ما يقارب من مائتي مصدر من المصادر المعتبرة، و تم تصنيفها و تبويبها فى كتاب بعنوان «معجم تفسير أهل البيت عليهم السّلام» و هو

ص: 5

جاحز للطبع. و قد جاهز كل الروايات التفسيرية في الاقراص CD المظبوطة لتكون الكتاب في تناول ايدى المحققين و يسهل الرجوع اليه.

فقد توقف عمل المؤسسة بصورة موقتة بسبب بعض مشاكل و أملنا كبير بأن نباشر العمل من جديد و من جملة البرامج التى نحاول اعادة العمل بها و تنشيطها هى نهضة الترجمة، لأنّ اللغة العربية هى اللغة الأولى للعالم الإسلامى، و نعتقد أن أى تأليف مفيد للمجتمع الإسلامى يجب أن ينشر باللغة العربية اولا و من ثم باللغة الفارسية و اللغات الأخرى.

و فى الوقت الذى نسعى إلى تنشيط و تفعيل هذه الوحدة من جديد، يعصر قلوبنا ألما لفقد صديقنا العزيز و الغالي الذى كان محور الحركة فى المؤسسة ألا و هو الشيخ الخراسانى، فقد لقى ربه، و ندعو اللّه بأن يمطر على روحه شآبيت رحمته و رضوانه، و يكون نهجه مستمرا و ماثلا أمام أعين تابعيه و محبيه. آمين رب العالمين.

علي الاسلامي

مؤسسة البعثة

ص: 6

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مقدمة التحقيق

الحمد للّه ربّ العالمين و أفضل الصلاة و أتمّ التسليم على محمّد الأمين و آله الهداة الميامين.

و بعد:

لقد حثّ اللّه تعالى عباده على تدبّر آيات الكتاب الكريم و فهم معانيه السامية و ألفاظه الدقيقة، فقال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (1) و قال سبحانه: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (2).

و كان الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه و آله هو الذي تحمّل خلال حياته المباركة عبء تفسير آيات الكتاب الكريم و بيان مضامينه المتعلّقة باقامة الدلائل على أصول الاعتقاد و أحكام الشريعة و تنظيم حياة المجتمع الاسلامي و شئون الدولة الإسلامية و غيرها.

قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3) و كان بيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما صدر عنه من التنزيل و التأويل وحيا من اللّه تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى (4).

و توجّهت رجالات الأمة منذ عصر الصحابة و إلى يومنا هذا جيلا بعد جيل إلى تفسير آي القرآن الكريم، و تدبّر آياته، و البحث في إعجازه و علومه المختلفة، ممّا أدى إلى إيجاد نهضة فكرية قيّمة، و بناء تراث علمي فذّ زخرت به حياة الأمة في مختلف فروع العلم و المعرفة.

و لكي نتّجه صوب تحقيق البناء الفكري السليم و التحصين العقائدي الصحيح، لا بدّ أن نميّز بين التفسير الخالص لوجه اللّه المجرّد عن الهوى و الميول، و بين التفسير العقيم الذي يميل بكلام اللّه حيثما شاء هوى المفسر و ميوله و أغراضه. فاذا كان الأول يسهم في بناء الذات أخلاقا و عقائدا، و في بناء المجتمع أفرادا و أسرا، فانّ الثاني من أشدّ عوامل الهدم و الانحراف.

ص: 7


1- محمّد: 24/47.
2- سورة ص: 29/38.
3- النحل: 44/16.
4- النجم: 3/53 و 4.

و ممّا لا ريب فيه أنّ التفسير القويم تجده عند أهله، أولئك الذين نزل في بيوتهم، و اقترنوا به إلى قيام الساعة، فقد تواتر عند جميع المسلمين أنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إني تارك فيكم، ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(1).فقرن صلّى اللّه عليه و آله بين الكتاب و عترته المعصومين منذ فجر الرسالة و حتى يوم القيامة.

فأهل البيت عترة النبي المصطفى صلوات اللّه عليهم هم الأجدر بإدراك مضامين الكتاب الكريم و فهم دقائقه، و أبعاد مضامينه العالية، و تصاريف أغراضه و مراميه، و قولهم الصدق، و تفسيرهم عين الحقّ ، قال تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام: «و اللّه ما نزلت آية إلا و قد علمت فيما نزلت، و أين نزلت، و على من نزلت، إنّ ربي وهب لي قلبا عقولا، و لسانا طلقا سئولا »(3).

و قال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السّلام: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه إياه، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »(4).

و قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: «نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله »(5).

و عليه فانّ حديث أهل البيت عليهم السّلام من أهمّ مفاتيح فهم كتاب اللّه تعالى، و لا يتيسّر للمفسّر أن يفهم القرآن الكريم على وجهه الصحيح إذا لم يستأنس بأحاديثهم عليهم السّلام في فهم دقائق مضامينه و إدراك معانيه، و إذا لم يضع أمامه تصورا عن المنهج الذي اتبعه أهل البيت عليهم السّلام في تفسير القرآن الكريم و الخطوط الأساسية التي رسموها لفهم الكتاب العزيز.

من هذا المنطلق نهض قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة و منذ فجر تأسيسه بمهمة إعداد و تحقيق و نشر سلسلة من التفاسير التي تصبّ في هذا الهدف السامي، فكان حاصل الجهود الخيرة العاملة في هذا الحقل هو إعداد (معجم تفسير أهل البيت عليهم السّلام) و الذي يضمّ ما تفرّق من حديثهم عليهم السّلام الوارد في التفسير من مصادر الحديث و الرواية المعتبرة باستثناء كتب التفسير.

و من نتائج أعمال قسم الدراسات الاسلامية في هذا المجال تحقيق و نشر (تفسير العياشي)

ص: 8


1- سنن الترمذي 3786/663:5 و 3788 - كتاب المناقب، مستدرك الحاكم 148:3.
2- الأحزاب: 33/33.
3- كنز العمال 36404/128:13.
4- تفسير القمي 96:1، تفسير العياشي 646/293:1.
5- الكافي 1/166:1، تفسير العياشي 648/239:1.

لمحمد بن مسعود العياشي المتوفى نحو سنة 320 ه ، و كتاب (البرهان في تفسير القرآن) للسيد هاشم البحراني المتوفى سنة 1107 ه ، و كتاب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) للشيخ محمد جواد البلاغي المتوفى سنة 1352 ه ، و غيرها من التفاسير و الدراسات التي صدرت، أو لا تزال قيد الطبع أو التحقيق و تنتظر دورها في النشر و التوزيع باذن اللّه و توفيقه.

و الكتاب الذي بين يديك (نفحات الرحمن في تفسير القرآن) واحد من سلسلة التفاسير التي تبنّى قسم الدراسات الاسلامية تحقيقها و إخراجها بشكل أنيق يناسب مكانة مؤلفيها و جلالتهم، و هو من تأليف الشيخ محمد بن عبد الرحيم النهاوندي أحد أعلام الطائفة الحقّة و شيوخها المبرّزين قدس اللّه روحه و نور ضريحه، نرجو من اللّه تعالى أن ينفع به الاخوة المؤمنين سيما طلبة القرآن و علومه السامية.

ص: 9

ص: 10

ترجمة المؤلف

هو الشيخ محمد بن الميرزا عبد الرحيم بن الميرزا نجف المستوفي بن الميرزا محمد علي الشيرازي النهاوندي(1).

ولادته و نشأته و رحلاته

ولد الشيخ محمد النهاوندي في الخامس عشر من شهر رجب سنة 1291 ه (2) في النجف الأشرف، فنشأ منذ طفولته المبكرة في بيئة علمية و وسط يزخر بالفضيلة و المعرفة، حيث أمضى نحو ثلاث سنوات من أيام طفولته في النجف الأشرف مهد العلم و الورع و التقوى، و عاش في كنف أبيه العالم المتبحر و الفقيه البارع الميرزا عبد الرحيم النهاوندي نحو ثلاثة عشر عاما (1291-1304 ه ) نهل خلالها من فيض علمه و معرفته و اكتسب معالم تقواه و زهده.

و عند ما لبّى أبوه نداء الحق في التاسع من ربيع الثاني سنة 1304 ه توفّر الشيخ محمد على الأخذ عن أخيه الميرزا محمد حسن النهاوندي الذي كان عالما عاملا و فقيها بارعا، و أخذ عن مدرسي المدرسة الفخرية (مدرسة الخان مروي) في طهران و التي كان والده مدرسا بها.

و في سنة 1317 ه تشرف الشيخ محمد مع أخيه الميرزا محمد حسن بزيارة مشهد الامام الرضا عليه السّلام و جاور هناك مدة أخذ فيها عن فضلاء عصره المعروفين كالحاج الشيخ حسن علي الطهراني و مير سيد علي الحائري اليزدي و غيرهما.

و في نحو سنة 1324 ه توجّه الشيخ محمد إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة و إدامة الدرس

ص: 11


1- ترجم له الشيخ آقابزرك في نقباء البشر: 128 (مخطوط )، و في الذريعة 1006:9 عند ذكر ديوانه، و 163:12 عند ذكر كتابه (سراج النهج) و 122:15 عند ذكر كتابه (ضياء الأبصار) و 247:24 عند ذكر كتابه (نفحات الرحمن). و ذكره في أثناء ترجمة والده الميرزا عبد الرحيم النهاوندي في نقباء البشر 1108:3، فوائد الرضوية: 228، ريحانة الأدب 266:6، الذريعة 687:9 عند ذكر ديوان والده.
2- و ذكر الشيخ آقابزرك في نقباء البشر 1109:3 (ترجمة الشيخ عبد الرحيم النهاوندي) أن ولادته كانت في سنة 1289 ه و هي السنة التي عاد فيها والده من النجف إلى إيران، و ما أثبتناه بناء على ما رواه في الذريعة 687:9 عن الشيخ محمد النهاوندي في تاريخ ولادته و بعض تفاصيل حياته، و ما أثبتناه موافق أيضا للذريعة 1006:9 و 12: 163، و نقباء البشر (القسم المخطوط ): 128 - ترجمة الشيخ محمد النهاوندي.

و التحصيل، فتلمذ في كربلاء للسيد إسماعيل الصدر الأصفهاني، و توفّرت له فرصة التلمذة في الفقه و الأصول و العقائد و الأخلاق عند فضلاء ذلك العصر و أعلامه المعروفين حيث حضر أبحاث الملا كاظم الخراساني، و السيد محمد كاظم اليزدي، و الحاج ميرزا حسين الخليلي، و الشيخ عبد اللّه المازندراني، و الملا لطف علي، و حضر في سامراء دروس آية اللّه الميرزا محمد تقي الشيرازي، و غير هؤلاء من جهابذة العلم و المعرفة حتى وصل إلى كمال الاجتهاد في العلوم النقلية و العقلية.

و عاد إلى خراسان على أثر وفاة أخيه الميرزا محمد حسن و ذلك نحو سنة 1329 ه و جاور المشهد الرضوي المقدس، و قام مقام أخيه في التصدّي لشئون الزعامة الدينية و تولي شئون المرجعية و الافتاء في المسائل الشرعية و الأحكام، و اشتغل أيضا خلال مدة إقامته في مشهد بالتدريس و البحث و التأليف.

و في سنة 1360 ه توجه إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، و في هذه الرحلة زار العتبات المقدسة في العراق ثمّ عاد إلى مشهد و بقي هناك حتى وافاه الأجل.

وفاته:

توفي الشيخ محمد النهاوندي في الخامس من جمادى الأولى سنة 1371 ه و دفن في الحرم الرضوي الشريف في مشهد(1).

اسرته العلمية

1 - جدّه أبيه

كان جدّه أبيه محمد علي الشيرازي حاكما في نهاوند من قبل السلطان محمد شاه القاجاري، و استوطن أولاده و أحفاده بها، و منهم والد المؤلف الميرزا عبد الرحيم النهاوندي.

2 - والده

كان والده الميرزا عبد الرحيم النهاوندي(2) عالما متبحرا و فقيها بارعا و زاهدا تقيا، ولد في نهاوند سنة 1237 ه ، و اشتهر في أول أمره بحسن الخطّ و تجويده حتى بلغ الكمال فيه، ثمّ توجّه إلى تحصيل العلوم الدينية، فهاجر من موطنه إلى بروجرد، فقرأ على علمائها المعروفين آنذاك، ثمّ توجه إلى العراق فتلمذ للشيخ محمد حسن صاحب الجواهر حتى توفّي الأخير سنة 1266 ه ، فقرأ بعده على

ص: 12


1- راجع نقباء البشر (مخطوط ): 128، الذريعة 1007:9 و 163:12.
2- راجع ترجمته في أعيان الشيعة 470:7، نقباء البشر 1108:3، الفوائد الرضوية: 228، ريحانة الأدب 266:6، الذريعة 687:9.

الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري، و تصدّى خلال ذلك للتدريس، فحظي بتأييد استاذه الشيخ الأنصاري و تقديره.

و بعد وفاة الشيخ الأنصاري في سنة 1281 ه تفرّغ للتدريس في النجف، و أصبح من مشاهير علمائها و أعلامها المحقّقين و تخرّج عليه جمع من الفضلاء.

و غادر الشيخ عبد الرحيم النهاوندي أرض العراق بعد إقامة استمرت نحو ثلاثين عاما، و ذلك سنة 1291 ه (1) ،و هي السنة التي ولد فيها ابنه محمد صاحب النفحات، و تشرف بزيارة مرقد الامام الرضا عليه السّلام في مشهد، و أقام لمدة سنة مجاورا للمشهد الرضوي المقدس، ثمّ غادر بعدها مارا في طهران، و هناك ألحّ عليه جماعة من فضلائها و علمائها لطلب الاقامة بها و تولي التدريس في المدرسة الفخرية (المعروفة بمدرسة مروي) فأقام في طهران ملبيا طلبهم، و فوّض إليه الحاج ملا علي الكني مهمة التدريس في المدرسة المذكورة، و تولّى أيضا مهام المرجعية و الافتاء و إقامة صلاة الجماعة حيث كان يقتدي به عامة متديني المدينة و أعلامها، لما يتصف به من زهد و تقوى و ما يحظى به من وجاهة تامة و مكانة مرموقة.

و تخرج عليه جماعة من الأعلام كالحاج ميرزا علي تقي سبط السيد محمد المجاهد، و السيد محمد الطباطبائي، و الحاج ميرزا مهدي كلستانه و غيرهم.

و بقي الشيخ عبد الرحيم مقيما في طهران حتى وافاه الأجل في يوم الثلاثاء التاسع من ربيع الثاني سنة 1304 ه و حمل جثمانه إلى قم(2) فدفن في أول حجرة من حجرات الصحن الجديد للسيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر عليه السّلام على يسار الداخل من الباب الشرقي.

و ترك الشيخ عبد الرحيم مجموعة من الآثار العلمية منها في الأصول مقدار من أصل البراءة، و حاشية القوانين، و في الفقه: كتاب العتق، و كتاب الوقف، و ديوان شعر فيه مجموعة من أشعاره في كراريس بخطه كانت عند ولده الشيخ محمد.

3 - أخوه

ص: 13


1- قيل أيضا: سنة 1289 ه ، كما في نقباء البشر 1109:3 (ترجمة الشيخ عبد الرحيم النهاوندي) و ريحانة الأدب 6: 268، و ما أثبتناه موافق لرواية الشيخ آقابزرك عن الشيخ محمد النهاوندي، في الذريعة 687:9، و راجع أيضا: نقباء البشر (مخطوط ): 128 ترجمة الشيخ محمد، و الذريعة 1006:9 و 163:12.
2- ذكر الشيخ آقابزرك في نقباء البشر 1109:3 أنه حمل جثمانه إلى النجف، و هو وهم، فقد ذكر في الذريعة 687:9 أنه دفن في قم، و هو مطابق لحقيقة الحال و لكافة المصادر التي ترجمت له، راجع الفوائد الرضوية: 229، ريحانة الأدب 268:6.

أكبر إخوته الشيخ الميرزا محمد حسن (1) ،و كان عالما عاملا و فقيها بارعا، تشرف بعد وفاة أبيه سنة 1304 ه بزيارة الامامين العسكريين في سامراء، و مكث هناك مدّة حضر فيها دروس المجدد الشيرازي، ثم عاد إلى طهران و منها إلى مشهد، فأقام بها متوليا شئون التدريس و المرجعية و الافتاء حتى وفاته في نحو سنة 1329 ه (2) فقام مقامه بالتدريس و الامامة أخوه الشيخ محمد صاحب النفحات.

مصنفاته:

ذكر الشيخ آقابزرك في الذريعة أربعة مصنفات تركها الشيخ محمد النهاوندي، و هي:

1 - ديوانه، قال الشيخ آقابزرك: له ديوان شعر... و قد استكتبت منه قصيدته المستزاد في رثاء الحسين الشهيد عليه السّلام(3).

2 - سراج النهج في مسائل العمرة و الحج، قال الشيخ آقابزرك: استدلالي مبسوط ، يقرب من ثلاثة آلاف بيت(4).

3 - ضياء الأبصار في مباحث الخيار، قال الشيخ آقابزرك: تكلم [فيه] على الخيارات السبعة و بحث في كل منها في سبعة مقامات، و بحث في الخاتمة عن أحكام الخيار في تسع كراريس، يقرب من 8000 بيت(5).

4 - نفحات الرحمن في تفسير القرآن، و هو هذا الكتاب، قال الشيخ آقابزرك: ملمّع عربي و فارسي، للمحدّث النهاوندي محمد بن عبد الرحيم الطهراني النهاوندي، نزيل مشهد خراسان، المجلد الأول منه طبع سنة 1357 ه على الحجر في 496 صفحة مع مقدمة تشتمل على 40 طرفة فيما يتعلق بالقرآن، و المجلد الثاني الى آخر سورة الاسراء (6) ،و طبع الرابع سنة 1370 ه في 504 صفحة(7).

ص: 14


1- راجع ترجمته في نقباء البشر 406:1 و 1109:3.
2- كذا في الذريعة 687:9 و 1007، و نقباء البشر 1109:3، لكن في نقباء البشر 406:1 أرّخ وفاته في حدود سنة 1328 ه و كلا التاريخين ليس فيهما جزم و تحديد.
3- الذريعة 1006:9.
4- الذريعة 163:12.
5- الذريعة 122:15.
6- و طبع الجزء الثالث في النصف من شهر رمضان المبارك سنة 1363 ه .
7- الذريعة 247:24.

هذا الكتاب

اشارة

هو تفسير مزجي متوسط بين البسط و الايجاز، كتبه المؤلف باسلوب واضح و عبارة سائغة خالية من التعقيد و الابهام، و سمّاه في المقدمة حيث قال: و سمّيته ب (نفحات الرحمن في تفسير القرآن) و هكذا جاء اسمه في الذريعة على ما تقدّم، لكنّه جاء بزيادة (و تبيين الفرقان) كما في صدر الجزء الأول و الثالث و الرابع من الطبعة الحجرية، المذكورة. و فرغ منه في آخر سنة 1369 ه .

منهجه في التفسير

رسم المؤلف في اوّل مقدمته الخطوط العامة التي اتبعها في تفسيره، و هي بمجموعها تمثل طريقته التي نهجها في تفسير القرآن، و يمكننا أن نحصرها في سبع نقاط اعتمادا على ما ذكره حيث قال:

1 - اصطفيت من التفاسير ما هو لبابها.

2 - اكتفيت من الوجوه بما هو صوابها.

3 - بالغت في الجدّ بنقل ما وصل إليّ بطرق الخاصة و العامة من الروايات.

4 - استفرغت الوسع في بيان وجه النظم بين السور و الآيات.

5 - صرفت الهمّ في التعرض لأسباب النزول الواردة في الآثار.

6 - بذلت الجهد في الاسفار عن وجوه بعض النكت و الأسرار.

7 - كففت عن التكلم في أعاريب الكلمات و بيان وجوه القراءات التي كانت مخالفة للقراءة المشهورة، إلاّ التي وجدتها عن أهل الذكر مأثورة.

طرف الكتاب

قبل أن يشرع المؤلف في التفسير مهّد لتفسيره بأربعين طرفة و خاتمة، و قد تضمّنت الطرف بحوثا مهمة في علوم القرآن كاعجاز القرآن و دلائله، و نزوله، و ترتيبه و جمعه، و أسمائه، و محكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، و سلامته من التحريف، و ثواب تعلّمه و تعليمه، و آداب تلاوته و حفظه، و فضائل السور و الآيات و غيرها من البحوث و التحقيقات المهمة في علم التفسير.

مصادر الكتاب

و جعل المؤلف خاتمة طرفه الأربعين في ذكر المصادر التي اعتمدها في تفسيره، و هي عشرة من

ص: 15

مصادر التفسير و الحديث:

1 - جوامع الجامع في التفسير، لأمين الاسلام الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي.

2 - بحار الأنوار، للعلامة محمد باقر المجلسي.

3 - حواشي على كتاب أنوار التنزيل، للشيخ محمد بن حسين بن عبد الصمد العاملي المعروف بالشيخ البهائي.

4 - الصافي في تفسير القرآن، للمولى محمد محسن المعروف بالفيض الكاشاني.

5 - مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي.

6 - الاتقان، لجلال الدين السيوطي.

7 - تفسير أبي السعود.

8 - أنوار التنزيل، للبيضاوي.

9 - روح البيان، للشيخ إسماعيل حقي البروسوي.

10 - تفصيل وسائل الشيعة، للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي.

طبعاته

طبع هذا التفسير طبعة واحدة في أربعة أجزاء على الحجر في حياة مصنفه؛ و ذلك في الفترة الواقعة بين سنة (1357-1370 ه ) و هذه الطبعة نادرة الوجود عزيزة الحصول فضلا عن أنها تزخر بكثير من التصحيف و التحريف و العيوب الطباعية، و لهذا عمد قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة إلى تجديد طباعته بعد تحقيقه وفقا لأساليب التحقيق العلمي المعروفة، ليأخذ حيّزه في المكتبة الاسلامية، و يكون أكثر فائدة لمريدي التفسير و محبّي الكتاب العزيز.

منهج التحقيق

اتبعنا اسلوب التحقيق الجماعي المعمول به في قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة، أي تقسيم العمل ثم انجازه خطوة خطوة من قبل مجاميع متخصصة و متدربة في هذا الفن.

و قبل أن نذكر خطوات العمل في هذا التفسير المبارك، لا بد من الاشارة إلى مسألتين:

1 - إننا قد اعتمدنا في تحقيقنا هذا على الطبعة الحجرية المشار إليها آنفا، بعد تخليصها من عيوب الطباعة القديمة.

2 - إنّ المؤلف قد ذكر مختصرا من التفسير باللغة الفارسية في تلك الطبعة، و لم نورده في طبعتنا هذه، لأنّ المؤلف لم يمزجه أثناء تفسيره العربي بل جعله منفصلا عنه بحيث يمكن جعله كتابا

ص: 16

مستقلا، و إذا تمّ طبعه بشكل مستقلّ سيكون أسهل تناولا و أكثر فائدة لقرّاء اللغة الفارسية.

أما خطوات العمل في هذا التفسير فيمكن تلخيصها بالنقاط التالية:

1 - تخريج النصوص القرآنية و الحديثية و أقوال المفسرين و غيرهم من المصادر التي اعتمدها المؤلف أو من مصادرها الأولية، و قد لاحظنا أنّ نقول المصنف من مصادر الحديث كالتهذيب و الكافي و مصنفات الشيخ الصدوق و غيرها، منقولة بالواسطة عن (تفسير الصافي) و ذلك لكثرة الفوارق بين نصوص (نفحات الرحمن) و نصوص المصادر المشار إليها مع تطابقها تماما مع (تفسير الصافي) و لذلك خرّجنا مثل هذه الأحاديث عن مصادرها الأولية و عن (تفسير الصافي) أيضا، ليتضح للقارئ مدى التفاوت بين الروايتين.

2 - مقابلة النصوص و المتون المنقولة بالمصادر التي نقل عنها المصنف أو بمصادرها الأولية مع الاشارة في حال الاختلافات الضرورية أو في حال اعتمادنا نسخة المصدر.

3 - ترقيم الآيات الواردة في متن التفسير ليكون أسهل تناولا.

4 - تقويم النص بتخليصه من التصحيف و التحريف الوارد في طبعته الحجرية الأولى، و شرح الغريب، و وضع الحركات الضرورية في مواضع الحاجة.

5 - وضعنا ما أثبتناه لاقتضاء السياق بين معقوفتين إشارة إلى عدم وجوده في نسخة التفسير، و كذلك ما رأيناه ضروريا من المصادر.

6 - صياغة هوامش الكتاب بالاعتماد على سلسلة الخطوات السابقة.

7 - الملاحظة النهائية و تتضمن مراجعة متن الكتاب و هوامشه بدقة للتأكد من سلامة النصّ و ضبطه.

تقدير و ثناء

تقدّم وافر الشكر و مزيد الامتنان للاخوة العاملين في (قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة - قم) على جهودهم القيمة التي بذلوها لانجاز تحقيق هذا السفر المبارك، و نخصّ بالذكر منهم الاستاذ المحقق الاخ علي الكعبي دام فضله، و السادة الأفاضل عبد الحميد الرضوي و موسى دانشمند محولاتي و عصام البدري وفّقهم اللّه لمراضيه.

و للّه سبحانه الفضل و المنة و منه نستمد العون و التوفيق.

قسم الدراسات الاسلامية

مؤسسة البعثة - قم

ص: 17

ص: 18

الصورة

ص: 19

الصورة

ص: 20

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، و أنزل الكتاب و لم يجعل له عوجا قيّما ليبشّر المؤمنين بأنّ لهم من اللّه فضلا كبيرا، و جعله في ظلمات الأرضين شمسا مضيئة و قمرا منيرا، و أبلج به عن هدى رسوله، و أوضح به الحقّ و أرشد البريّة إلى سبيله، و ذكّرهم به تذكيرا، تحدّى(1) الجاحدين في إتيان سورة من مثله فلم يفعلوا و لن يفعلوا و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، و تجلّى فيه بظهور قدرته، و بهور حكمته، و سطوع نور عظمته، حتى رآه بقلبه من كان بصيرا.

و الصلاة و السّلام على من أرسله برحمته و فضله إلى النّاس بشيرا، و ختم به الرسالة، و بشّر به المرسلون أممهم تبشيرا، و شرّف الملائكة المقرّبين بأن جعلهم له ظهيرا و نصيرا.

و على ابن عمّه، و كاشف غمّه، و زوج ابنته، و المخصوص بأخوّته، الذي وهبه اللّه له وصيّا و وزيرا، و على الأئمّة من ذرّيّته الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا.

أمّا بعد: فقد طال ما جال فكري في أن أكتب للكتاب الكريم تفسيرا، كي يكون ذخري لحين فقري و نجاتي في يوم يكون شرّه مستطيرا، و إن كان لقصور باعي و قلّة اطّلاعي عليّ عسيرا، إلاّ أنّ شوقي الأكيد هاج روعي، و كلّفني السّعي فوق ما في وسعي، فشمّرت للغوص في هذا البحر العميق، فشرعت فيه سائلا من اللّه الإعانة و التوفيق.

فاصطفيت من التفاسير ما هو لبابها، و اكتفيت من الوجوه بما هو صوابها، و بالغت في الجدّ بنقل ما وصل إليّ بطرق الخاصّة و العامّة من الروايات، و استفرغت الوسع في بيان وجه النظم بين السور و الآيات، و صرفت الهمّ في التعرّض لأسباب النزول الواردة في الآثار، و بذلت الجهد في الإسفار عن وجوه بعض النكت و الأسرار، و كففت عن التكلّم في أعاريب الكلمات، و بيان وجوه القراءات التي

ص: 21


1- في النسخة: و حدّ.

كانت مخالفة للقراءة المشهورة، إلاّ الّتي وجدتها عن أهل الذّكر مأثورة، و سمّيته ب (نفحات الرّحمن في تفسير القرآن).

ثمّ إنّي رأيت أن أهدي للمهتدي البصير، قبل الشروع في التفسير، طرائف بارعة، و لطائف نافعة، تثبيتا للقلوب، و تمهيدا للمطلوب، و تشحيذا للأذهان، و تنبيها للوسنان، فهيّأت مع قلّة البضاعة، و عدم التدرّب في الصناعة، ببذل الجهد و تحمّل الكلفة، من المطالب المرتبطة بعلم القرآن أربعين طرفة، و جعلتها مقدّمة، و جئت لها بخاتمة (1) ،راجيا من اللّه أن يجعل ذلك لي و لإخواني المؤمنين نعمة دائمة، و أن ينعم عليّ بالاعتصام في مزالّ الأقدام.

ص: 22


1- في النسخة: خاتمة.

الطرفة الأولى في أنّ الكتاب العزيز أعظم معجزات خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله

لا ريب في أنّ الكتاب العزيز كان من أعظم معجزات خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله حيث إنّه كانت جهة الإعجاز فيه أظهر من المعجزات الباهرة التي كانت لسائر الأنبياء العظام، و تأثيره في النفوس أشدّ من تأثيرها؛ لبداهة أنّ المؤمنين به صلّى اللّه عليه و آله من العرب مع عرافتهم بشدّة العصبيّة و اللّجاج، كانوا في زمانه أكثر من المؤمنين بسائر الأنبياء في زمانهم، و كان إيمان أتباعه به، و انقيادهم لأمره - مع كونهم أشدّ الخلق تكبّرا، و أكثرهم تفاخرا - أقوى و أزيد من إيمان سائر الأمم بأنبيائهم، و انقيادهم لأوامرهم.

و كان حبّ العرب له، و شغفهم به - مع كونهم أقسى النّاس قلبا، و أقلّهم رأفة - أشدّ و أكثر من حبّ بني إسرائيل لموسى بن عمران عليه السّلام مع كونه صاحب تسع آيات بيّنات، و من حبّ الحواريّين لعيسى بن مريم عليه السّلام مع كونه محيي الأموات، و مبرئ الأكمه و الأبرص.

حيث إنّ المؤمنين بنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله كانوا يتسابقون إلى بذل المهج، و الغور في اللّجج، و يتسارعون إلى معانقة السيوف، و شرب الحتوف، تحفّظا لسلامته، و ترويجا لشريعته، و بنو إسرائيل كانوا أحفظ لأنفسهم من نفس موسى عليه السّلام حيث إنّه لمّا قال لهم يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ (1)قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ (2) و إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (3).

و لم ينقل عن(4) حواريّي عيسى عليه السّلام فزع شديد حين رأوه على الصليب، و نقل أنّه لمّا مات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله عزيزا في فراشه غشي على بعض المؤمنين من شدّة الحزن، و جنّ آخر، و صار يوم موته مثلا في شدّة البكاء و الحزن، و لم يكن جميع ذلك إلاّ لكون إعجاز كتابه الكريم أشدّ تأثيرا في

ص: 23


1- المائدة: 21/5.
2- المائدة: 22/5.
3- المائدة: 24/5.
4- في النسخة: من.

نفوسهم من آيات نبوّة موسى و عيسى عليهما السّلام في نفوس أتباعهما.

مع أنّ القرآن العظيم أوجد في نفوس العرب آثارا لم توجدها(1) معجزات سائر الأنبياء، حيث إنّه أخرجهم بسماعه من ظلمات الجهالة و غمرات الضلالة، بعد تماديهم فيها و تمرّنهم عليها، إلى نور الهداية و أوج الحكمة، و صيّرهم بعد أمّيّتهم علماء حكماء، بل كادوا أن يكونوا من الحكمة و المعرفة أنبياء، و بلغوا من العلم إلى أن صاروا بعد وحشيّتهم أساتيذ الأمم، و سادة العجم.

انظر إلى حواريّي عيسى مع كونهم أكمل من آمن به، و أعلم بما جاء به، قالوا: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (2) و أطفال أمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله في زمانه كانوا يقولون: إنّ اللّه على كلّ شيء قدير، و لا يعجز اللّه شيء في الأرض و لا في السّماء.

و الحاصل أنّ العاقل المتأمّل في آيات(3) القرآن المجيد، لا يرتاب في أنّها كلام اللّه، و أنّها أعظم المعجزات، و قد أفرد جمع كثير من علماء الاسلام إعجاز القرآن بالتصنيف، و مع ذلك حاروا في كشف حجب البيان عن وجوه إعجازه بعد أن ثبتت عندهم بالوجدان و البرهان.

فالمنصف يرى القرآن في الهداية و البيان كالروح في الجسد، يعرف بمظاهره و آثاره، و يعجز العارفون عن بيان حقيقته و كنهه. فإنّ قريشا(4) كانت أفصح العرب لسانا، و أعذبهم بيانا، و أخلصهم لغة، و أرفعهم عن الرداءة لهجة، و مع ذلك كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحتجّ عليهم بالقرآن صباحا و مساء، و يحثّهم على أن يعارضوه بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلّما ازداد تحدّيا لهم بها و تقريعا عليهم، كشف عجزهم عن نقصهم ما كان مستورا (5) ،و ظهر منهم ما كان خفيا، فحين لم يجدوا حيلة و لا حجّة، قالوا: أنت تعرف أخبار الأمم، و لذا تقدر على ما نعجز عنه، فقال: جيئوا بها مفتريات، و لذا لم يأت بمثله أريب عن معارضة، و لم يبرم ذلك خطيب، و لا طمع فيه شاعر، و لا تكلّفه طبع فصيح ماهر، و لو تكلّفه لظهر ذلك، فدلّ ذلك على عجز القوم عن معارضته مع كثرة كلامهم، و سهولة ذلك عليهم، و كثرة شعرائهم، و كثرة من هجاه منهم و عارض شعراء أصحابه و خطباء أتباعه.

و من الواضح أنّهم لو جاءوا بسورة واحدة أو آيات يسيرة بدل الهجاء و معارضة الشعراء، لكان

ص: 24


1- في النسخة: يوجدها.
2- المائدة: 112/5.
3- في النسخة: الآيات.
4- في النسخة: القريش.
5- كذا، و لا تخلو العبارة من اضطراب. و لعلّها: كشف عجزهم ما كان مستورا من نقصهم.

أنقض لقوله، و أفسد لأمره، و أضرّ عليه و على أصحابه، مع أنّ الكلام سيّد عملهم و قد احتاجوا إليه، و الحاجة تبعث على الفكر و الجدّ في الأمر الغامض المشكل، فكيف بالسّهل الجليل المنفعة و العظيم الفائدة!

روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه، قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقرأ عليه القرآن، فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: يا عمّ ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه لأن لا تأتي(1)

محمّدا، و لتعرض لما قاله (2).قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك كاره له. قال: و ما ذا أقول ؟ فو اللّه ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي، و لا برجزه، و لا بقصيده، و لا بأشعار الجنّ ، و اللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، و و اللّه إنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، و إنّ عليه لطلاوة (3) ،و إنّه لمثمر أعلاه، معذق(4) أسفله، و إنّه ليعلو و لا يعلى عليه، و إنّه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه. قال: فدعني حتّى أفكّر. فلمّا فكّر قال: هذا(5) سحر يؤثر، يأثره عن غيره(6).

روي أنّ قوله عزّ و جلّ فى أوّل حم السجدة إلى قوله: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (7) نزل في شيبة و عتبة ابني ربيعة، و أبي سفيان بن حرب، و أبي جهل، و ذكر أنّهم بعثوهم و غيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله ليكلّمه، و كان حسن الحديث، عجيب الشأن، بليغ الكلام، و أرادوا أن يأتيهم بما عنده. فقرأ النبيّ صلوات اللّه و سلامه عليه سورة حم السجدة من أوّلها حتّى انتهى إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (8) فوثب مخافة العذاب، فاستحكوه ما سمع، فذكر أنّه لم يسمع منه كلمة واحدة، و لا اهتدى لجوابه (9).و لو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج و الرّدّ.

قال عثمان بن مظعون: و اللّه، لعلموا أنّه من عند اللّه إذ لم يهتدوا لجوابه(10).

و روي أنّ جبير بن مطعم ورد على النبي صلّى اللّه عليه و آله في حليف له أراد أن يفاديه، فدخل و النبيّ صلوات

ص: 25


1- في الاتقان و حياة الصحابة: فانك أتيت.
2- في الاتقان و حياة الصحابة: لما قبله.
3- الطّلاوة: الحسن و الرّونق.
4- في الاتقان و حياة الصحابة: مغدق.
5- في حياة الصحابة: إن هذا إلاّ.
6- الاتقان في علوم القرآن 5:4، حياة الصحابة 63:1.
7- فصلت: 4/41.
8- فصلت: 13/41.
9- الدر المنثور 309:7.
10- في النسخة: بجوابه، و كذا في المورد المتقدّم.

اللّه عليه يقرأ سورة وَ الطُّورِ * وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (1) في صلاة الفجر، قال: فلمّا انتهى إلى قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (2) قال: خشيت أن يدركني العذاب فأسلمت(3).

و روي أنّ ابن أبي العوجاء و ثلاثة نفر من الدّهريّة(4) اتّفقوا على أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن، و كانوا بمكّة، و عاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل، فلمّا حال الحول، و اجتمعوا في مقام ابراهيم عليه السّلام قال أحدهم: إنّي لمّا رأيت قوله: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ (5) كففت عن المعارضة.

و قال الآخر: و كذلك أنا، لمّا وجدت قوله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (6) أيست عن المعارضة. و كانوا يسرّون بذلك، إذ مرّ عليهم الصادق صلوات اللّه عليه فالتفت [إليهم] و قرأ عليهم:

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ (7) فبهتوا (8).و أمثال هذه الروايات كثيرة جدّا.

و ممّا يشهد على أنّ القرآن العظيم فوق طوق البشر، أنّ من قايس بين آياته و كلمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطبه البليغة، وجد التفاوت بينهما تفاوت الخالق و المخلوق، و الواجب و الممكن، مع أنّه صلوات اللّه عليه كان أفصح من نطق بالضّاد، و لم يسمع بكلام أحسن أسلوبا، و ألطف لفظا، و أعدل وزنا، و أجمل مذهبا، و أحسن موقعا، و أسهل مخرجا، و أفصح بيانا، و أبين فحوى، و أكرم مطلعا من كلامه صلّى اللّه عليه و آله.

و الحاصل: أنّ الكتاب العزيز في لسان العربيّة بلغ مبلغا من الفصاحة و البلاغة و حسن النظم و الاسلوب لا يمكن للبشر أن يدانيه بالفطرة و العقل و الاكتساب. و قد صدق الصادق صلوات اللّه عليه حيث قال: «لقد تجلّى اللّه تعالى لخلقه في كلامه، و لكنّهم لا يبصرون »(9).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وصف القرآن قال: «ظاهره أنيق، و باطنه عميق، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه »(10).

ص: 26


1- الطور: 1/52 و 2.
2- الطور: 7/52 و 8.
3- الكشاف 409:4.
4- رجل دهري: ملحد لا يؤمن بالآخرة، يقول ببقاء الدهر. المعجم الوسيط 299:2.
5- هود: 44/11.
6- يوسف: 80/12.
7- الإسراء: 88/17.
8- الخرائج و الجرائح 5/710:2.
9- أسرار الصلاة/للشهيد الثاني: 140.
10- تفسير العياشي 1/74:1، الكافي 2/438:2.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لا تنقضي عجائبه، و لا يشبع منه العلماء، هو الذي لم تلبث(1) الجنّ إذ سمعته أن قالت: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ (2).

و سيأتي - إن شاء اللّه - عند تفسير قوله عزّ و جلّ : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا (3) مزيد بيان لذلك و التعرّض لوجوه إعجازه بمقدار فهمي القاصر.

الطرفة الثانية في تعريف المعجزة و أنّ القرآن العظيم معجزة عقلية

المعجزة: هي الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدّي السالم عن المعارضة من مدّعي النبوّة عند احتمال صدقه في الدعوى، و هي قسمان: حسّيّة؛ كصيرورة العصا ثعبانا، و إحياء الموتى، و إطعام الجمع الكثير بالطعام اليسير. و عقليّة: كإعجاز القرآن المجيد.

قيل: كانت معجزات أنبياء بني إسرائيل أكثرها حسّيّة، لبلادة أممهم، و قلّة ذكائهم، بخلاف معجزات نبيّنا صلوات اللّه عليه و آله فإنّ عمدتها عقليّة لفرط ذكاء أمّته، و كمال فهمهم، و لأنّ هذه الشريعة و نبوّة هذا النبيّ باقية دائمة مدى الدهر، و أحكامه مستمرّة إلى يوم القيامة، فخصّ نبيّنا بأن أعظم معجزاته عقليّة باقية ليراها ذوو(4) البصائر قرنا بعد قرن، كالشمس تجري ما استقرّت الأرضون و دارت السماوات.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلاّ أعطي ما بمثله آمن(5) البشر، و إنّما كان الذي أوتيته(6) وحيا أوحاه اللّه إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا »(7).

قال بعض العلماء: إنّ معناه أنّ معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلاّ من حضرها، و معجزة القرآن مستمرّة إلى يوم القيامة. و خرقه العادة في فصاحته و بلاغته و نظمه و اسلوبه و إخباره بالمغيبات باق إلى آخر الدهر، فلا يمرّ عصر من الأعصار إلاّ و يظهر فيه شيء ممّا أخبر به أنّه

ص: 27


1- في تفسير العياشي: لم تكنّه.
2- تفسير العياشي 2/75:1، و الآيتان من سورة الجن: 1/72 و 2.
3- البقرة: 24/2.
4- في النسخة: ذو.
5- في صحيح البخاري: ما مثله آمن عليه.
6- في صحيح البخاري: أوتيت.
7- صحيح البخاري 3/313:6، و زاد فيه: يوم القيامة.

سيكون (1) ،و كلّ من سمعه في القرون المتطاولة، و كان عارفا بكلام العرب و اسلوب بيانهم، تتمّ عليه الحجّة بسماعه، كما قال اللّه عزّ و جلّ : أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (2) و قال تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ (3) فإنّ الآيتين دالّتان على أنّ الحجّة بتلاوة الكتاب العزيز و سماع كلام اللّه تتمّ على كلّ أحد من العارفين بكلام العرب و محاوراتهم.

روي أنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: ما بال القرآن لا يزداد على النشر و الدرس(4) إلاّ غضاضة(5) ؟ فقال عليه السّلام: «لأنّ اللّه تبارك و تعالى لم يجعله(6) لزمان دون زمان، و لا لناس دون ناس، فهو فى كلّ زمان جديد، و عند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(7).

و في خطبة طويلة لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده، و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ ناهجه (8) ،و شعاعا لا يظلم ضوءه، و فرقانا لا يخمد برهانه، و بنيانا لا تهدم أركانه »(9).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «لا يخلق على الأزمنة، و لا يغثّ (10) على الألسنة، لأنّه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، و حجّة على كلّ إنسان لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (11).

و في خطبة فاطمة عليها السّلام في أمر فدك: «للّه فيكم عهد قدّمه إليكم، و بقيّة استخلفها عليكم: كتاب اللّه، بيّنة بصائره، و آي منكشفة سرائره (12) ،و برهان متجلّية ظواهره، مديم للبريّة استماعه، و قائد إلى الرضوان أتباعه، و مؤدّ إلى النّجاة أشياعه، فيه تبيان حجج اللّه المنيرة، و محارمه المحرّمة، و فضائله المدوّنة، و جمله الكافية، و رخصته الموهوبة، و شرائطه المكتوبة، و بيّناته الجالية »(13).إلى غير ذلك من الروايات.

ص: 28


1- فتح الباري 5:9.
2- العنكبوت: 51/29.
3- التوبة: 6/9.
4- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: عند النشر و الدراسة.
5- الغضّ : الطريّ ، و الغضاضة: الطّراوة و النّضارة.
6- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: لم ينزله.
7- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 32/87:2، أمالي الطوسي: 1203/580.
8- في النهج: نهجه.
9- نهج البلاغة: 314 الخطبة 198.
10- خلق الثوب: بلي، و غثّ حديث القوم: ردؤ و فسد.
11- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 9/130:2، و الآية من سورة فصلت: 42/41.
12- في النسخة: سرائرها.
13- بلاغات النساء: 25، دلائل الإمامة: 113، الاحتجاج: 99.

هذا في حقّ العارف بلسان العرب، و أمّا غير العارف فتتمّ عليه الحجّة بتصديق أهل اللّسان إعجازه، كما تمّت الحجّة على بني إسرائيل الجاهلين بعلم السحرة بتصديق السحرة إعجاز العصا، و على الجاهلين بعلم الطبّ بتصديق الأطبّاء إعجاز إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى.

الطرفة الثالثة في أنّ الكتاب العزيز مع قطع النظر عن وجوه إعجازه دليل صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله

لا شبهة أنّ الكتاب العزيز مع غضّ النظر عن وجوه إعجازه، يكون من أقوى دلائل صدق نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله لوجوه، منها:

[1] - أنّه صلّى اللّه عليه و آله أعلن في النّاس بصريح كتابه الكريم بأنّ موسى بن عمران عليه السّلام بشّر أمّته بظهوره صلوات اللّه عليه و بعثته، و أخبر بعلائمه و نعوته، و أنّ عيسى بن مريم عليه السّلام بشّر مع ذلك باسمه السامي، حيث قال في كتابه العزيز: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

فلو لم يكن نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله صادقا في دعواه، و على حجّة فيما ادّعاه، ما كانت اليهود و النصارى مع كثرة عددهم و رهبانهم، و شدّة عداوتهم له صلّى اللّه عليه و آله و لجاجهم في ملّتهم، ساكتين عن معارضته مع تمكّنهم من إدحاض حجّته، و قدرتهم على إبطال دعوته، و لبادروا إلى تكذيبه، و لتسارعوا إلى تفضيحه و تنكيبه بأن كانت الأحبار و الرهبان لحفظ رياستهم و ملّتهم حرّموا على أنفسهم الرّقاد، و تنادوا بأعلى أصواتهم في البلاد، و أحضروا الناس في الميعاد، و أتوا بكتبهم في محضر الحاضر و البادي، و فتحوها على رءوس الأشهاد، و ألزموا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أن يريهم منها آية فيها اسمه أو نعته، و يخرج منها عبارة فيها علامته و صفته فيظهر عند ذلك بعجزه، إفحامه و بهته، فلم يمكن أن يخضرّ له بعد ذلك عود، و لم يقم له عمود، فلمّا لم يظهر تظاهرهم في ردّه - و لو كان لبان - علمنا بثبوت نعوته في كتبهم، و تيقّنّا بصدقه في إخباره.

إن قيل: قد نطق الكتاب العزيز في عدّة مواضع، بأنّ اليهود و النصارى حرّفوا الكتابين، و غيّروا

ص: 29


1- الصف: 6/61.

الآيات المبشّرات ببعثته، الدالات على نعوته، و اتّفق المسلمون عليه، و لازم ذلك أنّه لم يكن في ذلك الوقت في الكتابين آية دالّة على نعته، و لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قادرا على إثبات بشارة موسى و عيسى عليهما السّلام بمجيئه و رسالته، و لذلك لم يؤمن أكثر أهل الكتابين بنبوّته، و لو كان في الكتابين ذكر علائمه المنطبقة عليه، لم يبق لهم عذر في عدم الايمان و التسليم.

قلنا: نعم، و لكنّه لم يقع التحريف في جميع النسخ الموجودة في ذلك العصر من الكتابين، و إنّما وقع في عدّة كتب كانوا يظهرونها لعوامّهم، و يتلونها عليهم إضلالا لهم، و حفظا لرياستهم في السرّ و الخفاء، و لم يقدروا على التجاهر بالمعارضة لكون النسخ غير المحرّفة كثيرة الوجود، و كانت عدّة من المسلمين من علماء الفريقين مطّلعين على الآيات غير المحرّفة، قادرين على إفحام المعارضين الجاحدين، فلم يجسر أحد على التظاهر بالتكذيب و الإنكار، بل سلك المتمرّدون مع النبيّ و المسلمين سبيل النفاق.

[2] - و منها: أنّ العادة قاضية بأنّ كلّ من يريد أن يثبت لنفسه بين الناس مرتبة من الكمال التي ليست له، و يدّعي كونه في مرتبة الواجدين أو فوقهم، و كان لتلك المرتبة من الكمال آثار في الأنظار، لا بدّ لذلك المدّعي الكاذب من السّعي في إلقاء الشّبهات في ملازمة تلك الآثار لتلك المرتبة من الكمال، و إزالة اعتقاد الناس بها، و من المبالغة في تنقيص من عرف بهذه المرتبة و تكذيبه في دعوى وجدانه الآثار، و تكذيب نقلها عنه، و من الجدّ في الإرزاء به حتّى تحصل له رفعة القدر و سماع الدعوى.

مثلا إذا ادّعى مدّع كاذب لنفسه مرتبة النبوّة، و كانت في اعتقاد الناس ملازمة لإتيان المعجزة و عمل خارق للعادة، و كان المدّعي عاجزا عن ذلك، فلا بدّ له من إنكار ملازمة النبوّة للاعجاز، و من السّعي في إلقاء الشبهات في أذهان المعتقدين بصدور الإعجاز و خوارق العادات من الأنبياء عليهم السّلام، و من حطّ رتبتهم و قدرهم، و من سلب العصمة عنهم حتّى يمكنه دعوى التساوي معهم أو التعالي عليهم.

كما ترى ذلك من الفرقة الضالّة البابيّة (1) ،حيث إنّهم على ما نقل عنهم أنكروا جميع المعجزات

ص: 30


1- البابيّة: فرقة أسسها علي محمد، الملقب بالباب، المولود بشيراز سنة 1235 ه و المقتول سنة 1266 ه في تبريز بإيران، و ادّعى أنه الباب الذي لا يجوز الدخول إلاّ منه، و قال بنسخ فرائض الإسلام، و إنه أفضل من الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله، و إن أقرانه أفضل من الصحابة، و إن البشر يعجز عن الإتيان بقرآنه، و سمّى كتابه (البيان) و كان يقول إنه المهدي. معجم الفرق الإسلامية: 48.

و نسبوها إلى الكذب و قالوا: إنّه لا برهان على صدق دعوى مدّعي النبوّة إلاّ نفوذ قوله و تأثيره في النفوس و قبول الناس.

و كما نرى من أهل السنّة من القول بعدم لزوم عصمة الإمام، حتّى يتمشّى من الفرقة الأولى دعوى النبوّة أو مرتبة فوقها، و من الفرقة الثانية دعوى إمامة أئمّتهم مع اتّفاق المسلمين على أنّهم كانوا مشركين في المدّة المديدة من عمرهم.

و لمّا رأينا أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله بالغ في كتابه العزيز في تعظيم سائر الأنبياء أكثر من تعظيم أممهم لهم، و أثبت لهم من المعجزات و خوارق العادات أزيد ممّا اعتقد بها المؤمنون بهم، كتكلّم عيسى عليه السّلام في(1) المهد، و عروجه حيّا إلى السّماء، و إلقاء شبهه على غيره، ثم ادّعى لنفسه النبوّة، بل ادّعى أنّه أفضل و أعظم شأنا من الأنبياء الذين هم ذوو المعاجز الباهرة، ثم علمنا أنّه آمن به كثير من العقلاء و جمع من امم سائر الأنبياء كاليهود و النّصارى و غيرهم من مشركي العرب مع نهاية افتتانهم بآلهتهم و كمال ثباتهم في ملّتهم، علمنا أنّ هذا المدّعي للنبوّة كان قادرا على ما كان سائر الأنبياء قادرين عليه من المعجزات، و أتى بخارق عادة دالّ على صدقه كما أتى غيره من الأنبياء، و كان له من العلم ما كان لهم، و من الأخلاق و الأعمال ما يشبه أخلاقهم و أعمالهم، و إلاّ لم يكد يمكن أن ينتظم آخره، و يبهر نوره، و يزداد على الشمس ظهوره.

إن قيل: إنّ كتابه ناطق أنّه لم يكن له معجزة من معاجز موسى بن عمران عليه السّلام حيث قال سبحانه:

فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى (2) بل فيه آيات دالّة على أنّه لم يكن له معجزة أصلا كقوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ (3) ثمّ لم يجبهم الرسول بأنّي قد جئتكم بما جاء به موسى أو: آتيكم بعد به، أو: أتيتكم بمثل ما أتى به سائر الأنبياء و الرّسل، بل أجابهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ (4) أو قوله: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ أو قوله: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (5) و أمثال ذلك.

قلنا: إنّه يكفي في إثبات النبوّة إتيان أمر خارق للعادة بحيث يكون إيجاد اللّه له بيد ذلك النبيّ تصديقا منه تعالى لدعواه، و إن لم يكن من أنواع إعجاز سائر الأنبياء، كما أنّه كان لكل واحد من أنبياء

ص: 31


1- في النسخة: على.
2- القصص: 48/28.
3- يونس: 20/10.
4- القصص: 48/28.
5- العنكبوت: 50/29.

بني إسرائيل نوع خاصّ من الإعجاز، أو أنواع مخصوصة، و لم يكونوا متوافقين على نوع واحد أو أنواع خاصّة، فإنّ موسى عليه السّلام كان له معجزة العصا، و اليد البيضاء، و فلق البحر، و سائر الآيات التسع، لاقتضاء زمانه لها و عدم اقتضائه لغيرها، و لم يظهر من عيسى عليه السّلام هذه الأنواع من المعجزات، بل ظهر منه ما ناسب زمانه من إحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص و غير ذلك.

فلازم النبوّة إتيان جنس المعجزة كي يكون دليلا على صدق الدعوى، فإذا أتى مدّعي النبوّة بمعجزة دالّة على صدق دعواه، وجب الإيمان به، و التصديق بنبوّته، و اتّباع أحكامه، و لو لم يكن من الأنواع التي كانت لغيره.

نعم إذا توقّف هداية شخص على الإتيان بمسئوله، و كان سؤاله عن إرادة الاهتداء لا عن التعنّت و اللّجاج، كان على النبيّ إجابة مسئوله و إزالة شبهته، و أمّا إذا كان السؤال عن تعنّت و لجاج بعد وضوح الحقّ ، فلم يحسن إجابة السائل المتعنّت، بل يجب جوابه بما يدلّ على تعنّته، كما أجابهم اللّه بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ (1).

و الغرض من التقرير السابق، هو علمنا من الأمارة القاطعة بأنّه كان له عليه السّلام معجزة ظاهرة دالّة على صدقه إجمالا، و لو لم يكن من أنواع معجزات سائر الأنبياء عليهم السّلام بل كان أقلّ ، كتحرّك الشجر من مكانه بأمره، أو تسبيح الحصاة في يده، أو أعظم كانشقاق القمر، و إحياء الرّمم، فبعد ثبوت إتيانه بما كان مشتركا مع معجزات سائر الأنبياء في جنس الإعجاز، و إن كان مغايرا لها بالنوع، يظهر صدقه و يجب اتّباعه.

و لا ينافي هذه الآيات ما ادّعيناه حيث إنّ الظاهر أنّ الكفّار سألوا إتيان الأنواع المعهودة من سائر الأنبياء كموسى و عيسى، لا أنّهم سألوا صدور جنس المعجزة منه صلّى اللّه عليه و آله بل الكتاب العزيز دالّ بالصراحة على أنّه كان له معجزة و آية حيث قال: وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ (2) و قال في تقريع معارضته: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (3) و أمثال ذلك.

و لمّا كان سؤالهم تعنّتا لم يحسن إجابة مسئولهم، و لذا لم يجبهم إلاّ بالتقريع و التبكيت كقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ (4) ،و قوله: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (5) ،و قوله: إِنَّ اللّهَ

ص: 32


1- القصص: 48/28.
2- الأنعام: 124/6.
3- القمر: 2/54.
4- القصص: 48/28.
5- .الأنعام: 124/6.

قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (1) ،و قوله: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) إلى غير ذلك.

[3] - و منها: أنّ العاقل المنصف، البصير ببيانات الأنبياء و المرسلين، و كلمات الأولياء المقرّبين، و الحجج المعصومين، إذا تأمّل في الكتاب العزيز و مطالبه، و تدبّر في مضامينه و جوانبه، علم أنّ هذه المطالب المهمّة الشافية، بهذه البيانات اللطيفة العالية الوافية، لا يمكن أن تصدر إلاّ من لسان النبوّة، و أنّ هذه الدرر الثمينة لا تخرج إلاّ من معدن الرسالة، و هذه الأنوار الباهرة لا تشرق إلاّ من عالم الربوبيّة، حيث إنّه ليس فيه إلاّ بيان التوحيد بأنواعه، من الذاتيّ و الصفاتيّ و الأفعاليّ ، و بيان الصفات الجلاليّة السلبيّة، و الجمالية الثبوتيّة، و الحثّ على القيام بالعبودية، و الدعوة إلى المحسّنات العقليّة كالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و اليتامى و المساكين و الجار ذي القربى و ابن السبيل، و صلة الرّحم، و الوفاء بالعقود و العهود و غير ذلك، و الزجر من المنكر و الفحشاء و البغي، و بيان أحكام العبادات و المعاملات، و قوانين السياسات، و الترغيب إلى تهذيب الأخلاق، و الزهد في الدنيا، و التوجّه إلى الآخرة، و بيان العبر و المواعظ ، و ذكر حكم بعض الأحكام، و قصص الأنبياء السالفة، و عظمة شأنهم و تفصيل معاجزهم و كيفية دعوتهم و شرح معاملة أممهم معهم، و استئصال من خالفهم بالعذاب، و بيان المعاد، و إقامة الأدلّة عليه و كيفيّة الحشر و الصراط و الميزان و الحساب، و التّلطّف و العتاب، و بيان الجنّة و كيفية نعمها، و بيان النّار و تفصيل شدائدها.

و قال بعض: إنّ القرآن العظيم قد اشتمل على كلّ شيء، أمّا أنواع العلوم فليس منها باب و لا مسألة هي أصل إلاّ و في القرآن ما يدلّ عليها، و لا يعلمها إلاّ الراسخون، و فيه الأمر و النهي، و الوعد و الوعيد، و وصف الجنّة و النّار، و تعليم الإقرار باللّه و بصفاته و أفعاله، و تعليم الاعتراف بإنعامه، و الشكر عليها، و الاحتجاج على المخالفين، و الرّدّ على الملحدين، و بيان الرّغبة و الرّهبة، و الخير و الشّر، و الحسن و القبيح، و نعت الحكمة، و فضل المعرفة، و مدح الأبرار و ذمّ الفجّار، و التسليم و التحسين، و التوكيد و التقريع، و بيان الأخلاق الذميمة، و شرف الآداب.

و فيه عجائب المخلوقات، و ملكوت السماوات و الأرض، و ما في الأفق الأعلى و تحت الثرى، و بدء الخلق، و أسماء مشاهير الأنبياء و الرسل و الملائكة، و عيون أخبار الأمم السالفة، و قصّة آدم مع

ص: 33


1- الأنعام: 37/6.
2- العنكبوت: 50/29.

إبليس في إخراجه من الجنّة، و رفع إدريس إلى السماء، و إغراق قوم نوح، و قصّة عاد الاولى و الثانية، و ثمود و الناقة، و قوم يونس، و قوم شعيب، و قوم لوط ، و قوم تبّع، و أصحاب الرّسّ ، و قصّة إبراهيم في مجادلة قومه و مناظرته نمرود، و قصّة ابنه إسماعيل مع أمّه بمكّة، و بنائه البيت، و قصّة الذبح، و قصّة يوسف بطولها، و قصّة موسى في ولادته و إلقائه في اليمّ ، و قتل القبطي، و مسيره إلى مدين و تزوّجه بنت شعيب، و كلامه تبارك و تعالى معه بجانب الطور، و مجيئه إلى فرعون، و خروجه مع بني إسرائيل من مصر، و إغراق عدوّه فرعون و جنوده، و قصّة العجل، و القوم الذين خرج بهم إلى الطور و أخذتهم(1) الصاعقة، و قصّة القتيل من بني إسرائيل، و ذبح البقرة، و قصّته مع الخضر (2) ،و قصّته في قتال الجبّارين، و قصّة القوم الذين ساروا في سرب(3) من الأرض إلى الصّين، و قصّة طالوت و داود مع جالوت، و قصّة سليمان و فتنته و خبره مع ملكة سبأ، و إتيان عرشها(4).

و قصّة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم اللّه ثمّ أحياهم، و قصّة ذي القرنين و مسيره إلى مغرب الشمس و مطلعها، و بنائه السّدّ، و قصّة أيّوب، و ذي الكفل، و إلياس، و قصّة أصحاب الرّقيم، و قصّة بخت نصّر (5) ،و قصّة الرّجلين اللذين لأحدهما الجنّة، و قصّة أصحاب الجنّة، و قصّة مؤمن آل ياسين، و قصّة أصحاب الفيل.

و فيه من شأن النبي صلّى اللّه عليه و آله دعوة إبراهيم به، و بشارة عيسى بمجيئه، و بعثته، و هجرته، و من غزواته سريّة ابن الحضرميّ في سورة البقرة، و غزوة بدر في سورة الأنفال، و غزوة أحد في سورة آل عمران، و قصّة بدر الصغرى فيها، و غزوة الخندق في سورة الأحزاب، و قصّة الحديبية في سورة الفتح، و قصّة بني النّضير في سورة الحشر، و غزوة حنين و تبوك في سورة البراءة، و حجّة الوداع في سورة المائدة، و نكاحه زينب بنت جحش في سورة الأحزاب، و تحريم سرّيّته و تظاهر أزواجه عليه، و قصّة الإفك، و قصّة الإسراء، و انشقاق القمر، و سحر اليهود إيّاه.

و فيه بدء خلق الإنسان إلى موته، و كيفية الموت و قبض الروح و ما يفعل بها بعده، و صعودها إلى السّماء، و فتح باب السماء للروح المؤمنة، و إلقاء الكافرة في النّار، و عذاب القبر و السّؤال فيه، و مقرّ الأرواح، و أشراط الساعة الكبرى؛ و هي نزول عيسى، و خروج الدّجّال، و يأجوج و مأجوج، و دابّة

ص: 34


1- في النسخة: و أخذهم.
2- في النسخة: خضر.
3- السّرب: الحفير تحت الأرض.
4- في النسخة: عرشه.
5- في النسخة: بخت النصر.

الأرض، و الدّخان، و رفع القرآن، و الخسف، و طلوع الشمس من مغربها، و غلق باب التوبة، و أحوال البعث من النّفخات الثلاث: نفخة الفزع، و نفخة الصّعق، و نفخة القيام، و الحشر و النشر و أهوال الموقف، و شدّة حرّ الشّمس، و ظلّ العرش، و الميزان، و الحوض، و الصراط ، و الحساب لقوم و نجاة آخرين منه، و شهادة الأعضاء، و إيتاء الكتب بالأيمان و الشمائل و خلف الظهر، و الشفاعة و المقام المحمود، و الجنّة و أبوابها، و ما فيها من الأنهار و الأشجار و الأثمار و الحليّ و الأواني و القصور و الحور و الدّرجات و مقام الرضوان، و التجلّيات الإلهيّة، و النار و أبوابها و ما فيها من الأودية و السلاسل و الأغلال و أنواع العقارب و ألوان العذاب و الزقّوم و الضريع و الحميم.

و فيه جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث (1) ،و جملة أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه شعب الإيمان، و مقامات المتّقين، و شرائع الاسلام، و أنواع الكبائر، و كثير من الصغائر، و غير ذلك من العلوم.

و قد أفرد جمع من العلماء كتبا فيما تضمّنه القرآن. و الظاهر أنّ جميع ما تضمّنه ظاهر الكتاب تحت ثلاثة عناوين:

التوحيد: و يدخل فيه معرفة اللّه بصفاته و أفعاله، و معرفة أنبيائه و مخلوقاته.

و التذكير: و فيه قصص الأمم الماضية، و المعاد، و الوعد، و الوعيد، و الجنّة، و النار.

و الأحكام: من العمليّات و الأخلاقيّات.

قيل: و لذلك ورد أنّ الفاتحة أمّ القرآن لأنّ فيها الأقسام الثلاثة، و سورة الإخلاص ثلثه لأنّ فيها التّوحيد كلّه، فهل يأتي بمثل هذا الكتاب غير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ؟ و هل يكون الغرض من بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلاّ تكميل النفوس بمعرفة المبدأ و المعاد و الحكمة النظريّة و الحكمة العمليّة من العبادات و المعاملات و السياسات و الأخلاق و تربية النفوس بالقيام بها؟ و هل يقاس القرآن بسائر الكتب السماويّة التي ليس فيها عشر ما في القرآن من العلوم و الحكم ؟ فإن كان سائر الكتب السماويّة من عند اللّه و منتسبا إلى اللّه، فهذا الكتاب الكريم أحقّ و أولى بالانتساب منها، فإنّ جميع ما ذكرنا فهو ظاهره، و أما باطنه فبحر لا ينزف وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ (2).

ص: 35


1- راجع التوحيد للصدوق: 8/194.
2- لقمان: 27/31.

نقل أنّه قيل لموسى بن عمران: يا موسى، إنّما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن، كلّما مخضته أخرجت زبدته.

الطرفة الرابعة في بيان سرّ نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر

قد اتّفقت الأمّة من الخاصّة و العامّة، و تظافرت بل تواترت نصوصهم على أنّ الكتاب العزيز نزل أوّلا في ليلة القدر مجموعا من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور الذي يكون في السماء الرابعة، أو إلى بيت العزّة في سماء الدنيا إلى السّفرة الكرام البررة، ثمّ نزل به جبرئيل نجوما على خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله في مدّة عشرين، أو ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين سنة على حسب اختلاف العلماء في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و آله بمكّة بعد بعثته و قبل هجرته.

و قيل في سرّ إنزاله جملة أوّلا إلى سماء الدنيا أو إلى البيت المعمور: إنّه تفخيم أمر القرآن و أمر النبيّ الذي أنزل إليه، و ذلك لأنّ فيه إعلام سكّان السماوات السبع بأنّ هذا الكتاب آخر الكتب، منزل على آخر الرسل و خاتمهم لأشرف الأمم، قد قرّبناه إليهم لننزله عليهم، و لو لا أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لنزّلناه إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، و لكنّ اللّه باين بينه و بينها، فجعل لهذا النبيّ الكريم الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرّقا، تشريفا للمنزل عليه.

و قيل: إنّ السّرّ هو تسليمه تبارك و تعالى لهذه الأمّة ما كان أبرز لهم من الحظّ من الرّحمة التي استحقّوها لأجل مبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ بعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كانت رحمة، فلمّا خرجت الرحمة و فتح بابها جاءت بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بالقرآن معا، فوضع القرآن ببيت العزّة في السّماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا، و وضعت النبوّة في قلب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و جاء جبرئيل عليه السّلام بالرسالة ثمّ بالوحي، كأنّه تعالى أراد أن يسلّم إلى الامّة الرحمة التي كانت حظّها من اللّه.

و قيل: إنّ السّرّ في نزوله جملة إلى سماء الدنيا، تكريم بني آدم و تعظيم شأنهم عند الملائكة، و تعريفهم عناية اللّه بهم و رحمته لهم، و لهذا المعنى أمر اللّه سبعين ألف ملك أن يشيّعوا سورة

ص: 36

الأنعام، و زاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبرئيل بإملائه على السفرة الكرام و إنساخهم إيّاه و تلاوتهم له.

و فيه أيضا التسوية بين نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين موسى بن عمران و عيسى بن مريم عليهما السّلام في إنزاله كتابه جملة كما أنزل كتابيهما جملتين، و التفضيل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله في إنزاله عليه منجّما لحكم كثيرة لا يعلمها إلاّ اللّه.

أقول: يمكن أن يكون السّرّ تكميل عالم الملكوت و وجود الرّوحانيّين بإيجاد الكتاب الكريم فيهم، و تقريره أن يقال: المراد من إنزاله إلى سماء الدنيا أو إلى البيت المعمور هو إبداعه تعالى و إيجاده كتابه الكريم بوجوده الجوهري و صورته النوريّة في ملكوت السّماء و عالم الأنوار، بعد وجوده في مكنون علمه المعبّر عنه بالعرش تارة و باللّوح المحفوظ أخرى.

و لمّا كان وجود خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله رحمة للعالمين، حصل ببركته استعداد الكمال لجميع العوالم الملكيّة و الملكوتيّة، و كما كان للكتاب العظيم تأثير عظيم بوجوده اللّفظي و الكتبي في تكميل النفوس المستعدّة في عالم الملك، كان لوجوده الجوهريّ النّوريّ في عالم الملكوت تأثير في تكميل وجود الذوات المستعدّة الملكوتية و الملكيّة، و بحصول مرتبة من الكمال الوجودي لعالم الوجود صار مستحقّا لتزيينه بوجود خاتم النبيّين، و تكميله ببعثته، فشملته هذه الرّحمة العظيمة، و بعثه اللّه فيه.

ثمّ بعد هذا الفيض حصل له استعداد قبول فيض آخر، و استحقاق رحمة أتمّ من إنزال كتابه الكريم الذي هو تجلّي صفاته التامّة في العوالم، و كان إيجاد الكتاب الكريم في عالم الملكوت تكميل الرحمة على جميع الموجودات الملكيّة و الملكوتيّة ببركة وجود نبيّ الرحمة صلّى اللّه عليه و آله و إرساله رحمة للعالمين.

و لعلّ هذا الوجه الذي ذكرناه، أوجه في الواقع، و أقرب إلى الأذهان من الوجه الذي ذكره الفيض رحمه اللّه في مقدّمات (الصافي) فإنّه بعد نقل الرّوايات الدالّة على نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر؛ قال: كأنّه أريد به نزول معناه على قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله كما قال اللّه تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ (1) ثمّ نزل في طول عشرين سنة نجوما من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه

ص: 37


1- الشعراء: 193/26 و 194.

كلّما أتاه جبرئيل بالوحي و قرأه عليه بألفاظه.

إلى أن قال رحمه اللّه: و بهذا التحقيق حصل التوفيق بين نزوله تدريجا و دفعة، و استرحنا من تكلّفات المفسّرين (1) ،انتهى.

مع أنّه ليس فيما ذكرناه حمل الروايات على خلاف ظاهرها، إذ من الواضح أنّه ليس المراد من القرآن الذي نزل في البيت المعمور الأصوات المعتمدة على المخارج، المعبّر عنها بالحروف و الكلمات، و لا النقوش المنطبعة في الأوراق و الصّفحات، بل وجوده الجوهريّ ، فإنّ له صورة في عالم الملكوت مغايرة لصورته في هذا العالم، و استعمال لفظ الإنزال في معنى الإيجاد غير عزيز كما قال تعالى: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (2) أي أوجد لكم.

نعم في خبر المفضّل إشعار بتوجيهه رحمه اللّه حيث قال: قال الصادق عليه السّلام: «يا مفضّل، إنّ القرآن نزل في ثلاث و عشرين سنة، و اللّه تعالى يقول: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (3) ،و قال: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (4) ،و قال:

لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ (5) .

قال المفضّل: يا مولاي، فهذا تنزيله الذي ذكره اللّه في كتابه، فكيف ظهر الوحي في ثلاث و عشرين سنة ؟

قال: «نعم يا مفضّل، أعطاه اللّه القرآن في شهر رمضان، و كان لا يبلّغه إلاّ في وقت استحقاق الخطاب، و لا يؤدّيه إلاّ في وقت أمر و نهي، فهبط جبرئيل عليه السّلام بالوحي فبلّغ ما يؤمر به [و هو قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ». (6)

فقال المفضّل: أشهد أنّكم من علم اللّه علمتم، و بقدرته قدرتم، و بحكمه نطقتم، و بأمره تعملون(7).

و يمكن حمله على ما ذكرنا من الوجه، أو إبقاؤه على ظاهره إن كان له ظهور فيما ذكره رحمه اللّه من التوجيه و القول بنزوله في البيت المعمور و في قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا منافاة بينهما.

في بيان أسرار نزول القرآن العظيم نجوما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و أمّا سرّ نزوله نجوما، فكثير منه:

[1] - أنّه صلّى اللّه عليه و آله بنزوله نجوما كان يتحدّى بكلّ نجم من آية أو سورة تنزل عليه، و من

ص: 38


1- تفسير الصافي 57:1.
2- الزمر: 6/39.
3- البقرة: 185/2.
4- الدخان: 3/44-5.
5- الفرقان: 32/25.
6- القيامة: 16/75.
7- بحار الأنوار 38:92.

الواضح أنّ عجز الفصحاء عن الاتيان بمثل كلّ واحد من النجوم أظهر في الإعجاز من عجزهم عن إتيان مثل المجموع إذا كان نزوله جملة واحدة إذا كان تحدّى به.

[2] - و منه: أنّ في إنزاله نجوما كان لطفا على المؤمنين، حيث إنّه كان بنزول نجم يزداد فرحهم و يقينهم، كما قال اللّه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (1).

[3] - و أيضا: كان بنزول الآيات في مواقع الجهاد يزداد نشاطهم و رغبتهم و جدّهم فيه، و إذا نزلت بهم بليّة ثم نزلت في شأنهم آية، كان يهون عليهم تلك البليّة، و إذا وقعوا في تعب و عناء، كان نزول الآيات يزيل تعبهم و عناءهم بتكميل بصيرتهم و يقينهم.

[4] - و منه: أنّ مناسبة الوقائع، و خصوصيّات المقامات، و انضمام القرائن الحاليّة، كانت موجبة لزيادة البلاغة.

[5] - و منه: أنّ نزول بعض الآيات ردّا على الكفّار في مواقع معارضتهم، أو إلقاء شبهاتهم، أو تهديدا لهم عند صدور استهزاءاتهم و الطعون منهم على الاسلام و المسلمين، أو زجرا لهم عند إرادتهم الفساد في الدّين، كان أشدّ تأثيرا في تبكيتهم و تقريعهم و ردعهم و زجرهم و هدايتهم و تبعهم إلى الايمان و الانقياد للحقّ .

[6] - و منه: أنّ نزوله مفرّقا أدعى لقبوله و تحمّل إطاعة أحكامه، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنّه كان يثقل قبوله على كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض و المناهي.

روي عن عائشة أنّها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل(2) فيها ذكر الجنّة و النار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام، و لو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، و لو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزّنا أبدا(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ليس أحد أرفق من اللّه تعالى، فمن رفقه تبارك و تعالى أنّه نقلهم من خصلة إلى خصلة، و لو حمل عليهم جملة واحدة لهلكوا »(4).

و في رواية عنهم عليهم السّلام: «أنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يفرض فريضة أنزلها شيئا بعد شيء، حتّى يوطّن

ص: 39


1- التوبة: 124/9.
2- قيل: المفصل: مجموعة سور تبدأ من سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله إلى آخر القرآن، سميت بذلك لكثرة الفواصل بينها. تفسير الصافي 18:1، و راجع: الطرفة (13).
3- صحيح البخاري 14/318:6.
4- الكافي 3/395:6، التهذيب 443/102:9.

الناس أنفسهم عليها، و يسكنوا إلى أمر اللّه و نهيه [فيها]، و كان ذلك من [فعل اللّه عزّ و جلّ على وجه] التدبير فيهم أصوب و أقرب لهم إلى الأخذ بها، و أقلّ لنفارهم منها »(1).

أقول: و لعلّه إلى جميع الوجوه المذكورة أشار سبحانه و تعالى بقوله: وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (2).

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكن(3) عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر اللّه أن يبلّغهم من الوظائف، فثقلت عليهم و أبوا أن يقرّوا بها حتّى نتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّة، و دنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم، فأقرّوا بها(4).

أقول: لعلّه من الآصار التي كانت على بني إسرائيل أنّه نزلت التوراة على موسى دفعة، و حمل عليهم جميع التكاليف بدوا، فصار ثقيلا عليهم، فأبوا عن قبولها.

الطرفة الخامسة في أنّ جمع القرآن كان في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و بأمره

الحقّ الذي لا ينبغي أن يعرض عنه، هو أنّ جمع القرآن كان في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بأمره لشهادة الآثار، و حكم العقل، و مساعدة الاعتبار.

[أولا]: أمّا الآثار فقد روي عن ابن عبّاس، قال: قلت لعثمان: ما حملكم [على] أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني، و إلى براءة و هي من المئين، فقرنتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتموهما في السبع الطوال(5) ؟

فقال عثمان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تنزل عليه [السور] ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا، و كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، و كانت براءة من آخر القرآن نزولا، و كانت قصّتها شبيهة بقصّتها، فظننت أنّها منها، فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبيّن لنا أنّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما و لم أكتب بينهما سطر

ص: 40


1- الكافي 2/407:6.
2- الاسراء: 106/17.
3- في الاتقان: سكت.
4- الإتقان في علوم القرآن 154:1.
5- قيل: السبع الطوال هي السبع الأول بعد الفاتحة، و المئين من سورة الإسراء إلى سبع سور، سميت بذلك لأنّ كلّ منها على نحو مائة آية، و المثاني بقية السور. تفسير الصافي 18:1، و راجع: الطرفة (13).

بسم الله الرحمن الرحيم ،و وضعتهما في السبع الطوال، انتهى(1).

فدلّت هذه الرواية على أنّ كتّاب الوحي كانوا يكتبون السور و الآيات في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله مجموعة مرتّبة بأمره.

و عن أبي عبّد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ ، القرآن خلف فراشي في الصحف و الحرير و القراطيس، فخذوه و اجمعوه، و لا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التّوراة. فانطلق علي عليه السّلام فجمعه في ثوب أصفر و ختم عليه في بيته، و قال: لا أرتدي حتى أجمعه قال: كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء، حتّى جمعه »(2).

قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما انزل، ما اختلف اثنان »(3).فإنّ الظاهر منه عدم تأخير أمير المؤمنين عليه السّلام في امتثال أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنّه جمعه في حياته.

و عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص (4) ،قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد اللّه بن مسعود، و سالم، و معاذ، و أبيّ بن كعب »(5).

و عن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ قال: أربعة، كلّهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد. قلت: من أبو زيد؟ قال:

أحد عمومتي(6).

و عن ابن حجر: قد ذكر ابن أبي داود في من جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة(7).

و روي عن غيره أنّ أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السّكن، إلى أن قال: و مات و لم يدع عقبا، و نحن ورثناه(8).

و عن ابن أبي داود: أنّه مات قريبا من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فذهب علمه و لم يؤخذ عنه(9).

و قال أبو أحمد العسكريّ : لم يجمع القرآن من الأوس غير سعد بن عبيد(10).

ص: 41


1- مستدرك الحاكم 221:2.
2- تفسير القمي 451:2.
3- تفسير القمي: 451:2.
4- في النسخة: عبيد اللّه بن عمر بن العاص، تصحيف، انظر تهذيب الكمال 357:15.
5- الإتقان في علوم القرآن 244:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 244:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 249:1.
8- الإتقان في علوم القرآن 249:1.
9- الإتقان في علوم القرآن 250:1.
10- في النسخة: سعيد بن عبيد، تصحيف، انظر الطبقات الكبرى 355:2.

و قال محمّد بن حبيب: سعد بن عبيد أحد من جمع القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(1).

و عن قتادة، عن أنس قال: افتخر الحيّان: الأوس و الخزرج، فقال الأوس: منّا أربعة: من اهتزّ العرش له: سعد بن معاذ، و من عدلت شهادته شهادة رجلين: خزيمة بن ثابت، و من غسّلته الملائكة: حنظلة بن أبي عامر، و من حمته الدّبر (2):عاصم بن ثابت. فقال الخزرج: منّا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم(3).

و روي البخاري عن أنس، قال: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد(4).

قال بعض الفحول: قد استنكر جماعة الحصر في الأربعة(5).

و قال المازني: لا يلزم من قول أنس: لم يجمعه غيرهم، أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك، إلى أن قال: و قد تمسّك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، و لا متمسّك لهم فيه، فإنّا لا نسلّم حمله على ظاهره(6).

و عن القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء، و قتل في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببئر معونة مثل هذا العدد. قال: و إنّما خصّ أنس الأربعة بالذكر لشدّة تعلّقه بهم(7).

أقول: الظاهر أنّ القرّاء مع حفظهم لجميع القرآن كان عندهم مكتوبا جميعه، فإذا طعنت الملاحدة على القرآن، و أنكروا تواتره، تمسّكا برواية أنس، فكيف لم يطعنوا و لا يطعنون على من اعتقد أنّ القرآن لم يكن مجموعا في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل كانت آياته و سوره متفرّقة عند النّاس ثمّ تصدّى لجمعه بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبو بكر و عمر، مع عدم علمهما بجميع القرآن حتّى جمعوه - على ما قيل - بشهادة شاهدين ؟

و عن النسائي، عن عبد اللّه بن عمر، قال: جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة، فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال:

ص: 42


1- المحبر: 286، الإتقان في علوم القرآن 249:1.
2- الدّبر: النّحل، و عاصم بن ثابت. يسمّى حمي الدّبر، و ذلك لأنّه لما أصيب يوم الرجيع أراد المشركون أن يأخذوا رأسه، فبعث اللّه سبحانه عليه مثل الظّلة من الدّبر فحمته منهم، و كان قد عاهد اللّه تعالى ان لا يمس مشركا و لا يمسه مشرك. أسد الغابة 73:3.
3- الإتقان في علوم القرآن 247:1.
4- صحيح البخاري 25/321:6.
5- الإتقان في علوم القرآن 245:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 245:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 245:1.

«اقرأه في شهر »(1).

و عن محمّد بن كعب القرطبي (2) ،قال: جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسة من الأنصار:

معاذ بن جبل، و عبادة بن الصامت، و أبيّ بن كعب، و أبو الدرداء، و أبو أيوب الأنصاري(3).

و عن ابن سيرين، قال: جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، و أبيّ بن كعب، و أبو زيد، و اختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء و عثمان، و قيل: عثمان و تميم الداري(4).

و عن الشّعبي، قال: جمع القرآن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ستّة: ابيّ ، و زيد، و معاذ، و أبو الدرداء و سعد بن عبيد، و أبو زيد، و مجمّع بن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثة(5).

و عن أبي عبيد في كتاب (القراءات) أنّه ذكر القرّاء من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فعدّ من المهاجرين:

الخلفاء الأربعة، و طلحة، و سعد، و ابن مسعود، و حذيفة، و سالما. و عدّ ابن أبي داود من القرّاء: تميم الدّاري، و عقبة بن عامر (6).قال: و ممّن جمعه أيضا أبو موسى الأشعري(7).

و روى في (الطبقات): أنّ امرأة من الصحابيّات جمعت القرآن. و روى عن امّ ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يزورها و يسمّيها الشهيدة رحمها اللّه، و كانت قد جمعت القرآن(8).

أقول: العجب كلّ العجب أنّ أحدا من هؤلاء لم يعدّوا في من جمع القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام، بل روى ابن حجر و غيره من علماء العامّة أنّ عليّا عليه السّلام جمع القرآن على ترتيب النزول بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(9).

إن قيل: إنّ المراد من جمع القرآن في الروايات السابقة هو حفظ جميعه لا تدوينه في القراطيس.

قلنا: هذا الاحتمال في غاية البعد، إذ لا يمكن عادة أن ينحصر في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله حفّاظ جميع القرآن في أربعة أو خمسة من الصّحابة مع وضوح اشتياق المؤمنين إلى تلاوة القرآن، و كمال قوّة

ص: 43


1- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
2- في النسخة: القرطبي.
3- الطبقات الكبرى 356:2.
4- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
5- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 248:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 249:1.
8- الطبقات الكبرى 457:8، الإتقان في علوم القرآن 250:1.
9- الطبقات الكبرى 338:2، الصواعق المحرقة: 128.

حفظهم، و كون تلاوة القرآن و تعلّمه من أهمّ مشاغلهم، و أفضل عباداتهم، بل الظاهر أنّ المراد من جمع القرآن هو تدوينه مع ما أفاده النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من تفسير آياته، و بيان معضلاته، و كيفيّة قراءته و سائر العلوم الراجعة إليه.

و على هذا النحو من الجمع يحمل ما روته العامّة من أنّه لمّا بويع أبو بكر، و تخلّف عليّ عليه السّلام عن بيعته، و جلس في بيته، بعث إليه أبو بكر، و قال: ما أبطأك عنّي، أكرهت إمارتي ؟ قال عليّ عليه السّلام: ما كرهت إمارتك، و لكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلاّ للصّلاة حتّى أجمع القرآن(1).

و كذا ما روي في (الاحتجاج) عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه أنّه لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع عليّ عليه السّلام القرآن، و جاء به إلى المهاجرين و الأنصار و عرضه عليهم، لما قد أوصاه بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا فتحه أبو بكر خرج في أوّل صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر و قال: أردده يا عليّ ، فلا حاجة لنا فيه.

فأخذه عليّ عليه السّلام و انصرف(2).

فإنّ خروج فضائح القوم فيما جمعه عليّ عليه السّلام لذكره شأن نزول الآيات، فإنّ كثيرا منها نزلت بسبب عصيان أصحابه، كما روت العامّة أنّه بعد ما أجبر عمر زوجته على المواقعة في ليلة الصّيام حراما، نزل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (3) ،و أنّه بعد ما أبى أبو بكر و عبد الرحمن بن عوف و جمع من الصحابة عن قبول آية محاسبة ما في النفس، نزل قوله تعالى:

لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (4) و أنّه بعد ما شرب جمع من الصحابة الخمر و تكلّم بعضهم في حال السكر بالكفر نزلت آية تحريم الخمر (5) ،أنّه بعد ما قتل اسامة مسلما ألقى إليه السّلام بطمع الغنيمة نزلت آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا (6) إلى غير ذلك ممّا ذكر في مواقعها.

و الحاصل: أنّ الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين عليه السّلام كان فيه بيان شأن نزول الآيات، و أسماء الّذين نزلت فيهم و أوقات نزولها، و تأويل متشابهاتها، و تعيين ناسخها و منسوخها، و ذكر عامّها و خاصّها، و بيان العلوم المرتبطة بها، و كيفية قراءتها.

ص: 44


1- الطبقات الكبرى 338:2، الصواعق المحرقة: 128.
2- الاحتجاج: 155.
3- الدر المنثور 477:1، و الآية من سورة البقرة: 187/2.
4- تفسير الرازي 125:7، و الآية من سورة البقرة: 286/2.
5- أسباب النزول: 87.
6- الدر المنثور 634:2، و الآية من سورة النساء: 94/4.

و يؤيّد ذلك أنّه نقل عن ابن سيرين أنّه قال: بلغني أنّه كتبه على تنزيله، و لو اجيب إلى ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير(1).

و نقل عنه أيضا أنّه قال: كتب عليّ عليه السّلام في مصحفه الناسخ و المنسوخ(2).

بل يشهد لذلك ما رواه الطبرسيّ في (الاحتجاج) في جملة احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام على جماعة من المهاجرين و الأنصار أنّ طلحة قال له في جملة مسائله عنه: يا أبا الحسن، أريد أن أسألك عن مسألة، رأيتك خرجت بثوب مختوم، فقلت: «أيّها الناس، إنّي لم أزل مشتغلا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغسله و كفنه و دفنه، ثمّ اشتغلت بكتاب اللّه حتّى جمعته، فهذا كتاب اللّه عندي مجموعا، لم يسقط عنّي حرف واحد».

إلى أن قال: فما يمنعك أن تخرج كتاب اللّه على الناس، و قد عهد عثمان حين أخذ ما ألّف عمر فجمع له الكتاب، و حمل النّاس على قراءة واحدة، فمزّق مصحف أبيّ بن كعب و ابن مسعود و أحرقهما بالنّار؟

فقال له علي عليه السّلام: «يا طلحة، إنّ كلّ آية أنزلها اللّه عزّ و جلّ على محمد صلّى اللّه عليه و آله [عندي] بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّ يدي [و تأويل كل آية أنزلها اللّه على محمّد، و كلّ حرام و حلال أو حدّ أو حكم أو شيء إليه تحتاج الامّة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّ يدي] حتّى أرش الخدش »(3).

قال طلحة: كلّ شيء من صغير و كبير، أو خاصّ أو عامّ ، كان أو يكون إلى يوم القيامة، فهو عندك مكتوب ؟!

قال: «نعم، و سوى ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسرّ إليّ في مرضه مفتاح ألف باب [من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب] و لو أنّ الامّة منذ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اتّبعوني و أطاعوني، لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم».

إلى أن قال: ثمّ قال طلحة: لا أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عمّا سألتك عنه من أمر القرآن، أ لا تظهره للنّاس ؟ قال: «يا طلحة، عمدا كففت عن جوابك».

ص: 45


1- الاستيعاب - المطبوع بهامش الاصابة 253:2.
2- الإتقان في علوم القرآن 204:1.
3- الأرش: دية الجراحات.

قال: فأخبرني عمّا كتب عمر و عثمان، أ قرآن كلّه، أم فيه ما ليس بقرآن ؟ قال: «يا طلحة، بل قرآن كلّه». قال: «إن أخذتم بما فيه نجوتم من النّار و دخلتم الجنّة، فإنّ فيه حجّتنا و بيان حقّنا و فرض طاعتنا». قال طلحة: حسبي إذا كان قرآنا فحسبي.

قال طلحة: فأخبرني عمّا في يديك من القرآن، و تأويله، و علم الحلال و الحرام، إلى من تدفعه، و من صاحبه بعدك ؟ قال عليه السّلام: «إنّ الذي أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أدفعه إليه وصيّي و أولى الناس بعدي بالنّاس ابني الحسن، ثمّ يدفعه ابني الحسن إلى ابني الحسين، ثم يصير إلى واحد بعد واحد [من ولد الحسين] حتى يرد آخرهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حوضه [هم مع القرآن] لا يفارقونه و القرآن معهم لا يفارقهم »(1).

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّه جمع القرآن كلّه، ظاهره و باطنه غير الأوصياء عليهم السّلام »(2).

و عنه أيضا، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «ما من أحد من النّاس يقول [إنّه] جمع القرآن كلّه كما أنزل اللّه إلاّ كذّاب، و ما جمعه و ما حفظه كما أنزل اللّه إلاّ عليّ بن أبي طالب و الأئمّة من بعده عليهم السّلام »(3).

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا من كون القرآن مجموعا على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بل يدلّ عليه، أنّ اسم الكتاب لا يصحّ إطلاقه عرفا إلاّ على المطالب المجتمعة المرتّبة المدوّنة في أوراق منضودة لغرض واحد، فإذا كانت مطالب متفرّقة غير مدوّنة أو مدوّنة في أوراق متشتّتة، لا يسمّى كتابا، و لا شبهة أنّ اللّه تعالى بعد هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سمّى جميع ما أنزله على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتابا بقوله في سورة البقرة التي هي أوّل ما نزلت في المدينة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (4).

و كذا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أطلق على ما انزل عليه لفظ الكتاب على ما في كثير من الروايات المعتبرة، بل المتواترة، منها الرواية المتّفق عليها بين الخاصّة و العامّة من قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي مخلّف فيكم الثّقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي» الخبر (5).فإنّه نصّ في أنّه كان في ذلك الوقت

ص: 46


1- الاحتجاج: 153.
2- بصائر الدرجات: 1/213.
3- بصائر الدرجات: 2/23.
4- البقرة: 2/2.
5- معاني الأخبار: 1/90-5، صحيح مسلم 1873:4 و 1874، سنن الترمذي 3786/662:5 و: 3788/663، مسند أحمد 14:3، 17 و 367:4، 371 و 182:5، 189، سنن الدارمي 432:2، مصابيح السنة 4800/185:4 و: 4816/190.

آيات و سور مدوّنه مستحقّة لإطلاق اسم الكتاب عليها، و لا يمكن القول بأنّ هذا الإطلاق كان من باب المشارقة حيث(1) إنّه كان يعلم أنّ بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله يجمع ما انزل عليه و يكون كتابا، [لأنّا] نعلم أنّ التسمية كانت بعد تدوين مقدار من السّور و الآيات المنزلة و تحقّق مصداق الكتاب، و لذا لم يذكر في السور القصار المكيّة التي كانت من أوائل ما نزل لفظ الكتاب.

و الحاصل: أنّ لفظ الكتاب بعد ثبوت كونه حقيقة عرفيّة في مطالب مرتّبة مجموعة مدوّنة ظاهر في أنّ كلّ آية تضمّنته كقوله: ذلِكَ الْكِتابُ أو تَنْزِيلُ الْكِتابِ أو إِنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

أو تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ (2) نزلت بعد تحقّق مصداقه و تدوين سور و آيات مرتّبة مجموعة في أوراق و صفحات أو أكتاف أو عسب مجتمعة، و لا يلزم الالتزام بنزول جميع الآيات و السور قبل هذا الإطلاق حتّى يعترض عليه بأنّه خلاف الإجماع و المتواتر من الأخبار من أنّ القرآن نزل متدرّجا إلى قبيل وفاته بأيّام أو ساعات.

نعم، يلزم القول بتغيير مصداق الكتاب صغرا و كبرا، بسبب انضمام ما ينزل فيما بعد التدوين إليه تدريجا، فيرجع الكلام إلى أنّ جميع القرآن في كلّ زمان، و كتاب اللّه في كلّ وقت، كان مقدارا من هذا المجموع الذي بأيدينا، و بضمّ الآيات شيئا فشيئا بلغ ما بلغ.

فما ذكره المرتضى رضوان اللّه عليه من أنّ القرآن كان عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن، و أن جماعة من الصّحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عدة ختمات (3) ،حقّ غير مخدوش، فإنّ المراد جمعه و ختمه بمقدار المنزل في وقت الختم و الجمع، فإنّ تمام القرآن كان في وقت الختم ذلك المقدار الذي ختموه، و ليس مراده ختم جميع ما انزل إليه إلى حين وفاته.

و ليت شعري، كيف قال عمر في مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد أمره بإحضار الدّواة و الكتف: إنّ الرجل ليهجر، حسبنا كتاب اللّه!(4) مع كون آيات الكتاب متفرّقة بين الأصحاب، و عدم علم أحد غير أمير المؤمنين عليه السّلام بجميعها، و عدم معرفة مثل زيد بن ثابت بها، حتّى نقل عنه أنه جمعها بشهادة الشهود

ص: 47


1- في نسخة: بملاحظة.
2- البقرة: 2/2، السجدة: 2/32، الزمر: 41/39، يونس: 1/10.
3- مجمع البيان 84:1.
4- راجع: صحيح مسلم 1637/1257:3، مسند أحمد 222:1، مسند أبي يعلى 2409/298:4، البداية و النهاية 5: 200، تاريخ الطبري 193:3، تاريخ ابن خلدون 485:2.

إلاّ آية من سورة الأحزاب، فإنّه لم يجدها إلاّ عند خزيمة بن ثابت، فأدخلها في القرآن بشهادته وحده، و لم يكن غيره مطّلعا عليها!

و كيف لم يعترض أحد على عمر بأنّك لا تدري أين آيات الكتاب و عند من تكون ؟ فعلم أنّ الكتاب كان جميعه معيّنا معلوما مشهورا بين الأصحاب.

[ثانيا]: و أمّا حكم العقل فبيانه: أنّه لا شبهة أنّ جمع الآيات كان من أهمّ الواجبات لأنّ فيه حفظ أصلها من الضياع، و حفظ ترتيبها و نظمها من الاختلال مع أنّ عليها مدار شرع الإسلام، و أساس الدّين و الأحكام، و لم يكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين شغل واجب أهمّ منه إلاّ الجهاد، و لم يكن مزاحما به في أغلب الأوقات مع كون أمير المؤمنين عليه السّلام و كثير من الصحابة الخلّصين غالب الحضور، و عنده صلّى اللّه عليه و آله، و كان جمع القرآن و ترتيبه في غاية السّهولة، فكيف يمكن القول بالتسامح و التساهل و التسويف من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام و الخلّصين من الصحابة في مدّة عشرين سنة، و تأخير أمير المؤمنين عليه السّلام هذا الواجب إلى بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى يقع كثير من الآيات معرضا للتغيير و الضياع ؟

و الحاصل: أنّ جمع الكتاب و ترتيب كلّ ما نزل منه في كلّ وقت و تدوينه و نشره، كان من أوجب الواجبات و أهمّ الامور، لوضوح أنّه كان من أعظم معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أتمّ الدلائل على صدق النبوّة و أساس الشريعة، و مأخذ الأحكام الإلهيّة، و لم يكن مزاحما بأهمّ منه في أغلب الأوقات، مع أنّا نعلم أنّه كان أغلب أوقات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين الصادقين مصروفا في العبادات، و أىّ عبادة كان أهمّ من جمع القرآن الذي كان بجمعه و حفظه حفظ الإسلام مع علمهم بكثرة المنافقين و المعاندين للدّين مع إقدامهم في مشاقّ الامور لحفظ الاسلام.

و كان جمع القرآن عليهم في غاية السّهولة، خصوصا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع ملازمة أمير المؤمنين عليه السّلام لخدمته في اللّيل و النّهار، فالمتأمّل المنصف يقطع بوقوع الجمع متدرجا بتدرّج النزول بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خطّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، يقطع بجمع كثير من المؤمنين له و تأليف نسخ كثيرة منه، و عرضها على النبي صلّى اللّه عليه و آله و عدم تساهل كثير منهم فيه، حيث لم يكن في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علم غير علم القرآن، و لم يكن للصحابة حظّ و عبادة أكثر من تلاوة القرآن.

[ثالثا]: و أمّا العادة و الاعتبار فبيانه: أنّه كان لعدّة من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله منصب كتابة الوحي، فلا بدّ

ص: 48

لهم بحسب العادة [من] تهيئة لوازم الكتابة من القلم و المداد و الأوراق، أو غير ذلك من الأشياء القابلة للكتابة، حتّى لا يكون لهم تعطيل في موقع الحاجة و القيام بالوظيفة و حفظ الترتيب و إيراد كلّ سورة أو آية في محلّها و موردها، حتّى لا يحصل لهم تحيّر و كلفة في الكتابة، و بعيد غايته أنّهم كانوا يكتبون الآيات في أوراق متفرّقة غير منتظمة، بحيث إذا أمرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يضعوا آية كذا في موضع كذا، كانوا يدوّرون(1) تلك الأوراق و يفتّشون الصحائف المتشتّتة حتّى يجدوا موقعها.

و الحاصل: أنّ التأمّل الصادق قاض بأنّ الكتّاب الذين كان منهم أمير المؤمنين عليه السّلام كانوا قد جمعوا جميع الآيات المنزلة على الترتيب الذي كان يأمرهم به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لم يكونوا غير معتنين بجمعه و ترتيبه، و لا يمكن القول بأنّهم كتبوا الآيات في أشياء متفرّقة من غير ترتيب و نظم إلى أن دعا اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى جواره، و تقمّص أبو بكر خلافته، و اتّفق قتل كثير من القرّاء باليمامة، و لم تكن في جميع المدّة نسخة مجموعة من الكتاب العزيز بين المسلمين، و كان أربعة أو خمسة من الصحابة حافظين لجميع القرآن، و تالين له عن ظهر القلب، و غيرهم لم يكونوا مطّلعين إلاّ بقليل من آياته، و كان عند كلّ منهم جزء قليل منه حتّى صمّم أبو بكر و عمر لخوف ذهاب القرآن، على جمعه و ترتيبه و كتابة نسخة منه، كما رواه بعض العامّة.

روى البخاري عن زيد بن ثابت، قال: أرسل [إليّ ] أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطّاب عنده، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ(2) يوم اليمامة بقرّاء القرآن، و إنّي أخشى أن يستحرّ بالقرّاء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، و إنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ قال عمر: هو و اللّه خير. فلم يزل [عمر] يراجعني حتّى شرح اللّه صدري لذلك، و رأيت الذي رأى عمر.

قال زيد: قال أبو بكر: إنّك [رجل] شابّ عاقل لا نتّهمك، و قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فتتبّع القرآن و اجمعه. قال زيد: فو اللّه لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قال: هو و اللّه خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر و عمر، فتتبّعت

ص: 49


1- كذا، و مراده يبحثون، و الكلمة عامية عراقية تؤدّي هذا المعنى.
2- استحرّ القتل: اشتدّ.

القرآن أجمعه من العسب و اللخاف(1) و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاريّ لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2) حتّى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه اللّه، ثمّ عند عمر حياته، ثمّ عند حفصة بنت عمر(3).

و عن اللّيث بن سعد، قال: أول من جمع القرآن أبو بكر، و كتبه زيد، و كان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلاّ بشهادة عدلين، و إنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. و إنّ عمر أتى بآية الرّجم (الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما بما قضيا من اللّذّة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم)(4) فلم يكتبها لأنّه كان وحده(5).

و عن ابن أبي داود، قال: قدم عمر و قال: من [كان] تلقّى شيئا من القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فليأت به. و كانوا يكتبون ذلك في الصحف و الألواح و العسب، و كان لا يقبل من أحد شيئا حتّى يشهد شهيدان(6).

و عن [ابن] أبي داود: أنّ عمر سأل عن آية من كتاب اللّه، فقيل: كانت مع فلان، قتل يوم اليمامة.

فقال: إنّا للّه، و أمر بجمع القرآن، فكان أوّل من جمعه(7).

أقول: لعمري، إنّ في هذه الأخبار تضعيف الثقل الأكبر و توهين نبوّة خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و تخريب أساس الدّين، و تلقين الملحدين الحجّة في إنكار تواتر الكتاب المبين، و ليس ببعيد من

ص: 50


1- العسب: جمع العسيب، و هي جريدة النخل المستقيمة، يكشط خوصها، و اللخاف: جمع اللّخفة: و هي حجر أبيض عريض رقيق.
2- التوبة: 128/9.
3- صحيح البخاري 8/314:6، الإتقان في علوم القرآن 203:1.
4- من الثابت أن القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر، و قد نقلته الجماعة عن الجماعة و ذلك مقطوع به عند جميع أهل الإسلام، و آية الرجم المزعومة منقولة بالآحاد، بدليل قوله في آخر الحديث (فلم يكتبها لانّه كان وحده) و القرآن لا يثبت إلاّ بالتواتر، و عليه فإن أمثال هذه الروايات لا يؤخذ بها في إثبات القرآن الكريم، فإن أمكن حملها على أحد وجوه الحمل و إلاّ فليضرب بها الجدار. و قد حمل ابن حزم في (المحلّى) آية الرجم على نسخ التلاوة، أي مما نسخ لفظه و بقي حكمه. هو حمل باطل، لأنها لو كانت منسوخة التلاوة لما جاء عمر ليكتبها في المصحف. و في برهان الزركشي 43:2 أن ابن ظفر أنكر في (الينبوع) عدّها مما نسخ تلاوة و قال: لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن. و حملها أبو جعفر النحاس على السنة حيث قال: ليس حكمها حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة، لكنها سنة ثابتة. راجع: سلامة القرآن من التحريف: 64.
5- الإتقان في علوم القرآن 206:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 205:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 204:1.

المستضعفين للثقل الأصغر و المنكرين لإمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و المعرضين عن أهل الذكر و الحجج المعصومين.

و ليت شعري، ما ألجأ عمر و أبا بكر إلى التوسّل بزيد بن ثابت الشابّ الحدث في جمع الكتاب الكريم مع عدم علمه بجميع الآيات، و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بين أظهرهم، و هو باتّفاق الأمّة أعلم الناس بكتاب اللّه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟!

و ما السبب في اعتمادهم بشهادة شاهدين في كون شيء من كتاب اللّه إلاّ في آيتين من آخر براءة فاكتفوا فيه بشهادة خزيمة و لم يراجعوا إلى عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه في شيء مع أنّه كان عنده جميع القرآن، و كان أصدق و أوثق من خزيمة و سائر الأمّة ؟

و كيف قال عمر بعد سؤاله عن آية من الكتاب و اطّلاعه على كونها عند قتيل اليمامة: إنّا للّه، مع علمه بأنّه لم يفت عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه شيء من الآيات، و أنّه لم يكن يكتم آيات الكتاب من البرّ و الفاجر؟

الطرفة السادسة في أنّ القرآن العظيم جمع ثلاث مرات أحدها كان بحضرة النبي صلّى اللّه عليه و آله

قال الحاكم في (المستدرك): جمع القرآن ثلاث مرّات: أحدها بحضرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استدل بحديث زيد بن ثابت، قال: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نؤلّف القرآن من الرقاع(1).

الثانية: بحضرة أبي بكر - و أستدلّ برواية البخاري عن زيد بن ثابت، من بلوغ خبر مقتل أهل اليمامة، و قول عمر: أنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن يوم اليمامة.. إلى آخره (2)- و قد مرّ ذكره في الطرفة السابقة.

و عن الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن): كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يأمر بكتابته، و لكنّه كان مفرّقا في الرّقاع و الأكتاف و العسب، فإنّما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، و كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها القرآن منتشر فجمعها جامع،

ص: 51


1- مستدرك الحاكم 229:2.
2- صحيح البخاري 199/135:6.

و ربطها بخيط حتّى لا يضيع منها شيء.

قال: فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع و صدور الرجال ؟

قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز و نظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبي صلّى اللّه عليه و آله عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونا، و إنّما [كان] الخوف من ذهاب شيء من صحفه.

و قد تقدّم في حديث [زيد] أنّه جمع القرآن من العسب و اللخاف. و في رواية: و الرقاع، و في اخرى: من قطع الأديم، و في اخرى: و الأكتاف، و في اخرى: و الأضلاع، و في اخرى: و الأقتاب(1).

قال الحاكم: و الجمع الثالث هو ترتيب السور في زمن عثمان(2).

روى البخاري عن أنس، أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، و كان يغازي أهل الشّام في فتح إرمينية و آذربيجان مع أهل العراق، فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك [هذه] الأمّة قبل أن يختلفوا [في الكتاب] اختلاف اليهود و النّصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد ابن ثابت، و عبد اللّه بن الزبير، و سعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، و قال عثمان للرهط القرشيّين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، و أرسل إلى كلّ افق بمصحف ممّا نسخوا، و أمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق.

قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاريّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ (3)..الآية، فألحقناها في سورتها في المصحف(4).

و قال جمع من العامّة: إنّ جمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتّى قرءوه بلغاتهم على اتّساع اللغات، فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتّبا لسوره، و اقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجّا بأنّه

ص: 52


1- الإتقان في علوم القرآن 206:1.
2- مستدرك الحاكم 229:2.
3- الأحزاب: 23/33.
4- صحيح البخاري 9/315:6.

نزل بلغتهم(1).

و قال الحارث المحاسبي: المشهور أنّ جامع القرآن عثمان، و ليس كذلك، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه و بين من شهده من المهاجرين و الأنصار لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق و الشّام في حروف القراءات(2).

أقول: الظاهر من بعض الروايات، و جمع من العلماء، أنّ الجمع الذي وقع في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان مشتملا على العلوم المرتبطة بالقرآن، من بيان شأن نزول الآيات، و من التفسيرات و التأويلات المأخوذ من النبي صلّى اللّه عليه و آله و وجوه القراءات، كما نقل عن ابن سيرين أنّه قال: بلغني أنّه كتبه عليّ عليه السّلام على تنزيله، و لو أجيب إلى ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير(3).

و قال: إنّه كتب في مصحفه الناسخ و المنسوخ(4).

و قال بعض العامّة: قد كان بعض الصحابة يدخلون في قراءتهم شيئا من التفسير إيضاحا، لأنّهم محقّقون فيما تلقّوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرآنا، فهم آمنون من أن يلبس بعض ذلك ببعض، و ربّما كان يكتبه بعضهم (5) ،كقراءة ابن عباس: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (6) ثمّ يزيد (7)(في مواسم الحجّ )(8).

أقول: و لعلّ قراءة بعض الآيات المنسوبة إلى عبد اللّه بن مسعود من هذا القبيل، كقراءته قوله تعالى:

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (9).

ثم إنّه لمّا كان في هذا الجمع فضائح القوم؛ أسقط أبو بكر شأن نزول الآيات و تفسيرها و تأويلها، و جمعه ثانيا مع إثبات وجوه القراءات، ثمّ في زمان عثمان لمّا كثر الاختلاف جمعه ثالثا على قراءة زيد بن ثابت، و حمل الناس على قراءته، و أسقط سائر القراءات و أحرق مصاحف الكمّلين من قرّاء الصحابة كعبد اللّه ابن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما.

و نقل عن ابن مسعود ما يقرب من هذا المضمون: لو كان لي مثل ما لهم لفعلت بصحفهم مثل ما

ص: 53


1- الإتقان في علوم القرآن 210:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 211:1.
3- الاستيعاب - المطبوع بهامش الاصابة 253:2.
4- الإتقان في علوم القرآن 204:1.
5- النشر في القراءات العشر 32:1.
6- البقرة: 198/2.
7- أي بعد الآية للتفسير و الايضاح.
8- صحيح البخاري 44/59:6.
9- البقرة: 213/2.

فعلوا بصحيفتي، و لقد قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعين سورة، و كان زيد بن ثابت في صلب أبيه الكافر - أو قال: - كان يلعب مع الصّبيان(1).

الطرفة السابعة في أنّ ترتيب سور القرآن و آياته كان بأمر اللّه و وحيه

لا ريب في أنّ لآيات الكتاب العزيزة و سوره ترتيبا مرضيّا عند اللّه، ثابتا في اللّوح المحفوظ ، منزّلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بواسطة جبرئيل عليه السّلام، لأنّ حسن الترتيب و النظم ممّا له مدخل تامّ في حسن الكتاب، و في القرآن المجيد الذي هو أحسن الكتب، و مطالبه أحسن الحديث، و العلوم المنطوية فيه أشرف العلوم و أعلاها، و بيانه في الفصاحة و البلاغة فوق طوق البشر، لا بدّ من أن يكون ترتيبه على أحسن الوجوه، و نظمه أحسن النظام، بل قال بعض العلماء: إنّ حسن نظم آيات القرآن و سوره من وجوه إعجازه، و من بدائع اسلوبه، و على هذا لا بدّ أن يكون نظمه و ترتيبه من قبل اللّه تعالى، و لا يكون من البشر، و يؤيد ذلك أنّ اللّه تعالى أضاف الكتاب الكريم إلى ذاته المقدّسة.

و من الواضح أنّ الكتاب اسم لمجموع المطالب المرتّبة المنظّمة، فإذا ألّف أحد الأحاديث النبوية و بوّبها و رتّبها في دفتر، أو جمع شخص خطب أمير المؤمنين عليه السّلام في ديوان، منضمّا و مرتّبا، لا ينسب ذلك الدفتر و الديوان إلى النبيّ ، و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما، بل يضاف إلى المؤلّف و الجامع، و على هذا يدلّ إطلاق كتاب اللّه في الآيات الكريمة، و الروايات المتواترة على هذه المجموعة المرتّبة المنظّمة، على أنّ علومها و عباداتها و نظمها و ترتيبها و تأليفها من اللّه تعالى، لا شريك له فيها من خلقه.

و يدلّ على ذلك ما روي عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت جالسا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ شخص ببصره ثمّ صوّبه، ثمّ قال: أتاني جبرئيل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى (2) إلى آخرها(3).

ص: 54


1- مستدرك الحاكم 228:2.
2- النحل: 90/16.
3- مسند أحمد 218:4، الإتقان في علوم القرآن 212:1.

و ما روي من أنّ جبرئيل عليه السّلام لمّا أتى بآية: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ (1) قال: ضعها بين آيتي الرّبا و الدّين (2).و في رواية: ضعها بعد مائتين و ثمانين آية من سورة البقرة(3).

و ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال »(4) ،و غير ذلك من الروايات.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه بعد ما ثبت أنّ جمع الكتاب الكريم كان في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و بأمره، لا بدّ من القول بكون ترتيب جميع آياته و سوره مطابقا للترتيب الذي أوحى اللّه به إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و موافقا لما نزل به جبرئيل عليه السّلام، فكلّما نزل من الآيات و السور كان يأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتّاب الوحي بكتابتها في موضعها الذي يأمر جبرئيل بوضعها في ذلك الموضع، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما كان مأمورا بتبليغ أصل الآيات و السور إلى الأمّة، كان مأمورا بتبليغ نظمها و ترتيبها إليهم، و لا يمكن منه التقصير في التبليغ و أداء وظيفة الرّسالة، فكلّ من كان حافظا للآيات و السور، كان عالما بترتيبها و نظمها، و كلّ من جمع القرآن في عصره صلّى اللّه عليه و آله كان جمعه على الترتيب المأمور به، مع أنّ كثيرا من الصحابة كانوا يعرضون على النبي صلّى اللّه عليه و آله كلّ ما حفظوه من القرآن أو جمعوه، فلو لم يكن على الترتيب المنزل لكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يغيّره.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ كلّ ما كتبه كتّاب الوحي، و كلّ ما جمعه الصّحابة من القرآن في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لا جرم كان موافقا في النظم و الترتيب لما كان له من النظم في اللّوح المحفوظ .

و يؤيّد ذلك ما روي عن ابن الزبير، قال: قلت لعثمان: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ (5) قد نسختها الآية الاخرى فلم تكتبها أو(6) تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه(7).

و ما رواه مسلم، عن عمر، قال: ما سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن شيء أكثر ممّا سألته عن الكلالة حتّى طعن بإصبعه في صدري، و قال: «تكفيك آية الصيف(8) التي في آخر سورة النساء »(9).

ص: 55


1- البقرة: 281/2.
2- الإتقان في علوم القرآن 217:1.
3- تفسير الرازي 104:7.
4- الإتقان في علوم القرآن 218:1.
5- البقرة: 240/2.
6- في المصدر: و لم.
7- الإتقان في علوم القرآن 213:1.
8- قال الجزري في شرح الحديث: أي التي نزلت في الصيف، و هي الآية التي في آخر سورة النساء، و التي في أولها نزلت في الشتاء. النهاية 68:3.
9- الإتقان في علوم القرآن 213:1.

و ما روته عائشة من أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ في الليل سورة البقرة، و آل عمران، و النساء(1).

و قال السيد المرتضى رضوان اللّه عليه: إنّ القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان، أي عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - إلى أن قال: - و إنّ جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبيّ بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عدّة ختمات، و كلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور و لا مبثوث(2).

أقول: كلّ ذلك يورث القطع بأنّ ترتيب الآيات و السور لم يكن بأهواء الصّحابة و سلائقهم، بل كان بوحي اللّه و أمر رسوله صلّى اللّه عليه و آله.

الطرفة الثامنة في أنّ ترتيب القرآن ليس بترتيب النزول بل لمناسبات لطيفة

لا شبهة في أنّ الترتيب المقرّر عند اللّه، المنزل على النبيّ بين الآيات و السور لمناسبات لطيفة، و روابط منيفة، و نكت بديعة، و حكم بليغة لا يعلم جميعها إلاّ اللّه و الراسخون في العلم، و لا يدركها إلاّ من نوّر اللّه قلبه، و خصّ بالانقياد ربّه، و وهب له فهم القرآن، و باشر روحه روح الايمان.

قال بعض العلماء: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات و الروابط (3).

و قال آخر: من تأمّل في لطائف نظم السور(4) و في بدائع ترتيبها علم أنّ القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه و شرف معانيه، فهو أيضا معجز بسبب ترتيبه و نظم آياته(5).

و قال آخر: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتّى تكون كالكلمة الواحدة متّسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم(6).

هذا، و لعمري أنّ ما ذكرته بالنظر إلى حكمة اللّه البالغة، و عدم إمكان وضعه الشيء في غير موضعه، و ترجيحه أمرا بلا مرجّح، من أوضح الواضحات و أبين البيّنات، غنيّ عن الاستدلال و التأييد بأقوال

ص: 56


1- مسند أحمد 92:6.
2- مجمع البيان 84:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 369:3.
4- في الإتقان: و قال الإمام الرازي في سورة البقرة: و من تأمل في لطائف نظم هذه السورة.
5- الاتقان في علوم القرآن 370:3.
6- الإتقان في علوم القرآن 369:3.

الرجال، و العجب مع ذلك من بعض حيث قال (1):علم المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد، مرتبط أوّله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة، لم يقع فيه ارتباط ، و من ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلاّ بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلا عن أحسنه، فإنّ القرآن نزل في نيّف و عشرين سنة في أحكام مختلفة شرّعت لأسباب مختلفة، و ما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض (2) ،انتهى.

فإنّ مثل هذا الكلام في ترتيب كلام اللّه لا ينبغي صدوره من عاقل، فضلا عن فاضل، إذ من الواضح أنّ كلّ من ألّف كتابا مشتملا على مطالب متفرّقة و قضايا متشتّتة، يلاحظ البتّة في ترتيبها مناسبة و ارتباطا، فكيف بالحكيم المتعال!

فإنّ المناسبات بين القضايا المتفرّقة و الأحكام المختلفة كثيرة جدّا خصوصا في نظر من كان عالما بحقائق الأشياء و جهات الامور، نعم فهم غير العلماء الراسخين الربّانيّين قاصر عن درك جميع المناسبات اللّطيفة المنظورة للّطيف الخبير، و لذا لم يحم حوله المفسّرون، و لم يخض فيه المتبحّرون.

نعم، تكلّف قليل من علماء العامّة لبيانها، و أجالوا الفكر في هذه العرصة مع عدم كونهم من فرسانها، و أين لهم التمكّن في هذا القصر المشيد، و أنّى لهم التناوش من مكان بعيد؟ حيث إنّهم ما ثقفوا بحبل اللّه المتين، و ما اتّخذوا سبيلا مع الهداة الرّاسخين.

و إنّي و إن سلكت في هذا الطريق الزليق، و غصت في هذا البحر العميق، و خضت كالذي خاضوا، و أفضت من حيث أفاضوا، غير أنّي لمعرفتي بقصوري ما غضضت على ما نلت بضرس قاطع، و ما حكمت فيما قلت على أنّه هو الحقّ الواقع، بل أبديت ما يليق بالظّنّ و الاحتمال لئلا يتوهّم في ترتيب الكتاب العزيز ما توهّمه هذا البعض من الأمر المحال.

قال الشيخ وليّ الدين الملوي: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة، لأنّها على حسب الوقائع المفرّقة، و فصل الخطاب أنّها على حسب الوقائع تنزيلا، و على حسب الحكمة ترتيبا و تأصيلا، فالمصحف على وفق ما في اللّوح المحفوظ مرتّبة سوره كلّها و آياته بالتوقيف كما انزل جملة إلى بيت العزّة، و من المعجز البيّن أسلوبه و نظمه الباهر، و الذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أوّل

ص: 57


1- هو الشيخ عز الدين بن عبد السّلام.
2- الإتقان في علوم القرآن 370:3.

كلّ شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها أو مستقلّة، ثم المستقلّة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جمّ ، و هكذا في السور، يطلب وجه اتّصالها بما قبلها و ما سبقت له(1).

قال بعض العلماء: سورة الفاتحة تضمّنت الإقرار بالربوبيّة و الالتجاء إليه في دين الاسلام و الصّيانة عن دين اليهوديّة و النّصرانيّة، و سورة البقرة تضمّنت قواعد الدّين و إقامة الدّليل عليه، و آل عمران مكمّلة لمقصودها، فالبقرة بمنزلة إقامة الدّليل على الحكم، و آل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، و لهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسّك به النصارى، و في البقرة ذكر أنّ الحجّ مشروع و أمر بإتمامه بعد الشروع، و أوجب الشروع فيه في آل عمران(2).

و كان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أنّ خطاب اليهود في البقرة أكثر؛ لأنّ التوراة أصل و الانجيل فرع لها، و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا هاجر إلى المدينة دعا اليهود و جاهدهم، و كان جهاده للنّصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، و لهذا كانت السور المكّيّة فيها الدّين الذي اتّفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، و السور المدنيّة فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب و المؤمنين فخوطبوا بيا أيّها الذين آمنوا، و يا أهل الكتاب، و يا بني إسرائيل.

و أمّا سورة النساء فتضمّنت أحكام الأسباب التي بين النّاس، و هي نوعان: مخلوقة للّه و مقدورة لهم كالنسب و الصّهر، و لذا افتتحت بقوله: اِتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ثمّ قال: وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ (3) فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح و براعة الاستهلال حيث تضمّنت الآية المفتتح بها، ما أكثر السورة في احكامه، من نكاح النساء و محرّماته و المواريث المتعلّقة بالأرحام، فإنّ ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم، ثمّ خلق زوجته منه، ثمّ بثّ منهما رجالا كثيرا و نساء كثيرة.

و أمّا المائدة فسورة العقود، تضمّنت بيان تمام الشرائع و مكمّلات الدّين، و الوفاء بعهود الرّسل، و ما أخذ على الأمّة، و بها تمّ الدّين، فهي سورة التّكميل لأنّ فيها تحريم الصّيد على المحرم الذي هو [من] تمام الإحرام، و تحريم الخمر الذي هو [من] تمام حفظ العقل و الدّين، و عقوبة المعتدين من

ص: 58


1- الإتقان في علوم القرآن 370:3.
2- في الإتقان: النصارى، و أوجب الحجّ في آل عمران، و أما في البقرة فذكر أنه مشروع، و أمر باتمامه بعد الشروع فيه.
3- النساء: 1/4.

السّرّاق و المحاربين، الذي هو من تمام حفظ الدّماء و الأموال، و إحلال الطيّبات الذي هو من تمام عبادة اللّه، و لهذا ذكر فيها ما يختصّ بشريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كالوضوء، و التيمّم، و الحكم بالقرآن على كلّ ذي دين.

و لهذا أكثر فيها من ذكر الإكمال و الإتمام، و ذكر فيها أنّ من ارتدّ عوّض اللّه بخير منه، و لا يزال هذا الدين كاملا، و لهذا ورد أنّها آخر سورة نزلت، و فيها من إشارات الختم و التمام، و هذا الترتيب بين هذه السور الاربع المدنيّات [من] أحسن الترتيب(1).

و قال بعض آخر: إذا اعتبرت افتتاح كلّ سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثمّ هو يخفى تارة و يظهر أخرى، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنّه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء، كما قال تعالى: وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2).

و كافتتاح سورة فاطر بالحمد، فإنّه مناسب لختام ما قبلها من قوله: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ (3) كما قال تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (4).

أقول: الغرض من نقل هذه العبائر و الوجوه هو التأييد، و إن قلنا إنّ المدّعى لوضوحه غنيّ عنه.

الطّرفة التّاسعة في أسامي الكتاب العزيز و وحيه و مناسبة تسميته بالقرآن

قال بعض (5):إنّ اللّه تعالى سمّى كتابه العزيز بخمسة و خمسين اسما (6).كالفرقان، و الذكر، و أحسن الحديث، و غيرها. و الظاهر أنّ جميعها ألقاب و أوصاف له، إلاّ القرآن فإنّ الأقوى و الأظهر أن يكون علما له بوضع اللّه تعالى.

ص: 59


1- الإتقان في علوم القرآن 381:3.
2- الزمر: 75/39.
3- سبأ: 54/34.
4- الإتقان في علوم القرآن 380:3، و الآية من سورة الأنعام: 45/6.
5- القائل: هو القاضي أبو المعالي عزيزى بن عبد الملك المعروف بشيذلة، صاحب كتاب (البرهان في مشكلات القرآن) و المتوفّى سنة 494. راجع: شذرات الذهب 401:3، كشف الظنون 241:1.
6- البرهان في علوم القرآن 343:1، الإتقان في علوم القرآن 178:1.

و قد ذكروا في اشتقاقه، و وجه مناسبته وجوها، و الأظهر الأشهر أن يكون القرآن مهموزا، من القرء بمعنى الجمع، و منه: قرأت الماء في الحوض: أي جمعته، و على هذا يكون وجه مناسبة التّسمية كونه جامعا لثمرات جميع الكتب السالفة المنزلة(1).

قالوا: إنّ اللّه جمع جميع الكتب السّماويّة في التوراة و الإنجيل، و جمع جميع ما في التوراة و الانجيل في القرآن(2).

و يشهد له ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أعطيت السور الطوال مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزّبور، و فضّلت بالمفصّل ثمان و ستون(3) سورة »(4).

و الأوفى و الأنسب كونه جامعا لجميع أنواع العلوم كلّها، كما قال اللّه تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ (5) ،و قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ (6).

و عنه عليه السّلام: «من فهم القرآن فسّر [به] جمل العلم »(7).

و قال عليه السّلام في وصف القرآن: «ظاهره حكم، و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له تخوم(8) ، و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار(9) الحكمة »(10).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «[قد] ولدني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا أعلم كتاب اللّه، و فيه بدء الخلق، و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض، و خبر الجنّة و النّار، و خبر ما كان و ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي، إنّ اللّه تعالى يقول: فيه تبيان كلّ شيء »(11).

و عن ابن عباس، قال: لو ضلّ منّا عقال كنّا نجده بالقرآن (12) ،إلى غير ذلك من الأخبار.

ص: 60


1- الاتقان في علوم القرآن 182:1.
2- نحوه في الإتقان في علوم القرآن 28:4.
3- في تفسير العياشي: سبع و ستين.
4- الكافي 10/439:2، تفسير العياشي 102/107:1.
5- النحل: 89/16.
6- الأنعام: 38/6.
7- إحياء علوم الدين 342:1.
8- التخم: منتهى كلّ قرية أو أرض، يقال: فلان على تخم من الأرض، و الجمع تخوم، مثل: فلس و فلوس.
9- في العياشي: و منازل.
10- تفسير العياشي 1/74:1.
11- الكافي 8/50:1. و الآية من سورة النحل: 89/16.
12- نحوه في الإتقان في علوم القرآن 30:4-31.

الطّرفة العاشرة فى أنّ الكتاب الذي بأيدينا هو الكتاب المنزل المجموع بأمر النبى صلّى اللّه عليه و آله بلا تحريف و تغيير و زيادة و نقصان.

الحقّ أنّ الكتاب العزيز الذي بأيدينا، هو ذلك الكتاب المنزل، المجموع، المرتّب بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عصره بلا تحريف و تغيير، و زيادة و نقصان، لتواتره بين المسلمين كلاّ و أبعاضا و ترتيبا و قراءة، و نهاية اهتمام المسلمين كافّة، خصوصا علماءهم و قرّاءهم، في حفظه، و تلاوته، و البحث عنه، لأنّه أساس الإسلام، و أعظم معجزات سيّد الأنام عليه و على آله الصّلاة و السّلام، و مأخذ الأحكام، و منشور اللّه إلى خلقه، و نوره المبين في أرضه.

عن السيّد المرتضى، على ما حكي عنه في جواب مسائل الطّرابلسيّات: أنّ العلم بصحّة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار، و الوقائع العظام، و الكتب المشهورة، و أشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت، و الدّواعي توفّرت على نقله و حراسته، و بلغت حدّا لم يبلغه فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة و مأخذ العلوم الشرعيّة و الأحكام الدينيّة، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه، من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضّبط الشديد؟!

و قال قدس اللّه روحه أيضا: إنّ العلم بتفسير القرآن و أبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة، ككتاب سيبويه، و المزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف و ميّز و علم أنّه ملحق و ليس من أصل الكتاب، و كذلك القول في كتاب المزني، و معلوم أنّ العناية بنقل القرآن و ضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء.

و ذكر أيضا أنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن، و استدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، و أنّه كان يعرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يتلى عليه، و أنّ جماعة من الصحابة مثل

ص: 61

عبد اللّه بن مسعود، و أبيّ ابن كعب و غيرهما، ختموا القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عدّة ختمات، و كلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور، و لا مبثوث، و ذكر أنّ من خالف في ذلك [من] الإماميّة و الحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته(1).

و لعمري، إنّه رضوان اللّه عليه أبان الحقّ و أجاد، و أتى بما فوق المراد، و إن قال الفيض رحمه اللّه بعد نقله:

لقائل أن يقول: كما أنّ الدواعي كانت متوفّرة على نقل القرآن و حراسته من المؤمنين، كذلك كانت متوفّرة على تغييره من المنافقين المبدّلين للوصيّة، المغيّرين للخلافة، لتضمّنه ما يضادّ رأيهم و هواهم(2).

أقول: نعم، و لكن كان توفّر دواعيهم على التغيير، كتوفّر دواعيهم على إطفاء نور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إبطال أمره، فكما لم ينالوا بمقصودهم في أمر النبوّة لحفظ اللّه و تأييده، و قوّة المسلمين و كثرتهم بحيث صار المنافقون بينهم كالشّامة السوداء في الثور الأبيض، لم ينالوا من القرآن ما كان في قلوبهم من الغرض، بل كان دون نيلهم إليه خرط القتاد.

ثمّ قال الفيض رحمه اللّه: و التغيير فيه إن وقع، فإنّما وقع قبل انتشاره في البلدان، و استقراره على ما هو عليه الآن، و الضبط الشديد إنّما كان بعد ذلك، فلا تنافي بينهما(3).

أقول: قد ثبت أنّ القرآن كان مجموعا في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان شدّة اهتمام المسلمين في حفظ ذلك المجموع بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و في زمان احتمل بعض وقوع التحريف فيه، كاهتمامهم في حفظ أنفسهم و أعراضهم، و من الواضح أنّه لم ينتشر الاسلام في بقاع الأرض و أقطارها إلاّ بانتشار الكتاب المجيد فيها، حيث إنّ إعجاز القرآن دعا الناس إلى الاسلام و الإيمان بخاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله، بل كان نشر الكتاب و شيوعه بين النّاس أكثر من نشر الإسلام، إذ الكفّار المعاندين للدّين، لشدّة(4) إعجابهم بآيات اللّه و سور القرآن، كانوا يحفظونها و يتلونها أكثر من حفظهم و قراءتهم لقصائد(5) شعراء العرب كامرئ القيس و أضرابه، و خطب الفصحاء، مع شيوع قوّة الحافظة في أهل ذلك العصر بحيث كان كثير منهم يحفظون الخطب الطوال بسماعها مرّة واحدة، و لذا كانت العادة مقتضية لأن تكون كلّ آية و سورة في

ص: 62


1- مجمع البيان 83:1، تفسير الصافي 47:1.
2- تفسير الصافي 48:1.
3- تفسير الصافي 48:1.
4- في النسخة: بشدّة.
5- في النسخة: من قصائد.

حفظ جمع كثير كان عددهم فوق حدّ التواتر، مع أنّه كان حفظ القرآن و تلاوته من أعظم عبادات المسلمين، فالعادة تقتضي أن يكون جمع كثير منهم حافظين لجميع القرآن.

و من الواضح أنّه كان اهتمامهم بحفظ القرآن من التغيير، و صيانتهم له من التحريف؛ كاهتمامهم بحفظ الإسلام و حفظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أن تصيبه آفة و جراحة، حيث إنّهم كانوا يفدون أنفسهم و أولادهم و أعراضهم و أموالهم دون نفسه الشريفة.

و من الغرائب، قوله رحمه اللّه: بل لقائل أن يقول: إنّه إنّما لا يتغير(1) في نفسه، و إنّما التغيير في كتابتهم إيّاه، و تلفّظهم به، فإنّهم ما حرّفوا إلاّ عند نسخهم من الأصل، و بقي الأصل على ما هو عليه عند أهله؛ و هم العلماء به، فما هو عند العلماء به ليس بمحرّف، و إنّما المحرّف ما أظهروه لأتباعهم (2).انتهى.

فإنّ هذا الاحتمال مبنيّ على فرض كون القرآن الموجود في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعده، نسخة واحدة أو نسختين عند واحد من الصحابة أو اثنين، ثمّ اسستنسخه جماعة من المنافقين مع عدم اطّلاع أكثر المسلمين به و بآياته، ثمّ خفي الأصل عن الأنظار، و انتشر المحرّف في الأقطار، و هذا الاحتمال ممّا لا ينبغي انقداحه في ذهن أحد، حيث إنّ القرآن كان بآياته و سوره أظهر من الشمس عند المسلمين، و لم يكن بينهم علم غير علم القرآن، فكيف يمكن عدم اطّلاع أغلبهم بآياته و سوره و محلّ آياته و كيفيّة قراءته!

و قال شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسى رضوان اللّه عليه: و أمّا الكلام في زيادته و نقصانه فممّا لا يليق به، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، و النقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضى، و هو الظاهر في الرّوايات، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة و العامّة بنقصان كثير من آي القرآن، و نقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما [و لا عملا] فالأولى الإعراض عنها، و ترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها(3).

و قال شيخنا الصدوق رحمه اللّه في (اعتقاداته): اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه على نبيّه هو ما بين الدّفّتين و [هو] ما في أيدي النّاس، ليس بأكثر من ذلك، و من نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو

ص: 63


1- في تفسير الصافي: إنه ما تغير.
2- تفسير الصافي 48:1.
3- تفسير التبيان 3:1.

كاذب علينا (1) ،انتهى.

و العجب مع هذا الكلام من الصدوق أنّه نسب إلى الكليني رضوان اللّه عليه الذي هو من مجدّدي المذهب الجعفريّ القول بتحريف القرآن (2) ،مستندا إلى نقله بعض الروايات التي وردت في هذا المعنى، و عدم تعرّضه للقدح فيها، مع ذكره في أوّل الكافي أنّه كان يثق بما رواه فيه، فإنّه لا دلالة لنقل الروايات و الوثوق بصدورها على اعتقاد الناقل بمضمونها أو إفتائه به، لإمكان حملها على محامل، كالتقيّة أو غيرها، أو ردّ الناقل علمها إلى الراسخين في العلم، مع أنّ الصدوق رحمه اللّه كان أعرف بمذهب الكلينيّ رحمه اللّه من غيره، و كيف يمكن تكذيبه نسبة التحريف إلى الإمامية مع قول شيخه به.

و الظاهر أنّ الصدوق رحمه اللّه لعلمه بإجماع الاماميّة، و دلالة روايات كثيرة، بل الكتاب المجيد على عدم تحريفه، و ملاحظة لزوم الوهن من القول به في أساس الإسلام، و تواتر الكتاب أعرض عن الروايات الكثيرة الدالّة على وقوع التّحريف فيه، مع أنّه لغاية تعبّده بظواهر الأخبار ذهب إلى القول بجواز السّهو على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

نعم، نسب السيّد المرتضى رحمه اللّه الخلاف في ذلك إلى قوم من أصحاب الحديث من الإماميّة مع تخطئة لهم قال: إنّ من خالف في ذلك من الإماميّة و الحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته(3).

و لعلّ في قوله: (مضاف إلى قوم) دلالة على عدم ثبوت النسبة عنده، و المراد من (أصحاب الحديث) عليّ بن إبراهيم القمّي رحمه اللّه و من حذا حذوه.

قال القمّيّ رحمه اللّه في تفسيره: و أمّا ما كان خلاف ما أنزل اللّه، فقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ

ص: 64


1- اعتقادات الصدوق: 93.
2- لم نجد في ساتر مصنفات الشيخ الصدوق أي تصريح أو تلميح بنسبة القول بالتحريف إلى ثقة الاسلام الكليني، كما لم نجد أحدا نقله عن الشيخ الصدوق، و قد استند بعض المحدثين الذين نسبوا إلى الشيخ الكليني القول بالتحريف (كالفيض في الصافي 47:1) على جملة من روايات الكافي، مع أنه لا توجد في الكافي رواية واحدة تدلّ دلالة صريحة على التحريف، و لكن اشتبه عليهم حال بعض الروايات، و هي إحدى و ستون رواية فقط بجميع أجزاء الكافي، لظهورها باختلاف القراءة أو التفسير، فعدّوا ذلك من أصل المصحف، و قد بيّنت بعض الدراسات الحديثة ذلك بكلّ تفصيل. راجع: دفاع عن الكافي 219:2-501.
3- مجمع البيان 83:1، تفسير الصافي 47:1.

لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (1) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام لقارئ هذه الآية: «[خير أمّة] يقتلون أمير المؤمنين و الحسين بن عليّ عليهما السّلام ؟».

فقيل له: كيف نزلت يا ابن رسول اللّه ؟ فقال: «إنّما نزلت: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ) أ لا ترى مدح اللّه لهم في آخر الآية: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ » (2).

و مثله: أنّه قرئ على أبي عبد اللّه عليه السّلام: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (3) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لقد سألوا [اللّه] عظيما أن يجعلهم للمتّقين إماما».

فقيل له: يا ابن رسول اللّه، كيف نزلت ؟ فقال: «إنّما نزلت: (و اجعل لنا من المتّقين إماما)».

و قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ (4) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«يحفظ الشيء من أمر اللّه! و كيف يكون المعقّب من بين يديه ؟»

فقيل له: [و] كيف ذلك يا ابن رسول اللّه ؟ فقال: «إنّما نزلت: (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و رقيب يحفظونه بأمر اللّه)» و مثله كثير.

و أمّا ما هو محذوف عنه(5) فهو قوله تعالى: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ - في على كذا نزلت - أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ (6) و قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - في علي - وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (7) و قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا - آل محمد حقهم - لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (8) و قوله: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا - آل محمد حقهم - أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (9) و قوله: وَ لَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ - آل محمد حقهم - فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ (10) و مثله كثير نذكره في مواضعه إن شاء اللّه.

قال: و أمّا التقديم و التأخير فإنّ آية عدّة النساء الناسخة التي هي أربعة أشهر

و عشر، قدّمت على المنسوخة الّتي هي سنة، و كان يجب [أوّلا] أن تقرأ المنسوخة التي نزلت قبل، ثمّ الناسخة التي نزلت بعد.

و قوله: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً (11)

و إنّما هو: (و يتلوه شاهد منه إماما و رحمة و من قبله كتاب موسى).

ص: 65


1- آل عمران: 110/3.
2- آل عمران: 110/3.
3- الفرقان: 74/25.
4- الرعد: 11/13.
5- في المصدر: محرف منه.
6- النساء: 166/4.
7- المائدة: 67/5.
8- النساء: 168/4.
9- الشعراء: 227/26.
10- الأنعام: 93/6.
11- هود: 17/11.

و قوله: إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا (1) و إنّما هي (نحيا و نموت) لأنّ الدّهريّة لم يقرّوا بالبعث بعد الموت، و إنّما قالوا: نحيا و نموت، فقدّموا حرفا على حرف، و مثله كثير.

قال: و أمّا الآيات التي هي في سورة و تمامها في سورة أخرى؛ فقول موسى عليه السّلام: أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ (2) و قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (3) فنصف الآية في سورة البقرة، و نصفها في سورة المائدة.

و قوله: اِكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (4) فردّ اللّه عليهم وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (5) فنصف الآية في سورة الفرقان، و نصفها في سورة العنكبوت، و مثله كثير (6) ،انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: إلى هذه الأخبار الضعاف أشار الشيخ قدّس سرّه بقوله: أنّه وردت أخبار كثيرة من جهة الخاصّة و العامّة بنقصان كثير من آي القرآن و نقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما، فالأولى الإعراض عنها و ترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها.

إلى أن قال: و رواياتنا متناصرة بالحثّ على قراءته و التمسّك بما فيه، و ردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه، و عرضها عليه، فما وافقه عمل عليه، و ما خالفه يجتنب، و لم يلتفت إليه(7).

أقول: أخبار العرض على الكتاب متضافرة، بل متواترة معنى أو إجمالا، و أخبار وقوع التحريف و التغيير مخالفة للكتاب العزيز، فيشملها قولهم عليهم السّلام: «ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف» أو «باطل» أو «فاضربه على الجدار» أو «لم نقله »(8).

فإنّ قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) دالّ على تشريف القرآن و تفضيله على سائر الكتب السماويّة بضمانه تعالى بحفظه من الاندراس و الانطماس، و تعهّده على صيانته من التحريف و التغيير إلى يوم القيامة، فكما أنّ ذهاب جميع القرآن و محوه من بين الناس و جعل كتاب آخر فيهم ينافي ضمانه تعالى لحفظه، كذلك إسقاط آية أو سورة، أو تغيير كلمة منه أو هيئته المنزلة

ص: 66


1- المؤمنون: 37/23.
2- البقرة: 61/2.
3- المائدة: 22/5.
4- الفرقان: 5/25.
5- العنكبوت: 48/29.
6- تفسير القمي 10:1.
7- تفسير التبيان 3:1.
8- الكافي 55:1 /باب الأخذ بالسنة و شواهد الكتاب.
9- الحجر: 9/15.

ينافي ضمانه تعالى لحفظه، لأنّ كلّ آية منه قرآن، و محو شيء منه مادّة أو كيفيّة محو للقرآن.

و تقريبه ببيان أوضح: أنّ اللّه تعالى فضّل دين الإسلام على سائر الأديان بوعده بظهوره على الدّين كلّه، و من الواضح أنّ ظهور هذا الدّين المبين بظهور القرآن المبين، و هو ببقائه بين النّاس محفوظا من التغيير و التحريف و الاندراس و الانطماس، فلذا تعهّد سبحانه و تعالى بحفظه من جميع ذلك، و فضّله على سائر الكتب السماويّة بضمان صيانته من كيد المعاندين و دسّ الملحدين، و لم يكن منه تعالى هذا التعهّد و الضّمان في سائر الكتب، و لذا وقع فيها التحريف و التغيير، و سقطت عن الحجّيّة و الاعتبار كسائر الأديان، فلو قلنا بوقوع التحريف في القرآن - و لو من جهة الترتيب - لنافى الضمان منه تعالى، و ارتفع بمزيّته على الكتابين و فضيلته من هذه الجهة من البين.

إن قيل: حفظه تعالى النسخة التي جمعها و كتبها أمير المؤمنين عليه السّلام و أودعها عند أوصيائه المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين و بقاؤها عند خاتمهم إلى الآن، و إلى آخر الزمان، كاف في الوفاء بالعهد و أداء الضّمان.

قلنا: ليست هذه الدرجة من الحفظ مزيّة و فضيلة له، لكونها مشتركة بين القرآن و سائر الكتب السّماويّة، حيث إنّ من المقطوع أنّه كانت نسخة واحدة غير محرّفة من سائر الكتب محفوظة عند الأنبياء و الأوصياء، و لعلّها من مواريثهم الموجودة الآن عند خاتم الوصيّين و وارث علوم الأنبياء المرسلين عجّل اللّه فرجه، فلا يكون وجود هذه النسخة الصحيحة غير المحرّفة منها الذي يكون كوجودها في اللوح المحفوظ مزيّة و فضيلة للكتاب الكريم.

قال فى (كشف الغطاء)(1) في كتاب القرآن، المبحث الثامن في نقصه: لا ريب أنّه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الدّيّان، كما دلّ عليه صريح القرآن، و إجماع العلماء في كلّ زمان، و لا عبرة بالنادر، و ما ورد من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها، إلى أن قال: فلا بدّ من تأويلها بأحد وجوه(2).

و عن الشيخ البهائي رحمه اللّه في تغيير القرآن، قال: و الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك، زيادة كان أو نقصانا، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3) و ما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم

ص: 67


1- للشيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء المتوفّى سنة 1228 ه .
2- كشف الغطاء: 298.
3- الحجر: 9/15.

أمير المؤمنين عليه السّلام منه في بعض المواضع، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ - في علي - (1) و غير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء(2).

و عن الشيخ عليّ بن عبد العالي رحمه اللّه أنّه صنّف في نفي النّقيصة في القرآن رسالة مستقلّة، و ذكر كلام الصدوق المتقدّم، ثمّ اعترض بما يدلّ على النقيصة في الأحاديث، فأجاب عنها بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدّليل من الكتاب و السنّة المتواترة أو الإجماع، و لم يمكن تأويله و لا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه(3).

و بالجملة: أخبار التحريف مع مخالفتها للكتاب الكريم، و وهن سند كثير منها، و إعراض أعيان الأصحاب عنها، و مخالفتها لحكم العقل و العادة و الاعتبار، غير قابلة لأن يعتدّ بها عاقل، فضلا عن فاضل، بل نقل كثير من الأصحاب الإجماع على خلافها كما ظهر من كاشف الغطاء، و الشيخ البهائي و غيرهما قدس اللّه أسرارهم.

و عن القاضي نور اللّه رحمه اللّه في كتاب (مصائب النواصب): ما نسب إلى الشيعة الإماميّة من وقوع التغيير في القرآن، ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة، إنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم(2).

و عن المفيد قدّس سرّه أنّه قال: قال جماعة من أهل الإماميّة إنّه لم ينقص من كلمة و لا من آية و لا من سورة، و لكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام من تأويله و تفسير معانيه على حقيقة تنزيله(3).

و عن المقدّس البغدادي قدس اللّه روحه في (شرح الوافية )(4):و إنّما الكلام في النقيصة، و المعروف بين أصحابنا - حتّى حكي عليه الاجماع - عدم النقيصة أيضا (5) ،انتهى.

مع أنّ ما ذكر في الروايات من الساقطات كآية رجم الشيخ و الشيخة و أمثالها، و كلمة (من خلفه و رقيب) من قوله: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ (6) و غير ذلك، بعيد من فصاحة الكتاب العزيز و أسلوبه، بل يدفعها السنّة المتواترة من خبر الثّقلين.

ص: 68


1- المائدة: 67/5. (2و3) آلاء الرحمن 65:1.
2- آلاء الرحمن 64:1.
3- أوائل المقالات: 81.
4- الوافية في الأصول: للمولى عبد اللّه بن محمد، المشهور بالفاضل التوني، المتوفّى سنة 1071 ه .
5- آلاء الرحمن 65:1.
6- الرعد: 11/13.

قال الشيخ رحمه اللّه: و قد ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رواية لا يدفعها أحد، أنّه قال: «إنّي مخلّف فيكم الثّقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» قال: و هذا يدلّ على أنّه موجود في كلّ عصر، لأنّه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسّك بما لا نقدر على التمسّك به، كما أنّ أهل البيت و من يجب اتّباع قوله حاصل في كلّ وقت، و إذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحّته، فينبغي أن نتشاغل بتفسيره و بيان معانيه و نترك ما سواه(1).

و حمل كلامه رحمه اللّه على وجوده جميعا عند أهله كما صدر عن الفيض رحمه اللّه خلاف نصّه (2) ،فإنّ القرآن الذي فيه جميع الأحكام، حتّى أرش الخدش، غير مقدور التمسّك به (3) ،و لا ينتقض بعدم إمكان التمسّك بالعترة في زمان الغيبة، فإنّ المراد بالتمسّك بهم تولّيهم و الأخذ بأقوالهم، و هذا ممكن لكلّ أحد في كلّ عصر لوجود رواياتهم، و إن لم يمكن التشرّف بحضرتهم، و اكتساب الفيوضات الخاصّة من زيارتهم، و اقتباس الأنوار ببركة صحبتهم.

فيتبيّن من جميع ما فصّلناه عدم المجال لاحتمال وقوع التحريف في القرآن الشريف بوجه من الوجوه، فضلا عن القول به من كلّ وجه.

الطّرفة الحادية عشرة فى عدد سور القرآن، و بيان الاختلاف فيه

المشهور بين الإمامية رضوان اللّه عليهم أنّ عدد سور الكتاب العزيز مائة و اثنا عشر، لعدّهم الضّحى و الانشراح سورة واحدة، و الفيل و قريش أيضا سورة واحدة، بل ادّعى بعض الأساطين الإجماع عليه (4) ،و عليه النصوص المعتبرة عن أهل البيت عليهم السّلام(5).

و نقل جماعة من العامّة أنّ في مصحف أبيّ أنّ سورة الفيل و سورة لإيلاف واحدة(6).

و نقل عن طاوس و غيره من مفسّري العامّة، على ما في (إتقان السّيوطي): أنّ الضّحى و أ لم نشرح

ص: 69


1- تفسير التبيان 3:1.
2- راجع تفسير الصافي 49:1.
3- لعلّه يريد به القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين علي عليه السّلام، و هو لا يختلف عن الكتاب الذي بين أيدينا إلاّ في الترتيب، حيث إنه عليه السّلام جمعه على ترتيب النزول، و قدّم فيه المنسوخ على الناسخ، و كتب فيه تأويل بعض الآيات و تفسيرها.
4- اعتقادات الصدوق: 93.
5- مجمع البيان 769:10 و 827.
6- تفسير الرازي 104:32.

سورة واحدة(1).

و خالف في ذلك أكثرهم، و ذهبوا إلى أنّ عدد السور مائة و أربع عشرة، و ادّعوا عليه إجماعهم(2).

نعم، قال بعضهم بكونه مائة و ثلاث عشرة، بجعل الأنفال و البراءة واحدة، لعدم البسملة بينهما، و لما روي عن مجاهد و سفيان و أبي روق (3) ،و هو بمكان من الضعف لاشتهار تعدّدهما و تعدّد اسمهما بين المسلمين، و لرواية المجمع عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة براءة؛ لأنّ بسم الله للأمان و الرّحمة، و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف »(4).

و عن ابن عبّاس، قالت: سألت علي بن أبي طالب: لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟قال: «لأنّها أمان، و براءة نزلت بالسيف »(5).

و قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني، و إلى براءة و هي من المئين، فقرنتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتموها في السبع الطوال ؟ فقال عثمان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينزل عليه السور ذات(6) العدد...(7) الخبر، و قد مرّ تمامه في بعض الطرائف(8) السابقة(9).

و روى الصّدوق رحمه اللّه في (ثواب الأعمال)، و العيّاشي، عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة الأنفال و سورة البراءة في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا »(10).

فمن جميع ذلك، و من عدم ظهور شبهة في تعدّدهما بين الأصحاب، مع تعرّضهم لاتّحاد بعض السور كما مرّ، لا ينبغي الإشكال في تعدّد البراءة و الأنفال، و إنّ ما رواه الطّبرسيّ و العيّاشيّ عليهما الرّحمة عن الصادق عليه السّلام: «الأنفال و براءة واحد»(11) مؤوّل أو مطروح.

ص: 70


1- الإتقان في علوم القرآن 228:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 225:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 225:1.
4- مجمع البيان 4:5.
5- مستدرك الحاكم 330:2.
6- في المستدرك: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مما يأتي عليه الزمان و هو ينزل عليه من السور ذوات.
7- مستدرك الحاكم 330:2.
8- كذا، و الطرائف جمع طريفة، أما الطرفة فجمعها طرف.
9- تقدم في الطرفة الخامسة.
10- ثواب الأعمال: 106، تفسير العيّاشي 1768/213:2.
11- مجمع البيان 4:5، تفسير العيّاشيّ 1770/213:2.

الطّرفة الثانية عشرة في بيان معنى السورة، و أنّ اسم كلّ سورة كان بتوقيف من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

السّورة: اسم لطائفة من القرآن ذات فاتحة و خاتمة، مسمّاة باسم خاصّ بتوقيف من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد نصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأسامي السور في الأحاديث و الآثار.

روي عن عكرمة، قال: كان المشركون يقولون: سورة البقرة، و سورة العنكبوت، يستهزءون بها، فنزل: إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (1).

و وجه التسمية بالأسامي المعيّنة المعروفة ظاهر، فإنّ سورة الحمد سميّت بالفاتحة لافتتاح القرآن بها، و سورة البقرة لذكر قصّة البقرة فيها، و لم تذكر في غيرها، و سورة آل عمران لذكر آل عمران فيها، و هكذا سائر السّور، و أمّا وجه تسمية كلّ قطعة معيّنة بالسورة لارتفاع منزلتها و شأنها لأنّها كلام اللّه.

و تطلق السورة على المنزلة الرفيعة، و قيل: إنّها مأخوذة من سور البلد لإحاطتها بآياتها، و اجتماعها كاجتماع البيوت بالسور، و منه السّوار لإحاطته بالسّاعد.

الطّرفة الثالثة عشرة في أنّ عدّة سور من القرآن سمّيت بالطوال و عدّة منها بالمئين و عدّة بالمثاني و عدّة بالمفصّل و وجه التّسمية

كما سمّيت كلّ سورة باسم خاصّ ، سمّيت عدّة سور باسم مخصوص.

عن (الكافي): بإسناده عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أعطيت السور الطوال مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزّبور، و فضّلت بالمفصّل ثمان و ستّون سورة، و هو مهيمن على سائر الكتب، فالتوراة لموسى، و الإنجيل لعيسى، و الزبور لداود »(2).

ثمّ اعلم أنّه يستفاد من الرواية الشريفة امور:

ص: 71


1- الإتقان في علوم القرآن 187:1، و الآية من سورة الحجر: 95/15.
2- الكافي 10/439:2.

الأوّل: أنّ جميع سور القرآن يكون داخلا تحت العناوين الأربعة، لا تخرج منها سورة.

الثاني: أنّ الطوال مقدّم في الترتيب على المئين، و المئين على المثاني و المثاني على المفصّل.

الثالث: أنّ الطوال أفضل من المئين، لكونها بمنزلة التوراة التي هي أفضل من الإنجيل، و المئين أفضل من المثاني لكونها بمنزلة الإنجيل الذي هو أفضل من الزّبور، و يمكن استفادة كون المفصّل أفضل من المثاني، لأنّها ممّا فضّل به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

قيل: الطول كصرد. و في بعض روايات العامّة: الطوال، قيل: سمّيت به لكثرة طولها، و سمّي ما بعدها مئين لأنّ كلّ سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها، و سمّي ما ولي المئين بالمثاني، لأنّها ثنتها أي كانت بعدها، فهي لها ثوان و المئون لها أوائل.

و قال الفرّاء: المثاني: هي السور التي آيها أقلّ من مائة، لأنّها تثنّى أكثر ممّا يثنّى الطّول و المئون.

و قيل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر و الخبر، أو لتثنية القصص فيها.

و سمّي ما ولي المثاني من قصار السور بالمفصّل لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة. و قيل:

لقلّة المنسوخ منه، و لهذا يسمّى بالمحكم أيضا(1).

في تعيين السور الطوال و المئين و المثاني و المفصّل

روي عن سعيد بن جبير، قال: إنّ الذي تدعونه المفصّل هو المحكم، و آخره سورة النّاس بلا نزاع(2).

ثم لا إشكال في أنّ عدد الطوال سبع، لرواية واثلة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة »(3).

و عن ابن عباس رحمه اللّه: أنّ السّبع الطوال (4):البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف (5).قال الراوي: فذكر السابعة فنسيتها. و في رواية اخرى عنه: أنّها الكهف(6).

و عن مجاهد و سعيد بن جبير: أنّها يونس(7).

و قال الفيض رحمه اللّه: الطوال(8) السبع بعد الفاتحة، على أن تعدّ الأنفال و البراءة واحدة، لنزولهما جميعا

ص: 72


1- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 221:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 218:1.
4- في الإتقان: الطّول.
5- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
7- الإتقان في علوم القرآن 220:1.
8- في تفسير الصافي: الطّول.

في المغازي، و تسميتهما بالقرينتين(1).

و فيه: أنّه بعد ما ثبت أنّ الأنفال و براءة سورتان، كيف يمكن عدّهما واحدة، إلاّ أن يحمل ما روي عن الصادق عليه السّلام من قوله: «الأنفال و براءة واحد»(2) على تنزيلهما منزلة الواحد من هذه الجهة، مؤيّدا بالإشعار النبويّ على تقدّم السبع الطوال على غيره.

ثمّ قال: و المئين: من بني إسرائيل إلى سبع سور [سمّيت بها] لأنّ كلاّ منها على نحو مائة آية.

و المفصّل: من سورة محمّد إلى آخر القرآن، سمّيت به لكثرة الفواصل [بينها ](3).

أقول: هذا مبنيّ على عدّ الضحى، و الانشراح، و الفيل، و قريش، أربع سور، و هذا خلاف الأخبار و المعروف بين الأصحاب، و عليه فلا بدّ أن يعدّ المفصّل من الجاثية حتّى تتمّ ثمان و ستّون سورة إلى آخر القرآن على ما في الرواية الشريفة.

ثمّ قال رحمه اللّه: و المثاني بقية السور، و هي التي تقصر عن المئين، و تزيد على المفصّل(4).

أقول: كان عليه أن يكتفي في تعيين المثاني بذكر بقيّة السور، إذ بعض المثاني لا تزيد على بعض سور المفصّل على ما حدّه، لأنّ عدد آيات سورة الرحمن التي جعلها في المفصّل ثمان و سبعون، و سورة الواقعة ستّ و تسعون، و ليس في المثاني بعد الكهف سورة تكون آياتها بهذا العدد إلاّ قليلا كطه، و الأنبياء، و المؤمنون، و الشّعراء، و الصّافّات.

و نقل عن جرير بن عبد الحميد أنّه قال: تأليف مصحف عبد اللّه بن مسعود، الطوال (5):البقرة، و آل عمران، و النساء، و الأنعام، و الأعراف، و المائدة، و يونس.

و المئين: براءة، و النحل، و هود، و يوسف، و الكهف، و بني إسرائيل، و الأنبياء، و طه، و المؤمنون، و الشعراء، و الصافّات.

و المثاني: الأحزاب، و الحجّ ، و القصص، و النّمل، و النّور، و الأنفال، و مريم، و العنكبوت، و الروم، و يس، و الفرقان، و الحجر، و الرّعد، و سبأ، و الملائكة، و إبراهيم، و ص، و الذين كفروا، و لقمان، و الزمر.

و الحواميم: حم المؤمن، و الزخرف، و السجدة، و حمعسق، و الأحقاف، و الجاثية، و الدخان.

ص: 73


1- تفسير الصافي 18:1.
2- مجمع البيان 4:5، تفسير العياشي 1770/213:2.
3- تفسير الصافي 18:1.
4- تفسير الصافي 18:1.
5- في الإتقان: الطّول.

و الممتحنات (1):إنّا فتحنا لك، و الحشر، و تنزيل السّجدة، و الطلاق، و ن و القلم، و الحجرات، و تبارك، و التغابن، و المنافقون، و الجمعة، و الصّفّ ، و قل أوحي، و إنّا أرسلنا، و المجادلة، و الممتحنة(2).

و المفصّل: من الرّحمن إلى آخر القرآن(3).

أقول: الظاهر من هذا الخبر أنّ الممتحنات و الحواميم عند ابن مسعود قسمان خارجان من الأقسام الأربعة، و أنّه كان ترتيب السور في مصحفه على خلاف المصحف الذي بأيدينا، إلاّ أنّه لا اعتبار بهذا النقل.

الطّرفة الرابعة عشرة في فوائد تقطيع القرآن سورا، و اختلافها في الطول و القصر و التوسّط

قال الزمخشريّ : الفائدة في تفصيل القرآن و تقطيعه سورا كثيرة، و كذلك أنزل اللّه التوراة و الإنجيل و الزبور، و ما أوحاه إلى أنبيائه مسوّرة، و بوّب المصنّفون في كتبهم أبوابا موشّحة الصدور بالتراجم.

منها: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع و أصناف كان أحسن و أفخم من أن يكون بابا واحدا.

و منها: أنّ القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشط له و أبعث على التحصيل منه لو استمرّ على الكتاب بطوله، و مثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا، نفّس ذلك منه و نشط للسّير. و من ثمّ جزّئ القرآن أجزاء و أخماسا.

و منها: أنّ الحافظ إذا حفظ (4) السورة اعتقد أنّه أخذ من كتاب اللّه طائفة مستقلّة بنفسها، فيعظم عنده ما حفظه.

و منه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة و آل عمران جدّ فينا، و من ذلك(5) كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل.

و منها: أنّ التفصيل بسبب تلاحق الأشكال و النظائر و ملائمة بعضها لبعض، و بذلك تتلاحظ

ص: 74


1- (و الممتحنات) ليست في الإتقان.
2- زاد في الإتقان: و يا أيها النبي لم تحرم.
3- الإتقان 223:1.
4- في المصدر و الإتقان و البرهان: حذق.
5- في المصدر: ثمة، و في الإتقان و البرهان: ثم.

المعاني و النظم، إلى غير ذلك من الفوائد، انتهى(1).

و قيل: إنّ الحكمة في تسوير القرآن سورا تحقيق كون السورة بمجرّدها معجزة و آية من آيات اللّه، و الإشارة إلى أنّ كلّ سورة نمط مستقلّ ، فسورة يوسف تترجم عن قصّته، و سورة براءة تترجم عن أحوال المنافقين و أسرارهم، إلى غير ذلك.

و أمّا حكمة اختلاف السور طولا و قصرا، التنبيه على أنّ الطّول ليس من شرائط الإعجاز، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات و هي معجزة إعجاز سورة البقرة.

و أمّا الحكمة في جعلها مختلفة المراتب في الطول و القصر و التوسّط بينهما سهولة التعليم و التعلّم و تدريج الأطفال و المتعلمين من السور القصار إلى ما فوقها حتّى ينتهون إلى الأوساط و منها يتدرّجون إلى الطوال على اختلاف مراتبها، و تيسير اللّه على عباده في حفظ كتابه(2) و في قراءة سوره في أضيق الأوقات و أوساطها و طوالها في الصلوات و غيرها، إلى غير ذلك من الحكم و المصالح التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

الطّرفة الخامسة عشرة في أنّ البسملة جزء من كلّ سورة، بل هي أعظم آياتها

لا شبهة أنّ البسملة آية من آيات القرآن، و جزء من الفاتحة، و غيرها من السور عدا براءة، بل هي أعظم الآيات و أفضلها، حيث روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللّه الاعظم من ناظر العين إلى بياضها »(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه: بسم الله الرحمن الرحيم(4) الخبر.

و العياشي، عن الصادق عليه السّلام قال: «ما لهم ؟ - يعني العامّة - قاتلهم اللّه، عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها [و هي بسم الله الرحمن الرحيم]»(5) إلى غير ذلك من الروايات.

و أمّا كونها جزءا من الفاتحة، فلما روي في الصحيح عن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا

ص: 75


1- الكشاف 97:1، الإتقان في علوم القرآن 229:1، البرهان في علوم القرآن 334:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 228:1.
3- التهذيب 1159/289:2.
4- تفسير العياشي 77/100:1.
5- تفسير العياشي 89/103:1.

عبد اللّه عليه السّلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم، أ هي الفاتحة ؟ قال: «نعم».

قلت: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من السبع المثاني ؟ قال: «نعم (1) ،أفضلهنّ »(2).

و عن الحسن العسكري، عن آبائه عليهم السّلام، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه قال في حديث:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية من فاتحة الكتاب، و هي سبع آيات تمامها بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » (3).

و في (عيون الأخبار) قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: أخبرنا عن بسم الله الرحمن الرحيم، أ هي من فاتحة الكتاب ؟ قال.

فقال: «نعم، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرؤها و يعدّها آية منها و يقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني »(4).

و عن أمّ سلمة - بالطريق العامّيّ -: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (5) إلى أن قالت: و عدّ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية، و لم يعدّ: عليهم(6).

و عن عليّ عليه السّلام أنّه سئل عن السبع المثاني، فقال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » فقيل له: إنّما هي ستّ آيات ؟ فقال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية »(7).

و عن ابن عبّاس، قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قيل: فأين السابعة ؟ قال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (8).

و عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قرأتم الحمد، فاقرءوا، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

فإنّها أمّ القرآن، و أمّ الكتاب، و السبع المثاني، إحدى بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آياتها »(9).

و أمّا كونها كجزء من سائر السور، فلما روي عن معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إذا قمت للصلاة، أقرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في فاتحة القرآن ؟ قال: «نعم». قلت: فإذا قرأت فاتحة القرآن، أقرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مع السّورة ؟ قال: «نعم »(10).

ص: 76


1- في التهذيب: نعم، هي.
2- التهذيب 1157/289:2.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 10/29.
4- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 59/301:1.
5- الفاتحة: 1/1 و 2.
6- سنن الدارقطني 21/307:1.
7- سنن الدارقطني 40/313:1، السنن الكبرى 45:2.
8- السنن الكبرى 45:2.
9- سنن الدارقطني 36/312:1، السنن الكبرى 45:2، و فيهما: إحداها، بدل: إحدى آياتها.
10- الكافي 1/312:3، الاستبصار 1155/311:1.

و عن يحيى بن أبي عمران، قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك، ما تقول في رجل ابتدأ ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في صلاته وحده في أمّ الكتاب، فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها، فقال العباسي: ليس بذلك بأس ؟ فكتب بخطّه: «يعيدها مرّتين على رغم أنفه» يعني العباسي (1).و الظاهر أنّ إيجاب الإعادة لعدم تماميّة السورة، لا لكون البسملة واجبا مستقلا.

و من طرق العامّة، ما روي عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يعرف فصل السورة حتّى تنزل عليه بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .

و زاد البزّاز: فإذا أنزلت، عرف أنّ السورة [قد] ختمت، و استقبلت، أو ابتدئت سورة أخرى(2).

و عن ابن عبّاس، قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتّى تنزل بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،فإذا انزلت علموا أنّ السورة قد انقضت(3).

و عنه أيضا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ،علم أنّها سورة(4).

و عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان إذا جاءني جبرئيل بالوحي، أوّل ما يلقي عليّ : بسم الله الرحمن الرحيم »(5).

و عنه أيضا، قال: «نزلت بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في كلّ سورة »(6).

و عن أنس، قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما فقال: «أنزلت عليّ آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (7).

و لا يخفى أنّ على ما ذكرنا اتّفقت الإماميّة رضوان اللّه عليهم أجمعين، و أمّا العامّة فقد اختلفوا على أقوال شتّى، منهم من انكر كونها من القرآن، و إليه أشار ابن عبّاس بقوله: استرق الشيطان من النّاس

ص: 77


1- الكافي 2/313:3، الاستبصار 1156/311:1، و المراد بأبي جعفر الجواد عليه السّلام، و العباس هو هشام بن إبراهيم، و كان يعارض الرضا و الجواد عليهما السّلام، و قوله «يعيدها مرّتين» يمكن أن يكون متعلّقا بكتب، فيكون من تتمة كلام الراوي، و قال الفيض: «يعيدها» يعني الصلاة أو البسملة، و الأول أظهر، «مرتين» متعلق بقوله: «فكتب» لا بقوله: «يعيدها» إذ لا وجه لتكرار الإعادة.
2- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
3- مستدرك الحاكم 232:1.
4- مستدرك الحاكم 231:1.
5- سنن الدارقطني 13/305:1، الإتقان في علوم القرآن 270:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 270:1.
7- صحيح مسلم 53/300:1، الإتقان في علوم القرآن 270:1، و الآيتان من سورة الكوثر: 1/108.

أعظم آية من القرآن: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1).

و بقوله: أغفل النّاس آية من كتاب اللّه لم تنزل على أحد سوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أن يكون سليمان بن داود، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2).

و في ذيل كلامه إشارة إلى ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا أخرج من المسجد حتّى أخبرك بآية لم تنزل على نبيّ بعد سليمان غيري» ثمّ قال: «بأيّ شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصّلاة ؟» قلت: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . قال: «هي هي »(3).

و ما عن الباقر عليه السّلام: «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » (4) و ينبغي الإتيان بها عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

و منهم من قال إنّها آية مستقلّة ليست جزءا من سورة.

و منهم من قال إنّها جزء من الفاتحة دون غيرها من السور.

و استدلّ من قال منهم بأنّها جزء من جميع السور بأنّه يكفي في إثبات تواتر كونها من جميع السور إثباتها في مصاحف الصّحابة فمن بعدها بخطّ المصحف مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه كأسماء السور، و آمّين، و غير ذلك، فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطّه من غير تمييز، لأنّ ذلك يحمل النّاس على اعتقادها قرآنا فيكونون مغرّرين بالمسلمين، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا، و هذا ممّا لا يجوز اعتقاده في الصّحابة.

إن قيل: لعلّه اثبتت للفصل بين السور. اجيب: بأنّ هذا فيه تغرير، و لا يجوز ارتكابه لمجرّد الفصل، و لو كانت لكتبت بين براءة و الأنفال.

الطّرفة السادسة عشرة في أنّ آيات الكتاب العزيز بين محكم و متشابه و في تعريف كلّ منها

لا ريب في أنّ آيات الكتاب العزيز قسمان: محكم و متشابه، كما قال اللّه تعالى: آياتٌ مُحْكَماتٌ

ص: 78


1- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 268:1.
4- تفسير العياشي 77/100:1.

هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (1) و اختلفت في تعريفهما الروايات و كلمات العلماء.

و الحقّ أنّ المراد بالمحكم: هو الكلام الواضح الدّلالة بحيث لا يكون للعرف - و لو بملاحظة القرائن المكتنفة به - تحيّر في استفادة المراد منه، و لا يحتاج في تعيين المقصود منه إلى الرّجوع إلى العالم أو إلى القرائن المنفصلة و الأدلّة العقليّة و النّقليّة الخارجيّة.

و المراد بالمتشابه: هو الكلام المجمل أو المبهم الّذي يشتبه المراد منه على العرف، بحيث لا يكون له بالوضع أو بالقرائن المتّصلة حقيقة أو حكما ظهور في المراد منه، بل لا بدّ في الاستفادة منه من الرّجوع إلى العالم الخبير بمراد المتكلّم، أو إلى الاجتهاد في تحصيل القرائن المنفصلة عن الكلام من حكم العقل المستقلّ ، أو سائر كلمات المتكلّم.

و لعلّه إلى ما ذكرنا يرجع ما عن العيّاشيّ رحمه اللّه عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المحكم و المتشابه فقال:

«المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهله»(2) فإنّ الظاهر أنّ المراد من قوله: «ما يعمل به»، هو الكلام الّذي لا يتوقّف العرف في فهم المراد منه و العمل به، و هو جميع آيات الأحكام.

كما روي عن ابن عبّاس، قال: المحكمات: ناسخه، و حلاله، و حرامه، و حدوده، و فرائضه، و ما يؤمن به و يعمل به، و المتشابهات: منسوخه، و مقدّمه، و مؤخّره، و أمثاله، و أقسامه، و ما يؤمن به و لا يعمل به(3).

و عن مجاهد، قال: المحكمات: ما فيه الحلال و الحرام، و ما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضا(4).

في أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و المعصومين من ذريته عليهم السّلام عالمون بتأويل المتشابه، و في تغليط القائلين باختصاص علمه باللّه تعالى

و عن الرّبيع، قال: المحكمات: هي أوامره و زواجره (5).إلى غير ذلك من التعريفات، فإنّ جميعها بيان لموارد التّنصيص و الظهور، و هي جميع الأحكام دون غيرها، فإنّ في غير آيات الأحكام كثيرا ما يكون الإجمال و الإهمال.

ثمّ إنّه قد غلط من قال باختصاص العلم بتأويل المتشابهات باللّه سبحانه، و إنّه ممّا استأثر به ذاته المقدّسة، و لا يعلمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياؤه المعصومون صلوات اللّه

ص: 79


1- آل عمران: 7/3.
2- تفسير الصافي 295:1، تفسير العيّاشي 38/87:1 «نحوه».
3- تفسير الطبري 115:3.
4- تفسير الطبري 115:3، الإتقان في علوم القرآن 4:3.
5- الإتقان في علوم القرآن 5:3، و فيه: هي الآمرة الزاجرة.

عليهم أجمعين، فإنّ فائدة الكلام تفهيم الغير، فلو خلا عن هذه الفائدة، و لو بالنسبة إلى الواحد، كان لغوا، و الحكيم تعالى منزّه عنه، مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يتحدّى بكلّ آية من الكتاب العزيز، و لا يمكن أن يتحدّى بما لا يعرف المراد منه، و لا يفهم معناه، مع أنّه تعالى استثنى عن جميع الخلق غير العالمين بتأويل المتشابهات الراسخين في العلم، و قرنهم بذاته المقدّسة في العلم بتأويلها، و المراد بالراسخين في العلم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصياؤه من بعده صلوات اللّه عليهم كما في رواية. [عن أحدهما عليهما السّلام] قال: «فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الرّاسخين في العلم، قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »(1).

و عن أمير المؤمنين - في حديث - قال: «إنّ اللّه جلّ ذكره بسعة رحمته و رأفته بخلقه، و علمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كلامه (2) ،قسّم كلامه ثلاثة أقسام؛ و جعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه، و لطف حسّه، و صحّ تميّزه، ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلاّ اللّه و أنبياؤه(3) و الراسخون في العلم »(4).

و عن العيّاشيّ : عن الصادق عليه السّلام - في حديث - قال: «نحن الرّاسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله »(5).

و عن ابن عبّاس بطريق عامّي في قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (6) قال: أنا ممّن يعلم تأويله(7).

و عن مجاهد، في قوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال: يعلمون تأويله، و يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ (8).

و عن الضحّاك، قال: الرّاسخون في العلم يعلمون تأويله، و لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه و منسوخه (7) ،و لا حلاله و لا(10) حرامه، و لا محكمه عن(11) متشابهه(12).

و عن النوويّ على ما نقله السيوطيّ عنه، أنّه قال في (شرح مسلم): إنّه الأصح؛ لأنّه يبعد أن يخاطب اللّه عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته(13).

ثمّ أنّ منشأ غلط أكثر أهل السّنّة في المقام، توهّم كون الواو في وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استئنافا

ص: 80


1- الكافي 2/166:1.
2- في الاحتجاج: كتابه.
3- في الاحتجاج: و امناؤه.
4- الاحتجاج: 253، تفسير الصافي 295:1.
5- تفسير العيّاشيّ 648/293:1، تفسير الصافي 295:1.
6- آل عمران: 7/3. (7و8) الإتقان في علوم القرآن 6:3.
7- في الإتقان: من منسوخه. (10و11) في الإتقان: من. (12و13) الإتقان في علوم القرآن 6:3.

و [ما] بعده مبتدأ و قوله: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ (1) خبره، و هو بمكان من الضّعف لقوّة ظهور الواو في العطف، و عدم وجود قرينة في المقام تليق أن تكون صارفا عنه.

و أضعف منه تأييد بعضهم هذا التّوهّم بأن الآية دلّت على ذمّ متّبعي المتشابه، و وصفهم بالزّيغ و ابتغاء الفتنة، و على مدح الذين فوّضوا العلم إلى اللّه، و سلّموا إليه، حيث إنّ الآية دالّة على ذمّ أهل الزيغ غير العالمين بتأويل المتشابه، بأنّهم مع جهلهم بتأويله يؤوّلونه و يتّبعونه لا طلبا للحقّ ، بل ابتغاء للفتنة، ففيهم جهات عديدة الذمّ .

و أمّا الرّاسخون في العلم فإنّهم لعلمهم بتأويله، و معرفتهم بالعلوم المندرجة في المتشابهات، يتجاهرون بالإيمان بها، و يشهدون على رءوس الأشهاد بأنّها كلام اللّه كالمحكمات.

و لو كان أهل الزيغ و العلم مشاركين في الجهل بالتأويل متفاوتين في الإيمان و النفاق لم يحسن توصيف المؤمنين بالعلم، بل كان الأنسب أن يقال: (و أما الرّاسخون في الايمان يقولون آمنّا به كلّ من عند ربنا) مع أنّ التأييد المذكور لا يقاوم البرهان الّذي قدّمناه من لزوم اللّغو على الحكيم، و هو محال عند العدليّة، و مستبعد عند من يجوّز القبيح على اللّه من الأشاعرة.

و أمّا استدلالهم بما رووه بطرقهم، عن الأعمش، قال: إنّ في قراءة ابن مسعود (إن تأويله إلاّ عند اللّه و الراسخون في العلم يقولون آمنّا به)(2) فموهون سندا و دلالة، لعدم كون ما نقل عنه قرآنا يقينا، بل هو تفسير له، و لعلّ مراده أنّ الراسخين لا يؤوّلون المتشابه من قبل أنفسهم و أهوائهم، بل بتعليم اللّه إيّاهم.

فالعلم به أولا عند اللّه، ثمّ بإفاضته يعلمه الراسخون و يقولون: آمنّا به كلّ من المحكم و المتشابه من عند اللّه، كاشفات عن العلوم غير المتناهية الإلهيّة، و بهذا يجمع بين الرواية السابقة عن ابن عبّاس، و ما روي عنه من قراءته: (و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه و يقول الراسخون في العلم آمنّا به)(3) و ما روي عن أبيّ بن كعب أنّه قرأ: (و يقول الرّاسخون )(4).

و مثله في الوهن استدلالهم بما روي عن أبي مالك الأشعري أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «لا أخاف على أمّتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، و أن يفتح لهم الكتاب

ص: 81


1- آل عمران 7:3.
2- الإتقان في علوم القرآن 7:3، و الآية من سورة آل عمران: 7/3.
3- الإتقان في علوم القرآن 6:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 7:3.

فيأخذه المؤمن، يبتغي تأويله و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه »(1).حيث إنّ المراد من الأمّة المخوف عليهم التأويل، غير الرّاسخين في العلم، كما أنّ المراد من الّذين يخاف عليهم التحاسد و المقاتلة غير المعصومين منهم، و لا دلالة لعدم ذكر بقيّة الآية على شيء.

كما أنّ الخطاب فيما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعلموا به، و ما تشابه فآمنوا به»(2) متوجّه إلى غير الرّاسخين في العلم العالمين بتأويله من لدن حكيم عليم، فإنّهم الّذين لا يجوز لهم إلاّ الإيمان و التعلّم من أهل العلم و الذّكر.

و كذا ما عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، و آمر، و حلال، و حرام، و محكم، و متشابه، و أمثال، فأحلّوا حلاله، و حرّموا حرامه، و افعلوا ما أمرتم به، و انتهوا عمّا نهيتم عنه، و اعتبروا بأمثاله، و اعلموا بمحكمه، و آمنوا بمتشابهه، و قولوا آمنّا به كلّ من عند ربّنا »(3).

فحاصل مدلول هذه الروايات، أنّ وظيفة غير الرّاسخين من النّاس السّكوت عن تأويل المتشابهات، و عدم القول فيه من قبل أنفسهم، و الإيمان بها، و الإقرار بأنّها من عند اللّه، كما نقل عن ابن عبّاس رحمه اللّه أنّه قال: نؤمن بالمحكم و ندين به، و نؤمن بالمتشابه و لا ندين به - أي لا نعمل به - و هو من عند اللّه كلّه(1).

و أعجب من جميع الاستدلالات، استدلالهم بصنيع عمر بن الخطّاب، حيث روي أنّ رجلا يقال له عبد اللّه بن صبيغ(2) قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر و قد أعدّ له عراجين النّخل، فقال: من أنت ؟ قال: أنا عبد اللّه صبيغ، فأخذ [عمر] عرجونا فضربه حتّى أدمى رأسه(3).

و في رواية: فضربه بالجريد حتّى ترك ظهره دبرة ثمّ تركه حتّى برى، ثمّ عاد [له] ثمّ تركه حتّى برئ، ثمّ دعاه ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له الرّجوع إلى أرضه، و كتب إلى أبي موسى الأشعري: ألاّ يجالسه أحد من المسلمين، انتهى(4).

فإنّ الاستدلال بهذا الخبر على الطّعن في عمر و أنّه أظلم الظالمين، أولى من الاستدلال به على

ص: 82


1- الإتقان في علوم القرآن 8:3.
2- في النسخة: صنيع (بضيع)، و ما أثبتناه من المصادر.
3- تفسير القرطبي 14:4، الدر المنثور 152:2، الإتقان في علوم القرآن 8:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 8:3.

عدم العلم بتأويل المتشابهات حتّى للرّاسخين، لأنّ فعله لا يكون حجّة إلاّ على ظلمه، و لعلّ ارتكابه له في حقّ هذا السائل المتعلّم، من جهة أنّ سؤاله هذا كان سببا لاهتدائه إلى باب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و شدّة ظهور فضله على النّاس، و جهل غيره.

و كأنّ ذهاب أكثر شيعته إلى القول بجهل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالكتاب الّذي أنزل عليه، لتلازم اعترافهم بعلم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اعترافهم بعلم أمير المؤمنين عليه السّلام به، و اضطرار الخلق إلى بابه، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله باتّفاق الأمّة مدينة العلم، و عليّ بابها، و إليه أشار أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث بيان المتشابه حيث قال:

«إنّما فعل [اللّه] ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من علم الكتاب ما لم يجعله لهم، و ليقودهم الاضطرار إلى الائتمار بمن ولاّه أمرهم فاستكبروا عن طاعته تعزّزا و افتراء على اللّه عزّ و جل...» الخبر(1).

الطّرفة السابعة عشرة في حكم كون كثير من الآيات متشابها، و عدم كون جميعها محكمات

لا يخفى أنّ فوائد جعل كثير من آيات القرآن متشابهات، و عدم جعل كلّها محكمات كثيرة و حكمه وفيرة:

منها: ما أشار إليه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في الرواية السابقة من اضطرار النّاس إلى الرّجوع إلى الرّاسخين في العلم، و الائتمار بأوامرهم، فإنّهم إذا حضروا في مجالسهم لاستفادة علم القرآن، عرفوا شأنهم و علوّ مقامهم، و ازدادوا [في] موالاتهم و محبّتهم، و اقتدوا بأعمالهم، و اكتسبوا من أخلاقهم.

و منها: تبيّن فضل العلماء على سائر النّاس و اختلاف مراتبهم.

و منها: اضطرار أهل الإيمان إلى التّدبر و التّفكّر في القرآن، فبالتّدبّر فيه تظهر دقائقه، و تكشف حقائقه، و يحصل كمال التوحيد، و تمام المعرفة، و قوّة اليقين، و ثبات الإيمان، و لو كان كلّه محكما لتعلّقوا به لسهولة مأخذه، و أعرضوا عن الغور في غوامضه.

ص: 83


1- الاحتجاج: 253.

و منها: شدّة الاهتمام بحفظه، و زيادة الحبّ بمضامينه، إذ الانسان إذا تحمّل المشقّة في تحصيل شيء، كان له أحبّ و أحفظ .

و منها: زيادة عظم القرآن في الأنظار، حيث إنّ العادة قاضية بأنّ كلّ كتاب كان فهم مطالبه أشكل، كان قدره عند النّاس أعظم.

و منها: فتنة الخلق و امتحانهم بها، و تبيّن الصادقين في الإيمان من الكاذبين، فإنّ الحكمة البالغة مقتضية لأن لا ينسدّ على أحد باب الغيّ و الضّلال في حال من الأحوال، و لا يكون لأحد إلجاء و قهر على الالتزام بالحقّ و قبول الرّشاد، و إذا كانت جميع الآيات محكمات لم يكن لأهل الزيغ مجال ابتغاء الفتنة و الفساد مع إتمام الحجّة عليهم بالأمر بالرجوع فيها إلى الحجج البالغة، و الزّجر عن التكلّم فيها، و ابتغاء تأويلها بالأهواء الزائغة.

و الحاصل: أنّ الحكيم المتعال جعل كتابه التّدوينيّ مطابقا لكتابه التّكوينيّ ، و كما أنّه جعل غالب آيات الكتاب التّكويني من موجودات العالم متشابهات، حيث جعل الطبائع فيها، و الأسباب و المؤثّرات لها، حتّى يبقى للذّوات الخبيثة و ذوي الأهواء الفاسدة و العقول المغلوبة الكاسدة مجال للقول بخالقيّة الطبيعة، و ألوهيّة الشمس و سائر الأجرام الفلكيّة، و إنكار الصانع الحكيم لعدم علمهم بتأويلها، و قصور نظرهم عن رؤية ما وراء طبائعها و أسبابها، و زيغ قلوبهم عن إدراك مسبّب الأسباب و خالقها، مع إتمام الحجّة عليهم بإرسال العقل، العالم بتأويل تلك المتشابهات إليهم، و جعله هاديا لهم، و تأييده بالأنبياء المرسلة و الكتب المنزلة.

فالذّوات الخبيثة بزيغ قلوبهم يؤوّلون تلك الموجودات المتشابهات التكوينيّة من قبل أنفسهم، و يتّبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة، و أمّا الذّوات الطيّبة، و النفوس الزكيّة، فببصيرة قلوبهم يراجعون إلى العقل السليم الذي هو الإمام الراسخ في العلم، و يتعلّمون منه التأويل، و يتمسّكون بالبرهان من عدم إمكان كون المخلوق خالقا، و المتغيّر واجبا، فعند ذلك يقولون: آمنّا، كلّ من المحكمات الواضحات الدلالات على خالقها، و المتشابهات من الموجودات بالأسباب و المؤثّرات التي جميعها آيات كتاب التّكوين، من عند ربّنا.

كذلك جعل كثيرا من آيات كتاب التّدوين و هو القرآن المبين متشابهات، ليمتاز أهل الزيغ و النفاق من المتظاهرين بالإيمان بالكتاب، عن أهل الصدق و الإخلاص، فلو لم يكن في موجودات العالم

ص: 84

تشابه، و لم يكن في كتاب التّكوين متشابه، بل كان كلّها محكمات، لم يحصل الامتحان و الاختيار، و كان إيمان المؤمن شبه الإلجاء و الإجبار، و كذلك لو لم يكن في القرآن متشابهات لم يحصل للمقرّين به الفتنة و الامتحان أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (1).

الطّرفة الثامنة عشرة في أنّ الحروف المقطّعة التي تكون في أوائل السّور من أبين مصاديق المتشابه، و بيان المراد منها

من أبين مصاديق المتشابه في القرآن، الحروف المقطّعات التي تكون في أوائل السور، و لا شبهة أنّها رموز و أسرار بين اللّه تعالى و الرّاسخين في العلم، لا يطّلع عليها غيرهم.

عن الشّعبيّ ، أنّه سئل عن فواتح السور، فقال: إنّ لكلّ كتاب سرّا، و إنّ سرّ هذا القرآن فواتح السور(2).

و اختلفت الأخبار في بيان المراد منها، و أكثرها تدلّ على أنّ كلّ حرف منها رمز من اسم من الأسماء الحسنى، كما عن السّدّي، قال: فواتح السور أسماء من أسماء الربّ جلّ جلاله، فرّقت في القرآن(3).

و قال الزّجّاج: إنّ العرب كانوا ينطقون بالحرف الواحد، كناية عن الكلمة التي هو منها(4).

و قال القاضي أبو بكر ابن العربي في الحروف المقطّعات: إنّه لو لا أنّ العرب كانوا يعرفون أنّ لها مدلولا متداولا بينهم، لكانوا أوّل من أنكر ذلك على النبي صلّى اللّه عليه و آله بل تلا عليهم حم فصّلت و ص و غيرهما، فلم ينكروا عليه ذلك، بل صرّحوا بالتسليم له في البلاغة و الفصاحة مع تشوّقهم إلى عثرته، و حرصهم على زلّته، فدلّ على أنّه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار لهم فيه، انتهى(5).

أقول: كان يكفي تداول التّكنية و الإرماز بالحروف المقطّعة في عدم تمكنهم على الإنكار و الاعتراض، و لا يلزم معرفتهم بخصوص المعنى تفصيلا، و لعلّ مراده المعرفة الاجماليّة. و قد تظافرت روايات الخاصّة و العامّة على أنّها رموز و كنايات عن أسماء اللّه تعالى و تعيينها و تبيينها.

ص: 85


1- العنكبوت: 2/29.
2- الإتقان في علوم القرآن 24:3.
3- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
5- الإتقان في علوم القرآن 30:3.

عن (المجمع): عن الصادق عليه السّلام: «أنّ (ص) اسم من أسماء اللّه تعالى، به أقسم اللّه »(1).

و عن ابن عباس، قال: (الم) و (طسم) و (ص) و أشباهها قسم أقسم اللّه به، و هو من أسماء اللّه تعالى(2).

و عن أبي العالية في (الم) قال: هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة و العشرين، دارت بها الألسن، ليس منها حرف إلاّ و هو مفتاح اسم من أسمائه تعالى(3).

أقول: يدلّ على ذلك ما وراه الصدوق رحمه اللّه في (أماليه) من تفسير المعصوم: «كلّ حرف من حروف (أبجد) باسم من أسماء اللّه تعالى »(4).

و عن تفسير ابن ماجة، من طريق نافع، عن أبي نعيم القارئ، عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه أنّها سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: «يا كهيعص اغفر لي »(5).

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه قال في دعائه: «[أسألك يا] كهيعص »(6).

و عن الصادق عليه السّلام في حديث: «و أمّا (الم) في [أوّل] آل عمران فمعناه: أنا اللّه المجيد »(7).

و عنه عليه السّلام في حديث: «و (المص) معناه: أنا اللّه المقتدر الصادق »(8).

و من طريق العامّة عن الضحاك مثله(9).

و قيل: معنى (المص): المصوّر(10).

و عن محمد بن كعب القرظي، قال: (المص) الألف: من اللّه، و الميم من الرحمن، و الصاد: من الصّمد(11).

و عن ابن عباس: معنى (المص): أنا اللّه أفصل(12).

و عن الصادق عليه السّلام في كهيعص: «معناه أنا الكافي، الهادي، الوليّ ، العالم، الصادق الوعد »(13).

و عنه عليه السّلام أيضا: «كاف لشيعتنا، هاد لهم، وليّ لهم، عالم بأهل طاعتنا، صادق لهم وعده حتّى يبلغ

ص: 86


1- مجمع البيان 726:8، تفسير الصافي 290:4.
2- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
3- الإتقان في علوم القرآن 30:3.
4- انظر أمالي الصدوق: 508/395.
5- الإتقان في علوم القرآن 28:3.
6- مجمع البيان 775:6، تفسير الصافي 273:3.
7- معاني الأخبار: 1/22.
8- معاني الأخبار: 1/22.
9- الإتقان في علوم القرآن 25:3.
10- الإتقان في علوم القرآن 25:3.
11- الدر المنثور 413:3.
12- الاتقان في علوم القرآن 24:3.
13- معاني الأخبار: 1/22.

[بهم] المنزلة الّتي وعدهم إياها في نصّ (1) القرآن »(2).

و عن ابن مسعود و ناس من الصحابة، في قوله تعالى: كهيعص (3):قالوا هو هجاء مقطّع؛ الكاف من الملك، و الهاء من اللّه، و الياء و العين من العزيز، و الصاد من المصوّر (4).و في نقل آخر: و الصاد من الصّمد(5).

و عن أمّ هاني، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «كاف، أمين (4) ،عالم، صادق »(5).

أقول: الظاهر أنّه سقط من الرواية تفسير الهاء، كما أنّ الظاهر سقوط تفسير الياء أو العين ممّا نقل عن ابن مسعود.

و عن ابن عبّاس في قوله: كهيعص قال: الكاف: الكافي، و الهاء: الهادي، و العين: العالم، و الصاد: الصادق(6).

و عن عكرمة في قوله: كهيعص قال: يقول: أنا الكبير، أنا الهادي، أنا عليّ أمين صادق(7).

و عن ابن عبّاس، قال: الكاف من كريم، و الهاء من هاد، و الياء من حكيم، و العين من عليم، و الصاد من صادق(10).

و عنه أيضا: كاف، هاد، أمين، عزيز، صادق(11).

و عن محمّد بن كعب، في قوله: طه (8) ،قال: الطاء من ذي الطّول(9).

أقول: و في عدّة من روايات الخاصّة و العامّة، أنّ (طه) اسم من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و في بعضها:

معناه: يا طالب الحقّ (10).

و عن محمّد بن كعب، في قوله: طسم (11) ،قال: الطاء من ذي الطّول، و السين من القدّوس، و الميم من الرحمن(12).

ص: 87


1- في المعاني و الصافي: بطن.
2- معاني الأخبار: 6/28، تفسير الصافي 273:3.
3- مريم: 1/19. (4و5) الدر المنثور 478:5.
4- في الإتقان: كاف، هاد، أمين، و في الدر: كاف، هاد.
5- الإتقان في علوم القرآن 26:3، الدر المنثور 478:5.
6- الدر المنثور 25:5.
7- الإتقان في علوم القرآن 26:3، الدر المنثور 478:5. (10و11) الإتقان في علوم القرآن 25:3.
8- طه: 1/20.
9- الدر المنثور 551:5.
10- معاني الأخبار: 1/22، و زاد فيه: الهادي إليه.
11- الشعراء: 1/26، القصص: 1/28.
12- الإتقان في علوم القرآن 26:3.

و عن الصادق عليه السّلام: «أمّا حم (1) فمعناه: الحميد المجيد »(2).

و عن سعيد بن جبير، في قوله: حم قال: الحاء اشتقّت من الرحمن، و الميم اشتقّت من الرّحيم(3).

و عن محمّد بن كعب، في قوله: حم * عسق (4) قال: الحاء و الميم من الرحمن، و العين من العليم، و السين من القدّوس، و القاف من القاهر(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أمّا حم * عسق فمعناه: الحكيم، المغيث (6) ،العالم، السميع، القادر، القويّ »(7).

و قال بعض العامّة: إنّ القاف هنا اسم الجبل المحيط بالأرض و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله: ق (8).

و حكي عن الكرماني في قوله: ق أنّه حرف من اسمه قادر و قاهر(9).

و قال بعض في قوله: ن (10):إنّه مفتاح اسمه تعالى: نور و ناصر(11).

و روي عن الصادق عليه السّلام: «إنّه اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله »(12).

أقول: يمكن أن يستفاد من مجموع الروايات و اختلافها أنّ كلّ حرف من الحروف المقطّعات رمز عن الأسماء الحسنى التي تضمّنت ذلك الحرف، فالقاف رمز عن اسم القاهر، و القادر، و القيّوم، و غير ذلك، و الصاد: رمز عن المصوّر، و الصّمد، و الصادق، و غير ذلك، و العين: رمز عن العزيز، و العالم، و العليم، و أمثال ذلك.

و في روايات عديدة: أنّ مجموع الحروف المقطّعات رمز عن اسم اللّه الأعظم.

عن القمّي، عن الباقر عليه السّلام، في بيان الحروف المقطّعات: «هو حروف من اسم اللّه الأعظم المقطوع،

ص: 88


1- غافر: 1/40،....
2- معاني الأخبار: 1/22.
3- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
4- الشورى: 1/42 و 2.
5- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
6- في المعاني: الحليم المثيب.
7- معاني الأخبار: 1/22.
8- معاني الأخبار: 1/22، الإتقان في علوم القرآن 33:3، و الآية من سورة ق: 1/50.
9- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
10- القلم: 1/68.
11- الإتقان في علوم القرآن 26:3.
12- مختصر بصائر الدرجات: 67، الخصال: 2/426 عن الباقر عليه السّلام.

يؤلّفه النبي صلّى اللّه عليه و آله و الامام عليه السّلام، فيكون الاسم الأعظم الذي إذا دعي اللّه به أجاب »(1).

و عن المعاني: عن الصادق عليه السّلام: الم هو حرف من حروف اسم اللّه الأعظم [المقطّع في القرآن الذي] يؤلّفه النبيّ و الإمام، فإذا دعا به اجيب »(2).

و عن ابن مسعود، بسند صحيح عند العامّة: هو اسم اللّه الأعظم(3).

و عن ابن عبّاس، قال: الم اسم من أسماء اللّه الأعظم(4).

و نقل ابن عطيّة عن بعض القول: بأنّها الاسم الأعظم، إلاّ أنّا لا نعرف تأليفه منها(5).

و مقتضى بعض الروايات أنّ الراسخين في العلم يستفيدون من تأليفاتها و من أعدادها بحساب الجمّل و علم الحروف، علوما كثيرة، كما عن الباقر عليه السّلام: «علم كلّ شيء في عسق » (6).

و عن (المجمع) عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه قال: «لكلّ كتاب صفوة، و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي »(7).

و عن (المعاني) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه أتاه رجل من بني أميّة و كان زنديقا، فقال له: قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه: المص (8) أيّ شيء أراد بهذا، و أي شيء فيه من الحلال و الحرام، و أيّ شيء فيه مما ينتفع به النّاس ؟

قال: فاغتاض عليه السّلام من ذلك، فقال: «أمسك ويحك؛ الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، كم معك ؟» فقال الرجل: مائة و إحدى و ستّون. فقال عليه السّلام: «إذا انقضت إحدى و ستّون و مائة ينقضي ملك أصحابك».

قال: فنظر الرجل فلمّا انقضت إحدى و ستّون(9) و مائة يوم عاشوراء دخل المسوّدة الكوفة، و ذهب ملكهم(10).

و في رواية أبي لبيد المخزوميّ ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ لي في حروف القرآن المقطّعة لعلما

ص: 89


1- تفسير القمي 267:2.
2- معاني الأخبار: 2/23.
3- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
4- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
5- الإتقان في علوم القرآن 27:3.
6- تفسير القمي 268:2، و الآية من سورة الشورى: 2/42.
7- مجمع البيان 112:1.
8- الأعراف: 1/7.
9- كذا في العياشي، و في معاني الأخبار: سنة إحدى و ثلاثون، و هو الصحيح الموافق لتاريخ سقوط دولة بني أمية، و للعلامة المجلسي رحمه اللّه تأويل للتاريخ المذكور (161). راجع بحار الأنوار 1/163:10.
10- تفسير العياشي 1544/135:2، معاني الأخبار: 5/28.

جمّا، إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل الم * ذلِكَ الْكِتابُ (1) فقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله حتّى ظهر نوره، و ثبتت كلمته، و ولد يوم ولد، و قد مضى من الالف السابع مائة سنة و ثلاث سنين».

ثمّ قال: «و تبيانه في كتاب اللّه في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار، و ليس من الحروف المقطعة حرف تنقضي أيّامه إلاّ و قائم من بني هاشم عند انقضائه».

ثمّ قال: «الألف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فذلك مائة و إحدى و ستّون، ثمّ كان بدو خروج الحسين بن عليّ عليهما السّلام الم * اَللّهُ (2) فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العبّاس عند المص و يقوم قائمنا عند انقضائها ب المر فافهم ذلك و عدّ(3) و اكتمه» الخبر(4).

و لا يخفى أنّ الرواية من المشكلات التي يجب ردّ علمها إليهم عليهم السّلام و إن تصدّى لشرحها جماعة من العلماء، و لعلّه يستفاد من قوله: «أنزل الم * ذلِكَ الْكِتابُ فقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله» وجه تقديم هذه السورة على سائر السور، حيث إنّ فيها إشارة إلى قيام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بدو بعثته.

و من طريق العامّة: عن ابن عبّاس، عن جابر بن عبد اللّه بن رياب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يتلو فاتحة سورة البقرة الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ

فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون! و اللّه لقد سمعت محمّدا يتلو فيما انزل عليه: الم * ذلِكَ الْكِتابُ فقال: أنت سمعته ؟ فقال: نعم. فمشى حيي في اولئك النفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: أ لم تذكر أنّك تتلو فيما انزل عليك الم * ذلِكَ الْكِتابُ ؟ فقال: «بلى».

فقالوا: لقد بعث اللّه قبلك أنبياء ما نعلمه بيّن لنبيّ منهم ما مدّة ملكه و ما أجل امّته غيرك؛ الألف بواحد، و اللام بثلاثين، و الميم بأربعين، فهذه إحدى و سبعون سنة، أ فندخل في دين نبيّ إنّما مدّة ملكه و أجل امّته إحدى و سبعون سنة ؟!

ثمّ قال: يا محمّد، هل مع هذا غيره ؟ قال: «نعم، المص». قال: هذه أثقل و أطول، الألف بواحد، و اللام بثلاثين، و الميم بأربعين، و الصاد بتسعين، فهذه إحدى و ستّون و مائة سنة، هل مع هذا غيره ؟ [قال: «نعم، الر»، قال: هذه أثقل و أطول، الألف واحدة، و اللام ثلاثون، و الراء مائتان، هذه إحدى و ثلاثون و مائتا سنة. هل مع هذا غيره ؟] قال: «نعم، المر». قال: هذه أثقل و أطول، الألف بواحد، و اللام

ص: 90


1- البقرة: 1/2 و 2.
2- آل عمران: 1/3 و 2.
3- في العياشي و البحار: و عه.
4- تفسير العياشي 1545/136:2، تفسير الصافي 77:1، بحار الأنوار 23/383:92.

بثلاثين، و الميم بأربعين، و الراء بمائتين، هذه إحدى و سبعون و مائتا سنة.

ثمّ قال: لقد لبّس علينا أمرك حتّى ما ندري أ قليلا اعطيت أم كثيرا. ثمّ قال: قوموا عنه.

ثمّ قال أبو ياسر لأخيه و من معه: ما يدريكم، لعلّه قد جمع هذا كلّه لمحمّد؛ إحدى و سبعون، و إحدى و ستّون و مائة، و إحدى و ثلاثون و مائتان، و إحدى و سبعون و مائتان، فذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون سنة. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أنّ [هؤلاء] الآيات نزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (1).

و عن (الاكمال) عن الحجّة القائم عجّل اللّه فرجه في حديث أنّه سئل عن تأويل كهيعص فقال:

«هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع اللّه [عليها] عبده زكريّا ثم قصّها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط اللّه عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و عليّا و فاطمة و الحسن عليهم السّلام سرّي عنه همّه و انجلى كربه، و إذا ذكر الحسين عليه السّلام خنقته العبرة، و وقعت عليه البهرة(2).

فقال ذات يوم: الهي، ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، و إذا ذكرت الحسين عليه السّلام تدمع عيني، و تثور زفرتي ؟ فأنبأه تبارك و تعالى عن قصّته، فقال: كهيعص فالكاف اسم كربلاء، و الهاء هلاك العترة، و الياء يزيد لعنه اللّه، و هو ظالم الحسين عليه السّلام و العين عطشه، و الصاد صبره. فلمّا سمع ذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، و منع فيها الناس من الدخول عليه، و أقبل على البكاء و النحيب»(3) الخبر.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه لا منافاة بين الأخبار لإمكان أن تكون ذات الحروف المقطّعة كناية و رمزا عن امور، و تركيبها عن امور، و عددها إشارة إلى امور.

و يستفاد بعض أنحاء استفادتهم عليهم السّلام العلوم من الكتاب، من الرواية الواردة عن الباقر عليه السّلام في تفسير الصّمد حيث سألوه عن مسائل و أجابهم، ثمّ سألوه عن الصّمد، فقال: «تفسيره فيه، الصّمد خمسة أحرف: فالالف دليل على إنّيّته و هو قوله عز و جل: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ (4) ،و ذلك تنبيه

ص: 91


1- تفسير الطبري 71:1، الإتقان في علوم القرآن 29:3، و الآية من سورة آل عمران: 7/3.
2- البهرة: تتابع النفس و انقطاعه من الأعياء.
3- كمال الدين: 21/461.
4- آل عمران: 18/3.

و إشارة إلى الغائب عن درك الحواسّ ، و اللام دليل على إلهيّته و أنّه هو اللّه، و الألف و اللام مدغمان لا يظهران على اللّسان و لا يقعان في السّمع، و يظهران فى الكتابة، دليلان على أنّ إلهيّته بلطفه خافية لا تدرك بالحواسّ ، و لا تقع في لسان واصف، و لا اذن سامع، لأنّ تفسير الإله: هو الذي إله الخلق عن درك ماهيّته و كيفيّته بحسّ أو بوهم، لانّه مبدع الأوهام، و خالق الحواسّ ، و إنّما يظهر ذلك عند الكتابة دليل على أن اللّه تعالى أظهر ربوبيّته في إبداع الخلق و تركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه، كما أنّ لام الصّمد لا تبين(1) و لا تدخل في حاسّة من الحواسّ الخمس، فإذا نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي و لطف، فمتى تفكّر العبد في ماهيّة الباري و كيفيّته أله فيه و تحيّر و لم تحظ فكرته بشيء يتصوّر له، لأنّه عزّ و جلّ خالق الصّور، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عزّ و جلّ خالقهم و مركّب أرواحهم و أجسادهم(2).

و أمّا الصّاد فدليل على أنّه عزّ و جلّ صادق، و قوله صدق، و كلامه صدق، و دعا عباده إلى اتّباع الصدق [بالصدق و] وعد بالصدق دار الصدق.

و أمّا الميم فدليل على ملكه و إنّه الملك الحقّ ، لم يزل و لا يزال [و لا يزول] ملكه.

و أمّا الدّال فدليل على دوام ملكه، و أنّه عزّ و جلّ دائم متعال عن الكون و الزوال، بل هو عزّ و جلّ مكوّن الكائنات، الذي كان بتكوينه كلّ كائن».

ثمّ قال عليه السّلام: «لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عزّ و جلّ حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الإيمان و الدّين و الشرائع من الصّمد، و كيف لي بذلك و لم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه، حتّى كان يتنفّس الصّعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّ بين الجوانح منّي علما جمّا، هاه هاه، ألا لا أجد من يحمله، ألا و إنّي عليكم من اللّه الحجّة البالغة» الخبر(3).

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه من الفوائد للحروف المقطّعة مختصّ بالخواصّ ، و هم الراسخون في العلم، و أمّا فائدتها لعامّة النّاس فهي على ما قيل: إنّ العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل اللّه تعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، فيكون تعجّبهم منه سببا لاستماعهم، و استماعهم له سببا لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب و تلين الأفئدة(4).

ص: 92


1- في التوحيد: لا تتبيّن.
2- في التوحيد: في أجسادهم.
3- التوحيد: 6/92.
4- الإتقان في علوم القرآن 31:3.

و قيل: إنّه ذكرت هذه الحروف المقطّعة إشعارا بأنّ القرآن مؤلّف من الحروف التي هي (ا، ب، ت) ليدلّ القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنّه بالحروف التي يعرفونها و يتداولونها في ألسنتهم، فيكون ذلك تقريعا لهم و دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله بعد أن علموا أنّه منزل بالحروف التي يعرفونها و يبنون كلامهم منها(1).

و إلى هذا الوجه أشار العسكري عليه السّلام في التفسير المنسوب إليه(2).

الطّرفة التاسعة عشرة في بيان معنى التفسير و التأويل، و عدم كون بيان المراد من الظاهر تفسيرا منهيا عنه، و اختصاص العلم بالتأويل بالراسخين في العلم

التفسير: هو كشف القناع عن المعنى، و توضيح المقصود من الكلمة أو الكلام.

و التأويل: هو أول الكلام و إرجاعه إلى بعض المعاني البعيدة المحتملة منه. و قيل: هما واحد.

و الظاهر أنّ بيان المراد من المحكمات، نصّا كان المحكم أو ظاهرا، ليس من التفسير أو من المنهي عنه، لتواتر الأمر بالتمسّك بالكتاب و العمل به، و عرض الأحاديث عليه، و ترجيح المتعارضات منها به، و تميّز الشروط الصحيحة عن الفاسدة بموافقتها له، و سيرة المسلمين و الأصحاب على التمسّك بظواهره، فضلا عن نصوصه.

و أمّا غير المحكمات فلا شبهة أنّ العلم به مخصوص بالراسخين في العلم، و أنّه لا يجوز لغيرهم التكلّم فيه برأيه و من قبل نفسه عن جزم و بتّ ، و عليه تحمل الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، أو عليه و على القول في المحكمات من دون فحص في الأخبار المعتبرة عن الهداة صلوات اللّه عليهم عن ناسخها و مقيّدها و مخصّصها و مبيّنها.

في نقل تحقيق بعض العامة في وجه الحاجة إلى تفسير الكتاب بالرجوع إلى الراسخين في العلم

و قال بعض في وجه الحاجة إلى تفسير الكتاب بالرّجوع إلى الراسخين في العلم زائدا على ما ذكرنا: إنّ من المعلوم أنّ اللّه تعالى خاطب خلقه بما يفهمونه، و لذلك أرسل كلّ رسول بلسان قومه، و أنزل كتابه على لغتهم، و مع ذلك يحتاج إلى التفسير

ص: 93


1- الإتقان في علوم القرآن 31:3.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 62.

لوجه يظهر بعد تقرير قاعدة، و هي أنّ كلا من البشر إذا وضع كتابا فإنّما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح، و إنّما احتيج إلى الشروح لامور ثلاثة:

أحدها: كمال فضيلة المصنّف، فإنه لقوّته العلميّة يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربّما عسر فهم مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفيّة، و من هنا كان شرح بعض الأئمّة تصنيفه أدلّ على المراد من شرح غيره له.

و ثانيها: إغفاله بعض تتمّات المسألة، أو شرط (1) لها اعتمادا على وضوحها، أو لأنّها من علم آخر فيحتاج إلى الشارح لبيان المحذوف و مراتبه.

و ثالثها: احتمال اللفظ لمعان، كما في المجاز و الاشتراك و دلالة الالتزام، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنّف و ترجيحه، و قد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السّهو و الغلط ، أو تكرار الشيء، أو حذف مبهم و غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.

إذا تقرّر هذا فنقول: إنّ القرآن إنّما نزل بلسان عربيّ في زمان أفصح العرب، و كانوا يعلمون ظواهره و أحكامه، أمّا دقائق باطنه فإنّما كان يظهر لهم بعد البحث و النظر مع سؤالهم(2) النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأكثر، كسؤالهم لمّا نزل قوله: وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ (3) فقالوا: و أيّنا لم يظلم نفسه! ففسّره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالشّرك، و استدلّ عليه بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (4) ،و كسؤال عائشة عن الحساب اليسير، فقال:

«ذلك العرض»، و كقصّة عدّي بن حاتم في الخيط الأبيض و الأسود، و غير ذلك ممّا سألوا عن آحاد منه، و نحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه، و زيادة على ذلك ممّا لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللّغة بغير تعلّم، فنحن أشدّ النّاس احتياجا إلى التفسير، و معلوم أنّ تفسير بعضه يكون من قبيل [بسط ] الألفاظ الوجيزة و كشف معانيها، و بعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض، انتهى(5).

و قال بعض آخر: علم التفسير عسير يسير، أمّا عسره فظاهر من وجوه، أظهرها أنّه كلام متكلّم لم نصل إلى مراده بالسماع منه، و لا أمكن الوصول إليه، بخلاف الأمثال و الأشعار و نحوها، فإنّ الانسان يمكن علمه به إذا تكلّم بأن يسمع منه أو ممّن سمع منه، و أمّا القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم

ص: 94


1- في الاتقان: أو شروط .
2- في النسخة: و السؤال عن، و ما أثبتناه من الإتقان.
3- الأنعام: 82/6.
4- لقمان: 13/31.
5- الإتقان في علوم القرآن 195:4.

إلاّ بأن يسمع من الرسول صلّى اللّه عليه و آله(1).

أقول: و لذا ورد: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» كما عن الباقر عليه السّلام في رواية (الكافي): بإسناده عن زيد الشّحّام، قال: دخل قتادة على أبي جعفر عليه السّلام فقال: «يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة ؟». فقال:

هكذا يزعمون.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «بلغني أنّك تفسّر القرآن!» قال له قتادة: نعم.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «بعلم تفسّره أم بجهل ؟» قال: لا، بل بعلم.

فقال له أبو جعفر عليه السّلام: «فإن كنت تفسّره [بعلم] فأنت أنت، و أنا أسألك» قال قتادة: بسلني.

قال: «أخبرني عن قول اللّه تعالى في سبأ: وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ (2) ؟»

فقال قتادة: ذلك: من خرج من بيته بزاد و راحلة و كراء حلال يريد هذا البيت، كان آمنا حتّى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «نشدتك باللّه يا قتادة، هل تعلم أنّه قد يخرج الرجل من بيته بزاد و راحلة و كراء حلال، يريد هذا البيت، فيقطع عليه الطريق، فتذهب نفقته و يضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه ؟» قال قتادة: اللّهمّ نعم.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت و أهلكت.

ويحك يا قتادة، ذلك من خرج من بيته بزاد و راحلة و كراء حلال يؤمّ (3) هذا البيت عارفا بحقّنا، فهوانا(4) قلبه، كما قال اللّه تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (5) و لم يعن البيت فيقول:

إليه، فنحن و اللّه دعوة إبراهيم التي من هوانا قلبه قبلت حجّته، و إلاّ فلا. يا قتادة، فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنّم يوم القيامة».

قال قتادة: لا جرم و اللّه، لا فسّرتها إلاّ هكذا.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: «ويحك يا قتادة، إنّما يعرف القرآن من خوطب به »(6).

و عنه عليه السّلام: «ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من تفسير القرآن، إنّ الآية ليكون أوّلها في شيء،

ص: 95


1- الإتقان في علوم القرآن 196:4.
2- سبأ: 18/34.
3- في المصدر: يروم.
4- في المصدر: يهوانا.
5- إبراهيم: 37/14.
6- الكافي 485/311:8.

و آخرها في شيء، و هو كلام متّصل ينصرف(1) على وجوه »(2).

في أنّه لا يجوز العمل بالقرآن إلاّ بعد الفحص عن تفسير

فتحصّل ممّا ذكرنا أنه لا يجوز تفسير المتشابهات و بيان تأويلها إلاّ بالنّصّ المعتبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو أحد من ورّاث علمه من أوصيائه المعصومين عليهم السّلام.

بل قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ في القرآن المجيد ناسخا، و منسوخا، و عامّا اريد به الخاص، و مطلقا اريد به المقيّد، و كذا العكس، فلا يجوز العمل بمحكماته إلاّ بعد الرجوع إلى العلماء بها و هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، فإنّ العلم بجميعها عندهم، و لا حظّ لأحد غيرهم فيها إلاّ من قبلهم، كما روي (الكافي): بإسناده عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السّلام - في حديث - قال: «ما نزلت آية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أقرأنيها، و أملاها عليّ ، فكتبتها بخطّي، و علّمني تأويلها، و تفسيرها، و ناسخها، و منسوخها، و محكمها، و متشابهها [و خاصّها، و عامّها]، و دعا اللّه أن يعلّمني(3) فهمها و حفظها، فما نسيت آية من كتاب اللّه، و لا علما أملاه عليّ فكتبته منذ دعا، و ما ترك شيئا علّمه اللّه من حلال و لا حرام و لا أمر و لا نهي، كان أو يكون (4) ،من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه و حفظته، فلم أنس حرفا واحدا.

ثمّ وضع يده على صدري و دعا اللّه أن يملأ قلبي علما و فهما و حكمة و نورا. فقلت: يا رسول اللّه بأبي أنت و أمّي، مذ دعوت اللّه لي بما دعوت لم أنس شيئا، و لم يفتني شيء لم اكتبه، أو تتخوّف عليّ النسيان فيما بعد؟ فقال: [لا] لست أتخوّف عليك نسيانا و جهلا »(5).

و في ذيل رواية اخرى قريبة من هذه: «و قد أخبرني ربّي أنّه قد استجاب لي فيك و في شركائك الّذين يكونون من بعدك. فقلت: يا رسول اللّه، و من شركائي من بعدي ؟ قال: الذين قرنهم اللّه بنفسه و بي، فقال: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (6).

فقلت: و من هم ؟ قال: الأوصياء منّي إلى أن يردوا [عليّ ] الحوض، كلّهم هادون مهديون (7) ،لا يضرّهم من خذلهم، هم مع القرآن، و القرآن معهم، لا يفارقهم و لا يفارقونه، بهم تنصر امتي و بهم تمطر (8) ،و بهم يدفع عنهم البلاء، و بهم يستجاب دعاؤهم.

ص: 96


1- في العياشي: يتصرّف.
2- تفسير العياشي 39/87:1.
3- في المصدر: يعطيني.
4- زاد في المصدر: و لا كتاب منزل على أحد قبله.
5- الكافي 1/52:1.
6- النساء: 59/4.
7- في العياشي: هاد مهتد.
8- في العياشي: يمطرون.

فقلت: يا رسول اللّه، سمّهم لي. فقال: ابني هذا - و وضع يده على رأس الحسن عليه السّلام - ثمّ ابني هذا - و وضع يده على رأس الحسين عليه السّلام - ثمّ ابن لي(1) يقال له عليّ ، و سيولد في حياتك فأقرأه منّي السّلام، ثمّ تكملة اثني عشر من ولده »(2).

فقلت له: بأبي أنت و امّي، سمّهم لي. فسمّاهم رجلا رجلا. فقال: «فيهم و اللّه - يا أخا بني هلال - مهديّ امّه محمّد، الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا، و اللّه إنّي لأعرف من يبايعه بين الركن و المقام، و أعرف أسماء آبائهم و قبائلهم »(3).

و فيه، بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي [أنّ ] عنده جميع القرآن كلّه، ظاهره و باطنه غير الأوصياء »(4).

و بإسناده، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (5) قال:

«هم الأئمّة عليهم السّلام »(6).

و في (العلل) بإسناده، عنه عليه السّلام أنّه قال لأبي حنيفة: «أنت فقيه أهل العراق ؟» قال: نعم. قال: «فبم تفتيهم ؟» قال: بكتاب اللّه و سنّة نبيّه.

قال: «يا أبا حنيفة، تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته، و تعرف الناسخ و المنسوخ ؟». فقال: نعم.

فقال: «يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين أنزله عليهم، ويلك و لا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا، و ما أراك تعرف(7) من كتابه حرفا، فإن كنت كما تقول، و لست كما تقول، فأخبرني عن قول اللّه تعالى: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ (8) أين ذلك من الأرض ؟» قال: أحسبه ما بين مكّة و المدينة.

فالتفت أبو عبد اللّه عليه السّلام إلى أصحابه، فقال: «تعلمون أنّ النّاس يقطع عليهم ما بين المدينة و مكّة فتؤخذ أموالهم، و لا يأمنون على أنفسهم، و يقتلون ؟» قالوا: نعم. فسكت أبو حنيفة.

فقال: «يا أبا حنيفة، أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (9) أين ذلك من الأرض ؟» قال: الكعبة. قال: «أ فتعلم أنّ الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في

ص: 97


1- في العياشي: له.
2- في العياشي: من ولد محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
3- تفسير العياشي 52/91:1.
4- الكافي 2/178:1.
5- العنكبوت: 49/29.
6- الكافي 2/167:1.
7- في المصدر: ما ورثك اللّه.
8- سبأ: 18/34.
9- آل عمران: 97/3.

الكعبة فقتله، كان آمنا فيها؟» فسكت، الخبر(1).

و روى العامّة أنّه قال عليّ عليه السّلام لقاض (2): «أ تعرف الناسخ من المنسوخ ؟» قال: لا. قال: «هلكت و أهلكت »(3).

إن قلت: يلزم ممّا ذكرت عدم جواز العمل بمحكمات القرآن، لسقوط جميع نصوص الكتاب و ظواهره عن الحجّيّة، للعلم الإجمالي بنسخ بعض أحكامها، و تخصيص بعض عموماتها، و تقييد بعض مطلقاتها، و إرادة المجاز من بعض ظواهرها، مع أنّك ادّعيت جواز العمل بالمحكمات للأدلّة المتقدّمة من الأوامر الواردة بالتمسّك بالكتاب و عرض الشروط و الأخبار المتعارضة عليه، و سيرة المسلمين.

قلنا: بعد الفحص في الروايات المرويّة عن المعصومين عليهم السّلام و تحصيل الناسخ، و المخصّص، و المبيّن، و المقيّد، بمقدار ينطبق عليه المعلوم بالإجمال ينحلّ العلم الإجمالي و تبقى أصالة الظهور و أصالة الحقيقة على حجّيّتها في البقيّة بلا إشكال.

الطّرفة العشرون في تعريف النّسخ و إمكان وقوعه في أحكام اللّه تعالى، و بيان الآيات الناسخة

النّسخ: هو رفع الحكم الثابت في الزمان السابق و إزالته، و لا شبهة في حكم العقل بإمكان وقوعه في أحكام اللّه، و ليس من البداء المحال على اللّه، و لا يلزم منه الجهل الممتنع عليه، و لا التّجهيل القبيح منه.

و قد اتّفقت الشرائع على وقوعه، إذ لم تكن شريعة إلاّ و هي ناسخة لبعض أحكام الشرائع السابقة، و إنّما المقصود هنا بيان الآيات الناسخة، و هي قسمان:

[1] إمّا ناسخة لأحكام الشرائع السابقة، أو الأحكام الجاهليّة التي لم يردع عنها النبي صلّى اللّه عليه و آله في بدو بعثته لمداراة النّاس، و لم ينزل فيها قرآن، و هي كثيرة جدّا.

[2] و إمّا ناسخة لأحكام نزلت بها آيات قرآنية، فكانت الناسخة و المنسوخة في القرآن، ففي هذا

ص: 98


1- علل الشرائع: 5/89.
2- في الإتقان: لقاصّ .
3- الإتقان في علوم القرآن 66:3.

القسم اختلف كثير من الخاصّة و العامّة، و أفرده جمع كثير منهم بالتصنيف.

و لا يذهب عليك أنّ المصطلح في النسخ هو إزالة الحكم الذي يكون ظاهر دليله استمراره بحكم آخر، و على هذا يكون عدّ بعض الآيات التي نزلت في الوعد و الوعيد خارجة عن المصطلح و الحقيقة، فعدّ آية: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ (1) ناسخة لقوله: إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها (2) كما عن بعض، ليس على حقيقته، و كذا عدّ الحكم المغاير للحكم السابق المغيّى بغاية معيّنة بعد بلوغ غايته، كقوله تعالى: فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ (3) فإنّ حكم وجوب الجهاد ليس ناسخا لحكم وجوب العفو و الصّفح، بل هو أمر اللّه الذي كان غاية له.

و الحاصل: أنّه بعد ملاحظة القيود المعتبرة في المعنى الحقيقيّ للنسخ، و ملاحظة المقصود منه، من كون الناسخ و المنسوخ كليهما في القرآن، كان عدد الأحكام المنسوخة فيه قليلا. منها: أربعة أحكام في سورة البقرة:

أحدها: قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (4).

عن (التهذيب) و (الخصال): عن الصادق عليه السّلام، و عن العياشي عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في أهل الذّمّة - أي أهل الكتاب - ثمّ نسخها قوله تعالى:

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ » (5) .

و عن القمّي رحمه اللّه: أنّها نزلت في اليهود، ثمّ نسخت بقوله تعالى: اقتلوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (6).

و اورد عليه بأنّ قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً حكاية للحكم الذي أخذ اللّه الميثاق من بني إسرائيل على العمل به، لأنّه في ضمن آية: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا

ص: 99


1- هود: 118/11 و 119.
2- مريم: 71/19.
3- البقرة: 109/2.
4- البقرة: 83/2.
5- التهذيب 336/115:4، الخصال: 18/275، تفسير العياشي 1809/228:2، و الآية من سورة التوبة: 29/9.
6- تفسير القمي 51:1، و الآية من سورة التوبة: 5/9.

اَلزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (1) .فليس هذا الحكم من أحكام هذه الأمّة حتّى يعدّ من المنسوخ.

و يمكن دفعه بأنّ أخذ الميثاق و العهد المؤكّد من بني إسرائيل على هذه الواجبات التي يحكم العقل بحسنها، دالّ على جريانه في جميع الأعصار على جميع الامم، و لمّا كان المراد من النّاس في مخاطبة بني إسرائيل خصوص قبيلتهم، لأنهم كانوا مأمورين بالجهاد مع غيرهم من الكفّار، كانوا مخصوصين في هذه الأمّة المرحومة بحسن القول و المخاطبة معهم، و سيجيء عند تفسير الآية الكريمة بعض الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيها: قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (2).

عن القمّي، و النعماني رحمهما اللّه و كثير من العامّة، أنّها منسوخة بقوله تعالى في سورة المائدة:

اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلى قوله: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (3).

قال القمّي رحمه اللّه: و ترك قوله: وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا (4) و لا يخفى أنّه قد اختلفت رواياتنا في الناسخ منهما، و ليس في المقام مجال البسط في الكلام.

و ثالثها: قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ (5).

روى العيّاشي و الطّبرسيّ رحمهما اللّه عن الصادق عليه السّلام: «كان في بدو الإسلام إذا مات الرجل أنفق على امرأته من صلب المال حولا، ثمّ اخرجت بلا ميراث، ثمّ نسختها آية الرّبع و الثّمن »(6).

و عنه، و عن الباقر عليهما السّلام: «هي منسوخة، نسختها: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً (7)

و نسختها آيات الميراث »(8).

أقول: يعني نسخت المدّة بآية التّربّص، و النفقة بآيات الميراث، و هي و إن كانت متقدّمة في

ص: 100


1- البقرة: 83/2.
2- البقرة: 221/2.
3- تفسير القمي 72:1، تفسير النعماني: 28، تفسير الطبري 221:2، و الآية من سورة المائدة: 5/5.
4- تفسير القمي 73:1، و الآية من سورة البقرة: 221/2.
5- البقرة: 240/2.
6- تفسير العياشي 530/247:1، مجمع البيان 602:2، تفسير الصافي 248:1.
7- البقرة: 234/2.
8- تفسير العياشي 529/247:1، و مجمع البيان 602:2 عن الصادق عليه السّلام.

الترتيب و التلاوة، إلاّ أنّها متأخّرة في النزول، و يأتي بعض الكلام فيه عند تفسيرها إن شاء اللّه.

و رابعها: قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ .

في (الاحتجاج) عن الكاظم، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام في حديث يذكر مناقب النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (1) فكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة، قوله تعالى: لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2).و قد كانت الآية عرضت على الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث اللّه تبارك اسمه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله، و عرضت على الامم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، و قبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عرضها على امّته فقبلوها، فلمّا رأى اللّه عزّ و جلّ منهم القبول علم أنّهم لا يطيقونها، فلمّا صار(3) إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه فقال: آمَنَ الرَّسُولُ » (4).

إلى أن قال الكاظم عليه السّلام: «ثمّ قال اللّه عزّ و جلّ : أمّا إذا قبلت الآية بتشديدها و عظم ما فيها، و قد عرضتها على الامم فأبوا أن يقبلوها و قبلتها أمّتك، فحقّ عليّ أن أرفعها عن أمّتك، و قال: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (5) الخبر.

و روى الفخر الرازي في تفسيره، عن ابن عبّاس، أنّه قال: لمّا نزلت [هذه] الآية جاء أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف و ناس إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه، كلّفنا من العمل ما لا نطيق، إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه، و أنّ له الدنيا.

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا! (6) قولوا: سمعنا و أطعنا».

و اشتدّ ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولا، فأنزل اللّه: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها فنسخت هذه الآية، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا و يتكلّموا به »(7).

أقول: قد دلّت هذه الرّواية أنّ الرّهط الذين شكوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شدّة الآية لم يكونوا داخلين فيمن قبلها، و لذلك قال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سمعنا و عصينا! قولوا: سمعنا

ص: 101


1- النجم: 9/53 و 10.
2- البقرة: 284/2.
3- في المصدر: فلما أن سار.
4- البقرة: 285/2.
5- الاحتجاج: 220، و الآية من سورة البقرة: 286/2.
6- البقرة: 93/2.
7- تفسير الرازي 125:7.

و أطعنا». و ليس في الرّواية أنّهم قالوا: سمعنا و أطعنا بعد [أن] أمرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذا القول.

و منها: في سورة آل عمران، قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1).

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها، فقال: «منسوخة». قيل: و ما نسخها؟ قال: «قول اللّه:

فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » (2) .

و من طرق العامّة: عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه قال: لمّا نزلت [هذه] الآية، شقّ ذلك على المسلمين، لأنّ حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، و أن يشكر فلا يكفر، و أن يذكر فلا ينسى، و العباد لا طاقة لهم بذلك، فأنزل اللّه تعالى بعد هذه: فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ و نسخت هذه الآية أوّلها، و لم ينسخ آخرها(3).

أقول: المراد من قوله: «و العباد لا طاقة لهم بذلك» هي الطاقة و القدرة العرفيّة، و هي عدم العسر و الحرج في العمل مع بقاء القدرة العقليّة، فيكون حاصل كلامه أنّ اللّه أمر عباده بالتّقوى التي فيها العسر و الحرج، ثم خفّف عنهم بأن أمرهم بالتقوى التي استطاعوها بالاستطاعة العرفيّة، و هي ما لا حرج فيه، فلم يكن في المنسوخ التكليف بغير المقدور حتّى يستدلّ به على جوازه، كما ذهب إليه المشهور من أهل السّنّة.

و منها: في سورة النساء، قوله تعالى: وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (4).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، قال: «هي منسوخة». قيل: كيف كانت ؟ قال: «كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود، ادخلت بيتا و لم تحدّث و لم تكلّم و لم تجالس، و اوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت أو يجعل اللّه لهنّ سبيلا»، قال: «جعل السبيل الجلد و الرّجم »(5).

و عن العيّاشيّ : عنه عليه السّلام: «هي منسوخة، و السبيل [هو] الحدود »(6).

و عن القمّي رحمه اللّه فيها و في الآية التي بعدها: وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (7).

ص: 102


1- آل عمران: 102/3.
2- تفسير العياشي 760/333:1، و الآية من سورة التغابن: 16/64.
3- تفسير الرازي 161:8.
4- النساء: 15/4.
5- تفسير العياشي 903/377:1.
6- تفسير العياشي 902/377:1.
7- النساء: 16/4.

قال: كان في الجاهليّة إذا زنى الرجل يؤذى، و المرأة تحبس [في بيت] إلى أن تموت، ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا (1) الآية.

أقول: لا يبعد أن يكون إطلاق النسخ بالنسبة إلى الآية الاولى على خلاف المصطلح، لأنّ الحكم فيها معنيّ بجعل السبيل، فلا يكون جعل السبيل، و هو الحدود، ناسخا.

و منها: قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (2).

عن العيّاشي، عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «نسختها آية الفرائض »(3).

و عن القمّي رحمه اللّه: هي منسوخة بقوله: يُوصِيكُمُ اللّهُ .. (4).

و في رواية عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: أ منسوخة هي ؟ قال: «لا، إذا حضروا(5) فأعطهم »(6).

أقول: نسخها بلحاظ حكم الوجوب، و عدم نسخها باعتبار الاستحباب.

و منها: في سورة الأنفال، قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً (7).فإنّه نسخ بقوله تعالى: اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ (8).

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام في حديث ذكر فيه الآية، فقال: «نسخ الرجلان العشرة »(9).و عن القمّي ما يقرب منه(10).

و منها: في سورة الأحزاب، قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (11) فإنّه حكى بعض أصحابنا قولا بأنّها منسوخة بقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ (12) و لم أظفر على رواية دالّة عليه.

و منها: في سورة الممتحنة، قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ

ص: 103


1- تفسير القمي 133:1، تفسير الصافي 398:1، و الآية من سورة النور: 2/24.
2- النساء: 8/4.
3- تفسير العياشي 876/371:1 و 878، تفسير الصافي 393:1.
4- تفسير القمّي 132:1، تفسير الصافي 393:1، و الآية من سورة النساء: 11/4.
5- في العياشي: حضرك، و في الصافي: حضروك.
6- تفسير العياشي 877/371:1، تفسير الصافي 393:1.
7- الأنفال: 65/8.
8- الأنفال: 66/8.
9- الكافي 1/69:5، تفسير الصافي 313:2.
10- تفسير القمي 280:1، تفسير الصافي 314:2.
11- الأحزاب: 52/33.
12- تفسير الصافي 198:4، و الآية من سورة الأحزاب: 51/33.

نَجْواكُمْ صَدَقَةً (1) .

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «قدّم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بين يدي نجواه صدقة، ثمّ نسخها قوله: أَ أَشْفَقْتُمْ ...» (2).

و قد استدلّ الخاصّة و العامّة بهذه الآية على فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام على غيره من الصحابة(3) ، و تقريره أنّه سبق سائر الصّحابة إلى العمل بمضمونها، و بعد عمله بها نسخت، فكان نزولها بيانا لأفضليّته عليهم، لمسارعته إلى قبول أوامر اللّه تعالى و العمل بها قبلهم فكان أفضل منهم.

و قال بعض أصحابنا: فيه تكذيب لمن يدّعي من أهل السّنّة أنّ أبا بكر ذا مال، و كان يصرف أمواله في سبيل اللّه، حيث إنّ من بخل بصدقة درهم أو درهمين بين يدي نجوى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و رضي بمفارقته عشرة أيّام و ترك مكالمته، كيف يرضى بإنفاق المال الكثير؟!.

و منها: في سورة المزّمّل، قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ (4).

عن القمّي، عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية: «ففعل ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و بشّر النّاس به، و اشتد ذلك عليهم [و قوله:] عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ و كان الرجل يقوم و لا يدري متى ينتصف الليل، و متى يكون الثلثان، و كان الرجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظه، فأنزل اللّه: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلى قوله]:

عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ .. (5) يقول: متى يكون النّصف و الثّلث، نسخت هذه الآية: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » (6).

و أمّا ما عدّه العامّة من الآيات المنسوخة مضافا إلى ما ذكر، فآيات:

منها: قوله تعالى في سورة النساء: وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (7) قالوا: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و هدمي هدمك (8) ،و سلمي سلمك، و حربي حربك، و ترثني و أرثك، و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السّدس من ميراث الحليف، فنسخ بقوله تعالى: وَ أُولُوا

ص: 104


1- المجادلة: 12/58.
2- تفسير القمي 357:2، و الآية من سورة المجادلة: 13/58.
3- تفسير الطبري 14:28، الكشاف 494:4، الدر المنثور 84:8، تفسير القمي 357:2.
4- المزمل: 20/73.
5- المزمل: 20/73.
6- تفسير القمي 392:2، تفسير الصافي 243:5.
7- النساء 33:4.
8- الهدم - بالفتح -: المهدر من الدماء، يقال: دمه هدم، أي هدر، و الهدم - بالكسر -: كساء من صوف، و الظاهر أنّ المراد الأوّل.

اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ... (1) .

و عن القمّي رحمه اللّه: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ ... نسخت قوله: وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ (2).

و في (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «إذا والى الرجل الرجل فله ميراثه و عليه معقلته »(3).يعني دية جناية خطأه، فتدلّ هذه الرّواية على أنّها غير منسوخة على الإطلاق، و يجمع بينها و بين الروايات السابقة بأنّ آية اولو الأرحام نسخت إطلاق حكمها و قيّدتها بصورة فقد اولي الأرحام، كما عليه الأصحاب.

و قال بعض العامّة: معناه أعطوهم نصيبهم من النّصر، و العقل، و الرفد (4) ،و لا ميراث (5).و على هذا فلا تكون أيضا منسوخة.

و منها: قوله تعالى في سورة البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (6) فكان يحرم عليهم الجماع في اللّيل، مطلقا على قول، أو بعد صلاة العشاء، أو بعد النوم، و هذا حكم صوم أهل الكتاب، فنسخ بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (7) و ببالي أنّ به قال النعماني من أصحابنا(8).

و فيه: أنّه لا دلالة في قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ على حرمة الرّفث في اللّيل للصّائم، و لم يرد في أخبار أهل البيت عليهم السّلام ما يدلّ على إرادة هذا الحكم من التشبيه، بل فيها ما يدلّ على خلافه، حيث إنّه فسّر بأنّ الصوم واجب عليكم كوجوبه على سائر الامم أو على خصوص الأنبياء السّلف.

و ظاهر هذا التّفسير تشبيه الوجوب بالوجوب، لا تشبيه الواجب بالواجب، مع أنّه لم يثبت أنّ من أحكام صوم الذين من قبلهم حرمة الجماع عليهم باللّيل، حتّى يدخل في كيفيّات الصّوم الذي هو في الشّرع الإمساك في النّهار عن الامور المعيّنة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (9).

قال بعض العامّة: كان المسلمون مخيّرين بين الصّوم و الفدية في أوّل الأمر، ثمّ نسخت بقوله

ص: 105


1- تفسير الطبري 34:5، الدر المنثور 510:2، تفسير الصافي 414:1، و الآية من سورة الأنفال: 75/8.
2- تفسير القمي 137:1، تفسير الصافي 414:1، و الآية من سورة النساء: 33/4.
3- الكافي 3/171:7.
4- في تفسير الطبري: و الرفادة.
5- تفسير الطبري 35:5.
6- البقرة: 183/2.
7- البقرة: 187/2.
8- تفسير النعماني: 10.
9- البقرة: 184/2.

تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (1).

و المرويّ عن الصادق عليه السّلام «أنّ المراد بذلك الحامل المقرب، و المرضعة القليلة اللّبن، و الشّيخ و الشّيخة »(2).

و في رواية: «المرأة التي تخاف على ولدها، و الشيخ الكبير »(3).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «الشيخ الكبير، و الذي يأخذه العطاش »(4).

أقول: على هذه الروايات ليست الآية منسوخة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (5).

قال بعض العامّة: إنّها نسخت بآية الميراث(6).

و أنكر النسخ بعض أصحابنا (7).و قد وردت أخبار كثيرة ببقاء حكمه، و إن روى العيّاشيّ عن أحدهما عليهما السّلام أنّها منسوخة بآية المواريث (8) ،إلاّ أنّها محمولة على التّقيّة لموافقتها مذهب العامّة(9).

و يحتمل بعيدا حملها على نسخ الوجوب مع بقاء الاستحباب و الرّجحان.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (10).

قال بعض العامّة: إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (11).

و فيه: أنّ الآية الاولى مخصّصة للثانية لا منسوخة.

و عن (المجمع): إنّها لم تنسخ، لأنّه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال(12).

و منها: قوله تعالى في المائدة: وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ ... (13).

ص: 106


1- صحيح البخاري 34/55:6، سنن أبي داود 2315/296:2 و 2316، سنن النسائي 190:4، و الآية من سورة البقرة: 185/2.
2- تفسير الصافي 201:1.
3- تفسير العياشي 286/184:1، تفسير الصافي 202:1.
4- تفسير العياشي 285/184:1، تفسير الصافي 202:1.
5- البقرة: 180/2.
6- تفسير الطبري: 68/2، تفسير الرازي 61:5.
7- مجمع البيان 483:1.
8- تفسير العياشي 273/180:1.
9- تفسير الصافي 198:1.
10- البقرة: 217/2.
11- الإتقان في علوم القرآن 73:3، و الآية من سورة التوبة: 36/9.
12- مجمع البيان 552:1.
13- المائدة: 2/5.

قال بعض العامة: إنّ هذا الحكم منسوخ بآية القتال(1).

و فيه: أنّه روي عن الباقر عليه السّلام «أنّه لم ينسخ من سورة المائدة شيء...»(2) الخبر. مع أنّه لا وجه للقول بالنسخ مع إمكان التخصيص كما ذكرنا في الآية السابقة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (3).

قالوا: إنّ الآية منسوخة بقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ ... (4).

و فيه: أنّه روي في (التهذيب) عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و [أهل] الإنجيل يتحاكمون إليه، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم»(5) انتهى، و عليه لا تكون منسوخة.

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ (6) قالوا: هي منسوخة بقوله تعالى:

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (7) .

و فيه: أنّ التّخصيص أولى من النسخ، و قد اتّفق النّصّ و الفتوى على جواز شهادة أهل الكتاب إذا كانوا عدولا في دينهم في خصوص الوصيّة في السّفر إذا لم يجد الموصي مسلما(8).

و منها: قوله تعالى في سورة البراءة: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً (9).

قالوا: هي منسوخة بآيات العذر(10).

و فيه: أنّها مخصّصة لا ناسخة، كما يشهد عليه قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ (11).

و منها: قوله تعالى في سورة النّور: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (12).

ص: 107


1- تفسير الطبري 39:6، الإتقان في علوم القرآن 74:3.
2- مجمع البيان 239:3.
3- المائدة: 42/5.
4- الكشاف 635:1، الدر المنثور 83:3، الإتقان في علوم القرآن 74:3، و الآية من سورة المائدة: 49/5.
5- التهذيب 839/300:6.
6- المائدة: 106/5.
7- الإتقان في علوم القرآن 75:3، و الآية من سورة الطلاق: 2/65.
8- الكافي 8/399:7، التهذيب 655/253:6.
9- التوبة: 41/9.
10- الإتقان في علوم القرآن 75:3.
11- النساء: 95/4.
12- النور: 3/24.

قالوا: إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (1).

و فيه: أنّ ظاهر الآية الأولى يدلّ على جواز نكاح الزّاني المسلم للمشركة، و جواز نكاح المشرك الزّانية المسلمة، و الظاهر أنّ هذا الحكم لم يكن في وقت من الأوقات، فلا بدّ من حمل الآية على الزّاني و الزّانية الكافرين، بقرينة قوله: وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .

و من الواضح أنّ حرمة نكاح الزّاني الكافر و المشرك للمؤمنة و نكاح الزانية الكافرة و المشركة للمؤمن غير منسوخة، و روايات أهل البيت و إن كانت متعارضة في جواز نكاح الزّانية قبل التّوبة، إلاّ أنّ الأخبار المانعة غير معمول بها عند المشهور من أصحابنا، فلا بدّ من حملها على الكراهية.

و الحاصل: أنّه لم يثبت من طريق أهل البيت عليهم السّلام نسخ لحكم الآية الاولى، بل الظاهر من الرّوايات العديدة عدمه، و تفسيرها بالمشهورات بالزّنا(2).

و منها: قوله تعالى في تلك السورة: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ (3).

قال بعضهم: إنّها منسوخة، و لم يذكر الناسخ، و أنكره بعض آخر (4).و لم أظفر في رواياتنا ما يدلّ على نسخها.

و منها: قوله تعالى في سورة الأحزاب: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (5).

قالوا: هي منسوخة بقوله تعالى: إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاّتِي الآية(6).

و فيه: أنّه لم أفهم له وجها، و لم يرد فيه خبر.

و منها: قوله تعالى في الممتحنة: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (7).

قال بعض منهم: إنّها منسوخة بآية السّيف (8) ،و بعض آخر: بآية الغنيمة(9).

و منها: قوله تعالى في سورة المنافقون: وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ (10).

ص: 108


1- الإتقان في علوم القرآن 75:3، و الآية من سورة النور: 32/24.
2- راجع: الكافي 6/355:5.
3- النور: 58/24.
4- الإتقان في علوم القرآن 76:3.
5- الاحزاب: 52/33.
6- الإتقان في علوم القرآن 76:3، و الآية من سورة الأحزاب: 50/33.
7- الممتحنة: 11/60.
8- هي الآية الخامسة من سورة التوبة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ....
9- الإتقان في علوم القرآن 76:3.
10- المنافقون: 10/63.

قالوا: منسوخة بآية الزّكاة(1).

و منها: قوله تعالى في سورة التّين: أَ لَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (2).

قالوا: منسوخة بآية السّيف (3) ،و في هذه الآيات الثلاث، و إن كان احتمال النسخ قريبا، إلاّ أنّه لم يرد به نصّ من طرق أصحابنا.

الطرفة الحادية و العشرون في إبطال عدّ نسخ التلاوة من أقسام النسخ

قد عدّ جمع من العامة من أقسام النسخ نسخ التلاوة، و ذكروا لذلك أمثلة من عبارات مرويّة عن عمر و ابنه عبد اللّه و عائشة و غيرهم من الصحابة (4) ،و هذا من الأغلاط المشهورة بينهم، و العبارات المنقولة التي قالوا إنّها من الآيات المنسوخة التلاوة لا تشبه كلمات فصحاء العرب فضلا عن آيات القرآن المجيد. و المتأمّل المنصف يقطع بأنّها ممّا اختلقه المنافقون لتخريب أساس الدّين، و توهين الكتاب المبين، و يؤيّد ذلك بل يشهد عليه أنّه لم ينقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عبّاس و المعتمدين من أصحاب الرّسول رضوان اللّه عليهم أمثال هذه الرّوايات، مع كونهم أعرف بآيات القرآن من غيرهم.

و العجب من بعض العامّة حيث إنّهم أنكروا هذا القسم من النسخ، و نفوا كون هذه العبارات المنقولة من القرآن، مستدلاّ بأنّ الأخبار الواردة أخبار آحاد، و لا يجوز القطع على إنزال القرآن و نسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها، مع أنّ العبارات الباردة المنقولة التي أكثرها رواية ما سمّوه آية الرّجم، من قولهم: (الشيخ و الشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتّة بما قضيا من اللّذّة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم) ممّا ينادي عند كلّ ذي مسكة بأنّه ليس من كلام اللّه المنزل للإعجاز.

بل يستفاد ممّا رواه بعضهم عن عمر أنّه قال: لو لا أن يقول النّاس: زاد عمر في كتاب اللّه، لكتبتها - يعني آية الرّجم - (5) أنّه لم يكن أحد مطّلعا على هذه العبارة التي سمّوها آية، مع أنّ مقتضى كثير من

ص: 109


1- الإتقان في علوم القرآن 71:3.
2- التين: 8/95.
3- الإتقان في علوم القرآن 71:3.
4- راجع: الإتقان في علوم القرآن 81:3-84.
5- مسند أحمد: 29، الاتقان في علوم القرآن 85:3.

رواياتهم أنّه كان يكتب آيات القرآن بشهادة شاهدين(1).

فلعلّ عدم اجترائه على كتابتها في القرآن لعلم جميع الناس بأنّ مثل هذه العبارة ليس بكلام اللّه و لا من آيات القرآن، و أنّه ليس إضافتها إلى الكتاب العزيز إلاّ فرية و بهتان.

الطرفة الثانية و العشرون في أنّ للقرآن المجيد ظهرا و بطنا، و بيان المراد منهما

قد تضافرت أو تواترت الروايات من طرق الخاصة و العامّة في أنّ للقرآن العظيم ظهرا و بطنا.

عن الباقر عليه السّلام أنّه قال في حديث: «يا جابر، إنّ للقرآن بطنا، و للبطن بطن و ظهر، و للظهر ظهر »(2).

و عنه، في رواية اخرى: «ما في القرآن آية إلاّ و لها ظهر و بطن »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسند عامّي: «إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطّلعا»(4) إلى غير ذلك من الروايات.

و الظاهر أنّ المراد من ظهر القرآن ظواهر آياته التي يفهمها كلّ أحد من مدلولاتها المطابقيّة و الالتزاميّة الظاهرة، و من باطنه دلالاته الالتزاميّة الخفيّة و إشاراته الايهاميّة، و لطائفه و دقائقه، و ما يستفاد منه بعموم العلّة أو أقوائيّة الملاك(5) أو خصوصية الكلمات و الحروف، أو بعلم الحساب و الأعداد، فإنّ كلّ واحد من هذه الطرق ممّا يستفاد به من الآيات علوم وفيرة و تكون له بطون كثيرة، كما روي «أنّ للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطن إلى سبعة أبطن »(6).

و قد يطلق على ظهره: التنزيل، و على بطنه: التأويل، كما روي عن الباقر عليه السّلام قال: «ظهره تنزيله، و بطنه تأويله »(7).و إلى ما ذكرنا من معنى الظهر و البطن أشار الصادق عليه السّلام بقوله في رواية: «كتاب اللّه على أربعة أشياء: العبارة، و الإشارة، و اللّطائف، و الحقائق، فالعبارة للعوام، و الإشارة للخواصّ ، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء »(8).

ص: 110


1- الإتقان في علوم القرآن 205:1، كنز العمال 4759/574:2.
2- تفسير العياشي 39/87:1، تفسير الصافي 27:1.
3- تفسير العياشي 36/86:1.
4- إتحاف السادة المتقين/للزبيدي 527:4، تفسير الصافي 28/1.
5- أي قوة الملاك.
6- تفسير الصافي 52:1.
7- بصائر الدرجات: 7/216، تفسير الصافي 27:1.
8- الدرة الباهرة: 31.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من ما من آية إلاّ و لها أربعة معان: ظاهر، و باطن، و حدّ، و مطّلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحدّ هو أحكام الحلال و الحرام، و المطّلع هو مراد اللّه من العبد بها »(1).

و الظاهر من قوله: «و الباطن الفهم» فهم ما وراء الظاهر من العلوم الكثيرة بالطرق المذكورة المعلومة عندهم.

في بيان أنّ علوم النّبيّ و الأئمّة عليهم السّلام جميعا مستفادة من القرآن

بل يستفاد من بعض الأخبار أنّ علوم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه صلوات اللّه عليهم مستفادة من القرآن العظيم، و القرآن مظهر للعلوم غير المتناهية الإلهيّة و مجلاه، و لذا قال الصادق عليه السّلام: «لقد تجلّى اللّه تعالى [لخلقه] في كلامه، و لكنّ النّاس لا يبصرون »(2).

و روي عنه عليه السّلام أنّه سئل: هل عندكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيء من الوحي سوى القرآن ؟ قال: «لا و الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، إلاّ أن يعطى عبد فهما في كتابه »(3).

و الظاهر أنّ المراد من إعطاء الفهم إنارة قلب العبد و تقوية عقله، و جودة ذهنه، و تكميل قوّته النّظريّة، و تعليمه طرق الاستفادة.

و توضيح المقام بمقدار يسعه الافهام أنّه لا شبهة أنّ لكلّ موجود وجودات مختلفة في عالم الألفاظ ، و عالم الذهن، و عالم المثل و الصور، و عالم الحقائق، على اختلاف مراتبها و درجاتها قوّة و ضعفا و سعة و ضيقا، و قد حقّق في محلّه أنّ كلّ عالم مرتبط بالعوالم الاخر و قشر لما فيه مستتر، و لكلّ وجود آثار في عالمه، و لكلّ أثر ملاك و أثر و حكم و مصالح بلا عدّ و مرّ، فمن زكت نفسه، و كملت جودته، ينتقل ذهنه من عالم إلى عالم، و من مناسب إلى مناسب، و من ملزوم إلى لازم، و من مؤثّر إلى أثر، و من أثر إلى أثر ما شاء اللّه، فمن رزقه اللّه فهم كتابه، يصل من ظاهره إلى لبابه، و منها إلى دقائقه، و منها إلى حقائقه، حتّى يبلغ إلى درجة لا يخفى عليه خافية، و يحيط بحقائق الأشياء في عوالمها كما هي.

و قد حكى الفيض رحمه اللّه عن بعض أهل المعرفة ما ملخّصه: إنّ العلم بالشيء إمّا يستفاد من الحسّ

ص: 111


1- تفسير الصافي 28:1.
2- أسرار الصلاة للشهيد الثاني: 140.
3- تفسير الصافي 29:1.

برؤية أو تجربة أو سماع خبر أو شهادة أو اجتهاد أو نحو ذلك، و مثل هذا العلم لا يكون إلاّ فاسدا متغيّرا محسورا(1) متناهيا غير محيط ، لأنّه إنّما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده علم، و قبل وجوده علم آخر، و بعد وجوده علم ثالث و هكذا، كعلوم اكثر النّاس.

و أمّا ما يستفاد من مبادئه و أسبابه و غاياته كان(2) علما واحدا كلّيّا بسيطا محيطا(3) على وجه عقليّ غير متغيّر، فإنّه ما من شيء إلاّ و له سبب و لسببه سبب، و هكذا إلى أن ينتهي إلى مسبّب الأسباب.

و كلّ ما عرف سببه من حيث يقتضيه و يوجبه فلا بدّ أن يعرف ذلك الشيء علما ضروريا دائما، فمن عرف اللّه تعالى بأوصافه الكماليّة و نعوته الجلاليّة، و عرف أنّه مبدأ كلّ وجود و فاعل كلّ فيض وجود، و عرف ملائكته و علم ملائكته(4) المقرّبين، ثمّ ملائكته المدبّرين المسخّرين للأغراض الكلّيّة العقليّة بالعبادات الدائمة و النسك المستمرّة من غير فتور و لغوب، الموجبة لأن يترشّح عنها صور الكائنات، كلّ ذلك على الترتيب السّببي و المسبّبي، فيحيط علمه بكلّ الامور و أحوالها و لواحقها علما بريئا من التغير و الشك و الغلط ، فيعلم من الأوائل الثواني، و من الكلّيّات الجزئيّات المترتّبة عليها و من البسائط المركّبات، و يعلم حقيقة الانسان و أحواله، و ما يكمّلها و يزكّيها و يسعدها، و يصعدها إلى عالم القدس و ما يدنّسها و يرديها و يشقيها و يهويها إلى أسفل سافلين، علما ثابتا غير قابل للتغيير، و لا محتمل لتطرّق الريب، فيعلم الامور الجزئيّة من حيث هي دائمة كلّيّة و من حيث لا كثرة فيه و لا تغيّر، و إن كانت هي كثيرة متغيّرة في أنفسها بقياس بعضها إلى بعض.

و هذا كعلم اللّه سبحانه بالأشياء، و علم ملائكته المقرّبين، و علوم الأنبياء و الاوصياء بأحوال الموجودات الماضية و المستقبلة، و علمهم بما كان و ما سيكون إلى يوم القيامة من هذا القبيل، فإنّه علم كليّ ثابت غير متجدّد بتجدّد المعلومات، و لا متكثّر بتكثّرها، و من عرف كيفيّة هذا العلم، عرف معنى قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ (5) و يصدّق بأنّ جميع العلوم و المعاني في القرآن الكريم عرفانا حقيقيّا و تصديقا يقينيا على بصيرة لا على وجه التقليد و السماع و نحوهما، إذ ما من أمر من الامور إلاّ و هو مذكور في القرآن، إمّا بنفسه أو بمقوّماته و أسبابه و مبادئه و غاياته، و لا

ص: 112


1- في تفسير الصافي: محصورا.
2- (كان) ليس في تفسير الصافي.
3- (محيطا) ليس في تفسير الصافي.
4- (و علم ملائكته) ليس في تفسير الصافي.
5- النحل: 89/16.

يتمكّن من فهم [آيات] القرآن و عجائب أسراره و ما يلزمها من الأسرار(1) و العلوم التي لا تتناهى إلاّ من كان علمه بالأشياء من هذا القبيل، انتهى(2).

و عن معلّى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ و له أصل في كتاب اللّه، و لكن لا تبلغه عقول الرّجال »(3).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتّى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد حتّى [لا] يستطيع عبد يقول: لو كان هذا نزل في القرآن، إلاّ و قد أنزله [اللّه] فيه »(4).

و لا شبهة أنّ العلم ببطون القرآن بالغا ما بلغ مختصّ بالأئمّة الطاهرة، و هم بالقرآن يعلمون، لما كان و ما يكون و ما هو كائن، و ما يمكن أن يعلمه البشر.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ هاهنا - و أشار إلى صدره - لعلما جمّا لو وجدت له حملة »(5).

و روى الغزالي في (الإحياء) و الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء) عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلاّ و له ظهر و بطن، و إنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر و الباطن(6).

و روى النّقّاش في (تفسيره) عن ابن عباس ما يقرب ممّا قال ابن مسعود(7).

في نقل كلام الغزالي في فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام و وفور علمه عليه السّلام

و عن الغزالي قال: قال: أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدخل لسانه في فمي، فانفتح في قلبي ألف باب من العلم، مع كلّ باب» ألف باب إلى أن قال الغزالي: و هذه المرتبة لا تنال بمجرّد التعلّم (8) ،بل يتمكّن المرء في هذه الرّتبة بقوّة العلم اللّدنّيّ (9).

و قال علي عليه السّلام لما حكى عهد موسى على نبينا و آله و عليه السّلام: «إنّ شرح كتابه كان أربعين جملا، لو أذن اللّه و رسوله لي لا تسرع(10) في شرح معاني ألف الفاتحة حتّى يبلغ مثل ذلك» يعني أربعين وقرا أو جملا(11).

ص: 113


1- في تفسير الصافي: من الأحكام.
2- تفسير الصافي 50:1.
3- المحاسن: 355/265، الكافي 6/49:1.
4- الكافي 1/48:1.
5- الخصال: 257/186، نهج البلاغة: 147/496.
6- حلية الأولياء 65:1.
7- مناقب ابن شهرآشوب 43:2.
8- في البحار: العلم.
9- بحار الانوار 104:92.
10- كذا في النسخة و البحار و الظاهر: لاشرع.
11- بحار الأنوار 104:92.

و ذكر أبو عمر(1) الزاهد أنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: «يا ابن عبّاس إذا صلّيت العشاء الآخرة فالحقني إلى الجبّان». قال: فصلّيت و لحقته و كانت ليلة مقمرة.

قال: فقال لي: «ما تفسير الألف من الحمد؟» قال: فما علمت حرفا أجيبه. قال: فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.

قال: ثمّ قال لي: «فما تفسير اللاّم من الحمد؟» قال: فقلت: لا أعلم. فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.

ثمّ قال: «فما تفسير الميم من الحمد؟» فقلت: لا أعلم. قال: فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة.

قال: ثم قال: «ما تفسير الدال [من الحمد]؟» قال: قلت: لا أدري. قال: فتكلّم فيها حتى برق عمود الفجر. قال: فقال لي: «يا ابن عبّاس، قم إلى منزلك و تأهّب لفرضك».

قال أبو العباس عبد اللّه بن عبّاس: فقمت و قد وعيت كلّ ما قال، ثمّ تفكّرت فإذا علمي بالقرآن في علم عليّ كالقرارة في المثعنجر (2) ،انتهى(3).

قالوا: القرارة: الغدير، و المثعنجر: البحر.

و عن عليّ عليه السّلام قال: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب »(4).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عزّ و جلّ حملة، لنشرت التوحيد و الإسلام [و الإيمان] و الدّين و الشرائع من الصّمد »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّي لأعلم خبر السّماء، و خبر الأرض، و خبر ما كان و ما هو كائن، كأنّه في كفّي».

ثمّ قال: «من كتاب اللّه أعلمه، إنّ اللّه يقول: (فيه تبيان كلّ شيء )»(6).

و في رواية عن أبي عبد اللّه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليس شيء أبعد عن عقول(7) الرّجال من تفسير القرآن، و في ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلاّ ما شاء اللّه، و إنّما أراد اللّه بتعميته في ذلك أن

ص: 114


1- في النسخة: أبو عمرو، و هو أبو عمر الزاهد، محمد بن عبد الواحد اللغوي المشهور بغلام ثعلب، المتوفّى سنة 345 ه . راجع: فهرست ابن النديم: 113، تاريخ بغداد 356:2، لسان الميزان 268:5، وفيات الأعيان 329:4.
2- المثعنجر: الماء وسط البحر و ليس في البحر ماء يشبهه، و السيل الكثير، و القراءة: القاع المستدير يجتمع فيه الماء، يقال: علمي إلى علمه كالقرارة في المثعنجر، أي مقيسا إلى علمه كالقاع الصغير موضوعا في جنب البحر.
3- بحار الأنوار 104:92.
4- إحياء علوم الدين 334:1 و 341، أسرار الصلاة للشهيد الثاني: 138.
5- التوحيد: 6/92.
6- تفسير العياشي 2415/18:3.
7- في المحاسن: شيء بابعد من قلوب.

ينتهوا إلى بابه و صراطه، و أن يعبدوه و ينتهوا إلى طاعة القوّام بكتابه، و الناطقين عن أمره، و أن يستنبطوا ما(1) احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم. ثمّ قال: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (2).و أمّا غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا، و لا يوجد.

و قد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر، إذا لا يجدون من يأتمرون عليه، و لا من يبلّغونه أمر اللّه و نهيه، فجعل [اللّه] الولاة خواصّا ليقتدي بهم [من] لم يخصصهم بذلك.

فافهم ذلك إن شاء اللّه، و إيّاك و تأويل القرآن برأيك، فإنّ النّاس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور، و لا قادرين عليه و لا على تأويله، إلاّ من حدّه و بابه الذي جعله اللّه له، فافهم إن شاء اللّه، و اطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء اللّه »(3).

الطرفة الثالثة و العشرون في أنّ جميع القرآن في الأئمة و ولايتهم و وجوب اتّباعهم و شئونهم و شئون أوليائهم و أعدائهم، و توضيحه

قد استفاضت الأخبار عن الأئمّة الأطهار صلوات اللّه عليهم في أنّ جميع القرآن فيهم، و في ولايتهم، و وجوب اتّباعهم، و شئونهم و شئون أوليائهم و أعدائهم.

عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه - عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في حديث ذكر فيه محامد أهل بيته عليهم السّلام - قال: «نحن معدن التنزيل، و معنى التأويل »(4).

و قريب منه ما روي عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في حديث طويل ذكر فيه صفات الإمام(5).

و لا ينافي ذلك ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، قال: «القرآن نزل على أربعة أرباع: ربع فينا، و ربع في عدوّنا، و ربع سنن و أمثال، و ربع فرائض و أحكام، و لنا كرائم القرآن »(6).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «أنّه نزل أثلاثا: ثلثي القرآن فينا و في شيعتنا، فما كان من خير فلنا

ص: 115


1- في النسخة: يستنبطوا لما، و في المحاسن: يستنطقوا ما.
2- النساء: 83/4.
3- المحاسن: 356/268، بحار الأنوار 72/100:92.
4- مشارق أنوار اليقين: 40، بحار الأنوار 38/22:25.
5- مشارق أنوار اليقين: 114.
6- تفسير فرات: 2/46.

و لشيعتنا، و الثلث الباقي اشركنا فيه النّاس، فما كان من شرّ فلعدوّنا »(1).

فإنّ الاختلاف بين الأخبار راجع إلى اختلاف اللّحاظ و الاعتبار، فباعتبار يكون جميع ما ذكر فيه من مدح المؤمنين و ثوابهم، و ذمّ الكفّار و عقابهم راجعا إلى شيعتهم و أعدائهم، و جميع الفرائض و الأحكام مرتبطا بولايتهم، و جميع ما ذكر فيه من قصص الأنبياء و أممهم جاريا فيهم.

عن الكاظم عليه السّلام في قوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ (2) قال: «القرآن له ظهر و بطن، فجميع ما حرّم اللّه في الكتاب هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللّه في الكتاب هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمّة الحقّ »(3).

و عن أبي بصير، قال: قال الصادق عليه السّلام: «يا أبا محمّد، ما من آية تقود إلى الجنّة و يذكر أهلها بخير إلاّ و هي فينا و في شيعتنا، و ما من آية نزلت تذكر أهلها بشرّ و تسوق إلى النّار، إلاّ و هي في عدوّنا و من خالفنا »(4).

و في (التوحيد) بأسانيده: عنه عليه السّلام أنّه قال: «ما من آية تسوق إلى الجنّة إلاّ و هي في النبيّ و الأئمّة عليهم السّلام و أشياعهم و أتباعهم، و ما من آية تسوق إلى النّار إلاّ و هي في أعدائهم و مخالفيهم »(5).

و عن الصادق عليه السّلام و كثير من الصّحابة و التابعين «أنّه ما من آية أوّلها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ بن أبي طالب أميرها و قائدها و شريفها و أوّلها »(6).

و عن (الاحتجاج) عن الباقر عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خطبة يوم الغدير: معاشر النّاس، هذا عليّ (7) أحقّكم بي، و أقربكم إليّ (8) ،و اللّه عزّ و جلّ و أنا عنه راضيان، و ما نزلت آية رضا إلاّ فيه، و ما خاطب [اللّه] الذين آمنوا إلاّ بدأ به، و ما نزلت آية مدح في القرآن إلاّ فيه(9).

معاشر النّاس، إنّ فضائل عليّ عند اللّه عزّ و جلّ ، و قد أنزلها عليّ في القرآن أكثر من أن احصيها في مكان(10) واحد، فمن نبّأكم بها و عرفها فصدّقوه »(11).

أقول: لا ريب في أنّ كلّ ما نزل من الآيات في فضائل عليّ عليه السّلام فهو جار في أوصيائه

ص: 116


1- بصائر الدرجات: 2/141، بحار الأنوار 18/85:92.
2- الأعراف: 33/7.
3- الكافي 10/305:1.
4- الكافي 6/36:8.
5- اعتقادات الصدوق: 95.
6- تفسير فرات: 48-4/51 و 6-9، مناقب الخوارزمي: 198، ذخائر العقبى: 89.
7- زاد في المصدر: انصركم لي و.
8- زاد في المصدر: و أعزكم عليّ .
9- الاحتجاج: 61.
10- في المصدر: مقام.
11- الاحتجاج: 66.

المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين أيضا، كما روي عن الباقر عليه السّلام في حديث، قال: «ظهر القرآن للذين نزل فيهم، و بطنه للذين(1) عملوا بمثل أعمالهم »(2).

و في رواية اخرى: عنه عليه السّلام قال: «و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم، ثمّ مات اولئك [القوم] ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، و لكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض »(3).

و عنه عليه السّلام في رواية، قال في قوله تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (4)«عليّ الهادي، و من الهادي [اليوم]؟» فقلت: أنت جعلت فداك الهادي. قال: «صدقت، إنّ القرآن حيّ لا يموت، و الآية حيّة لا تموت. فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام و ماتوا ماتت الآية لمات القرآن (5) ،و لكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين »(6).

و عن الصادق عليه السّلام: «إنّ القرآن حيّ لا يموت، و إنّه يجري كما يجري اللّيل و النّهار، و كما تجري الشمس و القمر، و يجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا »(7).

و بالجملة: الرّوايات الّتي تدلّ على أنّ جميع القرآن في شأن الأئمّة عليهم السّلام و إيجاب ولايتهم كثيرة جدّا، بل وردت روايات في آيات ظاهرها بيان الأحكام، و باطنها بيان شأنهم، كما روي عن عبد اللّه بن سنان، قال ذريح المحاربيّ : سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ (8) فقال:

«المراد لقاء الإمام عليه السّلام».

[قال عبد اللّه بن سنان]: فأتيت أبا عبد اللّه صلوات اللّه عليه و قلت له: جعلت فداك، قول اللّه عزّ و جلّ : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ؟ قال: «أخذ الشّارب و قصّ الأظفار و ما أشبه ذلك» فحكيت له كلام ذريح، فقال عليه السّلام: «صدق ذريح، و صدقت [أنت]، إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا، و من يحتمل ما يحتمل ذريح !»(9).

قال الفيض: إنّ جماعة من أصحابنا صنّفوا كتبا في تأويل القرآن على هذا النّحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم عليهم السّلام في تأويل آية آية، إمّا بهم أو بشيعتهم أو بعدوّهم على ترتيب القرآن، و قد رأيت منها

ص: 117


1- في تفسير العياشي: الذين.
2- تفسير العياشي 34/86:1.
3- تفسير العياشي 31/85:1، بحار الأنوار 4/115:92.
4- الرعد: 7/13.
5- في العياشي: في الأقوام ماتوا فمات القرآن.
6- تفسير العياشي 2185/379:2.
7- تفسير العياشي 2185/379:2.
8- الحج: 29/22.
9- معاني الأخبار: 10/340.

كتابا كاد يقرب من عشرين ألف بيت(1).

و قد ذكر أصحابنا لذلك أسرارا، أحسنها أنّه تعالى لمّا جعل الأنوار المقدّسة في الخلق مظاهر لصفاته الجلاليّة و الجماليّة بهم عرف اللّه و بهم عبد، فلا يحصل لأحد قرب إلى اللّه إلاّ بالقرب إليهم، و لا الإيمان باللّه إلاّ بالايمان بهم، و لا يعرف اللّه الاّ بمعرفتهم، و لا ينال أحد درجة عند اللّه إلاّ بولايتهم.

فكلّ أمر في القرآن بالإيمان باللّه و بعرفانه و بالقرب إليه، يكون أمرا بالإيمان بهم و بعرفانهم و بالقرب إليهم، و كلّ تكليف جعل مقرّبا إلى اللّه، يكون مقرّبا إليهم، و كلّ مدح يكون للمؤمنين، يكون لهم و لشيعتهم، و كلّ ذمّ و وعيد يكون للكفار و لأعداء اللّه، يكون في الواقع راجعا إلى الكافرين بهم و إلى أعدائهم، و كلّ ما هو راجع إلى اللّه، راجع إليهم، فهم صلوات اللّه عليهم مع اللّه، و اللّه معهم، لا يفارقونه في شيء و لا يفارقهم.

و يشهد لما ذكر الأخبار الواردة في أنّ ولايتهم قرينة ولاية اللّه و توحيده، و أنّهم علّة غائيّة لخلق العالم، و أنّ جميع الأنبياء من أوّل الخلق، كما كانوا مأمورين بدعوة اممهم إلى التوحيد، كانوا مأمورين بدعوتهم إلى الإقرار بولايتهم و معرفة حقوقهم.

في (تفسير الإمام عليه السّلام) أنّه قال: «ولاية محمّد و آل محمّد صلوات اللّه عليهم هي الغرض الأقصى و المراد الأفضل، ما خلق اللّه أحدا من خلقه، و لا بعث أحدا من رسله إلاّ ليدعوهم إلى ولاية محمّد و عليّ و خلفائه صلوات اللّه عليهم، و يأخذ عليهم العهد ليقيموا عليه، و ليعلموا به(2) سائر عوامّ الأمم »(3).

و عن (أمالي الشيخ): عن محمّد بن عبد الرحمن، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ولايتنا ولاية اللّه التي لم يبعث نبيّ قطّ إلاّ بها »(4).

و في (الكافي): عن عبد الأعلى، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ما من نبيّ جاء قطّ إلاّ بمعرفة حقّنا، و تفضيلنا على من سوانا »(5).

و فيه أيضا: عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «ولاية عليّ صلوات اللّه عليه مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، و لم يبعث اللّه رسولا إلاّ بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و وصيّة عليّ عليه السّلام »(6).

ص: 118


1- تفسير الصافي 23:1، منها تأويل الآيات لشرف الدين النجفي، و كتاب الهداية القرآنية إلى الولاية الإمامية للسيد هاشم البحراني.
2- في التفسير: و ليعمل به.
3- التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام: 264/379.
4- أمالي الطوسي: 1412/671.
5- الكافي 4/362:1.
6- الكافي 6/363:1.

و عن (تفسير العياشي )(1):عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام أنّه قال: «من دفع فضل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه [على جميع من بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله] فقد كذّب بالتّوراة و الانجيل و الزّبور و صحف إبراهيم و موسى و سائر كتب اللّه المنزلة، فإنّه ما نزل شيء [منها] إلاّ و أهمّ ما فيه بعد الإقرار(2) بتوحيد اللّه عزّ و جلّ و الاقرار بالنبوّة، الاعتراف بولاية عليّ و الطيّبين من آله عليهم السّلام »(3).

[و عن (أمالي الشيخ): عن جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام،] قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره أن يوصي إلى [أفضل] عشيرته من عصبته، و أمرني أن اوصي، فقلت: إلى من يا ربّ ؟ فقال: إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب، فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة، و كتبت فيها أنّه وصيّك، و على ذلك أخذت ميثاق الخلائق، و مواثيق أنبيائي و رسلي، أخذت مواثيقهم لي بالرّبوبيّة، و لك يا محمّد بالنبوّة، و لعليّ بالولاية »(4).

و عن (كتاب سليم بن قيس الهلاليّ ): عن المقداد رضى اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «و الذي نفسي بيده، ما استوجب آدم أن يخلقه اللّه و ينفخ فيه من روحه، و أن يتوب عليه و يردّه إلى جنّته إلاّ بنبوّتي و الولاية لعليّ بعدي.

و الذي نفسي بيده، ما رأى(5) إبراهيم ملكوت السماوات (6) ،و لا اتّخذه اللّه خليلا إلاّ بنبوّتي و معرفة عليّ بعدي. و الذي نفسي بيده، ما كلّم اللّه موسى تكليما و لا أقام عيسى آية للعالمين إلاّ بنبوّتي و الإقرار لعليّ بعدي. و الذي نفسي بيده، ما تنبّأ نبيّ قطّ إلاّ بمعرفتي(7) و الإقرار لنا بالولاية، و لا استأهل خلق من اللّه النظر [إليه] إلاّ بالعبوديّة له و الإقرار لعليّ بعدي »(8).

و عن جابر الجعفيّ ، عن الباقر عليه السّلام - في رواية طويلة - قال: «فنحن أوّل خلق اللّه، و أوّل خلق عبد اللّه و سبّحه، و نحن سبب خلق اللّه الخلق، و سبب تسبيحهم و عبادتهم من الملائكة و الآدميّين، فبنا عرف اللّه، و بنا عبد اللّه، و بنا وحّد اللّه، و بنا أكرم اللّه من أكرم من جميع خلقه، و بنا أثاب اللّه [من

ص: 119


1- لم نجده في تفسير العياشي، و الظاهر أنّه و هم، فقد ورد في التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام و تأويل الآيات.
2- في تفسير العسكري و تأويل الآيات: الأمر.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 46/88، تأويل الآيات 4/33:1.
4- أمالي الطوسي: 160/104، بحار الأنوار 44/111:38.
5- في المصدر: ما اري.
6- زاد في المصدر: و الأرض.
7- في المصدر: بمعرفته.
8- كتاب سليم: 206.

أثاب]، و بنا عاقب من عاقب، ثمّ تلا قوله تعالى: وَ إِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَ إِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (1) ، و قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (2) فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل من عبد اللّه، و أوّل من أنكر أن يكون له ولد أو شريك، ثمّ نحن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» الخبر(3).

فظهر من جميع ما ذكر أنّ حقيقة الدّين و روح الأحكام؛ معرفتهم و ولايتهم، و جميع الخلق راجع إليهم، فجميع آيات الكتاب تكون فيهم و ما يتعلّق بهم.

الطرفة الرّابعة و العشرون في دفع توهّم استلزام أمر اشتمال القرآن على البطون استعمال اللفظ في أكثر من معنى

قد يتوهّم المتوهّم أنّه يلزم من إرادة المعاني الظاهريّة، و البطون الكثيرة من الآيات، إرادة المعاني الكثيرة من اللّفظ الواحد في استعمال واحد، و قد تقرّر في علم الاصول عدم جوازه، بل امتناعه، و بعد الإحاطة بما ذكرنا سابقا من اختلاف جهات الدلالة و استنباط المعاني منها، يندفع هذا التوهّم، فإنّ الانتقال من اللفظ إلى المعنى، و استفادة المطلب من الكلام، ليس منحصرا في الدلالة بجهة واحدة و وجه فارد، بل كلّما استعملت الجمل المركّبة من المفردات تركيبا مفيدا، فهي تدلّ على معانيها الظاهريّة مطابقة، و على أجزائها العقليّة و الخارجية تضمّنا، و على عللها و أجزاء عللها و شرائطها، إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ، و علّة العلل و معلولاتها، إلى ما شاء اللّه التزاما.

هذا بالنسبة إلى الجملة الواحدة بالنظر إلى الدّلالات الثلاث مع قطع النّظر عن انضمامها إلى الآيات الاخر، و عن الدلالات غير الكلاميّة من كيفية الألفاظ و أعداد حروفها و سائر طرق الاستفادة منها، التي لا يعلمها إلاّ الرّاسخون في العلم.

فبتلك الوجوه يكون لكلّ آية ظاهر، و ظاهرها ظاهر و باطن و باطن باطن إلى ما شاء اللّه، و بها يجمع بين الأخبار المتنافية الواردة في تفسير بعض الآيات كالمختلفات في تفسير قوله تعالى:

وَ رابِطُوا في آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا (4) ففي بعضها أنّ المراد منه

ص: 120


1- الصافات: 165/37 و 166.
2- الزخرف: 81/43.
3- بحار الأنوار 31/20:25.
4- آل عمران: 200/3.

التوقّف في الثغور، و ربط الخيل للتهيّؤ للجهاد (1).و في بعضها الآخر: أنّ المراد الانتظار للصّلاة بعد الصّلاة (2).و ثالث: أنّه لقاء الإمام(3).

فليس التعارض بين الروايات المختلفة الواردة في تفسير آية من قبيل التعارض الذي يجب الرجوع فيه إلى المرجّحات المنصوصة أو غير المنصوصة، و عند فقدها يلتزم بالتوقّف أو التّخيير، فإنّ الجمع الدلاليّ ممكن فيها، و مقدّم على المرجّحات السّنديّة.

و كذا الروايات المختلفة الواردة في شأن نزول الآيات، فإنّها محمولة على تقارن الوقائع، و إنّ جميعها كان سببا للنزول، أو على أنّ النزول كان متكرّرا، فإنّه ممكن، بل واقع، أو على أنّها نزلت عند أوّل واقعة، ثمّ وقعت وقائع اخرى كلّ واحد منها مناسب لمضمون الآية، فقرأها النبي صلّى اللّه عليه و آله عنده فتوهّم الرّاوي نزولها فيه.

نعم، يكون اختلاف الروايات في كيفيّة القراءة من التّعارض الذي ليس فيه جمع دلاليّ بناء على ما هو الحقّ المحقّق من بطلان القول بتعدّد القراءات التي نزل بها جبرئيل، و فساد القول بأنّ القراءات السّبع متواترة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و إنّ الحقّ أنّ القرآن نزل على حرف واحد من عند إله واحد، كما نطقت به بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام (4) ،و لكن لا يمكن إثبات كيفيّة القراءة بخبر الواحد، كما لا يمكن إثبات الآية به، نعم يترتّب عليه على تقدير استجماعه شرائط الحجّيّة الحكم الشرعيّ الذي يكون لمؤدّاه، إن لم تكن القراءة المشهورة متواترة، و إلاّ فلا بدّ من طرح تلك الروايات و القراءة، و العمل بالقراءة المشهورة، و عند ذلك لا فائدة في تلك الأخبار خصوصا مع قولهم صلوات اللّه عليهم «اقرأ كما يقرأ النّاس »(5).

فلا يجوز قراءة السور بالقراءات غير المشهورة في صلاة الفريضة، و لو كانت مرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام بسند صحيح معتبر.

ص: 121


1- الكشاف 460:1، تفسير روح البيان 157:2.
2- تفسير الطبري 148:4، مجمع البيان 918:2، تفسير القرطبي 323:4، تفسير روح البيان 157:2.
3- راجع: الكافي 3/66:2، غيبة النعماني: 13/199، تفسير القمي 129:1، مختصر بصائر الدرجات: 8.
4- راجع: الكافي 12/461:2 و 13، تفسير الصافي 53:1.
5- راجع: الكافي 23/462:2.

الطرفة الخامسة و العشرون في عدم حجّية الأمارات الدّالّة على تفسير الآيات غير المرتبطة بالأحكام الشرعية العملية

لا شبهة في عدم حجّيّة الأمارات الشرعيّة في مورد ليس له بنفسه أو بتوسّط اللوازم العقليّة أو العاديّة حكم شرعيّ عمليّ ، حيث إنّ الحجّيّة إمّا عبارة عن حكم شرعيّ تكليفيّ طريقيّ بترتيب الأحكام العمليّة الواقعيّة على مؤدّى الأمارة الدّالّة عليها أو على وجود موضوعها عند جهل المكلّف بها أو بموضوعها، أو حكم وضعيّ و جعل إنشائيّ ممّن له الحكم.

و الجعل يكون منشأ لاعتبار عقلائي يستتبع الآثار العقليّة من تنجيز الأحكام الشرعيّة الواقعيّة التي تكون مؤدّاها أو العقلائيّة كذلك و لو بالوسائط العقليّة أو العاديّة عند الإصابة و العذر عند الخطأ و الموافقة و التجرّي عند المخالفة، فلا يتصوّر تحقّق مفهوم الحجّيّة و جعلها إلاّ لأمارة كان مؤدّاها حكما عمليا، أو موضوعا(1) ذا حكم و لو بواسطة امور غير شرعيّة، فلا معنى لحجّيّة الأخبار غير العمليّة الواردة في بيان شأن نزول الآيات أو تفسيرها أو بطونها و تأويلها إذا لم يترتّب عليها حكم شرعيّ و لم يكن لها دخل في فهم الآيات الدّالّة على الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة، و لا يجوز ترتيب أثر العلم على تلك الأمارات المجعولة.

و لو كان العلم مأخوذا فيها على جهة الكشف و الطريقيّة، فعلى المكلّف أن يرتّب على الأمارات آثار المعلوم، لا آثار العلم، فعلى هذا لا يجوز الإخبار بتحقّق مؤدّاها لأنّ جواز الإخبار بالواقع من آثار العلم به لا من آثار نفسه، فإنّ دليل الحجّيّة لا يفي بإثبات آثار العلم للأمارة، و إنّما يثبت لها أثر الكشف عن الواقع الذي للعلم، إلاّ أن يقوم دليل غير دليل الحجّيّة على جواز ترتيب أثر العلم على الأمارة.

فعلى هذا لا يجوز الارتماس في الماء للصائم، و لا يجوز الإخبار بأنّ الارتماس مبطل للصّوم في حكم اللّه الواقعي، لأنّه كذب على اللّه و على رسوله إذا كان الكذب هو الإخبار بشيء لا يعلم به.

نعم، له أن يقول: رأيي، أو رأي مقلّدي عدم جواز الارتماس حال الصّوم، أو يقول: مقتضى الأخبار كذا، إلاّ أن يقال: إنّ أقوى دليل حجّيّة الروايات هو بناء العقلاء و سيرتهم على العمل بالخبر الموثوق

ص: 122


1- في النسخة: حكم عمليّ أو موضوع.

به، و كما أنّ سيرتهم قائمة على جواز العمل، كذلك قائمة على جواز الإخبار بالواقع الذي يكون مؤدّاه.

فإذا أخبر أحد بشأن نزول آية، أو تفسيرها، أو تأويلها، أو بحكم من أحكام اللّه الواقعية، ثمّ سئل عن مدرك إخباره، فأجاب بأنّه ورد خبر معتبر به، لا يلام عند العقلاء على إخباره، مع عدم علمه به، و تؤيّده الرواية في جواز الشّهادة على الملك الواقعيّ بالاستصحاب و اليد(1).

و الحاصل: أنّ في الحجج العقلائيّة من خبر الثقة و ظواهر الألفاظ و غيرها سيرتين منهم، إحداهما:

على جواز العمل بمؤدّاها على أنّه الواقع. و ثانيتهما: على جواز الإخبار بالواقع الذي تكون أمارة عليه.

الطرفة السادسة و العشرون في دفع توهّم التناقض و التعارض بين الآيات الكريمة

قد توهّم الجاهلون التناقض في جملة من آيات الكتاب العزيز، و التعارض بين كثير منها، مع بداهة أنّ كلامه تعالى منزّه عن ذلك، قال تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2)

و قد تعرّض جمع من العلماء لذكر الآيات الموهمة لذلك، و لبيان وجه الجمع بينها و دفع التوهّم فيها.

روي عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس رضى اللّه عنه فقال: رأيت أشياء تختلف عليّ من القرآن. فقال ابن عبّاس: ما هو أشكّ ؟! قال: ليس بشكّ ، و لكنّه اختلاف، قال: هات ما اختلف عليك من ذلك.

قال: أسمع اللّه يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (3) و قال: وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً (4) فقد كتموا. و أسمعه يقول: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (5) ثمّ قال:

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (6) .و قال: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... حتّى بلغ طائِعِينَ (7) ثمّ قال في الآية الاخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها (8) ثم قال: وَ الْأَرْضَ

ص: 123


1- وسائل الشيعة 336:27 - باب 17.
2- النساء: 82/4.
3- الأنعام: 23/6.
4- النساء: 42/4.
5- المؤمنون: 101/23.
6- الصافات: 27/37، الطور: 25/52.
7- فصلت: 9/41-11.
8- النازعات: 27/79.

بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (1) .و أسمعه يقول: كانَ اللّهُ (2) ما شأنه يقول: و كانَ اللّهُ ؟ (3).

فقال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أمّا قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فإنّهم لمّا رأوا يوم القيامة أنّ اللّه يغفر لأهل الإسلام، و يغفر الذنوب، و لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، و لا يغفر شركا، جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم، فقالوا: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فختم اللّه على افواههم و تكلّمت أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يودّ الّذين كفروا و عصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض و لا يكتمون اللّه حديثا.

و أمّا قوله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ فإنّه إذا نفخ فى الصّور فصعق من فى السّماوات و من فى الأرض إلاّ من شاء اللّه، فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون، ثمّ نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون و أقبل بعضهم على بعض يتسألون.

و أمّا قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فإن الأرض خلقت قبل السماء، و كانت السماء دخانا فسوّاهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض.

و أمّا قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول: جعل فيها جبلا، و جعل فيها نهرا، و جعل فيها شجرا، و جعل فيها بحورا.

و أمّا قوله: كانَ اللّهُ فإنّ اللّه كان و لم يزل كذلك و هو كذلك عزيز حكيم عليم قدير لم يزل كذلك

أقول: الظاهر أنّ المراد من الجواب الآخر أنّ الزّمان ليس بداخل في مفهوم الفعل وضعا، أو يكون داخلا، و لكن صار منسلخا من الزّمان هنا بالقرينة القطعيّة.

ثمّ قال: فما اختلف عليك من القرآن فهو يشبه(2) ما ذكرت لك. و إنّ اللّه لم ينزل شيئا إلاّ و قد أصاب به الّذي أراد، و لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون(3).

و عن [ابن] أبي مليكه قال: سأل رجل ابن عبّاس رضى اللّه عنه عن فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ (4) و قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (5) فقال ابن عبّاس: هما يومان ذكرهما اللّه في كتابة، اللّه أعلم بهما(6).

ص: 124


1- النازعات: 30/79. (2و3) آل عمران: 179/3.
2- في النسخة: يشبهها.
3- الإتقان في علوم القرآن 88:3.
4- السجدة: 5/32.
5- المعارج: 4/70.
6- الإتقان في علوم القرآن 93:3.

و زاد في رواية اخرى: ما أدري ما هما و أكره أن أقول فيهما ما لا أعلم(1).

قال ابن [أبي] مليكة: فضربت البعير حتّى دخلت على سعيد بن المسيّب، فسئل عن ذلك، فلم يدر ما يقول: فقلت له: أ لا أخبرك بما حضرت من ابن عبّاس ؟ فاخبرته، فقال ابن المسيّب للسائل:

هذا ابن عبّاس قد اتّقى أن يقول فيهما و هو أعلم منّي(2).

و في رواية اخرى عن ابن عبّاس: إنّ يوم الألف هو مقدار سير الأمر و عروجه إليه، و يوم الألف في سورة الحجّ هو أحد الأيّام السّتّة التي خلق اللّه فيها السماوات، و يوم الخميس ألفا هو يوم القيامة (3).

و عن عكرمة، عنه رضى اللّه عنه أنّ رجلا قال له: حدّثني ما هؤلاء الآيات فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ و يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ و قال:

وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ ؟ (3) فقال: يوم القيامة حساب خمسين ألف سنة، و خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام، كلّ يوم يكون ألف سنة. و يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ قال: ذلك مقدار السّير (4) ،انتهى(5).

و قال بعض: إنّ المراد من اليوم في جميع الآيات يوم القيامة، و أنّ الاختلاف باعتبار اختلاف حال المؤمن و الكافر(6).

و قيل: إنّ المراد من ألف سنة سنين الآخرة، و من خمسين ألف سنة سنين الدنيا(7).

و نقل: أنّه سأل رجل بعض العلماء عن قوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (8) فأخبر اللّه أنّه لا يقسم به، ثم أقسم به في قوله: وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (9).فقال: أيّما أحبّ إليك، اجيبك ثمّ أقطعك، أو أقطعك ثمّ اجيبك ؟ فقال: بل اقطعني ثمّ أجبني.

فقال: اعلم أنّ هذا القرآن نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحضرة رجال و بين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا و عليه مطعنا، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلّقوا به و أسرعوا بالرّدّ عليه، و لكنّ القوم علموا و جهلت و لم ينكروا ما أنكرت.

ثمّ قال له: إنّ العرب قد تدخل (لا) في أثناء كلامها و تلغي معناها، و أنشد فيه أبياتا(10).

ص: 125


1- الإتقان في علوم القرآن 93:3.
2- الإتقان في علوم القرآن 93:3.
3- الحج: 47/22.
4- في الإتقان: المسير.
5- الاتقان في علوم القرآن 93:3.
6- الإتقان في علوم القرآن 94:3.
7- مجمع البيان 142:7.
8- البلد: 1/90.
9- التين: 3/95.
10- الإتقان في علوم القرآن 99:3.

و عن بعض العلماء: في المقام كلام ملخّصه: أنّ للاختلاف أسباب.

أحدها: وقوع المخبر به على أحوال(1) مختلفة و تطويرات شتّى، كقوله في خلق آدم مرّة مِنْ تُرابٍ (2) و مرّة مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (3) و مرّة مِنْ طِينٍ لازِبٍ (4) و مرّة مِنْ صَلْصالٍ (5) فهذه ألفاظ مختلفة، و معانيها في أحوال مختلفة، إلاّ أنّ كلّها يرجع إلى أصل واحد و هو التراب.

و كقوله تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (6) في موضع و تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ (7) في موضع، و الجانّ :

الصّغير من الحيّات، و الثعبان: الكبير منها، و ذلك الاختلاف بلحاظ أنّ خلقها خلق الثعبان العظيم، و حركتها و خفّتها كحركة(8) الجانّ و خفّته.

و ثانيها: اختلاف الموضع (9) ،كقوله: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (10) و قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (11) مع قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (12).و ذلك بلحاظ اختلاف الأماكن، لأنّ في القيامة مواقف كثيرة، ففي موضع يسألون، و في آخر لا يسألون.

و قيل: إنّ السؤال المثبت سؤال تبكيت و توبيخ، و المنفيّ سؤال المعذرة و بيان الحجّة.

و قيل: إنّ السؤال الأوّل عن التوحيد و تصديق الرّسل. و السّؤال الثاني عمّا يستلزمه الإقرار بالنبوّات من شرائع الدّين و فروعه.

و كقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (13) مع قوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ (14) فمن الاولى يفهم إمكان العدل، و ممن الثانية عدم إمكانه، فالاولى في توفية الحقوق، و الثانية في الميل القلبيّ ، و ليس في قدرة الإنسان.

أقول: و قريب من هذا الوجه مرويّ عن الصادق عليه السّلام(15).

قال: و كقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ (16) مع قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها (17) فالاولى في الأمر التشريعيّ ، و الثانية في الأمر التّكوينيّ ، بمعنى القضاء و التقدير.

ص: 126


1- في الاتقان: أنواع.
2- آل عمران: 59/3.
3- الحجر: 28/15.
4- الصافات: 11/37.
5- الرحمن: 14/55.
6- الأعراف: 107/7، الشعراء: 32/26.
7- النمل: 10/27، القصص: 31/28.
8- في الإتقان: كاهتزاز.
9- في الاتقان: الموضوع.
10- الصافات: 24/37.
11- الأعراف: 6/7.
12- سورة الرحمن: 39/55.
13- النساء: 3/4.
14- النساء: 129/4.
15- راجع: تفسير القمي 155:1، تفسير العياشي 1130/448:1.
16- الأعراف: 28/7.
17- الإسراء: 16/17.

و ثالثها: الاختلاف في جهتي الفعل، كقوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (1) اضيف القتل إليهم و الرّمي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على جهة المباشرة، و نفاه(2) عنهم و عنه صلّى اللّه عليه و آله باعتبار الأسباب(3).

و رابعها: الاختلاف في الحقيقة و المجاز، كقوله: وَ تَرَى النّاسَ سُكارى أي من الأهوال مجازا، و قوله: وَ ما هُمْ بِسُكارى (4) أي من المسكر حقيقة.

و خامسها: اختلاف الوجه و الاعتبار، كقوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (5) مع قوله تعالى:

خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ (6) فالأول باعتبار زوال المانع، و الثاني باعتبار الخوف.

و كقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ (7) مع قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (8) فيظنّ أنّ الوجل خلاف الطمأنينة، و جوابه أنّ الطمأنينة بانشراح الصّدر بمعرفة اللّه، و الوجل من خوف الزّيغ و الذّهاب عن الهدى(9).

أقول: و كقوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا (10) مع قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (11) فإنّ النسيان في الاولى بمعنى ترك إثابتهم و عدم الأمر لهم بخير، و في الثانية بمعنى عدم الذكر.

و كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (12) مع قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (13) فإنّ النّظر في الأوّل النظر إلى ثوابه، أو إلى ربّهم كيف يثيبهم.

و كقوله تعالى: كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (14) و كقوله: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (15) و قوله: فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (16) مع قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (17)

[فإنّما يعني بقوله لَمَحْجُوبُونَ أي عن ثواب ربّهم يوم القيامة] و إن الذّهاب في قوله تعالى: إِنِّي ذاهِبٌ بمعنى التوجّه و العبادة، و إتيان اللّه بمعنى إرسال العذاب، و كذلك إتيانه بنيانهم [في قوله

ص: 127


1- الأنفال: 17/8.
2- في النسخة: و يفنا.
3- في الاتقان: باعتبار التأثير.
4- الحج: 2/22.
5- سورة ق: 22/50.
6- الإتقان في علوم القرآن 95:3، و الآية من سورة الشورى: 45/42.
7- الرعد: 28/13.
8- الأنفال: 2/8.
9- الإتقان في علوم القرآن 96:3.
10- الأعراف: 51/7.
11- مريم: 64/19.
12- القيامة: 22/75 و 23.
13- الأنعام: 103/6.
14- المطففين: 15/83.
15- الصافات: 99/37.
16- الحشر: 2/59.
17- الحديد: 4/57.

تعالى: فَأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ (1)]بمعنى إرسال العذاب عليهم.

و كقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (2) مع قوله: وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (3) و قد يسمّى الانسان سميعا و بصيرا، فإنّما عنى بالاولى: هل تعلم أحدا اسمه اللّه غير اللّه ؟

و كقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (4) مع قوله: قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (5) فالاولى في موطن من مواطن القيامة، و الثانية في موطن آخر.

روي: أوّلا يفرّ بعضهم من بعض و لا يتكلّمون، و في موطن آخر يستنطقون فيه، فيقولون: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ فيختم على أفواههم و تستنطق الأيدي و الأرجل و الجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم، ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم، فيقولون لجلودهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا (6) إلى آخر الآية.

و ببالي أنّ جميع ما ذكرت مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية طويلة(7).

الطرفة السّابعة و العشرون في أفضلية الكتاب العزيز على سائر الكتب السماوية

لا يداني الكتاب العزيز شىء من الأشياء و كتاب من الكتب في الفضيلة و الشرف، فإنّ فضله على سائر الكتب كفضل اللّه على سائر خلقه، حيث إنّه كلامه الناطق، و نوره السّاطع، مضافا إلى أنّ فضيلة الكتاب بفضيلة ما اشتمل عليه من العلم، و الكتاب المجيد مشتمل على أفضل العلوم، من علم المبدأ و المعاد و المعارف الإلهيّة، و بيان حقائق الامور و الحكم الكامنة في الأشياء و الأحكام الشرعيّة و الآداب الدّينيّة.

عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه: خير الحديث كتاب اللّه(8).

ص: 128


1- النحل: 26/16.
2- مريم: 65/19.
3- الشورى: 11/42.
4- النبأ: 38/78.
5- الأنعام: 23/6.
6- فصلت: 21/41.
7- الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل أجاب فيه عليه السّلام الزنديق الذي ادّعى التناقض في بعض آي القرآن الكريم بجواب مفصّل يزيل الوهم و الشكّ ، رواه الشيخ الصدوق في التوحيد: 5/254 و الطبرسي في الاحتجاج: 240، و عنهما العلامة المجلسي في بحار الأنوار 1/98:93 و: 2/127 و الظاهر أنّ المصنف أورد طرفا منها بالمعنى لا باللفظ ، يشهد له قوله (و ببالي).
8- الإتقان في علوم القرآن 122:4.

و عن ابن عمر، مرفوعا: القرآن أحبّ إلى اللّه من السّماوات و الأرض و من فيهنّ (1).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام) قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ هذا القرآن هو النّور المبين، و الحبل المتين، و العروة الوثقى، و الدرجة العليا، و الشّفاء الأشفى و الفضيلة الكبرى، و السّعادة العظمى، من استضاء به نوّره اللّه، و من عقد به اموره عصمه اللّه، و من تمسّك به أنقذه اللّه، و من لم يفارق احكامه رفعه اللّه، و من استشفى به شفاه اللّه، و من آثره على ما سواه هداه اللّه، و من طلب الهدى في غيره أضلّه اللّه، و من جعله شعاره و دثاره أسعده اللّه، و من جعله إمامه الذي يقتدي به و معوّله الذي ينتهي إليه أدّاه اللّه إلى جنّات النّعيم و العيش السليم »(2).

عن الحارث الأعور، عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه - في رواية - قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أتاني جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد ستكون في امّتك فتنة. قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب اللّه، فيه بيان ما قبلكم من خبر، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم، و هو الفصل ليس بالهزل، من وليه(3)

من جبّار فعمل بغيره قصمه اللّه، و من التمس الهدى في غيره أضلّه اللّه، و هو حبل اللّه المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصّراط المستقيم، لا تزيغه الأهوية، و لا تلبسه الألسنة، و لا يخلق على الرّدّ، و لا تنقضي عجائبه، و لا يشبع منه العلماء، هو الذي لم تلبث(4) الجنّ أن قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ (5).

من قال به صدق، و من عمل به اجر، و من اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم، هو الكتاب العزيز الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » (6).

و من طرق العامّة، عن الحارث، عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يقرب منه(7).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا جمع اللّه الأوّلين و الآخرين، إذا هم بشخص قد أقبل، لم ير قطّ أحسن صورة منه، فإذا نظر إليه المؤمنون - و هو القرآن - قالوا: هذا منّا، هذا أحسن شيء رأيناه. فإذا انتهى إليهم جازهم، ثمّ ينظر إليه الشّهداء حتّى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم، فيقولون: هذا القرآن،

ص: 129


1- الإتقان في علوم القرآن 120:4، كنز العمال 2363/528:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 297/449.
3- في النسخة: ولاه.
4- في العياشي و البحار: لم تكنه.
5- الجن: 1/72 و 2.
6- تفسير العياشي 2/75:1، بحار الأنوار 25/24:92، و الآية من سورة فصلت: 42/41.
7- سنن الدارمي 435:2، سنن الترمذي 2906/172:5.

فيجوزهم كلّهم، حتّى إذا انتهى إلى المرسلين، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم ثمّ ينتهي حتّى يقف عن يمين العرش، فيقول الجبّار: و عزّتي و جلالي، و ارتفاع مكاني لاكرمنّ اليوم من أكرمك، و لأهيننّ من أهانك »(1).

أقول: قد وردت أخبار كثيرة في تمثّل القرآن يوم القيامة بأحسن صورة(2).

و قال بعض المحقّقين: إنّ للقرآن وجودا كتبيّا بين الدّفّتين، و وجودا لفظيّا للقارئ منّا و من المعصومين عليهم السّلام، بل يمكن أن يقال: من الملائكة كجبرئيل عليه السّلام، و وجودا علميّا في لوح النّفس مكتسبا من المرتبتين الاوليين، و وجودا علميّا من إلقاء الرّوح الذي من عالم الأمر إيّاه في القلب بأمر اللّه سبحانه، كما لعلّه يرشد إليه قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (3) أو من انتقاش الألفاظ الغيبيّة في لوح القلب عند مواجهته لها و مقابلته إيّاها، و لعلّه يؤمى إليه قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (4) ،و وجودا عينيا كتبيّا في لوح غيبيّ هو المبدأ لهذه النّقوش الواقعة في لوح القلب، و به يصير القلب مصحفا لوجه أوراقه، و تلك النّقوش كتابته، و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (5) و وجودا لفظيّا عينيّا هو كلام اللّه سبحانه الذي أوجده و أسمعه من شاء من عباده من الملك و النبيّ ، و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (6) و وجودا إجماليّا قبل التفصيل، و لعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ (7).

و هو الأصل، و الباقي تنزّلاته و مراتبه و شئونه، كأصل الشجرة بالنّسبة إلى ساقها و اغصانها، و لعلّ إلى هذه المقامات الإشارة بإطلاق الإنزال و التّنزيل على القرآن في مواضع كثيرة.

ثمّ إنّ لنا صعودا أيضا، فإنّ القرآن اللفظيّ الصادر منّا، يتمثّل بمثال و يتشكّل بصورة جوهري في عالم أرفع من هذا العالم على ما تحقّق و ثبت في محلّه بالآيات و الأخبار الكثيرة الواردة في الموارد الكثيرة، المعتضدة بالاستبصارات العقليّة و غيرها من أنّ الأعمال الحسنة و السيّئة تتجسّم و تتمثّل و تبقى في عالم البرزخ مع الميّت، و قراءة القرآن منها بل من اولى أفرادها بهذا الحكم، و كتابة القرآن أيضا عمل يتجسّم كذلك، فيتحقّق في القرآن قوسان: قوس نزول ينتهي إلى وجوده اللّفظيّ و الكتبيّ

ص: 130


1- الكافي 14/440:2.
2- راجع الكافي 11/439:2.
3- الشعراء: 193/26 و 194.
4- العنكبوت: 49/29.
5- الواقعة: 77/56-79.
6- الزمر: 23/39.
7- هود: 1/11.

الواقع في هذه النشأة، و قوس صعود واقع في عالم البرزخ، كما هو الحال في حقيقة الإنسان.

ثمّ إنّ حقيقة القرآن ليست مقصورة على عالم الألفاظ و النّقوش الواقعة في عالم الملك و الملكوت، بل مداليل الكلمات القرآنيّة أولى بالدخول في حقيقة القرآن منها، و لها وجود في عالمها، فهي أيضا يصحّ أن تعدّ مقاما آخر له، و مراتبه المعنويّة تنتهي إلى حقيقة الاسم الالهي الذي هو المبدأ للقرآن، و يشبه أن يكون هو حقيقة اسم الهادي و النّور الذي ربّما أطلق اسمه على القرآن في مواضع.

ثمّ إنّ عالم القيامة الكبرى لمّا كان يوم الجمع بين العوالم، و يوم إبلاء السّرائر، و إظهار المكنونات، و إبراز الامور الغيبيّة بصور حسّيّة مطابقة لها حتّى تتوافق النّشآت و العوالم لينبئهم بما عملوا، و لتبلى كلّ نفس ما كسبت، و يحصد كلّ زارع ما زرع، و الزرع تابع للبذر، لزمه أن(1) ينزّل القرآن من عالم الغيب إلى ظاهر عالم القيامة مصورا بصورة حسنة حتّى يوافق حسنه المعنويّ ، لأنّه أحسن ما يكون، و له بهاء و جمال و نور حسّيّ ، كما أنّ هذه الصّفات اليوم في عالم الغيب على وجه غيبيّ ، فإنّ الدنيا بمنزلة الامّ للآخرة.

ثمّ إنّه لا بدّ و أن يمرّ على صفوف المؤمنين كما يمرّ على قلوبهم و نفوسهم في دار الدنيا ليطابق الظاهر الباطن، و القالب الروح، و الصورة المعنى، مبتدئا المرور من الأدنى إلى الأعلى، لأنّه سالك في الاستكمال متوجّه إلى ربّ العزّة، فيلزمه الكون مع النّازل قبل الكون مع الكامل، و أن يكون مع كلّ صنف منهم بصورة ذلك الصّنف، لأنّه عند كلّ منهم واقع في مرتبتهم بزيادة بهاء و جمال و نور، لعدم مخالطته بما يضادّ هذه الصّفات من ظلمة و كدورة، و لأنّهم لا يدركون منه إلاّ المقدار الذي كان لهم في الدنيا، و منه الشأن المتعلّق بصفتهم و مقامهم و حالهم، كما أنّ كلاّ منهم حال قراءته للقرآن يشاهد المعنى الموافق لمقامه من الظاهر و الباطن و باطن الباطن.

و إن كان الكامل مشتملا على الناقص فلا بدّ و أن يظنّ كلّ صنف منهم أنّه منهم كما كانوا يظنّون في الدنيا أنّه بيان طريقتهم و صفة حالهم، و أن يعرفه كلّ منهم بنعته و صفته عند المواجهة، كما كان يعرف ذلك المقدار في دار الدّنيا من القرآن و معانية، إذ القدر الظاهر منه في كلّ مقام يساوي ذلك المقام.

و لو لم يعرف أهل الصّنف ذلك القدر الظاهر، لم يكونوا من أهل ذلك المقام، إلى أن ينتهي إلى

ص: 131


1- في النسخة: مصوّرة.

ربّ العزّة إلى آخر قوسه الصّعوديّ ، فيسجد صورة كما سجد بالخضوع المطلق و الفناء معنى، و قد كان مصير القرآن إليه سبحانه في النّشأة الاولى.

الطرفة الثامنة و العشرون في أفضلية تعلّم القرآن و تعليمه على سائر الأعمال و العبادات

قد ظهر ممّا ذكر في فضل القرآن أنّ تعليمه و تعلّمه من أفضل الأعمال مضافا إلى روايات كثيرة دالّة على فضلهما و كثرة الثّواب عليهما.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تعلّموا القرآن - إلى أن قال: - و يكسى أبواه خلّتين إن كانا مؤمنين، ثمّ يقال لهما: هذا لما علّمتماه القرآن »(1).

و في حديث أبي ذرّ: لأن تغدو فتتعلّم آية من كتاب اللّه خير لك من أن تصلّي مائة ركعة(2).

و عن أبي هريرة: ما من رجل يعلّم ولده القرآن إلاّ توّج يوم القيامة بتاج في الجنّة(3).

و في رواية عن عثمان: إنّ أفضلكم من تعلّم القرآن و عمل به(4).

و في رواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من تعلّم منه حرفا ظاهرا كتب اللّه له عشر حسنات، و محا عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات».

قال: «لا أقول بكلّ آية، و لكن بكلّ حرف باء أو ياء أو شبههما »(5).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: من تعلّم كتاب اللّه ثمّ اتّبع ما فيه، هداه اللّه به من الضّلالة، و وقاه يوم القيامة سوء الحساب(6).

و عن سعد الخفّاف، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «تعلّموا القرآن، فإنّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق - إلى أن قال: - حتّى ينتهي إلى ربّ العزّة فيخرّ تحت العرش فيناديه تبارك و تعالى: يا حجّتي في الأرض، و كلامي الصادق النّاطق، ارفع رأسك، و سل تعط ، و اشفع تشفّع [فيرفع رأسه، فيقول اللّه تبارك و تعالى]: كيف رأيت عبادي ؟ فيقول: يا ربّ منهم من صانني و حافظ عليّ و لم

ص: 132


1- الكافي 3/441:2.
2- الإتقان في علوم القرآن 124:4.
3- الإتقان في علوم القرآن 123:4.
4- الإتقان في علوم القرآن: 123:4، و فيه: القرآن و علّمه.
5- الكافي 6/448:2.
6- الاتقان في علوم القرآن 124:4.

يضيّع شيئا، و منهم من ضيّعني و استخفّ بي(1) و كذّب بي، و أنا حجّتك على جميع خلقك. فيقول اللّه عزّ و جلّ : و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لأثيبنّ اليوم عليك أحسن الثّواب، و لاعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب» الخبر(2).

قيل: إنّ سجدة القرآن كناية عن فنائه في اللّه، و رفع رأسه كناية عن بقائه به بعد فنائه فيه، و كما أنّه كان في الدّنيا مقرّبا للعباد إلى اللّه، و سببا لشمول رحمته لهم و دفع عذابه عنهم في الدنيا، يكون شفيعا لهم إلى اللّه و وسيلة وسائلا لثوابه العظيم عليهم، و دفع عذابه عنهم في الآخرة.

عن الشيخ، بإسناده: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: خياركم من تعلّم القرآن و علّمه »(3).

و عن عقبة بن عمّار، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يعذّب اللّه قلبا وعى القرآن »(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ هذا القرآن مأدبة اللّه، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم، إنّ هذا القرآن حبل اللّه، و هو النّور المبين »(5).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا قال المعلّم للصبيّ : قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبيّ : بسم الله الرحمن الرحيم، كتب اللّه براءة للصبيّ ، و براءة لوالديه و براءة للمعلّم من النّار »(6).

و عن (المجمع): عن معاذ، قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ما من رجل علّم ولده القرآن إلاّ توّج اللّه أبويه يوم القيامة بتاج الملك، و كسيا حلّتين لم ير النّاس مثلهما »(7).

و في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال في خطبة له: «و تعلّموا القرآن [فإنّه أحسن الحديث و تفقّهوا فيه] فإنّه ربيع القلوب »(8).

و عن عليّ بن ابراهيم: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتّى يتعلّم القرآن، أو أن يكون في تعليمه »(9).

و الظاهر من جميع هذه الرّوايات تعلّم عبارات آياته و كيفيّة قراءته، إلاّ أنّه يحتمل شمول كثير منها تفاسيرها و بطونها، و جميع العلوم الراجعة إليها، فإنّ تعلّم جميعها تعلّم القرآن، و قد صرّح بعض أصحابنا بوجوب تعلّم القرآن و تعليمه كفاية، و هو الحقّ ، لا أحتمل فيه خلافا بين المسلمين.

ص: 133


1- في الكافي: و استخف بحقي.
2- الكافي 1/436:2، بحار الأنوار 16/319:7.
3- أمالي الطوسي: 739/357، بحار الأنوار 2/186:92.
4- أمالي الطوسي: 7/6.
5- مجمع البيان 85:1، كنز العمال 2356/526:1.
6- مجمع البيان 90:1.
7- مجمع البيان 75:1.
8- نهج البلاغة: 164 الخطبة 110.
9- الكافي 3/444:2، عدة الداعي: 7/287.

الطرفة التاسعة و العشرون في أنّ حفظ القرآن من أهمّ العبادات

حفظ القرآن من أهمّ العبادات، و أوكد المستحبّات، في (الوسائل): عن عقبة بن عمّار، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يعذّب اللّه قلبا وعى القرآن »(1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ القرآن حتّى يستظهره و يحفظه، أدخله اللّه الجنة، و شفّعه في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد وجبت لهم النّار »(2).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ القرآن و هو شاب مؤمن، اختلط بلحمه و دمه، و جعله اللّه مع السّفرة الكرام البررة، و كان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة »(3).

أقول: لا يبعد أن يكون المراد من اختلاط القرآن باللّحم و الدّم حفظه، كما قال عليه السّلام في رواية اخرى: «حافظ القرآن العامل به مع السّفرة الكرام البررة »(4).

و يحتمل أن يكون المراد حفظ ألفاظه مع حفظ معانيه، و الإيمان به، و العمل بموجبه، و التخلّق بما فيه من الأخلاق الإلهيّة و الآداب الشرعيّة، فيكون أهل القرآن، كما في رواية الكلينيّ ، بسنده عن السّكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميّين ما خلا النّبيّين و المرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإنّ لهم من اللّه العزيز الجبّار لمكانا [عليّا ]»(5).

و ما رواه الطّبرسيّ : عن النبيّ قال: «أهل القرآن هم أهل اللّه و خاصّته »(6).

و في حديث عقبه بن عامر، عن النبيّ : «لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النّار».

قال أبو عبيد (7):أراد بالإهاب قلب المؤمن و جوفه الذي قد وعى القرآن(8).

و في حديث أمير المؤمنين عليه السّلام: «من قرأ القرآن و استظهره فأحلّ حلاله، و حرّم حرامه، أدخله اللّه الجنّة، و شفّعه في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد وجبت لهم النّار »(9).

أقول: الظاهر أنّ المراد من قوله: فاستظهره حفظه و جعله في ظهر قلبه، كما أنّ الظاهر من حمل

ص: 134


1- أمالي الطوسي: 7/6.
2- مجمع البيان: 85:1.
3- الكافي 4/441:2.
4- الكافي 2/441:2.
5- الكافي 1/441:2.
6- مجمع البيان 84:1.
7- في النسخة: أبو عبيدة، و هو أبو عبيد القاسم بن سلاّم الهروي المتوفّى سنة 224 ه .
8- الإتقان في علوم القرآن 121:4.
9- الإتقان في علوم القرآن 123:4.

القرآن ذلك.

عن الصّدوق، بإسناده: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أشراف امّتي حملة القرآن و أصحاب اللّيل »(1).

و الظاهر أنّ المراد بأصحاب اللّيل الذين يسهرون اللّيل بتلاوة القرآن و القيام بالعبادة.

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «حملة القرآن المخصوصون برحمة اللّه، الملبسون نور اللّه، المعلّمون كلام اللّه، المقرّبون عند اللّه، من والاهم فقد والى اللّه، و من عاداهم فقد عادى اللّه» الخبر(2).

أقول: لمّا كان حفظ القرآن عن معرفة و إيمان مورثا لنورانيّة القلب و انشراح الصّدور و انبساط الرّوح و تهذيب النّفس، كان أجره مسانخا له في القيامة من كون الحافظ مغمورا في نور اللّه، مخصوصا برحمة اللّه، موسوما بكلام اللّه، مقرّبا عند اللّه.

ثمّ لا شبهة أنّ حفظه بمشقّة و كلفة أعظم أجرا من حفظه بسهولة، لعموم قوله: «إنّ أفضل الأعمال أحمزها»(3) و لخصوص ما روي عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ الذي يعالج القرآن و يحفظه بمشقّة منه، و قلّة حفظ ، له أجران »(4).

و من الأسف أنّ هذه العبادة الفاضلة صارت متروكة في زماننا هذا بعد شيوعها في الأزمنة السابقة، بحيث كان غير الحافظ له موهونا بين المسلمين على ما قيل.

الطرفة الثلاثون في ثواب تلاوة القرآن العظيم

لتلاوة الكتاب الكريم ثواب عظيم و فضل جسيم.

عن الصادق عليه السّلام في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام قال: «و عليك بتلاوة القرآن على كلّ حال »(5).

و عنه عليه السّلام في حديث: «و من قرأ نظرا في غير صلاة(6) كتب اللّه له بكلّ حرف حسنة و محا عنه سيّئة، و رفع له درجة - إلى أن قال: - و من قرأ حرفا و هو جالس في صلاة، كتب اللّه له به خمسين حسنة و محا عنه خمسين سيّئة، و رفع له خمسين درجة. و من قرأ و هو قائم في صلاته، كتب اللّه له مائة

ص: 135


1- الخصال: 21/7.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 1/13.
3- النهاية 440:1، و أحمزها: أي أقواها و أشدها.
4- الكافي 1/443:2.
5- الكافي 33/79:8.
6- في الكافي: من غير صوت.

حسنة و محا عنه مائة سيئة، و رفع له مائة درجة. و من ختمه كانت له دعوة مستجابة، مؤخّرة أو معجّلة».

قال: قلت: جعلت فداك، ختمه كلّه ؟ قال: ختمه كلّه(1).

و عنه عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في رواية، قال: «يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل، شاحب اللون، فيقول له: أنا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك و أظمأت هواجرك، و أجففت ريقك، و أسبلت دمعك (2)- إلى أن قال: - فأبشر فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، و يعطى الأمان بيمينه، و الخلد في الجنان بيساره، و يكسى حلّتين، ثمّ يقال له: اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية صعد درجة» الخبر(3).

و عن الكلينيّ رحمه اللّه بسنده: عن حفص، قال: سمعت موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول في حديث: «إنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن. يقال له: اقرأ و ارق، فيقرأ ثمّ يرقى »(4).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية رقى درجة»(5) إلى غير ذلك.

و لعلّ السّرّ في ذلك أنّ في كلّ آية علما و نورا و معرفة و هداية و دعوة إلى اللّه، فبالتمسّك بكلّ منها، و المعرفة بها، و التخلّق بموجبها، و العمل بها، يحصل للعبد درجة في كمال النّفس و القرب إلى اللّه، و بالتمسّك بجميعها نهاية الكمال و منتهى القرب إليه سبحانه، و لمّا كانت درجات الجنّة على حسب مراتب كمال العبد و قربه، و مطابقا لها، بل هي معانيها و أرواحها، و الآثار المترتّبة عليها، كانت درجات الجنّة بعدد الآيات.

عن الزهريّ ، قال: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: أيّ الأعمال أفضل ؟ قال: «الحالّ المرتحل».

قلت: و ما الحالّ المرتحل ؟ قال: «فتح القرآن و ختمه، كلّما جاء بأوّله ارتحل بآخره »(6).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ مائة آية يصلّي بها في ليلة، كتب اللّه له بها قنوت ليلة. و من قرأ مائتي آية في غير صلاة [لم يحاجّه القرآن يوم القيامة، و من قرأ خمسمائة آية في يوم و ليلة في صلاة النهار و] اللّيل، كتب اللّه له في اللوح [المحفوظ ] قنطارا من الحسنات، و القنطار ألف و مائتا اوقيّة،

ص: 136


1- الكافي 6/448:2.
2- في الكافي: و أسلت دمعتك.
3- الكافي 3/441:2.
4- الكافي 10/443:2.
5- أمالي الصدوق: 586/440.
6- الكافي 7/442:2.

و الاوقيّة أعظم من جبل احد »(1).

و عن عليّ بن بابويه، بسنده، عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، و من قرأ مائتي آية كتب من القانتين، و من قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن »(2).

و عن (المجمع) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل العبادة قراءة القرآن »(3).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه صلوات اللّه عليهم - في رواية -: «و من قرأ القرآن ابتغاء وجه اللّه و تفقّها في الدّين، كان له من الثواب مثل ما اعطي(4) الملائكة و الأنبياء و المرسلون »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام - في حديث - قال: «ما من عبد من شيعتنا يتلو القرآن في صلاته قائما، إلاّ و له بكلّ حرف مائة حسنة، و لا قرأ في صلاته جالسا، إلاّ و له بكلّ حرف خمسون حسنة، و لا في غير صلاة إلاّ و له بكلّ حرف عشر [حسنات ]»(6).إلى غير ذلك من الرّوايات.

و لعلّ اختلاف مراتب الثّواب باختلاف مراتب الإيمان و المعرفة و التّدبر، ففي مرتبة يكون ثواب كلّ حرف حسنة، و في مرتبة عشر حسنات، هذا مضافا إلى أنّ لذّة تلاوة كتاب اللّه للمؤمن العارف المتدبّر أعلى و أتمّ من كلّ لذّة، فإنّه يرى نفسه حاضرا في مجلس القرب، فيخاطبه ربّه و مليكه و يشافهه بأحسن كلام، و ألطف بيان، ثمّ إنّ لكلّ سورة من السّور ثوابا خاصّا و فضيلة مخصوصة، سنذكره إن شاء اللّه بعد إتمام تفسير كلّ منها.

الطرفة الحادية و الثلاثون في آداب تلاوة الكتاب الكريم

آداب تلاوة الكتاب العزيز كثيرة:

أحدها: أن يكون التّالي متطهّرا حال التّلاوة، عن ابن فهد رحمه اللّه قال: قال عليه السّلام: «لقارئ القرآن بكل حرف يقرؤه في الصّلاة قائما مائة حسنة، و قاعدا خمسون [حسنة]، و متطهّرا في غير الصّلاة خمس و عشرون حسنة و غير متطهّر عشر حسنات» الخبر(7).

و لعلّ السرّ أنّ المتطهّر أقرب إلى الاستفاضة بأنوار القرآن من المحدث، كما أنّ طاهر القلب أقبل

ص: 137


1- الكافي 9/455:2.
2- معاني الأخبار: 96/410.
3- مجمع البيان 84:1.
4- في عقاب الأعمال: مثل جميع ما يعطى.
5- عقاب الأعمال: 293.
6- الكافي 260/214:8.
7- عدة الداعي: 8/287.

لفيوضاته.

ثانيها: أن لا يكون عريانا، لما روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه نهى عن قراءة القرآن عريانا(1).

ثالثها: الاستعاذة قبلها، عن (تفسير العيّاشيّ ) عن الحلبيّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن التّعوّذ من الشّيطان عند كلّ سورة يفتتحها؟ قال: «نعم، فتعوّذ باللّه من الشّيطان الرّجيم »(2).

أقول: مقتضى إطلاق قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (3)

استحبابه قبل تلاوة آية أو بعض آية.

رابعها: التّسمية قبل التّلاوة، عن الصادق عليه السّلام: «أغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة، و افتحوا أبواب الطّاعة بالتّسمية »(4).

خامسها: التلاوة في المصحف، و إن كان التّالي حافظا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ القرآن في المصحف [نظرا] متّع ببصره، و خفّف على والديه و إن كانا كافرين »(5).

و عن إسحاق بن عمّار، عنه عليه السّلام قال: جعلت فداك، إنّي أحفظ القرآن عن ظهر قلبي، فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل، أو أنظر في المصحف ؟

قال: فقال عليه السّلام لي: «بل اقرأه و انظر في المصحف، فهو أفضل، أ ما علمت أنّ النّظر في المصحف عبادة »(6).

و عن أبي ذرّ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «النّظر إلى عليّ بن أبي طالب عبادة، و النّظر إلى الوالدين برأفة و رحمة عبادة، و النّظر في الصّحيفة - يعني صحيفة القرآن - عبادة، و النّظر إلى الكعبة عبادة »(7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليس شيء أشدّ على الشّيطان من القراءة في المصحف نظرا »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن الوالدين و إن كانا كافرين »(9).

و لعلّ السرّ في كون النّظر إليه عبادة، أنّ النّظر إلى كتابته يورث نورانيّة في القلب، بل النظر إلى جميع المقدّسات الإلهية و إلى وجه العالم و المؤمن، له هذا الأثر، كما أنّ النّظر إلى وجه الكفّار

ص: 138


1- بحار الأنوار 19/216:92.
2- تفسير العياشي 2427/23:3.
3- النحل: 98/16.
4- دعوات الراوندي: 130/52.
5- ثواب الأعمال: 102.
6- عدة الداعي: 290.
7- أمالي الطوسي: 1016/454.
8- أعلام الدين: 37/368.
9- الكافي 4/449:2.

و العصاة، و ما هو مبغوض عند اللّه كالخمر و الميسر و الأصنام، بل الزخارف الدّنيويّة، يؤثر ظلمة في القلب، و كدورة في النّفس، كأنّه يقتبس الروح من هذه الخبائث خباثة و شقاوة، كما يقتبس من الطيّبات و المقدّسات طيبا و قداسة و سعادة، مع أنّ في النّظر الى المصحف زيادة توجّه القلب إليه، و صرف النّفس عن شغلها بغيره.

سادسها: ترتيل القرآن و تلاوته بمكث و بطاء بلا عجلة و سرعة، عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى:

وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (1) قال: «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: بيّنه تبيانا و لا تهذّه(2) هذّ الشّعر، و لا تنثره نثر الرّمل، و لكن أفزعوا به قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السّورة »(3).

و عن ابن عبّاس، في تفسير الآية: بيّنه تبيانا(4) و أقرأه على هينتك (5) ،ثلاث آيات، و أربعا، و خمسا(6).

و قيل: الترتيل هو أن يقرأه على نظمه و تواليه، و لا يغيّر لفظا و لا يقدّم مؤخّرا(7).

سابعها: تحسين الصوت به، عن الصادق عليه السّلام في تفسير التّرتيل قال: «هو أن تتمكّث فيه، و تحسّن به صوتك »(8).

و عنه عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ شيء حلية، و حلية القرآن الصّوت الحسن »(6).

و عن الرضا عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصّوت الحسن يزيد القرآن حسنا »(7).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام أحسن النّاس صوتا بالقرآن، و كان السّقّاءون يمرّون فيقفون ببابه يسمعون قراءته »(8).

و عن أبي الحسن عليه السّلام قال: ذكر الصّوت عنده، فقال: «إنّ عليّ بن الحسين كان يقرأ، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته »(9).

ثمّ لا يذهب عليك أنّ حسن الصّوت مغاير للغناء الذي هو من الأصوات الملهية المطربة المعهودة عند العرف، و يرجع في تمييزها إليهم، و هو من الكبائر، خصوصا في القرآن.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل

ص: 139


1- المزمل: 4/73.
2- هذّه: قطعه سريعا، و هذّ القرآن: أسرع في قراءته، و هذّ قراءته: إذا أسرع فيها.
3- الكافي 1/449:2.
4- في المجمع: بيانا.
5- الهينة: السكينة. (6و7و8) مجمع البيان 569:10.
6- الكافي 9/450:2.
7- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 322/69:2.
8- الكافي 11/451:2.
9- الكافي 4/450:2.

الكبائر، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النّوح و الرّهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة و قلوب من يعجبه شأنهم »(1).

ثامنها: القراءة بالحزن، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن »(2).

تاسعها: التلاوة: كأنّ التالي يخاطب إنسانا، عن حفص: ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام - إلى أن قال: - فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنسانا(3).

عاشرها: التّفكّر في معاني القرآن، و الاعتبار و الاتّعاظ بما يقتضي الاعتبار و الاتّعاظ و التأثّر.

عن (الكافي) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى، و مصابيح الدّجى، فليجل جال بصره، و يفتح للضّياء نظره، فإنّ التّفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنّور »(4).

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: أ لا اخبركم من الفقيه حقّا - إلى أن قال: - ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه »(5).

حادي عشرها: ختم سورة شرع فيها، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لبلال رضى اللّه عنه: «إذا قرأت السورة فأنفدها »(6).

ثاني عشرها: عدم خلط بعض سورة ببعض سورة اخرى، عن سعيد بن المسيّب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ ببلال و هو يقرأ من هذه السّورة و من هذه السورة، فقال: «يا بلال، مررت بك و أنت تقرأ من هذه السّورة و من هذه السّورة» قال: أخلطت الطّيب بالطّيب. فقال: «اقرأ السورة على وجهها» - أو قال: «على نحوها »(7).

ثالث عشرها: أن يقرأ السورة من أوّلها مستقيما إلى آخرها، لا من آخرها منكوسا إلى أوّلها.

عن ابن مسعود، أنّه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا قال: ذاك منكوس القلب(8).

رابع عشرها: حفظ الآداب العرفية، كترك الضّحك، و العبث، و مكالمة النّاس، و النّظر إلى ما يلهيه.

ص: 140


1- الكافي 3/450:2.
2- الكافي 2/449:2.
3- الكافي 10/443:2.
4- الكافي 5/438:2.
5- معاني الأخبار: 1/226.
6- الإتقان في علوم القرآن 379:1. (7و8) الإتقان في علوم القرآن 378:1.

قال بعض العلماء: يكره قطع القراءة لمكالمة أحد، لأنّ كلام اللّه لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره(1).

خامس عشرها: ترك الإفراط في مقدار القراءة، على ما يظهر من جملة الأخبار.

عن الكليني رحمه اللّه بسنده عن محمّد بن عبد اللّه، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقرأ القرآن في ليلة ؟ قال:

«لا يعجبني أن تقرأه في أقلّ من شهر »(2).

و عن الحسين بن خالد، عنه عليه السّلام قال: قلت له: في كم أقرأ القرآن ؟ فقال: «اقرأه أخماسا، اقرأه أسباعا، أما إنّ عندي مصحفا مجزّى أربعة عشر جزءا »(3).

عن عليّ بن أبي حمزة، قال: سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر، فقال له: جعلت فداك، أقرأ القرآن في ليلة ؟ فقال: «لا». فقال: في ليلتين ؟ فقال: «لا» حتّى بلغ ستّ ليال، فأشار بيده فقال: «ها».

ثمّ قال [أبو عبد اللّه عليه السّلام]: «يا أبا محمّد، إنّ من كان قبلكم من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ القرآن في شهر و أقلّ ، إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة، و لكن يرتّل ترتيلا، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها و تعوّذت باللّه من النّار».

فقال له أبو بصير: أقرأ القرآن في رمضان في ليلة ؟ فقال: «لا». فقال: ففي ليلتين ؟ فقال: «لا». فقال:

«ففي ثلاث ؟» قال: «ها» و أومأ بيده «نعم، شهر رمضان لا يشبهه شيء من الشّهور، له حقّ و حرمة، أكثر من الصّلاة ما استطعت »(4).

سادس عشرها: استشعار الرّقّة، و اللّين، و الوجل، و الدّمعة، دون إظهار الغشية.

عن (مصباح الشريعة) عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: «من قرأ القرآن و لم يخضع للّه، و لم يرقّ قلبه، و لا ينشئ حزنا و وجلا في سرّه، فقد استهان بعظم شأن اللّه، و قد خسر خسرانا مبينا، فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، و بدن فارغ، و موضع خال »(5).

عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: إنّ قوما إذا ذكّروا شيئا من القرآن أو حدّثوا به، صعق أحدهم حتّى ترى أنّ أحدهم لو قطعت يداه و رجلاه(6) لم يشعر بذلك ؟ فقال عليه السّلام: «سبحان اللّه! ذلك من الشّيطان، ما بهذا نعتوا، إنّما هو اللّين، و الرّقّة، [و الدمعة] و الوجل »(7).

ص: 141


1- الإتقان في علوم القرآن 377:1.
2- الكافي 1/451:2.
3- الكافي 3/452:2. و في النسخة: أربعة عشر أجزاء.
4- الكافي 5/452:2.
5- مصباح الشريعة: 28.
6- في الكافي: أو رجلاه.
7- الكافي 1/451:2.

الطرفة الثانية و الثلاثون في بيان ما يستحبّ أن يقال بعد تلاوة بعض الآيات الكريمة

يستحبّ سؤال الجنّة بعد تلاوة آية فيها ذكر الجنّة، و التّعوّذ من النّار عند تلاوة آية فيها ذكرها، و التّسبيح عند آية فيها الأمر به، و السؤال عند آية فيها الأمر به، و الدّعاء بعد آية فيها ذكر الدّعاء، و ذكر قول كان في الآية الأمر به.

عن عوف بن مالك، قال: قمت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، و كان لا يمرّ بآية رحمة إلاّ وقف و سأل، و لا يمرّ بآية عذاب إلاّ وقف و تعوّذ(1).

و عن حذيفة، قال: صلّيت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثمّ النّساء فقرأها، ثمّ آل عمران فقرأها، يقرأ مترسّلا، و كان إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، و إذا مرّ بآية فيها سؤال سأل و إذا مرّ بآية فيها تعوّذ تعوّذ(2).

و عن جابر، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (3) الآية فقال: «اللهمّ أمرت بالدّعاء و تكفّلت بالإجابة، لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد و النّعمة لك و الملك، لا شريك لك، أشهد أنّك فرد أحد صمد، لم تلد و لم تولد و لم يكن لك كفوا أحد، و أشهد أنّ وعدك حقّ و لقاءك حقّ ، و الجنّة حقّ ، و النّار حقّ ، و السّاعة آتية لا ريب فيها، و أنّك تبعث من في القبور »(4).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (5) قال: «سبحان ربّي الأعلى »(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا قرأتم من المسبّحات الأخيرة، فقولوا: سبحان ربّي الأعلى»(7) الخبر(8).

و عن رجاء بن [أبي] الضّحّاك، قال: كان الرضا عليه السّلام في طريق خراسان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مرّ بآية فيها ذكر الجنّة أو النّار بكى و سأل اللّه الجنّة و تعوّذ به من النّار.

ص: 142


1- السنن الكبرى 310:2، الإتقان في علوم القرآن 369:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 369:1.
3- البقرة: 186/2.
4- الإتقان في علوم القرآن 370:1.
5- الأعلى: 1/87.
6- الإتقان في علوم القرآن 369:1.
7- في الخصال: اللّه.
8- الخصال: 10/629.

إلى أن قال: و كان إذا قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ قال سرّا: «اللّه أحد» قال: و لمّا فرغ منها، قال: «كذلك اللّه ربّي(1) ثلاثا».

و كان إذا قرأ سورة الجحد، قال في نفسه سرّا: «يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ » فإذا فرغ منها قال: «ربّي اللّه، و ديني الإسلام» ثلاثا.

و كان إذا قرأ وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ قال عند الفراغ منها: «بلى، و أنا على ذلك من الشاهدين».

و كان إذا قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، قال عند الفراغ منها: «سبحانك اللّهمّ بلى »(2).

و كان يقرأ في سورة الجمعة قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ للّذين اتّقوا (3)وَ اللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ (4).

و كان إذا فرغ من الفاتحة، قال: «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .

و إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال سرّا: «سبحان ربّي الأعلى».

و إذا قرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال: «لبّيك اللّهمّ لبّيك» سرّا(5).

أقول: لا يبعد أنّه وقع في الرّواية سهو من الراوي، فإنّ قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا بعد قوله تعالى: ما عِنْدَ اللّهِ أنسب من ذكره بعد اللهو و التّجارة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فقال: «سبحان ربّي الأعلى» و هو في الصّلاة، فقيل له: أ تزيد في القرآن ؟ قال: «لا، أمرنا بشيء فقلته »(6).

أقول: يستفاد من هذه الرّواية أنّ كلّ أمر في القرآن بقول من إقرار بإيمان، أو تسبيح، أو تحميد، أو توكّل، أو تسليم، أو ذكر أو دعاء، كقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى (7)

أو قوله: اُذْكُرُوا اللّهَ (8) و قوله: وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (9) و قوله: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ (10) و غير ذلك، يستحبّ امتثاله عند تلاوة آيته بأن يقول القارئ: آمنت باللّه و بما انزل إلينا، و سبحان اللّه، و الحمد للّه، و سلام على عبادة الذين اصطفى، و توكّلت على اللّه.

ص: 143


1- في العيون: ربنا.
2- (بلى) ليس في عيون أخبار الرضا عليه السّلام.
3- الظاهر أنّ هذه الزيادة محمولة على التوضيح و البيان لا على أنّها من القرآن، لثبوت سلامته من الزيادة و النقصان.
4- الجمعة: 11/62.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/183:2.
6- الدر المنثور 482:8، كنز العمال 4114/317:2.
7- النمل: 59/27.
8- الأحزاب: 41/33.
9- ابراهيم: 11/14، التغابن: 13/64.
10- البقرة: 136/2.

و لا ينحصر مورد استحباب التّسبيح بسورة الأعلى، بل يستحبّ عند قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السّاجِدِينَ (1) بل يستحبّ عند ذكر التسبيح و التحميد كقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى (2) ، و قوله: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ (3) للرّواية المرويّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

و كذا يستحبّ الصّلاة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند تلاوة آية فيها الأمر بها، للرّواية المذكورة، و لما روي عنه عليه السّلام في رواية: «و إذا قرأتم إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... (4) فصلّوا عليه، في الصّلاة كنتم أو في غيرها »(5).

و كذا يستفاد من الرّوايات أنّ كلّ سؤال يناسب جوابه من التّالي أن يجيبه، كقوله تعالى: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ (6) ،و كقوله تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ (7) بأن يقول: لا نكفر، بل نؤمن بألسنتنا و قلوبنا، أو ما أشبه ذلك من العبارات الّتي تدلّ على الإيمان و اعتقاد الحقّ .

عن جابر، قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الصّحابة فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أوّلها إلى آخرها فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجنّ فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلّما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (8) قالوا: و لا بشيء من نعمتك(9) ربّنا نكذّب، فلك الحمد »(10).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية: «و إذا قرأتم (و التّين) فقولوا في آخرها: و نحن على ذلك من الشّاهدين »(11).

و عن التّرمذي [في حديث]: «من قرأ وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ فانتهى إلى آخرها: أَ لَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (12) فليقل: بلى، و أنا على ذلك من الشّاهدين (13).و من قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى آخرها أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (14) فليقل: بلى و من قرأ وَ الْمُرْسَلاتِ فبلغ إلى قوله (15):فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (16) فليقل: آمنّا باللّه »(17).

ص: 144


1- الحجر: 98/15.
2- الإسراء: 1/17.
3- البقرة: 30/2.
4- الأحزاب: 56/33.
5- الخصال: 10/629.
6- فصلت: 9/41.
7- آل عمران: 101/3.
8- الرحمن: 13/55...
9- في الإتقان: نعمك.
10- الإتقان في علوم القرآن 369:1.
11- الخصال: 10/629.
12- التين: 8/95.
13- الترمذي 3347/443:5.
14- القيامة: 40/75.
15- في النسخة: فبلغ بقوله.
16- المرسلات: 50/77.
17- الإتقان في علوم القرآن 369:1.

و كذا يستحبّ قول (آمين) بعد آية فيها الدعاء للمؤمنين، عن أبي ميسرة: أنّ جبرئيل لقّن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند خاتمة البقرة آمين(1).

و عن معاذ بن جبل، أنّه كان إذا ختم سورة البقرة، قال: «آمين »(2).

و عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا تلا هذه الآية وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (3) وقف ثمّ قال: «اللهم آت نفسي تقواها [أنت وليها و مولاها و خير من زكّاها »(4).

و عن أبي هريرة سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقرأ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قال: اللهم آت نفسي تقواها] و زكّها، أنت خير من زكّاها، أنت وليّها و مولاها» قال: هو في الصلاة(5).

أقول: إنّ هذه الرّوايات إمّا عاميّة أو إماميّة ضعيفة لا يمكن أن يعتمد عليها في إثبات حكم شرعيّ حتى يجوز قصد التّعبّد و الورود بما تضمّنته (6) ،خصوصا في الصلاة، إذا لم يكن من ذكر اللّه، أو من الدعاء، كقول: (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) بعد قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (7).

نعم، يمكن الحكم بالاستحباب بضميمة الرّوايات الدالّة على أن من بلغه شيء من الثّواب فعمله رجاء ذلك الثّواب إلى آخره بناء على إفادتها الاستحباب الشّرعيّ كما هو الظّاهر، فعليه، لا إشكال في ذكرها في الصلاة بقصد التعبّد و الورود، و لو لم يكن من الذكر و الدعاء.

الطرفة الثّالثة و الثلاثون في كراهة ترك تلاوة القرآن لحافظه حتّى يؤدّي إلى النسيان

ذهب بعض العامّة إلى أنّ ترك تلاوة القرآن لحافظه حتّى يؤدّي إلى نسيانه معصية كبيرة، لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «عرضت عليّ ذنوب أمّتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثمّ نسيها». و ما روي أنّه «من قرأ القرآن ثمّ نسيه لقى اللّه يوم القيامة أجذم »(8).

و في (الصحيحين): «تعاهدوا القرآن، فو الذي نفس محمّد بيده لهو أشدّ تفلّتا من الإبل في

ص: 145


1- الإتقان في علوم القرآن 370:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 370:1.
3- الشمس: 7/91 و 8.
4- الدر المنثور 529:8.
5- الدر المنثور 529:8.
6- في النسخة: تضمّنها.
7- الكافرون: 1/109.
8- الإتقان في علوم القرآن 363:1.

عقلها »(1).

و عن (أمالي الصّدوق رضوان اللّه عليه) في مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ألا و من تعلّم القرآن ثمّ نسيه متعمّدا، لقي اللّه [يوم القيامة] مغلولا، يسلّط اللّه عليه بكلّ آية منه حيّة تكون قرينه إلى النّار، إلاّ أن يغفر له »(2).

و يؤيد ذلك قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (3).

هذا ما يمكن أن يستدلّ به لحرمة النسيان، و لم يحضرني في المسألة قول من أصحابنا، و الأظهر كراهة التّرك المذكور لضعف سند ما عدا رواية المناهي، و عدم دلالة بعضها إلاّ على الكراهة، كقوله:

«لقي اللّه يوم القيامة أجذم» بل دلالة ما في (الصّحيحين) على الارشاد بقرينة ذيله، و عدم ربط الآية بالمقام، لأنّ المراد بالنّسيان في قوله: فَنَسِيتَها هو ترك الاعتناء بها، كما أنّ المراد من قوله:

تُنْسى ترك الإثابة، مع معارضة جميعها بما روي عن الهيثم بن عبيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سألته عن رجل قرأ القرآن ثمّ نسيه، - فرددت عليه ثلاثا -: أ عليه فيه حرج ؟ قال: «لا »(4).

و بما رواه عبد اللّه بن مسكان، عن يعقوب الأحمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، إنّه قد أصابني هموم و أشياء لم يبق من الخير إلاّ [و قد] تفلّت منّي منه طائفة، حتّى القرآن، لقد تفلّت منّي طائفة منه. قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن، ثمّ قال: «إنّ الرجل لينسى السّورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتّى تشرف عليه من درجة من بعض الدّرجات فتقول: السّلام عليك، فيقول: و عليك السّلام، من أنت ؟ فتقول: أنا سورة كذا و كذا، ضيّعتني و تركتني، أما لو تمسّكت بي بلغت بك هذه الدّرجة» الخبر (5) ،فإنّ دلالته على عدم الحرمة، لدلالته على دخول الناسي في الجنّة، و سلام القرآن عليه و حرمانه عن الدّرجات العالية واضحة.

و أمّا رواية المناهي فهي محمولة على تقدير صحّة السّند أو وثاقته على النّسيان المسبب عن الإعراض عن القرآن و التّهاون و عدم الاعتناء به و الاستخفاف بشأنه، و هو من أشدّ المعاصي، بل هو في معنى الكفر.

ص: 146


1- الإتقان في علوم القرآن 363:1.
2- أمالي الصدوق: 707/513.
3- طه: 124/20-126.
4- الكافي 5/445:5.
5- الكافي 6/446:5.

و عليه يحمل أيضا إن لم يكن ظاهرا فيه، ما رواه في (البحار) من كتاب (الإمامة و التّبصرة): عن سهل بن أحمد، عن محمّد بن محمّد بن الأشعث، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «عرضت عليّ الذنوب فلم اصب أعظم من ذنب رجل حمل القرآن ثمّ تركه »(1).

و يؤيّده أنّه إذا كان حفظ القرآن مستحبّا، فالظّاهر أن يكون كثرة تعاهده و إبقائه في الحفظ مستحبّا، و بعيد غايته أن يكون واجبا إلاّ أن يدلّ دليل معتبر عليه من إجماع أو نصّ ، و لو كان ذلك الدّليل لعدّه الفقهاء في الواجبات، و لم أجد في كتب أصحابنا رضوان اللّه عليهم من تعرّض له.

الطرفة الرابعة و الثلاثون في كراهة ختم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام لمنافاته للتّدبّر و التّفكر في آياته

قد مرّ في آداب التلاوة كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، و قال جمع بكراهة ختم القرآن العظيم في أقلّ من ثلاثة أيّام(2).

عن ابن مسعود، قال: لا تقرءوا القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام(3).

و عن معاذ بن جبل، أنّه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّام» (5).

أقول: مقتضى هذه الروايات عدم الكراهة في ثلاثة أيّام فما فوقها.

و عن سعيد بن المنذر، قال: قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال: «نعم، إن استطعت »(2).

و عن إبراهيم بن العبّاس، قال: كان الرّضا عليه السّلام يختم القرآن في كلّ ثلاث، و يقول: «لو أردت أن أختمه في أقلّ من ثلاث لختمته، و لكن ما مررت بآية قطّ إلاّ فكّرت فيها، و في أيّ شيء نزلت، و في أيّ وقت نزلت، فلذلك صرت أختم في [كلّ ] ثلاثة أيّام »(3).

ثمّ اعلم أنّ الظاهر من الرّواية أنّ تطويل المدّة لرعاية التّدبّر و التّفكّر في الآيات حيث إنّ تلاوتها

ص: 147


1- جامع الأحاديث: 18، بحار الأنوار 14/189:92، و لم نعثر عليه في كتاب الإمامة و التبصرة. (2و3و4) الإتقان في علوم القرآن 361:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 361:1.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 4/180:2.

من غير تدبّر و تفكّر فيها قليلة النفع، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (1) فإنّه تعالى جعل التدبّر غاية للإنزال، و قال تعالى توبيخا: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (2)

إلى غير ذلك من الآيات.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: أنّ رجلا قال له: إنّي أقرأ المفصّل في ركعة واحدة. فقال: هذّا كهذّ الشّعر، إنّ قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، و لكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع(3).

و عنه رضى اللّه عنه قال: لا تنثروه نثر الدّقل (4) ،و لا تهذّوه هذّ الشّعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا [به] القلوب، و لا يكون همّ أحدكم آخر السورة (5) ،و قد مرّ ما يقرب من ذلك (6).و لذا روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر »(7).

فتبيّن من جميع ذلك أنّ مقدار فضيلة تلاوة القرآن على مقدار تدبّر القارئ، فإنّ تلاوة جزء بتدبّر و تفكّر فيه أفضل من قراءة جزءين أو أكثر في قدر ذلك الزّمان بلا تدبّر و تفكّر و ترتيل.

و حينئذ لو فرضنا قدرة القارئ على ختم القرآن في ليلة واحدة مع حقّ التدبّر فيه، كان فضيلته أزيد من ختمه في ليلتين، فالأخبار النّاهية عن ختمه في ليلة أو ليلتين ناظرة إلى حال نوع المؤمنين، فإنّهم عاجزون عن أداء حقّ تلاوته في أقلّ من ثلاث، و على هذا تختلف المدّة باختلاف قدرة التّالي على الختم مع التدبّر، و لذا اختلفت الأخبار في تقدير المدّة على حسب اختلاف الأشخاص.

عن عبد اللّه بن عمر، قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اقرأ القرآن في شهر». قلت: إنّي أجد قوّة. قال:

«اقرأه في عشر». قلت: إنّي أجد قوّة. قال: «اقرأه في سبع و لا تزد على ذلك »(8).

و في رواية اخرى: قال: يا رسول اللّه، في كم أقرأ القرآن ؟ قال: «في خمسة عشر». قلت: إنّي أقوى من ذلك. قال: «اقرأه في جمعة »(9).

قيل: كان للسّلف في قدر القراءة عادات مختلفة، فأكثر ما ورد في كثرة قراءتهم من كان يختم في اليوم و الليلة ثمان ختمات؛ أربعا في اللّيل، و أربعا في النّهار، و يليه من كان يختم في اليوم و اللّيلة

ص: 148


1- سورة ص: 29/38.
2- محمد صلّى اللّه عليه و آله: 24/47.
3- الإتقان في علوم القرآن 367:1.
4- الدّقل: رديء التّمر و يابسه.
5- الإتقان في علوم القرآن 367:1.
6- تقدّم في الطرفة الحادية و الثلاثين.
7- إقبال الأعمال: 110.
8- الإتقان في علوم القرآن 361:1.
9- الإتقان في علوم القرآن 361:1.

أربعا، و يليه ثلاثا، و يليه ختمتين، و يليه ختمة، و قد ذمّت عائشة ذلك.

نقل عن مسلم بن مخراق، قال: قلت لعائشة: إنّ رجالا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرّتين أو ثلاثا؟ فقالت: قرءوا و لم يقرءوا، كنت أقوم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة التمام فيقرأ بالبقرة و آل عمران و النساء، فلا يمرّ بآية فيها استبشار إلاّ دعا و رغب، و لا بآية فيها تخويف إلاّ دعا و استعاذ(1).

و قال بعض العامّة: إنّه يكره تأخير ختمه أكثر من أربعين يوما بلا عذر، حيث روي أنّ عبد اللّه بن عمر سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: في كم أختم القرآن ؟ قال: «في أربعين يوما »(2).

الطرفة الخامسة و الثلاثون في أنّ لمن ختم القرآن دعوة مستجابة

قد ظهر ممّا سبق من بعض الرّوايات أنّ لمن ختم القرآن دعوة مستجابة.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من طرق العامّة: «من ختم القرآن فله دعوة مستجابة »(3).فعلى المؤمن أن يبالغ في الدّعاء بعد الختمة، و أن يسأل أهم الحوائج و هو غفران الذنوب و النّجاة من النّار.

عن أنس بن مالك [مرفوعا] «من قرأ القرآن و حمد الرّبّ و صلّى على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استغفر ربّه، فقد طلب الخير [مكانه ]»(4).

و قد ورد من طرق أصحابنا (رضوان اللّه عليهم) ادعية كثيرة، منها:

ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرني أن أدعو عند ختم القرآن: اللّهمّ إنّي أسألك إخبات المخبتين، و إخلاص الموقنين، و مرافقة الأبرار، و استحقاق حقائق الإيمان، و الغنيمة من كلّ برّ، و السّلامة من كلّ اثم، و وجوب رحمتك، و عزائم مغفرتك، و الفوز بالجنّة، و النجاة من النّار »(5).

روي عن عاصم، عن زرّ بن حبيش، قال: قرأت القرآن من أوّله إلى آخره في مسجد جامع الكوفة على أمير المؤمنين عليه السّلام - إلى أن قال: - فلمّا بلغت رأس العشرين من (حم * عسق): وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (6) بكى

ص: 149


1- الإتقان في علوم القرآن 360:1.
2- الإتقان في علوم القرآن 362:1.
3- الإتقان في علوم القرآن 384:1.
4- الإتقان في علوم القرآن 384:1.
5- مكارم الأخلاق: 342.
6- الشورى: 22/42.

أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى ارتفع نحيبه، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء، و قال: «يا زرّ، أمّن على دعائي» ثمّ قال:

«اللّهمّ إنّي أسألك إخبات المخبتين..» إلى آخر الدعاء.

ثمّ قال: «يا زرّ، إذا ختمت فادع بهذه، فإنّ حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرني أن أدعو بهنّ عند ختم القرآن »(1).

أقول: يستفاد من قوله: «يا زرّ، أمّن على دعائي» استحباب حضور المؤمنين عند الدّعاء و تأمينهم له، خصوصا عند ختم القرآن، و يؤيده ما روي عن أنس: أنّه كان إذا ختم القرآن جمع أهله و دعا(2).

و عن الحكم بن عتيبة (3) ،قال: أرسل إليّ مجاهد و عنده ابن أبي أمامة، و قالا: إنّا أرسلنا إليك لأنّا أردنا أن نختم القرآن، و الدعاء يستجاب عند ختم القرآن(4).

و عن مجاهد، قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، و يقول: عنده تنزل الرّحمة(5).

و من الأدعية المأثورة: ما روي عن الصادق عليه السّلام: اللّهمّ إنّي قد قرأت ما قضيت من كتابك الذي أنزلته على نبيّك الصادق عليه السّلام فلك الحمد ربّنا، اللّهمّ اجعلني ممّن يحلّ حلاله و يحرّم حرامه و يؤمن بمحكمه و متشابهه، و اجعله لي انسا في قبري، و انسا في حشري، [و انسا في نشري] و اجعلني ممّن ترقيه بكلّ آية قرأتها درجة في أعلى علّيّين، آمين ربّ العالمين »(6).

و الظاهر أنّ هذا الدّعاء ليس مختصّا بختم القرآن، بل يستحبّ عند الفراغ من القراءة، و لو كانت قراءة بعضه من سورة أو آيات.

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه كان إذا ختم القرآن، قال: «اللّهمّ اشرح بالقرآن صدري، و استعمل بالقرآن بدني، و نوّر بالقرآن بصري، و أطلق بالقرآن لساني، و أعنّي عليه ما أبقيتني، فإنّه لا حول و لا قوّة إلاّ بك .»(7).

ثمّ لا يذهب عليك أنّه كما ندب إلى الدعاء بعد ختمه ندب إليه حين الشروع في تلاوته.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه كان إذا قرأ القرآن قال قبل أن يقرأ حين يأخذ المصحف: «اللّهمّ إنّي أشهد أنّ هذا كتابك المنزل من عندك على رسولك محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كلامك الناطق على

ص: 150


1- بحار الأنوار 2/206:92.
2- الإتقان في علوم القرآن 382:1.
3- في النسخة: الحكم بن عيينة، راجع: تهذيب الكمال 114:7.
4- الإتقان في علوم القرآن 382:1.
5- الإتقان في علوم القرآن 382:1.
6- الاختصاص: 141، بحار الأنوار 2/207:92.
7- بحار الأنوار 6/209:92.

لسان نبيّك، جعلته هاديا منك إلى خلقك و حبلا متّصلا فيما بينك و بين عبادك، اللّهمّ إنّي نشرت عهدك و كتابك، اللّهمّ فاجعل نظري فيه عبادة، و قراءتي فيه فكرا، و فكري فيه اعتبارا، و اجعلني ممّن اتّعظ ببيان مواعظك فيه، و اجتنب معاصيك، و لا تطبع عند قراءتي على سمعي، و لا تجعل على بصري غشاوة، و لا تجعل قراءتي قراءة لا تدبّر فيها، بل اجعلني أتدبّر آياته و أحكامه، آخذا بشرائع دينك، و لا تجعل نظري فيه غفلة، و لا قراءتي هذرا [إنك] أنت الرءوف الرّحيم »(1).

الطرفة السّادسة و الثّلاثون:

في أنّ لبعض سور القرآن فضيلة على بعض

مقتضى كثير من الرّوايات أنّ لبعض سور القرآن الكريم فضيلة على بعض، و إن أنكرها قوم من العامّة.

عن أنس: «أفضل القرآن اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (2) أي سورة الفاتحة.

و عن [أبي] سعيد(3) بن المعلّى: «أعظم سورة في القرآن اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (4).

و عن أبيّ بن كعب، مرفوعا: «ما أنزل اللّه في التوراة و لا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، و هي السّبع المثاني»

و عن ابن عبّاس: «فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن »(5).

و عن سهل بن سعد: «أنّ لكلّ شيء سناما، و سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشّيطان ثلاثة أيّام، و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشّيطان ثلاث ليال »(6).

و عن بريدة: «تعلّموا سورة البقرة، فإنّ أخذها بركة و تركها حسرة، و لا تستطيعها البطلة،(7) تعلّموا سورة البقرة و آل عمران فإنّهما الزّهراوان، تظلاّن صاحبهما يوم القيامة كأنّهما غمامتان »(8).

ص: 151


1- بحار الأنوار 2/207:92.
2- الإتقان في علوم القرآن 125:4.
3- في النسخة: سعيد، تصحيف، انظر تهذيب الكمال 348:33.
4- الإتقان في علوم القرآن 125:4.
5- الإتقان في علوم القرآن 125:4 و فيه: تعدل ثلثي القرآن، الدر المنثور 15:1.
6- الإتقان في علوم القرآن 126:4.
7- البطلة: السحرة أو الشياطين.
8- الإتقان في علوم القرآن 126:4.

و في رواية: «الأنعام من نواجب القرآن »(1).

و عن معقل بن يسار: «يس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد اللّه و الدار الآخرة إلاّ غفر له، اقرءوها على موتاكم».(2)

و عن أنس: «أنّ لكلّ شيء قلبا و قلب القرآن يس، و من قرأ يس كتب اللّه له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرّات».

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: «إنّ لكلّ شيء لبابا، و لباب القرآن الحواميم».(3)

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: «الحواميم ديباج القرآن »(4).

و في رواية: «في تنزيل السّجدة و تبارك الملك فضل ستّين درجة على غيرهما من سور القرآن »(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لكلّ شيء عروس، و عروس القرآن الرحمن »(6).

و عن أنس: «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ عدلت له بنصف القرآن »(7).

و في رواية: «وَ الْعادِياتِ تعدل نصف القرآن »(8).

و في رواية: «أ لا أحدكم أن يقرأ ألف آية في كلّ يوم ؟ قالوا: و من يستطيع أن يقرأ ألف آية ؟ قال: أ ما يستطيع أحدكم أن يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ؟» (9).و الظاهر أنّ المراد أنّ سورة أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ تعدل ألف آية.

و عن أنس: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ربع القرآن »(10).

و عن ابن عبّاس: «أنّها تعدل بربع القرآن» (11).

و عن أنس: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ ربع القرآن» (12).

و عن أبي هريرة: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن »(7).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعقبة: «أ لا أعلّمك سورا ما انزل في التّوراة و لا في الزّبور و لا في الإنجيل و لا في

ص: 152


1- الإتقان في علوم القرآن 128:4، و نواجب القرآن: أفاضل سوره.
2- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
3- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
4- الإتقان في علوم القرآن 130:4.
5- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
6- الدر المنثور 690:7. (7و8) الإتقان في علوم القرآن 132:4. (9و10) الإتقان في علوم القرآن 132:4.
7- الإتقان في علوم القرآن 133:4.

الفرقان(1) مثلها؟» قلت: بلى. قال: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ » (2).

الطرفة السّابعة و الثّلاثون في أنّ لبعض الآيات فضيلة على بعض

مفاد كثير من الرّوايات أنّ لبعض الآيات فضيلة على بعض:

عن العيّاشي رحمه اللّه في بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عن الصادق عليه السّلام، قال: «ما لهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها »(3).

و في رواية: «هي الآية التي قال اللّه عزّ و جلّ : وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً » (4).

و عن الرّضا عليه السّلام: «إنّها أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر(5) العين إلى بياضها »(6).لعلّ المراد أنّ الاسم الأعظم هي الأسامي المباركات في هذه الآية، أو أنّه يستخرج منها.

و عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في حديث -: «قال اللّه تعالى: و أعطيت لك و لأمّتك كنزا من كنوز عرشي؛ فاتحة الكتاب و خاتمة سورة البقرة »(7).

و عن أبيّ بن كعب: «أعظم آية في كتاب اللّه آية الكرسيّ »(8).

و عن أبي هريرة: «أنّ سيّدة أي القرآن آية الكرسيّ »(9).

و في رواية مرسلة: «أفضل القرآن سورة البقرة، و أعظم آية فيها آية الكرسيّ »(10).

و في حديث أنس: «آية الكرسيّ ربع القرآن »(11).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ فاتحة الكتاب و آية الكرسيّ و آيتين من آل عمران: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ

ص: 153


1- في النسخة: القرآن.
2- الإتقان في علوم القرآن 133:4.
3- تفسير العياشي 89/103:1.
4- تفسير العياشي 79/100:1، و الآية من سورة الإسراء: 46/17.
5- في تفسير العياشي: سواد.
6- تفسير العياشي 86/102:1.
7- علل الشرائع 3/128:1، الخصال: 1/425، معاني الأخبار: 1/50.
8- الاتقان في علوم القرآن 127:4.
9- الاتقان في علوم القرآن 127:4. (10و11) الاتقان في علوم القرآن 127:4.

إِلاّ هُوَ إلى قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (1) و قُلِ اللّهُمَّ إلى قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ (2) معلّقات، ما بينهنّ و بين اللّه حجاب، قلن: يا ربّ أ تهبطنا إلى أرضك و إلى من يعصيك ؟ قال اللّه عزّ و جلّ : إنّي حلفت لا يقرؤكنّ أحد دبر كلّ صلاة إلاّ جعلت الجنّة مثواه على ما كان منه، و أسكنته في حظيرة القدس، و نظرت إليه بعيني كلّ يوم سبعين مرّة، و قضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة، و أعذته من كلّ عدوّ و حاسد، و نصرته عليهم »(3).

و في حديث معاذ بن أنس: «من قرأ أوّل سورة الكهف و آخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه »(4).

و في رواية: من قرأ في ليلة: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ (5).الآية، كان له نور من عدن إلى مكّة حشوه الملائكة »(6).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في المسبّحات يقول: «فيهن آية خير من ألف آية »(7).

قال بعض العلماء: هي قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (8).

و في حديث: «من قرأ حين يصبح ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكّل اللّه به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، و إن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، و من قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة »(9).

و في حديث: «من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات في يومه أو ليلته، فقد أوجب اللّه له الجنّة »(10).

أقول: لا ريب أنّ فضيلة الآيات بفضيلة ما تضمّنته من العلوم و المعارف الإلهيّة، و على هذا فكلّ آية يكون فيها بيان التّوحيد و الصفات الجلاليّة و الجماليّة و علم المبدأ و المعاد تكون أفضل من غيرها، و عظمة آية الكرسيّ لكونها أشمل، و بهذا الملاك يمكن إلحاق بعض الآيات التي تقاربها في المضمون بها، و اللّه العالم.

ص: 154


1- آل عمران: 18/3 و 19.
2- آل عمران: 26/3 و 27.
3- مجمع البيان 724:2.
4- الإتقان في علوم القرآن 128:4.
5- الكهف: 110/18.
6- الإتقان في علوم القرآن 129:4.
7- الإتقان في علوم القرآن 130:4.
8- الإتقان في علوم القرآن 130:4، تفسير ابن كثير 324:4، و الآية من سورة الحديد: 3/57.
9- الإتقان في علوم القرآن 130:4.
10- الإتقان في علوم القرآن 131:4.

الطرفة الثّامنة و الثّلاثون في أنّ للقرآن العظيم خواصا و آثارا دنيوية مضافا إلى الآثار الاخروية

مضافا إلى أنّ للقرآن العظيم فضائل و آثارا كثيرة اخروية، له خواصّ و آثار دنيويّة.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: «عليكم بالشفاءين: العسل، و القرآن »(1).

و عن واثلة بن أسقع: أنّ رجلا شكا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله وجع حلقه. قال: «عليك بقراءة القرآن »(2).

و عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّي اشتكي صدري قال: «اقرأ القرآن، يقول اللّه تعالى: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ » (3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «القرآن مأدبة اللّه، فتعلّموا من مأدبة اللّه ما استطعتم، فانّه النور المبين، و الشفاء النافع، تعلّموه فإنّ اللّه يشرّفكم بتعلّمه »(4).

عن عليّ بن خلف، قال: شكا رجل إلى محمّد بن حميد الرّازي الرّمد، فقال له: أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى جرير بن عبد الحميد فقال لي: أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى الأعمش، فقال لي: أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه فقال لي: أدم النّظر في المصحف، فإنه كان بي رمد، فشكوت ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لي: «أدم النّظر في المصحف، فإنّه كان بي رمد فشكوت ذلك إلى جبرئيل، فقال لي: أدم النّظر في المصحف »(5).

و مرّ في بعض الرّوايات، في فضائل القرآن «أنّه الشفاء الأشفى »(6) ،و مقتضى إطلاقه أنّه شفاء لجميع الأمراض الظاهريّة و الباطنيّة، بل كما أنّه لا يكون أشفى منه في الأمراض القلبيّة، لا يكون شيء أشفى منه في الأمراض الجسمانيّة.

عن الزّهري، قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: «لو مات من بين المشرق و المغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي »(7).

ص: 155


1- الإتقان في علوم القرآن 158:4.
2- الإتقان في علوم القرآن 158:4.
3- الدر المنثور 366:4 و الآية من سورة يونس: 57/10.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 31/60.
5- المسلسلات: 109.
6- تقدّم في الطرقة (27) ص 212.
7- الكافي 13/440:2.

و عن الرّضا عليه السّلام عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام: «ثلاثة يزدن في الحفظ ، و يذهبن بالبلغم: قراءة القرآن، و العسل، و اللّبان »(1).

و عنه صلوات اللّه عليه يرفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «اجعلوا لبيوتكم نصيبا من القرآن، فإنّ البيت إذا قرئ فيه القرآن يسّر على أهله، و كثر خيره، و كان سكّانه في زيادة، و إذا لم يقرأ فيه ضيّق على أهله، و قلّ خيره، و كان سكّانه في نقصان »(2).

و عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ القرآن فهو غنيّ ، و لا فقر بعده، و إلاّ ما به غنيّ »(3).

و في رواية ما يقرب من هذا المضمون: «من أوتي القرآن فظنّ أنّ أحدا أوتي خيرا منه، فقد حقّر عظيما، و عظّم حقيرا »(4).

أقول: لأنّ القرآن جامع لجميع الخيرات الدنيويّة و الاخرويّة.

عن ابن عبّاس، قال: إذا فقدنا عقالنا كنّا نجده بالقرآن(5).

الطرفة التّاسعة و الثّلاثون في أنّ لبعض سور القرآن خواصا مخصوصة

قد رويت خواصّ خاصّة لبعض سور القرآن:

عن العالم عليه السّلام: «من نالته علّة فليقرأ في جيبه أمّ الكتاب سبع مرّات، فإن سكنت و إلاّ فليقرأها سبعين مرّة، فإنّها تسكن »(6).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه دخل عليه رجل من مواليه و قد وعك، فقال له: «ما لي أراك متغيّر اللون ؟» فقال: جعلت فداك، وعكت وعكا شديدا منذ شهر، ثمّ لم تنقلع الحمّى عنّي، و قد عالجت بكلّ ما وصفه لي المترفّعون فلم أنتفع بشيء من ذلك.

فقال له الصادق عليه السّلام: «حلّ أزرار قميصك، و أدخل رأسك في قميصك، و أذّن و أقم و أقرأ سورة

ص: 156


1- مكارم الأخلاق: 165.
2- عدة الداعي: 6/287.
3- الكافي 8/443:2.
4- معاني الأخبار: 279 «نحوه».
5- الإتقان في علوم القرآن 30:4 «نحوه».
6- مكارم الأخلاق: 363.

الحمد سبع مرّات». قال: ففعلت ذلك فكأنّما نشطت من عقال(1).

و في رواية جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّها شفاء من كلّ داء إلاّ السّام» يعني الموت(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يديه فقرأ فاتحة الكتاب و المعوّذتين، ثمّ يمسح بهما وجهه، فيذهب عنه ما كان يجد »(3).

و عن سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «من لم تبرئه سورة الحمد و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ لن يبرئه شيء، و كلّ علّة يبرئها هاتان السورتان »(4).

عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو قرئت الحمد على ميّت سبعين مرّة ثمّ ردّت فيه الرّوح ما كان ذلك عجبا »(5).

و عنه عليه السّلام: «من نالته علّة فليقرأ في جيبه الحمد سبع مرّات، فإن ذهبت العلّة و إلاّ فليقرأها سبعين مرّة، و أنا الضّامن له العافية »(6).

و عنه عليه السّلام قال: «من لم تبرئه الحمد لم يبرئه شيء »(7).

و عن أبي بكر الحضرميّ ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا كانت لك حاجة فاقرأ المثاني و سورة اخرى، و صلّ ركعتين، و ادع اللّه». قلت: أصلحك اللّه، و ما المثاني ؟ قال: «فاتحة الكتاب »(8).

و عن العالم عليه السّلام أنّه قال: «إذا بدت بك علّة تخوّفت على نفسك منها فاقرأ الأنعام، فإنّه لا ينالك من تلك العلّة ما تكره »(9).

و عن سلامة بن عمرو الهمداني، قال: دخلت المدينة فأتيت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: يا ابن رسول اللّه، اعتللت على أهل بيتي بالحجّ ، و أتيتك مستجيرا مستسرّا من أهل بيتي من علّة أصابتني، و هي الداء الخبيثة، قال: «أقم في جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في حرمه و أمنه، و اكتب سورة الأنعام بالعسل و اشربه، فإنّه يذهب عنك »(10).

ص: 157


1- طب الائمة عليهم السّلام: 52، يقال: كأنما أنشط من عقال، أي حلّ ، و يقال ذلك للآخذ بسرعة في أيّ عمل كان، و للمريض إذا برئ.
2- تفسير العياشي 82/101:1.
3- طب الأئمة عليهم السّلام: 39.
4- طب الأئمة عليهم السّلام: 39.
5- الكافي 16/456:2.
6- أمالي الطوسي: 553/284.
7- تفسير العياشي 83/101:1.
8- تفسير العياشي 84/101:1.
9- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 342.
10- طب الأئمّة عليهم السّلام: 105.

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام يقول: «من قرأ سورة يوسف في كلّ ليلة بعثه اللّه يوم القيامة و جماله على جمال يوسف» إلى أن قال: «و أومن في الدنيا أن يكون زانيا [أو] فحّاشا »(1).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أكثر قراءة سورة الرّعد لم يصبه اللّه بصاعقة أبدا و لو كان ناصبيا »(2).

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة النّحل في كلّ شهر كفي المغرم في الدنيا و سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونها الجنون و الجذام و البرص »(3).

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة المائدة في كلّ خميس، لم يلبس إيمانه بظلم، و لم يشرك به أبدا »(4).

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الأنفال و سورة براءة [في] كلّ شهر، لم يدخله نفاق [أبدا]، و كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة يونس في كلّ شهرين أو ثلاثة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين»(6) الخبر.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة، لم يمت حتّى يدرك القائم عجل اللّه فرجه فيكون من أصحابه »(7).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة الكهف كلّ ليلة جمعة لم يمت إلاّ شهيدا »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أدمن قراءة سورة مريم، لم يمت حتّى يصيب منها ما يغنيه في نفسه و ماله و ولده »(5).

و عنه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان ممن يرافق(6) النبيّين أجمعين في جنّات النّعيم، و كان مهيبا في أعين النّاس في الحياة الدنيا »(11).

و عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة الحجّ في كلّ ثلاثة أيّام، لم تخرج سنة حتّى يخرج إلى بيت اللّه الحرام»(12)

الخبر.

و عن ابن مسكان (7) ،عنه عليه السّلام: «من قرأ سورة المؤمنون ختم اللّه له بالسّعادة، إذا كان يدمن قراءتها

ص: 158


1- تفسير العياشي 2073/331:2.
2- ثواب الأعمال: 106.
3- ثواب الأعمال: 107.
4- ثواب الأعمال: 105. (5و6) ثواب الأعمال: 106. (7و8) ثواب الأعمال: 107.
5- ثواب الأعمال: 108.
6- في ثواب الأعمال: كمن رافق. (11و12) ثواب الأعمال: 108.
7- في ثواب الأعمال: الحسين بن أبي العلاء.

في كلّ جمعة»(1) الخبر.

و عنه عليه السّلام قال: «حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النّور، و حصّنوا بها نساءكم، فإنّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم أو في كلّ ليلة لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت »(2).

و عنه عليه السّلام قال: «من قرأ الطواسين الثلاثة في ليلة الجمعة، كان من أولياء اللّه، و في جوار اللّه و كنفه، و لم يصبه في الدنيا بؤس أبدا »(3).

و عنه عليه السّلام قال: «من قرأ الحمدين: حمد سبأ و حمد فاطر في ليلة واحدة، لم يزل في ليلته في حفظ اللّه و كلاءته، و من قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، و أعطي من خير الدنيا و خير الآخرة ما لم يخطر على قلبه و لم يبلغ مناه »(4).

و عنه عليه السّلام قال: «لكلّ شيء قلب و قلب القرآن يس، من قرأها قبل منامه، أو في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين و المرزوقين حتى يمسي، و من قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل اللّه به ألف ملك يحفظونه من شرّ كلّ شيطان رجيم و من كلّ آفة»(5) الخبر.

و عن أبي جعفر عليه السّلام في رواية ذكر ثواب تلاوة يس إلى أن قال: «و لم يصبه فقر و لا غرم و لا نصب و لا جنون و لا جذام و لا وسواس و لا داء يضرّه» إلى أن قال: «و كان ممّن يضمن اللّه له السّعة في معيشته و الفرج عند لقائه »(6).

و روي «أنّ يس تقرأ للدنيا و الآخرة، و للحفظ من كلّ آفة و بليّة في النفس و الأهل و المال، و إنّه من كان مغلوبا على عقله قرئ عليه، أو كتبه و سقاه، و إن كتبه بماء الزعفران على إناء من زجاج فهو خير فإنّه مبرئ »(5).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، اقرأ يس فإنّ في يس عشر بركات: ما قرأها جائع إلاّ شبع، و لا ظمآن إلاّ روي، و لا عار إلاّ كسي، و لا عزب إلاّ تزوّج، و لا خائف إلاّ أمن، و لا مريض إلاّ برئ، و لا محبوس إلاّ اخرج، و لا مسافر إلاّ أعين على سفر، و لا يقرءون عند ميّت إلاّ خفّف اللّه عنه، و لا قرأها رجل له ضالّة إلاّ وجدها »(6).

ص: 159


1- ثواب الأعمال: 108.
2- ثواب الأعمال: 109.
3- ثواب الأعمال: 109.
4- ثواب الأعمال: 110، مجمع البيان 588:8. (5و6) ثواب الأعمال: 111.
5- مكارم الأخلاق: 364.
6- جامع الأخبار: 245/126، و فيه: إلاّ وجد طريقها.

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في سورة يس، قال: «و تدفع عن صاحبها كلّ سوء، و تقضي له كلّ حاجة» إلى أن قال: «و من كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء، و ألف نور، و ألف يقين، و ألف بركة، و ألف رحمة، و نزعت عنه كلّ غلّ و داء »(1).

و عن عطاء بن أبي رباح (2) ،قال: بلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من قرأ يس في صدر النّهار قضيت حوائجه »(3).

و في رواية عامّيّة، قال: «ما من ميّت يقرأ عنده سورة (يس) إلاّ هوّن اللّه عليه »(4).

و عن أبي قلابة، قال: من قرأ يس غفر له، و من قرأها و هو جائع شبع، و من قرأها و هو ضالّ هدي، و من قرأها و له ضالّة وجدها، و من قرأها عند طعام خاف قلّته بورك فيه، و من قرأها عند ميّت هوّن عليه، و من قرأها عند امرأة عسر عليها الوضع، سهل عليها (5) ،الخبر.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ يس و الصّافات يوم الجمعة ثم سأل اللّه أعطاه سؤله »(6).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الصّافّات في كلّ يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بليّة في الحياة الدّنيا، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرّزق، و لم يصبه اللّه في ماله و لا ولده و لا بدنه بسوء من شيطان رجيم و لا [من] جبّار عنيد»(7) الخبر.

و في رواية: «أنّها تقرأ للشرف و الجاه في الدنيا و الآخرة »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الزّمر استحقها(9) من لسانه، أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة، و أعزّه بلا مال و لا عشيرة حتّى يهابه من يراه» الخبر(10).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة حم السّجدة، كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره و سرورا، و عاش في الدنيا محمودا مغبوطا »(11).

ص: 160


1- الدر المنثور 38:7.
2- في النسخة: عطاء بن أبي رياح، انظر: تهذيب الكمال 69:20.
3- سنن الدارمي 457:2، الدر المنثور 38:7.
4- الدر المنثور 38:7.
5- بحار الأنوار 6/292:92.
6- الدر المنثور 77:7.
7- ثواب الأعمال: 112، بحار الأنوار 1/296:92.
8- مكارم الأخلاق: 364، بحار الأنوار 2/296:92.
9- في البحار: استخفها.
10- ثواب الأعمال: 112، بحار الأنوار 1/297:92.
11- ثواب الأعمال: 113.

و روي في حم الدخان ما يقرب من خواصّ سوره يس(1).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة اَلَّذِينَ كَفَرُوا (2) لم يذنب(3) أبدا و لم يدخله شكّ في دينه [أبدا] و لم يبتليه اللّه بفقر أبدا، و لا خوف من سلطان أبدا، و لم يزل محفوظا من الشّكّ و الكفر أبدا حتّى يموت»(4) الخبر.

و عنه عليه السّلام: «حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملكت أيمانكم من التّلف بقراءة إِنّا فَتَحْنا لَكَ (5) الخبر.

و عنه عليه السّلام قال: «من أدمن في فرائضه و نوافله قراءة سورة (ق) وسّع اللّه عليه رزقه»(6) الخبر.

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ سورة وَ الذّارِياتِ في يومه أو في ليلته، أصلح اللّه له معيشته، و أتاه برزق واسع»(7) الخبر.

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة وَ الطُّورِ جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة »(8).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من كان يدمن قراءة وَ النَّجْمِ في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، عاش محمودا بين النّاس»(9) الخبر.

و عنه عليه السّلام: «من قرأ في كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه اللّه، و أحبّه إلى النّاس، و لم ير في الدنيا بؤسا أبدا و لا فقرا و لا فاقة و لا آفة من آفات الدنيا»(10) الخبر.

و في رواية اخرى: «من قرأ الواقعة في كلّ جمعة لم ير [في الدنيا] بؤسا»(11) الخبر.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة فريضة(12) لم يعذّبه اللّه حتّى يموت أبدا، و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا، و لا خصاصة في بدنه »(13).

و عن الثّماليّ ، عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه و نوافله

ص: 161


1- الدر المنثور 397:7، بحار الأنوار 3/300:92.
2- أي سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله.
3- في ثواب الأعمال: يرتب.
4- ثواب الأعمال: 114، بحار الأنوار 1/303:92.
5- ثواب الأعمال: 115، بحار الأنوار 1/303:92.
6- ثواب الأعمال: 115، بحار الأنوار 1/304:92.
7- ثواب الأعمال: 115، بحار الأنوار 1/304:92.
8- ثواب الأعمال: 116، بحار الأنوار 1/304:92.
9- ثواب الأعمال: 116، بحار الأنوار 1/305:92.
10- ثواب الأعمال: 117، بحار الأنوار 1/307:92.
11- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 343، بحار الأنوار 1/307:92.
12- زاد في ثواب الأعمال و البحار: أدمنها.
13- ثواب الأعمال: 117، بحار الأنوار 1/307:92.

امتحن اللّه قلبه للايمان، و نوّر له بصره، و لا يصيبه فقر أبدا و لا جنون في بدنه و لا في ولده »(1).

و في رواية اخرى: «يكون محمودا عند النّاس »(2).

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في المكتوبة قبل أن ينام، لم يزل في أمان اللّه حتّى يصبح، و في أمانه يوم القيامة حتّى يدخل الجنّة »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فضائل تلك السورة المباركة و قراءتها عند النّوم، قال: «و بعث اللّه إليه ملكا من الملائكة يبسط عليه جناحه و يحفظه من كلّ سوء حتّى يستيقظ »(4).

و عن الصادق عليه السّلام: «من قرأ سورة ن وَ الْقَلَمِ في فريضة أو نافلة آمنه اللّه عزّ و جلّ [من] أن يصيبه فقر أبدا، و أعاذه اللّه إذا مات من ضمّة القبر »(5).

و عن الصادق عليه السّلام: «أكثروا من قراءة الحاقّة، فإنّ قراءتها في الفرائض و النوافل من الإيمان باللّه و رسوله، لأنّها نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام و معاوية لعنه اللّه، و لم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى اللّه عز و جل »(6).

و عنه عليه السّلام: «من أكثر من قراءة قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجنّ و لا نفثهم، و لا من سحرهم و لا من كيدهم»(7) الخبر.

و عنه عليه السّلام في رواية في فضل تلاوة سورة المزّمّل في العشاء الآخرة و في آخر الليل، قال: «و أحياه [اللّه] حياة طيّبة، و أماته ميتة طيّبة »(8).

و عن الباقر عليه السّلام في فضل قراءة سورة المدّثّر في الفريضة، قال في جملته: «و لا يدركه(9) شقاء أبدا إن شاء اللّه »(10).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تلاوة سورة (عم) في كلّ يوم، قال: «لم تخرج سنته(11) حتّى يزور البيت» و في تلاوة سورة وَ النّازِعاتِ قال: «لم يمت إلاّ ريّانا »(12).

ص: 162


1- ثواب الأعمال: 118، مكارم الأخلاق: 365، بحار الأنوار 2/310:92.
2- مكارم الأخلاق: 365، بحار الأنوار 2/310:92.
3- ثواب الأعمال: 119، بحار الأنوار 1/313:92.
4- الدر المنثور 233:8، بحار الأنوار 4/316:92.
5- ثواب الأعمال: 119، بحار الأنوار 1/316:92.
6- ثواب الأعمال: 119.
7- ثواب الأعمال: 120، مكارم الأخلاق: 365.
8- ثواب الأعمال: 120.
9- زاد في ثواب الأعمال: في الحياة الدنيا.
10- ثواب الأعمال: 120.
11- زاد في المصدر: إذا كان يدمنها كل يوم.
12- ثواب الأعمال: 121.

و في رواية اخرى، قال: «لا يدركه(1) شقاء أبدا »(2).

و عنه عليه السّلام في قراءة إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ و إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ : «من قرأهما و جعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة و النافلة لم يحجبه اللّه من حاجة »(3).

و في رواية: «من سقي سمّا، أو لدغته ذو حمة(4) من ذوات السّموم يقرأ على الماء وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ و يسقى فإنّه لا يضرّه إن شاء اللّه »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه أوصى أصحابه و أولياءه: «من كان به علّة فليأخذ قلّة(6) جديدة، و ليجعل فيها الماء و ليسق الماء بنفسه، و ليقرأ على الماء إِنّا أَنْزَلْناهُ على الترتيل ثلاثين مرّة، ثمّ ليشرب من ذلك الماء، و ليتوضّأ، و ليمسح به، و كلّما نقص زاد فيه، فإنّه لا يظهر ذلك ثلاثة أيّام إلاّ و يعافيه اللّه تعالى من ذلك الدّاء »(7).

و عن إسماعيل بن سهل، قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام: إنّي قد لزمني دين فادح ؟ فكتب: «أكثر [من] الاستغفار، و رطّب لسانك بقراءة إِنّا أَنْزَلْناهُ » (8).

و روي أنّه: «من أخذ قدحا و جعل فيه ماء و قرأ فيه إِنّا أَنْزَلْناهُ خمسا و ثلاثين مرّة، و رشّ ذلك الماء على ثوبه، لم يزل في سعة حتّى يبلى ذلك الثّوب »(9).

و في رواية: «من قرأها حبّب إلى النّاس، فلو طلب من رجل أن يخرج من ماله بعد قراءتها حين يقابله لفعل، و من خاف سلطانا فقرأها حين ينظر إلى وجهه غلب له، و من قرأها [حين] يريد الخصومة اعطي الظفر، و من يشفع بها إلى اللّه شفّعه و أعطاه سؤله »(10).

و في رواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «رحم اللّه من قرأ إِنّا أَنْزَلْناهُ إلى أن قال: «لكلّ شيء عون و عون الضعفاء إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و لكلّ شيء يسر و يسر المعسرين إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و لكلّ شيء عصمة و عصمة المؤمنين إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و لكلّ شيء هدى و هدى الصالحين إِنّا أَنْزَلْناهُ » (11) الخبر.

ص: 163


1- زاد في مكارم الأخلاق: في الدنيا.
2- مكارم الأخلاق: 365.
3- ثواب الأعمال: 121.
4- الحمة: الإبرة التي تضرب بها العقرب و الزنبور و نحوهما.
5- مكارم الأخلاق: 365 «نحوه»، بحار الأنوار 2/321:92.
6- القلّة: إناء من الفخّار يشرب منه.
7- طب الأئمّة عليهم السّلام: 123.
8- الكافي 51/316:5.
9- مكارم الأخلاق: 102.
10- مصباح الكفعمي: 587، بحار الأنوار 10/330:92.
11- مصباح الكفعمي: 588، بحار الأنوار 10/331:92.

و عنه صلوات اللّه عليه في رواية اخرى: «هي نعم رفيق المرء، بها يقضى دينه، و يعظّم دينه، و يظهر فلجه، و يطول عمره، و يحسن حاله»(1) الخبر.

و في رواية: «أبى اللّه أن يسخط على قارئها و يسخطه». قيل: فما معنى يسخطه ؟ قال: «لا يسخطه بمنعه حاجته». إلى أن قال: «و أبى اللّه أن ينام قارئها حتّى يحفّه بألف ملك يحفظونه حتّى يصبح، و بألف ملك حتّى يمسي(2) الخبر.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تملّوا [من] قراءة إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ فإنّ من كانت قراءته في نوافله، لم يصبه اللّه عزّ و جلّ بزلزلة أبدا، و لم يمت بها و لا بصاعقة و لا بآفة من آفات الدنيا»(3) الخبر.

و عنه عليه السّلام: «من قرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ في فرائضه نفت عنه الفقر، و جلبت عليه الرزق، و تدفع عنه ميتة السّوء »(4).

و نقل عن خطّ الشّهيد رضوان اللّه عليه: عن الصادق صلوات اللّه عليه أنّه قال: «يقرأ في وجه العدوّ سورة الفيل »(5).

و نقل عن الراوندي رضى اللّه عنه في (أخبار المعمّرين) أنّه ذكر بعضهم أنّ والده كان لا يعيش له ولد. قال:

ثمّ ولدت له على كبره، ففرح بي ثمّ مضى و لي سبع سنين، فكفلني عمّي، فدخل بي يوما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له: يا رسول اللّه، إنّ هذا ابن أخي، و قد مضى لسبيله، فعلّمني عوذة أعيذه بها. فقال:

«أين أنت عن ذات القلاقل قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ ».

و في رواية: قُلْ أُوحِيَ .

قال المعمّر: و أنا إلى اليوم أتعوّذ بها، ما اصبت بولد و لا مال، و لا مرضت، و لا افتقرت. و قد انتهى بي السنّ ما ترون(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لدغت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عقرب و هو يصلّي، فلمّا فرغ. قال: لعن اللّه العقرب لا تدع مصلّيا و لا غيره، ثمّ دعا بماء و ملح و جعل يمسح عليها و يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ،

ص: 164


1- مصباح الكفعمي: 588، بحار الأنوار 10/331:92.
2- مصباح الكفعمي: 588، بحار الأنوار 10/332:92.
3- ثواب الأعمال: 124.
4- ثواب الأعمال: 126، بحار الأنوار 1/337:92.
5- بحار الأنوار 3/338:92.
6- دعوات الراوندي: 216/85.

و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ » (1).

و عن جبير بن مطعم، قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أ تحبّ يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون أمثل أصحابك هيئة و أكثرهم زادا؟» فقلت: نعم، بأبي أنت و امّي قال: «فأقرأ هذه السور الخمس قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، و إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ ، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ،

و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ و افتتح كلّ سورة ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و اختم قراءتك ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».

قال جبير بن مطعم: و كنت غنيّا كثير المال، فكنت أخرج في سفر فأكون من أبذّهم(2) هيئة، و أقلّهم زادا، فما زلت منذ علّمنيهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قرأت بهنّ ، أكون من أحسنهم هيئة، و أكثرهم زادا، حتّى أرجع من سفري(3).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ في نافلة أو فريضة، نصره اللّه على جميع أعدائه» إلى أن قال «و يتفتّح له في الدنيا من أسباب الخير ما لم يتمنّ و لم يخطر على قلبه »(4).

و في رواية اخرى: «نصره اللّه على جميع أعدائه، و كفاه المهمّ »(5).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أوى إلى فراشه فقرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ إحدى عشرة مرّة حفظ في داره، و في دويرات حوله».

و عنه عليه السّلام قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر، فلا يدع [أن يقرأ] في دبر الفريضة ب قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ فإنّه من قرأها جمع [اللّه] له خير الدنيا و الآخرة».

و عنه عليه السّلام قال: «من مضت له جمعة و لم يقرأ فيها ب قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ثمّ مات مات على دين أبي لهب »(6).

و عن رجل سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: «من قدّم قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ بينه و بين جبّار منعه اللّه عنه، يقرؤها بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله، فإذا فعل ذلك رزقه اللّه خيره، و منعه شرّه »(7).

و عن مفضّل بن عمر، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا مفضّل، أحتجز من النّاس كلّهم ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ أقرأها عن يمينك و عن شمالك و من بين يديك و من خلفك

ص: 165


1- الدر المنثور 658:8.
2- بذّ يبذّ بذذا، و بذاذة: ساءت حاله، و رثّت هيئته.
3- الدر المنثور 658:8، بحار الأنوار 7/342:92.
4- ثواب الأعمال: 127.
5- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 344.
6- ثواب الأعمال: 128.
7- ثواب الأعمال: 129.

و من فوقك و من تحتك، فإذا دخلت على سلطان جائر فاقرأها حين تنظر إليه ثلاث مرّات، و اعقد بيدك اليسرى، ثم لا تفارقها حتّى تخرج من عنده »(1).

و عنه عليه السّلام أنّه قال: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ نفت عنه الفقر، و اشتدّت أساس دورة، و نفعت جيرانه »(2).

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «من لم يبرأه سورة الحمد و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ لم يبرأه شيء، و كلّ علة تبرأها هاتان السورتان »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ نظر اللّه إليه ألف نظرة بالآية الأولى، و بالآية الثانية استجاب اللّه له ألف دعوة، و بالآية الثالثة أعطاه اللّه ألف مسألة، و بالآية الرابعة قضى اللّه له ألف حاجة، كلّ حاجة خير من الدنيا و الآخرة »(4).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من أراد سفرا فأخذ بعضادتي منزله فقرأ إحدى عشرة مرّة قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ كان اللّه تعالى له حارسا حتّى يرجع »(5).

و عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قرأ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ مرّة بورك عليه [و من قرأها مرتين بورك عليه] و على أهل بيته، و من قرأها ثلاث مرّات بورك عليه و على أهل بيته و جيرانه »(6).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أتى منزله و قرأ اَلْحَمْدُ و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ نفى اللّه عنه الفقر، و كثر خير بيته حتّى يفيض على جيرانه »(7).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان سبب [نزول] المعوّذتين أنّه وعك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام بهاتين السورتين، فعوّذه بهما »(8).

و عن الرضا عليه السّلام أنّه رأى مصروعا، فدعا له بقدح فيه ماء، ثمّ قرأ عليه (الحمد) و (المعوّذتين) و نفث في القدح، ثمّ أمر بصبّ الماء على وجهه و رأسه فأفاق، و قال [له]: «لا يعود إليك أبدا »(9).

الطرفة الأربعون في أنّ لبعض الآيات خواصا و آثارا دنيوية

قد نطقت الروايات ببيان خواصّ و آثار لكثير من الآيات.

ص: 166


1- الكافي 20/457:2.
2- المحاسن: 73/623.
3- طب الأئمة عليهم السّلام: 39.
4- جامع الأخبار: 233/123.
5- الدر المنثور 675:8.
6- الدر المنثور 676:8.
7- الدر المنثور 677:8.
8- تفسير القمي 450:2.
9- طب الأئمّة عليهم السّلام: 111.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من حزنه أمر تعاطاه، فقال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و هو مخلص للّه و يقبل بقلبه [إليه]، لم ينفكّ من إحدى اثنتين: إمّا بلوغ حاجته في الدنيا، و إمّا يعدّ له عند ربّه و يدّخر لديه، و ما عند اللّه خير و أبقى للمؤمنين »(1).

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن اللّه عزّ و جلّ : «كلّ [أمر] ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر »(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ العبد إذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملا فيقول بسم الله الرحمن الرحيم فإنّه يبارك له فيه »(3).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «و لربّما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره بسم الله الرحمن الرحيم فيمتحنه اللّه بمكروه لينبّهه على شكر اللّه»(4) الخبر.

و روي أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هل ياكل الشيطان مع الانسان ؟ قال: «نعم، كلّ مائدة لم يذكر بسم الله عليها، يأكل الشيطان معهم، و يرفع اللّه البركة عنها »(5).

و عن ابيّ بن كعب، قال: كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاء أعرابيّ فقال: يا نبيّ اللّه، إنّ لي أخا و به وجع قال: «و ما وجعه ؟» قال: به لمم. قال: «فأتني به» فوضعه بين يديه فعوّذه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بفاتحة الكتاب و أربع آيات من أوّل سورة البقرة، و هاتين الآيتين: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (6) و آية الكرسيّ ، و ثلاث آيات من آخر سورة البقرة، و آية من آل عمران: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ (7) و آية من الأعراف:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ (8) و آخر سورة المؤمنون: فَتَعالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ (9) و آية من سورة الجنّ : وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا (10) و عشر آيات من أوّل الصّافّات، و ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ و (المعوّذتين) فقام الرجل كأنّه لم يشك قطّ (11).

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه موقوفا: «من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة، و آية الكرسي، و آيتين بعد آية الكرسيّ ، و ثلاثا من آخر سورة البقرة، لم يقربه و لا أهله يومئذ شيطان و لا شيء يكرهه، و لا يقرأن

ص: 167


1- التوحيد: 5/232.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 7/25.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 7/25، بحار الأنوار 242:92.
4- التوحيد: 5/231.
5- جامع الأخبار: 220/120.
6- البقرة: 163/2.
7- آل عمران: 18/3.
8- الأعراف: 54/7.
9- المؤمنون: 116/23.
10- الجن: 3/72.
11- الإتقان في علوم القرآن 159:4.

على مجنون إلاّ آفاق »(1).

و عنه رضى اللّه عنه قال: قال رجل: يا رسول اللّه، علّمني شيئا ينفعني اللّه به. قال: «اقرأ آية الكرسيّ ، فإنّه ينفعك(2) و ذرّيّتك، و يحفظ دارك، حتّى الدويرات حول دارك »(3).

و روي أنّه «من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القرآن، أربع من أوّلها، و آية الكرسيّ و آيتان بعدها، و ثلاث من آخرها »(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ آية الكرسيّ مرّة، صرف [اللّه] عنه ألف مكروه من مكروه الدنيا، و ألف مكروه من مكروه الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، و أيسر مكروه الآخرة عذاب القبر »(5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ أربع آيات من أوّل البقرة، و آية الكرسيّ ، و آيتين بعدها، و ثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه [و أهله] و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه شيطان و لا ينسى القرآن »(6).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ليقرأ أحدكم إذا خرج من بيته الآيات من [آخر] آل عمران، و آية الكرسيّ ، و إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و امّ الكتاب، فإنّ فيها قضاء حوائج الدنيا و الآخرة »(7).

و عن الرضا عليه السّلام يقول: «من قرأ آية الكرسيّ عند منامه لم يخف الفالج، و من قرأ دبر كلّ صلاة لم يضرّه ذو حمة»(8) أي ذو سمّ .

و في حديث، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، من كان في بطنه ماء أصفر فكتب آية الكرسيّ ، و شرب ذلك الماء، يبرأ بإذن اللّه »(9).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «إذا عاينت الذي تخافه، فاقرأ آية الكرسيّ »(10).

و عنه عليه السّلام قال: «في سمك(11) البيت إذا رفع فوق ثمانية أذرع صار مسكونا، فإذا زاد على ثمانية أذرع فليكتب على رأس الثمانية أذرع آية الكرسي »(12).

و عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ العفاريت من أولاد الأبالسة تتخلّل و تدخل بين محامل المؤمنين، فتنفّر

ص: 168


1- الإتقان في علوم القرآن 160:4.
2- في الإتقان: يحفظك.
3- الإتقان في علوم القرآن 160:4.
4- الإتقان في علوم القرآن 161:4.
5- أمالي الصدوق: 155/158.
6- تفسير العياشي 104/108:1.
7- الخصال: 10/623.
8- ثواب الأعمال: 105.
9- دعوات الراوندي: 443/160.
10- المحاسن: 11/609.
11- السّمك: السقف.
12- المحاسن: 11/609.

عليهم إبلهم، فتعاهدوا ذلك بآية الكرسيّ »(1).

و نقل من خطّ الشهيد رضوان اللّه عليه رواية عن الحسن عليه السّلام: «أنا ضامن لمن قرأ عشرين آية أن يعصمه اللّه من كل سلطان ظالم، و من كلّ شيطان مارد، و من كلّ لصّ عاد، و من كلّ سبع ضار، و هي:

آية الكرسيّ ، و ثلاث آيات من الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ إلى اَلْمُحْسِنِينَ (2) و عشر من أوّل الصّافّات، و ثلاث من الرّحمن: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إلى تَنْتَصِرانِ (3) و ثلاث من آخر الحشر: هُوَ اللّهُ الَّذِي (4) إلى آخرها »(5).

و في رواية: «و سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ * وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (6).

و أخرج ابن السّني عن فاطمة صلوات اللّه عليها: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا دنا ولادها أمر أمّ سلمة و زينب بنت جحش أن تأتياها فتقرأ عندها آية الكرسيّ و إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ (7) الآية، و يعوّذاها بالمعوّذتين »(8).

و عن أحدهما عليهما السّلام قال: «أيّما دابّة استصعب على صاحبها من لجام و نفار فليقرأ في اذنها أو عليها: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ » (9).

و روي أنّ زين العابدين صلوات اللّه عليه مرّ برجل و هو قاعد على باب رجل فقال له: «ما يقعدك على باب هذا الرّجل المترف الجبّار؟» فقال: البلاء. فقال: «قم، فأرشدك إلى باب خير من بابه، و إلى ربّ خير لك منه» فأخذ بيده حتّى انتهى إلى المسجد، مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [ثم] قال: «استقبل القبلة و صلّ ركعتين، ثمّ ارفع يديك إلى اللّه عزّ و جلّ فأثن عليه، و صلّ على رسوله صلّى اللّه عليه و آله ثم ادع بآخر الحشر، و ستّ آيات من أوّل الحديد، و بالآيتين في آل عمران، ثم سل اللّه فإنّك لا تسأل [شيئا] إلاّ أعطاك »(10).

أقول: الظاهر أنّ المراد بالآيتين في آل عمران، آية شَهِدَ اللّهُ (11) و آية قُلِ اللّهُمَّ (12).

ص: 169


1- المحاسن: 159/380.
2- الأعراف: 54/7-56.
3- الرحمن: 33/55-35.
4- الحشر: 22/59.
5- بحار الأنوار 21/271:92.
6- دعوات الراوندي: 328/132، بحار الأنوار 22/271:92، و الآيات من سورة الصافات: 180/37-182.
7- الأعراف: 54/7.
8- الإتقان في علوم القرآن 161:4.
9- الكافي 14/539:6، و الآية من سورة آل عمران: 83/3.
10- دعوات الراوندي: 138/55.
11- آل عمران: 18/3.
12- آل عمران: 26/3.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، أمان لأمّتي من السّرق قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ (1) إلى آخرها و لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2) إلى آخرها »(3).

و في رواية: «من قرأ هاتين الآيتين حين يأخذ مضجعه، لم يزل في حفظ اللّه من كلّ شيطان مريد و جبّار عنيد إلى أن يصبح »(4).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا دخلت مدخلا تخافه، فاقرأ هذه الآية: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً » (5).

و عن الرّضا صلوات اللّه عليه قال: دخل أبو المنذر هشام بن السائب الكلبي على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: «أنت الذي تفسّر القرآن ؟» قال: نعم.

قال: أخبرني عن قول اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (6) ما ذلك القرآن الذي كان إذا قرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجب عنهم ؟» قال: لا أدري.

قال: «فكيف قلت إنّك تفسّر القرآن!» قال: يا ابن رسول اللّه، إن رأيت أن تنعم عليّ ، و تعلّمنيهنّ ؟ قال عليه السّلام: «آية في الكهف، و آية في النّحل، و آية في الجاثية، و هي: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (7) و في النّحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (8) و في الكهف: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً » (9).

قال الكسرويّ : فعلّمتها رجلا من أهل همدان و كانت الدّيلم أسرته، فمكث فيهم عشر سنين، ثمّ ذكر الثلاث آيات. قال: فجعلت أمرّ على محالّهم و على مراصدهم فلا يروني، و لا يقولون شيئا حتى خرجت إلى أرض الإسلام.

قال أبو المنذر: و علّمتها قوما خرجوا في سفينة من الكوفة الى بغداد، و خرج معهم سبع سفن

ص: 170


1- الإسراء: 110/17.
2- التوبة: 128/9.
3- دعوات الراوندي: 443/160.
4- عدة الداعي: 3/293.
5- المحاسن: 118/367، و الآية من سورة الإسراء: 80/17.
6- الإسراء: 45/17.
7- الجاثية: 23/45.
8- النحل: 108/16.
9- الكهف: 57/18.

فقطع على ستّ و سلمت السفينة التي قرئ فيها هذه الآيات(1).

و عن الحسين بن عليّ عليهما السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في حديث -: «أمان لامّتي من الغرق [إذا ركبوا] أن يقرءوا بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (2) و ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية »(3).

و عن اللّيث، قال: بلغني أنّ هؤلاء الآيات شفاء من السّحر، تقرأ على إناء فيه ماء ثمّ يصبّ على رأس المسحور الآية التي في سورة يونس: فَلَمّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَ يُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (4) و قوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (5) إلى [آخر] أربع آيات. و قوله: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى (6).

و عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما لزمني(7) أمر إلاّ تمثّل لي جبرئيل، فقال: يا محمّد، قل: توكّلت على الحيّ الّذي لا يموت وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً » (8).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذه الآية أمان من السّرق: قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (9).

و عن زرّ بن حبيش [قال]: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقومها من اللّيل قامها: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (10).

قال عبدة: فجرّبناه فوجدناه كذلك(11).

و عن سعد بن أبي وقّاص: «دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ

ص: 171


1- عدة الداعي: 9/295.
2- هود: 41/11.
3- الإتقان في علوم القرآن 161:4، و الآية من سورة الأنعام: 91/6.
4- يونس: 81/10 و 82.
5- الأعراف: 118/7.
6- الإتقان في علوم القرآن 162:4، و الآية من سورة طه: 69/20.
7- في الإتقان: كربني.
8- الإتقان في علوم القرآن 162:4، و الآية من سورة الاسراء: 111/17.
9- الإتقان في علوم القرآن 162:4، و الآيتان من سورة الإسراء: 110/17 و 111.
10- الكهف: 110/18.
11- سنن الدارمي 454:2، الإتقان في علوم القرآن 162:4.

إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ (1) لم يدع بها رجل مسلم في شيء قطّ الاّ استجاب اللّه له »(2).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلاّ فرّج عنه، كلمة أخي يونس:

فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ » (3) .

و عن ابن مسعود رضى اللّه عنه أنّه قرأ في اذن مبتلى فأفاق. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما قرأت في اذنه ؟» قال:

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ * وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ (4) .فقال: «لو أنّ رجلا مؤمنا قرأ بها على جبل لزال »(5).

عن الصّادق عليه السّلام: «من دخل على سلطان يخافه، فقرأ عند ما يقابله: (كهيعص) و يضمّ يده اليمنى، كلّما قرأ حرفا ضمّ اصبعا، ثمّ يقرأ (حمعسق) و يضمّ أصابع يده اليسرى كذلك، ثمّ يقرأ: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (6) و يفتحها في وجهه كفي شرّه »(7).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من اشتكى ضرسه فليضع إصبعه عليه و ليقرأ هاتين الآيتين سبع مرّات: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (8) و هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) فإنّه يبرأ بإذن اللّه »(10).

و عن ابن عبّاس موقوفا في المرأة تعسر عليها ولادتها، قال: «يكتب في قرطاس [ثم تسقى]: بسم اللّه الذي لا إله إلاّ هو الحليم الكريم، سبحان اللّه و تعالى ربّ العرش العظيم، الحمد للّه ربّ العالمين كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (11)كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (12)

و عنه رضى اللّه عنه: إذا وجدت في نفسك شيئا - يعني الوسوسة - فقل: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ

ص: 172


1- الأنبياء: 87/21.
2- الإتقان في علوم القرآن 163:4.
3- الإتقان في علوم القرآن 163:4، و الآية من سورة الأنبياء: 87/21.
4- المؤمنون: 115/23-118.
5- الإتقان في علوم القرآن 163:4.
6- طه: 111/20.
7- عدة الداعي: 7/294.
8- الأنعام: 98/6.
9- الملك: 23/67.
10- مكارم الأخلاق: 6-4 «نحوه».
11- النازعات: 46/79.
12- الإتقان في علوم القرآن 164:4، و الآية من سورة الاحقاف: 35/46.

وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (1) .

و عن أنس بن مالك: ما أنعم اللّه على عبد نعمة في أهل و لا مال و لا ولد، فيقول: ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ (2) فيرى فيه آفة دون الموت(3).

و لا يذهب عليك أنّ تأثير القرآن العظيم و سوره و آياته في الآثار و الخواصّ المرويّة، ليس على نحو العلّيّة التامّة بحيث لا يمكن تخلّفها عنها، بل هو على نحو الاقتضاء الذي يعتبر فيه وجود الشرائط و عدم الموانع، كالدّعاء الذي اتّفقت الآيات و الروايات بل العقل على أنّه مؤثّر في قضاء الحوائج و حصول المطلوب، و كالأدوية المجرّبة المسطورة في كتب الطبّ ، و كغالب مؤثّرات العالم، و لا شبهة في أنّ من شرائطه الإيمان باللّه و برسوله، و اليقين بأنّ القرآن نازل من قبل اللّه، و أنّه كلامه.

و من الموانع عن التأثير القضاء الحتميّ و عصيان العبد و غير ذلك، فلا ينبغي للمؤمن أن يضعف اعتقاده بتلك التأثيرات عند مشاهدته التخلّف، و اللّه العاصم.

خاتمة في مصادر هذا التفسير

كلّ ما أودعته من الرّوايات في كتابي هذا طرائفه و تفسيره فمأخوذ من الكتب التي في غاية الاشتهار، كالشمس في رائعة(4) النّهار.

[1] منها: كتاب (جوامع الجامع) في التفسير، للشّيخ الأجل البارع المؤتمن أمين الإسلام، الفضل بن الحسن الطّبرسيّ .

[2] و منها: كتاب (بحار الأنوار) للعلامة المتبحّر المولى محمّد المدعوّ بالباقر المجلسيّ .

[3] و منها: (حواشي على كتاب أسرار التّنزيل)(5) للشّيخ الجليل الكبير، و الفاضل القليل النّظير، المؤيّد المسدّد، محمّد بن حسين بن عبد الصّمد، المدعوّ ببهاء الدين.

[4] و منها: كتاب (الصافي) للمحدّث المتقن، المولى محمّد، المدعوّ بالمحسن، المعروف بالفيض، و المحدّث الكاشاني قدس اللّه أسرارهم و أدام في العالمين آثارهم.

ص: 173


1- الإتقان في علوم القرآن 164:4، و الآية من سورة الحديد: 3/57.
2- الكهف: 39/18.
3- الإتقان في علوم القرآن 162:4.
4- في النسخة: رابعة.
5- يريد أنوار التنزيل و أسرار التأويل (تفسير البيضاوي) و سيأتي لا حقا ضمن مصادر المؤلف.

[5] و منها: كتاب (مفاتيح الغيب) للبحر القمقام المعروف بين العامّة بالإمام محمّد الرازي، الملقّب بفخر الدّين.

[6] و منها: كتاب (الإتقان) للقاضي جلال الدّين السّيوطي.

[7] و منها: كتاب (التفسير) للعلامة أبي السعود.

[8] و منها: كتاب (أسرار التنزيل) للقاضي ناصر الدّين أبي الخير عبد اللّه بن عمر بن محمّد بن عليّ الفارسيّ البيضاوي.

[9] و منها: كتاب (روح البيان) للشيخ إسماعيل المدعوّ بحقّي أفندي.

[10] و منها: كتاب (تفصيل وسائل الشيعة) للشيخ الأمجد، و المحدّث المعتمد، محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد، الحرّ العامليّ رضوان اللّه عليه.

ص: 174

في تفسير الاستعاذة

اشارة

فها أنا أشرع في المقصود، مستمدا من اللّه الودود، مبتدئا بالاستعاذة و تفسيرها، امتثالا لأمر اللّه الأكيد عند الشروع في كلّ أمر، سيّما القرآن المجيد.

فأقول و أنا العبد الأثيم محمّد بن المحقّق النحرير عبد الرّحيم النّهاوندي عاملهما اللّه بلطفه العميم، و إحسانه القديم:

أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «(أعوذ باللّه) أمتنع باللّه (السّميع) لمقال الأخيار و الأشرار، و لكلّ المسموعات من الإعلان و الإسرار (العليم) بأفعال الأبرار و الفجّار، و بكلّ شيء ممّا كان و ما يكون و ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون (من الشّيطان الرجيم) البعيد من كلّ خير المرجوم باللّعن و المطرود من بقاع الخير»(1)

أقول: الظاهر أنّ تفسير كلمة (أعوذ) بأمتنع تفسير باللازم، حيث إنّ صيغة أعوذ مشتقّة من العوذ، و له في اللغة معنيان: الالتجاء، و الالتصاق، و عليه يكون المعنى: ألتجئ باللّه، و ألوذ بحصنه و عصمته، أو ألتصق بفضل اللّه و رحمته، فيحصل بهذا الالتجاء و الالتصاق التحفظ و الامتناع من وساوس الشيطان المانع من كلّ خير، المطرود من بقاعه و محالّه؛ من الجنّة، و مقام القرب، و ساحة الفضل و الرحمة. و ذكر اسم الجلالة هنا لاقتضاء المقام إظهار عظمة المستعاذ به و قدرته و سطوته، و توصيفه باسم السّميع العليم بلحاظ أنّ للمستعيذ التجاء قوليّ و قلبيّ ، إذ حقيقة الاستعاذة و الالتجاء لا تحصل للعبد إلاّ بعد أن يرى العدوّ - و هو الشّيطان - قويا قادرا على إضراره، و نفسه في غاية العجز عن دفع شرّه، و يعلم أنّ اللّه قادر على دفع كلّ شرّ، مانع من كلّ ضرّ، مجير لمن استجار به، مأوى لمن التجأ اليه، مجيب لمن دعاه، رحيم بمن ناداه، كريم لمن قصده و سأله، جواد لمن رجاه و أمّله، عند ذلك

ص: 175


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 3/16.

يحصل له اليقين بأنّه لا حيلة له في التخلّص من كيد الشّيطان و حيله، و النّجاة من أيدي ذلك العدوّ و حبائله، مع شدّة بطشه و كثرة خيله و رجله، إلاّ التّحصّن بحصن اللّه الحصين و الاستجارة بركنه الرّكين، فعند حصول الالتجاء بجنابه، يتضرّع إليه بلسانه، و يقول: يا إلهي السّميع لمقالي، العليم بضرّي و عجزي و استئصالي و ضعف قوّتي و سوء حالي، احفظني و امنعني من بأس الشّيطان و ضرّه، و احرسني من كيده و شرّه، فعند ذلك تشمله العناية فيحصل له الامتناع من وساوسه، و السّلامة من دسائسه.

ثمّ اعلم أنّ للشّيطان في القرآن أسماء مشئومة، و ألقابا مذمومة، و إنّما وصف هنا بالرّجيم لكونه أجمع لمساوئه، فإنّه جامع لجميع ما يقع عليه من العقوبات، لأنّ المطروديّة من مقام الرّحمة من أشدّها، و مستتبع لجميع الدّركات.

و أمّا عداوته للإنسان، فمع أنّها معلومة بدلالة كثير من الآيات، و المتواتر من الرّوايات، يظهر تفصيلها مما روي عن ابن عبّاس، قال: خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم من المسجد، فإذا هو بإبليس، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما الذي جاء بك إلى باب مسجدي ؟» قال: يا محمّد، جاء بي اللّه. قال: «فلم ذا؟» قال:

لتسألني عمّا شئت.

فقال ابن عبّاس رضى اللّه عنه: [فكان] أوّل شيء سأله الصلاة. فقال [له]: «يا ملعون لم تمنع أمّتي عن الصلاة بالجماعة ؟» قال: يا محمّد، إذا خرجت أمّتك إلى الصلوات تأخذني الحمّى الحارّة، فلا تندفع حتّى يتفرّقوا.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لم تمنع أمّتي عن الدعاء؟» قال: عند دعائهم يأخذني الصّمم و العمى، فلا يندفع حتّى يتفرّقوا.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لم تمنع أمّتى عن القرآن ؟» قال عند قراءتهم أذوب كالرّصاص.

قال صلّى اللّه عليه و آله: «لم تمنع أمّتي عن الجهاد» قال: إذا خرجوا إلى الجهاد يوضع على قدمي قيد حتّى يرجعوا، و إذا خرجوا إلى الحجّ اسلسل و أغلل حتّى يرجعوا، و إذا همّوا بالصّدقة توضع على رأسي المناشير فتنشرني كما ينشر الخشب(1).

أقول: الظاهر أنّ الحمّى و الصّمم، و العمى، و الذّوب، و القيد، و التّغليل، و التّنشير، جميعها كنايات

ص: 176


1- تفسير روح البيان 5:1.

عن حالات سيّئة و آلام شديدة تعرض للشّيطان عند اشتغال العبد بهذه العبادات لكمال اشمئزازه عنها.

و نقل أنّه من استعاذ باللّه على وجه الحقيقة و عن صميم القلب، جعل اللّه بينه و بين الشّيطان ثلاثمائة حجاب، كلّ حجاب كما بين السماء و الأرض(1).

و قيل: إنّ التعوّذ باللّه رجوع من الخلق إلى الخالق، و من الحاجة التامّة التي تكون للنّفس إلى الغنى التامّ بالحقّ ، و من العجز إلى القدرة في كلّ الخيرات، و اكتساب البركات، و دفع جميع الشرور و الآفات، ففيه سرّ قوله: فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ (2).

و من الواضح أنّ لكثرة فوائد الاستعاذة كثرت الرّوايات في الترغيب إليها عند الشّروع في كلّ أمر من الامور الدينيّة و الأعمال الخيريّة التي من أهمّها تلاوة القرآن العظيم و الكتاب الكريم.

قال اللّه تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (3) فإنّ التأدّب بأدب اللّه مؤدّ إلى الفلاح الدائم و السعادة اللازمة، ثمّ إنّه بعد ما التجأ العبد إلى اللّه تعالى بالجنان و اللسان، و تمكّن في حصن الرّحمن، و امتنع من مكائد الشّيطان، و حصل له الأمان، ينبغي أن يستمدّ من ربّه، و يقتبس نورا لقلبه، حتّى يقوى على العمل، و يفوز بما رجاه و أمّل من غير ملل و لا فتور و لا كسل، بل بحضور القلب و الانبساط ، و كمال الشوق و النشاط ، و طمأنينة النفس و انشراح الصدر، و ليس ذلك إلاّ بذكر اللّه اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (4) فإنّ بالذكر بعد الاستعاذة تحصل نورانيّة معنويّة للرّوح، كما أنّ به تحصل طهارة ظاهريّة جسمانيّة للحيوان المذكّى، و ترتّب الذكر على الاستعاذة من جهة تأخّر رتبة التحلية على التّخلية، و الإقبال على اللّه على الانقطاع عمّا سواه، إذ إنّه ليس للمؤمن حالّ يكون فيه أقرب إلى اللّه من حال يكون ذاكرا.

ص: 177


1- تفسير روح البيان 5:1.
2- تفسير روح البيان 5:1، و الآية من سورة الذاريات: 50/51.
3- النحل: 98/16.
4- الرعد: 28/13.

ص: 178

في تفسير بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام «أنّه مكتوب في التوراة التي لم تغيّر: أنّ موسى سأل ربّه، فقال: يا ربّ أ قريب أنت منّي فأناجيك، أم بعيد فأناديك ؟ فأوحى اللّه عزّ و جلّ [إليه]: يا موسى أنا جليس من ذكرني(1).

و لمّا كان الكفّار و المشركون يبدءون بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات و العزّى، فعلّم اللّه الموحّدين أن يقولوا عند شروعهم في أمر بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».

قيل: إنّ اللّه تعالى افتتح كتابه الكريم بأوّل ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ ، و أوّل ما نزل على آدم عليه السلام(2).

و في (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «أوّل كلّ كتاب نزل من السّماء بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » (3).

و عن الرضا عليه السّلام: في تفسير بِسْمِ اللّهِ قال: «يعني أسم [على] نفسي بسمة من سمات اللّه، و هي العبادة» قيل له: ما السّمة ؟ قال: «العلامة »(4).

تحقيق بالتفكر فيه حقيق

أقول: توضيح ذلك أنّ حقيقة العبوديّة و هي الفناء و العجز و الحاجة و التّبعيّة و الانقياد، و هي علامة الربوبيّة التي هي كمال الوجود و الوجوب و الغنى و الجود و السلطنة و المولويّة، فإذا حصل في العبد نور العبوديّة، ظهرت فيه آية الربوبيّة، فمن وسم نفسه بسمة العبوديّة - و هي حالة العجز و الحاجة و الرّجاء و الفقر و العدم و الفناء - فقد وسم نفسه بسمة اللّه، حيث إن المخلوق ليس من جهة نفسه و ذاته إلاّ العدم و القابليّة لقبول فيض الحقّ و فعله و عطائه و إنعامه، و يعبّر عن هذه الحيثيّة بالذّات و الماهيّة، و ما سواها ليس إلاّ فيض الوجود و هي آية الحقّ و تجلّيه.

و كما أنّ جهة ذاته جهة الأنانيّة، و مناط الاحتجاب، و مبدأ كلّ شرّ، يكون فيض الوجود - و هو جهة الربوبيّة - مبدأ كلّ خير، فكلّما اشتدّت فيه هذه الجهة كملت الذّات و كثرت منها الخيرات، لأن كلّ خير من آثار الوجود الذي هو بإفاضة اللّه و جوده، فعلى العبد أن يسأل حين إرادة القيام بوظائف

ص: 179


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 22/127:1 «نحوه»، الكافي 4/360:2 عن الباقر عليه السّلام.
2- تفسير روح البيان 6:1.
3- الكافي 3/313:3.
4- معاني الأخبار: 1/3.

العبوديّة من التلاوة و سائر الطاعات، كمال وجوده و قوّة نفسه، بقوله بقصد الإنشاء و الدعاء: «أسم نفسي بسمة اللّه» أي اللهمّ أعلم نفسي بعلامتك، و أكمل فيض الوجود فيّ بجودك و فيّاضيّتك.

و هذا السؤال و الطلب ملازم للاستعانة و مساو لها، كما أنّ إفاضة الفيّاض عليه إجابة منه و إعانة، فتكون الاستعانة باسم اللّه مدلولا التزاميّا لقوله: أسم نفسي بسمة اللّه.

و لعلّه لكون مفهوم الاستعانة أقرب إلى أفهام العامّة، فسّر بِسْمِ اللّهِ في بعض الروايات بقوله:

أستعين باللّه (1) ،ثمّ يمكن على هذا التفسير أن يكون وجه تعليق الاستعانة بالاسم مع أنّها في الواقع بالمسمّى، و هو ذاته سبحانه و تعالى، أنّ فيه نوع تأدّب في التعبير، أو الإشارة إلى أنّ أسماء اللّه تعالى من جهة حكايتها عن الذّات المقدّسة و اتّحادها معها اتّحاد الكاشف مع المكشوف، لها قوّة نورانيّة و كمال وجوديّ به تكون مؤثّرات في الوجود، و يكفي العبد أن يستعين بها و يطلب القوّة على العمل بذكرها.

و عن (التوحيد): عن الباقر عليه السّلام في تفسير لفظ الجلالة، قال: «اللّه معناه المعبود الذي إله الخلق عن درك ماهيّته و الإحاطة بكيفيّته، و يقول العرب: أله الرجل، إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما. و وله:

إذا فزع إلى شيء ممّا يحذره و يخافه »(2).

و روي أنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما معناه ؟ فقال: «إنّ قولك: اللّه أعظم [اسم] من أسماء اللّه عزّ و جلّ ، و هو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه، و لم يتسمّ به مخلوق».

فقال الرجل: بما يفسر قوله: اللّه ؟ قال عليه السّلام: «هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج و الشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرّجاء من جميع من [هو] دونه»(3) الخبر.

في أنّ اسم الجلالة علم لذاته تعالى

أقول: و إن كان الظاهر من الرّوايتين أنّ معنى اللفظ المبارك معنى اشتقاقيّ إلا أنّ الحقّ أنّه علم للذّات المقدّسة، لعدم استعماله وصفا، بل هو في جميع الاستعمالات يكون موصوفا، و لعدم صراحة دلالة كلمة الإخلاص - و هي: لا إله إلاّ اللّه - على التوحيد إلاّ إذا كان لفظ الجلالة علما، و لبعد أن يكون للذّات المقدسة في سائر اللغات علم مخصوص دون اللّغة العربيّة التي هي أوسع من سائر اللغات و أكملها و أشرفها.

و على هذا فلا بدّ من حمل الروايات على بيان وجه مناسبة المعاني الاشتقاقيّة لوضعه العلميّ ، و إنّ

ص: 180


1- راجع: التوحيد 5/230.
2- التوحيد: 2/89.
3- التوحيد: 5/231.

الواضع كان هو اللّه تعالى أو غيره لاحظ حين الوضع العلميّ هذه المناسبات، و إنّ كلّ واحد من المعاني الاشتقاقيّة الكلّيّة حقيقتها و مصداقها منحصر في الذّات المقدّسة، حيث إنّ المعبوديّة المطلقة و المفزعيّة لجميع الموجودات حتّى الجمادات لا يكون إلاّ له تبارك و تعالى، و لا يتصوّر لمشرك أن يدّعي هذه المرتبة من المعبوديّة و الالوهيّة لما اتّخذه معبودا و إلها.

و الحاصل: إنّ العبادة عبارة عن الخضوع التامّ ، و القول بأنّ الصّنم أو الكواكب أو غيرهما معبود لجميع الموجودات حتّى الجمادات غير متصور من ذي مسكة و شعور، و أمّا الواجب تعالى فجميع ما سواه خاضع له، فازع إليه، ضارع لديه، سائل منه.

و توضيحه أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الوجود ملازم للشعور، و كلّ ماله حظّ من الوجود، له بمقدار حظّه حظّ من الشعور، و كلّ ما كان حظّه من الوجود أكثر كان حظّه من الشعور أوفر، و يشهد لذلك ما يشاهد من أثر الإدراك في كثير من النباتات فضلا عن الحيوانات.

و أقلّ مراتب الشعور أنّ الموجود يدرك أنّه معلول للعلّة، و موجود بالغير، و إدراك هذه الجهة مقتض لنهاية الخضوع لعلّته و موجده، و الآيات و الروايات توافقنا على أنّ للجمادات تسبيحا و خوفا و تضرّعا إلى اللّه، بل لها معرفة و طاعة للنبيّ و الوليّ .

فعلى هذا، فجميع الموجودات متوجهون إلى خالقهم، خاضعون له، سائلون فيضه و دوامه، خائفون من انقطاعه، فهو المعبود المطلق، و المفزع لجميع الموجودات، و المألوه لجميع المخلوقات عند الشدائد و الحاجات، و هو المحجوب عن إدراك الممكنات، المستور عن العقول بحقيقة الذّات و كنه الصّفات.

و يؤيد ما ذكرنا من حمل الرّوايات أنّه لولاه يلزم استعمال المشترك اللفظي في أكثر من معنى، أو إرادة بيان أنّ لمستعمل لفظ الجلالة أن يريد منه كلّ واحد من المعاني المختلفة، و الأوّل محال، و الثاني بعيد غايته.

و في رواية (التوحيد) المتقدّم صدرها في تفسير اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال عليه السّلام: «الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرّحيم بنا في أدياننا و دنيانا و آخرتنا، خفّف علينا الدّين، و جعله سهلا خفيفا، و هو يرحمنا بتمييزنا عن أعاديه »(1).

و في رواية اخرى: «الرّحمن بجميع خلقه، و الرّحيم بالمؤمنين خاصّة »(2).

أقول: لا ريب أنّ هذين الاسمين المباركين بحسب اللغة صفتان مشبّهتان من الرّحم: و هو التعطّف

ص: 181


1- التوحيد: 5/232، و فيه: بتميزنا من أعدائه.
2- الكافي 1/89:1.

إلى الغير بالإحسان إليه، و دفع المضارّ عنه، الناشئ عن مبدأ في الذّات، كان هو الرّقّة أو الحكمة، و الظاهر أنّه لا وجه لتخصيصه برقّة القلب حتّى يكون معناه الحقيقيّ مختصّا بالمخلوقين، و يكون إطلاقهما على اللّه مجازا.

و لعلّه لدلالة (الرحمن) بهيئته على المبالغة و الشدّة دلّ على الرّحمة العامّة الشاملة لجميع الموجودات من الخلق و الرّزق و سائر الإنعامات، فجميع الموجودات في جميع العوالم من الملك و الملكوت و البرزخ و الآخرة، وجودها و بقاؤها بشمول الرّحمة الرّحمانيّة.

و أمّا (الرّحيم) فلعلّه لعدم دلالته على المبالغة و الشدّة، اختصّ بالرّحمة الخاصّة بالمؤمنين من الهداية إلى الحقّ و التوفيق للإيمان و الأعمال الصالحة و حسن العاقبة و الجنّة و النعم الاخرويّة الدائمة، و لتقدّم الرّحمة العامّة على الرّحمة الخاصّة قدّم اسم الرّحمن على الرّحيم، و إن اقتضت إفادة الشدّة تأخّره عنه لتأخّر مرتبة الشدّة عن الضّعف.

في نكتة الاقتصار في البسملة بذكر الأسامي الثلاثة

و لعلّ وجه الاقتصار في المقام على ذكر الأسامي الثلاثة المباركات جامعيّتها لجميع الخيرات و البركات، حيث إنّ اسم الجلالة مبدأ فيض الخلق و الإيجاد، و اسم الرّحمن مبدأ فيض التربية و النعم الدنيويّة، و اسم الرّحيم مبدأ فيض الهداية و التوفيق و سائر التّفضّلات الاخرويّة على المؤمنين.

قيل: إنّ اللّه تعالى ثلاثة آلاف اسم، ألف منها عرفها الملائكة لا غير، و ألف منها عرفها الأنبياء لا غير، و ثلاثمائة في التّوراة، و ثلاثمائة في الإنجيل، و ثلاثمائة في الزّبور، و تسعة و تسعون في القرآن، و واحد استأثر اللّه به نفسه، و معنى هذه الثلاثة آلاف منطوية في هذه الأسماء الثلاثة، فمن علمها و قالها فكأنّما ذكر اللّه تعالى بكلّ أسمائه(1).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فضيلة هذه الآية المباركة، أنّه قال: «ليلة اسري بي إلى السّماء عرض عليّ جميع الجنان، فرأيت فيها أربعة أنهار: نهرا من ماء، و نهرا من لبن، و نهرا من خمر، و نهرا من عسل.

فقلت: يا جبرئيل، من أين تجيء هذه الأنهار و إلى أين تذهب ؟ قال: تذهب إلى حوض الكوثر، و لا أدري من أين تجيء، فادع اللّه تعالى ليعلّمك، أو يريك. فدعا ربّه، فجاء ملك فسلّم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: يا محمد، غمّض عينيك. قال: فغمّضت عيني، ثمّ قال: افتح عينيك، ففتحت فإذا أنا عند

ص: 182


1- تفسير روح البيان 9:1.

شجرة و رأيت قبّة من درّة بيضاء، و لها باب من ذهب أحمر و قفل، لو أنّ جميع ما في الدنيا من الجن و الإنس وضعوا على تلك القبّة لكانوا مثل طائر جالس على جبل، فرأيت هذه الأنهار الأربعة تخرج من تحت القبّة.

فلمّا أردت أن أرجع قال لي ذلك الملك: لم لا تدخل القبّة ؟ قلت: كيف أدخل و على بابها قفل لا مفتاح له عندي. قال: مفتاحه (بسم الله الرحمن الرحيم) فلمّا دنوت من القفل و قلت: بسم الله الرحمن الرحيم انفتح القفل، فدخلت في القبّة، فرأيت هذه الأنهار تجري من أربعة أركان القبّة، و رأيت مكتوبا على أربعة أركان القبّة بسم الله الرحمن الرحيم و رأيت نهر الماء يخرج من ميم بسم اللّه ،و رأيت نهر اللّبن يخرج من هاء اللّه ،و نهر الخمر يخرج من ميم الرّحمن ،و نهر العسل يخرج من ميم الرّحيم ،فعلمت أنّ أصل هذه الأنهار الأربعة من البسملة.

فقال اللّه عز و جلّ : يا محمّد، من ذكرني بهذه الأسماء من امّتك بقلب خالص من رياء، و قال بسم الله الرحمن الرحيم سقيته من هذه الأنهار »(1).

في بيان فضيلة البسملة

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن إسرافيل عليهم السّلام: قال اللّه تعالى: «يا إسرافيل، بعزّتي و جلالي، و جودي و كرمي، من قرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

متصلة بفاتحة الكتاب مرّة واحدة، فاشهدوا عليّ أنّي قد غفرت له، و قبلت منه الحسنات، و تجاوزت له عن السيئات، و لا احرق لسانه بالنّار، و اجيره من عذاب القبر و عذاب النّار و عذاب يوم القيامة، و الفزع الأكبر »(2).

نقل عن عارف أنّه كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) و أوصى أن يجعل في كفنه، فقيل له في ذلك، فقال: أقول يوم القيامة: إلهي، أنزلت كتابا و جعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم

فعاملني بعنوان كتابك(1).

ففي البسملة مثار صفات الحبّ و الحياء و الرّجاء و الخوف التي هي اصول التّقوى و العبوديّة، و لا ينفكّ العابد من أحد هذه الأحوال.

و قيل: إنّ البسملة تسعة عشر حرفا، و الزبانية تسعة عشر، فالمرجوّ من اللّه أن يدفع بليّتها بهذه الحروف التسعة عشر(2).

روي أنّه لا يردّ دعاء أوّله بسم الله الرحمن الرحيم الخبر(3).

ص: 183


1- تفسير الرازي 172:1.
2- تفسير الرازي 172:1 «نحوه».
3- تفسير روح البيان 9:1.

ص: 184

في تفسير فاتحة الكتاب

سورة الفاتحة (1): الآیات 1 الی 7

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (7)

سورة الفاتحة (1): آیة 1

ثمّ شرع في الكتاب بقوله: اَلْحَمْدُ و الثّناء الجميل - بجنسه أو بجميع أفراده، و تمام مراتبه و أنواعه من القوليّ و القلبيّ ، و الحاليّ و الأفعاليّ - خاصّ و ملك لِلّهِ لا شريك له فيه، لاختصاصه بحسن الفعال من جميع الجهات، ليس فيها شائبة القبح و النّقص، فالقوليّ منه: هو إظهاره باللسان، و القلبيّ : هو استشعار القلب به، و الحاليّ : هو الرّضا بجميع ما يصدر منه تعالى، و الأفعاليّ : هو القيام بطاعته و عبادته عن محبّة و شوق و نشاط .

و أيضا في تخصيص الحمد به تعالى إشعار بأنّ حسن أفعال من سواه راجع إليه تعالى، و حمد غيره على فعله يكون حمده، بل لا يجوز حمد غيره إلاّ بإذنه لأنّه هو مستحقّه و مالكه، ثمّ لا يمكن لأحد حقّ حمده لعدم إمكان إحصاء نعمائه و الإحاطة بحقيقة حسن أفعاله، و لذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج، لمّا أمره اللّه بالثّناء عليه: «لا احصي ثناء عليك »(1).

في بيان فضيلة حمده تعالى

و في افتتاحه تعالى كتابه المجيد بالبسملة و التحميد إشعار بأنّه لا ينبغي الشروع في أمر إلاّ بعد البسملة و الحمد.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حدّثني عن اللّه عزّ و جلّ أنّه قال: كلّ ذي بال لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر »(2).

و في رواية: «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أقطع »(3).

ص: 185


1- تفسير روح البيان 11:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 7/25.
3- كنز العمال 2509/558:1.

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنّه سئل عن تفسيره، فقال: «هو أنّ اللّه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتّفصيل لأنّه أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال [لهم]: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا »(1).

و عدم ذكر ما يحمد عليه في الآية، لعدم الاحتياج في المقام، ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ : للإشعار بعلّة استحقاقه الحمد و اختصاصه به، و هو كونه مربّي جميع الكائنات و الموجودات.

و في (العيون) و (تفسير الإمام عليه السّلام): عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «يعني مالك الجماعات من كلّ مخلوق و خالقهم و سائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون، يقلّب الحيوانات في قدرته، و يغذوها من رزقه، و يحوطها بكنفه، و يدبّر كلا منها بمصلحته، و يمسك الجمادات بقدرته، [و] يمسك ما اتّصل منها من التهافت، و المتهافت من التّلاصق و السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، و الأرض أن تنخسف إلاّ بأمره »(2).

قيل: إنّ الرّبّ هنا بمعنى المالك. و قيل: إنّ المراد بالعالمين عالم الملك، و عالم الإنس و عالم الجنّ ، و عالم الأفلاك، و عالم النّبات، و عالم الحيوان، و قد اختلفت الأخبار في عدد العوالم.

في ذكر عدد العوالم

عن الصّدوق في (الخصال) أنّه روي عن الباقر عليه السّلام أنّه ذكر في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (3): «إنّ اللّه قد خلق ألف ألف عالم، و ألف ألف آدم، و نحن في آخر العوالم و آخر الآدميّين »(4).

نقل عن الهيئة الجديدة التي أسّسها أهل الإفرنج أنّ كلّ كوكب من الكواكب السّيّارة، غير القمر و الشمس، أرض كأرضنا تدور حول الشمس، و الشمس كالمركز لها، و زادوا على السيّارات المعروفة سيّارتين كبيرتين تسمّى إحداهما أورانوس و الاخرى نبتون.

و نقل أنّهم وجدوا سيارات صغارا كثيرة يمتنع إدراكها إلاّ بالآلات المعدّة لهذا الشأن، و اعتقدوا [أن] لكلّ واحد من السيّارات الأوّل ثمانية أقمار و أقلّ إلى واحد، تدور تلك الأقمار على تلك

ص: 186


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 11/30.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 30/282:1، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري: 11/30، تفسير الصافي 71:1.
3- سورة ق: 15/50.
4- الخصال: 54/652.

الأراضي، كما أنّ لأرضنا هذه قمرا يخصّها، و أنّ لكلّ كوكب من الكواكب الثابتة شمسا كشمسنا هذه في فضاء غير متناه مع اختلافها في القرب من شمسنا و البعد منها، و كلّما كان أبعد كان جرمه في أبصارنا أصغر، فاستظهروا من ذلك أنّ لكلّ كوكب منها أراضي كالأراضي التي لشمسنا هذه، و حينئذ تكون الأراضي خارجة عن حدّ الإحصاء، و اللّه تعالى ربّ جميعها.

فظهر أنّ معنى هذه الكلمة و حقيقتها شامل لجميع الموجودات، محيط بها، معط لكمالها، و لكون مرتبة هذا الاسم المبارك تحت مرتبة اسم الجلالة، لكونه مظهر الآثار الالوهيّة، قرنه به في الآية و أخّره عنه في الذكر، و لدلالته على أنّ كلّ خير منه تعالى، و دفع كلّ شرّ إليه، كان فيه غاية التأثير في تهييج حبّ العارفين، و تحريك رجاء الرّاجين، و لهذا السرّ كان ثناؤه تعالى في الأدعية بهذا الاسم المبارك أكثر من ثنائه بسائر الأسماء، و من عرفه بالرّبوبيّة و عرف نفسه بالمربوبيّة المطلقة من كلّ وجه و اعتبار، عرف ما يناسب شأنه من الذلّة و الاستكانة، و قام بوظائفه من الطاعة و العبادة.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم القاصرين أن يكون تربيته للممكنات كتربية الأجرام الفلكيّة و المؤثّرات الكونيّة بغير إرادة و اختيار و حكمة و لحاظ صلاح، أشار بتوصيف ذاته المقدّسة بقوله: اَلرَّحْمنِ

إلى أنّ تربيته العامّة بمبدإ صفة الرّحمانيّة. و بقوله: اَلرَّحِيمِ إلى أنّ تربيته الخاصّة للنفوس القابلة و تكميلها بمبدإ صفة الرّحيميّة، و من الواضح أنّ هاتين الصفتين ملازمتان للعلم و الاختيار و الارادة و الحكمة.

و قيل: إنّ نكتة تكرار هذين الاسمين هي كمال مدخليّتهما في استحقاق الحمد، أو شدّة الاهتمام ببسط رجاء العباد إلى رحمته.

و في حديث معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عالم الملكوت: «ثمّ قال له: احمدني. قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: [في نفسه] شكرا، فقال اللّه تعالى يا محمّد، قطعت حمدي فسمّ باسمي، فمن أجل ذلك جعل في الحمد اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّتين »(1).

أقول: لعلّ وجه كون الشكر قاطعا للحمد أنّ في الشكر التوجّه إلى النّعم، و هو ملازم للتوجّه إلى النّفس، و ليس في الحمد إلاّ التوجّه إلى مقام الالوهيّة و الرّبوبيّة، فلزم تكرار اسم الحقّ سبحانه، و حصر التوجّه فيه، و إفناء ملاحظة النّفس.

ص: 187


1- الكافي 1/485:3.

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لتكميل النفوس بعد إيقاظها بالرّجاء بإنعاشها بالخوف بتنبيهها بالسّلطنة المطلقة في يوم الحساب و الجزاء، و أنّه الحاكم فيه ليس لغيره فيه حكم و سلطان كما كان لغيره في الدنيا بظاهر الأنظار.

عن (تفسير الامام عليه السّلام): «يعني القادر على إقامته، و القاضي فيه بالحقّ و الدّين و الحساب »(1).

و قيل: إنّ في هذه الآية إشعار بأنّ الحمد علّة نيل الرّحمة في الدّنيا و الآخرة، و يؤيده ما روي من أنّ آدم لمّا نفخ فيه الرّوح عطس، فقال: الحمد للّه، و اجيب: يرحمك ربّك، و لذلك خلقتك(2).

فدلّت الآيات الثلاث على أنّه سبحانه منبع الخلق و مبدأ الايجاد، و بفيضه و إرادته تربية الكائنات، و تكميل الموجودات، و أنّ رجوع جميع الخلق إلى حكمه و أمره و سلطانه في الآخرة. فإذا تذكّر العبد هذه الصّفات، و تأمّل في أنّ وجوده و تربيته و بقاءه و تعيّشه في الدّنيا به تعالى، و ارتقاءه من حضيض الحيوانيّة إلى أعلى مدارج القرب و كمال الانسانيّة بلطفه سبحانه، و تفكّر في أنّ مرجعه و معاده في الآخرة إلى حكمه تعالى و سلطانه، علم أنّ من كان إحسانه إليه في زمان بعده عنه و احتباسه في عالم الطبيعة و انغماره في ظلمات الجهل و الغفلة بمقدار لا يمكن عدّة و لا يدرك حدّه، لا يمكن منع فيضه و لطفه و إحسانه و إنعامه حين وروده عليه و وفوده لديه.

فعند ذلك تتكامل معرفته، و تحيط بالقلب محبّته، فيرتفع حجاب غفلته، و تتنوّر عين بصيرته، و تتجلّى أنوار جمال مليكه في ضميره، و يرى نفسه شاخصة بحضرته، فيعترف بالاخلاص في عبوديّته، و يقول: إِيّاكَ نَعْبُدُ و لك خاصة نخضع و ننقاد و نتذلّل.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «قال اللّه تعالى: قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم: إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا، نطيعك مخلصين موحّدين، مع التذلّل و الخضوع، بلا رياء و لا سمعة »(3).

و عن ابن عبّاس: أنّ جبرئيل قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قل يا محمّد: إِيّاكَ نَعْبُدُ. أي إيّاك نأمل و نرجو لا غيرك(4).

و في رواية عاميّة عن الصادق عليه السّلام: «يعني لا نريد منك غيرك، و لا نعبدك بالعوض و البدل كما

ص: 188


1- التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه السّلام: 14/38، تفسير الصافي 71:1.
2- تفسير روح البيان 14:1 «نحوه».
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 15/39، تفسير الصافي 71:1.
4- تفسير روح البيان 17:1.

يعبدك الجاهلون بك المغيّبيون عنك »(1).

أقول: الظاهر أنّ المراد من قوله: «لا نريد منك غيرك»، أنّه لا نريد بعبادتك نيل مطلوب من نعم الدنيا أو ثواب الآخرة، و لا دفع مكروه صوريّ أو معنوي، دنيويّ أو اخرويّ ، بل نريد بها أداء حقك حيث إنّك مستحقّ لها بوجوب الذّات و كمال الصّفات و النّعم السابغات، و هذه هي العبادة الحقيقيّة، و غيرها من سائر الغايات المنظورة هي عبادة غيره، و التعبير بصيغة مع الغير لإدراج عبادته في عبادة الحفظة أو حاضري صلاة الجماعة أو سائر العبّاد الموحّدين المخلصين، استحقارا لعبادة نفسه و إشعارا بأنّ عبادته غير قابلة بأن تذكر أو ينظر إليها إلاّ بتبع عبادة المخلصين.

ثمّ لمّا كان العبد مخلوقا من الضّعف، فلا قوّة له على العمل إلاّ بحوله تعالى، و لا حول له إلاّ بعونه، و لا يرجى منه خير إلاّ بتسديده و توفيقه، و كان في إسناد العبادة إلى نفسه إيهام العجب بقدرته و استقلاله في فعله و عمله، أمر بأن يسأل الإعانة من اللّه عليها، بقوله: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ على طاعتك و عبادتك و العمل بمرضاتك، و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم، و تخصيص الاستعانة به نتيجة التوحيد و معرفة ربوبيّته تعالى و مربوبيّة نفسه، حيث إنّ فيه إشارة إلى أنّه القادر المطلق، و أنّ قدرة غيره منتهية إليه، و أنّه الكافي لجميع ما سواه، و لا كافي غيره، و في إدخال استعانته في ضمن استعانة الموحّدين استيجاب ببركتهم.

ثمّ لمّا كان أهمّ المقاصد و أعظمها هو الهداية إلى عبادات موصلة إلى رضوانه، محصّلة للسّعادات الأبديّة من قربه و جنانه، خصّ طلب الإعانة بها، فكأنّه قال تعالى: كيف اعينك فيقول: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و دلّنا على النّهج الحقّ القويم.

في ذكر معنى الصراط و الجمع بين الأخبار

عن (تفسير الإمام): عن الصادق صلوات اللّه عليه: «يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، و المبلغ إلى جنّتك، و المانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك »(2).

و عن (المعاني) عنه عليه السّلام: «هي الطّريق إلى معرفة اللّه، و هما صراطان: صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة، فأمّا الصّراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطّاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مرّ على

ص: 189


1- تفسير الصافي 72:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 20/44، تفسير الصافي 72:1.

الصّراط - الذي هو جسر جهنّم - في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصّراط في الآخرة فتردى في نار جهنّم »(1).

و في رواية أخرى: «نحن(2) الصّراط المستقيم »(3).

و في أخرى: «الصّراط المستقيم: هو أمير المؤمنين عليه السّلام و معرفته»(4) الخبر.

أقول: لعلّ وجه الجمع، أنّ حقيقة الصّراط و الطريق المؤدّي إلى رضوان اللّه هي الشريعة المقرّرة المركّبة من العقائد الحقّة، و المعارف الإلهيّة، و الأعمال الصالحة، و الأخلاق المرضيّة، و الهداية إليها في هذا العالم لها أنحاء، أظهرها و أجلاها بحسب العادة هو الهداية إليها بوسيلة هاد من جنس بني آدم و هو النبيّ و الإمام، بل الهداية إليهما هي الهداية إليها، إذ لو كان للشّريعة المطهّرة صورة مجسّمة لكانت هي الانسان الكامل، و هو الإمام و الحجّة، إذ هم المبيّنون بكلامهم و أخلاقهم و أعمالهم حقيقة الدّين و الشرع المتين بهداية العبد إلى الدّين [و] تعريفه إيّاهم، فمن كان بهم أعرف كان إلى الصّراط أهدى، فمعرفتهم عين معرفة الصّراط ، و المقتدي بهم مارّ عليه في الدنيا و الآخرة و منته إلى رضوان اللّه، واصل إلى الجنّة و نعيم دار القرار، و المتخلّف عنهم زال عن الصّراط ، و هاو في النّار، و من الواضح أنّ هذه الهداية من أظهر شئون الرّبوبيّة، و أجلى آثار صفة الرّحيميّة.

ثمّ اعلم أنّ الهداية الحقيقية إليهم لست بالاطّلاع على الأدلّة الدالّة على إمامتهم و وجوب اتّباعهم و طاعتهم، بل تكون بالنّور الّذي يقذفه اللّه في القلب بحيث يؤثّر في ملازمتهم و الاقتداء بهم و بتقوية القوّة العاقلة بحدّ يورث قطع التعلّقات الجسمانيّة، و قمع الشّهوات النفسانيّة، و الاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال و مطالعة أنوار الجلال.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النّور فقد اهتدى، و من أخطأه فقد ضلّ »(5).و الظاهر أنّ المراد من الظلمة ظلمة الجهل، و من النّور نور العلم و العقل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ في الآية دلالة ظاهرة على نفي الجبر و التفويض، و إثبات الأمر بين الأمرين،

.

ص: 190


1- معاني الأخبار: 1/32، تفسير الصافي 72:1.
2- في النسخة: عن.
3- معاني الأخبار: 5/35، ينابيع المودة: 477، تفسير الصافي 73:1.
4- معاني الأخبار: 3/32 .
5- تفسير روح البيان 23:1.

حيث إنّ الظاهر من قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ أنّ الإرادة و العمل و القدرة من العبد، و من قوله: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ أنّ الإعانة بالهداية و التوفيق من اللّه.

ثمّ أنّه لمّا كان لإظهار فائدة المطلوب و المسئول و تذكّر مضارّ فواته تأثير عظيم في شدّة حرص الطالب على الطلب، و تهييج رحمة المطلوب منه في الإعطاء و الإجابة، وصف الصّراط و بيّنه بقوله:

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و طريقة جماعة خصصتهم بكمال اللطف و تمام الفضل عليهم من العصمة عن الخطأ و الزّلل، و المعرفة بحقائق الامور و اليقين بالمبدإ و المعاد لنورانيّة طينتهم، و قوّة عقولهم، و انشراح صدورهم، و هم النّبيّون، ثمّ الأوصياء، ثمّ الأولياء.

ثمّ وصف المهديّين المنعم عليهم بقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بسبب خبث طينتهم و فساد عقائدهم و أعمالهم، للتّعريض على أنّ الجاحدين للحقّ المعاندين له من اليهود و النّصّاب و أضرابهم في غضب اللّه، و بقوله: وَ لاَ الضّالِّينَ و هم الذين أعرضوا عن الحقّ لتقصيرهم و جهلهم من غير عناد كالنّصارى الّذين قال اللّه فيهم: وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى (1)

و كالشاكّين الذين لم يجهدوا في تحصيل معرفة الحقّ للتّعريض على أنهم في ضلال.

عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: «لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: قال اللّه عزّ و جلّ : قسّمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي [و لعبدي] ما سأل، فإذا قال العبد بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي، و حقّ عليّ أن اتمّم له اموره، و ابارك له في أحواله.

و إذا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال جلّ جلاله: حمدني عبدي، و علم أنّ النّعم التي له من عندي، و أنّ البلايا التي اندفعت(2) عنه فبتطوّلي، اشهدكم أنّي اضيف له إلى نعم الدّنيا نعم الآخرة، و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

و إذا قال: اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي بأنّي الرّحمن الرّحيم، اشهدكم لاوفّرنّ من نعمتي(3) حظّه، و لأجزلنّ من عطائي نصيبه.

فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال اللّه تعالى: اشهدكم كما اعترف بأنّي أنا الملك يوم الدّين،

ص: 191


1- المائدة: 82/5.
2- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: دفعت.
3- في عيون أخبار الرضا عليه السّلام: رحمتي.

لاسهّلنّ يوم الحساب حسابه، و لأقبلنّ حسناته، و لأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فإذا قال العبد: إِيّاكَ نَعْبُدُ قال اللّه عزّ و جلّ : صدق عبدي، إيّاي يعبد، اشهدكم لاثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ قال اللّه تعالى: بي استعان، و إليّ التجأ، اشهدكم لاعيننّه على أمره، و لاغيثنّه في شدائده، و لآخذنّ بيده يوم نوائبه. فإذا قال: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة، قال اللّه جلّ جلاله: هذا لعبدي، و لعبدي ما سأل، فقد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمّل، و آمنته ممّا منه وجل »(1).

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إبليس رنّ رنينا لمّا بعث اللّه نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على حين فترة من الرسل، و حين نزلت أمّ الكتاب »(2).

قيل: إنّها أوّل سورة نزلت بمكّة، و سورة البقرة أوّل سورة نزلت في المدينة و هي:

ص: 192


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 59/300:1، تفسير الصافي 75:1.
2- الخصال: 141/263.

في تفسير سورة البقرة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البقرة (2): الآیات 1 الی 3

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قد مرّ تفسيره في أوّل الفاتحة، و تفسير:

سورة البقرة (2): آیة 1

الم في طرفة بيان أظهر مصاديق المتشابهات(1).

ثمّ إنّ وجه النّظم بين هذه السورة و سورة الفاتحة، أنّ في تلك السورة سؤال الهداية، و في هذه السورة إجابته بقوله: ذلِكَ القرآن المجيد هو اَلْكِتابُ المعهود الذي بشّر الأنبياء به اممهم، و وعدك اللّه يا محمّد أنّه منزله عليك.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «يعني القرآن الذي افتتح ب (الم) هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى و من بعده من الأنبياء، و أخبروا بني إسرائيل أنّي سانزله عليك يا محمّد كتابا عربيّا لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (2) الخبر.

سورة البقرة (2): آیة 2

لا رَيْبَ فِيهِ و لا مجال لشكّ يعتريه، إنّه منزل من اللّه تعالى لظهور آيات الصّدق فيه، فالشّاكّ فيه كالشّاكّ في ضوء الشّمس إذا كانت في رائعة(3) النّهار، و يكون الشّكّ في قلبه لا في الكتاب.

روي عن الصادق عليه السّلام: «كتاب عليّ لا ريب فيه»(4) فإنّ صدره الشّريف مرآة اللّوح المحفوظ .

ثمّ وصف اللّه الكتاب بأنّه هُدىً و دليل إلى الرّشاد، و بيان من الضّلالة لِلْمُتَّقِينَ و هم المحترزون(5) عن العقائد الفاسدة و الأعمال القبيحة العقليّة، الطالبون(6) لمدارج التقوى.

ص: 193


1- راجع: الطرفة (18).
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 32/62، و الآية من سورة فصلت: 42/41.
3- في النسخة: رابعة.
4- تفسير العياشي 105/108:1.
5- في النسخة: المحترزين.
6- في النسخة: الطالبين.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «الذين يتّقون الموبقات و يتّقون تسليط السّفه على أنفسهم، حتّى إذا علموا ما يجب عليهم عمله، عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم »(1).

و عنه عليه السّلام أيضا، قال: «هُدىً بيان و شفاء للمتّقين من شيعة محمّد و عليّ عليهما و آلهما السّلام أنّهم اتّقوا أنواع الكفر فتركوها، و اتّقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، و اتّقوا إظهار أسرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكتموها، و اتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها، و فيهم نشروها »(2).

في بيان مراتب الهداية

أقول: هذا التفسير موافق لما قيل من أنّ المراد بالمتّقين الكاملون في التّقوى، فإنّهم المنتفعون به حقّ الانتفاع و يتوصّلون به إلى أعلى درجاته الذي يتلو مرتبة العصمة، فلا يرد عليه أنّ هداية الكاملين في التّقوى تحصيل الحاصل، و توضيح الدّفع أنّ الهداية لها مراتب ثلاثة: هداية عامّة، و هي الهداية إلى الإسلام لجميع النّاس، و هداية خاصّة لأهل الايمان إلى مرتبة التّقوى، و هداية أخصّ للكاملين في الإيمان و التّقوى إلى مقام المقرّبين.

عن الصادق عليه السّلام: «المتّقون شيعتنا »(3).

سورة البقرة (2): آیة 3

أقول: لأنّهم عليهم السّلام اصول شجرة التّقوى، و الدّعاة إليه، و شيعتهم فروع تلك الشجرة، و المجيبون للدّعوة.

ثمّ عرّفهم اللّه بأنّهم اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ و يصدّقون بما لا تدركه الحواسّ الظاهرة من التّوحيد و البعث و الحساب و جزاء الأعمال و قيام القائم المنتظر.

عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنهم - في حديث - قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «طوبى للصّابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبّته (4) ،اولئك من وصفهم اللّه في كتابه، فقال: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (5) الخبر.

في بيان اختلاف مراتب اليقين و اختلاف الأعمال باختلافها

ثمّ اعلم أنّ الايمان الظاهريّ هو الإقرار باللسان، و الحقيقيّ منه هو الاعتقاد القلبيّ و اليقين الذي لا يشوبه قلق و اضطراب و شكّ ، فإنّه مقابل الرّيب الذي هو الاضطراب في القلب، و لا ريب أنّ للمتّقين مراتب كثيرة ضعفا و شدّة، و أعلى مراتبه ما لو كشف

ص: 194


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 32/62.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 33/67.
3- تفسير العياشي 105/108:1.
4- في كفاية الأثر: للمتقين على محجتهم.
5- كفاية الأثر: 60، بحار الأنوار 60/143:52.

الغطاء عن الموقن ما ازداد يقينا.

و لا شبهة أنّ العمل يختلف باختلاف مراتب اليقين، حيث إنّه نور ساطع في القلب، سار شعاعه إلى الجوارح، فبحسب انبثاث شعاعه ينفذ روح الايمان في الأعضاء و تتقوّى و تتحرّك للقيام بوظائفه، فبنفوذ نور الإيمان و روجه في كلّ جارحة يظهر أثره فيه، فأثر إيمان القلب المعرفة و الانقياد و الخضوع، و أثر إيمان الدّماغ التفكّر و التدبّر في آيات اللّه و دلائل المبدأ و المعاد، و أثر إيمان العين الغضّ عن المحرّمات، و النّظر إلى الآيات، و أثره في سائر الجوارح أداء كلّ جارحة وظيفتها.

نعم، بعض الأعمال يشترك فيه جميع الجوارح كالصلاة، و لذا سمّاها اللّه بالإيمان في قوله: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (1) و أراد به الصّلاة، و لذا خصّها بالذكر بعد الإيمان بقوله: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ و يتمرّنون لأدائها و حفظ أوقاتها و تعديل أركانها و رعاية فرائضها و سننها و آدابها.

و يمكن أن تكون الصلاة لكونها أهمّ الفرائض البدنيّة كناية عن جميع فرائضها في مقابل الفرائض الماليّة، أو تكون كناية عن جميع الأعمال التي يرجع صلاحها إلى عاملها من غير تعدّ إلى غيره، و يكون قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ و متّعناهم به في الدنيا يُنْفِقُونَ و يبذلون، كناية عن جميع الفرائض الماليّة، أو جميع الأعمال التي فيها صلاح الغير من بذل المال، و تعليم العلم، و إعانة الغير بالقوى البدنيّة و الجاه، و غير ذلك ممّا يحتاج إليه غيره و ينتفع به.

عن الصادق عليه السّلام: «و ممّا علّمناهم يبثّون »(2).

و في رواية: «و ممّا علّمناهم من القرآن يتلون »(3).

و الظاهر أنّ المراد أنّهم يتلونه لغيرهم حتّى يتعلّموا، و قد جمعت الآيتان جميع الوظائف القلبيّة و الجوارحيّة و الماليّة، فإنّ كلّها من لوازم التّقوى.

قيل: إنّ هذه الآية نزلت في مؤمني العرب(4).

سورة البقرة (2): الآیات 4 الی 5

اشارة

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

ص: 195


1- البقرة: 143/2.
2- مجمع البيان 122:1.
3- تفسير القمي 30:1.
4- تفسير روح البيان 40:1.

سورة البقرة (2): آیة 4

ثمّ بالغ في توصيفهم و مدحهم بقوله: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ و يصدّقون تصديقا حقيقيّا لسانيّا و جنانيّا بِما أُنْزِلَ من السّماء متدرّجا إِلَيْكَ من القرآن و جميع أحكام شريعتك، أنّه كلام اللّه، و دينه المرضيّ عنده، و هذا الإيمان مستلزم للايمان بالرّسالة وَ ما أُنْزِلَ من الكتب على سائر الأنبياء مِنْ قَبْلِكَ أنّ جميعها كانت حجّة من اللّه على اممهم و إن نسخت.

و لعلّ ذكر الإيمان بالكتب بعد الإيمان بالغيب، لتنزيله منزلة الإيمان بالمحسوس لوفور دلائل صدقها و حقّانيّتها وَ بِالْآخِرَةِ و المعاد لجزاء الأعمال هُمْ يُوقِنُونَ لا يدخل في قلوبهم شكّ و لا ريب.

قيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب (1) ،و تخصيص اليقين بالآخرة بالذكر مع كونه داخلا في الإيمان بالغيب لكمال مدخليّته في تكميل النفس و استقامة العمل، فإنّ ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها.

في أن المغرورين عشرة

قيل: عشرة من المغرورين: من أيقن أنّ اللّه خالقه و لا يعبده، و من أيقن أنّ اللّه رازقه و لا يطمئنّ به، و من أيقن أنّ الدنيا زائلة و يعتمد عليها، و من أيقن أنّ الورثة أعداؤه و يجمع لهم، و من أيقن أنّ الموت آت و لا يستعدّ له، و من أيقن أنّ القبر منزله و لا يعمّره، و من أيقن أنّ الدّيّان يحاسبه و لا يصحّح حجّته، و من أيقن أنّ الصّراط ممرّه و لا يخفّف ثقله، و من أيقن أنّ النّار دار الفجّار و لا يهرب منها، و من أيقن أنّ الجنّة دار الأبرار و لا يعمل لها(2).

قال بعض: إنّ اليقين بالآخرة داع إلى قصر الأمل، و قصر الأمل يدعو إلى الزهد، و الزهد يورث الحكمة، و الحكمة تورث النّظر في العواقب(3).

و في الآية تعريض على أهل الكتاب حيث إنّهم يثبتون أمر الآخرة على خلاف حقيقته، و إنّ قولهم به ليس عن إيقان، و إنّ اليقين ما عليه المتّقون من المؤمنين بخاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

و يبالي فإنّ في رواية: «ما قسّم بين العباد شيء أقلّ من اليقين »(4).

في بيان الملازمة بين الإيمان بالمبدإ و الإيمان بالمعاد

ثمّ لا يذهب عليك أنّ اليقين بالمعاد مستلزم لليقين بالمبدإ، كما أنّ اليقين بالمبدإ مستلزم لليقين بالمعاد، لأنّ اليقين بالصانع يلازم اليقين بحكمته، و الحكمة مقتضية لأن يكون بعد هذا العالم عالم آخر يثاب فيه المؤمن، و يعاقب فيه العاصي، و إلاّ يلزم

ص: 196


1- تفسير روح البيان 40:1.
2- تفسير روح البيان 42:1.
3- تفسير روح البيان 42:1.
4- الكافي 6/43:2.

العبث في الخلق، قال اللّه عزّ و جلّ : أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (1) ،و قال:

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ (2)

إلى غير ذلك.

سورة البقرة (2): آیة 5

ثم بيّن سبحانه ثمرة تقواهم و صفاتهم الكريمة، بقوله أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات الكريمة مختصّون بالركوب عَلى طريق هُدىً كامل، و بيان(3) مقام المقرّبين بتفضّل كائن مِنْ قبل رَبِّهِمْ حيث إنّه أرشدهم إلى الحقّ ، و وفّقهم للطّاعة، و أعانهم على تحصيل مرضاته وَ أُولئِكَ الكاملون في المكارم هُمُ الْمُفْلِحُونَ المختصّون بالنّجاة و النّجاح، الفائزون بالبغية و الدّرجات.

و إنّما أشار إليهم بما يشار إلى البعيد، للإشعار بعلوّ منزلتهم و رفعة مقامهم، و بعدهم عن غيرهم في الأخلاق.

في معنى الفلاح

و في رواية، في ترجمة الأذان: «فأمّا قوله: حيّ على الفلاح، فإنّه يقول: أقبلوا إلى بقاء لا فناء معه، و نجاة لا هلاك معها، و تعالوا إلى حياة لا ممات معها، و إلى نعيم لا نفاد له، و إلى ملك لا زوال معه، و إلى سرور لا حزن معه، و إلى انس لا وحشة معه، و إلى نور لا ظلمة معه، و إلى سعة لا ضيق فيها، و إلى بهجة لا انقطاع لها، و إلى غنى لا فاقة معه، و إلى صحّة لا سقم معها، و إلى عزّ لا ذلّ معه، و إلى قوّة لا ضعف معها، و إلى كرامة يا لها من كرامة، و عجّلوا إلى سرور الدنيا و العقبى، و نجاة الآخرة و الاولى.

و في المرّة الثانية: حيّ على الفلاح، فإنّه يقول: سابقوا إلى ما دعوتكم إليه، و إلى جزيل الكرامة، و عظيم المنّة، و سنيّ النعمة، و الفوز العظيم، و نعيم الأبد في جوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله في مقعد صدق عند مليك مقتدر »(4).

سورة البقرة (2): الآیات 6 الی 7

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

ص: 197


1- المؤمنون: 115/23.
2- سورة ص: 27/38.
3- كذا، و تقرأ أيضا: و تبيان.
4- معاني الأخبار: 1/40، التوحيد: 1/240.

سورة البقرة (2): آیة 6

ثمّ أنّه لما كان من دأب اللّه تعالى في الكتاب العزيز أنّه كلّما ذكر المؤمنين و المتّقين بخير ذكر الكافرين و الفاسقين بسوء، و كلّما وعد المؤمنين بالثواب و الرحمة أوعد الكفّار بالعذاب و النّقمة، أردف هنا ذكر المتّقين و توصيفهم بأحسن صفاتهم، و وعدهم بالفلاح و النّجاح بذكر الكفّار الجاحدين للحقّ ، المصرّين على الكفر، و توبيخهم بأخبث أخلاقهم، و توعيدهم بالعذاب و النّكال، بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله كأبي جهل و أبي لهب و أضرابهما من رؤساء الضلال الذين كانوا في ذلك العصر مصرّين على التمرّد و اللّجاج و العناد للحقّ .

و يحتمل أن يكون المراد من الموصول كلّ من صمّم على الكفر تصميما لا يرعوي بعده، دون غيرهم من الذين لم يبلغوا ذلك الحال، بقرينة قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ و لا يتفاوت حالهم أَ أَنْذَرْتَهُمْ و خوّفتهم من عذاب اللّه و دعوتهم إلى الإيمان و وعظتهم أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فإنّ قلوبهم في أعلى مرتبة القساوة، خارجة عن قابلية التأثّر، و لذا سبق في علم اللّه أنّهم لا يُؤْمِنُونَ بك و بكتابك، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، و لا تطمع في إيمانهم حيث إنّه خَتَمَ اللّهُ و طبع عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يدخل فيها شيء من المواعظ ، و لا ينفذ فيها نور الهداية كما كانوا يقولون: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ (1).

وَ ختم عَلى سَمْعِهِمْ لا يدخل فيه كلمات الوعد و الوعيد و الإنذار و التّهديد كما كانوا يقولون: وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ (2)وَ عَلى أَبْصارِهِمْ كأنّه غِشاوَةٌ و غطاء لا يخرج منها نور يرون به آيات الحقّ .

روي عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ : خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ قال:

«الختم هو الطبع على قلوب الكفّار، عقوبة على كفرهم، كما قال اللّه عزّ و جلّ : طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً » (3).

و عن العسكري عليه السّلام: في تفسير خَتَمَ اللّهُ أنّه قال: «وسمها بسمة يعرفها من شاء من ملائكته و أوليائه إذا نظروا إليها، بأنّهم الذين لا يؤمنون »(4).

ص: 198


1- فصلت: 5/41.
2- فصلت: 5/41.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 16/123:1، و الآية من سورة النساء: 155/4.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 53/98.

و لعلّ المراد من الختم و السمة الظلمة المحيطة بقلوبهم بسبب تماديهم في الكفر و إصرارهم على العصيان، يراها كلّ من له بصيرة نافذة، و إسناده إلى اللّه لكونها بخذلانه إيّاهم، و هو من أشدّ العقوبات، فإذا انتهى حال قلوبهم إلى أعلى مرتبة القساوة و الظلمة فلا يمكن إيمانهم إلاّ بالقسر و الإلجاء المنافيين للتّكليف، و في تنكير الغشاوة إشعار بأنّها ليست من الغشاوات العاديّة.

في بيان معنى الاختيار و حقيقته

إن قيل: على هذا كان تكليفهم بالايمان بعد الختم تكليفا بغير مقدور و هو محال.

قلنا: مع ذلك كونهم مكلّفين بالايمان قادرين عليه مختارين فيه، من أوضح الواضحات، و أبده البديهيّات.

و توضيحه أنّ القدرة عبارة عن قوّة في الجوارح، و خصوصيّات فيها، لو أراد صاحبها عملا تمكّن بها من إيجاد ذلك العمل، و لذا لا تضاف إلاّ إلى الأفعال الجوارحيّة الإراديّة بالبداهة. فكلّ عمل يكون من مبادئ وجوده الإرادة، يكون من مبادئ وجوده الإرادي القدرة، و كلّ ما لا يكون من مبادئ وجوده الإرادة، لا يكون مقدورا، فالقدرة بوجودها العلمي أو الاحتمالي من شرائط تحقّق الإرادة، و صدور الفعل عن الاختيار.

و على هذا لا تكون نفس الإرادة و مبادئها من العزم و الجزم ممّا يضاف إليها القدرة، لعدم كونها إراديّة، لوضوح أنّ الإرادة لا توجد بأعمال الجوارح، بل هي معلولة للدّاعي، و هو علم الفاعل بصلاح الفعل، و هذا يختلف باختلاف الأنظار الناشئ من اختلاف مراتب العقول و الشّهوات، و من البديهيّ أنّه لا يعتبر في صحّة التّكليف أن يكون عقل المكلّف في أعلى مرتبة الكمال، بحيث لا يصير مغلوبا للشّهوة أبدا، فإنّ هذه مرتبة العصمة.

و الحاصل: إنّ الدّاعي المؤثّر في الإرادة تابع لقوّة العقل و ضعفه، و العلم بالصّلاح في المراد يكون بنظر الفاعل، فالدّواعي الحسنة معلولة لقوّة العقل و طيب الطّينة و جودة النّظر و كمال البصيرة، و الدّواعي السيئة منبعثة من ضعف العقل و خبث الطّينة و غلبة الشّهوة و قصور النّظر و عدم البصيرة.

فاذا كان الطبع مجبولا على رذائل الأخلاق و الصّفات، و النّفس معيوبة و مغمورة في الظلمات، و العقل ضعيفا مغلوبا للشّهوات؛ فلا محالة يصير القلب مغلوبا لا يستقرّ فيه جواهر الحكم، و البصر محجوبا لا يميز النور من الظّلم، فعند ذلك يتيه من هذا حاله في وادي الجهل و الغواية، و لا يرجى منه الرّشد و الهداية، و لا ينقدح في قلبه إرادة الخير و الصّلاح، و لا يصدر منه خيرة الفوز و الفلاح، و يكون

ص: 199

أضلّ من الأنعام، و يتأنّف من الانقياد للملك العلاّم، و يفتخر بعبادة الأصنام، و تكون لذّته في الشرّ و الفساد، و شوقه إلى الظلم على العباد.

و من الواضح أنّ جميع ذلك بقدرته و إرادته، إذ القدرة كما قلنا ليست إلاّ التمكّن من إيجاد ما أراد فعله أو ترك ما أراد تركه، و تناسب جوارحه لصدوره من غير ضعف و قصور، و الإرادة هي انبعاث النّفس إلى إيجاد ما فيه صلاح بنظره، و إن كان الانبعاث ناشئا من الدّواعي الشّهوانيّة و خبث الذّات و الطّينة، أو بإيجاد اللّه تلك الدّواعي في قلبه.

إن قيل: على هذا يلزم الجبر، و ينتفي الاختيار.

في أنّ تعلّق الإرادة التكوينية بأفعال العباد لا يستلزم الجبر و لا ينافي الاختيار

قلنا: لا شبهة أنّ الاختيار في اللّغة هو طلب الخير، كالاكتساب و الاختيار، و إنّما اطلق على الإرادة بلحاظ أنّها معلولة من العلم بالخير و الصّلاح في الفعل المراد، و مؤثّرة في إيجاده، إذ ليس وجودها الخارجيّ و مصداقها الحقيقي إلاّ توجّه النّفس إلى فعل لاحظ الفاعل فيه خيره، أو ترك شيء لاحظ في فعله شرّه، فإذا وجد الفعل و كان الجزء الأخير من علّته تلك الإرادة فهو اختياريّ ، أي منسوب إلى الاختيار و معلول له، و لا معنى لاختياريّة الفعل غير كونه موجودا بالإرادة، و لا يعتبر فيها أن تكون إرادته موجودة بإرادة اخرى، بل يستحيل أن تكون الإرادة للتّالي إراديّة، للزوم التسلسل، و إن أمكن أحيانا و على حسب الاتّفاق كون بعض مباديها إراديا إلاّ أنّه لا بدّ من انتهائه إلى ما لا يكون بالإرادة.

و بالجملة لا يعتبر في اختياريّة الفعل إلاّ إرادة واحدة معلولة للعلم بالصّلاح في المراد، و إن كان ذلك العلم حاصلا من غير المبادئ الاختياريّة أو بإرادة الغير، فإنّ جميع التسبيبات يكون بإيجاد الدّاعي في ذهن المباشر. مثلا إذا أراد أحد تحريك غيره و بعثه إلى قتل نفس محترمة بالإرادة التكوينيّة، لا بدّ له من إيجاد الدّاعي لمن يريد بعثه، و هو يكون بوعده بما يشتاق إليه، و يجعل بوعده الملازمة بين ذلك الفعل و نيل مطلوبه من مال أو جاه، فإنّ الوعد في الحقيقة جعل الملازمة بين الموعود و الموعود عليه، فإذا علم من اشتاق إلى مال أو جاه بأنّه يكون في قتل النّفس الوصول إلى ذلك المال أو الجاه، فعند ذلك يؤثّر ذلك العلم في تعلّق إرادته بالقتل، فإذا انقدح في قلبه إرادته تحرّكت جوارحه نحو القتل، و لكون فعله معلوما عنده بعنوانه و موجودا بإرادته و قدرته، يستحقّ اللّوم و العقاب، و إن لم يكن وجود الدّاعي المؤثر في إرادته بفعله و إرادته، بل بفعل غيره و الوعد

ص: 200

الحاصل من محرّكه.

و بالجملة لا شبهة أنّه يكفي في كون الفعل اختياريا تحقّق إرادة واحدة متعلّقة به، معلولة لداع موجود بالأسباب الاتّفاقية، و لا يحتاج إلى إرادات طوليّة.

و ممّا يوضح ما ذكرنا أنّ أفعال اللّه عزّ و جلّ اختيارية بالضّرورة من العقل، و ليس إلاّ لكونها صادرة عن إرادته التي هي عين علمه بالصّلاح التّامّ ، و هذا العلم هو عين ذاته، ليس موجودا بعلم آخر متعلّق بصلاح ذلك العلم.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لا يخرج الفعل إذا كان الدّاعي إليه باقتضاء الذّات، أو بايجاد الغير، أو بإفاضة اللّه، عن كونه اختياريا، و لا يكون فاعله بالإرادة مجبورا، لبداهة التضادّ بين كون الفاعل مريدا و كونه مجبورا، إذ من الواضح قبح السّؤال عمّن أخبر أنّه فعل فعلا بإرادته: أ كنت مجبورا أم مختارا فيه ؟ و لوضوح أنّه ليس الفارق بين حركة المختار و المرتعش إلاّ أنّ المرتعش لا تكون حركته بالإرادة، بخلاف المختار فإنّها بالإرادة و الدّاعي.

في أنّ ختم القلب و صدور الكفر و المعاصي بخذلان اللّه و إرادته التكوينية لا ينافي صحة العقوبة عقلا عليها

و ليس تعريف الفعل الاختياري و حقيقته عند الوجدان إلاّ أنّه لو شاء فعل، و لو لم يشأ لم يفعل، و ليس في تعريفه و حقيقته أنّه لو شاء شاء، و لا شبهة أنّه إذا كان شخص بهذه الصفة صحّ تكليفه و عقوبته.

ثمّ لا مجال للإشكال على صحّة العقوبة بأنّه مع حصول الختم في القلب و استناد الكفر و العصيان إلى الإرادة المستندة إلى الدّاعي غير الاختياري يكون العقاب عليهما عقابا على ما لا بالاختيار، و هو ظلم و قبيح.

إذ بعد ثبوت كون الكفر و العصيان بالإرادة، و تأثير قدرة الكافر و العاصي في كفره و عصيانه، يحكم العقل بحسن العقوبة و الذّمّ عليهما، إذ لا مدخل لغير الالتفات إلى عنوان الفعل و وجه كونه قبيحا و صدوره عن الإرادة في استحقاق العقوبة و حسنها، و قد تحقّق أنّ العقل هو الحاكم بالاستقلال في الحسن و القبح في المقام.

و بعبارة اخرى أنّ حسن العقوبة و المثوبة ليس إلاّ ملاءمتها لمذاق العقل، و العقل يجد الملاءمة بين العقوبة و صدور القبيح إذا كان منتهيا إلى مبدأ الإرادة و لو لم تكن الإرادة بالإرادة، و لا اعتراض عليه، و لا يسأل عمّا يحكم و هم يسألون، و الظلم هو العقوبة التي لا يحكم العقل بحسنها، و لا يجد لها

ص: 201

موضعا.

فظهر من جميع ذلك أن كلّ فعل صدر من العبد بقوّة جوارحه و إرادته المنقدحة في ذهنه يكون فعله اختياريا(1) و تحسن عقوبته عليه، إذا كان عنوانه الذي يكون به قبيحا ملتفتا إليه، و إن كان مبادئ إرادته بإيجاد اللّه و مشيئته، بل هو سبحانه و تعالى علّة علل جميع الأفعال الاختياريّة، حيث إن وجود جميع الموجودات من الجواهر و الأعراض و الغرضيّات من الفعل و الانفعال و الوضع و الإضافات و الكيفيّات و غير ذلك في جميع العوالم، لا بدّ أن تكون بالإرادة التكوينيّة الإلهيّة لأنّه السلطان المطلق و المالك الحقّ ، و جميع عوالم الوجود مملكته، و ناصية كلّ شيء بيده، ليس لغيره من مخلوقاته تصرّف و سلطان في ملكه و سلطانه، فلا يتحرّك متحرّك و لا يسكن ساكن و لا يؤثّر مؤثّر و لا يتصرّف متصرّف إلاّ بأمره و إذنه. و لا يمكن أن يوجد أحد ما لم يرد اللّه وجوده، أو يعدم ما لم يرد اللّه عدمه، أو يتحرّك أو يسكن إذا لم يرد اللّه حركته أو سكونه.

فعلى هذا يكون إيمان المؤمن و كفر الكافر و طاعة المطيع و معصية العاصي منتهيا إلى مشيئته و أمره، كما قال تعالى: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (2).

في دفع توهّم الفخر الرازي لزوم الجبر إذا كانت الأفعال معلولة للارادة و الإرادة معلولة للدّواعي و الدواعي معلولة للارادة التكوينية الالهية

و قد غلط من توهّم أنّ الفعل إذا كان بالإرادة و الإرادة بتأثير الدّاعي و الدّاعي بإيجاد اللّه لزم الجبر، لما ذكرنا من أنّ الجبر حمل الغير على فعل لا يريده، لا إيجاد علل إرادته، و أنّ الإرادة و الجبر ضدّان لا يجتمعان في فعل واحد، فإذا كان فعل مرادا امتنع أن يكون مجبورا عليه.

و أمّا نفس الإرادة فحيث إنّها ليست إراديّة، لا يعقل أن يضاف إليها الجبر بأنّ يقال: إنّ المريد كان مجبورا في إرادته، فإذا زيّن أحد معصيته في نظر أحد بحيث صار تزيينه لها داعيا، و علة لارادتها لا يعدّ المزيّن فاعلا لها و لا مجبرا عليها، بل يعدّ سببا، و الفاعل المريد مباشرا للمعصية، مستحقّا للذّمّ عليها بسبب إرادته و اختياره.

إن قيل: لا ريب أنّ السبب في صدور فعل القبيح من الغير و تحريكه إليه بإيجاد الداعي له، قبيح كمباشرته، فكيف يجوز نسبة وجود الدّاعي إلى الكفر و المعاصي و تسبيب أسبابه إلى اللّه الحكيم، مع

ص: 202


1- في النسخة: الاختياري.
2- يونس: 100/10.

امتناع صدور القبيح منه سبحانه ؟

قلنا: هو كذلك إذا لم يكن في صدور الفعل القبيح من الغير أو في إيجاد مقتضيات صدوره جهة حسن و صلاح بالنسبة إلى السبب، غالبة على جهة القبح و المفسدة في الفعل. و أمّا إذا كان في الفعل أو وجود الدّاعي إليه في نفس الغير جهة حسن و صلاح غالبة بالنسبة إلى السبب المحرّك، فليس قبيحا، بل هو في غاية الحسن بالنسبة إليه، و إن كان في نهاية القبح بالنسبة إلى المباشر، إذ من الواضح أنّه يختلف الفعل الواحد صلاحا و فسادا باختلاف الأشخاص، و حسنا و قبحا باختلاف الجهات.

و حينئذ نقول: مضافا إلى أنّ إفاضة الوجود الذي هو بالبديهة من العقل و العقلاء خير محض على الممكنات القابلة و الذوات المستعدّة [و] جود و إحسان و تعلية من حضيض النّقص إلى الكمال، و هما من الحسن بمكان، كما أنّ منع الفيض من اللّه قبيح و محال.

إنّ لكلّ ماله حظ من الوجود سواء كان من الجواهر و الأعراض كالخطرات القلبيّة، و الصّور الخياليّة، و الوجودات العلميّة، و حركات الجوارح و غيرها، حتّى حركة الطّرف، و مشي النّملة، و حركة ورق الشجر، و انتقال الرّمل و الحجر، و غير ذلك، صلاحا في نظام العالم، لأنّ جميع العوالم كالشّخص الواحد، و أجزاؤها كأعضائه، يتوقف صلاحها بصلاح جميع أجزائها، و صلاح كلّ جزء يتوقّف على صلاح بقيّة أجزائها، فجميع أجزاء العالم مرتبطات بعضها ببعض، و الإرادة التكوينيّة علمه تعالى بحسن الإيجاد و صلاح الموجودات، و بهذه الإرادة توجد جميع الموجودات من المؤثر و الأثر، و الصادر و المصدر، و الفاعل و الفعل، و الدواعي و مقتضياتها، و تتّسق امور الموجودات و يتمّ نظامها.

في بيان حقيقة الارادة التكوينية و التشريعية و الفرق بينهما و عدم تنافيهما

فإذا كانت الأفعال الإراديّة من الماهيّات القابلة لفيض الوجود، ممّا يتوقّف به حسن النظام، متعلّق بإيجادها، و الإرادة التكوينيّة بتوسّط عللها الطوليّة من الإرادة و مباديها، مثلا إذا أراد اللّه أن يصل مقدار من المال من زيد بإرادته إلى عمرو، يذكّر زيدا سوء حال عمرو و فقره، و يحدث الدّاعي إلى الإعطاء في قلب زيد، و يسهّل عليه إعطاءه، فيقوم زيد بالإرادة، و يذهب بالمال إلى باب عمرو فيعطيه، فيكون هذا الإعطاء من اللّه تعالى بالتّسبيب، و من زيد بقدرته و إرادته و مباشرته. و كذا إذا أراد اللّه أن يأكل أحد طعاما، يوجد فيه الاشتهاء، و يخلق الطّعام، و يمكّنه من أكله، و يرفع الموانع عنه، و يسلّطه عليه فيأكله المشتهي بإرادته

ص: 203

و قدرته و ميله و شهوته، بلا قسر و لا قهر و لا جبر، مع أنّه قد يكون أكل ذلك الطعام قبيحا بالنسبة إلى الآكل لكونه غصبا، و إيجاده بالمقدّمات الإرادية حسنا من اللّه تعالى لكونه مرتبطا بالنظام الأتمّ .

ثمّ اعلم أنّ من العناوين القابلة للوجود المرتبطة بالنظام، عنوان الطاعة و العبوديّة، و عنوان الطّغيان و المعصية، حيث كان الغرض من إيجاد الموجودات معرفته تعالى بأسمائه الحسنى، و صفاته الجماليّة و الجلاليّة، فلو لم توجد الطّاعة و العبوديّة، لم تظهر صفة لطفه و رحمته و رأفته، و لو لم يوجد عنوان الطغيان و الكفر، لم تظهر صفة قهّاريته، و لو لم يوجد عنوان المعصية لم تظهر صفة عفوه و غفوريّته، فعلى هذا تتعلّق الإرادة التكوينيّة بإيجادها بتوسّط إيجاد أسبابها و مقدّماتها.

و من الواضح أنّ من جملة مقدّماتها جعل الأحكام التّكليفيّة و الوضعيّة، و إرسال الرسل و إنزال الكتب، و الوعد بالثواب، و الوعيد بالعقاب، فتنشأ الأحكام طبقا للإرادات التشريعيّة التي هي عين العلم بحسن بعض الأفعال و صلاحه بالنسبة إلى المكلّف، و قبح بعضها و فساده، بالإضافة إليه على اختلاف مراتبهما من الحسن و القبح الملزمين و غير الملزمين، و على اختلاف درجات الصلاح و الفساد من المهمّ و غيره، فبالإنشاء البعثيّ و الزّجريّ الناشئ من تلك الإرادة التشريعيّة يحدث الوجوب و الاستحباب، و الحرمة و الكراهة.

فظهر من ذلك الفرق بين الإرادة التكوينيّة و التّشريعيّة، و أنّ الاولى: هي العلم بحسن الإيجاد، و ارتباط الموجود بصلاح النّظام الأتمّ . و أنّ الثانية: هي العلم بحسن صدور الفعل من فاعله و قبحه، و صلاحه أو فساده بالنسبة إليه، و أنّه لا تنافي بين قبح صدوره من مباشره و حسن التسبّب إليه من سببه، و إنّه لا تنافي بين كونه اختياريّا بالنسبة إلى المباشرة و استحقاقه الثواب أو العقاب عليه، و بين انتهاء وجوده بعلله الطوليّة إلى إرادة اللّه، و إنّه لا تنافي بين كون إيجاده و صدوره متعلّقا بالإرادة التشريعيّة، و تركه متعلّقا للإرادة التكوينيّة، لما ذكرنا من أنّ الإرادة التشريعيّة في طول الإرادة التكوينيّة، و من مبادئ إنفاذها، حيث إنّه لو لم تكن الإرادة التشريعيّة، لم توجد الطّاعة و المعصية اللّتان تكونان متعلّقتين للإرادة التكوينيّة.

في وجه الحاجة إلى ارسال الرسل و إنزال الكتب و أنّ الأحكام التكليفية ألطاف من اللّه تعالى

و اتّضح أيضا وجه الحاجة إلى إرسال الرّسل و إنزال الكتب و إظهار المعجزات و فوائدها.

ثمّ لمّا كانت الأحكام التكليفيّة مقربات إلى المحسّنات العقليّة، و مبعّدات عن

ص: 204

قبائحها، لكونها دواعي الى إتيان ما يأمر به العقل لحسنه أو صلاحه، و إلى ترك ما ينهى عنه العقل لقبحه و فساده، كانت جميعها ألطافا من اللّه، و التوفيق للقيام بها رحمة و عطوفة منه(1) ؛ لأنّ العمل بها مؤثّر في كمال النّفس، و نورانيّة القلب، و الطّهارة من الأخلاق الرّذيلة السّيئة، و التّحلّي بالملكات الجميلة الحسنة، و يكون الانسان بها كاملا في الجهات الانسانيّة، و مظهرا للصفات الإلهيّة، و هذا الكمال و المظهرية هو حقيقة القرب إلى ساحة الربوبية، و الفوز بالمقصد الأعلى من التمحض في العبوديّة، و الاستغراق في بحار الأنوار، و الارتقاء إلى درجة لا ترقى إليها العقول و الأفكار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تعذيب الكفّار بالطبع و الخذلان، هدّدهم بقوله وَ لَهُمْ خاصّة في الآخرة أو في الدّنيا و الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ لا يدرك شدّته و عظمته إلاّ اللّه، أمّا في الدنيا فبالآلام الواردة عليهم من الأخلاق السيّئة و الذّلة و المسكنة و الطّرد و الشّرد و القتل و سائر البليّات، و أمّا في الآخرة فبنار سجّرها القهّار بغضبه، لا يقضى عليهم فيموتوا، و لا يخفّف عنهم ساعة و هم فيها خالدون.

في أنّ وجه صحّة تعذيب العصاة و إثابة المطيعين هو الاستحقاق العقلي و حسنهما في حكمه.

ثمّ لا يخفى أنّ علّة تعذيب الكفّار و العصاة لا تكون إلاّ استحقاقهم الذي يحكم به العقل عند عصيان العبيد مواليهم الذين تجب طاعتهم، فإذا تحقق الاستحقاق يجب على الحكيم العمل بمقتضاه، إذ الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، و إعطاء الشّيء ما يستحقّه.

إن قيل: لا شبهة في أنّ العفو عن عقوبة من يستحقّها حسن في حكم العقل، فيجب على اللّه بمقتضى حكمته و كرمه.

قلنا: قد تكون المعصية من القبح بمرتبة لا يحسن العفو عن عقوبتها، و يكون العفو عنها مخالفا للحكمة، حيث إنّه كما يعتبر في الإحسان قابليّة المحلّ ، كذلك يعتبر في العفو، مثلا إذا رأى كريم أجنبيا مع زوجته أو بعض محارمه و نواميسه كأمّه و بنته قبح العفو عنه، إذ العفو في المقام كاشف عن عدم الغيرة. و لذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا بقتل جريح القبطيّ بمجرّد سماع رميه بمراودة مارية عن نفسها، و كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: «كان أبي إبراهيم غيورا، و أنا أغير منه »(2).

و لنوضح المقام ببيان مقدّمة، و هي أنّ فعل القبيح عند العقل و العقلاء مقتض لاستحقاق اللّوم، و العصيان من العبد مقتض لاستحقاق العقوبة من المولى، و المراد من الاستحقاق حسن اللّوم

ص: 205


1- كذا، و المصدر من عطف: عطفا و عطوفا.
2- مكارم الأخلاق: 239.

و العقوبة في الموضعين، و حقيقة الحسن و القبح هي الموافقة لمذاق العقل و المنافرة له، و لا شبهة أنّ لكلّ منهما مراتب في الشّدّة و الضّعف باعتبار قوّة منشأهما و ضعفه، فقد يكون الحسن في فعل بمرتبة لا يزاحمه حسن آخر إذا دار الأمر بينهما، و لا قبيح إذا استلزمه فيحسن ارتكابه، و إن لزم منه وجود قبيح آخر أو فوت حسن آخر، و قد تساوي جهة حسنة جهة حسن ضدّه الذي لا يجامعه في الوجود، أو جهة قبح لازمه، فتخيّر الفاعل بين الضدّين في الأوّل و بين النّقيضين من الفعل و التّرك في الثاني، و قد تترجّح إحدى الجهتين على الاخرى رجحانا غير لازم الرّعاية، فتكون رعايتها أحسن و أفضل.

إذا تمهّد ذلك نقول: لا شبهة في أنّ المعصية منشأ لانتزاع حسن اللّوم و العقوبة من حيث إنّها كاشفة عن خبث النفس و سوء السّريرة، ثمّ إنّه قد يتدارك بالتّوبة أو بطاعة مقبولة فينتفي بوجود أحدهما منشأ انتزاع حسن العقوبة.

و بعبارة اخرى التّوبة أو الطاعة المقبولة في حكم العقل مزاحمان لمقتضى الاستحقاق و مزيلان له، و مع عدمهما قد يكون حسن العفو مساويا لحسن العقوبة، و قد يترجّح عليه برجحان غير ملزم فيما لم يكن مقتضى العقوبة في غاية القوّة، مثلا الكفر و الشرك يكونان في اقتضاء العقوبة بدرجة يخرجان صاحبهما عن قابليّة العفو، حيث إنّهما يورثان ظلمة محيطة بالقلب، بحيث لا تبقى فيه شائبة النور، و يخرج عن مسانحة عالم الأنوار، و يصير مناسبا لعالم الظلمات، و يكون كالشّجر اليابس لا يليق إلاّ للإحراق بالنّار، و كالشّيطان لا ينبغي إلاّ أن يكون قرينا للشّياطين في دار البوار، و ليس إسكانه في الجنان إلاّ كإسكان الكلب الأجرب العقور على سرير السّلطان.

في بيان أنّ العفو عن الكافر خلاف الحكمة و وضع الشيء في غير موضعه

و الحاصل: إنّ العفو عنه، و الرّحمة عليه، و الإحسان إليه، خلاف الحكمة، و من قبيل وضع الشّيء في غير موضعه، و قد ورد في الدعاء المأثور: «و أيقنت أنّك أنت أرحم الرّاحمين في موضع العفو و الرّحمة، و أشدّ المعاقبين في موضع النّكال و النّقمة »(1).

فإنّ من الواضح أنّ الشّقاوة ملازمة للبعد و الهلاك، و إنّما الوعد بالعذاب في الحقيقة إخبار بوجود الملاك.

ص: 206


1- إقبال الأعمال: 58.

سورة البقرة (2): الآیات 8 الی 9

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)

سورة البقرة (2): آیة 8

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر المتّقين و مدحهم بالصفات الحسنة و وعدهم بالهدى و الفلاح، و ذكر الكفّار و ذمّهم بالأخلاق السيّئة و توعيدهم بالعذاب العظيم، شرع في بيان حال القسم الثالث من النّاس، و هم المنافقون الذين يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر، بقوله: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ بلسانه آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ و الحال أنّهم كاذبون فيما يقولون وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ و لا معدودين في زمرتهم لعدم دخول الإيمان في قلوبهم.

عن القمّي رحمه اللّه: أنّها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإسلام، و كانوا إذا رأوا الكفّار قالوا: إنّا معكم. و إذا لقوا المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون(1).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إنّ الحكم بن عتيبة ممّن قال اللّه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فليشرّق الحكم و ليغرّب، أما و اللّه لا يصيب العلم إلاّ من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السّلام »(2).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام): عن موسى بن جعفر صلوات اللّه عليهما - في رواية طويلة ذكر فيها قضيّة يوم الغدير، و نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام للخلافة، و أمره الصّحابة ببيعته بإمرة المؤمنين - إلى أن قال: ثمّ إنّ قوما من متمرّدي جبابرتهم تواطئوا بينهم إن كانت لمحمّد كائنة لندفعنّ هذا الأمر عن عليّ ، و لا يتركونه [له]، فعرف اللّه ذلك في قلوبهم. و كانوا يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون له: لقد أقمت عليّا أحبّ خلق اللّه إلى اللّه و إليك و إلينا، كفيتنا به مئونة الظّلمة و الجبابرة، و سياستنا(3).

و علم اللّه في(4) قلوبهم خلاف ذلك و مواطأة(5) بعضهم لبعض أنّهم على العداوة مقيمون، و لدفع الأمر عن مؤثره(6) مؤثرون، فأخبر اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله عنهم، فقال: يا محمّد وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ الذي أمرك بنصب عليّ إماما و سائسا لامّتك و مدبّرا وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بذلك و لكنّهم مواطئون على هلاكك و هلاكه»(7) الخبر.

ص: 207


1- تفسير القمي 34:1.
2- الكافي 4/329:1.
3- في المصدر: و الجائرين في سياستنا.
4- في المصدر: من.
5- في المصدر: و من مواطأة.
6- في المصدر: مستحقه.
7- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 58/112. و فيه: و لكنّهم يتواطئون على إهلاكك و إهلاكه.

أقول: الظاهر - بالنّظر إلى الرّوايات - أنّ شأن نزول الآية جماعة المنافقين الذين كانوا من أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و لكنّها جارية على سائر المنافقين في سائر الأزمنة إلى يوم القيامة، و فيها دلالة على أنّه لا ينبغي الوثوق بإيمان كلّ من كان داخلا في الصّحابة و عمله و قوله حسنا في الظاهر، كما هو مبنى مذهب العامّة، و فيها إشعار أيضا بأنّ أهمّ أركان الإيمان هو الإيمان بالمبدإ و المعاد.

سورة البقرة (2): آیة 9

ثمّ قرعهم اللّه بقوله: يُخادِعُونَ اللّهَ بمعاملتهم مع رسوله معاملة المخادع، و لكونه صلّى اللّه عليه و آله خليفة اللّه و مظهر صفاته و عينه الناظرة و يده الباسطة و اذنه الواعية نزّل مخادعته منزلة مخادعة اللّه.

عن ابن بابويه: عن الصادق عليه السّلام عن أبيه «[أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله] سئل: فيما النّجاة غدا؟ فقال: إنّما النّجاة في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الإيمان، و نفسه يخدع لو يشعر. فقيل له: و كيف يخادع اللّه ؟ فقال: يعمل بما أمره اللّه عزّ و جلّ به ثم يريد به غيره، فاتّقوا اللّه و اجتنبوا الرياء فإنّه شرك باللّه عزّ و جلّ ، إنّ القراءة يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر»(1) الخبر.

و فيه دلالة على أنّ مخادعة اللّه لا تختصّ بالمنافق المعروف، بل تعمّ كلّ من يظهر شأنا و مقاما من الدّين و هو ليس بواجد له، و كلّ من يظهر حقّا لا يوافق ظاهره باطنه وَ يخادعون اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ لأنّ ضرر مخادعتهم راجع إلى أنفسهم لا إلى المؤمنين وَ ما يَشْعُرُونَ

أنّهم بخديعتهم و نفاقهم يضرّون على أنفسهم، بل يحسبون أنّهم يجلبون النّفع، أو لا يشعرون أنّه لا يمكنهم الخديعة بالنّسبة إلى اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، فإنّ الخدعة فعل ما هو مضرّ على الغير مع إخفاء ضرّه و إظهار صلاحه، و اللّه مطّلع على خفايا امورهم، و كفر باطنهم، و هو يطلع نبيّه و المؤمنين، و يأمرهم بلعنهم، فيكون الأمر بخلاف ما تخيّلوا، حيث إنّ نفاقهم مضر عليهم مع خفاء ضرره عنهم، و في سلب الحواسّ الحيوانية عنهم دلالة على انحطاطهم عن مرتبة البهائم.

سورة البقرة (2): الآیات 10 الی 12

اشارة

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

ص: 208


1- أمالي الصدوق: 921/677.

ثم

سورة البقرة (2): آیة 10

كأنّه يقال: ما سبب نفاقهم مع وضوح الحقّ ؟ فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عظيم من الحسد و الكبر و حبّ الجاه و العناد للحقّ ، فأورث فساد أرواحهم و هلاكهم الأبديّ ، و أين هذا المرض من الأمراض الجسمانيّة التي غاية شدّتها أن تنتهي إلى الموت و فساد الجسد!

و في الحديث: «القلوب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك، و إن أدركه على إيمانه نجا، و قلب منكوس و هو قلب المشرك، و قلب مطبوع و هو قلب المنافق، و قلب أزهر أجرد و هو قلب المؤمن، فيه كهيئة السّراج، إن أعطاه اللّه شكر، و إن ابتلاه صبر»(1) الخبر.

فَزادَهُمُ اللّهُ بسبب ظهور الآيات، و توافر المعجزات، و زيادة حشمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قوّة الإسلام مَرَضاً و حسدا زائدا على حسدهم، و بغضا و عنادا أشدّ من بغضهم و عنادهم السّابق، فإنّ الأمراض القلبية تتزايد، و الصفات الذّميمة تشتدّ إذا لم تعالج عند الأطبّاء الروحانيين و هم الأنبياء و الأولياء.

ثمّ هدّدهم اللّه بقوله: وَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ بالغ ألمه غايته بِما كانُوا يَكْذِبُونَ في قولهم: آمنّا باللّه و باليوم الآخر، أو قولهم: إنّا على البيعة و العهد مقيمون.

سورة البقرة (2): آیة 11

ثمّ بالغ سبحانه في بيان غاية خبثهم و قساوتهم ببيان عدم قبولهم النّصح، بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ

نصحا و وعظا، و الظاهر أنّ القائل بعض المؤمنين المطّلعين على فساد نيّتهم و إفسادهم لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ .

قيل: كان فسادهم فيها أنّهم كانوا يمايلون الكفّار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، و إغرائهم عليهم، و ذلك ممّا يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.

و قيل: هو مداراتهم الكفّار و مخالطته إيّاهم، حيث يوهم ذلك مع تظاهرهم بالإيمان، ضعف أمر النبيّ و أصحابه، فيصير سببا لطمع الكفّار فيهم فتهيج الفتن و الحروب بينهم.

و قيل: كانوا يدعون في السّرّ إلى تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يلقون الشّبه في قلوب المؤمنين.

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالإفساد إظهار معصية اللّه (2).فإنّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسّك الخلق بها زال العدوان و لزم كلّ شأنه، فحقنت الدّماء، و ضبطت الأموال، و حفظت الفروج، فكان ذلك صلاح الأرض و أهلها، أمّا إذا أهملت الشريعة و أقدم كلّ أحد على ما يهواه، اشتعلت نوائر

ص: 209


1- الكافي 2/309:2.
2- تفسير الرازي 66:2.

الفتن من كلّ جانب، و حدثت المفاسد.

و عن العالم موسى بن جعفر عليه السّلام: «أنّه إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير: لا تفسدوا في الأرض بإظهار نكث البيعة لعباد اللّه المستضعفين فتشوّشوا عليهم دينهم و تحيّروهم في دينهم و مذاهبهم »(1).الخبر.

أقول: الظاهر إرادة جميع أنحاء الفساد للإطلاق، و عدم ما يدلّ على إرادة فساد خاصّ ، بل الظاهر من حالهم أنّهم كانوا لا يتركون شيئا ممّا يوجب الفساد في الدّين و أمر نبوّة خاتم النبيّين، و كذا في أمر خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام عند قدرتهم عليه، و تيسّره لهم.

و مع ذلك قالُوا جوابا للناصحين من المؤمنين، و ردّا عليهم: لسنا مفسدين، بل إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ بين المشركين و المسلمين بالمداراة معهم، أو المراد أنّهم قالوا لمن كان على طريقتهم و عقيدتهم من الكفر: إنّ نفاقنا و إلقاء الفتنة بين المشركين و المسلمين و إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين محض الصلاح و الإصلاح، حيث إنّا بتلك الأعمال نحفظ ديننا من اليهوديّة و الوثنيّة، و دماءنا و أعراضنا و أموالنا بإظهار الإسلام.

و عن موسى بن جعفر عليه السّلام: «قالوا - يعني الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه السّلام - إنّما نحن مصلحون لأنّا لا نعتقد دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لا غير دين محمّد، و نحن في الدّين متحيّرون، فنحن نرضي في الظاهر محمّدا بإظهار قبول دينه و شريعته، و نقضي في الباطن على شهواتنا، فنتمتع و نترفّه و نعتق أنفسنا من دين محمّد و نكفّها من طاعة عليّ لكيلا نذلّ في الدنيا»(2) الخبر.

سورة البقرة (2): آیة 12

فردّ اللّه عليهم بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المؤمنون إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ في الأرض، لا مفسد أفسد منهم، لأنّ عملهم عين الفساد و محضه، حيث إنّه تشييد للباطل، و تضعيف للحقّ ، و إثارة للفتن، و سبب لكثرة الحروب و إراقة الدّماء، مع غلبة المسلمين.

أو المراد «أنّهم مفسدون امور أنفسهم بما يفعلون، حيث إنّ اللّه تعالى يعرّف نبيّه صلّى اللّه عليه و آله نفاقهم، فهو يلعنهم و يأمر المسلمين بلعنهم أيضا، و لا يثق بهم أعداء المؤمنين لأنّهم يظنّون أنّهم ينافقونهم أيضا

ص: 210


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 61/118. (2و2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 61/118.

كما ينافقون أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلا ترتفع لهم عندهم منزلة، و لا يحلّون عندهم بمحلّ الثقة»(1)

هكذا مرويّ عن المعصوم.

ثمّ استدرك اللّه تعالى، بقوله وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ أنّهم مفسدون، للإيذان بأنّ تمحّضهم في الإفساد من المحسوسات، لكن لا حسّ لهم حتّى يدركوه، أو المراد أنّهم لا يشعرون بعدم انتفاعهم بالنفاق، بل يتضرّرون به أشدّ الضّرر، أو المراد أنّهم لا يشعرون أنّ صلاح أمرهم في العاجل و الآجل في الإيمان و التّسليم و الوفاء ببيعة أمير المؤمنين عليه السّلام.

قيل: في الآية إشعار بشرف المؤمنين، حيث تولّى اللّه عنهم جواب المنافقين(1).

سورة البقرة (2): الآیات 13 الی 16

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

سورة البقرة (2): آیة 13

ثمّ أكّد اللّه بيان خصلتهم السّيئة بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ من طرف المؤمنين، بطريق الأمر بالمعروف عقيب نهيهم عن المنكر، إتماما للنّصح و إكمالا للإرشاد: آمِنُوا باللّه و اليوم الآخر و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما جاء به إيمانا حقيقيّا لا يشوبه شكّ و لا نفاق كَما آمَنَ النّاسُ المخلصون من أصحاب الرّسول صلّى اللّه عليه و آله الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، كسلمان و أبي ذرّ و المقداد و أضرابهم قالُوا

لأصحابهم المطّلعين على سرّهم، الموافقين لهم في كفرهم، إنكارا و تعجيبا: أَ نُؤْمِنُ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دينه كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الذين هم لضعف عقولهم رفضوا دين آبائهم، و أعرضوا عن أرحامهم و أقربائهم، و تركوا جاههم و ثروتهم، و رضوا بالذّلّة و المسكنة لأنفسهم، و اتّبعوا هذا الرجل الضّعيف، و عن قريب يتهاجم عليهم العرب و يقتلونهم عن آخرهم، فينقطع خبرهم، و ينمحي أثرهم.

فردّ اللّه عليهم بقوله: أَلا تنبّهوا أيّها المؤمنون إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ القاصرون عن معرفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّه مؤيّد منصور، و أنّ دينه يقوى و يدوم مرّ اللّيالي و الدهور، و أنّه نبيّ الرّحمة، و أنّ الذين

ص: 211


1- تفسير روح البيان 58:1.

اتّبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، و أنّه يضرب على من خالفه الذّلّ و الهوان، و أنّه باب اللّه الجاري من أوّل الخلق إلى آخر الزمان، و ذلك واضح لمن علم تاريخ الأنبياء السابقة، و الأمم السالفة وَ لكِنْ هؤلاء الجهلة لا يَعْلَمُونَ أحوال الأنبياء و تأييداتهم الغيبيّة الربّانية و لا يطّلعون على تواريخ الامم الماضية.

أو المراد أنّهم لا يعلمون أنّهم السّفهاء، و لا يحيطون بما هم عليه من داء الجهل، و أنّ المؤمنين بإيمانهم و إخلاصهم يبعدون عن السّفه و الجهالة راغبين(1) في العلم و طلب الحقّ .

سورة البقرة (2): آیة 14

ثمّ أوضح اللّه تعالى كيفيّة نفاقهم، بقوله: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا و صادفوهم قالُوا لهم بأفواههم كذبا آمَنّا بما آمنتم به وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ و اجتمعوا في الخلوة مع سائر المنافقين المغوين لهم قالُوا إِنّا مَعَكُمْ في الدّين و تكذيب محمّد و مخادعة المؤمنين إِنَّما نَحْنُ بتصديق النبيّ و إظهار الإسلام مُسْتَهْزِؤُنَ بالمؤمنين، ساخرون منهم، من غير أن يخطر ببالنا الإيمان، و إنّما نظهر موافقتهم لنأمن من شرّهم، و نطّلع على سرّهم و ننكح بناتهم، و نشاركهم في غنائمهم و صدقاتهم.

من طريق العامّة: عن ابن عبّاس: أنّ عبد اللّه بن ابي و أصحابه خرجوا، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فيهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال عبد اللّه بن أبيّ لأصحابه: انظروا كيف أردّ(2) ابن عمّ رسول اللّه، ثمّ قال: يا ابن عمّ رسول اللّه، و سيّد بني هاشم خلا(3) رسول اللّه.

فقال عليّ كرّم اللّه وجهه: يا عبد اللّه، اتّق اللّه و لا تنافق، فإنّ المنافق شرّ خلق اللّه تعالى.

فقال: يا أبا الحسن، و اللّه إنّ إيماننا كإيمانكم، ثمّ تفرّقوا، فقال عبد اللّه بن ابيّ لأصحابه: كيف رأيتم ما فعلت ؟ فأثنوا عليه خيرا. فأنزل اللّه على رسوله وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية(4).

قال موفّق بن أحمد راوي الرّواية: فدلّت الآية على إيمان عليّ كرّم اللّه وجهه ظاهرا و باطنا، و على قطعه موالاة المنافقين، و إظهار عداوتهم(5).

و عن ابن شهرآشوب: عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالولاية لأمير المؤمنين عليه السّلام أظهروا الإيمان و الرّضا بذلك، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما

ص: 212


1- في النسخة: راغبون.
2- في المناقب: أرادّ.
3- في المناقب: ختن.
4- مناقب الخوارزمي: 196.
5- مناقب الخوارزمي: 196.

نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ » (1) .

سورة البقرة (2): آیة 15

و عن تفسير الهذيل، و مقاتل: عن محمّد بن الحنفيّة - في خبر طويل - إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ

بعليّ بن أبي طالب فقال اللّه تعالى شأنه: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يعني يجازيهم في الآخرة جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه السّلام(2).

و قيل: إنّ المراد أن اللّه يعامل معهم في الدنيا و الآخرة معاملة المستهزئ، أمّا في الدنيا فبأن جعل لهم أحكام الاسلام في الظاهر، فيحسبون أنّ لهم عند اللّه كرامة، و هم في غاية الهوان لكفرهم.

و أمّا في الآخرة: فقد روي عن محمّد بن الحنفيّة، عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أنّه قال: إذا كان يوم القيامة أمر اللّه الخلق بالجواز على الصّراط ، فيجوز المؤمنون إلى الجنّة، و يسقط المنافقون في جهنّم [فيقول اللّه: يا مالك استهزئ بالمنافقين في جهنم] فيفتح مالك بابا من جهنّم إلى الجنّة، و يناديهم: معاشر المنافقين، هاهنا هاهنا، اصعدوا إلى الجنّة فيسبح المنافقون في بحار(3) جهنّم سبعين خريفا حتّى إذا بلغوا إلى باب الجنّة و همّوا بالخروج أغلقه دونهم، و فتح له بابا من الجنّة من موضع آخر، فيناديهم: اخرجوا إلى الجنّة، فيسبحون مثل الأوّل، فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم و يفتح من موضع آخر، و هكذا أبد الآبدين(4).

و في حديث: يؤمر بنفر من النّاس يوم القيامة إلى الجنّة، حتّى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها، و نظروا إلى قصورها و إلى ما أعدّ اللّه تعالى لأهلها نودوا أن انصرفوا(5) عنها لا نصيب لكم فيها.

فيرجعون بحسرة و ندامة ما رجع الأوّلون و الآخرون بمثلها، فيقولون: يا ربّنا، لو أدخلتنا النّار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك! فيقول: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم، فإذا لقيتم النّاس لقيتموهم مخبتين (6) ،تراءون النّاس، و تظهرون خلاف ما انطوت قلوبكم عليه، هبتم الدنيا و لم تهابوني، و أجللتم النّاس و لم تجلّوني، و تركتم للنّاس و لم تتركوا لي، فاليوم اذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم.

قيل: في الآية إشعار بكرامة المؤمن على اللّه، حيث تدلّ على أنّه سبحانه يستهزئ بمن استهزأ

ص: 213


1- تفسير البرهان 337/145:1.
2- مناقب ابن شهرآشوب 94:3.
3- في المناقب: في نار.
4- مناقب ابن شهرآشوب 94:3، بحار الأنوار 56/301:8.
5- في النسخة: اصرفوا.
6- أي خاشعين متواضعين.

بالمؤمن، كأنّه ينوب عن المؤمن في الاستهزاء بالمستهزئ به، و يجازيهم بالهوان و الخيبة في الدنيا، و بتعذيب يضحك به المؤمن في الآخرة.

ثمّ أكّد اللّه تعالى تهديدهم، بقوله: وَ يَمُدُّهُمْ و يزيدهم و يقوّيهم فِي طُغْيانِهِمْ و بتجاوزهم عن الحدّ في العناد و الإصرار على الكفر و العصيان، و إنّما إمداده تعالى لهم يكون بالإمهال و الخذلان في الدنيا بسبب منع الألطاف عنهم، حتّى يتزايد في المدّة الطويلة من أعمارهم الرّين و الظلمة في قلوبهم، فيستحقّون زيادة العذاب و النّكال في الآخرة.

و لذا فسّر القمي رحمه اللّه: المدّ، بالدّعة، حيث قال: أي يدعهم (1) ،حال كونهم في مدّة تعيّشهم في الدنيا يَعْمَهُونَ و يتردّدون في الضّلالة عمي القلوب، حيارى، لا يدرون أين يتوجّهون، و في أيّ طريق يسلكون، إذ لا يمكنهم الجمع بين الإسلام و الكفر، و صحبة الأبرار و الفجّار، فهم مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ (2) بل هذا حال كلّ من أراد الجمع بين الدنيا و الآخرة مع أنّهما ضرّتان.

سورة البقرة (2): آیة 16

ثمّ بيّن اللّه تعالى غاية سفاهتهم، و ضعف عقولهم، بقوله: أُولئِكَ المنافقون المتميّزون عن سائر النّاس بأقبح الصفات، البعيدون من رحمة اللّه، هم اَلَّذِينَ اشْتَرَوُا و بادلوا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى و اختاروا لأنفسهم الكفر بعوض الإيمان، و الباطل بعوض الحقّ الذي جاءهم من قبل اللّه، و كأنّهم تملّكوه ثمّ رفعوا اليد عنه، و أخذوا الكفر بدله فكأنّهم عاوضوه به، فأيّ صفقة أخسر من هذه ؟

ثمّ كأنّه يقال: فما يكون حال المشترين ؟ فيقال: إذا اشتروا فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ بل خسرت خسرانا مبينا، حيث فاتهم نعيم الأبد، و لازمهم العذاب المخلّد وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى طريق النّجاة و ما كانوا عالمين بصلاح المعاملة، و لذا ابتلوا بغاية الخسارة حيث إنّ المقصود من التجارة سلامة رأس المال مع حصول الرّبح، و هم لجهلهم و غباوتهم أتلفوا رأس المال من الفطرة السّليمة و العقل المستقيم، و العمر الطويل في متجر الدنيا و سوقها المعدّ لتحصيل الرّبح الدائم و الثّواب العظيم، بهذا المتاع الذي أعطاهم اللّه إيّاه.

عن العالم عليه السّلام: «و ما كانوا مهتدين إلى الحقّ و الصواب »(3).

و عن القمّي رحمه اللّه في تفسير الضّلالة و الهدى، قال: الضّلالة هاهنا: الحيرة، و الهدى: البيان. فاختاروا

ص: 214


1- تفسير القمي 34:1.
2- النساء: 143/4.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 126.

الحيرة و الضّلالة على الهدى و البيان(1).

سورة البقرة (2): الآیات 17 الی 20

اشارة

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

سورة البقرة (2): آیة 17

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حقيقة حال المنافقين، عقّبها بضرب مثل لها، زيادة في التّوضيح و التّقرير - حيث إنّ التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، و أقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبيّ حقائق الامور. قيل: إنّ أمثال القرآن العزيز من أعظم علومه، و النّاس في غفلة عنه - فقال: مَثَلُهُمْ و حالهم العجيبة كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً مثل حال من طلب إيقادها و ارتفاع لهبها حتّى ينتفع بضوئها و سائر منافعها فَلَمّا توقّدت و أَضاءَتْ تلك النّار الموقدة أطراف المستوقد و ما حَوْلَهُ من الأشياء خمدت و ذهب نورها و ضياؤها بريح أو مطر، فحرم المستوقد من نفعها، و بقي عليه التعب.

و هذا الجواب المقدّر للمّا يعلم من بيان حال المشبّه، و هم المنافقون في قوله تعالى: ذَهَبَ اللّهُ

و أخذ بِنُورِهِمْ و هو الإسلام الصّوري الظاهري بتفضيحهم على لسان رسوله أو بإمامتهم، فحرموا من منافعه في الدنيا من شركتهم في الغنائم و الصّدقات و المناكحة و سائر أحكام الاسلام وَ تَرَكَهُمْ

اللّه، و طرحهم فِي ظُلُماتٍ متراكمة شديدة غاية الشدّة، من ظلمة الكفر و الطغيان و الحسد و العصيان، كما أنّهم في الآخرة في ظلمة القيامة، و ظلمة الغيّ ، و ظلمة سخط اللّه، فلا يبقى لهم من النّور في الدّارين شيء أبدا.

فإذن حالهم أنّهم لا يُبْصِرُونَ طريق الحقّ و شيئا من آياته، و لا يرون سبيل الخلاص من ضرر المسلمين في الدنيا، كما أنّهم لا يجدون المناص من أهوال القيامة و عذابها في الآخرة.

و يحتمل أن يكون قوله: ذَهَبَ اللّهُ و ما بعده جوابا للمّا، و إفراد ضمير حَوْلَهُ العائد إلى

ص: 215


1- تفسير القمي 34:1.

المستوقد باعتبار لفظه، و جمع سائر الضّمائر الراجعة إليه باعتبار معناه، حيث إنّه جنس صادق على كثيرين.

عن ابن بابويه رحمه اللّه: بإسناده، عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: سألت أبا الحسن الرّضا عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ فقال: «إنّ اللّه لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، و لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر و الضلال، منعهم المعاونة و اللّطف، و خلّى بينهم و بين اختيارهم »(1).

أقول: لعلّ المراد أنّ الترك بمعنى العدم لا ينسب إلى اللّه تعالى، فهو هنا بمعنى الكفّ و المنع الذي هو فعل وجوديّ قابل لأن يتّصف اللّه به.

سورة البقرة (2): آیة 18

ثمّ بالغ سبحانه في تبيين غاية ضلالة المنافقين، بقوله: صُمٌّ منسدّ و المسامع، لا يسمعون المواعظ و آيات القرآن و براهين الحقّ بُكْمٌ خرس الألسن، لا ينطقون بالحق، و لا يقرّون به عُمْيٌ فاقدو الأبصار، لا ينظرون إلى المعجزات و العبر التي تؤدّيهم إلى الهداية، و لا بصيرة لهم حتّى يميّزوا الحقّ من الباطل، و لذا يحشرون في الآخرة عميا و بكما و صمّا

كما قال تعالى:

وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا (2) .

فَهُمْ لاتّصافهم بهذه الصّفات لا يَرْجِعُونَ و لا ينصرفون من طريق الضّلالة إلى سبيل الهداية، مع كونهم بحسب الخلقة و الفطرة قادرين على الرّجوع، و لكن لمّا ضيّعوا فطرتهم و أفسدوا عقولهم صار في حقّهم ممتنعا بالاختيار في الدنيا، و إن كانوا لا محالة يرجعون إليه في الآخرة و لا ينفعهم.

قال بعض العارفين: العجب كلّ العجب ممّن يهرب ممّا لا انفكاك عنه، و هو مولاه الذي منّ عليه بكلّ خير و أولاه، و يطلب ما لا بقاء له معه، و هو ما يوافق النفس من شهوته و هواه (3) ،و يعرض عن الآخرة و هي الدّار الباقية.

سورة البقرة (2): آیة 19

ثمّ بالغ سبحانه و تعالى في توضيح حال المنافقين و شدّة إعراضهم عن الحقّ بضرب مثل آخر أبلغ

ص: 216


1- تفسير القمي 34:1.
2- في النسخة: يحشرون في الآخرة أعمى كما قال تعالى: و نحشرهم يوم القيامة أعمى، و الآية من سورة الإسراء: 97/17.
3- تفسير روح البيان 68:1.

بقوله: أَوْ مثل حال المنافقين بعد نزول القرآن الذي به حياة القلوب و تنوّر الأبصار كَصَيِّبٍ

قيل: إنّ المراد مثل حال ذي صيّب و صاحب مطر شديد، نافع للحيوانات و نبات الأرض، بل جميع الموجودات الجسمانيّة، نازل مِنَ السَّماءِ و هو السّقف المطلّ ، أو جهة العلوّ، و ذكر هذا القيد بناء على إرادة السّماء المعروفة، لعلّه للإشعار بأنّ أصل جميع الأمطار نازل منها، كما في كثير من الأخبار خلافا لمن يقول بأنّها تتكوّن من الأبخرة (1) ،و أمّا بناء على إرادة جهة العلوّ فلعلّه لإظهار إحاطته بجميع الأرض، سهلها و جبلها حال كونه مستقرّا، فِيهِ ظُلُماتٌ ثلاث: ظلمة السّحاب، و ظلمة الشدّة و التّكاثف، و ظلمة اللّيل، أَوْ فيه رَعْدٌ وَ بَرْقٌ .

ثمّ كأنّه يقال: ما يكون عمل أصحاب الصّيّب في هذه الحال ؟ فيقال: إنّهم يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ

جميعها و يدخلونها فِي آذانِهِمْ من شدّة الدّهشة و الوحشة، و لا يكتفون بجعل الأنامل، كما هو المعتاد و الممكن، و فيه غاية المبالغة في حرصهم على سدّ مسامعهم خوفا مِنَ الصَّواعِقِ قيل:

هي رعود هائلة تنقضّ منها شعلة نار محرقة حَذَرَ الْمَوْتِ و تحرّزا من الهلاك بسبب انشقاق قلوبهم، و طلبا للسّلامة منه وَ اللّهُ العظيم القادر العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء مُحِيطٌ

و محدق بقدرته و علمه بِالْكافِرِينَ المنافقين و غيرهم، عالم بأسرارهم، قادر على عقوبتهم.

سورة البقرة (2): آیة 20

ثمّ كأنّه قيل: كيف يكون حال أصحاب المطر حين لمعان البرق ؟ فقال تعالى يَكادُ و يقرب اَلْبَرْقُ اللامع من السّحاب يَخْطَفُ و يستلب بسبب شدّة ضوئه أَبْصارَهُمْ و نور ناظرهم.

ثمّ كأنّه قيل: فما يكون عملهم في هذا الحال ؟ فقال تعالى: كُلَّما أَضاءَ البرق لَهُمْ في تلك الظلمات، و أنار طريقهم و مسلكهم مَشَوْا فِيهِ و خطوا خطوات يسيرة. قيل: عبّر عن سيرهم بالمشي دون السّعي و العدو اللذين فوق المشي للإشعار بشدّة دهشتهم، بحيث لا يقدرون عليها وَ إِذا خفي البرق و أَظْلَمَ الطريق عَلَيْهِمْ و صار مسلكهم مظلما قامُوا و وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة، متحيّرين مترصّدين لحظة اخرى، عسى أن يتيسّر لهم الوصول إلى المقصد، أو الالتجاء إلى ملجأ عاصم لهم وَ لَوْ شاءَ اللّهُ و أراد لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ

فيبقوا في تلك الأهوال و الشدائد مأخوذا عنهم أسباب التخلّص، إذ المبدأ للخلاص هو الإدراك،

ص: 217


1- قوله تعالى: مِنَ السَّماءِ إشارة إلى جهة نزول المطر، أي يأتي من جهة السماء، و ليس فيه إشارة إلى أن السماء مبدأ تكوّنه، بل الثابت علميا أن مبدأ تكون المطر من الأبخرة.

و العمدة في أسبابه هو السمع و البصر إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ ممكن قابل لتعلّق الإرادة بوجوده قَدِيرٌ بذاته لا يحتاج إلى معاونة غيره، و لا يزاحمه شيء في أمره.

كذلك حال المنافقين، حيث نزل عليهم القرآن، و اشتدّ نور الآيات البيّنات في أنظارهم، بحيث لم يبق لهم مجال للشكّ و الرّيب، و هو بشدّة حبّهم الدّنيا، كلّما كان في الاقرار بالآيات و إظهار تبعيّتها نفع لهم من العزّة و الشركة في الغنائم و سائر أحكام الإسلام النافعة لهم في دنياهم، أقرّوا بها، و أظهروا اتّباعها و الانقياد لها. و إذا كان فيها ضرر عليهم من التكاليف الشاقّة، كوجوب الجهاد، و الإنفاق في سبيل اللّه، و خفض الجناح للمؤمنين و ترك موادّة الأرحام و الأقارب، تركوا اتّباعها و أعرضوا عن موافقتها.

و حاصل الآيتين أنّه تعالى شبّه القرآن و ما فيه من المعارف و الحكم التي هي مدار الحياة الأبديّة بالصّيّب الذي هو سبب الحياة الأرضيّة، و ما عرض لهم بنزولها من الشّكوك و الشبهات و الغموم و الأحزان و انكساف الحال بالظلمات، و ما فيه من الوعد و الوعيد بالرّعد و البرق، و تصاممهم عمّا يقرع أسماعهم من الوعيد و التهديد بحال من يهوله الرّعد و البرق، فيخاف صواعقه فيسدّ اذنه، و اهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يحرزونه بمشيهم في مطرح ضوء البرق، و تحيّرهم في أمرهم حين عنّ بهم معصية أو رأوا في التكاليف ما يشقّ عليهم أو يخالف هواهم بوقوفهم إذا أظلم عليهم.

في أن المنافق أسوأ حالا من الكافر

و في الاقتصار في ذمّ الكفّار و تهديدهم بآيتين، و الإكثار في ذمّ المنافقين و تهديدهم بثلاث عشرة آية، إشعار بأنّ المنافق أسوأ حالا من الكافر، و الاعتبار يساعده لكونهم أشدّ ضررا على الإسلام و المسلمين.

سورة البقرة (2): الآیات 21 الی 22

اشارة

يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

ص: 218

المكلّفين إلى السّلوك في طريق الهداية و القيام بوظائف العبوديّة.

و لمّا كان مهمّا في الغاية و شاقا على نفوس العامّة باشر بذاته المقدّسة مخاطبتهم بطريق المشافهة لتنجبر المشقّة بلذّة المخاطبة، و ترتفع بحلاوة النّداء مرارة الصّبر على التّعب و العناء، و تتوجّه القلوب نحو التّلقّي و الإصغاء، فقال: يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا و أطيعوا رَبَّكُمُ و اخضعوا له.

و في ذكر صفة الربوبيّة دلالة على أنّها مقتضية لنهاية العبوديّة، و أنّ نعمه غير المتناهية موجبة لغاية الشكر، و مؤثّرة في كمال المحبوبيّة، و لذا عدّ بعد توصيف نفسه بها و إضافتها إليهم جملة من نعمه الفائقة، أسبقها و أتمّها و أعلاها نعمة إيجاد العبد، و لذا قدّمها في الذكر بقوله اَلَّذِي خَلَقَكُمْ

و قدّركم و أنعم عليكم نعمة الوجود التي هي أصل النّعم، و من الواضح أنّ هذه النعمة أعظم العلل الموجبة للعبادة الخالصة، و لو مع قطع النظر عن كونها نعمة.

ثمّ أردفها بذكر نعمة خلق الاصول التي هي دون الاولى و فوق سائر النعم، بقوله: وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الآباء و الامّهات، حيث إنّ خلقهم من مقدّمات خلق المخاطبين، مع أنّ النعمة على الآباء و الأمّهات من موجبات الشكر على الأبناء و الأولاد، كما قال تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ (1) مع أنّ في ذكر هذا الوصف دلالة على تفرّده تعالى بخلق المخاطبين، إذ لو لم يكن خالقا لاصولهم، بل كان خالق اصولهم غيره، لم تنحصر شئون الخلق - و هي العبادة - به تعالى، بل شاركه من هو خالق الاصول، أو من كان له في خلقهم نصيب.

و يحتمل أن يكون المراد بالموصول جميع السابقين، لكون خلقهم من مقدّمات وجود اللاحقين، و لكونه في الدّلالة على كمال القدرة أتمّ .

ثمّ بيّن اللّه تعالى فائدة العبارة المأمور بها، بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سخط اللّه و عذابه، و تحترزون منه بسبب عبادته، و يحتمل أن تكون هذه الجملة بيانا لغرض خلق النّاس، كما قال تعالى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2).

عن (تفسير الإمام عليه السّلام) في هذه الآية، أنّه قال: «لها وجهان:

أحدهما: [خلقكم] و خلق الذين من قبلكم لعلّكم كلّكم تتّقون، أي لتتّقوا، كما قال اللّه عزّ و جلّ :

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ .

ص: 219


1- النمل: 19/27، الأحقاف: 15/46.
2- الذاريات: 56/51.

و الوجه الآخر: اعبدوا الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون، أي اعبدوه لعلّكم تتّقون النّار، و (لعلّ ) من اللّه واجب، لأنّه أكرم من أن يعني عبده بلا منفعة، و يطمعه في فضله ثمّ يخيّبه، أ لا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل: اخدمني لعلّك تنتفع بي، و لعلّي أنفعك. فيخدمه ثمّ يخيّبه و لا ينفعه ؟ فاللّه عزّ و جلّ أكرم في أفعاله، و أبعد من القبيح في أعماله من عباده».

في بيان أنّ كلمة لعلّ في كلام اللّه مستعملة في معناها الحقيقي

أقول: لا يبعد أن تكون كلمة لعلّ موضوعة للدلالة على صلاحيّة متعلّقة و شأنيّته، لأن يرغب فيه و يترقّب وقوعه، و على هذا يكون استعماله من اللّه حقيقة، حيث إنّ الرّجاء الذي هو ملازم التّرديد و الشّكّ ، يكون من اللوازم الغالبيّة(1) في النفوس البشريّة، ثمّ فيه تنبيه على أنّ التقوى منتهى درجة الكمال، و تخصيص الموجودين بالخطاب مع محبوبيّة التقوى من كلّ أحد إلى الأبد لأجل التغليب.

سورة البقرة (2): آیة 22

ثمّ بعد ذكر النعم الداخليّة من الخلق و التربية، ذكر مهمّات النعم الخارجيّة التي كلّ واحدة منها كافية في وجوب العبادة، بقوله: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً و بساطا.

عن ابن بابويه: عن العسكري، عن آبائه، عن السجّاد عليهم السّلام في تفسير الآية: «جعلها ملائمة لطباعكم، موافقة لأجسادكم، و لم يجعلها شديدة الحمي و الحرارة فتحرقكم، و لا شديدة البرودة فتجمدكم، و لا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم، و لا شديدة النّتن فتعطبكم، و لا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، و لا شديدة الصّلابة فتمتنع عليكم في دوركم و أبنيتكم و قبور موتاكم، و لكنّه عزّ و جلّ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به و تتماسكون، و تتماسك عليها أبدانكم و بنيانكم، و جعل فيها ما ينقاد به لدوركم و قبوركم و كثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.

ثمّ قال عزّ و جلّ : وَ السَّماءَ بِناءً و سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها و قمرها و نجومها لمنافعكم.

ثمّ قال تعالى: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر، ينزله من علا ليبلغ قلل جبالكم و تلالكم و هضابكم و أوهادكم، ثمّ فرّقه رذاذا و وابلا و هطلا و طلاّ، لتنشفه أرضوكم، و لم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أراضيكم، و أشجاركم و زروعكم و أثماركم.

ثمّ قال عزّ و جلّ : فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ يعني ممّا يخرجه من الأرض رزقا لكم »(2).

ص: 220


1- كذا، و لعلّه تصحيف الغالبة.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 36/137:1.

و معاشا مأكولا و ملبوسا.

فانظر إلى حسن ترتيب استدلاله سبحانه على استحقاقه العبادة و وجوبها، فإنّه استدلّ أوّلا بأقرب نعمه إلى العبد، و هو إيجاده و تربيته، ثمّ الأقرب و هو خلق الأصول من الآباء و الأمّهات، ثمّ الأقرب و هو نعمة المقرّ و المسكن و هو الأرض، ثمّ بعدها بنعمة السّماء التي تكون سقفا و مدارا للكواكب، و مبدءا لنزول الخيرات، ثمّ بنعمة الثّمرات الحاصلة من بركات السّماء و الأرض لتكون معاشا لهم.

و من الواضح أنّ كلّ واحد من هذه النعم [هي] آيات وحدانيّته و قدرته و عظمته و حكمته، و لذا رتّب عليها النهي عن التشريك، بقوله: فَلا تَجْعَلُوا و لا تتّخذوا لِلّهِ أَنْداداً و شركاء في الخلق و الرّزق و العبادة وَ أَنْتُمْ أيّها العقلاء تَعْلَمُونَ أنّ الأجسام التي اتّخذتموها آلهة لا يقدرون على شيء، و القول الباطل من العالم ببطلانه أقبح و أفضح.

قيل: من تأمّل في هذا العالم وجده كالبيت المعدّ، فيه كلّ ما يحتاج إليه ساكنه، الأرض بساطه، و السّماء سقفه، و النجوم مصابيحه، و الإنسان ساكنه، و ضروب النباتات و الحيوانات و المعادن مهيّئات لمنافعه، مصروفة في مصالحه، فتدلّ هذه الجملة على أنّ هذا العالم مخلوق بتدبير كامل و تقدير شامل، و قدرة غير متناهية، و حكمة بالغة.

و من لطائف ما قيل: إنّ اللّه تعالى لمّا خلق السّماء و الأرض، أوقع بينهما شبه عقد النكاح، فالسّماء مطلّة على الأرض، فينزل الماء من المطلّة على المقلّة المفترشة، فيخرج من بطنها الحيوانات شبه النّسل، ثمّ تربّيها في حجرها كالأمّ ، و تطعمها، و تلبسها من ثمارها، و تحفظها من الحرّ و البرد، فهي رءوفة بنا حين نعيش في حجرها و نربّى بتربيتها، فاذا انتقلنا من حجرها إلى بطنها تكون أرأف بنا بشرط أن ندخل في بطنها كما خرجنا من بطن أمّنا طاهرين من الذنوب، مهذّبين من الرّذائل و العيوب.

في أنّ للشرك مراتب كثيرة و قلّما يخلو الإنسان منه.

ثمّ اعلم أنّ للشرك مراتب كثيرة، و قلّما يكون الانسان بريئا منه، روي: «أنّه أخفى في امّتي من دبيب النّملة على الصّخرة الصّمّاء »(1).

و في حديث طويل، عن معاذ: «و يصعد الحفظة بعمل عبد من زكاة و صوم و صلاة و حجّ و عمرة و خلق حسن، و ذكر للّه، و يشيّعه ملائكة السّماوات حتّى يقطعوا الحجب كلّها إلى اللّه

ص: 221


1- تفسير القمي 213:1 «نحوه».

عزّ و جلّ فيقفوا بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلص للّه. فيقول اللّه عزّ و جلّ : أنتم الحفظة على عمل عبدي، و أنا الرّقيب على قلبه، إنّه لم يردني بهذا العمل و أراد به غيري فعليه لعنتي. فتقول الملائكة: عليه لعنتك و لعنتنا، فتلعنه السّماوات السّبع و من فيهنّ »(1).

سورة البقرة (2): الآیات 23 الی 24

اشارة

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

في إثبات رسالة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله بكتابه الذي هو من أعظم معجزاته و تحدّيه به.

سورة البقرة (2): آیة 23

ثمّ إنّه تعالى بعد الدعوة إلى توحيده و استحقاقه العبادة و اقامة البرهان عليهما، شرع في الدعوة إلى الايمان بكتابه الذي هو من أعظم الأدلّة على النبوّة بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ و شكّ مِمّا نَزَّلْنا نجوما و تدريجا من القرآن عَلى عَبْدِنا

محمّد صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه لا مجال للرّيب في أنّه حقّ و نازل من قبل اللّه، لكونه في أعلى درجة الإعجاز فَأْتُوا و هاتوا أيّها الماهرون في الفصاحة و البلاغة بِسُورَةٍ و لو كانت قصيرة، و قطعة كلام و لو كانت مختصرة كائنة مِنْ مِثْلِهِ و على صفة ما نزّلناه من الفصاحة و البلاغة، أو من مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله الأمّيّ الذي لم يقرأ و لم يكتب و لم يتعلّم من أحد في مدّة عمره، و كلّكم مطّلعون على أمره وَ ادْعُوا معاشر المشركين شُهَداءَكُمْ و أصنامكم الذين تعبدونها مِنْ دُونِ اللّهِ

و تسمية الأصنام شهداء بملاحظة أنّ مشركي العرب كانوا يعتقدون أن أصنامهم يشهدون عند اللّه بعبادتهم، و يشفعون لهم، و يغيثونهم عند الشّدائد، و ينجونهم من البلايا و الشدائد.

و يحتمل أن يكون الخطاب شاملا لجميع أهل الكتاب أيضا، و يكون شهداؤهم شياطينهم الذين كانوا يعتقدون أنّهم أنصارهم، و على هذا يكون حاصل المعنى: ادعوا - أيّها المشركون، و معاشر أهل الكتاب - أصنامكم و شياطينكم الّذين هم أنصاركم ليعينوكم على إتيان مثله، و يشهدوا لكم أنّكم أتيتم بعدله في حسن النّظم و فصاحة البيان و الاسلوب البديع إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم: إنّ ما أتى به محمّد قول البشر و ليس من اللّه الأكبر، و إنّه تقوّل في ما أتى به و بهته على اللّه و افتراه فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتكم به من المعارضة، و لم تأتوا بمثله بعد التظاهر و السّعي و الجدّ و التفكّر وَ لَنْ

ص: 222


1- تفسير روح البيان 77:1.

تَفْعَلُوا أبدا، و لا يكون ميسوركم و مقدوركم و لو جئناكم بالإنس و الجنّ مددا فَاتَّقُوا بالإيمان برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و تصديق كتابه أنّه كلام اللّه المنزل عليه اَلنّارَ الَّتِي وَقُودُهَا و ما به اشتعالها اَلنّاسُ وَ الْحِجارَةُ قيل: هي حجارة الكبريت لأنّها أشدّ حرّا، و به رواية (1).و قيل: حجارة الأصنام المنحوتة، لأنّهم أحبّوها في الدنيا، و قد روي: «من أحبّ حجرا حشرة اللّه معه »(2).

قيل: إنّهم لمّا قرنوا أنفسهم في الدنيا بها و ظنّوا أنّ بها نجاتهم في الآخرة، كان اقترانهم بها في العذاب موجبا لزيادة الحسرة عليهم، كما قال تعالى: يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ (3).

و هذه النّار أُعِدَّتْ و هيّئت في الآخرة لِلْكافِرِينَ باللّه و رسله و الدّين المرضيّ عنده.

ثمّ اعلم أنّ التّحدّي من مدّعي النبوّة بما يعجز النّاس عن الإتيان بمثله دليل صدقه، و قد جاء في القرآن على وجوه من البيان.

أحدها: قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4).

و ثانيها: و هو أقرع من الأوّل، قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ (5).

و ثالثها: و هو أشدّ تقريعا و تبكيتا، هذه الآية المباركة، فترتيب هذه الأنحاء من التحدّي نظير تحدّي مصنّف كتاب بقوله: ائتوني بمثل هذا الكتاب، فإن لم تقدروا فبنصفه، و إن لم تقدروا فبباب أو مسألة منه.

ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى كما جعل معجز موسى في إلقاء العصا لبلوغ علم السحر في زمانه كماله، و معجز عيسى في إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى لبلوغ علم الطّبّ في زمانه نهايته، جعل معجز خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله في فصاحة الكتاب العزيز و بلاغته و حسن اسلوبه لبلوغ علم البيان في عصره أعلى درجته.

فلمّا عجز العرب و فرسان ميدان البيان بعد هذه التقريعات عن المعارضة بالكلمات و الحروف، و بادروا إلى المبارزة بالأسنّة و السّيوف، و حملهم العناد و العصبيّة على شرب كأس الحتوف، أو

ص: 223


1- مجمع البيان 159:1.
2- أمالي الصدوق: 308/278.
3- البقرة: 167/2.
4- الاسراء: 88/17.
5- هود: 13/11.

مفارقة العشيرة و الوطن المألوف، و لو قدروا على إتيان سورة تماثله في الفصاحة و البلاغة لأتوا بها، مع شدّة عداوتهم و حرصهم على معارضته و إبطال أمره، و كمال جدّهم في إطفاء نوره، و هم مهرة فنّ المحاورة و الكلام، و لم يدانهم أحد من الفصحاء مدّ الدّهور و الأيّام، علمنا أنّ الإتيان بمثله فوق طاقة البشر، و أنّ كلّ سورة من الكتاب العزيز معجزة قاهرة، و تصديق دعواه من اللّه الأكبر.

في إثبات كون القرآن معجزا و بيان وجوه إعجازه

و الحاصل: أنّه لا شبهة في أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحدّى العرب، بل العالمين بالقرآن في هذه الآية المتضمّنة للتهكّم بآلهتهم بقوله: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ و تقريعهم بقوله: وَ لَنْ تَفْعَلُوا و توعيدهم بالعذاب الشديد بقوله: فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ و نسبتهم إلى الكفر بقوله: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ .

و لا شبهة أنّ أهل ذلك العصر مع بلوغهم في علم الفصاحة غايته، و في فنّ الكلام نهايته، بحيث لم يأت الزّمان بمثلهم، و لم يتيسّر للدّهر تربيته عدلهم، و فاقوا الأوّل و الآخر، و فضّلوا على الماضي و الغابر، لم يعارضوه بالمثل في شدّة عداوتهم للرّسول، و نهاية تأنفهم عن تلقّي قوله بالقبول، حتّى هاجروا الأوطان، و فارقوا الأولاد و الإخوان، و هجروا العشائر، و أسلموا النفوس و المهج للأسنّة و البواتر، و لو كان في وسعهم إتيان مماثل لأقصر سورة من القرآن، أو مقارب له في حسن النّظم و ملاحة البيان، لأتوا به و لم يتحمّلوا الشدّة و العتب (1) ،و أفحموه و فضحوه بلا نصب، و أبطلوا أمره، و أطفئوا نوره، و أخذوا بنفسه، و استراحوا من بأسه، فعند ذلك لم يمكن أن يخضرّ له عود، و أن يقوم لدينه عمود.

فلمّا رأينا أنّه قد غلب نوره الظلام، علمنا بعجز جميع فصحاء عصره عن معارضته بالكلام، كما أنّا لمّا علمنا بعجز سحرة موسى عن معارضته و إتيان مماثل لما أتى به مع تحدّي موسى بإلقاء عصاه و صيرورتها ثعبانا، علمنا بكونه صادقا في دعواه، مع أنّه لو عارضوه بسورة تماثله لوصلت الينا بالنقل المتواتر، و اثبتت في الزبر و الدفاتر، لتوفّر الدّواعي في نقله كما توفّرت في نقل القرآن.

على أنّه قد تواتر اعترافهم بالعجز، و دلّ عليه كثير من الآيات، كقوله تعالى: عن قولهم: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (2) و إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (3) و اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

ص: 224


1- كذا، و لعلّها تصحيف التعب.
2- المائدة: 110/5، الأنعام: 7/6.
3- المدّثر: 24/74.

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1) و لا مجال لاحتمال كذب نسبة هذه الأقوال إليهم، لاشتهار هذه الآيات بين جميع الطوائف و الطبقات، فلو كانت كذبا كفاه في إبطال دعوته و وضوح فضيحته و انفصام عروته.

ثمّ اعلم أنّ وجه إعجاز القرآن لعامّة النّاس هو فصاحته و بلاغته و حسن اسلوبه و نظمه، و هذا الوجه يعلم من وجوه:

منها: نهاية فصاحة كلّ آية و سورة في نفسها، مع قطع النّظر عن غيرها.

و منها: بالنّظر إلى سائر الآيات و السّور، و هذا أيضا من وجوه:

منها: أنّا قد استقرأنا كلمات فصحاء العرب فرأيناهم مختلفين في صناعة الفصاحة، و أنّ كلّ واحد منهم له مهارة في فنّ الكلام دون فنّ آخر، منهم فصيح في الحماسة، و منهم فصيح في المدح، و منهم فصيح في الهجاء، و منهم فصيح في التّطريب و التعشّق، إلى غير ذلك، و القرآن العظيم في غاية الفصاحة في جميع الفنون من الكلام.

و منها: أنّ مضامين القرآن كلّها في المعارف، و علم الأخلاق، و الحثّ على الزّهد في الدنيا، و الترغيب في الآخرة، و بيان أحكام العبادات و المعاملات و السياسات، و من الواضح أنّ في هذه الامور ليس مجال الفصاحة و ميدان البلاغة، و القرآن العظيم في أعلى درجتها في جميعها.

و منها: أنّ حسن الكلام و ملاحة البيان موقوف على الكذب و الاغراقات و المبالغات، و القرآن العظيم مع عرائه و تنزّهه عن جميعها في غاية الحسن و الملاحة.

و منها: أنّه ما رئي فصيح من الفصحاء أتى بكلام طويل إلاّ كان بعض قضاياه أو بعض كلماته خارجا عن حدّ الفصاحة، أو كان بعضها أفصح من بعض، و القرآن العظيم مع أنّه كتاب مطوّل لم تتنزّل آية منه من أعلى مرتبة الفصاحة فضلا عن خروجها عن حدّها، و إلى هذا أشار سبحانه و تعالى:

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2) .

و أمّا وجه إعجازه من غير جهة الفصاحة و البلاغة، فامور:

منها: أنّه لا شبهة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان اميّا، لم يتعلّم من أحد، و لم يقرأ كتابا، و هذا الكتاب العزيز الذي جاء به جامع لجميع العلوم، ما من علم إلاّ و فيه أصله بالمعنى الذي مرّ في الطرفة الثالثة، مثل علم

ص: 225


1- الأنفال: 32/8.
2- النساء: 82/4.

المعارف الإلهيّة، فإنّ من نظر في سائر الكتب السماويّة، و زبر العرفاء الربّانيّة، عرف أنّ ما في جميعها من المعارف بالنسبة إلى ما في القرآن المجيد كالقطرة بالإضافة إلى البحر المحيط ، و مثل علم الحكمة و الكلام، و كعلم الأخلاق، و علم الزهد في الدنيا، و تفاصيل الآخرة، و مثل علم الفقه من العبادات و المعاملات و السياسات.

و منها: اشتماله على الإخبار بالمغيّبات عن جزم و يقين، كقوله تعالى في الآية السابقة: وَ لَنْ تَفْعَلُوا و قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ (1) و قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ (2) و قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) و قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ (4) و قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (5).إلى غير ذلك، فإنّ هذه الآيات و نظائرها إخبار بامور قبل وقوعها، ثمّ وقعت مطابقة لها.

و منها: شدّة تأثير القرآن العظيم في النفوس، فإنّه ما من كتاب سماويّ أو معجزة من معجزات الأنبياء السّلف له تأثير في القلوب كتأثيره.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما استدلّ على وجوده و كماله و وجوب عبادته بمخلوقاته، و عظيم نعمائه، و على رسالة عبده و إعجاز كتابه، بعجز جميع الخلق عن إتيان سورة مثله، شرع بقوله: فَاتَّقُوا النّارَ الآية، في ذكر المعاد و بيان عقاب الكفّار في الآخرة.

سورة البقرة (2): آیة 25

اشارة

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

سورة البقرة (2): آیة 25

ثمّ أردفه بذكر ثواب المؤمنين بقوله وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم و قلوبهم وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ بجوارحهم أَنَّ لَهُمْ بالاستحقاق و التفضّل جَنّاتٍ و بساتين عديدة، إذ في التعدّد حظّ ليس في الانفراد.

ص: 226


1- آل عمران: 12/3.
2- البقرة: 137/2.
3- الروم: 2/30 و 3.
4- الفتح: 27/48.
5- آل عمران: 111/3.

قيل: عددها ثمان: دار الجلال كلّها من نور، و دار القرار كلّها من مرجان، و دار السّلام كلّها من الياقوت الأحمر، و جنّة عدن كلّها من زبرجد و هي مشرفة على الجنان كلّها، و جنّة المأوى كلّها من الذّهب الأحمر، و جنّة الخلد كلّها من الفضّة، و جنّة الفردوس كلّها من اللؤلؤ، و جنّة النّعيم كلّها من زمرّد.

و روي أنّ المؤمن إذا دخل الجنّة رأى سبعين ألف حديقة في كلّ حديقة سبعون ألف شجرة، على كلّ شجرة سبعون ألف ورقة، و على كلّ ورقة: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، أمّة مذنبة و ربّ غفور، كلّ ورقة عرضها ما بين المشرق و المغرب(1).

ثمّ وصف الجنّات و أشجارها، بأنّها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لازدياد صفائها و طراوتها و حسنها بها.

قيل: إنّ المراد بالأنهار جنسها.

و قيل: إنّ المراد الأنهار الأربعة: نهر من ماء غير آسن، و نهر من لبن لم يتغيّر طعمه، و نهر من خمر لذّة للشّاربين، و نهر من عسل مصفّى.

ثمّ بعد ذكر مسكنهم و شرابهم، ذكر طعامهم بقوله: كُلَّما رُزِقُوا و اطعموا مِنْها مِنْ نوع ثَمَرَةٍ رِزْقاً و طعاما قالُوا هذَا الثمر من جنس الثّمر اَلَّذِي رُزِقْنا و طعمنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا.

في بيان حكم جعل ثمرات الجنة من نوع ثمرات الدنيا.

قيل: إنّ اللّه جعل ثمرات الجنّة من نوع ثمرات الدنيا لزيادة شوق المؤمنين إليها بعد معرفة جنسها و طعمها، حيث إنّهم إذا لم يعرفوا طعمها و خاصيّتها، و لم يشتاقوا إليها في الدنيا، لم يبادروا في الجنّة إلى تناولها، و لم يفرحوا بها في بدو رؤيتها، و أمّا إذا كانوا مطّلعين على طعمها فرحوا برؤيتها، و علموا أنّها ممّا رزقوا في الدنيا و إن كان التفاوت بينها و بين ما رزقوا في الدنيا كتفاوت الدنيا و الآخرة، و لا يستحيل أحدها إلى ما يستحيل به ثمرات الدنيا.

روي أنّه جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا أبا القاسم، تزعم أنّ أهل الجنّة يأكلون و يشربون ؟ فقال: «نعم، و الذي نفس محمّد بيده، إنّ أحدهم ليعطى قوّة مائة رجل في الأكل و الشرب

ص: 227


1- تفسير روح البيان 82:1.

و الجماع».

قال: فإنّ الذي يأكل له حاجة، و الجنّة طيّبة ليس فيها أذى ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «حاجة أحدهم عرق ريحه كريح المسك »(1).

ثمّ قال تعالى في وصف رزق الجنّة: وَ أُتُوا بِهِ و جيئوا بذلك الرزق مُتَشابِهاً و متماثلا في الحسن و الكمال و اللذّة و النّضج و الطّيب، ليس فيها غير منضوج و لا فاسد و لا قليل اللّذة، بل كلّها في الصفات الكماليّة في أعلى درجة.

وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ طهّرهنّ اللّه من الأدناس و الأرجاس الجسمانيّة، من الحيض و النفاس و الاستحاضة، و من الأخلاق الرّذيلة و الصفات الخسيسة.

قيل: فيه إشارة إلى نهاية كرامة المؤمنين، حيث إنّ اللّه تعالى بذاته المقدّسة باشر تزيين أزواجهم.

عن ابن عبّاس: خلق الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، و من ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، و من ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب - أي الأبيض - و من عنقها إلى رأسها من الكافور، إذا أقبلت يتلألأ نور وجهها كما تتلألأ الشّمس لأهل الدنيا(2).

قيل: إنّه بعد ملاحظة قوله تعالى: اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ (3) يعلم أنّهنّ لا يكنّ إلاّ للمطهّرين من المعاصي و الأخلاق السيّئة و الصفات الذّميمة و حبّ الدنيا الدنيّة، المزيّنين بالملكات الحسنة و الصفات الكريمة.

ثم أنّه قد وردت روايات بأنّ زوجة المؤمن في الدنيا إذا كانت مؤمنة صالحة، تختصّ بزوجها في الجنّة، و تفوق على حور العين في الحسن و الجمال و النور و البهاء.

ثمّ اعلم أنّه لمّا كان اصول النعم في الدنيا المسكن الطيّب، و الشّراب الهنيء، و الطعام اللّذيذ، و الزوجة الجميلة المحبوبة، بشّر اللّه المؤمن بأنّ له هذه النعم في الآخرة.

ثمّ لمّا كان خوف زوال النعمة من منغّصات العيش، بشّر اللّه تعالى المؤمنين بدوام النعمة و بقائهم في الجنّة، بقوله: وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا، لا يخرجون منها و لا يموتون، فلا يخطر ببالهم احتمال زوال النعمة و عود البلايا و المحن الدنيويّة.

ص: 228


1- تفسير روح البيان 84:1.
2- تفسير روح البيان 84:1.
3- النور: 26/24.

عن عكرمة، أنّه قال: أهل الجنّة ولد ثلاث و ثلاثين سنة رجالهم و نساؤهم، و قامتهم سبعون(1) ذراعا على قامة أبيهم آدم، جرد(2) مكحّلون، عليهم سبعون حلّة، لكلّ حلّة في كلّ ساعة سبعون لونا، لا يبزقون و لا يتمخّطون، و ما كان فوق ذلك من أذى فهو أبعد، يزدادون كلّ ساعة حسنا و جمالا كما يزداد أهل الدنيا هرما و ضعفا، لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم(3).

في إثبات المعاد

ثمّ اعلم أنّ المعاد الجسماني من ضروريّات دين الاسلام، بل و سائر الأديان، و العقل القاطع و النّقل الساطع حاكمان على إمكانه و وقوعه، أمّا إمكانه عقلا فلوضوح أنّ إيجاد عالم آخر، و إعادة النّاس، ليس من الممتنعات الذاتيّة كشريك الباري، و لا من المحالات العرضيّة لعدم استلزامه لقبيح أو محال، و القول بأنّ الزائل لا يمكن أن يعود - على فرض تسليمه - فإنّما هو العود بعينه و بجميع مشخّصاته الزمانيّة و المكانيّة و غيرهما.

و أما تصوير مادته بصورة مماثلة لصورتها السابقة، بحيث يقال: هذا هو، فليس من الإعادة التي قالوا بامتناعها، و هذه نظير لبنة سوّيت أولا بتراب مخصوص و قالب خاصّ ، ثمّ كسرت و فتّتت، ثمّ سوّيت ثانيا بذلك التراب و ذلك القالب، بحيث كلّ من رأى اللّبنة الثانية قال: هي اللّبنة الاولى(4).

و أمّا قدرته تعالى فلا يتصوّر و لا يعقل فيها قصور عن الإعادة، و قد استدلّ في مواضع من كتابه العزيز على قدرته على الإعادة بقدرته على الإبداء، قال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (5) و قال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ (6).

بل لا شبهة أنّ الإعادة أهون من الإبداء لكونه بلا مثال سابق كما قال: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (7) فلينظر العاقل إلى بدو خلقه، فإنّ مادّة نطفته كانت ذرّات متفرّقة في أطراف العالم، فجمعها اللّه تعالى في لقمة واحدة، ثمّ فرّق فضلة الهضم الرّابع منها كالذّرّات في جميع أعضاء بدن الرجل، ثمّ جمعها اللّه تعالى بالقوّة الشهويّة في وعاء المنيّ ، و لذا تلتذّ جميع الأعضاء بالوقاع، لحصول انحلال ذرّات المنيّ عنها، ثمّ أخرجها اللّه ماء دافقا إلى قرار الرّحم، فمن هو قادر

ص: 229


1- في تفسير روح البيان: ستون.
2- في تفسير روح البيان: آدم، شباب جرد مرد.
3- تفسير روح البيان 84:1.
4- و قد ورد حديث عن الامام الصادق عليه السّلام في هذا المضمون راجع: الاحتجاج: 354.
5- الاحقاف: 33/46.
6- يس: 79/36.
7- الروم: 27/30.

على جمع الذّرّات المتفرّقة في اللّقمة الواحدة، ثمّ تفريق ذرّات فضلتها في جميع أعضاء الجسد، ثمّ جمعها من تلك الأعضاء في وعاء واحد، ثمّ خلقها شخصا عاقلا بصيرا سميعا، كيف يعجز عن جمع أجزاء ترابه المتفرّقة بالموت و خلقها مرّة اخرى بصورتها الأولى ؟! بل هو سبحانه بالقدرة على هذا الجمع و الخلق أحرى و أولى، و قد نطق الكتاب العزيز بهذه الحجّة في مواضع:

منها: في سورة الحجّ قال تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ إلى قوله: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً إلى قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * وَ أَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (1).

و منها: قوله في الواقعة: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (2) إلى غير ذلك من الآيات.

ثمّ تفكّر في قدرة اللّه في خلق الأشجار و الزروع كما نبّه اللّه عليه بقوله: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (3)

حيث إنّ للأشجار نواة، و للزروع حبوبا، و لكلّ من النواة و الحبوب أقسام و أشكال، منها مطوّل مشقوق كنواة التّمر و حبّ الحنطة و الشّعير، و منها غير مشقوق كالأرزّ، و منها مثلّث، و منها مربّع، و منها مدوّر إلى غير ذلك من الأشكال.

فإذا وقع الحبّ في الأرض و استولت عليه الرطوبة، مع أنّ مقتضى الطبيعة أن يتعفّن و يفسد، و مع ذلك يحفظه اللّه و يربّيه بين المفسدات، ثمّ إذا ازدادت الرطوبة يظهر في رأس الحبّ الطويل ثقب تخرج منه ورقة طويلة كزرع الحنطة و الشّعير و أمثالهما، و أمّا الحبّ غير الطّويل فينفلق فلقتين فيخرج منه ورقتان، و أمّا النّواة فمع ما فيها من الصّلابة التي يعجز عن فلقها أغلب النّاس فتنفلق بإذن اللّه، فيخرج منها شجران: أحدهما صاعد إلى السّماء، له أوراق و غصون و ثمار، لكلّ جزء منه لون و طعم و طبيعة، مغاير لسائر الأجزاء، و الشجر الآخر هابط غائص في أعماق الأرض، مع اتّحاد طبيعة النّواة و عنصرها الماء و الهواء و التراب.

ثمّ انظر كيف أودعت القدرة في تينك الشجرتين الأجزاء الناريّة التي تباين ما استقرّت فيه من جميع الجهات، فإنّ الشجرتين هابطتان كثيفتان رطبتان باردتان ظلمانيّتان، و النار صاعدة لطيفة

ص: 230


1- الحج: 5/22-7.
2- الواقعة: 5/56-7.
3- الواقعة: 58/56 و 59.

يابسة حارّة نورانيّة، و إليه أشار سبحانه بقوله: أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (1).

و الحاصل: أنّ من أذعن بإمكان الإعادة ذاتا و وقوعا، و أيقن بقدرة اللّه التّامّة، لا يبقى له ريب و إشكال، و إنّما اكتفى سبحانه و تعالى في مقام الاستدلال على الإمكان بالمقدّمة الأخيرة، و هي كمال سعة قدرته و شمول حكمته الظاهران في خلق السّماوات و الأرض، و إرسال الرّياح، و إنشاء السّحاب، و إنزال الأمطار، و خلق الأشجار و جعلها بيوت النّار، و إخراج الثّمار، و خلق النّطف و غير ذلك.

و لم يتعرّض للمقدّمة الاولى لعدم ريب لمنكر الحشر فيها، نعم أضاف إليه سبحانه الاستدلال بوقوع نظائر الحشر في الدّنيا، كإحياء الأرض بعد موتها بإنزال الأمطار، و إحياء القتيل من بني إسرائيل بضربه بجزء من البقرة، و إحياء الالوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، و جمع الأعضاء المتفرّقة من الطيور الأربعة و إحيائها لإبراهيم، و إحياء النبيّ الذي مرّ على قرية و هي خاوية على عروشها فقال: أنّى يحيى هذه اللّه بعد موتها، فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه، و إحياء حماره إلى غير ذلك.

ثمّ اعلم أنّه تبارك و تعالى أكثر في كتابة العزيز من الاستدلال على التّوحيد و النبوّة و إمكان المعاد، لوضوح عدم إمكان التعبّد فيها، و وضوح حكم العقل بها بالبراهين الّتي أقامها سبحانه، و إنّما اكتفى في وقوع المعاد بصرف الدعوى لكفاية إمكانه و ثبوت النبوّة و إخبار اللّه و رسوله بوقوعه في ثبوته، و اليقين به، فإنّ اليقين بصدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في إخباره بوقوعه مستلزم لليقين به، مع أنّ العقل حاكم بوجوب وقوعه لوجوه:

[1] منها: أنّ حكمة خلق الإنسان الذي خلق له غيره من عالم الأجسام لا يتمّ إلاّ بالمعاد، بل لو لا المعاد لكان خلقه و خلق العالم عبثا لا يليق صدوره من الحكيم تعالى شأنه.

أمّا قولنا: إنّ غير الإنسان من الموجودات الجسمانيّة خلق له، فلأنّ موجودات عالم الأجسام بل جميع العوالم مرتبطات بعضها ببعض كأعضاء شخص واحد، و جميعها محصّلات لغرض واحد و مقدّمات لنتيجة واحدة، كشجرة غرست لتحصيل ثمرتها.

و من الواضح أنّ النتيجة متأخّرة عن المقدّمات، و الثّمرة متأخّرة وجودا عن الشجرة، لأنّ العلّة

ص: 231


1- الواقعة: 71/56-72.

الغائيّة و إن كانت بوجودها العلمي بتقدمة على معلولها و لكن بوجودها الخارجيّ متأخّرة عنه.

فعلى هذا، لمّا علمنا أنّ وجود السّماوات بما فيها من الكواكب و الأرض و ما فيها من الجبال و البحار، سابق على وجود الإنسان، علمنا أنّ جميعها مقدّمات لوجوده و مخلوقات له، و أمّا النّباتات و سائر الحيوانات فلمّا رأينا أنّ الإنسان قاهر على جميعها، منتفع بأغلبها، أكمل من كلّها، علمنا أنّه علّة غائيّة لجميعها، لأنّ الأشرف الأكمل لا يمكن أن يكون مقدّمة للأخسّ الأنقص، و لا يعقل أن يكون الأخسّ علّة غائيّة لوجود الأشرف، فثبت أنّ غير الإنسان من الموجودات الجسمانيّة مخلوق له، و هو علّة غائية لإيجاد غيره.

و أمّا قولنا: إنّه لو لا المعاد لكان خلق الإنسان عبثا، فلأنّه لا بدّ أن يكون لخلق الإنسان الذي هو اعجوبة الكون، و آية عالم الملك و الملكوت من غرض مهمّ لائق بالحكيم، و صلاح ملزم في نظر العقل السليم، و لا يمكن أن يكون الغرض و المصلحة في خلقه هو التعيّش في هذا العالم مدّة قليلة، و التمتّع بأمتعتها الخسيسة الرّذيلة، مع شوبها بالآلام الكثيرة و الأسقام الوفيرة، و البلايا و المنايا، و الهموم و الغموم، و المضارّ و المشاقّ ، أضعاف ما يصيب من اللّذّة و التمتّع، ثمّ يكون موت و انعدام، لبداهة عدم صلاحيّته لأن يكون غرضا للحكيم في هذا الخلق القويم الذي أمر ملائكته بالسجود له(1)

الذي هو أعلى مراتب التّعظيم.

فإذن لا يتصوّر غرض آخر في خلقه إلاّ تحصيله الكمالات النفسانيّة، و اكتسابه الملكات الجميلة الروحانيّة و ارتقاؤه إلى درجات القرب و العبوديّة بالمعارف الإلهية و الأعمال الصالحة، و لا يتمّ إلاّ بجعل التكاليف و الأحكام المولويّة و إرسال الرسل و إنزال الكتب، فلو لم يكن عالم آخر يجزى و يثاب فيه المطيع، و يجزى و يعاقب فيه العاصي، لزم كونهما متساويين، و عدم المزيّة في البين، بل كون العاصي أحسن حالا من المطيع لتلذّذه بالمشتهيات النفسانيّة و استفادته بالأمتعة الدنيويّة أزيد من المؤمن المطيع، لكونه مدّة عمره في تعب الطّاعة و مشقّة الزهد و الرياضة.

فثبت أنّه لا بدّ من عالم آخر يجد المطيع فيه ثواب طاعته، و العاصي تبعات معصيته، قال تعالى:

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (2) .

[2] و منها: أنّه لا شبهة أنّ الإنسان خلق مدنيّا بالطبع، بمعنى أنّه لا يمكن لكلّ فرد منه التعيّش إلاّ

ص: 232


1- في النسخة: بسجوده.
2- النجم: 31/53.

بالاجتماع مع غيره و الاستعانة بسائر بني نوعه لكثرة حوائجه و عدم إمكان قيام كلّ واحد بجميعها، ثمّ أنّه من البديهي أنّ طباع بني آدم باقتضاء الجهة الحيوانيّة مجبولة على الظلم و العدوان، و لذا نرى الغالب منهم بين ظالم و مظلوم، و شاتم و مشتوم، و قاتل و مقتول، و غارّ و مغرور، و حاصر و محصور، و كثيرا ما لا يقدر المظلوم في هذه الدنيا على الانتصار من ظالمه، و يبقى الظلم في هذا العالم بلا مكافاة و مجازاة، و مقتضى العدل و الحكمة انتصاره تعالى من الظالم للمظلوم، فلو لم يكن عالم آخر يؤخذ الظالم فيه بظلمه، و يجزى المظلوم على صبره و كظمه، لزم خلاف العدل و عدم قيامه تعالى في عباده بالقسط ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

[3] و منها: أنّ من الواجب في النّظام الأتمّ بعث الرسل و جعل التكاليف على العباد، لأنّهما من اللطف الواجب على اللّه تعالى، و من الواضح أنّه لو لا جعل المجازاة على موافقة التكاليف و مخالفتها، و الوعد بالثواب و الوعيد بالعقاب على طاعتها و عصيانها، لكان البعث و التكليف لغوا، لعدم إمكان اتّباع الامم رسلهم، و تحمّل النّاس مشقّة الطّاعة و التزامهم بالقوانين الإلهيّة، لعدم الداعي في النفوس إلاّ الخوف و الطمع، فلا بدّ في الحكمة و النظام الأتمّ من جعل الثّواب و العقاب على الطاعة و المعصية، إمّا في هذا العالم، أو في عالم آخر، و لمّا لم يكن في الدنيا، فلا بدّ من الحشر في عالم آخر حتّى ينال فيه المستحقّ ما استحقّه من الجزاء، و لذا لم يبعث رسول إلاّ و أخبر بالحشر و النّشر بعد الموت، و الثواب و العقاب في عالم الآخرة.

في إثبات وجوب كون المعاد جسمانيا بالأدلة العقلية

ثمّ اعلم أنّ هذه الوجوه و إن كانت لا تفي بإثبات أزيد من المعاد في الجملة، و المتيقّن منه المعاد الرّوحاني، و لذا قال جمع بأنّه لا طريق للعقل إلى الجسمانيّ منه، بل طريق إثباته منحصر بالنقل، إلاّ أنّ الحقّ أنّه أيضا ممّا يحكم به العقل لوجوه:

[1] منها: أنّه لا شبهة أنّ حدّ استحقاق الثّواب و العقاب لا بدّ أن يكون في حكم العقل على حدّ حسن العمل و قبحه، و لا ريب أنّ منشأهما قد يكون في نفس العمل مع قطع النّظر عن الجهات الخارجيّة الطارئة، كحسن العدل و الإحسان، و قبح الظلم و العدوان، و قد يكون بالنّظر إلى الجهة الخارجيّة الطارئة، و قد يكون للجهتين معا كصيرورة عمل قبيح متعلّقا لنهي المولى، لبداهة أنّ حقّ المولى على العبد إطاعة أوامره و نواهيه، فإذا خالف حكمه كان ظالما عليه.

ثمّ لا شبهة أنّه تتفاوت الجهات الأوّلية في منشئيّتها لانتزاع الحسن و القبح شدّة و ضعفا، لبداهة

ص: 233

أقوائيّة منشأ قبح الزنا من منشأ قبح النظر و القبلة، و منشأ حسن العدل من منشأ حسن الإحسان، و كذلك تتفاوت الجهات الخارجيّة الطارئة على العمل لوضوح تفاوت مراتب عظمة المولى و مقدار حقوقه و نعمه، و درجات تأكّد طلبه و أهميّة غرضه، و تفاوت قبح معصيته و حسن طاعته بذلك التفاوت، فإنّ في ارتكاب مخالفة المولى هتك حرمته و الجرأة عليه و تضييع حقّ مولويّته و كفران نعمته، و في طاعته تعظيمه و حفظ حدوده و أداء حقّه و شكر نعمته، فكلّما ازداد المولى عظمة و نعمة ازداد عصيانه قبحا و طاعته حسنا.

إذا تمهّد ذلك نقول: لا شبهة أنّ عظمته سبحانه و تعالى بلا نهاية، و نعمته غير معدودة، فلا بدّ أن يكون شدّة قبح مخالفته و حسن طاعته و كذا استحقاق العبد العقوبة على الأولى و المثوبة على الثانية غير متناهيين، ثمّ لمّا كان الثّواب و العقاب غير المتناهيين شدّة و كيفيّة غير ممكن الوجود، فلا بدّ من أن يكون الواقع محدودا و إن كان الاستحقاق فوقه.

و لا شبهة أنّ العذاب الجسمانيّ زائدا على الآلام الروحانية ممكن الوجود فلا بدّ من الحكم باستحقاقه، و كذلك الثّواب، فإذا ثبت الاستحقاق فلا بدّ أن تكسى الروح كسوة الجسد ليصير قابلا لذوق العذاب الأشدّ.

إن قيل: إعادة الجسم واجبة إذا كان العذاب الجسمانيّ واجبا، و أمّا مع حسن العفو فلا.

قلنا: مصداق العفو عن العذاب الجسمانيّ لا يتحقّق إلاّ مع إمكان العذاب و هو موقوف على وجود الجسم.

إنّ قيل: سلّمنا وجوب إيجاد جسم تتعلّق به الرّوح لإمكان العذاب الجسمانيّ أو العفو عنه، إلاّ أنّه لا نسلّم وجوب إعادة الجسم الذي كان الروح متعلّقا به في الدنيا.

قلنا: لا بدّ من القول بوجود مرجّح في الخلق الأوّل لعروض الصورة المخصوصة على مادّتها الخاصّة، و لحلول الروح الخاصّ في الجسد المخصوص لئلا يلزم التّرجيح بلا مرجّح، و ليس إلاّ التناسب و السنخيّة بين العارض و الحال، و بين المعروض و المحلّ المخصوصين و عدمهما مع غيرهما، و هذا المرجع و المقتضي موجود في الخلق الثاني، و على هذا لا يمكن تعلّق الروح المخصوص إلاّ بذلك الجسد الذي كان متعلّقا به، فيجب إعادته.

[2] و منها: أنّه لا شبهة في أنّ مقتضى لزوم سنخيّة الروح مع جسده الخاصّ به، لزوم تعلّق الرّوح

ص: 234

الخبيث بالجسد المخلوق من الطّينة الخبيثة، و حينئذ لا بدّ من تأثير كلّ منهما بعلاقة المجاورة في ازدياد خباثة الآخر، فإذا كانا شريكين في التلذّذ بالمشتهيات و الخباثة و دخيلين في ازديادها، لا بدّ في حكم العقل من اشتراكهما في لوازم الخباثة و المعصية و هي العذاب في الآخرة، و أن يعاد الجسد لازدياد عذاب الروح.

[3] و منها: أنّه بعد ما عرفت أنّ الوعد بالثواب و العقاب من متمّمات حكمة التكاليف، و من الواجبات في النّظام الأتمّ ، لا بدّ من القول بوجوب الوعد بالثواب و العقاب الجسمانيّين، لقصور فهم عموم النّاس عن درك الرّوحانيّين منهما، فوجب على اللّه إعادة الجسم حتّى يمكن إنجاز الوعد، أو يصحّ العفو.

سورة البقرة (2): الآیات 26 الی 29

اشارة

إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)

سورة البقرة (2): آیة 26

ثمّ اعلم أنّه لمّا ضرب اللّه الأمثال العديدة للمنافقين في الآيات السّابقة، تعرّض لدفع شبهات الكفّار في ضربه الأمثال في القرآن.

روي أنّه لمّا ذكر اللّه الذباب و العنكبوت في كتابه، و ضرب للمشركين المثل بهما، ضحكت اليهود و قالوا: ما يشبه هذا كلام اللّه (1) ،و كأنّهم اعترضوا على الكتاب المجيد باشتماله على هذه الأمثال الّتي لا تليق بعظمة الرّبوبيّة لتوهّمهم أنّ هذه الحيوانات الدّنيّة الصغيرة لا تناسب أن يذكرها العظيم المتعال

ص: 235


1- تفسير روح البيان 85:1.

في كلامه.

و قيل: إنّهم قالوا: أ ما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذباب و العنكبوت ؟! فردّ اللّه عليهم بقوله: إِنَّ اللّهَ في نهاية عظمته و كبريائه لا يَسْتَحْيِي و لا يرى على ذاته المقدّسة عيبا من أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما من الأمثال، و أيّ مثل كان، كان الممثّل به بَعُوضَةً قيل: هي أصغر من البق، و فيها من ظهور قدرة اللّه ما لا يكون في الفيل؛ لأنّها مع صغر حجمها لها جميع أعضاء الفيل مع زيادة جناحيها، و خرطومها مع كونه مجوّفا و في غاية الصغر يغوص في جلد الفيل و الجاموس على ثخانته كما يغوص إصبع الرّجل في الخبيص، و ذلك لما ركّب اللّه في رأس خرطومها من السّمّ .

و قيل: إنّها تحيا ما جاعت، و تموت إذا شبعت(1).

فَما فَوْقَها و ما هو الأكبر منها كالذّباب و العنكبوت و غيرهما، فإنّ المنظور من التّمثيل توضيح المقصود و كشف المستور بالنّظير المحسوس، و لا ينظر إلى حقارة الممثّل به و جلالته و صغره و كبره، و لا إلى دناءته و شرفه، بل ينظر إلى مطابقة المثل للممثّل له، و هو حاصل في أمثال القرآن على النّحو الأتمّ الأكمل.

و قيل: إنّ كلمة (فوق) من الأضداد، تطلق على الأعلى و الأدنى و على هذا يحتمل أن يكون (ما فوقها) بمعنى: ما دونها، و ما هو أصغر منها.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه فَيَعْلَمُونَ بسبب سلامة عقولهم، و بصيرة قلوبهم، و طهارة نفوسهم من الحسد و العناد و حبّ الدنيا حين يسمعون المثل أَنَّهُ الْحَقُّ الثابت مِنْ رَبِّهِمْ لا مجال لإنكاره و الاعتراض عليه، لكونه في غاية الحسن و البلاغة، و كشفه عن العلوم و الحكم الكثيرة، و نظير هذه الأمثال جاء في الكتب السّماويّة كالانجيل و غيره.

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و عاندوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و جحدوا كتابه فَيَقُولُونَ عند سماع المثل، استحقارا له، لقصور عقولهم، و قلّة أفهامهم، و عمى قلوبهم، و فساد أخلاقهم: ما ذا و أيّ شيء أَرادَ اللّهُ بِهذا المثل من حيث كونه مَثَلاً؟ فإن كان له نفع فضرّه يساوي نفعه، لأنّه سبحانه يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من النّاس لجهلهم بموقعيّة الأمثال وَ إن كان يَهْدِي بِهِ كَثِيراً لاعتقادهم كمال حسنه و كثرة فوائده، فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ الخارجين عن حدود

ص: 236


1- تفسير روح البيان 85:1.

العقل و شئون الانسانيّة و طريق الحقّ و الصواب.

سورة البقرة (2): آیة 27

ثمّ كأنّه قيل: من الفاسقون ؟ فعرّفهم أوّلا بفساد العقائد بقوله: اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ و يخالفون عَهْدَ اللّهِ الذي أخذ منهم على توحيده و رسالة رسوله و ولاية عليّ و المعصومين من ذرّيّته عليهم السّلام، و وجوب طاعتهم، و محبّة المؤمنين و مودّتهم في عالم الذّرّ، بقوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ (1) و في هذا العالم بإقامة الحجج القاطعة و البراهين السّاطعة الّتي هي في حكم العهد مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ و إحكامه، و إتقانه.

ثمّ ذمّهم ثانيا بالإساءة إلى الأقارب بقوله: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام و القرابات النّسبيّة الجسمانيّة بترك تعاهدهم و منع حقوقهم، و من القرابات الرّوحانيّة و هم الأنبياء و الأوصياء الذين هم آباء اممهم و أشياعهم لتوليدهم روح الإيمان في قلوبهم، و لكون طينتهم من سحالة(2) طينتهم الطيّبة، و المؤمنون الذين هم إخوة حقيقة في الدنيا و الآخرة، لكونهم بجهة إيمانهم أولاد أب واحد و هو نبيّهم، و في تربية مربّ واحد هو الإمام و الوصيّ ، و كون جميعهم مخلوقين من أصل واحد و طينة واحدة، و لذا جعل اللّه بينهم حقوق الإخوة.

في الحديث: «إذا أظهر النّاس العلم و ضيّعوا العمل به، و تحابّوا بالألسن و تباغضوا بالقلوب، و تقاطعوا الأرحام، لعنهم اللّه عند ذلك فأصمّهم و أعمى أبصارهم »(3).

ثمّ ذمّهم ثالثا بفساد الأعمال بقوله: وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بقبض الحقوق، و تشييد الكفر، و تضعيف الإسلام، و الصّدّ عن سبيل الحقّ ، و إلقاء الشبه في قلوب المؤمنين أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات الذميمة هُمُ الْخاسِرُونَ في تجارتهم، المغبونون في معاملتهم، كأنّه لغاية خسارتهم لا يكون خاسر سواهم، حيث إنّهم حرموا الجنّات و النّعيم الأبد، و لزمهم النّيران و العذاب المخلّد.

سورة البقرة (2): آیة 28

ثمّ لمّا حكى اللّه تعالى مقالة الكفّار و تهكّمهم بالقرآن، و شدّة كفرهم، و نهاية طغيانهم و عصيانهم، وجّه الخطاب إليهم بالتوبيخ و التقريع بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ و بوحدانيّته، وَ الحال أنّكم كُنْتُمْ أَمْواتاً لا حياة لكم، و نطفا في أصلاب آبائكم و أرحام امّهاتكم فَأَحْياكُمْ بخلق الأرواح و نفخها في أجسادكم بلا مزاج، فبدأ اللّه بتذكيرهم ما هو الأصل لجميع النعم، و هو نعمة الحياة، لأنّه

ص: 237


1- الأعراف: 172/7.
2- السّحالة: برادة الشيء أو ما يسقط منه أو قشره.
3- تفسير روح البيان 88:1.

كلّما عظمت نعمة المولى على العبد عظمت معصيته إيّاه.

ثمّ ذكّرهم زوال هذه النعمة التي صارت سببا لغرورهم بقوله: ثُمَّ بعد مدّة طويلة من الإحياء و تعميركم في الدنيا يُمِيتُكُمْ ثُمَّ بعد مدّة من الإماتة التي فيها تجهّزون و تقبرون يُحْيِيكُمْ في القبور للسؤال و لتنعّم المطيع و لتعذيب العاصي ثُمَّ بعد الإماتة في القبر إِلَيْهِ و إلى سلطانه و حكمه تُرْجَعُونَ و تحيون ثالثا للنشور.

و قيل: أي ترجعون إلى ما وعدكم من الثواب و العقاب على حسب أعمالكم، لا إليه في مكان كما توهّمه المجسّمة.

إن قيل: كيف استدلّ عليهم بالاحياء و الإماتة في القبر، ثمّ بالاحياء في المحشر مع عدم علمهم بذلك ؟

قلنا: تمكّنهم من تحصيل العلم جعلهم بمنزلة العالمين.

سورة البقرة (2): آیة 29

ثمّ أردف سبحانه و تعالى نعمة الحياة بذكر سائر النعم الجسيمة التي خلق لهم في الأرض بقوله:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ بقدرته و رحمته ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الأشياء كي تنتفعوا بها في دنياكم و دينكم، بأن تستدلّوا بها على خالقكم، و تعتبروا بها و تتوصّلوا إلى رضوانه، و تتّقوا عن نيرانه، و تصلحوا بها أبدانكم، و تتقوّوا بها على طاعة ربّكم، و تقبروا فيها إلى يوم بعثكم، و فيه دلالة على أنّ خلق عالم الاجسام لأجل الإنسان و تبيعه.

عن ابن عباس رضى اللّه عنه: أوّل ما خلق اللّه جوهرة طولها و عرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة، فنظر اليها بالهيبة فذابت و اضطربت، ثمّ ثار منها دخان، فارتفع و اجتمع زبد فقام فوق الماء، فجعل الزبد أرضا و الدخان سماء(1).

ثُمَّ اسْتَوى و توجّه سبحانه و تعالى بالإرادة و الايجاد، و قصد قصدا سويّا لا يلويه عنه شيء إِلَى خلق اَلسَّماءِ فَسَوّاهُنَّ و خلقهنّ معتدلات سَبْعَ سَماواتٍ طباقا ليس فيها خلل و لا فطور و لا اعوجاج.

عن سلمان: اسم الأولى رفيع(2) و هي [من] زمردة خضراء، و اسم الثانية أرفلون و هي من فضة

ص: 238


1- تفسير روح البيان 91:1.
2- في تفسير روح البيان: رقيع.

بيضاء، و الثالثة قيدون(1) و هي من ياقوتة حمراء، و الرابعة ماعون و هي من درّة بيضاء، و الخامسة ديفاء(2) و هي من ذهب أحمر، و السادسة وفناء و هي من ياقوتة صفراء، و السابعة عروباء و هي نور يتلألأ(3).

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ من حقائق الموجودات و استعداداتها و منافعها و مصالحها الراجعة إلى العالم عَلِيمٌ محيط ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

و في التذييل به دلالة على أنّ علّة خلق الأشياء على هذا النمط الأكمل، علمه بكنهها و مصالحها، كما أنّ هذا النّسق العجيب، و الترتيب الأنيق في الخلق دال على كمال علمه تعالى و حكمته.

في بيان أنّ خلق الأرض قبل السّماء

ثمّ اعلم أنّ المستفاد من هذه الآية و غيرها أن خلق الأرض و ما فيها كان قبل خلق السّماوات، و مقتضى قوله تعالى في (النازعات): أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها إلى قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (4) أنّ خلق الأرض كان بعد خلق السّماء.

و قيل في الجمع بينها: إنّ ثُمَّ في تلك الآيات ليس للترتيب، بل إنّما هو على جهة تعديد النعم، كما يقول الرجل لغيره: أ ليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثمّ رفعت قدرك، ثمّ دفعت الخصومة عنك ؟ و لعلّ بعض ما أخّر ذكره قد تقدّم(5).

و قيل: إنّ كلمة بَعْدَ في قوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ بمعنى (مع) مثل كلمة (بعد) في قوله عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (6).

و قيل: إنّها على أصلها، و إنّ خلق الأرض كان قبل خلق السّماوات، و دحوها بعده، لما روي عن ابن عبّاس قال: خلق اللّه الأرض قبل السّماء، فقدّر فيها أقواتها و لم يدحها، ثمّ خلق السّماء، ثمّ دحا الأرض من بعدها(7).

في اعتراض الفخر الرازي على قول ابن عبّاس و جوابه

و ردّ هذا القول بوجهين:

الأوّل: أنّ الأرض جسم عظيم لا يمكن انفكاك خلقها عن التّدحية، فإذا كانت التّدحية متأخّرة، كان خلقها متأخّرا.

ص: 239


1- في تفسير روح البيان: قيدوم.
2- في تفسير روح البيان: دبقاء.
3- تفسير روح البيان 91:1.
4- النازعات: 27/79-30.
5- تفسير الرازي 155:2.
6- القلم: 13/68.
7- الدر المنثور 412:8.

و فيه: أنّ التّدحية تسوية سطحها لا توسّعها.

و الثاني: أنّ آية خَلَقَ لَكُمْ دالّة على أنّ خلق ما في الأرض قبل خلق السّماء، و خلق ما في الأرض لا بدّ أن يتكوّن بعد التّدحية(1).

و فيه: أنّ خلق ما فيها من الجبال و المعادن و الأشجار و غيرها، و إن كان لا يستلزم تسطيح وجه الأرض، إلاّ أنّ الانتفاع بها متوقّف عليه، و اللّه العالم.

إن قيل: مقتضى الآية أنّ السماوات سبع، و أهل الرّصد قائلون بها تسعة.

قلنا: إن صحّ قول الرّصديّين، يحمل السبع على ما سوى العرش و الكرسيّ .

سورة البقرة (2): الآیات 30 الی 32

اشارة

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

سورة البقرة (2): آیة 30

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمة الحياة و نعمة خلق ما في الأرض و نعمة خلق السّماوات، ذكر النعمة الرابعة و هي خلق آدم و تعظيمه إيّاه، و تشريفه بالعلم على الملائكة، و كلّها من النعم الجارية في ذريّته، و يمكن أن يكون وجه النّظم أنّه لمّا ذكر اللّه تعالى في الآية السابقة علمه و إحاطته بكلّ شيء، و كان في قضيّة خلق آدم شهادة على كمال علمه و إحاطته بحقائق الموجودات و حكمها قبل إيجادها، شرع في بيانها بقوله: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ و تذكّر حين أوحى لِلْمَلائِكَةِ جميعهم، أو للّذين كانوا في الأرض بعد طرد بني الجانّ منها إِنِّي جاعِلٌ بالخلق أو النّصب فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً

و بدلا منكم و ممّن كان قبلكم فيها، و رافعكم إلى السّماء، هكذا قيل(2).

و الأظهر أنّ المراد بالخليفة هو الحجّة على الخلق من اللّه، إذ الجعل أظهر في النّصب من الخلق، كما قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً (3) و قال مخاطبا لداود عليه السّلام: إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي

ص: 240


1- تفسير الرازي 155:2.
2- تفسير روح البيان 93:1.
3- البقرة: 124/2.

اَلْأَرْضِ (1) و على هذا التفسير جمع من العامّة. و قال بعضهم: إنّ اللّه يحفظ العالم بالخليفة كما يحفظ الخزائن بالختم(2).

قيل: إنّ حكمة إظهار هذه الإرادة للملائكة تعليم العباد المشاورة في الامور، أو سؤال الملائكة عن حكمة الجعل حتّى يظهر لهم شرف آدم و فضله عليهم، فلمّا سمعت الملائكة ذلك الخطاب قالُوا استفهاما لحكمة جعل الخليفة، لا اعتراضا على اللّه: أَ تَجْعَلُ يا ربّ ، و تنصب للخلافة فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها بالعصيان و الطغيان شأنا و استعدادا وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ المحترمة، كما كان بنو الجانّ يفعلون فيها وَ نَحْنُ أولى و أحقّ بالخلافة، لأنّه ليس فينا شأنيّة الفساد و الظلم، بل نحن مجبولون على عبادتك، و شغلنا أنّا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ و ننزّهك عمّا لا يليق بك، مقرونا بثنائك الجميل على نعمتك وَ نُقَدِّسُ الأرض و نطهّرها لَكَ .

قيل: الفرق بين التّسبيح و التّقديس، أنّ التّسبيح: تنزيهه تعالى عمّا لا يليق به. و التّقديس: إثبات ما يليق(3).

فاستحقروا آدم و ذرّيته، و لم يعلموا أنّه أحقّ بخلافة اللّه منهم، لأنّه مجمع عوالم النّفوس و العقول و الأجسام، و فيه انطوى العالم الأكبر، و لعلّه لكون سؤالهم عن حكمة الجعل بصورة الاعتراض - إذ كان حقّ السّؤال أن يقولوا: ربّنا علّمنا حكمة هذا الجعل - طردهم اللّه عن حول العرش، و جعل البيت المعمور توبة لهم على ما روي عن المعصومين عليهم السّلام (4).و لا يخفى أنّ هذه الرّوايات تنافي كون المراد من الملائكة الملائكة الذين(5) كانوا سكّان الأرض.

و على أيّ تقدير، قالَ اللّه في جوابهم: إِنِّي أَعْلَمُ من الحكم و المصالح في هذا الخلق ما لا تَعْلَمُونَ .

و في رواية، قال: «إنّي أخلق خلقا بيدي، و أجعل في ذرّيته الأنبياء و المرسلين، و عبادي الصّالحين، و أئمّة مهديّين، أجعلهم خلفائي في أرضي، على خلقي يهدونهم إلى طاعتي، و ينهونهم عن معصيتي، و أجعلهم حجّة لي عليهم »(6).

أقول: في خلق هذا النوع كمال قدرته و كمال رحمته و فضله و بعصاتهم ظهور صفة عفوه

ص: 241


1- سورة ص: 26/38.
2- تفسير روح البيان 93:1.
3- تفسير روح البيان 95:1.
4- تفسير القمي 37:1، تفسير العياشي 110/114:1.
5- في النسخة: التي.
6- تفسير القمي 37:1.

و قهّاريّته.

سورة البقرة (2): آیة 31

ثمّ خلق وَ عَلَّمَ بإفاضته آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.

عن السجّاد عليه السّلام: «علّمه أسماء كلّ شيء، و فيه أيضا أسماء أنبياء اللّه و أوليائه و عتاة أعدائه »(1).

و عن القميّ رحمه اللّه قال: أسماء الجبال و البحار و الأودية و النّبات و الحيوان(2).

في بيان المراد من الاسماء الّتي علّمها اللّه آدم

و قيل: إنّ المراد بالأسماء حقائق الأشياء، لكون العلم بها أنسب بمقام التفضيل على الملائكة من العلم باللغات. و لعلّ هذا المعنى هو الظاهر ممّا روي عن الصادق عليه السّلام حيث سئل: ما ذا علّمه ؟ قال: «الأرضين، و الجبال، و الشّعاب، و الأودية» ثمّ نظر إلى بساط تحته، فقال: «و هذا البساط ممّا علّمه »(3).

و على هذا، لا بدّ من التقدير في الآية بأن يكون التّقدير مسمّيات الأسماء، أو القول بأنّ الاسم عبارة عمّا هو الدّالّ على الذّات، و كما أنّ الأعلام اللفظيّة دالّة على الذّوات، كذلك جميع الموجودات دالّ و كاشف عن ذاته المقدّسة دلالة المعلول على علّته.

فجميع الموجودات بهذا الاعتبار أسماء اللّه تعالى، أو القول بأنّ المراد من الأسماء علل الموجودات و أسبابها و أرباب أنواعها، و إطلاق الأسماء عليها في الأدعية و كلمات المعصومين غير عزيز.

و الأقرب أنّ يقال: إنّ المراد من الأسماء هو الألفاظ الدالّة على المسمّيات و اللغات الموضوعة للمعاني، كما هو ظاهر الآية المباركة و الروايتين المتقدّمتين، و ظاهر ما ببالي من عبارات التوراة في سفر التكوين، و عليه جلّ مفسّري العامّة لو لا الكلّ (4).

و لا ريب أنّ معرفة أسامي الموجودات بحيث لو رأى موجودا عرف اسمه مستلزم لمعرفة جميع المسمّيات بخصوصيّاتها و مشخّصاتها إلى يوم القيامة، كما أنّ من عرف أسامي الأدوية، بحيث لو احضر دواء أو معجون عنده، قال: هذا اسمه كذا، لا بدّ له من معرفة مشخّصاتها من طعمها و لونها و أجزائها، فعلى هذا يكون الاطّلاع على أسامي الموجودات ملازما لمعرفتها بماهيّاتها و حقائقها

ص: 242


1- تفسير الصافي 96:1.
2- تفسير القمي 45:1، تفسير الصافي 96:1.
3- مجمع البيان 180:1، تفسير الصافي 96:1.
4- الكتاب المقدس: 5 - الاصحاح الثاني من سفر التكوين، و راجع: روح البيان 101:1، تفسير أبي السعود 84:1، تفسير الرازي 175:1.

و مشخّصات أفرادها إلى يوم القيامة، و للاطّلاع على جميع المصنوعات و المخترعات التي تحدث إلى آخر الدّهر كما قال الصادق عليه السّلام: «و هذا البساط ممّا علّمه».

فتعليم الأسماء يدلّ على تعليم المسمّيات بالدلالة الالتزامية، و يدلّ عليه ما روي من أنه لمّا نفخ فيه من روحه علّمه أسماء المسمّيات - أي ألهمه - فوقع في قلبه، فجرى على لسانه ما في قلبه بتسمية الأشياء، فعلّمه جميع أسماء المسمّيات بجميع اللغات بأن أراه الأجناس التي خلقها، و علّمه أنّ هذا اسمه فرس، و هذا اسمه بعير، و هذا اسمه كذا، و علّمه أحوالها و ما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة و الدنيويّة، و علّمه أسماء الملائكة و أسماء ذريّته كلّهم، و أسماء الحيوانات و الجمادات، و صنعة كلّ شيء، و أسماء المدن و القرى، و أسماء الطير و الشجر و ما يكون، و كلّ نسمة يخلقها إلى يوم القيامة، و أسماء المطعومات و المشروبات، و كلّ نعيم في الجنّة، و أسماء كلّ شيء حتّى القصعة و القصيعة، و حتّى الجفنة و المحلب(1).

و في الخبر: لمّا خلق اللّه آدم بثّ فيه أسرار الأحرف، و لم يبثّ في أحد من الملائكة، فخرجت الأحرف على لسان آدم بفنون اللغات، فجعلها اللّه صورا له، و مثّلت له بأنواع الأشكال(2).

و في خبر آخر: علّمه سبعمائة ألف لغة، فلمّا وقع في أكل الشجرة سلب اللغات إلاّ العربيّة، فلمّا اصطفاه بالنبوّة ردّ اللّه عليه جميع اللغات(3).

أقول: هذا كمال علميّ و إحاطة بالمغيّبات لا يليق بها الملائكة، حيث إنّه متوقّف على استعداد تامّ و كمال وجوديّ كان لآدم و الطّيّبين من ذرّيّته.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي أشباح الموجودات، و في الحديث «أنّه عرضهم أمثال الذّرّ» (4)عَلَى الْمَلائِكَةِ و إرجاع ضمير ذوي العقول إليهم، إمّا لأنّ أشباح الموجودات في عالم الملكوت جميعها ذوو الأرواح و العقول، و إمّا لتغليب جانب ذوي العقول منهم.

فقال اللّه تعجيزا لهم: أَنْبِئُونِي و أخبروني أيّها الملائكة بِأَسْماءِ هؤُلاءِ الأشباح و الصور المثاليّة للموجودات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى أفضليّتكم على ما أردت خلقه، و أولويّتكم بخلافتي منه، حيث كان الدعوى مستفادا من قولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ

ص: 243


1- تفسير روح البيان 100:1.
2- تفسير روح البيان 100:1.
3- تفسير روح البيان 100:1.
4- تفسير روح البيان 101:1.

وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ و لمّا كان مطابقا لاعتقادهم، و إنّ كان مخالفا للواقع، لم يكن كذبا منافيا لعصمتهم.

سورة البقرة (2): آیة 32

قالُوا تنزيها له عن فعل مناف للحكمة أو تعجيبا من أمره بما هو خارج عن وسعهم من إنبائهم بالأسماء مع علمه بجهلهم بها: سُبْحانَكَ إنّك تعلم أنّه لا عِلْمَ لَنا بشيء إِلاّ ما عَلَّمْتَنا

بإفاضتك علينا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ المحيط بجميع المصالح و المفاسد و خفيّات الامور اَلْحَكِيمُ

في جميع أفعالك، لا يصدر منك إلاّ ما فيه الصّلاح الأتمّ .

قيل: إنّ المؤمن بعد اطّلاعه على قول الملائكة: لا عِلْمَ لَنا لا ينبغي أن يتأنّف عن قول لا أدري و لا أعلم(1).

سورة البقرة (2): آیة 33

اشارة

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

سورة البقرة (2): آیة 33

ثمّ قالَ اللّه: يا آدَمُ أظهر سعة علمك للملائكة و أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أي أسماء الأشباح.

فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ و أخبرهم بِأَسْمائِهِمْ قالَ اللّه تعالى تقريرا لهم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و خفيّات أسرارهما و حكم جميع ما خلقته فيها قبل خلقه وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ

من قولكم: أَ تَجْعَلُ فِيها (2) إلى آخره وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ و تخفون في ضمائركم من هذا القول، أو اعتقاد أنّه لم يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منّا.

و قيل: إنّ المراد ما كتم إبليس من تمرّده لأمر اللّه بالسّجود لآدم.

و في الآية دلالة على أفضلية العلم من جميع الكمالات النفسانيّة، حيث احتجّ سبحانه و تعالى على كمال حكمته بظهور علم آدم، و لو كانت صفة اخرى أفضل منه لاحتجّ بها.

في حديث أبي ذرّ رضى اللّه عنه: «حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة، و عيادة ألف مريض، و شهود ألف جنازة» فقيل: يا رسول اللّه، و من قراءة القرآن ؟ قال: «و هل ينفع القرآن إلاّ بعلم »(3).

ص: 244


1- تفسير روح البيان 101:1.
2- البقرة: 30/2.
3- تفسير روح البيان 102:1.

سورة البقرة (2): آیة 34

اشارة

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

سورة البقرة (2): آیة 34

ثمّ لمّا ذكر سبحانه و تعالى سعة علمه و حكمة خلق آدم و تشريفه بالعلم و تنبيه الملائكة بفضله عليهم، ناسب أن يذكر جملة من قضايا بدو خلقته، حيث إنّ منها فوائد عظيمة من وجوب تعظيم العالم و ذمّ الكبر و الحسد، و وخامة معصية اللّه و آثار التوبة و غير ذلك فقال سبحانه: وَ إِذْ قُلْنا بعد خلق آدم و تشريفه بالعلم لِلْمَلائِكَةِ كافّة و فيهم إبليس: اُسْجُدُوا تعظيما و إكراما لِآدَمَ أو طاعة له و تعظيما للانوار الطيّبة المودعة في صلبه.

قال عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما: «حدّثني أبي، عن أبيه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يا عباد اللّه، إنّ آدم لمّا رأى النّور ساطعا من صلبه - إذ كان اللّه

تعالى [قد] نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره - رأى النّور و لم يتبيّن الأشباح، فقال: يا ربّ ما هذه الأنوار؟ فقال عزّ و جلّ : أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، و لذلك أمرت الملائكة بالسّجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح.

فقال آدم: يا ربّ لو بيّنتها لي. فقال اللّه عزّ و جلّ : انظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم و وقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره، كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية، فرأى أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح يا ربّ ؟

قال اللّه: يا آدم، هذه أشباح أفضل خلائقي و بريّاتي، هذا محمّد و أنا الحميد المحمود في فعالي، شققت له اسما من اسمي، و هذا عليّ و أنا العليّ العظيم، شقت له اسما من اسمي، و هذه فاطمة و أنا فاطر السّماوات و الأرض، فاطم أعدائي عن رحمتي يوم فصل قضائي، و فاطم أوليائي عمّا يعروهم، و هذا الحسن و هذا الحسين، و أنا المحسن المجمل، شققت اسميهما من اسمي، هؤلاء خيار خليقتي، و كرام بريّتي، بهم آخذ و بهم اعطي، و بهم اعاقب، و بهم اثيب، فتوسّل بهم إليّ .

يا آدم، و إذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعاءك، [فإنّي] آليت على نفسي قسما حقّا أن لا اخيّب بهم آملا، و لا أردّ بهم سائلا، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة، دعا اللّه عزّ و جلّ بهم فتاب عليه، و غفرت له »(1).

ص: 245


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 102/219.

فَسَجَدُوا كلّهم من غير ريث لكونهم مخلوقين من النّور، و اقتضاء النّور الطاعة و الانقياد إِلاّ إِبْلِيسَ فإنّه كان من الجنّ مخلوقا من النّار.

قيل: اسمه حارث، و استثناؤه من الملائكة باعتبار أنّه كان معهم يعبد اللّه حتّى ظنّوا أنّه منهم، فشمله الأمر بالسّجود، فلمّا عصى اللّه تعالى و تمرّد، علموا أنّه لم يكن منهم.

و إنّما سمّي إبليس لكونه مبلسا من رحمة اللّه، فلذلك أَبى و امتنع من السّجود حسدا وَ اسْتَكْبَرَ على آدم.

عن القمّي، عنه عليه السّلام: «الاستكبار أوّل معصية عصى اللّه بها». قال عليه السّلام: «فقال ابليس: ربّ اعفني عن السّجود لآدم، و أنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل. فقال جلّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنّما عبادتي من حيث اريد لا من حيث تريد »(1).

وَ كانَ من أجل تمرّده عن طاعة أمر اللّه و تكبّره على آدم معدودا مِنَ الْكافِرِينَ باللّه، و من زمرة الطّاغين عليه.

في (العيون): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّه أوّل من كفر و أنشأ الكفر »(2).

سورة البقرة (2): الآیات 35 الی 36

اشارة

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)

سورة البقرة (2): آیة 35

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ و استقرّ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حوّاء اَلْجَنَّةَ قيل: إنّها جنّة عدن.

و عن (الكافي) و (العلل) و (القمي): عن الصادق عليه السّلام: «أنّها كانت من جنّات الدنيا، تطلع فيها الشّمس و القمر، و لو كانت من جنّات الخلد ما خرج منها أبدا »(3).

و زاد (القمي) رحمه اللّه: و لم يدخلها ابليس(4).

وَ كُلا مِنْها رَغَداً واسعا بلا تقتير و لا تضييق حَيْثُ شِئْتُما بلا تعب و لا نصب وَ لا تَقْرَبا

ص: 246


1- تفسير القمي 42:1.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/244:1.
3- الكافي 2/247:3، علل الشرائع: 55/600.
4- تفسير القمي 43:1.

هذِهِ الشَّجَرَةَ كي تنالوا من ثمرها.

قيل: إنّها شجرة البرّ. و قيل: شجرة التّين. و قيل: شجرة الكرم. و قيل: شجرة الكافور (1).و في رواية:

أنّها شجرة الحسد.

و في تفسير الامام عليه السّلام: «أنّها شجرة علم محمّد و آل محمّد صلوات اللّه عليهم آثرهم اللّه تعالى بها دون سائر خلقه »(2).

في بيان حكم تسليط الشيطان على آدم

و عن (العيون) عن عبد السّلام بن صالح الهروي، قال: قلت للرّضا عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حوّاء ما كانت فقد اختلف النّاس فيها، فمنهم من يروي أنّها الحنطة، و منهم من يروي أنّها العنب. و منهم من يروي أنّها شجرة الحسد؟ فقال عليه السّلام: «كلّ ذلك حقّ ».

قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: «يا أبا الصّلت، إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب ليست كشجرة الدنيا، و إنّ آدم عليه السّلام لمّا أكرمه اللّه تعالى بإسجاده ملائكته له و إدخاله الجنّة، قال في نفسه: هل في خلق اللّه بشر أفضل منّي ؟ فعلم اللّه ما وقع في قلبه، فناداه: ارفع رأسك يا آدم، و انظر إلى ساق عرشي، فرفع رأسه فنظر الى ساق العرش، فوجد [عليه] مكتوبا: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، و زوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين، و الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. فقال آدم: يا ربّ ، من هؤلاء؟ فقال عزّ و جلّ :

هؤلاء من ذرّيتك، و هم خير منك و من جميع خلقي، و لولاهم ما خلقتك و لما خلقت الجنّة و النّار، و لا السّماء و لا الأرض، فإيّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد [فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد] و تمنّى منزلتهم، فتسلّط عليه الشّيطان حتّى أكل من الشّجرة التي نهي عنها، و تسلّط على حوّاء لنظرها إلى فاطمة عليها السّلام بعين الحسد حتّى أكلت من الشّجرة كما أكل آدم، فأخرجهما اللّه تعالى من جنّته، و أهبطهما من جواره إلى الأرض »(3).

أقول: المراد من الحسد هنا: الغبطة اللائقة بمقام الأنبياء، و لمّا كان في اغتباط آدم بمقام آل

ص: 247


1- مجمع البيان 195:1.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 103/221.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 67/306:1.

محمّد صلّى اللّه عليه و آله - مع كونه بعيدا عنه بمراحل - ظهور نقصه و قلّة معرفته بنفسه و بمقامهم، حيث إنّ استدعاء من كان رتبته في باب السلطان خدمة الحضور أن يجعله السلطان رئيس وزرائه، كاشف عن نقص إدراكه و عدم معرفته بشأن نفسه و شأن رئاسة الوزراء، فاقتضت الحكمة تسليط الشّيطان عليه حتّى يعرف أنّ من يغرّه الشّيطان لا يليق أن يتمنّى المقام الشامخ الذي لمحمّد و آله صلوات اللّه عليهم، و لعلّ هذا هو المراد من القرب إلى شجرة علم آل محمّد صلوات اللّه عليهم أجمعين، و تسليط الشّيطان عليهما إيكالهما إلى نفسهما و عقلهما و التّخلية بينهما و بين الشّيطان، و ترك حفظهما عن كيده، فصارت الزّلّة سببا لعلمه بنقصه و باعثا له إلى تكميل نفسه الشّريفة.

ثمّ إنّه تعالى لم يقتصر على نهيهما عن الأكل من الشّجرة، بل أكّده ببيان سوء عاقبة عصيانه تتميما للّطف بقوله: فَتَكُونا بعصياني و مخالفة نهيي مِنَ الظّالِمِينَ على أنفسكم حيث إنّكم تحرمون من النّعم و تبعدون عن جوار اللّه و تبتلون بمشاقّ المعيشة فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها بوسوسته، و أوقعهما في الخبط عن الجنّة بخديعته.

روي «أنّ ابليس دخل بين لحيي الحيّة فأدخلته الجنّة، و كان آدم يظنّ أنّ الحيّة هي التي تخاطبه، و بدأ بآدم، فقال: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ إن تناولتما منها تعلمان الغيب و تقدران على ما يقدر عليه من خصّه اللّه بالقدرة، أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ لا تموتان أبدا، وَ قاسَمَهُما و حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ (1) فرد آدم على الحيّة، فقال: أيّتها الحيّة، هذا من غرور ابليس، كيف يخوننا ربّنا، أم كيف تعظّمين اللّه بالقسم به و أنت تنسبينه إلى الخيانة و سوء النّظر، و هو أكرم الأكرمين ؟ أم كيف أروم التوصّل إلى ما منعني منه ربّي و أتعاطاه بغير حكمه ؟!

فلمّا أيس ابليس من قبول آدم منه، عاد ثانية بين لحيي الحيّة، فخاطب حوّاء من حيث يوهمها أنّ الحيّة هي التي تخاطبها، و قال: يا حوّاء، أ رأيت هذه الشجرة التي كان اللّه عزّ و جلّ حرّمها عليكما! لقد أحلّها لكما بعد تحريمها لمّا عرف من حسن طاعتكما له، و توقيركما إيّاه، و ذلك أنّ الملائكة - الموكّلين بالشجرة - التي معها الحراب، يدفعون عنها سائر حيوانات الجنّة، و لا تدفعك عنها إن رمتها، فاعلمي بذلك أنّه قد احلّ لك، و أبشري بأنّك إن تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه الآمرة النّاهية فوقه.

ص: 248


1- سورة الأعراف: 20/7-21.

فقالت [حواء]: سوف اجرّب هذا، فرامت الشجرة، فأرادت الملائكة أن تدفعها عنها بحرابها، فأوحى اللّه إليها: إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره، فأمّا من جعلته متمكّنا مميّزا مختارا، فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجّة عليه، فإن أطاع استحقّ ثوابي، و إن عصى و خالف أمري استحقّ عقابي و جزائي. فتركوها و لم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم. فظنّت أنّ اللّه نهاهم عن منعها لأنّه قد أحلّها بعد ما حرّمها. فقالت: صدقت الحيّة، و ظنّت أنّ المخاطب لها هي الحيّة، فتناولت منها و لم تنكر من نفسها شيئا؛ فقالت لآدم: أ لم تعلم أنّ الشجرة المحرّمة علينا قد ابيحت لنا، فتناولت منها و لم يمنعني أملاكها، و لم انكر شيئا من حالي ؟! فلذلك اغترّ آدم و غلط و تناول »(1).الخبر.

إن قيل: كيف دخل الشّيطان الجنّة و لم تمنعه الخزنة، مع أنّه اخرج منها و كان منهيّا عن الدخول فيها؟.

قلت: لعلّه كان منه عصيان آخر، و إنّما لم يمنعه الخزنة لأنّ اللّه أراد ابتلاء الحيّة و آدم.

و ما قيل في ردّه من أنّه كان منهيّا عن الدخول بارزا لا مختفيا، ففيه: أنّ الظاهر من الأمر بالخروج هو حرمة الدخول عليه مطلقا، بارزا و مستترا، و الظاهر أنّ وجه اختفائه بين لحيي الحيّة التحرّز - بزعمه - عن اطلاع الخزنة عليه، و عن معرفة آدم و حواء إيّاه، حيث إنّهما مع علمهما بكونه عدّوا لهما؛ لم يكونا معتنيين بقوله.

إن قيل: إذا كان الشّيطان قادرا على أن يدخل بين لحيي الحيّة، كان قادرا على أن يتصوّر بصورتها.

قلت: لعلّ وجه دخوله بين لحييها قصد إغوائها و إيقاعها في الخطيئة و تبعيدها عن ساحة الرّحمة، حيث كان همّه ذلك بالنسبة إلى جميع الخلق.

إن قيل: إذا لم يكن للحيّة عقل، و لم يكن لها تكليف، فكيف يتصوّر وقوعها في الخطيئة ؟

قلت: لعلّه كان لها في ذلك الوقت و ذاك العالم مرتبة من العقل يصحّ معها تكليفها ببعض الامور، فكانت إعانتها لإبليس على دخوله في الجنّة و موادّتها له خطيئة و معصية.

إن قيل: إذا كان أكل آدم و حوّاء من الشجرة لاعتقاد إباحتها لهما و نسخ النّهي و التّحريم أو الكراهة و التنزيه، كانا معذورين في المخالفة، فكيف عوتبا و عوقبا عليها؟

قلت: لعلّه كان اعتقادهما مستندا إلى التّقصير، حيث إنّ اللّه تعالى باشر بذاته المقدّسة مخاطبتهما

ص: 249


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 104/222.

بالنّهي عن قرب الشجرة، و أخبرهما بأنّ الشّيطان لهما عدوّ مبين، فإذن كان عليهم التثبّت و انتظار الإذن الصّريح من اللّه تعالى، و لم يكن لهما الاعتماد بقول الحيّة و الأمارات الظّنّيّة، فلمّا اعتمدا بقول من لا حجّة في قوله، و عملا بالظّنّ النّاشئ عن الطّمع و الهوى كان ذلك خلاف العزم و الحزم، و لذا قال تعالى في حقّ آدم: وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (1) فقول الفخر الرازي: إنّ هذه الرواية ممّا لا يلتفت إليها (2) ،لتوهّمه ورود بعض هذه الاشكالات عليها، ممّا لا يلتفت إليه.

و عن (العيون) عن الرّضا عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى قال لهما: لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و أشار لهما إلى شجرة الحنطة، و لم يقل لهما: لا تاكلا من هذه الشّجرة و لا ممّا كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة، فأكلا من غيرهما لمّا أن وسوس الشّيطان إليهما»(3) الخبر. و فيه إشعار بأنّه كان الأولى أن يراجع آدم عليه السّلام ربّه في إباحة ما كان من جنسها أو يحتاط ، فوسوس إليه الشّيطان و أوهمه نسخ حرمة تلك الشجرة الخاصّة لترتفع جهة الاحتياط ، و عليه كان جهة القبح في أكله أضعف، و مخالفته أهون.

فَأَخْرَجَهُما الشّيطان مِمّا كانا فِيهِ من الجنّة و نعيمها وَ قُلْنَا لآدم و حوّاء و الحيّة و إبليس:

اِهْبِطُوا و تنزّلوا من الجنّة إلى الأرض في حال بَعْضُكُمْ مع نسله لِبَعْضٍ آخر و لذراريه عَدُوٌّ و مبغض.

قيل: كان إهباط الشّيطان بعد إخراجه من الجنّة إهباطا من حواليها.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر غير واحد من الأخبار أنّ الجنّة التي كان آدم فيها كانت في السّماء، و مقتضى ما مرّ(4) من قول الصادق عليه السّلام «إنّها كانت من جنّات الدنيا تطلع عليها الشّمس و القمر» أنّها كانت في الأرض، و على هذا يكون المراد من الإهباط الانتقال من أرض الجنّة الأرضيّة إلى أرض غيرها، كقوله تعالى: اِهْبِطُوا مِصْراً (5).

في بيان حكمة إسكان آدم الجنّة مع أنّه خلق للخلافة في الأرض، و حكمة ابتلائه بالخطيئة و تبعيده

إن قيل: مقتضى قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (6) أنّ خلق آدم كان للسّكونة(7) في الأرض، فلم أسكنه في الجنّة ؟

قلت: لعلّه لإظهار أنّ من لا ذنب له يستحقّ الجنّة.

ص: 250


1- طه: 115/20.
2- تفسير الرازي 15:3.
3- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/196:1.
4- تقدّم في أول تفسير الآيتين (35 و 36) من هذه السورة.
5- البقرة: 61/2.
6- البقرة: 30/2.
7- كذا و مقتضى الاشتقاق أن يكون للسكن أو السّكنى.

إن قيل: لأيّ حكمة ابتلاه اللّه بالذّنب ؟

قلت: كان ابتلاؤه بالذّنب لطفا عليه، حيث إنّ فيه تنبيهه على نقصه، و بعثه إلى تكميل نفسه، حيث إنّ من لا يطّلع على مرضه لا يهتمّ بعلاجه، فكان في تبعيده تكميله و تقريبه.

وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ و محلّ إقامة و موضع تعيّش وَ مَتاعٌ و انتفاع بها و بما فيها من الأمتعة إِلى حِينٍ الموت. و عن القمّي: إلى يوم القيامة (1).و هذا إمّا بالنّظر إلى ما روي من أنّ من مات فقد قامت قيامته (2).و إمّا إلى أنّ أهل البرزخ أيضا متمتّعون في أرض الدنيا، فإذا كانت القيامة تتبدّل الأرض غير الأرض.

عن العيّاشيّ : عن الصادق عليه السّلام «أنّ اللّه تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشّمس من يوم الجمعة، ثمّ برأ زوجته من أسفل أضلاعه [ثم اسجد له ملائكته] و أسكنه جنّته من يومه ذلك، فما استقرّ فيها إلا ستّ ساعات من يومه ذلك حتّى عصى اللّه، فأخرجهما من الجنّة بعد غروب الشّمس، و صيّرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا، و بدت لهما سوآتهما، فناداهما ربّهما أ لم أنهكما عن تلكما الشّجرة ؟ فاستحيى آدم من ربّه و خضع، و قال: ربّنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا. قال اللّه لهما: اهبطا من سماواتي إلى الأرض، فإنّه لا يجاورني في جنّتي عاص و لا في سماواتي».

ثمّ قال عليه السّلام: «إنّ آدم لمّا أكل من الشّجرة ذكر ما نهاه اللّه عنها فندم، فذهب ليتنحّى عن الشّجرة، فأخذت الشجرة برأسه فجرّته إليها، و قالت له: أ فلا كان فرارك من قبل أن تأكل منّي ؟»(3).

و القمّي عن الصادق عليه السّلام: «إن آدم هبط على الصّفا، و حوّاء على المروة، فمكث أربعين صباحا ساجدا، يبكي على خطيئته و فراقه للجنّة »(4).

قيل: وقع آدم بأرض الهند على جبل سرنديب، و لذا طابت رائحة أشجار تلك الأودية، لما معه من ريح الجنّة، و وقعت حوّاء بجدّة و بينهما سبعمائة فرسخ، و الطاوس بمرج الهند، و الحيّة بسجستان أو بأصفهان، و إبليس بسدّ يأجوج و مأجوج(5).

و عن ابن عبّاس: بكى آدم حوّاء مائتي سنة، و لم يأكلا و لم يشربا أربعين يوما، و لم يقرب آدم

ص: 251


1- تفسير القمي 43:1.
2- تفسير روح البيان 387:8.
3- تفسير العياشي 1553/139:2.
4- تفسير القمي 43:1، تفسير الصافي 107:1.
5- تفسير روح البيان 111:1.

و حوّاء مائة سنة(1).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «نزل جبرئيل على آدم فقال: يا آدم أ لم يخلقك اللّه بيديه، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته ؟ قال: بلى. قال: و أمرك أن لا تأكل من تلك الشجرة، فلم عصيته ؟

قال: يا جبرئيل، إنّ إبليس حلف لي باللّه أنّه لي ناصح، و ما ظننت أنّ أحدا خلقه اللّه يحلف باللّه عزّ و جلّ كاذبا. فقال له جبرئيل: يا آدم تب إلى اللّه »(2).

سورة البقرة (2): آیة 37

اشارة

فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (37)

سورة البقرة (2): آیة 37

فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ في (الكافي): عن أحدهما عليهما السّلام: «إنّ الكلمات: لا إله إلاّ أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي، فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا إله إلاّ أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي، فاغفر لي و ارحمني إنّك أنت أرحم الرّاحمين، لا إله إلاّ أنت سبحانك اللّهمّ و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي، فتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

و في رواية: «بحقّ محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ آدم عليه السّلام قال: بحقّ محمّد أن تغفر لي »(4).

فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ بالتّائبين، و في ذكر الوصفين وعد بليغ بالاحسان مع العفو و الغفران.

في بيان عصمة الأنبياء بدلالة العقل و النقل و الضّرورة

ثمّ اعلم أنّ من ضروريّات مذهب الإماميّة الاثني عشريّة عصمة الأنبياء و الأئمّة و الأوصياء، من بدو تولّدهم في الدنيا إلى خروجهم منها، بمعنى امتناع صدور المعاصي الكبيرة أو الصّغيرة و القبائح العقليّة عنهم عليهم السّلام عمدا أو خطأ أو سهوا أو نسيانا، و الدليل عليه مضافا إلى الضّرورة حكم العقل و تواتر النّقل.

أمّا حكم العقل فتقريره: أنّه لا شبهة في أنّ اللّطف على النّاس بتقريبهم إلى الطّاعة و المحسّنات العقليّة و تبعيدهم عن المعصية واجب على اللّه، لكونه حسنا غير مزاحم بجهة قبح، و كما أنّ من

ص: 252


1- تفسير روح البيان 114:1.
2- تفسير القمي 43:1، تفسير الصافي 107:1.
3- الكافي 472/304:8، تفسير الصافي 105:1.
4- تفسير روح البيان 113:1.

اللّطف نصب الخليفة و السائس و المربّي و الآمر و النّاهي لهم، كذلك من كمال اللّطف تزيينه بالصّفات الحسنة و المكارم الجميلة، و تنزيهه عن الأخلاق السيّئة و ما يوجب نفرة الطباع و اشمئزاز القلوب عن تبعيّته و انقياده، حيث إنّه لا ريب أنّ صدور القبائح و المعاصي - و لو كان عن سهو و نسيان - موجب لانحطاط قدره و سقوطه عن الأنظار، و الاستنكاف عن تبعيّته و قبول طاعته، و عدم تأثير نصحه و موعظته، بخلاف ما إذا كان من بدو أمره و أوّل عمره منزّها عن الرّذائل، مزيّنا بالأخلاق الحميدة و الفضائل، محترزا عن قبائح الأعمال مكترثا عن ذمائم(1) الخصال، فإنّ له وقعا في القلوب، و عظمة في الأنظار، و مهابة في الصّدور، و لكلامه أثر في النّفوس، فيكون النّاس إلى اتّباعه أرغب، و لأوامره و نواهيه أطوع.

و لمّا لم يكن في قدرته تعالى قصور عن إيجاد من هو واجد لهذه الخصال، فالحكمة البالغة و الرّحمة الشاملة مقتضية لايجاده و اصطفائه للهداية و الرّسالة، و إلاّ فهو مناقض لحكمته، مخالف لشئون لطفه و رحمته، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و أمّا النّقل فلتراكم الآيات و تواتر الرّوايات على اعتبار العصمة بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة، حتّى إنّ الأشاعرة المنكرين لوجوب اللطف، و الجاحدين للحسن و القبح، ملتزمون بوجوب عصمة الأنبياء للأدلّة النقليّة.

في بيان حقيقة العصمة و ملاكها

ثمّ لا يذهب عليك أنّه ليس المراد من امتناع صدور المعاصي و القبائح عنهم عدم قدرتهم عليها، أو عدم وجود مقتضيها من الشّهوة و الغضب فيهم، بل المراد وجود المانع عن إرادتها فيهم، و هو كمال عقلهم، و شدّة يقينهم بعظمة اللّه، و وفور علمهم بحقائق المعاصي و قباحتها و سوء آثارها، كما يمتنع من العاقل الكامل العالم بحقيقة النّار و مضرّاتها إلقاء نفسه فيها، أو من الملتفت بشدّة قذارة بعض الأقذار أكله منها، بل لا يخطر بخاطره، بل يتغيّر حاله من تصوّره.

فالعصمة من آثار قوّة العقل و كمال المعرفة و اليقين و نورانيّة القلب و الطّينة المأخوذة من أعلى علّيّين، إذا عرفت ذلك فكلّ ما يكون في الآيات و الرّوايات العاميّة و الإماميّة من ظهور نسبة الخطأ و العصيان إلى الأنبياء و المرسلين و الهداة المعصومين، محمول على ما لا ينافي عصمتهم من فعل ما يكون تركه أولى و ترك ما يكون فعله أحسن، كما أنّ ما ظاهره نسبة العصيان إلى الملائكة الذين هم

ص: 253


1- كذا و الصحيح غير مكترث بذمائم.

معصومون باتّفاق الأمّة و إجماع المسلمين، محمول على ذلك للقرينة العقليّة القطعيّة.

مضافا إلى ما ورد من الرّوايات الكثيرة عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم في تأويل عصيان آدم، و خطيئة داود، و ظهور قول ابراهيم عليه السّلام: هذا رَبِّي (1) في الشّرك، و قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا (2)

في الكذب، و قوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (3) في الشّكّ في المعاد، و سؤال موسى عليه السّلام رؤيته تعالى في اعتقاده بالتجسّم، و ظهور قوله تعالى في حقّ يوسف: وَ هَمَّ بِها (4) في قصده عليه السّلام الفاحشة، و أمثال ذلك.

و أمّا ما في رواية (العيون) عن الرضا عليه السّلام من «أنّ اللّه تعالى قال لهما: لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ » إلى أن قال: «و كان ذلك من آدم قبل النبوّة، و لم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار، و إنّما كان من الصّغائر التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم. فلمّا اجتباه اللّه تعالى و جعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة، قال اللّه تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى » (5) فمحمول على التقيّة لأنّه قول العامّة، أو مطروح.

سورة البقرة (2): آیة 38

اشارة

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

سورة البقرة (2): آیة 38

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمرهم أوّلا بالهبوط اجمالا، كرّر الأمر ثانيا به لبيان كيفيّته بقوله: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً لا يتقدّم بعضكم بعضا أو لبيان تحتّم مقتضاه.

و قيل: إنّ الأمر الأوّل بالهبوط لبيان أنّ الغرض المعاداة و البليّة، و الأمر الثاني لبيان غرض التّكليف و الامتحان، و يؤيّده قوله: فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً و جاءكم من قبلي رشد و شريعة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ و أقتدى بشريعتي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا ممّا ينزل من البلايا و المحن بالتّوكل على اللّه و التفويض إليه و بذكر اللّه تطمئنّ قلوب المؤمنين، و في الآخرة من العذاب، ببشارة الملائكة لهم:

أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (6) .

وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الدنيا على ما فاتهم من الفوائد الدنيويّة لحقارتها في نظرهم، و في الآخرة

ص: 254


1- الأنعام: 77/6.
2- الأنبياء: 63/21.
3- البقرة: 260/2.
4- يوسف: 24/12.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/196:1، و الآيتان من سورة طه: 121/20 و 122.
6- فصلت: 30/42.

على انحطاط درجتهم عمّن هو أعلى منهم، لكمال سرورهم بما آتاهم اللّه من فضله.

سورة البقرة (2): آیة 39

اشارة

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

سورة البقرة (2): آیة 39

ثمّ أنّه تعالى لمّا وعد متّبعي الهدى بالأمن ممّا يخاف من العذاب و الفراغ من الحزن، عقّبه بذكر من أعدّ له العذاب الدائم بقوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا برسلنا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة عليهم من الإنس و الجنّ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ و ملازموها غير منفكّين عنها و هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.

سورة البقرة (2): آیة 40

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ (40)

سورة البقرة (2): آیة 40

ثمّ أنّه تعالى بعد ما دعا عموم النّاس إلى الاعتراف بتوحيده و عبادته و الاتّقاء من سخطه و عذابه مستدلا بخلق نعمه العظام من السّماء و الأرض و الأمطار و الثّمار و خلق الاصول و نعمة الحياة و غير ذلك، حيث إنّ كلّ واحد منها دالّ على وجوده و وحدانيّته و استحقاقه العبادة و قدرته على الإعادة و التّعذيب على الشّرك و العصيان، خصّ خصوص طائفة بني إسرائيل منهم بالخطاب و الدّعوة إلى الإيمان بتوحيده و رسالة رسوله و تصديق كتابه، لكونهم في ذلك العصر متخصّصين باللّجاج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شدّة المعاندة للحقّ ، مستدلا بنعمه الخاصّة بهم و بآبائهم، حيث إنّ فيها مع ذلك استمالة قلوبهم، و كسر لجاجهم و عنادهم، فبدأ سبحانه بتذكيرهم النعم الخاصّة بهم إجمالا بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ و هم اليهود الذين كانوا في ذلك العصر في المدينة و حولها.

روي أنّ إسرائيل لقب يعقوب عليه السّلام و معناه في العربيّة: عبد اللّه، لأنّ اسرا: هو العبد. و ئيل: هو اللّه(1).

و قيل: إسرا: هو الإنسان، فالمعنى: رجل اللّه (2).و في رواية اخرى: اسرا: هو القوّة(3).

اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ و هي نعمة هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى مدينتهم و وضوح علامات نبوّته و دلائل صدقه، أو هي مع سائر النّعم التي أنعم اللّه على آبائهم، فإنّها انعام على أبنائهم.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي أخذه أنبياؤكم من أسلافكم و أمروهم أن يؤدّوه إليكم و إلى أخلافكم، و هو أن تؤمنوا بمحمّد العربيّ القرشيّ الموصوف في كتبهم.

ص: 255


1- تفسير الرازي 29:3.
2- تفسير الرازي 29:3.
3- علل الشرائع: 2/43.

روي عن ابن عباس أنّ اللّه تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة: أنّي باعث من بني إسماعيل نبيّا امّيّا، فمن تبعه و صدّق [بالنور] الذي يأتي به - أي بالقرآن - غفرت له (1) ،إلى آخره.

إن قلت: لو كان هذا العهد ثابتا، فكيف يمكن جحده من جماعتهم ؟

قلت: يمكن أن يكون العلم بذلك كان حاصلا عند علمائهم فأخفوه عن العوامّ حفظا لرئاستهم، أو أوّلوا عبارة العهد كما أوّل العامّة نصّ الولاية.

أُوفِ بِعَهْدِكُمْ من النّعيم الأبد، و أعطكم الذي وعدتكم جزاء لإيمانكم به وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ

في مخالفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الخروج عن طاعته.

سورة البقرة (2): الآیات 41 الی 42

اشارة

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

سورة البقرة (2): آیة 41

ثمّ بعد تذكيرهم النّعمة و مطالبة الوفاء بالعهد و بيان جزائه، فسّر العهد بقوله: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ

من القرآن، حيث إنّكم ترونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التّوراة، فإنّ التوراة تشهد بأنّه حقّ ، لأنّها مبشّرة ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه، فالإيمان بالتّوراة مستلزم لتصديق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، و تكذيب القرآن تكذيب التّوراة، و في نسبة التّصديق إلى القرآن إظهار لشرفه و فضيلته على التّوراة، و توصيفه بكونه مصدّقا إقامة الحجّة عليهم في وجوب الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، لوضوح أنّ شهادة الكتب السّماويّة لا تكون إلاّ حقّا مضافا إلى أنّ إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكون القرآن مصدّقا لما في التّوراة من الإخبار بالمغيّبات لتسالم الكلّ على عدم اطّلاعه بما في التّوراة بالقراءة و التعلّم.

ثمّ أردف الأمر بالإيمان الذي هو من المعروف، بالنّهي عن المنكر، بقوله: وَ لا تَكُونُوا أيّها اليهود أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ مع أنّ اللائق بكم أن تكونوا أوّل مؤمن به، فيتبعكم سائر اليهود و غيرهم من أهل الكتاب، لما ترون من صفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفات أصحابه و صفات كتابه مطابقا لما في التّوراة، و أنتم مع ذلك عالمون بشأنه و أهل النّظر في معجزاته و المستفتحون به.

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي و لا تأخذوا بدلا منها ثَمَناً و عوضا قَلِيلاً من الحطام الدنيويّة، و لا

ص: 256


1- تفسير الرازي 35:3.

تحرّفوا الآيات بعوض الأمتعة الدّنيئة و الهدايا القليلة، و في التوصيف بالقلّة إشعار بأنّ جميع ما يأخذون من الأثمان و لو كان كثيرا في جنب النعم الأخرويّة قليل غايته.

عن الباقر عليه السّلام: «إنّ حيي بن أخطب، و كعب بن الأشرف و آخرين من اليهود كان لهم مأكلة على اليهود في كلّ سنة، فكرهوا بطلانها، فحرّفوا لذلك آيات من التّوراة فيها صفته و ذكره، فذلك الثّمن الذي أريد به في الآية »(1).

وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ في كتمان أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه عليه السّلام.

قيل: الفرق بين الرّهبة و الاتّقاء، أنّ الرّهبة: الخوف في معرض الضّرر و عند إمكان وقوعه، و الاتّقاء:

في مورد تيقّن الضّرر.

سورة البقرة (2): آیة 42

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ المنزل في التّوراة بِالْباطِلِ الذي تخترعونه، أو المراد: لا تلبسوا نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و دلائلها بالشّبهات الباطلة الّتي تلقونها بين النّاس وَ لا تَكْتُمُوا الْحَقَّ بالسّعي في أن لا يطّلع أحد على دلائله وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بأنّ ما تفعلونه كتمان للحقّ و مكابرة لعقولكم، أو تعلمون ما في إضلال الخلق من الضّرر العظيم، و فعل القبيح مع العلم بقبحه أقبح.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من كتم علما و هو يقدر على إظهاره و لا يمنعه التقيّة، الجم يوم القيامة بلجام من النّار »(2).

سورة البقرة (2): آیة 43

اشارة

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (43)

سورة البقرة (2): آیة 43

ثمّ بعد ما دعاهم إلى الإيمان بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعاهم إلى العمل بشريعته، بقوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ

المكتوبة في دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ آتُوا الزَّكاةَ زكاة المال و النّفس و الفطرة وَ ارْكَعُوا و تواضعوا لعظمة اللّه مَعَ الرّاكِعِينَ المتواضعين له. و المراد: صلّوا مع المصلّين جماعة و التعبير عن الصّلاة بالرّكوع لاختصاصه بشريعة الإسلام دون اليهود و النّصارى.

سورة البقرة (2): آیة 44

اشارة

أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

ص: 257


1- مجمع البيان 210:1.
2- بحار الأنوار 120/217:7.

سورة البقرة (2): آیة 44

ثمّ لمّا كان دأب علمائهم أن يأمروا بالبرّ و العبادات و الصّدقات، مع تركهم للعمل بها، وبّخهم اللّه تعالى و قرّعهم بقوله: أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ و الصّدقات و العبادات وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تغفلون عن حقّها، كأنّكم نسيتموها وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ و تقرءون اَلْكِتابَ و هو التّوراة الآمرة بالخيرات و الصّدقات، الناهية عن المنكرات أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّ أنفسكم أحقّ بالأمر و النّهي، و عقابكم مع علمكم أشدّ من عقاب الجهّال!

روي عن أنس، قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «مررت ليلة اسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النّار، فقلت: يا أخي جبرئيل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون النّاس بالبرّ و ينسون أنفسهم »(1).

إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان على جميع الناس.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال: «من لم ينسلخ عن هواجسه و لم يتخلّص من آفات نفسه و شهواتها و لم يهزم الشيطان و لم يدخل في كنف اللّه و أمان عصمته لا يصلح للأمر(2) بالمعروف و النّهي عن المنكر، لأنّه إذا لم يكن بهذه الصّفة، فكلّ ما أظهر [أمرا] يكون حجّة عليه، و لا ينتفع النّاس به، قال اللّه تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ و يقال له: يا خائن، أ تطالب خلقي بما خنت به نفسك و أرخيت عنه عنانك »(3).

و لا يذهب عليك أنّ هذه الرّواية لا تكون مقيّدة لوجوب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، لأنّهما واجبان مطلقان على جميع الخلق.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به، و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه »(4).

بل يجب عليه تحصيل هذه الصّفات، فلو ترك الأمر بالمعروف لعدم وجود هذه الصفات فيه، لكان معاقبا على ترك العمل و ترك الأمر، كما أنّ من ترك العمل بالواجبات لعدم الإيمان الذي هو شرط في صحّة العمل، كان معاقبا على ترك الإيمان و العمل.

ص: 258


1- تفسير الرازي 47:3.
2- في مصباح الشريعة: له الأمر.
3- مصباح الشريعة: 18.
4- تفسير روح البيان 123:1.

سورة البقرة (2): الآیات 45 الی 46

اشارة

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

سورة البقرة (2): آیة 45

ثمّ إنّ اليهود لمّا كانوا مبتلين بمرض حبّ الدنيا، و الغفلة عن اللّه و الدّار الآخرة - و لذا كان تحمّل تكاليف الإسلام، و ترك الرئاسات، و الإعراض عن الجاه و المال شاقّا عليهم - بيّن اللّه دواء مرضهم بقوله: وَ اسْتَعِينُوا على تحمّل مشاقّ التّكاليف، و مخالفة الهوى بِالصَّبْرِ و كفّ النّفس عنها، أو بالصّوم الذي هو كاسر للشّهوات و مصفّ للنّفس وَ الصَّلاةِ التي هي ناهية عن الفحشاء، و معراج المؤمن، فإنّها موجبة لتوجّه القلب إلى اللّه و عظمته و جلاله، و حقوق نعمه و قهره و رحمته، فتسهّل طاعته و ترك معاصيه، لأنّه كلّما أقبل القلب إلى اللّه تعالى و الدّار الآخرة أعرض عن الدنيا و لذّاتها، و كلّما استنار القلب بذكر اللّه خرج من ظلمات هوى النّفس و شهواتها، و كلّما تفكّر في خروجه من الدنيا هانت عليه شدائدها و مصيباتها.

روي عن الصادق عليه السّلام: «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضّأ ثمّ يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو اللّه فيهما؟ أ ما سمعت اللّه يقول: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ..» (1).

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا حزبه(2) أمر فزع إلى الصّلاة(3).

و عن ابن عبّاس، أنّه نعي له بنت و هو في سفر فاسترجع، و قال: عورة سترها اللّه، و مئونة كفاها اللّه، و أجر ساقه اللّه. ثمّ تنحّى عن الطّريق و صلّى، ثمّ انصرف إلى راحلته و هو يقرأ: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (4).

وَ إِنَّها أي الاستعانة بهما، أو أنّ الصّلاة لَكَبِيرَةٌ و ثقيلة شاقّة على النّفوس إِلاّ عَلَى نفوس اَلْخاشِعِينَ الخائفين من عقاب اللّه و سطواته، فإنّ خوف العقاب يهوّن على العبد مشقّة التّكاليف.

سورة البقرة (2): آیة 46

ثمّ وصف الخاشعين بأنّهم اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ و يعتقدون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ محضرون في محضر عدله و حكومته وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ و إلى حكمه راجِعُونَ بعد الموت أو بعد الحشر، لا يملك أمرهم غيره، و التعبير بالرّجوع إليه مع أنّ الانسان لا يخرج في آن من الآنات عن حكم اللّه حتّى

ص: 259


1- تفسير العياشي 143/133:1، مجمع البيان 217:1.
2- حزبه الأمر: نابه و اشتدّ عليه.
3- تفسير روح البيان 124:1.
4- تفسير روح البيان 124:1.

يرجع إليه، لأنّه كان قبل ولادته تحت سلطنة اللّه في الظاهر و الواقع، فلمّا تولّد دخل في تربية والديه و غيرهما، و كان لهما و لغيرهما و لنفسه سلطنة عليه في الظاهر، ثمّ يرجع بعد الموت إلى سلطنة اللّه و حكمه كما كان قبل ولادته.

و قيل: إنّ الظّنّ هنا بمعناه، و المراد أنّهم يظنّون ملاقاة رحمة اللّه و الرجوع إلى رضوانه حيث إنّ المؤمن لا يعلم الوصول إلى رحمة اللّه إلاّ حين الموت و لا يزال خائفا من سوء العاقبة حتّى يأتيه اليقين.

سورة البقرة (2): الآیات 47 الی 48

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

سورة البقرة (2): آیة 47

ثمّ كرّر اللّه تذكير النعم تأكيدا للحجّة و تحذيرا من ترك اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا و اشكروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قيل: هي النعمة التي أنعمها على أسلافهم من بعث موسى و هارون فيهم و هدايتهم إلى نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و وصاية عليّ عليه السّلام و إمامة عترته الطّيّبين صلوات اللّه عليهم فإنّها فوق النعم و أولى بالامتنان عليهم، ثمّ بعدها ما أشار إليه بقوله: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ بسبب تفضيل آبائكم الأقدمين عَلَى الْعالَمِينَ و جميع أهل زمانهم بقبول ولاية محمّد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين و بتظليلهم الغمام، و إنزال المنّ و السّلوى، و تخصيصهم بسائر النعم العظام (1) ،حيث إنّ الإنعام على الآباء و تشريفهم بالنعماء موجب للشكر على الأبناء و تشريفهم، ثمّ قرّب اللّه تعالى الدّعوة بالوعيد.

سورة البقرة (2): آیة 48

و قيل: إنّ اليهود كانوا يقولون: نحن أولاد إبراهيم الخليل و إسحاق الذبيح، و هما يشفّعوننا في القيامة عند اللّه، فردّهم اللّه بقوله: وَ اتَّقُوا يا بني إسرائيل و احترزوا يَوْماً فيه حشركم و حسابكم و جزاؤكم، فإنّه يوم لا تَجْزِي و لا تكفي نَفْسٌ مؤمنة كانت أم كافرة عَنْ نَفْسٍ كافرة شَيْئاً يسيرا من الإجزاء كما قال اللّه: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ (2) بل قال: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (3) الآية.

ص: 260


1- تفسير الصافي 112:1.
2- الممتحنة: 3/60.
3- عبس: 34/80.

روي أنّ الوالد يتعلّق بولده يوم القيامة فيقول: يا بنيّ ، انّي أنا أبوك في الدنيا، و قد احتجت إلى مثقال حبّة من حسناتك لعلّي أنجو بها ممّا ترى. فيقول له ولده: إنّي أتخوّف مثل الذي تخوّفت أنت، فلا اطيق أن اعطيك شيئا. ثمّ يتعلّق بزوجته فيقول لها: يا فلانة، إنّي زوج لك في الدنيا (1) ،الخبر، و حاصل السؤال و الجواب قريب ممّا بينه و بين ولده.

وَ لا يُقْبَلُ مِنْها و في موردها إذا كانت كافرة شَفاعَةٌ من الشفعاء وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ

و فداء من مال و متاع لو فرض إمكانه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و لا يعاونون في دفع العذاب و لا يحامون.

و الحاصل: أنّ جميع وجوه التخلّص من المكارة الدنيويّة. منقطع عنهم، حيث إنّها منحصرة في أربع:

أحدها: نيابة الغير عنه في تحمّلها.

و ثانيها: التّفدية بالمال.

و ثالثها: شفاعة الشفعاء.

و رابعها: نصرة الأنصار و دفاع الأحبّة، فلا يبقى للعاصي طمع النّجاة في الآخرة.

إن قيل: مقتضى هذه الآية أنّه لا تنفع شفاعة شفيع للعصاة يوم القيامة، مع أنّ ضرورة المسلمين؛ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يشفع للعصاة من امّته، و أنّه الشّافع المشفّع، و ضرورة الإماميّة أنّ فاطمة عليها السّلام و الأئمّة يشفعون لعصاة شيعتهم، بل مقتضى كثير من الرّوايات أنّ العلماء أيضا يشفعون لمن استفاد علمهم، بل المؤمنين يشفعون بعضهم لبعض.

قلنا: لا بدّ من تخصيص هذه الآية و أمثالها بالكفّار و من في حكمهم من منكري الولاية و أهل البدع.

و في رواية عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية: «هذا يوم الموت فإنّ الشّفاعة و الفداء لا يغني عنه، فأمّا في القيامة فإنّا و أهلنا نجزي [عن] شيعتنا كلّ جزاء، ليكوننّ على الأعراف بين الجنّة و النّار محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الطيّبون من آلهم، فنرى بعض شيعتنا في تلك العرصات، فمن كان منهم مقصّرا، و في بعض شدائدها، فنبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان و المقداد و أبي ذرّ و عمّار

ص: 261


1- تفسير روح البيان 127:1.

و نظرائهم في العصر الذي يليهم، ثمّ في كلّ عصر إلى يوم القيامة، فيقعون(1) عليهم كالبزاة و الصّقور، و يتناولونهم كما تتناول البزاة و الصّقور صيدها، فيزفّونهم إلى الجنّة زفّا، و إنّا لنبعث على الآخرين من محبّينا خيار شيعتنا كالحمام فيلقطونهم من العرصات كما يلقط الطّير الحبّ ، و ينقلونهم إلى الجنان بحضرتنا.

و سيؤتى بالواحد من مقصّري شيعتنا في أعماله بعد أن حاز الولاية و التقيّة و حقوق إخوانه، و يوقف بازائه ما بين مائة و أكثر من ذلك، إلى مائة ألف من النصّاب، فيقال له: هؤلاء فداؤك من النّار، فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنّة، و اولئك النصّاب النّار، و ذلك ما قال اللّه عزّ و جلّ : رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بالولاية لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) يعني في الدنيا منقادين للامام (3) ،ليجعل مخالفوهم فداءهم من النّار »(4).

سورة البقرة (2): آیة 49

اشارة

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

سورة البقرة (2): آیة 49

ثمّ شرع اللّه تعالى في تعديد نعمه العظام عليهم و على آبائهم مفصّلا بقوله: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ

و اذكروا حين خلّصنا أسلافكم مِنْ تعدّيات آلِ فِرْعَوْنَ و ظلم أشراف قومه.

قيل: كان فرعون لقب ملك العمالقة، كما أنّ كسرى لقب ملك الفرس، و قيصر لقب ملك الروم، و خاقان لقب ملك التّرك، و النّجاشيّ لقب ملك الحبشة(5).

و قيل: اسم فرعون [موسى: هو] الوليد بن مصعب بن ريّان، و كان من القبط ، و عمّر أكثر من أربعمائة سنة (6) ،و كان اسم فرعون يوسف ريّان، و بينهما أربعمائة سنة(7).

ثم بيّن سبحانه أوّلا شدّة ظلم فرعون و آله إجمالا، بقوله: يَسُومُونَكُمْ و يعذّبونكم سُوءَ الْعَذابِ و شديدة، ثمّ فصّله ثانيا بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ و يكثرون القتل فيكم وَ يَسْتَحْيُونَ

ص: 262


1- في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: فينقضّون.
2- الحجر: 2/15.
3- في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: للإمامة.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 119/241.
5- تفسير روح البيان 128:1.
6- تفسير روح البيان 128:1.
7- تفسير روح البيان 128:1.

و يبقون نِساءَكُمْ لخدمتهم و ليكنّ إماء لهم وَ فِي ذلِكُمْ القتل و استحياء النّساء بَلاءٌ و محنة شديدة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ و كبير عليكم.

و قيل: إنّ المراد من البلاء هنا العطاء و النعمة، و المعنى أنّ في ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة عليكم من ربّكم(1).

سورة البقرة (2): الآیات 50 الی 52

اشارة

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

سورة البقرة (2): آیة 50

ثمّ ذكر النعمة الثانية بقوله: وَ إِذْ فَرَقْنا و شققنا بِكُمُ و لأجل عبوركم اَلْبَحْرَ الذي يقال له القلزم، أو اساف، و فصّلنا فيه اثني عشر مسلكا جافّا فَأَنْجَيْناكُمْ من القتل و الغرق وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ و قومه في البحر وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى غرقهم و هلاكهم.

سورة البقرة (2): آیة 51

ثمّ ذكر النعمة الثالثة بقوله: وَ اذكروا إِذْ واعَدْنا مُوسى و أمرناه أن يأتي الميقات و يقف فيه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بأيّامها.

في نكتة تعيين عدد الأربعين للميقات

قيل: وجه تعيين عدد الأربعين، اختصاصه بالكمال، لأنّ مراتب الأعداد أربع: الآحاد، و العشرات، و المئات، و الالوف، و عدد العشرة في نفسها عدد كامل، كما قال اللّه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (2) و إذا ضعّفت العشرة أربع مرّات يكون أربعين، ففيه كمال فوق كمال(3).

فذهب عليه السّلام بأمر ربّه إلى الميعاد و استخلف هارون، ثُمَّ بعد ذهابه من بينكم يا بني إسرائيل اِتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها مِنْ بَعْدِهِ و في غيبته وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ على أنفسكم حيث اعتقدتم أنّ ربّكم حلّ في العجل، و صار العجل حاويا له، مع أنّه متعال عن أن تسعه السّماوات و الأرض، بل هو على كلّ شيء محيط .

و في هذه الحكاية تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ممّا كان يشاهد من مشركي العرب و اليهود و النّصارى من

ص: 263


1- تفسير روح البيان 130:1.
2- البقرة: 196/2.
3- تفسير روح البيان 136:1، و فيه: و إذا ضعّفت العشرة أربع مرات و هو كمال مراتب الأعداد تكون أربعين و هو كمال الكمال.

الخلاف، و ممّا كان يعلم من أمر الخلافة بعده، فإنّ إعراض الأمّة عن وصيّه و خليفته بعد استخلافه إيّاه و تنصيصه على رءوس الأشهاد بولايته و إمامته و وصايته، ثمّ إقبالهم و تبعيّتهم لمن لم يكن له حظّ من العلم و النّسب و الحسب، ليس بأعجب و أفضع من اتّخاذ قوم موسى العجل إلها مع مشاهدة الآيات و المعجزات الظاهرات.

سورة البقرة (2): آیة 52

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي عن أسلافكم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الفعل الشّنيع، و هو عبادة العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لنعمة العفو التي أنعمنا بها على آبائكم، فانّها كانت نعمة عليكم، إذ لو عجّل في عقوبتهم لم يبق لهم نسل.

سورة البقرة (2): آیة 53

اشارة

وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

سورة البقرة (2): آیة 53

ثمّ ذكر النعمة الرابعة بقوله وَ اذكروا إِذْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى الْكِتابَ و هو التّوراة وَ

أعطيناه اَلْفُرْقانَ .

روي أنّه عهد الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه صلوات اللّه عليهم أجمعين، فمن آمن بهم بقلبه ظهر نور في جبهته(1).

و قيل: الفرقان: هي المعجزات الباهرات الفارقة بين المحقّ و المبطل(2).

و قيل: الكتاب و الفرقان واحد، فإنّ التّوراة جامعة بين [كونها كتابا] و بين الحجّيّة و التّفريق بين الحقّ و الباطل(1).

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى الحقّ بالنّظر في الآيات و التدبّر في الكتاب.

سورة البقرة (2): آیة 54

اشارة

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (54)

سورة البقرة (2): آیة 54

ثمّ ذكر النعمة الخامسة بقوله: وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل، شفقة عليهم: يا قَوْمِ اعلموا إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ و أضررتم أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ

ص: 264


1- تفسير روح البيان 134:1.

إلها، إذ حقّت عليكم كلمة العذاب.

ثمّ كأنّهم قالوا: فما نصنع إذن ؟ قال: إن اردتم العلاج فَتُوبُوا و ارجعوا إِلى بارِئِكُمْ و خالقكم الذي برّأكم من العيب و التّفاوت.

ثمّ كأنّهم قالوا: كيف نتوب ؟ فقال: إن عزمتم على التوبة فَاقْتُلُوا أيّها العابدون للعجل أَنْفُسَكُمْ بعضكم بعضا، أو غير العابدين العابدين، فإنّ خالقكم و موجدكم و مبرّئكم من العيوب في الخلق أمركم بالقتل، و رضي بإعدامكم لتبرءوا من الذنب العظيم، فإنّ ذلِكُمْ القتل و إن كان فيه ذهاب الحياة و زوال النعم الدنيوية، خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ من ابتلائكم بالعذابات(1) الاخرويّة الأبديّة.

ثمّ من نعم اللّه عليكم أنّه وفّقكم حتّى فعلتم ما امرتم به فَتابَ عَلَيْكُمْ قبل فناء جميع أسلافكم، و إلاّ لم يبق والد و لا ولد إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ و سريع القبول للإنابة، و هو اَلرَّحِيمُ بعباده، لا يرضى بضررهم و قتلهم إلاّ أن يكون لهم خيرا و لا بعذابهم إلاّ إذا لم يكونوا للعفو و الرّحمة أهلا.

قيل: كان عدّة بني إسرائيل ستّمائة ألفا. و قيل: ستمائة و عشرون ألف مقاتل، لا يعدّون منهم ابن العشرين لصغره، و لا ابن الستّين لكبره (2).و كان عدد عابدي العجل سبعين ألفا. و قيل: كان عدد غير العابدين اثني عشر ألفا(3).

سورة البقرة (2): الآیات 55 الی 56

اشارة

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

سورة البقرة (2): آیة 55

ثمّ ذكّرهم النعمة السادسة، بقوله: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ و لن نصدّقك في دعوى النبوّة و في أن التّوراة كتاب اللّه، و أنّ اللّه يكلّمك حَتّى نَرَى اللّهَ رؤية جَهْرَةً و ظاهرة فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ و أصابتكم النّار المحرقة النازلة مع الصّوت الهائل وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى نزولها إليكم.

قيل: كان القائلون [غير] السبعين الذين اختارهم موسى عليه السّلام لأن يذهبوا إلى الطّور للاعتذار عن

ص: 265


1- في النسخة: بالعذاب.
2- تفسير روح البيان 131:1.
3- تفسير الرازي 82:3.

عبادة العجل(1).

سورة البقرة (2): آیة 56

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ و أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ و هلاككم(2) بالصّاعقة، و في هذه الآية دلالة صريحة على إمكان الرّجعة إلى الدنيا بعد الموت لَعَلَّكُمْ بإقراركم بالتّوحيد، و قيامكم بالطّاعة تَشْكُرُونَ نعمة الحياة بعد الموت.

قيل: ماتوا يوما و ليلة ثمّ بعثهم اللّه (3) ،و فيها ردّ على من يقول إنّ نعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله لو كان مخبرا [عنها] في التّوراة، لم يمكن إنكارها من أهل الكتاب، فإنّ أسلافهم مع مشاهدة المعجزات الباهرات قالوا: يا موسى لن نؤمن لك.. إلى آخره.

و فيها أيضا دلالة على امتناع الرّؤية، و كفر المجسّمة.

سورة البقرة (2): آیة 57

اشارة

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

سورة البقرة (2): آیة 57

ثمّ ذكّرهم النعمة السابعة بقوله: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ و جعلناه يظلّكم من الشّمس، و ذلك في التّيه وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ قيل: هو التّرنجبين، كان ينزل عليهم باللّيل، أو من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس، فيأكلونه وَ السَّلْوى و هو السّمانيّ . قيل: هو أطيب طير، فيصطادونه، أو كان يقع على موائدهم مشويّا، فاذا أكلوا و شبعوا طار عنهم.

فقلنا لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و لا تدّخروا منها شيئا، فكفروا و ظلموا و ما أدّوا حقّ النّعم وَ ما ظَلَمُونا بكفرهم و ادّخارهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ابتلوها بضرر سيّئاتهم، من استيجاب العذاب، و سلب النعم، حيث قطع عنهم الرّزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة في الدنيا، و لا حساب في الآخرة، و لم يضرّوا اللّه شيئا.

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ : وَ ما ظَلَمُونا قال: «إنّ اللّه أعظم و أعزّ [و أجلّ ] و أمنع من أن يظلم، و لكنّه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، و ولايتنا ولايته، حيث يقول: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا... (4) يعني الأئمّة »(5).الخبر. و توضيحه: أنّ اللّه قرن ولاية المؤمنين -

ص: 266


1- تفسير روح البيان 139:1.
2- في النسخة: و هلاكهم.
3- بحار الأنوار 247:13.
4- المائدة: 55/5.
5- الكافي 11/113:1.

و هم الأئمّة - الكاملين في الإيمان بولايته بشهادة الآية.

سورة البقرة (2): الآیات 58 الی 59

اشارة

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

سورة البقرة (2): آیة 58

ثمّ ذكّرهم النعمة الثامنة، بقوله: وَ اذكروا إِذْ قُلْنَا بتوسّط يوشع بن نون وصيّ موسى، لأسلافكم من بني إسرائيل حين خروجهم من التّيه: اُدْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ .

قيل: هي مدينة بيت المقدس: و قيل: قرية أريحا(1) من بلاد الشّام قريبة من تلك المدينة، فإذا دخلتم القرية فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ بلا تعب رَغَداً واسعا هنيئا وَ ادْخُلُوا الْبابَ الذي للقرية.

قيل: كان لمدينة بيت المقدس سبعة أبواب، و قد امروا أن يدخلوا من الثاني المعروف الآن بباب حطّة حال كونهم سُجَّداً للّه، شكرا على نجاتهم من التّيه.

و قيل: إنّ المراد الدخول راكعين متواضعين للّه.

وَ قُولُوا حِطَّةٌ و لعلّ المعنى أنّ مسألتنا من اللّه أن يحطّ ذنوبنا، فإن دخلتم بهيئة الرّكوع أو السّجود، و قلتم هذا القول نَغْفِرْ لَكُمْ و نستر عليكم خَطاياكُمْ السّالفة وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

ثوابا. قيل: هم الذين لم يفارقوا الذنوب.

سورة البقرة (2): آیة 59

فَبَدَّلَ و غيّر اَلَّذِينَ ظَلَمُوا و عصوا أمر اللّه قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فلم يسجدوا و لم يركعوا، بل رفعوا أستاههم، أو لم يقولوا: حطّة، و قالوا: حنطة حمراء، سخرية و استهزاء.

قال الفخر في تفسيره: ذكره نعمة قبول التّوبة في مقام الامتنان مناف لكونه واجبا على اللّه عقلا، لأنّه لا امتنان في الواجبات العقلية(2).

و فيه: أنّ وجوب التفضّل و الاحسان عليه لكونه جوادا لا يجوز عليه البخل، و منع التفضّل غير مناف للامتنان عقلا.

فَأَنْزَلْنا عقيب ذلك التّبديل عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتبديل كلام اللّه، أو بفعلهم خلاف

ص: 267


1- تفسير أبي السعود 104:1.
2- تفسير الرازي 90:3.

أمر اللّه رِجْزاً و عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و بسبب خروجهم عن طاعة اللّه.

قيل: مات بالطّاعون مائة و عشرون ألفا في بعض اليوم، و هم الذين كانوا في علم اللّه أنّهم لا يؤمنون، و لا يتوبون(1).

عن (العيّاشي): عن الباقر عليه السّلام قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » (2).

و المراد بإنزال جبرئيل هذه الآية هكذا، بيان تأويلها حين نزولها على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و انطباقها على ظالمي حقّ آل محمّد، لا أنّه كان جزءا للآية، فيكون مؤدّاها كما في الرواية السابقة: إنّ اللّه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمة.

سورة البقرة (2): آیة 60

اشارة

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

سورة البقرة (2): آیة 60

ثمّ ذكّرهم النعمة التاسعة، بقوله: وَ اذكروا إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ حين عطشوا في التّيه و ضجّوا إليه بالبكاء فَقُلْنَا له بالوحي اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ المعهود الذي جاء به جبرئيل من الجنّة، و كان وقر بعير، على ما في الرواية(3).

قيل: كان عصا من آس الجنّة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، و لها شعبتان تتّقدان في الظلمة نورا، حملها آدم، فتوارثها الأنبياء حتّى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى (4) ،فضربه بها داعيا بمحمّد و آله الطيّبين، كما في الرّواية(5).

فَانْفَجَرَتْ و انشقّت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. قيل: كانت الحجر مربّعا، و انفجر من كلّ طرف منه ثلاثة عيون، لكلّ سبط عين(6).

ص: 268


1- تفسير الصافي 121:1.
2- تفسير العياشي 153/135:1.
3- الكافي 3/180:1.
4- تفسير روح البيان 146:1.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 129/261.
6- تفسير الرازي 95:3.

قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ و سبط مَشْرَبَهُمْ لا يزاحم الآخرين، و قال اللّه: كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّهِ الذي آتاكموه من المنّ و السّلوى، و الماء العذب وَ لا تَعْثَوْا و لا تعتدوا فِي الْأَرْضِ حال كونكم مُفْسِدِينَ عاصين لأوامر اللّه، أو مفسدين بالمبالغة في التّنازع على قسمة الماء، فإنّ لكلّ سبط يخرج بقدر حاجتهم من الماء ثمّ ينقطع.

و كان من معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أيضا أنّه استسقى لقومه، روي أنّ أعرابيّا جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الجمعة، و قال: يا رسول اللّه، هلكت الكراع و المواشي، و أجدبت الأرض، فادع اللّه أن يسقينا. فرفع يديه و دعا، قال أنس: و السّماء كأنّها زجاجة ليس بها قزعة، فنشأت سحابة و مطرت إلى الجمعة القابلة(1).

سورة البقرة (2): آیة 61

اشارة

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

سورة البقرة (2): آیة 61

ثمّ نبّههم على كمال لطفه به بإجابة مسئولهم مع ما هم عليه من غاية السّفه، بقوله: وَ اذكروا يا بني إسرائيل كفرانكم لنعمة اللّه إِذْ قُلْتُمْ أي قال أسلافكم: يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ

و غذاء واحِدٍ بالنّوع من المنّ و السّلوى، بل لا بدّ لنا من خلط معه، أو تبديل. و لعلّه لملالة طباعهم من الطّعام الواحد بسبب مداومتهم عليه، أو لتوهّم أنّ البقاء على النّهج الواحد موجب لاختلال مزاجهم. و الظاهر من قولهم: لن نصبر، هو الوجه الأوّل.

فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها كالكرّاث و غيره، وَ من قِثّائِها قيل:

هو أخضر(2) شبه الخيار وَ من فُومِها. عن (المجمع): عن الباقر عليه السّلام: «هو الحنطة »(3).

و قيل: هو الثّوم، بقرينة قوله بعده: وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها حيث إنّ العدس يطبخ بالثّوم و البصل.

قالَ لهم موسى تعجّبا و استنكارا منهم: أَ تَسْتَبْدِلُونَ و تعاوضون الطّعام اَلَّذِي هُوَ أَدْنى

ص: 269


1- تفسير روح البيان 148:1.
2- في النسخة: خضر.
3- مجمع البيان 252:1.

و أدون، و لعلّه من حيث المجموع، و إن كانت الحنطة أشرف بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ لكم و أنفع في الدنيا و الدّين، لأنّ ما اختاره اللّه لهم من الطّعام لا بدّ أن يكون أصلح من جميع الجهات، و عدم رضاهم بما رزقهم اللّه، و اتّباعهم شهوة أنفسهم، كان من مذامّ أخلاقهم.

و مع ذلك أجاب اللّه برحمته مسألتهم و قال: إن كنتم تريدون هذه الأشياء اِهْبِطُوا و انزلوا مِصْراً من الأمصار فَإِنَّ لَكُمْ فيه ما سَأَلْتُمْ من البقول و غيرها وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ بعد هذه الألطاف اَلذِّلَّةُ وَ الهوان بإلزامهم بالجزية، و شملتهم اَلْمَسْكَنَةُ و لازمهم الفقر و الفاقة.

قيل: إنّهم و لو كانوا أغنياء، يعيشون عيش الفقراء.

وَ باؤُ و رجعوا أو التجئوا بِغَضَبٍ عظيم، و لعنة دائمة كائنة مِنَ اللّهِ .

ثمّ بيّن سبحانه سبب ذلك العذاب و اللّعنة و هو أمران، أعظمهما ما فعلوه في حقّ اللّه، و لذا بدأ بذكره بقوله: ذلِكَ النّكال و الغضب معلّل بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ دائما بِآياتِ اللّهِ الباهرة، و ينكرون معجزات موسى، و قرآن محمّد صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ بعده ما فعلوه في حقّ الأنبياء، و لذا ثنّاه بقوله:

وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ كشعيب و زكريّا و يحيى و غيرهم، و هم يعلمون أنّ قتلهم يكون بِغَيْرِ الْحَقِّ

الموجب له.

عن ابن عبّاس: أنّه لم يقتل قطّ من الأنبياء إلاّ من لم يؤمر بقتال، و من امر بقتال نصر(1).

ثمّ ذكر سبب وجود الكفر و الطغيان منهم، بقوله: ذلِكَ الكفر و القتل بِما عَصَوْا اللّه في أفعالهم الراجعة إلى أنفسهم وَ بما كانُوا يَعْتَدُونَ في حقوق غيرهم، و يظلمون النّاس، فإنّ عصيانهم أحكام اللّه و اعتداءهم على عباده جرّهم إلى الكفر بآيات اللّه و قتل النبيّين لوضوح أنّ صغار الذنوب تؤدّي إلى كبارها.

عن (الكافي) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية، فقال: «و اللّه ما ضربوهم بأيديهم، و لا قتلوهم بأسيافهم، و لكن سمعوا أحاديثهم فأضاعوها، فاخذوا عليها فقتلوا، فصار قتلا و اعتداء و معصية »(2).

سورة البقرة (2): آیة 62

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ

ص: 270


1- تفسير روح البيان 151:1.
2- الكافي 6/275:2، تفسير العياشي 155/135:1.

اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

سورة البقرة (2): آیة 62

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

سورة البقرة (2): آیة 62

ثمّ إنّه لمّا ذكر اللّه تعالى ما حلّ بكفرة أهل الكتاب من النّكال و الغضب و العقوبة، أردفه بذكر ما للمؤمنين من الأجر و الثّواب العظيم، على عادته الجارية في الكتاب العزيز بأن كلّما ذكر العقوبة للكفّار، ذكر المثوبة للمؤمنين حتّى يعلم أنّه كما يجزي المسيء بإساءته، يجزي المحسن باحسانه، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بما جاء به وَ الَّذِينَ هادُوا و اتّخذوا دين اليهوديّة.

قيل: سمّوا بذلك لأنّهم بعد عبادة العجل و توبتهم منها، قالوا: إنّا هدنا، أو لنسبتهم إلى يهوذا(1).

وَ النَّصارى قيل: لقبوا بذلك لأنّهم كانوا يزعمون أنّهم يتناصرون في اللّه.

و عن (العيون) عن الرضا عليه السّلام: «أنّهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشّام نزلتها مريم و عيسى بعد رجوعهما من مصر »(2).

وَ الصّابِئِينَ القمى رحمه اللّه: إنّهم ليسوا من أهل الكتاب، و لكنّهم يعبدون الكواكب و النّجوم(3).

قيل: إنّهم سمّوا بالصابئين لأنّهم زعموا أنّهم صبئوا و خرجوا إلى دين الحقّ .

روي أنّه جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: لم سمّي الصابئون صابئين ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لأنّهم إذا جاءهم نبيّ أو رسول أخذوه و عمدوا إلى قدر عظيم فأغلوه حتّى إذا كان محميّ صبوه على رأسه حتّى يتفسّخ »(4) ،الخبر.

فخصوص مَنْ آمَنَ منهم بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ عملا صالِحاً مرضيّا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة حين يخاف الفاسقون، و يحزن المخالفون.

سورة البقرة (2): الآیات 63 الی 64

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)

ص: 271


1- تفسير الرازي 105:3.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 10/79:2.
3- تفسير القمي 48:1، تفسير الصافي 123:1.
4- تفسير روح البيان 153:1.

سورة البقرة (2): آیة 63

ثمّ ذمّهم سبحانه بغاية العصيان و التمرّد بقوله: وَ اذكروا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ و العهد الوثيق منكم أن تعملوا بالتّوراة التي أعطيتها موسى عليه السّلام فأبيتم قبول ذلك وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.

قيل: أمر اللّه جبرئيل أن يقلع قطعة من جبل فلسطين، فرسخا في فرسخ على قدر عسكر بني إسرائيل، فقطعها و جاء بها فرفعها فوق رءوسهم.

و قيل: الطّور: هو الجبل المعروف الذي ناجى موسى عليه السّلام عليه ربّه، فقال لهم موسى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من التّوراة بِقُوَّةٍ و بجدّ و عزيمة.

عن (المحاسن): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، بقوّة في الأبدان أم بقوّة القلوب ؟ فقال:

«فيهما جميعا »(1).

و نقل أنّه قال لهم موسى عليه السّلام: إمّا أن تأخذوا بما امرتم به فيه، و إمّا أن القي عليكم هذا الجبل.

فألجئوا إلى قبوله كارهين إلاّ من عصمه اللّه عن العناد، فإنّه قبله طائعا مختارا، ثمّ لمّا قبلوه سجدوا و عفّروا، و كثير منهم عفّر خدّيه لا لإرادة الخضوع للّه، و لكن ينظر إلى الجبل هل يقع أم لا(2).

قيل: إنّ موسى جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الأخبار(3) و التكاليف الشّاقّة، فكبرت عليهم و أبوا قبولها، و كان ذلك بعد النّجاة من الغرق و قبل التّيه، فأمر جبرئيل فقطع الطّور من أصله و رفعه و ظلّله فوقهم، و قال لهم موسى: إن قبلتم و إلاّ القي عليكم، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم منها قبلوا و سجدوا، و جعلوا يلاحظون الجبل و هم سجود لئلاّ ينزل عليهم، فصارت عادة [في] اليهود لا يسجدون إلاّ على أنصاف وجوههم(4).

و قد منّ اللّه على امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أن حمل عليهم فرضا بعد فرض، و لم يفرض عليهم جملة، فإذا استقرّ في قلوبهم فرض عليهم الفرض الآخر، و أمّا بنو إسرائيل فقد فرض الفرائض عليهم دفعة واحدة، فشقّ عليهم فلم يقبلوا.

قال بعض: إنّ هذا غير جائز، لأنّه يجري مجرى الإلجاء بالإيمان، و هو ينافي التكليف.

قلنا: الإلجاء الذي يوجب سلب الإرادة و الاختيار ينافي التّكليف، و هذا الإلجاء غير موجب لسلب

ص: 272


1- المحاسن: 319/261.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 134/266، تفسير الصافي 124:1.
3- في تفسير روح البيان: الآصار.
4- تفسير روح البيان 154:1.

الاختيار، بل هو تخويف، كالتخويف بالعذاب الدنيويّ و الاخروي، بل هذا الانقياد كإيمان قوم يونس عليه السّلام لمّا رأوا العذاب.

وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ عن (المجمع): عن الصادق عليه السّلام: «و اذكروا ما في تركه من العقوبة »(1).

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المخالفة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ يعني تولّى أسلافكم و أعرضوا عمّا في التّوراة و عن الميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ العهد الوثيق، بأن كانوا يخالفون موسى عليه السّلام و يعترضون عليه و يلقونه بكلّ أذى، حتّى عوقب بعضهم بالخسف، و بعضهم بالطّاعون، و بعضهم بالنّار، مع مشاهدتهم المعجزات الباهرات.

ثمّ فعل متأخّروهم ما فعلوا من تحريف التّوراة، و قتل الأنبياء، و عبادة الأصنام، فلا عجب في إنكارهم ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله من الكتاب و المعجزات، و جحودهم لحقّه.

فَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أيّها الحاضرون في هذا العصر، بإمهالكم للتوبة، و عدم أخذكم بالعذاب بغتة لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الهالكين المغبونين البائعين أنفسهم بنار جهنّم.

سورة البقرة (2): الآیات 65 الی 66

اشارة

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

سورة البقرة (2): آیة 65

ثمّ لمزيد تنبّههم بفضل اللّه عليهم، نبّههم بقصّة بعض الخاسرين الذين لم يمهلهم اللّه، بقوله:

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ حال اَلَّذِينَ اعْتَدَوْا و عصوا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ لمّا اصطادوا السّموك فيه، حيث أخذتهم بغتة فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً و كونوا خاسِئِينَ صاغرين مطرودين، و هذا الأمر أمر تكوين لا تكليف، و قد يعبّر عن الإرادة التكوينيّة في مقام الحكاية بالأمر.

نقل أنّه لمّا أبى المجرمون قبول النّصح، قال النّاهون: و اللّه لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسّموا القرية بجدار و صيّروها بذلك ثنتين، فلعنهم داود و غضب اللّه عليهم [لإصرارهم على المعصية]، فمسخوا ليلا. فلمّا أصبح الناهون أتوا أبوابها فإذا هي مغلقة لا يسمع منها صوت، و لا يعلو منها دخان، فتسوّروا الحيطان و دخلوا فرأوهم قد صار الشبّان قردة، و الشّيوخ خنازير لها أذناب، يتعاوون(2).

ص: 273


1- مجمع البيان 262:1.
2- تفسير روح البيان 156:1.

سورة البقرة (2): آیة 66

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة تلك المسخة بقوله: فَجَعَلْناها أي المسخة نَكالاً و عقوبة لِما بَيْنَ يَدَيْها من ذنوبهم الموبقات، أو عبرة للامم، بأن صارت الامّة الممسوخة عبرة للسّالفة، حيث أخبر بها أنبياؤهم، و جعلناها رادعة وَ ما خَلْفَها من الذين شاهدوهم بعد مسخهم، و من الّذين يسمعون القضيّة و المسخة من بعدها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فهذه العقوبة كانت لهذه المصالح لا للتّشفّي.

سورة البقرة (2): الآیات 67 الی 73

اشارة

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

سورة البقرة (2): آیة 67

ثمّ ذكّرهم بنعمة عظيمة اخرى على أسلافهم، و هي أنّه قتل قتيل فيهم و لم يعلموا قاتله، و لمّا كانت هذه الواقعة عظيمة عندهم، و عارا و عزما على أكثرهم، سألوا موسى عليه السّلام أن يدعو اللّه فيكشف عن القاتل، فدعا اللّه عزّ و جلّ ، ثمّ أخبرهم بما حكاه اللّه تعالى، بقوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً و تضربوا ببعضها المقتول بين أظهركم ليقوم حيّا و يخبركم بقاتله قالُوا

إنكارا و تعجيبا: أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً و تسخر منّا؟ كيف يمكن أن يحيا ميت بضرب ميت به ؟

قالَ موسى عليه السّلام: أَعُوذُ بِاللّهِ و أستجير به من أَنْ أَكُونَ مِنَ زمرة اَلْجاهِلِينَ فإنّ السّخرية من السّفه و الجهل، و الافتراء على اللّه من عمل الجاهل بعظمته و سطوته.

سورة البقرة (2): آیة 68

فلمّا علموا أنّهم قد أخطئوا فيما توهّموا من الهزء قالُوا: يا موسى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ

و يوضّح لَنا أنّ البقرة التي أمرنا بذبحها ما هِيَ و ما صفتها حتّى تتبيّن لنا؟ قالَ موسى عليه السّلام،

ص: 274

بعد ما سئل، و راجع ربّه و جاءه الوحي من اللّه: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا هي فارِضٌ كبيرة قاطعة عمرها وَ لا بِكْرٌ صغيرة، بل عَوانٌ و وسط بَيْنَ ذلِكَ الكبيرة و الصغيرة، و هو أكمل أحوالها.

و تذكير الإشارة و إفرادها مع تأنيث المرجع و تعدّده، لكونه إشارة إلى المذكور.

ثمّ قال: إذا علمتم صفتها فَافْعَلُوا و امتثلوا ما تُؤْمَرُونَ به. فلمّا عرفوا السنّ سألوا عن اللّون،

سورة البقرة (2): آیة 69

و قالُوا: يا موسى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها من الألوان، و ما كيفيّة لونها؟ قالَ

موسى عليه السّلام لهم: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ هذا أصل اللّون، و أمّا كيفيّته فإنّه فاقِعٌ لَوْنُها شديدة صفرتها تَسُرُّ النّاظِرِينَ إليها لبهجتها و حسنها.

سورة البقرة (2): آیة 70

قيل في كيفية لونها: إنّها كانت إذا نظر أحد إليها خيّل إليه أنّ شعاع الشّمس يخرج من جلدها.

ثمّ سألوا موسى زيادة توصيف للبقرة حتّى يكونوا أهدى إليها، و قالُوا: يا موسى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ و يزيد لنا في صفتها، حيث إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا و لم يتّضح عندنا كمال الوضوح وَ إِنّا إِنْ شاءَ اللّهُ بعد التّبيين لَمُهْتَدُونَ إليه.

و في [الحديث] النّبويّ : «لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد »(1).

سورة البقرة (2): آیة 71

قالَ موسى عليه السّلام بعد مراجعة ربّه: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ للكراب كي تُثِيرُ الْأَرْضَ

و تقلّبها للزّراعة وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ و البستان بالدّوالي و النّواعير، و صفتها الاخرى أنّها بقرة مُسَلَّمَةٌ من جميع العيوب، و الاخرى أنّها لا شِيَةَ و لا لون غير الصّفرة فِيها روي أنّها كانت صفراء الأظلاف و القرون(2).

فاقتصروا بهذا التعريف، و قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ و حقيقته، و تبيّنت البقرة.

عن (العياشي) عن الرّضا عليه السّلام: «لو عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأهم، و لكن شدّدوا فشدّد اللّه عليهم »(3).

فَذَبَحُوها بعد اشترائها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ لغلاء ثمنها، و لخوف الفضيحة بالقتل، و لكنّ اللّجاج و حرصهم على اتّهامهم موسى عليه السّلام حملهم على فعله.

سورة البقرة (2): آیة 72

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً قيل: كان شيخا موسرا، قتله بنو عمّه طمعا في ميراثه - و في رواية: حسدا (4) ،كما

ص: 275


1- تفسير البيضاوي 68:1، تفسير الصافي 127:1.
2- تفسير الرازي 121:3، و فيه: صفراء القرون.
3- تفسير العياشي 161/137:1، تفسير الصافي 127:1.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 274.

يأتي - فطرحوه على باب المدينة، أو حملوه إلى قرية اخرى و ألقوه بفنائها، ثمّ جاءوا يطالبون بديته، كذا قالوا. و تأخير ذكر القتل و التّنازع فيه مع كونه مقدّما على الأمر بذبح البقرة، لكونه المقصود المهمّ من الحكاية.

فَادّارَأْتُمْ و تنازعتم فِيها و أردتم أن تدفعوا القتل عن أنفسكم وَ اللّهُ مُخْرِجٌ و مظهر لكم ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ و تسترون من أمر قاتله لترتفع الفتنة و الفساد.

قيل: إنّ الأمر بذبح البقرة مع قدرة اللّه على إحياء الموتى بغير الأسباب، كان لمصالح، منها: امتحان بني اسرائيل ببذل مال كثير. حيث روي أنّ البقرة لم توجد إلاّ عند شابّ من بني إسرائيل، فقالوا له:

بكم تبيع بقرتك ؟ قال: بدينارين، و الخيار لأمّي. قالوا: رضينا بدينار. فسألها، فقالت: بأربعة. فأخبرهم، فقالوا: نعطيك دينارين. فأخبر امّه، فقالت: ثمانية. فما زالوا يطلبون [على النصف] ممّا تقول امّه، و يرجع إلى امّه فتضعف الثمن، حتّى بلغ ثمنها ملء مسك ثور أكثر ما يكون ملؤه(1) دنانير، فأوجبت لهم البيع ثمّ ذبحوها(2).

و منها: وصول مال كثير إلى الشابّ المطيع لوالده أو والدته.

و منها: أنّ الحجّة على بني إسرائيل بهذا النّحو من الإحياء تكون أوكد.

في إحياء القتيل بضربه ببعض البقرة، و الاستدلال بتلك القضية على صحّة الحشر في الآخرة.

سورة البقرة (2): آیة 73

فَقُلْنا اضْرِبُوهُ أي الميت بِبَعْضِها أي ببعض البقرة، فضربوه بها، فقام الميّت سويّا سالما، و قال: يا نبيّ اللّه قتلني ابنا عمّي، حسداني على بنت عمّي، فقتلاني و ألقياني في محلّة هؤلاء ليأخذا ديتي، فأخذ موسى عليه السّلام الرجلين فقتلهما، هكذا روي(3).

و قال بعض في قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها تنبيه على أنّ من أراد إحياء قلبه لم يتأتّ له إلاّ بإماتة نفسه، فمن أماتها بأنواع الرياضات، أحيا اللّه قلبه بأنوار المشاهدات(4).

عن (العياشي): عن الرّضا عليه السّلام: «أنّ اللّه أمرهم بذبح بقرة، و إنّما كانوا يحتاجون لذنبها [فشدّدوا] فشدّد اللّه عليهم »(5).

ص: 276


1- في النسخة: ملاء، و ما أثبتناه من تفسير العسكري عليه السّلام.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 278.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 278، تفسير الصافي 129:1.
4- تفسير روح البيان 163:1.
5- تفسير العياشي 162/138:1.

كَذلِكَ الإحياء الذي علم به المنكرون للحشر في هذا الميت في الدنيا يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى في الآخرة، و هذا من أتمّ الدلائل على صحّة الحشر و الإعادة بعد الموت، حيث إنّه بضرب الميت بالميت، إذا حيي الميت (1) ،فبإنزال مطر يكون طبعه طبع النطفة على تراب الأجساد كانت الحياة أولى كما حيي في بدو الخلقة.

فإن قيل: هذا الاستدلال لا يتمّ على المشركين المنكرين للبعث إلاّ إذا ثبتت عندهم هذه الواقعة.

قيل: يتمّ بكونها متواترة، و كونها مدلولة لهذه الآيات الباهرات، فلا مجال لهم لإنكار وقوعها، فكان عليهم أن يعترفوا بإحياء جمع كثير من الأوّلين و الآخرين بعد علمهم بوقوع إحياء ميت واحد بقدرة اللّه سبحانه، و يحتمل أن بعد إحياء الميت قال اللّه لبني إسرائيل: كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى فاستدلّ به على ما حكمت به العقول، و أخبر به الرّسول من إمكانه و وقوعه، كما وقع نظير ذلك لإبراهيم عليه السّلام بعد سؤاله كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (2).

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالّة، من هذه الآية و غيرها، على التّوحيد و النبوّة و المعاد، بل هذه الآية بمنزلة الآيات المتعدّدة لدلالتها على جميع ما ذكر، أمّا بالنّسبة إلى بني إسرائيل و نبوّة موسى عليه السّلام فواضح، و أمّا بالنّسبة إلى نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلكون إخباره بهذه الواقعة إخبارا بالغيب، لوضوح كونه امّيّا غير مطّلع على الكتب إلاّ بالوحي.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تتفكّرون أنّ من هو قادر على إحياء نفس واحدة، قادر على إحياء الأنفس الكثيرة، أو لكي يكمل عقلكم فتعلموا ذلك.

سورة البقرة (2): آیة 74

اشارة

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (74)

سورة البقرة (2): آیة 74

ثُمَّ قَسَتْ و غلظت قُلُوبُكُمْ أيّها اليهود، حتّى خرجت عن قابليّة التأثّر بمطالعة الآيات و الدلائل، بسبب شدّة العناد و اللّجاج، و غاية التوغّل في الكفر و الفساد، بعد أن كانت قابلة لقبول كلّ

ص: 277


1- كذا، و لعل في العبارة تقديما و تأخيرا، هكذا: حيث إنه إذا حيي الميت بضرب الميت بالميت،....
2- البقرة: 260/2.

حقّ ، و الانقياد لكلّ خير.

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من إحياء الميّت، و مسخ القردة، و رفع الجبل، و غيرها من الآيات في زمن موسى عليه السّلام و المرئيّ من المعجزات الباهرات من محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فَهِيَ في الغلظة و اليبوسة كَالْحِجارَةِ لا يرجى منها خير، و لا يترشّح منها نفع أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً و غلظة، و لعلّ الإبهام على السامعين لاختلاف قلوبهم في القساوة، أو لأنّ الحكم بعد التّرديد و التبيين بهذا الإبهام أشدّ تأثيرا في قبول السّامع، فكأنّه قال: أحكم بأنّ قلوبهم أشدّ قسوة.

قيل: هذا التعبير أدلّ على فرط القسوة من التعبير بأنّ قلوبهم أقسى(1).

ثمّ أنّه سبحانه علّل حكمه بكون قلوبهم أشدّ قساوة و أصلب، بأنّ للحجارة منافع متعدّدة بخلاف قلوبهم، و ذكر أوّلها بقوله: وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ و ينفتح منه الماء الكثير الذي فيه كلّ خير من حياة الحيوان و النّبات.

و ذكر ثانيها بقوله: وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ القليل، و لا يرجى من قلوبكم الخير الكثير و لا القليل.

وَ إِنَّ مِنْها أي من الحجارة، إذا اقسم عليها باسم اللّه لَما يَهْبِطُ و ينزل من العالي إلى السّافل مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ و خوفه، و قلب الكفّار مع شعور الانسانيّة لا يتأثّر بالخوف من اللّه و عقابه، مع الإبلاغ في الإنذار و الوعظ و التوعيد و التهديد من اللّه و رسوله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ (2).

في أنّ الوجود ملازم للشّعور، و لكلّ موجود شعور و خشية و تسبيح و تحميد

و الظاهر من هذه الآية و عدّة آيات اخر، و كثير من الرّوايات، كرواية تسبيح الحصاة في كفّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسليم الجمادات عليه (3) ،و حنين الجذع، أنّ للجمادات مرتبة من الشّعور و الإدراك و الخوف من اللّه و عقابه، بل لكلّ خضوع و تسبيح و انقياد للّه، و معرفة و اعتراف به و بأوليائه، و قد مرّ أنّه لا يبعد عند العقل أن يكون الوجود ملازما للإدراك، كما نرى في كثير من النباتات.

و الحاصل: أنّ مراتب الإدراك تختلف باختلاف مراتب الوجود، كلّما قوي قوي، و كلّما ضعف

ص: 278


1- تفسير روح البيان 164:1.
2- الحشر: 21/59.
3- الخرائج و الجرائح 46:1-58/47 و 59 و 60، البداية و النهاية 138:6.

ضعف، و أوّل المراتب ما يدرك به صانعه و مفزعه و المهيمن عليه، فيحصل له خضوع و انقياد و خشية من سلب النعمة و انقطاع الفيض عنه، و يمكن أن يستفاد من الآية أنّ كلّ حجر يسقط من مكان بلا سبب ظاهر، يكون سقوطه بتأثير خشية اللّه فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في رواية، قال: «إنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي »(1).

و حاصل مدلول الآية، أنّ الحجر تحرّكه الخشية، و القلب القاسي لا يتحرّك بالإنذار و التخويف.

وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة من أعمالكم يا معاشر أهل الكتاب، و يجازيكم عليها، إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

سورة البقرة (2): آیة 75

اشارة

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

سورة البقرة (2): آیة 75

ثمّ لمّا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه حريصين على إيمان النّاس خصوصا اليهود، و هم كانوا في غاية اللجاج مع تلك الحجج الباهرة، قال اللّه تعالى تسلية لقلب حبيبه صلّى اللّه عليه و آله، و قطعا لطمع المؤمنين في إيمانهم: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا هؤلاء اليهود لَكُمْ و ينقادوا لدعوتكم، و يصدّقوكم بقلوبهم وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ في زمان موسى عليه السّلام يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ في طور سيناء ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ

و يغيّرونه مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ و فهموه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّه كلام اللّه، و أنّهم كاذبون في تقوّلهم، مع أنّ هؤلاء كانوا خيارهم، فكيف حال بقيّتهم! مع أنّهم في اللجاج و العناد لا يقصرون منهم، بل يزيدون عليهم، فلا تحزنوا من إصرارهم على الكفر.

روي أنّ فريقا من السّبعين الذين اختارهم موسى عليه السّلام لميقات ربّه، سمعوا كلام اللّه حين كلّم موسى عليه السّلام بالطّور، و ما امر به موسى عليه السّلام، و ما نهي عنه، ثمّ قالوا: سمعنا اللّه يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، و إن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس(2).

فإذا كان أسلافهم بهذه المرتبة من الخباثة و الأخلاق الذميمة، فأخلافهم مماثلون لهم، و لا يتأتّى منهم إلاّ ما أتى من أسلافهم، فلا يرجى منهم الإيمان بما أنزل اللّه لدعوتكم.

ص: 279


1- سنن الترمذي 2411/607:4، تفسير روح البيان 165:1.
2- تفسير روح البيان 166:1.

سورة البقرة (2): الآیات 76 الی 78

اشارة

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76) أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77) وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (78)

سورة البقرة (2): آیة 76

ثمّ أكّد سبحانه غاية حمقهم و لجاجهم بقوله: وَ إِذا لَقُوا و صادفوا هؤلاء المنافقون المطّلعون على التّوراة الأشخاص اَلَّذِينَ آمَنُوا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله عن صميم القلب، كسلمان و أضرابه قالُوا

نفاقا آمَنّا بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كإيمانكم، لمّا اطّلعنا على نعوته في كتبنا.

وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ بعد ما نافق المؤمنين بإخبارهم بما في التّوراة من علائم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نعوته إِلى بَعْضٍ لم يعترف بذلك، و كتم نعوته فيها، اعترض الساكتون على المنافقين و قالُوا إنكارا عليهم: أَ تُحَدِّثُونَهُمْ و تخبرونهم بِما فَتَحَ اللّهُ و كشفه عَلَيْكُمْ من صفات محمّد صلّى اللّه عليه و آله و علائمه في التّوراة لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ يوم القيامة عِنْدَ رَبِّكُمْ و يقولوا: إن علمتم بدلائل صدقه، فلم لم تؤمنوا به ؟ أَ فَلا تَعْقِلُونَ أنّ ما في التّوراة من أوصاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله حجّة عليكم ؟

سورة البقرة (2): آیة 77

ثمّ ردّ اللّه عليهم بقوله: أَ يلومونهم على التّحديث وَ لا يَعْلَمُونَ اللائمون لمخافة المحاجّة أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من الكفر و عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما يُعْلِنُونَ من الإيمان به، فلا ينفعهم اللّوم و العتاب و السّرّ و الكتمان.

سورة البقرة (2): آیة 78

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ الذين لا يعرفون الكتابة و القراءة، و لأجل امّيّتهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ من التّوراة و غيرها إِلاّ أَمانِيَّ و ما يسمعونه من مفتريات علمائهم.

في جواز تقليد العالم الصائن لدينه في الفروع دون الأصول

وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ كونه حقّا بتقليد علمائهم المحرّفين لكلمات اللّه، المغيّرين لأحكامه، و مع عدم يقينهم يتديّنون به، مع أنّ التّقليد محرّم عليهم في اصول العقائد، لأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ ، و الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا، مع أنّهم كانوا يعرفون علماءهم بالتحريف و التغيير و الكذب، فيكون إيمان علمائهم و عوامّهم بالحقّ في غاية البعد، أمّا علماؤهم فلانغمارهم في محبّة الرّئاسة و المال، و أمّا عوامّهم فلالتزامهم بتقليد هؤلاء.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال، له رجل: فإذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمّهم بتقليدهم و القبول من علمائهم ؟ و هل

ص: 280

عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم ؟ فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال عليه السّلام: «بين عوامّنا و علمائنا، و بين عوامّ اليهود و علمائهم فرق من جهة، و تسوية من جهة. أمّا من حيث استووا فإنّ اللّه قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم، و أمّا من حيث افترقوا، فلا».

قال: بيّن لي ذلك يا ابن رسول اللّه.

قال عليه السّلام: «إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّراح و بأكل الحرام و الرّشا و تغيير الأحكام عن واجبها بالشّفاعات و العنايات و المصانعات، و عرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به إيمانهم (1) ،و إنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه، و أعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، و ظلموهم من أجلهم، و عرفوهم [بأنّهم] يقارفون المحرّمات، و اضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّه و لا على الوسائط بين الخلق و بين اللّه.

فكذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوا و من قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره و لا تصديقه في حكايته و لا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه، و وجب عليهم النّظر بأنفسهم في [أمر] رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى و أشهر من أن لا تظهر لهم»(2) إلى آخره.

فإن قيل: كيف أمر اللّه أهل الكتاب في مقام المحاجّة عليهم بالسؤال عن علمائهم بقوله في غير موضع من كتابه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (3) مع كون علمائهم معاندين للحقّ ، محرّفين للكتاب ؟

قلت: لم يكن جميعهم بهذه الأوصاف، بل أغلبهم كانوا كذلك، و أمّا الأمر بالسؤال في الاحتجاج، فإنّما هو عن المأمونين عن الكذب، المعروفين عندهم بالصّلاح و السّداد.

إن قيل: إنّ السؤال منهم ليس إلاّ التّقليد المفيد للظّنّ الذي لا يغني في الاصول، بل هو محرّم إجماعا؟

قلت: إنّما السؤال المأمور به هو ما يكون مقدّمة لحصول العلم و اليقين، فإنّه لا شبهة أنّ إخبار

ص: 281


1- في تفسير العسكري عليه السّلام: أديانهم.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 143/299.
3- الأنبياء: 7/21.

جماعة من أهل العلم المأمونين عن الكذب بأمر، سيّما مع انضمامه بأمارات اخر مورث للعلم به، و اليقين بتحقّقه. و هذا في الحقيقة من الاجتهاد اللاّزم في الاصول.

سورة البقرة (2): آیة 79

اشارة

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ (79)

سورة البقرة (2): آیة 79

ثمّ شرع اللّه تعالى في تهديد المحرّفين للتّوراة بقوله: فَوَيْلٌ و هو واد في جهنّم - كما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و عذاب أليم كما عن ابن عبّاس (1)- معدّ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ المحرّف بِأَيْدِيهِمْ

و بمباشرتهم بحيث لا يمكنهم إنكاره ثُمَّ يَقُولُونَ : لعوامّهم هذا المكتوب من جملة التوراة النازلة مِنْ عِنْدِ اللّهِ .

روي أنّ أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلهم و زوال رئاستهم حين قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة، فاحتالوا في تعويق أسافل اليهود عن الايمان، فعمدوا إلى صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في التوراة، و كانت فيها: حسن الوجه، جعد(2) الشعر، أكحل العينين، ربعة - أي متوسّط القامة - فغيّروها، و كتبوا مكانها: طوال، أزرق، سبط الشعر، فإذا سألهم سفلتهم قرءوا عليهم ما كتبوا (3).و قالوا: إنّ صفات النبيّ الموعود مغايرة لصفات محمّد.

و في رواية: قالوا: إنّه(4) عظيم الجثّة و البطن، أصهب الشعر، و محمّد بخلافه، و إنّه يجيء بعد خمسمائة سنة(5).

لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً من المال و الرئاسة على الضعفاء، و لأن لا يتحمّلوا مئونة خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هذا من نهاية شقاوتهم، و غاية دناءتهم حيث رضوا بتحمّل العذاب الشديد الدائم الأجل، لأجل حبّ المال القليل الزائل، و الجاه الوبيل العاجل.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر استحقاقهم الويل لكتابة الكتاب و تحريفه، و افترائهم على اللّه، و أخذهم الأموال، و كان مجال توهّم أنّ الاستحقاق يكون بسبب مجموع الامور، أعاد ذكر الويل لكلّ واحد

ص: 282


1- تفسير الرازي 140:3.
2- في تفسير أبي السعود: حسن.
3- تفسير أبي السعود 120:1.
4- زاد في تفسير العسكري عليه السّلام: طويل.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 145/302.

منها، و بيّن أن كلا منها سبب مستقلّ لاستحقاقه، بقوله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ حيث إنّه سبب لإضلال النّاس، باق في الدنيا وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ به من المال الحرام و الرئاسة الباطلة، و المعاصي العظيمة.

سورة البقرة (2): الآیات 80 الی 81

اشارة

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)

سورة البقرة (2): آیة 80

ثمّ أشار سبحانه إلى بعض مفترياتهم الذي صار سببا لجرأتهم على اللّه بقوله: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ في الآخرة إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قليلة.

قيل: المراد بها الأيّام التي عبد فيها العجل، و هي سبعة أيّام على قول (1) ،أو أربعون على آخر(2).

و قالوا: ثمّ نصير بعدها في النّعمة الدائمة، فلا ينبغي أن نتحمّل مكروه تبعيّة محمّد و ذلّها في الدنيا للاحتراز عن العذاب في الأيّام القليلة التي تفنى و تنقضي.

فردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ يا محمّد توبيخا لهم و إنكارا عليهم أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً أنّ عذابكم على الكفر منقطع غير دائم، فإن اتّخذتم هذا العهد فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أبدا، لأنّ خلف العهد و الوعد قبيح لا يصدر من الحكيم إلاّ مع الحاجة و الضّرورة أو الجهل بقبحه، و كلّها نقص و عيب، و الذّات القادرة المحيطة بجميع الكائنات مبرّئ من جميع النقائص و مستجمع لجميع الكمالات بلا شكّ و ريب، فإن ادّعيتم أنّ اللّه تعالى عهد إليكم بهذا فأنتم كاذبون.

أَمْ تَقُولُونَ مفترين عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنّه من اللّه.

روي أنّهم إذا مضت المدّة عليهم في النّار، يقول لهم خزنة جهنّم: يا أعداء اللّه، ذهب الأجل، و بقي الأبد (3) ،فأيقنوا بالخلود.

سورة البقرة (2): آیة 81

بَلى العذاب الدائم ثابت لكم، حيث إنّ : مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً و خطيئة وَ أَحاطَتْ بِهِ

و اشتملت عليه خَطِيئَتُهُ بظلمتها و نكبتها، و استولت على قلبه و لسانه و جميع جوارحه حتّى

ص: 283


1- تفسير الرازي 141:3.
2- جوامع الجامع: 18، الدر المنثور 207:1.
3- أسباب النزول الواحدي: 18.

أخرجته من دين اللّه، و نزعته عن ولايته تعالى، و أبعدته من رحمته سبحانه، و أوقعته في خذلانه، و هو الشّرك باللّه، و الكفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ولاية أوصيائه المعصومين فَأُولئِكَ المحاطون بتلك السيّئة أَصْحابُ النّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ لا خلاص لهم منها أبدا، و لا يجدون عنها مصرفا، فإنّ ملازمة الكفر مستلزمة لملازمة العذاب.

عن (التوحيد): عن الكاظم عليه السّلام: «لا يخلّد اللّه في النّار إلاّ أهل الكفر و الجحود، و أهل الضّلال و الشّرك »(1).

و عن (الكافي) عن أحدهما عليهما السّلام، قال: «إذا جحدوا إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام فاولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون »(2).

في أنّ تعذيب الكافر أبدا لكفره في المدة القليلة جائز و ليس بظلم

فإن قيل: كيف يجوز تعذيب الكافر بالعذاب الدائم لكفره مدّة قليلة من العمر، بل ساعة، و هل هذا الاّ ظلم، تعالى عن ذلك ؟

قلت: قد مرّ سابقا أنّ عظمة المعصية بمقدار عظمة المعصيّ و كثرة حقوقه و نعمه، فإذا كانت عظمة المعصيّ و نعمه بلا نهاية، فعظم معصيته و لو كان بغير الكفر بلا نهاية، و مقدار العذاب و استحقاقه بمقدار عظمة المعصية.

فلو عذّبنا اللّه تعالى لأصغر معاصيه بالعذاب الدائم ما ظلم و ما تعدّى عن حدّ استحقاقنا، فكلّما خفّف أو عفا فبفضله و رحمته، و أمّا حسن العفو فيعتبر فيه قابليّة المحلّ ، فإذا أخبر اللّه بخلود الكافر، علمنا بخروجه عن قابليّة العفو، فلذا يعذّب بالعذاب الدائم، بخلاف سائر المعاصي فإنّه يبقى معها قابليّة العفو إمّا ابتداء أو بعد التوبة، أو مع الشّفاعة، أو بعد بعض الأعمال الصالحة.

و في بعض الروايات: أنّ الخلود في النّار بسبب نيّة الكافر أن لو خلّد في الدنيا أبدا لعصى اللّه، فالكفّار بنيّاتهم خلّدوا.

سورة البقرة (2): آیة 82

اشارة

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

ص: 284


1- التوحيد: 6/407.
2- الكافي 82/355:1.

سورة البقرة (2): آیة 82

ثمّ أنّه سبحانه لمّا بيّن حال الكفّار في الآخرة بأنّهم أصحاب النّار، أردفه بذكر حال أهل الإيمان، بقوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسله و كتبه و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ من التجنّب عن المعاصي و ارتكاب(1) العبادات و الواجبات، حيث إنّ الإيمان الواقعيّ غير منفكّ عن العمل في الجملة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ متنعّمون لا يخافون زوال النعمة.

سورة البقرة (2): آیة 83

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

سورة البقرة (2): آیة 83

ثم أنّه تعالى بعد ذكر نعمة أخذ الميثاق من بني إسرائيل على العمل بالتوراة إجمالا، ذكر نعمة أخذ الميثاق على العمل بتمام ما لا بدّ منه في الدّين تفصيلا، بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ

و العهد المؤكّد الذي وجب أن يكون جاريا في أخلافهم قرنا بعد قرن، و في الامّة المرحومة إلى يوم القيامة، و هو أمور، أهمّها و أعظمها أنّه لا تَعْبُدُونَ بقلوبكم و جوارحكم إِلاَّ اللّهَ و لا تجعلون له شركاء من الأصنام و الشّيطان و هوى النّفس و سائر الخلق.

عن الصادق عليه السّلام: «ما أنعم اللّه عزّ و جلّ على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع اللّه تعالى غيره »(2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من شغلته عبادة اللّه عن مسألته، أعطاه أفضل ما يعطى السائلون »(3).

في وجوب الاحسان بالوالدين الروحانيين و الجسمانيين و حكمته

وَ تحسنون بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مكافأة عن إنعامهما و إحسانهما، فإنّ حقّهما بعد حقوق اللّه، و حقّ الأنبياء و الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين أعظم من حقّ كلّ ذي حقّ ، لأنّهما أصلان في وجود الولد في هذا العالم، منعمان عليه بالتغذية و التّربية و الحفظ عن المحبّة و المودّة، بلا طمع في أجر و عوض و لا ملال و لا كلال، و لا يقطعان عنه الإحسان و إن كان مسيئا بهما و عاقّا لهما، و يؤثرانه على أنفسهما و لو كانت بهما خصاصة، فحقّ لهما أن يعظّمهما و يطلب رضاهما، و لا يؤذيهما و إن كانا كافرين.

عن (الكافي): سئل الصادق عليه السّلام: ما هذا الإحسان ؟ قال: «أن تحسن صحبتهما، و أن لا تكلفهما أن

ص: 285


1- كذا و الظاهر و أداء.
2- التفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه السّلام: 182/328.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 175/327.

يسألاك شيئا ممّا يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين. أ ليس اللّه يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ؟» (1)

ثمّ إذا كان حقّ الوالدين الجسمانيّين بهذه الدّرجة من العظم، فما أعظم حقّ الوالدين الروحانيّين من النبيّ و الوصيّ ! فإنّ إحسانهما و إنعامهما بأولادهما المؤمنين لا يقاس بالوالدين الظاهريّين الجسمانيّين، فإذا كانا أفضل و أحقّ بمراتب لا تحصى، كانا بالشّكر أحقّ و أولى.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل والديكم و أحقّهما بشكركم محمّد و عليّ »(2).

و عن علي عليه السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنا و عليّ أبوا هذه الامّة، و لحقّنا عليهم أعظم من حقّ أبوي ولادتهم، فإنّا ننقذهم إن أطاعونا من النّار إلى دار القرار، و نلحقهم من العبوديّة بخيار الأحرار »(3).

ثمّ أمر بالإحسان بذي القربى بقوله: وَ ذِي الْقُرْبى و هم الذين يعدّون في العرف أرحاما و أقرباء للشّخص، و إنّما أردف الأمر بالإحسان إليهم بإحسان الوالدين لأنّ حقّهم تابع لحقّهما، حيث إنّ الإنسان متّصل بهما.

أمّا السبب الأعظم في التأكيد في رعاية هذا الحقّ ، أنّ الارتباط النّسبيّ مقتض للاتّحاد و الالفة، و منشأ لزيادة حسن الرّعاية و النصرة، فلو لم يحصل لكان أشقّ على القلب و أبلغ في الإيلام، و كلّما كان موجب التّألّم أقوى كان دفعه أوجب.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من راعى حقّ قرابات أبويه، اعطي في الجنّة ألف ألف درجة»(4) ثمّ فسّر الدّرجات، ثمّ قال: «من راعى حقّ قربى محمّد و عليّ اوتي من فضائل الدّرجات و زيادة الثواب على قدر زيادة فضل محمّد و عليّ على أبوي نسبه »(5).

وَ الْيَتامى :و هم الصّغار المنقطعون عن آبائهم الكافلين لامورهم. و وجه إرداف الإحسان بهم للإحسان بالأقارب، أنّ في حفظ الصّغار و تدبير امورهم و صحبتهم مع كمال الرعاية لهم مشقّة

ص: 286


1- الكافي 1/126:2، و الآية من سورة آل عمران: 92/3.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 189/330.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 190/330.
4- في تفسير العسكري عليه السّلام: ألف درجة.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 202/333.

عظيمة و رياضة ثقيلة على النّفس، و لذا وعد اللّه عليه الأجر العظيم، و أنّهم لضعفهم و قصورهم أولى بالرّعاية من غيرهم بعد الأقارب.

ثمّ لا ريب أنّ الإحسان و التكفّل ليتامى آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هم المنقطعون عن إمامهم، الجاهلون بشرائعهم و تكاليفهم، أعظم أجرا منه، كما روي عن العسكريّ عليه السّلام: «أنّ من هداه [و أرشده] و علّمه شريعتنا كان معنا في الرّفيع(1) الأعلى »(2).

ثمّ الأولى بعدهم بالرعاية و الإحسان الفقراء وَ الْمَساكِينِ الذين أسكنهم الفقر عن الحركة.

روي: «أنّ من واساهم بحواشي ماله، وسّع اللّه عليه جنانه، و أناله غفرانه و رضوانه »(3).

ثمّ قال: «إنّ من محبّي محمّد صلّى اللّه عليه و آله مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقر، و هم الذين سكنت جوارحهم و ضعفت قواهم عن مقابلة أعداء اللّه الذين يعيّرونهم بدينهم و يسفّهون أحلامهم، ألا فمن قوّاهم بفقهه و علمه حتّى أزال مسكنتهم، ثمّ سلّطهم على الأعداء الظاهرين من النّواصب، و على الأعداء الباطنين إبليس و مردته حتّى يهزموهم عن دين اللّه و يردّوهم عن أولياء آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حوّل اللّه تعالى تلك المسكنة إلى شياطينهم و أعجزهم عن إضلالهم، و قضى اللّه بذلك قضاء حقّا على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله »(4).

ثمّ بعد ذكر الطوائف الأربع الذين تجب رعايتهم مالا و عشرة، بيّن وجوب الإحسان إلى غيرهم بقوله: وَ قُولُوا لِلنّاسِ الّذين لا مئونة لهم عليكم، سواء كانوا من المؤمنين أو من مخالفيهم من اليهود و غيرهم حُسْناً و عاملوهم و واجهوهم بالبشر و خلق جميل.

عن الباقر عليه السّلام: «قولوا للنّاس [أحسن] ما تحبّون أن يقال لكم »(5).

و في رواية: «أنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم »(6).

عن الصادق عليه السّلام: «قولوا للنّاس كلّهم حسنا مؤمنيهم و مخالفيهم، أمّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه

ص: 287


1- في تفسير العسكري عليه السّلام: الرفيق.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 214/339.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكرى عليه السّلام: 226/345.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 227/346.
5- تفسير العياشي 167/139:1، الكافي 10/132:2، مجمع البيان 298:1.
6- من لا يحضره الفقيه 835/281:4.

و بشره، و أمّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإن يئس من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه و [عن] إخوانه المؤمنين »(1).

ثمّ قال عليه السّلام: «إنّ مداراة أعداء اللّه من أفضل صدقة المرء على نفسه و إخوانه، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في منزله إذ استأذن عليه عبد اللّه بن أبي سلول،

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بئس أخو العشيرة، ائذنوا له، [فأذنوا له] فلمّا دخل، أجلسه و بشر في وجهه، فلمّا خرج قالت له عائشة: يا رسول اللّه، قلت فيه ما قلت، و فعلت فيه [من البشر] ما فعلت!

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عويش، يا حميراء، إنّ شرّ النّاس عند اللّه يوم القيامة من يكرم اتّقاء شرّه »(2).

في أنّ قوله تعالى:

(قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً) هل هو منسوخ أم لا؟

و في رواية عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في أهل الذّمّة، ثمّ نسخها قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ (3)...»إلى آخر الآية(4).

القمّي رحمه اللّه قال: نزلت في اليهود، ثمّ نسخت بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ... (5).

و قال الفيض رحمه اللّه: التوفيق بأن يقال: نسخت في حقّ اليهود و أهل الذمّة المأمور بقتالهم، و بقي حكمها في حقّ سائر النّاس(6).

أقول: ما نسخت في حقّ أهل الذّمة أيضا مطلقا، بل في موقع اقتضت المصلحة الجهاد معهم، و أمّا في موقع الهدنة و موقع يمكن دعوتهم و اجتلابهم إلى الإيمان بالمجادلة الحسنة، فحكم الآية باق في حقّهم أيضا، و أمّا قوله: نزلت في أهل الذمّة أو في اليهود، معناه أنّهم المورد فلا ينافي عموم الحكم لغيرهم.

فإن قيل: الروايتان متعارضتان، حيث إنّ في إحداهما قال: نسخت ب اقتلوا اَلْمُشْرِكِينَ و في الاخرى ب قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ؟

قلت: يمكن الجمع بأنّ كلتي الآيتين بمضمونهما، ناسختان لعمومها. حيث إنّ اليهود من المشركين بقولهم عزير ابن اللّه، و النّصارى بقولهم: إنّ اللّه ثالث ثلاثة، أو قولهم: المسيح ابن اللّه، و كلا الفريقين لا يؤمنون باللّه و اليوم الآخر حقّ الإيمان.

ص: 288


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 240/353.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 241/354.
3- التوبة: 29/9.
4- تفسير العياشي 170/140:1، عن الصادق عليه السّلام.
5- تفسير القمي 51:1، و الآية من سورة التوبة: 5/9.
6- تفسير الصافي 137:1.

ثمّ أنّه بعد ما بيّن كيفيّة حفظ رابطة الوداد بين خلقه، و هو ببذل المال و حسن الكلام و الأخلاق، بيّن ما به يحفظ الرّبط بين العبد و ذاته المقدّسة، و هو بالعبادات البدنيّة و الماليّة:

أمّا البدنيّة، فلمّا كان أهمّها الصّلاة، قال: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بحفظ مواقيتها و إتمام ركوعها و سجودها و أداء حقوقها و شرائطها.

و أمّا الماليّة، فلمّا كان أهمّها الزكاة الواجبة، قال: وَ آتُوا الزَّكاةَ و فيه دلالة على أنّ المراد من الإحسان بذي القربى و اليتامى و المساكين، غير الزّكاة.

ثمّ لمّا كان بيان هذه التكاليف التي هي من المحسّنات العقليّة و أخذ الميثاق على العمل بها نعمة من اللّه عليهم حيث إنّه تربية و هداية، ذمّهم بأنّهم أساءوا على أنفسهم بجهلهم و عدم تلقّيهم هذه النعمة العظيمة بالقبول بقوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أيّها اليهود عن الوفاء بالعهد الذي أدّاه إليكم أسلافكم إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عن العهد غير معتنين به.

سورة البقرة (2): الآیات 84 الی 85

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (85)

سورة البقرة (2): آیة 84

ثمّ بعد المنّة عليهم بنعمة هدايتهم إلى الأعمال الحسنة، بيّن منّته عليهم بنعمة نهيهم عن الأعمال القبيحة التي أقبحها الإضرار بالمرتبطين إليهم بالنّسب و الدّين، فإنّ جميع المنتسبين بالنّسبتين، بمنزلة شخص واحد، و الإضرار عليهم أقبح من الإضرار على النّفس، بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ و العهد الأكيد منكم حيث حكمنا عليكم التزمتم بايمانكم بالعمل به، و هو أنّه لا تَسْفِكُونَ و لا تهرقون، ظلما دِماءَكُمْ و لا تقتلون بعضكم بعضا وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ أي بعضكم بعضا.

مِنْ دِيارِكُمْ فإنّ سفك الدّماء و إخراج المؤمنين من ديارهم من أشدّ الظلم و أقبح الفساد.

ثُمَّ بعد الميثاق أَقْرَرْتُمْ و التزمتم به عند أنفسكم وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بذلك الالتزام و العهد

ص: 289

على رءوس الأشهاد.

سورة البقرة (2): آیة 85

ثُمَّ أَنْتُمْ أيّها اليهود الحاضرون هؤُلاءِ الملتزمون بميثاق اللّه و عهده المؤكّد، المقرّون به، الشاهدون عليه، و الآن نقضتموه لخبثكم و طغيانكم، حيث إنكم تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ و تهرقون دماء بعضكم في الحروب مع أنّها كدمائكم وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ قهرا عليهم و تَظاهَرُونَ أنتم و أعداؤهم من المشركين، أو أنتم أنفسكم تتعاونون عَلَيْهِمْ متلبّسين بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ من القتل و الإخراج، و فيه دلالة على حرمة الإعانة على الظلم و العصيان.

وَ إِنْ كان الفريق المخرجون يَأْتُوكُمْ بأن جاء بهم الأعداء إليكم، حال كونهم أُسارى

و مشدودين بقيد الأعداء تُفادُوهُمْ و تعطوا العوض عنهم من أموالكم لتخلّصوهم من الأسر وَ هُوَ أي الشأن أو الإخراج مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ تبيين لمرجع ضمير الشّأن و القصّة، أو تأكيد له.

ثمّ أنكر عليهم بقوله: أَ فَتُؤْمِنُونَ أيّها اليهود بِبَعْضِ الْكِتابِ من وجوب التّفدية، و تعملون به وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ آخر من حرمة القتل و الإخراج، مع أنّ قضيّة الإيمان بالكتاب، الإيمان بكلّه، لأنّ كلّه من عند اللّه فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ التبعيض في الإيمان و الكفر بالكتاب مِنْكُمْ يا معشر اليهود إِلاّ خِزْيٌ و ذلّ مع الفضيحة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من القتل و الأسر و الإجلاء [عن] الوطن و ضرب الجزية عليهم.

نقل أنّ اللّه أخذ على بني إسرائيل في التّوراة أ، لا يقتل بعضهم بعضا، و لا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، و أيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه و أعتقوه، و كانت قريظة و النّضير أخوين، و كذا الأوس و الخزرج، و هم أهل شرك يعبدون الأصنام و لا يعرفون القيامة و الجنّة و النّار و الحلال و الحرام، فافترقوا في حرب شمر، و وقعت بينهم عداوة، فكانت بنو قريظة معينة للأوس و حلفائهم، و النّضير معينة للخزرج و حلفائهم، فكانوا إذا خرجت الأوس و الخزرج للقتال خرجت بنو قريظة مع أوس، و النّضير مع خزرج، فظاهروا حلفاءهم. و إذا غلبوا خرّبوا ديارهم، فإذا انقضت الحرب افتدت قريظة ما كان في أيدي خزرج منهم، و افتدت النّظير ما كان في أيدي الأوس منهم من الاسارى. فعيّرتهم العرب بذلك، فقالوا: كيف تقتلونهم و تفادونهم ؟! قالوا: امرنا أن نفديهم، و حرّم

ص: 290

علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم ؟ قالوا: إنّا نستحيي أن نستذلّ حلفاءنا(1).

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ لأنّ عصيانهم - و هو الكفر - أشدّ المعاصي، و لا ينافي ذلك كون عذاب من هو أكفر منهم(2) كالدّهريّة أشدّ من عذابهم، لتفاوت مراتب الأشدّيّة وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ لأنّ الغفلة ممتنعة عليه، فبقدرته الكاملة و استحقاقكم الكامل يجازيكم على أعمالكم.

سورة البقرة (2): آیة 86

اشارة

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

سورة البقرة (2): آیة 86

ثمّ أعرض سبحانه عن مخاطبتهم، و أعلن في النّاس بذمّهم بقوله: أُولئِكَ الجماعة المذمّون بغاية الذّمّ ، هم اَلَّذِينَ اشْتَرَوُا و استبدلوا، و اختاروا اَلْحَياةَ الدُّنْيا و متاعها الدنيّة الزائلة بِالْآخِرَةِ و بعوض نعمها الدائمة، و آثروا اللذّات الفانية على الجنّة و حظوظها الباقية فَلا يُخَفَّفُ إذن عَنْهُمُ الْعَذابُ لا كيفيّة و لا مدّة وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ من أحد، و لا يعاونون على دفعه.

سورة البقرة (2): الآیات 87 الی 89

اشارة

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)

سورة البقرة (2): آیة 87

ثمّ ذكّرهم اللّه نعمة اخرى و كفرانهم لها بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا و أعطينا مُوسَى الْكِتابَ جملة واحدة وَ قَفَّيْنا و أتبعناه مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يتبع بعضهم بعضا، و الشريعة واحدة إلى زمان

ص: 291


1- تفسير أبي السعود 125:1، تفسير روح البيان 175:1.
2- كذا، و القياس: أشدّ كفرا منهم.

عيسى عليه السّلام وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الآيات اَلْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات، و إفراد عيسى عليه السّلام بالذكر بعد الرسل؛ لاستقلاله بالشّريعة، فإنّ شريعته ناسخة لشريعة موسى عليه السّلام.

في وجه تسمية جبرئيل عليه السّلام بروح القدس

وَ أَيَّدْناهُ و أعنّاه بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل: هو جبرئيل عليه السّلام (1).حيث إنّه خلق بنفخه و ربيّ بتربيته و رفع إلى السّماء معه.

و اطلاق الرّوح على جبرئيل عليه السّلام لأنّه واسطة إفاضة العلم الذي به حياة القلوب، و لذلك سمّي القرآن من بين الكتب السّماويّة بالروح؛ لاشتماله على المعارف الإلهيّة بمقدار لا يتحمّل فوقه البشر، و على علوم يحتاج إليها الخلائق إلى يوم القيامة.

قيل: إنّ إضافة الرّوح إلى القدس اضافة الموصوف إلى الصفة (2) ،و المعنى: الرّوح المقدّسة من الذّنب.

ثمّ بعد ذكر النعم العظيمة عليهم ذمّهم بكفرانها، و قال تقريعا و توبيخا لهم: أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ يا بني إسرائيل رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ و أتاكم بعهود و أحكام تخالف ميل خاطركم من وجوب اتّباع الكاملين و بذل الأنفس و الأموال لنصرة الدّين، و الإيمان برسالة خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله اِسْتَكْبَرْتُمْ

و استثقلتم ما جاءكم به أو أخذكم الكبر فَفَرِيقاً من الرّسل كَذَّبْتُمْ كموسى و عيسى وَ فَرِيقاً

آخر منهم كنتم تَقْتُلُونَ كزكريّا و يحيى، كما أنّكم كذّبتم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و أردتم قتله. قيل: سمّوه في خيبر.

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله قال عند موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني »(3).

سورة البقرة (2): آیة 88

وَ قالُوا كناية عن نهاية تأبّيهم عن الايمان قُلُوبُنا غُلْفٌ و مغشّاة بأغشية مانعة من دخول ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيها، فلا نفهم ما يقول. فردّ اللّه عليهم بأنّ قلوبهم لم تخلق كذلك بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ و خذلهم بِكُفْرِهِمْ باللّه و رسوله، فأبطل استعدادهم.

أو المراد: أنّ قلوبنا أوعية العلم، و مع ذلك لا نرى لك خبرا في الكتب السّماويّة، و لا على لسان أحد. فردّ اللّه عليهم بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ و أبعدهم عن رحمته بسبب كفرانهم النعمة فَقَلِيلاً ما

أي إيمانا قليلا يُؤْمِنُونَ أو ببعض قليل في غاية القلّة من أحكام اللّه يصدّقون و يلتزمون. قيل: أراد

ص: 292


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 260/371.
2- تفسير الجلالين 13:1.
3- تفسير الرازي 178:3، تفسير أبي السعود 127:1.

بالقلّة العدم(1).

سورة البقرة (2): آیة 89

وَ لَمّا جاءَهُمْ و نزل على هؤلاء الحاضرين كِتابٌ عظيم الشّأن، و هو القرآن مِنْ عِنْدِ اللّهِ

بشهادة أنّه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التّوراة التي بيّن فيها أوصاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله من أنّه نبيّ امّيّ من ولد إسماعيل، حتّى كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ أن يظهر محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة يَسْتَفْتِحُونَ من اللّه و يسألونه الفتح و الظفر به عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا و كان اللّه يجيبهم و يفتح لهم، أو المراد أنّهم يعرّفون المشركين أنّ اللّه يبعث منهم نبيّا و قد قرب زمانه فَلَمّا جاءَهُمْ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو ما عَرَفُوا بنعوته و علائمه كَفَرُوا بِهِ و جحدوا نبوّته حسدا فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكافِرِينَ به.

سورة البقرة (2): آیة 90

اشارة

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

سورة البقرة (2): آیة 90

ثمّ بالغ في ذمّهم و تعييبهم على فعلهم من الكفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ من الهدايا و الرئاسة الباطلة أَنْفُسَهُمْ و أعرضوا عن النفع الدائم، و رضوا بالعذاب الدائم لها بعوض متاع الدنيا الفانية.

و قيل: إنّهم لمّا تملّكوا أنفسهم و خلّصوها من تبعيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعوض كفرهم بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله فكأنّهم اشتروا أنفسهم.

ثمّ إنّه تعالى فسّر ما اشتروا به بقوله: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ من القرآن المستلزم للكفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما أنّ الإقرار بأنّه من اللّه إقرار بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ بيّن أنّ كفرهم لم يكن جهلا و قصورا، بل كان بَغْياً و حسدا على أَنْ يُنَزِّلَ اللّهُ نصيبا مِنْ فَضْلِهِ و هو النبوّة و الكتاب عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و يختار من بريّته و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي أبان بالقرآن نبوّته، و أظهر به آيته.

و عن (الكافي) و (العياشي): عن الباقر عليه السّلام قال: «بما أنزل اللّه في عليّ بغيا»(2) الحديث، و هذا تاويل

ص: 293


1- تفسير أبي السعود 128:1.
2- الكافي 25/345:1، تفسير العياشي 175/143:1.

و بطن.

فَباؤُ و رجعوا ملتبسين بِغَضَبٍ من اللّه عليهم حين جحدوا نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كائن عَلى غَضَبٍ من اللّه عليهم قبله حين أنكروا نبوّة عيسى عليه السّلام فصاروا مستحقّين اللعنة مرادفة اللعنة حيث اقترفوا كفرا إثر كفر.

وَ لِلْكافِرِينَ باللّه و رسله، كانوا يهودا أو غيرهم بسبب كفرهم عَذابٌ مُهِينٌ حيث أهانوا اللّه بمعارضته و رسله بالتّكذيب، فناسب أن يشتمل عذابهم على نهاية الإهانة زائدا على ما يلازم مطلق العذاب.

سورة البقرة (2): آیة 91

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

سورة البقرة (2): آیة 91

ثمّ بالغ سبحانه في توبيخ اليهود بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ نصحا و موعظة آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ على محمّد صلّى اللّه عليه و آله من القرآن قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من التّوراة و هم يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ و ما سواه من الكتب السماويّة الّتي أشرفها القرآن، و لا يؤمنون به وَ الحال أنّه هُوَ الْحَقُّ النازل من اللّه، و الناسخ للتّوراة، حال كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من التّوراة التي بشّرت بمجيء محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرسالة و الكتاب.

و لمّا كانوا كاذبين في دعوى الإيمان بها، ردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد ردّا لدعواهم الإيمان بالتّوراة فَلِمَ كنتم تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتّوراة، فإنّ التّوراة حرّمت قتل الأنبياء، و لا بدّ أن يكون قول المؤمن و فعله موافقا.

عن العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «إنّما نزل هذا في قوم [من اليهود] كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقتلوا الأنبياء بأيديهم، و لا كانوا في زمانهم، و إنّما قتل أوائلهم الذين كانوا من قبلهم (1) ،فجعلهم اللّه منهم، و أضاف إليهم فعل أوائلهم بما تبعوهم و تولّوهم »(2).

ص: 294


1- زاد في المصدر: فنزلوا بهم اولئك القتلة.
2- تفسير العياشي 177/143:1.

سورة البقرة (2): الآیات 92 الی 93

اشارة

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

سورة البقرة (2): آیة 92

ثمّ أنّه لمّا كانت عبادتهم العجل و اتّخاذه إلها من أقبح أعمالهم، و فيها نهاية فضيحتهم و ظهور كمال حماقتهم كرّر اللّه ذكره بقوله: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ .

سورة البقرة (2): آیة 93

و يمكن أن يكون تكراره و تكرار أخذ الميثاق و رفع الطّور و الأمر بأخذ ما في التّوراة من الأحكام بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ و يد وَ اسْمَعُوا سماع قبول و طاعة؛ توطئة لحكاية قولهم الشّنيع بقوله: قالُوا جوابا: سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا

أمرك، و لبيان رسوخ حبّ العجل في قلوبهم بقوله: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قيل: إنّهم بسبب كفرهم أمروا بشرب الماء الذي ذرّيت فيه سحالة(1) العجل حتّى وصل ما شربوه إلى قلوبهم، حتّى تداخلها حبّه، و رسخ فيها صورته لفرط شغفهم به.

نقل أنّ موسى عليه السّلام لمّا خرج إلى قومه امر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذرّى في النّهر، فلم يبق نهر يومئذ إلاّ وقع فيه منه شيء ثمّ قال لهم: اشربوا منه، فمن بقي في قلبه شيء من حبّ العجل ظهرت سحالة العجل على شاربه(2).

و روي عن الباقر عليه السّلام قال: «لمّا ناجى موسى عليه السّلام ربّه، أوحى اللّه إليه: يا موسى، قد فتنت قومك.

قال: بما ذا يا رب ؟ قال: بالسّامريّ . قال: و ما [فعل] السّامريّ ؟ قال: قد صاغ لهم من حليّهم عجلا.

قال: يا ربّ ، إنّ حليّهم لا يحتمل أن يصاغ منه غزال أو تمثال أو عجل، فكيف فتنتهم ؟ قال: إنّه صاغ لهم عجلا، فخار.

قال: يا ربّ و من أخاره ؟ قال: أنا. فقال عندها موسى عليه السّلام: إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ (3).

ص: 295


1- سحالة الشيء: برادته، و هو ما يتساقط من الحديد أو نحوه في أثناء برده.
2- تفسير روح البيان 183:1.
3- الأعراف: 155/7.

قال: فلمّا انتهى موسى عليه السّلام إلى قومه و رآهم يعبدون العجل، ألقى الألواح من يده فكسّرت».

قال أبو جعفر عليه السّلام: «كان ينبغي أن يكون ذلك عند إخبار اللّه تعالى إيّاه. قال: فعمد موسى عليه السّلام فيرد العجل من أنفه الى طرف ذنبه، ثمّ أحرقه بالنّار فذرّه في اليمّ . قال: فكان أحدهم ليقع في الماء و ما به [إليه] من حاجة، فيتعرّض بذلك للرماد(1) و يشربه، و هو قول اللّه تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ » (2).

أقول: ظاهر الرّواية أنّ حبّهم للعجل صار سببا لشربهم من الماء، و يمكن كون حبّ العجل سببا للشّرب، ثمّ صار الشّرب سببا لرسوخ حبّه و ثباته في قلوبهم.

ثمّ لمّا كان ارتكابهم هذه القبائح مبطلا لادّعائهم الإيمان بالتّوراة و بموسى و شريعته؛ أمر اللّه نبيّه بتقريعهم، بقوله: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ و ساء ما يبعثكم إليه إِيمانُكُمْ بالتّوراة من فعل هذه القبائح، و من الكفر باللّه و اليوم الآخر و برسالتي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها.

سورة البقرة (2): الآیات 94 الی 95

اشارة

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (95)

سورة البقرة (2): آیة 94

ثمّ لمّا كان من عقائدهم السّخيفة و دعاويهم الباطلة أنّ الجنّة و نعيمها في الآخرة خالصة لهم و مختصّة بهم لادعائهم أنّهم أولياء اللّه المخلصون و عباده الصّالحون، و لذا قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً (3) فردّ اللّه عليهم بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ من جنّتها و نعيمها عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً و مختصة مِنْ دُونِ سائر اَلنّاسِ قيل: المراد من النّاس محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته و أصحابه(4).

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الذي به تصلون إليها لقلّة نعم الدنيا بالنّسبة إلى نعم الآخرة، مع كون نعم الدنيا منغّصة مشوبة بالآلام و المكاره بخلاف نعم الآخرة، فكلّ من أيقن بفلاحه و نجاحه، لا بدّ له من أن يشتاق إلى الموت و يتمنّاه، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل

ص: 296


1- في النسخة: بذلك إليها.
2- تفسير العياشي 178/144:1.
3- البقرة: 111/2.
4- تفسير الصافي 148:1.

بثدي امّه »(1).

و قال عمّار يوم صفّين:

اليوم ألقي الأحبّة *** محمّدا و حزبه(2)

عن الصادق عليه السّلام: «سئل أمير المؤمنين عليه السّلام: بما ذا أحببت لقاء ربّك ؟ قال: لمّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته و رسله و أنبيائه، علمت بأنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببت لقاءه »(3).

فمن كان صادقا في الحبّ لا محالة يتمنّى لقاء الحبيب، و لذا قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى حبّكم للّه و تولّيكم إيّاه و اختصاصكم بالجنّة و نعيمها. ثمّ الظاهر أنّ المراد بالتمنّي، التمنّي القوليّ ، كقول: ربّنا أمتنا أو عجّل في وفاتنا و أمثال ذلك، دون التمنّي القلبيّ الذي لا يطّلع عليه أحد.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أنه] قال لهم بعد ما عرض هذا عليهم: «لا يقوله أحد منكم إلاّ غصّ بريقه فمات مكانه» و كانت اليهود علماء بأنّهم كاذبون، و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه هم الصادقون، فلم يجترئوا أن يدعوا به(4).

شبهة و رفعها

إن قلت: ما الدّليل على أنّه ما وجد منهم هذا القول ؟

قلت: لو قالوا ذلك لنقل إلينا نقلا متواترا، لأنّه أمر عظيم، لأنّه بقولهم ما يشعر بالتمنّي، كان النبيّ محجوجا، و كان يبطل دعواه و نبوّته، و بعدمه يثبت صحّة نبوّته، و ما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلا متواترا.

و أيضا لا يمكن أن يتحدّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي كان أعقل من جميع أهل العالم بالإخبار بعدم وقوع أمر جزما إلاّ بإخبار اللّه بعدم وقوعه، و لا يجوز أن يخبر بأمر لا يأمن و لا يثق بتحقّق ما أخبر به، مع أنّه وردت روايات كثيرة متظافرة بأنّهم ما قالوا، و لو قالوه لماتوا مقاعدهم و رأوا مقاعدهم من النّار، بل قيل إنّ هذا الإخبار بلغ مبلغ التواتر.

سورة البقرة (2): آیة 95

و هذا من الأدلّة الواضحة على النبوّة، حيث أخبر عن جزم بأنّهم لا يقولون كلمة دالّة على تمنّي الموت مع سهولتها عليهم، بل أخبر بأنّهم لا يقولونها أبد الدهر، بقوله: وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر و المعاصي.

ص: 297


1- نهج البلاغة: 5/52.
2- وقعة صفين: 341، تفسير أبي السعود 132:1.
3- الخصال: 1/33.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 294/443.

و روي عن (تفسير الإمام) و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بتمنّي الموت أن يدعو الفريقان بالموت على الكاذب منهما فيكون نظير المباهلة (1).و هذا خلاف المشهور بين المفسّرين.

روي عن نافع أنّه جلس إلينا يهوديّ يخاصمنا، فقال: إنّ في كتابكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ و أنا اتمنّى، فما لي لا أموت ؟ فسمع ابن عمر هذا فدخل بيته و أخذ السّيف ثمّ خرج، ففرّ اليهوديّ حين رآه. فقال ابن عمر: أما و اللّه لو أدركته لضربت عنقه، توهّم هذا الجاهل أنّه لليهود في كلّ وقت، إنّما هو لاولئك الذين يعاندونه و يجحدون نبوّته بعد أن عرفوه(2).

إن قيل: إن المؤمنين أجمعوا على أنّ الجنّة للمؤمنين دون غيرهم، ثمّ ليس أحد منهم يتمنّى الموت، فكيف وجه الاحتجاج على اليهود؟

قلت: إنّ المؤمنين لم يدّعوا أنّهم أبناء اللّه و أحبّاؤه، و أنّ الجنّة خالصة لكلّ واحد منهم كما ادّعاها اليهود.

ثمّ بعد المحاجّة عليهم و تبكيتهم، هدّدهم بقوله: وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ على أنفسهم بالكفر و الطغيان، لا يخفى عليه سوء حالهم و شناعة أعمالهم، فيجازيهم بأسوإ مجازاة.

سورة البقرة (2): آیة 96

اشارة

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

سورة البقرة (2): آیة 96

ثمّ أخبر اللّه بأنّهم مأيوسون عن نعيم الآخرة بقوله: وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ

طويلة في الدنيا، بل وَ أحرص عليها مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه و لم يؤمنوا بالمعاد، فإنّهم لزعم أنّ الدنيا جنّة لهم، يكونون أكثر حبّا للحياة و أشدّ حرصا على التعيّش فيها.

و هؤلاء اليهود مع اعتقادهم بالمعاد و الجنّة، و ادّعائهم أنّها خالصة لهم، لعلمهم بأنّهم محرمون عن الجنّة و نعيمها و صائرون إلى النّار و أشدّ العذاب بسبب وضوح كفرهم عندهم و عنادهم للحقّ ، يكونون أحرص على التعيّش في الدنيا من المشركين بحيث: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ و يتمنّى لَوْ يُعَمَّرُ

فيها أَلْفَ سَنَةٍ قيل: تخصيص ألف سنة بالذّكر لأنّ عادة المجوس القائلين بالنّور و الظلمة أنّهم

ص: 298


1- تفسير الرازي 191:3، تفسير ابن كثير 132:1، التفسير المنسوب إلى الامام العسكري: 443.
2- تفسير روح البيان 184:1.

عند العطاس يقولون: عش ألف سنة، أو ألف نوروز(1).

وَ ما هُوَ أي التّعمير الطّويل بِمُزَحْزِحِهِ و مباعده مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ لأنّ العمر الطّويل بعد انقضائه كطرفة عين، ثمّ بعده يكون العذاب الدائم.

وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ في أعمارهم فيشدّد عليهم العذاب، فيكون طول العمر شرّا لهم، حيث لا ينالون فيه إلاّ زيادة الكفر و الطّغيان و الإثم و العدوان فيزداد عذابهم، بخلاف أهل الإيمان فإنّهم في كلّ ساعة من العمر يكتسبون خيرا كثيرا لا يعلمه الاّ اللّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «طوبى لمن طال عمره و حسن عمله »(2).

سورة البقرة (2): الآیات 97 الی 98

اشارة

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)

سورة البقرة (2): آیة 97

ثمّ أنّه لمّا كان من العقائد الفاسدة الزائغة لليهود و من مساوئ أقوالهم اعتقادهم و قولهم: بأنّ جبرئيل عدو لنا؛ لأنّه أنزل القرآن على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و نحن نعاديه، أبان اللّه سبحانه سخافة هذا الاعتقاد و شناعة هذا القول بقوله: قُلْ يا محمّد لهم: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ و مبغضا له، فإنّه مبطل إذ لا وجه لعدوانه.

فإن قالوا: إنّ العداوة بسبب أنّه أنزل القرآن عليك فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ متدرّجا عَلى قَلْبِكَ الذي هو موضع فهمك بِإِذْنِ اللّهِ و بأمره، لا من قبل نفسه، فهو مأمور و محسن إليهم بتبليغه الكتاب المبين الذي يكون مُصَدِّقاً و موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السّماويّة وَ هُدىً من الضّلالة وَ بُشْرى بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و برحمة اللّه و فضله لِلْمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون جبرئيل محبوبا مشكورا لا مبغوضا منفورا.

عن القمّي رحمه اللّه: أنّها نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو كان الملك الذي يأتيك ميكائيل لآمنّا بك، فإنّه ملك الرّحمة و صديقنا، و جبرئيل ملك العذاب و هو عدوّنا(3).

ص: 299


1- تفسير روح البيان 186:1.
2- من لا يحضره الفقيه 842/283:4، تفسير روح البيان 186:1.
3- تفسير القمي 54:1.

أقول: الأخبار الدّالّة على أنّ اليهود كانوا يظهرون العداوة لجبرئيل كثيرة من الخاصّة و العامّة، و لا بعد فيه لكثرة جهالتهم، حيث إنّهم الذين قالوا لموسى عليه السّلام بعد ما رأوا الآيات البيّنات: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (1) ثمّ تمادوا في الجهل و الغواية حتّى انتهوا إلى عبادة العجل، و كادوا أن يقتلوا هارون.

و ما قيل من أنّ اليهود في الأعصار المتأخّرة منكرون معاندة أسلافهم لجبرئيل، فهو باطل مردود؛ لأنّ القرآن كان بمنظر و مسمع من أهل الكتاب من اليهود و النّصارى، و لم يبارزه أحد منهم بالرّدّ و التّكذيب في هذه النّسبة، و إلاّ لنقل إلينا.

اعتراض و ردّ

فإن قيل: نزل القرآن بالاتّفاق على ظاهر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكيف قال: نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ؟

قلنا: نزل القرآن على ظاهره و باطنه، و لمّا كان نزوله على باطنه أشرف و أنفع لعموم الخلق؛ لأنّه بحفظ قلبه حفظ و بقي بين النّاس، خصّه بالذّكر كما قال في الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (2)

سورة البقرة (2): آیة 98

ثمّ بعد بيان أنّه لا جهة لعداوة جبرئيل حيث إنّه عامل بأمر اللّه و مطيع لحكمه، بل على النّاس أن يحبّوه و يشكروه حيث إنّه واسطة لتبليغ الهداية و البشارة، هدّد اللّه المعاندين له، بل معاند جميع المقدّسات بقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ بأن سبّ اللّه عدوانا، أو خالفه، أو عاند أولياءه، وَ عدوّ مَلائِكَتِهِ المبعوثين لنصرتهم وَ عدوّ رُسُلِهِ المبلّغين عنه، المخبرين بما فيه خير العامّة و صلاح الخلق في الدنيا و الآخرة، وَ عدوّ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ .

عن عكرمة: أن جبر و ميك و إسراف هي العبد بالسّريانيّة، و ئيل: هو اللّه (3) ،و تخصيصهما بالذكر بعد ذكر عموم الملائكة لفضلهما، و لجريان ذكرهما بين الرّسول و اليهود.

فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ بعلّة كفرهم، و عداوة هؤلاء الكفرة لا تضرّ اللّه و ملائكته و رسله و أولياءه، و عداوة اللّه لهم تضرّهم أشدّ الضّرر.

سورة البقرة (2): الآیات 99 الی 100

اشارة

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا

ص: 300


1- الأعراف: 138/7.
2- الشعراء: 193/26 و 194.
3- تفسير روح البيان 188:1.

عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)

سورة البقرة (2): آیة 99

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ دالاّت على صدقك في نبوّتك و في جميع ما تخبر به، موضّحات عن كفر من شكّ فيها وَ ما يَكْفُرُ بِها و ما يجحدها إِلاَّ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه و ولايته، و المتجاوزون عن كلّ حدّ مستحسن في العقل و الشّرع، فإنّ من يكون بصفة التمرّد مجترئ على الكفر بالآيات.

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: أنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس و الخزرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه، فلمّا بعث من العرب كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه و أسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و نحن أهل الشّرك، و تخبروننا أنّه مبعوث، و تصفون لنا صفته. فقال بعضهم: ما جاء لنا بشيء من البيّنات، و ما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية(1).

و لعلّ المراد من الآيات القرآن و سائر المعجزات، مثل امتناعهم عن المباهلة، و عن تمنّي الموت، و إشباع الخلق الكثير من الطّعام القليل، و نبوع الماء من بين أصابعه، و انشقاق القمر، و غير ذلك.

سورة البقرة (2): آیة 100

ثمّ أنكر عليهم كفرهم بالآيات إعظاما له، و عطف عليه توبيخهم على نقض عهد الأيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله إذا ظهر، و تعاهدهم على إخراج المشركين من ديارهم إذا هاجر إليهم، و أن لا يعينوا عليه أحدا بقوله: أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً من العهود المزبورة نَبَذَهُ و نقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ حيث كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و لم يؤمنوا به، و أعانوا قريشا عليه يوم الخندق، و ليس هذا الفريق قليلا منهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بنبوّته أبدا بغيا و حسدا.

سورة البقرة (2): آیة 101

اشارة

وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

سورة البقرة (2): آیة 101

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على الكفر بالمعجزات و نقض العهود، وبّخهم على كفرهم بالتّوراة و سائر الكتب السّماويّة بقوله: وَ لَمّٰا جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي هو مُصَدِّقٌ و مطابق في

صفاته لِما مَعَهُمْ من التّوراة و سائر الكتب السّماويّة نَبَذَ و رمى

ص: 301


1- تفسير الرازي 199:3.

فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود كِتابَ اللّهِ من التّوراة و غيرها وَراءَ ظُهُورِهِمْ

و أعرضوا و تركوا العمل به كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ الكتاب كتاب اللّه، و أنّ ما فيه حقّ . فكما أنّ الجاهل بأنّ التّوراة كتاب اللّه، لا يرى ترك العمل به قبيحا لا يرى هؤلاء العالمون بأنّ التّوراة كتاب اللّه ترك العمل بها قبيحا و شينها(1) على أنفسهم، و هذا من غاية كفرهم و خباثتهم فمثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (2).

سورة البقرة (2): الآیات 102 الی 103

اشارة

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

سورة البقرة (2): آیة 102

ثمّ ذكر اللّه تعالى نوعا آخر من قبائح أعمالهم، و هو إقبالهم إلى السّحر و عملهم به بقوله:

وَ اتَّبَعُوا بعد ترك اتّباع كتب اللّه ما تَتْلُوا و تقرأه اَلشَّياطِينُ و كفرة الجنّ من كتب السّحر عَلى عهد مُلْكِ سُلَيْمانَ و سلطنته، أو افتروه على ملكه بأن ألقوا لملأ بني إسرائيل أن سليمان بن داود عليهما السّلام إنّما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم.

ثمّ لمّا كان السّحر بمنزلة الكفر في القباحة و المعصية نزّه اللّه سبحانه سليمان عنه بقوله: وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ بعمل السّحر وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا حيث عملوا بالسّحر و علّموه النّاس.

و لعلّ اليهود في زمان سليمان أنكروا نبوّته، و نسبوا جميع ما كان له من خوارق العادة و تسخير الرياح و علمه بمنطق الطّير و سائر معجزاته إلى السّحر، كما أنكر يهود عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نبوّته، و نسبوا الآيات و المعجزات من القرآن المجيد، و شقّ القمر، و طاعة الجمادات له، و تسبيح الحصاة في كفّه و غير ذلك إلى السّحر. و قالوا: نحن أيضا نظهر العجائب بالسّحر، و نستغني عن الانقياد لمحمّد، و لذا

ص: 302


1- كذا، و الظّاهر و شينه، أي شينى الترك.
2- سورة الجمعة: 5/62.

كفروا بالآيات و نبذوا العهود وراء ظهورهم، فردّ اللّه عليهم بأنه ما كَفَرَ و ما سحر سليمان وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا إذ يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَ يعلّمونهم ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ اللّذين نزلا بِبابِلَ و هو بلد بالعراق. و قيل: جبل دماوند. و قيل غير ذلك (1) ،و كان اسم أحدهما هارُوتَ وَ

اسم الآخر مارُوتَ .

قصّة هاروت و ماروت

عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «كان بعد نوح عليه السّلام قد كثر السّحرة و المموّهون (2) ،فبعث اللّه تعالى ملكين إلى نبيّ ذلك الزّمان بذكر ما يسحر به السّحرة و ذكر ما يبطل به سحرهم و يردّ به كيدهم. فتلقّاه النبيّ عن الملكين و أدّاه إلى عباد اللّه بأمر اللّه عزّ و جلّ ، و أمرهم أن يقفوا به على السّحر، و أن يبطلوه، و نهاهم أن يسحروا به النّاس. و هذا كما يدلّ على السّم ما هو، و على ما يدفع به غائلة السّمّ ، ثمّ يقول للمتعلّم: ذلك السّمّ ، فمن رأيته سمّ فادفع غائلته بكذا، و إيّاك أن تقتل بالسّمّ أحدا. قال: و ذلك النبيّ أمر الملكين أن يظهر للنّاس بصورة بشرين و يعلّماهم ما علّمهما اللّه تعالى من ذلك و يعظاهم »(3).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «اتّقوا الدنيا، فو الّذي نفسي بيده إنّها لأسحر من هاروت و ماروت »(4).

روي عن أبي محمّد عليه السّلام أنّ رجلا قال: إنّ قوما عندنا يزعمون أنّ هاروت و ماروت ملكان اختارتهما الملائكة، فلمّا كثر عصيان بني آدم أنزلهما اللّه مع ثالث لهما إلى الدنيا، و أنّهما افتتنا بالزّهرة و أرادا الزّنا بها، و شربا الخمر، و قتلا النّفس المحرّمة، و أن اللّه يعذّبهما ببابل، و أنّ السّحرة منهما يتعلّمون السّحر، و أنّ اللّه تعالى مسخ تلك المرأة بالكوكب الذي هو الزّهرة.

فقال الإمام عليه السّلام: «معاذ اللّه عن ذلك، إنّ ملائكة اللّه معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف اللّه تعالى، قال اللّه عزّ و جلّ فيهم: لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (5) و قال تعالى: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (6) و قال في الملائكة: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى قوله: مُشْفِقُونَ » (7).

ص: 303


1- تفسير أبي السعود 138:1، مجمع البيان 338:1.
2- في النسخة: و الموهمون.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 473.
4- كنز العمال 6063/182:3.
5- التحريم: 6/66.
6- الأنبياء: 19/21 و 20.
7- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 475، و الآيات من سورة الأنبياء: 26/21-28.

و في رواية عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل عمّا يرويه النّاس من أمر الزّهرة، و أنّها امرأة فتن بها هاروت و ماروت، و ما يروونه من أمر سهيل و أنّه كان عشّارا باليمن ؟!

فقال عليه السّلام: «كذبوا في قولهم إنّهما كوكبان، إنّهما كانتا دابّتين من دوابّ البحر، فغلط النّاس و ظنّوا أنّهما الكوكبان، و ما كان اللّه عزّ و جلّ ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ثمّ يبقيها ما بقيت السّماوات و الأرض، و أنّ المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام حتّى ماتت، و ما تناسل منها شيء، و ما على وجه الأرض اليوم مسخ، و إنّ الذي وقع عليه اسم المسوخيّة مثل القرد و الخنزير و الدّبّ و أشباهها إنّما هي مثل ما مسخ اللّه عزّ و جلّ على صورها قوما غضب اللّه عليهم و لعنهم بإنكارهم توحيد اللّه و تكذيبهم رسله.

و أمّا هاروت و ماروت، فكانا ملكين علّما النّاس السّحر ليحترزوا به عن سحر السّحرة و يبطلوا به كيدهم»(1) الحديث.

و لا يخفى أنّ الرّوايات التي تكون موافقة لما اشتهر بين العامّة، لا بدّ من حملها على التقيّة لمخالفتها الكتاب و العقل.

و قال بعض العامّة: إنّ مدارها ما روته اليهود (2).و أمّا توجيهها بالذي تكلّفه الفيض رحمه اللّه(3) و بعض العامّة، ففي غاية البعد (4).و حملها على كونها أسرارا لا يناسب رواتها كعطاء(5) و ابن الكوّاء(6) لبداهة عدم كونهما من أهل السّرّ و الفهم.

و الحاصل: أنّ الروايات الدالّة على عصيان الملكين بالشّرك و الزنا و شرب الخمر و قتل النّفس و مسخ الزّهرة، ممّا يجب ردّها أو ردّ علمها إليهم عليهم السّلام لو لم يمكن حمل جميعها على التقيّة.

وَ ما يُعَلِّمانِ السّحر و إبطاله مِنْ أَحَدٍ من النّاس حَتّى يَقُولا للمتعلّم: اعلم إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ و امتحان من اللّه للعباد، ليعلم من يطيعه فيما يتعلّم بإعماله في إبطال السّحر ممّن يعصيه

ص: 304


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2/271:1.
2- تفسير أبي السعود 138:1، تفسير روح البيان 191:1.
3- قال الفيض رحمه اللّه: و أما ما كذبوه من أمر هاروت و ماروت و مسخ زهرة و قصّتهم المشتهرة بين النّاس فقد ورد عنهم عليهم السّلام في صحتها أيضا روايات، و الوجه في الجمع و التوفيق أن تحمل روايات الصحة على كونها من مرموزات الأوائل و اشاراتهم و إنهم لما رأوا أن حكاتها كانوا يحملونها على ظاهرها كذبوها و لا بأس بايرادها و حلها فان هاهنا محلها. الصافي 156:1 و 160.
4- تفسير روح البيان 191:1.
5- تفسير العياشي 180/145:1.
6- تفسير العياشي 181/149:1.

باستعماله في إضرار النّاس فَلا تَكْفُرْ باستعماله للإضرار.

فَيَتَعَلَّمُونَ النّاس مِنْهُما أي من الملكين، أو من الصّنفين؛ من السّحر ما تتلوا الشّياطين و ما انزل على الملكين؛ الأقسام المضرّة أظهرها و أشيعها ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ من الحيل و التّمويهات.

وَ الحال أنّه ما هُمْ أي السّحرة بِضارِّينَ بِهِ أي بالسّحر مِنْ أَحَدٍ من العالمين إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ و تعليمه أو بسبب تخليته بين السّاحر و إرادته الناشئة من خبث ذاته و عمله القبيح، و لو شاء أن لا يصدر منه لأعجزه عنه و حال بينه و بين قلبه و إرادته.

وَ يَتَعَلَّمُونَ هؤلاء اليهود من السّحر ما يَضُرُّهُمْ حيث إنّ ضرره على أنفسهم من العقوبة الاخرويّة أشدّ بمراتب من الضّرر الذي يصل إلى المسحور وَ لا يَنْفَعُهُمْ و لا يفيد لهم فائدة يعتدّ بها العقلاء.

وَ الحال أنّهم لَقَدْ عَلِمُوا سبب تلاوتهم التّوراة المكتوب فيها: أنّه و اللّه لَمَنِ اشْتَراهُ

و عاوض بكتب السّحر و تعلّمه و العمل به كتاب اللّه و أحكامه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ و نصيب من رحمة اللّه، أو خلاص من عقابه وَ باللّه لَبِئْسَ ما شَرَوْا هؤلاء اليهود من العمل بالسّحر، و استبدلوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ حيث عرّضوها للهلاك الأبد.

و هؤلاء اليهود لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ علم اليقين أنّ في هذا الاستبدال خسرانا و وبالا ما فعلوه.

سورة البقرة (2): آیة 103

ثمّ أرشدهم إلى التّجارة المربحة بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالنّبيّ و انقادوا له وَ اتَّقَوْا اللّه في أعمالهم باللّه لَمَثُوبَةٌ و أجر واصل إليهم مِنْ عِنْدِ اللّهِ و لو كان أقلّ قليل في الآخرة خَيْرٌ لهم و أنفع من الدنيا و ما فيها، لبقائه و زواله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و يدركون حقائق الامور.

سورة البقرة (2): الآیات 104 الی 105

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

ص: 305

سورة البقرة (2): آیة 104

ثمّ ذكر اللّه تعالى في عداد قبائح أعمال اليهود إساءتهم الأدب بساحة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث كانوا يخاطبونه بقولهم: راعنا.

قيل: كانت هذه اللفظة في اصطلاحهم بمعنى اسمع غير مسمع(1).

و قيل: كانت مستعملة عندهم في الهزء و السّخرية(2).

روي أنّ سعد بن عبادة سمعها منهم، فقال: يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه، و الذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأضربنّ عنقه. قالوا: أو لستم تقولونها؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا - للنبي صلى الله عليه و آله - راعِنا (3).

قيل: إنّ المؤمنين كانوا إذا سمعوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شيئا من العلم، قالوا: راعنا يا رسول اللّه، أي انظرنا و تأنّ بنا حتّى نفهم، فلمّا سمع اليهود ذلك من المؤمنين اتّخذوه ذريعة لسبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله فنهى اللّه المؤمنين عن هذه الكلمة تعريضا على اليهود (4) ،بقوله: وَ قُولُوا انْظُرْنا أي انظر إلينا.

ثمّ وعظهم بقوله: وَ اسْمَعُوا لما يحكم به اللّه و يأمركم به الرّسول صلّى اللّه عليه و آله سماع طاعة و قبول، و لا تكونوا كاليهود حيث قالوا: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا (5).

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ لِلْكافِرِينَ الذين لا يسلكون معه مسلك الإعظام و التجليل، بل أهانوه بتعريضه للسّبّ و الاستهزاء كاليهود عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

روي عن ابن عبّاس: أنّ اللّه كان يخاطب في التّوراة بقوله: يا أيّها المساكين(6).

قيل: كرامة هذه الأمّة اقتضت مخاطبتهم بأشرف الأوصاف و هو الإيمان، و لمّا خاطب بني إسرائيل أوّلا بقوله: يا أيّها المساكين؛ أثبت عليهم آخرا المسكنة بقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ (7)

و لمّا خاطب امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أوّلا بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يرجى أن يختم لهم بالإيمان و الأمان من العذاب و الهوان(8).

سورة البقرة (2): آیة 105

ثمّ نبّه اللّه الرّسول و المؤمنين بغاية حسد أهل الكتاب و المشركين عليهم، و شدّة عداوتهم لهم بقوله: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود و النّصارى وَ لاَ الْمُشْرِكِينَ و ما يحبّون،

ص: 306


1- تفسير الطبري 374:1.
2- تفسير الرازي 224:3.
3- تفسير أبي السعود 141:1.
4- تفسير روح البيان 197:1.
5- البقرة: 93/2.
6- تفسير الرازي 223:3.
7- البقرة: 61/2.
8- تفسير الرازي 223:3 «نحوه».

بل يبغضون أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير مِنْ رَبِّكُمْ من الوحي و النبوّة و الآيات و النّصرة على الأعداء.

أمّا أهل الكتاب فلادّعائهم أنّهم أبناء الأنبياء و الناشئون في مهابط الوحي، فهم أولى بتلك الفضائل من المسلمين الّذين هم امّيّون، و أمّا المشركون فلغرورهم بالجاه و المال، و ظنّهم أنّ من له الرئاسة الدنيويّة أولى بالرئاسة الإلهيّة. و من البديهي أنّ الحسد لا أثر له.

وَ اللّهُ الذي بيده كلّ خير يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ و فضله و إحسانه مَنْ يَشاءُ من عباده على حسب قابليّته و استعداده وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على نبيّه و على المؤمنين، و لا يمنعه حسد الحاسدين.

سورة البقرة (2): آیة 106

اشارة

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

سورة البقرة (2): آیة 106

ثمّ أنّه لمّا كان من عقائدهم الفاسدة امتناع وقوع النّسخ في النبوّات و الأحكام الإلهيّة، و بهذا المبنى طعنوا في دين الاسلام و قالوا: إنّ محمّدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه، و يقول اليوم قولا و في الغد يرجع عنه (1) ؛ردّ اللّه عليهم بقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ برفع حكمها أَوْ نُنْسِها برفع رسمها و استلاب ذكرها و حفظها عن القلوب (2)نَأْتِ بِخَيْرٍ و أصلح مِنْها أَوْ نأت بآية مِثْلِها

في الصّلاح و النّفع و الحكمة؛ لظهور أنّ الوظائف الشّرعيّة و الأحكام الإلهيّة بالإضافة إلى الأمراض القلبيّة و الرّوحانيّة، كالأدوية بالنّسبة إلى الأمراض الجسمانيّة. فكما أنّ نفع الأدوية يختلف باختلاف الأمزجة و الأوقات، كذلك الأعمال و الوظائف الشّرعيّة، لبداهة اختلاف مصالحها باختلاف القرون و الأزمنة و تغيير الجهات.

في بيان جواز النسخ

إن قيل: كيف يصحّ النّسيان في الآيات و محو رسمها بالكلّيّة مع قوله: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3) ؟

قلنا: صدق القضيّة الشرطيّة لا يلازم صدق طرفيها، و هذا كقولنا إن عدمت هذه الشّمس يأت اللّه

ص: 307


1- تفسير الرازي 226:3.
2- في النسخة: و استلاب عن القلوب ذكرها و حفظها.
3- الحجر: 9/15.

بشمس اخرى، مع أنّه معارض بقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ (1).

و روي أنّ قوما من الصّحابة قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلاّ البسملة، فغدوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أخبروه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «تلك سورة رفعت بتلاوتها و أحكامها »(2).

و أمّا الآية فيتمكن أن يكون المراد منها أنّ اللّه حافظ له من تغيير الخلق لا من تغيير نفسه إذا اقتضته الحكمة و المصلحة.

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على تصريف المكلّف تحت مشيئته و حكمته و حكمه، لا دافع لما أراد، و لا مانع لما يختار، و ينزل الخير، و يختصّ به من يشاء، و ينسخ الحكم و يبدّل الآيات، و لا يسأل عمّا يفعل.

سورة البقرة (2): آیة 107

اشارة

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)

سورة البقرة (2): آیة 107

ثمّ قرّر سعة قدرته و أنّه مراع لصلاح المؤمنين و خيرهم ما هو أنفع بحالهم بقوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ

بنورانيّة قلبك و كمال معرفتك أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بالملكيّة الحقيقيّة الإشراقيّة، له التصرّف فيهما و فيما خلق بينهما تصرّف السّلطان المطلق في مملكته وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ و من ما سواه مِنْ وَلِيٍّ و قيّم بالامور وَ لا نَصِيرٍ و معين فهو يقلّبكم بمشيئته و يتصرّف فيكم بإرادته، فلا ناصر لكم غيره، و لا قادر في الوجود الاّ ذاته.

سورة البقرة (2): آیة 108

اشارة

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

سورة البقرة (2): آیة 108

ثمّ إنّه قيل: لمّا اقترح اليهود على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن ينزّل عليهم كتابا من السّماء، كما حكى اللّه عنهم في سورة النساء بقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ (3) الآية، و اقترح عليه المشركون و قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ

ص: 308


1- الأعلى: 6/87 و 7.
2- تفسير روح البيان 201:1.
3- النساء: 153/4.

يَنْبُوعاً (1) إلى آخرها؛ وجّه اللّه الخطاب إلى جميعهم بنحو الإضراب عن ذكر سائر قبائح أعمالهم إلى الإنكار عليهم هذه الاقتراحات بقوله: أَمْ تُرِيدُونَ و هل تعزمون أيّها اليهود و المشركون أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ و تقترحوا عليه كَما سُئِلَ مُوسى و اقترح عليه مِنْ قَبْلُ بقولهم أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً (2) و قولهم: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (3) فإنّ هذه الاقتراحات لا تكون الاّ من الإصرار على الكفر و الإعراض عن الإيمان.

وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ و يختاره لنفسه عوضا عنه فَقَدْ ضَلَّ و أخطأ سَواءَ السَّبِيلِ

و وسط الطّريق الذي يوصله إلى كلّ خير في الدنيا و إلى رحمة اللّه و نعيم الأبد في الآخرة، و أخذ في الطّريق المؤدّي إلى نقمة اللّه و العذاب الدائم.

سورة البقرة (2): آیة 109

اشارة

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109)

سورة البقرة (2): آیة 109

ثمّ إنّه روي أنّ فنحاص(4) بن عازوراء و زيد بن قيس و نفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان و عمّار بن ياسر رضي اللّه عنهما بعد وقعة أحد: أ لم تروا ما أصابكم ؟ و لو كنتم على الحقّ ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم و أفضل، و نحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمّار: كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا: شديد. قال: فإنّي عاهدت أن لا اكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله ما عشت. فقالت اليهود: أمّا هذا فقد صبأ.

و قال حذيفة: أمّا أنا فقد رضيت باللّه ربّا، و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله نبيّا، و بالاسلام دينا، و بالقرآن إماما، و بالكعبة قبلة، و بالمؤمنين اخوانا.

ثمّ أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبراه، فقال: «أصبتما خيرا و أفلحتما »(5).فنزلت: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و تمنّوا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ و يصيّرونكم بشبهاتهم و حيلهم و تسويلاتهم مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ

بالرّسول و معرفتكم الحقّ و وضوح آياته كُفّاراً بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه مرتدّين عن دين الإسلام

ص: 309


1- الإسراء: 90/17.
2- النساء: 153/4.
3- الأعراف: 138/7.
4- في النسخة: فنيحاص.
5- تفسير الرازي 236:3، تفسير أبي السعود 145:1.

مع علمكم بنهاية شناعة الكفر بعد الإيمان الراسخ.

و من البديهيّ أنّ هذا الودّ و التمنّي ليس لأجل تديّنهم و معرفتهم بحقّانيّة مذهبهم و نصحهم لكم، بل كان حَسَداً عليكم و تشهّيا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ و من خبث ذاتهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ و ظهر لَهُمُ الْحَقُّ من نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و حقّانيّة دينه و كتابه بدلالة المعجزات السّاطعة و الآيات الباهرة، و لما عاينوا من إخبار التّوراة بظهوره و أوصافه و علائمه المنطبقة عليه.

روي أنّ جماعة استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في أن يقتلوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بانفسهم، و دعوا المسلمين إلى الكفر (1) ،فنزل: فَاعْفُوا من عقابهم وَ اصْفَحُوا عن تثريبهم و عتابهم حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ فيهم من القتل و التّعذيب إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ في كلّ وقت قَدِيرٌ لا يعجز عن الانتقام إذا حان حينه و آن أوانه، فلا تعجل عليهم.

روي عن ابن عبّاس: أنّه منسوخ بآية السّيف(2).

و عن الباقر عليه السّلام: أنّه لم يؤمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقتال حتّى نزل جبرئيل عليه السّلام بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (3) و قلّده سيفا، فكان أوّل قتال قتال أصحاب عبد اللّه بن جحش ببطن نخل، و بعده غزوة بدر(4).

سورة البقرة (2): آیة 110

اشارة

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

سورة البقرة (2): آیة 110

ثمّ إنّه بعد تكليف المؤمنين بالعفو و الصّفح لصلاح حالهم و سلامة أنفسهم من رحمة الكفّار، كلّفهم في حال الفراغ بالعبادات البدنيّة التي أهمّها الصّلاة بقوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة، ثمّ بالعبادات الماليّة التي أهمّها الزّكاة بقوله: وَ آتُوا الزَّكاةَ الواجبة، لصلاح حالهم و سلامة أنفسهم من نقمة اللّه. ثمّ بسائر العبادات بقوله: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح من النّوافل و الزّكاة المستحبّة و سائر أنواع البرّ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إمّا بصورته و حقيقته المثاليّة، بناء على تجسّم

ص: 310


1- تفسير روح البيان 204:1.
2- تفسير أبي السعود 146:1.
3- الحج: 39/22.
4- تفسير الرازي 245:3.

الأعمال كما هو مدلول كثير من الأخبار (1) ،أو بثوابه و جزائه.

ثمّ لزيادة التّرغيب على العمل أكّد ذلك بقوله: إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مطّلع، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فيجازيكم على القليل كما يجازي على الكثير.

سورة البقرة (2): الآیات 111 الی 112

اشارة

وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

سورة البقرة (2): آیة 111

ثمّ نقل أنّ وفد نجران لمّا قدموا المدينة اجتمعوا في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع اليهود، فكذّب بعضهم بعضا، فقالت اليهود لبني نجران: لن يدخل الجنّة إلاّ اليهود. و قال بنو نجران لليهود

: لن يدخلها إلاّ النّصارى (2).فحكى اللّه عنهم الدّعوى بقوله: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى و إتيان (كان) مفردا باعتبار لفظ الموصول و خبره و هو هود، و النّصارى جمعا باعتبار معنى الموصول و هو جمع، و (أو) التّرديديّة بلحاظ اختلاف القائلين، كما روي في شأن النّزول(3).

و لمّا كان دعوى كلّ طائفة مبنيّة(4) على حقّانيّة دينهم، ردّ اللّه عليهم بقوله: تِلْكَ المقالة التي يدّعونها أَمانِيُّهُمْ و أهواؤهم الباطلة، و من جملة مشتهياتهم الزائغة التي لا حجّة لهم عليها.

قُلْ يا محمّد: هاتُوا و أحضروا بُرْهانَكُمْ و حجّتكم على دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

فيما تدّعونه.

في عدم صحّة التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقاء الشريعة و نبوة النبيّ السابق

إن قيل: برهانكم على اختصاص الجنّة بهم ثبوت حقّانيّة دينهم، و عدم ثبوت نسخه.

قلت: لا يكفيهم هذا، بل يجب عليهم إقامة البرهان على بقاء دينهم، فكما أنّ الشّريعة الجديدة محتاجة إلى البرهان القاطع، كذلك بقاء الشّرع السابق محتاج إلى الحجّة و الدّليل الساطع، و لا يكفي استصحاب بقاء نبوّة النبيّ السّابق و شريعته، لأنّ الاستصحاب إن كان حجّة في الشّرع السابق فبقاؤه أوّل الكلام، و إن كانت حجّيّته في الشّرع اللاحق، فالمفروض أنّ المتمسّك به لا يعترف بالشّرع اللاّحق، مع أنّه على فرض حجّيّته في الشّريعتين فإنّما

ص: 311


1- راجع: بحار الأنوار 4/44:74.
2- تفسير روح البيان 206:1.
3- راجع تفسير الرازي 3:4.
4- في النسخة: مبنيا.

هو في الفروع و الأحكام العمليّة لا في اصول الدّين؛ لأنّه لا بدّ فيها من القطع و اليقين، و لا يفيد الظّنّ و التّخمين كما قال تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (1).

في إبطال القول بامتناع النسخ في الأحكام

فإن قيل: هذا مبنيّ على إمكان النّسخ، و اليهود قائلون بامتناعه لأنّه يؤول إلى البداء، و هو محال على اللّه.

قلنا: أوّلا: ليس في الحقيقة و الواقع نسخ في الأحكام و الشّرائع بل الشّرع السّابق مقيّد بقاؤه بعدم بعث النّبيّ اللاّحق المبشّر به، فإذا بعث انقضت مدّته مع أنّه منقوض بنسخ شرع إبراهيم عليه السّلام بشرع موسى عليه السّلام، مضافا إلى أنّ من البديهي اختلاف مصالح الأحكام باختلاف الأشخاص و القرون و الأزمان، فقد يكون لحكم مصلحة في زمان، أو لطائفة دون زمان آخر و طائفة اخرى.

نعم، إذا أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ببقاء أحكامه و استمرارها إلى يوم القيامة، كما أخبر نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله بذلك، كشف عن جامعيّة أحكامه لمصالح عموم البشر إلى يوم القيامة بخلاف ما إذا لم يخبر بأبديّة دينه، بل كان بيانه مطلقا، فإنّه يحتمل وقوع التّغيير و النّسخ و إن ظنّ من جهة الإطلاق عموم حكمه للأزمنة المتأخّرة، و حينئذ فإذا دلّ دليل معتبر على النّسخ كشف عن خطأ العرف في فهم الاستمرار، و دلّ على كونه مغيّى.

و أمّا ما نقله اليهود من قول موسى عليه السّلام: تمسّكوا بالسّبت أبدا فغير ثابت، مع أنّه يمكن أن يراد منه دوامه ما دام بقاء شريعته، فيرجع إلى الإخبار بأنّ السّبت لا يتغيّر و لا ينسخ ما دام بقاء دينه، مع أنّه معارض بإخباره في عدّة مواضع من التّوراة بمجيء نبيّ آخر بعده.

سورة البقرة (2): آیة 112

فقول اليهود بأنّ الحقّ منحصر في اليهوديّة، و قول النّصارى بمثل ذلك، و دعوى كلّ طائفة منهم أنّه لا يدخل الجنّة غيرهم، بقول بلا برهان، بل البرهان على خلافه، حيث قال اللّه تعالى: بَلى يدخل الجنّة غيرهم بل هم لا يفوزون بها.

ثمّ كأنّ قائلا يقول: فمن يدخل الجنّة ؟ فقال: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ و بذل نفسه لِلّهِ بالانقياد و الخضوع و التذلّل في طاعته، و التجنّب عن اللّجاج و العناد و المعاصي خالصا للّه بلا شوب شرك و هوى وَ هُوَ مُحْسِنٌ لا يكون خضوعه بالأعمال القبيحة، كما نقل عن بعض المرتاضين في الهند

ص: 312


1- يونس: 36/10.

فَلَهُ أَجْرُهُ و ثوابه العظيم الذي أدناه الدّخول في الجنّة حال كونه ثابتا عِنْدَ رَبِّهِ اللّطيف به، المالك لأمره.

وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من انقطاع الثّواب و زوال النّعم و ممّا يشاهدون من عقاب الكفّار وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فائت عند الموت، حيث يبشّرهم ربّهم برحمة منه و رضوان و هم يقولون اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (1) و هذه نهاية السّعادة و غاية الاسترباح و الاستفادة. و إفراد الضّمير أوّلا باعتبار لفظ الموصول و جمعه(2) آخرا باعتبار المعنى.

سورة البقرة (2): الآیات 113 الی 114

اشارة

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)

سورة البقرة (2): آیة 113

ثمّ أنّه لمّا حكى اللّه تعالى دعوى اليهود و النّصارى صحّة دينهم، و كونهم على الحقّ ، و اختصاص الجنّة بهم، و توافقهم على أنّ المسلمين على الباطل حكى اللّه تعالى اختلافهم فيما بينهم، و أنّ كلّ واحد من الفريقين ينسب الآخر إلى الكفر و الضّلال من غير تأمّل في كتاب اللّه الذي بينهم حتّى يرشدهم إلى الحقّ بقوله: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ من دين الحقّ ، بل ما اعتقدوه باطل و كفر. وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ من دين الحقّ ، بل هم على كفر و ضلال وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الذي أنزله اللّه لرفع الاختلاف من التّوراة و الإنجيل، و لا يتأمّلون فيهما حقّ التأمّل حتّى يعرفوا الحقّ و يعلموا دين اللّه بدلالته، بل ما يقولونه ليس إلا عن تقليد و عصبيّة.

كَذلِكَ القول الباطل قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الدّين و الكتاب من المشركين مِثْلَ قَوْلِهِمْ إذ هم أيضا يكفّر بعضهم بعضا فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الذي هو يوم فصل القضاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في الدّنيا بأنّ يدخل جميعهم في النّار و يريهم أنّ الحقّ مع غيرهم، و يبيّن لهم

ص: 313


1- فاطر: 34/35.
2- في النسخة: و جمعيته.

ضلالهم و فسقهم.

في تحاكم اليهود و النصارى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السّلام: «إنّما نزلت لأنّ قوما من اليهود و قوما من النّصارى جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا محمّد، اقض بيننا. فقال صلّى اللّه عليه و آله: قصّوا عليّ قصّتكم. فقالت اليهود: نحن المؤمنون باللّه الواحد الحكيم، و أولياءه، و ليست النّصارى على شيء من الدّين و الحقّ . و قالت النّصارى: بل نحن المؤمنون باللّه الواحد الحكيم، و أولياؤه، و ليست هؤلاء اليهود على شىء من الحقّ و الدّين.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلكم مخطئون، مبطلون، فاسقون عن دين اللّه و أمره، فقالت اليهود: و كيف نكون كافرين و فينا كتاب اللّه التّوراة نقرأه ؟ و قالت النّصارى: كيف نكون كافرين و فينا كتاب اللّه الإنجيل نقرأه ؟ فقال رسول اللّه: إنّكم خالفتم أيّها اليهود و النّصارى كتاب اللّه فلم تعملوا به، فلو كنتم عاملين بالكتابين لما كفّر بعضكم بعضا بغير حجّة؛ لأنّ كتب اللّه أنزلها شفاء من العمى، و بيانا من الضّلالة، يهدي العاملين بها إلى صراط مستقيم، و كتاب اللّه إذا لم تعملوا به كان وبالا عليكم، و حجّة اللّه إذا لم تنقادوا لها كنتم للّه عاصين و لسخطه متعرّضين.

ثمّ أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على اليهود، فقال: احذروا أن ينالكم لخلاف أمر اللّه و خلاف كتابه ما أصاب أوائلكم الذين قال اللّه تعالى فيهم: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ» الخبر(1).

و الظاهر أنّهم لمّا تنازعوا و اكتفوا بالدّعوى بغير إقامة حجّة و برهان، أجابهم صلّى اللّه عليه و آله بأنّ كتاب اللّه انزل لرفع الاختلاف، فلو تأمّلتم فيه حقّ التأمّل، و تركتم العصبيّة و التّقليد، و أعطيتم النّظر فيه حقّه، لارتفع الخلاف من بينكم و هديتم جميعا إلى الحقّ .

و نقل أنّ وفد نجران لمّا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدّين، و كفروا بعيسى عليه السّلام و الإنجيل. و قالت النّصارى لهم نحوه، و كفروا بموسى عليه السّلام و التّوراة(2).

سورة البقرة (2): آیة 114

ثمّ أنّه تعالى لمّا حكى عن اليهود و النّصارى و المشركين دعوى كلّ واحد أنّه على الحقّ و أنّهم

ص: 314


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 325/544، و الآية من سورة البقرة: 59/2.
2- تفسير الرازي 7:4.

أولياء اللّه و أحبّاؤه، ردّهم بأنّهم أظلم النّاس، بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ و هي مساجد خيار المؤمنين، أو بلدة مكّة، أو المسجد الحرام، أو جميع وجه الأرض لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا »(1).

أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها بالمنع من عبادة اللّه فيها، حيث إنّ تعمير المساجد بكثرة العبادة أُولئِكَ المانعون عن ذكر اللّه السّاعون في تخريب بيوت اللّه ما كانَ يحقّ لَهُمْ

بعدل اللّه و حكمته أَنْ يَدْخُلُوها إن كان المراد بلدة مكّة و المسجد الحرام، أو يسكنوها ان كان المراد جميع وجه الأرض إِلاّ خائِفِينَ من سيوف المؤمنين و سياطهم، فهو وعد للمؤمنين بالنّصرة و استخلاص المساجد من سلطة الكفّار.

و قيل: إنّ المراد ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ بخشية و خضوع، فضلا عن الاجتراء على تخريبها(2).

و مع ذلك لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فضيع بطردهم عن الحرم، و منعهم أن يعودوا إليه، أو بضرب الجزية في حقّ أهل الذّمّة منهم، و بالقتل في حقّ أهل الحرب وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ في النّار بما ارتكبوا من الظلم العظيم، و هو أشدّ من خزي الدنيا و من كلّ عذاب. روي أن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.

عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام: «و لقد كان من المنافقين و الضعفاء و أشباه المنافقين قصدوا إلى تخريب المساجد بالمدينة و تخريب مساجد الدنيا كلّها بما همّوا [به] من قتل عليّ عليه السّلام بالمدينة و قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في طريقهم إلى العقبة» يعني [في] غزوة تبوك.

و قيل: إنّ سبب نزول الآية أنّ طيطوس(3) الرّوميّ ملك النّصارى و أصحابه غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، و سبوا ذراريهم، و أحرقوا التّوراة، و أخربوا بيت المقدس، و قذفوا فيه الجيف، و ذبحوا فيه الخنازير، و لم يزل خرابا حتّى بناه أهل الإسلام في أيّام عمر بن الخطّاب(4).

سورة البقرة (2): آیة 115

اشارة

وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)

سورة البقرة (2): آیة 115

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر المساجد و تخريبها، أشار إلى إنّه لا ينبغي أن يصير تخريب المساجد أو المنع

ص: 315


1- مجمع البيان 361:1.
2- تفسير أبي السعود 149:1، تفسير روح البيان 209:1.
3- في تفسير أبي السعود: طيطيوس.
4- تفسير أبي السعود 149:1.

من دخول الحرم أو المسجد الحرام صارفا للمؤمن عن الصّلاة و الاشتغال بذكر اللّه بقوله: وَ لِلّهِ

بالملكيّة الإيحاديّة اَلْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ و جميع الجهات، لا تختصّ به جهة و مكان فَأَيْنَما تُوَلُّوا في أيّ مكان، و تتوجّهوا بقلوبكم، و تستقبلوا بوجوهكم إلى اللّه بالدّعاء و الصّلاة النّوافل فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ و ذاته المقدّسة، إذ لا يخلو منه مكان. أو المراد: فثمّ مرضاته، حيث إِنَّ اللّهَ واسِعٌ

ذاتا و قدرة و فضلا و رحمة على عباده، يبيّن لهم ما فيه صلاحهم كي يصلوا إلى رضوانه عَلِيمٌ

بحقائق الامور و ما يصدر عن العباد من القيام بوظائف العبوديّة و التّفريط فيها.

في بيان معنى وجه اللّه

عن (التّوحيد) عن سلمان الفارسيّ ، في حديث الجاثليق الذي سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن مسائل فأجابه عنها، أنّ فيما سأله أن قال: أخبرني عن وجه الرّبّ تبارك و تعالى ؟ فدعا عليّ عليه السّلام بنار و حطب فأضرمه، فلمّا اشتعلت، قال [علي عليه السّلام]: «أين وجه هذه النّار»؟ قال النّصرانيّ : هي وجه من جميع حدودها.

قال عليّ عليه السّلام: «هذه النّار مدبّرة مصنوعة لا يعرف وجهها، و خالقها لا يشبهها وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ لا يخفى على ربّنا خافية »(1).

عن القمي رحمه اللّه: أنّها نزلت في صلاة النّافلة، تصلّيها حيث توجّهت إذا كنت في السّفر، و أمّا الفرائض فقوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2) يعني الفرائض لا تصلّيها إلاّ الى القبلة(3).

عن (الفقيه) عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يقوم في الصّلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا؟

فقال: «قد مضت صلاته، و ما بين المشرق و المغرب قبلة، و نزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ » الخبر(4).

في وجه رفع اليد و النظر إلى السماء عند الدعاء

قيل: لمّا نزل وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (5) قالوا: أين ندعوه ؟ فأنزل اللّه:

وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ .. الآية(6).

إن قيل: فما معنى رفع اليد و النظر إلى السّماء عند الدّعاء مع أنّ اللّه منزّه عن الجهة ؟

ص: 316


1- التوحيد: 16/182.
2- البقرة: 144/2.
3- تفسير القمي 59:1.
4- من لا يحضره الفقيه 846/179:1.
5- غافر: 60/40.
6- تفسير روح البيان 211:1.

قلنا: ليس رفع اليد لأنّ اللّه في جهة العلوّ، بل لأنّ في السّماء خزائن رحمته، و العرش مظهر استواء صفة رحمانيّته.

سورة البقرة (2): آیة 116

اشارة

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)

سورة البقرة (2): آیة 116

ثمّ أنّه بعد ما حكى اللّه تعالى تنازع كلّ فريق من اليهود و النّصارى و مشركي العرب في الحقّ و الدّين و وعد الحكومة بينهم في القيامة، حكم على بطلان دعوى جميعهم في الدنيا لقول كلّ طائفة، بما يحكم على خلافه بديهة العقل بقوله: وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً إذ قالت اليهود: عزير ابن اللّه، و قالت النّصارى: المسيح ابن اللّه، و قالت مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه.

ثمّ ردّ عليهم بقوله: سُبْحانَهُ إنّه منزّه عن التجسّم و الماهيّة و السّنخيّة(1) مع خلقه بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كلّه ملكه و تحت قدرته.

كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون مقرّون بعبوديّته طبعا و جبلّة، لا يجانسونه و لا يسانخونه. و الحال أنّه لا بدّ من السّنخيّة بين الوالد و الولد، و لمّا كان القنوت في أصل اللّغة بمعنى الدّوام، كان فيه إشعار بأنّ جميع ما في السماوات و الأرض بقاؤه به سبحانه لا تنقطع حاجته عنه، و التعبير بلفظ ما فِي السَّماواتِ مع أنّ كثيرا منها عقلاء للتّحقير بشأنها.

سورة البقرة (2): آیة 117

اشارة

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

سورة البقرة (2): آیة 117

ثمّ أنّه بعد بيان أنّ كلّ ما في السّماوات و الأرض ملكه و مخلوقه، بيّن أنّه أيضا بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و منشئهما من غير مثال.

عن الباقر عليه السّلام في تفسير البديع: «ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السّماوات و الأرضين و لم يكن قبلهنّ سماوات و لا أرضون. أ ما تسمع لقوله تعالى: وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ؟» الخبر(2).

ثمّ بيّن كيفية الإبداع بقوله: وَ إِذا قَضى أَمْراً و أراد شيء، كائنا ما كان فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ لا

ص: 317


1- السنخ: الأصل من كلّ شيء.
2- الكافي 2/200:1، و الآية من سورة هود: 7/11.

بصوت يقرع، و لا بنداء يسمع، بل بصرف إرادته فَيَكُونُ و يوجد بمجرّد نفاذ قدرته، و لا يحتاج في خلقه إلى فكر، و استعانة بشيء، و تحقّق مادّة، و مضيّ مدّة، فتمّ البرهان القاطع على امتناع أن يكون شيء ممّا سواه ولدا له، حيث إنّ لازم الولادة هو الحدوث و المسبوقيّة بالعدم، و كلّ مسبوق بالعدم مخلوق بإفاضة الوجود عليه من الواجب، و المخلوق لا يعقل أن يكون ولدا لخالقه، و الوالد لا يمكن أن يكون موجدا و مالكا. و لذا احتجّ في مواضع من الكتاب العزيز على القائلين بأن اللّه ولدا بأنّ من في السّماوات و الأرض عبيد له، و أنّه إذا قضى أمرا يقول له: كن فيكون.

سورة البقرة (2): آیة 118

اشارة

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

سورة البقرة (2): آیة 118

ثمّ إنّه تعالى لمّا بيّن شركهم و اتّخاذهم الولد للّه، عقّبة بذكر شبهاتهم السّخيفة في النبوّة، و إنكارهم لها عن تعنّت و عناد بقوله: وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من جهلة قريش و المشركين و سفهاء أهل الكتاب لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللّهُ كما تدّعي أنّه كلّم موسى في الطّور و كلّمك في معراجك أَوْ تَأْتِينا

من السّماء. آيَةٌ من كتاب و صحيفة، كما قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (1) و قال: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ (2).

و تقرير الشبهة أنّ اللّه حكيم، و الحكيم إذا أراد الوصول إلى غرض لا بدّ أن يختار أقرب طرق الوصول إليه، فإذا أراد اللّه تعالى هدايتنا، فأقرب الطرق إليها أن يكلّمنا بنفسه مشافهة، كما كلّم الملائكة و الأنبياء فإنّه أقرب إلى التّصديق و أبعد من الشّكوك و الشبهات، أو ينزّل عليها كتابا يصرّح فيه بنبوّتك، فردّ اللّه عليهم بقوله: كَذلِكَ القول السّخيف قالَ الَّذِينَ كابروا أنبياءهم مِنْ قَبْلِهِمْ من الامم الماضية مِثْلَ قَوْلِهِمْ من التعنّتات و الاقتراحات، بل فاقوا عليهم بقولهم: أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً (3) و قالوا لعيسى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (4) فهؤلاء و السّابقون عليهم من المصرّين على الكفر تَشابَهَتْ و تماثلت قُلُوبُهُمْ في العمى و العناد و عدم التفقّه، لأنّ المكذّبين للرّسل طينتهم واحدة و أقوالهم و أفعالهم متماثلة.

قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ الباهرات، و أوضحنا صدقك بهذا القرآن الذي هو من أعظم المعجزات،

ص: 318


1- المدثر: 52/74.
2- النساء: 153/4.
3- النساء: 153/4.
4- المائدة: 112/5.

و مجيء الشّجر بأمرك، و تسبيح الحصاة في كفّك، و تكلّم الذئب معك، و إشباع الخلق الكثير بالطعام القليل لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بالحقائق.

فحاصل الجواب: أنّا قد أيّدنا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالآيات الباهرات و المعجزات الظاهرات، فإن كنتم طالبين لليقين فقد جاءكم بأزيد ممّا تحتاجون إليه من الدّلالات و البراهين، و إن كنتم تعنتون فلا يحسن إجابتكم.

سورة البقرة (2): آیة 119

اشارة

إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)

سورة البقرة (2): آیة 119

ثمّ لمّا كثر إصرارهم على الكفر و العناد، و اغتمّ قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله لذلك، سلّى سبحانه و تعالى قلب حبيبه حبّا له، و رحمة عليه، بقوله: إِنّا أَرْسَلْناكَ إليهم إرسالا مقرونا بِالْحَقِّ أو مصاحبا للكتاب المشتمل على حقائق المعارف و دقائق العلوم، لتكون أو حال كونك بَشِيراً بالثّواب لمن أطاعك وَ نَذِيراً بالعقاب لمن كفر و عصى، فليس عليك إتعاب نفسك في ازدياد الدّعوة و المبالغة في التّبليغ، فإنّه لا مزيد على ما فعلت، فلا يكثر همّك من إصرارهم على الكفر، و مكابرتهم للحقّ ، لأنّه ليس عليك تبعة سيّئاتهم.

وَ لا تُسْئَلُ يوم القيامة عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ و لا تؤاخذ بعصيانهم و كفرهم، فإنّ ضررهما راجع إلى أنفسهم لا إليك.

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه على النّهي »(1).

أقول: قرأ به نافع أيضا (2) ،و على هذا يكون نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله عن السؤال لأجل الإشعار بأنّ شدّة عذابهم و سوء حالهم ممّا لا يسعه البيان.

في تغليط ما روته العامة في كفر والدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و الاستدلال على براءة آبائه و امهاته من الشرك

ثمّ اعلم أنّ من أغلاط كثير من العامّة أنّ النّهي كان عن سؤال النبي صلّى اللّه عليه و آله عن حال أبويه حيث رووا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت(1).

أقول: ليت شعري، كيف يمكن خفاء كذب هذه الرواية على من له أدنى مرتبة [من] الشعور و الدراية، لبداهة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان أعلم الخلق بأنّ الكفّار معذّبون بالنّار، و كان أعرف النّاس بعقائد أبوية، فمع اطّلاعه بكفرهما - تعاليا عن ذلك - كيف يجوز

ص: 319


1- تفسير الرازي 30:4، تفسير روح البيان 216:1.

عليه إظهار الشّكّ و التّرديد في حالهما في الآخرة بقوله: «ليت شعري ما فعل أبواي ؟» مع أنّ الأنبياء خصوصا خاتمهم لا بدّ من كونهم منزّهين من كلّ شين، و أيّ شين أعظم من كفر الأبوين!

مع أنّ اللّه تعالى أمر خليله إبراهيم عليه السّلام بتطهير بيته الخاصّ بعبادته من لوث المشركين و أرجاس الأوثان للطّائفين و العاكفين و الرّكّع السّجود، و كيف يمكن أن لا يطهّر بيتا خصّه بأنوار أنبيائه و نطف أصفيائه من أصلاب الآباء و أرحام الامّهات من دنس الشّرك و رجس الوثنيّة لهم عليهم السّلام مع كونهم أفضل الرّاكعين و الساجدين(1) و العاكفين!

فآية طَهِّرْ بَيْتِيَ (2) دالّة بالفحوى على طهارة آباء الأنبياء و أمّهاتهم من الشّرك، و نزاهتهم من الكفر، هذا مضافا إلى دلالة أخبار كثيرة على أنّهم عليه السّلام لم يتولّدوا إلاّ من الأصلاب الشامخة الطّاهرة، و الأرحام المقدّسة المطهّرة، لم تنجّسهم الجاهليّة بأنجاسها(3).

سورة البقرة (2): آیة 120

اشارة

وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

سورة البقرة (2): آیة 120

ثمّ أنّه لمّا أراد اللّه راحة قلب حبيبه عن كثرة التّدبير لهداية اليهود و السّعي في دعوتهم إلى الحقّ ، و لم يمكن أن يحصل له الانصراف ما دام له رجاء فيهم، بالغ سبحانه في إقناط رسوله عن إيمانهم و قطع رجائه في اتّباعهم لدين الحقّ ، بقوله: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى بشيء من

ص: 320


1- في النسخة: الركعين و السجدين.
2- الحج: 26/22.
3- و نضيف هنا ما أورده الشيخ ابن شهرآشوب في (متشابه القرآن 64:2) حول هذه المسألة حيث قال في تفسير قوله تعالى: اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ [الشعراء: 218/26 و 219] الثعلبي و الواحدي و ابن بطة في كتبهم عن عطاء و عكرمة، عن ابن عباس: يعنى نذيرك من أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي حتّى أخرجك في هذه الامة، و ما زال يتقلب في أصلاب الأنبياء و الصالحين حتّى ولدته امه، و قد جاء في الخبر: فما زال ينقله من الآباء الأخاير و الامهات الطواهر، و قد من اللّه عليه بالآباء الطاهرة الساجدة، و لو عنى شيئا من الأصنام لما منّ عليه، لأنّ المنّ بالكفر قبيح. و قوله سبحانه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة: 84/9] يدل على أن آمنة بنت وهب كانت مؤمنة، لأنه روى مسلم في صحيحه في حديث بريدة: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله أتى إلى رسم قبر و جلس، و جلس النّاس معه حوله فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فقيل: ما يبكيك يا رسول اللّه ؟ قال: هذا قبر آمنة بنت وهب، و قد استأذنت ربي في زيارة قبر امي فأذن فزوروا القبور تذكركم الموت.

المداراة معهم و الإحسان إليهم حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ اليهوديّة و توافقهم في العقائد الفاسدة، و مع ذلك كيف تتوقّع أن يتّبعوا ملّتك الحقّ ؟

فإن سألوا منك الدخول في دينهم قُلْ ردّا عليهم: ليست اليهوديّة دين اللّه و هداه، بل إِنَّ هُدَى اللّهِ و دينه الذي رضي به و هو الإسلام هُوَ حقيق بأن يقال له: اَلْهُدى و طريق مؤدّ إلى رضوان اللّه و رحمته، و أمّا اليهوديّة فإنّ أتباعها أتباع الهوى و عين الضّلال، و اللّه منها بريء.

ثمّ هدّد اللّه على اتّباعها بقوله: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ و أنت أحبّ الخلق إليّ ، و أشرف الممكنات لديّ أَهْواءَهُمْ النّفسانيّة و عقائدهم الناشئة عن القوى الشّهوانيّة الّتي سمّوها دين اليهوديّة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بدين الحقّ على الفرض المحال، يعاقبك اللّه عليه، و ما لَكَ مِنَ اللّهِ و بأسه مِنْ وَلِيٍّ و صديق يشفع لك وَ لا نَصِيرٍ و معين يدفع العقاب عنك. و فيه نهاية التّهديد على اتّباع الهوى بعد وضوح الهدى و قيام الحجّة، كما أنّ في قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لئن عصيت لهويت »(1).غاية الوعيد للعصاة.

سورة البقرة (2): آیة 121

اشارة

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)

سورة البقرة (2): آیة 121

ثمّ إنّه لمّا كان مجال أن يقال: إنّ ملّة اليهوديّة هي الهدى لأنّها ممّا جاء به موسى عليه السّلام، و دلّت عليه التّوراة، فاليهود آخذون ملّتهم من نبيّ اللّه و كتابه، فلا بدّ أن يكون هدى اللّه، دفع اللّه هذا التوهّم بقوله:

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ المعهود الذي نزل على موسى، و هم يَتْلُونَهُ متدبّرا فيه و يقرءونه متفكّرا في معانية و حقائقه، و ذلك يكون حَقَّ تِلاوَتِهِ علموا بدلالته أنّ دين موسى و كتابه منسوخان، و عرفوا أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله نبيّ ، و كتابه حقّ ، فالإيمان بالتّوراة ملازم للإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.

فالذين يؤمنون من أهل الكتاب بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله أُولئِكَ الّذين يصدّقون بكتاب التّوراة و يُؤْمِنُونَ بِهِ و يختصّون من بين اليهود باتّباعه، كبعد اللّه بن سلاّم و أضرابه.

و أمّا من كفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه مع دلالة التّوراة على صدقهما، فهو كافر بكتاب التّوراة، و مكذّب له وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ و لا يتّبع ما فيه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في صفقتهم، المغبونون في تجارتهم،

ص: 321


1- الارشاد/للشيخ المفيد 182:1، بحار الأنوار 467:22.

إذ لا دين لهم و لا إيمان، لا بموسى و لا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هذا جار في هذه الأمّة الذين اوتوا القرآن، حيث إنّ المؤمنين به هم الذين يتلونه حقّ تلاوته، و يتدبّرون فيه، و يتّبعون أحكامه.

عن (المجمع) و (العيّاشيّ ) عن الصادق عليه السّلام: «يتلونه حقّ تلاوته بالوقوف عند ذكر الجنّة و النّار(1) ؛ يسأل في الأولى، و يستعيذ من الاخرى »(2).

و عن (الكافي) و (العياشي): «هم الأئمّة عليهم السّلام »(3).

سورة البقرة (2): الآیات 122 الی 123

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

سورة البقرة (2): آیة 122

ثمّ أنّه تعالى لمّا بدأ عند محاجّة اليهود بتذكيرهم نعمته التي أنعم بها عليهم إجمالا، ختم محاجّتهم به لتأكيد الحجّة، و إبلاغ النّصح، و الدّعوة إلى اتّباع الحقّ ، و التّسليم لدينه و أحكامه، و تصديق نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و كتابه المجيد بقوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ .

سورة البقرة (2): آیة 123

ثمّ أردفه بالتّهديد بما هدّدهم به أوّلا من قوله: وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و قد مرّ تفسيرهما(4).

قيل: نكتة تقديم عدم قبول الفدية في الذكر هنا على عدم قبول الشّفاعة و تأخيره عليه في الآية السابقة، هي الإشارة إلى اختلاف النّاس في حبّ المال و علوّ النّفس، فمن كان حبّه للمال أكثر، يقدّم الاستشفاع على بذل المال، و من كان بالعكس كان عمله بالعكس.

سورة البقرة (2): آیة 124

اشارة

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (124)

سورة البقرة (2): آیة 124

ثمّ لمّا كان مشركو قريش و يهود المدينة من ولد إبراهيم عليه السّلام و كان هو عليه السّلام عظيما عندهم، بل عند

ص: 322


1- تفسير العياشي 189/152:1.
2- مجمع البيان 375:1.
3- الكافي 4/168:1، تفسير العياشي 188/152:1.
4- تقدم في تفسير الآية (48).

جميع الامم أشار سبحانه و تعالى إلى أنّه عليه السّلام لم ينل هذه الكرامة إلا بالتّوحيد و الطّاعة، و أنّه مع علوّ مقامه سأل اللّه تعالى كرامته لذرّيّته، فما اجيب في حقّ الظّالمين و العاصين منهم لعدم قابليّة الظالم و العاصي نيلها، بقوله: وَ إِذِ ابْتَلى و امتحن إِبْراهِيمَ رَبُّهُ برأفة ربوبيّته له، و كمال عنايته به بِكَلِماتٍ .

في ابتلاء إبراهيم عليه السّلام بكلمات، و المراد منها

قيل: المراد بها التّكاليف الشاقّة، و المصائب العظيمة، كإلقائه في النّار، و الختان و هو ابن مائة و عشرين سنة، و الهجرة من الوطن المألوف، و بناء البيت، و ذبح الولد(1).

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: ابتلاه اللّه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام (2) ؛عشر منها في سورة براءة اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... (3) إلى آخره، و عشر في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ ... (4) إلى آخره، و عشر في سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (5).

و ما عن القمّي رحمه اللّه: - هو ما ابتلاه به ممّا أراه في نومه من ذبح ولده فأتمّها إبراهيم عليه السّلام و عزم عليها و سلّم (6)- فمحمول على بيان أحد أفراد الكلمات.

و عن (الخصال) عن الصادق عليه السّلام: «هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، و هو أنّه قال:

يا ربّ أسألك بمحمّد(7) و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلاّ تبت عليّ ، فتاب [اللّه] عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم»(8) الخبر.

فَأَتَمَّهُنَّ : إبراهيم عليه السّلام و امتثلهنّ و قام بهنّ حقّ القيام.

عن الصادق عليه السّلام قال: «يعني أتمّهنّ إلى القائم عليه السّلام اثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين »(9).

و عن (العيّاشيّ ) قال: «أتمّهنّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و الأئمّة من ولد عليّ صلوات اللّه عليهم »(10).

أقول: الظاهر أنّ المراد من ابتلاء إبراهيم عليه السّلام بالأسماء المباركات تكليفه بمعرفة ذواتهم المقدّسة و التّصديق بفضلهم عليه و على سائر الخلق، فلمّا امتثله و كملت معرفته بهم إلى قائمهم، صار قلبه

ص: 323


1- تفسير الرازي 37:4 و 38 «نحوه».
2- في مجمع البيان: من شرائع الإسلام.
3- التوبة: 112/9.
4- الأحزاب: 35/33.
5- مجمع البيان 378:1، و الآيات من سورة المؤمنون: 1/23-10.
6- تفسير القمي 59:1.
7- في المصدر: بحق محمّد.
8- الخصال: 84/305، معاني الأخبار: 1/126.
9- الخصال: 84/305، معاني الأخبار: 1/126.
10- تفسير العياشي 193/153:1.

مخزن معرفة اللّه و وعاء علمه، فاستغرق في بحار أنوار رحمته، فعند ذلك أكرمه اللّه بغاية الكرامة، و شرّفه بمنصب الإمامة، و قالَ له ثوابا على القيام بالطاعة و الصّبر عليها: إِنِّي جاعِلُكَ و ناصبك لِلنّاسِ كافّة إلى قيام السّاعة إِماماً و مقتدى يأتمّون بك، و يهتدون بهداك، فلذلك اجتمع أهل الأديان كلّهم على تعظيمه و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باتّباع ملّته كما قال اللّه: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (1).

عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى اتّخذ إبراهيم عليه السّلام عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما، فلمّا جمع له الأشياء قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً فمن عظمها في عين إبراهيم عليه السّلام قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي » (2).

و في رواية عن الرضا عليه السّلام: «فقال الخليل عليه السّلام سرورا بها وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي » (3).قالَ اللّه عزّ و جلّ لا يَنالُ و لا يصل عَهْدِي و الإمامة التي أمرها بيدي اَلظّالِمِينَ من ذرّيتك، و العصاة من نسلك، فإنّ الإمام مانع عن الظلم، فلا يجوز أن يكون هو ظالما.

قال الرضا عليه السّلام: «فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، و صارت في الصّفوة »(4).

و في رواية: «من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما »(5).

و في اخرى، قال عليه السّلام: «لا يكون السّفيه إمام التّقيّ »(6).

و في هذه الرّوايات من التّعريض ما لا يخفى.

و في رواية القمّي رحمه اللّه: «ثمّ أنزل عليه الحنيفيّة، و هي الطّهارة، و هي عشرة أشياء؛ خمسة في الرأس، و خمسة في البدن، فأمّا التي في الرأس: فأخذ الشّارب، و إعفاء اللّحى، و طمّ الشّعر، و السّواك، و الخلال.

و أمّا التي في البدن: فحلق الشّعر من البدن، و الختان، و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة، و الطّهور

ص: 324


1- النحل: 123/16.
2- الكافي 2/133:1، الاختصاص: 22.
3- الكافي 1/154:1، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/217:1.
4- الكافي 1/154:1، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/217:1.
5- الكافي 1/133:1، الاختصاص: 23.
6- الكافي 2/133:1، الاختصاص: 22.

بالماء. فهذه الحنيفيّة الطاهرة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة »(1).

في أن الإمامة لا بد أن تكون بنصّه تعالى و ليس للخلق فيها نصيب

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذه الآية أقوى الأدلّة على أن الإمامة و هي الولاية العامّة و المطاعيّة المطلقة لا بدّ أن تكون بجعل اللّه و نصبه، ليس للنّاس نصيب للتّصريح فيها، على أنّها عهد اللّه، فلا يعقل أن يكون جاعله غيره، و لدلالتها على أنّها مرتبة شامخة فلا يليق أن يكون جاعلها غير اللّه، مع أنّه لو أمكن جعلها من قبل النّاس لما سأل ابراهيم عليه السّلام ربّه أن يجعلها لذرّيته، لإمكان أن يوصي لامّته أن يجعلوها فيهم.

في الاستدلال على وجوب عصمة الأئمة عن المعصية و الخطإ و السهو و النسيان، و كونه عالما بالأحكام و مصالح النّاس

ثمّ اعلم أنّ في الآية دلالة واضحة على لزوم كون الإمام معصوما من المعاصي و الزّلل لوجهين:

الأول: أنّ معنى لفظ الإمام هو من يجب الائتمام به في جميع أقواله و أفعاله، و اتّباعه في جميع أوامره و حركاته و سكناته، و من البديهيّ أنّ من يمكن صدور المعصية منه لا يمكن وجوب اتّباعه على الإطلاق، للزوم إمكان اجتماع الأمر و النّهي، و هو بديهيّ البطلان كوقوعه.

و الثاني: قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ حيث إنّ الظّالم صادق على من تلبّس بمعصيته و لو كانت صغيرة، فصدق عنوان الظّالم و العاصي على أحد في زمان ملازم لحرمانه عن نيل هذا المقام الشامخ أبدا.

ثمّ اعلم أنّها كما تدلّ على لزوم كونه معصوما عن المعاصي، تدلّ على لزوم كونه معصوما عن الخطأ و السّهو و النّسيان لعدم إمكان وجوب اتّباع من أمكن في حقّه ذلك على الإطلاق لما ذكر.

ثمّ لا بدّ أن يكون الإمام عالما بجميع الأحكام حتّى لا يأمر بخلاف ما أمر اللّه و لا يحكم بغير حكمه، بل لا بدّ أن يكون عالما بجميع مصالح الخلق و مفاسدهم، حتّى لا يأمر أحدا بما فيه فساده، و لا ينهاه عمّا فيه صلاحه، و أن يكون أعلم النّاس، و إلاّ لا يكون إماما لجميعهم، بل يكون مأموما لمن يكون هو أعلم منه.

إذا تمهّد ذلك فاعلم أنّه لم تكن هذه الصّفات بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله إلاّ في عليّ عليه السّلام و أحد عشر من ولده، و لم يدّعها أحد لغيرهم، بل ثبت بالضّرورة و اتّفاق الأمّة أنّ غيرهم كانوا فاقدين لها، فوجب أن تكون

ص: 325


1- تفسير القمي 59:1.

الإمامة مختصّة بهم، و عدم صلاحيّة غيرهم لها.

في أنّ الشيخين لم يكونا صالحين للخلافة الإلهية

و الحاصل: أنّ الآية الكريمة ظاهرة الدلالة باتّفاق أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه عليهم على عدم صلاحيّة أبي بكر و عمر للإمامة لوجوه:

منها: أنّهما كانا مشركين باتّفاق الأمّة، و الشّرك ظلم لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (1) فوجب عدم صلاحيّتهما للإمامة بهذه الآية.

إن قيل: إنّهما لم يكونا مشركين في زمان الإمامة ؟

قلنا: صدق مفهوم الظالم عليهما في زمان مخرج لهما عن صلاحيّتها أبدا، كما أنّ صدق السارق على أحد في زمان موجب لقطع يده أبدا، و ليس الحكم دائرا مدار صدق العنوان، لأنّه علّة محدثة لا مبقية حتّى يبقى ببقائه و ينتفي بانتفائه، و الشاهد على ذلك حكم العقل بعدم تناسب الذّوات التي فيها شائبة الخباثة و الدّناءة مع هذه المرتبة الشامخة الإلهيّة.

و منها: أنّ من كان مذنبا في الباطن و السّرّ، كان ظالما في الواقع و إن لم يطّلع عليه أحد، و إذا لم تعرف طهارة باطنة لا يجوز أن يحكم بإمامته، فوجب أن يكون معصوما حتّى يعلم عدم كونه ظالما في الباطن، و لا تعلم العصمة إلاّ بنصّ اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا لم يعرف أنّ أبا بكر و عمر ما كانا ظالمين في الظاهر و الباطن لاتّفاق الأمّة على أنّهما لم يكونا معصومين، لم يجز أن ينصّبا للإمامة، و وجب أن لا تتحقّق إمامتهما.

قال الفخر الرازي: استدلّ الشيعة بهذه الآية على وجوب عصمة الإمام عن المعصية ظاهرا و باطنا، و أمّا نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك، إلاّ أنّا تركنا اعتبار الباطن، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة(2).

أقول: في هذا الجواب ما لا يخفى من الوهن.

في أنّ الآيات الدالة على عصيان الأنبياء مؤوّلة

إنّ قيل: إنّ اللّه تعالى حكى عن يونس عليه السّلام أنّه قال: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ (3) و عن آدم عليه السّلام أنّه قال: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا (4) و عن موسى عليه السّلام أنّه قال:

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي (5) فلا يكون الظلم منافيا للنبوّة.

قلنا: إنّ إطلاق الظلم و إنّ كان منصرفا إلى ارتكاب المنهيّات التّحريميّة، إلاّ أنّه لا بدّ من تأويله في

ص: 326


1- لقمان: 13/31.
2- تفسير الرازي 42:4.
3- الأنبياء: 87/21.
4- الأعراف: 23/7.
5- النمل: 44/27.

موردهم إلى ارتكاب النّواهي التنزيهيّة بالقرينة القطعيّة، و هو ثبوت عصمتهم عليهم السّلام.

سورة البقرة (2): آیة 125

اشارة

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

سورة البقرة (2): آیة 125

ثمّ أنّه تعالى لمّا وهب لإبراهيم عليه السّلام منصب الإمامة و أكرمه به، شرّفه بتشريفات لم يشرّف بها أحدا من أنبيائه، منها: أنّه جعل البيت الذي بناه بيده و الحجر الذي قام عليه شرفا عظيما و فضلا جسيما، فلذا نبّه سبحانه بشرفهما بعد تشريفه عليه السّلام بالإمامة، بقوله: وَ اذكر إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الذي بناه إبراهيم عليه السّلام و هي الكعبة المعظّمة مَثابَةً و مرجعا و معادا، أو معبدا لِلنّاسِ كافّة من الموحّدين و المشركين إلى يوم القيامة.

عن ابن عبّاس: أنّه لا ينصرف [عنه] أحد إلاّ و [هو] يتمنّى العود إليه(1).

و قيل: إنّ المثابة هي(2) محلّ الثّواب، حيث إنّ النّاس يحجّون إليه فيثابون به(3).

وَ جعلناه أَمْناً و مأمنا، عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «من دخل الحرم من النّاس مستجيرا [به] فهو آمن من سخط اللّه عزّ و جلّ ، و من دخله من الوحش و الطّير كان آمنا من أن يهاج حتّى يخرج من الحرم »(4).

و نقل أنّ أهل الجاهليّة كانوا متمسّكين بتحريمه لا يهيجون على أحد التجأ إليه، و قد أخذوه من دين إسماعيل(5).

و نقل أنّ كلب الصّيد كان يهمّ بالضّبي فيفرّ الضّبي منه فيتبعه حتّى إذا دخل الضّبي الحرم لم يتبعه الكلب(6).

و الروايات في تحريم مكّة كثيرة جدّا، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللّه حرّم مكّة، و إنّها لم تحلّ لأحد قبلي، و لا لأحد بعدي، و إنّما احلّت لي ساعة من نهار، و قد عادت حرمتها كما كانت »(7).

ص: 327


1- تفسير الرازي 46:4.
2- في النسخة: مثابة هو.
3- مجمع البيان 383:1.
4- الكافي 1/226:4.
5- تفسير الرازي 47:4.
6- تفسير الرازي 47:4.
7- تفسير الرازي 47:4.

و قيل: إنّه موضع آمن من القحط و الجدب(1) لقوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ (2).

وَ قلنا: اِتَّخِذُوا يا عبادي، و اختاروا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ و هو الحجر الذي عليه أثر قدمه مُصَلًّى.

شرح مقام إبراهيم عليه السّلام

عن الباقر عليه السّلام في رواية: «و لقد وضع عبد من عباد اللّه قدمه على صخرة، فأمرنا اللّه تبارك و تعالى أن نتّخذها مصلّى »(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «يعني بذلك ركعتي طواف الفريضة »(4).

روي أنّه لمّا أتى إبراهيم بإسماعيل و هاجر، و وضعهما بمكّة و أتت على ذلك مدّة و نزلها الجرهميّون، و تزوّج إسماعيل منهم امرأة و ماتت هاجر، استأذن إبراهيم عليه السّلام سارة في أن يأتي هاجر، فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل.

فقدم إبراهيم عليه السّلام و قد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت:

ذهب يتصيّد، و كان إسماعيل يخرج من الحرم يتصيّد. فقال لها إبراهيم عليه السّلام: هل عندك ضيافة ؟ قالت:

ليس عندي. سألها عن عيشهم فشكت إليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السّلام و قولي له: فليغيّر عتبة بابه.

و ذهب إبراهيم عليه السّلام، فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا و كذا - كالمستخفّة بشأنه - قال: فما قال لك ؟ قالت: قال: اقرئي زوجك السّلام و قولي له فليغيّر عتبة بابه. قال: ذلك أبي، و قد أمرني أن افارقك، الحقي بأهلك. فطلّقها و تزوّج منهم اخرى.

فلبث إبراهيم عليه السّلام ما شاء اللّه أن يلبث، ثمّ استأذن سارة في أن يزور إسماعيل، فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل. فجاء إبراهيم عليه السّلام حتّى انتهى إلى باب إسماعيل عليه السّلام فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ذهب يتصيّد و هو يجيء الآن إن شاء اللّه، فانزل رحمك اللّه.

قال: هل عندك ضيافة ؟ قالت: نعم. فجاءت باللّبن و اللّحم، و سألها عن عيشهم. قالت: نحن في خير و سعة. فدعا لهما بالبركة، و لو جاءت يومئذ بخبز [أو برّ] أو شعير أو تمر، لكانت أكثر أرض اللّه برّا أو شعيرا أو تمرا، و قالت له: انزل حتّى أغسل رأسك. فلم ينزل، فجاءت بالمقام فوضعته على

ص: 328


1- مجمع البيان 387:1.
2- القصص: 57/28.
3- تفسير العياشي 199/155:1.
4- التهذيب 454/138:5.

شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه و هو راكب، فغسلت شقّ رأسه الأيمن، ثمّ حوّلت إلى شقّ رأسه الأيسر فبقي(1) أثر قدميه(2) عليه(3).

و روي أنّ ابراهيم عليه السّلام قام على هذا الحجر و أذّن بالحجّ (4).

و في رواية: أنّ الرّكن و المقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة، و لو لا مماسّة أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق و المغرب(5).

و روي أنّه نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم عليه السّلام، و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود(6).

ثمّ من تشريفاته عليه السّلام ما ذكره اللّه ثانيا بقوله: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ و أمرناهما أمرا أكيدا و ألزمنا عليهما إلزاما شديدا أَنْ طَهِّرا و نزّها بَيْتِيَ من الأصنام و الأوثان.

عن الصادق عليه السّلام: «نحّيا عنه المشركين »(7).

و قيل: إنّ المراد نزّهاه عن جميع ما لا يليق به(8).

لِلطّائِفِينَ و هم الذين يطوفون به وَ الْعاكِفِينَ و هم الذين يقيمون فيه للعبادة وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ و هم المصلّون فيه.

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: أ يغتسلن النّساء إذا أتين البيت ؟ قال: «نعم، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ فينبغي للعبد أن لا يدخل إلاّ و هو طاهر قد غسل عنه العرق و الأذى و تطهّر »(9).

سورة البقرة (2): آیة 126

اشارة

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

سورة البقرة (2): آیة 126

و من تشريفاته عليه السّلام أنّه استجاب دعوته في حقّ ساكني مكّة و أهلها، كما قال تعالى: وَ إِذْ قالَ

ص: 329


1- زاد في النسخة: فيها.
2- في مجمع البيان: قدمه.
3- مجمع البيان 383:1.
4- تفسير روح البيان 226:1.
5- تفسير روح البيان 226:1.
6- مجمع البيان 383:1.
7- تفسير القمي 59:1.
8- تفسير الرازي 51:4.
9- تفسير العياشي 200/155:1، علل الشرائع: 1/411.

إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا المكان بَلَداً آمِناً قيل: أي مأمونا من الخسف و المسخ و القتل(1).

وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ و ساكنيه مِنَ الثَّمَراتِ و المأكولات التي تخرج من الأرض و الشجر، من الأطعمة و الفواكه، فجمع في دعائه لأهله بين الأمن و السّعة و طيب العيش.

ثمّ أنّه عليه السّلام لمّا رأى احتجاب دعائه بالإمامة لذرّيّته في حقّ الظالمين منهم، كأنّه احتمل احتجاب هذا الدعاء أيضا في حقّهم، فخصّه بالمؤمنين بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ.

و أخرج الظالمين عن مسألة درّ الرّزق عليهم، فدفع اللّه هذا التّوهم، و كأنّه قالَ : لا أخصّ الرّزق بالمؤمنين منهم، بل أرزق من آمن منهم وَ مَنْ كَفَرَ حيث إنّ النعم الدنيويّة ليست كالإمامة، بل تعمّ الكافر و المؤمن، إلاّ أنّ المؤمن تتّصل نعمه الدنيويّة بالنعم الأخرويّة، و أمّا الكافر فَأُمَتِّعُهُ تمتيعا قَلِيلاً من النعم الدنيويّة التي لا قدر لها في المدّة القليلة من عمره، ثمّ أقطعها عنه بموته ثُمَّ أَضْطَرُّهُ و ألجأه إِلى عَذابِ النّارِ الذي لا انقطاع له وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و المرجع ذلك العذاب الشّديد الدائم.

عن (العلل): عن الرضا عليه السّلام: «لمّا دعا إبراهيم عليه السّلام أن يرزق أهله من الثمرات، أمر بقطعة من الأردنّ فسارت بثمارها حتّى طافت بالبيت، ثمّ أمرها أن تنصرف إلى هذا الموضع الذي سمّي بالطائف، و لذلك سمّي طائفا »(2).

قال بعض: الأردنّ ، بضمّتين: كورة بالشّام(3).

قيل: إنّ وجه اختلاف هذه الآية مع ما في سورة إبراهيم (4)- حيث قال هنا: اِجْعَلْ هذا بَلَداً بغير اللاّم، و هناك مع اللاّم - أنّ دعوته هنا كانت قبل بناء البلد، و هناك بعد بنائه(5).

سورة البقرة (2): الآیات 127 الی 129

اشارة

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ

ص: 330


1- تفسير روح البيان 227:1.
2- علل الشرائع: 2/442.
3- معجم البلدان 176:1، لسان العرب 178:13.
4- في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ابراهيم: 35/14.
5- تفسير الرازي 55:4.

اَلْحَكِيمُ (129)

سورة البقرة (2): آیة 127

في شرح بناء الكعبة و فضلها

و من تشريفاته عليه السّلام أنّه امر ببناء الكعبة، فذكّر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله به بقوله: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ و الأساس من الكعبة، و كان أساسه من زمان آدم عليه السّلام ثمّ خرب بنيانه، فرفع إبراهيم عليه السّلام البنيان على ذلك الأساس.

روي أن آدم عليه السّلام اهبط بالهند فقال: يا ربّ ، ما لي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنّة ؟ قال: بخطيئتك، فانطلق إلى مكّة فابن بها بيتا تطوف به كما رأيتهم يطوفون(1).

أقول: يعني كما رأيتهم يطوفون حول العرش، أو بيت المعمور. قال: فانطلق إلى مكّة فبنى البيت، فكان موضع قدمي آدم قرى و أنهارا و عمارة، و ما بين خطاه مفاوز، فحجّ آدم البيت من الهند أربعين سنة.

و نقل أنّه سأل عمر كعبا، فقال: أخبرني عن هذا البيت. فقال: إنّ هذا البيت أنزله اللّه تعالى من السّماء ياقوته مجوّفة مع آدم عليه السّلام، فقال: يا آدم، إنّ هذا بيتي، فطف حوله، و صلّ حوله كما رأيت ملائكتي يطوفون حول عرشي و يصلّون. و نزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة فوضع البيت على القواعد، فلمّا أغرق اللّه قوم نوح، رفعه اللّه و بقيت قواعده(2).

و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «البيت المعمور بيت في السّماء يقال له الضّراح، و هو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السّماء كحرمة البيت في الأرض، يصلّي فيه كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة، لا يعودون فيه أبدا »(3).

و روي عنه عليه السّلام قال: «مرّ عليه الدّهر بعد بناء إبراهيم عليه السّلام فانهدم فبنته العمالقة، و مرّ عليه الدّهر فانهدم فبنته جرهم، و مرّ عليه الدّهر فانهدم فبنته قريش، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ شابّ . فلمّا أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أوّل رجل يخرج من هذه السكّة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثمّ ترفعه جميع القبائل، فرفعوا كلّهم فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوضعه »(4).

في وجه تسمية البيت بالحرام و الكعبة

و روي: أنّ الكعبة إنّما سميّت بيت [اللّه] الحرام، لأنّه حرّم على المشركين (5).و سمّي

ص: 331


1- تفسير الرازي 50:4.
2- تفسير الرازي 50:4.
3- تفسير الرازي 51:4.
4- تفسير الرازي 51:4.
5- علل الشرائع: 1/398.

الكعبة لأنّها مربّعة، و صارت مربّعة لأنّها بحذاء البيت المعمور و هو مربّع، و صار البيت المعمور مربّعا لأنّه بحذاء العرش و هو مربّع، و صار العرش مربّعا لأنّ الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع، و هي:

سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر(1).

و عن الزّهريّ أنّه قال: بلغني أنّهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه السّلام ثلاث صفوح في كلّ صفح منها كتاب، في الصّفح الأوّل: أنا اللّه ذو بكّة، صنعتها يوم صنعت [الشمس] و القمر،(2) الخبر.

في وجه تسمية البيت بالعتيق

عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا بلغ إسماعيل مبلغ الرّجال، أمر اللّه إبراهيم عليه السّلام أن يبني البيت، فقال: يا ربّ ، في أيّ بقعة ؟ قال: في البقعة التي انزلت بها على آدم القبّة فأضاء لها الحرم، و لم يدر إبراهيم عليه السّلام في أيّ موضع يبني، فإنّ القبّة التي أنزلها اللّه على آدم كانت قائمة إلى أيّام الطوفان أيّام نوح عليه السّلام.

فلمّا غرقت الدنيا رفع اللّه تلك القبّة و بقي موضعها لم يغرق، و لهذا سمّي البيت العتيق لأنّه اعتق من الغرق. فبعث اللّه جبرئيل فخطّ له موضع البيت، فأنزل عليه القواعد من الجنّة، و كان الحجر لمّا أنزله اللّه على آدم عليه السّلام أشدّ بياضا من الثّلج، فلمّا مسّته أيدي الكفّار اسودّ، فبنى إبراهيم عليه السّلام البيت»(3)

الخبر.

وَ إِسْماعِيلُ يعاونه، أو يرفعها معه. عن (الكافي) في رواية: «فلمّا أذن اللّه له في البناء قدم إبراهيم عليه السّلام فقال: يا بنيّ ، قد أمرنا اللّه ببناء الكعبة. و كشفا عنها، فإذا هو حجر واحد أحمر، فأوحى اللّه تعالى إليه أن ضع(4) بناءها عليه. و أنزل اللّه عزّ و جلّ أربعة أملاك يجمعون إليه الحجارة، فكان إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام يضعان الحجارة، و الملائكة تناولهما حتّى تمّت اثنا عشر ذراعا »(5).

و في رواية: بنى إبراهيم و إسماعيل البيت كلّ يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود(6).

قال أبو جعفر عليه السّلام: «فنادى أبو قبيس [إبراهيم عليه السّلام]: إنّ لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه »(7).

و عن (العلل) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أنزل الحجر [الأسود] لآدم عليه السّلام

ص: 332


1- علل الشرائع: 2/398.
2- تفسير الرازي 51:4.
3- تفسير القمي 61:1.
4- في النسخة: إليه أصنع.
5- الكافي 3/203:4.
6- الكافي 4/205:4.
7- الكافي 4/205:4.

من الجنّة إلى البيت درّة بيضاء، فرفعه اللّه إلى السّماء، و بقي اسّه. فهو بحيال هذا البيت، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، فأمر اللّه إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام ببنيان البيت على القواعد »(1).

في أنّ إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام كانا شريكين في رفع القواعد، و أن إسماعيل أول من نطق بالعربية

و اعلم أنّ ظاهر الآية المباركة و الروايات شركة إبراهيم و إسماعيل عليه السّلام في رفع القواعد و بناء البيت.

و في عدّة روايات اخر: أنّ إبراهيم كان متفرّدا في بناء البيت، و إسماعيل كان يناوله الأحجار (2) ،كما عن (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «أنّ إسماعيل أوّل من شقّ لسانه بالعربيّة، و كان أبوه يقول و هما يبنيان: هاي ابني (3) ،أي أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل بالعربيّة: يا أبه، هاك حجرا، فابراهيم يبني و إسماعيل يناوله »(4).

و لعلّ وجه الجمع أنّ إبراهيم عليه السّلام كان شغله منحصرا برفع البناء، و إسماعيل يشاركه في الرّفع و يناوله الحجر أيضا، و الملائكة كانوا يعاونونهما بإعطاء الحجر.

و هما في هذا الحال يدعوان و يقولان: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا عمل بناء بيتك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ

لدعائنا و مسألتنا اَلْعَلِيمُ بنياتنا و المشقّة التي نتحمّلهما خالصا لك، و تقربا إليك.

و في تخصيص الوصفين به تعالى إشعار بالتّوحيد الصّفاتي، كأنّهما قالا: إنّ سمع كلّ سميع و علم كلّ عليم منك و راجع إليك، و صفات غيرك مندكّة في صفاتك.

سورة البقرة (2): آیة 128

و أمّا الدّعوة الثانية، فقولهما: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا بتوفيقك و تأييدك مُسْلِمَيْنِ منقادين لَكَ

مسلّمين لأوامرك و حكمك، راضين بقضائك و قدرك، خالصين لوجهك، لا نعبد سواك و لا نتوجّه إلى غيرك وَ اجعل بعضا مِنْ ذُرِّيَّتِنا و نسلنا أُمَّةً و جماعة مُسْلِمَةً لَكَ .

و إنّما خصّا الدعاء ببعض ذرّيتهم لعلمهم من قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (5) بأنّه لا بدّ أن يكون بعضهم ظالما، و لم يعلما أنّ فيهم أهل التّسليم و التّفويض، و لذا سألا أن يجعل اللّه بعضهم مسلما مخلصا منقادا كي يكون صالحا للإمامة.

ص: 333


1- تفسير العياشي 203/156:1، علل الشرائع: 1/398.
2- تفسير الرازي 48:4.
3- في مجمع البيان: يا إسماعيل هات ابن.
4- مجمع البيان 389:1.
5- البقرة: 124/2.

و إنّما خصّا ذرّيّتهما بالدعاء لزيادة شفقتهما بهم، و كثرة ثوابهما بعبادتهم، و لأنّ في صلاح أولادهم و كونهم أنبياء صلاح عامّة الخلق.

عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام: «أراد بالامّة بني هاشم خاصّة »(1).

و عنه عليه السّلام: «هم أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و لم يزل في ذرّيّتهما الأنبياء و الرّسل و الأئمّة و الهداة »(2).

و أمّا الدّعوة الثالثة فقولهما: وَ أَرِنا و عرّفنا مَناسِكَنا و عباداتنا التي تلزمنا في هذا المقام.

في وجه تسمية عرفات و حكمة رمي الجمرات

نقل أنّ جبرئيل عليه السّلام أرى إبراهيم عليه السّلام المناسك كلّها حتّى بلغ عرفات، فقال: يا إبراهيم، أعرفت ما أريتك من المناسك ؟ قال: نعم، فسمّيت عرفات، فلمّا كان يوم النّحر أراد أن يزور البيت، عرض له إبليس فسدّ عليه الطّريق، فأمره جبرئيل عليه السّلام أن يرميه بسبع حصيّات، ففعل، فذهب الشّيطان، ثمّ عرض له في اليوم الثّاني و الثّالث و الرّابع، كلّ ذلك يأمره جبرئيل عليه السّلام برمي حصيّات(3).

و أمّا الدّعوة الرّابعة فقولهما: وَ تُبْ عَلَيْنا ممّا فرط منّا من ترك الأولى، و التّوجّه إلى غيرك فإنّ توبة الأنبياء لا تكون من ذنب بل من أحد الأمرين.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّه ليغان(4) على قلبي، و إنّي لأستغفر»(5) إلى آخره.

إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ لمن تاب إليك اَلرَّحِيمُ بمن استرحمك.

سورة البقرة (2): آیة 129

ثمّ ختما دعاءهما بقولهما: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ أي في ولد إسماعيل، أو في الأمّة المسلمة رَسُولاً كائنا مِنْهُمْ روي أنّه لم يبعث فيهم غير نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله(6).

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «أنا دعوة [أبي] إبراهيم»(7) و إنّما سألا أن يكون الرّسول في مكة من ذرّيّتهما ليكون بسبب النّسب أرأف و أشفق بهم، و أحرص على دعوتهم و هدايتهم و تربيتهم، و ليكون له عزّا و شرفا فوق الشّرف، فيقوم بدعوتهم و هدايتهم.

يَتْلُوا و يقرأ عَلَيْهِمْ آياتِكَ و دلائل توحيدك و كمال صفاتك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ المنزل

ص: 334


1- تفسير العياشي 206/157:1، مجمع البيان 393:1.
2- تفسير الصافي 173:1.
3- تفسير الرازي 62:4.
4- الغين: الغيم، و قيل: الغين شجر ملتفّ .
5- صحيح مسلم 2702/2075:4.
6- تفسير الصافي 173:1.
7- تفسير القمي 62:1، مجمع البيان 395:1.

من عندك بمعانيه و حقائقه بعد التّلاوة عليهم وَ يعلّمهم اَلْحِكْمَةَ و ما تكمل به نفوسهم من المعارف و الأخلاق و تمييز الحقّ من الباطل وَ يُزَكِّيهِمْ عن الرّذائل و العيوب و سيّئات الأخلاق حتّى يقوموا بطاعتك و عبوديّتك.

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الغالب الذي لا يغلب على ما يريد اَلْحَكِيمُ الذي لا يجهل شيئا، و لا يفعل على غير صلاح.

سورة البقرة (2): آیة 130

اشارة

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ (130)

سورة البقرة (2): آیة 130

ثمّ أنّه تعالى بعد ما وصف إبراهيم عليه السّلام بكونه إماما و متّبعا للعالمين و مشرّفا بتشريفات لم يشرّف بها أحد من النبيّين، و كونه أكمل الموحّدين، و أسلم المسلمين، و كان اللازم أن يحكم العقل بوجوب اتّباع مثل هذا النبيّ الكريم و الشخص العظيم، مع أنّ العقل حاكم بمختاره من التّوحيد و التّسليم، نبّه سبحانه على أنّه لا ينبغي لأحد أن يعرض عن اتّباعه، بل ينبغي أن يعدّ المعرض في زمرة السّفهاء و المجانين، بقوله في مقام التعجّب لمن كان أهله: وَ مَنْ يَرْغَبُ و يعرض عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ و هو التّوحيد و التّسليم إِلاّ مَنْ سَفِهَ و استخفّ و أمتهن نَفْسَهُ إذ كلّ من أعرض عن طريق يرغب فيه العقلاء و يوصل الساعي فيه إلى عزّ الدنيا و شرف الآخرة، لا ينبغي أن يحسب في زمرة العقلاء، بل هو أسفه النّاس.

ثمّ العجب من قريش و اليهود الذين أعظم مفاخرهم بالانتساب إلى إبراهيم عليه السّلام الذي قال سبحانه في حقّه: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ و اجتبيناه فِي الدُّنْيا إذ جعلناه أمّة قانتا، و مفخرا، و مطاعا للأمم العظيمة وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (1).

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ الّذين هم أكرم النّاس منزلة، و أرفعهم درجة، إنّهم كيف تركوا ملّته و لم يسلموا لرسول استجاب اللّه به و ببعثته دعوته!

في الاستدلال على النبوّة

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآيات و ما بعدها حجّة بالغة على اليهود و غيرهم على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و صدق دعواه، و أنّه المبعوث من اللّه للرّسالة، حيث إنّ دعوة إبراهيم عليه السّلام بأن يبعث

ص: 335


1- مريم: 50/19.

اللّه رسولا في مكّة كان من المسلّمات، و لم يظهر فيها مدّع للنبوّة إلاّ وجوده المقدّس، و كانت هذه الآيات بفصاحتها و اشتمالها على الأخبار الغيبيّة معجزة ظاهرة له، إذ لم يكن عليه السّلام قارئا للكتب و مجالسا لعلماء أهل الكتاب، فثبت أنّه صلّى اللّه عليه و آله هو مسئول إبراهيم عليه السّلام.

إن قيل: كيف يمكن القطع بأنّ جميع ما أخبر به من قصّة إبراهيم، من إتمامه الكلمات، و بناء البيت، و سائر الدعوات، كان مسلّما بين أهل الكتاب، و مسطورا في الكتب ؟

قلنا: لو لم يكن بينهم من الوضوح بمكان، لتسارعوا إلى تكذيبه مع شدّة عداوتهم و حرصهم على إطفاء نوره، و لو كذّبوه في هذه الامور لنقل إلينا، و لو بأخبار الآحاد.

عن (المجمع): عن السجاد عليه السّلام (1): «ما أحد على ملّة إبراهيم إلاّ نحن و شيعتنا، و سائر النّاس منها برآء »(2).

سورة البقرة (2): الآیات 131 الی 132

اشارة

إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

سورة البقرة (2): آیة 131

ثمّ ذكر اللّه علّة اصطفائه بقوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ حين خرج من الغار على ما قيل، بالإلهام في قلبه، و تقوية عقله، و تنفيذ بصيرته، و إرادة الآيات الباهرات أَسْلِمْ و أخلص وجهك للّه قالَ

إبراهيم عليه السّلام مبادرا إلى الطاعة و الانقياد باستعداده الكامل: أَسْلَمْتُ وجهي و أخلصت قلبي لِرَبِّ الْعالَمِينَ بالتّوحيد الكامل، و العرفان التّامّ .

و الظاهر أنّه كان إقراره بلسان حاله و رسوخ المعرفة في شراشر وجوده، لا بلسان قاله، فلمّا كملت نفسه بمعرفة اللّه بادر إلى الدّعوة إلى ملّة التّوحيد و الإسلام.

سورة البقرة (2): آیة 132

وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ قبل سائر النّاس شفقة بهم، قيل: كانوا أربعا و قيل: ثمان(3).

وَ يَعْقُوبُ : وصّى بها بنيه أيضا كجدّه إبراهيم عليه السّلام و كانت وصيّته أن قال: يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ

ص: 336


1- في المحاسن: الحسين بن علي عليهما السّلام.
2- المحاسن 54/147:1، تفسير الصافي 173:1، و لم نعثر عليه في مجمع البيان.
3- تفسير أبي السعود 163:1.

اِصْطَفى و استخلص لَكُمُ الدِّينَ المرضيّ له، و صفوة الأديان الذي اختاره الملائكة و الخلّصون من عباده، بأن نصب الدلائل الظاهرة عليه، و دعاكم إليه.

ثمّ عيّن ذلك الدّين صريحا، و أكّد في وجوب الالتزام به بقوله: فَلا تَمُوتُنَّ في حال من الأحوال إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للّه، موحّدون له. و المعنى: لا تفارقوا دين الإسلام في آن، كي لا يبادركم الموت و أنتم على غيره فيدرككم غاية الخسران.

قيل: في هذه الحكاية دلالة قويّة على أنّ الالتزام بدين الإسلام أهمّ الامور، حيث أمر إبراهيم عليه السّلام بعنوان الوصيّة، و هو آكد من الأمر، و خصّ بها بنيه الّذين كان أشفق عليهم من جميع الخلق، و ما مزج بهذه الوصيّة وصية اخرى، و عبّر عن حقّانيّته بأنّ اللّه اصطفاه لكم، و عمّهم بتلك الوصيّة، و ما قيّدها بزمان دون زمان و حال دون حال، و زجرهم عن أن يموتوا غير مسلمين(1).

ثمّ لمّا كان عليه السّلام مشهورا بالفضل و العقل و الصّلاح و حسن الطّريقة و متانة السّيرة، و مع ذلك اهتمّ بلزوم هذا الدّين نهاية الاهتمام، عرف أنّه أولى الامور و أحقّها به.

سورة البقرة (2): آیة 133

اشارة

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

سورة البقرة (2): آیة 133

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وصيّة إبراهيم و يعقوب عليهما السّلام، بيّن أنّ يعقوب عليه السّلام ما اكتفى بالوصيّة، بل أخذ من أولاده الإقرار و العهد على الالتزام به بقوله: أَمْ كُنْتُمْ قيل: إنّ المراد بل أ كنتم أيّها اليهود الحاضرون، أو معاشر المسلمين شُهَداءَ حضّارا إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ و حين احتضر و قرب وفاته ؟! و الاستفهام على الإنكار، و المعنى - و اللّه العالم - ما كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة، بل إن علمتم به فبالوحي.

إِذْ قالَ حينئذ شفقة لِبَنِيهِ و هم كانوا اثني عشر: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي و أيّ شيء تتّخذونه إلها بعد مفارقتي إيّاكم بالموت ؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ قيل: عدّ اسماعيل في الآباء لأنّ العمّ صنو الأب، و بمنزلته في التّعظيم(2).

ص: 337


1- تفسير الرازي 72:4.
2- تفسير الصافي 174:1.

ثمّ بعد هذا الإقرار الإجمالي صرّحوا بالتّوحيد لاطمئنان قلب يعقوب، بقولهم: إِلهاً واحِداً لا شريك له وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون.

قيل: إنّ اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديّة يوم مات ؟ فنزلت (1).و على هذا يمكن أن تكون كلمة (أم) وصليّة. و التّقدير: أ تدّعون هذا أم كنتم شهداء؟ يعني أ كان أوائلكم شاهدين و أنتم علمتم ذلك، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟

و عن بعض التفاسير: أنّ يعقوب عليه السّلام لمّا دخل مصر و رأى أهلها يعبدون النّيران و الأوثان خاف على بنيه الشّرك بعد وفاته، فوصّاهم بهذه الوصيّة، و أخذ منهم الإقرار تحريضا لهم على التمسّك بعبادة اللّه(2).

سورة البقرة (2): آیة 134

اشارة

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)

سورة البقرة (2): آیة 134

ثمّ لمّا كان اليهود يفتخرون بآبائهم إبراهيم و إسحاق، و يرون أنّهم لصلاح آبائهم لا يعذّبون؛ ردّهم اللّه تعالى بقوله: تِلْكَ أُمَّةٌ و جماعة قَدْ خَلَتْ و مضت، حال كونه لَها ما كَسَبَتْ و عملت، لا يرجع إليكم نفع أعمالهم وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من أعمالكم، لا يرجع إليهم ثوابها و نفعها وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ و لا تؤاخذون به. فلا تفخروا بأوائلكم إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام اذ لا ينفعكم حسناتكم، و لا يضرّكم سيّئاتهم.

سورة البقرة (2): آیة 135

اشارة

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

سورة البقرة (2): آیة 135

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة البراهين على ضلالة اليهود و النّصارى، بيّن أنّهم مع تلك الحجج القاطعة مصرّون على كفرهم و ضلالهم و اتّباع المسلمين لهم بقوله: وَ قالُوا للمسلمين كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى يعني قالت اليهود: كونوا هودا، و قالت النّصارى: كونوا نصارى، حتّى تَهْتَدُوا و تصيبوا طريق الحقّ .

قُلْ يا محمّد ردّا عليهم: لا نتّبع اليهوديّة و النّصرانيّة بَلْ نتّبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حيث كان

ص: 338


1- تفسير الصافي 174:1.
2- تفسير الرازي 76:4.

حَنِيفاً و مائلا عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ .

و في قوله: وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض عليهم و على غيرهم من أهل الشّرك، لأنّ كلا منهم كانوا يدّعون ملّة إبراهيم عليه السّلام و الحال أنّهم كاذبون، لأنّه ثبت أنّ إبراهيم عليه السّلام كان على التّوحيد، و اليهود كانوا مشركين بقولهم: عزير ابن اللّه، و النّصارى بقولهم بالتّثليث، أو إنّ المسيح ابن اللّه.

عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام قال: «[ان] الحنيفيّة هي الإسلام »(1).

و عن الباقر عليه السّلام، قال: «ما أبقت الحنيفيّة شيئا حتّى إنّ منها قصّ الشّارب، و قلم الأظفار، و الختان »(2).

سورة البقرة (2): آیة 136

اشارة

قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

سورة البقرة (2): آیة 136

ثمّ أنّه تعالى لمّا ردّ قول اليهود و النّصارى بأنّهم متّبعون دين اليهوديّة و النّصرانيّة عن تقليد و بغير دليل، و أنّه لو كان بناء الدّين على التّقليد كان تقليد إبراهيم عليه السّلام الذي عرف بالاستقامة أولى و أقرب إلى السّلامة، بيّن بطلان دينهم بالبرهان، بقوله: قُولُوا أيّها المؤمنون.

عن (الكافي) و (العياشي): عن الباقر عليه السّلام [قال]: «إنّما عنى بذلك عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جرت بعدهم في الأئمّة عليهم السّلام »(3).

آمَنّا بِاللّهِ و هو أوّل الواجبات العقليّة وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من اللّه، و هو القرآن بدلالة المعجزات الباهرات، و فيه الايمان بنبوّة من جاء به، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله وَ ما أُنْزِلَ من اللّه إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ و هم أحفاد يعقوب من أولاده الاثني عشر، و كان منهم كثير من الأنبياء.

عن (العيّاشي): عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: هل كان ولد يعقوب أنبياء؟ قال: «لا، و لكنّهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلاّ سعداء »(4).

و الظاهر أنّ المراد أنّه لم يكن جميعهم أنبياء.

ص: 339


1- تفسير العياشي 208/158:1.
2- تفسير العياشي 209/158:1.
3- الكافي 19/344:1، تفسير العياشي 212/159:1.
4- تفسير العياشي 211/159:1.

وَ ما أُوتِيَ من قبل اللّه مُوسى بن عمران من التّوراة وَ عِيسى بن مريم من الإنجيل وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من الصّحف و المعجزات حال كون جميعها منزلا مِنْ رَبِّهِمْ و نحن لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان بالبعض و الكفر بالبعض، كما أنتم تفرّقون بينهم بالإيمان و التّكذيب، مع أنّهم سواء في الحجج و الآيات الدالّة على صدقهم لو أنتم تقولون: إنّهم متفرّقون في اصول الدّيانات، و نحن نقول: إنّهم مجتمعون على اصول الإسلام.

وَ نَحْنُ باللّه مؤمنون، و لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون، نتّبع ما أمرنا ربّنا، و لا نتّبع هوى أنفسنا، فكلّ من ظهرت دلائل صدقه في دعوى النبوّة نصدّقه و نؤمن به، فلذا نؤمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حيث أظهر المعجزات و أقام الدلائل على صدقه كسائر الأنبياء.

سورة البقرة (2): آیة 137

اشارة

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

سورة البقرة (2): آیة 137

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن حقيقة الهدى التي تحكم العقول السّليمة بها، و هو الإيمان بجميع الكتب السّماويّة و سائر الأنبياء الذين أتوا بالمعجزات الباهرات، عارض قولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا (1) بقوله: فَإِنْ آمَنُوا اليهود و النّصارى و سائر الكفّار بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ من دين الإسلام و ما يشابهه في الصّحة و الاستقامة و السّداد، و أنّى لهم بتحصيل مثل هذا الدّين القويم! و قيل: معنى مثل ما آمَنْتُمْ ، هو ما آمنتم.

فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى طريق الفلاح و النّجاح، و إن لم يتمكّنوا من تحصيل دين مثله، فلا بدّ لهم من الإيمان به و الانقياد له.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن هذا الدّين، فأعرض عنهم فَإِنَّما هُمْ ثابتون مستقرّون فِي شِقاقٍ

و عناد و كفر و مشاقّة مع اللّه و رسوله.

ثمّ لمّا كان الشّقاق ممّا يؤدي إلى الجدال و القتال لا محالة، أردف ذلك بتسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تقوية قلوب المؤمنين بوعد النّصر و الغلبة بقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ و يدفعهم عنك.

قيل: معنى السّين أنّ ذلك كائن لا محالة، و إن تاخّر إلى حين (2).و فيه دلالة على صحّة النبوّة لإنجاز

ص: 340


1- البقرة: 135/2.
2- جوامع الجامع: 27.

اللّه وعده، فوافق المخبر الخبر.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لما ينطقون به و ما تدعوهم إليه اَلْعَلِيمُ بما يضمرونه، فيعاقبهم على ذلك، المحيط بما في نيّتك و إرادتك من إظهار الدّين، و هو مستجيب لك. و في هذا التّذييل تأكيد لما سبق من وعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالنّصرة و الغلبة، و وعد الكفّار بالقتل و الخزي.

سورة البقرة (2): آیة 138

اشارة

صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

سورة البقرة (2): آیة 138

ثمّ لمّا كان دأب النّصارى تغسيل أولادهم بماء أصفر، و يسمّونه المعموديّة، و لعلّه المشهور بغسل التعميد، و كان دأب اليهود على ما قيل صبغ أولادهم بالصّفرة، و كان كلّ طائفة يعدّون و يحسبون ذلك الغسل و الصّبغ طهارة لأولادهم، وصف سبحانه دين الإسلام الذي حقيقته الإيمان بالامور المفصّلة في الآية السابقة بقوله: صِبْغَةَ اللّهِ قيل: إنّ المعنى: قولوا: صبغنا اللّه صبغته (1).و فسّرها الصادق عليه السّلام بالإسلام كما عن (الكافي )(2).و قيل: هي فطرة التوحيد التي فطر النّاس عليها(3).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «هي صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق »(4).

قيل: إنّ اللّه تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا: آمنّا، و صبغنا اللّه بصبغة الإيمان، و أنتم صبغتم أنفسكم بصبغ الصّفرة، و صبغنا تطهير دون صبغكم، حيث طهّرنا من دناسة الشّرك و الكفر و العقائد الفاسدة، بنور التّوحيد و التّسليم و الولاية.

قال بعض المفسّرين: إنّ إطلاق الصبغة على العقائد الحقّة من جهة ظهور أثرها عليهم ظهور الصّبغ على المصبوغ و تداخلها قلوبهم تداخل الصّبغ الثّوب(5).

و قيل: إنّه من باب مجاز المشاكلة و الازدواج، لزعم أهل الكتاب أنّ الصّبغ بالصّفرة طهارة(6) كما مرّ.

في أنّ إطلاق الصّبغة على الاسلام و الإيمان على الحقيقة

و يمكن أن يقال إنّ إطلاق الصّبغ في الآية حقيقيّ بجميع تفاسيره، حيث إنّ للعقائد الحقّة من الإسلام و الإيمان و الولاية نورا في القلب و ضياء في النّفس. و كلّما اشتدّ اليقين بها، اشتدّ ذلك النّور حتّى يحيط بجميع الجوارح، كما أنّ للكفر و العقائد الفاسدة ظلمة محيطة. و من الواضح أنّ لون النّور في الأنظار هو البياض، و لون الظلمة

ص: 341


1- تفسير البيضاوي 90:1.
2- الكافي 2/12:2.
3- تفسير البيضاوي 90:1.
4- تفسير العياشي 214/159:1، تفسير الصافي 176:1.
5- تفسير البيضاوي 90:1، تفسير الصافي 176:1.
6- تفسير أبي السعود 168:1.

هو السّواد، و لذا قال اللّه تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ (1).

و روي: أنّ المؤمنين في القيامة غرّ محجّلون(2).

و في رواية: إن عمل خيرا ظهر في قلبه نقطة بيضاء، ثمّ تزداد حتّى تحيط به، و من عمل سوءا ظهر فيه نقطة سوداء(3).

و من الواضح أنّ المراد من السّواد و البياض في الآية و الروايات هو النّور و الظلمة، و على هذا فالمؤمنون بيض الوجوه في الدنيا و الآخرة، و سيماهم ذلك البياض، كما أنّ سيماء الكفّار أنّهم سود الوجوه فيهما، و يعرفان في الآخرة بسيماهما، و أمّا في الدنيا فلا يرى سيماهما إلاّ من له عين البصيرة.

ثمّ لمّا كان النّور من قبل كمال الوجود الذي هو بإفاضة اللّه تعالى و جوده يضاف البياض و الصّبغ الحاصل منه إليه، و صحّ أن يقال: لذلك البياض: صبغة اللّه، كما أنّ ظلمة الكفر و المعاصي من قبل النّفس و الماهيّة، و يصحّ أن يقال: إنّها صبغة النّفس و الطبيعة، حيث إنّ النّفس مبدأ الاحتجاب عن عالم الأنوار و منشأ الانغمار في الشّهوات و الضّلال.

ثمّ إنّه لمّا كان صبغ البياض أحسن الأصباغ، سيّما إذا كان حاصلا من النّور الذي هو أشرف الموجودات، خصوصا إذا كان حاصلا من الإيمان و الولاية، أنكر اللّه سبحانه كون صبغ أحسن منه، بقوله: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً .

ثمّ لمّا كان الإيمان ملازما للقيام بوظائف العبوديّة، كان قوله: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ بمنزلة الاستدلال على تحقّق صبغ الإيمان فيهم لدلالة التلبّس بشعار العبادة على تنوّر القلب بنور الإيمان، و صبغ النّفس بأحسن الأصباغ، فلا يبقى لأحد مجال إنكاره. و كان أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله متمحّضين بالعبادة كما قال اللّه تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ (4) فكان دليل صدق دعواهم معهم.

سورة البقرة (2): آیة 139

اشارة

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

ص: 342


1- آل عمران: 106/3.
2- سعد السعود: 109 «نحوه».
3- الكافي 20/209:2 «نحوه».
4- الفتح: 29/48.

سورة البقرة (2): آیة 139

ثمّ نقل أنّ اليهود و النّصارى كانوا يدّعون أنّهم أحقّ بكرامة اللّه و منصب النبوّة لادّعائهم أنّهم أهل الدّين و الكتاب، و أنّ العرب عبدة الأصنام، فعلّم اللّه نبيّه ردّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد:

أَ تُحَاجُّونَنا فِي أمر اَللّهِ و نبوّته التي اصطفانا بها وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ سواء إليه نسبتنا و نسبتكم، لا قرابة و لا رحميّة بين أحد و بينه، و لا كرامة لأحد عنده إلاّ بالعبوديّة و الأعمال الصالحة.

وَ لَنا كما ترون أَعْمالُنا الحسنة الصالحة وَ لَكُمْ كما تعلمون أَعْمالُكُمْ السّيئة الشّنيعة، و اللّه مطّلع على جميعها، هذا مع أنّ فضل الأعمال و كرامة العامل بخلوص النيّة.

وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في العبادة، و أنتم به مشركون فيها، فليس لكم أن تستبعدوا أن نكون أكرم عنده منكم، و أحقّ بالتّشريف بمنصب النبوّة، و أولى بالتّفضيل بمرتبة الرّسالة، فلم يبق لكم حجّة على وجوب تخصيصكم بهما، بل لنا الحجّة البالغة على أولويّتنا منكم.

سورة البقرة (2): الآیات 140 الی 141

اشارة

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

سورة البقرة (2): آیة 140

ثمّ من شبهاتهم ما أشار إليه بقوله: أَمْ تَقُولُونَ و تدّعون أنّ دينكم يا أهل الكتاب دين اللّه لادّعائكم إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى و أنتم مقتدون بهم في دينهم.

قُلْ يا محمّد ردّا عليهم، و اسألهم تقريرا منهم: أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بدينهم أَمِ اللّهُ أعلم ؟ فإن تقرّوا أنّه تعالى أعلم فإنّه شهد في التّوراة و الإنجيل و سائر الكتب السّماويّة بأنّهم كانوا على الملّة الحنيفيّة و دين الإسلام، و إنّ ملّة اليهوديّة و النّصرانيّة حدّثنا بأهواء أهل الزّيغ بعدهم، و أنتم مطّلعون على تلك الكتب، و العالمون بتلك الشّهادة، و تكتمونها لحبّ الجاه و الرّئاسة و الحطام الدنيويّة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ على نفسه و على سائر النّاس مِمَّنْ كَتَمَ و ستر و أخفى من العوامّ شَهادَةً ثابتة عِنْدَهُ صادرة مِنَ اللّهِ و أظهر خلافها بين الخلق ؟

وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ بل مطّلع عليه، و حافظ لجميع سيّئاتكم، من إنكار الحقّ ، و ادّعاء

ص: 343

الأباطيل، و كتمان شهادته، فيعاقبكم عليها أشدّ العقاب، فكونوا منه على حذر و وجل في جميع الآنات(1) و الحالات، و لا تغترّوا بصالح أعمال آبائكم الأنبياء و حسن سيرتهم،

سورة البقرة (2): آیة 141

فإنّ تِلْكَ الآباء الكرام أُمَّةٌ و جماعة صلحاء قَدْ خَلَتْ و مضت من الدنيا، يكون لَها ما كَسَبَتْ من نفع أعمالها و الثّواب الموعود عليها وَ يكون لَكُمْ في الآخرة ما كَسَبْتُمْ من منافع أعمالكم و أجرها و تبعاتها، فلا نصيب لكم من ثواب أعمالهم بشيء، كما لا ضرر عليكم من سيّئاتهم إن كانت لهم وَ لا تُسْئَلُونَ في القيامة عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ في مدّة أعمارهم في الدنيا.

و حاصل الاحتجاج أنّكم يا أهل الكتاب بأيّ حجّة تتمسّكون على دعوى أولويّتكم بفضل اللّه و كرامته منّا! فإن تتمسّكوا بأنّكم موحّدون فقد كذبتم، لبداهة أنّنا موحّدون دونكم، و إن تتمسّكوا بأنكم أتباع دين إبراهيم عليه السّلام و سائر الأنبياء و الصّلحاء بعده فنحن المتّبعون لهم دونكم، و إن تتمسّكوا بانتسابكم إليهم فليس النّسب موجبا للكرامة عند اللّه، و نافعا في القيامة، كما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ (2).

حكاية هارون و بهلول

حكي أنّ هارون الرّشيد لمّا انصرف من الحجّ ، أقام بالكوفة أيّاما، فلمّا خرج وقف بهلول على طريقه و ناداه بأعلى صوته: يا هارون - ثلاثا - فقال هارون تعجّبا: من الذي يناديني ؟ فقيل له: بهلول المجنون. فوقف هارون و أمر برفع السّتر - و كان يكلّم النّاس من وراء السّتر - فقال له: أ لم تعرفني ؟ قال: بلى أعرفك. فقال: من أنا؟ قال: أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق و أنت في المغرب سألك اللّه عن ذلك في القيامة. فبكى هارون و قال: كيف ترى حالي ؟ قال: اعرضه على كتاب اللّه، و هي: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَ إِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ (3).قال: و أين أعمالنا؟ قال: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (4) قال: و أين قرابتنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ قال: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ (5).

سورة البقرة (2): آیة 142

اشارة

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

ص: 344


1- كذا، و الظاهر الآناء.
2- المؤمنون: 101/23.
3- الانفطار: 13/82 و 14.
4- المائدة: 27/5.
5- تفسير روح البيان 245:1.

سورة البقرة (2): آیة 142

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اعتراضات اليهود على النبوّة و ردّها، أخبر بأنّهم سيعترضون على دين الإسلام بوقوع النّسخ فيه بتغيير القبلة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة المعظّمة، بقوله:

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ و الخفاف العقول مِنَ النّاسِ الراغبين عن ملّة إبراهيم عليه السّلام كاليهود.

في اعتراض اليهود على دين الإسلام بوقوع النسخ فيه، و على النبي صلّى اللّه عليه و آله بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

قيل: إنّهم ابتدءوا بالاعتراض لأنّهم كانوا يأنسون بموافقة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله معهم في القبلة، و كانوا يظنّون أنّ هذه الموافقة ربّما تدعوه إلى موافقتهم بالكلّيّة، و لمّا تحوّل عنها اغتمّوا و اعترضوا عليه. ثمّ وافقهم المشركون من العرب لأنّهم كانوا متأذّين من توجّهه إلى بيت المقدّس، و قالوا: رغب عن ملّة آبائه، ثمّ رجع إليها. ثمّ تبعهم المنافقون لحرصهم على الاستهزاء بالدّين، فعابوا جميعهم على الرّسول و المؤمنين بقولهم: ما وَلاّهُمْ و أيّ صارف صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا مواظبين عَلَيْها متوجّهين في صلاتهم إليها، و هي بيت المقدس.

عن (الاحتجاج) و (تفسير الإمام عليه السّلام): أنّه قال: «لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة أمره اللّه عزّ و جلّ أن يتوّجه نحو بيت المقدس في صلاته، و يجعل الكعبة بينه و بينها إذا أمكن، و إذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة، فلمّا كان بالمدينة و كان متعبّدا باستقبال بيت المقدس استقبله و انحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا. و جعل قوم من مردة اليهود يقولون: و اللّه لا يدري كيف يصلّي حتّى صار يتوجّه إلى قبلتنا، و يأخذ في صلاته بهدينا و نسكنا »(1).

و روي من طرق العامّة: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صلّى إلى نحو بيت المقدس بعد مقدمه المدينة نحوا من سبعة عشر شهرا، تأليفا لقلوب اليهود ثمّ صارت الكعبة قبلة المسلمين إلى نفخ الصّور(2).

و حاصل اعتراض اليهود: أنّ البدء محال على اللّه بالاتّفاق لأنّه مستلزم لجهله بالمصالح، و أمّا النسخ فإن كان واقعيا حقيقيا فهو عين البداء، و إن كان صوريا ظاهريّا، بمعنى أنّ الحكم الواقعيّ و صلاحه كان في الواقع مقيّدا بوقت محدود، فعدم إظهار الحدّ و إطلاق الحكم في ظاهر اللّفظ بحيث يفهم العرف أبديّته، مستلزم للتّجهيل، و هذا قبيح و محال على اللّه، فردّهم اللّه بقوله: قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ

ص: 345


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 312/492، الاحتجاج: 40.
2- تفسير روح البيان 247:1.

وَ الْمَغْرِبُ و به تختصّ جميع الجهات، ليس أحدها أقرب إليه و أخصّ به من الأخرى، و هو يَهْدِي بأمره مَنْ يَشاءُ هدايته من أهل العالم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و الطريق الموصل إلى قربه و رضوانه، و هو التوجّه إلى الجهة التي فيها الحكمة و مصلحة العباد، فتارة تكون بيت المقدس، و اخرى الكعبة، و إنّما كان التوجّه إلى الكعبة صراطا مستقيما لأنّه غير مائل إلى قبلة اليهود و هو بيت المقدس، و إلى قبلة النّصارى و هو المشرق، فإنّ المشرق و المغرب مضلّة حيث إنّ في التوجّه إليهما مظنّة التوجّه إلى الشّمس و عبادتها.

و قيل: وجه تقديم هذه الآية على آية: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ (1) و الإتيان فيها بفعل المضارع، تقدّم نزولها على تحويل القبلة و حصول الاعتراض، حيث إنّ قبل الرّمي يراش السّهم، و قبل توجّه الاعتراض يعلّم المؤمنون بيان ردّه، و فيها دلالة على إمكان النسخ و وقوعه.

و حاصل تقرير الجواب: أنّ جميع الأرض ملك للّه، و نسبتها إليه تعالى سواء، ليس مكان أقرب إليه و أخصّ به من مكان آخر، و إنّما المصلحة في جعل جهة القبلة متفاوتة في الأزمنة، فقد تكون المصلحة في الأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس في برهة من الزمان، ثمّ تتغيّر و تكون في الأمر بالتوجّه إلى الكعبة، فتغيير الحكم ليس من جهة انكشاف الخطأ في تشخيص المصلحة حتّى يلزم البداء المحال.

و أمّا شبهة التجهيل فواضحة البطلان، فإنّ عدم الإعلام ليس تجهيلا قبيحا لبداهة عدم وجوب الإعلام بالتّكليف بقيوده و غايته قبل وقت الحاجة.

في بيان حكمة جعل القبلة

ثمّ اعلم أنّه ذكر بعض لتعيين القبلة حكما عديدة:

إحداها: أنّ اللّه تعالى خلق في الإنسان قوّة عاقلة مدركة للمجرّدات و المعقولات، و قوّة خياليّة متصرّفة في عالم الأجسام و المحسوسات، و قلّما تنفكّ القوّة العاقلة عن مقارنة القوّة الخياليّة و مصاحبتها و الاستعانة بها.

فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقليّ مجرّد، وجب أن يضع له صورة خياليّة حتّى تكون تلك الصورة الخياليّة معينة على إدراك ذلك المعنى العقليّ ، و لذلك يضع المهندس - إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير - صورة معيّنة و شكلا معيّنا، ليصير الحسّ و الخيال معينين على إدراك ذلك

ص: 346


1- البقرة: 144/2.

الحكم الكلّيّ .

و لمّا كان العبد الضّعيف إذا دخل في مجلس الملك العظيم لا بدّ له من أن يستقبله بوجهه و لا يكون معرضا عنه، و أن يبالغ في الثّناء عليه و التضرّع له و القيام بخدمته؛ كان استقبال القبلة في الصّلاة جاريا مجرى كونه مستقبلا للملك، غير معرض عنه، و القراءة و التّسبيحات جارية مجرى الثّناء عليه، و الرّكوع و السّجود جاريان مجرى خدمته.

ثانيها: أنّ المقصود من الصّلاة حضور القلب، و لا يحصل إلاّ مع السّكون و ترك الالتفات و الحركة، و هذا لا يتأتّى إلاّ إذا بقي في جميع صلواته مستقبلا لجهة واحدة على التّعيين، فإذا اختصّ بعض الجهات بشرف كان الاستقبال إليها أولى.

و نقل عن زردشت أنّه قيل له: اجعل لنا قبلة إذا أردنا أن نتوجّه إلى اللّه نتوجّه إليها؟

قال: أشرف الموجودات الجسمانيّة هو النّور، فتوجّهوا له، فبنوا بيوت النّار فتوجّهوا إليها بعنوان أنّها قبلة.

ثالثها: أنّ اللّه تعالى يحبّ الموافقة و الألفة بين المؤمنين، و قد ذكر المنّة بها عليهم، حيث قال:

وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (1).و لو توجّه كلّ واحد في صلواته إلى ناحية اخرى، لكان ذلك يوهم اختلافا ظاهرا، فعيّن اللّه لهم جهة واحدة، و أمرهم جميعا بالتّوجة إليها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك. و فيه إشارة إلى أنّ اللّه تعالى يحبّ الموافقة بين عباده في أعمال الخير(2).

في حكمة جعل الكعبة قبلة

ثمّ ذكروا لتعيين جهة الكعبة حكما:

أحدها: أنّ اللّه تعالى خصّ الكعبة بإضافتها إلى نفسه بقوله: طَهِّرْ بَيْتِيَ (3) و خصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبوديّة إليه، و كلتا الإضافتين للتّكريم، فكأنّه تعالى قال: يا مؤمن، أنت عبدي، و الكعبة بيتي، و الصّلاة خدمتي، فأقبل بوجهك إلى بيتي في خدمتي، و بقلبك إلى عظمتي.

ثانيها: أنّه قيل: إنّ بعض اليهود استقبلوا إلى المغرب لأنّ النّداء جاء إلى موسى عليه السّلام منه، كما قال اللّه تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا (4) و النّصارى استقبلوا المشرق لأنّ جبرئيل ذهب إلى مريم من جانب المشرق، كما قال تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً

ص: 347


1- آل عمران: 103/3.
2- تفسير الرازي 94:4.
3- الحج: 26/22.
4- القصص: 44/28.

شَرْقِيًّا (1) فأمر اللّه المؤمنين بالتوجّه إلى الكعبة لأنّها قبلة خليلة.

و قيل: إنّ النّصارى استقبلوا مطلع الأنوار، و المؤمنون استقبلوا مطلع سيّد الأنوار و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله الذي خلق من نوره جميع الأنوار.

ثالثها: أنّ الكعبة سرّة الأرض و وسطها، و في الأمر بالتوجّه إليها إشارة إلى أنّه يجب على المؤمن التوسّط و العدالة في جميع أموره(2).

سورة البقرة (2): آیة 143

اشارة

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

سورة البقرة (2): آیة 143

ثمّ أنّه تعالى لمّا منّ على هذه الامّة بجعل الكعبة التي هي الوسط قبلة لهم، و بهدايتهم إلى الصّراط المستقيم، منّ عليهم أيضا بقوله: وَ كَذلِكَ المذكور من جعلكم مهتدين جَعَلْناكُمْ و نصبناكم أُمَّةً و جماعة وَسَطاً و خيارا، أو متوسّطين بين الإفراط و التّفريط لا يتجاوزون عن الحقّ ، و لا يميلون إلى الباطل.

في أن المراد من الأمة الوسط خصوص الائمّة المعصومين عليهم السّلام

و هم خصوص الأئمّة المعصومين عليهم السّلام لشهادة الوجدان و اتّفاق الامّة على عدم اتّصاف جميع أفراد المسلمين بهذه الصّفة لظهور كون أكثرهم فسّاقا، فلا بدّ من أن يكون المراد من الامّة بعضهم، نظير قول موسى لبني إسرائيل: يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً (3) مع وضوح أنّه لم يكن كلّ فرد منهم ملكا.

عن القمّي رحمه اللّه: يعني الأئمّة(4).

و عن (الكافي) و (العياشي): عن الباقر عليه السّلام: «نحن الأمّة الوسط »(5).

و عن (المناقب): عنه عليه السّلام: «فينا أنزل اللّه وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» الخبر(6).

ص: 348


1- مريم: 16/19.
2- تفسير الرازي 95:4.
3- المائدة: 20/5.
4- تفسير القمي 63:1.
5- الكافي 4/147:1، تفسير العياشي 215/160:1.
6- مناقب ابن شهرآشوب 179:4.

فلا دلالة في الآية على حجّيّة الإجماع كما ادّعاها بعض العامّة، إلاّ من جهة اشتماله على قول المعصوم أو كشفه بالحدس القطعيّ عن موافقة قول المجمعين لقول رئيسهم، و وافقنا الفخر الرّازي و بعض آخر من العامّة في القول بعدم حجّيّة الإجماع إلاّ من جهة اشتماله على قول من هو الوسط في الامّة، و قالوا: إنّا لمّا لا نعرف من يكون بهذه الصّفة، نحتاج إلى الاتّفاق، إلاّ انّهم فارقونا في أنّهم لا يعرفونه بوجه، و نحن بحمد اللّه و منّته نعرفه باسمه و نسبه عليه السّلام.

و ممّا يدلّ على أنّ المراد من الامّة الوسط خصوص الهداة المعصومين قوله تعالى: لِتَكُونُوا

يوم القيامة شُهَداءَ عَلَى النّاسِ من سائر الامم بأنّ الرسل بلّغوهم في الدنيا و بيّنوا لهم الحقّ و الدّين.

في رواية (المناقب) قال: «و لا يكون الشهداء على النّاس إلاّ الأئمّة و الرّسل، فأمّا الأمّة فإنّه غير جائز أن يستشهدها اللّه تعالى و فيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل »(1).

روي أنّ الامم يجحدون يوم القيامة تبليغ الأنبياء، فيطالب اللّه تعالى الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا، و هو أعلم، فيؤتى بأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيشهدون لهم، و هو صلوات اللّه عليه يزكّيهم (2) ،و ذلك قوله تعالى: وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.

و قيل: إنّ المراد: لتكونوا شهداء في الدنيا على النّاس (3)- أي حججا عليهم - تبيّنون لهم الحقّ و الدّين، و يكون الرّسول عليكم شهيدا و مؤدّيا للشّرع و مبيّنا لكم أحكام دينه.

ثمّ بيّن اللّه تعالى حكمة جعل بيت المقدس قبلة للمسلمين بقوله: وَ ما جَعَلْنَا القبلة للصّلاة اَلْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ مستقرا عَلَيْها و هي بيت المقدس لشيء من الأشياء و وجه من الوجوه إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ من المسلمين اَلرَّسُولُ و نميّزه مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ و يرتدّ عن دينه الحقّ ، و يرجع القهقرى إلى كفره السابق.

عن (تفسير الإمام) و (الاحتجاج): عنه عليه السّلام: «يعني إلاّ لنعلم ذلك منه موجودا بعد أن علمناه سيوجد. قال: و ذلك أنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة، فأراد [اللّه] أن يبيّن متبع(4) محمّد صلّى اللّه عليه و آله ممّن

ص: 349


1- مناقب ابن شهرآشوب 179:4.
2- تفسير الرازي 100:4.
3- تفسير أبي السعود 173:1.
4- في الاحتجاج: متبعي.

خالفه(1) باتّباع القبلة الّتي كرهها و محمّد صلّى اللّه عليه و آله يامره(2) بها. و لمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها و التوجّه إلى الكعبة، ليتبيّن من يوافق محمّدا عليه السّلام فيما يكرهه و هو مصدّقه و موافقه »(3).

و روى بعض العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل الهجرة يصلّي إلى الكعبة، ثمّ بعد الهجرة - لكون غالب أهل المدينة اليهود - حوّل القبلة إلى بيت المقدس تأليفا لهم، ثمّ رجع إلى القبلة التي كان عليها و هي الكعبة(4).

و على هذا حصل الامتحان المذكور في الآية بمجموع التّحويلين، حيث إنّ العرب بتحويل القبلة إلى بيت المقدس، و اليهود بتحويلها عنه إلى الكعبة، صاروا منزجرين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

و نقل أنّه رجع جمع عن الإسلام و قالوا: لو كان محمّد على يقين من أمره لما تغيّر رأيه. و كانوا يقولون: مرّة هاهنا و مرّة هاهنا! و قال المشركون: تحيّر محمّد في دينه. و قال اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه و مولده (5)!و لذا قال تعالى: وَ إِنْ كانَتْ التولية من قبلة إلى قبلة، أو القبلة المحوّلة أو الصّلاة إلى بيت المقدس لَكَبِيرَةً و ثقيلة مستنكرة على طباع جميع النّاس إِلاّ عَلَى طباع اَلَّذِينَ هَدَى اللّهُ

قلوبهم، و عرّفهم بقوّة عقولهم و تنوّر بصائرهم أنّ المصالح تتغيّر بتغيّر الأوقات و الأشخاص و سائر الجهات، و أنّه تعالى يتعبّد العبيد بخلاف ما يريدونه ليبتلي طاعتهم في مخالفة هوى أنفسهم.

ثمّ وعد المؤمنين الثابتين على الإيمان و المطيعين للرّسول صلّى اللّه عليه و آله في الصّلاة إلى بيت المقدس بقوله: وَ ما كانَ اللّهُ و ليس من شأنه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ و ثباتكم على تصديق الحقّ أو صلاتكم التي صلّيتم إلى الصّخرة.

عن الصادق عليه السّلام في رواية: «و لمّا أن صرف نبيّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الكعبة عن بيت المقدس، قال المسلمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ رأيت صلواتنا الّتي كنّا نصلّي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها و حال من مضى من أمواتنا و هم يصلّون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل اللّه ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فسمّى الصّلاة ايمانا. فمن لقي اللّه حافظا لجوارحه، موفيا كلّ جارحة من جوارحه ما فرض اللّه عليه، لقي اللّه مستكملا لإيمانه

ص: 350


1- في تفسير العسكري عليه السّلام: من مخالفه.
2- في تفسير العسكري عليه السّلام و الاحتجاج: يأمر.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 312/495، الاحتجاج: 42.
4- تفسير الكشاف 200:1، تفسير الرازي 103:4.
5- تفسير الرازي 104:4.

و هو من أهل الجنّة، و من خان في شيء منها، أو تعدّى ما أمر اللّه فيها، لقي اللّه ناقص الإيمان »(1).

و نقل أنّ جماعة من المسلمين كأبي أمامة، و سعد بن زرارة، و براء بن عازب، و براء بن معرور و غيرهم، ماتوا على القبلة الاولى، فتوهّم عشائرهم أنّ الصّلاة التي أتوا بها على القبلة الاولى كانت ضائعة، لتوهّم أنّ الحكم الأوّل كان باطلا. فقالوا: يا رسول اللّه، توفّي إخواننا على القبلة الاولى، فكيف حالهم و حال صلواتهم ؟ فنزلت(2).

فحاصل مفاد الآية و اللّه أعلم: أنّ التّكليف الأوّل كالتّكليف الثاني، كلاهما عن مصلحة تامّة في وقتهما، و المتمسّك بكلّ تكليف في وقته متمسّك بدين اللّه فيوفّيه أجره، إنّه لا يضيع أجر المحسنين.

ثمّ علّل سبحانه تغيير القبلة و عدم الإضاعة بقوله: إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ فلا يرضى بضياع أعمالهم رَحِيمٌ مفضّل عليهم بنقلهم من صلاح إلى ما هو أصلح، و من نافع إلى ما و هو أنفع لهم في الدّين و الدنيا. و المراد أنّه تعالى يعطيهم زيادة على أجر أعمالهم من رحمته و فضله ما لا يتصوّر و لا يحصى.

سورة البقرة (2): آیة 144

اشارة

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (144)

سورة البقرة (2): آیة 144

ثمّ أنّه روي عن العسكريّ عليه السّلام «أنّه بعد حكاية مقالات اليهود في اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبلتهم، قال:

فاشتدّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما اتّصل به منهم، و كره قبلتهم، و أحبّ الكعبة فجاءه جبرئيل، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل، لوددت لو صرفني اللّه عزّ و جلّ عن بيت المقدس إلى الكعبة، فلقد تأذّيت بما اتّصل بي من قبل اليهود. فقال جبرئيل عليه السّلام: فسل ربّك أن يحوّلك إليها، فإنّه لا يردّك عن طلبتك، و لا يخيّبك عن بغيتك. فلما استتمّ دعاءه صعد جبرئيل عليه السّلام ثمّ عاد من ساعته، فقال: اقرأ يا محمّد قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» (3) و نشاهد تردّده في جهتها إلحاحا في الدّعاء و تطلّعا

ص: 351


1- تفسير العياشي 220/161:1.
2- تفسير الرازي 106:4.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 312/492.

للوحي.

و روي من طرق العامّة أنّه صلوات اللّه عليه و آله كان يقع في روعه و يتوقّع من ربّه أن يحوّله إلى الكعبة، لأنّها قبلة أبيه إبراهيم عليه السّلام و أقدم القبلتين. و أدعى للعرب إلى الإيمان من حيث إنّها كانت مفخرة لهم و أمنا و مزارا و مطافا، و لمخالفة اليهود، فإنّهم كانوا يقولون إنّه يخالفنا في ديننا، ثمّ إنّه يتّبع قبلتنا، و لو لا نحن لم يدر أين يستقبل. فعند ذلك كره أن يتوجّه إلى قبلتهم - إلى أن قال - إنّه صلّى اللّه عليه و آله جعل يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن يأتيه جبرئيل بالذي سأل ربّه، فأنزل اللّه هذه الآية(1).

ثمّ اعلم أنّ توضيح معنى كراهة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله التوجّه إلى الصّخرة بعد ما اتّصلت به مقالات اليهود، أنّه لاتّصال نفسه المقدّسة باللّوح المحفوظ ، و اطّلاعه على انقضاء عدّة الصّلاح العارضيّ الذي كان في التوجّه إلى الصّخرة، و تحقّق الصّلاح الملزم في التوجّه إلى الكعبة، كره التوجّه إلى الأوّل، و أحبّ التوجّه إلى الثاني، فكان ينتظر الوحي و صدور الأمر من اللّه.

ثمّ لمّا كان تمام الصّلاح في حكمه تعالى متوقّفا على أن يقع التّحويل باستدعائه و إظهار رضاه به، و كراهته عن التوجّه إلى قبلة اليهود، و كان ذلك مصادفا لمقالاتهم الشّنيعة، أظهر عليه السّلام تلك الكراهة و ذلك الرّضا، و سأل و دعا، فأبان اللّه عظمة شأن حبيبه عنده بإجابة دعائه و موافقة رضاه بقوله:

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ و لنعطينّك قِبْلَةً تَرْضاها و لنجعلنّك متمكّنا من استقبال جهة تحبّها لمصالح دينيّة من غير [دواعي] الهوى النفسانيّة.

قيل: إنّه تعالى قال: قِبْلَةً تَرْضاها و لم يقل قبلة أرضاها للإشارة إلى أنّ جميع الكائنات يطلب رضاي و أنا أطلب رضاك في الدّارين، أمّا في الدّنيا فبتحويل القبلة، و أمّا في الآخرة فبالعفو عن أمّتك حتّى ترضى(2).

فَوَلِّ و حوّل وَجْهِكَ مع جميع مقاديم بدنك في حال صلاتك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

و نحوه، و في ذكر الشّطر إشعار بكفاية مراعاة الجهة و عدم لزوم الاستقبال الحقيقيّ لعين الكعبة بحيث إذا خطّ مستقيما انتهى إليها.

و قيل: إنّ فيه إشعارا بوجوب التّوجّه إلى العين لوقوع الكعبة في شطر المسجد و هو نصفه، و الحقّ هو الأوّل.

ص: 352


1- تفسير روح البيان 251:1.
2- تفسير الرازي 95:4.

في تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

عن (الفقيه) في رواية: «ثمّ عيّرته اليهود فقالوا: إنّك تابع لقبلتنا. فاغتمّ لذلك غمّا شديدا، فلمّا كان في بعض اللّيل خرج يقلّب وجهه في آفاق السّماء، فلمّا أصبح صلّى الغداة، فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل، فقال له: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ الآية. ثمّ أخذ بيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فحوّل وجهه إلى الكعبة، و حوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرّجال مقام النّساء، و النّساء مقام الرّجال. فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة.

و بلغ الخبر مسجدا بالمدينة و [قد] صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة، فكانت أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة، فسمّي ذلك المسجد: مسجد القبلتين »(1).

و قيل: كان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشّمس قبل قتال بدر بشهرين، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مسجد بني سلمة. فسمّي المسجد مسجد القبلتين(2).

ثمّ لئلاّ لا يتوهّم متوهّم أنّ وجوب التّوجه إلى الكعبة مختصّ ببلد المدينة و بشخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه الحاضرين عنده، عمّم سبحانه و تعالى الخطاب ثانيا بقوله: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيّها المسلمون، و في أيّ مكان صلّيتم فَوَلُّوا و حوّلوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و نحوه.

ثمّ أنّه تعالى لاطمئنان قلوب المؤمنين بأنّ هذا التّحويل من قبل اللّه، أخبرهم بأنّه مكتوب في الكتب السّماويّة، بقوله: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بقراءتهم في التّوراة و الإنجيل [يعلمون] أنّ من علائم خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله أنّه يصلّي إلى القبلتين، و اللّه لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ النازل مِنْ رَبِّهِمْ فإذا كان ذلك حالهم، فلا ينبغي أن تختلج الشّبهة في قلوبكم أيّها المؤمنون، مع علمكم بصدق نبيّكم بالمعجزات الباهرة.

وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ من اتّباعكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسليمكم لأمره، فيجازيكم عليه أحسن جزاء العاملين.

سورة البقرة (2): آیة 145

اشارة

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (145)

ص: 353


1- من لا يحضره الفقيه 843/178:1.
2- تفسير أبي السعود 174:1.

سورة البقرة (2): آیة 145

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر أنّ أهل الكتاب عالمون بأنّ تحويل القبلة حقّ ، بيّن أنّ إصرارهم على المخالفة من جهة العناد و اللّجاج بقوله: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النّصارى بِكُلِّ آيَةٍ باهرة و برهان قاطع على أنّ التوجّه إلى الكعبة حقّ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنّ مخالفتهم ليست عن شبهة حتّى يزيلها البرهان، بل عن عناد و لجاج و مكابرة، لعلمهم بكونها حقّا، و المكابر لا تنفعه الدلائل وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ فليس لهم أن يطمعوا في رجوعك إليها.

نقل أنّهم كانوا يتناجون في ذلك و يقولون: لو ثبت محمّد على قبلتنا، لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. و كانوا يطمعون في رجوعه إلى قبلتهم(1).

ثمّ وبّخهم اللّه في قوله: وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ بأنّهم مع اتّفاقهم على مخالفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قبلته ليسوا متّفقين على قبلة واحدة، حيث إنّ اليهود كانوا يستقبلون إلى الصّخرة، و النّصارى إلى المشرق، بل كلّ معرض عن قبلة الآخر، لتصلّب كلّ في التي يهواها بهواه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ دينهم و ثباتهم على قبلتهم صرف متابعة الهوى، و أنّها من أشدّ المعاصي، بالغ في تهديدهم بالكناية التي هي أبلغ من التّصريح، حيث وجّه الخطاب إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

وَ لَئِنْ وافقت أهل الكتاب و اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ و مشتهيات نفوسهم في أمر القبلة مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ بفضل اللّه و رحمته مِنَ الْعِلْمِ بأنّ قبلة اللّه هي الكعبة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ على نفسك بتعريضها للهلاك و أشدّ العذاب، مع أنّك أشرف الكائنات عند اللّه، و أحبّ الخلق إليه، فكيف بهؤلاء الكفرة و هم أبغض الخلق عنده!

سورة البقرة (2): آیة 146

اشارة

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146)

سورة البقرة (2): آیة 146

ثمّ أكّد سبحانه أنّ مخالفتهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دينه مطلقا، قبلة كان أو غيرها، ليست إلاّ عن عناد و عصبيّة و هوى، لا للشّبهة في نبوّته و صدقه، بقوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ و كان لهم فهم دراسته، كالأحبار و الرّهبان يَعْرِفُونَهُ بالرّسالة لمعرفتهم بعلائمه المذكورة في الكتب السماويّة

ص: 354


1- تفسير الرازي 126:4.

كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يشتبهونهم(1) بغيرهم. و التكنية عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بالضّمير من غير سبق ذكره لتعظيمه و تفخيمه و للايذان بشهرته غاية الاشتهار و معروفيّته بغاية المعرفة.

قيل: وجه تخصيص الأبناء بالذكر دون البنات، أنّهم بصحبة الآباء ألزم و بقلوبهم ألصق. و إنّما لم يقل: كما يعرفون أنفسهم، لأنّ الانسان لا يعرف نفسه إلاّ بعد انقضاء برهة من الزّمان من ولادته، و لكن يعرف ولده حين ولادته(2).

نقل أنّه سئل عبد اللّه بن سلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: أنا أعلم به منّي بابني، لأنّي لست أشكّ في محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّه نبيّ ، و أمّا ولدي فلعلّ والدته خانت(3).

وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ و هم المصرّون على اللّجاج دون فريق آخر كعبد اللّه بن سلاّم و أضرابه لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ عنادا و تحفّظا لرئاستهم الباطلة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ محمّدا نبيّ ، و أنّ الكعبة قبلة اللّه، و أنّ كتمان الحقّ من أقبح المعاصي.

سورة البقرة (2): آیة 147

اشارة

اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

سورة البقرة (2): آیة 147

ثمّ لمّا كان تغيير القبلة غريبا في الأنظار، و مجالا لشبهات الكفّار و مقالاتهم، و كانت قلوب ضعفاء المؤمنين معرضا للتزلزل و الشّكّ في دينهم، أكّد اللّه أمر القبلة بقوله: اَلْحَقُّ الذي أنت يا محمّد عليه من أمر القبلة نازل مِنْ رَبِّكَ اللّطيف، بل المتفضّل عليك، فإذا كان ذلك فَلا تَكُونَنَّ فيه مِنَ الْمُمْتَرِينَ و الشاكّين. و المقصود من نهيه نهي امّته عن الامتراء، من باب (إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) و مرجع نهيهم عنه أمرهم بضدّه الذي هو اليقين و طمأنينة القلب.

قيل: إنّ الحقّ مفعول ليعلمون، و منصوب به.

إن قيل: كيف يمكن أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعرف من أبنائهم عندهم إلاّ إذا كان في التّوراة و الإنجيل بيان جميع مشخّصاته؛ من صفاته، و صورته، و شمائله، و اسمه، و اسم أبيه، و امّه، و نسبه، و قبيلته، و زمان ظهوره. و إذا كان ذلك كان هو صلّى اللّه عليه و آله معروفا بين المشرق و المغرب لمعروفيّة الكتابين في أطراف العالم. فإذن لم يمكن لأحد من اليهود و النّصارى إنكاره.

ص: 355


1- كذا، و في روح البيان 252:1 لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه أبناؤهم.
2- روح البيان 252:1.
3- تفسير الرازي 128:4.

قلت: يكفي في تعريفه عليه السّلام بيان جملة من صفاته في الكتابين منضمّة إلى معجزاته الباهرات المشهورات في المدينة و نواحيها، فلم يكن لأهل الكتاب الساكنين فيها مجال للرّيب في أنّه هو النبيّ الموعود، خصوصا مع التّصريح باسمه محمّد صلّى اللّه عليه و آله في التّوراة و اسمه أحمد في الإنجيل، مع إخبار جمع من الكهنة بقرب زمان ظهوره، أو ظهوره(1).

سورة البقرة (2): آیة 148

اشارة

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148)

سورة البقرة (2): آیة 148

ثمّ أنّه تعالى قرّب أمر تحويل القبلة إلى الأذهان، و رفع استبعاد تخصيص المسلمين بوجوب التوجّه إلى الكعبة المعظّمة بقوله: وَ لِكُلٍّ من الامم، و لأيّ ملّة من الملل وِجْهَةٌ معيّنة، و قبلة مختصّة مقرّرة من قبل اللّه هُوَ مُوَلِّيها إيّاهم، و آمر بالتوجّه و الاستقبال إليها كلّهم.

بل قال بعض: إنّ لكلّ طائفة من الملائكة أيضا قبلة خاصّة بهم: العرش قبلة الحملة، و الكرسيّ قبلة البررة، و البيت المعمور قبلة السّفرة(2).

و قال آخر: العرش قبلة المقرّبين، و الكرسيّ قبلة الرّوحانيّين، و البيت المعمور قبلة الكروبيّين، و الحقّ قبلة المتحيّرين، حيث قال: اينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ و بيت المقدس قبلة الأنبياء و المرسلين، و الكعبة قبلة إبراهيم عليه السّلام و خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله (3).فأمر القبلة راجع إلى اللّه، و العبادة و الانقياد راجع إلى العباد.

اذا تبيّن ذلك فَاسْتَبِقُوا و تسارعوا أيّها المؤمنون إلى اَلْخَيْراتِ و الطّاعات و موجبات المثوبات التي منها التزام التوجّه إلى الكعبة و الصّلاة إليها.

أَيْنَ ما تَكُونُوا و في أيّ مكان من أطراف العالم تصلّون يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً و يجمع صلواتكم إلى جهة واحدة و هي الكعبة، على ما قيل (4).أو أينما متّم من البلاد يأت بكم اللّه إلى المحشر فيجازيكم على أعمالكم.

إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من جمعكم في المحشر، و جمع أعمالكم و تأدية ما تستحقّون من

ص: 356


1- كذا، و الظاهر أو بظهوره.
2- تفسير الرازي 95:4.
3- تفسير الرازي 131:4.
4- تفسير أبي السعود 177:1.

الثواب قَدِيرٌ.

عن (الاكمال) و (العياشيّ ): عن الصادق عليه السّلام: «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم عليه السّلام و إنّهم المفتقدون من فرشهم ليلا، فيصبحون بمكّة، و بعضهم يسير في السّحاب نهارا، نعرف اسمه و اسم أبيه و اسم حليته و نسبه »(1).

و قريب منها روايات محمولة على بيان التأويل و البطن(2).

سورة البقرة (2): الآیات 149 الی 150

اشارة

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

سورة البقرة (2): آیة 149

ثمّ أنّه تعالى لتأكيد أمر القبلة و بيان أنّه لا يوجب اختلاف مكان المصلّي تغييرا فيه، و أنّه أبديّ لا يطروه النسخ، كرّر الحكم بقوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ يا نبيّ الرّحمة، و إلى أيّ مكان سافرت فَوَلِّ و اصرف وَجْهَكَ حال صلاتك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و جانبه، و اعلم في هذا التولّي وَ إِنَّهُ باللّه لَلْحَقُّ الموافق للحكمة و المصلحة، الثابت مِنْ قبل رَبِّكَ لا يطروه التغيير و النسخ أبدا.

ثمّ أردف اللّه التأكيد بالوعد و الوعيد على الطّاعة و المخالفة بقوله: وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ

من التزامكم بامتثال أمره، و تجرّيكم عليه بعصيانه، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

سورة البقرة (2): آیة 150

ثمّ كرّر سبحانه و تعالى قوله: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أيّها الرّسول فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيّها المسلمون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .

قيل: في تكرار الحكم في الآيات الثلاث فوائد:

ص: 357


1- اكمال الدين: 24/672، تفسير العياشي 224/166:2، تفسير الصافي 183:1.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 20:2-31.

منها: أنّ في الآية الاولى - و هي قوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ (1)- بيان حكم أهل المسجد، و في الآية الثانية بيان حكم أهل المدينة، و في الثالثة بيان حكم من كان في خارج المدينة و أقطار العالم.

و منها: أنّ المرّة الاولى توطئة لبيان أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّ أمر نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أمر القبلة حقّ .

و المرّة الثانية لبيان أنّ اللّه يعلم أنّه الحقّ ، و المرّة الثالثة لبيان ذكر علله، فلاختلاف الفوائد حسن التكرار.

و منها: أنّ في المرّة الاولى بيان حكم القبلة، و في الثانية التّنبيه على أنّه ليس لمحض رضاك بغير ملاحظة صلاح فيه، بل لعلم اللّه بأنّه الحقّ و ذو صلاح تامّ . و فى الثالثة بيان دوام هذا الحكم، بحيث لا يتطرّق إليه النّسخ.

و قيل: إنّ في المرّة الاولى إشارة إلى أنّ أحد علل التّحويل حبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله إيّاها من حيث إنّها قبلة إبراهيم عليه السّلام و أشرف بقاع الأرض، و مورد توجّه العرب.

و في الثانية إشعار بأنّ لكلّ صاحب دعوة و شريعة قبلة مخصوصة، فاختار اللّه لهذه الأمّة التي هي أفضل الامم أشرف البقاع و الجهات.

و في الثالثة دلالة على أنّ فيه قطع حجج اليهود و المشركين(2) حيث قال: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ من المشركين و اليهود عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ و اعتراض، حيث إنّ مشركي العرب كانوا يقولون إنّ محمّدا ليس على ملّة إبراهيم عليه السّلام إذ قبلة إبراهيم عليه السّلام بيت الكعبة و قبلة محمّد بيت المقدس، و إنّ اليهود كانوا يقولون: إنّ النبيّ الموعود من صفاته أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد أن كان يصلّي إلى الصّخرة، فلو دمتم على الصّلاة إلى بيت المقدس صرتم ملزمين بحجّة الفريقين. و كان يقع الطعن في نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و دينه، فبتغيير القبلة انقطعت مقالات النّاس(3).

إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنفسهم و عاندوا الدّين الحقّ من مشركي العرب الذين يقولون: بدا لمحمّد فرجع إلى قبلة آبائه، فيوشك أن يرجع إلى دينهم. و من اليهود الذين يقولون: إنّ محمّدا ما ترك قبلتنا إلاّ حبّا لبلده، و ميلا إلى دين قومه، و لو كان على الحقّ للزم قبلة الأنبياء و لم يعرض عنها.

و من الواضح أنّ هذه الأباطيل غير لائقة للجواب، و إطلاق الحجّة عليها تهكّم أو جري على اعتقادهم حيث إنّهم يسوقونها مساقها.

ص: 358


1- البقرة: 144/2.
2- تفسير الرازي 137:4.
3- تفسير الرازي 139:4.

و عن القمي رحمه اللّه: إنّ (إلاّ) هاهنا بمعنى و لا(1).

فَلا تَخْشَوْهُمْ و لا تخافوا من طعنهم عليكم، فإنّه لا يضرّكم شيئا وَ اخْشَوْنِي في مخالفة امري، و احذروا عقابي في عدو لكم عمّا ألزمتكم عليه من التّوجه إلى بيتي.

ثمّ ذكر لتحويل القبلة علّة ثانية بقوله: وَ لِأُتِمَّ بالتّحويل نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ حيث وجّهتكم إلى القبلة الوسط بعد ما أنعمت عليكم بنبيّ وسط ، و جعلتكم امّة وسطا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تمام النعمة دخول الجنّة »(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تمام النعمة الموت على الإسلام »(3).

أقول: أتمّ النعم نعمة الولاية، حيث قال اللّه تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (4) و التلازم بين دخول الجنّة و الاسلام الحقيقي و الولاية واضح، و أمر القبلة بعض متمّمات النعم.

قيل: إنّ المسلمين كانوا يفتخرون باتّباع إبراهيم عليه السّلام اصولا و فروعا، فلمّا امروا بالتوجّه إلى بيت المقدس حصل الانكسار و الضّعف فيهم و التكدّر في قلوبهم، و لذلك كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبّ التحوّل إلى الكعبة، فبالتّحويل تمّت النعمة بالنّسبة و الإضافة(5).

ثمّ ذكر اللّه تعالى العلّة الثالثة بقوله: وَ لَعَلَّكُمْ بالاهتداء إلى التّوجّه إلى الكعبة تَهْتَدُونَ إلى ما فيه خيركم و صلاحكم و حسن عاقبتكم.

سورة البقرة (2): الآیات 151 الی 152

اشارة

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)

سورة البقرة (2): آیة 151

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر أنّ في تغيير القبلة إتمام النعمة، بيّن أنّه في التماميّة كإرسال الرّسول بقوله:

كَما أتممنا عليكم النعمة حيث أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً عظيم الشأن كائنا مِنْكُمْ جنسا و نسبا حتّى يكون لكم شرفا، و هو يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا الدالّة على نبوّته التي هي مبدأ جميع الخيرات الدنيويّة و الأخرويّة.

ص: 359


1- تفسير القمي 63:1، تفسير الصافي 184:1.
2- كنز العمال 2965/17:2، تفسير الصافي 184:1.
3- تفسير الرازي 141:4، تفسير الصافي 184:1.
4- المائدة: 3/5.
5- تفسير الرازي 141:4.

وَ يُزَكِّيكُمْ بتربيته و يطهّر نفوسكم من رذائل الأخلاق بتقوية عقولكم و تضعيف شهواتكم الحيوانيّة، و تزهيدكم عن الدنيا و زينتها، و قطع علائقكم عنها، حتّى تكونوا باتّباعه مهذّبين من النواقص الأخلاقيّة، مبرّئين عن الأهواء النّفسانيّة ؟؟؟

وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ المجيد و القرآن الحميد. و فيه إشارة إلى أنّ تعليم حقائقه و دقائقه بعد تلاوته نعمة فوق نعمة، و في تقديم التّزكية هنا على التّعليم إشعار بتقديم التّخلية على التّجلية، و بأنّها العلّة الغائيّة، و هي مقدّم في القصد و اللّحاظ و مؤخّر في الوجود و الفعل، و لذا أخّرت في دعوة إبراهيم عليه السّلام.

وَ يعلّمكم اَلْحِكْمَةَ قيل: هو العلم بأحكام الشريعة (1)وَ يُعَلِّمُكُمُ بطريق الوحي ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من العلوم بغيره، و لا سبيل لكم إلى إدراكه و استكشافه.

سورة البقرة (2): آیة 152

و قيل: إنّ التّشبيه راجع إلى قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي فعلى هذا يكون المعنى على ما قيل: كما ذكرتكم بإرسال الرّسول فاذكروني بالطّاعة و الانقياد أَذْكُرْكُمْ بالثّواب. أو فاذكروني بقلوبكم اذكركم برحمتي. أو اذكروني بالدعاء أذكركم بالاجابة. أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات.

أو اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي. أو اذكروني بالصّدق و الإخلاص أذكركم بالخلاص و مزيد الاختصاص. أو اذكروني بالرّبوبيّة أذكركم بالرّحمة و العبوديّة.

عن الصادق عليه السّلام في حديث: «يا عيسى، اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، و اذكرني في ملئك اذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميّين »(2).

و عن (العياشي) عن الباقر عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الملك ينزل الصحيفة من أوّل النّهار و أوّل اللّيل يكتب فيها عملكم، فاملوا في أوّلها خيرا و في آخرها خيرا، فإنّ اللّه يغفر [لكم] ما بين ذلك إن شاء اللّه، فإنّه يقول: اذكرونى أَذْكُرْكُمْ » (3).

و عنه عليه السّلام: «ذكر اللّه لأهل الطاعة أكثر(4) من ذكرهم إيّاه، أ لا ترى إنّه يقول: اذكرونى أَذْكُرْكُمْ ؟» (5).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «اذكروا اللّه في كلّ مكان فإنّه معكم »(6).

ص: 360


1- تفسير الرازي 143:4.
2- الكافي 3/364:2، تفسير الصافي 184:1.
3- تفسير العياشي 225/167:1، تفسير الصافي 184:1.
4- في تفسير القمي: لأهل الصلاة أكبر، و في تفسير الصافي: لأهل الطاعة أكبر.
5- تفسير القمي 150:2، تفسير الصافي 184:1.
6- الخصال: 10/613، تفسير الصافي 184:1.

قال لقمان لابنه: يا بنيّ ، إذا رأيت قوما يذكرون اللّه تعالى فاجلس معهم، فإنّك إن تك عالما ينفعك علمك. و إن تك جاهلا علّموك. و لعلّ اللّه يطّلع عليهم برحمته فيصيبك معهم(1).

في أقسام ذكر اللّه و أنواعه

قيل: الذكر قد يكون باللّسان، و قد يكون بالقلب، و قد يكون بالجوارح. فالذكر باللّسان:

أن يحمدوه و يسبّحوه و يمجّدوه و يقرءوا كتابه. و الذكر بالقلب على ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يتفكّروا في الدلائل الدالّة على ذاته و صفاته، و يتفكّروا في الجواب عن الشبه العارضة في ملك اللّه(2).

و ثانيها: أن يتفكّروا في الدلائل الدالّة على كيفيّة تكاليفه و أحكامه، و أوامره و نواهيه و وعده و وعيده، فإذا عرفوا كيفيّة التّكليف و عرفوا ما في الطاعة من الوعد و في تركها من الوعيد سهلت عليهم.

و ثالثها: أن يتفكّروا في أسرار مخلوقات اللّه تعالى حتّى تصير كلّ ذرّة من ذرّات المخلوقات كالمرآة المجلوّة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر [العبد] إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال، و هذا المقام مقام لا نهاية له.

و أمّا الذكر بالجوارح فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي امروا بها، و خالية عن الأعمال التي نهوا عنها. و على هذا الوجه سمّى اللّه تعالى الصّلاة ذكرا، بقوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ (3)

فالأمر في قوله: اذكرونى متضمّن لجميع الطّاعات.

كما نقل عن سعيد بن جبير، أنّه قال في تفسيره: اذكروني بطاعتي(4).

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالذكر الذي هو بأحد الوجوه أهمّ العبادات و روحها، أمر بالشّكر بقوله:

وَ اشْكُرُوا لِي على جميع نعمي، ظاهريّة كالصّحّة و الأمنيّة و غيرها. و باطنيّة: كإرسال الرّسول و الهداية إلى الدّين القويم و الطريق المستقيم الذي منها تحويل القبلة.

و هذا أمر بجميع الطاعات، فإنّ من الشكر القيام بالواجبات، و الاهتمام بترك المحرّمات، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «شكر كلّ نعمة الورع عن محارم(5) اللّه (6)».و أقلّ مراتب الشّكر ثناؤه تعالى

ص: 361


1- تفسير روح البيان 257:1.
2- في تفسير الرازي: الشبهة القادحة في تلك الدلائل.
3- الجمعة: 9/62.
4- تفسير الرازي 143:4، تفسير روح البيان 256:1.
5- في الخصال و تفسير الصافي: عمّا حرّم.
6- الخصال: 50/14، تفسير الصافي 185:1.

و حمده.

كما عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: هل للشّكر حدّ إذا فعله الرّجل كان شاكرا؟ قال: «نعم».

قيل: و ما هو؟ قال: «الحمد للّه على كلّ نعمة أنعمها عليّ ، و إن كان له فيما أنعم به عليه حقّ أدّاه، و منه قول اللّه تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا » (1).

و عنه عليه السّلام في رواية: «عند النعمة الشّكر فريضة»(2) الخبر.

و إنّما لم يقل: اشكروني، لما في قوله: اُشْكُرُوا لِي إشعار باختصاص الشكر به تعالى، و عدم استحقاق غيره له، لأنّ جميع النعم بفضله و منتهية إليه.

ثمّ لتأكيد ذلك الأمر نهى عن ضدّه بقوله: وَ لا تَكْفُرُونِ نعمي بجحدها، و عصيان أمري، بل عليه يكون ترك الشكر كفرانا.

و قيل: إنّ المراد لا تكفرون بي، و لا تجحدون وحدانيّتي و الوهيّتي، و إنّما خصّ الكفر به تعالى بالنهي عنه، للتّنبيه على أنّه أعظم قباحة بالنسبة إلى كفر نعمه(3).

سورة البقرة (2): الآیات 153 الی 154

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

سورة البقرة (2): آیة 153

ثمّ لمّا كان حقيقة شكره و هو تذكّر نعمه و القيام بجميع أوامره و ترك ارتكاب جميع منهيّاته شاقّا على النّفوس و ثقيلا على الطّباع، أمر بالصّبر و التوجّه إلى عظمته و سعة رحمته بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على طاعة اللّه و التورّع عن محارمه و أداء حقّ شكره بِالصَّبْرِ على تحمّل مشاقّ الامور و بكفّ النّفس عن مخالفة أحكام اللّه و اتّباع الشّهوات، فإنّ قوّة تحمّل المشاقّ من غير جزع و اضطراب ذريعة إلى فعل كلّ خير، و مبدأ كلّ فضل.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «الصّبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد »(4).

و قال: «الصّبر خير كلّه، فمن تحلّى بحلية الصّبر سهل عليه القيام بالطّاعات، و الاجتناب عن

ص: 362


1- تفسير العياشي 226/167:1، تفسير الصافي 185:1، و الآية من سورة الزخرف: 13/43.
2- الخصال: 17/86، تفسير الصافي 185:1.
3- تفسير روح البيان 256:1.
4- الكافي 3/72:2، تفسير روح البيان 257:1.

المنكرات، و تحمّل البلايا و المصيبات »(1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث: «ثمّ ينادي مناد: أين أهل الصّبر؟ فيقوم ناس يسيرون سراعا إلى الجنّة فتلقّاهم الملائكة فيقولون: إنّا نراكم سراعا إلى الجنّة، فمن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصّبر. فيقولون:

ما كان صبركم ؟ قالوا: كنّا نصبر على طاعة اللّه، و نصبر عن معاصي اللّه. فيقال لهم: أدخلوا الجنّة »(2).

و عن الصادق عليه السّلام(3) في رواية: «عند البلاء من اللّه الصّبر فريضة »(4).

و قيل: إنّ المراد بالصّبر هنا، الصّبر على الصّوم(5).

ثمّ لمّا كان التوجّه إلى اللّه و حضور القلب عنده في الصّلاة أكمل و أتمّ ، أمر بالاستعانة بها بقوله:

وَ الصَّلاةِ التي روي أنّها معراج المؤمن (6) ،و قربان كلّ تقيّ (7) ،و أنّها الناهية عن الفحشاء و المنكر(8).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: كان إذا حزبه(9) أمر فزع إلى الصّلاة، و تلا هذه الآية(10).

ثمّ لمّا كان الصّبر على الطّاعة متضمّنا للاهتمام بالصّلاة و القيام بسائر العبادات أكّد الأمر بالاستعانة به بقوله: إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ بالتّوفيق و اجابة الدّعوة و النّضرة على الأعداء.

سورة البقرة (2): آیة 154

و قيل: إنّ المراد بالصّبر في الآية الصّبر على الجهاد بشهادة إردافه بقوله: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ و جهاد أعدائه و نصرة دينه و إعلاء كلمته، أنّهم أَمْواتٌ منقطعو الأثر في الدّنيا، فإنّ الميّت من لا يبقى منه أثر بَلْ هم أَحْياءٌ حيث إنّهم أحيوا دين الاسلام و سنّة الجهاد، فما دام الاسلام باقيا في الدّنيا، آثارهم باقية و ثواب عملهم غير منقطع عنهم، لأنّ من سنّ سنّة حسنة، كان له أجر من عمل بها.

وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ بالحواسّ الظاهرة هذا النّحو من الحياة، حيث إنّها أمر معنويّ لا يدرك إلاّ بالعقل السّليم أو بالوحي من اللّه و إخبار أنبيائه.

في عدد قتلى بدر و أسمائهم

روي عن ابن عبّاس أنّها نزلت في قتلى بدر من المسلمين، و هم يومئذ أربعة عشر رجلا ستّة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار، فمن المهاجرين: عبيدة بن الحارث

ص: 363


1- تفسير روح البيان 257:1.
2- تفسير روح البيان 258:1.
3- في الخصال و تفسير الصافي: الباقر عليه السّلام.
4- الخصال: 17/86، تفسير الصافي 185:1.
5- تفسير الرازي 144:4.
6- بحار الأنوار 303:82.
7- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 16/7:2.
8- كما ورد في سورة العنكبوت: 45/29.
9- حزبه الأمر: نابه و اشتدّ عليه.
10- تفسير الرازي 145:4.

بن عبد المطّلب، و عمر بن أبي وقاص، و ذو الشّمالين، و عمرو بن نفيلة، و عامر بن بكر، و مهجع بن عبد اللّه. و من الأنصار سعيد بن خيثمة (1) ،و قيس بن عبد المنذر، و زيد بن الحارث، و تميم بن الهمام، و رافع بن المعلّى، و حارثة بن سراقة، و معوّذ بن العفراء و عوف بن العفراء و كانوا يقولون: مات فلان، و مات فلان، فنهى اللّه تعالى أن يقال فيهم أنّهم ماتوا.

و قيل: إنّ الكفّار و المنافقين قالوا: إنّ النّاس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمّد من غير فائدة، فنزلت هذه الآية(2).

و عن (الكافي) و (التهذيب): عن يونس بن ظبيان، عن الصادق عليه السّلام أنّه قال له: «ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين ؟» قال: يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش.

فقال عليه السّلام: «سبحان اللّه! المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير! يا يونس، إذا كان ذلك أتاه محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الملائكة المقرّبون، فإذا قبضه اللّه تعالى صيّر تلك الرّوح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصّورة التي كانت له في الدنيا »(3).

و عن (التّهذيب): عنه عليه السّلام أنّه سئل عن أرواح المؤمنين فقال: «في الجنّة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت: فلان »(4).

في بيان حال المؤمن في البرزخ

أقول: ظهر أنّ المراد من الحياة في الآية هي الحياة البرزخيّة، التي عبارة عن تعلّق الرّوح بالجسد المثالي الذي هو جوهر هذا الجسد الدنيويّ ، في عالم البرزخ الذي هو عالم بين العالمين، كما دلّت عليه الأخبار المتواترة، و ضرورة المذهب أو الدّين.

و إنّما اختصّ هذه الحياة بالشّهداء و المؤمنين مع كونها للكفّار و العصاة أيضا؛ لأنّ حياة الشّهداء مقرونة باللّذّة و النّعمة و البهجة و الكرامة دون حياة غيرهم، حيث إنّها مقرونة بالعذاب و النّقمة، فكأنّها(5) ليس بحياة، كما قال تعالى في حقّ أهل النّار: لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (6).

سورة البقرة (2): آیة 155

اشارة

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ

ص: 364


1- في النسخة: سعيد بن خثيمة، و ما أثبتناه من تفسير الرازي.
2- تفسير الرازي 145:4.
3- الكافي 6/245:3، التهذيب 1526/466:1.
4- التهذيب 1527/466:1.
5- في النسخة: فكأنّه.
6- طه: 74/20.

وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ (155)

سورة البقرة (2): آیة 155

ثمّ أنّه تعالى لتوطين العباد نفوسهم على الصّبر في المكاره بعد أمرهم بالاستعانة به، نبههم على أنّ جميع البلايا من جانب اللّه لطف بهم و امتحان لهم بقوله: وَ باللّه لَنَبْلُوَنَّكُمْ و لنختبرنّ كمال نفوسكم و قوّة إيمانكم بِشَيْ ءٍ قليل مِنَ الْخَوْفِ من أعدائكم وَ من اَلْجُوعِ العارض لكم بسبب الفقر و القحط وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالتّلف بالسّرقة و الغارة و غير ذلك وَ من اَلْأَنْفُسِ بالقتل و المرض و الموت و غير ذلك من الآفات الجسمانيّة وَ من اَلثَّمَراتِ

و حاصل الأشجار و الزّرع بالجدب و سائر الآفات.

قيل: في توصيفها بالقلّة إشعار بأنّها و إن كثرت فقليلة بالنّسبة إلى ما فوقها(1).

و قيل: إنّ المراد من الخوف خوف اللّه، و من الجوع الصّيام، و من نقص الأموال الزكاة و الصّدقات، و من نقص الأنفس الجهاد (2) ،و إنّما صارت البلايا امتحانا لأنّ الإخلاص حال البلاء للمؤمن أكثر من الإخلاص حال الرّفاه و الرّخاء.

ثم أنّه تعالى لازدياد رغبة المؤمنين بالتزام الصّبر، وعدهم بالثّواب العظيم إجمالا بقوله: وَ بَشِّرِ

يا رسول اللّه اَلصّابِرِينَ على البلايا و المصائب طلبا لمرضاة اللّه بالرّحمة الواسعة و النعم الدائمة و الفضل الذي لا يسعه البيان.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيّة لمحمّد بن الحنفيّة، قال: «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر، و عوّد نفسك الصّبر، فنعم الخلق الصّبر، و احملها على ما أصابك من أهوال الدنيا و همومها »(3).

و عن الصّادق عليه السّلام، عن أبيه، قال: قال الفضل بن العبّاس(4) في حديث: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إن استطعت أن تجمّل(5) بالصّبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر فإنّ في الصّبر على ما تكره خيرا كثيرا» الخبر(6).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يا حفص، إنّ من صبر صبر قليلا، و إنّ من جزع جزع قليلا» ثمّ قال:

ص: 365


1- تفسير روح البيان 260:1.
2- تفسير روح البيان 260:1.
3- من لا يحضره الفقيه 830/276:4.
4- في المشكاة و البحار: عبد اللّه بن العبّاس.
5- في المشكاة و البحار: تعمل.
6- مشكاة الأنوار: 20، بحار الأنوار 52/183:70.

«عليك بالصّبر في جميع امورك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فأمره بالصّبر و الرّفق» الخبر(1).

و عنه عليه السّلام في رواية: «فمن صبر كرها و لم يشك إلى الخلق و لم يجزع بهتك ستره فهو من العام، و نصيبه ما قال اللّه تعالى: وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ » الخبر(2).

في أنّ البلاء و المصيبة من ألطاف اللّه بالمؤمن

ثمّ اعلم أنّ الآية صريحة في أنّ البلاء و الرّخاء و النعمة و الشّدّة كلّها من اللّه، و أنّ البلاء و المصيبة من ألطافه تعالى بالمؤمن؛ لأنّه مقدّمة للصّبر الذي هو من أفاضل الصّفات و أكمل الخصال و الملكات للنّفس.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الإيمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر، فإذا صبر المؤمن عند نزول الشّدائد كان له درجات» الخبر(3).

نعم، قد يكون كفّارة للسّيئات كما روي عن (النهج) «أنّ اللّه يبتلي عباده عند الأعمال السّيئة بنقص الثمرات، و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات؛ ليتوب تائب، و يقلع مقلع، و يتذكّر متذكّر، و يزدجر مزدجر »(4).

في بيان وجه أفضلية الصبر على الطاعة من الصبر على البلاء

ثمّ أنّه روي: «أنّ الصّبر على الطّاعة من عمل الواجبات و ترك المحرّمات أفضل من الصّبر على البلاء »(5) ،لوضوح أنّه متوقّف على قوّة الإيمان و شدّة اليقين، حيث إنّ الانسان العاقل البالغ المكلّف له قوّة شهويّة تدعوه إلى اللذّات النفسانيّة العاجلة و الاشتغال بها، و قوّة عاقلة تدعوه إلى اللذّات الرّوحانيّة الباقية، و لو كانت آجلة، و التجنّب عمّا يصدّ عنها، فإذا عرف العقل أنّ الاشتغال بطلب اللذّات الفانية يمنعه عن الوصول إلى اللذّات الباقية تكون هذه المعرفة صادّة و مانعة لداعية الشّهوة، فيسمّى ذلك المنع و الصّدّ صبرا.

نقل كلام الفخر الرازي و تزييفه

ثمّ من العجائب، أنّ قال الفخر الرازي في (تفسيره): إنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الغذاء لا يفيد الشّبع، و شرب الماء لا يفيد الريّ ، بل كلّ ذلك يحصل بما أجرى اللّه العادة به عند هذه الأسباب؛ لأنّ قوله:

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ صريح في إضافة هذه الامور إلى اللّه، انتهى(6).

ص: 366


1- الكافي 3/71:2، بحار الأنوار 66/202:9.
2- مصباح الشريعة: 186، تفسير الصافي 185:1.
3- تفسير الرازي 149:4، إلى قوله: شكر.
4- نهج البلاغة: 199 الخطبة 143، تفسير الصافي 186:1.
5- بحار الأنوار 16:76.
6- تفسير الرازي 153:4.

و فيه من الوهن ما لا يخفى، إذ يكفي في إضافة هذه الامور إليه تعالى على وجه الحقيقة، إضافة إيجاد أسبابها إليه. و أمّا قوله: إنّ إضافتها بواسطة الأسباب إليه مجاز لا يصار إليه إلاّ بعد تعذّر الحقيقة، فممنوع أشدّ المنع، لوضوح كون إسناد الكتابة التي تحصل بتوسّط القلم إلى الكاتب الشاعر المختار حقيقة عند العرف. نعم، لو كان الواسطة فاعلا عاقلا مختارا، أمكن أن يكون الإسناد إلى غير المباشر مجازا، كإسناد فتح البلد إلى الأمير.

سورة البقرة (2): آیة 156

اشارة

اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)

سورة البقرة (2): آیة 156

ثمّ أنّه تعالى وصف الصّابرين بأنّهم اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ و وصلت إليهم مُصِيبَةٌ و بليّة و كريهة قالُوا تسكينا لقلوبهم، و تسهيلا لتحمّلها على أنفسهم إِنّا مملوكون لِلّهِ مخلوقون بقدرته، مقهورون تحت إرادته، متقلّبون في قبضته بمشيئته وَ إِنّا بعد الموت و الخروج من هذه الدنيا الفانية إِلَيْهِ و إلى حكمه و رحمته و قدرته و سلطانه راجِعُونَ كما كنّا قبل ولادتنا و دخولنا في تكفّل الآباء تحت قدرته و سلطنته، لم يكن لأحد علينا في العوالم السابقة من أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات تصرّف و تدبير و إرادة و تقدير، بل كنّا نتقلّب و تعيش فيها بالعيش المناسب لها بمشيئته و حكمته و قضائه و قدره.

ففي الجملة الأولى إقرار بالمبدإ، و في الثانية: بالمعاد. و لا ريب أنّ معرفتهما من أكمل المسكّنات للقلب عند نزول ما يشقّ عليه تحمّله، و رؤية ما لا يلائم طبعه، حيث إنّ العبد إذا عرف أنّه لا وجود له إلاّ بإفاضة اللّه، و لا إرادة له عند إرادته، و لا تصرّف له في شيء من أموره، و لا معرفة له بمصالحه و مفاسده، و أنّ هذه الحياة الدنيا منقطعة، و نعمها زائلة، و أنّه منتقل منها إلى دار الجزاء و عالم البقاء، رضي برضا اللّه، و سلّم الأمر إليه، و هان عليه جميع ما يرد عليه من البلايا و المكاره.

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: لئن أخرّ من السّماء أحبّ إليّ من أن أقول في شيء قضاه اللّه: ليته لم يكن(1).

و روي أنّه كلّما اشتدّ الأمر على الحسين بن عليّ عليهما السّلام في يوم الطّفّ أشرق وجهه سرورا (2).و أنّ حبيب بن مظاهر كان يضحك في ذلك اليوم. فقيل له في ذلك، فقال: أيّ موضع أحقّ بالسّرور من

ص: 367


1- تفسير الرازي 155:4.
2- بحار الأنوار 2/297:44.

هذا الموضع! و اللّه ما هو إلاّ أن يقبل علينا هؤلاء القوم بأسيافهم، ثمّ نعانق الحور العين(1).

و عن سعيد بن جبير، قال: ما اعطي أحد في المصيبة ما اعطيت هذه الأمّة - يعني الاسترجاع - و لو اعطيه أحد لاعطي يعقوب، أ لا تسمع إلى قوله في قصّة فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ (2) ؟

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه طفئ سراجه فقال: «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » فقيل: أ مصيبة [هي]؟ قال: «نعم، ما(3)

يؤذي المؤمن فهو له مصيبة »(4).

سورة البقرة (2): آیة 157

اشارة

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

سورة البقرة (2): آیة 157

ثمّ بيّن اللّه تعالى ما يبشّر به الصابرون تفضيلا بقوله: أُولئِكَ الصابرون المسترجعون عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ كثيرة و عطوفات خاصة متتالية كائنة مِنْ رَبِّهِمْ و مليكهم اللطيف بهم وَ رَحْمَةٌ

عظيمة دائمة غير منقطعة، و هي شاملة لإيصال جميع المسارّ إليهم، و دفع جميع المضارّ عنهم في الدنيا و الآخرة وَ أُولئِكَ المكرمون عند اللّه عَلَيْهِمْ بالخصوص اَلْمُهْتَدُونَ إلى كلّ حقّ و صواب و خير و فلاح، المرشدون إلى مقام القرب و طريق الجنّة و النعم الدائمة.

عن ابن عبّاس، قال: أخبر اللّه تعالى أنّ المؤمن إذا سلّم لأمر اللّه و رجع و استرجع عند مصيبته كتب اللّه تعالى له ثلاث خصال: الصّلاة من اللّه، و الرّحمة، و تحقيق سبيل الهدى(5).

عن (الخصال) و (العيّاشيّ ) عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أربع خصال من كنّ فيه، كان في نور اللّه الأعظم: من كان عصمة امره شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه، و من [إذا] أصابته مصيبة قال:

إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و من إذا أصاب خيرا قال: الحمد للّه (6) ،و من إذا أصاب خطيئة قال: أستغفر اللّه و أتوب إليه »(7).

و عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام: «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة و يصبر حين يفجع إلاّ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه، و كلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكر المصيبة غفر اللّه له

ص: 368


1- رجال الكشي: 133/79.
2- تفسير روح البيان 261:1، و الآية من سورة يوسف: 84/12.
3- في تفسير الرازي: نعم كل شيء.
4- تفسير الرازي 155:4.
5- تفسير الرازي 155:4.
6- زاد في الخصال: رب العالمين.
7- الخصال: 49/222، تفسير العياشي 234/169:1.

كلّ ذنب [اكتسب] فيما بينهما »(1).

و عن (الخصال) و (العيّاشيّ ): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قال اللّه تعالى: «إنّي جعلت(2) الدنيا بين عبادي قرضا، فمن أقرضني منها [قرضا] أعطيته بكلّ واحدة منهنّ عشرا إلى سبعمائة ضعف، و ما شئت من ذلك، و من لم يقرضني [منها قرضا] فأخذت منه قسرا أعطيته ثلاث خصال، لو اعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا: الصّلوات، و الهداية، و الرّحمة. إن اللّه تعالى يقول: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ »

الى آخره(3).

و في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان، و لا ينصب لهم ميزان، يصبّ عليهم الأجر صبّا، ثمّ قرأ إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ » (4).

سورة البقرة (2): آیة 158

اشارة

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

سورة البقرة (2): آیة 158

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المسلمين بالتوجّه إلى الكعبة في صلاتهم، و اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام في قبلته، أمرهم باتّباعه عليه السّلام في اتّباع سنّته الاخرى بقوله: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ و هما جبلان بمكّة. قيل:

سمّي أحدهما بالصّفا لأنّه جلس عليه آدم صفيّ اللّه، و الاخرى بالمروة لأنّه جلست عليه امرأته حواء(5).

مِنْ شَعائِرِ اللّهِ و أعلام مناسكه و طاعته. قيل: ما بينهما قبر سبعين ألف نبيّ (6).

فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ و قصده أَوِ اعْتَمَرَ و زاره للنّسكين المعروفين. روي أنّ الحجّ و العمرة علمان كالنّجم و البيت في الأعيان(7).

فَلا جُناحَ عَلَيْهِ و لا إثم له في أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما و أن يدور و يسعى بينهما.

ص: 369


1- الكافي 5/224:3.
2- في الخصال و العياشيّ : أعطيت.
3- الخصال: 135/130، تفسير العياشي 232/169:1.
4- تفسير روح البيان 261:1، و الآية من سورة الزمر: 10/39.
5- تفسير روح البيان 262:1.
6- تفسير روح البيان 263:1.
7- جوامع الجامع: 30.

في وجوب السعي بين الصفا و المروة، و نكتة التعبير عنه بنفي الجناح

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل أنّ السّعي بين الصّفا و المروة فريضة أم سنّة ؟ فقال: «فريضة».

قيل: أو ليس قال [اللّه] عزّ و جلّ : فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؟ قال: «كان ذلك في عمرة القضاء، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصّفا و المروة، و تشاغل رجل عن السّعي حتّى انقضت الأيّام، و اعيدت الأصنام، فجاءوا إليه فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ فلانا لم يسع بين الصّفا و المروة، و قد اعيدت الأصنام! فأنزل اللّه عزّ و جلّ إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ إلى قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [أي] و عليهما الأصنام »(1).

و عن القمّي: «أنّ قريشا كانت وضعت أصنامهم بين الصّفا و المروة و [كانوا] يتمسّحون بها إذا سعوا، فلمّا كان من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة الحديبية ما كان، و صدّوه عن البيت، و شرطوا له أن يخلوا له البيت في العام القابل حتّى يقضي عمرته ثلاثة أيّام، ثمّ يخرج منها، فلمّا كانت عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة دخل مكّة، و قال لقريش: ارفعوا أصنامكم [من بين الصفا و المروة] حتّى أسعى فرفعوها» الحديث (2).كما [رواه] في (الكافي) بأدنى تفاوت(3).

و في (الكافي): عنه عليه السّلام: «أنّ المسلمين كانوا يظنون [أنّ ] السّعي ما بين الصّفا و المروة شيء صنعه المشركون، فأنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية »(4).

قيل: إنّه كان على الصّفا صنم يقال له إساف، و على المروة صنم يقال له نائلة، و إنّهما كانا رجلا و امرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين، فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلمّا طالت المدّة عبدا من دون اللّه، فكان أهل الجاهليّة إذا سعوا بين الصّفا و المروة مسحوهما تعظيما لهما، فلمّا جاء الإسلام و كسّرت الأوثان كره المسلمون الطّواف بينهما لأنّه فعل أهل الجاهليّة، فأذن اللّه تعالى في الطّواف بينهما، و أخبر أنّهما من شعائر اللّه(5).

و روي أنّ الصّفا و المروة بابان من الجنّة، و موضعان من مواضع الإجابة، و سعيهما يعدل سبعين رقبة(6).

ص: 370


1- الكافي 8/435:4.
2- تفسير القمي 64:1.
3- راجع الكافي 8/435:4.
4- الكافي 4/245:4.
5- تفسير روح البيان 262:1.
6- تفسير روح البيان 263:1.

في حكمة تشريع السعي

قيل في حكمة تشريع السّعي: أنّه لمّا اشتدّ العطش على هاجر و ابنها إسماعيل، سعت بين الصّفا و المروة لطلب الماء، فأغاثها اللّه بالماء الذي أنبعه من زمزم، فأمر اللّه الخلق بالسّعي بين الصّفا و المروة ليتذكّروا هذه القصّة، و يعلموا أنّ اللّه و إن كان لا يخلي أولياءه في دار الدّنيا عن المحن و البلايا، إلاّ أنّ فرجه قريب ممّن دعاه، فإنّه غياث المستغيثين. فانظر إلى حال هاجر و إسماعيل كيف أغاثهما اللّه، ثمّ جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة ليعلموا أنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين.

و قيل: إنّ ذلك تحقيق لما أخبر اللّه تعالى به قبل ذلك من أنّه يبتلي عباده بشيء من الخوف و الجوع إلى آخره، فمن صبر على ذلك نال السّعادة في الدّارين، و فاز بالمقصد الأعلى في المنزلين(1).

عن الصادق عليه السّلام: «جعل السّعي بين الصّفا و المروة مذلّة للجبارين »(2).

قيل: في إيراد التطوّف الذي هو من باب التفعّل إشعار بأنّ من حقّ السّاعي أن يتحمّل الكلفة في السّعي و يبذل جهده فيه(3).

وَ مَنْ تَطَوَّعَ و تبرّع بفعل المستحبّات أو أتى بالطّوع و الرّغبة عملا خَيْراً من الخيرات من السّعي الزائد على القدر الواجب، أو غيره من سائر الصّالحات فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ له، مجاز على عمله.

و في التعبير عن الجزاء بالشّكر اشعار بكمال اللّطف بعبيده عَلِيمٌ بعمله و حسن نيّته و مقدار جزائه، فلا يمكن أن يبخس منه شيئا.

سورة البقرة (2): الآیات 159 الی 160

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ (160)

سورة البقرة (2): آیة 159

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن عدّة من الأحكام، حذّر النّاس عن كتمانها و كتمان كلّ حقّ بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ و يخفون عن تعمّد و عناد ما أَنْزَلْنا مِنَ الآيات اَلْبَيِّناتِ وَ البراهين الموضّحات لأمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صحّة دينه، و من اَلْهُدى و الرّشاد إلى كلّ حقّ و صواب.

ص: 371


1- تفسير الرازي 158:4.
2- الكافي 5/434:4.
3- تفسير أبي السعود 181:1، تفسير روح البيان 263:1.

مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ و أوضحناه و فصّلناه لِلنّاسِ كافّة، الكاتمين و غيرهم فِي الْكِتابِ

السّماويّ من التّوراة و الإنجيل و غيرهما، بحيث يتلقّاه و يفهمه كلّ أحد من غير أن يكون فيه شبهة و ريب.

أُولئِكَ الكاتمون يَلْعَنُهُمُ اللّهُ و يبعدهم من رحمته و فضله في الدّارين وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ من الملائكة و الجنّ و الإنس، بل كلّ ما يتأتّى منه اللّعن من سائر الحيوانات و النّباتات و الجمادات بلسان حالهم و قدر شعورهم، بل حتّى نفس الكاتم حيث إنّه يقول: لعن اللّه الكاتمين.

عن العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام في قوله: اَللاّعِنُونَ قال: «نحن هم، و قد قالوا: هوامّ الأرض »(1).

عن ابن مسعود رضى اللّه عنه: ما تلاعن اثنان إلاّ ارتفعت اللّعنة بينهما، فإن استحقّها أحدهما و إلاّ رجعت على اليهود الذين كتموا صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله(2).

عن (الاحتجاج) و (تفسير الإمام) عن أبي محمّد عليه السّلام قال: «قيل لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه:

من خير خلق اللّه بعد أئمّة الهدى و مصابيح الدّجى ؟ قال: العلماء إذا صلحوا.

قيل: و من شرّ خلق اللّه بعد إبليس و فرعون و ثمود (3) ،و بعد المتسمّين بأسمائكم و المتلقّبين بألقابكم و الآخذين لأمكنتكم و المتأمّرين في ممالككم ؟ قال: العلماء إذا فسدوا، المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، فهم الذين قال اللّه عزّ و جلّ : أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ » (4).

في حرمة كتمان العلم عن المحتاج الأمين

عن القمّي مرفوعا: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إذا ظهرت البدع في امّتي فليظهر العالم علمه، و من لم يفعل فعليه لعنة اللّه »(5).

و عن النبيّ أنّه قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه، الجم يوم القيامة بلجام من نار »(6).

و عن العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام: «إنّ رجلا أتى سلمان الفارسيّ ، فقال: حدّثني فسكت، ثمّ عاد فسكت، ثمّ عاد فسكت، فأدبر الرّجل و هو يتلو هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ فقال له: أقبل، إنّا لو وجدنا أمينا لحدّثناه» الخبر(7).

فدلّت الرّواية على أنّ مطلق الكتمان لا يكون محرّما، بل يكون مشروطا بكون الطّالب أمينا على

ص: 372


1- تفسير العياشي 247/173:1.
2- تفسير روح البيان 265:1.
3- في الاحتجاج و تفسير الإمام: و نمرود.
4- الاحتجاج: 458، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 144/302.
5- الكافي 2/44:1.
6- مجمع البيان 442:1، تفسير الصافي 189:1.
7- تفسير العياشي 244/172:1، تفسير الصافي 189:1.

العلم، حافظا له كما سمعه، غير مبدّل و لا مغيّر، و أن لا يكون في إظهار العلم ضرر على المظهر و لا على المستمع، و أن يكون العلم ممّا يحتاج إليه السائل في عقيدته و عمله، بحيث يجب عليه تحصيله. و دلّت الرّوايات أيضا على أنّ حكم الآية عامّ ، و إن قيل أنّها نزلت في رؤساء اليهود و أحبارهم(1).

كما روي عن ابن عبّاس أنّه سأل جماعة من الأنصار نفرا من اليهود عمّا في التّوراة من صفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من الأحكام، فكتموا فنزلت(2).

و عنه أيضا أنّه قال: نزلت في أهل الكتاب من اليهود و النّصارى. الخبر(3) لوضوح أنّ خصوصيّة المورد لا يخصّص عموم الحكم.

سورة البقرة (2): آیة 160

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا و رجعوا عن كفرهم، و ندموا على كتمانهم وَ أَصْلَحُوا نيّاتهم و أعمالهم و تداركوا ما أفسدوه وَ بَيَّنُوا للنّاس ما في الكتب السّماويّة من نعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و علائمه.

فَأُولئِكَ التائبون الصالحون أَتُوبُ و أرجع عَلَيْهِمْ بقبول التّوبة و الرّحمة المغفرة وَ أَنَا التَّوّابُ السّريع القبول للتّوبة، الواسع المغفرة للتّائبين اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين.

سورة البقرة (2): الآیات 161 الی 162

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

سورة البقرة (2): آیة 161

ثمّ لمّا لم تكن في الآية السابقة دلالة على استمرار اللّعنة عليهم، صرّح سبحانه و تعالى بكونهم ملعونين بعد الموت إذا استمرّوا على كفرهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و بآياته و كتموها عن النّاس وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ لم يرتدعوا عن عقائدهم الفاسدة، و لم يتوبوا من أفعالهم الشّنيعة.

أُولئِكَ المصرّون على الكفر و معاندة الحقّ ، مستقرّ عَلَيْهِمْ بعد خروجهم من الدنيا لَعْنَةُ اللّهِ و طردهم من رحمته وَ لعنة اَلْمَلائِكَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ حتّى الكفّار منهم، حيث إنّهم يلعنون الكفّار في الدنيا لادّعائهم أنّهم ليسوا منهم، و قد أخبر اللّه تعالى بأنّ يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا.

ص: 373


1- تفسير روح البيان 264:1.
2- تفسير الرازي 162:4.
3- تفسير الرازي 162:4.

سورة البقرة (2): آیة 162

و قيل: إنّ المراد بالنّاس في الآية المؤمنون منهم لأنّهم المنتفعون بالإنسانيّة، و أمّا الكفّار فهم كالأنعام بل هم أضلّ (1) ،فاللّعنة محيطة بهم حال كونهم خالِدِينَ و دائمين فِيها لا خلاص لهم منها، فلازم دوام اللّعنة عليهم أنّه لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ كيفيّة و لا يهوّن عليهم ساعة وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و يمهلون لحظة.

و قيل: إنّ المراد أنّه لا ينظر إليهم ربّهم نظر الرّحمة(2).

سورة البقرة (2): آیة 163

اشارة

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)

سورة البقرة (2): آیة 163

ثمّ أنّه لمّا كان الشّرك ساريا في اليهود و النّصارى و غيرهم من العرب، دعا اللّه تعالى جميعهم بعد محاجّتهم في النبوّة إلى التّوحيد الخالص بقوله: وَ إِلهُكُمْ و معبودكم أو مفزعكم أيّها النّاس إِلهٌ واحِدٌ و مفزع أو معبود فارد لا تعدّد له حتّى تباينوا في المقصد و تتشعّبوا في المسلك.

ثمّ قرّر وحدانيّته و أكّدها بقوله: لا إِلهَ موجود و متصوّر إِلاّ هُوَ فلا تعبدوا إلاّ إيّاه، و لا ترجوا و لا تخافوا ما سواه.

و في الإتيان بضمير الغائب إشعار بأنّه تعالى من غاية إبهام ذاته و كنه صفاته، يكون غيب الغيوب و حقيقته من العقول و الأوهام مستورا و محجوبا، لا تدركه الأبصار و القلوب، و هو يدرك الأبصار و الألباب، ليس له دون خلقه ستر و لا حجاب، محيط بذرّات الكائنات، قيّوم على جميع الممكنات، فهو بذاته مع قطع النّظر عن نعمه مستحقّ لأن يعبده جميع الموجودات.

ثمّ أضاف إلى استحقاقه الذاتيّ استحقاقه الصّفاتيّ بقوله: اَلرَّحْمنُ الرَّحِيمُ المولى بجميع النعم، اصولها و فروعها، حيث إنّ جميع ما سواه إمّا نعمة و إمّا منعم عليه من فضله و رحمته، فلا يستحقّ غيره العبادة.

روي عن أسماء بنت يزيد أنّها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ في هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ و اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (3).

ثمّ أنّه روي أنّه: لمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة، نزلت عليه آية: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فسمع [كفّار]

ص: 374


1- تفسير روح البيان 265:1.
2- تفسير روح البيان 265:1.
3- تفسير روح البيان 267:1 و الآية من سورة البقرة: 255/2، و آل عمران: 2/3.

قريش فقالوا: كيف يسع النّاس إله واحد؟ فنزل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ (1).

و روي أنّ المشركين كان لهم حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا سمعوا آية إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .قالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ .. الآية(2).

و روي عن سعيد(3) بن مسروق، قال سألت قريش اليهود، فقالوا: حدّثونا بما جاءكم [به] موسى من الآيات فحدّثوهم بالعصا و باليد البيضاء، و سألوا النّصارى عن ذلك فحدّثوهم بإبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى.

فقالت قريش عند ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ادعوا اللّه أن يجعل لنا الصّفا ذهبا فنزداد يقينا و قوّة على عدوّنا فسأل ربّه ذلك، فأوحى اللّه تعالى إليه أن يعطيهم، و لكن إن كذّبوك بعد ذلك لاعذّبنّهم عذابا لا اعذّبه أحدا من العالمين!

فقال صلّى اللّه عليه و آله «ذرني و قومي أدعوهم يوما فيوما»، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية مبينا لهم أنّهم إنّ كانوا يريدون أن أجعل لهم الصّفا ذهبا ليزدادوا يقينا، فخلق السّماوات و الأرض و سائر ما ذكر في الآية أعظم(4).

أقول: ظاهر الرّواية أنّ قريش الذين اقترحوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، كانوا من المؤمنين به، حيث قالوا: فنزداد يقينا و قوّة على عدوّنا، و الظاهر أنّه لم يكن في المؤمنين منهم أجسر من صنميهم.

سورة البقرة (2): آیة 164

اشارة

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

ص: 375


1- تفسير الرازي 179:4، و الآية من سورة البقرة: 164/2.
2- تفسير أبي الفتوح 184:1، تفسير روح البيان 267:1.
3- في النسخة: شعبة، و هو سعيد بن مسروق الثوري، راجع: تهذيب الكمال 60:11.
4- تفسير الرازي 179:4.

سورة البقرة (2): آیة 164

ثمّ شرع اللّه تعالى في إقامة البرهان على وحدانيّته، و من الواضح أنّ الاستدلال بالآثار على وجود المؤثّر أقرب إلى فهم العامّة، و لذا جرت سيرته تعالى في الكتاب العزيز بالاستدلال على وجوده و وحدانيّته بمخلوقاته العجيبة و مصنوعاته البديعة، مع أنّ من توغّل في التفكّر في مخلوقاته تعالى كان أكثر علما بجلال اللّه و عظمته و قدرته و حكمته.

ثمّ لمّا كان من أظهر الآيات و أعظمها في أنظار العامّة خلق السّماوات، بدأ بذكره، بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ السّبع أو التسع و إنشائها على سبيل الاختراع و الإبداع بلا عمد تمنعها من السّقوط ، و علاقة تحبسها عن الوقوع.

ثمّ ثنّاه بذكر الآية التي هي دون السّماوات و فوق غيرها في العظمة، بقوله: وَ في خلق اَلْأَرْضِ مع ما فيها من أعاجيب و بدائع الصنائع التي يعجز عن فهمها عقول البشر.

قيل: إنّما جمع السّماوات و أفرد الأرض، للإشعار بأنّ كلّ سماء ليست من جنس الاخرى بخلاف الأرضين، فإنّها كلّها من جنس واحد و هو التّراب(1).

ثمّ ذكر الآية الاخرى التي تكون من توابع خلق السّماوات بقوله: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ

و تعاقبهما بحيث يخلف كلّ واحد منهما الآخر، أو المراد اختلافهما بالجنس و الهيئة و الصّفات و المنافع، حيث إن الليل جعل سكنا و راحة لظلمته لأن لا ينهك الأبدان بشدّة الكدّ و التعب، و النّهار مبصرا لطلب المعاش و ابتغاء فضل اللّه.

ثمّ ذكر الآية التي تكون من خواصّ الأرض بقوله: وَ الْفُلْكِ و هي السّفن اَلَّتِي تَجْرِي و تسير فِي الْبَحْرِ مصحوبة بِما يَنْفَعُ النّاسَ من الأمتعة.

في وجه كون الفلك و سيرها في البحر من آيات اللّه

و إنّما جعل خلق الفلك و سيرها من آياته مع أنّها مصنوعات خلقه؛ لأنّ في خلق أجزائها بحيث تستقرّ على البحر في أمد بعيد لا تغرق و لا تغوص فيه، كما إذا كان كلّها من حديد، و تسخير البحر لها بحيث تجري فيه بسهولة، و تعليم صنعها حمولة(2)

بحيث تنقل بها الأمتعة النافعة من بلد إلى بلد، و إرسال الرّياح غير العاصفة لتحريكها و تسييرها بسرعة، و تقوية القلوب لركوبها، و جعل الأمتعة فيها حتّى ينتفع عموم النّاس بأشياء نافعة مختصّة ببعض البلاد، حيث إنّه من الواضح اختصاص بعض البلاد ببعض الأمتعة التي يحتاج إليها أهل البلاد

ص: 376


1- تفسير روح البيان 267:1.
2- كذا.

البعيدة، من ظهور قدرة اللّه و حكمته و رحمته ما لا يخفى على ذي لبّ ، حيث إنّه لو لا تبعيّة السّفن بتعليم اللّه و جريانها في البحار، و حفظهما من تلاطم الأمواج، و وكوف الأمطار (1) ،و مصادمة الحيوانات العظيمة، و الجبال و الأشجار من خرق الألواح، و مخالفة عواصف الرّياح، لما وصلت سفينة إلى ساحل سليمة، و لما كثرت في البلاد نعمة و وقع(2) الخلق في مشقّة عظيمة و كلفة وخيمة.

وَ كذا في ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ المطلّة أو من جهة العلوّ، الأمطار التي تكون مِنَ جنس اَلسَّماءِ عظيم النّفع به حياة كلّ شيء و بقاؤه و رزقه، فإنّ دلالة خلق الماء البارد العذب و إنزاله من السّماء حتّى يحيط بجميع الأرض على كمال القدرة و الحكمة أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

في أنّ غالب الأمطار نازل من السماء، لا أنّ كلّها متكوّن من الأبخرة

ثمّ اعلم أنّ ظاهر كثير من الآيات و الأخبار أنّ المطر نازل من السّماء المعروفة إلى السّحاب، و منه إلى الأرض.

و قال الطّبيعيّون: إنّه من أبخرة متصاعدة من الأرض إلى الجوّ البارد بتأثير الشمس فيها فتبرد حينئذ و تنقلب بذرّات الماء فتتّصل الذّرّات فتكون قطرات، و ليس السّحاب إلاّ تلك الأبخرة المتراكمة. و ادّعوا أنّه محسوس لمن مارس، و هذا القول و إن كان في نفسه غير بعيد إلاّ أنّه مخالف لظواهر الآيات و صريح الرّوايات، و لا وجه لرفع اليد عنها بعد إمكان تحقّق مضمونها.

نعم يمكن القول بأنّ الأغلب أنّه نازل من السّماء المعروفة، و قد يوجد بالمبادئ التي ذكروها، و اللّه العالم بحقائق الامور.

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ و أنبت فيها به أنواع النّباتات و الأزهار و الزّروع و الأشجار، و حصل لها به حسن و رونق و نضارة بَعْدَ مَوْتِها و يبوستها حسب ما

تقتضيه طبيعتها.

قيل: إنّ إطلاق الحياة على حصول النّماء و الإثمار استعارة بعلاقة أنّ الحياة الحقيقيّة - و هي الرّوح في الأحياء - منشأ لوجود الآثار و النّماء و النزهة و البهاء، و فيه أنّ الظاهر أنّ لفظ الحياة حقيقة في كون الشيء مبدءا للآثار المتوقّعة منه. و بهذا المعنى يطلق الحيّ على اللّه تعالى، و على القلوب، و الموت الذي هو ضدّه حقيقة في سقوط الشيء عن قابليّة تلك الآثار.

و لمّا كان الرّوح مبدأ للآثار يطلق عليه الحياة، فعلى هذا يكون لكلّ شيء، و لو كان من الجمادات،

ص: 377


1- وكف المطر: سال و قطر.
2- كذا، و الظاهر: و لوقع.

حياة و موت.

وَ في أنّه تعالى بَثَّ في الأرض و فرّق فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ من الانسان و سائر الحيوانات التي تدبّ و تتحرّك على وجه الأرض، فإنّ من تفكّر في خلق الحيوانات خصوصا الانسان، تحصل له معرفة كاملة بوحدانيّة صانعه و كمال حكمته، فلينظر العاقل إلى بدو خلقته؛ كان نطفة متشابهة الأجزاء، ثمّ بعد استقرارها في الرّحم صارت دما متشابه الأجزاء، ثمّ صار بعد مدّة بعضه عظما، و بعضه لحما، و بعضه عصبا، و بعضه عروقا، و بعضه شحما، و بعضه جلدا، مع كون جميع هذه الأجزاء متخالفات بالطّبع و الوصف و الفائدة، حيث إنّ لكلّ منها فوائد عظيمة غير ما للاخرى.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «سبحان من بصّر بشحم، و أسمع بعظم، و انطق بلحم »(1).

في بيان بعض عجائب خلقة الانسان

ثمّ لينظر إلى عجائب تركيب جسده، فإنّ من راجع علم التّشريح وجد فيه من العجائب ما تحار فيه العقول و تضلّ فيه الأفهام، ثمّ ليتفكّر في أنّه بعد انفصاله عن أمّه طفلا لو وضعت على فمه و أنفه خرقة تمنعه من التنفّس لمات في ساعته، و مع ذلك بقي في رحم امّه حيّا من غير تنفّس مدة قريبة من خمسة أشهر و لم يمت.

ثمّ من عجائب خلقة الانسان أنّه بعد ولادته يكون من أضعف الحيوانات بطشا و أقلّها إدراكا، حيث إنّه لا يميّز بين امّه و غيرها، و لا بين الماء و النّار، و النّافع و المضرّ، و الملذّ و المؤذي، ثمّ يصير بعد استكماله أعقل من سائر الحيوانات و أذكى من جميع موجودات عالم الأجسام، بل يصير بإعمال القوّة النظريّة العمليّة جوهرا قدسيّا و عالما عقليّا، مع أنّ أولاد سائر الحيوانات أقوى شعورا و أشدّ بطشا منه حال صغره. و مقتضى الطّبع أنّ كلّ ما كان في صغره و بدو أمره أذكى و أعقل و أبطش، كان في كبره و أوان استكماله أكمل في تلك الصفات (2) ،و ليس هذه المزيّة للإنسان إلاّ من عطايا القادر الحكيم المنّان.

ثمّ من عجائب خلق الانسان كثرة اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و طبائعهم و أمزجتهم و أخلاقهم، و كيفية أشكالهم و أصواتهم بحيث لا يكاد يرى فردان من الإنسان متماثلين في الشّكل و كيفيّة

ص: 378


1- تفسير الرازي 199:4.
2- و الانسان على الضدّ من ذلك، و يؤيده ما جاء في الحديث عن العبد الصالح عليه السّلام: «تستحبّ عرامة الصبي في صغره ليكون حليما في كبره، ثمّ قال: ما ينبغي أن يكون إلا هكذا» الكافي 2/51:6.

الصّوت، متوافقين في المزاج و خصوصيّات الأخلاق بحيث لا يتمايز أحدهما عن الآخر، مع أنّ غالب الحيوانات البريّة أو البحريّة لا يكون بين أكثر أفراد نوع واحد منها تميّز ظاهر، و ليس هذا الاختلاف في أفراد الإنسان إلاّ للتّعارف، و لولاه لاختلّت معائشهم و نظام امورهم. و استقصاء الكلام في عجائب خلقة الإنسان بل كلّ من أنواع الحيوانات لا مطمع فيه لأحد، حيث إنّه بحر لا ساحل له(1).

في حكمة تمويج الرياح

وَ في تَصْرِيفِ الرِّياحِ و تحريكها و تمويجها، فإنّ فيه حكمة بالغة و النظام الأتمّ ، حيث إنّ فيه كمال النّفع للنّباتات و الحيوانات، إذ لكلّ منها تنفّس بها، فلو لم يتغير الهواء بهبوب الرّياح لفسد، و بفساده هلكت الحيوانات و النباتات.

قال بعض: لو لم تكن الرّياح و الذباب لأنتنت الدنيا(2).

في وجه تسمية الهواء المتموّج بالريح و بالمبشّر و بيان أقسام الرياح

قيل: سمّيت الرّيح ريحا لأنّ في هبوبها الرّوح و الرّاحة، و في انقطاعها الكرب و الغمّ (3).

و إنّما سمّى اللّه تعالى الرّياح مبشّرات؛ لأنّ فيها مع عظم منافعها تحريك السحاب الممطر الذي به حياة الأرض، و بحياتها حياة جميع الحيوانات، فإنّ بالعشب تعيش الدّوابّ ، و بالثّمار يتقوّت الإنسان.

ثمّ اعلم أنّ للرّياح أقساما أربعة:

أحدها: الصّبا، و يقال لها: القبول لاستقبالها الدّبور، و هي شرقية.

و ثانيها: الدّبور، و هي غربيّة.

و ثالثها: الشّمال و هي شمالية.

و رابعها: الجنوب و هي جنوبيّة.

و كلّ ريح هبّت من بين المهبّين من المهابّ الأربعة تسمّى نكباء، و لكلّ واحدة منها منافع لا تحصى.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه إذا هبّت ريح، قال: «اللهمّ اجعلها رياحا، و لا تجعلها ريحا »(4).

و لعلّ فيه إشارة إلى أنّ هبوب الرّياح من جميع الجوانب إحاطة الرّحمة بالخلق، و أنّ لكلّ ريح

ص: 379


1- تفسير الرازي 200:4.
2- تفسير روح البيان 268:1.
3- تفسير الرازي 201:4.
4- تفسير الرازي 202:4.

فائدة لا تتمّ إلاّ بسائر الرّياح.

و أمّا القسم الخامس فهو الرّيح العقيم التي أهلك اللّه بها عادا، و هي من آيات غضبه تعالى. عن ابن عبّاس، قال: أعظم جنود اللّه الرّيح و الماء(1).

وَ في اَلسَّحابِ الْمُسَخَّرِ المذلّل تحت إرادته و أمره بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فإنّه لا يمسكه مع ثقله بحمل الماء عن السّقوط على الأرض إلاّ إرادة اللّه، و لا يسوقه من بلد إلى بلد إلاّ أمره، فلو انقطع عن بلد عظم الضّرر بسبب القحط و فقد العشب و الزّرع و الثّمار، و لو دام وقوفه عليه عظم الضّرر بسبب استتار ضوء الشّمس و كثرة الأمطار، فهو مسخّر تحت حكم اللّه يأتي به وقت الحاجة و يردّه عند زوالها.

في بيان وجه دلالة الآيات الثمانية على وجوده تعالى و قدرته و إرادته و حكمته و توحيده و وجوب عبادته

ثمّ لمّا كان كلّ واحد من الامور الثّمانية آية عظيمة و دلالة واضحة على وجود الصّانع الواحد القادر المدبّر الحكيم و وجوب طاعته و عبادته، قال: لَآياتٍ بيّنات و دلائل واضحات نافعات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دلالتها، و يتفكّرون فيها بالإدراك السّليم و الفهم المستقيم.

أمّا دلالتها على وجوده تعالى و قدرته، فبأنّه لمّا كان امتناع حدوث الحادث من غير علّة من البديهيّات، كان حدوث هذه الموجودات بعد عدمها دليلا على وجود موجد قادر لها.

و أمّا دلالتها على اختياره و إرادته، فبأنّه لو كان المؤثّر موجبا لدام الأثر، فتغيير الأثر دليل على كون المؤثّر مريدا مختارا.

و أمّا دلالتها على حكمته تعالى، فبظهور كون وجود هذه الموجودات و تغييراتها على وفق الحكمة و الصّلاح.

و أمّا دلالتها على وحدانيّته تعالى، فبكون جميع امورها على نحو الاتّساق و الانتظام، و لو كان موجدها و المتصرّف فيها متعدّدا لاختلّ نظامها.

و أمّا دلالتها على وجوب شكره و عبادته، فبأنّ كلّ واحد منها نعمة عظيمة، و وجوب شكر المنعم من ضروريّات العقل، و من شكره طاعته و عبادته. و إنّما خصّ الآيات بالعقلاء لكونهم المنتفعين بها دون غيرهم، كما أنّ ذوي الأمزجة الصحيحة و الحواسّ غير العليلة مختصّون بالانتفاع بالأطعمة

ص: 380


1- تفسير روح البيان 268:1.

اللّذيذة الدنيويّة و المحسوسات بالحواسّ الظاهريّة.

في بيان دلالة جميع ذرات الموجودات على الصانع و وجوب وجوده و كماله

ثمّ اعلم أنّ الدلالة على وجوده تعالى و كماله في الصّفات غير مختصّ بتلك الآيات المعدودة في الآية، بل كلّ موجود من الموجودات، حتّى النّملة و الذّرّة من آيات وجوده و كماله.

و أتمّ أنحاء الاستدلال بها و أقصرها أن نقول: إنّا نتصوّر جميع ماله حظّ من الوجود بحيث لا يشذّ منه شيء، و حينئذ فإمّا أن نحكم بأنّ جميعه واجب قديم، و إمّا أن نحكم بأنّ جميعه ممكن حادث، و إمّا أن نحكم بأنّ بعضه واجب و بعضه ممكن. و لا سبيل إلى الأوّل لامتناع تعدّد الواجب القديم، حيث إنّ التعدّد مستلزم للتّركّب ممّا به الاشتراك و ما به الامتياز، و التركّب مستلزم للحدوث و الحاجة.

أمّا الحدوث فلأنّ المركّب متأخّر بالطّبع وجودا عن وجود أجزائه، و أمّا الحاجة فلأنّه لو لم تكن الأجزاء لم يكن المركّب، و الواجب قديم بالذّات، مع أنّ قدم الجميع خلاف الحسّ و الوجدان، و لا سبيل إلى الثاني لبداهة أنّ الحادث محتاج إلى العلّة، و المفروض أنّه لا موجود غير ما فرضناه حتّى يكون علّة له، و فرض كون جميع الموجودات حادثا مستلزم لعدم كونها معلولة لعلّة، و هو محال، فتعيّن الثالث و هو كون بعضه واجبا و بعضه ممكنا.

و قد ثبت امتناع تعدّد الواجب، فثبت وحدته، و أنّ ما سواه أثره و صنعه، فتحصّل من جميع ذلك أنّ جميع العالم مرآة جمال اللّه و جلاله، و الانسان العاقل هو المشاهد فيها بعين بصيرته، و إنّما خصّ سبحانه و تعالى الآيات الثّماني بالذكر لظهور عظمها في الأنظار، و إنّها جامعة بين كونها دلائل على معرفته و نعماه على الخلق أجمعين على أوفر حظّ و نصيب. و إذا كانت الدلائل كذلك، كانت انجع في القلوب و أشدّ تأثيرا في النّفوس.

سورة البقرة (2): الآیات 165 الی 167

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما

ص: 381

تَبَرَّؤُا مِنّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ (167)

سورة البقرة (2): آیة 165

ثمّ أنّه تعالى بعد ما قرّر توحيد ذاته المقدّسة بالدلائل القاهرة و البراهين الظاهرة، أردفه بتقبيح الشّرك الذي هو ضدّ التّوحيد، بقوله: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ و يختار مِنْ دُونِ اللّهِ و ممّا سواه من الأصنام و رؤساء الضّلال و المطاعين الذين لم ينصّبهم اللّه للطّاعة و الاتّباع أَنْداداً و أمثالا له في الألوهيّة، و شركاء له في العبادة و الطّاعة، حال كون المتّخذين للأنداد يُحِبُّونَهُمْ حبّا كائنا كَحُبِّ اللّهِ و يسوّون بينهم و بينه في التّعظيم و الطّاعة، بل يتّبعونهم فيما خالف رضاه.

عن (الكافي) و (العياشي): عن الصادق(1) عليه السّلام: «هم و اللّه أولياء فلان و فلان [و فلان]، اتّخذوهم أئمّة [من] دون الإمام الذي جعله اللّه للنّاس اماما»(2) الخبر.

و عن بعض العرفاء: كلّ شيء شغف(3) قلبك به سوى اللّه تعالى فقد جعلته ندّا له(4).

وَ الَّذِينَ آمَنُوا و في رواية: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله (5)أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ من هؤلاء المشركين حيث إنّهم بمعرفتهم عظمة الرّبوبيّة لا يميلون إلى غيره، و لا يتوجّهون إلى ما سواه، بخلاف المشركين الذين يعدلون بهوى أنفسهم من صنم إلى صنم.

عن ابن عبّاس: أن المشركين كانوا يعبدون صنما، فإذا رأوا صنما(6) أحسن منه تركوا ذلك و أقبلوا إلى عبادة الأحسن، انتهى(7).

و بخلاف أتباع رؤساء الضلالة و أئمّة الكفر فانّهم يميلون مع كلّ ريح، و يتّبعون كلّ ناعق.

روي أنّه جاء أعرابي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، متى السّاعة ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أعددت لها؟» فقال: ما أعددت كثير صلوات و لا صيام، إلاّ أنّي أحبّ اللّه و رسوله. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «المرء مع من أحبّ ».

فقال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك(8).

و روي أنّ عيسى عليه السّلام مرّ بثلاثة نفر و قد نحلت أبدانهم و تغيّرت ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم

ص: 382


1- في الكافي: عن الباقر.
2- الكافي 11/306:1، تفسير العياشي 248/173:1.
3- في تفسير الرازي و تفسير روح البيان: شغلت.
4- تفسير الرازي 204:4، تفسير روح البيان 391:1.
5- تفسير العياشي 249/174:1، تفسير الصافي 191:1.
6- فى تفسير الرازي: شيئا.
7- تفسير الرازي 208:4.
8- تفسير الرازي 205:4.

إلى ما أرى ؟ فقالوا: الخوف من النّار. فقال: [حقّ ] على اللّه أن يؤمن الخائف.

ثمّ تركهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشدّ نحولا و تغيّرا. فقال لهم: ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام ؟ قالوا: الشّوق إلى الجنّة. فقال: حقّ على اللّه أن يعطيكم ما ترجون.

ثمّ تركهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشدّ نحولا و تغيّرا، كأنّ وجوههم المرايا من النّور، فقال: كيف بلغتم إلى هذه الدّرجة ؟ قالوا: بحبّ اللّه. فقال عليه السّلام: أنتم المقرّبون إلى اللّه يوم القيامة(1).

و نقل عن بعض الكتب: عبدي أنا و حقّك، لك محبّ ، فبحقّي عليك، كن لي محبّا(2).

ثمّ شرع اللّه تعالى في تهديد المشركين بقوله: وَ لَوْ يَرَى و يعلم اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم باعتقادهم الشّرك و اتّخاذهم الأنداد للّه - و الأمثال لمحمّد و آله الأبرار (صلوات اللّه عليهم) - من الكفّار و الفجّار إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ و يوم يشاهدون فيه ما اعدّ لهم من العقاب و النّكال، و عجز أنفسهم عن الدّفاع أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ على الامور جَمِيعاً لا قوّة و لا قدرة لأحد غيره وَ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ عليهم، فيدخلهم من النّدم و التحسّر ما لا يدخل تحت الوصف، و يخرج عن حدّ التصوّر.

سورة البقرة (2): آیة 166

إِذْ تَبَرَّأَ الأصنام و رؤساء الضّلال اَلَّذِينَ اتُّبِعُوا و اطيعوا في الباطل مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا هم و أفنوا أعمارهم في عبادتهم و طاعتهم باعتقاد أنّهم أوكد أسباب نجاتهم في الآخرة وَ الحال أنّ المتبوعين رَأَوُا و عاينوا اَلْعَذابَ المعدّ لهم على إضلالهم وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و زالت عنهم و سائل النّجاة من الشّدائد، من القرابة و الموادّة و المعاهدة و التابعيّة، فعند ذلك لا يقدرون على خلاص أنفسهم، فكيف بخلاص أتباعهم ؟ و لهذا يتبرّءون منهم.

سورة البقرة (2): آیة 167

و يحتمل أن تكون الجملتان بيانا لحال الأتباع، و يكون المعنى: و الحال أنّ الأتباع رأوا العذاب و انقطعت عنهم الوسائل، فتوسّلوا بالرؤساء في نهاية استئصالهم و شدّة الحاجة إليهم، طمعا في إعانتهم لهم، و شفاعتهم عنهم. فإذا رأوا تبرّأ الرؤساء منهم، يدخلهم نهاية الحسرة و غاية النّدامة، وَ حينئذ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا و أطاعوا رؤساء الضّلال، تمنّيا: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً و رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فيها عند ابتلائهم بالشّدائد و حاجتهم إلينا كَما تَبَرَّؤُا مِنّا في الآخرة.

كَذلِكَ الإرادة الفظيعة يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حال كونها حَسَراتٍ مستولية عَلَيْهِمْ

و ندامات واردة بهم، فكأنّهم لا يرون أعمالهم، بل يرون مكانها الحسرة و النّدامة.

ص: 383


1- تفسير الرازي 205:4.
2- تفسير الرازي 205:4.

نقل أنّهم مع ما رأوا من العذاب و تبرّأ الرؤساء منهم، ترفع لهم الجنّة فينظرون إليها و إلى بيوتهم فيها لو أطاعوا اللّه، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه. ثمّ تقسّم بين المؤمنين(1).

و عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ «هو الرّجل يدع المال لا ينفقه في طاعة اللّه بخلا، ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة اللّه أو [في] معصية اللّه، فإن عمل به في طاعة اللّه يراه في ميزان غيره فيراه حسرة، و قد كان المال له، و إن كان عمل به في معصية اللّه، قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية اللّه »(2).

وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ أبدا. روي أنّه يساق أهل النّار إلى النّار، فلا يبقى منهم عضو إلاّ لزمه عذاب، إمّا حيّة تنهشه، أو ملك يضربه. فإذا ضربه الملك هوى في النّار مقدار أربعين يوما لا يبلغ قرارها. ثمّ يرفعه اللّهب و يضربه الملك فيهوي، فإذا بدا رأسه ضربه - إلى أن قال - فإذا عطش أحدهم طلب الشّراب فيؤتى بالحميم، فإذا دنا من وجهه سقط وجهه، ثمّ يدخل في فيه فتسقط أضراسه، ثمّ يدخل بطنه فيقطّع أمعاءه و ينضج جلده(3).

و عن سعيد بن جبير: أنّ اللّه تعالى يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه [في الدنيا] على ربوبيّة الأصنام أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم، فلا يدخلون لعلمهم أنّ عذاب جهنّم على الدّوام. ثمّ يقول للمؤمنين بين أيدي الكفار: إن كنتم أحبّائي فادخلوا جهنّم فيقتحمون فيها، و ينادي مناد من تحت العرش:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ (4) .

سورة البقرة (2): الآیات 168 الی 169

اشارة

يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)

سورة البقرة (2): آیة 168

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن قبح الشّرك، و سوء عاقبته، و كون المشركين معذّبين بالنّار، محرومين من نعم الآخرة، بيّن أنّ نعم الدنيا تعمّهم و لا تختصّ بخصوص المؤمنين، بقوله: يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا

ص: 384


1- تفسير روح البيان 271:1.
2- الكافي 2/42:4، تفسير العياشي 250/174:1، تفسير الصافي 191:1.
3- تفسير روح البيان 271:1.
4- تفسير روح البيان 271:1، و الآية من سورة البقرة: 165/2.

و انتفعوا مِمّا فِي الْأَرْضِ من النعم، حال كونها حَلالاً و مباحا لكم، ليس من اللّه عقدة الحظر و الحرمة طَيِّباً لذيذا أو طاهرا من كلّ شبهة.

وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ و لا تطأوا على عقبه و لا تقتدوا به، ثمّ علّل النّهي بقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عند من له بصيرة نافذة، فلا تتعدّوا عن الحلال إلى ما يدعوكم إليه الشّيطان من الحرام.

عن ابن عبّاس: نزلت الآية في الذين حرّموا على أنفسهم السّوائب و الوصائل و البحائر (1) ،و هم قوم من ثقيف و بني عامر بن صعصعة و خزاعة و بني مدلج(2).

سورة البقرة (2): آیة 169

ثمّ ذكر اللّه تفصيل عداوة الشّيطان بقوله: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ و يدعوكم إلى المعصية وَ الْفَحْشاءِ قيل: هو أقبح أنواع المعاصي، و لذا يقال للزّنا فاحشة(3).

وَ أَنْ تَقُولُوا و تفتروا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنّ اللّه قاله و أمر به، و هو أقبح من الفحشاء، فيدخل في الآية الصّغائر و الكبائر و الشّرك و البدعة في الدّين.

عن (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «إيّاك و خصلتين ففيهما هلك من هلك؛ إيّاك أن تفتي النّاس برأيك، أو تدين بما لا تعلم »(4).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن حقّ اللّه على العباد، قال: «أن يقولوا ما يعلمون، و يقفوا عند ما لا يعلمون »(5).

سورة البقرة (2): آیة 170

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170)

سورة البقرة (2): آیة 170

ثمّ أنّه تعالى بعد إباحة نعمه الطيّبة لجميع خلقه، التي هي موجبة لتوحيده و عبادته، و نهيه عن اتّباع الشيطان، أخذ في ذمّ المشركين الذين هم أخصّ النّاس باتّباعه، و بيّن نهاية حمقهم، بقوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ وعظا و نصحا اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ في كتابه و على لسان رسوله من العقائد الحقّة و الأعمال الحسنة.

ص: 385


1- السائبة: الناقة التي كانت تسيّب في الجاهلية لنذر و نحوه، و الوصيلة في الجاهلية: النّاقة التي وصلت بين عشرة أبطن، و البحيرة: الناقة كانت في الجاهلية إذا ولدت خمسة أبطن شقّوا أذنها.
2- تفسير الرازي 2:5.
3- تفسير روح البيان 272:1.
4- الكافي 2/33:1، تفسير الصافي 192:1.
5- الكافي 7/34:1، تفسير الصافي 192:1.

و في التّكنية عنهم بضمير الغائب إشعار بالإعراض عنهم لعدم قابليّتهم للمخاطبة لفرط حماقتهم، فكأنّه تعالى وجّه الخطاب إلى العقلاء، و قال: انظروا أيّها العقلاء إلى هؤلاء الحمقى السّفهاء، أنّهم مع قيام البراهين القاطعة على توحيد اللّه و استحقاقه العبادة؛ إذا قيل لهم اعملوا بكتاب اللّه و تديّنوا بتوحيده و خصّوه بالعبادة قالُوا: لا نتّبع كتاب اللّه، و لا نتديّن بدينه بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا و وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأنداد، و تحريم الطيّبات، و ارتكاب الفحشاء؛ لأنّهم كانوا أعلم منّا.

فعارضوا الأدلّة القاطعة بالتّقليد، فردّ اللّه عليهم بقوله توبيخا و تقريعا لهم: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ و لا يدركون شَيْئاً من الدّين الحقّ وَ لا يَهْتَدُونَ إلى شيء من الصّواب. مع ذلك لا يمكن جواز اتّباعهم في حكم العقل.

قيل: إنّها نزلت في مشركي العرب و كفّار قريش، امروا باتّباع القرآن و سائر ما أنزل اللّه تعالى من البيّنات الباهرة، فجنحوا للتّقليد(1).

و نقل عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في اليهود، و ذلك حين دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الإسلام، فقالوا:

نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا(2).

سورة البقرة (2): آیة 171

اشارة

وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)

سورة البقرة (2): آیة 171

ثمّ أنّه تعالى لتوضيح نهاية حماقة هؤلاء الكفرة لجميع النّاس حتّى لا يبقى لأحد فيها ريب، شبّههم بالبهائم و الأنعام، بقوله: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا و حالهم العجيبة من عبادتهم الأصنام، و عدم فهمهم آيات التّوحيد، و عدم استماعهم لدعوة الرّسل كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ و يصيح بِما لا يَسْمَعُ

من الدّاعي، و لا يدرك من كلامه إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً و غير صوت و صياح من غير فهم شيء من معناه.

قيل: إنّ الفرق بين الدّعاء و النّداء، أنّ الدعاء للقريب، و النّداء للبعيد(3).

عن (المجمع): عن الباقر عليه السّلام: «أي مثلهم في دعائك إيّاهم إلى الإيمان، كمثل النّاعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم، و إنّما تسمع الصّوت »(4).

ص: 386


1- تفسير روح البيان 274:1.
2- تفسير الرازي 6:5.
3- تفسير روح البيان 274:1.
4- مجمع البيان 463:1، تفسير الصافي 193:1.

و قيل: إنّ المراد أنّ مثل داعيهم كمثل داعي البهائم (1).حيث إنّها لا تسمع إلاّ الصّوت و لا تدرك المراد من الألفاظ و مداليلها، فكأنّهم صُمٌّ لا يسمعون الكلام أصلا بُكْمٌ لا يقدرون على إجابة الدّاعي عُمْيٌ لا يبصرون الطّريق حتّى يحضروا عند الدّاعي.

و حاصل المراد - و اللّه أعلم - أنّهم لشدّة إعراضهم عن الدلائل و المعجزات؛ كأنّهم لا يشاهدونها و لا يدركونها بالحواسّ .

ثمّ بيّن أنّ عدم تأثير الدّعوة و البراهين في قلوبهم، لقلّة إدراكهم، بقوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ البرهان و لا يدركون الحقّ بنور العقل.

سورة البقرة (2): الآیات 172 الی 173

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

سورة البقرة (2): آیة 172

ثمّ أنّه تعالى بعد ترخيص عموم النّاس بالانتفاع من النّعم التي خلقها في الأرض، وجّه الخطاب إلى خصوص المؤمنين، تشريفا لهم و لطفا بهم، و خصّهم بالدّعوة إلى طيّبات نعمه و الإرشاد إلى شكرها بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا و تمتّعوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و مستلذّات ما أنعمنا عليكم، فانّها مباحة لكم وَ اشْكُرُوا لِلّهِ على إنعامها و إحلالها، و اثنوا عليه، و اعملوا بمرضاته إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ و له بالعبوديّة تقرّون، و بالالهيّة تؤمنون، و بنعمه تذعنون حيث إنّ عبادته لا تتمّ إلاّ بالشكر.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يقول اللّه تعالى: إنّي و الجنّ و الإنس في نبأ عظيم، أخلق و يعبد غيري، و أرزق و يشكر غيري »(2).

في بيان جملة من المأكولات و المشروبات المحرّمة و المحلّلة

عن الحسن(3) بن عليّ بن شعبة، عن الصادق عليه السّلام في حديث: «و أمّا ما يحلّ للإنسان أكله ممّا أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية: صنف منها جميع الحبّ كلّه من الحنطة و الشّعير و الأرز و الحمّص و غير ذلك من صنوف الحبّ و صنوف

ص: 387


1- تفسير الصافي 193:1.
2- تفسير الرازي 10:5، تفسير أبي السعود 190:1.
3- في النسخة: الحسين، راجع: نوابغ الرواة: 93.

السّماسم و غيرها، كلّ شيء من الحبّ ممّا [يكون] فيه غذاء الإنسان في بدنه و قوته فحلال أكله.

و كلّ شيء [تكون] فيه المضرّة على الإنسان في بدنه و قوته فحرام أكله إلاّ في حال الضّرورة.

و الصنف الثاني: مما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثّمار كلّها ممّا يكون فيه غذاء الإنسان و منفعة له و قوته به فحلال أكله، و ما كان فيه المضرّة على الإنسان في أكله فحرام أكله.

و الصّنف الثالث: جميع صنوف البقول و النّبات، و كلّ شيء تنبت [الأرض] من البقول كلّها ممّا فيه [منافع الإنسان و غذاء له فحلال أكله، و ما كان من صنوف البقول ممّا فيه] المضرّة على الانسان في أكله نظير بقول السّموم القاتلة و نظير الدّفلى(1) و غير ذلك من صنوف السّمّ القاتل فحرام أكله.

و أمّا ما يحلّ أكله من لحوم الحيوان فلحوم البقر و الغنم و الإبل، و ما يحلّ من لحوم الوحش، و كلّ ما ليس له ناب و لا له مخلب.

و ما يحلّ أكله من لحوم الطّير كلّها ما كانت له قانصة فحلال أكله، و ما لم تكن له قانصة فحرام أكله، و لا بأس بأكل صنوف الجراد.

و أمّا ما يجوز أكله من البيض، فكلّ ما اختلف طرفاه فحلال أكله، و ما استوى طرفاه فحرام أكله.

و ما يجوز أكله من صيد البحر من صنوف السّمك؛ فما كان له قشور فحلال أكله، و ما لم يكن له قشور فحرام أكله.

و ما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها، فما لا يغيّر العقل كثيره فلا بأس بشربه، و كلّ شيء منها يغيّر العقل كثيره فالقليل منه حرام(2).

سورة البقرة (2): آیة 173

ثمّ أنّه تعالى بعد تحليله الانتفاع بعموم نعمه، ذكر بعض أنواعها المحرّمة بقوله: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ و الانتفاع بما فارقته الرّوح بغير ذكاة بالانتفاعات المقصودة منه، كأكل لحمه، وَ حرّم اَلدَّمَ المسفوح لا المتخلّف في الذّبيحة بعد ذكاتها، وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ و تخصيص التّحريم بلحمه مع حرمة بعض الانتفاعات بسائر أجزائه؛ لأنّ المقصود منه للغالب هو أكل لحمه.

وَ حرّم ما أُهِلَّ و رفع الصّوت بِهِ عند ذبحه لِغَيْرِ اللّهِ .

قيل: إنّ المشركين كانوا إذا ذبحوا لالهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها و يقولون: باسم اللاّت

ص: 388


1- الدّفلى: نبت مرّ زهره كالورد الأحمر، يتّخذ للزينة.
2- تحف العقول: 337.

و العزّى(1).

قيل: وجه تخصيص الأنواع الأربعة بالذّكر من بين المحرّمات؛ لأنّ العرب كانوا يستحلّونها و يقولون: تأكلون ما أمتّم و لا تأكلون ما أماته اللّه! و كانوا يشرون الدّم و يأكلونه، و كانوا يأكلون لحم الخنزير و ذبائح الأصنام، فنهى اللّه هذه الأشياء الأربعة.

في جواز أكل المحرّمات في المخمصة و الضرورة مطلقا

ثمّ منّ عليهم بإباحة أكلها في المخمصة(2) بقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ و التجأ إلى أكل شيء من هذه المحرّمات لمجاعة أو إكراه، حال كونه غَيْرَ باغٍ قيل: يعني غير ظالم على مضطرّ آخر بالاستئثار عليه (3)وَ لا عادٍ و مجاوز في أكله عن حدّ سدّ الرّمق و الجوع الشّديد. و روي أنّ الباغي: الظالم، و العادي الغاصب(4).

و عن (الفقيه): عن [محمد بن علي] الرّضا عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل [له: يا رسول اللّه] إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة، فمتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال: ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا(5) بقلا فشأنكم بهذا »(6).

قال في (المجمع): الاصطباح: أكل الصّبوح و هو الغداء، و الغبوق: أكل العشاء، و أصلهما الشّرب ثمّ استعملا في الأكل(7).

قال عبد العظيم: فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فما معنى قول اللّه عزّ و جلّ : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ؟ قال: «العادي: السّارق: و الباغي: الذي يبغي الصّيد بطرا أو لهوا لا ليعود [به] على عياله، ليس

ص: 389


1- تفسير روح البيان 277:1.
2- أي المجاعة.
3- تفسير روح البيان 277:1، تفسير أبي السعود 191:1.
4- تفسير العياشي 257/176:1، تفسير الصافي 194:1.
5- في التهذيب: (أو تحتفوا) من احتفى البقل: أخذه بأطراف أصابعه من قصره و قلّته، كما في المغرب 131:1، و في القاموس 318:4، احتفى البقل: اقتلعه من الأرض. و نقل ابن الأثير عن أبي سعيد الضرير أنّه قال: صوابه (تحتفوا) بغير همز، من أحفى الشعر، و من قال: تحتفئوا مهموزا هو من الحفأ، و هو البردي، فباطل، لأنّ البردي ليس من البقول. و نقل عن أبي عبيد قوله: هو من الحفأ، مهموز مقصور، و هو أصل البردي الأبيض الرطب منه، و قد يؤكل، يقول ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه. و يروى (تحتفّوا) بتشديد الفاء، من احتففت الشيء: إذا أخذته كله، كما تحفّ المرأة وجهها من الشعر. النهاية 411:1.
6- من لا يحضره الفقيه 1007/217:3، التهذيب 354/83:9، و في من لا يحضره الفقيه: فشأنكم بها.
7- مجمع البحرين 1003:2.

لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار»(1) الخبر.

و عن (العيّاشيّ ): عن الصادق عليه السّلام: «الباغي الصّيد، و العادي: السارق، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين »(2).

و عن (الكافي) عنه عليه السّلام: «الباغي: الذي يخرج على الإمام، و العادي: الذي يقطع الطّريق، لا تحلّ لهما الميتة »(3).

أقول: ظاهر تلك الرّوايات سوى النّبويّ ، حرمة أكل الميتة على كلّ من اضطرّ في طريق معصية اللّه و في السّفر الحرام، و فيه إشكال لمعارضتها لأدلّة نفي الحرج و الضّرر مع كونها آبية عن التقييد و التخصيص، و على أيّ حال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تناول مقدار يحفظ نفسه.

ثمّ لمّا كان فيه مقتضى الحرمة المزاحم بالأهمّ في الرّعاية، زيل التّرخيص بقوله: إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ

و ستّار لجميع المعاصي و القبائح رَحِيمٌ بعباده، لا يرضى بضررهم و عطبهم و هلاكهم.

في حكم حرمة لحم الخنزير و الدم و الميتة

عن (العلل) و (العيون): عن الرّضا عليه السّلام فيما كتب من جواب مسائل: «و حرّم الخنزير لأنّه مشوّه جعله اللّه عظة للخلق(4) و دليلا على ما مسخ على خلقته، و لأنّ غذاءه أقذر الأقذار، مع علل كثيرة».

إلى أن قال: «و حرّمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان و الآفة، و لما أراد اللّه أن يجعل التسمية سببا للتّحليل و فرقا بين الحلال و الحرام، و حرّم اللّه الدّم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان، و لأنّه يورث الماء الأصفر، و يبخر الفم، و ينتن الرّيح، و يسيء الخلق، و يورث القسوة للقلب و قلّة الرأفة و الرّحمة حتّى لا يؤمن أن يقتل ولده و والده و صاحبه»(5) الخبر.

سورة البقرة (2): الآیات 174 الی 176

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما

ص: 390


1- من لا يحضره الفقيه 1007/216:3.
2- التهذيب 539/217:3، تفسير العياشي 262/177:1 «نحوه»، تفسير الصافي 194:1.
3- الكافي 1/265:6.
4- في العلل و العيون: و عبرة و تخويفا.
5- علل الشرائع: 4/484، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/94:2.

أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)

سورة البقرة (2): آیة 174

ثمّ لمّا كان من دلائل صدق النّبيّ موافقة أحكام شريعته للعقول السّليمة و الأذهان المستقيمة، كانت تلك الأحكام دليلا على صدق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في دعوى نبوّته. و على أنّه المبشّر به في التّوراة، و مع ذلك أنكر عليه اليهود و كتموا ما يدلّ على نعوته في كتابهم، فلذلك هدّدهم على كتمانهم طلبا للزخارف الدنيويّة بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ و يطلبون بدل كتمانهم نعوت محمّد صلّى اللّه عليه و آله ثَمَناً قَلِيلاً و عوضا يسيرا من متاع الدّنيا.

أُولئِكَ الكاتمون ما يَأْكُلُونَ و ما يجرون بالمآكل التي(1) يصيبونها من سفلتهم فِي بُطُونِهِمْ شيئا إِلاَّ النّارَ في الآخرة عقوبة على أكلهم الرّشا.

في أنّ للأموال المحرمة صورة برزخية

قيل: إنّ إطلاق النّار على مآكلهم من باب إطلاق المسبّب على السّبب (2).و يمكن أن يكون الاطلاق من باب الحقيقة باعتبار أنّ الأموال المحرّمة صورتها البرزخيّة صورة النّار، و لكن لا يشعرون بحقيقتها و صورتها المعنويّة، حتّى إذا هبّت عليهم ريح عالم البرزخ و الآخرة، فعند ذلك تشتعل في بطونهم.

و يؤيّده أنّه نقل أنّ عالما حضر في محضر سلطان ظالم فأمر السلطان بإحضار الطّعام، فأحضروا الأطعمة الطيّبة، فأمر السّلطان العالم بأكلها، فأبى العالم، فأصرّ السّلطان، فقال العالم: هذه الأطعمة دماء المظلومين. فقال السّلطان مستهزئا به: كيف تكون هذه الأطعمة اللّذيذة دماء؟! فأخذ العالم لقمة منها فعصرها فصبّ الدّم من بين أصابعه، و على ذلك يحمل ما روي من أنّ الشّارب في آنية الذّهب و الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم(3).

وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بكلام فيه لطف و عطوفة(4) كما يكلّم به أهل الجنّة.

و قيل: إنّ ترك الكلام كناية عن نهاية الإعراض، حيث إنّ عادة الملوك أنّهم لا يكلّمون من يعرضون عنه عند الغضب، و يكلّمون من يرضون عنه بالبشر و اللّطف(5).

وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يطهّرهم من دنس المعاصي كما يطهّر المؤمنين، لعدم قابليّة الكافر للتّطهير.

ص: 391


1- في النسخة: الذي.
2- تفسير روح البيان 279:1.
3- تفسير الرازي 27:5.
4- كذا، و قياس المصدر: عطف أو عطوف.
5- تفسير الرازي 27:5.

و قيل: إنّ المراد بتزكيتهم المدح و الثّناء عليهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و عقوبة موجعة بالنّار.

سورة البقرة (2): آیة 175

أُولئِكَ البعيدون عن العقل و الإدراك هم اَلَّذِينَ من شدّة حمقهم و خبث ذاتهم اِشْتَرَوُا

و اختاروا لأنفسهم اَلضَّلالَةَ و الجهل و استبدلوها بِالْهُدى و العلم بالحقّ في الدّنيا، حيث إنّهم مع حصوله لهم و وضوح صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صحّة دين الإسلام عندهم، ادّعوا الجهل و اختاروا الكفر، فكأنّهم رفعوا اليد عن الهداية الحاصلة، و أخذوا الضّلالة بدلا منها. و هذا العمل الشّنيع لا يمكن أن يصدر ممّن شمّ رائحة العقل، وَ اشتروا اَلْعَذابَ الأبدي بِالْمَغْفِرَةِ و الرّحمة الدائمة في الآخرة، و ذلك غاية الخسارة. فإذن ينبغي أن يقال تعجّبا: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ! و ما أجرأهم عليها، و كلمة التعجّب كناية عن استعظام الأمر.

عن (الكافي) و (العياشي): ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنّه يصيّرهم إلى النّار(1).

سورة البقرة (2): آیة 176

ذلِكَ العذاب معلّل بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ المجيد و القرآن الحميد حال كونه مقرونا بِالْحَقِّ و شواهد الصّدق، و هم مع وضوح أمره عندهم اتّفقوا على رفضه و تكذيبه، و اختلفوا في وجهه، فقال بعض: إنّه سحر، و بعض: إنّه كهانة، و بعض: إنّه شعر، و بعض: إنّه أساطير.

وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا في أقاويلهم فِي الْكِتابِ العزيز باللّه لَفِي شِقاقٍ و عناد بَعِيدٍ عن الصّواب، أو لفي خلاف بعيد عن الاجتماع على الحقّ .

سورة البقرة (2): آیة 177

اشارة

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

سورة البقرة (2): آیة 177

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر إصرارهم على الضّلال و ثباتهم على معاندة الحقّ ، و كان من ضلالة اليهود و النّصارى أنّهم يكثرون الخوض في أمر تحويل القبلة إلى الكعبة، و كان كلّ منهم يقول: إنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلتنا؛ فردّ اللّه عليهم بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ و الطّاعة التي تنالون بها رضا اللّه و غفرانه،

ص: 392


1- الكافي 2/206:2، تفسير العياشي 263/178:1.

و تستحقّون بها الجنّة و نعيمها أَنْ تُوَلُّوا و تصرفوا يا معشر اليهود و النّصارى وُجُوهَكُمْ في الصّلاة قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ و طرفهما.

عن السّجّاد عليه السّلام: «قالت اليهود: قد صلّينا إلى قبلتنا هذه الصّلاة الكثيرة، و فينا من يحيي اللّيل صلاة إليها. و قال كلّ واحد من الفريقين: أ ترى ربّنا يبطل أعمالنا هذه الكثيرة و صلواتنا إلى قبلتنا لأنّا لا نتّبع محمدا على هواه في نفسه!»(1) الخبر.

ثمّ بعد ذلك أرشدهم إلى ما هو البرّ في حكم العقل و الشّرع بقوله: وَ لكِنَّ الْبِرَّ و الخير الّذي ينبغي أن يهتمّ به برّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ و أقرّ بوحدانيّته.

و قيل: إنّ المراد، و لكن ذي البرّ و البارّ من آمن باللّه(2) و عرف مبدأه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و معاده وَ الْمَلائِكَةِ كلّهم، و أنّهم عباد اللّه لا أولاده و ليسوا بذكور و لا إناث، و هم مكرمون عنده مطيعون لأمره وَ الْكِتابِ الذي أنزله اللّه بتوسّط رسله، و منه القرآن وَ النَّبِيِّينَ جميعا ذوي الشّرائع و عيرهم.

هذا من حيث العقائد، فجمعت الآية الإيمان بالامور الخمسة: الإيمان بالمبدإ، و المعاد، و صحّة الشّرائع التي نزلت بتوسّط الملائكة، و الكتب السّماويّة المنزلة إلى الأنبياء [و الايمان بالأنبياء]، و اليهود قد أخلّوا بجميعها، حيث قالوا بالتّجسيم(3) و البخل في المبدأ (4) ،و أنّه لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ في الآخرة إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً (5) و قالوا: إنّ جبرئيل عدونا و نحن نعاديه، و أنكروا الكتب و كفروا ببعضها، و اقتصروا بالإيمان بالتّوراة، بل كفروا بكثير ممّا فيها، و قتلوا كثيرا من الأنبياء مع أنّ البرّ لا يكون إلاّ الايمان بالامور الخمسة، ثمّ تتميمه بالعمل.

و لمّا كانت الأعمال على قسمين: ماليّة و بدنيّة، و كانت الأعمال الماليّة أشقّ على النّفس من الأعمال البدنيّة؛ قدّم ذكرها بقوله: وَ آتَى الْمالَ و أعطاه عَلى حُبِّهِ و الشّحّ به. و قيل: على حبّ اللّه(6).

و قيل: على حبّ الإيتاء(7) بأن يكون طيب النّفس بإعطائه ذَوِي الْقُرْبى و اولي الأرحام صدقة و برّا و صلة.

ص: 393


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 353/589.
2- مجمع البيان 476:1.
3- في النسخة: بالتجسّم.
4- يريد قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ... [المائدة: 64/5].
5- البقرة: 80/2.
6- جوامع الجامع: 32.
7- جوامع الجامع: 32.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل: أيّ الصّدقة أفضل ؟ قال: «أن تؤتيها و أنت صحيح شحيح، تأمل العيش و تخشى الفقر »(1).

و قيل: إنّ المراد بذوي القربى قرابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلاّ إنّهم يعطون هديّة و برّا، لا صدقة(2).

وَ الْيَتامى قيل: إنّ المراد بهم يتامى بني هاشم (3)وَ الْمَساكِينَ الكافّين عن سؤال النّاس وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع به و لا نفقة له وَ السّائِلِينَ الذين ألجأتهم الحاجة إلى أن يتكفّفوا النّاس.

روي أنّ للسّائل حقا و إن جاء على فرس(4).

وَ فِي تخليص اَلرِّقابِ عن قيد الرّقّيّة بشرائها و إعتاقها، أو بإعانتها على أداء مال الكتابة، و في ترتيب ذكر الأصناف إشعار بترتيبهم في أولويّة الرّعاية و الإحسان.

عن الشّعبي، قال: إنّ في المال حقّا سوى الزّكاة، و تلا هذه الآية (5).و لا يخفى أنّ صرف المال في هذه الأصناف مستحبّ إلاّ إذا توقّف صلة الرّحم أو حفظ النّفس عليه.

ثمّ ذكر سبحانه جملة من الأعمال البدنيّة مبتدئا بأهمّها بقوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ المفروضة بحدودها و شرائطها، فإنّها عمود الدّين. ثمّ أردفها بذكر الزّكاة المفروضة بقوله: وَ آتَى الزَّكاةَ

و أعطاها المؤمنين لكونها كالصّلاة ممّا بني عليه الاسلام. و قيل: ذكر إيتاء المال أوّلا لبيان المصارف، و ثانيا لبيان الوجوب(6).

وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا سواء كان العهد بينهم و بين اللّه كالنّذر و الأيمان، أو بينهم و بين الرّسول كالبيعة و أمثالها، أو بينهم و بين النّاس كالعقود و المعاملات، و هذا و إن كان شاملا للمواعدات إلاّ إنّه قد ادّعى الإجماع من الخاصّة و العامّة على عدم وجوب الوفاء بها.

وَ الصّابِرِينَ قيل: إنّ التقدير: و أخصّ بالذكر لفضيلة الصّبر الصّابرين، الذين صبروا فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ عن ابن عبّاس: البأساء: الفقر، و الضّرّاء: المرض، و حين البأس، قال: يريد القتال في سبيل اللّه (7).و اليهود أخلّوا بجميع ذلك فليسوا بارّين، بل أُولئِكَ الموصوفون

ص: 394


1- تفسير البيضاوي 101:1.
2- تفسير الصافي 196:1.
3- تفسير الصافي 196:1.
4- جوامع الجامع: 32.
5- جوامع الجامع: 32.
6- تفسير أبي السعود 194:1.
7- تفسير الرازي 45:5.

بتلك الأوصاف المحمودة هم اَلَّذِينَ صَدَقُوا في دعوى الإيمان و اتّباع الحقّ و طلب البرّ، فإنّ العمل من أعظم شواهد صدق القبول.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن الكفر و الرّذائل في الظّاهر و الباطن، و في تكرير الإشارة إشارة إلى عظمة شأنهم و علوّ منزلتهم، و في توسيط الضّمير دلالة على اختصاص التّقوى بهم.

في بيان جميع ما به كمال الإيمان

فالآية جامعة لبيان الكمالات الإنسانيّة، حيث إنّها بكثرتها و تشعّبها منحصرة في ثلاثة: صحّة الاعتقاد، و تهذيب النّفس، و حسن المعاشرة.

و قد اشير إلى الأوّل بقوله: مَنْ آمَنَ إلى قوله: وَ النَّبِيِّينَ و إلى الثّاني بقوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ

إلى آخر الآية. و إلى الثالث بقوله: وَ آتَى الْمالَ إلى قوله: وَ فِي الرِّقابِ . و لذا روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من عمل بهذه الآية، فقد استكمل الإيمان »(1).

سورة البقرة (2): الآیات 178 الی 179

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

سورة البقرة (2): آیة 178

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر وظائف العبوديّة، شرع في جملة من الأحكام السياسيّة، و لمّا كان أهمّها قانون تحفظ به الدّماء و النّفوس قدّمه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ في اللّوح المحفوظ ، أو فرض عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى و المماثلة في مجازاة جناية القتل و الجرح بأن يفعل بالجاني مثل ما فعله. أمّا الفرض على الجاني فتسليم نفسه، و أمّا على المجنى عليه أو وليّه فعدم التّجاوز عن حدّ المساواة، و أما على سائر المؤمنين فإعانة الجاني في عدم التّعدّي عليه، و إعانة المجنى عليه في استيفاء حقّه.

و لكن يشترط في عدم التّراجع المساواة في الحرّية و الرّقّيّة و الذكورة و الانوثة بأن يقتل اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى قيل في سبب النّزول: إنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء في الجاهليّة، و كان لأحدهما طول(2) على الآخر فأقسموا: لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد، و الذّكر بالأنثى

ص: 395


1- تفسير أبي السعود 195:1.
2- أي قوة و فضل.

و الاثنين بالواحد. فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت، و أمرهم اللّه أن يتساووا و يتعادلوا(1).

في نبذ من أحكام القصاص

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرّين و العبدين و الذّكرين و الاثنين يقع القصاص، و يكفي ذلك فقط . فأمّا إذا كان القاتل للعبد حرّا أو للحرّ عبدا فإنّه يجب مع القصاص التّراجع، و أمّا حرّ قتل عبدا فهو قوده، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحرّ قتلوه، بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحرّ، و يردّوا إلى أولياء الحرّ بقيّة ديته.

و إن قتل عبد حرّا فهو به قود، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد و أسقطوا قيمة العبد من دية الحرّ و أخذوا الدية الكاملة، و إن شاءوا أخذوا كلّ الدّية و تركوا قتل العبد.

و إن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه و أدّوا نصف الدّية. و إن قتلت المرأة رجلا فهي به قود، فإن شاء أولياء الرّجل قتلوها و أخذوا نصف الدّية، و إن شاءوا أخذوا كلّ الدّية و تركوها »(2).

عن الصادق عليه السّلام قال: «لا يقتل حرّ بعيد، و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد نصف الدّية، و لا يقتل الرّجل بالمرأة إلاّ إذا أدّى [أهلها] إلى أهله نصف الدّية »(3).

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ أي إن حصل العفو للقاتل و الجاني مِنْ أَخِيهِ و هو وليّ الدّم شَيْ ءٌ قليل من العفو و بعضه بأن يعفي عن بعض الدّم أو بعوض الدّية، و في التّعبير عن وليّ الدّم بالأخ إشعار بحسن تعطّف كلّ منهما على الآخر.

فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن عند الشّرع و العقل بأن يعامل العافي مع المعفوّ عنه معاملة حسنة و لا يطالبه بالدّية إلاّ مطالبة جميلة من غير تضييق و تشديد وَ أَداءٌ من الجاني الدّية إِلَيْهِ

ملتبسا بِإِحْسانٍ في الأداء بأن لا يبخس منها، و لا يماطل فيه.

ذلِكَ الحكم و التخيير بين القصاص و العفو بالدّية تَخْفِيفٌ و توسعة عليكم، كائن مِنْ رَبِّكُمْ حيث إنّ أهل التّوراة كان عليهم القصاص أو العفو، و لم يكن لهم أخذ الدّية، و كان على أهل الإنجيل العفو و أخذ الدّية و لم يكن لهم القصاص وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى و تجاوز على الجاني بأن قتله بَعْدَ ذلِكَ العفو أو الصّلح بالدّية فَلَهُ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ و قيل: في الدنيا أيضا لقول

ص: 396


1- تفسير روح البيان 284:1.
2- تفسير الرازي 47:5.
3- تفسير الصافي 197:1.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا اعافي أحدا قتل بعد أخذه الدّية »(1).

سورة البقرة (2): آیة 179

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة حكم القصاص و غايته، بقوله: وَ لَكُمْ أيّها النّاس فِي الْقِصاصِ

من الجاني حَياةٌ عظيمة. و في هذا الكلام من كمال الفصاحة ما لا يخفى، حيث إنّ حكم القصاص الذي هو موجب لتفويت الحياة جعل ظرفا و مقرّا لها.

قيل: إنّ العرب كانوا يقتلون بالواحد جماعة، و بالمقتول غير القاتل، فكانت تقع الفتنة و يكثر القتل، فبهذا الحكم سلم النّاس من القتل، و حصل الارتداع عنه، فسلم النّفسان لخوف القود، بل النفوس الكثيرة.

و عن (الأمالي): عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أربعة قلت فأنزل اللّه تصديقي في كتابه - و عدّ منها - قلت: القتل يقلّ القتل، فأنزل اللّه تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » (2).

يا أُولِي الْأَلْبابِ و العقول. قيل: في ندائهم إشعار بكمال حكمة الحكم من حفظ النّفوس و استبقاء الأرواح (3)لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل، أو المراد: لكي تعملوا عمل أهل التّقوى، فإنّ من أعظم حقوق النّاس الدّماء. و في رواية: أنّها أوّل ما يحاسب به(4).

سورة البقرة (2): الآیات 180 الی 182

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

سورة البقرة (2): آیة 180

ثمّ شرع في بيان حكم آخر منها، بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و ظهر لنفس أماراته إِنْ تَرَكَ خَيْراً أو مالا قليلا أو كثيرا اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ ممّن يرث و ممّن لا يرث بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن في الشّرع و العقل، و ذلك يحقّ حَقًّا ثابتا عَلَى الْمُتَّقِينَ

و هم الّذين اتّخذوا التّقوى طريقة و مذهبا لأنفسهم فيشمل عامّة المؤمنين، فدلّت الآية بظاهرها على وجوب الوصيّة للأرحام، و يؤيّده ما روي عن الصادق عليه السّلام عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهما السّلام قال: «من

ص: 397


1- تفسير الرازي 55:5.
2- أمالي الطوسي: 1082/494.
3- كنز العرفان 358:2.
4- تفسير روح البيان 286:1.

لم يوص عند موته [لذوي قرابته] ممّن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية »(1).

نعم روى العيّاشي عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّها منسوخة بآية المواريث »(2).

و قال بعض الأصحاب: إنّه لا ينسخ القرآن بخبر الواحد. و فيه: أنّه قد حقّق في الاصول جواز نسخه به إذا كان جامعا لشرائط الحجّيّة، كما أنّه يجوز تخصيصه به حيث إنّ النّسخ نوع من التّخصيص.

في استحباب الوصية و كراهة تركها

و يمكن حمل الخبر الأوّل على شدّة الكراهة، و الخبر الثّاني على نسخ الوجوب مع بقاء استحبابه جمعا بين الرّوايات، و قد حمله الشّيخ على التقيّة.

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّه شىء جعله اللّه لصاحب هذا الأمر». قيل: هل لذلك حدّ؟ قال:

«أدنى ما يكون ثلث الثلث »(3).

و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن الوصيّة للوارث، قال: «تجوز» ثمّ تلا هذه الآية(4).

و الحاصل: أنّه لا شبهة في استحباب الوصيّة و عدم وجوبها، و إنّ ظاهر الآية محمول على تأكّد الاستحباب.

سورة البقرة (2): آیة 181

فَمَنْ بَدَّلَهُ من الوصيّ و الشاهد و غيرهما من سائر النّاس، و غيّر الإيصاء عن الوجه الذي أوصى به الموصي بَعْدَ ما سَمِعَهُ و حقّقه، و ثبت عنده فَإِنَّما عصيان التّبديل و إِثْمُهُ محمول عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ لا على الموصي و لا على الموصى له.

ثمّ هدّد المبدّلين بقوله: إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ لمقالهم عَلِيمٌ بأفعالهم، فيعاقبهم عليها.

عن (الكافي): عن أحدهما عليهما السّلام و (العيّاشيّ ): عن الباقر عليه السّلام: في رجل أوصى بماله في سبيل اللّه، قال: «أعطه لمن أوصى له، و إن كان يهوديّا أو نصرانيا، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول» و تلا هذه الآية(5).

سورة البقرة (2): آیة 182

ثمّ لا شبهة أنّ إطلاقها و إطلاق بعض الروايات مقيّد بالثلث فما دونه، للرّوايات المتضافرة، منها: ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه تصدّق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم »(6).

فَمَنْ خافَ و توقّع، أو علم مِنْ مُوصٍ في وصيّته جَنَفاً و ميلا عن الحقّ . عن الصادق عليه السّلام: «يعني إذا اعتدى في الوصيّة و زاد على الثلث »(7).

ص: 398


1- تفسير العياشي 272/180:1.
2- تفسير العيّاشي 273/180:1.
3- تفسير العياشي 274/180:1.
4- مجمع البيان 483:1.
5- الكافي 2/14:7، تفسير العياشي 275/181:1.
6- تفسير روح البيان 288:1.
7- تفسير العياشي 279/182:1، علل الشرائع: 4/567.

و في بعض الرّوايات: تفسير الجنف بالوصيّة بغير ما أمر اللّه (1) ،أو في ما لا يرضى اللّه به(2).

أَوْ خاف إِثْماً من الموصي في وصيّته، كأن أوصى بمعصيته من عمارة بيوت النّيران، أو تشييد الكفر، أو ترويج الباطل.

فَأَصْلَحَ الوصيّ بَيْنَهُمْ قيل: يعني بين الموصى له و ورثة الموصي (3) ،بأن يردّ الوصيّة إلى الحقّ و الجائز و بدّلها إلى ما هو الصّواب فَلا إِثْمَ و لا وزر عَلَيْهِ في هذا التّغيير و التّبديل، لأنّه تبديل الباطل بالحقّ .

إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ للعصاة رَحِيمٌ بالعباد. قيل: ذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم و كون الفعل من جنس ما يؤثم به (4).و في هذا التذييل وعد للمصلح بالثّواب و الرّحمة.

سورة البقرة (2): الآیات 183 الی 185

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

سورة البقرة (2): آیة 183

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان الأحكام العباديّة، و ذكر حكم الصّوم الذي هو من أفاضل العبادات بقوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و في تخصيص الخطاب بالمؤمنين مع عدم اختصاص الحكم بهم، تهييج المكلّفين على العمل، لأنّ في ذكر هذا الوصف تشريف و إكرام و إشعار بأنّ القيام بأداء التّكاليف من وظائف الايمان و لوازمه، و إشارة إلى اختصاص التّكليف بالبالغين العاقلين دون الصّغار و المجانين.

و لمّا كان في هذا التّكليف مشقّة على النّفوس، وجّه إليهم الخطاب بكلمة النداء كي يهون عليهم

ص: 399


1- تفسير القمي 65:1.
2- تفسير العياشي 278/182:1.
3- تفسير ابن عبّاس: 25.
4- تفسير أبي السعود 198:1.

العناء، كما روي عن الصادق عليه السّلام قال: «لذّة [ما في] النداء أزال تعب العبادة و العناء »(1).

في وجوب صوم شهر رمضان و جملة من أحكامه

كُتِبَ و فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ و هو الإمساك عن الأشياء المعينة بنيّة القربة، من طلوع الفجر إلى المغرب.

قيل: هذا صوم عامّ ، و أمّا الصّوم الخاصّ فالإمساك عن المنهيّات التّحريميّة و التنزيهيّة، و أمّا الأخصّ فالإمساك عمّا سوى اللّه(2).

ثمّ لتسهيل الأمر عليهم، قال: كَما كُتِبَ الصّوم عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء و اممهم من لدن آدم، فلا يختصّ هذا التّكليف و تحميل هذه المشقّة بكم، و الأمر الشاقّ إذا عمّ سهل.

قيل: إنّ النّصارى كتب عليهم صوم شهر رمضان فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله و عشرا بعده، فصار صومهم خمسين.

و قيل: كان وقوعه في الحرّ الشّديد أو البرد الشّديد، فشقّ عليهم في أسفارهم و معائشهم فحوّلوه إلى الرّبيع، و زادوا فيه عشرين يوما كفّارة للتّحويل.

و أمّا اليهود ففرض عليهم صيام هذا الشّهر، فتركوه و صاموا يوما من السّنة زعموا أنّه يوم غرق فرعون.

و عن الصادق(3) عليه السّلام: «أن صوم شهر رمضان كان واجبا على كلّ نبيّ دون امّته، و إنّما وجب على امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله محبّة لهم»(4) و على هذا يكون المراد من اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ خصوص الأنبياء.

ثمّ أشار إلى فائدة الصّوم بقوله: لَعَلَّكُمْ بالمحافظة عليه و تعظيمه تَتَّقُونَ العذاب أو المعاصي، فإنّ الصّائم أردع لنفسه من مواقعة السّوء، و لوضوح أنّ الصّوم كاسر الشّهوة، روي: أنّ من لم يستطع الباه فليصم، فإنّ الصّوم له و جاء(5).

في حكمة إيجاب الصوم و كون الواجبات الشرعية ألطافا

و في الآية إشارة إلى أنّ الواجبات السّمعيّة ألطاف و مقرّبات إلى الطّاعة و اجتناب كثير من المعاصي، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (6).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه، فلمّا صدّق زاد الصّلاة، فلمّا صدّق زاد الزّكاة، فلمّا صدّق زاد الصيام(7).

ص: 400


1- مجمع البيان 490:2.
2- تفسير روح البيان 289:1.
3- في كنز العرفان: الباقر.
4- كنز العرفان 3/200:1.
5- تفسير الصافي 200:1.
6- العنكبوت: 45/29.
7- تفسير روح البيان 291:1.

قيل: كان وجوبه بعد الهجرة بثلاث سنين.

سورة البقرة (2): آیة 184

ثمّ بيّن اللّه تعالى زمان الصّيام و وقته، بقوله: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ قيل: يعني مقدّرات بعدد معيّن(1).

و قيل: إنّ المراد صوموا أيّاما قلائل، فإنّ الشيء القليل يعدّ عدّا، و الكثير يهال هيلا(2).

ثمّ بيّن حكم ذوى الأعذار بقوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يضرّه الصّوم بتشديد مرضه أو إطالته أو عسر علاجه أَوْ كان راكبا عَلى سَفَرٍ إذا تلبّس به قبل الزّوال فَعِدَّةٌ موافقة لأيّام مرضه أو سفره مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ واجبة عليه قضاء، و لا يجوز له الصّوم في الحالين.

عن الباقر عليه السّلام قال: «سمّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوما صاموا حين أفطر و قصّر عصيانا »(3).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عمّن صام في السّفر؟ فقال: «إن كان بلغه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك فعليه القضاء، و إن لم يبلغه فلا شيء عليه »(4).

و في رواية اخرى: «و إن صام بجهالة، لم يقض »(5).و المشهور نصّا و فتوى أنّ السّفر ثمانية فراسخ، امتداديّة، أو تلفيقيّة.

وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ و يقدرون عليه مع المشقّة و العسرة، كالشّيخ و الشّيخة و ذي العطاش و الحامل المقرب فِدْيَةٌ مقدّرة واجبة عليهم إن أفطروا، و هي طَعامُ مِسْكِينٍ واحد و إشباعه عوضا عن الصّوم الذي فات منه.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّ معناه: «و على الّذين كانوا يطيقون الصّوم ثمّ أصابهم الكبر أو العطاش أو شبه ذلك، فدية لكلّ يوم مدّ من الطّعام »(6).

فَمَنْ تَطَوَّعَ و تبرّع خَيْراً و زاد في الفدية المقرّرة فَهُوَ عند ربّه خَيْرٌ و أنفع لَهُ

و أكثر مثوبة في الآخرة.

وَ أَنْ تَصُومُوا أيّها المطيقون خَيْرٌ لَكُمْ و أفضل من الفدية و التطوّع بالزيادة، و أنتم أيّها المؤمنون إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في الصّوم من الفضيلة اخترتموه لا محالة. في الحديث القدسيّ :

«الصّوم لي، و أنا أجزي به »(7).

ص: 401


1- تفسير الرازي 73:5، و فيه: بعدد معلوم.
2- تفسير روح البيان 290:1.
3- الكافي 6/127:4، تفسير الصافي 200:1، و فيهما: و قصر عصاة.
4- الكافي 1/128:4، تفسير الصافي 200:1.
5- الكافي 3/128:4، تفسير الصافي 200:1.
6- جوامع الجامع: 34.
7- تفسير روح البيان 291:1.

سورة البقرة (2): آیة 185

و الأيّام المعدودات هي شَهْرُ رَمَضانَ قيل: سمّي هذا الشهر برمضان لارتماض الأكباد و احتراقها من الجوع و العطش، و أمّا لارتماض الذنوب بالصّيام فيه(1) و ما لغير ذلك من الوجوه الّتي ذكرت في محلّها.

و روي أنّ رمضان اسم من اسماء اللّه تعالى، و الشّهر مضاف إليه. و روي: لا تقولوا: جاء رمضان، و ذهب رمضان، و لكن قولوا: جاء شهر رمضان، فان رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى(2).

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة تخصيص هذه العبادة العظيمة بهذا الشّهر العظيم، بقوله: اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ابتداؤه أو بيانه أو تأويله أو جميعه دفعة إلى البيت المعمور في ليلة القدر منه.

روي عن (الكافي): عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ و إنّما انزل القرآن في عشرين سنة بين أوّله و آخره ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «نزل [القرآن] جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة»

ثمّ قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، و انزلت التّوراة لست مضين من شهر رمضان، و انزل الإنجيل لثلاث عشرة [ليلة] خلت من شهر رمضان، و انزل الزّبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، و انزل القرآن في ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان »(3).

و قد تضافرت الرّوايات بأنّها ليلة القدر، فتوصيف هذا الشّهر بذلك الوصف لبيان أنّ هذا الشّهر لفضيلته و شرافته الذاتيّة خصّ بنزول الرّحمة و وفور البركات التي أتمّها نزول القرآن الذي وصفه بكونه هُدىً و دليلا لِلنّاسِ إلى الحقّ القويم و الصّراط المستقيم بما فيه من الإعجاز.

وَ بَيِّناتٍ قيل: يعني آياته موضحات (4)مِنَ الْهُدى الذي يكون في سائر الكتب السّماويّة، و كاشفات عن مبهمات سائر الصّحف التي نزلت لهداية النّاس وَ الْفُرْقانِ الذي يكون فيها.

و الحاصل: أنّ جميع الكتب السّماويّة، و إن كان هاديا إلى الخير و مفرّقا بين الحقّ و الباطل، إلاّ أنّه لا تتمّ هدايتها و تفريقها إلاّ بتوضيحات من القرآن، فالقرآن بيّن بنفسه و مبيّن لغيره من الكتب. فلذا كان أهدى و أفضل و أشرف من سائر الكتب. و هذا الشّهر أفضل و أشرف بسبب نزول القرآن فيه. فحقّ

ص: 402


1- تفسير روح البيان 292:1.
2- تفسير روح البيان 292:1.
3- الكافي 6/460:2.
4- تفسير روح البيان 292:1.

على العباد أن يشكروا للّه فيه و يعبدوه.

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ و حضر في وطنه أو أقام في مكان و لم يكن مريضا فَلْيَصُمْهُ

و ليخصّه بهذه العبادة الفاضلة.

وَ مَنْ كانَ في هذا الشّهر مَرِيضاً و إن كان مقيما أو حاضرا أَوْ كان عَلى سَفَرٍ و إن كان صحيحا سليما فليفطره في الحالين، فإذا أفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ غير شهر رمضان، يصوم قضاء لما أفطر.

قيل: في تكرير هذا الحكم تأكيد الأمر بالإفطار، و إشعار بكونه عزيمة لا يجوز تركه(1).

ثمّ أشار إلى حكمة الحكم بقوله: يُرِيدُ اللّهُ بإباحة الإفطار بِكُمُ الْيُسْرَ و التّسهيل وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و المشقّة بالصّوم في الحالين لغاية رأفته، و سعة رحمته.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ تصدّق على مرضى امّتي و مسافريها بالتّقصير و الإفطار، أ يسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة أن تردّ عليه ؟»(2).

و عن (الخصال): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أهدى إليّ [و إلى] امّتي هدية لم يهدها إلى أحد من الأمم كرامة من اللّه لنا». قالوا: و ما ذلك يا رسول اللّه ؟ قال: «الافطار في السّفر، و التّقصير في الصّلاة، فمن لم يفعل ذلك فقد ردّ على اللّه عزّ و جلّ هديّته »(3).

ثمّ أشار إلى حكمة الأمر بالقضاء بقوله: وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ المعيّنة من أيّام الصّيام بقضاء الصّوم في غيرها.

ثمّ أشار إلى حكمة الحكمين بقوله: وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ و تعظّموه و تمجّدوه عَلى ما هَداكُمْ

و أرشدكم إليه من أحكامه و طريق امتثالها.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «أما إنّ في الفطر تكبيرا، و لكنّه مسنون »(4).

قال: قلت: و أين هو؟ قال: «في ليلة الفطر في المغرب، و العشاء الآخرة، و في صلاة الفجر، و في صلاة العيد، ثمّ يقطع».

قال: قلت: كيف أقول ؟ قال: «تقول: اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر [و اللّه أكبر] و للّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا. و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ » (5).

ص: 403


1- تفسير الصافي 203:1.
2- الكافي 2/127:4.
3- الخصال: 43/12.
4- في المصدر: مستور.
5- الكافي 1/166:4.

عن (الفقيه): عن الرّضا عليه السّلام: «و إنّما جعل التّكبير في صلاة العيد أكثر منه في غيرها من الصّلوات؛ لأنّ التّكبير إنّما هو تعظيم اللّه و تمجيده على ما هدى و عافى، كما قال عزّ و علا: وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ » (1) الخبر.

وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ للّه على أفضاله و ألطافه من إيجاب الصّوم الذي هو موجب لتهذيب النّفوس في الشّهر الذي هو أفضل الشّهور و تسهيل الأمر فيه، فإنّ من تفكّر في أنّ اللّه تعالى مع كمال جلاله و استغنائه راعى صلاح عبيده و من عليهم بالألطاف العظيمة، علم أنّه مستحقّ لغاية الشّكر و الثّناء، فيجب عليه المواظبة و الاهتمام به بمقدار قدرته و طاقته.

سورة البقرة (2): آیة 186

اشارة

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

سورة البقرة (2): آیة 186

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أمر بالتّكبير و الشّكر، رغّب عبيده في الدّعاء و طلب الحوائج لتنبيههم بأنّه تعالى كما يطلب منكم الطّاعة و التّكبير و الشّكر، كذلك هو مع كونه منعما عليكم بنعم لا تحصى مجيب لطلباتكم و مستجيب لدعائكم.

قيل: إنّه تعالى لمّا فرض الصّوم و كان من أحكامه أنّ الصّائم إذا نام حرّم عليه الإفطار؛ شقّ ذلك على بعضهم حتّى عصوا. ثمّ ندموا و سألوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن توبتهم (2) ،فنزل: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي

و روي أنّ أعرابيّا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ قريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه(3).

فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم لا بالمكان، بل بالقيموميّة و الإحاطة العلميّة و سعة الرّحمة، حيث إنّه إذا كان القرب بالمكان مرادا لامتنع أن تتساوى نسبته إلى جميع خلقه.

نقل كلام الفخر الرازي في تنزيهه تعالى عن المكان

نقل الفخر الرازي (4)[يروى أنّ إمام الحرمين] نزل ببعض الأكابر ضيفا، فاجتمع عنده العلماء و سائر الأكابر، فقال بعض أهل المجلس: ما الدّليل على تنزيهه تعالى عن المكان و هو قال: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) ؟

ص: 404


1- من لا يحضره الفقيه 1488/331:1.
2- تفسير الرازي 94:5.
3- مجمع البيان 500:2، تفسير الرازي 94:5، لباب النقول: 33.
4- وجدناه في روح البيان، و لم نجده عن الفخر الرازي.
5- طه: 5/20.

فقال: الدّليل عليه قول يونس في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ (1).فتعجّب منه النّاظرون، فالتمس صاحب الضّيافة بيانه.

فقال الإمام (2):هاهنا فقير مديون بألف درهم، أدّ عنه دينه حتّى أبيّنه. فقبل صاحب الضّيافة دينه، فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا ذهب في المعراج إلى ما شاء اللّه من العلى، قال: «ربّ لا احصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» و لمّا ابتلي يونس عليه السّلام بالظّلمات في قعر البحر ببطن الحوت، قال: لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ فكلّ منهما خاطبه بقوله: (أنت) و هو خطاب الحضور، فلو كان اللّه في مكان لما صحّ ذلك(3).

ثمّ قال اللّه تعالى تقريرا للقربة و ترغيبا للعباد في دعائه: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ و اعطي ما سأله السائل إِذا دَعانِ و سألني حاجته باللّسان و القلب في السّرّ و الجهر. و من الواضح أنّه إذا لم يخالف إجابته القضاء المبرم و لم يكن في إسعاف حوائجهم مفسدة في دينهم و دنياهم.

فإذا كنت مجيبا لدعائهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي و ليبادروا إلى إجابة دعائي إلى الإيمان و الأعمال الصّالحة، فكأنّه تعالى قال: أنا مع غنائي عنكم اجيب دعاءكم، فأنتم مع نهاية حاجتكم إليّ في جميع اموركم أحقّ و أولى بإجابة دعائي.

ثمّ بيّن استجابتهم الواجبة(4) بقوله: وَ لْيُؤْمِنُوا بِي فكأنّه قال: إجابة دعائي الإيمان بوحدانيّتي و برسولي بجميع ما جاء به.

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ معناه ليتحقّقوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه »(5).

لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ و يصيبون الحقّ و يهتدون إليه، و يمكن أن يكون من وجوه نظم الآية أنّ من وظائف الصّائم الدّعاء، كما روي أنّ دعوة الصّائم لا تردّ(6).

في بيان بعض موجبات عدم استجابة الدعاء

روي أنّ الصادق عليه السّلام قرأ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ (7) فسئل: ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فقال: «لأنّكم تدعون من لا تعرفون، و تسألون ما لا تفهمون فالاضطرار

ص: 405


1- الأنبياء: 87/21.
2- في النسخة: فقال فخر، و ما أثبتناه من روح البيان، إذ المراد إمام الحرمين لا الفخر الرازي.
3- تفسير روح البيان 365:5.
4- في النسخة: الواجب.
5- مجمع البيان 500:2، تفسير الصافي 204:1.
6- عدة الداعي: 128، بحار الأنوار 36/256:96.
7- النمل: 62/27.

عين الدّين، و كثرة الدّعاء مع العمى عن اللّه من علامة الخذلان، من لم يشهد ذلّة نفسه و قلبه و سرّه تحت قدرة اللّه حكم على اللّه بالسّؤال، و ظنّ أنّ سؤاله دعاء، و الحكم على اللّه من الجرأة على اللّه »(1).

و في رواية: قيل له عليه السّلام: إنّ اللّه يقول: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و إنّا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فقال:

«لأنّكم لا توفون بعهده، و إنّ اللّه يقول: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (2) و اللّه لو وفيتم [للّه] لو فى اللّه لكم »(3).

في دفع توهّم عدم الفائدة للدعاء

ثمّ اعلم أنّ بعض الجهّال قالوا: إنّ الدّعاء عديم الفائدة؛ لأنّ المطلوب بالدّعاء إن كان معلوم الوقوع عند اللّه تعالى كان واجب الوقوع، و إن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الدّعاء على التّقديرين.

و هو واضح الفساد، إذ قد يكون أمر معلوم الوقوع على تقدير الدعاء حيث إنّ للدّعاء دخالة تامّة في مصلحة ذلك الأمر، فقد لا تكون المصلحة في إيجاد المطلوب، و بالدّعاء يوجد فيه الصّلاح، و الآيات و الأخبار المتواترة ناصّة على فائدته، بل هي من ضروريّات الدّين فمنكرها كافر.

في دفع المنافاة بين الدعاء و الرضا بقضاء اللّه

و أمّا ما قيل من أنّه: ثبت بشواهد العقل و الأخبار الصّحيحة أنّ الرّضا بقضاء اللّه من أجلّ مقامات الصّدّيقين و أعلاها، و الدّعاء مناف للرّضا، حيث إنّ فيه ترجيح مراد النّفس على مراد اللّه، و طلب حظوظ البشريّة.

ففيه: أنّ الدّعاء إظهار لجهة العبوديّة من الحاجة و الذّلّة و المسكنة مع الرّضا بقضاء اللّه و قدره لعدم المنافاة بينهما، و ذلك من أعظم مقامات الأولياء، بل الآيات و الأخبار المتواترة ناصّة على كونه من أفضل العبادات، بل في تركه مظنّة الاستكبار، و لذا قال سبحانه: وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (4).

سورة البقرة (2): آیة 187

اشارة

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ

ص: 406


1- تفسير الصافي 204:1.
2- البقرة: 40/2.
3- تفسير القمي 46:1، تفسير الصافي 205:1.
4- غافر: 60/40.

وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

سورة البقرة (2): آیة 187

ثمّ أنّه روي أنّ الأكل كان محرّما في شهر رمضان باللّيل بعد النّوم، و كان النّكاح حراما باللّيل و النّهار، و كان رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقال له مطعم بن جبير، نام قبل أن يفطر و حضر حفر الخندق فاغمي عليه، و كان قوم من الشّبّان ينكحون باللّيل سرّا في شهر رمضان، فنزلت (1):أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ و ابيح لكم فيها اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ قالوا: الرّفث: كناية عن المباشرة و الجماع.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة التّرخيص و الإباحة بقوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ و متّصلات بكم اتّصال الثّياب بالأبدان وَ أَنْتُمْ أيضا لِباسٌ لَهُنَّ و مخالطون بهنّ .

قيل: وجه شباهة المخالطة و المحرميّة باللباس أنّ الإنسان كما لا يفارق لباسه، و لا يستر عنه عورته، بل يستر عورته به عن غيره، كذلك الزّوج و الزّوجة، و الصّديق الحافظ لأسرار صديقه المؤانس له، فصارت شدّة مخالطة الزّوج و الزّوجة سببا لكمال المشقّة في كفّ النّفس عن المقاربة و الاستمتاع.

ثمّ أخبر اللّه بعصيان كثير من المسلمين فيه بقوله: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ و تظلمون أَنْفُسَكُمْ بتعريضها للعقاب بسبب غلبة الشّهوة و ارتكاب المعصية فَتابَ عَلَيْكُمْ لمّا تبتم وَ عَفا و محا أثر الخيانة عَنْكُمْ بقبول التّوبة.

و روي البيضاوي: أنّ عمر باشر بعد العشاء مع علمه بحرمته (2) ،فندم و أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أعتذر إليه.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما كنت جديرا به»(3) فقام رجال و اعترفوا بما صنعوا بعد العشاء(4).

و في رواية: أنّه أراد الجماع، فقالت امرأته: إنّي نمت. فلم يقبل منها، ثمّ أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت(5).

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ و جامعوا معهنّ في أيّ وقت أردتم من اللّيل وَ ابْتَغُوا بالمباشرة و اطلبوا بها

ص: 407


1- جوامع الجامع: 34.
2- (مع علمه بحرمته) ليس في تفسير البيضاوي.
3- (و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما كنت جديرا به) ليس في تفسير البيضاوي.
4- تفسير البيضاوي 106:1.
5- الدر المنثور 475:1.

ما كَتَبَ اللّهُ في اللّوح المحفوظ ، و ما قدّره لَكُمْ من الولد، و لا يكن غرضكم منها صرف قضاء الشّهوة.

في نقل بعض العامة اعتذار عمر عن عصيانه

و لعلّ فيه التّعريض على عمر، حيث نقل صاحب (روح البيان) أنّ عمر اعتذر عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّي رجعت إلى أهلي بعد العشاء، فشممت رائحة طيّبة، فسوّلت لي نفسي. ثمّ قال بعد نقله: و صارت زلّته سببا للرّحمة على جميع الامّة (1).و ذلك من عجائب الكلام، و ليت شعري كيف يكون لمن لم يقدر على كفّ نفسه بسبب استشمام رائحة من زوجته عن المعصية الكبيرة، كرامة عند اللّه! و لعلّ هذه الرّحمة كانت بسبب رجال شبّان اعترفوا بالخطيئة و كانوا معذورين فيها.

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا من أوّل ليالي الصّيام حَتّى يَتَبَيَّنَ و يتّضح لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ و هو كناية عن البياض المعترض في الافق مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ و هو كناية عن ظلمة غسق اللّيل الممتدّة فوق البياض، حال كون ذلك البياض مِنَ الْفَجْرِ و انشقاق الصّبح الصّادق.

روي عن سهل السّاعدي: أنّها نزلت و لم يكن قوله: مِنَ الْفَجْرِ و كان رجال [إذا صاموا] يشدّون في أرجلهم خيوطا بيضاء و سوداء، فلم يزالوا يأكلون و يشربون حتّى يتبيّنا لهم، ثمّ نزل البيان في قوله: مِنَ الْفَجْرِ (2).

و عن عديّ بن حاتم أنّه قال: أخذت عقالين أبيض و أسود فجعلتهما تحت و سادتي، و كنت أقوم من اللّيل فأنظر إليهما فلم يتبيّن لي الأبيض من الأسود، فلمّا أصبحت غدوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته، فضحك و قال: إنّك لعريض القفا (3) ،إنّما ذلك بياض النّهار و سواد اللّيل(4).

في ردّ قول بعض العامة بحصر مفطرات الصوم في ثلاثة

ثمّ اعلم أنّ وجه الاقتصار في الآية على حرمة الجماع و الأكل و الشّرب، هو كثرة الابتلاء بها، و كونها مرغوبا إليها لنوع المكلّفين دون سائر المفطّرات كالحقنة و القيء و الارتماس في الماء - على القول بمفطريته - و أنكر بعض العامّة مفطّرية غير الثلاثة المذكورة في الآية، و هو في غاية الفساد لثبوت مفطّرية غيرها بالرّوايات المعتبرة.

ص: 408


1- تفسير روح البيان 299:1.
2- كنز العرفان 7/215:1.
3- قيل: هو كناية عن طول النوم و كثرته، و قيل: كناية عن السّمن. راجع: النهاية 210:3.
4- تفسير الرازي 109:5.

في منع الملازمة بين إباحة الجماع في الليل و إباحة الاصباح جنبا

و عن بعض العامّة: أنّ الآية دالّة على صحّة صوم من أصبح جنبا، حيث إنّ (حتى) غاية لجواز المباشرة و الأكل و الشرب إلى طلوع الفجر، و جواز تأخير الغسل إلى الصّبح لازم إباحة المباشرة في الزّمان المتّصل بالصّبح(1).

و فيه منع الملازمة، فإنّ حرمة الإصباح جنبا لا ينافي جواز المباشرة قبل الفجر، لأنّه إذا باشر قبل الصّبح لم يرتكب حراما من حيث تلك المباشرة، بل بالإصباح جنبا.

و الحاصل: أنّه لو دلّ الدّليل على مفطّريّة الإصباح جنبا، لا يعارضه ظهور الآية، بل الآية ساكتة عن مفطريّة البقاء على الجنابة نفيا و إثباتا.

ثُمَّ أَتِمُّوا و أديموا اَلصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فإنّ أوّله آخر وقته، و يعلم بزوال الحمرة المشرقيّة عن قمّة الرأس.

ثمّ بعد بيان حرمة مباشرة النّساء في زمان الصّيام، بيّن حرمتها في حال الاعتكاف بقوله: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ ليلا و نهارا بالجماع و مقدّماته وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ و مقيمون بقصد العبادة المعهودة فِي الْمَساجِدِ عموما على قول، و في كلّ مسجد جامع على قول آخر، أو خصوص مسجد جمع فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو الوصيّ جمعة أو جماعة على قول ثالث، فإن باشر أحد في حال الاعتكاف ليلا أو نهارا يبطل على ما ذهب إليه بعض الأصحاب.

ثمّ بالغ في الرّدع عن مخالفة أحكامه بقوله: تِلْكَ الأحكام حُدُودُ اللّهِ و حرماته فَلا تَقْرَبُوها فإنّ النّهي عن القرب أبلغ في التّحريم من النّهي عن المخالفة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ألا و إنّ لكلّ ملك حمى، و إنّ حمى اللّه محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه »(2).

كَذلِكَ التّبيين و التّوضيح الذي لا يبقى الشكّ معه يُبَيِّنُ اللّهُ و يوضح آياتِهِ و حججه على توحيده و نبوّة نبيّه و سائر أحكامه لِلنّاسِ كافّة لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عقابه و يحترزون عن مخالفته.

سورة البقرة (2): آیة 188

اشارة

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

ص: 409


1- تفسير الرازي 110:5، تفسير روح البيان 300:1
2- تفسير الرازي 115:5.

سورة البقرة (2): آیة 188

ثمّ أنّه تعالى بعد نهي النّاس عن أكل أموال أنفسهم في أيام شهر رمضان، نهى عن أكل أموال الغير على خلاف حكمه و بغير الوجه الذي شرّعه في جميع الأوقات، بقوله: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يتصرّف بعضكم في أملاك بعض آخر، و لا تتعاملوا بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ و بالوجه الذي يكون منهيّا و محرّما، كأكلها بشهادة الزّور، أو اليمين الكاذبة، أو بالصّلح، مع العلم بعدم الحقّ أو غير ذلك من الوجوه غير الجائزة.

قيل: نزلت في رجلين تخاصما في أرض بينهما، فأراد أحدهما أن يحلف على أرض أخيه بالكذب، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أنا بشر يوحى إليّ و أنتم تختصمون إليّ ، و لعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له شيئا من حقّ أخيه، فإنّما أقضي له قطعة من نار» فبكيا، و قال كلّ واحد منهما: أنا احلّ لصاحبي. فقال: «اذهبا فتوخّيا ثمّ استهما، ثمّ ليحلّل كلّ واحد منكما صاحبه »(1).

عن الصادق عليه السّلام: «كانت قريش تقامر الرجل في أهله و ماله، فنهاهم اللّه »(2).

و عن (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «يعني بالباطل اليمين الكاذبة، يقتطع بها الأموال »(3).

و عن (الفقيه) و (العياشي): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل: الرّجل منّا يكون عنده الشيء يتبلّغ به، و عليه الدين، أ يطعمه عياله حتّى يأتيه اللّه بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزّمان و شدّة المكاسب، أو يقبل الصّدقة ؟

فقال: «يقضي بما عنده دينه، و لا يأكل أموال النّاس الاّ و عنده ما يؤدّي إليهم (4) ،إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ (5)- إلى أن قال -: و لا يستقرض على ظهره [إلاّ و عنده] وفاء»(6) الخبر.

في جواز الاستقراض مع عدم القدرة على الوفاء

و لعلّه لهذه الرواية ذهب أبو الصّلاح إلى حرمة الاقتراض على من لا يكون عنده ما يقتضيه و لا يقدر لو طولب على القضاء(7).

ص: 410


1- تفسير أبي السعود 202:1، تفسير روح البيان 302:1.
2- تفسير العياشي 310/191:1، مجمع البيان 506:2.
3- مجمع البيان 506:2.
4- زاد في تفسير العياشي: حقوقهم.
5- تفسير العياشي 313/192:1، من لا يحضره الفقيه 476/112:3.
6- الكافي 2/95:5.
7- الكافي في الفقه: 330.

و فيه: أنّها معارضة برواية موسى بن بكر (1) ،عن أبي الحسن عليه السّلام: «من طلب هذا الرّزق من حلّه ليعود به [على] نفسه و عياله، كان كالمجاهد في سبيل اللّه عزّ و جلّ ، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه عزّ و جلّ و على رسوله ما يقوت به عياله، فإن مات و لم يقضه كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقضه كان عليه وزره، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ إلى قوله:

وَ الْغارِمِينَ (2) فهو فقير مسكين مغرم»(3) و نحوه غيره، و الترجيح معه لتأيّده بإطلاق كثير من الرّوايات و فتاوى جلّ الأصحاب فلا بدّ من حمل الرّواية المانعة على نوع من الكراهة.

ثمّ لكمال شدّة حرمة إعطاء الأموال رشوة خصّه بالذكر مع دخوله في عموم النّهي السابق بقوله:

وَ تُدْلُوا بِها و تلقوها إِلَى الْحُكّامِ و القضاة السّوء بعنوان الرّشوة لِتَأْكُلُوا بأحكامهم الباطلة و الرّشوة و المصانعة فَرِيقاً و قسمة مِنْ أَمْوالِ النّاسِ ملابسا بِالْإِثْمِ و المعصية و الظلم، أو بسبب الإثم من اليمين الكاذبة.

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّكم مبطلون ظالمون، و من الواضح أنّ ارتكاب القبيح مع العلم بقبحه أقبح.

في حرمة الترافع عند قضاة الجور

عن القمي رحمه اللّه: قال العالم عليه السّلام: «قد علم اللّه أنّه قد يكون حكّام يحكمون بغير الحقّ ، فنهى أن يتحاكموا(4) إليهم؛ لأنّهم لا يحكمون بالحقّ فتبطل الأموال »(5).

و قيل: إنّ المراد أن لا تلقوا أمر أموالكم و الحكومة فيها إلى الحكّام لتأكلوا و تأخذوا باليمين الكاذبة و شهادة الزّور و الصّلح - مع العلم بعدم الحقّ - طائفة من أموال النّاس عصيانا و ظلما، فعلى هذا يكون المراد من الحكّام عموم القضاة، و النّهي راجع إلى أخذ أموال النّاس بالدّعوى الباطلة.

عن (العيّاشي) عن الرّضا عليه السّلام أنّه كتب في تفسيرها: «إنّ الحكّام القضاة» ثمّ كتب تحته: «هو أن يعلم الرّجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم له [به] إذا كان قد علم أنّه ظالم »(6).

سورة البقرة (2): آیة 189

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللّهَ

ص: 411


1- في النسخة: موسى بن بكير، راجع: معجم رجال الحديث 22:9.
2- التوبة: 60/90.
3- الكافي 3/93:5.
4- في المصدر: يتحاكم.
5- تفسير القمي 67:1.
6- تفسير العياشي 312/191:1، التهذيب 518/219:6.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

سورة البقرة (2): آیة 189

ثمّ أنّه روي أنّ معاذ بن جبل و ثعلبة بن غنم، و هم كانا من الأنصار، قالا: يا رسول اللّه، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثمّ يزيد حتّى يمتلئ و يستوي، ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعودكما بدأ؟ لم لا يكون على حالة واحدة كالشمس ؟ فنزلت هذه الآية (1).

و لمّا جرى ذكر شهر رمضان لتعيين وقت الصّوم، ذكر اللّه هذا السؤال و جوابه هنا بقوله:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ حكمة اختلاف حال اَلْأَهِلَّةِ بزيادة نورها و نقصانه.

قيل: وجه إطلاق الهلال على أوّل ما يبدو من نور القمر إلى ثلاث ليال أنّ العرب كانوا يرفعون أصواتهم بالذّكر عند رؤيته(2).

و روي عن معاذ: أنّ اليهود سألت عن الأهلّة (3) ،فأجابهم اللّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد أنّ الأهلّة هِيَ مَواقِيتُ و معالم جعلت لِلنّاسِ يوقّتون بها تجاراتهم و ديونهم و عدّة نسائهم، و عباداتهم من صومهم و فطرهم و صلوات جمعهم و أعيادهم، و سائر ما يحتاجون إلى التوقيت من امور معاشهم و معادهم.

ثمّ لكثرة الاهتمام بالحجّ خصّه بالذكر بقوله: وَ الْحَجِّ يعرف بها وقته، حيث إنّه مختصّ بالأشهر المعيّنة، و لا يجوز نقله إلى غيرها كما كانت العرب تفعل ذلك في النّسيء.

ثمّ لمّا جرى ذكر الحجّ في المقام، ذكر اللّه تعالى بدعة من بدع المشركين في حال الإحرام استطرادا.

روي عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم إذا أحرموا كانوا لم يدخلوا دارا و لا فسطاطا من بابه، و لكنّهم كانوا ينقبون في ظهور بيوتهم نقبا يدخلون و يخرجون منه، و يسمّونه برّا، فنهاهم اللّه عن التديّن به»(4) بقوله:

وَ لَيْسَ الْبِرُّ و لا القربة إلى اللّه بِأَنْ تَأْتُوا و تدخلوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها و خلفها وَ لكِنَّ الْبِرَّ ما يقرّب إلى جميع الخيرات الدنيويّة و الأخرويّة برّ مَنِ اتَّقى ما حرّم اللّه. كذا روي عن الصادق عليه السّلام(5).

ص: 412


1- تفسير الرازي 120:5، تفسير روح البيان 303:1.
2- تفسير روح البيان 303:1.
3- تفسير الرازي 120:5.
4- مجمع البيان 508:2، تفسير الصافي 208:1.
5- تفسير الصافي 208:1.

قيل في وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها: إنّهم لمّا سألوا عن حكمة تغيير حال القمر، ردعهم اللّه عن السؤالات غير المفيدة للدّين، كأنّه قال سبحانه: لا تسألوا عمّا لا يهمّكم، بل اسألوا عمّا البحث فيه أهمّ ، و هو أنّكم تظنّون أنّ إتيان البيوت من ظهورها برّ، و هذا خطأ محض، بل البرّ هو تقوى اللّه(1).

في وجوب أخذ العلم من الراسخين في العلم و العلماء الذين يكون علمهم مأخوذا عنهم

و قيل: إنّهم لمّا سألوا عن حكمة اختلاف حال القمر (2) ،علّمهم اللّه طريق تحصيل العلم، بقوله: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و هي كناية عن وجوب السؤال عمّن يعلم أنّه عالم بحقائق الامور و الأحكام من قبل اللّه و هو النبيّ و أوصياؤه صلوات اللّه عليهم، الذين وصفهم اللّه بالرّاسخين في العلم، و العلماء الذين أخذوا العلم منهم، دون من يكون علمه مبنيّا على الخرص و الظنّ و القياس و الاستحسان، و أقوال الرجال الذين لا يؤمنون من الافتراء على اللّه و رسوله.

عن (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «قد جعل اللّه للعلم أهلا، و فرض على العباد طاعتهم بقوله: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و البيوت هي بيوت العلم الذي استودعه الأنبياء، و أبوابها أوصياؤهم »(3).

و عنه عليه السّلام: «نحن البيوت التي أمر اللّه [بها] أن تؤتى من أبوابها، نحن باب اللّه و بيوته التي يؤتي منها، فمن تابعنا و أقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، و من خالفنا و فضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها »(4).

و في رواية: «أنّ اللّه عزّ و جلّ لو شاء عرّف النّاس نفسه حتّى يعرفوه [وحده] و يأتوه من بابه، و لكنّه جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه» قال: «فمن عدل عن ولايتنا و فضّل علينا غيرنا، فقد أتى البيوت من ظهورها و إنهم عن الصراط لناكبون »(5) ،الخبر.

و يمكن أن يكون المراد من إتيان البيوت من أبوابها، البيوت الظاهريّة المسكونة، و البيوت المعنويّة العلميّة بإرادة القدر المشترك بين المعنى الحقيقيّ و المجازيّ .

وَ اتَّقُوا اللّهَ و احترزوا مخالفة أحكامه و تغييرها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و تفوزون بجميع الخيرات الدنيويّة و الاخرويّة و المقامات العالية.

ص: 413


1- تفسير الرازي 126:5.
2- تفسير البيضاوي 108:1.
3- الاحتجاج: 248.
4- الاحتجاج: 227.
5- الاحتجاج: 228.

و قيل في تأويل الآية: إنّه كان في الجاهليّة من همّ بسفر أو أمر يصنعه فمنع من ذلك، لم يدخل داره من الباب حتّى يحصل له ذلك. و كانت قريش و قبائل العرب من خرج لسفر أو حاجة ثمّ رجع و لم يظفر بذلك، كان ذلك طيرة، فنهاهم اللّه عن ذلك، و أخبر أنّ الطّيرة ليس ببرّ، و البرّ [برّ] من توكّل على اللّه و لم يخف غيره(1).

سورة البقرة (2): الآیات 190 الی 193

اشارة

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ (193)

سورة البقرة (2): آیة 190

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر بالتّقوى، عقّبه بالأمر بأشدّ أقسامه و أشقّها على النّفوس، و هو قتال أعداء اللّه، بقوله: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ و لطلب مرضاته، و نصرة نبيّه، و إعزاز دينه.

روي أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عمّن يقاتل في سبيل اللّه، فقال: «هو من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا، و لا يقاتل رياء و [لا] سمعة »(2).

اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من الكفّار. عن (المجمع) عنهم عليهم السّلام: «هي ناسخة لقوله تعالى: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ » (3).

و قيل: هذه الآية أوّل آية نزلت في القتال، فلمّا نزلت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاتل من قاتله و يكفّ عن قتال من تركه، و بقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى: اقتلوا اَلْمُشْرِكِينَ (4).

و قيل: إنّه لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الحديبية و عاد إلى المدينة، ثمّ تجهّز في السّنة القابلة، خاف أصحابه أن لا يفوا قريش بالعهد و يصدّوهم و يقاتلوهم، و كانوا كارهين لمقاتلتهم في الشّهر الحرام

ص: 414


1- تفسير روح البيان 304:1.
2- تفسير الرازي 128:5.
3- مجمع البيان 510:2، و الآية من سورة النساء: 77/4.
4- تفسير الرازي 127:5، و الآية من سورة التوبة: 5/9.

في الحرم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات، و بيّن لهم كيفيّة المقاتلة إلى أن احتاجوا إليها، فقال: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (1).

وَ لا تَعْتَدُوا بابتداء القتال في الحرم محرمين، و بقتل الصّبية و النّساء، و بالمثلة إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ و لا يريد بهم خيرا.

سورة البقرة (2): آیة 191

ثمّ شدّد سبحانه في قتال مشركي قريش بقوله: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ و في أيّ مكان من الحلّ أو الحرم وجدتموهم.

روي عنهم عليهم السّلام: «أنّها ناسخة لقوله تعالى: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ » (2).

وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكّة، و قد فعل صلّى اللّه عليه و آله بمن لم يسلم من كفّار قريش يوم الفتح.

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجلى كلّ مشرك من الحرم. ثمّ أجلاهم من المدينة و من جزيرة العرب، و قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب »(3).

ثمّ أنّه روي أنّ بعض الصحابة كان قتل رجلا من الكفّار في الشّهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت(4).

وَ الْفِتْنَةُ و هي محنة الإخراج و جلاء الوطن (5).و قيل: هي الشّرك(6) و صدّهم المسلمين عن الحرم أَشَدُّ و أصعب مِنَ الْقَتْلِ لدوام تعبها و بقاء ألم النّفس بها.

سئل بعض الحكماء: أيّ شيء أشدّ من الموت ؟ قال: الذي يتمنّى فيه الموت(7).

و قيل: إنّ المشركين كانوا يستعظمون القتل في الحرم، و يعيبون المسلمين به، فردّ اللّه عليهم بأنّ الكفر و الشّرك باللّه في الحرم أشدّ قبحا من القتل(8).

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ شرط جواز القتال في الحرم أن يكون بعنوان الدّفاع، بقوله: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ

بادين به عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و لا تهتكوا بالقتال فيه حرمته حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ و يبادروا إلى

ص: 415


1- تفسير الرازي 127:5.
2- مجمع البيان 510:2، و الآية من سورة الأحزاب: 48/33.
3- تفسير الرازي 130:5.
4- مجمع البيان 511:2، تفسير الرازي 130:5.
5- كذا، و الظاهر: و الجلاء من الوطن.
6- تفسير البيضاوي 109:1.
7- تفسير روح البيان 306:1.
8- الكشاف 236:1.

قتالكم.

فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه بادين به فَاقْتُلُوهُمْ فيه دفاعا، و لا تبالوا هتك حرمة الحرم، لأنّهم الذين هتكوا حرمته و أنتم مدافعون عن أنفسكم كَذلِكَ القتل جَزاءُ الْكافِرِينَ على مبادرتهم بالقتال، فإنّه يفعل بهم مثل ما فعلوا.

سورة البقرة (2): آیة 192

فَإِنِ انْتَهَوْا و انصرفوا عن القتال و اعتقاد الشّرك باللّه و تابوا إليه فَإِنَّ اللّهَ يغفر لهم؛ لأنّه غَفُورٌ للعصاة و ستّار للسّيّئات رَحِيمٌ بالمؤمنين التائبين.

سورة البقرة (2): آیة 193

ثمّ أكّد اللّه الأمر بقتال المشركين بقوله: وَ قاتِلُوهُمْ مجدّين فيه حَتّى لا تَكُونَ في الأرض فِتْنَةٌ الشّرك، و حتّى يسلموا وَ يَكُونَ الدِّينُ في الأرض خالصا لِلّهِ لا شرك للشّيطان و الأصنام فيه فَإِنِ انْتَهَوْا و رجعوا عن الشّرك إلى التّوحيد فَلا عُدْوانَ جائز مستحسن على أحد إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر.

قيل: تسمية الجزاء عدوانا من باب المشاكلة و الازدواج(1).

عن (العيّاشي): عن أحدهما عليهما السّلام: «أي لا عدوان إلاّ على ذرّيّة قتلة الحسين عليه السّلام»(2) و قريب منه رواية اخرى(3).

و عن (العيّاشي): عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل: يا ابن رسول اللّه، ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السّلام بفعال آبائهم ؟» فقال عليه السّلام: «هو كذلك».

فقيل: فقول اللّه عزّ و جلّ : وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (4) ما معناه ؟ فقال: «صدق اللّه في جميع أقواله، لكنّ ذراري قتلة الحسين عليه السّلام رضوا بفعال آبائهم، و يفتخرون بها، و من رضي شيئا كان كمن أتاه، و لو أنّ رجلا قتل في المشرق فرضي [بقتله] رجل في المغرب، لكان الرّاضي عند اللّه شريك القاتل. و إنّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم »(5).

اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ

سورة البقرة (2): الآیات 194 الی 195

اشارة

اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ

ص: 416


1- تفسير الصافي 210:1.
2- تفسير العياشي 320/193:1.
3- تفسير العيّاشي 322/193:1.
4- الزمر: 7/39.
5- علل الشرائع: 1/229، عيون أخبار الرضا عليه السّلام 5/273:1.

فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

سورة البقرة (2): آیة 194

ثمّ أنّه تعالى بعد ما رخّص المسلمين في قتال المشركين في الحرم دفاعا؛ رخّصهم فيه في الأشهر الحرم قصاصا، بقوله: اَلشَّهْرُ الْحَرامُ يقابل بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فلا تبالوا بهتكه بإزاء هتك المشركين إيّاه.

روي: أنّ المشركين قاتلوا المسلمين في عام الحديبية في ذي القعدة (1).و نقل أنّ بعد صدّ المشركين المسلمين، وقع بينهم ترام بسهام و حجارة، و لمّا اتّفق خروج المسلمين لعمرة القضاء في ذلك الشّهر كرهوا أن يقاتلوهم، فنزلت الآية(2).

ثمّ عمّم حكم القصاص بقوله: وَ الْحُرُماتُ و جميع الامور التي يجب رعاية حرمتها، يجري فيها قِصاصٌ و حكم المعاملة بالمثل، فإن صدّكم المشركون عن دخول الحرم عنوة فادخلوا أنتم عليهم عنوة، و إن قاتلوكم في الحرم و في الشّهر الحرام فقاتلوهم، حيث إنّ الحرمات لا تراعى في حقّ من لا يراعيها.

عن (التهذيب) و (العياشي): أنّه سئل عن المشركين أ يبتدئهم المسلمون في القتال في الشّهر الحرام ؟ فقال: «إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلالهم ثم رأى المسلمون أنّهم يظهرون عليهم فيه، و ذلك قوله تعالى: اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ » (3).

ثمّ أنّه تعالى لتقرير ما بيّنه من الحكم ذكر فذلكة له بقوله: فَمَنِ اعْتَدى و تجاوز عليكم نفسا أو عرضا أو مالا فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ و عاقبوه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ من الجناية، و لا تتجاوزوا عن الحدّ المرخّص فيه.

عن الصادق عليه السّلام في رجل قتل رجلا في الحرم، و سرق في الحرم، فقال: «يقام عليه الحدّ [في الحرم] صاغرا، إنّه(4) لم ير للحرم حرمة، و قد قال اللّه تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ

ص: 417


1- تفسير الصافي 210:1.
2- تفسير روح البيان 307:1.
3- التهذيب 243/142:6، تفسير العيّاشي 321/193:1.
4- في النسخة: و صغار له، لأنه.

مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ يعني في الحرم، و قال: فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ » (1).

وَ اتَّقُوا اللّهَ و احذروا غضبه، فلا تتجاوزوا عمّا رخّص لكم، و لا تفاتحوا بالقتال في الحرم و في الشّهر الحرام وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بالنّصرة و المعونة و الحفظ مَعَ الْمُتَّقِينَ .

ثمّ روي أنّه لمّا نزلت اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قال رجل من الحاضرين: يا رسول اللّه، ما لنا زاد، و ليس أحد يطعمنا، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن ينفقوا في سبيل اللّه، و أن يتصدّقوا، و أن لا يكفّوا أيديهم عن الصّدقة و لو بشقّ تمرة تحمل في سبيل اللّه، فنزلت [هذه الآية] على وفق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(2).

سورة البقرة (2): آیة 195

وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ و نصرة دينه، و طلب مرضاته من الجهاد و سائر أبواب الخير، و هذا أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالنّفس.

في وجوب الاقتصاد في الانفاق

وَ لكن لا تُلْقُوا أنفسكم، و لا تطرحوها بِأَيْدِيكُمْ و بمباشرتكم إِلَى التَّهْلُكَةِ و التّلف بسبب الإسراف في الإنفاق و تضييع أمر المعاش و سائر ما يؤدّي إلى الهلاك.

عن أبي أيّوب الأنصاريّ ، قال: إنّ اللّه تعالى لمّا أعزّ دينه و نصر رسوله صلّى اللّه عليه و آله قلنا فيما بيننا: إنّا قد تركنا أهلنا و أموالنا حتّى فشا الإسلام و نصر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فلو رجعنا إلى أهلنا و أموالنا فأقمنا فيها و أصلحنا ما ضاع منا؟ فأنزل اللّه هذه الآية. فالتّهلكة ما كان سببا للهلاك من الإقامة في الأهل و المال و ترك الجهاد(3).

في وجوب طاعة السلطان

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «طاعة السّلطان واجبة، و من ترك طاعة السّلطان فقد ترك طاعة اللّه تعالى، و دخل في نهيه، إنّ اللّه يقول: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (4)».

عن (الكافي): عن الصّادق عليه السّلام قال: «لو أنّ رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل اللّه، ما [كان] أحسن و لا وفّق، أ ليس يقول اللّه تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ » (5).

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالإنفاق، بالأمر بالإحسان، من الإنفاق و سائر الأعمال الصّالحة بقوله:

ص: 418


1- الكافي 4/227:4، تفسير الصافي 210:1.
2- تفسير الرازي 135:5.
3- تفسير روح البيان 309:1.
4- أمالي الصدوق: 553/418.
5- الكافي 7/53:4.

وَ أَحْسِنُوا إلى الفقراء و تفضّلوا عليهم مراعين للاقتصاد، أو التزموا بالأعمال الحسنة إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و منهم المقتصدون في الإنفاق.

و قيل: إنّ ممّا يؤدّي إلى الهلاك، ترك الإنفاق في أصحاب الجهاد، فيستولي عليهم العدوّ فيهلكهم(1).

سورة البقرة (2): آیة 196

اشارة

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

سورة البقرة (2): آیة 196

ثمّ أنّه روي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا رجع في العام القابل إلى مكّة فمنعه الكفّار عن الحجّ و العمرة فنزلت: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (2) و اتوا بهما كاملين بشرائطهما و أركانهما خالصين لوجه اللّه.

عن (الكافي) و (العيّاشي) سئل الصادق عليه السّلام عن هذه الآية، فقال: «هما مفروضان »(3).

و عنه عليه السّلام قال: «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ على من استطاع؛ لأنّ اللّه يقول: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ » (4).

و في رواية، قال: يعني بتمامها أداءهما و اتّقاء ما يتّقي المحرم فيهما(5).

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين عليه السّلام و السجّاد عليه السّلام: «يعني أقيموها إلى آخر ما فيها »(6).

و في رواية: «تمامهما اجتناب الرّفث، و الفسوق، و الجدال في الحجّ »(7).

و عن (الكافي): عنه عليه السّلام قال: «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه، و ذكر اللّه كثيرا، و قلّة الكلام إلاّ بخير، في أنّ زيارة الإمام تمام الحجّ

فإنّ من تمام الحجّ و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلاّ من خير »(8).

و عن الباقر عليه السّلام: «تمام الحجّ لقاء الإمام »(9).

ص: 419


1- مجمع البيان 516:2.
2- تفسير الرازي 144:5.
3- الكافي 2/265:4، تفسير العيّاشي 330/195:1.
4- علل الشرائع: 1/408.
5- الكافي 1/265:4، تفسير الصافي 211:1.
6- مجمع البيان 518:2.
7- الخصال: 9/606.
8- الكافي 3/337:4.
9- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 29/262:2.

و عن الصادق عليه السّلام: «إذا حجّ أحدكم فليختم حجّه بزيارتنا؛ لأنّ ذلك من تمام الحجّ »(1).

أقول: و ذلك لأنّ الحجّ زيارة اللّه في بيته، و لمّا كان الإمام عليه السّلام عين اللّه الناظرة، و يده الباسطة، و جنبه، و بابه الذي يؤتى منه، و خازن علمه، و معدن حكمته، كانت زيارته زيارة اللّه في عرشه، و لذا عدّت من تمام الحجّ .

ثمّ بيّن اللّه تعالى حكم المحصور منه بقوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ و منعتم من الحجّ بعد إحرامه لخوف من عدوّ أو لمرض، و أردتم التّحليل من الإحرام فَمَا اسْتَيْسَرَ و ما تيسّر لكم مِنَ الْهَدْيِ

واجب عليكم، أعلاه البعير، و أوسطه البقرة، و أقلّه الشّاة. و قيل: كلّ ما تيسّر، و إنّما سمّي هديا لأنّه بمنزلة الهديّة التي يهديها العبد إلى ربّه (2) ،و ما تيسّر من شيء واجب عليكم.

وَ لا تَحْلِقُوا أيّها المحصورون رُؤُسَكُمْ و لا تحلّوا من إحرامكم حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ و تعلموا أنّ هديّتكم التي بعثتموها قد بلغت منى الذي يجب النّحر أو الذّبح فيه إن كان الإحرام بالحجّ ، أو مكّة إنّ كان الإحرام بالعمرة.

في حكم المحصور بعد الإحرام

عن (الكافي) عن الباقر عليه السّلام: «المصدود يذبح حيث صدّ، و يرجع صاحبه فيأتي النّساء، و المحصور يبعث بهديه و يعدهم يوما، فإذا بلغ الهدي أحلّ هذا في مكانه »(3).

و عن الصادق عليه السّلام: «يجزيه شاة، و البدنة و البقرة أفضل »(4).

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ في حال الحصر مَرِيضاً يحتاج إلى حلق الرّأس أَوْ بِهِ أَذىً و ألم كائن مِنْ رَأْسِهِ كقمل أو صداع فَفِدْيَةٌ معيّنة عليه إذا حلق، كانت الفدية مِنْ صِيامٍ في ثلاثة أيّام أَوْ صَدَقَةٍ و هي إطعام ستّة مساكين، لكلّ مسكين مدّان، أو عشرة مساكين لكلّ مدّ أَوْ نُسُكٍ

و هو الذّبيحة، أقلّها شاة، و أوسطها بقرة، و أعلاها بدنة.

عن (الكافي) و (العيّاشي): عن الصادق عليه السّلام: «مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على كعب بن عجرة، و القمل يتناثر من رأسه و هو محرم، فقال له: أ تؤذيك هوامّك ؟ فقال: نعم. فانزلت هذه الآية، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يحلق، و جعل الصّيام ثلاثة أيّام، و الصّدقة على ستّة مساكين، لكلّ مسكين مدّان و النّسك

ص: 420


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 28/262:2.
2- تفسير روح البيان 311:1.
3- الكافي 9/371:4.
4- تفسير العياشي 333/196:1.

شاة »(1).

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و كلّ شيء في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، يختار ما شاء، و كلّ شيء في القرآن (فمن لم يجد كذا فعليه كذا) فالأولى الخيار»(2) الخبر. و الظاهر من الخيار الأخير الجري بالاختيار.

في حكم حجّ التمتّع في الأمن

ثمّ أنّه لمّا ذكر حكم المحصور لعدوّ أو مرض، بين حكم حال الأمن و السّعة، بقوله:

فَإِذا أَمِنْتُمْ من خوف العدوّ و برئتم من المرض فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ و انتفع بما كان يحرم عليه بعد التّحليل من إحرامها مستمرّا عليه إِلَى الْحَجِّ و إحرامه به فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عليه، و هو شاة، على ما روي عن الصادق عليه السّلام(3).

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ واجب عليه في وقت الحجّ ، أو أيّام اشتغاله به.

عن (الكافي): عن الصّادق عليه السّلام في المتمتّع لا يجد الهدي ؟ قال: «يصوم قبل التّروية [بيوم و يوم التروية] و يوم عرفة».

قيل: قد قدم يوم التّروية ؟ قال: «يصوم ثلاثة أيّام بعد التّشريق».

قيل: لم يقم عليه جمّاله ؟ قال: «يصوم [يوم] الحصبة(4) و بعده يومين».

قيل: و ما الحصبة (5) ؟قال: «يوم نفره».

قيل: يصوم و هو مسافر؟ قال: «نعم، أ ليس [هو] يوم عرفة مسافرا! إنّا أهل بيت نقول ذلك لقول اللّه عزّ و جلّ : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ يقول: في ذي الحجّة »(6).وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أهاليكم تِلْكَ الجملة عَشَرَةٌ كامِلَةٌ و فيه زيادة توصية بصيامها.

في (التهذيب): عن الصادق عليه السّلام أنّه سأل سفيان الثّوريّ : «أيّ شيء يعني بكاملة ؟» قال: سبعة و ثلاثة. قال: «و [يختلّ ] ذا على ذي حجا، إنّ سبعة و ثلاثة عشرة».

قال: فأيّ شيء هو أصلحك اللّه ؟ قال: «انظر!» قال: لا علم لي، فأيّ شيء هو أصلحك اللّه ؟ قال:

«الكاملة كمالها كمال الاضحيّة، سواء أتيت بها أو لم تأت»(7) انتهى. و على هذا يكون المعنى أنّه لا

ص: 421


1- الكافي 2/358:4، تفسير العياشي 336/197:1.
2- الكافي 2/358:4، تفسير العياشي 336/198:1، تفسير الصافي 213:1.
3- الكافي 1/487:4.
4- في النسخة: الخطيئة.
5- في النسخة: الخطيئة.
6- الكافي 1/506:4، تفسير الصافي 213:1.
7- التهذيب 120/40:5، تفسير الصافي 214:1، و في التهذيب: أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية.

تنقص ثواب صيام العشرة عن الأضحيّة.

و ذلِكَ التمتّع بمحرّمات الإحرام جائز بين العمرة و الحجّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بأن يكون بينهم و بين المسجد اثنى عشر ميلا فما دونها من كلّ جانب.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «من كان منزلة على ثمانية عشر ميلا من [بين يديها، و ثمانية عشر ميلا من] خلفها، و ثمانية عشر ميلا عن يمينها، و ثمانية عشر ميلا عن يسارها، فلا متعة له، مثل مرّ(1) و أشباهها »(2).

وَ اتَّقُوا اللّهَ فيما فرض عليكم، كما عن ابن عبّاس (3)وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن تهاون بحدوده و لم يحافظ على أوامره و نواهيه.

سورة البقرة (2): آیة 197

اشارة

اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

سورة البقرة (2): آیة 197

في بيان أشهر الحجّ

ثمّ بيّن اللّه تعالى زمان الحجّ بقوله: اَلْحَجُّ وقته أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ معيّنات عند اللّه، معروفات عند النّاس، و هي: شوّال، و ذو القعدة، و ذو الحجّة، على ما روى عن الصادقين عليهما السّلام قالا: «ليس لأحد أن يحجّ فيما سواهنّ ، و من أحرم بالحجّ في غير أشهر الحجّ فلا حجّ له »(4).

فَمَنْ فَرَضَ و أوجب على نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ بأن اشتغل به و شرع فيه.

عن (الكافي) و (العيّاشي) قال: قال الصادق عليه السّلام: «الفرض: التّلبية و الإشعار و التّقليد، فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحجّ »(5).

أقول: فيه دلالة على وجوب إتمام الحجّ بالاشتغال به و الدّخول فيه و إن كان مندوبا فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ جائز فِي وقت اَلْحَجُّ و زمان الاشتغال بمناسكه.

ص: 422


1- مرّ: واد في بطن إضم، و قيل: بطن إضم، و المرّ أيضا: أرض بالنجد من بلاد مهرة بأقصى اليمن.
2- الكافي 3/300:4.
3- تفسير الرازي 160:5.
4- تفسير العياشي 355/203:1 و 356، تفسير الصافي 214:1.
5- الكافي 2/289:4، تفسير العياشي 358/203:1.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «الرّفث: الجماع، و الفسوق: الكذب و السّباب، و الجدال: قول الرّجل: لا و اللّه، و بلى و اللّه »(1).

و قال: «في الجدال شاة، و في [السباب و] الفسوق بدنة (2) ،و الرّفث فساد الحجّ »(3).

و المراد من النّفي، النّهي بأبلغ بيان، و تخصيص تحريم الثّلاثة بالحجّ مع كونها حراما مطلقا لكون الحرمة فيه أشدّ، كلبس الحرير في الصّلاة.

ثمّ حثّ المؤمنين إلى الأعمال الحسنة بعد النّهي عن القبائح بقوله: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ و عمل صالح و برّ يَعْلَمْهُ اللّهُ فيجازيكم به أحسن الجزاء وَ تَزَوَّدُوا بالأعمال الصالحة لسفر الآخرة فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ فيه اَلتَّقْوى .

أو المراد التزوّد بالمئونة في السّفر الدّنيويّ و لو بسبب التّقوى، كما قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (4).نقل أنّهم كانوا يحجّون بغير زاد، فيكونون كلاّ على النّاس، فأمر اللّه المؤمنين بالتزوّد للشّفر، لأنّه لا ينبغي استطعام النّاس و التّثقيل عليهم(5).

ثمّ بعد بيان فائدة التّقوى، و أنّه خير الزّاد، أمر به بقوله: وَ اتَّقُونِ في مخالفتي و احترزوا عقابي يا أُولِي الْأَلْبابِ و توجيه الخطاب إلى ذوي العقول السّليمة، لأنّ العقل يحثّ العاقل على التّقوى و ملازمته، فمن لا تقوى له لا عقل له، لأنّه ترك ما فيه خير الدنيا و الآخرة.

سورة البقرة (2): آیة 198

اشارة

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ (198)

سورة البقرة (2): آیة 198

ثمّ أنّه روي عن ابن عبّاس أنّه كان ناس من العرب يحترزون من

التجارة في أيّام الحجّ ، و إذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع و الشراء بالكلّيّة، و كانوا يسمّون التاجر في الحجّ الدّاج، و يقولون:

هؤلاء الدّاج و ليسوا بالحاج، و معنى الدّاج المكتسب الملتقط .

و بالغوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوفين، و إعانة الضعفاء، و إطعام

ص: 423


1- الكافي 3/338:4.
2- في الكافي: بقرة.
3- الكافي 6/339:4.
4- الطلاق: 2/65 و 3.
5- تفسير الصافي 215:1.

الجائع، فأزال اللّه هذا الوهم (1) ،بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و بأس في أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً و ربحا كائنا مِنْ رَبِّكُمْ و تطلبوا مالا بالتّجارة المحلّلة.

قيل: إنّ عكاظ و مجنّة و ذا المجاز كانوا يتّجرون في أيّام الموسم فيها، و كانت معائشهم منها، فلمّا جاء الإسلام كرهوا أن يتّجروا في الحجّ بغير الإذن، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت(2).

عن (العيّاشي): عن الصادق عليه السّلام: «فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ يعني الرّزق، إذا أحلّ الرجل من إحرامه و قضى نسكه فليبع و ليشتر في الموسم »(3).

و في رواية اخرى فَضْلاً أي مغفرة(4).

و روي عن الباقر عليه السّلام: «أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجّا أعمالا اخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل اللّه و رحمته، مثل إغاثة الملهوف، و إعانة الضّعيف، و إطعام الجائع »(5).

و قال بعض علماء العامّة معترضا عليه: إنّ هذه الأعمال بين واجب و مندوب، و لا يصحّ أن يقال فيها: (لا جناح) فإنّ هذا التعبير مختصّ بالمباحات(6).

و فيه: أنّ استعمال (لا جناح) في الواجبات غير عزيز إذا كان في مورد توهّم الحصر كقوله تعالى:

ليس عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (7).

ثمّ اعلم أنّه لا تعارض بين الرّوايات المفسّرة للفضل، لأنّ كلّ واحد منها محمول على بيان نوع من أنواعه.

فَإِذا أَفَضْتُمْ و دفعتم أنفسكم للرجوع مِنْ عَرَفاتٍ بكثرة و مضيتم منها إلى المزدلفة، [كما] عن (تفسير الإمام عليه السّلام)(8) و عرفات علم للموقف.

روي: أنّه تمثّل جبرئيل لإبراهيم فيه، فلمّا رآه عرفه، فسمّي ذلك الموضع عرفات(9).

و نقل: أنّ جبرئيل كان يدور به في المشاعر، و يقول: عرفت ؟ فلمّا رآه، قال: عرفت(10).

ص: 424


1- تفسير الرازي 171:5.
2- تفسير الرازي 171:5.
3- تفسير العياشي 366/206:1.
4- عوالي اللآلي 246/92:2.
5- تفسير الرازي 172:5.
6- تفسير الرازي 172:5.
7- النساء: 101/4.
8- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 358/605.
9- تفسير روح البيان 316:1.
10- تفسير روح البيان 316:1.

و نقل أيضا: أنّ آدم و حوّاء اجتمعا بعرفات و تعارفا(1).

فَاذْكُرُوا اللّهَ وجوبا بالدعاء و التّكبير و التّهليل عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و هو جبل سمّي قزح(2) ، و لقّب بالمشعر لأنّه معلم العبادة، و وصف بالحرام لحرمته(3).

روي عن جابر: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس، ركب ناقته حتّى أتى المشعر الحرام، فدعا و كبّر و هلّل، و لم يزل واقفا حتّى أسفر(4).

وَ اذْكُرُوهُ ذكرا حسنا، على ما قيل (5)كَما هَداكُمْ هداية حسنة إلى المناسك و غيرها من العبادات. أو المراد اذكروه لأنّه علّمكم دين الإسلام، أو علّمكم كيف تذكرونه.

وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل الهدى أو التّعليم لَمِنَ الضّالِّينَ بكيفيّة ذكره و عبادته.

نقل عن ابن عبّاس أنّه نظر إلى النّاس في هذا اللّيلة، و قال: كان النّاس إذا أدركوا هذه لم يناموا(6).

سورة البقرة (2): الآیات 199 الی 202

اشارة

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)

سورة البقرة (2): آیة 199

ثمّ أنّه نقل أنّ قريشا و جماعة من حلفائهم كانوا يسمّون بالحمس لتشدّدهم في دينهم، لم يكونوا يقفون بعرفات، بل كان وقوفهم بالمزدلفة، و لا يتجاوزون عنها لأنّهم كانوا يترفّعون على النّاس، و يقولون: نحن أهل اللّه، و لا نحلّ حرم اللّه، و أنّ الحرم أشرف من غيره، فالوقوف به أولى، و سائر النّاس كانوا يقفون بعرفات، فأمر اللّه المؤمنين بالوقوف بعرفات (7) ،بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا و ارجعوا و كلمة (ثمّ ) للتّرتيب في الرّتبة، و لتكن إفاضتكم مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ .

عن الصادق عليه السّلام: «يعني بالنّاس إبراهيم، و إسماعيل، و إسحاق، و من بعدهم ممّن أفاض من

ص: 425


1- تفسير روح البيان 316:1.
2- في النسخة: بقرج.
3- تفسير البيضاوي 112:1، تفسير أبي السعود 208:1.
4- تفسير البيضاوي 112:1.
5- تفسير البيضاوي 112:1.
6- تفسير الرازي 178:5.
7- مجمع البيان 527:2.

عرفات »(1).

و عن (الكافي): عن الحسين بن علي عليهما السّلام: «نحن النّاس »(2).

و عن الصادق عليه السّلام في حديث حجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «ثمّ غدا و النّاس معه، و كانت قريش تفيض من المزدلفة و هي جمع، و يمنعون النّاس أن يفيضوا منها. فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قريش ترجو أن تكون إفاضته [من] حيث كانوا يفيضون، فأنزل اللّه تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ » (3).

وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ من تغييركم المناسك في الجاهليّة، و من سائر المعاصي إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ و ستّار للذّنوب رَحِيمٌ بعباده المؤمنين، لا يقطع عنهم إحسانه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه يباهي ملائكته بأهل عرفات، و يقول: انظروا إلى عبادي جاءوا من كلّ فجّ عميق شعثا غبرا [اشهدوا] أنّي غفرت لهم »(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أعظم النّاس ذنبا من وقف بعرفة فظنّ أنّ اللّه لا يغفر له »(5).

سورة البقرة (2): آیة 200

فَإِذا قَضَيْتُمْ و أدّيتم أيّها المؤمنون مَناسِكَكُمْ و أعمال حجّكم، و فرغتم منها فَاذْكُرُوا اللّهَ

و آلاءه و نعماءه عندكم، و إحسانه إليكم، و بالغوا فيه كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ .

عن ابن عبّاس: أنّ العرب كانوا عند الفراغ من حجّهم بعد أيّام التّشريق، يقفون بين مسجد منى و بين الجبل، و يذكر كلّ واحد منهم فضائل آبائه في الشجاعة(6) و الحماسة و صلة الرّحم، و يتناشدون فيها الأشعار، و يتكلّمون بالمنثور من الكلام، و يريد كلّ واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشّهرة و الترفّع بمآثر سلفه، فلمّا أنعم اللّه [عليهم] بالإسلام، أمرهم أن يكون ذكرهم لربّهم كذكرهم لآبائهم(7)

أَوْ أَشَدَّ و أبلغ ذِكْراً.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «خيّرهم بين ذلك، و لم يلزمهم أن يكونوا [له] أشدّ ذكرا منهم لآبائهم و إن كانت نعم اللّه عليهم أكثر و أعظم من نعم آبائهم »(8).

و قيل: إنّ المراد أنّ الانسان كما لا ينسى ذكر أبيه، كذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر اللّه(9).

و قيل: إنّ المعنى: اذكروا اللّه بالوحدانيّة كذكركم آباءكم بالوحدانيّة، فإنّ الواحد منهم لو نسب إلى

ص: 426


1- تفسير الصافي 216:1.
2- الكافي 339/244:8.
3- الكافي 4/247:4.
4- تفسير روح البيان 318:1.
5- تفسير روح البيان 318:1.
6- في تفسير روح البيان: السماحة.
7- تفسير روح البيان 183:5.
8- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 358/606.
9- تفسير الرازي 185:5.

و الدين لتأذّى و استنكف، و مع ذلك يثبت لنفسه آلهة، و الحال أنّ المبالغة في التّوحيد أولى(1).

و قيل: إنّ المراد أنّ الطّفل كما يرجع إلى أبيه في طلب المهمّات، و يكون ذاكرا له بالتّعظيم، فكونوا أنتم كذلك في ذكر اللّه(2).

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال في تفسير الآية: هو أن تغضب له لو عصي أشدّ من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء(3).

و حاصل جميع الوجوه أنّه يجب على العبد أن يكون دائم الذّكر، و دائم التّعظيم، و دائم الرّجوع إلى ربّه، و دائم الانقطاع عمّن سواه.

قيل: معنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً بل أشدّ ذكرا، لأنّ موجبات ذكر آبائهم قليلة، و صفات اللّه الكماليّة و حقوقه على عباده غير متناهية(4).

ثمّ أنّه لمّا كان ينبغي للعبد بعد أداء مناسك الحجّ - الذي به تنكسر النفس و ترفع عنها غواشي الشّهوات، و توجّهه إليه بذكره الذي به تنجلي في القلوب أنوار عظمته و إشراقات جلاله - أن يشتغل بالدّعاء و الطّلب للمهمّات، و لذا بيّن اللّه تعالى اختلاف همم النّاس بقوله: فَمِنَ النّاسِ الذين يشهدون هذا الموقف العظيم الذي تستجاب فيه الدّعوات مَنْ يَقُولُ في مقام الدّعاء افتتانا بلذّات الدنيا، و نسيانا للآخرة و نعيمها رَبَّنا آتِنا نصيبنا، و أعطنا حظّنا فِي الدُّنْيا من الجاه، و الغنى، بدلا من الآخرة.

و يجيب اللّه مسئوله إن شاء وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ و نصيب من كرامة اللّه و رحمته و ثوابه، لأنّ همّه كان مقصورا على الدنيا الدنيّة الزائلة و لذائذها الفانية، و أعرض عن النّعم الدائمة الباقية لقصور العقل، و عدم اليقين بالمعاد.

سورة البقرة (2): آیة 201

عن ابن عبّاس: أنّ المشركين كانوا يقولون، إذا وقفوا: اللّهمّ ارزقنا ابلا و غنما و بقرا و عبيدا و إماء، و كانوا لا يطلبون التّوبة و المغفرة لأنّهم كانوا ينكرون البعث و المعاد(5).

أقول: و ذلك جار في حقّ بعض المؤمنين الّذين يكون همّهم في الدنيا، و يعملون لها، و ذلك

ص: 427


1- تفسير الرازي 185:5.
2- تفسير الرازي 185:5.
3- تفسير الرازي 185:5.
4- تفسير الرازي 186:5.
5- تفسير الرازي 187:5.

مبلغهم من العلم، مع أنّ مقتضى الإيمان الإعراض عن الدّنيا و ما فيها، و السّعي في تحصيل النعم الباقية و الرّاحة الدّائمة، فلا يطلب المؤمن من الدنيا إلاّ مقدارا يكون له وسيلة إلى نيل السّعادة الاخرويّة، و لذا قال تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا و هب لنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً و هي كلّ ما فيه السّعادة الدنيويّة، و هي: روحانيّة و جسمانية داخليّة و خارجية.

في أنّ السعادة الدنيوية روحانية و جسمانية

أمّا السّعادة الروحانيّة: فكمال القوّة النّظريّة بالعلم، و كمال القوّة العملية بالأخلاق الجميلة الفاضلة، فإنّهما زينة المرء في الدّارين، و أمّا السّعادة الجسمانيّة الداخليّة:

و هي السّعادة البدنيّة من الصحّة و الجمال.

و أمّا السّعادة الخارجيّة فهي: المال و الجاه و الأقارب و الأولاد، و هذه السّعادات كما أنّها حظوظ في الدنيا [فهي] مقدّمات و وسائل لتحصيل حظوظ الآخرة.

و الظاهر أنّ المراد من الحسنة جميع ما له نفع في الآخرة، و ليس حبّها و طلبها من حبّ الدنيا و طلبها، بل عين حبّ الآخرة.

عن ابن عبّاس: أنّ رجلا دعا ربّه فقال: ربّنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النّار.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما أعلم أنّ هذا الرجل سأل شيئا من أمر الدنيا».

فقال بعض الصّحابة: بلى يا رسول اللّه، [إنه] قال: ربّنا آتنا في الدنيا حسنة! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّه يقول: آتنا في الدنيا عملا صالحا »(1).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «السّعة في الرّزق [و المعاش] و حسن الخلق في الدنيا »(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «[أنّ الحسنة] في الدنيا المرأة الصالحة »(3).

و قيل: إنّ المراد بالحسنة العلم و العبادة (4).و الظاهر أنّ جميع المذكورات أنواعها، و الجامع ما ذكرنا، و هو جميع ما يكون له نفع في الآخرة، و ما يكون معينا على تحصيلها.

ثمّ أنّه لإظهار شدّة الاهتمام بالآخرة، و أنّها المطلوب النّفسيّ ، خصّ نعمها أوّلا بالذّكر صريحا، بقوله: وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً و هي الثّواب و الرّحمة (5).و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هي الحوراء »(6).

ص: 428


1- تفسير الرازي 189:5.
2- مجمع البيان 530:2، تفسير الصافي 217:1.
3- تفسير روح البيان 319:1، تفسير الصافي 217:1.
4- تفسير الصافي 217:1.
5- تفسير روح البيان 319:1.
6- تفسير روح البيان 319:1، تفسير الصافي 217:1.

و عن الصادق عليه السّلام: «رضوان اللّه و الجنّة »(1).

و تنكير الحسنة لعلّه لإظهار المذلّة و عدم القابليّة لجميع حسنات الدنيا و الآخرة، و لإظهار جنسها كأنّه يقول: يغنيني حسنة واحدة، فكيف بأكثر منها؟ و ملخّصه: أكثروا من ذكر اللّه و اسألوا سعادتكم في الدّارين.

ثمّ لإظهار أنّ أهمّ الامور النّجاة من العقاب، خصّه بالذكر بقوله: وَ قِنا عَذابَ النّارِ بالمحافظة من ارتكاب الشّهوات و اللذات المؤدّية إليه و بشمول العفو و المغفرة.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو عذاب امرأة [السوء]» الخبر (2).و لعلّه لأنّ المرأة السّوء توقع الرّوح في المعاصي.

سورة البقرة (2): آیة 202

أُولئِكَ الدّاعون بهذا الدّعاء على هذا الوصف لَهُمْ نَصِيبٌ وافر حاصل و كائن مِمّا كَسَبُوا و هو الدّعاء الذي هو من أعظم العبادات، أو المراد: لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصّالحة الحسنة، فإنّ لكلّ عمل ما يسانخه من الأجر.

في كيفية الحساب

وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «معناه أنّه يحاسب الخلائق دفعة كما يرزقهم دفعة »(3).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام) «لأنّه لا يشغله شأن عن شأن، و لا محاسبة عن محاسبة، فإذا حاسب واحدا فهو في تلك الحال محاسب للكلّ ، يتمّ حساب الكلّ بتمام حساب الواحد، و هو كقوله: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » (4).

و توصيف نفسه تعالى بسرعة الحساب لعلّه لأن لا يخاف الدّاعي من طول الوقوف في موقف الحساب، بل يطمئنّ بوصوله إلى ما أعدّ له في القيامة بأسرع زمان.

و قيل: إنّ المراد من الحساب مجازاة الخلق على أعمالهم(5).

و قيل: إنّ اللّه يخلق كلاما يسمعه الخلق، يعلم به ما له و ما عليه(6).

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل: كيف يحاسب اللّه سبحانه الخلق و لا يرونه ؟ قال: «[كما] يرزقهم

ص: 429


1- التهذيب 900/327:6.
2- تفسير أبي السعود 209:1، تفسير روح البيان 319:1.
3- مجمع البيان 531:2.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 358/606، و الآية من سورة لقمان: 28/31.
5- مجمع البيان 531:2.
6- تفسير الرازي 191:5.

و لا يرونه »(1).

و نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: لا حساب على الخلق، بل يقفون بين يدي اللّه تعالى، و يعطون كتبهم بأيمانهم، فيها سيّئاتهم، فيقال لهم: هذه سيّئاتكم قد تجاوزت عنها، ثمّ يعطون حسناتهم، و يقال: هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم(2).

سورة البقرة (2): آیة 203

اشارة

وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

سورة البقرة (2): آیة 203

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر الوقوف في عرفات و المشعر، و بيّن جملة من وظائفهما، ذكر بعض أحكام الوقوف بمنى، بقوله: وَ اذْكُرُوا اللّهَ بالتّكبيرات في أعقاب خمس عشرة صلاة من ظهر يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ قليلات مسمّيات بأيّام التّشريق لمن كان بمنى، و عشر صلوات لمن كان بغير منى. و كيفيّة التّكبير: «اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلاّ اللّه، و اللّه أكبر، اللّه أكبر، و للّه الحمد. اللّه أكبر على ما هدانا، اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام» كذا روي عنهم عليهم السّلام(3).

و روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر مناديا ينادي: «الحجّ عرفة، من جاء ليلة جمع(4) قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحجّ ، و أيّام منى ثلاثة أيّام» الخبر(5).

فَمَنْ تَعَجَّلَ في النّفر و طلب الخروج من منى فِي يَوْمَيْنِ بعد يوم النّحر، إذا فرغ من رمي الجمار فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في التّعجيل وَ مَنْ تَأَخَّرَ النّفر حتّى رمى في اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ

بالتأخير، فيكون الحاصل التّخيير بين الأقلّ و الأكثر.

و قالوا: هذا ردّ على أهل الجاهليّة، فإنّ منهم من آثم و عيّب المتعجّل، و منهم من عيّب المتأخّر و آثمه، فردّ اللّه عليهم بأنّه لا إثم في التّعجيل و التأخير(6).

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «ليس هو على أنّ ذلك واسع، إن شاء صنع ذا و إن شاء صنع ذا، لكنّه يرجع مغفورا له لا إثم عليه و لا ذنب له »(7).

ص: 430


1- نهج البلاغة: 300/528.
2- تفسير الرازي 190:5.
3- تفسير الصافي 218:1.
4- جمع: علم للمزدلفة، سمّيت به لأنّ آدم عليه السّلام و حواء لمّا أهبطا اجتمعنا بها.
5- تفسير الرازي 192:5.
6- تفسير روح البيان 321:1، تفسير الصافي 219:1.
7- من لا يحضره الفقيه 1427/289:2.

و هذا التّرخيص و التّخيير ثابت لِمَنِ اتَّقى اللّه عزّ و جلّ . روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام قال:

«لمن اتّقى الصّيد - يعني في إحرامه - فإن أصابه لم يكن له أن ينصرف(1) في النّفر الأوّل »(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «لمن اتّقى منهم الصّيد، و اتّقى الرّفث و الفسوق و الجدال و ما حرّم اللّه عليه في إحرامه »(3).

و الحاصل: أنّ التّخيير ليس مطلقا بالنسبة إلى كلّ حاجّ ، بل هو لمن اتّقى. و اختلف فيه على قولين:

الأول: من اتّقى الصّيد و النساء في إحرامه.

و الثاني: من اتّقى سائر المحرّمات في الإحرام(4).

و عن الباقر عليه السّلام: «اتّقى الكبر، و هو أن يجهل الحقّ و يطعن على أهله »(5).

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية، قال: «أنتم و اللّه هم، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا يثبت على ولاية عليّ عليه السّلام إلاّ المتّقون »(6).

وَ اتَّقُوا اللّهَ أيّها الحاجّ المغفور لهم ذنوبهم، قلا تعاودوا الموبقات فتعود إليكم أثقالكم، فإنّ السيّئات تذهب بالحسنات وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم بما تعملون.

قيل: كانوا إذا رجعوا من الحجّ يجترءون على اللّه بالمعاصي، فشدّد في تحذيرهم(7).

سورة البقرة (2): الآیات 204 الی 206

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ (206)

سورة البقرة (2): آیة 204

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر النّاس بالتّقوى، و كانت حقيقته هو اليقين باللّه و اليوم الآخر، و الخوف الكامن في القلب، الباعث على العمل بإخلاص النيّة و صميم القلب، ذكر حال المنافقين المظهرين للإيمان

ص: 431


1- في التهذيب و الصافي: ينفر.
2- التهذيب 933/273:5، و تفسير الصافي 219:1 عن الصادق عليه السّلام.
3- تفسير العياشي 384/210:1، تفسير الصافي 219:1.
4- كنز العرفان 4/320:1.
5- تفسير الصافي 220:1.
6- تفسير العياشي 389/211:1.
7- تفسير روح البيان 321:1.

و التّقوى، المبطنين للكفر و العناد بقوله: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ و يروقك و يعظم في قلبك قَوْلُهُ بسبب تزيين البيان بالورع و التّقوى ليطلب حظا، إلاّ أنّه يكون إعجابه و حسنه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا من غير أن يكون لكلامه المعجب أثر في الآخرة، فإنّ الظواهر تفيد في هذا العالم، و أمّا الآخرة فهي عالم كشف الحقائق و الواقعيّات، ليس فيها ستر و اشتباه.

وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من اليقين و الإخلاص، و يحلف باللّه أنّ باطنه مطابق لظاهره، و مصدّق لكلامه وَ هُوَ في هذه الحالة أَلَدُّ الْخِصامِ و شديد المعارضة و العداوة للّه و لرسوله و للمؤمنين.

في نفاق الأخنس بن شريق الثقفي

نقل أنّها نزلت في الأخنس بن شريق الثّقفي، و هو حليف لبني زهرة، أقبل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أظهر الإسلام و المحبّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يحلف باللّه على ذلك، و هذا هو المراد بقوله: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ إلى آخره(1).

و روي عن ابن عبّاس أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّا قد أسلمنا، فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك، فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرّجيع، و وصل الخبر إلى الكفّار، فركب منهم سبعون راكبا و أحاطوا بهم و قتلوهم و سلبوهم، ففيهم نزلت (2).و يرجّح الأوّل.

سورة البقرة (2): آیة 205

قوله: وَ إِذا تَوَلّى و انصرف من عندك، و إذا صار غالبا و واليا سَعى و اجتهد فِي الْأَرْضِ

جميعها، لا يتفاوت في نظره مكان لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ نقل أنّ الأخنس لمّا انصرف من عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خرج من المدينة، مرّ بزرع المسلمين فأحرق الزّرع و قتل الحمر(3).

و قيل: كان بينه و بين ثقيف عداوة، فأتاهم ليلا فأحرق زرعهم و أهلك مواشيهم(4).

فإنّ هذه الآية أوفق بما روي عن الأخنس ممّا يروى عن ابن عبّاس.

و قيل: إنّ الأخنس سعى في إدخال الشبهة في قلوب المسلمين، و تقوية الكفر (5) ،و تضعيف الاسلام. و هذا هو السّعي للفساد في الأرض لأنّه موجب للاختلاف بين النّاس و تفريق كلمتهم، فيتبرّأ بعضهم من بعض، و يتقطّعون أرحامهم، و يشتغلون بالحرب، فيهلك الحرث و النّسل.

ص: 432


1- تفسير الرازي 197:5.
2- تفسير الرازي 197:5.
3- تفسير الرازي 197:5.
4- تفسير روح البيان 323:1.
5- تفسير الرازي 200:5.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ بظلمه و سوء سيرته»(1) الخبر، و يحتمل كون المراد أنّ الظلم موجب لانقطاع الرّحمة و ارتفاع البركة.

و عن الصادق عليه السّلام: «الحرث في هذا الموضع الدّين، و النّسل: النّاس »(2).

وَ اللّهُ لا يُحِبُّ و لا يريد بالإرادة التّشريعيّة اَلْفَسادَ في الآفاق و الأنفس، أو لا يريد بالإرادة التّكوينيّة و التّشريعيّة الفساد المحض الذي لا يشوبه صلاح.

سورة البقرة (2): آیة 206

وَ إِذا قِيلَ لَهُ عظة و نصحا اِتَّقِ اللّهَ و خف عذابه، و اترك الفساد، و احذر سوء عاقبته أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ و الأنفة بِالْإِثْمِ و حملته عليه لجاجا فَحَسْبُهُ و كافيه جَهَنَّمُ جزاء و نكالا على سوء فعاله وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ و الفراش الممهّد و المستقرّ المؤبّد هي.

سورة البقرة (2): آیة 207

اشارة

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)

سورة البقرة (2): آیة 207

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن حال المنافق الذي باع دينه بدنياه، عقّبه بذكر حال المؤمن المخلص الذي باع دنياه بدينه، بقوله: وَ مِنَ النّاسِ المؤمنين مَنْ يَشْرِي و يبيع نَفْسَهُ من اللّه اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ و يبذل شراشر وجوده(3) في سبيل اللّه، و طلبا لرضوانه وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ المؤمنين، يدفع عنهم كلّ ضرّ، و ينزل عليهم بكلّ خير.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «هؤلاء خيار أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عذّبهم أهل مكّة ليضلّوهم عن دينهم، فمنهم بلال و صهيب و خبّاب و عمّار بن ياسر و أبواه »(4).

و عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد اللّه بن جدعان (5) ،و في عمّار بن ياسر، و في سميّة امّه، و في ياسر أبيه، و في بلال مولى أبي بكر، و في خبّاب بن الأرتّ ، و في عابس مولى حويطب، أخذهم المشركون فعذّبوهم، فأمّا صهيب فقال لأهل مكة: إنّي شيخ كبير، و لي مال و متاع، و لا يضرّكم كنت منكم أو من عدوّكم، تكلّمت بكلام و أنا أكره أن أنزل عنه، و أنا اعطيكم مالي

ص: 433


1- تفسير العياشي 394/211:1، الكافي 435/289:8.
2- تفسير القمي 71:1، مجمع البيان 534:2.
3- أي جميع وجوده و كيانه، و الشراشر: أطراف الأجنحة، و الجسم بجملته و يقال: ألقى عليه شراشره، أي اعباءه و همومه، أو ألقى عليه نفسه حرصا و محبّة.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 365/621.
5- في النسخة: عبد اللّه بن صرحان.

و متاعي، و اشتري منكم ديني، فرضوا منه بذلك و خلّوا سبيله، فانصرف راجعا إلى المدينة، فنزلت.

و أمّا خبّاب بن الأرتّ ، و أبو ذرّ، فقد فرّا و أتيا المدينة. و أمّا سميّة فربطت بين بعيرين ثمّ قتلت، و قتل ياسر. و أمّا الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا. الخبر(1).

و عنه أيضا: أنّها نزلت في رجل أمر بالمعروف و نهى عن المنكر(2).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ المراد بالآية الرّجل يقتل على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر »(3).

في قصة ليلة المبيت

و قال الفخر في (تفسيره): و الرواية الثالثة: أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بات على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة خروجه إلى الغار.

قال: و يروى أنّه لمّا نام على فراشه قام جبرئيل عند رأسه، و ميكائيل عند رجله، و جبرئيل ينادي:

بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي اللّه بك الملائكة؛ و نزلت الآية(4).

و قال الفيض رحمه اللّه: روت العامّة عن جماعة من الصّحابة و التّابعين، و العيّاشيّ ، و عدّة من أصحابنا عن أئمّتنا عليهم السّلام في عدّة أخبار أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام حين بات على فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. الخبر(5).

و يمكن الجمع بين الرّوايات بالقول بتكرّر نزول الآية بعد نزولها أوّلا في مكّة في أمير المؤمنين عليه السّلام ليلة المبيت.

و أمّا قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «المراد الرّجل يقتل» إلى آخره، فلعلّ المراد أنّ مورد نزوله و إنّ كان خاصّا، إلاّ أنّ عنوان الآية بعمومه يشمل هذا المقتول، بل يشمل كلّ من نصر دين اللّه، و بذل نفسه في سبيل اللّه، و إن كان أفضلهم و سيّدهم و مقتداهم أمير المؤمنين عليه السّلام.

و العجب كلّ العجب ممّن يروي قول جبرئيل في عليّ عليه السّلام: من مثلك، إلى آخره، ثمّ يفضّل غيره عليه.

سورة البقرة (2): الآیات 208 الی 209

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

ص: 434


1- تفسير الرازي 204:5.
2- تفسير الرازي 204:5.
3- مجمع البيان 535:2.
4- تفسير الرازي 204:5.
5- تفسير الصافي 221:1.

سورة البقرة (2): آیة 208

ثمّ أنّه تعالى لمّا حكى عن بعض النّاس مضادّة الإسلام، و عن بعض الخلوص فيه، أمر كلّهم بالانقياد، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ و الطّاعة، و الانقياد للّه و رسوله كَافَّةً

و جميعها. أو المراد: التزموا أحكام الإسلام بألسنتكم و قلوبكم جميعا وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بالتفرّق و التّفريق، أو بمخالفة ما امرتم به.

قيل: نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب، كعبد اللّه بن سلاّم و أصحابه، و ذلك لأنّهم حين آمنوا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى عليه السّلام فعظّموا السّبت، و كرهوا لحوم الإبل و ألبانها، و كانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام و واجب في التّوراة، فنحن نتركها احتياطا، فكره اللّه ذلك منهم و أمرهم أن يدخلوا في السّلم كافّة، أي في كافة شرائع الاسلام(1).

و عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «[يعني] في السّلام(2) و المسالمة إلى دين الإسلام كَافَّةً جماعة(3) فيه، و ادخلوا في جميع الإسلام، فتقبّلوه و اعملوا به، و لا تكونوا ممّن يقبل بعضه و يعمل به، و يأبى بعضه و يهجره. و منه الدّخول في ولاية علي عليه السّلام فإنّه كالدّخول في نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا يكون مسلما من قال إنّ محمّدا رسول اللّه، و لم يعترف بأنّ عليّا وصيّه و خليفته و خير امّته. خُطُواتِ الشَّيْطانِ ما يتخطّى بكم إليه من طرق الغيّ و الضلالة، و يأمركم [به] من ارتكاب الآثام و الموبقات »(4).

و عن (العيّاشيّ ): عن الصادق عليه السّلام: «ولاية عليّ عليه السّلام و الأئمّة الأوصياء من بعده، و خطوات الشّيطان:

ولاية فلان و فلان (5)».و في رواية: «الثّاني و الأوّل »(6).

عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ اللّه تعالى أظهر الشكاية من امّتي، و قال: إنّي طردت الشّيطان لأجلهم، [فهم] يعصونني و يطيعون الشّيطان »(7).

و اعلموا إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة فَإِنْ زَلَلْتُمْ و أخطأتم الحقّ ، و كففتم أنفسكم عن الدّخول في السّلم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الآيات اَلْبَيِّناتُ و الحجج الظاهرات، على أنّ ما دعيتم إليه حقّ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجز عن الانتقام، و لا يمنع عن مراده شيء، لكمال قدرته،

ص: 435


1- تفسير الرازي 207:5.
2- في المصدر: السلم.
3- زاد في المصدر: ادخلوا.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 366/626.
5- تفسير العياشي 398/213:1.
6- تفسير العياشي 403/214:1.
7- تفسير روح البيان 326:1.

و قوّة سلطانه حَكِيمٌ لا ينتقم إلاّ بالحقّ ، و لا يعذّب إلاّ بالاستحقاق.

سورة البقرة (2): آیة 210

اشارة

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

سورة البقرة (2): آیة 210

ثمّ أنّه تعالى بعد انهماك بيان المنافقين و المشركين في العناد و اللّجاج، و ثباتهم على الكفر و الفساد، أعرض عن مخاطبتهم بالالتفات إلى الغيبة كأنّه يخاطب العقلاء و يستفهم عن سبب عنادهم، توبيخا و إنكارا عليهم، بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ و ينتظرون من عدم الدخول في الاستسلام و الوقوف على الكفر و النفاق بعد إتمام الحجّة، و مشاهدة ما يمكن ظهوره من الآيات و المعجزات و قطع العذر في التمرّد و المخالفة إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ ببأسه و عذابه الكائن فِي ظُلَلٍ و قطع مظلّلات مِنَ الْغَمامِ و السّحاب الذي يتوقّع منه الرّحمة، فينزل به العذاب و النّقمة، وَ يأتيهم اَلْمَلائِكَةُ

الذين هم وسائط العذاب. أو المراد: أو يأتيهم العذاب في جمع من الملائكة وَ الحال أنّه قُضِيَ الْأَمْرُ و تمّ إهلاكهم، و فرغ منه، و بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون و يتوقّعون، فوضع الماضي موضع المستقبل لتحقّق الوقوع. و ملخّصه أنّ الحجّة قد قامت و تمّت عليهم بحيث لم يبق له انتظار إلاّ نزول عذاب الاستئصال، و يمكن أن يكون المراد: بل ينتظرون يوم القيامة الذي تشقّق فيه الغمام، و تنزّل الملائكة تنزيلا.

وَ إِلَى اللّهِ في ذلك اليوم تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلّها، و منها تعذيب اولئك المصرّين على الكفر.

و التعبير برجوع الامور إليه باعتبار أنّه تعالى قد ملّك النّاس امورا في الدنيا امتحانا، فإذا جاء يوم القيامة ترجع جميع الامور في الظاهر و الواقع من غيره إليه وحده، لا قدرة لغيره على شيء و لو في الظاهر.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام) في تفسير الآية: «أي هل ينظر هؤلاء المكذّبون بعد إيضاحنا لهم الآيات، و قطعنا معاذيرهم بالمعجزات إلاّ أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام و تأتيهم الملائكة، كما كانوا اقترحوا عليك اقتراحهم المحال في الدنيا، في إتيان اللّه الذي لا يجوز عليه الإتيان، و اقتراحهم الباطل في إتيان الملائكة الذين لا يأتون إلاّ مع زوال هذا التعبّد لأنّه(1) وقت مجيء الأملاك بالإهلاك، فهم

ص: 436


1- في المصدر: التعبد، و حين وقوع هلاك الظالمين بظلمهم و وقتك هذا وقت تعبّد لا.

في اقتراحهم مجيء الأملاك جاهلون وَ قُضِيَ الْأَمْرُ أي هل ينظرون [إلاّ] مجيء الملائكة، فإذا جاءوا و كان ذلك قُضِيَ الْأَمْرُ بهلاكهم» الخبر(1).

و أمّا ما عن القمي رحمه اللّه: عن الباقر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه إذا بدا له أن يبيّن خلقه و يجمعهم لما لا بدّ منه، أمر مناديا ينادي فاجتمع الجنّ و الإنس في أسرع من طرفة عين، ثمّ أذن لسماء الدنيا فتنزل فكان من وراء النّاس، و أذن للسماء الثانية فتنزل، و هي ضعف التي تليها، فإذا رآها أهل السماء الدنيا، قالوا: جاء ربّنا؟ قالوا: لا، و هو آت - يعني أمره - حتّى تنزل كلّ سماء، تكون كلّ واحدة منها من وراء الاخرى، و هي ضعف التي تليها.

ثمّ ينزل أمر اللّه في ظلل من الغمام و الملائكة و قضي الأمر و إلى ربك ترجع الامور. ثمّ يأمر [اللّه] مناديا ينادي يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ » (2) فلا ظهور له في تفسير الآية، بل هو بيان بعض أهوال يوم القيامة، و إن عبر عن بعضها بعبارة الآية.

و أمّا ما عن العيّاشي رحمه اللّه: عنه عليه السّلام في هذه الآية، قال: «ينزل في سبع قباب من نور، لا يعلم في أيّها هو حين ينزل في ظهر الكوفة، فهذا حين ينزل »(3).فهو تأويل للآية، كالرّواية الاخرى، عنه عليه السّلام قال:

«كأنّي بقائم أهل بيتي قد علا نجفكم، فإذا علا فوق نجفكم نشر راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإذا نشرها انحطّت عليه ملائكة بدر »(4).

و قال: «إنّه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة على الفاروق، فهذا حين ينزل، و أمّا قُضِيَ الْأَمْرُ فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر»(5) فتأويل.

و يمكن أن يكون المعنى: هل ينتظر هؤلاء الكفرة في تأخيرهم الايمان مجيء وقت لا ينفع الذين كفروا إيمانهم و لا هم يستعتبون ؟ و هذا الوقت إمّا وقت نزول عذاب الاستئصال بالغمام و الملائكة، كعذاب قوم شعيب، أو وقت ظهور القائم المنتظر عليه السّلام، و رفع التّوبة، و هو القيامة الصّغرى، أو يوم القيامة الكبرى.

ص: 437


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 367/629.
2- تفسير القمي 77:2، و الآية من سورة الرحمن: 33/55.
3- تفسير العيّاشي 405/214:1.
4- تفسير العيّاشي 406/214:1.
5- تفسير العياشي 407/215:1.

و إن كان الأظهر و الأشهر ما ذكرنا من حمل رواية التّفسير، أو هي مع رواية القمّي رحمه اللّه عن الباقر عليه السّلام على التّفسير، و حمل رواية العيّاشي و ما هو على مضمونه على البطن و التأويل.

سورة البقرة (2): آیة 211

اشارة

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)

سورة البقرة (2): آیة 211 ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال الكفّار و المنافقين، و شدّة لجاجهم على الباطل، و تهديد المعاندين للحقّ على الزّلل و العصيان؛ ذكر حال امّة موسى عليه السّلام و شدّة جهلهم و عنادهم للحقّ بعد ظهور الآيات لهم مبالغة في زجر حاضري عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تسلية لقلبه الشريف بقوله: سَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ لا لتحصيل العلم، بل لأخذ الاعتراف منهم و التّبكيت و التّقريع عليهم كَمْ آتَيْنٰاهُمْ و أنزلنا إليهم مِنْ آيَةٍ و معجزة أو دلالة بَيِّنَةٍ ظاهرة واضحة على صدق الأنبياء، إذ إنّ

في الكتب السماوية التي عندهم دلالة ظاهرة على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و من الواضح أنّ كلّ واحد من المعجزات الدّالّة على صدق الأنبياء، و الآيات الدّالّة على صحّة دين الإسلام و صدق محمّد نعمة عظيمة موجبة لهدايتهم إلى الحقّ ، و نجاتهم من الضّلال، فبدّلوا هذه النعمة بأن جعلوها سببا لضلالهم، إن كان المراد من الآية معجزات الأنبياء، أو بأن حرّفوها، إن كانت آيات الكتب، و شواهد صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دينه.

وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ و يغيّرها عن جهتها أو يحرّفها مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ النّعمة، يعاقبه اللّه بعقوبة شديدة فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لأنّه عظيم الجرم.

سورة البقرة (2): آیة 212

اشارة

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)

سورة البقرة (2): آیة 212

ثمّ ذكر اللّه سبحانه سبب تغييرهم النّعمة و تبديلهم الآيات بقوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بنعمة اللّه، و حسنت في أعينهم اَلْحَياةُ الدُّنْيا و أمتعتها و لذائذها لضعف عقولهم و قوّة شهواتهم وَ لذا يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا و يستهزءون بهم حيث تركوا الدّنيا و زهدوا فيها و اختاروا الآخرة.

عن ابن عبّاس: نزلت في أبي جهل و رؤساء قريش، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد اللّه

ص: 438

بن مسعود، و عمّار، و خبّاب، و سالم مولى أبي حذيفة، و عامر بن فهيرة، و أبي عبيدة بن الجرّاح، بسبب ما كانوا فيه من الفقر و الضّر، و الصّبر على أنواع البلاء، مع أنّ الكفّار كانوا في النّعم و الرّاحة(1).

و قيل: نزلت في رؤساء اليهود و علمائهم من بني قريظة و النّضير و القينقاع، سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين حيث اخرجوا من ديارهم و أموالهم(2).

و قيل: نزلت في المنافقين عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه، كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين و [فقراء] المهاجرين(3).

أقول: و يمكن القول بنزولها في جميعهم.

وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا و اجتنبوا مخالفة أحكام اللّه من المؤمنين فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنّ المتّقين في أعلى علّيّين و الدّرجة الرفيعة من الجنان، و الساخرين في أسفل السّافلين من النّار و حضيض الذلّة و الهوان. و يحتمل أن يكون تفوّقهم من حيث السّخرية، فإنّ سخرية المؤمنين في القيامة فوق سخرية الكفّار في الدنيا.

ثمّ أنّه لمّا كان للكفّار أن يقولوا: اذا كان المؤمنون المتّقون أكرم عند اللّه فلم يعيشون في الشدّة و الفقر؟ فردّهم بقوله: وَ اللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من خلقه في الدّنيا بِغَيْرِ حِسابٍ و تقدير، فيوسّع استدراجا تارة، و ابتلاء اخرى، أو المراد أنّ رزق الدّنيا قليل، و يرزق في الآخرة من يشاء من عباده بغير حساب و ينعّم المؤمنين في الجنّة بلا إحصاء.

سورة البقرة (2): آیة 213

اشارة

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

سورة البقرة (2): آیة 213

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ هذه المعاندة و المشاقّة مع الأنبياء ليست ممّا حدث في هذا الأوان أو بعد موسى، بل كانت من قديم الزّمان قبل نوح و بعد آدم، بقوله: كانَ النّاسُ جميعهم في أوّل الأمر بعد وفاة آدم أُمَّةً واحِدَةً و جماعة مجتمعين على الجهل، لا يدرون ما الإيمان و ما الكفر و ما

ص: 439


1- تفسير الرازي 5:6. (2و3) تفسير الرازي 5:6.

الشّرك، و كانوا على الفطرة و الاستعداد لقبول الحقّ ، كما عن (المجمع) عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم كانوا قبل [نوح] امّة واحدة على فطرة اللّه، لا مهتدين و لا ضلاّلا»(1) الخبر.

فَبَعَثَ اللّهُ فيهم اَلنَّبِيِّينَ حال كونهم مُبَشِّرِينَ للمؤمنين بوحدانيّته و أنبيائه و شرائعه، بفضله و ثوابه وَ مُنْذِرِينَ للكافرين بها من عقابه.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام قال: «كان [النّاس] قبل نوح امّة ضلال، فبدا للّه فبعث النبيّين، و ليس كما يقولون: لم يزل، [و] كذبوا، يفرق [اللّه] في ليلة القدر ما كان من شدّة أو رخاء أو مطر بقدر ما شاء أن يقدّر إلى مثلها»(2) الخبر.

لعلّ المراد أنّ اللّه لم يترك الخلق سدى، و ما كانت يده مغلولة، فكما أنّه يدبر أمور معاشهم في كلّ آن و يقدّرها في كلّ سنة، كذلك يدبّر امور دينهم ببعث الرّسل.

إشكال و حلّ

فإن قلت: يلزم على الرّوايتين أن يكون زمان [ما] خاليا من الحجّة، و هو خلاف ما عليه الإماميّة و ما دلّت عليه الرّوايات المتظافرة إن لم تكن متواترة.

قلت: لعلّ التّرتّب المستفاد من الفاء هو التّرتّب العقليّ لا الزّماني، فإن النّبيّ و إن كان قبل الخلق، و لكن البعث لا يتحقّق إلاّ بعد وجود المبعوث إليه، فيكون مفاد الآية - و اللّه العالم - أنّه لو لم يكن بعث النّبيّين، لم يكن اختلاف بين النّاس لأنّ كلّهم كانوا جهّالا و ضلاّلا، فلمّا بعث الرّسل حدث الاختلاف بينهم، و لم يحدث إلاّ بوجود الاخلاق الرّذيلة من الحسد و البغي على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

توضيح بتمثيل

و هذا نظير ما قيل من أنّ الأجسام ليس لها لون و إنّما اللّون إذا أشرقت الأجسام، فإذا وقع الشّعاع على الجسم فبحسب الاستعداد الّذي يكون للجسم يحصل للنّور لون مناسب لما في كون الجسم من الاستعداد و الخصوصيّة، ففي الحقيقة الألوان المختلفة تكون للنّور لا للجسم، و انّما يظهر كلّ لون من الألوان للنّور بسبب انعكاسه على الجسم الذي تكون فيه خصوصيّة مناسبة لذلك اللّون، فكذلك النّفوس البشريّة ليس فيها فعليّة الاختلاف في الإيمان و الكفر، و لو لم يكن إشراق نور شمس النبوّة و الهداية، كانت جميع النّفوس متساوية. فإذا أشرق نور النبوّة ظهر الاختلاف فيهم بالإيمان و الكفر على حسب اختلاف الاستعدادات و الخصوصيّات، فمن كانت نفسه مستعدّة لقبول الحقّ ، و لم يغلب عليها الحسد و البغي يكون من أهل الإيمان على اختلاف مراتبه، و من فيه الخباثة

ص: 440


1- مجمع البيان 543:2.
2- الكافي 40/82:8، تفسير الصافي 224:1.

و الحسد و حبّ الجاه يكون من أهل الكفر و العناد على اختلاف مراتبهما.

و يمكن أن يقال كما قيل: إنّ الخلق قبل بعث الرّسل - حتّى آدم عليه السّلام - كانوا على العقائد العقليّة، كوحدة الصّانع، و الأحكام العقليّة كوجوب شكره و قبح الظّلم و الكذب، و حسن العدل و الاحسان و غير ذلك، فلمّا نزلت الأحكام الشرعية من العبادات و السياسات على آدم عليه السّلام و بعث على أولاده انقادوا له، ثمّ حصل الاختلاف بين قابيل و هابيل، و ابدع الكفر.

ثمّ بعد وفاة آدم عليه السّلام و بعد برهة من الزّمان نسوا الشّرائع الالهيّة و رجعوا إلى الشرائع العقليّة، ثمّ بعث اللّه النبيّين، ثمّ اختلفوا لأسباب مفصّلة، و للأخلاق الرّذيلة.

و اشير إلى هذا المعنى فيما روي عن الصادق عليه السّلام قال: «[كان] هذا قبل بعث نوح، كانوا امّة واحدة فبدا للّه فأرسل الرّسل قبل نوح».

قيل: أعلى هدى كانوا أم على ضلال ؟ قال: «بل كانوا ضلاّلا، لا مؤمنين و لا كافرين و لا مشركين »(1).

و في رواية عنه عليه السّلام قال: «ذلك أنّه لمّا انقرض آدم و صالح ذرّيّته، بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين اللّه الذي كان عليه آدم و صالح ذرّيّته، و ذلك أنّ قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فسار فيهم بالتقيّة و الكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالا حتّى لحق الوصيّ بجزيرة في البحر يعبد اللّه، فبدا للّه تبارك و تعالى أن يبعث الرّسل. و لو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا: قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنّما شيء يحكم به اللّه في كلّ عام [ثمّ قرأ]: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (2) فيحكم اللّه تعالى ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء، أو مطر أو غير ذلك».

قيل: أ في ضلالة كانوا قبل النبيّين أم على هدى ؟ قال: «لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة اللّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللّه، و لم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم اللّه، أ ما تسمع قول إبراهيم عليه السّلام: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ (3) ؟أي ناسيا للميثاق»(4) الخبر.

في ذكر غيبة القائم عليه السّلام و عدم استلزامها منع اللطف

و ليعلم أنّ غيبة شيث كغيبة القائم المنتظر عليه السّلام في آخر الزّمان، و لا يلزم منها منع لطف على اللّه، فإنّ تأسيس الدّين و إتمام الحجّة على الخلق كان سببه النبيّ الشارع و الأوصياء بعد الأنبياء، الذين هم ذوو الشرائع كوصيّ خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله حفّاظ

ص: 441


1- تفسير العياشي 410/215:1، تفسير الصافي 224:1.
2- الدخان: 4/44.
3- الأنعام: 77/6.
4- تفسير العياشي 413/216:1، تفسير الصافي 224:1.

للشّرع، فإذا منعوا عن إظهار الحقّ و حفاظته، و اتّقوا من الجبابرة، لم يكن للنّاس على اللّه حجّة لكون ذلك بسوء اختيارهم، مع أنّ بركاتهم في غيبتهم متّصلة إلى الموادّ المستعدّة، لو توجّهوا إليهم و استمدّوا منهم.

ثمّ توصيفهم [في كتاب] اللّه تعالى بأنّهم مبشّرين و منذرين دلالة على أنّ الأحكام و الشرائع لو لم يقترنا بالتّبشير بالثّواب و الأجر و الإنذار بالعذاب أو العقاب لكان جعلها لغوا، حيث إنّه لو لم يكن الطّمع و الخوف، لم يعمل أحد بحكم من الأحكام، و لا يجري شرع من الشّرائع في الأنام.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لم يقنع في الهداية بإرسال الرّسل، بل وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ متلبّسا بِالْحَقِّ و دلائل الصّدق.

و الظاهر أنّ المراد بالكتاب جنسه، فإنّ المرويّ أنّ عدد الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألفا، و المرسل منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، و المذكور منهم في القرآن [باسم العلم] ثمانية و عشرون(1) و لم ينزل مع كلّ واحد منهم كتاب، بل الأنبياء بعد موسى عليه السّلام كان كتابهم هو التّوراة، و كانوا حافظين لأحكامها، و كذلك الأنبياء بعد عيسى عليه السّلام كان كتابهم الإنجيل، و كانوا حافظين له، و إن كان لبعض النّبيّين كداود عليه السّلام كتاب و لكن لم يكن فيه أحكام.

لِيَحْكُمَ النّبيّ أو الكتاب المنزل عليه بَيْنَ النّاسِ و ليكون المرجع عندهم فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الحقّ و الدّين وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ و انزل إليهم لرفع الاختلاف من بينهم، فجعلوا الكتاب الذي انزل لرفع الاختلاف وسيلة لشدّة الاختلاف مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ

و الدّلائل الواضحات على الحقّ بحيث لم يكن مجال لأن يشتبه عليهم، و إنّما كان الاختلاف بَغْياً

و ظلما و حسدا بَيْنَهُمْ لحرصهم على الدّنيا و زخارفها.

فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا منهم، و هم امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لِمَا اخْتَلَفُوا سائر النّاس فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ و تبيينه و توفيقه لفهمه و قبوله.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة، و نحن أوّل النّاس دخولا في الجنّة يوم القيامة، بيد أنّهم اوتوا الكتاب من قبلنا و اوتيناه من بعدهم، فهدانا اللّه لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا اللّه (2) ،و النّاس لنا فيه تبع، و غدا لليهود، و بعد غد للنّصارى »(3).

ص: 442


1- راجع: تفسير البيضاوي 115:1.
2- في تفسير الرازي: هدانا له.
3- تفسير الرازي 16:6.

قيل: إنّ النّاس اختلفوا في القبلة، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، و النّصارى إلى المشرق، فهدانا اللّه للكعبة، و اختلفوا في الصّيام، فهدانا اللّه لشهر رمضان، و اختلفوا في إبراهيم عليه السّلام فقالت اليهود: كان يهوديّا، و قالت النّصارى: كان نصرانيّا. فقلنا: إنّه كان حنيفا مسلما. و اختلفوا في عيسى عليه السّلام فاليهود فرّطوا، و النّصارى أفرطوا، و قلنا القول العدل(1).

وَ اللّهُ بلطفه و فضله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بحسب الاستعداد و الطّينة إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

موصل إلى الحقّ القويم، فإنّ الهداية و الضّلالة لا تكون إلاّ بتوفيق اللّه و خذلانه.

سورة البقرة (2): آیة 214

اشارة

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214)

سورة البقرة (2): آیة 214

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ المؤمنين هم المهتدون إلى الحقّ و إلى طريق مستقيم - و من الواضح أنّ العقائد الحقّة لا بدّ أن تكون مؤثرا في القلب بحيث تبعث الجوارح على الأعمال الشّاقّة في جنب اللّه، فالفتور في الجوارح عن القيام بالوظائف الإلهيّة لا يكون إلا لضعف اليقين و عدم رسوخ الحقّ في القلب - بيّن أنّ امتحان المهتدين إلى الحقّ الموجب لدخول الجنّة لا يكون إلا بالصّبر على الطّاعة كما صبر السّابقون من أهل الايمان، بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ .

قيل: إنّ التّقدير: فصبر الذين هدوا إلى الحق على الشّدائد، فتسلكون سبيلهم أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ من دون تحمّل المشاقّ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ و لم ينزل عليكم بعد مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا

و مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من المؤمنين و لم تتحملوا مثل ما تحمّلوه من البلايا التي كانت في الشّدّة مثلا.

ثمّ كأنّه قيل: كيف كان مثلهم ؟ فبيّنه تعالى بقوله: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ من الخوف و الفاقة وَ الضَّرّاءُ من القتل و الأمراض، و الخروج عن الأهل و المال وَ زُلْزِلُوا و ازعجوا إزعاجا شديدا لمّا دهمتهم الأهوال و الأفزاع حَتّى بلغت الشدّة إلى أن يَقُولَ الرَّسُولُ مع أنّه أصبر النّاس و أعلمهم بتأييد اللّه و نصره وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و اقتدوا به: مَتى نَصْرُ اللّهِ و أيّ وقت يكون عونه ؟ قد أبطأ إنجاز وعده و طال زمان الشّدّة و العناء بنا، و عجز الصّبر عن تحمّل البلاء. فإذا بلغت

ص: 443


1- تفسير الرازي 16:6.

بهم المحنة إلى الغاية و الضّرّ و البؤس إلى هذه الدّرجة العظيمة، قيل لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ .

و الحاصل: أنّ المؤمنين الذين خلوا، كانوا في هذه المرتبة من البلاء و المحن، و صبروا و لم يتغيّر دينهم حتّى أتاهم النّصر و الفرج، فكونوا أيّها المسلمون كذلك.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «حفّت الجنّة بالمكاره، و حفّت النّار بالشّهوات »(1).

و روي عن خبّاب بن الأرتّ ، قال: شكونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما نلقى من المشركين، فقال: «إنّ من كان قبلكم من الامم كانوا يعذّبون بأنواع البلاء، فلم يصرفهم ذلك عن دينهم، حتّى أنّ الرّجل يوضع على رأسه المنشار فيشقّ فلقتين، و يمشّط الرّجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من اللّحم و العصب، و ما يصرفه ذلك عن دينه، و ايم اللّه ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا اللّه و الذئب على غنمه، و لكنّكم تعجلون »(2).

و عن ابن عبّاس: لمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة اشتدّ الضّرر عليهم، لأنّهم خرجوا بلا مال و تركوا ديارهم و أموالهم في أيدي المشركين، و أظهرت اليهود العداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأنزل اللّه تطييبا لقلوبهم أَمْ حَسِبْتُمْ (3).

و قيل: إنّها نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد و الحزن، و كان كما قال سبحانه: بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (4).

و قيل: نزلت في حرب احد لمّا قال عبد اللّه بن ابيّ لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إلى متى تقتلون أنفسكم و ترجون الباطل ؟ و لو كان محمّد [نبيا] لما سلّط اللّه عليكم الأسر و القتل، فأنزل اللّه هذه الآية (5).و يمكن الجمع بينهما بالقول بتكرّر النزول.

سورة البقرة (2): آیة 215

اشارة

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

سورة البقرة (2): آیة 215

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ الصّبر على الضّراء من وظائف الإيمان، و كان الإنفاق في سبيل اللّه أيضا من وظائف الإيمان، حكى اللّه تعالى سؤال المؤمنين عن خصوصيّاته بعد حثّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله:

ص: 444


1- نهج البلاغة: 251 الخطبة 176.
2- تفسير الرازي 20:6.
3- تفسير الرازي 19:6.
4- تفسير الرازي 19:6، و الآية من سورة الأحزاب: 10/33.
5- تفسير الرازي 19:6.

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ .

عن ابن عبّاس: أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح و كان شيخا كبيرا هرما، و هو الذي قتل يوم احد و عنده مال عظيم، فقال: ما ذا ننفق من أموالنا و أين نضعها؟ فنزلت هذه الآية (1).فأجاب اللّه عن السؤالين بقوله: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أيّ خير كان فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ و قد مرّ تفسير جميعها و وجه ترتيبها(2).

و عن ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في رجل أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ لي دينارا. فقال: «أنفقه على نفسك» قال: إنّ لي دينارين، قال: «أنفقهما على أهلك» قال: إنّ لي ثلاثة. قال: «أنفقها على خادمك».

قال: إنّ لي أربعة ؟ قال: «أنفقها على والديك». قال: إنّ لي خمسة. قال: «أنفقها على قرابتك». قال: إنّ لي ستّة. قال: «أنفقها في سبيل اللّه، و هو أحسنها »(3).

و عدم التعرّض في الآية للسائلين و في الرّقاب لعلّه لدخولها تحت عموم قوله: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنّه عامّ لكلّ ما فيه مرضاة اللّه من العبادات و الصّدقات، و في قوله: فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ وعد بالثّواب العظيم.

سورة البقرة (2): آیة 216

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)

سورة البقرة (2): آیة 216

ثمّ أنّه سبحانه بعد التّرغيب في الإنفاق في سبيل اللّه - الذي هو الجهاد بالأموال - حثّ على الجهاد بالأنفس.

قيل: لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مأذونا في القتال مدّة إقامته في مكّة، فلمّا هاجر إلى المدينة اذن له في قتال من يقاتله من المشركين، ثمّ اذن له في قتال عامّتهم، و فرض اللّه عليه الجهاد(4) بقوله: كُتِبَ و فرض عَلَيْكُمُ الْقِتالُ مع الكفّار وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ غير ملائم لطباعكم البشريّة، لأنّ فيه الإقدام على بذل المهج و تحمّل المشاقّ ، و خطر الرّوح، و إن كان المؤمن بعد أمر اللّه يحبّه و يشتاق إليه على خلاف الطبيعة، و إطلاق الكره للمبالغة و هو بمعنى المكروه.

ص: 445


1- تفسير الرازي 23:6.
2- الآية (177) من هذه السورة.
3- تفسير الرازي 22:6.
4- تفسير الرازي 26:6.

وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً لما ترون فيه من المشقّة و الضّرر على النّفس و المال من غير صلاح ظاهر وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في الحقيقة، و صلاحكم في الواقع، كما أنّ المريض إذا كان جاهلا بنفع شرب الدّواء المرّ النّتن، لا يتحمّل شربه إلاّ بكره و جبر، بخلاف ما إذا علم بكون شفائه في شربه، فإنّه يشتاق إليه أكثر من اشتياقه إلى شرب الأشربة الحلوة الطيّبة.

وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً و تشتاقوا إليه لجهلكم بضرّه و شرّه، و موافقته لطباعكم وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ

يكون فيه فسادكم و هلاككم، فإنّ الطّفل يشتاق إلى أن يلعب بالحيّة لحسن منظرها و لين لمسها، و جهله بأنها قاتلة، و أنّ في قربها هلاكه.

وَ اللّهُ يَعْلَمُ واقع صلاح الأشياء و فسادها وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئا إلاّ بتعليم اللّه، فما أمركم به فاعلموا أنّ فيه خيركم و صلاحكم، و لا تنظروا إلى كونه مكروها لطباعكم أو مفسدة في اعتقادكم، فعليكم البدار إلى طاعة أوامره و لو كان بإلقاء أنفسكم في المهالك و تحت أظلّة السّيوف.

في دفع توهّم التنافي بين التكاليف الشرعية الشاقة و بين نفي الحرج

فإن قيل: التّكليف بالأعمال الشاقّة و الحرجيّة و الضّرريّة ينافي قوله سبحانه: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) و قوله: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (2) و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام »(3).

قلنا: المراد من العسر و الحرج و الضّرر، ما يكون بجهات طارئة على متعلّق التّكليف، لا ما هو في نوع المكلّف به و حقيقته، مثلا التّكليف بالجهاد و الزّكاة يكون في نوعهما الضّرر و الحرج، و هما باللّحاظ الأوّليّة مقتضي لثبوت التّكليف لا رافع له، و لا يمكن أن يكون مقتضي الشيء مانعا عنه أو رافعا له، بخلاف العسر و الحرج و الضّرر الطارئ على التكليف، كأن يكون المكلّف مريضا أو يكون أداء الزّكاة موجبا - اتّفاقا - لضرر بذل مال آخر في إيصاله إلى الفقير، فإنّ دليل نفي الحرج و الضّرر رافع للتّكليف في هذه الصّورة و لا منافاة.

و الحاصل: أنّ مفاد قوله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أنّ اللّه تعالى أراد من كلّ عمل أمركم به، الصنف الذي ليس فيه مشقّة زائدة على ما اقتضته طبيعة ذلك العمل، و لم يرد منكم الصّنف الذي فيه الضّرر و العسر الزائد بالنسبة إلى أصل الطّبيعة المأمور بها، مثلا الوضوء بالماء، مع كون المشقّة العظيمة في تحصيله و إن كان موجبا للطّهارة و لكنّ اللّه لم يرض بتحمّل تلك المشقّة

ص: 446


1- الحج: 78/22.
2- البقرة: 185/2.
3- من لا يحضره الفقيه 777/243:4.

لعباده إذا كان في التّيمّم بالتّراب مصلحة مقتضية لبدليّته عن الوضوء في تلك الحال، ففي صورة عدم وجدان الماء لم يكلّفنا اللّه بتحصيل الماء و تحمّل المشقّة و الحرج له، بل اكتفى بعمل الطّهور السّهل الذي لا مشقّة فيه، و هو التيمّم بالتّراب.

سورة البقرة (2): الآیات 217 الی 218

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

سورة البقرة (2): آیة 217

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر بالقتال و أوجبه، سأل الكفّار عن حكمه في الأشهر الحرم، فحكى اللّه ذلك السؤال توطئة لجوابه بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ عن قِتالٍ فِيهِ و قيل: إنّ السائلين هم المسلمون، و كان السؤال بعد واقعة عبد اللّه بن جحش الأسدي، و هو ابن عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).

عن ابن عبّاس رحمه اللّه أنّه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث عبد اللّه بن جحش قبل قتال بدر بشهرين، و بعد سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة في ثمانية رهط ، و كتب له كتابا و عهدا دفعه إليه و أمره أن يفتحه بعد منزلتين، و يقرأه على أصحابه و يعمل بما فيه، فإذا فيه: «أمّا بعد، فسر على بركة اللّه بمن اتّبعك حتّى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخير».

فقال عبد اللّه: سمعا و طاعة لأمره، فقال لأصحابه: من أحبّ منكم الشّهادة فلينطلق معي فإنّي ماض لأمره، و من أحبّ التخلّف فليتخلّف، فمضى حتّى بلغ بطن نخل بين مكّة و الطّائف. فمرّ عليهم عمرو بن الحضرمي و ثلاثة معه، فلمّا رأوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حلقوا رأس واحد منهم و أوهموا بذلك أنّهم قوم عمّار (2) ،ثمّ أتى واقد بن عبد اللّه الحنظليّ - و هو أحد من كان مع عبد اللّه بن جحش - و رمى عمرو بن الحضرمي فقتله، و أسروا اثنين و ساقوا العير بما فيه حتّى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 447


1- مجمع البيان 551:2.
2- أي قادمون للعمرة.

فضجّت قريش و قالوا: قد استحلّ محمّد الشّهر الحرام، شهرا يأمن فيه الخائف، فيسفك فيه الدّماء، و المسلمون أيضا قد استبعدوا ذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام».

فقال عبد اللّه بن جحش: يا رسول اللّه، إنّا قتلنا ابن الحضرمي، ثمّ أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب، فلا ندري أ في رجب أصبناه أم [في] جمادى. فوقّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العير و الاسارى فنزلت [هذه الآية]، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغنيمة(1).

و عن القمّي رحمه اللّه في رواية: فكتبت قريش إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّك استحللت الشّهر الحرام، و سفكت فيه الدّم، و أخذت المال. و كثر القول في هذا. قال الصحابة: يا رسول اللّه، أ يحلّ القتل في الشّهر الحرام ؟ فنزلت(2).

و عن ابن عبّاس [أنّه] قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما سألوه إلاّ عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (3) أي عن قتال فيه.

و قيل: سأل الكفّار عن هذا حتّى لو أخبرهم بأنّه حلال فتكوا به و استحلّوا قتاله فيه (4) ،فأجابهم اللّه بقوله: قُلْ لهم يا محمّد: قِتالٍ فِيهِ أيّ قتال كان هو إثم كَبِيرٌ و ذنب عظيم.

و قيل: إنّ تنكير القتال في الجواب لإظهار أنّ القتال الذي هو إثم كبير ليس قتال عبد اللّه بن جحش الذي كان لاشتباه الشّهر، أو لنصرة الإسلام و إذلال الكفر أو للدّفاع، بل قتال آخر، و هو القتال الذي فيه هدم الإسلام، أو سائر الأغراض الفاسدة (5).وَ صَدٌّ مخصوص عَنْ سَبِيلِ اللّهِ و هو منع النّاس عن الإيمان باللّه، أو منع المسلمين من أن يهاجروا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو منعهم عن العمرة عام الحديبية، و على هذا الاحتمال يكون إخبارا بما وقع بعد مدّة وَ كُفْرٌ بِهِ أي باللّه.

و قيل: المراد: الكفر بأنّه مرسل الرّسول و كونه مستحقّا للعبادة و قادرا على البعث(6).

وَ صدّ عن اَلْمَسْجِدِ الْحَرامِ بناء على أن يكون عطفا على سبيل اللّه، أو المراد: و الكفر بالمسجد الحرام، بناء على كونه عطفا على الضّمير المجرور قبله. و المراد من الكفر بالمسجد: منع المسلمين عن الصّلاة فيه و زيارة البيت و الطّواف به وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ و هم الرّسول و المؤمنون

ص: 448


1- تفسير الرازي 29:6.
2- تفسير القمي 72:1.
3- تفسير الرازي 30:6.
4- تفسير الرازي 30:6.
5- تفسير الرازي 31:6.
6- تفسير الرازي 34:6.

مِنْهُ أي من المسجد، كلّ واحد من هذه الامور إثم من قريش أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ و في علمه من قتال سريّة و قتل ابن الحضرميّ في الشّهر الحرام؛ لأنّ القتال فيه قد يحلّ و الكفر باللّه لا يحلّ بحال.

قيل: إنّ عدّه المسلمين من أهل المسجد مع كونهم خارجين عن مكّة، لكونهم قائمين بأداء وظائفه حافظين لحدوده(1).

وَ الْفِتْنَةُ و الفساد في الأرض، و قيل: إنّ المراد منها الشّرك باللّه و إخراج أهل المسجد (2)أَكْبَرُ

وزرا، و أشدّ قبحا مِنَ الْقَتْلِ الصادر من المسلمين على سبيل الخطأ، و بظنّ عدم دخول الشّهر الحرام.

نقل أنّه لمّا نزلت، كتب عبد اللّه بن أنيس إلى مؤمني مكّة: إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشّهر الحرام، فعيّروهم أنتم بالكفر و إخراج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مكّة، و منعهم المسلمين عن البيت(3).

ثمّ بيّن سبحانه، أنّهم كيف يعيّرونكم على قتل واحد وَ هم لا يَزالُونَ في جميع الأوقات يُقاتِلُونَكُمْ و يديمون على عداوتكم و لا ينفكّون عنها حَتّى يَرُدُّوكُمْ و كي يصرفوكم عَنْ دِينِكُمْ الحقّ إلى دينهم الباطل إِنِ اسْتَطاعُوا و أنّى لهم ذلك لتصلّبكم في إيمانكم، و ثباتكم في دينكم، و فيه تطييب لقلوب المؤمنين.

ثمّ أنّه تعالى بعد استبعاد ارتداد أهل الإيمان، أخذ في تحذير من يرتدّ بإضلالهم، بقوله: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ و ينصرف مِنْكُمْ أيّها المسلمون عَنْ دِينِهِ الحقّ إلى الباطل، و عن التّوحيد إلى الشّرك فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ و لم يتب عن ارتداده، و لم يرجع إلى الإسلام، و فيه ترغيب في الرّجوع إلى الاسلام بعد الارتداد و قبل الموت، و دلالة على قبول توبة المرتدّ فَأُولئِكَ المرتدّون البعيدون عن رحمة اللّه حَبِطَتْ و ضاعت أَعْمالُهُمْ الصالحة التي عملوها حال إسلامهم، و لا يترتّب عليها نفع و أثر خير فِي الدُّنْيا فإنّ للأعمال الخيريّة آثارا و فوائد دنيويّة كحسن الذّكر عند المؤمنين، و طلب المغفرة له منهم، و جواز المناكحة، و الموادّة، و ألطاف خاصّة من اللّه في أعقابه.

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه ليصلح لصلاح(2) المؤمن ولده و ولد ولده، و يحفظه في دويرته و دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ اللّه لكرامته على اللّه»(3) الخبر. فبالارتداد تزول تلك الآثار

ص: 449


1- تفسير الرازي 34:6. (2و3) تفسير روح البيان 335:1.
2- في تفسير العياشي: بصلاح الرجل.
3- تفسير العياشي 2687/106:3.

و الكرامات الدنيويّة، بل يجب قتله عند الظّفر به.

وَ في اَلْآخِرَةِ فإنّهم لا يثابون عليها فيفوتهم ثوابها في الدّارين، و فيه دلالة على اشتراط حبط الأعمال، و ثوابها، و الخلود في النّار، بالموت على الكفر.

وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ لا مناص و لا خلاص لهم منها أبدا.

سورة البقرة (2): آیة 218

ثمّ روي أنّه قال عبد اللّه بن جحش: يا رسول اللّه، هب أنّه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا و ثوابا؟ فأنزل اللّه تعالى (1)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.

و قيل: إنّه قال قوم: إنّ أصحاب السّريّة إن سلموا من الإثم فلا أجر لهم، فنزلت: (2)وَ الَّذِينَ هاجَرُوا من أوطانهم طلب صحبة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ و طلب مرضاته - و في ذكر الأوصاف إيماء إلى عبد اللّه و أصحابه حيث إنّهم كانوا مؤمنين مهاجرين مجاهدين - أُولئِكَ يَرْجُونَ بأعمالهم الصّالحة رَحْمَتَ اللّهِ و ثوابه. و التّعبير بالرّجاء لأنّ المؤمن لا يزال في خوف و رجاء، و لا يقطع بالفلاح إلاّ عند الاحتضار.

وَ اللّهُ غَفُورٌ لزلاّت المؤمنين رَحِيمٌ بهم بإجزال الأجر.

سورة البقرة (2): الآیات 219 الی 220

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

سورة البقرة (2): آیة 219

و السؤال الرابع من المسلمين، ما بيّنه اللّه بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ و عن حكم شرب المسكر، أ حلال شربه أم حرام ؟

قيل: نزلت في الخمر أربع آيات، نزلت بمكّة آية وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً (3) فطفق المسلمون يشربونها، ثمّ إنّ جمعا من الصّحابة قالوا: أفتنا يا رسول اللّه في الخمر، فإنّها مذهبة للعقل ؟ فنزلت هذه الآية، فشربها قوم و تركها آخرون، ثمّ دعا عبد الرحمن بن

ص: 450


1- تفسير الرازي 39:6.
2- مجمع البيان 553:2، تفسير البيضاوي 118:1.
3- النحل: 67/16.

عوف ناسا منهم، فشربوا و سكروا، و قام أحدهم فقرأ: قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون، إلى آخر الخبر(1).

وَ عن اَلْمَيْسِرِ و هو كلّ ما قومر عليه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير الميسر: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه فهو [من] الميسر »(2).

قُلْ فِيهِما و في استعمالهما إِثْمٌ كَبِيرٌ و ذنب عظيم.

في ذكر مفاسد شرب الخمر و القمار

روي عن الصادق عليه السّلام قال: «الخمر رأس كلّ إثم، و مفتاح كلّ شرّ »(3).

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الملائكة لتنفر عند الرّهان، و تلعن صاحبه، ما خلا الحافر، [و الخفّ ] و الرّيش، و النّصل»(4) الخبر.

و اعلم أنّ مفاسد الخمر و الميسر أظهر من أن تخفى على ذي مسكة (5) ،أمّا الخمر فأظهر مفاسدها أنّها مذهبة للعقل.

نقل عن العباس بن مرداس أنّه قيل له في الجاهليّة: لم لا تشرب الخمر فإنّها تزيد في جرأتك ؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، و لا أرضى أن اصبح سيّد قوم و امسي سفيههم(6).

و قال بعض: لو كان العقل يشرى ما كان شيء أنفس منه، فالعجب لمن يشتري الحمق بماله فيدخله في رأسه فيقيء في جيبه و يسلح في ذيله(7).

و أمّا الميسر، فأظهر مفاسده أنّه مذهب للمال لاه عن ذكر اللّه، و من مفاسدهما أنّ تعاطيهما موقع في العداوة و البغضاء كما قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ (8).

ثمّ ذكر سبحانه مقتضى إباحتها بقوله: وَ فيهما مَنافِعُ كثيرة جسمانيّة و مادّية لِلنّاسِ .

قيل: إنّ من منافع الخمر أنّ النّاس كانوا يتعاملون(9) بها إذا جلبوها من النّواحي، و كان المشتري إذا ترك المماكسة(10) في الثّمن، كانوا يعدّون ذلك فضيلة له فكانت تكثر أرباحهم(11).

ص: 451


1- تفسير أبي السعود 218:1.
2- أمالي الطوسي: 681/336.
3- الكافي 4/403:6، تفسير الصافي 227:1.
4- من لا يحضره الفقيه 88/30:3.
5- المسكة: العقل.
6- تفسير الرازي 46:6.
7- تفسير روح البيان 340:1.
8- المائدة: 91/5.
9- في تفسير الرازي: يتغالون، أي يبيعونها بثمن غال.
10- أي التقليل من الثمن.
11- تفسير الرازي 47:6.

و منها: أنّه يقوّي الضّعيف، و يهضم الطّعام، و يعين على الباه (1) ،و يسلّي المحزون، و يشجّع الجبان.

و قيل: إنّ من منافع الميسر التّوسعة على ذوي الحاجة(2).

نقل عن الواقدي أنّه قال: كان الواحد منهم ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال كثير ثمّ يصرفه في المحتاجين، فيكتسب منه المدح و الثّناء(3).

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مقتضى الحرمة فيهما آثم و أقوى من مقتضى الإباحة، بقوله: وَ إِثْمُهُما

و ضررهما أَكْبَرُ و أعظم مِنْ نَفْعِهِما لأنّ ضررهما روحانيّ و نفعهما جسمانيّ ، و لا يعادل أضعاف ما يتصوّر لهما من النّفع لأقلّ قليل من غيرهما.

روي من طرق العامّة أنّ جبرئيل عليه السّلام قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى شكر لجعفر بن أبي طالب أربع خصال كان عليها في الجاهليّة و هو عليها في الإسلام. فسأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعفرا عن ذلك فقال: يا رسول اللّه، لو لا أنّ اللّه أطلعك عليها لما أخبرتك بها: ما شربت الخمر قطّ ، لأنّي رأيتها تزيل العقل، و أنا إلى أن أزيد فيه أحوج منّي إلى أن ازيله، و ما عبدت صنما قطّ لأنّي رأيته لا يضرّ و لا ينفع، الخبر(4).

في تنزيه عبد اللّه و أبي طالب عليهما السّلام من الشرك و شرب الخمر

أقول: بعد وضوح أنّ عبد اللّه و أبي طالب عليهما السّلام كانا أعقل و أكمل منه، كانا أجلّ و أنزه من أن يعبدا صنما أو يشربا خمرا.

و عن بعض العامّة، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «لو وقعت قطرة من الخمر في بحر ثمّ جفّ فنبت فيه الكلأ لم أرعه »(5).و ببالي أنّ ما يقرب منه مرويّ بطرق أصحابنا.

و عن الباقر عليه السّلام قال: «ما بعث اللّه عزّ و جلّ نبيّا قطّ إلاّ و [في] علم اللّه تبارك و تعالى أنّه إذا أكمل [له] دينه كان فيه تحريم الخمر، و لم يزل الخمر حراما، و إنّما ينقلون من خصلة ثمّ خصلة (6) ،و لو حمل(7) ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين »(8).

و قال عليه السّلام: «ما أحد أرفق من اللّه تعالى، فمن رفقه تبارك و تعالى أنّه ينقلهم من خصلة إلى خصلة، و لو حمل عليهم جملة لهلكوا »(9).

ص: 452


1- في النسخة: البائه.
2- تفسير الرازي 47:6.
3- و كذا.
4- تفسير روح البيان 339:1.
5- تفسير أبي السعود 218:1، تفسير روح البيان 340:1.
6- في الكافي: من خصلة إلى خصلة.
7- زاد في النسخة: من.
8- الكافي 3/395:6، تفسير الصافي 228:1.
9- الكافي 3/395:6، تفسير الصافي 228:1.

و عنهم عليهم السّلام: «أنّ أوّل ما نزل في تحريم الخمر قول اللّه تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فلمّا نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها [و تحريم الميسر] و علموا أنّ الإثم ممّا ينبغي اجتنابه، و لا يحمل اللّه عزّ و جلّ عليهم من كلّ طريق، لأنّه قال: وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ ثمّ أنزل اللّه تعالى آية اخرى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فكانت هذه الآية أشدّ و أغلظ في التّحريم، ثمّ ثلث بآية اخرى فكانت أغلظ من الآية الأولى و الثّانية و أشدّ، فقال تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (1) فأمر اللّه تعالى باجتنابهما» الخبر(2).

و عن بعض العامّة: لمّا نزلت الآية، قال عمر: قد انتهينا يا ربّ (3).

أقول: فيه دلالة على أنّه كان يشربه.

قيل: حرّمت الخمر في السنّة الثالثة من الهجرة بعد غزوة الأحزاب بأيّام(4).

و قيل في وجه تحريم الخمر على هذا التّرتيب: إنّه تعالى علم أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، و كان انتفاعهم به كثيرا، و علم أنّه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ عليهم، فلا جرم استعمل في التّحريم التّدريج و الرفق.

ثمّ لمّا أنزل التّحريم اريقت الخمر (5).قال ابن عمر: خرجنا بالحباب إلى الطّريق فمنّا من كسر حبّه، و منّا من غسله بالماء و الطّين، و لقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر، و فاحت منها ريحها، [و حرّمت الخمر] و لم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، و ما حرّم اللّه عليهم شيئا أشدّ من الخمر(6).

ثمّ أنّه تعالى حكى السؤال الخامس بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ و أيّ مقدار من أموالهم يبذلون ؟ قيل: إنّ السائل عمرو بن الجموح، حيث سأل أوّلا عمّا ينفق من الأموال، و عن مصرفه، ثمّ سأل عمّا ينفق من حيث المقدار و الكمّيّة (7) ،فأجاب سبحانه بقوله: قُلِ الْعَفْوَ قيل: إنّه الزائد عمّا

ص: 453


1- المائدة: 90/5 و 91.
2- الكافي 2/406:6، تفسير الصافي 228:1.
3- تفسير الرازي 40:6، تفسير روح البيان 339:1.
4- تفسير روح البيان 339:1.
5- تفسير روح البيان 339:1.
6- تفسير روح البيان 339:1.
7- تفسير أبي السعود 219:1.

يحتاج إليه المنفق (1).و قيل: أن ينفق ما يسهل و يتيسّر(2).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «العفو: الوسط »(1).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «خير الصّدقة ما أبقت غنى و [لا] يلام على كفاف »(2).

و عن جابر بن عبد اللّه، قال: بينما نحن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب، فقال: يا رسول اللّه، خذها صدقة، فو اللّه لا أملك غيرها، فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ أتاه من بين يديه فقال: «هاتها» مغضبا، فأخذها منه ثمّ حذفه بها بحيث لو أصابته لاوجعته، ثمّ قال: «يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ثمّ يجلس يتكفّف النّاس، إنّما الصّدقة عن ظهر غنى، خذها فلا حاجة لنا فيها »(3).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ العفو ما يفضل عن قوت السّنة »(4).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان يحبس لأهله قوت سنة(7).

قال بعض الحكماء: الفضيلة بين طرفي الإفراط و التّفريط ، فالإنفاق الكثير

هو التّبذير، و التّقليل جدّا هو التقتير، و العدل هو الفضيلة(8).

كَذلِكَ التّبيين و التّوضيح لأحكام الإنفاق يُبَيِّنُ اللّهُ و يوضّح لَكُمُ أيّها المسلمون اَلْآياتِ الدّالّة على سائر الأحكام التي تحتاجون إليها لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ و لكي تنظروا و تتأمّلوا فِي اموركم الرّاجعة إلى اَلدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ و تعلموا مصالحكم فيهما، و تختاروا ما هو أصلح و أنفع لكم.

و قيل: إنّ المراد كبيان الأحكام في كمال الوضوح، يبيّن اللّه لكم دلائل المعاد، لكي تتفكّروا في أنّ أيّهما خير و أبقى فتعملون بما هو أنفع و أصلح لكم(5).

و السؤال السادس: ما حكاه اللّه بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ مخالطة اَلْيَتامى و حكم التصرّف في أموالهم.

و عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً (6) خرج كلّ من كان عنده

ص: 454


1- تفسير العياشي 418/219:1.
2- تفسير الرازي 49:6.
3- تفسير الرازي 49:6.
4- مجمع البيان 558:2. (7و8) تفسير الرازي 49:6.
5- تفسير أبي السعود 220:1.
6- النساء: 10/4.

يتيم، و سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في إخراجهم »(1).

قيل: كان سبب ذلك أنّ النّاس في الجاهليّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، و ربّما تزوّجوا باليتيمة طمعا في مالها، ثمّ لمّا نهى اللّه تعالى عن مقاربة مالهم و حرمة أكله، و هدّد و شدّد عليه، ترك المؤمنون(2) مخالطة اليتامى و المقاربة من أموالهم، و القيام بامورهم، فعند ذلك اختلّت مصالح اليتامى و ساءت معايشهم (3) ،فثقل ذلك على النّاس(4).

روي: لمّا نزلت الآيات اعتزلوا أموال اليتامى و اجتنبوا مخالطتهم في كلّ شيء حتّى كانوا يضعون لليتيم طعاما فيفضل منه شيء فيتركونه و لا يأكلونه حتّى يفسد، و كان صاحب اليتيم يفرد له منزلا و طعاما و شرابا، فعظم ذلك على ضعفاء المسلمين، فقال عبد اللّه بن رواحة: يا رسول اللّه، ما لكلّنا منازل تسكنها الأيتام، و لا كلّنا يجد طعاما و شرابا يفردهما لليتيم (5).فنزلت قُلْ : يا محمّد إِصْلاحٌ لَهُمْ و مداخلتهم على نحو يكون فيها صلاح حالهم و أموالهم خَيْرٌ لكم و لليتامى من إخراجهم و مجانبتهم.

وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ و تعاشروهم و تتصرّفوا في أموالهم بجهة الإصلاح و الاسترباح لهم فَإِخْوانُكُمْ في الدين.

و من المعلوم أنّ علاقة الاخوّة الدينيّة أقوى من علاقة الاخوة النّسبيّة، و حقّ الاخوّة رعاية صلاح الأخ و السّعي في إيصال النّفع إليه و حسن المخالطة و العشرة معه.

وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لمال اليتامى، و غيره مِنَ الْمُصْلِحِ له إذ هو وليّ اليتيم، فعليه أن يطالب المفسد و يجازيه على إفساده، و يشكر المصلح و يثيبه على إصلاحه.

عن (الكافي) عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معهم خادم [لهم]، فنقعد على بساطهم و نشرب من مائهم و يخدمنا خادمهم، و ربّما طعمنا فيه الطّعام من عند صاحبنا و فيه من طعامهم، فما ترى في ذلك ؟ فقال: «إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، و إن كان فيه ضرر فلا».

ص: 455


1- تفسير القمي 72:1.
2- في تفسير الرازي: القوم.
3- في تفسير الرازي: معيشتهم.
4- تفسير الرازي 50:6.
5- تفسير الرازي 51:6.

و قال: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (1) فأنتم لا يخفى عليكم، و قد قال اللّه عزّ و جل: وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ » (2).

وَ لَوْ شاءَ اللّهُ إعناتكم و إيقاعكم في المشقّة لَأَعْنَتَكُمْ و أوقعكم فيها بتحريم المداخلة و المعاشرة عليكم، و لم يجوّز لكم المخالطة بهم إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجز من الإعنات حَكِيمٌ لا يفعل إلاّ ما فيه حسن و صلاح من غير حرج.

سورة البقرة (2): آیة 221

اشارة

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَ اللّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

سورة البقرة (2): آیة 221

ثمّ أنّه لمّا كان النّكاح مربوطا بإصلاح امور اليتامى كما قال في سورة النساء: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (3) ذكر اللّه تعالى حكم النّكاح بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا و لا تتزوّجوا النّساء اَلْمُشْرِكاتِ في حال من الحالات، و وقت من الأوقات حَتّى يُؤْمِنَّ باللّه.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعث مرثد بن أبي مرثد - و كان حليفا لبني هاشم - إلى مكّة ليخرج منها أناسا من المسلمين سرّا، فعند قدومه جاءته امرأة يقال لها: عناق - خليلة له في الجاهليّة، أعرضت عنه عند الإسلام - فالتمست الخلوة فعرّفها أنّ الاسلام يمنع من ذلك، ثمّ وعدها أن يستأذن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يتزوّج بها. فلمّا انصرف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عرفه ما جرى من أمر عناق، و سأله: هل يحلّ له التزويج بها؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية(4).

و روي أنّها منسوخة بالنّسبة إلى الكتابيّة - التي هي داخلة في المشركات - بقوله تعالى في المائدة:

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (5) و سورة المائدة كلّها ثابتة غير منسوخ منها شيء (6) ،و باقية على الحرمة في غيرها.

ص: 456


1- القيامة: 14/75.
2- الكافي 4/129:5.
3- النساء: 3/4.
4- تفسير الرازي 54:6.
5- المائدة: 5/5.
6- تفسير الرازي 58:6، تفسير أبي السعود 221:1، تفسير روح البيان 345:1.

ثم علّل سبحانه الحكم بقوله: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ موحّدة مع ما بها من حسنات الرقّ و فقدانها الشّرف و المال، لكونها متزيّنة بزينة الإيمان و التّوحيد خَيْرٌ لكم بحسب الدّين و الدّنيا يُؤْمِنَّ امرأة حرّة مُشْرِكَةٍ مع ما لها من شرف الحريّة و رفعة الشّأن و كثرة المال وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ تلك المشركة بسبب جمالها و مالها و نسبها و شرفها، حيث إنّ حكمة النّكاح الموادّة بين الزّوج و الزّوجة، و طيب الولادة، و كلاهما منتفيان في نكاحهنّ لعدم حصول الموادّة بين المؤمن و المشركة كما قال تعالى:

لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ (1) و لعدم تحقّق طيب الولادة في نسلهنّ ؛ لأن في خباثة الامّ و نجاسة لبنها أثر عظيم في خباثة الولد كما قال: اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ (2).

و لذا أكّد سبحانه القضيّة بلام الابتداء التي تشبه لام القسم، ثمّ لعين ما ذكر من الملاك نهى اللّه تعالى عن إنكاح المشركين بقوله: وَ لا تَنْكِحُوا و لا تزوّجوا النّساء المؤمنات كنّ حرّات أو إماء اَلْمُشْرِكِينَ سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم حَتّى يُؤْمِنُوا و يصدّقوا باللّه و رسوله و يدخلوا في دين الإسلام، و لا خلاف في هذا الحكم بين المسلمين.

وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مع ما به من ذلّ العبوديّة و فقد المال و الشّرف و كونه كلاّ على مولاه خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ مع ماله من عزّ الحريّة و الثّروة و نفوذ التصرّفات وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ جماله و ماله و عزّه و خصاله.

ثمّ بعد النّهي عن مزاوجة الكفّار و بيان عدم الصّلاح فيها، و أنّ الصّلاح في مواصلة المؤمنين، بيّن مفسدة عظيمة في مزاوجة الكفّار هي عمدة علل النّهي عنها، بقوله: أُولئِكَ المشركون و المشركات يَدْعُونَ من يعاشرهم إلى الشّرك و الفسق و العصيان الذي يؤدّي إِلَى النّارِ فلا ينبغي للعاقل أن يقاربهم و يواليهم.

نقل أنّ مسلما رأى نصرانيّة سمينة فتمنّى أن يكون [هو] نصرانيّا حتّى يتزوّجها بكفر(3).

وَ اللّهُ برحمته و لطفه يَدْعُوا بالنّهي عن مواصلتهم، و أمركم بالإيمان و مواصلة أهله إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ قدّم الجنّة لمقابلة النّار، و هذه الغاية القصوى لا تحصل لأحد إلاّ بِإِذْنِهِ و توفيقه.

ص: 457


1- المجادلة: 22/58.
2- النور: 26/24.
3- تفسير روح البيان 346:1. و فيه: يكفر و هذا من حماقته...

ثمّ لمّا كانت هذه الأحكام المحكمات آيات ربوبيته و رحمته لكونها جامعة لصلاح العباد، قال:

وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ و دلائل ربوبيّته و رحمته لِلنّاسِ كافّة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ بها، و يتفكّرون فيها، فيعملون بما هو صلاحهم و نجاحهم.

قيل: إنّ إيراد التذكّر هنا للإشعار بأنّه لوضوحها غير محتاجة إلى التفكّر و التّدبّر(1).

سورة البقرة (2): آیة 222

اشارة

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

سورة البقرة (2): آیة 222

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكم النّكاح الذي هو غير منفكّ عن المواقعة غالبا، حكى السّؤال السابع الذي كان عن حكم المواقعة في حال الحيض بقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ و عن مخالطة النّساء في حال تلوّثهنّ بالدّم الخاصّ الخارج من الرّحم.

قيل: إنّ حكاية الأسئلة الثلاثة مقترنة بواو العطف لكون جميعها في وقت واحد بخلاف ما عداها فإنّهم سألوها في أوقات متفرّقة(2).

و قيل: إنّ سبب السؤال أنّ اليهود و المجوس كانوا يتباعدون عن المرأة الحائض بحيث لا يساكنونها و لا يواكلونها، و النّصارى كانوا بخلاف ذلك حتّى إنّهم لم يبالوا بجماعها، و أهل الجاهليّة كانت رؤيتهم رؤية اليهود، فسأل أبو

الدّحداح و نفر من الصّحابة عن الحكم، فنزلت (3)قُلْ هُوَ أَذىً و قذارة مؤذية لمن يقربهنّ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ و اجتنبوا مجامعتهنّ فِي الْمَحِيضِ و مجرى الدّم الخاصّ ، و هو الفرج.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رواية: «أنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود، له دفع و حرارة »(4).الخبر.

و في حكمه ما يخرج في أيّام العادة و لو كان فاقدا للصّفات، لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لزينب بنت جحش(5):

«دعي الصّلاة أيّام أقرائك »(6).

ص: 458


1- تفسير أبي السعود 222:1، تفسير روح البيان 346:1.
2- تفسير الرازي 62:6، تفسير أبي السعود 222:1.
3- تفسير الرازي 63:6.
4- الكافي 1/91:3.
5- في تفسير الرازي: لفاطمة بنت أبي حبيش.
6- تفسير الرازي 67:6.

قيل: إنّ المسلمين أخذوا بإطلاق الاعتزال(1) فأخرجوهنّ من بيوتهنّ ، فقال جمع من الأعراب: يا رسول اللّه، البرد شديد و الثّياب قليلة، فإن آثرناهنّ بالثّياب هلك سائر أهل البيت، و إن استأثرناها هلكت الحائض. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، و لم آمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم» فلمّا سمع اليهود ذلك، قالوا: هذا الرّجل يريد أن لا يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه.

ثمّ جاء عباد بن بشير و اسيد بن حضير إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبراه بذلك، و قالا: يا رسول اللّه، أ فلا ننكحهنّ في المحيض ؟ فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى ظننّا أنّه غضب عليهما، فقاما فجاءته هديّة من لبن، فأرسل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليهما فسقاهما، فعلمنا أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يغضب عليهما(2).

ثمّ أنّه ورد في أخبار كثيرة أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام و أكثره عشرة(3).

ثمّ بيّن سبحانه غاية وجوب الاعتزال بقوله: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ بالمجامعة في القبل حَتّى يَطْهُرْنَ من الحيض و ينقطع الدّم عن باطن الفرج، و يعلم ذلك بالاختبار.

و في رواية: (حتّى يطّهّرن) بالتشديد (4) ،أي يغتسلن.

عن الصادق عليه السّلام [سئل]: ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال: «كلّ شيء ما عدا القبل بعينه »(5).

و عنه عليه السّلام قال: «ترى هؤلاء المشوّهين في خلقهم ؟ «قال: قلت: نعم. قال: «هؤلاء الذين آباؤهم يأتون نساءهم في الطمث »(6).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من جامع امرأته و هي حائض فخرج الولد مجذوما أو أبرص فلا يلومنّ إلاّ نفسه »(7).

فَإِذا تَطَهَّرْنَ و اغتسلن غسل الحيض، و قيل: إنّ المراد: إذا طهرن فَأْتُوهُنَّ و جامعوهنّ ، و ليكن الإتيان و المجامعة مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ عن ابن عبّاس: من حيث أمركم اللّه بتجنّبه، و هو محلّ الحيض، أعني القبل(8).

و قيل: من حيث الطّهر دون الحيض(9).

ص: 459


1- في تفسير الرازي: أخذ المسلمون بظاهر الآية.
2- تفسير الرازي 63:6.
3- تفسير الرازي 67:6.
4- تفسير الرازي 68:6.
5- الكافي 1/538:5.
6- الكافي 5/539:5.
7- من لا يحضره الفقيه 201/53:1. (8و9) كنز العرفان 6/45:1.

و عن محمّد بن الحنفيّة: من قبل النّكاح دون الفجور (1).

و قيل: من الجهة الّتي يحلّ أن يؤتين منها، و لا تقربوهن من حيث لا يحلّ ، بأن يكنّ محرمات، أو معتكفات، أو صائمات(1).

في جواز إتيان النساء بعد النقاء و قبل الغسل على كراهة

ثمّ أنّ مقتضى ظهور قوله: هُوَ أَذىً في كونه علّة لحرمة الوقاع المستلزمة لدوران الحكم مدارها، و ظهور الأمر باعتزالهنّ في المحيض في حال حصره بحال الحيض، و ظهور قوله: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ بناء على قراءة التّخفيف في كون غاية النّهي النّقاء من الدّم؛ هو جواز المواقعة بعد النّقاء و قبل الغسل، فيعارض ظهور قوله:

فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ بناء على إرادة الغسل من التّطهير، حيث إنّ مقتضاه عدم جواز الإتيان قبله، فلا بدّ من حمل الجملة الشّرطيّة على كونها شرطا للإباحة الخالية عن المرجوحيّة، أو حمل يطهرن على معنى طهرن كما قيل.

و أمّا الرّوايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام فعدّة منها دالّة على جواز الإتيان بعد النّقاء و قبل الغسل، كرواية عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا انقطع [الدم] و لم تغتسل، فليأتها زوجها إن شاء »(2).

و عدّة منها دالّة على الحرمة كما روي عنه عليه السّلام قال: سألته عن امرأة حاضت في السّفر، ثمّ طهرت و لم تجد ماء يوما أو اثنين، أ يحلّ لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا يصلح حتّى تغتسل »(3).

و في رواية: قلت: فيأتيها زوجها في تلك الحال - أي في السّفر مع عدم وجدان الماء - قال: نعم، إذا غسلت فرجها و تيمّمت فلا بأس(4).

فلا بدّ من حمل النّواهي على الكراهة، خصوصا مع ظهور لا يصلح فيها، و شهادة ما روي عن أبي الحسن عليه السّلام عليها قال: سألته عن الحائض ترى الطّهر، أ يقع عليها زوجها قبل أن تغتسل ؟ قال: «لا بأس، و بعد الغسل أحبّ إليّ »(5).و على هذا يتعيّن القول بالكراهة.

إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ حيث إنّ التّوبة تطهير للنّفس من رجس المعاصي وَ يُحِبُّ

ص: 460


1- مجمع البيان 563:2.
2- الاستبصار 464/135:1.
3- الاستبصار 465/136:1، التهذيب 478/166:1.
4- الكافي 3/82:3.
5- التهذيب 481/167:1، الاستبصار 468/136:1.

اَلْمُتَطَهِّرِينَ من أرجاس الأحداث و نجاسات الأقذار الجسمانيّة.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه يحبّ العبد المفتّن(1) التّوّاب، و من لا يكون(2) ذلك منه كان أفضل »(3).

و عن (العلل) و (العياشي) عنه عليه السّلام قال: «كان النّاس يستنجون بثلاثة أحجار لأنّهم كانوا يأكلون البسر فكانوا يبعرون بعرا، فأكل رجل من الأنصار الدّبّاء فلان بطنه و استنجى بالماء، فبعث إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: فجاء الرّجل و هو خائف أن يكون قد نزل فيه أمر يسوؤه في استنجائه بالماء، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: هل عملت في يومك هذا شيئا؟ فقال: [نعم] يا رسول اللّه إنّي - و اللّه - ما حملني على الاستنجاء بالماء إلاّ أنّي أكلت طعاما فلان بطني فلم تغن عنّي الحجارة شيئا، فاستنجيت بالماء.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هنيئا لك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ [قد] أنزل فيك آية، فأبشر إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فكنت أنت أوّل من صنع هذا، و أوّل التّوابين، و أوّل المتطهّرين(4)».

قيل: كان الرّجل الأنصاري هو البراء بن معرور(5).

و قيل: إنّ المراد من المتطهّرين: المتنزّهين عن الفواحش و الأقذار، كمجامعة الحائض (6).و لعلّه المراد من قول الصادق عليه السّلام: «و من لا يكون(7) ذلك منه كان أفضل »(8).

سورة البقرة (2): آیة 223

اشارة

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

سورة البقرة (2): آیة 223

ثمّ لمّا أذن اللّه تعالى في الانتفاع بالنّساء في غير محل الحيض حالته، و فيه أيضا: بعد النّقاء منه، صرّح بتعميم الإباحة من حيث مكان الانتفاع و كيفيّته بقوله: نِساؤُكُمْ و أزواجكم حَرْثٌ لَكُمْ

و مواضع إلقاء بذوركم منهنّ ، تحرثون الولد و اللّذّة. و وجه الشّبه بين النّطفة و البذر ظاهر، فكما أنّ صاحب الحرث له أن يأتي حرثه من أي مكان و بأيّ كيفيّة، كذلك الزّوج.

ثمّ لمّا شبّه الأزواج بامكنة الحرث عبّر عن مجامعتهنّ بالإتيان في قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى

ص: 461


1- أي الممتحن، يمتحنه اللّه بالذنب ثم يتوب، ثم يعود ثم يتوب.
2- في المصدر: لم يكن.
3- الكافي 9/316:2.
4- تفسير العياشي 432/223:1، علل الشرائع: 1/286.
5- من لا يحضره الفقيه 59/20:1، تفسير الصافي 232:1.
6- تفسير روح البيان 347:1.
7- في الكافي: لم يكن.
8- الكافي 9/316:2.

شِئْتُمْ و من أيّ مكان و بأيّ كيفيّة أردتم.

عن الصادق عليه السّلام عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها، قال: «لا بأس إذا رضيت».

قيل فأين قول اللّه عزّ و جلّ : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ؟ قال: «هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ » (1)

الخبر.

و الظاهر أنّ الاستشهاد بقوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ لجواز الإتيان في الدّبر، و الرّوايات الكثيرة دالّة على جوازه مع كراهة شديدة.

و قيل: إنّ المراد أيّ كيفيّة شئتم، و من أيّ جهة أردتم، بعد أن يكون المأتيّ قبلا(2).

نقل أنّ سبب نزول الآية أنّ اليهود كانوا يزعمون أنّ من أتى امرأته في قبلها من دبرها يأتي ولده أحول، فذكر ذلك للرّسول صلّى اللّه عليه و آله فنزلت الآية ردّا عليهم(3).

و عن الرضا عليه السّلام: «أنّ اليهود كانت تقول: إذا أتى الرّجل المرأة من خلفها خرج ولده أحول، فانزل اللّه: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ من خلف أو قدّام، خلافا لقول اليهود، و لم يعن في أدبارهنّ »(4).

قيل: كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرّجل المرأة من دبرها في قبلها، و كانوا أخذوا ذلك من اليهود و كانت قريش تفعل ذلك، فأنكرت الأنصار ذلك عليهم(5).

و نقل عن ابن عبّاس أنّ عمر جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه هلكت، و حكى وقوع ذلك منه، فنزلت(6).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية: «أي متى شئتم في الفرج »(7).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «من قدّامها و من خلفها في القبل »(8).

و في اخرى عنه عليه السّلام: «أيّ ساعة شئتم »(9).

ص: 462


1- التهذيب 1657/414:7.
2- تفسير روح البيان 347:1.
3- تفسير روح البيان 347:1.
4- تفسير العياشي 437/224:1.
5- تفسير الرازي 71:6.
6- و كذا.
7- تفسير القمي 73:1.
8- تفسير العياشي 436/224:1.
9- تفسير العياشي 439/225:1.

و روى العامّة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث: «ملعون من أتى امرأته في دبرها »(1).و الأظهر ما ذكرنا من الجواز مع الكراهة الشّديدة.

ثمّ لمّا ذكر اللّه تعالى أنّ النّساء حرث، أشار إلى أنّ الدّنيا أيضا حرث الآخرة، بقوله: وَ قَدِّمُوا من الأعمال الصالحة لِأَنْفُسِكُمْ في الدّنيا ما تنتفعون به في الآخرة، و أعملوا ما يكون ثوابه ذخرا لكم ليوم حاجتكم.

قيل: إنّ المراد طلب الولد من إتيان النّساء، حيث إنّه ينفع الوالد في الآخرة، و لا تكونوا في قيد قضاء الشّهوة(2).

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد التّسمية قبل الجماع(3).

ثمّ بعد الأمر بالطاعة أمر بالاجتناب عن المعاصي، بقوله: وَ اتَّقُوا اللّهَ و خافوا عقابه في مخالفة أوامره و نواهيه التي من جملتها ما ذكر من الامور وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ في الآخرة مُلاقُوهُ و ترون جزاءه، فتزوّدوا ما لا تفتضحوا به عنده، و فيه بيان علّة وجوب التّقوى حيث إنّه لو لا الثّواب و العقاب لكان تحمّل المشقّة عبثا.

ثمّ أردف الوعيد بالوعد بقوله: وَ بَشِّرِ بثواب يقصر عنه البيان، و بالكرامة العظيمة عند اللّه اَلْمُؤْمِنِينَ الذين يتلقون أوامر اللّه و نواهيه بحسن القبول و الامتثال.

سورة البقرة (2): آیة 224

اشارة

وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

سورة البقرة (2): آیة 224

ثمّ لمّا أمر سبحانه عباده بالطّاعة و التّقوى، ذكر أنّ الحلف باللّه على تركهما لا أثر له و لا يكون مانعا عنهما بقوله: وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً و مانعا و حاجزا لِأَيْمانِكُمْ و لأجل حلفكم به على ترك عمل برّ من أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ .

روي أن بشير بن نعمان الأنصاري كان قد طلّق زوجته التي هي اخت عبد اللّه بن رواحة، و أراد أن يتزوّجها بعد ذلك، و كان عبد اللّه قد حلف على أن لا يدخل على بشير و لا يكلّمه، و لا يصلح بينه و بين اخته، فإذا قيل له في ذلك، قال: [قد] حلفت باللّه على أن لا أفعل، و لا يحلّ لي إلاّ أن أحفظ

ص: 463


1- تفسير روح البيان 347:1.
2- تفسير الرازي 74:6.
3- ايضا.

يميني و أبرّ فيه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية(1).

و عن بعض العامّة: أنّها نزلت في أبي بكر حين حلف أن لا ينفق على مسطح لخوضه في حديث الإفك(2).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسيرها: «إذا دعيت لصلح بين الاثنين فلا تقل: عليّ يمين أن لا أفعل »(3).

و قيل: إنّ المراد لا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم بإكثار اليمين به (4).و علّة هذا النّهي إرادة أن تبرّوا، أي تكونوا بارّين متّقين مصلحين بين النّاس حيث إنّ من عرفه النّاس بالبرّ و التّقوى يقبلون قوله في مقام الإصلاح.

عن الصادق عليه السّلام: «لا تحلفوا باللّه صادقين و لا كاذبين، فإنّ اللّه يقول: وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » (5) الخبر.

وَ اللّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم عَلِيمٌ بضمائركم و نيّاتكم.

سورة البقرة (2): الآیات 225 الی 227

اشارة

لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

سورة البقرة (2): آیة 225

ثمّ لمّا ذكر اللّه تعالى عدم كون الحلف مانعا عن عمل الخير، ذكر بعض أحكام الحلف من عدم العقوبة و الكفّارة على ما يكون منه لغوا و ساقطا عن الاعتبار، بقوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ و هو كقول العرب: لا و اللّه، و بلى و اللّه، و ذلك مرويّ عن الصادقين عليهما السّلام (6).فإنّه لا يكون معه قصد و عقد في القلب على الحلف، بل يجري على اللّسان على حسب العادة أو بقصد تأكيد الكلام.

و قيل: إنّه حلف الرّجل باللّه على شيء يظنّ أنّه صادق فيه، و ليس كذلك(7).

و قيل: في وجه تسمية الحلف باليمين: إنّ العرب كانوا إذا حلفوا تصافحوا باليمين. أو أنّ أحد

ص: 464


1- تفسير روح البيان 349:1.
2- تفسير أبي السعود 223:1.
3- تفسير العياشي 444/226:1، تفسير الصافي 234:1.
4- جوامع الجامع: 40.
5- مجمع البيان 567:2، تفسير الصافي 234:1.
6- مجمع البيان 568:2، تفسير الصافي 234:1.
7- تفسير روح البيان 350:1.

معاني اليمين: القوّة، و الحالف يتقوّى بحلفه على العمل بما حلف عليه(1).

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ اللّه و يعاقبكم على حنث الحلف في الدّنيا بإيجاب الكفّارة، و في الآخرة على تقدير عدم التّكفير بالعذاب بِما كَسَبَتْ و انطوت عليه قُلُوبُكُمْ و ضمائركم من الجدّ به و اقترفت من الكذب فيه.

قيل: كسب القلب هو التعمّد، و كسب اللّسان هو الخطأ فيه.

قيل: إنّ المؤاخذة في هذه الآية عقوبة الآخرة. و في قوله: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ (2)

المؤاخذة بالكفّارة(3).

وَ اللّهُ غَفُورٌ و ستّار للذّنوب، كثير الإغماض عن العقوبة، فلا يؤاخذ على يمين اللّغو مع كونه ناشئا من عدم المبالاة و التّقصير في التّحفّظ حَلِيمٌ غير عجول بالعقوبة في مورد استحقاقها غير الصالح للعفو.

في بيان شرائط الإيلاء

سورة البقرة (2): آیة 226

ثمّ لمّا ذكر سبحانه القسمين لليمين، ذكر حكم نوع خاصّ منه، و هو حلف الزّوج على ترك وط ء زوجته بقوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ و يحلفون على التّباعد مِنْ نِسائِهِمْ بترك المجامعة تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ و انتظار انقضائها من زمان الحلف.

فَإِنْ فاؤُ و رجعوا عن حلفهم بأن جامعوهنّ قبل انقضاء المدّة مع أداء الكفّارة فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ للمولى، و ستّار لمعصية حنثه اليمين و قصده الإضرار بالمرأة إذ الفيء مع الكفّارة توبة له رَحِيمٌ بعباده.

سورة البقرة (2): آیة 227

وَ إِنْ عَزَمُوا و قصدوا اَلطَّلاقَ و طلّقوهنّ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ لمقالهم في الطّلاق و لسائر المقالات التي لا يخلو الطّلاق منها عادة عَلِيمٌ بضمائرهم و أغراضهم، و فيه تهديد و وعيد.

قال بعض الفقهاء: يستفاد من الآية وجوب مجامعة الزّوج زوجته في أربعة أشهر مرّة(4).

و فيه: أنّ الاستفادة موقوفة على تقدير المدّة من زمان الجماع لا من زمان الحلف، أو الرّفع إلى السّلطان، و هو خلاف ظاهر الآية و الرّوايات.

ص: 465


1- تفسير روح البيان 350:1.
2- المائدة: 89/5.
3- تفسير روح البيان 350:1.
4- كنز العرفان 293:2.

عن (العيّاشي) عن الرّضا عليه السّلام في رواية: «أنّ أجل الإيلاء أربعة أشهر بعد ما يأتيان السّلطان »(1).

و عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «أيّما رجل آلى من امرأته - و الإيلاء: أن يقول:

و اللّه لا اجامعك كذا و كذا، و اللّه لاغيضنّك، ثمّ يغاضبها - فإنّه يتربص بها أربعة أشهر، ثمّ يؤخذ بعد الأربعة الأشهر فيوقف فإذا فاء - و هو أن يصالح أهله - فإنّ اللّه غفور رحيم، و إن لم يفئ أجبر على الطّلاق، و لا يقع بينهما طلاق حتّى يوقف »(2).

و عنه عليه السّلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام يجعل له حظيرة من قصب و يحبسه(3) فيها، و يمنعه من الطّعام و الشّراب حتّى يطلّق »(4).

و عنه عليه السّلام في المولى: «إمّا أن يفيء أو يطلّق، فإن قبل و إلاّ ضربت عنقه »(5).

و عن الباقر عليه السّلام في رواية قال: «لا يكون إيلاء حتّى يحلف على أكثر من أربعة أشهر »(6).

و عن الصادق عليه السّلام في رواية: «لا إيلاء(7) حتّى يدخل بها »(8).

و عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرّجل يؤلي من أمته ؟ فقال: «لا، كيف يؤلي و ليس لها طلاق ؟!»(9).

سورة البقرة (2): آیة 228

اشارة

وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

سورة البقرة (2): آیة 228

ثمّ لمّا ذكر اللّه سبحانه الطّلاق، تعرّض لبيان بعض أحكامه بقوله: وَ الْمُطَلَّقاتُ من النّساء الحرائر المدخول بهنّ ، غير الحاملات إذا كنّ ذوات أقراء يَتَرَبَّصْنَ و ينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ بأن يحملنها على ترك التّزويج ثَلاثَةَ قُرُوءٍ و هي الأطهار عندنا.

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الأقراء هي الأطهار »(10).

ص: 466


1- تفسير العياشي 450/227:1.
2- الكافي 2/130:6.
3- في النسخة: يحفر له حفيرة من قصب و يجعله.
4- الكافي 10/133:6.
5- الكافي 11/133:6.
6- التهذيب 12/6:8، الاستبصار 907/253:3.
7- في الكافي: لا يقع الإيلاء.
8- الكافي 2/134:6.
9- قرب الإسناد: 1299/363.
10- الكافي 4/89:6.

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «القرء ما بين الحيضتين »(1).

و في التّعبير عن الأمر بصيغة المضارع دلالة على تأكّد الوجوب؛ لأنّ فيه إشعار بأنّ هذا الوجوب ملازم للعمل، و يكون امتثاله معه، كما أنّ في تقديم المطلّقات على فعل (يتربّصن) دلالة على قوّة الوجوب.

ثمّ لمّا كان انقضاء العدّة بالأقراء، و لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من قبل النّساء، نهاهنّ عن كتمانها بقوله: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ و يخفين ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الحيض و الحبل بأن تقول المرأة: لست بحامل؛ لحبّ تعجيل الطّلاق، حيث إنّ الزّوج إذا علم أنّها حامل يمنعه حبّ الولد عن الطّلاق. أو تقول: لست بحائض؛ و هي حائض، لكراهة التّعجيل، حيث إنّها إذا كانت في طهر المواقعة لا يجوز طلاقها، و لا بدّ من انتظار حيضها و طهرها بعده، و قد يكون كتمان الولد لحبّ سرعة انقضاء العدّة إذا كانت عدّة الوضع أطول من مدّة الأقراء، و كتمان الحيض لكراهة سرعة الانقضاء، فتدّعي بقاء العدّة و تأخير الحيض حتّى يرجع إليها الزّوج.

في حجية قول المرأة في الحمل و الحيض و الطهر

ثمّ أنّه استدلّ بحرمة الكتمان على حجّيّة قول النّساء بالنّسبة إلى الحيض و الطهر و الحمل إثباتا و نفيا، و لا شبهة فيها نصّا و فتوى، و ليس تعليق الحكم على الإيمان بالمبدإ و المعاد في قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ لبيان اشتراط حرمة الكتمان به، بل إنّما هو لزيادة التّرغيب على تركه، و التّهديد على فعله، فيكون المفاد أنّ الإيمان مانع عن الكتمان، و أنّ الكاتمة لا إيمان لها.

ثمّ بيّن اللّه تعالى الحكم الثاني في الطّلاق بقوله: وَ بُعُولَتُهُنَّ و هم الأزواج الذين طلّقوهنّ رجعيّا، كما ينبئ عنه التّعبير بالبعولة التي هي جمع بعل، و هو في الأصل المالك للأمر أَحَقُّ

و أملك بِرَدِّهِنَّ إلى الزوجيّة بإنشاء الرّجوع، أو بالتمتّعات التي لا تنبغي إلاّ للزّوج، كالقبلة و الجماع فِي ذلِكَ الزّمان و الأجل المضروب للتربّص إِنْ أَرادُوا الأزواج بالرّجوع إليهنّ إِصْلاحاً لما بينهم و بينهنّ ، أو إحسانا إليهنّ ، و لم يريدوا مضارّتهنّ ، و ليس هذا الشّرط لتأثير الرّجوع في عود العلقة و زوال أثر الطّلاق، بل للحثّ على الإحسان، و الزّجر عن الإضرار.

وَ لَهُنَّ على أزواجهنّ من الحقوق مِثْلُ الحقّ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ لأزواجهنّ في تحتم

ص: 467


1- الكافي 3/89:6.

المحافظة و وجوب الرّعاية و الحقوق المقرّرة ملابسات بِالْمَعْرُوفِ المقرّر عند الشّرع و العقلاء، فلا يكلّف أحدهما الآخر بما ليس له بحقّ .

عن ابن عبّاس: إنّي لا تزيّن لامرأتي كما تتزيّن لي، لقوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ (1).

وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ في الحقوق دَرَجَةٌ زائدة، و مرتبة فاضلة، لكونهم قوّامين عليهنّ .

سئل الصادق عليه السّلام عن حقّ المرأة على زوجها. قال: «يشبع بطنها، و يكسو جثتها، و إن جهلت غفر لها »(2).

و عن الباقر عليه السّلام قال: «جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، ما حقّ الزّوج على المرأة ؟

فقال لها: أن تطيعه و لا تعصيه، و لا تتصدّق من بيته بشيء إلاّ بإذنه، و لا تصوم تطوّعا إلاّ بإذنه، و لا تمنعه نفسها و إن كانت على ظهر قتب (3) ،و لا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السّماء و ملائكة الأرض و ملائكة الغضب و ملائكة الرّحمة حتّى ترجع إلى بيتها.

فقالت: يا رسول اللّه من أعظم النّاس حقّا على الرّجل ؟ قال: والداه.

قالت: فمن أعظم النّاس حقّا على المرأة ؟ قال: زوجها.

قالت: فما لي من الحقّ عليه مثل ماله عليّ ؟ قال: لا، و لا من كلّ مائة واحدة.

فقالت: و الذي بعثك بالحقّ نبيّا لا يملك رقبتي رجل أبدا »(4).

و في حديث: «جهاد المرأة حسن التبعّل »(5).

وَ اللّهُ عَزِيزٌ و غالب على خلقه، لا يعجز عن الانتقام ممّن خالفه حَكِيمٌ يشرّع الأحكام على طبق الصّلاح.

سورة البقرة (2): الآیات 229 الی 230

اشارة

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ

ص: 468


1- تفسير الرازي 94:6.
2- من لا يحضره الفقيه 1327/279:3، تفسير الصافي 236:1.
3- القتب: الرّحل الصغير يوضع على سنام البعير.
4- من لا يحضره الفقيه 1314/276:3، الكافي 1/506:5، تفسير الصافي 237:1.
5- تفسير روح البيان 355:1.

يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

سورة البقرة (2): آیة 229

ثمّ لمّا ذكر الطّلاق الرّجعيّ ، بيّن عدده بقوله: اَلطَّلاقُ الرّجعيّ الذي للزّوج حقّ الرّدّ في عدّته مَرَّتانِ و دفعتان لا أزيد، و فيه دلالة على عدم وقوع الطّلقتين دفعة، بل لا بدّ من التّفريق فيهما.

في حديث ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال له: «إنّما السّنّة أن تستقبل الطّهر استقبالا فيطلّقها بكلّ طهر تطليقة»(1) و به وردت روايات أهل البيت عليهم السّلام من طرق أصحابنا، و فيه أيضا دلالة على شرعيّة الرّجوع لأنّ طلاق المطلّقة غير متصوّر عقلا.

قيل: كان الرّجل في الجاهليّة يطلّق المرأة(2) ثمّ يراجعها قبل أن تنقضي عدّتها، و لو طلّقها ألف مرّة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له، فجاءت امرأة إلى عائشة، فشكت أنّ زوجها يطلّقها و يرجعها و يضارّها بذلك، فذكرت ذلك عائشة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنزلت اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ (3) لا يزيد الرّجل عليهما، و أن يؤدّي جميع حقّها و لا يذكرها بسوء.

ثمّ إذا أوقع التّطليقتان، يكون الواجب على الزّوج أحد الأمرين:

أحدهما: ما ذكره اللّه تعالى بقوله: فَإِمْساكٌ للزّوجة و أخذ بعلاقة الزّوجيّة بالرّجوع إليها مقرونا بِمَعْرُوفٍ و حسن العشرة، و لطف السّيرة، و الالتزام بحقوق الزوجيّة.

و ثانيهما: ما ذكره بقوله: أَوْ تَسْرِيحٌ و إرسال مقرون بِإِحْسانٍ بان لا يراجعها حتّى تنقضي عدّتها، و يحتمل أن يراد منه التّطليقة الثالثة، كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سئل: أين الثالثة ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أو تسريح بإحسان »(4).

قيل: إنّ المراد منه أن لا يضرّها حتّى تبذل شيئا و تفدي نفسها.

ثمّ بيّن الحكم الرابع بقوله: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أيّها الأزواج أَنْ تَأْخُذُوا بعوض الطّلاق أو لسائر الأسباب مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ و أعطيتموهنّ بعنوان الصّداق أو غيره شَيْئاً قليلا أو كثيرا إِلاّ

ص: 469


1- تفسير الرازي 30:30.
2- في تفسير الرازي: يطلق امرأته.
3- تفسير الرازي 96:6.
4- تفسير البيضاوي 122:1.

بسبب أَنْ يَخافا الزّوجان أَلاّ يُقِيما و لا يرعيا حُدُودَ اللّهِ و حقوقه التي جعلها فيما بينهما من وظائف الزّوجيّة، و فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.

في طلاق الخلع و جملة من أحكامه

فَإِنْ خِفْتُمْ أيّها الحكّام من الزّوجين أَلاّ يُقِيما و لا يرعيا حُدُودَ اللّهِ من حقوق الزوجيّة و أحكامها الواجبة، بأن أظهرت الزّوجة البذاء و سوء الخلق و التعدّي في القول، بأن تقول له: لا أبرّ لك قسما، و لا اطيع لك أمرا، و لأوطئنّ فراشك من تكرهه و غير ذلك، فيخاف من الزّوج التّعدّي عليها و إيذاؤها و حصل من الزّوجة أيضا خوف التعدّي بظهور الكراهة منها لزوجها و هو أمارة قويّة موجبة لخوف الفتنة، فإذا كان ذلك فَلا جُناحَ و لا بأس عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ الزّوجة بِهِ من نفسها ليطلّقها زوجها، و في أخذ الزّوج منها الفداء بعوض طلاقها [سواء أ] كان الفداء مساويا للصّداق أو أزيد منه أو أنقص.

روي أنّ هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن ابيّ ، و في زوجها ثابت بن قيس بن شمّاس، و كانت تبغضه أشد البغض، و كان يحبّها أشدّ الحبّ ، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: فرّق بيني و بينه فإنّي أبغضه، و لقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام، فكان أقصرهم قامة و أقبحهم وجها، و أشدّهم سوادا، و إنّي أكره الكفر بعد الإسلام.

فقال ثابت: يا رسول اللّه، مرها فلتردّ عليّ الحديقة التي أعطيتها. فقال لها: «ما تقولين ؟» قالت، نعم و أزيده. فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لا، حديقته فقط ». فقال: لثابت: «خذ منها ما أعطيتها و خلّ سبيلها» ففعل، و كان ذلك أوّل خلع في الإسلام(1).

و في رواية: أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصاريّة(2).

و عن (العياشي) عن الصادق عليه السّلام في المختلعة، قال: «لا يحلّ خلعها حتّى تقول: و اللّه لا أبرّ لك قسما، و لا اطيع لك أمرا، و لاوطئنّ فراشك، و لأدخلنّ عليك بغير إذنك، فإذا هي قالت ذلك حلّ خلعها و حل [له] ما أخذ منها من مهرها و ما زاد، و هو قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فإذا فعلت(3) ذلك فقد بانت منه بتطليقة، و هي أملك بنفسها، إن شاءت نكحته، و إن شاءت فلا، فإن نكحته فهي عنده على ثنتين »(4).

ص: 470


1- تفسير الرازي 100:6.
2- تفسير الرازي 100:6.
3- في المصدر: و إذا فعل.
4- تفسير العياشي 470/232:1.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «و من أضرّ بامرأته حتّى تفتدي منه نفسها، لم يرض اللّه له بعقوبة دون النّار، لأنّ اللّه يغضب للمرأة كما يغضب لليتيم».

إلى أن قال: «و أيما امرأة خلعت من زوجها لم تزل في لعنة اللّه و ملائكته [و رسله] و النّاس أجمعين حتى إذا نزل بها ملك الموت قال لها: أبشري بالنّار. فإذا كان يوم القيامة قيل لها: ادخلي النّار مع الدّاخلين، ألا و إنّ اللّه و رسوله بريئان من المختلعات بغير حقّ ، ألا و إنّ اللّه و رسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأته حتى تخلع منه »(1).

في حرمة أخذ العوض للطلاق مع عدم كراهة الزوجة

ثمّ أنّ ظاهر الآية و كثير من الروايات حرمة أخذ العوض للطّلاق على الزوج، و عدم صحّة طلاق الخلع مع عدم كراهة الزّوجة؛ و مع ذلك ذهب بعض الأصحاب إلى جواز الطّلاق بالعوض مع عدم تحقّق شرائط الخلع و المباراة لوجوه لا ينبغي أن يعتمد عليها؛ لكونها اجتهادا في مقابل النصّ .

فعلى هذا يكون نفي الجناح في الآية عن الزوج و الزوجة باعتبار أنّ الزّوج عند خوف الفتنة يحلّ له أخذ الفدية، و لا بأس عليه فيه، و يصحّ طلاق الزوجة خلعا، و لا بأس عليها بالتزوّج بالغير.

و تِلْكَ الأحكام حُدُودَ اللّهِ الّتي يجب رعايتها، و المحافظة عليها، و العمل بها فَلا تَعْتَدُوها أيّها المؤمنون بالرفض و عدم المحافظة.

ثمّ أتبع النهي بالتوعيد بقوله: وَ مَنْ يَتَعَدَّ و يتجاوز حُدُودَ اللّهِ و أحكامه فَأُولئِكَ

المتعدّون هُمُ الظّالِمُونَ أنفسهم بتعريضها لسخط اللّه و عذابه.

في حرمة المرأة المطلقة ثلاثا على زوجها إلاّ بعد المحلّل و جملة من أحكامه

سورة البقرة (2): آیة 230

ثمّ بيّن اللّه تعالى الحكم الخامس من أحكام الطّلاق بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها ثالثة، و هو اختيار التّسريح بالإحسان بعد التخيير بينه و بين الإمساك فَلا تَحِلُّ لَهُ المرأة المطلّقة بالرجوع أو بالعقد مِنْ بَعْدُ الطّلاق الثّالث. هذا إذا كانت المطلّقة حرّة، و أمّا إذا كانت أمة فمقتضى الروايات أنّها بعد الطلاق الثاني لا تحلّ حَتّى تَنْكِحَ

و تتزوّج تلك المرأة زَوْجاً غَيْرَهُ و تذوق عسيلته (2) ،لما روي أنّ امرأة رفاعة(3) قالت لرسول

ص: 471


1- عقاب الأعمال: 285 و 287.
2- العسيلة: تصغير العسل، قطعة منه، و المراد لذّة الجماع، و التصغير إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحلّ .
3- هي عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك زوجة رفاعة بن وهب بن عتيك، و هو ابن عمها. اسد الغابة 185:2.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي (1) ،و إنّ عبد الرّحمن بن الزبير تزوّجني، و إنّ ما معه مثل هدبة الثوب(2) فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة» قالت: نعم. قال صلّى اللّه عليه و آله: «إلاّ أن تذوقي عسيلته، و يذوق عسيلتك »(3).

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام في الرّجل يطلّق امرأته الطّلاق الذي لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره، ثمّ تزوّج رجلا(4) و لم يدخل بها. قال عليه السّلام: «لا، حتى يذوق عسيلتها »(5).و في التعبير عن الجماع بذوق العسيلة دلالة على اعتبار الوط ء في القبل لعدم كون الوط ء في الدّبر ذوق العسيلة.

قيل: إنّ اشتراط الوط ء يستفاد من لفظ النّكاح الموضوع للوط ء، و العقد يستفاد من إسناده إلى الزّوج(6).

و عن (الكافي): عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته طلاقا لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره و تزوّجها رجل متعة. أ يحلّ له أن ينكحها؟ قال: «لا، حتى تدخل في مثل ما خرجت منه »(7).

و في رواية اخرى: «المتعة ليس فيها طلاق»(8) ففيها دلالة على أنّ اشتراط الدوام في عقد المحلّل مستفاد من قوله: فَإِنْ طَلَّقَها الزّوج الثاني المحلّل و انقضت عدّتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوج الأوّل و المرأة أَنْ يَتَراجَعا بالعقد الدائم، أو الانقطاع إِنْ ظَنّا و حسبا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ

التي وجب رعايتها من حقوق الزوجيّة وَ تِلْكَ الأحكام المبيّنة حُدُودَ اللّهِ و شرائعه المعينة التي يحفظها من التغيير و المخالفة، و هو بذاته المقدّسة يُبَيِّنُها و يوضّحها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ حسن الطاعة، و قبح المعصية، و يعقلون أنّ في العمل بأحكام اللّه خير الدّنيا و الآخرة، فإنّهم المنتفعون بها، و إن كانت الأحكام عامّة.

سورة البقرة (2): آیة 231

اشارة

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ

ص: 472


1- البتّ في الطلاق: هو تطليق الزوجة طلاقا لا رجعة فيه.
2- هدبة الثوب: طرفه الذي لم ينسج، تريد أنه لا يملك شيئا.
3- تفسير البيضاوي 123:1.
4- في المصدر: تزوّجها رجل آخر.
5- الكافي 4/425:5.
6- تفسير أبي السعود 227:1.
7- الكافي 2/425:5.
8- التهذيب 103/34:8.

وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231)

سورة البقرة (2): آیة 231

ثمّ أنّه لمّا كان الإضرار بالمرأة الضّعيفة من القبائح السّخيفة - و من أقسام الإضرار: أن يطلّق ثمّ يعبر عليها(1) حتى إذا بلغت العدّة آخرها راجعها، ثمّ يطلّقها، فتكون مدّة عدّة الطلقات الثّلاث ما يقرب من تسعة أشهر - نهى اللّه تعالى عنه، و كرّر التخيير السابق توطئة للزجر عنه، بقوله: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ و ما يقرب آخر عدّتهن فأنتم بالخيار، فإذا أحببتم إمساكهنّ و مراجعتهنّ فَأَمْسِكُوهُنَّ مقرونا بِمَعْرُوفٍ و الإحسان إليهنّ غير مضارّين بهنّ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ و خلّوهنّ على حالهنّ متلبّسين بِمَعْرُوفٍ و إيصال نفع و خير. و هذا التعليق لبيان لزوم مراعاة الصّلاح في تجديد العقد، لا لبيان اشتراط الصحّة به.

في حرمة الاضرار بالزوجة

وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً و لا ترجعوا إليهنّ لتضارّهنّ من غير رغبة فيهنّ بل لِتَعْتَدُوا و تظلموا، و تتجاوزوا عليهنّ بالتضييق في المعيشة و سوء المعاشرة و تطويل العدّة.

عن (الفقيه): سئل الصادق عليه السّلام عن هذه الآية فقال: «الرّجل [يطلّق] حتّى إذا كاد أن يخلو أجلها [راجعها] ثمّ طلّقها، يفعل ذلك ثلاث مرات، فنهى اللّه عزّ و جلّ عن ذلك»(2) الخبر.

قيل: نزلت في ثابت بن يسار الأنصاري، طلّق امرأته، حتّى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها، ثمّ طلّقها بقصد مضارّتها(3).

ثمّ لشدّة الاهتمام بترك الإضرار، عقّب اللّه النهي بالتّهديد بقوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإضرار فَقَدْ ظَلَمَ و أضرّ نَفْسَهُ بتعريضها لسخط اللّه و عذابه، و بتفويت المنافع الدّنيويّة و الاخرويّة عليها.

ثمّ بالغ سبحانه في التهديد على الإضرار و ترك مراعاة الحقوق الواجبة بقوله: وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ سواء كانت متضمّنة الأحكام أو غيرها هُزُواً و لعبا؛ بأن تكونوا مستخفّين بها متهاونين فيها، معرضين عنها. فإنّ أشقى الأشقياء المتجرّءون على اللّه، المستخفّون بأحكامه.

روي أنّه كان الرّجل في الجاهليّة يطلّق و يقول: طلّقت و أنا لاعب، و يعتق و ينكح و يقول مثل ذلك.

ص: 473


1- كذا، و العبارة غير واضحة، و الذي في أكثر التفاسير: ثمّ يمسك عنها.
2- من لا يحضره الفقيه 1567/323:3.
3- تفسير روح البيان 360:1.

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، فقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «من طلّق، أو حرّر، أو نكح، فزعم أنّه لاعب، فهو جدّ »(1).

ثمّ بعد المبالغة في التّهديد ببيانات مختلفة رغّبهم في الطّاعة بتذكير نعمه بقوله: وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ الّتي أنعمها عَلَيْكُمْ فإنّ من أتمّها و أكملها هدايتكم إلى ما فيه صلاحكم في الدنيا و الآخرة وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ ببركة النبيّ الأمّي مِنَ الْكِتابِ المجيد وَ الْحِكْمَةِ من العلوم النّظريّة و المعارف و كشف الحقائق، و العلوم العمليّة من الأحكام و الأخلاق، لأن يَعِظُكُمْ بِهِ و يؤدّ بكم بآدابه. فقابلوا نعمه بالشّكر، و أطيعوا أحكامه وَ اتَّقُوا اللّهَ و احذروه في مخالفته و عصيانه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ من مصالحكم و مفاسدكم، و أعمالكم و نيّاتكم عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية، فيجازيكم بما تستحقّون. و هذا تهديد فوق التّهديدات السابقة.

سورة البقرة (2): آیة 232

اشارة

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

سورة البقرة (2): آیة 232

ثمّ بيّن اللّه تعالى الحكم السادس من أحكام الطّلاق، و هو حكم طلاق المرأة بعد انقضاء عدّتها بقوله: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ أيّها المؤمنون اَلنِّساءَ و الأزواج، بأن وقع الطّلاق من بعض - و هذا من باب نسبة الفعل إلى القبيلة بوقوعه من أحدهم - فَبَلَغْنَ و استوفين أَجَلَهُنَّ المضروب لعدّتهنّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ و لا تمنعوهنّ من أَنْ يَنْكِحْنَ و يتزوّجن أَزْواجَهُنَّ الّذين طلّقوهنّ .

فيكون حاصل المعنى، و اللّه العالم: إذا صدر من أحدكم طلاق، فلا يصدر من أحدكم منع عن التّزوّج بأزواجهنّ ظلما إِذا كان الزوجان تَراضَوْا بالمواصلة بَيْنَهُمْ ملابسين بِالْمَعْرُوفِ و المستحسن عند الشرع بإيقاع العقد و حفظ شرائط الصحّة و رعاية الأحكام و الحقوق.

و روي أنّ معقل بن يسار زوّج اخته جميل بن عبد اللّه بن عاصم، فطلّقها ثمّ تركها حتّى انقضت عدّتها، ثمّ ندم فجاء يخطبها لنفسه، فرضيت المرأة بذلك، فقال لها معقل: إنّه طلّقك ثمّ تريدين

ص: 474


1- تفسير الرازي 110:6.

مراجعته، وجهي من وجهك حرام إن راجعته. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معقل بن يسار و تلا عليه هذه الآية، فقال [معقل]: رغم أنفي لأمر ربّي، اللّهمّ رضيت و سلّمت لأمرك.

و أنكح اخته زوجها(1).

و روي أنّ جابر بن عبد اللّه كانت له بنت عمّ ، فطلّقها زوجها و أراد رجعتها بعد العدّة، فأبى جابر، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، و كان جابر يقول: فيّ نزلت هذه الآية(2).

و يحتمل أن يكون المراد من التّراضي بالمعروف، هو التراضي بما فيه الصّلاح، فإذا تراضوا على شروط يكون للمرأة فيها فساد، فليس منع الوليّ عن التزويج منهيّا.

ذلِكَ النّهي ممّا يُوعَظُ و يرتدع بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّ من كان من أهل الإيمان ينتفع و ينتهي به، و فيه تهديد مؤكّد للنّهي.

ثمّ أتبعه بالتّرغيب على الطّاعة بقوله: ذلِكُمْ العمل بحكم اللّه أَزْكى لَكُمْ و آثر في تهذيب نفوسكم من الأخلاق الرّذيلة وَ أَطْهَرُ لقلوبكم من أدناس الآثام وَ اللّهُ يَعْلَمُ ما به تزكية نفوسكم و تطهير قلوبكم وَ أَنْتُمْ لقصور عقولكم لا تَعْلَمُونَ و لا تدركون نتائج الأعمال و مقتضيات الأفعال.

سورة البقرة (2): آیة 233

اشارة

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

سورة البقرة (2): آیة 233

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من أحكام الطّلاق، بيّن بعض أحكام الأولاد، لمناسبة أنّه قد يقع التّشاجر بين الزّوج و الزّوجة فيهم، فإنّه قد يريد الزّوج أن يأخذ الولد من الزّوجة، أو يريد أن يرضعه مجّانا و بلا اجرة، و قد تريد الزّوجة الاستنكاف عن إرضاع الولد بغضا لزوجها، أو تريد إلزام الزّوج

ص: 475


1- تفسير الرازي 111:6.
2- تفسير الرازي 111:6.

بإعطاء الزّائد على ما هو المعروف من الأجر.

فبيّن اللّه تعالى أنّه ليس للزوج أخذ الرّضيع من امّه بقوله: وَ الْوالِداتُ [سواء أ] كنّ مزوّجات أو مطلّقات يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وجوبا إن توقّفت حياتهم على إرضاع الوالدات، كأن لم تكن مرضعة اخرى، أو لم يأخذوا ثدي غيرهنّ ، أو كان لبن غيرهنّ مضرّا. أو جوازا في غير الصّور [المذكورة] مع حقّ الأولويّة لهنّ ، فلا يجوز للزّوج أخذ الولد منهنّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ تامّين بالتّدقيق، لا على المسامحة و التّصرّف.

هذا لِمَنْ أَرادَ من الوالد و الوالدة أَنْ يُتِمَّ و يكمل اَلرَّضاعَةَ إذ تمام الحولين أقصى مدّة الرضاع، و يجوز أنقص منهما.

و روي أنّه: «ما نقص عن أحد و عشرين [شهرا] فهو جور على الصّبيّ »(1).

و روي عن ابن عبّاس: «أنّ هذا الحدّ ليس لكلّ مولود، و لكن لمن ولد لستّة أشهر، و إن ولد لسبعة [أشهر] فثلاثة و عشرون، و إن ولد لتسعة [أشهر] فأحد و عشرون شهرا (2).فإن لم يردن تكميل الرضاع فليس للآباء إلزامهنّ على الارضاع في تمام الحولين».

في (الكافي) عن الصادق عليه السّلام: «لا تجبر الحرّة على إرضاع الولد، و تجبر امّ الولد(3).

و عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله: «ليس للصبيّ لبن خير من لبن امّه »(4).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما من لبن ارضع(5) به الصبيّ أعظم بركة [عليه] من لبن امّه »(6).

وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ عبّر به عن الوالد للإشارة إلى أنّ الولد للوالد، و الامّ وعاء، و تجب نفقته عليه، و أجر إرضاعه هو رِزْقُهُنَّ و مأكولهنّ وَ كِسْوَتُهُنَّ و ملبوسهنّ بِالْمَعْرُوفِ بين النّاس ممّا يناسب حال المرأة.

ثمّ لمّا كان مجال أن يقال: لم لم تجب مئونة الأمّهات على أنفسهنّ و لم قيّد إيجاب الإنفاق على الوالد بكونه بالمعروف ؟ فأجاب سبحانه بقوله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ من كلّ من الوالدين الاخرى إِلاّ وُسْعَها و ما يسهل تحمّله عليها، فإنّ إلزام الامّ على مئونة نفسها، مع ضعفها و عدم قدرتها على

ص: 476


1- مجمع البيان 586:2.
2- مجمع البيان 586:2.
3- الكافي 4/40:6.
4- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 69/34:2.
5- في الكافي: يرضع.
6- الكافي 1/40:6.

التّكسّب، إلزام بما هو خارج عن وسعها.

و كذا إلزام الأب على الإنفاق، فوق حدّ المعروف، إلزام بما هو خارج عن وسعه، و لعلّه للإشارة إلى ذلك قال: لا تُضَارَّ والِدَةٌ والدا بِوَلَدِها بأن تطلب منه ما ليس بعهد من الرّزق و الكسوة، أو تمنع زوجها من نفسها مخافة الحمل وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ والدة بولده بأن يأخذ الولد منها، أو يمنعها شيئا من حقّها بِوَلَدِهِ .

و قيل: إنّ المعنى أنّه لا يجوز أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد، مثل أن ينزع الأب الولد من امّه مع رغبتها في إمساكه، أو يضيّق عليها في الرّزق و الكسوة، أو تطلب منه المواقعة و يتمنّع عليها، و إضرار الأمّ على الأب مثل أن تمتنع من إرضاعه غيظا على الأب و تلقيه إليه، او تطلب منه فوق العدل و المعروف، أو تمتنع من التمكين للزّوج.

عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام، سئل عن هذه الآية، فقال: «كانت المراضع تدفع إحداهنّ الرّجل إذا أراد الجماع، تقول: لا أدعك إنّي أخاف أن أحبل، فأقتل ولدي هذا الذي ارضعه. و كان الرّجل تدعوه المرأة، فيقول: أخاف أن اجامعك فأقتل ولدي، فيدعها فلا يجامعها. فنهى اللّه تعالى عن ذلك أن يضارّ الرّجل المرأة، و المرأة الرجل »(1).

و عنه عليه السّلام: «إذا طلّق الرّجل امرأته و هي حبلى، أنفق عليها حتى تضع حملها، فإذا أرضعته أعطاها أجرها و لا يضارّها، إلاّ أن يجد من هو أرخص أجرا منها، فإن رضيت بذلك الأجر فهي أحقّ بابنها، حتى تفطمه»(2) الخبر.

ثمّ بيّن الحكم بعد موت الأب بقوله: وَ عَلَى الْوارِثِ من الوالد، يجب مِثْلُ ذلِكَ الرّزق و الكسوة الواجبين على الأب من نصيب الولد من تركة أبيه.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قضى في رجل توفّي و ترك صبيّا، و استرضع له: «أنّ أجر رضاع الصّبيّ ممّا يرث من أبيه و امّه »(3).

و عن (الكافي): عن الصادق عليه السّلام، في قوله تعالى: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ : «أنّه نهى أن يضارّ بالصّبيّ ، أو تضارّ امّه في رضاعه. و ليس لها أن تأخذ في رضاعة فوق حولين كاملين »(4).

ص: 477


1- الكافي 6/41:6.
2- الكافي 2/103:6.
3- من لا يحضره الفقيه 1487/309:3.
4- الكافي 3/103:6.

و عنه عليه السّلام، أنّه سئل عنه فقال: «لا ينبغي للوارث أن يضارّ المرأة، فيقول: لا أدع ولدها يأتيها، و يضارّ ولدها، إن كان لهم عنده شيء، فلا ينبغي [له] أن يقتّر عليه »(1).و يحتمل أن يراد من الوارث وارث الرّضيع من رحمه الذي تجب عليه نفقته.

فَإِنْ أَرادا فِصالاً و فطاما عن الرضاع، قبل الحولين - كما روي عن الصادق عليه السّلام (2)- صادرا عَنْ تَراضٍ مبنيّ على صلاح الولد، كائن مِنْهُما لا من أحدهما، وَ تَشاوُرٍ كامل من كلّ مع الآخر؛ لأنّ الأب وليّ و الأمّ شفيقة، أو تشاورهما مع أهل التّجارب، و استجماع الآراء على صلاح فطام الولد، و عدم تضرّره به فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في الفطام، فإنّه قد يتّفق أن تملّ الأمّ من الرّضاع، و الأب من إعطاء الأجر، فيتوافقان على الفطام، مع كونه ضررا على الولد، و لكن قلّما يتّفق هذا لرأفتهما على الولد، سيّما مع المشاورة مع أرباب التّجارب، فينسدّ باب احتمال الضّرر على الولد.

قيل: يفهم من هذه الشّرائط أنّ رعاية اللّه تعالى للضعفاء أكثر، و عنايته بهم أشدّ، و رحمته عليهم أوفر.

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر الوالدات أن يرضعن أولادهنّ ، أوهم أنّه لا يجوز استرضاع غيرهنّ مطلقا، حتى مع رضا الامّ ، أو تعذّره عليها، لانقطاع اللّبن و أمثاله، فأزال التّوهم بقوله: وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أيّها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا المراضع أَوْلادَكُمْ و تستأجروا لإرضاعهم عند سقوط حقّ أولويّة الام فَلا جُناحَ و لا إثم عَلَيْكُمْ في استرضاع غير الأمّ إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المرضعة ما آتَيْتُمْ

و أعطيتم للوالدات، أو ما ألزمتم و شرطتم إعطاءه للمرضعات مقرونا بِالْمَعْرُوفِ و الوجه المتعارف المستحسن شرعا.

و ليس التسليم هنا شرطا لجواز الاسترضاع، بل الغرض من التعليق التنبيه على أنّ المرضعة ينبغي أن تكون طيّبة النّفس حتى تقبل الطّفل بقلبها و تراعي مصلحته حقّ المراعاة.

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «انظروا من ترضع أولادكم، فإنّ الولد يشبّ عليه »(3).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تسترضعوا الحمقاء و العمشاء (4) ،فإنّ اللّبن يعدي »(5).

ثمّ حثّ سبحانه على العمل بما شرع في أمر الأطفال و المراضع بقوله: وَ اتَّقُوا اللّهَ و احذروا

ص: 478


1- تفسير العياشي 487/237:1.
2- مجمع البيان 588:2.
3- الكافي 10/44:6.
4- العمشاء: هي الضعيفة البصر.
5- عيون أخبار الرضا 67/34:2.

عقابه في التّهاون في ما شرع من أحكام الأولاد و المراضع.

ثمّ أردفه بالتّهديد بقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

سورة البقرة (2): آیة 234

اشارة

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

سورة البقرة (2): آیة 234

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر عدّة المطلّقة، و أنّها ثلاثة قروء بيّن عدّة المتوفى عنها زوجها بقوله:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ و تقبض أرواحهم بالموت وَ يَذَرُونَ و يتركون من بعدهم أَزْواجاً

كبيرات أو صغيرات، حائلات أو حاملات - إذا وضعن قبل المدّة - دائمات أو منقطعات على قول، حرائر أو إماء على المشهور المنصور، مدخولا بهنّ أو غير مدخول بهنّ يَتَرَبَّصْنَ و يمتنعن عن التّزويج بِأَنْفُسِهِنَّ و يعتددن أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً من زمان العلم بالموت، أو بلوغ خبره.

عن (العياشي): عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت هذه الآية، جئن النّساء يخاصمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قلن: لا نصبر. فقال لهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كانت إحداكنّ إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها(1) ثمّ قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتّتها، ثمّ اكتحلت بها، ثمّ تزوّجت. فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر »(2).

عن الصادق عليه السّلام: «لأنّ حرقة المطلّقة تسكن في ثلاثة أشهر، و حرقة المتوفّى عنها [زوجها] لا تسكن إلاّ في أربعة أشهر و عشرا »(3).

و قيل: إنّ الحكمة في هذا التّقدير أنّ الجنين في الغالب يتحرّك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا، و لأربعة أشهر إن كان انثى، فأعتبر أقصى الأجلين، و زيد عليه العشر استظهارا، و ربّما(4) تضعف حركته في البادئ فلا يحسّ بها(5).

ص: 479


1- زاد في المصدر: في خدرها.
2- تفسير العياشي 489/237:1.
3- علل الشرائع: 2/508.
4- في تفسير البيضاوي: إذ ربما.
5- تفسير البيضاوي 126:1.

فَإِذا بَلَغْنَ النّساء أَجَلَهُنَّ المضروب لعدّتهنّ ، و انقضت المدّة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها المؤمنون، و الأولياء، و الحكّام فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التّزيين و التّزويج إذا كان بِالْمَعْرُوفِ

المقرّر في الشرع، و ليس لأحد منعها من التعرّض للتّزويج، و سائر محرّمات المعتدّة وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

سورة البقرة (2): الآیات 235 الی 237

اشارة

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

سورة البقرة (2): آیة 235

ثمّ بيّن اللّه تعالى بعض أحكام عدّة البائنة بقوله: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ و لوّحتم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ المعتدّات، و طلب نكاحهنّ .

في جواز التعرّض بالنكاح في العدّة

و حاصل الآية - و اللّه العالم - أنّه لا بأس بإظهار الميل إلى نكاح المعتدّات في عدّتهنّ ، بالإشارة من غير صراحة، كأن يقول لها: إنّك جميلة، أو صالحة، و إنّي راغب إلى نكاح امرأة متّصفة بصفة كذا، و يذكر بعض صفاتها، و أمثال ذلك ممّا يوهم أنّه راغب إلى نكاحها، و لا يصرّح بالنكاح.

أَوْ أَكْنَنْتُمْ و أضمرتم فِي أَنْفُسِكُمْ و قلوبكم من التّصميم على تزوّجهنّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ لا محالة سَتَذْكُرُونَهُنَّ و تنطقون برغبتكم في نكاحهنّ لمالهنّ أو جمالهنّ ، و لا تصبرون على السّكوت و عدم إظهار الرّغبة فيهنّ ، لخوف أن يسبق إليهنّ غيركم، و فيه تعريض على ضعف نفوسهم، و قلّة ثباتهم.

ص: 480

فإذا كان الأمر كذلك، فاذكروهنّ بالتّعريض و التّلويح وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ في مكان سِرًّا

للتّصريح بالخطبة، و لا يصدر منكم شيء في الموعد إِلاّ أَنْ تَقُولُوا فيه لهنّ قَوْلاً مَعْرُوفاً لا ينكره الشّرع، و هو التّعريض بالنكاح.

عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية: وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً

فقال: «هو الرّجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدّتها: أواعدك بيت آل فلان، ليعرّض لها بالخطبة.

فعنى بقوله: إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً التّعريض بالخطبة »(1).

نقل أنّ الرّجل كان يدخل على المرأة و هو يعرّض بالنكاح، فيقول لها: دعيني اجامعك، فإذا أتممت عدّتك أظهرت نكاحك، فإنّه تعالى نهى عن ذلك(2).

ثمّ نهى اللّه تعالى عن إيقاع عقد النّكاح بنحو أبلغ بقوله: وَ لا تَعْزِمُوا و لا تقصدوا، أو لا تواجبوا عُقْدَةَ النِّكاحِ و رابطته و علاقته حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ و هو العدّة المكتوبة أَجَلَهُ و آخره، فإذا بلغ فلا بأس في إيجاب العقد.

ثمّ أردف النهي بالتّهديد بقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ و قلوبكم من نيّات السّوء فَاحْذَرُوهُ في مخالفته سرّا و علانيّة وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ في مورد المغفرة حَلِيمٌ في مورد العقوبة، لا يعجل بها، فلا تغترّوا بتأخيرها.

في أنّ المطلقة ليس لها مهر إذا طلقت قبل الدخول، و إنّما يجب إمتاعها بشيء

سورة البقرة (2): آیة 236

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن جملة من أحكام المطلّقة، المدخول بها، المسمّى لها المهر، ذكر حكم المطلّقة التي لم يدخل بها، و لم يسمّ لها مهر، بقوله: لا جُناحَ و لا تبعة عَلَيْكُمْ من حيث المهر، بل و لا من جهة الانتظار و التربّص بالأطهار، فإنّ غير المدخول بها تطلّق على كلّ حال إِنْ طَلَّقْتُمُ و فارقتم اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ

و من قبل أن تجامعوهنّ أَوْ تَفْرِضُوا أي إلاّ أن تقدّروا و تسمّوا لَهُنَّ فَرِيضَةً و مهرا مقدّرا في ضمن العقد.

و الحاصل: أنّه لا تستحقّ الزّوجة المهر إلاّ باشتراط المهر في العقد، أو بالدّخول مع عدم الاشتراط ، فإن اشترط و طلّق قبل الدّخول بها فلها النّصف، و إن لم يشترط و دخل بها فمهر المثل. هذا ممّا اتّفق عليه النصّ و الفتوى.

ص: 481


1- الكافي 1/434:5.
2- تفسير الرازي 132:6.

ثمّ أنّه تعالى بعد نفي استحقاق المهر، أثبت لهنّ حقّ المتعة وجوبا بقوله: وَ مَتِّعُوهُنَّ بشيء من أموالكم و أعطوهنّ منها ما ينتفعن به.

في رواية عن الباقر عليه السّلام: «فإنّهنّ يرجعن بكآبة و حرقة(1) و همّ عظيم و شماتة من أعدائهنّ ، فإنّ اللّه عزّ و جلّ كريم يستحي، و يحبّ أهل الحياء، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراما لحلائلهم »(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ متعة المطلّقة فريضة »(3).

و عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل عن الرّجل يريد أن يطلّق امرأته قبل أن يدخل بها، قال: «يمتّعها قبل أن يطلّقها، فإنّ اللّه تعالى قال: وَ مَتِّعُوهُنَّ » الآية(4).

و هذه المتعة واجبة عَلَى الْمُوسِعِ و الغنيّ الذي هو في سعة من المال قَدَرُهُ و حدّ سعته وَ عَلَى الْمُقْتِرِ و الفقير قَدَرُهُ و وسعه، و على قدر حاله مَتاعاً أي تمتيعا مقرونا بِالْمَعْرُوفِ و بالوجه الذي تستحسنه الشّريعة و المروءة.

و هذا التمتّع يحقّ حَقًّا و يفرض فرضا عَلَى الْمُحْسِنِينَ على أنفسهم بفعل الطّاعات، و اجتناب المعاصي.

عن (فقه الرضا عليه السّلام): «يمتّعها بشيء قلّ أو كثر، على قدر يساره، فالموسع يمتّع بخادم أو دابّة، و الوسط بثوب، و الفقير بدرهم أو خاتم »(5).

و عن (الفقيه)، روي أنّ الغنيّ يمتّع بدار أو خادم، و الوسط بثوب، و الفقير بدرهم أو خاتم(6).

و روي أنّ أدناه الخمار و شبهه(7).

في أنّ المطلقة غير المدخول بها إذا فرض لها مهر، لا تستحقّ أزيد من نصف المهر المفروض

و في خبر الحلبي: «إن كان الرّجل موسعا؛ عليه أن يمتّع امرأته العبد و الدّابّة، و الفقير(8)

يمتّع بالحنطة و الزّبيب و الثّوب و الدرهم...» الخبر (9).و الظّاهر أنّ جميع ما ذكر في الرّوايات خارج مخرج التّمثّل.

سورة البقرة (2): آیة 237

ثمّ بيّن سبحانه حكم القسم الثّالث من المطلّقات من حيث المهر و هي التي لم يدخل بها و قد سمّى لها المهر بقوله: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ

ص: 482


1- في من لا يحضره الفقيه: و وحشة.
2- من لا يحضره الفقيه 1580/327:3.
3- التهذيب 490/141:8.
4- التهذيب 489/141:8.
5- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام: 242.
6- من لا يحضره الفقيه 1582/327:3.
7- من لا يحضره الفقيه 1583/327:3.
8- في الكافي: و المقتر.
9- الكافي 3/105:6.

و تدخلوا بهنّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ و سمّيتم في ضمن عقد النّكاح لَهُنَّ فَرِيضَةً و مهرا مقدّرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ من المهر يستقرّ في ملكهنّ و يرجع إليكم النّصف الآخر. فحينئذ يجب عليكم إعطاء ما استقرّ للمطلّقات في كلّ حال إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أزواجهنّ من النّصف، بأن يبذلنها لهم و لا يطالبنهم إن كنّ كبارا غير مولّى عليهنّ أَوْ يَعْفُوَا من النّصف الوليّ اَلَّذِي بِيَدِهِ و في سلطنته عُقْدَةُ النِّكاحِ و هو الأب، و الجدّ للأب، إذا كنّ قاصرات عن التّصرّف، كالصّغيرة و المجنونة، هذا هو المعروف بين الإماميّة، و تضافرت به أخبار أهل البيت عليهم السّلام.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو الزوج »(1).و عليه جلّ العامّة، سوى الشّافعي (2).و معنى عفو الزوج إعطاء جميع المهر.

و عن جبير بن مطعم، أنّه تزوّج امرأة و طلّقها قبل الدّخول، و أكمل لها الصّداق، و قال: أنا أحقّ بالعفو(3).

وَ أَنْ تَعْفُوا أيّها المطلّقات و الأولياء، و يمكن إدخال الزّوج في الخطاب على التفسير الثاني، و تذكير الخطاب لتغليب جانب الذّكور، فيكون المراد أنّ العفو من الزوج و الزوجة و أوليائها أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإنّ من سمح بحقّه الحلال يكون أقرب إلى ترك الظّلم، و التجنّب عن المال الحرام و سائر المعاصي.

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام، أنّه حلف على ضرب غلامه، فلم يف به، فلمّا سئل عنه قال: «أ ليس اللّه يقول: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ؟ ...»الخبر (4).و فيه تنبيه على أنّ حسن العفو لا يختصّ بالمهر، بل يعمّ جميع ما يليق للعفو.

ثمّ لمّا كان الطّلاق قبل المسيس سببا لتأذّي المرأة، و إعطاء نصف المهر قبل الدّخول موجبا لتأذّي الزّوج، أكّد اللّه تعالى الأمر بالعفو و الإحسان بالنهي عن ترك التفضّل بقوله: وَ لا تَنْسَوُا و لا تتركوا اَلْفَضْلَ و الإحسان فيما بَيْنَكُمْ .

ثمّ بعد التأكيد أردفه بالوعد بقوله: إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يكاد يضيع عملكم من التّفضّل و الإحسان. و يحتمل أن تكون الجملة تهديدا على ترك التفضّل.

ص: 483


1- تفسير الصافي 245:1.
2- مجمع البيان 597:2.
3- تفسير البيضاوي 128:1.
4- الكافي 4/460:7.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يأتي [على النّاس] زمان عضوض يعضّ كلّ امرئ على ما في يديه، و ينسون الفضل بينهم، قال اللّه تعالى: وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » (1).

سورة البقرة (2): الآیات 238 الی 239

اشارة

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

سورة البقرة (2): آیة 238

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ما يوجب الفصل بين الأزواج و أحكامه، ذكر ما يوجب الوصل بين ذاته تعالى و بين خلقه بقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ .

و يحتمل وجه آخر للنّظم، هو أنّه تعالى لمّا بيّن جملة من أحكام الشّرع، و بالغ في التّهديد على مخالفتها، بيّن ما يستعان به على الطّاعة و زوال كلفة امتثالها؛ و هو الصّلاة كما قال: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (2) الآية، و ما يوجب الرّدع عن مخالفتها، كما قال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (3).

و المراد من المحافظة المداومة عليها، و مراعاة أوقاتها و شرائطها و حدودها.

و عن الصادق عليه السّلام: الصّلوات الخمس المفروضات، من أقام حدودهنّ ، و حافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه يوم القيامة و له عنده عهد يدخله به الجنّة، و من لم يقم حدودهنّ ، و لم يحافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه و لا عهد له، إن شاء عذّبه و إن شاء غفر له »(4).

و عن (الكافي): عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «لا يزال الشّيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على الصّلوات الخمس، فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فأدخله في العظائم »(5).

و عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الصّلاة إذا ارتفعت في(6) وقتها، رجعت إلى صاحبها و هي بيضاء مشرقة، تقول:

حفظتني حفظك اللّه، و إذا ارتفعت في غير وقتها، بغير حدودها، رجعت إلى صاحبها سوداء مظلمة، تقول: ضيّعتني ضيّعك اللّه »(7).

و عن القمّي، عن الصادق عليه السّلام، في رواية تفسير المحافظة، قال: «هو إقبال الرّجل على صلاته حتى

ص: 484


1- تفسير العياشي 517/244:1.
2- البقرة: 45/2.
3- العنكبوت: 45/29.
4- الكافي 1/267:3.
5- الكافي 8/269:3.
6- زاد في الكافي: أول.
7- الكافي 4/268:3.

لا يلهيه و لا يشغله عنها شيء »(1).

في تعيين المراد من الصلاة الوسطى

ثمّ خصّ من بين الصّلوات أفضلهنّ ، بالأمر بالمحافظة، اهتماما بشأنها بقوله:

وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى التي هي أفضل الصّلوات المفروضات.

في (الكافي) و (التهذيب): عن الباقر عليه السّلام، قال: «هي صلاة الظّهر، و هي أوّل صلاة صلاّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هي وسط النّهار، و وسط صلاتين بالنّهار؛ صلاة الغداة و صلاة العصر »(2).

و في بعض القراءات: (حافظوا على الصّلوات و الصّلاة الوسطى و(3) صلاة العصر و قوموا للّه قانتين)(4) و العطف دالّ على المغايرة.

قال (5): «نزلت هذه الآية يوم الجمعة، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفر، فقنت فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(6)

و تركها على حالها في السفر و الحضر، و أضاف للمقيم ركعتين، و إنّما وضعت الرّكعتان اللّتان أضافهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الجمعة للمقيم، لمكان الخطبة مع الإمام، فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة، فليصلّها أربع ركعات، كصلاة الظّهر في سائر الأيام »(7) ،الخبر.

و بهذا التّفسير وردت عن أهل البيت عليهم السّلام روايات متضافرة، و ادّعى عليه بعض الأساطين إجماع الإماميّة.

و قيل: إنّها صلاة الفجر، و استدلّوا عليه بقوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (8) حيث إنّه فسّر بصلاة الفجر(9).

و قيل: إنّها صلاة العصر، و رواه العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام(10).

و روي عنه عليه السّلام قال: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال يوم الخندق: شغلونا عن الصّلاة الوسطى، ملأ اللّه بيوتهم و قبورهم نارا »(11).

و في رواية: «شغلونا عن الصّلاة الوسطى، صلاة العصر »(12).

ص: 485


1- تفسير القمي 79:1.
2- الكافي 21/271:3، التهذيب 954/241:2.
3- (و) ليس في الكافي و التهذيب.
4- الكافي 21/271:3، التهذيب 954/241:2.
5- أي الإمام الباقر عليه السّلام في تتمة الرواية المتقدمة.
6- (رسول اللّه عليه السّلام) ليس في التهذيب.
7- الكافي 1/271:3، التهذيب 954/241:2.
8- الإسراء: 78/17.
9- مجمع البيان 599:2.
10- مجمع البيان 599:2، تفسير الرازي 150:6.
11- تفسير الرازي 150:6.
12- تفسير الرازي 150:6.

و استدلوا أيضا بما روي فيها من التأكيدات ممّا لم يرد في غيرها، قال صلّى اللّه عليه و آله: «من فاته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله »(1).

و أيضا أقسم اللّه تعالى بها فقال: وَ الْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) فدلّ على أنّها أحبّ السّاعات إلى اللّه تعالى (3) ،و أيّدوه بوجوه اعتباريّة.

و الحقّ هو الأوّل، و ما سواه في غاية الوهن.

و قيل: إنّ اللّه تعالى أخفاها في الصّلوات الخمس، ليصير اختصاصها بالفضل موجبا لزيادة الاهتمام بجميع الصّلوات.

نقل عن الرّبيع بن خيثم أنّه سئل عنها فقال: يا ابن عمّ ، الوسطى واحدة منهنّ ، حافظ على الكلّ تكن محافظا على الوسطى. ثمّ قال الربيع: لو علمتها بعينها لكنت محافظا لها و مضيّعا لسائرهنّ (4).

وَ قُومُوا خالصين لِلّهِ في صلواتكم حال كونكم قانِتِينَ داعين في قيامكم. و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام(5).

و قيل: أي: مطعين، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو الطّاعة »(6).

سورة البقرة (2): آیة 239

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ المحافظة على الأجزاء و الشّرائط مخصوصة بحال الأمن، بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ

من عدوّ، أو لصّ ، أو سبع، أو غيره فَرِجالاً ماشين صلّوا أَوْ رُكْباناً سائرين.

عن (الفقيه): عن الصادق عليه السّلام، في صلاة الزّحف، قال: «تكبير و تهليل»، ثمّ تلا الآية(7).

و عنه عليه السّلام: «إن كنت في أرض مخوفة، فخشيت لصّا أو سبعا، فصلّ الفريضة [و أنت] على دابّتك »(8).

و في رواية: «الذي يخاف اللصوص يصلّي إيماء على دابّته »(9).

فَإِذا أَمِنْتُمْ على أنفسكم من المخوفات فَاذْكُرُوا اللّهَ و صلّوا كَما عَلَّمَكُمْ من صلاة الأمن ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ .

قيل: إنّما عبّر سبحانه عن الصّلاة بالذّكر لكونه معظم أركانها، أو لأنّه روحها.

ص: 486


1- تفسير الرازي 151:6.
2- العصر: 1/103 و 2.
3- تفسير الرازي 151:6.
4- تفسير الرازي 147:6.
5- مجمع البيان 600:2 «نحوه».
6- تفسير الرازي 152:6.
7- من لا يحضره الفقيه 1344/295:1.
8- من لا يحضره الفقيه 1345/295:1.
9- من لا يحضره الفقيه 1346/295:1.

و قيل: إنّ المراد: فاشكروا اللّه شكرا يوازي تعلّمكم الشّرائع، التي منها كيفيّة صلاة الخوف و الأمن(1).

سورة البقرة (2): الآیات 240 الی 242

اشارة

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

سورة البقرة (2): آیة 240

ثمّ بيّن سبحانه حكم نفقة المتوفّى عنها زوجها، بقوله: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ و يشرفون على الموت مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ و يتركون من بعدهم أَزْواجاً يجب عليهم أن يوصوا وَصِيَّةً نافعة لِأَزْواجِهِمْ و هي أن يتمتّعن من تركة أزواجهنّ مَتاعاً و نفقا كافيا لهنّ إِلَى الْحَوْلِ الكامل من حين الوفاة، حال كونهنّ مقيمات في بيوت أزواجهنّ غَيْرَ إِخْراجٍ أي مخرجات منها.

فلا تدلّ الآية إلى هنا على أنّ عدّة الوفاة كانت سنة، بل ظاهرها وجوب الوصيّة على الزّوج، بالإنفاق و الإسكان إلى الحول، و هذا منسوخ بآية الإرث، و إن قلنا بعدم الدّلالة على الوجوب بل على الجواز و الاستحباب، فحكمها باق بلا نسخ.

و لكنّ قوله تعالى: - فَإِنْ خَرَجْنَ من منزل أزواجهنّ باختيارهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها المؤمنون فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ الزّينة و الزّواج، و هو ما لا يكون في الشّرع منهيّا، بناء على كون المراد من عدم الجناح بعد الخروج: عدم وجوب نهيهنّ عن الزّينة و التّزوّج، إن خرجن بعد تمام الحول - يدلّ على وجوب الحداد و ترك التّزوّج قبل تمام الحول، و وجوب نهيهنّ عنهما، فتكون عدّة الوفاة تمام الحول، و يكون منسوخا بآية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً (2).

و إن كان المراد من الخروج: قبل تمام الحول، يكون محمولا على ما بعد أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً

و لا نسخ أيضا.

و في عدّة روايات عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «هي منسوخة، نسختها آية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ

ص: 487


1- تفسير روح البيان 373:1.
2- البقرة: 234/2.

أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و نسختها آية الميراث »(1).

و روي بطريق عامّي: أنّ رجلا من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة و له أولاد، و معه أبواه و امرأته و مات، فأنزل اللّه هذه الآية، فاعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله والديه و أولاده من ميراثه، و لم يعط امرأته شيئا، و أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا.

و كانت عدّة الوفاة في بدو الإسلام حولا، و كان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، و كانت نفقتها و سكناها واجبة من مال زوجها ما لم تخرج و لم يكن لها ميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، و كان على الرّجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتّى نزلت الآية(2) فنسخ اللّه تعالى نفقة الحول بالرّبع عند عدم الولد، و الثّمن مع الولد(3).

وَ اللّهُ عَزِيزٌ و غالب على خلقه، قادر على الانتقام ممّن خالفه حَكِيمٌ يراعي مصالح العباد في أحكامه و شرائعه.

سورة البقرة (2): آیة 241

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان متاع المتوفّى عنها زوجها - و إن كان منسوخا - بيّن متاع المطلّقة بقوله:

وَ لِلْمُطَلَّقاتِ البائنات، أو مطلقا و لو كنّ رجعيّات مَتاعٌ و تمتّع بِالْمَعْرُوفِ عند الشّرع، و العادة. و هذا التّمتيع يحقّ حَقًّا و يثبت ثبوتا عَلَى الْمُتَّقِينَ فإنّ من لوازم التّقوى التّبرّع بالمتعة تطييبا لقلبها و إزالة لضعفها.

في استحباب امتاع المطلّقات مطلقا

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في رجل يطلّق امرأته أ يمتّعها؟ قال: «نعم، أ ما يحبّ أن يكون من المحسنين، أ ما يحبّ أن يكون من المتّقين »(4).

عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في الرّجل يطلّق امرأته قبل أن يدخل بها، قال: «عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، و إن لم يكن فرض لها شيئا فليمتّعها على نحو ما يمتّع به مثلها من النّساء»(5)

الخبر، و هذا محمول على إرادة مثلها باعتبار حال الزّوج.

عن الطبرسي، في قوله تعالى: وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (6) قال: «إنّما

ص: 488


1- تفسير العياشي 529/247:1، مجمع البيان 602:2، تفسير الصافي 248:1.
2- في تفسير روح البيان: نزلت آية الميراث.
3- تفسير روح البيان 375:1، و فيه: الولد و ولد الابن و الثّمن عند وجودهما.
4- تفسير العياشي 499/240:1، الكافي 1/104:6.
5- الكافي 3/106:6.
6- البقرة: 236/2.

تجب المتعة للتي لم يسمّ لها صداق خاصّة »(1).و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام - إلى أن قال -: و عن ابن عبّاس، قال: هذا إذا لم يكن [قد] سمّى لها مهرا، فإذا فرض لها صداق فلها نصفه، و لا تستحق المتعة. قال: و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن أبي الصبّاح (2) ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إذا طلّق الرّجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها، و إن لم يكن فرض لها مهرا فمتاع بالمعروف»(3) الخبر. و هذا إذا لم يدخل بها، و إلاّ فمهر المثل.

فعلى هذا، فالآية و الأخبار المطلّقة محمولة في غير المفوّضة على الاستحباب المؤكّد، كرواية الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في قوله تعالى: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ قال:

«متاعها بعد ما تنقضي عدّتها على الموسع قدره، و على المقتر قدره. و كيف [لا] يمتّعها و هي في عدّتها ترجوه و يرجوها، و يحدث اللّه عزّ و جلّ بينهما ما يشاء»(4) الحديث.

سورة البقرة (2): آیة 242

كَذلِكَ التّبيين و التّوضيح يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدّالّة على التّوحيد، و صفاته لَعَلَّكُمْ بدلالتها تخرجون عن حدّ السّفاهة تَعْقِلُونَ و تفهمون إن لكم إليها(5) منه بدؤكم، و إليه عودكم و إيابكم، و عليه حسابكم.

سورة البقرة (2): الآیات 243 الی 244

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

سورة البقرة (2): آیة 243

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان جملة من الأحكام، ذكر قضيّة دالّة على وحدانيّته، و كمال قدرته، و صدق نيّته في دعوى نبوّته، لأنّها إخبار بالغيب، و فيها دلالة على إمكان المعاد، ليفيد المستمع اليقين و الاعتبار، و التّجنّب عن التمرّد و العناد، و يزيده الخضوع و الانقياد.

و لمّا كان إخبار اللّه تعالى - لقوّة تأثيره في العلم - بمنزلة الرؤية و المشاهدة لما أخبر به، و كان نور

ص: 489


1- مجمع البيان 595:2، تفسير الصافي 249:1.
2- في النسخة: أبي الصلاح، و ما أثبتناه من تفسير العياشي، راجع معجم رجال الحديث 189:21.
3- تفسير العياشي 500/240:1.
4- الكافي 3/105:6.
5- كذا، و لعلها: و تفهمون بها أن.

نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في عالم الأشباح محيطا و مشاهدا لجميع وقائع هذا العالم، خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: أَ لَمْ تَرَ و لم تنظر إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و قيل: المراد أ لم ينته علمك إليهم ؟ (1)وَ هُمْ أُلُوفٌ

كثيرة حَذَرَ الْمَوْتِ و لأجل الفرار منه فَقالَ لَهُمُ اللّهُ أو بلسان ملك مُوتُوا و إسناده إلى ذاته المقدّسة للتّهويل و التّخويف، أو المراد من القول و صورة الأمر تعلّق إرادته التّكوينيّة بموتهم، كما كنّى عن إرادة الإيجاد بقوله: كُنْ فماتوا جميعا دفعة في مكانهم ثُمَّ أَحْياهُمْ .

عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام، و كانوا سبعين ألف بيت، و كان الطّاعون يقع فيهم في كلّ أوان، فكانوا كلّما أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم، و بقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا، و يقل في الذين خرجوا، فيقول الذين خرجوا:

لو كنّا أقمنا لكثر فينا الموت. و يقول الذين أقاموا: لو كنّا خرجنا لقلّ فينا الموت. فاجتمع رأيهم جميعا على أنّه إذا وقع طاعون [فيهم] و أحسّوا به خرجوا كلّهم من المدينة، فلمّا أحسّوا بالطّاعون خرجوا جميعا، و تنحّوا عن الطّاعون حذر الموت، فساروا في البلاد ما شاء اللّه.

ثمّ أنّهم مرّوا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها و أفناهم الطّاعون، فنزلوا بها، فلمّا حطّوا رحالهم و اطمأنّوا قال لهم اللّه عزّ و جلّ : موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما يلوح، و كانوا على طريق المارّة، فكنسهم المارّة و نحّوهم و جمعوهم في موضع، فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل، فلمّا رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم السّاعة كما أمتّهم، فعمّروا بلادك و ولدوا عبادك و عبدوك مع من يعبدك من خلقك، فأوحى اللّه تعالى إليه:

أ فتحبّ ذلك ؟ قال: نعم يا ربّ ، قال: فأوحى اللّه عزّ و جلّ [إليه] أن قل كذا و كذا، فقال الذي أمره اللّه عزّ و جلّ أن يقوله - قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و هو الاسم الأعظم - فلمّا قال حزقيل ذلك نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض، فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض؛ يسبّحون اللّه عزّ و جلّ ، و يكبّرونه و يهلّلونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أنّ اللّه على كلّ شيء قدير».

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «فيهم نزلت هذه الآية »(2).

أقول: تدلّ الرواية على أنّ الإماتة كانت عقوبة لهم.

و في رواية عن الباقر عليه السّلام، أنّه سئل: أماتهم، أم ردّهم إلى الدّنيا حتى سكنوا الدّور، و أكلوا الطّعام ؟

ص: 490


1- تفسير روح البيان 377:1.
2- الكافي 237/198:8.

قال: «لا بل ردّهم اللّه حتى سكنوا الدّور، و أكلوا الطّعام، و نكحوا النّساء، و مكثوا بذلك ما شاء اللّه، ثمّ ماتوا بآجالهم »(1).

و روي أنّ حزقيل ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا، فأرسل اللّه عليهم الموت، فلمّا كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلمّا رأى حزقيل ذلك قال: اللّهمّ إله يعقوب و إله موسى ترى خطيئة عبادك، فأرهم آية في أنفسهم تدلّهم على نفاذ قدرتك، و أنّهم لا يخرجون من قبضتك. فأرسل اللّه عليهم الموت، ثمّ أنّه عليه السّلام ضاق صدره بسبب موتهم، فدعا مرّة اخرى، فأحياهم اللّه(2).

و روي عن ابن عبّاس أنّ ملكا من ملوك بني إسرائيل، أمر عسكره بالقتال، فخافوا القتال، و قالوا لملكهم: إنّ الأرض التي تذهب إليها فيها الوباء، و نحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء، فأماتهم اللّه تعالى بأسرهم، و بقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا. و بلغ بني إسرائيل موتهم، فخرجوا لدفنهم، فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم حظائر. فأحياهم اللّه بعد الثّمانية، و بقي فيهم شيء من ذلك النّتن، و بقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم(3).

و قيل: إنّ حزقيل هو ذو الكفل؛ لأنّه تكفّل بشأن سبعين نبيّا و أنجاهم من القتل (4).و لعلّ المراد من ملك بني إسرائيل - في رواية ابن عبّاس - هو حزقيل.

و قيل: إنّه ثالث أوصياء موسى عليه السّلام، و كان أوّلهم يوشع بن نون، و ثانيهم كالب بن يوحنّا، و ثالثهم حزقيل بن يوزا، و يقال له: ابن العجوز، لأنّ امّه كانت عجوزا، فسألت اللّه ولدا بعد ما كبرت و عقمت، فوهبه اللّه لها.

إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ جميعا، حيث إنّه بتلك الإماتة و الإحياء عرّفهم نفسه بالقدرة الكاملة، و الرّحمة الشاملة، و حثّهم على التّوكّل و التّسليم و الإذعان بالمعاد وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ

لانهماكهم في الشّهوات لا يَشْكُرُونَ فضله و إحسانه، و لا يعتبرون بهذه الآيات، و لا ينتفعون بها.

سورة البقرة (2): آیة 244

و قيل: إنّ اللّه سبحانه ساق القصّة للحثّ على الجهاد، لدلالة قوله بعده: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ

و نصرة دينه لإعلاء كلمته، فإنّ الفرار من الموت ليس بمنج منه، كما قال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا

ص: 491


1- مجمع البيان 605:2.
2- تفسير الرازي 163:6.
3- تفسير الرازي 162:6.
4- تفسير الرازي 164:6.

يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ (1) فلا تتركوا الجهاد بسبب خوف الموت وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ لمقالكم في التّرغيب إلى الجهاد و التّرهيب منه عَلِيمٌ بما في قلوبكم من الدّواعي الدّينيّة و الدّنيويّة.

سورة البقرة (2): آیة 245

اشارة

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

سورة البقرة (2): آیة 245

ثمّ لمّا كان الجهاد موقوفا على الإنفاق على نفسه، و على غيره من

العاجزين عن نفقة السّفر و مئونة الجهاد، أردف الأمر بالجهاد بالتّرغيب الأكيد في أداء الصّدقات بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ بالإنفاق على الفقراء من المؤمنين بإخلاص النيّة و طيب النّفس قَرْضاً حَسَناً و مالا حلالا طيبا. و إطلاق القرض على الصّدقة باعتبار أنّ الصّدقة قطع قطعة من المال عن نفسه، بعوض الأجر الموعود من اللّه.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «من تصدّق بصدقة، فله مثلها في الجنّة». فقال أبو الدحداح - و اسمه عمر(2)

بن الدحداح -: [يا رسول اللّه] إنّ لي حديقتين، إن تصدّقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنّة ؟ قال:

«نعم»، قال: و امّ الدحداح معي ؟ قال: «نعم »(3).

و في رواية قال: و الصّبية معي ؟ قال: «نعم». فتصدّق بأفضل حديقتيه(4).

و في رواية ابن عبّاس: كانت تسمّى الحنينة، فدفعها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فضاعف اللّه صدقته ألفي ألف، و ذلك قوله تعالى: أَضْعافاً كَثِيرَةً .

قال: فرجع أبو الدحداح، فوجد امّ الدحداح و الصّبية في الحديقة التي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة، فكره أن يدخلها، فنادى: يا امّ الدحداح، قالت: لبّيك يا أبا الدحداح، قال: إنّي قد جعلت حديقتي صدقة، [و اشتريت مثليها في الجنّة و امّ الدحداح معي و الصّبية معي] قالت: بارك اللّه في ما شريت و في ما اشتريت. فخرجوا منها، و أسلموا الحديقة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(3).

فَيُضاعِفَهُ لَهُ في الأجر و الثّواب أَضْعافاً كَثِيرَةً لا يعلمها إلاّ اللّه. و قيل: الواحد بسبعمائة؛ نظرا إلى قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ (4).

ص: 492


1- النساء: 78/4.
2- في مجمع البيان: عمرو. (3و4) مجمع البيان 608:2.
3- مجمع البيان 608:2، تفسير الرازي 166:6.
4- البقرة: 261/2.

و عن (المعاني): عن الصادق عليه السّلام: «لمّا نزلت: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (1) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ زدني، فأنزل اللّه سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (2).فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ زدني، فأنزل اللّه عز و جل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ الكثير من اللّه لا يحصى و ليس له منتهى »(3).

و عن (الكافي): عنه عليه السّلام، قال: «ما من شيء أحبّ إلى اللّه من اخراج الدّرهم إلى الإمام، و إنّ اللّه ليجعل له الدّرهم في الجنّة مثل جبل احد».

ثمّ قال: «إنّ اللّه يقول في كتابه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً إلى قوله: أَضْعافاً كَثِيرَةً قال:

هو و اللّه في [صلة] الإمام»(4) الخبر.

ثمّ أزال خوف الفقر عن القلوب، بقوله: وَ اللّهُ يَقْبِضُ و يمنع عن الخلق وَ يَبْصُطُ و يوسّع عليهم، فإنّ الغنى و الفقر بتقدير اللّه و بيده، فلا يفقركم الإعطاء، و لا يغنيكم البخل، فتزوّدوا في يومكم هذا ليوم لقاء اللّه، فإنّكم إليه تقلبون وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيوفّي ما اقترض منكم بأحسن وفاء، و يجازيكم بأوفر جزاء.

و فيه تنبيه على أنّ الغنيّ يفارق ماله بالموت، فليبادر إلى الإنفاق قبل الفوت، و في تأخير البسط عن القبض إشارة إلى أنّ اللّه تعالى قد يوسّع على العبد بعد التّقتير، ففيه التّسلية للفقراء.

سورة البقرة (2): الآیات 246 الی 247

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (246) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

ص: 493


1- النمل: 89/27.
2- الانعام: 160/6.
3- معاني الأخبار: 54/397.
4- الكافي 2/451:1، تفسير الصافي 251:1.

سورة البقرة (2): آیة 246

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمر بالقتال، ذكر قصّة مخالفة بني إسرائيل، و غلبة فئة قليلة منهم فئة كثيرة، ليعلم المؤمنون قبح مخالفة أمر الجهاد، و ليتّكلوا في النّصرة على اللّه لا على الكثرة و العدد و العدّة. و لعلّه لاظهار إحاطة قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - في عالم الأشباح - بجميع وقائع العالم من بدء الخلقة كما مرّ، قال مخاطبا له أَ لَمْ تَرَ إِلَى حال اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ و أشرافهم ؟ و هذا الاستفهام لتقرير من بلغ إليهم القصّة بالتواتر، أو العجب من شأن الملأ و هم كانوا مِنْ بَعْدِ وفاة مُوسى ابن عمران إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قيل: هو يوشع بن نون وصيّ موسى، و هو من ولد يوسف. و قيل: شمعون من ولد لاوي بن يعقوب. و قيل: إشموئل من بني هارون(1).

نقل أنّه لمّا ادّعى النبوّة كذّبه بنو إسرائيل، و قالوا له: إن كنت صادقا فأتنا بآية. و لمّا كان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، و طاعة الملوك لأنبيائهم، و كان الملك يسيّر الجموع، و النبيّ يقيم أمره، و يشير عليه، قالوا له: إن كنت نبيّا اِبْعَثْ و انهض لَنا مَلِكاً و أميرا نصدر عن رأيه و تدبيره في قتال كفّار العمالقة، حتى نُقاتِلْ معه فِي سَبِيلِ اللّهِ و نصرة دينه.

عن (العيّاشي): عن الصادق عليه السّلام قال: «فإنّ الملك في ذلك الزّمان هو الذي يسير بالجنود، و النبيّ يقيم له أمره و ينبئه بالخبر من عند ربّه »(2).

في استيلاء جالوت رأس العمالقة على بني إسرائيل بعصيانهم و تغييرهم دين اللّه و عتوّهم عن أوامره

عن الباقر عليه السّلام: «أنّ بني إسرائيل من بعد موسى عملوا بالمعاصي، و غيّروا دين اللّه، و عتوا عن أمر ربّهم، و كان فيهم نبيّ يأمرهم و ينهاهم، فلم يطيعوه، فسلّط اللّه عليهم جالوت، و هو من القبط ، فآذاهم و قتل رجالهم، و أخرجهم من ديارهم، و أخذ أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيّهم، و قالوا: اسأل اللّه تعالى أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه. و كانت النبوّة - في بني إسرائيل - في بيت، و الملك في بيت آخر، لم يجمع اللّه لهم النبوّة و الملك في بيت واحد، فمن ذلك قالوا: ابعث لنا ملكا»(3) الخبر.

قالَ النّبيّ هَلْ عَسَيْتُمْ و قاربتم إِنْ كُتِبَ و وجب عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا جبنا و خوفا، فإنّي أظنّ و أتوقّع جبنكم عن القتال.

قالُوا وَ ما العذر لَنا و أيّ داع يتصوّر في أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ و أن نترك نصرة دينه

ص: 494


1- تفسير الرازي 170:6.
2- تفسير العياشي 541/250:1.
3- تفسير القمي 81:1، بحار الأنوار 4/439:13.

وَ الحال أنّا قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا و طردنا من أوطاننا، و اغتربنا من أهلنا وَ أَبْنائِنا و كلّ من هذه المصائب و البليّات أقوى المهيّجات إلى القتال.

و قيل: إنّ جالوت كان رأس العمالقة و ملكهم، و هو من أولاد عمليق بن عاد، و كان هو و العمالقة يسكنون ساحل بحر الرّوم بين مصر و فلسطين، و ظهروا على بني إسرائيل، و أخذوا ديارهم، و سبوا أولادهم، و أسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة و أربعين نفسا و ضربوا عليهم الجزية و أخذوا توراتهم(1).

فَلَمّا كُتِبَ و فرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بعد دعاء النبيّ و بعث الملك، آل أمرهم إلى أن تَوَلَّوْا

و تخلّفوا عن القتال. قيل: لأنّهم علّلوا قتالهم بحظوظ النّفس، فخذلوا و ظلموا عند الامتحان إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ و هم ثلاثمائة و ثلاثة عشر، بعدد أصحاب بدر، و أصحاب القائم عليه السّلام وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ

على أنفسهم بالتّقاعد عن الجهاد.

في اصطفاء طالوت للسّلطنة

سورة البقرة (2): آیة 247

ثمّ بيّن اللّه تعالى تفضيل بعث الملك، و تولّي القوم بقوله: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بعد مراجعة اللّه و وحيه: إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فأطيعوه و قاتلوا عدوّكم معه.

روي أنّه عليه السّلام لمّا دعا ربّه أن يجعل لهم ملكا، أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلاّ طالوت(2).

قيل: إنّ اشموئيل(3) جاء بعصا و قرن فيه دهن القدس، قال: إنّ صاحبكم الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا، و نقل أنّه ضلّت حمير لأبي طالوت، فأرسله أبوه في طلبها، فمرّ ببيت إشموئل، فدخل عليه حتى يسأله عن الحمير، فقاسه طالوت بالعصا، فكان على طولها، فقال لطالوت: قرّب رأسك فقرّبه، فدهنه بدهن القدس، ثمّ قال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني اللّه أن املّكه عليهم، قال:

بأيّ آية ؟ قال: بآية أنّك ترجع و قد وجد أبوك حميره، فكان كذلك (4).ثمّ أخبر إشموئل بني إسرائيل بنصب طالوت للسلطنة.

و قيل: لمّا كانت السلطنة في بيت يهودا، و كان طالوت من سبط بنيامين، و كان سبط بنيامين قليلا مستحقرا بين بني إسرائيل.

قالُوا متعجّبين من قول النبيّ ، و منكرين له: أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ و السلطنة عَلَيْنا و كيف يمكن أن يكون ذلك وَ نَحْنُ لشرافة بيوتنا أَحَقُّ و أولى بِالْمُلْكِ و السّلطنة مِنْهُ فتقديم

ص: 495


1- تفسير أبي السعود 239:1.
2- تفسير أبي السعود 240:1.
3- في النسخة: الشموئل.
4- تفسير روح البيان 383:1.

غير المستحقّ على من هو أحقّ قبيح، كتقديم أبي بكر على عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام في الخلافة.

ثمّ اعترضوا ثانيا، بقولهم: وَ الحال أنّ طالوت لَمْ يُؤْتَ ثروة و لم يعط سَعَةً مِنَ الْمالِ

فيشرف بالمال إذا فاته شرف الحسب، بل هو فقير معدم، لا مال له كي يتقوّى به في تأسيس ملكه و سلطانه. قيل: كان راعيا، و قيل: مكاريا (1) ،و قيل: دبّاغا، و قيل: سقّاء(2).

قالَ النبيّ ردّا عليهم إِنَّ اللّهَ بحكمته اِصْطَفاهُ و استخلصه للملك و اختاره عَلَيْكُمْ

و ليس لكم أن تعترضوا على اللّه في ما اختاره و اصطفاه.

ثمّ بعد الجواب الإجمالي، شرع في الجواب التّفصيلي بقوله: وَ زادَهُ بَسْطَةً و سعة فِي الْعِلْمِ

بأحكام الدّين و سياسة الملك و شئون الحرب، وَ بسطة في اَلْجِسْمِ و عظمة في الجثّة، و طولا في القامة، و شدّة في البطش.

في أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان أحقّ بالخلافة من غيره

و توضيح الجواب: أنّ شرافة النّسب، و كثرة المال ليستا من الكمالات الحقيقيّة، و ممّا له دخل في لياقة الملك و أهليّة الإمارة، و إنّما الدّخيل في استحقاق هذا المنصب العلم بأحكام الدّين، و سياسة الملك، و عظمة الجسم، و كمال القوى، و الشّجاعة.

فبالعلم تدبّر المملكة و تنظم الامور، و بالجسامة تعظم مهابته في الأنظار، و بالشّجاعة يكايد الأعداء، و يقاوم في الهيجاء، و لذا كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أحقّ بالخلافة من سائر الصّحابة؛ لأنّه كان أعلم و أزهد و أشجع من جميع النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان بخلافته أولى، و هذا مع قطع النّظر عن اصطفائه [من قبل] اللّه و نصبه بالنصّ الصّريح على ولايته.

قيل: كان طالوت أطول من جميع بني إسرائيل برأسه و منكبه، حتى إنّ الرّجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه، و كان أجمل و أقوى من جميعهم.

وَ اللّهُ الذي بيده الملك و الملكوت يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ من عباده. و فيه دلالة على أن لا ملك لغيره وَ اللّهُ واسِعٌ حكمة و فضلا و رحمة، فيوسع على الفقير و يغنيه عَلِيمٌ بمصالح العالم و قابليّات بني آدم.

في اعتراض الفخر الرازي على الإمامة و جوابه

قال الفخر: هذه الآية تدلّ على بطلان قول من يقول: إنّ الإمامة موروثة (3) ،و لعلّ

ص: 496


1- المكاري: هو الذي يكري، أي: يؤجّر الدّواب - من البغال و الحمير - لغيره.
2- تفسير الرازي 173:6.
3- تفسير الرازي 173:6.

اعتراضه على أصحابنا الإمامية.

و فيه: أنّهم لا يقولون بأنّها موروثة، بل يقولون بأنّها منصوصة لمن كان في الأصلاب الشّامخة و الأرحام المطهّرة و النفوس الزّكيّة التي طهّرها اللّه من كلّ رجس.

ثمّ إنّا نقول: إنّ الآية تدلّ على بطلان إمامة من اختاره الخلق، و عدم أهليّة غير الأعلم و الأفضل، و من يقول: أقيلوني، و لست بخيركم و عليّ فيكم لها.

سورة البقرة (2): آیة 248

اشارة

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

سورة البقرة (2): آیة 248

ثمّ أنّه تعالى - بعد نصب طالوت للسلطنة؛ بإخبار النبيّ الذي كان قوله حجّة - جعل لقطع العذر، و دفع اعتراض بني إسرائيل، دليلا و آية على صدق النبيّ ، و كون سلطنة جالوت بنصبه، و هو ما أشار إليه بقوله: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ من قبل اللّه، و علامة سلطنته الإلهيّة أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ .

و قيل: إنّه قال ذلك بعد طلب بني إسرائيل من النبيّ آية على سلطنة طالوت.

في ذكر خصوصيات تابوت بني إسرائيل و آثاره

قيل: كان التّابوت صندوقا أنزله اللّه على موسى عليه السّلام، فوضعته امّه فيه فألقته في اليمّ ، فلمّا حضر موسى عليه السّلام الوفاة، وضع فيه ألواح التوراة و درعه و ما كان عنده من آيات النّبوّة، و أودعه يوشع بن نون وصيّه.

و نقل أنّ اللّه أنزل على آدام تابوتا، فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، ثمّ بقي في أيدي بني إسرائيل، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلّم و حكم بينهم، و إذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم، يستفتحون به على عدوّهم، و كانت الملائكة [تحمله] فوق العسكر و هم يقاتلون العدوّ، فإذا سمعوا من التّابوت صيحة استيقنوا بالنّصرة(1).

و روي أنّ سعته كانت ثلاثة أذرع في ذراعين(2).

و روي أنّه إذا وضع التّابوت بين المسلمين و الكفّار، فإن تقدّم التّابوت رجل، لا يرجع حتى يقتل أو

ص: 497


1- تفسير الرازي 176:6.
2- معاني الأخبار: 2/284.

يغلب، و من يرجع عنه كفر، و قتله الإمام (1).فلمّا عصوا و فسدوا و استخفّوا به - حتى إنّ الصّبيان كانوا يلعبون به في الطرقات و يستخفّون به - سلّط اللّه عليهم العمالقة، فغلبوهم على التّابوت، و سلبوه، فلمّا سألوا نبيّهم آية على ملك طالوت، قال ذلك النبيّ : إنّ آية ملكه أنّكم تجدون التّابوت في داره.

ثمّ أنّ الكفّار الذين سلبوا ذلك التّابوت، كانوا قد جعلوه في موضع البول و الغائط ، فدعا النبيّ في ذلك الوقت، فسلّط اللّه على اولئك الكفّار البلاء، حتّى إنّ كلّ من بال عنده أو تغوّط ، ابتلاه اللّه بالبواسير.

و نقل أنّه هلك من بلادهم خمس مدائن، فعلم الكفّار أنّ ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت، فأخرجوه و وضعوه على ثورين فأقبل الثّوران يسيران، و وكّل اللّه بهما أربعة من الملائكة يسوقونها حتى أتوا منزل طالوت، ثمّ أنّ قوم ذلك النبيّ رأوا التّابوت، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكا.

فعلى هذا، نسبة الإتيان إلى التّابوت من باب التّوسّع و المجاز، كما يقال ربحت التّجارة(2).

و عن ابن عبّاس: أنّ التّابوت صندوق، كان موسى يضع فيه التوراة، و كان من خشب، و كانوا يعرفونه، ثمّ أنّ اللّه رفعه بعد ما قبض موسى؛ لسخطه على بني إسرائيل، قال نبيّ اولئك القوم: إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التّابوت من السّماء(3).

عن الصادق عليه السّلام: «حيثما دار التّابوت في بني إسرائيل دار الملك، و أينما دار السلاح فينا دار العلم »(4).

و في رواية: «أنّ مثل السّلاح فينا مثل التّابوت في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل، أيّ أهل بيت وجد التّابوت على بابهم أوتوا النّبوّة، فمن صار إليه السّلاح منّا أوتي الإمامة »(5).

فِيهِ سَكِينَةٌ كائنة مِنْ رَبِّكُمْ سئل الكاظم عليه السّلام عن السّكينة ؟ فقال: «ريح تخرج من الجنّة، لها صورة كصورة الإنسان، و رائحة طيّبة، و هي التي نزلت على إبراهيم، فأقبلت تدور حول أركان البيت و هو يضع الأساطين »(6).

و في رواية اخرى: عنه عليه السّلام، قيل: و ما السّكينة ؟ قال: «روح اللّه يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء

ص: 498


1- تفسير القمي 82:1.
2- تفسير الرازي 176:6.
3- تفسير الرازي 176:6.
4- الكافي 2/185:1.
5- الكافي 1/185:1.
6- قرب الإسناد: 1327/373.

كلّمهم و أخبرهم ببيان ما يريدون »(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ السّكينة التي كانت فيه ريح هفّافة من الجنّة، لها وجه كوجه الإنسان »(2).

وَ فيه بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ عن الباقر عليه السّلام: «أنّ البقيّة عصا موسى و رضاض(3)

الألواح »(4).

و في رواية: عن الرضا عليه السّلام، قال: «كان فيه ألواح موسى التي تكسّرت، و الطّست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء »(5).

و في رواية: «البقيّة ذرّيّة الأنبياء»(6) و الظّاهر أنّ المراد من الذّرّيّة، ما بقي من الأنبياء.

ثمّ بيّن اللّه كيفيّة إتيان التّابوت بقوله: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ .

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام: «فجاءت به الملائكة تحمله »(7).

و في رواية: «يحمله ثوران و الملائكة تسوقهما »(8).

و في رواية: «لم تحمله الملائكة و لا الثوران، بل نزل من السّماء إلى الأرض، و الملائكة يحفظونه »(9).

إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إتيان التّابوت في منزل طالوت بحمل الملائكة لَآيَةً عظيمة، و معجزة باهرة لَكُمْ يا بني إسرائيل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشيء من الآيات.

ثمّ لمّا أذعنوا له بالملك جهّز الجيش لقتال العمالقة. روي أنّ طالوت قال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه، و لا تاجر مشتغل بالتّجارة، و لا متزوّج بامرأة لم يبن عليها، و لا أبغي إلاّ الشابّ النّشيط الفارغ. فاجتمع إليه ممّن اختار ثمانون ألفا(10).

سورة البقرة (2): آیة 249

اشارة

فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

ص: 499


1- معاني الأخبار: 2/285.
2- مجمع البيان 614:2.
3- في النسخة: رضراض، و الرّضاض: هو فتات الشيء و قطعه المتبقية بعد تحطّمه و تكسّره، أما الرضراض: فهو الصغير من الحجارة و الحصى.
4- مجمع البيان 614:2 عن الصادق عليه السّلام.
5- تفسير العياشي 546/253:1.
6- تفسير العياشي 545/252:1.
7- الكافي 498/316:8.
8- تفسير الرازي 176:6.
9- تفسير الرازي 176:6.
10- تفسير الرازي 179:6.

وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ (249)

سورة البقرة (2): آیة 249

فَلَمّا فَصَلَ و فارق و جاوز طالُوتُ البلد، و قيل: هو بيت المقدس مصاحبا بِالْجُنُودِ

و العساكر. قيل: كانوا ثمانين ألفا، و قيل: سبعون ألفا، و قيل: ثلاثون ألف مقاتل.

في بيان كيفية ابتلاء بني إسرائيل بنهر

قالَ طالوت عن نفسه، أو إخبارا عن نفسه، أو إخبارا عن النبيّ . و روي أنّ القائل للجنود هو النبيّ (1)

إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ و ممتحنكم بِنَهَرٍ حتى يعلم المجاهدين و الصّابرين.

عن ابن عبّاس: أنّه كان بين الأردن و فلسطين(2).

و قيل: كان الوقت قيظا، فسلكوا مفازة فسألوا أن يجري اللّه لهم نهرا فقال: إنّ اللّه مبتليكم بما اقترحتموه من النّهر (3)فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي و من أصحابي المطيعين وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ و لم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي و من أصحابي، و أهل طاعتي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً من الماء بِيَدِهِ فلا بأس بشرب غرفة واحدة، فاختصّ المنع بشرب يكون بوضع الفم في ماء النّهر.

روي عن ابن عبّاس: كانت الغرفة يشرب منها هو و دوابّه و خدمه، و يحمل منها. الخبر (4) ،و لعلّه لبركة اللّه بإعجاز النبيّ .

فلمّا انتهى الجنود إلى النّهر و ابتلوا به فَشَرِبُوا مِنْهُ كالدّوابّ ، و لم يقنعوا بالغرفة فضلا عن أن لا يشربوا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .

و عن الرضا عليه السّلام في رواية: «و قال لهم نبيّهم: يا بني إسرائيل، إنّ اللّه مبتليكم [بنهر] في هذه المفازة، فمن شرب منه فليس من حزب اللّه، و من لم يشرب فهو من حزب اللّه إلاّ من اغترف غرفة بيده.

فلمّا وردوا النّهر أطلق اللّه لهم أن يغترف كلّ واحد منهم غرفة [بيده]، فشربوا منه الاّ قليلا منهم.

فالّذين شربوا منه كانوا ستين ألفا »(5).

و نقل أنّ من لم يقتصر على الغرفة غلب عطشه، و اسودّت شفته، و لم يقدر أن يمضي، و بقي على

ص: 500


1- تفسير القمي 83:1، تفسير الرازي 179:6.
2- الدر المنثور 759:1.
3- تفسير الرازي 180:6.
4- تفسير الرازي 182:6.
5- تفسير القمي 83:1، تفسير الصافي 256:1.

شطّ النّهر. فعرف طالوت الموافق من المخالف.

و أعلم أنّ مثل الدّنيا مثل هذا النّهر، فمن لم يقنع بالكفاف لا يشبع إلاّ بتراب القبر.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «القليل - الّذين لم يشربوا، و لم يغترفوا - ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا »(1).

فَلَمّا جاوَزَهُ أي عبر النّهر هُوَ أي طالوت وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ رأوا قوة جالوت و كثرة جنوده، خافوا و قالُوا عن الصادق عليه السّلام، في رواية: «قال الّذين شربوا منه »(2):لا طاقَةَ و لا قوّة لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ و بمحاربتهم.

قيل: كانوا مائة ألف مقاتل، كلّهم شاكي السّلاح (3) ،و كان جالوت رأس العمالقة و ملكهم، و كان من أشدّ النّاس و أقواهم، و كان يهزم الجيوش وحده.

قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ و يتيقّنون بالمعاد و لقاء كرامة اللّه و ثوابه، و لم يلههم حبّ الدّنيا و لذّاتها، للمرعوبين من كثرة عدّة العدوّ و شوكتهم: اثبتوا في القتال و لا تنظروا كثرة العدوّ فإنّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ و فرقة قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ و هزمت فِئَةٍ و جماعة كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ و إرادته و نصرته وَ اللّهُ بتأييده و معونته مَعَ الصّابِرِينَ في طاعته و قتال عدوّه، فلا عبرة بكثرة العدوّ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ (4).

سورة البقرة (2): الآیات 250 الی 251

اشارة

وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

سورة البقرة (2): آیة 250

وَ لَمّا بَرَزُوا في ميدان الحرب لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ و تهيّئوا لقتالهم مع ما رأوا من قلّة عددهم و ضعفهم، و كثرة عدوّهم و شوكتهم، تضرّعوا إلى اللّه في طلب الإعانة و النّصرة قالُوا (5)رَبَّنا

و يا من بيده تدبير امورنا على وفق صلاحنا أَفْرِغْ و اصبب عَلَيْنا صَبْراً في منازلتهم، و أعطنا

ص: 501


1- تفسير القمي 83:1.
2- تفسير القمي 83:1.
3- تفسير روح البيان 388:1، و رجل شاكي السلاح: تام السلاح كامل الاستعداد.
4- آل عمران: 160/3.
5- في النسخة: بقولهم.

قوّة تحمّل البلايا و المكاره و الآلام في مقاتلتهم وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا في مزاولة النّزال، و معركة القتال وَ انْصُرْنا بإعانتك و تأييدك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الّذين لا يليقون لرحمتك و رأفتك. فحقّق اللّه ظنّهم، و أجاب لهم دعوتهم فَهَزَمُوهُمْ و فرّقوا جمعهم و كسروا شوكتهم بِإِذْنِ اللّهِ و نصره.

قصّة قتل جالوت و انهزام عسكره

عن القمّي، عن الرضا عليه السّلام: «فأوحى اللّه إلى نبيّهم: أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى عليه السّلام، و هو رجل من ولد لاوي بن يعقوب، اسمه داود بن آسي، و كان آسي راعيا، و كان له عشرة بنين أصغرهم داود. فلمّا بعث طالوت إلى بني إسرائيل و جمعهم لحرب جالوت، بعث إلى آسي أن احضر و أحضر ولدك، فلمّا حضروا دعا واحدا واحدا من ولده، فألبسه الدّرع - درع موسى - فمنهم من طالت عليه، و منهم من قصرت عنه، فقال لآسي: هل خلّفت من ولدك أحدا؟ قال: نعم، أصغرهم تركته في الغنم راعيا. فبعث إليه [ابنه] فجاء به، فلمّا دعي أقبل و معه مقلاع (1).قال: فنادته ثلاث صخرات في طريقه، فقالت: يا داود خذنا، فأخذها في مخلاته (2) ،و كان شديد البطش قويا في بدنه شجاعا، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى، فاستوت عليه »(3).

و في رواية العيّاشي: «أنّ داود لمّا دخل العسكر، سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم: ما تعظّمون من أمره، فو اللّه لئن عاينته لأقتلنّه. فحدّثوا بخبره حتّى ادخل على طالوت، فقال: يا فتى، و ما عندك من القوّة، و ما جرّبت من نفسك ؟ قال: كان الأسد يعدو على الشّاة من غنمي فادركه، فآخذ برأسه فأفكّ لحييه(4) منها، فآخذها من فيه. قال: فقال: ادع إليّ بدرع سابغة (5) ،قال: فأتي بدرع، فقذفها في عنقه فتملّأ(6) منها. قال: فقال طالوت: و اللّه لعسى اللّه أن يقتله به، قال: فلمّا أن أصبحوا و رجعوا إلى طالوت، و التقى النّاس ...»(7).

و في رواية القمّي: «و وقف داود بحذاء جالوت، و كان جالوت على الفيل، و على رأسه التّاج، و في جبهته ياقوتة يلمع نورها، و جنوده بين يديه، فأخذ داود من تلك الحجارة حجرا فرمى به [في] ميمنة جالوت، فمرّ في الهواء و وقع عليهم فانهزموا، و أخذ حجرا آخر فرمى به [في] ميسرة جالوت فانهزموا، و رمى جالوت بحجر(8) فصكّ الياقوتة في جبهته، و وصل إلى دماغه، و وقع إلى الأرض

ص: 502


1- المقلاع: ما يرمى به الحجر.
2- المخلاة: ما يوضع فيه العلف و يعلق في عنق الدابة.
3- تفسير القمي 82:1، تفسير الصافي 255:1.
4- اللّحيان: العظمان اللذان فيهما الأسنان.
5- سابغة: أي واسعة.
6- أي امتلأت به، و استوت عليه فكانت بقدر حجمه.
7- تفسير العياشي 445/134:1، تفسير الصافي 256:1..
8- زاد في المصدر: ثالث.

ميتا »(1).

روي عن ابن عبّاس: أنّ داود كان راعيا، و له سبعة إخوة مع طالوت، فلمّا أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشا، أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم و هم في المصافّ (2) ،و بدر جالوت الجبّار - و كان من قوم عاد - إلى البراز، فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا بني إسرائيل، لو كنتم على حقّ لبارزني بعضكم. فقال داود لإخوته: أ ما فيكم من يخرج إلى هذا الأغلف (3) ؟فسكتوا، فذهب إلى ناحية من الصّف ليس فيها إخوته، فمرّ به طالوت و هو يحرّض النّاس؛ فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأغلف ؟ فقال طالوت: انكحه ابنتي و اعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا خارج إليه، و كان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذّئب و الأسد في المرعى، و كان طالوت عارفا بجلادته. فلمّا همّ داود بأن يخرج إلى جالوت مرّ بثلاثة أحجار، فقلن: يا داود، خذنا معك، ففينا ميتة جالوت. ثمّ لمّا خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره، و نفذ الحجر فيه (4)وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ و قتل بعده ناسا كثيرا، فهزم اللّه جنود جالوت.

و في رواية العيّاشي: «و قال النّاس: قتل داود جالوت، و ملك النّاس حتّى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، و اجتمعت بنو إسرائيل على داود»(5) الخبر.

و في رواية ابن عبّاس: فحسده طالوت، فأخرجه من مملكته، و لم يف له بوعده، ثمّ ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل(6).

وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ و السلطنة على عامّة بني إسرائيل، فاستملك جميع أراضيهم، و لم يتجمّعوا قبل داود على ملك واحد وَ آتاه اَلْحِكْمَةَ قيل: هي النّبوة، و لم يجتمع الملك و النبوّة في بني إسرائيل قبله إلاّ له، بل كان الملك في سبط يهودا، و النّبوة في سبط لاوي. و في رواية: و أنزل اللّه عليه الزّبور(7).

ص: 503


1- تفسير القمي 83:1، تفسير الصافي 256:1.
2- المصافّ : جمع مصفّ ، و هو موقف الحرب؛ حيث يقف و يصطف المقاتلون صفوفا متقابلة مع العدو.
3- الأغلف: الذي لم يختن.
4- تفسير الرازي 188:6.
5- تفسير العياشي 549/255:1، تفسير الصافي 257:1.
6- تفسير الرازي 188:6. (7و4) تفسير العياشي 549/255:1.

وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ و في رواية: علّمه صنعة الحديد، و ليّنه له (1). و قيل: منطق الطّير و النّمل. و قيل:

الحكم و القضاء. و قيل: الألحان (1).و لا يبعد أن يكون المراد هو الجميع.

ثمّ بعد بيان منّته على بني إسرائيل بدفع جالوت و جنوده عنهم و نعمه عليهم، بيّن أنّ هذه النّعمة عامّة لجميع أهل العالم بقوله: وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ الكفّار بِبَعْضٍ المؤمنين.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أي يدفع الهلاك بالبرّ عن الفاجر»(2) الخبر. و لعلّ المراد أنّ اللّه يدفع البلاء ببركة الأخيار عن الفجّار، فيسلم و يعيش أهل الفسق و الفجور بسبب وجود عباده الصّالحين، و لولاهم لمنعت السّماوات و الأرض بركاتها.

و يحتمل أن يكون المراد: لو لا دفع اللّه النّاس بعضهم عن المنكرات؛ بنهي بعضهم لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بمن فيها وَ لكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ جميعا، فيدفع بفضله هذا النّحو من الدفع حتى لا يعمّهم الفساد، فيمتنع الكافر بكفره قليلا، و يربح المؤمن بكسبه جزيلا.

سورة البقرة (2): آیة 252

اشارة

تِلْكَ آياتُ اللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

سورة البقرة (2): آیة 252

تِلْكَ القصص العجيبة الخارقة للعادة آياتُ اللّهِ و دلائل صنعه، و توحيده، و حكمته نَتْلُوها عَلَيْكَ وحيا، أو ننزّلها إليك بتوسّط جبرئيل حال كونها مقرونة بِالْحَقِّ المطابق للواقع، لا يعتريه شكّ و لا ريب وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فاتل تلك الآيات على النّاس ليعتبروا و يهتدوا، و إن أصرّوا على الكفر، فإنّما عليك البلاغ المبين، و فيه إشعار بأنّه غنيّ عن الاعتبار بتلك الآيات، فإنّ الشّهود و العيان مغن عن الدّليل و البرهان، و إنّما عليه تلاوتها على النّاس؛ لأنّ وظيفته الرّسالة.

سورة البقرة (2): آیة 253

اشارة

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

ص: 504


1- مجمع البيان 621:2، تفسير روح البيان 391:1، تفسير الرازي 189:6.
2- مجمع البيان 621:2، تفسير الصافي 257:1.

سورة البقرة (2): آیة 253

ثمّ ذكر اللّه تعالى اختلاف امم الأنبياء، و وقوع القتال بينهم، مع أنّ الأنبياء كانوا في كمال العظمة و علوّ المقام تسلية لقلب حبيبه، بقوله: تِلْكَ جماعة اَلرُّسُلُ الّذين أرسلناهم لإصلاح الأرض، و دفع الفساد، و هداية العباد فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ في المقامات المعنويّة، و مرتبة الرسالة عَلى بَعْضٍ

آخر مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ و شافهه بالمخاطبة كخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج و غيرها، و كموسى بن عمران وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ كثيرة، لا يقاس بغيره.

في أفضلية خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله على جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقرّبين

و لعلّ الفرق بين التّفضيل المذكور في الصدر، و الرفع المذكور هنا، أنّ الأوّل لبيان أفضليّة بعض الرّسل على بعض، و تفاوت مراتب بعضهم بالقياس إلى [بعض] آخر، و هنا لبيان الرّفعة المطلقة من غير إضافة و نسبة إلى بعض آخر، كما أنّ رفعة السّلطان رفعة مطلقة بالنّسبة إلى الفقير، و لا يقال: إنّ السّلطان أرفع قدرا من الفقير الصّعلوك، فإن رتبة الفقير ليس بقابل أن تقع [في] طرف النّسبة لرتبة السّلطان، بخلاف رتبة السلطان بالنّسبة إلى سلطان آخر.

و هذه المرتبة من الرّفعة لخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله، حيث إنّه اوتي ما لم يؤت أحد من المرسلين، و لو أنّ إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام كانوا في زمانه عليه السّلام لم يسعهم إلاّ الايمان به و اتّباع دينه.

عن (العيون): عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي، و لا أكرم عليه منّي».

قال عليّ عليه السّلام: «فقلت: يا رسول اللّه أنت أفضل أم جبرئيل ؟»

فقال: «إنّ اللّه فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين، و الفضل بعدي لك يا علي، و للأئمّة من بعدك، و إنّ الملائكة لخدّامنا، و خدّام محبّينا »(1).

عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «اعطيت خمسا، لم يعطهنّ أحد قبلي و لا فخر: بعثت إلى الأحمر و الأسود و كان النبيّ قبلي يبعث إلى قومه، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و نصرت بالرّعب أمامي مسيرة شهر، و احلّت لي الغنائم و لم تكن لأحد قبلي، و اعطيت الشّفاعة فادّخرتها لامّتي، فهي نائلة إن شاء اللّه لمن لا يشرك باللّه شيئا »(2).

و روى البيهقي في (فضائل الصّحابة) على ما نقله الفخر الرّازي مع نهاية عصبيّته: أنّه ظهر عليّ عليه السّلام من بعيد، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «هذا سيّد العرب» فقالت عائشة: أ لست أنت سيّد العرب ؟ فقال: «أنا سيّد

ص: 505


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 22/262:1، تفسير الصافي 258:1.
2- تفسير الرازي 198:6.

العالمين »(1).

و قال بعض العلماء: إنّ كلّ أمير تكون مئونته على قدر رعيّته، و سعة مملكته. فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون مئونته بقدر تلك القرية، و من ملك المشرق و المغرب احتاج إلى أموال و ذخائر أكثر من أموال أمير القرية، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه، اعطي من كنوز التّوحيد و جواهر المعرفة على قدر ما حمّل من الرّسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض، إنّما يعطى من كنوز الرّوحانيّة بقدر ذلك الموضع، و المرسل إلى كلّ أهل المشرق و المغرب إنسهم و جهنّم، لا بدّ و أن يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بامور أهل الشّرق و الغرب.

و إذا كان كذلك، كانت نسبة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله إلى نبوّة سائر الأنبياء، كنسبة ملك كلّ المشارق و المغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة (2) ،فلا جرم بلغ في العلم و الحكمة و المعرفة إلى حدّ لم يبلغه أحد من البشر، قال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (3) و في الفصاحة - إلى أن قال: «اوتيت جوامع الكلم» و صار كتابه مهيمنا على سائر الكتب، و صارت امّته خير الأمم(4).

ثمّ خصّ اللّه تعالى عيسى بن مريم بالذكر، بقوله: وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الآيات اَلْبَيِّناتِ

و المعجزات الباهرات كإحياء الطّير المسوّى من الطّين بالنّفخ فيه، و إحياء الموتى و غير ذلك، مع كون معجزات موسى عليه السّلام أكثر لتوبيخ اليهود على عدم الإيمان به، مع وفور معجزاته وَ أَيَّدْناهُ و أعنّاه بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل: إنّ القدس هو اللّه، و روحه جبرئيل.

و الإضافة تشريفيّة، فإنّ اللّه أعانه بجبرئيل في أوّل أمره، حيث قال: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا (5)

و في وسطه حيث علّمه العلوم، و في آخره حيث إنّه رفعه إلى السّماء(6).

و هؤلاء النّبيّون مع علوّ شأنهم و إتيانهم المعجزات الباهرات، اختلفت اممهم في الكفر و الإيمان حتى تقاتلوا وَ لَوْ شاءَ اللّهُ و أراد - إرادة تكوينيّة - توافقهم على الحقّ ، و تسالمهم عليه، و ترك مقاتلتهم، لاتّفقوا على الإيمان بالقهر و الجبر مَا اقْتَتَلَ اممهم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ بَعْدِهِمْ

و غبّ (7) وفاتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من قبل رسلهم، الآيات اَلْبَيِّناتِ و شاهدوا المعجزات،

ص: 506


1- تفسير الرازي 198:6.
2- زاد في تفسير الرازي: و لمّا كان كذلك لا جرم اعطي من كنوز الحكمة و العلم ما لم يعط أحد قبله.
3- النجم: 10/53.
4- تفسير الرازي 198:6.
5- التحريم: 12/66.
6- تفسير الرازي 203:6.
7- أي بعدها.

و وضحت لهم دلائل الحقّ الموجبة لاتّفاقهم و اجتماعهم على الإيمان بهم، و الموادّة بينهم.

وَ لكِنِ مع ذلك - حيث لم يشأ اللّه قهرهم على التّوافق في الإيمان لكونه خلاف الحكمة، و أتمّ النّظام - اِخْتَلَفُوا بأهوائهم الزّائغة اختلافا شديدا فاحشا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بالرّسل و ما جاءوا به، و أطاع وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بهم، و عصى وَ لَوْ شاءَ اللّهُ بعد وقوع الاختلاف بينهم، عدم اقتتالهم مَا اقْتَتَلُوا بأن لم يتحرّك منهم عضو للقتال، و لم يحدث في قلوبهم داع إليه وَ لكِنَّ اللّهَ بقدرته الكاملة يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من الخذلان و العصمة عدلا و فضلا.

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام: «في هذه الآية دلالة على أنّ أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله قد اختلفوا من بعده، فمنهم من آمن، و منهم من كفر »(1).

عن العيّاشي: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الجمل: كبّر القوم و كبّرنا، و هلّل القوم و هلّلنا، و صلّى القوم و صلّينا، فعلام نقاتلهم ؟ فتلا هذه الآية، ثمّ قال: «نحن الّذين من بعدهم»، و قال: «فنحن الّذين آمنّا، و هم الّذين كفروا »(2).

و في رواية، قال: «فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى باللّه عزّ و جلّ و بالنّبيّ و الكتاب و بالحقّ ، فنحن الّذين آمنوا، و هم الّذين كفروا، و شاء اللّه تعالى قتالهم بإرادته و مشيئته »(3).

سورة البقرة (2): آیة 254

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ (254)

سورة البقرة (2): آیة 254

ثمّ لمّا كان في الآية السّابقة إشعار بلزوم القتال بين المؤمنين و الكافرين، و من الواضح أنّه متوقّف على صرف المال، أردفه بالأمر بإنفاقه، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا في الجهاد، و سائر سبل الخير، شيئا مِمّا رَزَقْناكُمْ و تفضّلنا به عليكم إحسانا و كرما.

و فيه دلالة على أنّ كل ما بأيدي النّاس من الأموال، من مواهب اللّه و إنعامه عليهم و ليس لهم شيء منها، و على هذا لا ينبغي أن يصعب على احد إنفاقه، بل عليه أن ينفقه بسهولة و بلا منّة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يوم فاقة جميع النّاس، و غاية استئصالهم، و هو يوم القيامة، حيث إنّه يَوْمٌ لا بَيْعٌ و [لا]

ص: 507


1- الكافي 398/270:8، تفسير الصافي 258:1.
2- تفسير العيّاشي 552/256:1، تفسير الصافي 258:1.
3- أمالي الطوسي: 337/198، تفسير الصافي 258:1.

تجارة يكتسب بها فِيهِ مال يفيد أحدا، و يكون فداء لنفس وَ لا خُلَّةٌ و صداقة فيه بين النّاس، بل الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ وَ لا شَفاعَةٌ نافعة إذ الشّفعاء لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى.

و الحاصل: أنّه لمّا كانت أسباب جلب المنافع في الدّنيا منحصرة بالمعاوضات، و عمدتها البيع، و بالموادّة بالصّلات و الهدايا، و بالمعاونة للغير، و عمدتها الشّفاعة، و الإنسان منقطع عن جميعها في الآخرة، فعليه أن يكتسب نفع الآخرة في الدّنيا بالإنفاق و العمل الصّالح.

و يحتمل أن يكون المراد من الإنفاق بذل جميع ما كان واجدا له بعطاء اللّه من النّفس في الجهاد، و القوى في الطاعات، و العلم في هداية الخلق، و المال لفقراء المؤمنين، و الجاه في قضاء حوائج العباد، و غير ذلك ممّا يمكن صرفه في تحصيل مرضاة اللّه.

وَ الْكافِرُونَ بترك الطّاعة و عدم الإنفاق هُمُ الظّالِمُونَ على أنفسهم و لبلوغهم في هذا الوصف غايته، كأنّ المتّصف بهذا الوصف صار منحصرا بهم، لا يشركهم فيه غيرهم.

و قيل: المراد من الكافرين المؤمنون التّاركون للزّكاة، و التعبير عنهم بالكافرين للإشعار بأنّ ترك الزّكاة بمنزلة الكفر باللّه. و قال بعض: الحمد للّه الذي قال: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ و لم يقل الظّالمون هم الكافرون(1).

سورة البقرة (2): آیة 255

اشارة

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

سورة البقرة (2): آیة 255

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر جملة من الأحكام و القصص، عاد إلى بيان التّوحيد و صفاته الكاملة الجلاليّة، ليحصل للقلوب نور و نشاط ، و للصدور انشراح و انبساط ، بقوله: اَللّهُ و في ذكر اسم الجلاليّة، ليحصل للقلوب نور و نشاط ، و للصدور انشراح و انبساط ، بقوله: اَللّهُ و في ذكر اسم الجلالة أوّلا إشارة إلى التّوحيد الذّاتي، لإشعار ذكره بانفراده بأنّ الموجود القابل للذّكر هو الذّات المقدّسة، و ما سواه عدم محض و ليس صرف، كما قال: قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ (2) الآية.

ثمّ أشار إلى التّوحيد الصّفاتي بقوله: لا إِلهَ و لا معبود يستحقّ بذاته عبوديّة جميع الموجودات

ص: 508


1- تفسير الرازي 207:6.
2- الأنعام: 91/6.

إِلاّ هُوَ وحده، لا شريك له في الالوهيّة، و فيه تنزيهه من جميع النّقائص.

ثمّ بعد إثبات الصفات الجلاليّة إجمالا، أثبت له الصّفات الجماليّة بذكر الصّفة الجامعة لها، و هي اَلْحَيُّ قيل في معناه: الدّائم، الباقي، الفعّال، المريد. و قيل: إنّه المدرك بذاته، و القادر بإرادته.

و اَلْقَيُّومُ و هو المتقوّم بذاته، المقوّم لكلّ ما عداه في ماهيّته و وجوده، و العالم بتدبير جميع الخلق و حفظهم، فيدلّ هذا الوصف على كون ذاته المقدّسة قديمة، أزليّة، دائمة، غنيّة، قادرة، عالمة.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لمّا كان يوم بدر قاتلت، ثمّ جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنظر ما ذا يصنع - قال - فجئت و هو ساجد، يقول: يا حيّ يا قيّوم؛ لا يزيد على ذلك، ثمّ رجعت إلى القتال، ثمّ جئت و هو يقول ذلك، فلا أزال أذهب و أرجع و أنظر إليه، و كان لا يزيد على ذلك، إلى أن فتح اللّه له »(1).و قال بعض: إنّه الاسم الأعظم(2).

روي عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: أعظم أسماء اللّه الحيّ القيّوم(3).

و نقل أنّ عيسى عليه السّلام إذا أراد أن يحيي الموتى يقول: يا حيّ يا قيوم(4).

و قيل: دعاء من خاف الغرق في البحر: يا حيّ يا قيّوم(5).

ثمّ قرّر تعالى صفة القيموميّة بذكر لازمها، بقوله: لا تَأْخُذُهُ و لا تعتريه سِنَةٌ و فتور، أو نعاس وَ لا نَوْمٌ قيل: هو كناية عن عدم غفلته عن تدبير الخلق (4) ،كما أنّه يقال لمن غفل عن شيء وضيعة:

إنّك وسنان نائم.

ثمّ أكّد قيمومته، و احتجّ على تفرّده بالتّدبير بأنّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إذ هو خالق جميع الممكنات و مبدعها، فكلّها ملكه و تحت قدرته و سلطانه، ليس لغيره في عوالم الوجود تصرّف و لا حكم و لا نفوذ إرادة.

ثمّ لمّا كانت قريش يعبدون الأصنام بزعم أنّها شفعاء عند اللّه، عظّم كبرياءه، و أثبت توحّده في العبادة، و أنكر عليهم اعتقاد كونهم شفعاء بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ في شيء من الأشياء و أمر من الامور إِلاّ بِإِذْنِهِ و إجازته و رضاه، و من الواضح أنّه لا إذن إلاّ لمن له كرامة لديه، و مقام محمود عنده، كالنبيّ و خلفائه و صلحاء أمّته، دون الأصنام و الكفّار.

ص: 509


1- تفسير الرازي 3:7.
2- تفسير روح البيان 400:1.
3- تفسير الرازي 3:7. (4و5) تفسير الرازي 176:6.. تفسير روح البيان 400:1.
4- تفسير الرازي 6:7.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: «أتاني آت [من عند ربي] فخيّرني بين أن يدخل نصف امّتي الجنّة و بين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة »(1).

ثمّ بيّن سعة علمه، و قصور غيره عن معرفة شيء بغير إفاضة منه بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

قيل: المراد ما كان قبلهم في الوجود، و من قوله: وَ ما خَلْفَهُمْ ما لم يكن بعد.

و هو مرويّ عن الرّضا عليه السّلام (2) ،و قيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي الآخرة؛ لأنّهم يقدمون عليها وَ ما خَلْفَهُمْ أي الدّنيا؛ لأنّهم يخلفونها وراء ظهورهم(3).

وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ و لا يطّلعون على جزء من معلوماته إِلاّ بِما شاءَ أن يعلمه غيره، و يطّلع عليه.

عن القمّي رحمه اللّه: إلاّ بما يوحي إليهم (4).و فيه دلالة واضحة على أنّ جميع العلوم بإفاضته تعالى، و لو لا إفاضته لم يعلم أحد شيئا حتى نفسه.

ثمّ أوضح سبحانه سعة ملكه، و عظمة سلطانه، و كمال إحاطته و علمه بقوله: وَسِعَ و أحاط كُرْسِيُّهُ و هو اسم للسّماء، الذي دون العرش، و فوق سائر الموجودات اَلسَّماواتِ و ما فيها وَ الْأَرْضَ و ما عليها. فعليه يكون الكرسيّ محيطا بجميع الموجودات سوى العرش، و إنّما سمّيت تلك السّماء باسم الكرسيّ تشبيها له بمقرّ سلطنته.

و عن العيّاشي، عنه عليه السّلام: أنّه سئل: إنّ السّماوات و الأرض وسعن الكرسيّ ، أم الكرسيّ وسع السّماوات و الأرض ؟ فقال: «إنّ كلّ شيء في الكرسيّ »(5).

و عن القمّي رحمه اللّه: أنّ عليّا عليه السّلام سئل عن هذه الآية، فقال: «السّماوات و الأرض و ما فيهما في جوف الكرسيّ ، و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه »(6).

و في الحديث النّبويّ : «ليس(7) السّماوات السّبع، و الأرضون السّبع مع(8) الكرسيّ إلاّ كحلقة ملقاة في فلاة، و فضل العرش على الكرسيّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة »(9).

ص: 510


1- تفسير روح البيان 402:1.
2- تفسير القمي 84:1، تفسير الصافي 259:1.
3- تفسير الرازي 10:7.
4- تفسير القمي 84:1، تفسير الصافي 259:1.
5- تفسير العياشي 558/258:1، تفسير الصافي 260:1.
6- تفسير القمي 85:1، تفسير الصافي 260:1.
7- في تفسير روح البيان: ما.
8- في تفسير روح البيان: من.
9- تفسير روح البيان 404:1.

عن (التّوحيد): عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن العرش و الكرسيّ ما هما؟ فقال: «العرش في وجه هو جملة الخلق، و الكرسيّ وعاؤه. و في وجه [آخر] العرش هو العلم الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه و رسله و حججه، و الكرسيّ هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه و رسله »(1).

ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله: وَ لا يَؤُدُهُ و لا يشقّ عليه إقامة السّماوات و الأرض و حِفْظُهُما عن الخلل و الفساد.

ثمّ بيّن كمال تعاليه و عظمته بعد ذكر تلك الصّفات بقوله: وَ هُوَ الْعَلِيُّ بذاته عن الأنداد، و بصفاته عن الأشياء، و هو المتعالي بالقدر و الشأن عن جميع ما سواه، و هو اَلْعَظِيمُ بالمهابة و القهر و الكبرياء، ترتعد من خشيته جميع الأشياء.

في بيان وجه فضيلة آية الكرسي على غيرها من الآيات

ثمّ لمّا كانت الآية الكريمة حاوية لجميع المعارف الإلهيّة، متضمّنة لامّهات مسائل العلوم الرّبّانية - لكونها ناطقة بوجوده تعالى و تفرّده، و وجوب ذاته و حياته، و كمال صفاته، و تنزّهه عن التحيّز و الحلول و التّغيير و الفتور، و كونه موجدا لجميع الكائنات قائما بتدبيرها، و كونه مالك الملك و الملكوت، و مبدع الاصول و الفروع، ذا البطش الشّديد، لا يشفع عنده إلاّ لمن أذن له، عالما بجميع الأشياء جليّها و خفيّها، واسع الملك و القدرة، و لا يشقّ عليه شاقّ ، و لا يشغله شأن عن شأن، متعاليا عمّا تناله الأوهام، عظيما لا تدركه العقول و الأفهام - كانت لها فضيلة فائقة، و عظمة كاملة على سائر الآيات.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ أعظم آية في القرآن آية الكرسيّ ، من قرأها بعث اللّه ملكا يكتب من حسناته و يمحو من سيّئاته إلى الغد من تلك السّاعة »(2).

و روى كثير من العامّة، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه تذاكر الصّحابة أفضل ما في القرآن، فقال عليّ عليه السّلام: «أين أنتم من آية الكرسيّ ؟».

ثمّ قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ ، سيّد البشر آدم، و سيّد العرب محمّد و لا فخر» إلى أن قال:

«و سيّد الكلام القرآن، و سيّد القرآن البقرة، و سيّد البقرة آية الكرسيّ »(3).

و في رواية اخرى، عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ ، علّمها ولدك و أهلك و جيرانك، فما نزلت آية أعظم منها »(4).

ص: 511


1- معاني الأخبار: 1/29، تفسير الصافي 260:1.
2- تفسير أبي السعود 249:1.
3- تفسير الرازي 3:7.
4- تفسير روح البيان 406:1.

سورة البقرة (2): آیة 256

اشارة

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

سورة البقرة (2): آیة 256

ثمّ أنّه بعد ما بيّن اللّه تعالى اصول المعارف الحقّة - من تفرّده بذاته و تعاليه بالشئون الجليلة الجميلة التي تحكم بها العقول السّليمة، و جملة من الأحكام التي توافق العادات و الحكم الكاملة، و كان فيها الدّلالة الواضحة على صحّة دين الإسلام، بحيث لم يكن لأحد مجال الشّكّ و التّرديد فيه - بيّن أنّه لا عذر في الإقامة على الشّرك و عدم قبول الإسلام بقوله: لا إِكْراهَ فِي قبول اَلدِّينِ

القويم الذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لا مصداق لمفهومه، حيث إنّه بالأدلّة العقليّة و الآيات الباهرة قَدْ تَبَيَّنَ و اتّضح اَلرُّشْدُ و سبيل الحقّ ، و هو ملّة التّوحيد و دين الإسلام، و تميّز مِنَ الْغَيِّ و طريق الضّلال، و هو مذهب الوثنيّة، و سائر الأديان الباطلة.

إن قيل: في تشريع الجهاد إكراه الكفّار، فكيف ينفى مصداقه ؟

قلنا: ليس الإكراه إلزام الغير بما لا يرى فيه صلاحا و خيرا، و بعد وضوح الحقّ يكون الامتناع عن قبوله عنادا و لجاجا، فيكون قتل المعاند الجاحد عقوبة له كسائر الحدود المشروحة لا إكراها على قبول الدّين، فالإسلام للكافر توبة من تلك المعصية.

قيل: إنّ الآية نزلت في المجوس، و أهل الكتاب فإنّهم لا يكرهون على الإسلام، بل تقبل منهم الجزية.

و فيه: أنّه لا يندفع به الإشكال، لوضوح صدق الإكراه عند الإلزام بأحد الأمرين تخييرا، مع أنّ الإكراه على الإسلام يتحقّق بتوعّد المكره و تخييره بين القتل و بذل المال مع الصّغار.

روي أنّه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان، قد تنصّرا قبل مبعثه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ قدما المدينة فألزمهما أبوهما، و قال: و اللّه لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت، فخلّاهما(1).

أقول: هذا محمول على ما قبل تشريع الجزية على أهل الكتاب، و يمكن أن يراد بالدّين التّشيّع و الولاية.

ص: 512


1- تفسير أبي السعود 249:1.

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ و يعرض عن كلّ معبود غير اللّه، و كل مطغ عن طاعة اللّه من الشّياطين و الأصنام و مردة الجنّ و الإنس و أئمّة الضّلال.

و عن القمّي: هم الذين غصبوا آل محمّد حقّهم(1).

وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ إيمانا خالصا صادقا. و من العلوم أنّ الإيمان الحقيقي به سبحانه مستلزم للإيمان بكتبه و رسله و حججه و أحكامه، و العمل بها، و في تقديم الكفر بالطّاغوت على الإيمان باللّه إشعار بتقدّم التّخلية على التّحلية و التبرّي على التولّي فَقَدِ اسْتَمْسَكَ و بالغ في الأخذ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى

و الحلقة الوكيدة التي لاَ انْفِصامَ و لا انقطاع لَها أبدا.

و كما أنّ المتمسّك بالحلقة الوكيدة، و الحبل المحكم مأمون من التّردّي في البئر، أو الغرق في البحر، كذلك الملازم للعقائد الحقّة من التّوحيد و الرّسالة و الولاية مأمون من التّردّي في جبّ الهوى و بحر الفتن، و أمواج الشّهوات في الدّنيا، و في نار جهنّم في الآخرة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فليتمسّك بولاية أخي و وصيّي عليّ بن أبي طالب، فإنّه لا يهلك من أحبّه [و تولاّه]، و لا ينجو من أبغضه و عاداه »(2).

و عن الباقر عليه السّلام: «هي مودّتنا أهل البيت »(3).

ثمّ وعد اللّه المؤمنين و أوعد الكافرين بقوله: وَ اللّهُ سَمِيعٌ لمقال المؤمن و الكافر من إظهار الإيمان و الكفر عَلِيمٌ بما في ضمائرهم و قلوبهم من العقائد الحقّة و الباطلة، و النّيّات الحسنة و السّيّئة، و من حبّ اللّه و بغضه، و ولاية رسوله و أوليائه و معاداتهم، فيجزي كلاّ على وفق قوله و عقد قلبه و عمله. و فيه غاية التّرغيب إلى الإيمان و الطّاعة، و التّرهيب من الكفر و المعصية.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه، قال في تفسيره: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّ إسلام أهل الكتاب من اليهود الّذين كانوا حول المدينة، و كان يسأل اللّه ذلك سرّا و علانية. فمعنى قوله: وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يريد:

لدعائك يا محمّد بحرصك عليه و اجتهادك(4).

سورة البقرة (2): آیة 257

اشارة

اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ

ص: 513


1- تفسير القمي 84:1، تفسير الصافي 261:1.
2- معاني الأخبار: 1/368، تفسير الصافي 262:1.
3- مناقب ابن شهرآشوب 3:4، تفسير الصافي 262:1.
4- تفسير الرازي 17:7.

اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

سورة البقرة (2): آیة 257

ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب و التّرهيب بقوله: اَللّهُ تعالى بلطفه و إحسانه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا

و مدبّر امور الّذين أراد إيمانهم. أو المراد محبّ الّذين التزموا بالإيمان و ناصرهم.

و من تدبيره لامورهم، أو من ثمرات حبّه إيّاهم أنّه: يُخْرِجُهُمْ بتوفيقه و تكميل عقولهم مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة الضّلال و الجهل و المعاصي إِلَى النُّورِ الذي يعمّ نور الإيمان و الإيقان، و الطّاعة و العلم.

عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: «المؤمن يتقلّب في خمسة من النّور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و منظره يوم القيامة إلى النّور »(1).

و قال بعض: إنّ المؤمنين ثلاث طوائف: عوامّهم، و خواصّهم، و خواصّ الخواصّ منهم. فالعوامّ يخرجهم اللّه من ظلمات الكفر و الضّلالة إلى نور الإيمان و الهداية، و الخواصّ يخرجهم من ظلمات الصّفات النّفسانيّة و الجسمانيّة إلى نور الرّوحانيّة الربّانيّة، و خواصّ الخواصّ يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور الفناء في اللّه، و كلّها من شئون ربوبيّته و ولايته لهم(2).

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا و خبثت فطرتهم، و سبق في علمه تعالى ضلالتهم، فيكلهم اللّه إلى أنفسهم، فعند ذلك أَوْلِياؤُهُمُ و مدبّر امورهم اَلطّاغُوتُ من الشّياطين و رؤساء الضلال.

عن الباقر عليه السّلام: «أولياؤهم الطّواغيت »(3).

و عن القمّي رحمه اللّه: هم الظّالمون لآل محمّد أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ و هم الّذين تبعوا من غصبهم(4).

و من شئون ولايتهم لأهل الكفر أنّهم يُخْرِجُونَهُمْ بوساوسهم و تسويلاتهم و سائر وسائل الإضلال مِنَ النُّورِ الذي هو الإيمان و العقائد الحقّة إِلَى الظُّلُماتِ الثلاث المذكورة.

قيل: إنّ القضيّة الاولى نزلت في قوم من أهل الكتاب آمنوا بالنبيّ ، و الاخرى في قوم ارتدّوا عن الإسلام.

عن الصادق عليه السّلام: «النّور آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الظّلمات عدوّهم »(5).

ص: 514


1- الخصال: 20/277، تفسير الصافي 262:1.
2- تفسير روح البيان 409:1.
3- الكافي 436/289:8، تفسير الصافي 262:1.
4- تفسير القمي 85:1، تفسير الصافي 262:1.
5- تفسير العياشي 565/260:1، تفسير الصافي 262:1.

و عن ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام اخالط النّاس، فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم، و يتولّون فلانا و فلانا، لهم أمانة و صدق و وفاء، و أقوام يتولّونكم ليست لهم تلك الأمانة و لا الوفاء و الصدق!

قال: فاستوى أبو عبد اللّه عليه السّلام جالسا، فأقبل عليّ كالمغضب (1).ثمّ قال: «لا دين لمن دان اللّه بولاية إمام جائر ليس من اللّه، و لا عتب على من دان اللّه بولاية إمام عادل من اللّه».

قلت: لا دين لاولئك، و لا عتب على هؤلاء؟ قال: «نعم، لا دين لاولئك، و لا عتب على هؤلاء».

ثمّ قال -: «أ لا تسمع لقول اللّه عزّ و جلّ : اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ؟

يعني ظلمات الذّنوب إلى نور التّوبة و المغفرة بولايتهم كلّ إمام عادل من اللّه عزّ و جلّ ، و قال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ إنّما عنى بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام، فلمّا أن تولّوا كلّ إمام جائر ليس من اللّه، خرجوا بولايتهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب اللّه تعالى لهم النّار مع الكفّار »(2).

و زاد العيّاشي بعد قوله: إلى الظلمات، قال: قلت: أ ليس اللّه عنى بهذا الكافر(3) حين قال: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟

قال: فقال: «و أي نور للكافر و هو كافر به(4) فاخرج منه إلى الظّلمات ؟! إنّما عنى بهذا...»(5) إلى آخر الحديث.

أُولئِكَ الكافرون باللّه و رسله، أو بولاية ولاة الحقّ أَصْحابُ النّارِ و ملازموها يُخْرِجُهُمْ

خاصّة فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا.

و في رواية: «فأعداء أمير المؤمنين عليه السّلام هم الخالدون في النّار، و إن كانوا في أديانهم على غاية الورع و الزهد و العبادة »(6).

قيل: إنّه تعالى لم يقل بعد قوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون تعظيما لشأن المؤمنين و إشعارا بأنّ البيان(7) لا يفي بما أعدّ لهم من الثّواب(8).

ص: 515


1- في الكافي و تفسير الصافي: كالغضبان.
2- الكافي 3/307:1، تفسير الصافي 262:1.
3- في تفسير العياشي: بها الكفار.
4- أي بالاسلام.
5- تفسير العياشي 564/259:1، تفسير الصافي 263:1.
6- تفسير العياشي 566/261:1، تفسير الصافي 263:1.
7- زاد في تفسير روح البيان: اللفظي.
8- تفسير روح البيان 409:1، و فيه: أعدّ لهم في دار الثواب.

ثمّ اعلم أنّ الأشاعرة استدلّوا بقوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ على أنّ الإيمان بخلق اللّه من غير تأثير لإرادة العبد و قدرته. و المعتزلة استدلّوا بقوله: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ

على أنّ الكفر و العصيان مستندان إلى الخلق استقلالا، من غير دخل اللّه تعالى فيهما، و كلاهما في غاية الفساد لوضوح استناد الإيمان و الكفر إلى إرادة العبد و قدرته و انتهائهما بالتّسبيب إلى إرادة اللّه.

سورة البقرة (2): الآیات 258 الی 259

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)

سورة البقرة (2): آیة 258

ثمّ أنّه تعالى استشهد على ولايته للمؤمنين، و ولاية الطّاغوت للكافرين بقصّة محاجّة إبراهيم و ملك زمانه حيث قال مخاطبا لنبيّه: أَ لَمْ تَرَ قد مرّ سابقا أنّ في هذا التّعبير إشعارا بإحاطته صلوات اللّه عليه في عالم الأشباح بجميع وقائع هذا العالم، و حضوره عندها.

في محاجّة نمرود إبراهيم

و قيل: إنّ المعنى: أ لم ينته علمك الذي يضاهي الرؤية و العيان، الحاصل بسبب إخبارنا، الموجب لكمال الإيقان إِلَى نمرود بن كنعان اَلَّذِي حَاجَّ و جادل و خاصم إِبْراهِيمَ لادّعائه الرّبوبيّة لنفسه فِي شأن رَبِّهِ و في التّعريض لعنوان الرّبوبيّة مع إضافته إليه عليه السّلام تشريف له، و إيذان بتأييده بالحجّة. و كانت مخاصمة نمرود لأجل أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ

و السّلطنة الواسعة العظيمة فاغترّ بها و بطر حتى ادّعى الرّبوبيّة.

عن مجاهد: أنّه لم يملك الدّنيا إلاّ أربعة: مسلمان و كافران، فالمسلمان: سليمان و ذو القرنين،

ص: 516

و الكافران: نمرود و بخت نصّر، و هو شدّاد بن عاد الذي بنى إرم في بعض صحاري عدن(1).

و عن البرقي، مرفوعا، ما يقرب منه، إلى قوله: و بخت نصّر(2).

و نقل: أنّ نمرود أوّل من وضع التّاج و تجبّر، و دعا النّاس إلى عبادته(3).

و قيل: أنّ المراد أنّه حاجّ إبراهيم عليه السّلام شكر اللّه لأجل أن آتاه الملك، على طريقة العكس، كقولك:

عاديتني لأنّي أحسنت إليك.

قيل: إنّ المحاجّة كانت بعد كسر إبراهيم عليه السّلام الأصنام، و قبل إلقائه في النّار.

روي من طرق العامّة أنّه عليه السّلام لمّا كسر الأصنام سجنه نمرود، ثمّ أخرجه ليحرقه، فقال: من ربّك الذي تدعونا إليه ؟(4).

و عن الصادق عليه السّلام أنّه كان بعد إلقائه في النّار(5).

ثمّ شرح اللّه المحاجّة بقوله: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ بعد سؤال نمرود عن ربّه: رَبِّيَ القادر اَلَّذِي يُحْيِي الميت وَ يُمِيتُ الحيّ ، فاستدلّ بفعله الذي لا يشاركه فيه أحد من الخلق. و تقديم الإحياء لكون القدرة فيه أظهر.

فعارضه نمرود و قالَ لغاية بلادته، أو للتّمويه و التّلبيس على النّاس: أَنَا أيضا أُحْيِي

الميت وَ أُمِيتُ الحيّ .

روي أنّه دعا برجلين قد حبسهما، فقتل أحدهما، و أطلق الآخر، فقال: قد أحييت هذا و أمتّ هذا(6).

و عن الصادق عليه السّلام: «أنّ إبراهيم عليه السّلام قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا »(7).

ثمّ أعرض عن جواب معارضته الفاسدة، لكون بطلانها من الظّهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد، و أتى بحجّة لا يقدر الأحمق على معارضتها بمثل هذا التمويه قالَ إِبْراهِيمُ عليه السّلام: إنّ كنت قادرا على مثل مقدورات اللّه فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إلى المغرب قسرا، بمشيئته و قدرته، لوضوح أنّ الحركة ليست من لوازم ذات الجسم، و إلاّ لم يوجد جسم منفكّا عن الحركة، و هو خلاف الحسّ و الوجدان، فلا بدّ أن يكون محرّك جرم الشّمس مع كمال عظمته هو خالقها، و ليس إلاّ اللّه

ص: 517


1- تفسير روح البيان 410:1.
2- الخصال: 130/255، تفسير الصافي 263:1.
3- تفسير روح البيان 410:1، و فيه: و تجبّر، و ادعى الربوبية.
4- تفسير روح البيان 410:1.
5- مجمع البيان 635:2، تفسير الصافي 263:1.
6- تفسير روح البيان 410:1.
7- مجمع البيان 636:1، تفسير الصافي 263:1.

الذي هو خالق سائر الموجودات، فهو بقدرته يسيّرها و بحكمته يحرّكها إلى المغرب. فإن كنت تدّعي الالوهيّة الملازمة للقدرة الكاملة فَأْتِ و سيّر بِها مِنَ الْمَغْرِبِ إلى المشرق.

فَبُهِتَ و تحيّر الملك اَلَّذِي كَفَرَ في الجواب، و صار كالمدهوش، لم يجد للردّ مقالا، و للمعارضة مجالا؛ لبداهة أنّه ليس للبشر التصرّف في الفلكيّات، سيّما مثل هذا التّصرّف وَ اللّهُ لا يَهْدِي و لا يوفّق للرّشد إلى صراط الحقّ و طريق الجنّة اَلْقَوْمَ الظّالِمِينَ على أنفسهم باختيار الكفر و الضّلال؛ لخبث طينتهم، و سوء سريرتهم، فاستحقّوا الخذلان و النّكال.

قصّة النبي الذي مرّ على قرية

سورة البقرة (2): آیة 259

ثمّ أنّه تعالى - بعد إقامة البرهان على التّوحيد؛ بذكر محاجّة إبراهيم عليه السّلام - أخذ في إقامة البرهان على إمكان المعاد بذكر قصّة متضمّنة لوقوع نظيره الذي هو أقوى البراهين على إمكانه، بقوله: أَوْ رأيت كالنبيّ الذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ بيت المقدس. و هل اطّلعت على لطف ربّك باحد مثل لطفه بذلك النبيّ ؟ حيث إنّ اللّه هداه إلى المعرفة الكاملة بالمعاد، و كيفيّة البعث و إحياء الرّمم، حتى بلغ من مرتبة علم اليقين إلى درجة عين اليقين، و ذلك من شئون ولايته للمؤمنين.

روي أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في تعاطي الفساد سلّط اللّه عليهم بخت نصّر، فسار إليهم في ستّمائة ألف راية، حتّى وطئ الشّام، و خرّب بيت المقدس، و جعل بني إسرائيل أثلاثا: ثلثا منهم قتلهم، و ثلثا منهم أقرّهم بالشّام، و ثلثا منهم سباهم. و كانوا مائة ألف غلام يافع و غير يافع، فقسّمهم بين الملوك الّذين كانوا معه، فأصاب كلّ ملك منهم أربعة غلمة، و كان عزير من جملتهم(1).

و عن ابن عبّاس: أنّه كان من علمائهم (2) ،و جاء بهم إلى بابل، فلمّا نجّاه اللّه منهم بعد حين مرّ بحماره على بلدة بيت المقدّس، فرآها وَ هِيَ خاوِيَةٌ و ساقطة بحيطانها عَلى عُرُوشِها و سقوفها، خالية من أهلها. فلمّا رأى العزير الأجساد البالية قالَ - استعظاما لقدرة اللّه، و اعترافا بقصور فهمه عن كيفيّة الإحياء، أو تلهّفا على القرية و أهلها، و تشوقا إلى عمارتها مع استشعار اليأس عنها، لا شكّا و إنكارا -: أَنّى يُحْيِي هذِهِ العظام، أو هذه القرية، و كيف يبعثها اَللّهُ أو يعمّرها بَعْدَ مَوْتِها

و بلائها، أو بعد خرابها و عفو آثارها.

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: أنّ عزيرا دخل يوما تلك القرية، و نزل تحت شجرة و هو على حمار، فربط

ص: 518


1- تفسير روح البيان 412:1.
2- تفسير الرازي 31:7.

حماره، و طاف في القرية، فلم ير فيها أحدا، فعجب من ذلك، و قال: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها

لا على سبيل الشكّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، و كانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التّين و العنب، و شرب من عصير العنب، و نام (1)فَأَماتَهُ اللّهُ و قبض روحه في منامه، و أبقاه على الموت مِائَةَ عامٍ .

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في حديث: «فبعث اللّه عزيرا نبيّا إلى أهل القرى التي أمات اللّه عزّ و جلّ [أهلها]، ثمّ بعثهم، و كانوا من قرى شتّى، فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في جوار عزير، و كانوا مؤمنين، و كان [عزيز] يختلف إليهم و يسمع كلامهم و إيمانهم فأحبّهم على ذلك و آخاهم عليه، فغاب [عنهم] يوما واحدا، ثمّ أتاهم فوجدهم صرعى موتى، فحزن عليهم و قال: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها تعجّبا من(2) حيث أصابهم، و قد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته اللّه»(3) الحديث.

و في رواية ذكر فيها تسلّط بخت نصّر على بني إسرائيل، و قتله إيّاهم، و سبيه ذراريهم، و اصطفى من السّبي دانيال و عزيرا، و هما صغيران، و كان دانيال أسيرا في يده سبعين(4) سنة - إلى أن قال -: «و فوّض بخت نصّر إليه امور ممالكه، و القضاء بين النّاس، و لم يلبث إلاّ قليلا حتّى مات، و افضي الأمر بعده إلى عزير، فكانوا يجتمعون إليه و يستأنسون به، و يأخذون عنه معالم دينهم، فغيّب اللّه عنهم شخصه مائة عام، ثمّ بعثه »(5).و الظاهر أنّ المراد بالغيبة الموت.

و في رواية القمّي و العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المارّ على القرية هو أرميا »(6).و عليه بعض المفسّرين من العامّة، ثمّ أنّهم اختلفوا فقال بعضهم: إنّه أرميا بن حلقام (7) ،و بعضهم قالوا: إنّ أرميا هو الخضر بعينه(8) و الأشهر الأقوى هو الأوّل.

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ عزيرا خرج من أهله و امرأته حامل، و له خمسون سنة، فأماته اللّه مائة عام »(9).

ص: 519


1- تفسير الرازي 31:7.
2- في كمال الدين و تفسير الصافي: منه.
3- كمال الدين: 20/266، تفسير الصافي 268:1.
4- في كمال الدين و تفسير الصافي: تسعين.
5- كمال الدين: 157 و 17/158، تفسير الصافي 269:1.
6- تفسير القمي 86:1، تفسير العياشي 570/262:1، تفسير الصافي 264:1.
7- في تفسير أبي السعود: أرميا بن حلقيا.
8- تفسير أبي السعود 252:1.
9- مجمع البيان 641:1، تفسير الصافي 269:1.

و في رواية: أعمى اللّه تعالى عنه عيون المخلوقات فلم يره أحد، فلمّا مضى من موته سبعون سنة وجّه اللّه عزّ و علا ملكا عظيما من ملوك فارس، يقال له: يوشك إلى بيت المقدس ليعمّره، و معه ألف قهرمان (1) ،و مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، فجعلوا يعمّرونه، و أهلك اللّه بخت نصّر ببعوضة دخلت في دماغه، و نجّى اللّه من بقي من بني إسرائيل، و ردّهم إلى بيت المقدس، فتراجع من تفرّق منهم، فعمّروه ثلاثين [سنة]، فلمّا تمّت المائة من موت عزير أحياه اللّه (2) ،و ذلك قوله: ثُمَّ بَعَثَهُ

و التّعبير عن الإحياء بالبعث للدّلالة على السّرعة، و سهولته على اللّه، مع كونه بعد الموت في مدّة طويلة.

و في رواية القمّي: عن الصادق عليه السّلام أنّه لمّا سلّط اللّه بخت نصّر على بني إسرائيل هرب أرميا، و دخل في عين و غاب فيها، و بقي ميّتا مائة سنة، ثمّ أحياه [اللّه تعالى] و أوّل ما أحيا منه عينيه في مثل غرقئ(3) البيض، فنظر(4) ثمّ قالَ اللّه وحيا كَمْ لَبِثْتَ و بقيت ميّتا.

و في رواية ابن عبّاس رحمه اللّه: و نودي من السّماء: يا عزير كم لبثت بعد الموت ؟(5) قيل: كان السّؤال لأجل أن يظهر له عجزه عن الإحاطة بشئون الرّبوبيّة، و ليعلم بالبرهان أنّ إحياءه كان بعد مدّة طويلة حتى تنحسم مادّة استبعاده بالمرّة(6).

قالَ عزير أو أرميا - على وجه الحسبان و التّخمين -: لَبِثْتُ يَوْماً ثمّ نظر إلى ضوء الشّمس باقيا في رءوس الجدران كما روي، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ و قيل: إنّه قال: يوما أو بعض يوم، اقتصارا لمدّة لبثه(7).

ثمّ قالَ اللّه ما لبثت المدّة اليسيرة بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ قيل: فائدة إماتته مائة عام و إعلامه بها - مع كفاية الإحياء بعد موت ساعة لثبوت المطلوب، و هو القدرة على الإحياء بعد الموت - أنّ الإحياء بعد مثل هذه المدّة الطويلة أدلّ على القدرة؛ لأنّ إحياء العظام الرّميم أبعد في العقول، كما هو واضح.

ثمّ كأنّه قال اللّه: إن شئت أن يزيد عرفانك بكمال قدرتي فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ من التّين و العنب اللذين يفسدان من غاية اللّطافة في اليوم و اللّيلة وَ شَرابِكَ من العصير أو اللّبن، مع أنّهما يتغيّران

ص: 520


1- القهرمان: أمين الملك و وكيله الخاص.
2- تفسير أبي السعود 253:1.
3- الغرقئ: القشرة الرقيقة الملتزقة ببياض البيض.
4- تفسير القمي 90:1، تفسير الصافي 267:1.
5- تفسير الرازي 31:7.
6- تفسير روح البيان 413:1.
7- تفسير روح البيان 413:1.

في بعض يوم واحد لَمْ يَتَسَنَّهْ و لم يتغيّر في السّنين المتطاولة.

روي أنّه رأى تينة و عنبة كما جنى، و عصيره كما عصر (1) ،ثمّ لمّا رأى ذلك، و كان مجال توهّم الاستدلال به على قصر مدّة موته، دفع اللّه ذلك التّوهّم بإقامة دليل قاطع على طول مدّة موته بقوله:

وَ انْظُرْ إِلى عظام حِمارِكَ كيف صار رميما، ليتبيّن لك موتك في المدّة المديدة، و إنّما فعلنا ما رأيت من الإماتة و إحياء الرّمم، و حفظ التّين و العصير من التّغيير و الفساد، لتشاهد كمال قدرتنا و تزداد يقينا بالمعاد وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً نافعة لِلنّاسِ جميعا، حيث يزدادون بقضيّتك معرفة و يقينا.

ثمّ لمّا أمره أوّلا بالنّظر إلى الحمار البالي؛ لتبيين طول مدّة موته، أمره ثانيا بالنّظر إلى عظام نفسه، أو عظام حماره بقوله: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ المتفرّقة الرّميمة كَيْفَ نُنْشِزُها و نرفع بعضها إلى بعض، و نردّها إلى أماكنها من الجسد ثُمَّ نَكْسُوها و نلبسها لَحْماً و نسترها به؛ ليشاهد به كيفيّة الإحياء في نفسه، أو في غيره، بعد ما شاهدها في نفسه.

في رواية عن القمّي، عن الصادق عليه السّلام: «فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطّرة تجتمع إليه، و إلى اللّحم الذي قد أكلته السّباع، يتالف إلى العظام من هاهنا و هاهنا و يلتزق بها، حتى قام و قام حماره »(2).

و في رواية اخرى: و نظر إلى عظامه كيف تلتئم و تلبس اللّحم، و إلى مفاصله و عروقه كيف توصل، فاستوى قاعدا (3)فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ كمال قدرة اللّه بما عاين من إحياء الرّمم قالَ أَعْلَمُ الآن بالشّهود أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ ممّا أمكن و أراد قَدِيرٌ لا يستعصي عليه أمر.

قصّة عزير النبيّ

روي أنّه ركب حماره و أتى محلّته، فأنكره النّاس، و أنكر النّاس، و أنكر المنازل، فانطلق على وهم منه حتّى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير، فقال لها عزير: يا هذه، هذا منزل عزير؟ قالت: نعم. و أين ذكرى عزير و قد فقدناه منذ كذا و كذا! فبكت بكاء شديدا، قال: فإنّي عزير، قالت: سبحان اللّه أنّى يكون ذلك ؟ قال: قد أماتني اللّه مائة عام، ثمّ بعثني.

قالت: أنّ عزيرا كان مستجاب الدّعوة، فادع اللّه بردّ بصري حتى أراك، فدعا ربّه، و مسح بين عينيها ففتحتا، فأخذ بيدها، فقال: قومي بإذن اللّه، فقامت صحيحة كأنّها انشطت من عقال (4) ،فنظرت إليه،

ص: 521


1- تفسير روح البيان 413:1.
2- تفسير القمي 90:1، تفسير الصافي 267:1.
3- الاحتجاج: 344، تفسير الصافي 268:1.
4- أنشطت من عقال: أي اطلقت من قيدها.

فقالت: أشهد أنّك عزير. فانطلقت إلى محلّة بني إسرائيل و هم في أنديتهم، و كان في المجلس ابن العزير، قد بلغ مائة و ثماني عشرة سنة و بنو بنيه شيوخ، فنادت: هذا عزير قد جاءكم، فكذّبوها، فقالت:

انظروا؛ فإنّي بدعائه رجعت إلى هذه الحالة، فنهض النّاس، فأقبلوا إليه، فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه مثل هذا الهلال، فكشف فإذا هو كذلك، و قد كان قتل بخت نصّر ببيت المقدس من قرّاء التّوراة أربعين ألف رجل، و لم يكن بينهم يومئذ نسخة من التّوراة، و لا أحد يعرف التّوراة، فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفا - أي ينقص و يقطع - فقال رجل من أولاد المسبيّين، ممّن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصّر: حدّثني أبي، عن جدّي أنّه دفن التّوراة يوم سبينا في خابية في كرم، فإن أريتموني كرم جدّي أخرجتها لكم، فذهبوا إلى كرم جدّه ففتّشوه فوجدوها، و عارضوها(1) بما أملى عليهم عزير عن ظهر القلب، فما اختلفا في حرف واحد، فعند ذلك قالوا: عزير ابن اللّه(2).

و عن (المجمع): عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ عزيرا خرج من أهله، و امرأته حامل، و له خمسون سنة، فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه، فرجع إلى أهله ابن خمسين، و له ابن له مائة سنة، فكان ابنه أكبر منه، فذلك من آيات اللّه »(3).

اعلم أنّ الروايات في هذه القضيّة، و إن كانت مختلفة من جهات عديدة، إلاّ أنّه لا يهمّنا الجمع بينها بالتّكليف، لعدم حجّيّتها، و عدم ترتّب أثر عليها، و أنّها كانت تدلّ على قدرة اللّه و صحّة المعاد الجسماني.

سورة البقرة (2): آیة 260

اشارة

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

سورة البقرة (2): آیة 260

ثمّ أنّه تعالى - لازدياد يقين المؤمنين بالمعاد حتّى يخرجوا من ظلمات الجهل أو ضعف اليقين إلى نور حقّ اليقين - أردف قصّة عزير بقصّة تضاهيها عن إبراهيم عليه السّلام، و كان دليلا آخر على ولايته تعالى

ص: 522


1- عارضوها: أي قابلوها.
2- تفسير أبي السعود 255:1، تفسير روح البيان 414:1.
3- مجمع البيان 641:1، تفسير الصافي 269:1.

للمؤمنين، و كأنّه تعالى قال: وَ أ لم تر، أو وَ اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ استدعاء و استعطافا: رَبِّ أَرِنِي بلطفك على أنّك كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى و بصّرني كيفيّة الإحياء و هيئته بعد العلم بأصله إجمالا.

قيل: إنّه تعالى ذكر اسم إبراهيم هنا لإظهاره العبوديّة، و حفظه للأدب، حيث أثنى على اللّه أوّلا بتوصيفه بالرّبوبيّة، بخلاف النبيّ الذي مرّ على القرية، و لذلك جعل اللّه الإماتة و الإحياء في قصّة إبراهيم عليه السّلام في الطّيور، و في قصّة النبيّ في نفسه. و يمكن أن يكون وجه ذكر اسمه عليه السّلام عظمة شأنه و كرامته عند اللّه، زيادة على عزير و على من هو أعظم منه.

و في قول إبراهيم: (ربّي) إشعار بأنّ من كمال الدّعاء و موجبات سرعة الإجابة، الثّناء على اللّه قبل الدّعاء.

و عن جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم رأى جيفة مطروحة في شطّ البحر، فإذا مدّ البحر أكل [منها] دوابّ البحر، و إذا جزر جاءت السّباع فأكلت، و إذا ذهبت السّباع جاءت الطّيور فأكلت و طارت. فقال إبراهيم: ربّ أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السّباع و الطّيور و دوابّ البحر(1).

قالَ اللّه وحيا: أ لم تعلم أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ بأنّي قادر على الإحياء كيف أشاء؟! قالَ إبراهيم:

بَلى آمنت و أيقنت وَ لكِنْ سألت هذا لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و ينضمّ علمي بالبرهان؛ بالشّهود و العيان.

قيل: إنّ سؤال اللّه تعالى مع علمه بقوّة يقين إبراهيم؛ ليعلم النّاس أنّه عليه السّلام لم يكن على شكّ ، و للإشعار بأنّ على المؤمن أن يكون في طلب زيادة اليقين و الارتقاء إلى درجة الشّهود.

عن العيّاشي: سئل الرضا عليه السّلام أ كان في قلب إبراهيم شكّ ؟ قال: «لا، كان على يقين،(2) و لكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه».(3)

و قيل: إنّه عليه السّلام بعد مناظرته مع نمرود لمّا قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ (4)

فأطلق محبوسا(5) و قتل رجلا، قال [إبراهيم]: ليس هذا بإحياء و إماتة، و عند ذلك قال: رَبِّ أَرِنِي

ص: 523


1- تفسير الرازي 38:7.
2- (كان على يقين) ليس في المصدر.
3- تفسير العيّاشي 576/266:1، تفسير الصافي 270:1.
4- البقرة: 258/2.
5- أي نمرود.

كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى لتنكشف هذه المسألة عند نمرود(1).

و قيل: إنّ نمرود قال له: قل لربّك حتى يحيي و إلاّ قتلتك، فسأل اللّه ذلك. و قوله: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

أي بنجاتي من القتل، أو ليطمئنّ قلبي بقوّة حجّتي و برهاني.(2)

عن ابن عبّاس، و سعيد بن جبير: أنّ اللّه أوحى إليه: أنّي متّخذ بشرا خليلا، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السّلام و قال: إلهي ما علامة ذلك ؟ فقال: علامته أن يحيا الميّت بدعائه. فلمّا عظم مقام إبراهيم عليه السّلام في درجات العبوديّة، و أداء الرّسالة، خطر بباله: إنّي لعلّي أكون ذلك الخليل. فسأل إحياء الميّت، فقال اللّه: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأنّي خليل لك(3)

فإذن قالَ اللّه مستجيبا لدعائه: إن أردت ذلك فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل: إنّما خصّ الطّير؛ لأنّه أقرب إلى الإنسان، و أجمع لخواص الحيوان (4)فَصُرْهُنَّ و اضممهنّ إِلَيْكَ كي تتأمّلها و تعرف أشكالها مفصّلة حتى لا يلتبس عليك أحد منها بعد الإحياء.

عن الرضا عليه السّلام: «فأخذ إبراهيم عليه السّلام نسرا و بطّا و طاووسا و ديكا »(5).

و في رواية، بدل البطّ : الغراب (6).و في اخرى: الهدهد (7).و في ثالثة، بدل النّسر: الحمامة (8).و في رابعة:

النّعامة (9).و في خامسة: الصّرد(10).

عن الصادق عليه السّلام: «فذبحهنّ و عزل رءوسهنّ ، ثمّ نحز(11) أبدانهن في المنحاز بريشهنّ و لحومهنّ و عظامهنّ حتى اختلطت »(12).

و عنه عليه السّلام، في حديث: «أنّ إبراهيم دعا بمهراس فدقّ فيه الطّير جميعا، و حبس الرءوس عنده »(13).

و في رواية (الكافي): «فقطعهنّ و اخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السّباع التي أكل

ص: 524


1- تفسير الرازي 38:7.
2- تفسير الرازي 38:7.
3- تفسير الرازي 38:7.
4- تفسير أبي السعود 256:1، تفسير الصافي 272:1.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/198:1، تفسير الصافي 271:1.
6- تفسير الرازي 40:7.
7- تفسير العياشي 579/267:1، تفسير الصافي 272:1.
8- تفسير الرازي 40:7.
9- تفسير العياشي 575/265:1.
10- تفسير العياشي 581/269:1، و الصّرد: طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس و المنقار يصيد صغار الحشرات.
11- النّحز: الدق و السحق و الهرس بأداة كالهاون و المهراس.
12- الخصال: 146/265، تفسير الصافي 271:1.
13- تفسير العياشي 577/266:1، تفسير الصافي 271:1.

بعضها بعضا »(1).

ثُمَّ غبّ (2) اختلاطهنّ اِجْعَلْ وضع عَلى كُلِّ جَبَلٍ من الجبال التي حولك - عن الصادق عليه السّلام: «أنّها عشرة »(3).و قيل: كانت سبعة، و قيل: أربعة (4)- مِنْهُنَّ جُزْءاً من الأجزاء المختلطة ثُمَّ ادْعُهُنَّ بأسمائهنّ إليك، و قل لهنّ : تعالين بإذن اللّه، فإذا دعوتهنّ يَأْتِينَكَ

و يسعين إليك سَعْياً سريعا طيرانا، أو مشيا.

عن الرضا عليه السّلام: «جعل مناقيرهنّ بين أصابعه، ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ ، و وضع عنده حبّا و ماء، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان، و جاء كلّ بدن حتى انضمّ إلى رقبته و رأسه، فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ فطرن، ثمّ جئن و شربن من ذلك الماء، و التقطن من ذلك الحبّ و قلن: يا نبيّ اللّه أحييتنا أحياك اللّه، فقال إبراهيم عليه السّلام: بل اللّه يحيي و يميت، و هو على كلّ شيء قدير »(5).

و عن الصادق عليه السّلام، - في حديث ذكر فيه أخذ إبراهيم الطّيور الأربعة، و خلط أجزائهنّ ، و جعلها على عشرة أجبل - قال: «هذا تفسيره في الظّاهر، و تفسيره في الباطن: خذ أربعة ممّن يحتمل الكلام فاستودعهم علمك، ثمّ ابعثهم في أطراف الأرضين حججا (6) ،و إذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر يأتونك سعيا بإذن اللّه» الخبر (7) ،هذا أحد بطون الآية.

و قيل: إنّ منها أنّ إبراهيم عليه السّلام سأل من اللّه حياة قلبه؛ فأشار إليه بذبح الطّيور: الطّاوس كناية عن الزّينة، و الغراب عن الأمل، و الدّيك عن الشّهوة، و البطّ عن الحرص. فأشار إلى أنّه ما لم يذبح نفسه بالمجاهدة، و لم يقلع هذه الرّذائل عن النّفس، لم يحيى قلبه بالمشاهدة(8).

وَ اعْلَمْ بالشّهود بعد البرهان أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب على أمره، قادر على إنفاذ إرادته حَكِيمٌ في أفعاله، لا يصدر عنه من العاديّات و خوارقها إلاّ ما فيه الصّلاح التّام.

سورة البقرة (2): آیة 261

اشارة

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ

ص: 525


1- الكافي 473/305:8، تفسير الصافي 270:1.
2- أي بعد.
3- تفسير العياشي 574/265:1.
4- تفسير الرازي 42:7، تفسير أبي السعود 257:1.
5- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/198:1، تفسير الصافي 271:1.
6- زاد في الخصال: لك على النّاس.
7- الخصال: 146/265، تفسير الصافي: 271.
8- تفسير روح البيان 416:1.

سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)

سورة البقرة (2): آیة 261

ثمّ بعد ما بيّن اللّه تعالى من اصول العلم بالمبدإ و المعاد، و الاستدلال بالوقائع المسلّمة بين أهل الكتاب على صحّتهما، شرع في بيان جملة من الشّرائع و الأحكام، و لمّا كان من أشقّها التّكليف ببذل المال و الإنفاق على الفقراء و في سائر وجوه الخير، بدأ بترغيب العباد فيه بقوله: مَثَلُ نفقة المؤمنين اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ و يصرفون أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ و طريق الخير، و وجوه البرّ كَمَثَلِ حَبَّةٍ و قيل: إنّ المراد مثل المنفقين كمثل باذر حبّة صحيحة، زرعت في أرض عامرة مغلّة (1) ،فعند ذلك أَنْبَتَتْ و أخرجت تلك الحبّة سبعة سوق، لكلّ ساق سنبلة، فيكون المجموع سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما يشاهد في الذّرة و الدّخن، مع أنّه تمثيل لتصوير مضاعفة الثّواب، و يكفي فيه كونه معقولا و إن لم يكن له مصداق في الوجود، مع أنّه يحتمل أنّ زرع الحنطة كان سنبله في بدو الخلقة أو في بعض الأراضي المغلّة كذلك.

وَ اللّهُ يُضاعِفُ ثواب المنفق زائدا على تلك المضاعفة إلى ما شاء اللّه لِمَنْ يَشاءُ أن يضاعف له بفضله، و على حسب حال المنفق و الإنفاق، من إخلاصه و تعبه و خصاصته و مصرف إنفاقه، ككونه في الجهاد، أو على الوالدين، أو العلماء، أو ذراري الرّسول، فإنّه يتفاوت ثواب الأعمال بتفاوت الجهات و الخصوصيّات.

عن الصادق عليه السّلام: «هذا لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه »(2).

و عنه عليه السّلام: «إذا أحسن العبد عمله ضاعف اللّه عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف »(3).

و فيهما دلالة على أنّ تلك المضاعفة جارية في جميع الأعمال و العبادات.

وَ اللّهُ واسِعٌ جودا و فضلا لا يضيق عليه إعطاء الزّيادة كائنا ما كان

عَلِيمٌ به، و بنيّة المنفق و خلوصه و مقدار إنفاقه.

سورة البقرة (2): آیة 262

اشارة

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

ص: 526


1- المغلّة: الأرض المنتجة للغلات.
2- تفسير القمي 92:1، تفسير الصافي 272:1.
3- ثواب الأعمال: 168، تفسير الصافي 272:1.

سورة البقرة (2): آیة 262

ثمّ بيّن اللّه تعالى ما يعتبر في صحّة الإنفاق بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ من جهاد أو غيره من وجوه الخير ثُمَّ بعد التّوفيق بهذا العمل الصّالح النّافع لا يُتْبِعُونَ و لا يعقبون ما أَنْفَقُوا مَنًّا و إظهار حقّ على المنفق عليه، و حسن اصطناع به وَ لا أَذىً و إساءة بكلام أو فعل فيسوؤه، كأن يقول للفقير: تأذّينا منك، أو: لا نستريح من شرّك و زحمتك، أو يتطاول عليه، و أمثال ذلك. و تقديم ذكر المنّ لكونه أكثر وقوعا من الأذى، و ذكر كلمة (ثمّ ) لإظهار مباينة الإنفاق لهما، و كمال البعد بينه و بينهما.

عن الصادق عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أسدى إلى مؤمن معروفا، ثمّ آذاه بالكلام، أو منّ عليه، فقد أبطل اللّه صدقته »(1).

فتحصّل من الآية المباركة و الرواية الشّريفة أنّ الصّدقة، بل كلّ معروف، كزرع المؤمن، و المنّ و الأذى آفتاه، فعلى المؤمنين أن يحفظوا زرعهم من الآفة، فإذا حفظوه منها كان لَهُمْ أَجْرُهُمْ

و ثوابهم الموعود، في الآية السّابقة، المذخور عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللّطيف بهم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من نقص الأجر، و الابتلاء بالعذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلّفوه من الدّنيا، و ما فاتهم من مطلوب.

روى العامّة أنّها نزلت في عثمان حين جهّز جيش العسرة في غزوة تبوك، بألف بعير بأقتابها و أحلاسها، و ألف دينار (2).و في عبد الرّحمن بن عوف حيث تصدّق بأربعة آلاف درهم على رواية، أو دينار على اخرى، أو بنصف ماله على ثالثة(3).

و على هذا يحتمل أن يكون في ذكر المنّ و الأذى التّعريض عليهما، و الإشارة إلى منّهما على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بصدقتهما، كما يستفاد ممّا روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما من النّاس أحد أمنّ علينا في صحبته و ذات يديه من ابن أبي قحافة »(4).أنّه منّ بإسلامه و صحبته على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان من مصاديق قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا (5).

في ردّ ما روته العامّة في قضية أبي بكر

و قد أوّل بعض العامّة المنّ في الحديث بكثرة إنعامه بماله. و فيه: أنّه ما نقل من أحد

ص: 527


1- تفسير القمي 91:1، تفسير الصافي 272:1.
2- الأحلاس جمع حلس: و هو كلّ ما على ظهر الدابة تحت الرّحل و القتب و السّرج.
3- تفسير الرازي 45:7، تفسير أبي السعود 258:1، تفسير روح البيان 419:1.
4- تفسير الرازي 46:7.
5- الحجرات: 17/49.

أنّه كان قبل البعثة و بعدها غنيّا ذا ثروة، مع وضوح كون أمير المؤمنين عليه السّلام أمنّ عليه صلّى اللّه عليه و آله منه، حيث إنّه عليه السّلام بذل في محبّته نفسه و ماله. و كيف كان أبو بكر كثير الإنعام مع بخله بصدقة درهم لنجوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ؟! و لذلك ترك مكالمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نجواه عشرة أيّام.

و الحاصل: أنّه لا دلالة في الآية إلاّ على اشتراط أجر الصّدقة بخلوّها عن المنّ و الأذى، و انّهما مبطلان لها و محبطان لأجرها، و كونها عند الاقتران بهما حسرة و وبالا، و لا صراحة بل لا ظهور لها في المدح، و إنّما الصّراحة فيما نزل في صدقة أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (1).

رواية عامية في فضيلة الحسن بن علي عليهما السّلام

و روى بعض العامّة - في شأن نزول الآية - أنّ الحسن بن علي عليهما السّلام اشتهى طعاما، فباع قميص فاطمة عليها السّلام بستّة دراهم، فسأله سائل فأعطاها، ثمّ لقي رجلا يبيع ناقة، فاشتراها بأجل و باعها من آخر، فأراد أن يدفع الثّمن إلى بائعها فلم يجده. فحكى القضيّة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: أمّا السائل فرضوان، و أمّا البائع فميكائيل، و أمّا المشتري فجبرائيل، قوله تعالى:

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ... الآية(2).

أقول: الرواية قرينة على سوق الآية في غاية المدح.

سورة البقرة (2): آیة 263

اشارة

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

سورة البقرة (2): آیة 263

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط قبول الصّدقة بعدم اقترانها بالمنّ و الأذى بقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ و ردّ جميل عند عدم الإنفاق، كأن يقول للفقير: أنا منفعل منك، و معتذر إليك و اللّه يرزقك، و يوسّع عليك، حتى يسرّ قلبه و يطيب خاطره وَ مَغْفِرَةٌ و ستر لإلحاف السّائل في المسألة، و عفو عن تعدّيه في القول و بذاءة لسانه، و صفح عن إساءته خَيْرٌ لكم عند ربّكم، و أنفع مِنْ صَدَقَةٍ تحسبونها خيرا، إذا كان يَتْبَعُها أَذىً و إساءة؛ لأنّ في الكلام الجميل مسرّة قلب الفقير بلا ضرر عليه، بخلاف الإعطاء مع المنّ و الأذى، فإنّ فيه ضررا بما يكون تحمّله أشقّ عليه من تحمّل مرارة الفقر وَ اللّهُ غَنِيٌّ عمّن ينفق على الفقراء الذين هم عياله، و عن إنفاقكم، حيث إنّه بفضله و رحمته يرزقهم من حيث لا يحتسبون، بل أنتم محتاجون إلى الإنفاق حتّى يكون ذخرا لكم، و هو حَلِيمٌ غير عجول

ص: 528


1- الإنسان: 8/76.
2- تفسير روح البيان 419:1.

بعقوبة المانّ و المؤذي في صدقته، و فيه من السّخط و الوعيد لهم ما لا يخفى.

سورة البقرة (2): آیة 264

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

سورة البقرة (2): آیة 264

ثمّ أكّد سبحانه اشتراط صحّة الإنفاق و حسنه بعدم الإتباع بالمنّ و الأذى، بالنّهي الصّريح، و التّنصيص بالبطلان بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ و لا تحبطوا أجرها و ثوابها الموعود لكم بِالْمَنِّ وَ الْأَذى و في التوجّه من الغيبة إلى الخطاب، و توصيف المخاطبين بالإيمان غاية التّهيّج و كمال التّرغيب إلى العمل بموجب النّهي اهتماما به.

ثمّ للمبالغة في توضيح البطلان ضرب اللّه مثلا معقولا، و هو ما أفاد من أنّ إبطال المانّ و المؤذي إنفاقهما كَالَّذِي أي مثل إبطال المنافق الذي يُنْفِقُ مالَهُ في وجوه البرّ و سبل الخير، حال كونه مريدا بإنفاقه رِئاءَ النّاسِ و نفاقهم، غير قاصد لوجه اللّه و التّقرّب إليه؛ لأنّه لا يصدّق بقلبه وَ لا يُؤْمِنُ في ضميره بِاللّهِ حتى يكون في طلب رضاه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و دار الجزاء، حتى يهتمّ في تحصيل الثّواب و النّجاة من العقاب. فبطلان هذا المنافق لكفره و فساد نيّته أظهر من الشّمس، فكذلك بطلان عمل المانّ و المؤذي.

عن العيّاشي: عنهما عليهما السّلام: «نزلت في عثمان، و جرت في معاوية و أتباعهما »(1).

ثمّ مع وضوح حبط الصّدقات بالرّياء، بالغ سبحانه في توضيح خسران القراءة، بضرب مثل محسوس له بقوله: فَمَثَلُهُ و حاله المعجب في إبطاله إنفاقه بالرّياء كَمَثَلِ صَفْوانٍ و حجر صلب أملس كان عَلَيْهِ تُرابٌ يسير فَأَصابَهُ و انصبّ عليه وابِلٌ و مطر شديد عظيم القطر، فغسل كلّ ما على الحجر من التّراب فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس ليس عليه شيء من الغبار.

ثمّ بيّن وجه شباهة اولئك المبطلين لإنفاقهم بقوله: لا يَقْدِرُونَ اولئك الخاسرون بسبب المنّ و الايذاء و الرّياء عَلى ثواب شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا و عملوا و لا يستطيعون [على] الانتفاع بما فعلوا؛

ص: 529


1- تفسير العياشي 586/271:1، تفسير الصافي 273:1.

لحبط أعمالهم و ضياعها، و عدم استحقاقهم الأجر عليها.

فالكافر المنافق كالحجر الأملس، و إنفاقه كالتّراب على الحجر، و الكفر و الرّياء كالمطر الشّديد، و كذلك المنفق و المؤذي كالحجر، و المنّ و الأذى كالمطر الشّديد يذهبان بما للإنفاق من الأجر و الثّواب.

ثمّ أشار سبحانه إلى سبب هذا الخسران بقوله: وَ اللّهُ لا يَهْدِي و لا يوفّق لسلوك طريق الخير و الرّشاد اَلْقَوْمَ الْكافِرِينَ .

و فيه تعريض على المانّ المؤذي في إنفاقه، و إشعار بأنّ الخصال المزبورة من خصال الكفّار، و المؤمن منزّه عنها، أو إيماء على أنّ المانّ المؤذي و القراءة يموتون كفّارا، و يحشرون كفارا.

نقل عن بعض أن مثل من يقصد بالطّاعة الرّياء و السّمعة، كمثل رجل خرج إلى السّوق و ملأ كيسه حصى، فيقول النّاس: ما أملأ كيس هذا الرّجل! و لا منفعة له سوى مقالة النّاس، فلو أراد أن يشتري به شيئا لا يعطى به شيئا.

نقل أنّ بعضا بالغوا في إخفاء الصّدقة، و كانوا يطلبون فقيرا أعمى لا يعلم من المتصدّق، أو كانوا يربطون في ثوب الفقير و هو نائم، أو كانوا يلقونها في طريق الفقير ليأخذها(1).

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر» قالوا: يا رسول اللّه، و ما الشّرك الأصغر؟ قال: «الرّياء، يقول اللّه لهم حين يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون لهم، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟»(2).

سورة البقرة (2): آیة 265

اشارة

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

سورة البقرة (2): آیة 265

ثمّ أنّه سبحانه بعد ذكر المثل لإنفاق المانّ و المؤذي و القراءة، ذكر مثلا لإنفاق المؤمن المخلص في إنفاقه و كثرة ثوابه بقوله: وَ مَثَلُ إنفاق المؤمنين اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ في وجوه الخير قاصدين بإنفاقهم اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ و طلب ثوابه وَ تَثْبِيتاً لبعض مِنْ أَنْفُسِهِمْ و جعلا

ص: 530


1- تفسير روح البيان 423:1.
2- تفسير روح البيان 423:1.

لمقدار منها مستقرّا على الإيمان، و ترسخا لليقين في قلوبهم.

قيل: إنّ العلائق الدّنيويّة تعلّق القلب بين الدنيا و الآخرة و بين الإيمان و الكفر، فما لم يقطع المؤمن جميع العلائق الدّنيويّة من قلبه لا يستقرّ قلبه على الإيمان و يتمحّض للآخرة، و لا شكّ أنّ من العلائق حبّ المال، و منها حبّ الحياة، و منها حبّ الأهل و الأولاد، فكلّما قطع علاقة منها حصل له بعض الثّبات، أو حصل لبعض نفسه الاستقرار على الإيمان، و لبعض قلبه التّوجّه إلى الحقّ .

أقول: لا ريب أنّ المواظبة على العبادات و الرّياضات النّفسانيّة تورث القلب نورا و ضياء تزول به ظلمة الشّكوك و الشّبهات و يزداد به اليقين فيها حتى تكون المعارف و العقائد الحقّة راسخة فيها فتكون كلّ عبادة من العبادات موجبا لزيادة مرتبة من اليقين، و ثبات بعض القلب على الإيمان.

فالإنفاق لهذين الغرضين يكون مثله في كثرة النّفع و الثّواب كَمَثَلِ جَنَّةٍ واقعة بِرَبْوَةٍ و نظير بستان كائن في مكان مرتفع مصون من أن يفسده البرد للطافة الهواء و هبوب الرّياح.

قيل: إنّ الأشجار الواقعة في الرّبوة تكون أحسن منظرا و أزكى ثمرا، و أمّا الأراضي المنخفضة فقلّما تسلم ثمارها من البرد، لكثافة هوائها بركود الرّياح(1).

و قيل: إنّ المراد من الربوة الأرض اللّيّنة الجيّدة، بحيث إذا نزل عليها المطر انتفخت و نمت، فإذا كانت الأرض كذلك يكثر ريعها، و تكمل ثمارها و أشجارها (2) ،بخلاف الأراضي المرتفعة، فإنّها يقل انتفاعها من الأنهار، و تكثر فيها الرّياح المضرّة.

و على أي تقدير يفرض أنّ تلك الجنّة العالية أَصابَها و نزل عليها وابِلٌ مطر نافع عظيم القطر فَآتَتْ تلك الجنّة صاحبها حينئذ أُكُلَها و ثمارها ضِعْفَيْنِ قيل: يعني مثلي ما كان يعهد من هذا البستان من الثّمر(3).

عن ابن عبّاس: حملت في سنة من الرّيع ما يحمل غيرها في سنتين. و قيل: الضّعف: مثلي الشيء، و ضعفيه: أربعة أمثاله(4).

فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ و مطر صغير القطر، يكفيها لمضاعفة ثمرها، لكرامة منبتها، و جودة

ص: 531


1- تفسير روح البيان 425:1.
2- و كذا.
3- تفسير روح البيان 425:1.
4- تفسير روح البيان 425:1.

محلّها، و برودة هوائها.

قيل: إنّ المطر الخفيف و رطوبة الهواء إذا داما يفيدان فائدة المطر العظيم.

و قيل: إنّ المراد أنّ الطلّ يكفي لأن يكون لها ثمر، إن كان ثمرها دون الضّعف، و على أي تقدير لا تبقى بلا ثمر.

عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام: «أنّها نزلت في عليّ صلوات اللّه عليه »(1).

وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الإنفاقات و سائر العبادات بَصِيرٌ و مطّلع كالناظر إليه، لا يمكن أن تخفى عنه قليلة و كثيرة؛ فيجازي بأضعاف الجزاء و أحسنه.

سورة البقرة (2): آیة 266

اشارة

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

سورة البقرة (2): آیة 266

ثمّ أنّه تعالى للمبالغة في توضيح بطلان صدقات المانّ و المؤذي و حسرتهما على حبطها، مع كمال الحاجة إليها، ضرب مثلا آخر بقوله: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أيّها المؤمنون العقلاء أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ

و بستان تكون أكثر أشجارها مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ هما أنفع الأشجار و أشرفها، و مع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فإذن تكون في غاية الحسن و النّظارة و النّفع، ثمّ مع هذين الجنسين من الأشجار الجامعة لفنون المنافع يكون لَهُ فِيها رزق وافر، و حظّ متكاثر مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الأخر.

و تخصيص النّخل و العنب - مع دخولهما في عموم الثّمرات - و تقديمهما، لكونهما الأصل و الرّكن فيها، و أكرم الأشجار و أنفعها.

ثمّ بعد بيان صفة الجنّة، و كمال نفعها بحيث لا يتصوّر أحسن و أنفع منها، بيّن شدّة حاجة صاحبها إليها، و إلى منافعها بقوله: وَ الحال أنّه أَصابَهُ الْكِبَرُ و الهرم و الضّعف الذي هو مقتضي لشدّة الحاجة إلى منافعها، و العجز عن تدارك أسباب المعاش من غيرها وَ لَهُ مع ذلك الهرم و الضّعف ذُرِّيَّةٌ و أولاد ضُعَفاءُ عجزة عن تحصيل القوت الذي يسدّون به الرّمق، لأجل الصّغر و الضّعف، فكلّهم صاروا كلاّ على والدهم الضّعيف، و حياتهم و معاشهم على هذا الفرض منوطان

ص: 532


1- تفسير العياشي 589/272:1.

بثمار تلك الجنّة و منافعها، بحيث لو لم تكن لوقعوا جميعا في المخمصة و الهلاك فَأَصابَها إِعْصارٌ و ريح عاصفة شديدة تستدير في الأرض، ثمّ تنعكس منها ساطعة إلى السّماء كهيئة العمود.

قيل: يسمّيها العرب الزّوبعة (1) ،و العجم (گردباد).

و من الواضح أنّ هذه الرّيح بنفسها قالعة للأشجار و معدمة للجنّة، و مع ذلك كانت فِيهِ نارٌ

شديدة محرقة فَاحْتَرَقَتْ بها الجنّة و أشجارها، و ذهبت ثمارها، و خرّبت و محت آثارها.

فانظر كيف يبقى صاحب هذه الجنّة متحيّرا، حيث إنّه لا يجد ما يعود على نفسه و عياله، و لا يقوى أن يغرس مثلها و لا يعينه أحد من ذرّيّته، إذن لكونهم في غاية العجز و الضّعف، فليس لهم إلاّ الهلاك.

كذلك من ينفق ماله، أو يفعل الأعمال الحسنة، ثمّ يحبط أجرها بالمنّ و الأذى و الرّياء و غيرها من الآفات، لا ينتفع بها يوم القيامة مع شدّة الحاجة إليها، فكما لا يودّ أحد أن يكون له شأن تلك الجنّة، كذلك لا يودّ أن يحبط أجر أعماله و صدقاته، لكون حسرته و أسفه أشدّ من صاحب الجنّة.

كَذلِكَ التّبيين الواضح لسوء عاقبة المنّ و الأذى و الرّياء في الصّدقات و العبادات يُبَيِّنُ اللّهُ

و يوضّح لَكُمُ الْآياتِ الدّالّة على ولايته للمؤمنين، و الدّلائل المثبتة للشّرع المتين، و العبارات المبيّنة لحكم أحكام الدّين لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فيها، و لكي تتدبروها، و تعتبروا بها، و تلتزموا باتّباعها.

سورة البقرة (2): آیة 267

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

سورة البقرة (2): آیة 267

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن شرائط صحّة الإنفاق، من حيث نيّة المنفق و أخلاقه و سلوكه مع الفقير، بيّن شرط صحّته أو كماله، من حيث نفس المال، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا و تصدّقوا في سبيل اللّه مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ بالتّجارة من الأموال، و من جياد ما استفدتم من الارباح.

روي أنّها نزلت في قوم لهم مال من ربا الجاهليّة، و كانوا يتصدّقون منه، فنهاهم اللّه عن ذلك و أمرهم بالصّدقة بالحلال(2).

و عن الصادق عليه السّلام: «كان القوم قد كسبوا مكاسب [سوء] في الجاهليّة، فلمّا أسلموا أرادوا أن

ص: 533


1- تفسير الرازي 60:7.
2- مجمع البيان 655:2.

يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها، فأبى اللّه تبارك و تعالى إلاّ أن يخرجوا من طيّب(1) ما كسبوا »(2).

و روي أنّ اللّه طيّب، و لا يقبل إلاّ الطيّب (3) ،و على هذا تكون الآية في بيان شرط صحّة الإنفاق.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصّدقة »(4).

و عليه تكون بيانا لشرط كماله. و يحتمل أن يكون المراد من الطّيّب القدر المشترك بين الحلال و الجيّد.

و قيل: إنّ شرط الحلّيّة مستفاد من الأمر حيث إنّ الإنفاق من الحرام لا يؤمر به، و من قوله تعالى بعده: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ و الخبيث هو الرّديء المستخبث، و اعتبار جودة المال يستفاد من قوله: طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ .

اعتراض و دفع

إن قيل: قد ثبت في الشّرع على مذهب الإمامية وجوب أداء الخمس من المال المختلط بالحرام، إذا لم يعلم مالكه و قدره - و هو مناف لمدلول الآية من اعتبار الحلّية في المال - فإنّ الأمر بأداء الخمس من المال المختلط بالحرام، أمر بالإنفاق من المال الحرام.

قلنا: يستفاد من تشريع الخمس تحقّق المعاوضة القهريّة من مالك الملوك الذي هو وليّ المؤمنين، بأن يصير مال الحرام حين الاختلاط ملكا للمتصرّف بعوض الخمس الذي يصرفه في مصارفه.

وَ أنفقوا مِمّا من طيّبات ما أَخْرَجْنا و أنبتنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ من الحبوب و الثّمار و المعادن وَ لا تَيَمَّمُوا و لا تقصدوا حين إرادة الإنفاق اَلْخَبِيثَ من المال، و هو المال الحرام، أو المعيوب حال كونهم مِنْهُ خاصّة تُنْفِقُونَ في سبيل اللّه، و تختارون لأنفسكم الحلال و الجيّد.

و فيه إشعار بأنّه لا بأس بالإنفاق من الرّديء إذا كان كلّ المال رديئا.

و قيل: إنّ قوله: مِنْهُ تُنْفِقُونَ بتقدير همزة الاستفهام التّوبيخي، فيكون المعنى: أ من الخبيث تنفقون ؟! وَ الحال أنّكم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ من أخذه عوضا من حقوقكم، أو في معاملاتكم في وقت من الأوقات، أو بوجه من الوجوه إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا و تسامحوا فِيهِ مخافة فوت حقّكم، أو لاحتياجكم إليه.

ص: 534


1- في الكافي: أطيب.
2- الكافي 10/48:4، تفسير الصافي 274:1.
3- صحيح مسلم 1015/703:2.
4- مجمع البيان 655:2، تفسير الصافي 275:1.

و قيل: إنّ المراد أنّه لو اهدي إليكم الرّديء لا تأخذونه إلاّ عن استحياء و إغماض.

عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أمر بالنّخل أن يزكّى، يجيء أقوام بألوان من التّمر هو من أردأ التّمر، يؤدّونه من زكاتهم، تمرة يقال لها الجعرور(1) و المعافارة، قليلة اللّحاء، عظيمة النّواة، و كان بعضهم يجيء بها عن [التمر] الجيّد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تخرصوا هاتين التّمرتين، و لا تجيئوا منهما بشيء. و في ذلك نزل: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » (2) الخبر.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عن إنفاقكم، و أمره به ليس لحاجة إليه، بل إنّما هو لنفعكم و حاجتكم إليه في تكميل نفوسكم حَمِيدٌ قيل: يعني مستحقّ للحمد على نعمه عليكم، و قيل: إنّ معناه أنّه حامد على إعطاء الجيّد، و مثيب عليه.

و في الأمر بالعلم إشعار بأنّ إعطاء الرّديء لا يكون إلاّ لأجل الجهل بغنائه تعالى، و لتوهّم حاجته و اضطراره إلى هذا الرّديء، فيقبله البتّة، و أما إذا علم أنّ ما يعطيه بمنزلة البذر، ليحصد حاصله في يوم فقره و فاقته، فلا بدّ من أن يبالغ في جودته.

سورة البقرة (2): آیة 268

اشارة

اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)

سورة البقرة (2): آیة 268

ثمّ لمّا رغّب سبحانه في الإنفاق بجياد المال، و كان الشّيطان يمنع عنه بوسوسته، و يردع عنه بتسويله، نبّه المؤمنين به، و بقبح طاعته بقوله: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ و يوسوس في قلوبكم أنّ عاقبة إنفاقكم عدم المال، و صفر اليد، و الابتلاء بشدّة الحاجة وَ يَأْمُرُكُمْ بتسويله و يغريكم بِالْفَحْشاءِ و القبائح العقليّة من البخل و منع الحقوق الواجبة وَ اللّهُ يَعِدُكُمْ في إنفاقكم مَغْفِرَةً

و سترا كائنا مِنْهُ لذنوبكم وَ فَضْلاً و زيادة في المال و الأجر.

عن ابن مسعود: أنّ للشّيطان لمّة (3) ؛و هي الإيعاد بالشّرّ، و للملك لمّة؛ و هي الوعد بالخير، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من اللّه، و من وجد الأوّل فليتعوّذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. ثمّ قرأ هذه الآية(4).

وَ اللّهُ واسِعٌ و منبسط فضله على المنفقين في وجوه الخير عَلِيمٌ بمقدار إنفاقهم و خلوص

ص: 535


1- الجعرور: ضرب من التمر صغار لا ينتفع به.
2- الكافي 9/48:4، تفسير الصافي 275:1.
3- لمّة الشيطان: هي همّته و خطرته في قلب الإنسان.
4- تفسير الرازي 64:7.

نيّاتهم؛ فينجز ما وعده على إنفاقكم، و لا يضيع أجركم.

سورة البقرة (2): آیة 269

اشارة

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)

سورة البقرة (2): آیة 269

ثمّ أنّه تعالى - بعد ما نبّه على وعد الشيطان و تسويله، و وعد الرّحمن و إلهامه - أشار إلى أنّ ترجيح الثّاني على الأوّل متوقّف على العقل السليم و العلم و التّوفيق للعمل بقوله: يُؤْتِي اللّه اَلْحِكْمَةَ

قيل: هي العلم، و توفيق العمل(1).

عن الصادق عليه السّلام: «الحكمة: المعرفة، و الفقه في الدّين، فمن فقه منكم فهو حكيم، و ما [من] أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من فقيه »(2).

و عنه عليه السّلام قال: «طاعة اللّه، و معرفة الإمام »(3).

و عنه عليه السّلام في رواية اخرى: «معرفة الإمام، و اجتناب الكبائر »(4).

و قيل: هي القرآن و ما فيه من المواعظ و عجائب الأسرار (5).و مرجع الجميع إلى المعنى الواحد، و هو معرفة اللّه و العلم بالأحكام، و من الواضح أنّ طريقهما منحصر بمعرفة النبيّ و الإمام، و العلم بحقيقة القرآن و أسراره.

و التّوفيق للعمل ملازم لهذه المعارف، فإنّ جميعها هو الحكمة التي تكون فضلا من اللّه يعطيه مَنْ يَشاءُ و يختاره من النفوس الزّكيّة و الذّوات الطّيّبة وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ من قبل اللّه، و بإفاضته و تفضّله فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً و نفعا كَثِيراً لا يعدله خير في الدّنيا و الآخرة.

عن الصادق عليه السّلام: «الحكمة ضياء المعرفة، و ميراث(6) التّقوى، و ثمرة الصّدق. و ما أنعم اللّه على عباده بنعمة أنعم و أعظم و أرفع و أبهى من الحكمة »(7).

قيل: إنّما سمّى اللّه الدّنيا بأسرها قليلا حيث قال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ (8).و سمّى الحكمة خيرا

ص: 536


1- تفسير روح البيان 431:1.
2- تفسير العياشي 603/276:1، تفسير الصافي 276:1.
3- الكافي 11/142:1، تفسير الصافي 276:1.
4- الكافي 20/216:2، تفسير الصافي 276:1.
5- تفسير الرازي 67:7.
6- في مصباح الشريعة: و ميزان.
7- مصباح الشريعة: 198، تفسير الصافي 276:1، و في مصباح الشريعة: الحكمة للقلب.
8- تفسير الرازي 67:7، و الآية من سورة النساء: 77/4.

كثيرا؛ لأنّ الدّنيا محدودة من جميع الجهات، و العلم لا نهاية لمراتبه و مدّة بقائه، فالعلم و الحكمة خير من الدّنيا و ما فيها.

وَ ما يَذَّكَّرُ لتلك الفضيلة، و لا يتنبّه لهذه المزيّة للحكمة أحد إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ و ذوو العقول السّليمة، الخالصة عن شوائب الأوهام، الغالبة على الشّهوات. و هم الحكماء الرّبانيّون و العلماء باللّه، لوضوح أنّ من لا غلبة لعقله على هواه ليس له ذلك التّنبّه و الاتّعاظ .

سورة البقرة (2): آیة 270

اشارة

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)

سورة البقرة (2): آیة 270

ثمّ أنّه تعالى - لشدّة الاهتمام بالانفاق الذي هو أحسن الأعمال و أنفعها - أكّد أمره به بالوعد بالثّواب العظيم، و التّحذير عن تركه بالعقاب الشّديد، بقوله: وَ ما أَنْفَقْتُمْ في سبيل اللّه مِنْ نَفَقَةٍ

و بأيّ شيء تصدّقتم من قليل أو كثير، في حقّ أو باطل، في سرّ أو علانية أَوْ نَذَرْتُمْ و التزمتم على أنفسكم مِنْ نَذْرٍ و التزام معلّق أو مطلق، في طاعة كنذر أمير المؤمنين و فاطمة عليهما السّلام صيام ثلاثة أيّام لشفاء ولدهما، أو معصية كنذر نسوة من قبيلة بني أود أن تنحر كلّ واحدة منهن عشر قلائص(1)

إن قتل الحسين عليه السّلام، على ما نقله ابن أبي الحديد (2)فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ فيثيب على مستحسنها، و يعاقب على قبيحها. و فيه - مع كمال اختصاره - وعد عظيم و وعيد شديد.

ثمّ أكّد الوعيد بقوله: وَ ما لِلظّالِمِينَ على أنفسهم بترك الإنفاق الواجب، أو إبطاله بالرّياء و السّمعة أو المنّ و الأذى، أو بالصّرف في تشييد الكفر و تضعيف الحقّ ، أو بنذره في المعصية مِنْ أَنْصارٍ و أعوان مدافعين عنهم بأس اللّه و عذابه، فلا شفاعة و لا مدافعة. و إيراد (الأنصار) بصيغة الجمع لمقابلة الجمع و هو (الظالمين) و عطف النّذر على الإنفاق، لغلبة استلزامه إيّاه.

سورة البقرة (2): آیة 271

اشارة

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

ص: 537


1- القلائص: جمع قلوص، و القلوص من الإبل: الفتية من حين تركب إلى التاسعة من عمرها.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 61:4.

سورة البقرة (2): آیة 271

ثمّ بيّن سبحانه مراتب رجحان الصّدقات من حيث الإعلان و الإسرار، و تفاوتهما في الأجر بقوله:

إِنْ تُبْدُوا و تظهروا اَلصَّدَقاتِ المفروضة و المندوبة، كما هو ظاهر عموم اللّفظ فَنِعِمّا هِيَ

أي شيء ممدوح، ذلك الإبداء عند اللّه إن سلم من السّمعة و الرّياء.

وَ إِنْ تُخْفُوها من النّاس وَ تُؤْتُوهَا الذين علمتموهم اَلْفُقَراءَ و غير المالكين مئونة سنتهم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و أحسن و أفضل عند اللّه من الإبداء، حيث إنّ الإعطاء في الخفاء أبعد من الرّياء، و أحفظ لعرض الفقراء.

قيل: وجه التّصريح عند الإخفاء بالإيتاء للفقراء - مع أنّه واجب في الإبداء أيضا - أنّ الإخفاء مظنّة الالتباس، فإنّ الغنيّ ربّما يدّعي الفقر و يقبل الصّدقة سرّا، و لا يفعل ذلك عند النّاس(1).

وَ يُكَفِّرُ اللّه و يستر عَنْكُمْ بعفوه بعضا مِنْ سَيِّئاتِكُمْ و شيئا من ذنوبكم، و قيل: إنّ (من) زائدة، و المعنى: يمحو عنكم جميع ذنوبكم (2).فجعل اللّه ستر الذّنوب جزاء لستر الصّدقات.

وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الصّدقات و سائر العبادات، و لو كان في السّرّ و الخفية خَبِيرٌ و مطّلع، فمن يطلب بها مرضاة اللّه يحصل مطلوبه بإتيانها في السّرّ، إذ لا تخفى على اللّه خافية.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «صدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ ، و تدفع(3) الخطيئة، كما يطفئ الماء النّار، و تدفع سبعين بابا من البلاء »(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه - إلى أن قال -: و رجل تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينه ما أنفق بشماله »(5).

و عن الباقر عليه السّلام، في قوله عزّ و جلّ : إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ قال: «يعني الزّكاة المفروضة» قال: قلت: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ؟ قال: «يعني النّافلة »(6).

و عن الصادق عليه السّلام، في قوله: تُخْفُوها قال: «هي سوى الزّكاة، إنّ الزّكاة علانيّة خير له »(7).

و عنه عليه السّلام: «فإنّ كلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره [و كلّ ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه] و لو أنّ رجلا حمل زكاته على عاتقه، فقسّمها علانيّة، كان ذلك حسنا جميلا »(8).

ص: 538


1- تفسير روح البيان 432:1 و 433.
2- تفسير الرازي 76:7.
3- في مجمع البيان: و تطفئ.
4- مجمع البيان 385:2. طبعة شركة المعارف الإسلامية.
5- مجمع البيان 663:2.
6- الكافي 1/60:4.
7- الكافي 17/502:3، و فيه: علانية غير سرّ.
8- الكافي 16/501:3.

و عن ابن عبّاس رحمه اللّه: صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، و صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة و عشرين ضعفا(1).

سورة البقرة (2): آیة 272

اشارة

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)

سورة البقرة (2): آیة 272

ثمّ أنّه قيل: لمّا كثر المسلمون(2) نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الإنفاق على المشركين حتّى تحملهم الحاجة على الدّخول في الإسلام، فنزلت (3)لَيْسَ بالواجب عَلَيْكَ هُداهُمْ و إرشادهم جبرا، و إدخالهم في دين الإسلام اضطرارا، بل إنّما عليك البلاغ و الإرشاد بالبيان و الدّعوة إلى الحقّ ، و المجادلة بالتي هي أحسن و الوعظ و النّصح وَ لكِنَّ اللّهَ بتوفيقه و تأييده يَهْدِي و يوصل إلى الحقّ مَنْ يَشاءُ هدايته و إيصاله إليه من النّفوس الزّكيّة و الذّوات المستعدّة القابلة التّابعة للعقل.

و روي أنّ نتيلة امّ أسماء بنت أبي بكر جاءت إلى ابنتها تسألها، و كذلك جدّتها - و هما مشركتان - فقالت: لا اعطيكما حتى أستأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك، فنزلت [الآية] فأمرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن تتصدّق عليهما(4).

و قيل: كان اناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة و النّضير، و كانوا لا يتصدّقون عليهم، و يقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئا(5).

و قيل: جيء بها على طريق تلوين الخطاب، و توجيهه إلى شخص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للمبالغة في إقبال المؤمنين على الامتثال.

ثمّ صرّح بتأكّد رجحانه و كثرة الثواب عليه لعموم المؤمنين بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا و أي شيء تتصدّقوا أيّها المسلمون مِنْ خَيْرٍ و مال، كان المنفق عليه كافرا أو مسلما فَلِأَنْفُسِكُمْ نفعه و ثوابه، لا لغيركم، و لا يضرّكم كفر الفقير.

ص: 539


1- تفسير أبي السعود 264:1، تفسير روح البيان 433:1.
2- في تفسير أبي السعود و تفسير روح البيان: كثر فقراء المسلمين.
3- تفسير أبي السعود 264:1، تفسير روح البيان 434:1.
4- تفسير الرازي 76:7.
5- تفسير الرازي 76:7.

وَ ما تُنْفِقُونَ و لا تتصدّقون على المشركين - و لو كانوا من أرحامكم و أقاربكم - لعلّة من العلل، أو وجه من الوجوه إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ و طلبا لمرضاته، لا لتأييدهم في كفرهم، و لا للرّكون إليهم في باطلهم، فإنّ اللّه عالم بما في قلوبكم من الإخلاص، و قصد صلة الرّحم، و سدّ خلّة المضطرّ. و أمّا تلبّسهم بالكفر فليس بمانع عن الإنفاق، إلاّ إذا كان من الصّدقات المفرضة كالزّكاة و الفطرة، أو كان في الإنفاق عليهم تقوية الباطل و تضعيف الحقّ ، ففي الصورتين لا يجوز الإنفاق على غير أهل الحقّ .

ثمّ بالنّظر إلى العداوة الدّينيّة بين المسلمين و الكفّار الرّادعة للمسلمين عن الإنفاق عليهم، و قوّة توهّم مرجوحيّة الإنفاق عليهم في نظر المسلمين، أكّد اللّه سبحانه فضله و كثرة ثوابه بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ و مال على المسلم أو الكافر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أجره المضاعف، و يوفّر لكم ثوابه، مضافا إلى ما يخلفه كما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ اجعل للمنفق خلفا، و للممسك تلفا »(1).

وَ أَنْتُمْ أيّها المنفقون لوجه اللّه لا تُظْلَمُونَ في حقّكم، و لا تنقصون من أجركم، فلا ينبغي التّسامح فيه.

قال بعض: لو كان الفقير شرّ خلق اللّه، لكان لك ثواب نفقتك(2).

سورة البقرة (2): آیة 273

اشارة

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

سورة البقرة (2): آیة 273

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن تعميم استحباب الصّدقة للمؤمن و الكافر، بيّن أولويّة المؤمنين الخلّص؛ بالإنفاق، و أفضليّة التّصدّق عليهم بقوله: لِلْفُقَراءِ من المؤمنين الخلّص، اجعلوا صدقاتكم، و هم اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا و حبسوا عن تحصيل المعاش، لاستغراق أوقاتهم بالعبادات من الجهاد فِي سَبِيلِ اللّهِ و نصرة الدّين، و منهم العلماء المروّجون للشّرع، و المشتغلون بتحصيل العلوم الدّينيّة، فإنّهم لا يَسْتَطِيعُونَ لكثرة اشتغالهم بالعبادات و المهام الإسلاميّة ضَرْباً و سيرا فِي الْأَرْضِ للتّجارة، و طلب المعيشة.

ذكر أصحاب الصّفة و أوصافهم

قيل: نزلت في فقراء المهاجرين، و كانوا نحوا من أربعمائة، لم يكن لهم مسكن

ص: 540


1- تفسير أبي السعود 265:1.
2- الكشاف 317:1، تفسير الرازي 78:7.

و عشائر بالمدينة، و كانوا ملازمين للمسجد ساكنين في صفّته (1) ؛و هي مسقّفة، يتعلّمون القرآن باللّيل، و يستغرقون أوقاتهم بالتّعلّم و العبادة و الجهاد، و يخرجون في كلّ غزوة و سريّة بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(2).

عن ابن عبّاس، قال: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما على أصحاب الصّفّة، فرأى فقرهم و جهدهم(3) ، فطيّب قلوبهم فقال: «أبشروا يا أصحاب الصّفّة، فمن لقيني من امّتي على النّعت الذي أنتم عليه؛ راضيا بما فيه، فإنّه من رفقائي »(4).

و عن ابن عبّاس رحمه اللّه، في تفسير الآية قال: هؤلاء قوم(5) حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل اللّه، فعذرهم اللّه(6).

ثمّ بعد بيان واقع حالهم، بيّن حال عشرتهم و سلوكهم مع النّاس بقوله: يَحْسَبُهُمُ و يظنّهم اَلْجاهِلُ بحالهم و شأنهم غير المختبر لأمرهم كونهم أَغْنِياءَ مِنَ أجل غاية اَلتَّعَفُّفِ و كفّ النّفس عن مسألة النّاس، و إظهار الحاجة إليهم. روي أنّهم كانوا يقومون باللّيل للتّهجّد، و يحطبون بالنّهار للتّعفّف(7).

ثمّ كأنّه قيل: فكيف يعرف فقرهم ؟ فقال سبحانه: تَعْرِفُهُمْ بالفقر و الفاقة بِسِيماهُمْ

و علامات الفقر فيهم من صفرة اللّون، و نحول الجسم، و ضعف القوى، و رثاثة الثّياب، و أمثال ذلك.

ثمّ لمّا كان الإنسان لا يكاد يخلوا عن الاضطرار إلى السؤال و طلب الحاجة من الغير، و لو بالغ في التّعفّف، وصفهم سبحانه - بعد توصيفهم بالمبالغة في التّعفّف - بأنّهم قوم إذا اضطرّوا إلى سؤال حاجة دنيويّة لا يَسْئَلُونَ النّاسَ حاجتهم إِلْحافاً و إلحاحا.

عن ابن مسعود: أنّ اللّه يحبّ العفيف المتعفّف، و يبغض الفاحش البذيء.

و قيل: السائل الملحف: الذي إن اعطي كثيرا أفرط في المدح، و إن اعطي قليلا أفرط في الذّمّ (8).

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يفتح أحد باب مسألة إلاّ فتح اللّه عليه باب فقر، و من يستغن يغنه اللّه، و من يستعفف يعفّه اللّه، لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيبيعه بمدّ من تمر، خير له من أن يسأل

ص: 541


1- الصّفّة: المكان المظلّل في مسجد المدينة، حيث كان يأوي إليه فقراء المهاجرين و يرعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هم أصاب الصفّة.
2- تفسير الرازي 79:7.
3- في تفسير الرازي: وجدهم.
4- تفسير الرازي 79:7، و فيه: من رفاقي.
5- زاد في تفسير الرازي: من المهاجرين.
6- تفسير الرازي 80:7.
7- تفسير الرازي 81:7.
8- تفسير الرازي 81:7.

النّاس »(1).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله «لأن يأخذ أحدكم حبله، فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيكفّ بها وجهه، خير له من أن يسأل النّاس أشياءهم؛ أعطوه أو منعوه».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف، و يبغض البذيء السّائل الملحف »(2).

و قيل: إنّ المراد من الآية نفي السؤال و الإلحاف جميعا، أي لا يسألون النّاس أصلا فيكون إلحافا(3).

ثمّ حثّ سبحانه على مطلق الإنفاق، سيّما على الموصوفين بتلك الصّفات، بأبلغ بيان و أخصره و أوجزه بقوله: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ و مال، أو من كلّ ما وجدتموه، ممّا ينتفع به الغير؛ علما أو جاها أو مالا فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم به أحسن الجزاء.

سورة البقرة (2): الآیات 274 الی 276

اشارة

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ (276)

سورة البقرة (2): آیة 274

ثمّ بيّن شمول حسن الإنفاق لجميع الأوقات و الأحوال بقوله: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في أيّ وقت من الأوقات كان بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ و في أيّ حال من الأحوال كان سِرًّا وَ عَلانِيَةً لا يخصّون إنفاقهم بوقت دون وقت، و بحال دون حال. و لعلّ وجه تقديم اللّيل و السّرّ، مزيّتهما على النّهار و العلانيّة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ و ثوابهم الموعود المدّخر عِنْدَ رَبِّهِمْ و مليكهم اللّطيف بهم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه آت وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من محبوب فات.

ذكر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السّلام

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ عليّا عليه السّلام ما كان يملك غير أربعة دراهم؛ فتصدّق بدرهم ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم سرّا، و بدرهم علانيّة. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما حملك على هذا»

ص: 542


1- و كذا.
2- تفسير روح البيان 435:1.
3- تفسير روح البيان 435:1.

فقال عليه السّلام: «استوجب ما وعدني ربّي» فقال صلوات اللّه عليه: «لك ذلك» فأنزل اللّه هذه الآية(1).

و عن العيّاشي و الطّبرسي: عن الصادقين(2) عليهما السّلام، ما يقرب منه(3).

و من عجائب الرّوايات ما عن الزّمخشري، و بعض العامّة: أنّها نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار؛ عشرة آلاف في اللّيل، و عشرة آلاف في النّهار، و عشرة آلاف في السّرّ، و عشرة آلاف في العلانيّة (4).فإنّه لم ينقل أنّ أبا بكر كان في زمان شركه غنيّا، بل المنقول أنّه و أباه كانا في مكّة من الفقراء، و ليت شعرى، من أين وجد في المدينة تلك الثّروة العظيمة ؟

و عن بعض العامّة: أنّه لمّا نزل قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بعث عبد الرّحمن بن عوف إلى أصحاب الصّفّة بدنانير، و بعث عليّ عليه السّلام بوسق(5) من تمر ليلا، فكان أحبّ الصّدقتين إلى اللّه صدقته (6).و يمكن القول بوقوع كلتا الصّدقتين من أمير المؤمنين عليه السّلام.

و عن الفقيه: أنّها نزلت في النفقة على الخيل(7).

و عن أبي هريرة، أنّه إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية(8).

و الحقّ أنّها نزلت في شأن أمير المؤمنين عليه السّلام لاتّفاق روايات الخاصّة و العامّة عليه، فلا يعبأ بغيرها.

بيان معنى الرّبا و أقسامه

سورة البقرة (2): آیة 275

ثمّ لمّا كان بين النّفقة و الرّبا مناسبة التّضادّ - حيث إنّ الإنفاق موجب لتنقيص المال مع رجحانه و الأمر به، و الرّبا موجب لازدياد المال مع مبغوضيّته و النّهي عنه - عقّب سبحانه بيان أحكام النّفقات ببيان جملة من أحكام الرّبا بقوله: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا و يتعاملون في متّحدي الجنس بزيادة و يأخذونها. قيل: عبّر عن التّصرّف بالأكل؛ لأنّه المقصود الأعظم منه، و لشيوعه في المطعومات.

قال الفاضل المقداد رحمه اللّه: كان الرّجل في الجاهليّة إذا حلّ له دين على غيره و طالبه، يقول له الغريم:

زدني في الأجل [حتى] أزيدك في المال(9).

ص: 543


1- تفسير الرازي 83:7.
2- في تفسير العياشي: عن أبي إسحاق.
3- تفسير العياشي 607/277:1، مجمع البيان 667:2.
4- الكشاف 319:1، تفسير الرازي 83:7، تفسير روح البيان 435:1.
5- الوسق: مكيلة معلومة، و هي ستون صاعا، و الصاع خمسة أرطال و ثلث.
6- تفسير الرازي 83:7.
7- من لا يحضره الفقيه 852/188:2، تفسير الصافي 278:1.
8- تفسير الرازي 83:7.
9- كنز العرفان 35:2.

أقول: الرّبا في الشّرع قسمان: ربا المعاوضة، و ربا القرض.

أمّا الأوّل: فهو معاوضة جنس بجنسه - إذا كانا مكيلين أو موزونين - مع الزّيادة في أحد العوضين.

فيعتبر في الرّبا المعاملي أمران: اتّحاد الثّمن و المثمّن في الجنس، و كونه مكيلا أو موزونا. فإذا تحقّق الشّرطان تعتبر المساواة، و تحرم الزّيادة، بلا خلاف نصّا و فتوى، سواء كانت المعاملة بصيغة البيع أو الصّلح أو غيرهما على الأظهر، لإطلاق الرّوايات و عموم العلّة.

و أمّا الثاني: فهو إقراض مال - مكيلا كان أو موزونا، أو غيرهما - مع شرط النّفع بالعين، أو الصّفة، أو تمديد أجل الدّين بشرط النّفع.

و لا ريب أنّه بكلا قسميه من الكبائر، حيث أوعد اللّه الآكلين له و المتصرّفين فيه بأنّهم لا يَقُومُونَ من قبورهم حين بعثهم منها إِلاّ كَما يَقُومُ المصروع اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ و يصرعه اَلشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ قيل: إنّ من عذاب أكل الرّبا أنّه يحشر في القيامة مجنونا، و يكون ذلك سيماهم يعرفون به في المحشر.

و قيل: إنّ التّعبير عن الجنون أو الصّرع بالخبط الحاصل من مسّ الشّيطان، مبنيّ على زعم العرب من كون الجنون و الصّرع حاصلين من مسّ الشّيطان و الجنّ .

و قيل: إنّ آكل الرّبا يعظم بطنه في المحشر، بحيث يقوم و يسقط من ثقله، و سائر النّاس يوفضون إلى المحشر، و هو لا يقدر على سرعة المشي، بل لعظم بطنه و ثقله بسبب أكل الرّبا، ينهض و يسقط كالمصروع (1) ،لا أنّه يصير مصروعا أو مجنونا.

عن القمّي رحمه اللّه و (المجمع): عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا اسري بي إلى السّماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر لعظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الرّبا، لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ ، فإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النّار غدوّا و عشيّا، يقولون: ربّنا متى تقوم السّاعة» الخبر (2).و فيه دلالة على وجود عالم الصّور و المثال.

ذلِكَ العذاب المقرّر للمربين(3) معلّل بِأَنَّهُمْ بنوا على حلّيّة الرّبا، حتى جعلوه أصلا، و شبّهوا

ص: 544


1- تفسير روح البيان 436:1.
2- تفسير القمي 93:1، مجمع البيان 669:2، تفسير الصافي 278:1.
3- المربي: من يأتي الرّبا.

البيع به في الحلّيّة و قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ في الحلّيّة، و في الفائدة مِثْلُ الرِّبا فكما يجوز بيع سلعة تكون قيمتها درهما بدرهمين، كذلك يجوز بيع عين الدّرهم بدرهمين، و كما يجوز بيع ما يساوي درهما بدرهمين إلى شهر، يجوز بيع درهم أو قرض درهم بدرهمين أو بشرط أداء درهمين إلى شهر لعدم الفرق عقلا. فنظموا الرّبا و البيع في سلك واحد، لإفضائهما إلى الرّبح، فخالفوا اللّه بهذه التسوية الاعتبارية التي لا اعتبار بها.

فردّ اللّه عليهم بقوله: وَ أَحَلَّ اللّهُ العالم بحقائق الأشياء، و واقعيّات مصالح الامور و مفاسدها اَلْبَيْعُ لوجوب ملاك حسن ترتيب الأثر فيه، و معاملة الصّحة معه وَ حَرَّمَ الرِّبا لوجود ملاك القبح فيه، و ترتّب الفساد عليه. فعليكم التسليم و الانقياد لقصور عقلكم، و الدّين و الأحكام لا يصاب بالعقول القاصرة.

عن (الكافي): «إنّما حرم اللّه الرّبا لئلاّ يمتنع النّاس من اصطناع المعروف »(1).

أقول: الظّاهر أنّ المراد بالمعروف هنا القرض الحسن و المواساة و الإحسان بالإخوان.

فَمَنْ جاءَهُ و بلغه مَوْعِظَةٌ و زجر مِنْ رَبِّهِ عن أكل الرّبا لتربيته بالخصال الحسنة، و صرفه عن الأخلاق السيّئة على حسب وظيفة الرّبوبيّة فَانْتَهى عنه و اتّعظ بالموعظة الإلهيّة و اتّبع النهي و تاب فَلَهُ من تلك الزّيادة ما سَلَفَ أخذه، و أخذه قبل العلم بالنّهي.

عن (الكافي) و (الفقيه): عن الصادق عليه السّلام: «كلّ ربا أكله النّاس بجهالة ثمّ تابوا، فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التّوبة».

و قال: «لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا، و عرف أنّ في ذلك المال ربا، و لكن قد اختلط في التّجارة بغيره حلالا (2) ،كان حلالا طيّبا فليأكله، و إن عرف منه شيئا معزولا [أنّه ربا] فليأخذ رأس ماله و ليردّ الرّبا، و أيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه [من] الرّبا، فجهل ذلك ثمّ عرفه بعد، فأراد أن ينزعه، مضى فله، و يدعه فيما يستأنف »(3).

وَ أَمْرُهُ و شأنه راجع إِلَى اللّهِ يجازيه في الآخرة بحسب ما علم من صدق نيّته في الانتهاء، و قيل: يحكم في شأنه في القيامة (4).و ليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به.

ص: 545


1- الكافي 8/146:5، تفسير الصافي 279:1.
2- في الكافي: حلال.
3- الكافي 4/145:5، من لا يحضره الفقيه 787/175:3 و 788، تفسير الصافي 279:1.
4- جوامع الجامع: 50.

وَ مَنْ عادَ إلى معاملة ربويّة، و أخذ الرّبا مستحلاّ له، بعد علمه بالنّهي فَأُولئِكَ المستحلّون أَصْحابُ النّارِ و ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ مقيمون أبدا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «درهم من الرّبا أعظم عند اللّه من سبعين زنية بذات محرم، في بيت اللّه الحرام »(1).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الرّبا خمسة: آكله، و موكله، و شاهديه، و كاتبه »(2).

سورة البقرة (2): آیة 276

ثمّ بعد النّهي عن أكله، و بيان عقوبته المترتّبة عليه، بيّن سبحانه عدم نفع دنيوي فيه بقوله: يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا و يذهب به، حتّى لا يبقى منه شيء ينتفع به.

قيل: إنّ اللّه يذهب بركته، و يهلك المال الذي يدخل فيه، و لا ينتفع به ولده، و تبقى على المربي تبعته و عقابه.

وَ يُرْبِي اللّه و يضاعف اَلصَّدَقاتِ و يزيد في ثوابها في الآخرة، بل تكون الصّدقة التي هي تنقيص في المال سببا لزيادته، بخلاف الرّبا الذي هو سبب لتكثير المال، فإنّه بالمال موجب لتنقيصه، حيث إنّه يتلف بنفسه، و يتلف المال الذي يدخل فيه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما نقص مال عن صدقة »(3).

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ الملك ينادي كلّ يوم: اللّهم يسّر لكلّ منفق خلفا »(4).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه يقبل الصّدقة و يربّيها، كما يربّي أحدكم مهره »(5).

و عن الصادق عليه السّلام مثله(6).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ما نقصت زكاة من مال قطّ »(7).

وَ اللّهُ لا يُحِبُّ بل يبغض كُلَّ كَفّارٍ مصرّ على تحليل المحرّمات، و كلّ أَثِيمٍ منهمك في المعاصي و اتّباع الشهوات، فيعاقبهم في الآخرة بأشدّ العقوبات.

سورة البقرة (2): آیة 277

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

ص: 546


1- من لا يحضره الفقيه 824/266:4.
2- مجمع البيان 671:2.
3- جوامع الجامع: 50، تفسير الصافي 280:1.
4- تفسير الرازي 95:7.
5- تفسير روح البيان 436:1، تفسير أبي السعود 267:1، و المهر: أول ما ينتج من الخيل و الحمر الأهلية و غيرها.
6- تفسير العياشي 615/279:1.
7- تفسير أبي السعود 267:1، تفسير روح البيان 436:1.

سورة البقرة (2): آیة 277

ثمّ بعد ما بيّن سبحانه إعراضه عن الكفرة العصاة و بغضه إيّاهم، أعلن بحبّه لأهل الإيمان، و إقباله برحمته و ثوابه إلى المطيعين و معطي الزّكاة و الصّدقات بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه، و رسوله، و كتابه، و دينه وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ التي تكون من وظائف الإيمان وَ أَقامُوا الصَّلاةَ و أتوا بها بحدودها من أجزائها و شرائطها و ما يعتبر في صحّتها وَ آتَوُا الزَّكاةَ و صرفوها في مصارفها المقرّرة و في تخصيص الصّلاة و الزّكاة بالذّكر مع دخولهما في الأعمال الصّالحات، دلالة على كمال الاهتمام بهما و كونهما من أعظم الواجبات لَهُمْ أَجْرُهُمْ و ثوابهم الموعود، حال كونه مذخورا عِنْدَ رَبِّهِمْ و مالكهم الرّءوف بهم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لقاء مكروه، و نقص أجر وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على مفارقة الدّنيا و ما فيها، و تنزّل الدّرجة في الآخرة.

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة، و لا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدّنيا (1) ،و على ما فاتهم من النّعم الزّائدة التي حصلت لغيرهم من السّعداء.

سورة البقرة (2): الآیات 278 الی 280

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

سورة البقرة (2): آیة 278

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حلّيّة الرّبا الذي كان قبل النّهي عنه، بيّن اختصاصها بالرّبا المقبوض من الغريم دون غير المقبوض، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ و احذروه في مخالفة حكمه و صونوا أنفسكم من عقابه وَ ذَرُوا و اتركوا ما بَقِيَ عند الغريم مِنَ الرِّبا بالكلّيّة، و لا تطالبوا منه ما لم تقبضوه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و اليوم الآخر، فإنّ لازم الإيمان الالتزام بأحكام اللّه، و ترك مطالبة بقيّة الرّبا. و فيه غاية التّهديد، لدلالته على أنّ مطالب البقيّة خارج عن الإيمان.

عن الصادق(2) عليه السّلام: «أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهليّة، و بقي له بقايا على ثقيف، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها - بعد أن أسلم - فنزلت [الآية ]»(3).

ص: 547


1- تفسير الرازي 97:7.
2- في مجمع البيان و تفسير الصافي: عن أبي جعفر الباقر.
3- مجمع البيان 673:2، تفسير الصافي 673:1.

سورة البقرة (2): آیة 279

و قيل: كان العبّاس بن عبد المطلب و خالد شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا، فجاء الإسلام، و لهما أموال عظيمة في الرّبا فأنزل اللّه هذه

الآية، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع، و أوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب، و كلّ دم في الجاهليّة موضوع، و أوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب »(1).

و عن القمّي رحمه اللّه: لمّا نزلت اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا قام خالد بن الوليد، فقال: يا رسول اللّه ربا(2) أبي في ثقيف، و قد أوصاني عند موته بأخذه، فأنزل اللّه (3):فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما امرتم به من الاتّقاء، و ترك بقايا الرّبا، فقد عارضتم اللّه، و تجرّأتم عليه فَأْذَنُوا و اعلموا بِحَرْبٍ عظيمة، و غضب شديد، و عذاب أليم، كائن مِنَ اللّهِ بالنّار وَ من رَسُولِهِ بالقتال و السّيف.

روي أنّه كان لثقيف مال على بعض قريش، فطالبوهم عند المحل بالمال و الرّبا، فنزلت الآية، فقالت ثقيف: لا بدّ لنا بحرب اللّه و رسوله(4).

وَ إِنْ تُبْتُمْ من أخذ الرّبا بعد ما سمعتموه من النّهي و الوعيد فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أن تأخذوها كاملا لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزّيادة وَ لا تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالتّنقيص و المماطلة.

سورة البقرة (2): آیة 280

وَ إِنْ كانَ و وجد في غرمائكم ذُو عُسْرَةٍ و غير متمكّن من تهيئة المال - زائدا على المستثنيات المعهودة في الفقه - بسبب التّلف، أو كساد المتاع، أو انقطاع تصرّفه عنه مع وجوده، بظلم ظالم و نحوه فَنَظِرَةٌ و إمهال واجب عليكم إِلى زمان حصول مَيْسَرَةٍ و قدرة على الأداء، فلا يجوز مطالبته بالدّين.

عن الصادق عليه السّلام، قال: «خلّوا سبيل المعسر كما خلاّه اللّه »(5).

روي أنّه لمّا نزلت آية فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ قالت الإخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا: بل نتوب إلى اللّه، فإنّه لا طاقة لنا بحرب اللّه و رسوله، فرضوا برأس المال، و طالبوا بني المغيرة بذلك، فشكا بنو المغيرة العسرة، و قالوا: أخّرونا إلى أن ندرك الغلاّت، فأبوا أن يؤخّروهم، فنزلت

ص: 548


1- مجمع البيان 673:2.
2- كذا، و الظاهر رابى بمعنى أعطى ماله بالربا.
3- تفسير القمي 93:1، تفسير الصافي 281:1.
4- تفسير أبي السعود 267:1.
5- الكافي 3/35:4، تفسير الصافي 282:1.

وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ (1) .

و في التّعبير ب (ذو عسرة) دون (ذا عسرة) دلالة على عموم الحكم لعموم المديونين، و عدم اختصاصه بالرّبا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ دين رجل مسلم فيؤخّره، إلاّ كان له بكلّ يوم صدقه »(2).

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «من أنظر معسرا أو وضع له، أنجاه اللّه من كرب يوم القيامة »(3).

عن الصادق عليه السّلام قال: «صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر ذات يوم، فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على أنبيائه، ثمّ قال: أيّها النّاس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا، كان له على اللّه في كلّ يوم صدقة بمثل ماله، حتى يستوفيه - ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام -: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ »

الخبر(4).

عن العيّاشي: عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عن هذه النّظرة التي ذكرها اللّه عزّ و جلّ في كتابه، لها حدّ يعرف، إذا صار هذا المعسر لا بدّ له من أن ينظر، و قد أخذ مال هذا الرّجل و أنفقه على عياله، و ليس له غلّة ينتظر إدراكها، و لا دين ينتظر محلّة، و لا مال غائب ينتظر قدومه ؟ قال: «نعم، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام، فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين، إذا كان أنفقه في طاعة اللّه، فإن كان أنفقه في معصية اللّه فلا شيء له على الإمام» قيل: فما لهذا الرّجل الذي ائتمنه، و هو لا يعلم فيما أنفقه، في طاعة اللّه أم في معصيته ؟ قال: «يسعى له في ماله، فيردّه و هو صاغر »(5).

و عن القمّي رحمه اللّه: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاة المسلمين، و استبان للوالي عسرته، إلاّ برئ هذا المعسر من دينه، و صار دينه على والي المسلمين فيما في يديه من أموال المسلمين »(6).

وَ أَنْ تَصَدَّقُوا على المعسرين بإبراء ذمّتهم من الدّين كلّه، فهو خَيْرٌ لَكُمْ و أكبر ثوابا من الإنظار و إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك عملتم به.

عن الصادق عليه السّلام: «إن كنتم تعلمون أنّه معسر، فتصدّقوا بما لكم عليه »(7).

ص: 549


1- تفسير الرازي 102:7.
2- تفسير الرازي 103:7.
3- مصابيح السنة 2131/341:2، تفسير روح البيان 438:1.
4- الكافي 4/35:4.
5- تفسير العياشي 625/281:1، تفسير الصافي 282:1.
6- تفسير القمي 94:1، تفسير الصافي 282:1.
7- الكافي 4/36:4، تفسير الصافي 282:1.

و عنه عليه السّلام: «من أراد أن يظلّه اللّه يوم لا ظلّ إلاّ ظله - قالها ثلاثا، فهابه النّاس أن يسألوه، فقال -:

فلينظر معسرا، أو ليدع له من حقّه »(1).

روي أنّه جاء رجل إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له: يا [أبا] عبد اللّه قرض إلى ميسرة. فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إلى غلّة تدرك» فقال الرّجل: لا و اللّه. قال: «فإلى تجارة تئوب» قال: لا و اللّه. قال: «فإلى عقدة(2) تباع» فقال: لا و اللّه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «فأنت ممّن جعل اللّه له من أموالنا حقّا» ثمّ دعا بكيس فيه دراهم، فأدخل يده فيه، فناوله منه قبضة(3).

سورة البقرة (2): آیة 281

اشارة

وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

سورة البقرة (2): آیة 281

ثمّ ختم سبحانه أحكام الرّبا و المعسر بالتّوعيد بالعقاب على المخالفة، و الوعد بالثّواب على الطّاعة بقوله: وَ اتَّقُوا يَوْماً عظيما، كثير الأهوال و الشّدائد تُرْجَعُونَ و تردّون فِيهِ قهرا إِلَى اللّهِ

و حكمه، فيحاسب فيه أعمالكم ثُمَّ تُوَفّى و تعطى كاملا كُلُّ نَفْسٍ من المطيع و العاصي ما كَسَبَتْ و حصّلت من جزاء أعمالها في الدّنيا من الطّاعة و العصيان وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ من قبل اللّه بتنقيص ثواب أو زيادة عقاب. و فيه تأكيد لتوفية الجزاء، و إشعار بأنّ العذاب - و إن كان مؤبدا، و في أعلى مرتبة الشّدة - لا يكون ظلما، بل هو على حسب الاستحقاق.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: هذه الآية آخر أية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا حجّ نزلت يَسْتَفْتُونَكَ (4) و هي آية الكلالة، ثمّ نزل و هو واقف بعرفة اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (5) ثمّ نزل وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ فقال جبرئيل: يا محمّد، ضعها على رأس ثمانين آية و مائتي آية من البقرة، و عاش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعدها أحدا و ثمانين يوما(6).

أقول: قيل: أحدا و عشرين، و قيل: سبعة أيّام، و قيل: ثلاث ساعات (7).و لا ينافي ذلك ما روي من أنّ سورة النّصر آخر ما نزل؛ لأنّها آخر سورة، و هذه آخر آية.

ص: 550


1- الكافي 1/35:4، تفسير الصافي 282:1.
2- العقدة: كلّ ما يمتلكه الإنسان من ضيعة، أو عقار، أو متاع، أو مال...
3- الكافي 14/501:3، تفسير الصافي 282:1.
4- النساء: 176/4.
5- المائدة: 3/5. (6و7) تفسير الرازي 104:7.

سورة البقرة (2): الآیات 282 الی 283

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

سورة البقرة (2): آیة 282

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم دين المعسر من وجوب إنظاره، و استحباب التّصدّق عليه، بيّن طريق حفظ الدّين عن التّورى(1) و التّلف بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ و تعاملتم بِدَيْنٍ

و بعوض في الذّمّة، سلما كانت المعاملة أو نسيّة إِلى أَجَلٍ و أمد مُسَمًّى و معيّن مشروط في العقد كاليوم و الشّهر و السنة، دون غير المعيّن عند المتعاملين كالحصاد و الدّياس(2) و قدوم الحاج لعدم الخلاف ظاهرا في أنّ التّوقيت بأمثالها مفسد للمعاملة.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّها نزلت في السّلف؛ لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قدم المدينة و هم يسلفون في التّمر السّنتين و الثّلاث، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، و وزن معلوم »(3).

قيل: في ذكر الدّين منكرا دلالة على أنّ اشتراط كون الدّين في المعاملة واحدا، ثمنا كان أو مثمنا،

ص: 551


1- التّورى: أي الهلاك و التلف.
2- الدّياس: دوس الحصيد ليخرج الحبّ منه، و ذلك بوطئه بالأرجل أو غيرها.
3- تفسير الرازي 108:7.

و عليه لا يجوز بيع الدّين بالدّين؛ لأنّه معاملة بدينين لا بدين، و هو المعروف بالكالي (1) ،و لا خلاف في بطلانه.

قيل: ما من لذّة، و لا منفعة، يوصل إليها بطريق محرّم، إلاّ جعل اللّه سبحانه للوصول إلى تلك اللّذّة و المنفعة طريقا حلالا، و سبيلا مشروعا (2).و لمّا حرّم اللّه استفادة الرّبح بطريق الرّبا، أذن في بيع السّلم و النّسيئة؛ لوجود جميع المنافع المطلوبة في الرّبا فيهما.

ثمّ بيّن سبحانه طريق الاحتياط في الأجل و الكيل و الوزن في الدّين بقوله: فَاكْتُبُوهُ بجنسه و صفاته و وزنه و أجله؛ لكون الكتب أوثق و أدفع للنّزاع. و لا شبهة أنّ الأمر هنا ليس للوجوب النّفسي، بل للإرشاد أو الاستحباب.

عن (العلل): عن الباقر عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ عرض على آدم أسماء الأنبياء و أعمارهم، قال: فمرّ بآدم اسم داود النبيّ ، فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم: يا ربّ ما أقلّ عمر داود و أكثر عمري! يا ربّ إن أنا زدت(3) داود ثلاثين سنة ثبت ذلك له ؟ قال: نعم يا آدم، قال: فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة، فأنفذ ذلك و أثبتها له عندك، و اطرحها من عمري».

قال أبو جعفر عليه السّلام: «فأثبت اللّه عزّ و جلّ لداود في عمره ثلاثين سنة، و كانت له عند اللّه(4) مثبتة.

فذلك قوله عزّ و جلّ : يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (5) فمحا اللّه ما كان عنده مثبتا لآدم، و أثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتا.

قال: فمضى عمر آدم فهبط ملك الموت لقبض روحه، فقال له آدم: يا ملك الموت إنّه قد بقي من عمري ثلاثون سنة، فقال له ملك الموت: يا آدم أ لم تجعلها لابنك داود النبيّ ، و طرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الأنبياء من ذرّيّتك، و عرضت عليك أعمارهم، و أنت يومئذ بوادي الأحياء (6) ؟فقال له آدم: ما أذكر هذا.

قال: فقال له ملك الموت: يا آدم لا تجحد، أ فلم تسأل اللّه عزّ و جلّ أن يثبتها لداود و يمحوها من عمرك، فأثبتها لداود في الزّبور و محاها من عمرك في الذّكر؟ قال آدم: حتى أعلم ذلك».

ص: 552


1- الكالي: أي المتأخر.
2- تفسير الرازي 108:7.
3- في النسخة: ازددت.
4- في النسخة: عند ذلك.
5- الرعد: 39/13.
6- في المصدر: بوادي الدخياء.

قال أبو جعفر عليه السّلام: «و كان آدم صادقا» قال: «لم يذكر، و لم يجحد، فمن ذلك اليوم أمر اللّه تبارك و تعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا و تعاملوا إلى أجل، لأجل نسيانه(1) و جحوده [ما] على نفسه» انتهى(2).

أقول: مع وضوح مصلحة كتابة الدّين على كلّ ذي مسكة (3) ،من غير حاجة إلى الاطّلاع على وقوع هذه القضيّة من آدم، ففي تلك الرواية وجوه من الإشكال:

أحدها: دلالتها على نسيان النبيّ مع ثبوت عصمته منه عقلا.

و ثانيها: جحود آدم ما أخبر الملك المعصوم بثبوته، مع أنّه موجب للقطع به.

و ثالثها: أنّ آدم كيف بذل سنين من عمره لداود بسبب اطّلاعه على قصر عمره، و لم يبذل يوما منه ليحيى و عيسى، مع أنّهما أفضل و أقصر عمرا من داود.

و الحاصل: أنّ الرواية من المشكلات التي يجب ردّ علمها إلى الرّاسخين في العلم صلوات اللّه عليهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما أمر بكتابة الدّين المؤجّل إجمالا، بيّن كيفيّتها و الصّفة المعتبرة فيمن يتولاّها بقوله: وَ لْيَكْتُبْ كتاب الدّين بَيْنَكُمْ أيّها المتعاملون كاتِبٌ كان من كان، و لكن لا بدّ من كون كتابه ملتبسا بِالْعَدْلِ و التّسوية بين الدّائن و المديون، من غير ميل إلى أحدهما، بحيث لا يزيد في مقدار الدّين و الأجل و لا ينقص و لا يغيّر.

و قيل: إنّ من عدل الكاتب أن لا يجمل و لا يهمل في عبارة الكتاب، و أن يكتبه على نحو تكون صحّته متّفقا عليها بين العلماء، حتى لا يتردّد فيها عالم.

و قيل: في ذكر (بينكم) إشعار بأنّ للكاتب أن يكتب السّند، مع حضور المتداينين، و لا يكتفي بتقرير أحدهما.

فإذا دعا المتعاملان كاتبا ينبغي له إجابتهما وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ من الكتّاب، و لا يمتنع من أَنْ يَكْتُبَ كتاب الدّين كَما عَلَّمَهُ اللّهُ و مثل ما عرف بفضله تعالى من كتبة الحجج و الوثائق، من إيضاح مداليله و شرائطه، بلا إغلاق و لا خلل.

ص: 553


1- في المصدر: إلى أجل مسمى لنسيان آدم.
2- علل الشرائع: 1/553.
3- المسكة: الرأي و العقل.

و قيل: إنّ المراد من أن لا يأب الكاتب، من أن ينتفع النّاس بكتابته، كما نفعه اللّه بعلمها و علّمه إيّاها، فيكون نظير: أحسن كما أحسن اللّه إليك.

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالكتابة بالعدل؛ بقوله: فَلْيَكْتُبْ الكاتب كتاب الدّين مطابقا لإملاء المديون، المستفاد من قوله: وَ لْيُمْلِلِ المطالب، و ليقرّرها على الكاتب المعامل اَلَّذِي ثبت عَلَيْهِ الْحَقُّ و استقرّ على ذمّته الدّين؛ لأنّه المقرّ و المشهود عليه وَ لْيَتَّقِ المديون المملي في إملائه اَللّهَ رَبَّهُ .

و في الجمع بين اسم الجلالة و النّعت الجميل مبالغة في التّحذير من الإملاء بنحو يكون فيه ضياع حقّ الدّائن، لما في المملي من الدّاعي النّفساني إلى تغيير الدّين، و دفع الضّرر عن نفسه، و تخفيف ما في ذمّته.

و لذا أكّد الأمر بالاتّقاء بالنّهي عن البخس بقوله: وَ لا يَبْخَسْ من الدّين و لا ينقص مِنْهُ شَيْئاً

و إن كان مثقال ذرّة من خردل فَإِنْ كانَ العامل اَلَّذِي استقرّ عَلَيْهِ الْحَقُّ و الدّين سَفِيهاً

ناقص العقل غير مميّز بين المعاملة النّافعة و المضرّة.

عن الصادق عليه السّلام: «السّفيه: الذي يشتري الدّرهم بأضعافه »(1).

و قيل: إنّ المراد المبذّر الذي يصرف المال في الأغراض غير العقلائية(2).

أَوْ كان ضَعِيفاً لصباوة أو شيخوخة أو هرم بحيث صار مختلّ الحواس.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «يعني ضعيفا في بدنه، لا يقدر أن يملّ ، أو ضعيفا في فهمه و علمه، لا يقدر أن يملّ و يميّز الألفاظ التي هي عدل عليه و له، من الألفاظ التي هي جور عليه و على حميمه »(3).

أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ مقصوده على الكاتب، لخرس أو جهل.

عن (تفسير الإمام عليه السّلام): «هو بمعنى أن يكون مشغولا في مرمّة(4) المعاش (5) ،أو تزوّد المعاد (6) ،أو لذّة في غير محرم. فإنّ تلك الأشغال التي لا ينبغي لعاقل أن يشرع في غيرها »(7).

أقول: الظاهر أنّ المراد مطلق من يتعذّر أو يتعسّر عليه الحضور عند الكاتب، أو البيان و الإملاء

ص: 554


1- التهذيب 731/182:9، تفسير الصافي 284:1.
2- في النسخة: العقلانية.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 369/634، تفسير الصافي 284:1.
4- مرمّة المعاش: إصلاحه و السعي فيه.
5- في المصدر: لمعاش.
6- في المصدر: لمعاد.
7- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 369/634، تفسير الصافي 284:1.

عليه، مع استجماعه شرائط نفوذ الإقرار، من البلوغ و العقل.

و حينئذ فَلْيُمْلِلْ و ليقرّر على الكاتب بدلا من المديون وَلِيُّهُ و من إليه أموره شرعا، من الأب و الجدّ للأب، في السّفيه الذي بلغ فاسد العقل و في الصبيّ ، و من الفقيه العادل، في السّفه و الجنون المنفصلين الطّارئين بعد البلوغ - على الأظهر الأشهر -، و من عدول المؤمنين عند فقد اولئك الأولياء، و من الوكيل و المترجم في غير الأضعاف المذكورة. و لا بدّ من أن يكون إملاؤهم ملتبسا بِالْعَدْلِ

و التّوسّط من غير نقص و لا زيادة و لا تغيير.

وَ اسْتَشْهِدُوا و أحضروا لتحمّل الشّهادة على الدّين و خصوصيّاته، عند الكتابة شَهِيدَيْنِ

كائنين مِنْ رِجالِكُمْ و أهل دينكم، من البالغين العاقلين، فلا تقبل شهادة الصبيّ ، و الكافر.

و على مذهبنا يعتبر فيهما أن يكونا من أهل الولاية، فلا تقبل شهادة غيرهم. و إطلاق الشّهيد قبل تحمّل الشّهادة مجاز بعلاقة المشارفة.

و عن بعض الفضلاء: الفرق بين الشاهد و الشّهيد: أنّ الشاهد بمعنى الحدوث، و الشّهيد بمعنى الثّبوت، فإذا تحمّل الشّهادة فهو شاهد باعتبار الحدوث و التّحمّل، فإذا(1) ثبت تحمّله زمانين أو أكثر فإنّه شهيد(2).

فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ لإعوازهما، أو لعلّة اخرى فَرَجُلٌ واحد وَ امْرَأَتانِ كاف في الشّهادة، و إثبات الحقّ ، حيث إنّهم يقومون مقام رجلين مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ.

روي في تفسيره عليه السّلام: «ممّن ترضون دينه و أمانته، و صلاحه و عفّته، و تيقظه في ما يشهد به، و تحصيله و تمييزه، فما كلّ صالح مميّز و لا محصّل، و لا كلّ محصّل مميّز صالح، و إنّ من عباد اللّه لمن هو أهل لصلاحه و عفّته، و لو شهد لم تقبل شهادته لقلّة تمييزه»(3) الخبر. و تخصيص الرّجل و امرأتين بالوصف - مع اعتباره في الشّاهد مطلقا - لقلّة اتّصاف النّساء به.

ثمّ بيّن سبحانه علّة اعتبار التّعدّد في النّساء بقوله: أَنْ تَضِلَّ و تنسى الشّهادة إِحْداهُما ذلك توطئة لبيان العلّة الحقيقيّة و محقّق لموضوعها، و هي قوله: فَتُذَكِّرَ النّاسية إِحْداهُمَا الْأُخْرى

لوضوح أنّه لو لا النّسيان لا يتحقّق التّذكار.

ص: 555


1- في كنز العرفان: حدوث تحمله و إذا.
2- كنز العرفان 50:2.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 375/672، تفسير الصافي 284:1.

و حاصل الآية أنّ اعتبار التّعدّد لأجل أن تذكّر إحداهما الاخرى، إن ضلّت الاولى و نسيت الشّهادة.

في أنّ المراد من نهي الشهداء عن الإباء، الإباء عن التحمل، و إمكان إرادة الأعم

ثمّ أنّه تعالى - كما نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة - نهى الشاهد عن الإباء عن الحضور لتحمّل الشّهادة أو لأدائها، بقوله: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ عن التّحمّل أو أداء الشّهادة إِذا ما دُعُوا إلى التّحمّل أو الأداء.

في الصّحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ قال:

«قيل الشّهادة »(1).

و عنه عليه السّلام، في تفسير الآية، قال: «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها، أن يقول: لا أشهد لكم عليها »(2).

و قريب منها أو مثلها عدّة روايات اخر، الظّاهرة في كون المراد حرمة الإباء عن التّحمّل (3).و لا معارض لها، إلاّ ما عن (تفسير الإمام عليه السّلام): عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «تفسير هذه الآية: من كان في عنقه شهادة، فلا يأب إذا ما دعي لإقامتها »(4).

و من الواضح أنّ هذه الرّواية مع ضعف السّند، لا تكافئ الرّوايات الكثيرة المعتبرة، مع إمكان الجمع بالقول بأنّ متعلّق إِذا ما دُعُوا أعمّ من التّحمّل و الأداء، و لا يرد عليه ما قاله الفاضل المقداد رحمه اللّه من استلزامه استعمال المشترك في أكثر من معنى (5) ،لوضوح أنّه على تقدير جعل المقدار الأعمّ من التّحمّل و الأداء، لم يستعمل لفظ الدّعوة في غير معناه الظّاهر، و تكون الكثرة في المحذوف، و هو المدعو إليه.

و يمكن أن يكون نظره رحمه اللّه إلى أنّه على تقدير إرادة الأعمّ ، لزم استعمال لفظ الشّهداء في المعنى الحقيقي و المجازي، حيث إنّ استعماله في من لم يتحمّل بعد، مجاز بعلاقة المشارفة، فتأمّل.

ثمّ إنّ النّهي عن الإباء دالّ بالالتزام على الأمر بالإجابة، فتكون الإجابة واجبة، و لا بدّ من القول بكون وجوبها كفائيا لمعلوميّة الغرض، كما أنّ وجوب الكتابة على الكاتب كذلك، و لا منافاة بين كون أمر المديون بالاستكتاب و الاستشهاد إرشاديّا أو ندبيّا، و بين كون الأمر بالكتابة و تحمّل الشّهادة على

ص: 556


1- الكافي 4/380:7، تفسير الصافي 285:1.
2- الكافي 1/379:7، تفسير الصافي 285:1.
3- الكافي 3/380:7-6.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 378/676، تفسير الصافي 285:1.
5- كنز العرفان 54:2.

الكاتب و الشّاهد وجوبيّا مولويّا، كما لا يخفى.

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب إلى المديونين و نهاهم عن التّواني في الكتابة بقوله: وَ لا تَسْئَمُوا و لا تملّوا لكثرة مدايناتكم، أو لقلّة هذا الدّين، من أَنْ تَكْتُبُوهُ سواء كان صَغِيراً و قليلا كدينار أو درهم أَوْ كَبِيراً و كثيرا كمائة أو ألف، حال كونه مستقرّا في الذّمّة إِلى أَجَلِهِ المعيّن، و وقته المعلوم.

قال بعض: الملالة و الكسالة من الشّيطان.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يقول المؤمن كسلت »(1).

ثمّ بيّن سبحانه فوائد الكتب بقوله: ذلِكُمْ الكتب أَقْسَطُ و أعدل عِنْدَ اللّهِ و في حكمه، حيث إنّ فيه حفظ الحقّ وَ أَقْوَمُ و أثبت لِلشَّهادَةِ و أعون على إقامتها وَ أَدْنى و أقرب إلى أن تكونوا موقنين به لا تَرْتابُوا و لا تشكّوا فيه من حيث الجنس و المقدار و الوصف و الأجل، و سائر ما اعتبر فيه.

فتحصّل من الآية أنّ للكتابة ثلاث فوائد:

الاولى: كونها أقسط باعتبار أنّ المتداينين إذا وجدوا كتابا، فلا بدّ لهم من العمل، فلا يقع التّعدّي من أحدهما على الآخر.

و الثانية: أنّ الشّاهدين إذا نسوا القضيّة، تكون الكتابة سببا لحفظها و تذكّرها، ثمّ أنّه قد يكون المتداينان حاضرين لأداء الحقّ ، و لكن قد يكون في قلبهما ريب؛ إمّا في أصله، أو في مقداره، أو أجله.

و الفائدة الثالثة: أن تكون الكتابة موجبة لزوال ريبهما.

قيل: إنّه تعالى بالغ في هذه الآية المباركة في التّأكيد، و البسط الشّديد في الأمر بكتابة الدّين و الإشهاد عليه، بعد المنع عن تحصيل المال بالرّبا، مع بنائه تعالى في بيان الأحكام في الكتاب المجيد على الاختصار، نظرا إلى حفظ المال الحلال عن الضّياع و البوار، حتى يتمكّن المؤمن من الإنفاق في سبيل اللّه، و الإعراض عن مساخطته من طلب المال بالرّبا، و سائر الوجوه المحرّمة.

ثمّ بيّن سبحانه عدم الرّجحان للكتابة في المعاملة النّقديّة بقوله: إِلاّ أَنْ تَكُونَ المعاملة تِجارَةً

ص: 557


1- تفسير أبي السعود 271:1.

حاضِرَةً و معاملة نقديّة تُدِيرُونَها و تتعاطونها بَيْنَكُمْ يدا بيد، فإن كانت المعاملة هكذا فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و ضرر أن لا تَكْتُبُوها لبعدها عن النّسيان و التّنازع وَ لكن أَشْهِدُوا

شهيدين إِذا تَبايَعْتُمْ مطلقا، سواء كان البيع نقديّا أو سلما أو نسيئة، لكونه أحفظ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ يحتمل كون الفعل مبنيّا على الفاعل، و على المفعول؛ فعلى الأوّل يكون نهيا للكاتب و الشّاهد عن الإضرار بالمتداينين، بترك الإجابة، أو التّغيير، أو التّحريف في الكتب و الشّهادة.

و على الثاني يكون نهيا للمتداينين عن الإضرار بهما (1) ،بأن يعجلاهما عن مهمّاتهما، أو يلزماهما على الخروج عن الحدود الشّرعيّة في الكتابة و الشّهادة، أو لا يعطيا الكاتب جعله، و الشّاهد مئونة مجيئه.

و الثاني هو الأظهر، لقوله تعالى بعده، مخاطبا للمتداينين: وَ إِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتكم عنه من الإضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ و خروج عن حدود الشّرع و العقل، ملتبس بِكُمْ .

ثمّ أكّد الوعيد بقوله: وَ اتَّقُوا اللّهَ في مخالفة أحكامه التي من جملتها حرمة الإضرار وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ما فيه صلاح دينكم و دنياكم وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ من مصالح الامور و مفاسدها، و حسن الأشياء و قبحها عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية.

و تكرير لفظ الجلالة في الجمل الثّلاث، لتربية المهابة و قيل: للتّنبيه على استقلال كلّ منها بمعنى على حياله، حيث إنّ الاولى حثّ على التّقوى، و الثّانية وعد بالإنعام، و الثّالثة تعظيم لشأنه تعالى.

أقول: في الجملة الثّانية إشعار بحكمة الأمر بالتّقوى، و إنّه لصلاح راجع إلى العباد لا إليه سبحانه، و في الثّالثة دلالة على عدم إمكان الخطأ و الاشتباه منه تعالى في ما علمه من الصّلاح و الفساد.

ثمّ اعلم أنّ الآية المباركة أطول آية في الكتاب العزيز، و فيها دلالة على كمال لطفه على عباده، و نهاية رفقه بهم، و أنّه تعالى إذا كان حافظا لمصالح دنياهم بهذه المرتبة من الاهتمام، يكون لمصالح آخرتهم أحفظ بمراتب، و أنّه لا يرضى بوقوع الظّلم و التّنازع بينهم، و أنّه يحبّ القيام بحوائجهم، و إعانتهم على إحقاق حقوقهم.

عن القمّي رحمه اللّه: في [سورة] البقرة خمسمائة حكم، و في [هذه] الآية خمسة عشر حكما(2).

في شرعية أخذ الرهن للدين و عدم اختصاصها بالسفر

سورة البقرة (2): آیة 283

ثمّ بيّن سبحانه طريقا آخر لحفظ الدّيون، أوثق من الكتابة، و هو أخذ الرّهن و الوثيقة عليها، بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ راكبين عَلى سَفَرٍ و متلبّسين به، أو مشرفين عليه

ص: 558


1- أي بالكاتب و الشاهد.
2- تفسير القمي 94:1، تفسير الصافي 286:1.

و متوجّهين إليه، و احتجتم إلى التّداين وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب الدّين بحيث تستوثقون بكتابته فَرِهانٌ و وثائق من الأعيان مَقْبُوضَةٌ و مسلّمة إليكم، قائمة مقام الكتابة، بل أحفظ منها للدّين.

و إنّما شرط السّفر في جواز الرّهن - مع عدم كونه مشروطا به، بل يجوز في الحضر إجماعا - لكون السّفر مظنّة شدّة الحاجة إليه، و انحصار طريق الاستيثاق به، لغلبة إعواز الكاتب فيه. فالكلام خرج على الأعمّ الأغلب، و ليس في الواقع على سبيل الاشتراط .

روي أنّه رهن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير، و أخذه لأهله(1).

في بيان اشتراط صحّة الرهن بالقبض

ثمّ أنّ ظاهر الآية اشتراط صحّه الرّهن بالقبض، و يعضده ما روي عن الصادق عليه السّلام:

«لا رهن إلاّ مقبوضا »(2) ،و ادّعى شهرته بين الأصحاب. و الإشكال في دلالة الآية، و سند الرّواية - بل و دلالتها - ضعيف في الغاية.

ثمّ بيّن سبحانه القسم الثّالث من الدّين، و هو ما لم يؤخذ عليه كتاب و لا رهن، بقوله: فَإِنْ أَمِنَ

الدّائن الذي هو بَعْضُكُمْ و من جملتكم بَعْضاً آخر، و هو المديون، و اطمأنّ قلبه به، بحيث لا يخاف منه الجحود و الإنكار، حتّى يحتاج إلى الاستيثاق بالكتاب و الرّهن فَلْيُؤَدِّ المديون اَلَّذِي اؤْتُمِنَ على الدّين إلى الدائن أَمانَتَهُ و حقّه. و إطلاق الأمانة عليه، لمعاملة الدّائن مع المديون و دينه معاملة الأمين و الأمانة، من عدم أخذ الكتاب و الرّهن و الشّهود عليه وَ لْيَتَّقِ المديون أن يعصي اَللّهَ رَبَّهُ و مليكه اللّطيف بإنكار هذا الدّين الذي هو بمنزلة الأمانة، و المماطلة في أدائه.

ثمّ لمّا كانت الشّهادة على الدّين بمنزلة أمانة الدائن عند الشّاهد، أمر سبحانه بأدائها و نهى عن كتمانها بقوله: وَ لا تَكْتُمُوا أيّها الشّهود اَلشَّهادَةَ على حقوق النّاس إذا دعيتم لأدائها وَ مَنْ يَكْتُمْها و أمتنع من أدائها عند الحاجة إليها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قيل: إنّ إسناد الإثم إلى القلب، لاستلزامه إثم جميع الجوارح، لكون القلب رئيسها، فمن كان قلبه آثما كانت جميع جوارحه آثمة.

عن الباقر عليه السّلام، قال: «كافر قلبه »(3).

ص: 559


1- تفسير أبي السعود 272:1.
2- تفسير العياشي 630/283:1، التهذيب 779/176:7 عن الباقر عليه السّلام، تفسير الصافي 286:1.
3- من لا يحضره الفقيه 115/35:3، تفسير الصافي 286:1.

و قيل: كتمان الشّهادة هو أن يضمرها و لا يتكلّم بها، فلمّا كان(1) مقترفا بالقلب اسند إليه، لوضوح أنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما يقال: هذا ممّا أبصرته عيني، و عرفه قلبي(2).

و قيل: هذا الإسناد؛ لئلا يظنّ أنّه من الآثام المتعلّقة باللّسان فقط ، و ليعلم أنّ القلب أصل متعلّقة، و معدن اقترافه، و اللّسان ترجمان عنه، و لأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال الجوارح، إذ هي لها كالأصل الذي تنشعب منه. أ لا ترى أنّ أصل الحسنات و السيّئات الإيمان و الكفر، و هما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشّهادة من آثام القلب، فقد شهد له بأنّه من معظّمات الذّنوب(3).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أكبر الكبائر الإشراك باللّه، لقوله تعالى: فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (4) و شهادة الزّور، و كتمان الشّهادة(5).

و في حديث مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و نهى عن كتمان الشّهادة... بقوله: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (6).

وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الطّاعة و المعصية، و الخيانة في الأمانة و ردّها، و كتمان الشّهادة و أدائها عَلِيمٌ فيجازيكم أوفق الجزاء. و فيه غاية التهديد.

سورة البقرة (2): آیة 284

اشارة

لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)

سورة البقرة (2): آیة 284

ثمّ لزيادة التّرهيب على المخالفة و الكتمان، ذكّر العباد سعة قدرته و إحاطة علمه، و نبّههم بهما. أما سعة قدرته فبقوله: لِلّهِ بالملكية الحقيقية الإشراقيّة، لا الاعتباريّة الإضافيّة ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جميعا، لا يخرج موجود من الموجودات - في عوالم الملك و الملكوت، قويّها و ضعيفها و عظيمها و حقيرها - من تحت قدرته و سلطانه، فلا عجز له من عقوبة من عصاه، و إثابة من أطاعه، هذا سعة قدرته.

و أمّا إحاطة علمه سبحانه فبقوله: وَ إِنْ تُبْدُوا تظهروا بالقول أو الفعل ما فِي أَنْفُسِكُمْ

ص: 560


1- أي الكتمان.
2- تفسير روح البيان 443:1.
3- تفسير روح البيان 443:1.
4- المائدة: 72/5.
5- تفسير روح البيان 443:1.
6- من لا يحضره الفقيه 1/7:4، تفسير الصافي 286:1.

و قلوبكم من الإيمان و الكفر، و الإرادات الحسنة و السّيّئة أَوْ تُخْفُوهُ و تستروه من كلّ أحد، من الإرادات و العزمات، دون الوساوس و خطورات النّفس التي لا عقد و لا عزيمة فيها، لعدم الوسع في دفعها يُحاسِبْكُمْ

و يؤاخذكم بِهِ اللّهُ يوم الحساب.

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: لمّا نزلت [هذه] الآية جاء أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف(1)

و ناس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: يا رسول اللّه، كلّفنا من العمل ما لا نطيق، إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه، و أنّ له الدّنيا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سمعنا و عصينا، قولوا: سمعنا و أطعنا». و اشتدّ ذلك عليهم، فمكثوا في ذلك حولا، فأنزل اللّه: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (2) فنسخت هذه الآية، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم، ما لم يعملوا و يتكلّموا به »(3).

في رد استدلال العامّة بآية المحاسبة على بطلان مذهب الخاصة

أقول: في الاعتراض و في الجواب من الدّلالة على فساد ضمائر المعترضين ما لا يخفى.

قيل: إنّما قدم الإبداء على الإخفاء؛ لأنّ المتعلّق بما في أنفسهم هو المحاسبة، و الأصل فيها الأعمال البادية(4).

و قال جمع من العامّة: إنّ في الآية ردّ على منكري المحاسبة بما في النّفس، من الإمامية و المعتزلة(5).

و فيه: أنّه إن اريد بما في النّفس الخطورات القلبيّة و حديث النّفس، فأصحابنا الإمامية متّفقون على عدم المحاسبة به، و ما من ذي مسكة يخالفهم في ذلك. و لا شبهة أنّ عموم الآية - بقرينة حكم العقل بقبح المؤاخذة على ما لا يطاق - مخصوص بغيره.

و إن اريد به(6) العزم و الإرادة، فانكار المحاسبة ليس ممّا اتّفقت عليه الإمامية، لذهاب كثير منهم إلى ثبوت المحاسبة به، و العقاب عليه، مستدلّين بحكم العقل، و كثير من الرّوايات. و أمّا ذهاب كثير منهم الى المعفوّ عنه، فلتقييدهم الآية بطائفة اخرى من الأخبار المعتبرة، و حملهم إطلاقها على الكفر

ص: 561


1- زاد في تفسير الرازي: و معاذ.
2- البقرة: 286/2.
3- تفسير الرازي 125:7.
4- تفسير أبي السعود 272:1.
5- تفسير أبي السعود 272:1، تفسير روح البيان 444:1.
6- أي و إن أريد بما في النفس.

و العقائد الباطلة، أو مع النّيات السّيّئة بالنسبة إلى غير المؤمن.

و على هذا يكون قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وعدا بالمغفرة لمن تاب و آمن، فلا يؤاخذ بنيّته المعاصي الجوارحيّة، ما لم يقترفها، و قوله: وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه، وعيدا لمن مات على الكفر و العقائد الباطلة.

في الاستدلال على العفو عن النيات السيئة المجرّدة عن العمل

و ممّا يدلّ على العفو عن نيّات السوء، و عدم المحاسبة بها، قوله صلّى اللّه عليه و آله في الرّواية السابقة: «إنّ اللّه تجاوز عن امّتي ما حدّثوا به أنفسهم، ما لم يعملوا، أو يتكلّموا به »(1).

فإنّه نصّ صريح في عموم العفو للنيّات و الارادات المجرّدة عن العمل.

و رواية ابن عبّاس: أنّ اللّه تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره ثمّ يعفو عنه، و أهل الذّنوب يخبرهم بما أخفوا من التّكذيب و الذنب(2).

و أمّا ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في (نهج البلاغة) من قوله: «و بما في الصّدور تجازى العباد »(3).

فالظّاهر أنّ المراد أنّ العباد بنيّاتهم يجازون على أعمالهم، فمساقه مساق قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الأعمال بالنّيّات »(4).

و توضيح المرام أنّ حسن الأعمال و العبادات و قبحها، دائران مدار القصد و النّيّة، لوضوح أنّ ضرب اليتيم بقصد التأديب حسن، و بقصد الإيذاء قبيح، و كذا الكذب بقصد الإصلاح حسن، و بغيره قبيح، و العبادات بقصد الإخلاص تكون حسنا، و بقصد الرّياء و السّمعة تكون شركا و قبيحا.

فظهر أنّ حسن الأعمال و قبحها بحسب النّيّات التي في الصّدور، فالاعتراض على الإمامية - تمسّكا بإطلاق الآية المباركة - ناشئ عن عدم فهم السّنّة و عدم التمسّك بالثّقلين اللذين [هما] كلّ مبيّن للآخر.

ثمّ قرّر سبحانه تعالى سعة قدرته و أكّدها بقوله: وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من المحاسبة، و التّعذيب، و المغفرة، و غيرها ممّا يكون في حيّز الإمكان قَدِيرٌ و لا قصور في قدرته، و لا مانع عن نفوذ إرادته.

روى الطّبرسي رحمه اللّه في (الاحتجاج)، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في ضمن بيان قصّة المعراج: «فكان

ص: 562


1- تفسير الرازي 125:7.
2- تفسير الرازي 126:7.
3- نهج البلاغة: 103 /الخطبة 75، تفسير الصافي 286:1.
4- التهذيب 218/83:1.

قاب قوسين بينهما أو أدنى، فأوحى اللّه إلى عبده ما أوحى، فكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة: لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الآية، و كانت الآية ممّا(1) عرضت على الأنبياء - من لدن آدم إلى أن بعث (تبارك اسمه) محمّدا صلّى اللّه عليه و آله - و على الامم، فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، و قبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و عرضها على امّته فقبلوها »(2).

أقول: المراد من الأمّة التي قبلتها أمير المؤمنين عليه السّلام و الأوحدي من أصحابه، لظهور أنّ الّذين شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ثقل الآية، فقال لهم: «لعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ، قولوا: سمعنا و أطعنا» - على ما في الرّواية السّابقة - لم يكونوا ممّن قبلها؛ لأنّهم لم يقولوا: سمعنا و أطعنا، بل روي أنّه اشتدّ ذلك [عليهم]، فمكثوا في ذلك حولا(3).

سورة البقرة (2): آیة 285

اشارة

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

سورة البقرة (2): آیة 285

ثمّ أنّه تعالى - لمّا بيّن التّكاليف الكثيرة، ثمّ عقّبها بآية المحاسبة - مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين به بكمال الإيمان و السّمع و الطّاعة بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ حقّ الإيمان بالمشاهدة و العيان، لا بالدّليل و البرهان بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من المعارف و الحكم و الأسرار و حقائق الأشياء التي يمكن تحمّلها، المنطوية في القرآن المجيد.

قيل: إنّه تعالى لمّا بيّن في فاتحة السّورة الكريمة؛ أنّ الكتاب العظيم الذي أنزله على رسوله، هدى للمتّقين المتّصفين بالصّفات الفاضلة، و لم يبيّن مصداقا لهم، عيّن في خاتمتها المتّصفين بها، و حكم بعنوان الشّهادة لهم بكمال الإيمان و حسن الطّاعة، و إنّما بدأ تعالى بذكره صلّى اللّه عليه و آله بطريق الغيبة، مع ذكره هناك بطريق الخطاب، لما أنّ حقّ الشّهادة الباقية مرّ الدّهور أن لا يخاطب بها المشهود له.

و إيراده بعنوان الرّسالة المنبئة عن كونه صلّى اللّه عليه و آله صاحب كتاب و شرع تمهيدا لقوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ ،

و التّعرّض لعنوان الرّبوبيّة مع إضافته إليه تشريف له، و تنبيه على أنّ إنزاله إليه تربية و تكميل له صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ أتبع مدحه بمدح تابعيه بقوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ المعهودون المعروفون، الخاصّون الصّدّيقون

ص: 563


1- في المصدر: قد.
2- الاحتجاج: 220، تفسير الصافي 289:1.
3- تفسير الرازي 125:7.

كُلٌّ منهم ببركة هداية ذلك الرّسول المكرّم آمَنَ بِاللّهِ و بوحدانيّته و بصفاته الجلاليّة و الجماليّة، بحقيقة الإيمان، و صميم القلب، كما قال سيّدهم و أميرهم (1): «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا »(2).

ثمّ أنّه تعالى عند تفصيل العقائد المعتبرة في الإيمان و مدح المؤمنين بها، قدّم الإيمان بالملائكة و الكتب في الذكر على الإيمان بالرّسل بقوله: وَ مَلائِكَتِهِ من حيث إنّهم عباد مكرمون له، لا يسبقونه بالقول، و هم بأمره يعملون، و من شأنهم التّوسط بينه تعالى و بين الرسل بإنزال الكتب و إلقاء الوحي وَ كُتُبِهِ المنزلة لهداية الخلق و إقامتهم بالقسط وَ رُسُلِهِ المبعوثين من قبله تعالى، لتربية النّفوس، و إتمام الحجّة، و تبيين الأحكام.

مع أنّ الرّسل أرفع شأنا من الملائكة، بمقتضى الرّوايات المتضافرة، بل المؤمنون أكرم عند اللّه منهم؛ لأنّ الملائكة وسائط الوحي، و الكتب منشور اللّه و وحيه، فترتيب النّظم مقتضي لتقديم المرسل، ثمّ واسطة الإرسال، ثمّ الرّسالة و المرسول، ثمّ المرسل إليه.

و أمّا تغيير الاسلوب بإضافة إيمان الرّسول إلى ما انزل إليه - مع كون الإيمان بالملائكة و الكتب و الرّسل داخلا فيه بنحو الإجمال، و ذكر التّفصيل في إيمان المؤمنين - فإنّما هو لتعظيم الرّسول و تشريفه، بحيث ينبغي أن يقال في التّعبير: الملائكة و الرّسل آمنوا بالرّسول، فتعظيمه صلوات اللّه عليه اقتضى الاكتفاء في بيان ما آمن به بذلك الإجمال الذي يعلم تفصيله من تفصيل ما آمن به المؤمنون بذلك الرّسول.

ثمّ بعد وصف المؤمنين من حيث العقائد و المعارف، وصفهم من حيث المقال بأنّهم قائلون: نحن لا نُفَرِّقُ و لا نميّز بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ من حيث الإيمان و الكفر، و التّصديق و التّكذيب، و لا نقول كما قال اليهود: نؤمن ببعض و نكفر ببعض وَ قالُوا إظهارا للانقياد لأحكام اللّه: ربّنا سَمِعْنا نداء منادي الإيمان، و تلاوة آيات القرآن، و فهمنا ما جاءنا من الحقّ و الأحكام وَ أَطَعْنا

أوامرك و نواهيك، و أجبنا ذلك المنادي بالإيمان و الانقياد و الطّاعة، فإذن نسأل غُفْرانَكَ خطايانا و ذنوبنا يا رَبَّنا و مالك أمرنا اللّطيف بنا، فإنّك مرجعنا في القيامة وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و المنقلب بعد الموت، و عند الحشر.

قيل: لمّا نزلت الآية قال جبرئيل للرّسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه قد أثنى عليك و على امّتك، فسل تعط ، فقال

ص: 564


1- أي أمير المؤمنين علي عليه السّلام.
2- مناقب ابن شهرآشوب 38:2، بحار الأنوار 209:69.

[الرسول صلّى اللّه عليه و آله]: «غفرانك ربّنا »(1).

و في ندائه بعنوان الرّبوبيّة مضافا إلى أنفسهم مبالغة في التّضرّع، و جلب العطوفة (2).و تقديم ذكر السّمع و الطّاعة على سؤال المغفرة، لكونه أدعى إلى القبول و الإجابة، و في الإقرار بالمعاد بقوله:

وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ بيان لعلّة كمال الحاجة إلى المغفرة.

و في رواية (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قصّة معراج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «فلمّا أن صار إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه، فقال: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، فأجاب صلّى اللّه عليه و آله مجيبا عنه و عن امّته فقال: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، فقال جلّ ذكره: لهم الجنّة و المغفرة على أن فعلوا ذلك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أمّا إذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربّنا و إليك المصير - يعني المرجع في الآخرة - قال: فأجابه اللّه جل ثناؤه: قد فعلت ذلك بك »(3).

سورة البقرة (2): آیة 286

اشارة

لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

سورة البقرة (2): آیة 286

ثمّ بعد ما بيّن اللّه طاعة المؤمنين و انقيادهم له، ذكر منّته عليهم بالتّسهيل في الأحكام بقوله: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً و لا يلزم على نسمة عملا إِلاّ وُسْعَها و ما يسهل عليها، و تسع له قدرتها؛ بحيث لا يكون عليها فيه ضيق و لا حرج، فضلا منه و رحمة على هذه الامّة.

عن الصادق عليه السّلام: «ما امر العباد إلاّ دون سعتهم، و كلّ شيء امر النّاس بأخذه فهم متّسعون [له]، و ما لا يتّسعون [له] فهو موضوع عنهم، و لكنّ النّاس لا خير فيهم »(4).

ثمّ بعد بيان المنّة عليهم بالتّخفيف و التّسهيل في التّكليف، رغّب في الطّاعة بقوله: لَها ثواب ما كَسَبَتْ و عملت من خير و طاعة، لا لغيرها. ثمّ رهّب عن المخالفة و العصيان بقوله: وَ عَلَيْها

عقاب مَا اكْتَسَبَتْ و حصّلت من الشّرّ و الضّرّ و المعصية، لا على غيرها.

ص: 565


1- تفسير روح البيان 447:1.
2- كذا، و قياس المصدر: العطف أو العطوف.
3- الاحتجاج: 221، تفسير الصافي 289:1.
4- التوحيد: 6/347.

ثمّ عاد سبحانه إلى بيان مقال المؤمنين في مقام الدّعاء و التّضرّع و الخوف بقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا.

و في رواية المعراج: «فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا سمع ذلك: أما إذا فعلت [ذلك] بي و بامّتي فزدني، قال:

سل، قال: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، قال اللّه تعالى: لست اؤاخذ امّتك بالنسيان و الخطأ لكرامتك عليّ . و كانت الأمم السّالفة، إذا نسوا ما ذكّروا به، فتحت عليهم أبواب العذاب، و قد رفعت [ذلك] عن امّتك. و كانت الأمم السّالفة إذا أخطئوا أؤاخذهم بالخطإ و عوقبوا عليه، و قد رفعت [ذلك] عن امّتك لكرامتك عليّ » الخبر(1).

توضيح المراد من رفع الخطأ و النسيان

توضيح الآية و الرّواية: أنّ المراد من النّسيان و الخطأ العمل الذي صدر عن النّسيان و الخطأ في الحكم أو الموضوع، لوضوح أنّ صفة النّسيان و الخطأ ليستا من متعلقات التّكليف، و لا قابلتين للمؤاخذة عليهما حتى يرفع عنهما، و ما ليس قابلا للوضع ليس قابلا للرّفع.

إن قيل: كما لا يمكن جعل المؤاخذة على نفس الصّفتين، لا يمكن جعلها على العمل الصّادر عنهما، فكيف يصحّ الامتنان برفعها عنه ؟

قلت: نعم، و لكن يمكن جعل المؤاخذة على عدم المبالاة و عدم المحافظة المؤدّيين إلى الخطأ و النّسيان، لكونهما مستندين إلى الاختيار و التّقصير، و يصحّ جعل العقوبة عليهما بجعل وجوب الاحتياط و إيجاب التّحفّظ . فمعنى رفع المؤاخذة و العقوبة على العمل الصادر عن الخطأ و النّسيان، رفع إيجاب التّحفّظ .

و قيل: إنّ المراد من النّسيان ترك العمل، و من الخطأ الذّنب.

و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: أنّ معناه لا تعاقبنا إن عصيناك جاهلين، أو متعمّدين(2).

رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ و لا تجعل عَلَيْنا إِصْراً و تكليفا شاقّا ثقيلا كَما حَمَلْتَهُ و جعلته عَلَى

الامم اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِنا.

ذكر الآصار التي كانت على الامم

و في الرّواية المعراجيّة السّابقة: «فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اللهم: إذا أعطيتني ذلك فزدني، فقال اللّه تعالى: سل، قال: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

ص: 566


1- الاحتجاج: 221، تفسير الصافي 289:1.
2- جوامع الجامع: 52.

قَبْلِنا يعني بالإصر الشّدائد التي كانت على من كان قبلنا، فأجابه اللّه تعالى [إلى] ذلك، فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن امّتك الآصار التي كانت على الامم السّالفة، كنت لا أقبل صلاتهم إلاّ في بقاع من الأرض المعلومة(1) اخترتها لهم و إن بعدت، و جعلت الأرض كلّها [لامّتك] مسجدا و طهورا، فهذه من الآصار التي كانت على الامم قبلك، فرفعتها عن امّتك.

و كانت الامم السّالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم، و قد جعلت الماء طهورا لامّتك، فهذه من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن امّتك.

و كانت الامم السّالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس، فمن قبلت ذلك منه أرسلت إليه نارا فأكلته فرجع مسرورا، و من لم أقبل ذلك منه رجع مثبورا، و قد جلعت قربان امّتك في بطون فقرائها و مساكينها، فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة، و من لم أقبل منه رفعت عنه عقوبات الدّنيا.

إلى أن قال: و كانت الامم السّالفة صلواتها مفروضة عليها فى ظلم اللّيل و أنصاف النهار، و هي من الشّدائد التي كانت عليهم، فرفعتها عن امّتك، و فرضت عليهم صلواتهم في أطراف اللّيل و النّهار، و في أوقات نشاطهم.

و كانت الامم السّالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا، و هي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن امّتك، و جعلتها [خمسا] في خمسة أوقات »(2).

و قيل: إنّ من الآصار: قتل النّفس في التّوبة، و قطع الأعضاء الخاطئة، و حرمة أكل الصائم بعد النوم و بعض الطّيّبات عليهم بالذّنوب، و كتابة ذنب اللّيل على الباب بالصّبح، و كون الزّكاة ربع ما لهم، و غير ذلك من الشّدائد. و قد عصم اللّه عزّ و جلّ هذه الامّة من أمثال ذلك، و أنزل في شأنهم وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (3) ،و قال صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت بالحنيفيّة السّهلة السّمحة »(4).

ثمّ كرّر النّداء بقوله: رَبَّنا إظهارا لمزيد الضّراعة وَ لا تُحَمِّلْنا و لا تنزل بذنوبنا و إسرافنا على أنفسنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و لا صبر لنا عليه، من البلايا و العقوبات النازلة على الامم السّالفة.

و استدل الأشاعرة به على جواز التّكليف بما لا يطاق.

ص: 567


1- في المصدر: بقاع معلومة من الأرض.
2- الاحتجاج: 221، تفسير الصافي 289:1.
3- الأعراف: 157/7.
4- تفسير روح البيان 449:1.

و فيه: أنّه لا موقع لاستدعاء عدم تحميل التّكليف بغير المقدور، بعد سؤال عدم تحميل الإصر الذي هو التّكاليف الشّاقة، و إجابته منه تعالى.

إن قيل: إنّ المراد بالإصر البلايا و العقوبات.

قلنا: مضافا إلى أنّه خلاف المشهور بين المفسّرين، و كثير من الروايات، لا يمكن حمل ما لا يطاق على غير المقدور؛ لحكم العقل بقبح التّكليف به، فلا بدّ من حمله على غير المقدور العرفي، و هو ما يكون فيه حرج و مشقّة.

و في الرّواية المعراجيّة: «قال: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا أعطيتني ذلك فزدني، قال: سل: قال: وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بك و بأمّتك، و قد رفعت عنهم عظيم بلايا الامم؛ و ذلك حكمي في جميع الامم أن لا اكلّف خلقا فوق طاقتهم »(1).

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية سؤال المؤمنين أهمّ حوائجهم في الدّنيا، حكى عنهم سؤال أهمّ حوائجهم في الآخرة بقوله: وَ اعْفُ عَنّا ذنوبنا وَ اغْفِرْ لَنا سيّئاتنا وَ ارْحَمْنا.

و الفرق بين العفو و المغفرة و الرّحمة، أنّ العفو: هو التّجاوز عن عقوبة الذّنب. و المغفرة: هي ستر الذّنب أو مطلق السّتر، ذنبا كان المستور أو نقصا و عيبا، بحيث لا يطّلع عليه أحد. و الرّحمة: هي التعطّف بإعطاء الثّواب، أو بالأعمّ منه و من دفع البلاء و المحن و الكروب و أهوال القيامة.

ثمّ حكى ختمهم الدّعاء بأهمّ الحوائج بقوله: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ و فيه دلالة على أنّ إعلاء كلمة الحقّ و الجهاد في سبيل اللّه، و الغلبة على الكفّار، و النّصرة على أعداء الدّين بالسّيف و الحجّة، غاية آمال المؤمنين.

و لمّا كان في الأدعية الثّلاثة الاول مقام إظهار غاية الضّراعة، كان الأنسب توصيفه تعالى بصفة الرّبوبيّة؛ لإشعارها بكمال ذلّة الدّاعي، و تأثيرها في سرعة إجابة الدّعاء.

و أمّا في السؤال الرابع؛ و هو طلب النّصرة على الكفّار، فلمّا كان مقام الاستعانة و الانتصار، كان المناسب توصيفه تعالى بالمولويّة، حيث إنّ المولى إن كان بمعنى النّاصر و المعين، أو بمعنى المالك و السيّد، فالمناسبة ظاهرة، حيث إنّ من وظيفة السّيد و المالك أن يكون ناصرا لعبده و حافظا له، و إن كان بمعنى متولّي الامور فيدخل فيه النّصرة على الأعداء.

ص: 568


1- الاحتجاج: 222، تفسير الصافي 291:1.

و في الرّواية المعراجية: عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال صلّى اللّه عليه و آله: وَ اعْفُ عَنّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا قال اللّه تعالى: قد فعلت ذلك بتائبي امّتك. قال صلّى اللّه عليه و آله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ

قال اللّه جلّ اسمه: إنّ امّتك في الأرض كالشّامة البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون، و هم القاهرون، يستخدمون و لا يستخدمون لكرامة امّتك(1) عليّ ، و حقّ عليّ أن اظهر دينك على الأديان، حتى لا يبقى في شرق الأرض و غربها دين إلاّ دينك، و يؤدّون إلى أهل دينك الجزية »(2).

و روي من طرق العامّة أنّه لمّا اسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انتهي به إلى سدرة المنتهى، و هي في السّماء السّادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، و إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (3) قال: فراش من ذهب، قال: فاعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا:

اعطي الصلوات الخمس، و اعطي خواتيم سورة البقرة، و غفر لمن لا يشرك باللّه شيئا من امّته(4).

قال صلّى اللّه عليه و آله: «قرّبني اللّه و أدناني إلى سند العرش، ثمّ ألهمني اللّه أن قلت: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كما فرّقت اليهود و النّصارى».

قال: فما قالوا؟ قلت: «قالُوا: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ،و المؤمنون قالوا: سمعنا و أطعنا». فقال: صدقت، فسل تعط ، فقلت: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد رفعت عنك و عن امّتك الخطأ، و النّسيان، و ما استكرهوا عليه.

فقلت: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود. قال: لك ذلك و لامّتك.

قلت: وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: قد فعلت.

قلت: وَ اعْفُ عَنّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال: قد فعلت(5).

عن معاذ: أنّه كان إذا ختم سورة البقرة يقول: آمّين(6).

ثمّ اعلم أنّ مقتضى هذه الرّوايات؛ أنّ آية آمَنَ الرَّسُولُ إلى قوله وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ، و من قوله:

ص: 569


1- في المصدر: لكرامتك.
2- الاحتجاج: 222، تفسير الصافي 291:1.
3- النجم: 16/53.
4- تفسير روح البيان 449:1.
5- تفسير روح البيان 449:1.
6- تفسير روح البيان 450:1.

رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إلى قوله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من كلام الرّسول في ليلة المعراج، و إنّما حكاه اللّه في كتابه؛ و ليس بكلام اللّه. مع أنّ الإجماع و الضّرورة من الدّين حاكمان بأنّ جميع ما بين الدّفّتين كلام اللّه، ليس كلام المخلوق، إلاّ أن يقال: أنّ اللّه تعالى حكى المعاني بكلام نفسه، و المعصوم حكاها بكلام اللّه.

ثمّ أنّه تعالى حكى الدّعاء، و لم يحك الإجابة؛ لظهورها بقرينة سعة الرّحمة، و ظهور استحقاق الدّاعي للإجابة.

ص: 570

في تفسير سورة آل عمران

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة آل عمران (3): الآیات 1 الی 2

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)

وجه إرداف البقرة بآل عمران

ثمّ أنّه تعالى لمّا ختم السورة المباركة بالدعاء بالنصرة على الكافرين بالسيف و الحجّة، و كان ربعها أو أزيد تقريبا في المحاجّة مع اليهود، اقتضى حسن النّظم إردافها بسورة آل عمران، المتضمّنة لإجابة ذلك الدّعاء، من جهة دلالتها على غلبة النبيّ و المسلمين؛ بنصرته تعالى، على النّصارى، بالحجّة و المباهلة، و بشارة المؤمنين بغلبتهم على الكفّار، و نصرته لهم بقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ (1) ،و اشتمالها على خذلان الكفّار في غزوة احد، و كونها إلى بضع و ثمانين آية في المحاجّة مع النّصارى.

قصة وفد نصارى نجران

روي أنّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وفد نجران، و كانوا ستّين راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم؛ ثلاثة منهم أكابر، إليهم يؤول أمرهم، أحدهم أميرهم و صاحب مشورتهم العاقب، و اسمه عبد المسيح، و ثانيهم وزيرهم و مشيرهم السيّد، و اسمه الأيهم، و ثالثهم حبرهم و اسقفّهم و صاحب مدارسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، و قد كان ملوك الرّوم شرّفوه و موّلوه و أكرموه لما بلغهم من علمه و اجتهاده في دينهم، و بنوا له كنائس، فلمّا خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته، و كان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت، فقال كرز تعسا للأبعد - يريد به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - فقال له أبو حارثة: بل تعست امّك، فقال كرز: و لم يا أخي ؟ [فقال أبو حارثة:] إنّه و اللّه النبيّ الذي كنّا ننتظره.

فقال أخوه كرز: فما يمنعك عنه، و أنت تعلم هذا؟! قال: لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة

ص: 571


1- آل عمران: 12/3.

و أكرمونا، فلو آمنّا به لأخذوا منّا كلّ هذه الأشياء، فوقع ذلك في قلب كرز، و كان يضمره إلى أن أسلم، فكان يحدّث بذلك.

فأتوا المدينة، ثمّ دخلوا مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد صلاة العصر، عليهم ثياب خيّرات، من جبب و أردية فاخرة، يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله: ما رأينا وفدا مثلهم. و قد حانت صلاتهم فقاموا ليصلّوا في المسجد، فقال عليه السّلام: «دعوهم» فصلّوا إلى المشرق.

ثمّ تكلّم أولئك الثّلاثة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا تارة: عيسى هو اللّه؛ لأنّه كان يحيي الموتى، و يبرئ الأسقام، و يخبر بالغيوب، و يخلق من الطّين كهيئة الطّير؛ فينفخ فيه فيطير، و تارة اخرى: هو ابن اللّه؛ إذ لم يكن له أب يعلم، و تارة اخرى: إنّه ثالث ثلاثة؛ لقوله تعالى: (فعلناه) و (قلنا) و لو كان واحدا لقال: فعلت و قلت.

فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أسلموا». فقالوا: أسلمنا قبلك. قال صلّى اللّه عليه و آله: «كذبتم، كيف يصحّ إسلامكم و أنتم تثبتون للّه ولدا، و تعبدون الصّليب، و تأكلون الخنزير؟»

قالوا: إن لم يكن ولد اللّه فمن أبوه ؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى في ذلك أوّل سورة آل عمران(1).

سورة آل عمران (3): آیة 1

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم و قد مرّ تفسير البسملة، و تأويل الحروف المقطّعة، و إنّما بدأ السورة بها لتوجيه الأذهان إلى إصغاء ما بعدها من البراهين القاطعة على التّوحيد، و إبطال الشّرك.

سورة آل عمران (3): آیة 2

و لمّا كان مقام الاحتجاج مع النّصارى، بدأ سبحانه - على قانون الجدل - ببيان التّوحيد الذاتي، الذي هو المدّعى الأوّل بقوله: اَللّهُ حيث إنّه علم للذات الواجب، المستجمع لجميع الكمالات، الممتنع تعدّده و تكثّره، ثمّ ثنّاه ببيان التّوحيد العبادتي بقوله، مخبرا عن ذاته بأنّه لا إِلهَ و لا معبود متصوّر أو موجود إِلاّ هُوَ.

فالجملة الخبريّة دلّت على نفي الوهيّة عيسى و معبوديّته، ردّا على النّصارى، حيث إنّ طائفة منهم كانوا يقولون: عيسى هو الخالق و المعبود لا غيره، و طائفة اخرى يقولون: هو أحد المعبودين الثّلاثة، و ثالثة يقولون: هو أحد المعبودين لكونه ابن اللّه.

ثمّ أخذ سبحانه في الاستدلال على وحدانيّة ذاته بقوله مخبرا عنه بأنّه اَلْحَيُّ الذي لا يموت

ص: 572


1- تفسير الرازي 154:7، تفسير روح البيان 2:2.

و اَلْقَيُّومُ الذي بيده تدبير كلّ شيء، فإذا حكم العقل بأنّ خالق العالم لا بدّ من أن يكون واجدا لهذين الوصفين، حكم بفساد القول بكون عيسى إلها؛ لضرورة حياته بعد موته، و موته بعد حياته، و عجزه عن الاستقلال بتدبير نفسه، فضلا عن تدبير السّماوات و الأرض و ما فيهما.

و في الرّواية السّابقة لمّا قالوا: فمن أبوه ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلاّ و يشبه أباه ؟!» فقالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت، و أنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ ربّنا قيّوم على كلّ شيء يحفظه و يرزقه ؟» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟» قالوا: لا(1).

و روي أنّ هذين الاسمين اسم اللّه الأعظم(2).

سورة آل عمران (3): الآیات 3 الی 4

اشارة

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

سورة آل عمران (3): آیة 3

ثمّ استدلّ سبحانه على انحصار استحقاق العبادة فيه، بنعمه العظام التي أهمّها إنزال الكتب السّماوية لهداية البشر إلى العقائد الحقّة، و المحسّنات العقليّة، و المصالح الدّنيويّة، بقوله مخبرا عن ذاته المقدّسة بأنّه نَزَّلَ نجوما و تدريجا عَلَيْكَ يا محمّد؛ لهداية الخلق إلى يوم القيامة اَلْكِتابَ المجيد و القرآن المجيد.

قيل: عبّر سبحانه عنه باسم الجنس للإشعار بتفوّقه في الكمالات الجنسيّة كأنّه الحقيق بهذا الاسم دون غيره من الكتب.

ثمّ استدلّ على كونه منزلا من اللّه بكونه ملتبسا بِالْحَقِّ و العدل، أو بالصّدق في أخباره، التي من جملتها خبر التّوحيد، و سائر المعارف، و ما فيه من الوعد و الوعيد، أو مقرونا بدلائل الصّدق؛ من إعجاز البيان، و الإخبار بالمغيّبات، و الاشتمال على العلوم غير المتناهية، مع كون من أتى به امّيّا، حال كونه مُصَدِّقاً لِما نزل بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السّماويّة؛ حيث إنّه أخبر جميعها ببعثة نبيّ من ولد إسماعيل، له نعوت و صفات خاصّة، و كتاب ناسخ لسائر الكتب.

ص: 573


1- تفسير أبي السعود 3:1.
2- تفسير أبي السعود 3:1.

و جميع هذه العلائم المذكورة في الكتب منطبقة على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كتابه، فلو لم يكن صادقا في دعوى رسالته و كتابه منزلا من اللّه، لكان إخبار الكتب السّماويّة كذبا، فجميع الكتب المنزلة شواهد صدق القرآن، و أدلّة كونه منزلا من اللّه، فكلّ من آمن بها يلزمه الإيمان به.

ثمّ استدلّ سبحانه بنعمه السّابقة على الامم السّالفة بقوله: وَ أَنْزَلَ سبحانه دفعة اَلتَّوْراةَ على موسى بن عمران وَ الْإِنْجِيلَ على عيسى بن مريم مِنْ قَبْلُ و في الأزمنة السّابقة على نزول القرآن؛ لأجل أن يكون كلّ واحد منهما هُدىً و دليلا مرشدا لِلنّاسِ المكلّفين باتّباعهما إلى الحقّ و الرّشاد.

و لا يذهب عليك أنّه ظهر من تفسيرنا الفرق بين التّنزيل و الإنزال، و أنّ التّنزيل متضمّن للكثرة و التّدرّج في النّزول دون الإنزال. و لمّا كان القرآن جامعا بين الجهتين، باعتبار نزوله دفعة إلى البيت المعمور، و تدريجا إلى الأرض، اسند إليه التّنزيل في أوّل الآية.

ثمّ للدلالة على كونه أعظم شأنا، و أتمّ نعمة من غيره، أعاد ذكره بقوله: وَ أَنْزَلَ الكتاب الذي جعله اَلْفُرْقانَ بين الحقّ و الباطل، و المائز بين الضّلال و الرّشاد، و المبيّن لمشتبهات سائر الكتب السّماويّة، و المهيمن عليها.

عن الصّادق عليه السّلام: «القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به »(1).

و في رواية: «الفرقان كلّ آية محكمة »(2).

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «سمّي القرآن فرقانا؛ لأنّه متفرّق الآيات، و السّور انزلت في غير الألواح و غير الصّحف (3) ،و التّوراة [و الإنجيل] و الزّبور انزلت كلّها جملة في الألواح و الأوراق »(4).

أقول: لا منافاة بين هذه الأخبار، لإمكان إطلاق هذا الوصف عليه بكلا الاعتبارين، فتحصّل من الآيات أنّ من كان كمال قدرته، و سعة لطفه و رحمته، و وفور نعمته بهذه المرتبة، كان هو المعبود بالاستحقاق دون عيسى و غيره من الخلق.

ثمّ بعد وضوح الحقّ و إبطال الشّرك بالبراهين القاطعة، أخذ سبحانه في التّهديد على الكفر

ص: 574


1- الكافي 11/461:2، تفسير الصافي 292:1.
2- جوامع الجامع: 53، تفسير الصافي 292:1.
3- في علل الشرائع: و غيره من الصحف.
4- علل الشرائع: 33/470، تفسير الصافي 292:1، و فيهما: الألواح و الورق.

و الشّرك، و إنكار كلّ حقّ بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و ألحدوا بِآياتِ اللّهِ و دلائل توحيده، و معجزات نبيّه، من القرآن و غيره، قد هيّأ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ غاية الشّدّة، خارج عن حدّ البيان وَ اللّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره، قاهر على خلقه ذُو انْتِقامٍ عظيم من أعدائه، و منكري توحيده، و رسالة رسوله، و دينه.

سورة آل عمران (3): الآیات 5 الی 6

اشارة

إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

سورة آل عمران (3): آیة 5

ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيد ذاته - الملازم لاستحقاقه العبادة دون غيره، بسعة علمه، و كمال إحاطته بجميع ذرّات الكائنات و خفايا أحوالها - بقوله: إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ من الأشياء، و ذرّة من الذّرّات، و حال من أحوالها، لا ما كان فِي الْأَرْضِ حتّى خطرات القلوب، و مكنونات الضّمائر، من التّوحيد و الشّرك و الإيمان و الكفر، و الإرادات الحسنة و السيئة وَ لا ما كان فِي السَّماءِ حتّى ضمائر الملائكة، و مكتوماتهم.

و فيه مزيد تهديد، حيث إنّ القدرة الكاملة على العقوبة غير كافية في الرّدع عن المعاصي الخفيّة و العقائد السيّئة، إلاّ إذا علم أنّ المنتقم مطّلع على الخفيّات، عالم بالسّرائر و المستورات.

و التّعبير عن علمه بعدم خفاء شيء عليه، للإشعار بأنّ علمه بالأشياء بحضورها عنده، و الإحاطة التّامّة القيموميّة عليها، لا بالصّور الذّهنيّة، فلا يشبه علمه علم المخلوقين.

و في ذكر الأرض و السّماء تأكيد لسعة علمه، و تصريح بشموله، و لدفع توهّم اختصاص علمه بخصوص ما في الأرض، و في تقديم ذكر الأرض إشعار بكمال الاعتناء بإحاطته بأحوال أهلها.

و في رواية محاجّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع وفد نجران: قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السّماء؟!» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «فهل يعلم عيسى شيئا إلاّ ما علّم ؟» قالوا: لا(1).

سورة آل عمران (3): آیة 6

ثمّ أوضح سبحانه كمال قدرته، و سعة إحاطته بقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ و يخلقكم على هيئة خاصّة، و شكل مخصوص، و أنتم فِي مضائق اَلْأَرْحامِ و ظلماتها الثلاث: ظلمة البطن، و ظلمة المشيمة، و ظلمه الرّحم كَيْفَ يَشاءُ لكم من الصّور، من الذّكورة و الانوثة، و التّمام و النّقص،

ص: 575


1- .تفسير روح البيان 3:2.

و الطّول و القصر، و الحسن و القبح.

و في رواية المحاجّة: قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ ربّنا صوّر عيسى في الرّحم كيف شاء، و أنّ ربّنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث ؟» قالوا: بلى، قال صلّى اللّه عليه و آله: «أ لستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة، و وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثمّ غذّي كما يغذّى الصّبيّ ، ثمّ كان يطعم الطّعام، و يشرب الشّراب، و يحدث الحدث ؟» قالوا: بلى، قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا، فأبوا إلاّ جحودا »(1).

و في الآيتين أيضا تقرير لصفتي حياته و قيموميّته.

ثمّ أعاد سبحانه ذكر المدّعى و هو التّوحيد - بعد إقامة البرهان عليه تفصيلا، لإشرابه في القلوب - بقوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فنزّه ذاته المقدّسة عن أن يكون عيسى مثله و شبيهه في الالوهيّة.

ثمّ أعاد حاصل البرهانين المذكورين، بقوله: اَلْعَزِيزُ الغالب غير المتناهي في قدرته اَلْحَكِيمُ و المتقن في أفعاله و مخلوقاته. فعيسى مقهوره و مغلوبه و بديع صنعه، لكونه مركبا من المادّة و الصّورة، و محتاجا إلى المركّب، و معرّضا للانحلال و الفناء.

و حاصل ما استفيد من الآيتين في الردّ على النّصارى: أنّهم إن تمسّكوا في الوهيّة عيسى بعلمه بالمغيّبات، حيث كان ينبئهم بما يأكلون و ما يدّخرون. ففيه: أنّ علمة كان مقصورا ببعض الامور الجزئيّة، و العلم اللاّئق بمقام الالوهيّة هو العلم المحيط بجميع جزئيّات الكائنات، و أجزاء الموجودات، و صفاتها، و أحوالها، و إن كان مثقال حبّة من خردل في صخرة في الظّلمات، و بالضّرورة لم يكن هذا العلم الشّامل، لعيسى و لا لغيره.

و إن تمسّكوا بقدرته على ما لا يقدر عليه البشر؛ من إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الطّير و إحياء الموتى، ففيه: أنّها قدرة ناقصة مفاضة إليه من خالقه و مصوّره، إذ من الواضح أنّه مصنوع غيره، صوّره قادر مطلق في رحم امّه من غير أب، لبداهة أنّه عليه السّلام لم يخلق امّه، و لم يصوّر نفسه في رحمها.

في كيفية خلق الجنين في الرحم و مقدّماته

عن (الكافي): عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه تعالى إذا أراد أن يخلق النّطفة، التي هي ممّا أخذ عليه(2) الميثاق، من(3) صلب آدم، أو ما يبدو له فيه، و يجعلها في الرّحم، حرّك الرّجل للجماع، و أوحى إلى الرّحم أن افتحي بابك حتّى يلج فيك خلقي و قضائي

ص: 576


1- تفسير روح البيان 3:2.
2- في المصدر: عليها.
3- في المصدر: في.

النّافذ و قدري، فتفتح الرّحم بابها، فتصل النّطفة إلى الرّحم، فتردّد فيه أربعين يوما، ثمّ تصير علقة أربعين يوما، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما، ثمّ تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثمّ يبعث اللّه إليه ملكين خلاّقين يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرّحم، و فيها الرّوح القديمة المنقولة في أصلاب الرّجال و أرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة و البقاء، و يشقّان له السّمع و البصر و جميع الجوارح و جميع ما في البطن بإذن اللّه تعالى»(1) الخبر.

أقول: الظّاهر أنّ المراد من قوله: (و ما يبدو له) من يريد خلقه ممّن لم يأخذ عليه الميثاق، و هم الّذين يموتون قبل البلوغ و التعبير بالبداء لكون الغرض في خلقهم مترتّبا على الغرض من خلق من أخذ عليه الميثاق، و متأخّرا عنه في الرّتبة، فكأنّه حدثت إرادته بعد إرادته.

و من قوله: (حرّك الرّجل للجماع) أنّه أوجد مبادئ هيجان الشّهوة. و من قوله: (فأوحى إلى الرّحم) جعل قوّة الانفتاح فيه، و تعلّقت الإرادة التّكوينيّة بفتحه. و من قوله: (فتردّد فيه) تغيّر شيئا فشيئا، و من حال إلى حال، حتّى تصير علقة.

و من قوله: (الرّوح القديمة) استعداد صيرورته إنسانا. و من قوله: (البقاء) هو روح البقاء، و قوّة التّغذية و التنمية. و أنّ المراد من الواو في قوله: (و يشقّان) الجمع المطلق، كما هو مقتضى العطف به، لا الترتيب، فلا ينافي تسوية الأعضاء و الأحشاء قبل ولوج الرّوح.

إلى أن قال عليه السّلام: «ثمّ يوحي اللّه إلى الملكين اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري، و اشترطا لي البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا ربّ ما نكتب ؟ قال: فيوحي اللّه عزّ و جلّ إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امّه، فيرفعان [رءوسهما]، فإذا اللّوح يقرع جبهة امّه، فينظران فيه فيجدان في اللّوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه، شقيّا أو سعيدا، و جميع شأنه.

قال: فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللّوح، و يشترطان البداء فيما يكتبان، ثمّ يختمان الكتاب، و يجعلانه بين عينيه، ثمّ يقيمانه قائما في بطن امّه. قال: فربّما عتا فانقلب، و لا يكون ذلك إلاّ في كلّ عات أو مارد »(2).

و عن الصّادق عليه السّلام، في رواية: «أنّ اللّه تبارك و تعالى إذا أراد أن يخلق خلقا جمع كلّ صورة ما بينه

ص: 577


1- الكافي 4/13:6، تفسير الصافي 293:1.
2- الكافي 4/14:6، تفسير الصافي 293:1.

و بين آدم (1) ،ثمّ خلقه على صورة إحداهنّ (2) ،فلا يقولنّ أحد لولده: هذا لا يشبهني و لا يشبه أحدا من آبائي »(3).

سورة آل عمران (3): آیة 7

اشارة

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)

سورة آل عمران (3): آیة 7

ثمّ أنّه روي أنّ الوفد قالوا: يا محمّد، أ لست تزعم أنّ عيسى كلمة اللّه و روح منه ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «بلى» قالوا: حسبنا(4).

و الظّاهر من قولهم: (حسبنا) أنّك اعترفت بقولك: (إنّه كلمة اللّه) أنّه ابنه، و بقولك: (أنّه روح منه) بأنّه ثالث ثلاثة.

فنزل في ردّهم قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ هذا اَلْكِتابَ المجيد المسمّى بالقرآن، حال كونه مشتملا على نوعين: نوع مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قطعيّات الدّلالة، ناصّات في المراد، أو ظاهرات فيه، بنفسها أو بالقرائن المتّصلة؛ من اللّفظيّة أو العقليّة أو المقاميّة.

و تلك الآيات هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ و أصل فيه، باعتبار وجوب إرجاع سائره إليها، فقوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (5) مرجع لقوله: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ (6) ،و قوله: إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ (7) مرجع لقوله:

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها (8) ،و قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (9) مرجع لقوله: وَ رُوحٌ مِنْهُ (10) لوضوح أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون جزءا لخالقه، إلى غير ذلك.

و نوع منه آيات وَ أُخَرُ هنّ آيات مُتَشابِهاتٌ الدّلالة، محتملات لمعاني متعدّدة، لا رجحان لبعضها على بعض في استحقاق الإرادة بها، و لا يتّضح المقصود منها إلاّ بالقرائن المنفصلة، كالمجملات و المبهمات، أو الظواهر التي يكون مدلولها مخالفا للعقل السّليم، كقوله: يَدُ اللّهِ فَوْقَ

ص: 578


1- في العلل: صورة بينه و بين أبيه إلى آدم.
2- في العلل: أحدهم.
3- علل الشرائع: 1/103 باب 93، تفسير الصافي 293:1.
4- تفسير الرازي 155:7.
5- مريم: 64/19.
6- التوبة: 67/9.
7- الأعراف: 28/7.
8- الإسراء: 16/17.
9- الإسراء: 85/17.
10- النساء: 171/4.

أَيْدِيهِمْ (1) ،و قوله: وَ جاءَ رَبُّكَ (2) و قوله: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (3) لحكم العقل بتنزّه خالق الأجسام و الأمكنة عن الجسم و الصّورة و المكان و الحركة.

في معنى المحكم و المتشابه

عن الصّادق عليه السّلام أنّه سئل عن المحكم و المتشابه، فقال: «المحكم: ما يعمل به، و المتشابه: ما اشتبه على جاهله »(4).

و الظّاهر أنّ المراد من قوله: (ما يعمل به) ما لا يتوقّف العرف في مدلوله و مفاده.

و عن (الكافي): عنه عليه السّلام، في تأويله: «أنّ المحكمات أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام، و المتشابهات فلان و فلان »(5).

ثمّ اعلم أنّ تقسيم الكتاب بجعل بعضه محكما و بعضه متشابها، لا ينافي تسمية كلّه محكما في قوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ (6) ،و أنّ معناه: أنّه اتقنت مطالبه، بحيث لا يتوهّم التّناقض فيها، و حفظت من أن يعتريها الخلل و التّحريف و النّسخ، و لا توصيف كلّه بالمتشابه في قوله: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (7) لأنّ معنى المتشابه هنا: المتماثل الآيات في صحّة المعاني، و جزالة النّظم، و حقّيّة المدلول.

و قد سبق في الطّرفة السّابعة عشرة بيان فوائد كثيرة و حكم وفيرة في جعل كثير من الآيات القرآنية متشابها، و عدم جعل جميعها محكمات، من أراد الاطّلاع عليها فليراجعها، و عمدة حكمها ابتلاء الخلق، و التمييز بين الثّابت على الحقّ و أهل الزّيغ.

فَأَمَّا الَّذِينَ كان فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ و ميل عن الحقّ إلى اتّباع الهوى، و انحراف عن الصّراط المستقيم إلى شعب الضّلال فَيَتَّبِعُونَ من ذلك الكتاب ما تَشابَهَ مِنْهُ و يتمسّكون - لإثبات عقائدهم الفاسدة و أعمالهم الباطلة - بظاهر آيات مخالف للمحكمات، أو بمجملات غير ظاهرة الدّلالة، و يؤوّلونها بالظّنون و الاستحسانات، لا تحرّيا للحقّ و طلبا للصّواب، بل اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ

و قصد إلقاء الشّبهات في قلوب ضعفاء العقول و الإيمان، و سعيا في إضلال النّاس عن طريق الحقّ و الهدى وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ و طلبا لتطبيقه على باطلهم، و إرجاعه إلى ما هو مشتهى أنفسهم من

ص: 579


1- الفتح: 10/48.
2- الفجر: 22/89.
3- طه: 5/20.
4- تفسير العياشي 643/292:1، تفسير الصافي 295:1.
5- الكافي 14/343:1، تفسير العياشي 642/292:1، تفسير الصافي 295:1.
6- هود: 1/11.
7- الزمر: 23/39.

الخرافات، و إرجاعه إلى معنى يوافق ما راموه من الكفر، لحبّ الغلبة على الخصم، و حفظ الجاه و المال، كتمسّك الوفد بقوله: إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ (1) و بقوله: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ (2) لإثبات أنّ عيسى ابن اللّه، أو ثالث ثلاثة، مع قصور دلالتهما و معارضتهما لحكم العقل و محكم الآيات من قوله: ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ (3) و قوله: لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ (4) و خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (5).

هُوَ الحال أنّه ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ و حقيقة المراد من المتشابه أحد إِلاَّ اللّهُ العالم بحقائق الامور وَ الرّاسِخُونَ الثّابتون المتمكّنون فِي الْعِلْمِ المستغرقون في بحر الحكمة و المعرفة، المقالون بتأييد اللّه عن العثرة في مزالّ الأقدام، السّالكون بنور الهداية في ظلمات الأهواء و الأوهام، و هم النبيّ و أوصياؤه الكرام.

في تعريف الراسخين في العلم

عن (الكافي): «الرّاسخون في العلم من لا يختلف في علمه »(6).

أقول: الظّاهر أنّ المراد منه من لا يكون علمه عن رأي و اجتهاد، حتى تتغيّر فتواه و يختلف حكمه، و هم الذين يكون علمهم بإفاضة اللّه و إلهامه، كالنبيّ و أوصيائه و خلفائه.

روي أنّه قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لأبي حنيفة: «أنت فقيه أهل العراق ؟» قال: نعم، قال: «فبأيّ شيء تفتي ؟» قال: بكتاب اللّه و سنة نبيّه، قال: «يا أبا حنيفة، تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته [و] تعرف النّاسخ من المنسوخ ؟» قال: نعم، قال: «يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين انزل عليهم، ويلك ما هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا، و ما ورّثك اللّه من كتابه حرفا »(7).

في (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في حديث قال: «إنّ اللّه جلّ ذكره - لسعة رحمته، و رأفته بخلقه، و علمه بما يحدث المبدّلون، من تغيير كلامه (8)- قسّم كلامه ثلاثة أقسام؛ فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه و لطف حسّه و صحّ تميزه، ممّن شرح اللّه

ص: 580


1- آل عمران: 45/3.
2- النساء: 171/4.
3- مريم: 35/19.
4- الإسراء: 111/17.
5- الأنعام: 101/6.
6- الكافي 1/190:1، تفسير الصافي 295:1.
7- علل الشرائع: 5/89، تفسير الصافي 22:1.
8- في الاحتجاج: كتابه.

صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلاّ اللّه و أنبياؤه(1) و الرّاسخون في العلم، و إنّما فعل [اللّه] ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل - من المستولين على ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - من علم الكتاب ما لم يجعله لهم، و ليقودهم الاضطرار إلى الائتمار بمن ولاّه أمرهم، فاستكبروا عن طاعته تعزّزا و افتراء على اللّه عزّ و جلّ ، و اغترارا بكثرة من ظاهرهم، و عاونهم، و عاند اللّه جلّ اسمه و رسوله »(2).

و روى الفخر الرّازي عن ابن عبّاس أنّه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدا جهله، و تفسير تعلمه العرب بألسنتها، و تفسير يعلمه العلماء، و تفسير لا يعلمه إلاّ اللّه(3).

عن (الكافي): عن الصّادق عليه السّلام: «نحن الرّاسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله »(4).

و في رواية: «فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الرّاسخين في العلم، قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التّنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »(5).

ثمّ وصف سبحانه و تعالى الرّاسخين في العلم بأنّهم - مع علمهم بالتّأويل، و فهمهم حقيقة المتشابه كالمحكم - يَقُولُونَ بألسنتهم طبقا لما في قلوبهم: آمَنّا بِهِ و صدّقنا بحقيقة المراد منه، فإنّه كُلٌّ من الآيات المتشابهات، أو منها و من المحكمات، حقّ نازل مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

و يمكن أن يكون حكاية هذا القول عنهم، لتعليم المؤمنين الّذين لا يعلمون التّأويل أن يقولوا مثله، و لا يشكّوا - لعدم فهم المراد من المتشابه - في أنّه من عند اللّه، و لا يخوضوا في تفسيره بالظنون و الاستحسانات، بل عليهم أن يؤمنوا به، و يسلّموا له، و يفوّضوا علمه إلى اللّه تعالى، و إلى خزّان علمه و مهابط وحيه.

ذكر قول بعض العامة و رده

قيل: إنّ اَلرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ، و قوله: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ خبره، و إنّ المتشابه هو ما استأثر اللّه بعلمه و بمعرفة الحكمة فيه، كعدد الزّبانيّة، و عدّة بقاء الدّنيا، و وقت قيام السّاعة، إلى غير ذلك(6).

و هذا القول في غاية الفساد، إذ يلزمه أن يكون الرّسول جاهلا بكثير من الآيات، و غير مطّلع بالمراد ممّا انزل إليه، مع أنّ القرآن نزل لينتفع النّاس به، و لو ببيان حملته و أوعية علمه، فلو كان فيه ما لا

ص: 581


1- في الاحتجاج: و امناؤه.
2- الاحتجاج: 253، تفسير الصافي 295:1.
3- تفسير الرازي 178:7.
4- الكافي 1/166:1، تفسير الصافي 295:1.
5- الكافي 2/166:1، تفسير الصافي 295:1.
6- تفسير روح البيان 5:2.

يعلمه إلاّ اللّه لكان تنزيله لغوا، لعدم انتفاع أحد به، تعالى عن ذلك.

وَ ما يَذَّكَّرُ و لا يفهم حقيقة تأويل المتشابهات، و حكمة نزولها حقّ التّذكّر و التّفهّم أحد إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ و أصحاب العقول السّليمة من غلبة الشّهوات، و ذوو الأفهام المستقيمة الخالصة عن شوائب الأهواء الزائغات.

و من الواضح أنّ هذا المدح الفائق، و الثّناء الرّائق، لا يليق إلاّ بمن يصيب الحقّ ، و يهتدي إلى حقيقة المراد، و يصل إلى أصل المقصود من كلام الملك العلاّم، بجودة الذّهن، و إصابة النّظر، و تنوّر الفكر، و تجرّد العقل عن غواشي الحسّ و الأوهام.

سورة آل عمران (3): الآیات 8 الی 9

اشارة

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

سورة آل عمران (3): آیة 8

ثمّ لمّا كان جميع الخيرات و الكمالات حدوثا و بقاء بإفاضة اللّه و لطفه و توفيقه، كان على المؤمن اللّبيب أن لا يغترّ بوجدان خير، و لا يطمئنّ ببقاء كمال و دوام فضيلة، بل عليه أن يتضرّع إلى اللّه، و يسأل إدامته منه تعالى.

فلذا مدح اللّه الرّاسخين في العلم بأنّهم الّذين يقولون، تضرّعا و استكانة: رَبَّنا و يا من بلطفه تكميل نفوسنا، و توفيق هدايتنا لا تُزِغْ و لا تمل قُلُوبَنا عن نهج الحقّ ، في تأويل المتشابهات و غيره، إلى الباطل و الضّلال بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى الحقّ و الصّواب، في العقائد و الأعمال و التّأويل و التّفسير.

و قيل: إنّ المراد: لا تبتلنا ببلاء تزيغ منه قلوبنا.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن، إن شاء أقامه على الحقّ ، و إن شاء أزاغه عنه »(1).

و الظّاهر أنّ كلمة (الإصبعين) كناية عن رضا اللّه و غضبه، أو عن الملك المرشد و الشّيطان المغوي، أو عن التّوفيق و الخذلان.

ثمّ أنّهم - بعد سؤال أن لا يسلب اللّه عنهم ما ألبسهم من الكمال، و لا يستردّ ما أعطاهم من العلم

ص: 582


1- تفسير أبي السعود 9:2.

و توفيق الرّشد إلى الحقّ - سألوا زيادة الرّحمة و العلم و التّوفيق بقولهم: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ و من خزائن جودك رَحْمَةً نفوز بها إلى أعلى درجات قربك و رضوانك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ

للخيرات، المعطي المعطي للسّؤلات. و التّذييل به للإشعار بأنّ هذا المسئول في جنب عطاياه الكثيرة، في غاية القلّة.

عن الكاظم عليه السّلام، في حديث: «يا هشام، إنّ اللّه تعالى قد حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ حين علموا أنّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها، إنّه من لم يخف اللّه(1) لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدّقا، و سرّه لعلانيته موافقا؛ لأنّ اللّه تعالى لم يدلّ على الباطن الخفيّ من العقل إلاّ بظاهر منه، و ناطق عنه »(2).

عن العيّاشي، عن الصّادق عليه السّلام: «أكثروا من أن تقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا و لا تأمنوا الزّيغ »(3).و في الآية دلالة على أنّ الهداية و الضّلال بتوفيق اللّه و خذلانه.

سورة آل عمران (3): آیة 9

ثمّ لبيان شدّة افتقارهم إلى التّحفّظ عن الزّيغ و شمول الرّحمة، عرضوا على ربّهم كمال اطمئنانهم و قوّة يقينهم بالمعاد و الحشر في القيامة، للجزاء على العقائد و الأعمال، بقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ وعدت العباد في كتابك الحقّ ، و بلسان نبيّك الصّادق، أنّك جامِعُ النّاسِ بعد الموت، و حاشرهم لِيَوْمٍ عظيم، حتّى تحاسب فيه أعمال العباد، و تثيب فيه المؤمن المطيع، و تعاقب فيه الكافر و العاصي، و لا رَيْبَ فِيهِ لنا، و لكلّ عاقل بصير من حيث وقوعه و عظمته و شدّة أهواله، و إنّ من زاغ قلبه ليبتلى بعذاب أليم دائم، و من أعطيته التّوفيق و الهداية و شملته الرّحمة، ينال السّعادة و الكرامة و النّعم الباقية كما وعدت إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ و ذكر اسم الجلالة لبيان مباينة خلف الوعد لالوهيّته المستلزمة للحكمة و الغنى و التنزّه عن كلّ نقص.

سورة آل عمران (3): آیة 10

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ

ص: 583


1- في الكافي: إنه لم يخف اللّه من.
2- الكافي 12/14:1، تفسير الصافي 296:1.
3- تفسير العياشي 649/294:1، تفسير الصافي 297:1.

وَقُودُ النّارِ (10)

سورة آل عمران (3): آیة 10

ثمّ - لمّا علم أنّ هذا الإيمان همّهم في طلب الهداية إلى الحقّ في الدّنيا، و نيل الرّحمة، و الفوز بالسّعادة في الآخرة، لا في المال و الأولاد و الحطام الفانية، بخلاف الكفّار و أهل الزّيغ المتّبعين للمتشابهات، كما نقل أنّ بعض الوفد(1) بعد اعترافه بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله هو النبيّ الموعود المنتظر، قال:

إن آمنّا به أخذ منّا أموالنا و ذهب جاهنا عند الملوك - بيّن اللّه حال الكفّار في الآخرة، و هدّدهم بشديد عقابه، و أنّ أموالهم لا تنجيهم منه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من نصارى نجران، و سائر صنوف المعاندين للحقّ ، تنقطع عنهم وسائل النّجاة من العذاب في الآخرة، حيث إنّه لَنْ تُغْنِيَ و لا تجزي أبدا عَنْهُمْ في الآخرة، أو فيها و في الدّنيا أَمْوالُهُمْ التي جمعوها و اكتسبوها في الدّنيا، بقصد جلب المنافع و دفع المضارّ عن أنفسهم بها وَ لا أَوْلادُهُمْ الّذين يعوّلون عليهم في الخطوب، و يتناصرون بهم في دفع الكروب مِنَ عذاب اَللّهِ أو من عند اللّه شَيْئاً قليلا من الإغناء، أو من العذاب.

و تخصيص الأموال و الأولاد من وسائل الدّفاع و النّجاة بالذّكر، لكونهما من أهمّها و أقواها، و تقديم ذكر الأموال لأنّها أوّل عدّة يفزع إليها عند الملمّات.

وَ أُولئِكَ البعيدون عن رحمة اللّه، بعد قطع امنيات الخلاص عَنْهُمْ خاصّة وَقُودُ النّارِ

فتشتعل نار جهنّم فيهم كاشتعالها في الحطب و الحشائش. و هذا أوضح بيان لكمال ملابستهم بالنّار، و لسوء حالهم، و تهويل شأنهم.

سورة آل عمران (3): الآیات 11 الی 12

اشارة

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12)

سورة آل عمران (3): آیة 11

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ عادة هؤلاء الكفّار و شأنهم؛ في التّمادي في الكفر، و تكذيب الرّسول، و التّمرّد عن الحقّ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ و مثل شأنهم وَ شأن اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من العتاة و المردة و معاملتهم معك كمعاملتهم مع موسى عليه السّلام و سائر الأنبياء العظام عليهم السّلام.

ص: 584


1- وفد نصارى نجران المتقدّم ذكره في أول السورة.

ثمّ كأنّه قيل: كيف كان شأنهم و حالهم مع الأنبياء؟ فأجاب سبحانه: بأنّهم كَذَّبُوا بِآياتِنا

و جحدوا المعجزات التي أظهروها، و أعرضوا عن البراهين العقليّة التي أقاموها، فنسبوا المعجزات الباهرات إلى السّحر، و البراهين السّاطعات إلى أساطير الأوّلين و تلفيقات المجانين فَأَخَذَهُمُ اللّهُ

و عذّبهم بِذُنُوبِهِمْ الموبقة في الدّنيا بأنواع العذاب؛ من الغرق و الخسف و الصّيحة و غيرها وَ اللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ و ذكر اسم الجلالة و تكراره لإظهار الرّوعة و تربية المهابة.

سورة آل عمران (3): آیة 12

ثمّ أكّد سبحانه تهديد الكفّار و المردة - لازدياد الرّعب في قلوبهم - بتوعيدهم بعذاب الدّنيا؛ من القتل و التشريد، مع عذاب الآخرة، بقوله: قُلْ يا محمّد لِلَّذِينَ كَفَرُوا باللّه، و بما انزل إليك؛ من اليهود و النّصارى و عبدة الأوثان: إنّكم أيّها الطّغاة سَتُغْلَبُونَ عن قريب، و تقهرون بأيدي المسلمين و سيوفهم في الدّنيا وَ تُحْشَرُونَ من قبوركم، و تساقون في الآخرة إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ و الفراش، و ساء المقرّ الذي هيّأتموه لأنفسكم من النّار.

روي أنّها نزلت قبل وقعة بدر، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لمشركي قريش يوم بدر: «إنّ اللّه غالبكم و حاشركم إلى جهنّم، و بئس المهاد »(1).

و عن ابن عبّاس: أنّ يهود المدينة لمّا شاهدوا وقعة بدر، قالوا: و اللّه هذا هو النبيّ الأمّيّ الذي بشّرنا به موسى في التوراة، و نعته بأنّه لا تردّ له راية، و همّوا باتّباعه، فقال بعضهم: لا تعجلوا حتّى ننظر إلى وقعة اخرى له. فلمّا كان يوم أحد شكّوا - و قد كان بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد إلى مدّة فنقضوه - و انطلق كعب بن أشرف في ستّين راكبا إلى أهل مكّة، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنزلت [الآية ](2).

و روي عن بعض العامّة، و نسب أيضا إلى روايات أصحابنا: أنّه لمّا أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قريشا ببدر، و قدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: «يا معشر اليهود، احذروا من اللّه بمثل ما نزل بقريش يوم بدر، و أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، و قد عرفتم أنّي نبيّ مرسل» فقالوا: يا محمّد لا يغرّنّك أنّك لقيت قوما أغمارا(3) لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، أما و اللّه لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن النّاس، فنزلت [الآية ](4).

ص: 585


1- تفسير أبي السعود 11:2.
2- تفسير أبي السعود 11:2.
3- الأغمار: جمع غمر، و هو من لم يجرّب الأمور، و لا علم له بها.
4- مجمع البيان 706:2.

في إخبار القرآن بالغيب و وهم و دفع

و على أيّ تقدير، فهذه الآية دالّة على إخبار اللّه بغلبة المسلمين على اليهود و سائر المشركين، قبل وقوعها، عن جزم و يقين، مع وجود الأمارات العاديّة - من ضعف المسلمين، و شوكة الكفّار - على خلافه.

ثمّ صدّق اللّه الوعد بقتل بني قريظة، و إجلاء بني النّضير، و فتح خيبر، و وضع الجزية على من بقي منهم، و خذلان المشركين و مغلوبيّتهم و طردهم و تشريدهم مع كثرة شوكتهم. فلا شبهة أنّ هذا الإخبار - كإخبار عيسى عليه السّلام بما يأكلون و ما يدّخرون - من آيات النّبوّة، و صدق النبيّ في دعواه.

إن قيل: لعلّ وقوع ما أخبر به كان من الاتّفاقيّات، و كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة.

قلنا: من المتّفق عليه بين العقلاء أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان أعقل أهل عصره، لو لم يكن أعقل عقلاء العالم، و لا ريب أنّ العاقل إذا ادّعى أمرا كالنّبوّة، و كان ظهور كذبه في خبر مبطلا لدعواه، يمتنع أن يخبر عن الجزم و اليقين بأمر يكون في نفسه احتمال خلافه، و قد أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بغلبته على الكفّار عن جزم و يقين، مع تراكم الأمارات العاديّة على خلافها، و عدم إمكان الجزم إلاّ بالوحي.

فإن قيل: لعلّ الجزم به حصل له بطريق الجفر و الحساب، أو علم النّجوم، أو الكهانة.

قلنا: مضافا إلى أنّ هذا الاعتراض وارد على إخبار عيسى عليه السّلام - و غيره من الأنبياء - بالمغيّبات، فما كان دافعا لهم في إخبارهم كان دافعا له في إخباره صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا شبهة أنّ تحصيل هذه العلوم محتاج في العادة إلى التّعلّم من أهلها، و الحضور عندهم، و من المسلّم أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان امّيّا لم يحضر عند عالم، و لم يتعلّم من أحد، و لم يراجع كتابا، فلا بدّ من اليقين بكون إخباره بالمغيّبات بالوحي.

سورة آل عمران (3): آیة 13

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

ص: 586

وادي بدر؛ إحداهما فِئَةٌ مؤمنة، قليلة العدّة و العدد، و هم الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و ثلاثمائة و ثلاثة عشر من أصحابه، و كانت تلك الفئة تُقاتِلُ و تجاهد فِي سَبِيلِ اللّهِ و طاعته، و طلبا لمرضاته، وَ فئة أُخْرى منهما كافِرَةٌ باللّه و رسوله، و هي طائفة قريش، و فيها صناديدهم و شجعانهم، حيث صمّموا على قتال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه حين سمعوا أنّه صلّى اللّه عليه و آله قصد عيرهم.

و إنّما لم يوصف قتال الفئة الكافرة بكونه في سبيل الطّاغوت؛ لوضوح أنّ قتالهم كان على ضدّ قتال الفئة المؤمنة، و لعدم الاعتداد بقتالهم، و للإشعار بأنّهم لم يكونوا قاصدين له لما اعتراهم من الرّعب.

روي أنّ المشركين كانوا تسعمائة و خمسين رجلا مقاتلا، و كان رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، و فيهم أبو سفيان بن حرب و أبو جهل، و قادوا مائة فرس، و كان فيهم سبعمائة بعير، و أهل الخيل كانوا كلّهم دارعين، و كان في الرجّالة دروع سوى ذلك، و من أصناف الأسلحة عدد لا يحصى.

و كان المسلمون ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا؛ سبعة و سبعون رجلا من المهاجرين، و مائتان و ستة و ثلاثون من الأنصار، و كان صاحب راية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المهاجرين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، و صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة الخزرجي، و كان في العسكر تسعون بعيرا و فرسان، أحدهما للمقداد بن عمرو و الآخر لمرثد بن أبي مرثد، و ست أدرع و ثمانية سيوف(1).

فلمّا تراءت الفئتان كان المشركون إذا نظروا إلى المسلمين يَرَوْنَهُمْ مع كونهم قريبا من ثلثهم مِثْلَيْهِمْ و ضعف عددهم - أي ستمائة و نيفا و عشرين، بناء على إرجاع ضمير (مثليهم) إلى المسلمين، و يحتمل رجوعه إلى المشركين، فيكون عدد المسلمين في نظرهم ألفا و تسعمائة (2)- رؤية ظاهرة لكونها رَأْيَ الْعَيْنِ لا يحتمل الالتباس فيها، كما يحتمل في سائر المعاينات، و قيل: إنّ المراد رؤية المعاينة، من غير محاسبة.

قيل: إنّ اللّه تعالى قلّل المسلمين أوّلا في أعين المشركين، حين التقت الفئتان، ليتجرّءوا على قتال المسلمين، و قلّل المشركين في أعين المسلمين، لئلاّ يتخاذلوا في قتالهم لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً (3) كما في سورة الأنفال، فلمّا تبارزوا للقتال، و اشتبكت الحرب، كثّر اللّه المسلمين في أعين

ص: 587


1- تفسير الرازي 189:7، تفسير أبي السعود 13:2.
2- في النسخة: ألفا و ست مائة.
3- الأنفال: 42/8.

المشركين، ليخذلهم بالرّعب، فكان التّقليل و التّكثير في حالين مختلفين، و كان أبلغ في القدرة و إظهار الآية(1).

روي عن سعد بن أوس أنّه قال: أسر المشركون رجلا من المسلمين، فسألوه: كم كنتم ؟ قال:

ثلاثمائة و بضعة عشر. قالوا: ما كنّا نراكم إلاّ تضعفون علينا(2).

و يحتمل أن يكون المراد أنّ اللّه قلّل المشركين في أعين المسلمين حتّى رأوا أنفسهم مثلي المشركين، و يمكن كون تكثير المسلمين في نظرهم أو في نظر المشركين بدخول الملائكة فيهم، أو بالتّصرّف في القوّة الواهمة.

في بيان معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله في وقعة بدر

ثمّ اعلم أنّه كانت في تلك الواقعة آيات كثيرة، و معجزات عديدة ظاهرة.

منها: إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أصحابه بنصرتهم على قريش قبل الواقعة.

و منها: التّقليل و التّكثير اللّذان حكاهما اللّه تعالى في هذه الآية و في سورة الأنفال.

و منها: إخباره صلّى اللّه عليه و آله قبل القتال بأنّ هنا مصرع فلان، و هنا مصرع فلان، فلمّا أنقضت الوقعة رأوا ما وقع مطابقا لما أخبر به.

و منها: تأييد اللّه تعالى المسلمين بألف من الملائكة مردفين(3) روي أنّه كان سيماء الملائكة أنّه كان على أذناب خيولهم و نواصيها صوف أبيض(4).

وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ و يقوّي بِنَصْرِهِ و عونه، بلا توسيط الأسباب العاديّة مَنْ يَشاءُ نصره من عباده، كما أيّد أصحاب بدر بالملائكة، و أيّد الرّسول و المؤمنين على الكفّار بالحجج البالغة إِنَّ فِي ذلِكَ

المذكور من إراءة الجمع القليل كثيرا لَعِبْرَةً عظيمة و موعظة و هداية ظاهرة كائنة لِأُولِي الْأَبْصارِ الصّحيحة، و ذوي البصائر النّافذة، و العقول السّليمة.

سورة آل عمران (3): آیة 14

اشارة

زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

ص: 588


1- تفسير روح البيان 8:2.
2- تفسير أبي السعود 13:2، تفسير روح البيان 8:2.
3- كما في سورة الأنفال: 9/8.
4- تفسير الرازي 190:7.

سورة آل عمران (3): آیة 14

ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان آية التّوحيد و النّبوّة الظّاهرة في قضيّة بدر و التّنبيه على لزوم اعتبار ذوي الأبصار بها - بيّن علّة عمى القلوب و عدم تأثّرها بها بقوله: زُيِّنَ و حسّن بوساوس الشّيطان و اقتضاء الطّبيعة لِلنّاسِ نوعا حُبُّ الشَّهَواتِ و تعلّق القلوب بالنّفسانيّات و المستلذّات.

و في التّعبير عنها بالشّهوات دون المشتهيات إيذان بأنّهم من شدّة حبّها، كأنّهم يحبّون شهوتها، و إشعار بغاية رذالتها، لوضوح أنّ الشّهوة من صفات البهائم.

و تزيّن حبّها بحسبانهم أنّ حبّها مقتضى العقل و كمال النّفس، و لذا يلومون المعرض عنها و ينسبونه إلى السّفه، مع وضوح أنّ حبّها لا يكون إلاّ من ضعف العقل و غلبة الحيوانيّة و فقد البصيرة بحقائقها.

ثمّ فصّل سبحانه عمد المشتهيات بأنّها مِنَ قبيل جنس اَلنِّساءِ اللاّتي لعرافتهنّ في معنى الشّهوة عددن من حبائل الشّيطان، و قدّمن في الذّكر.

ثمّ اردفن بقوله: وَ الْبَنِينَ الّذين هم من أعظم الفتن، كما قيل: أولادنا فتنة، إن عاشوا فتنونا، و إن ماتوا أحزنونا(1).

و تخصيص البنين بالذّكر من بين الأولاد، لكون حبّهم - من جهة السّرور و التّكثّر - أكثر من حبّ البنات، بل كان العرب يكرهونهنّ ، كما قال تعالى: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (2).

و الافتتان بهم يشغل القلب بهم عن ذكر اللّه، و الاهتمام بحفظ خاطرهم بالتّعرّض لمعصيته، و الحرص على جمع الأموال لهم من الحلال أو الحرام، و لذا عقّب ذكرهم بقوله: وَ الْقَناطِيرِ و هو جمع قنطار.

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّه(3) ملء مسك ثور من الذّهب »(4) ،و قيل: مائة ألف دينار. و قيل:

ثمانون ألف. و قيل: سبعون ألف: و قيل: أربعون ألف مثقال من الذّهب. و قيل: ألف و مائتا مثقال.

و قيل: ألفا دينار (5).و قيل: ألف. و قيل: اثنا عشر ألف درهم (6).و على أي تقدير هي كناية عن المال الكثير.

ص: 589


1- تفسير روح البيان 10:2.
2- النحل: 58/16.
3- أي القنطار.
4- مجمع البيان 712:2، تفسير الصافي 298:1.
5- تفسير أبي السعود 14:2.
6- تفسير الرازي 196:7.

اَلْمُقَنْطَرَةِ مأخوذة من القنطار، قيل: جيء بها للتّأكيد. و قيل: معناه: الكثيرة، المنضّدة بعضها على بعض. و قيل: المضروبة المنقوشة، حال كونها مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ .

و علّة حبّهما كونهما ثمن سائر الأشياء، فمالكهما كمالك جميع الأشياء، و لذا قدّمهما سبحانه بالذّكر على قوله: وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ و الافراس المرسلة من كثرتها، للرّعي وَ الْأَنْعامِ الثّلاثة من الإبل و البقر و الغنم، بأصنافها وَ الْحَرْثِ من الغرس و الزّرع.

و حبّ هذه الأشياء و إن كان ممّا يقوم به نظام العالم و يتمّ عيش بني آدم، إلاّ أنّها لمّا كانت في الأغلب ملهية عن ذكر اللّه و شاغله عن طاعته، ذمّها سبحانه بقوله: ذلِكَ المذكور من المشتهيات مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدّنيّة الفانية، و ملذّاتها اليسيرة الزائلة.

فلا ينبغي للعاقل المؤمن أن يتوجّه إليها، و يتعلّق قلبه بها، و يصرف همّه فيها، بل عليه أن يتوجّه بكلّه إلى اللّه و الدّار الآخرة، و يجعل حبّ هذه الامور تابعا لحبّ اللّه، و تحصيلها وصلة إلى طاعة اللّه و مرضاته؛ لوضوح أنّ جميع هذه النّعم مقدّمات للأعمال الصّالحة، و وسائل لتحصيل الدّرجات الاخرويّة.

في أنّ المؤمن يحبّ الدنيا لتحصيل الآخرة بها

فالمؤمن اللّبيب يحبّ المال و يكتسبه للإنفاق في سبيل اللّه، و الإرفاق بعباده؛ و يحرث لأن يوفّق لأداء الزكاة، و يتّجر للتّوسعة على العيال و الصّدقة على الفقراء، و يتزوّج لتحصين الفرج من الحرام و حفظ الإيمان و تكثير النّسل و تثقيل الأرض بالولد الموحّد الصّالح، و يأكل و يشرب للتّقوّي على الطّاعة، و القيام بوظائف العبوديّة.

و الحاصل: أنّ المؤمن يحبّ الدّنيا و ما فيها لغرض تحصيل الآخرة، و لذا فسّر قوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً (1) بالمرأة الصّالحة و سعة الرّزق. فاتّضح أنّ حبّ الدّنيا لحبّ اللّه و طلب مرضاته، ليس الحبّ المذموم، بل هو ممدوح غايته، لكونه عين حبّ اللّه و حبّ طاعته و مرضاته، فإنّ من يتحمّل شرب الدّواء المرّ للبرء من المرض و طلب السّلامة منه، لا يعدّ محبّا للدّواء، بل هو محبّ للبرء من المرض، و طالب له.

و الحاصل: أنّ المؤمن الكامل لا ينال من الدّنيا إلاّ لنيل الآخرة، و القرب من اللّه، و مع قطع النّظر عن ذلك يكون مبغضا لها و معرضا عنها، و تكون عنده أهون من عراق(2) خنزير في يد مجذوم، و أضرّ من

ص: 590


1- البقرة: 201/2.
2- العراق: العظم اكل لحمه.

السّمّ ، فكيف يلتذّ المؤمن بلذائذ الدّنيا، و يشتاق إليها، و هو يعلم أنّه مفارقها، و تبقى عليه تبعاتها؟ التي أقلّها أن يقال له في الآخرة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها (1).

وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ و المرجع من الجنّة و نعمها الباقية.

سورة آل عمران (3): آیة 15

اشارة

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)

سورة آل عمران (3): آیة 15

ثمّ بعد الإشارة الإجماليّة الى فضيلة نعم الآخرة على نعم الدّنيا، ذكر سبحانه اصول نعم الآخرة تفصيلا بقوله: قُلْ يا محمّد، لامّتك: أَ أُنَبِّئُكُمْ و هل اخبركم بِخَيْرٍ و أحسن مِنْ ذلِكُمْ

المشتهيات الدّنيويّة ؟

ثمّ لمّا كان السّؤال مقتضيا للجواب، فكأنّه قيل في الجواب: نعم أنبئنا و أخبرنا، فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اللّه، و خافوا عقابه في مخالفة أحكامه و عصيان تكاليفه، و أعرضوا من الدّنيا، و أقبلوا إلى الآخرة عِنْدَ رَبِّهِمْ اللّطيف بهم تفضّلا منه عليهم جَنّاتٌ متعدّدة لكلّ واحد منهم. و قيل: إنّ التعدّد بلحاظ تعدّد الأشخاص.

ثمّ وصف نضارتها بأن لها أشجارا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الكثيرة، أو الأربعة المعهودة، حال كونهم خالِدِينَ و مقيمين فِيها أبدا، غير خائفين من الخروج منها، و زوال نعمها.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «شبر من الجنّة خير من الدّنيا و ما فيها »(2).

ثمّ لمّا كان من تمام النّعمة الزّوجة الصّالحة الموافقة الأنيسة، بشّر اللّه المؤمنين بها بقوله: وَ لهم أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ منزّهة، طهّرهنّ اللّه من دنس الحيض و النّفاس و الكثافات(3) الجسمانيّة، و نزّههنّ من العيوب و الأخلاق السّيّئة؛ كالحسد و الغضب و الطمع و النّظر إلى غير أزواجهنّ .

ثمّ بشّرهم بعد النّعم الجسمانيّة بأعلى النّعم الرّوحانيّة بقوله: وَ رِضْوانٌ عظيم لا يوصف ببيان، كائن مِنَ اللّهِ من تجلّي أنوار جلاله تعالى، الذي هو أقصى الآمال، و أعلى الحظوظ ، و منتهى الكرامة للمؤمن وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ المتّقين، فيثيبهم على حسب درجاتهم، و يجازيهم على قدر زهدهم في الدّنيا، و إقبالهم إلى اللّه، و قيامهم بوظائف العبوديّة.

ص: 591


1- الأحقاف: 20/46.
2- تفسير روح البيان 10:2.
3- يريد بها الأوساخ.

سورة آل عمران (3): الآیات 16 الی 17

اشارة

اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النّارِ (16) اَلصّابِرِينَ وَ الصّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

سورة آل عمران (3): آیة 16

ثمّ عرّف اللّه سبحانه عباده المتّقين، المعدّ لهم هذه الكرامات، و مدحهم أوّلا باليقين بالمبدإ و المعاد، و الخوف و الخشية بقوله: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ بلسان قالهم و حالهم: رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا

بوحدانيّتك، و نبوّة نبيّك، و صدق كتابك، و دار ثوابك و عقابك فَاغْفِرْ لَنا بحرمة الإيمان ذُنُوبَنا

و إسرافنا على أنفسنا، و استر خطايانا يوم كشف السّرائر وَ قِنا عَذابَ النّارِ و احفظنا منه. و فيه دلالة على أنّ أهمّ حوائج المؤمن في الدّنيا غفران الذّنوب و النّجاة من العذاب.

سورة آل عمران (3): آیة 17

ثمّ بعد ما مدحهم اللّه بالإيمان و الخوف، مجّدهم بكمال الأخلاق النّفسانيّة ثانيا بقوله:

اَلصّابِرِينَ على تحمّل مشاقّ الطّاعات، من أداء الواجبات، و اجتناب المحرّمات، الحابسين أنفسهم عن الجزع ممّا ينزل بهم من المحن و الشّدائد و البليّات. و في ذكر صفة الصّبر - من الصّفات الكماليّة النّفسانيّة و الاقتصار عليها - دلالة على أنّها أكمل الصّفات، و كونها جامعة لسائر الكمالات.

ثمّ وصفهم ثالثا بحسن القول و الفعل بقوله: وَ الصّادِقِينَ في أقوالهم و أفعالهم و نيّاتهم، على ما قيل من أنّ الصّدق، كما يكون في القول بمطابقته للواقع، يكون في الفعل بالجدّ بإتمامه و عدم الانصراف عنه، و يكون في النّيّة بإنفاذ الإرادة و إمضاء العزم وَ الْقانِتِينَ المواظبين على الطّاعات المداومين على العبادات وَ الْمُنْفِقِينَ ما زاد عن كفافهم من الأموال في القربات وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.

عن (المجمع): عن الصادق عليه السّلام: «المصلّين وقت السّحر »(1).

و عنه عليه السّلام: «من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر اللّه و أتوب إليه، سبعين مرّة، و هو قائم، فواظب على ذلك حتى تمضي له سنة، كتبه اللّه عنده من المستغفرين بالأسحار، و وجبت له المغفرة من اللّه »(2).

في أنّ أفضل أوقات الدعاء وقت السحر

و في رواية: «من استغفر سبعين مرّة (3) ،فهو من أهل هذه الآية »(4).

و في تخصيص الاستغفار بالأسحار إشعار بأنّها أفضل أوقات الدّعاء و العبادة، لأنّ

ص: 592


1- مجمع البيان 714:2، تفسير الصافي 299:1.
2- الخصال: 3/581، تفسير الصافي 299:1.
3- في مجمع البيان: استغفر اللّه سبعين مرة في وقت السحر.
4- مجمع البيان 714:2، تفسير الصافي 299:1.

النّفس فيها مصفّاة و العبادة أشقّ .

و عن مجاهد: في قول يعقوب عليه السّلام: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي (1) أخّره إلى وقت السّحر، فإنّ الدّعاء فيه مستجاب. و قال: إنّ اللّه لا يشغله صوت عن صوت، لكنّ الدّعاء في السّحر دعوة في الخلوة، و هي أبعد من الرّياء و السّمعة فكانت أقرب إلى الإجابة(2).

سورة آل عمران (3): آیة 18

اشارة

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

سورة آل عمران (3): آیة 18

ثمّ اعلم أنّه تعالى بعد جعل ذاته المقدّسة أوّلا في المحاجّة مع النّصارى، مدّعيا لتوحيده الذّاتي و الصّفاتي - و إقامة البراهين العقليّة القطعيّة عليه، و الحكم بكفر جاحديه، و تهديدهم بالعقوبة الدّنيويّة و الأخرويّة، و تنبيه النّاس بعلّة اختيار الكفر، من تزيين مشتهيات الدّنيا في نظرهم، و أمر نبيّه ببشارة الموحّدين بالثّواب العظيم، و مدحهم بالصّفات الحميدة الفائقة جعل ثانيا نبيّه مدّعيا.

ثمّ أقام الشّهود الذين(3) لا يمكن ردّهم، على صدق دعواه، تاييدا للبرهان بها بقوله: شَهِدَ اللّهُ

عن علمه الحضوري، و أخبر في كتابه التّكويني بدلالة كلماته التّامة - التي هي صنائعه البديعة، و اتّساق نظامها الأتمّ - على أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ و لا خالق و لا معبود سواه، هُوَ شهدت اَلْمَلائِكَةُ

بلسان الحال و المقال، و بدلالة الأفعال، لمعاينتهم عظمته و قدرته، هُوَ شهد أُولُوا الْعِلْمِ من عباده، عن العلم البرهاني و العياني، بما شهد به سبحانه.

روي عن الباقر عليه السّلام: «أنّ أولي العلم هم الأنبياء و الأوصياء »(4).

ثمّ لمّا كان المعتبر عدالة الشّاهد، و عدم جوره في الشّهادة، أثنى سبحانه على نفسه في المقام بكونه قائِماً بِالْقِسْطِ و عاملا بالعدل في جميع الامور، من قسمة الأرزاق، و الإثابة، و التّعذيب.

و من عدله أمر عباده بالعدل و التّسوية، و عدم رضاه بالظّلم و الجور. و فيه بيان كماله تعالى في أفعاله، إثر بيان كماله في ذاته.

و في الرّواية السّابقة، عن الباقر عليه السّلام بعد تفسير أُولُوا الْعِلْمِ بالأنبياء و الأوصياء، قال: «و هم قيام

ص: 593


1- يوسف: 98/12.
2- تفسير روح البيان 11:2.
3- في النسخة: التي.
4- تفسير العياشي 658/296:1، تفسير الصافي 299:1.

بالقسط »(1).

و الظّاهر أنّ المراد أنّ الأنبياء و الأوصياء، لمّا كانوا مظاهر صفاته تعالى، كان ظهور صفة قيامه تعالى بالقسط في قيامهم به، فكان قيامه تعالى بالقسط عين قيامهم به، و يمكن كون (قائما) حالا لاولي العلم و أفراده بلحاظ كلّ واحد منهم.

ثمّ كرّر سبحانه ذكر التّوحيد المشهود به بقوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ تأكيدا له، و اهتماما به، و تقريرا لقيامه بالقسط ، حيث إنّ الالوهيّة لا تجامع الظّلم و الجور، و توطئة للشّهادة على كمال قدرته و علمه بقوله: اَلْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حتّى يعلم أنّه المنعوت بهما دون غيره.

و تقدّم صفة العزيز لتقدّم العلم بقدرته على العلم بحكمته. و فيه تهديد بالانتقام ممّن لا يوحّده بما لا يقدر عليه غيره، و بالحكم بما يريد في خلقه.

قيل: نزلت الآية حين جاء رجلان من أحبار الشّام، فقالا للنبي صلّى اللّه عليه و آله: أنت محمّد؟ قال: «نعم» فقالا:

أنت أحمد؟ قال: «أنا محمّد و أحمد» قالا: أخبرنا عن أعظم الشّهادة في كتاب اللّه، فأخبرهما(2).

عن ابن عبّاس: خلق اللّه تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، و خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد لنفسه قبل خلق الخلق، حين كان و لم تكن سماء و لا أرض، و لا برّ و لا بحر، فقال: شَهِدَ اللّهُ ... الآية(3).

روي عن سعيد بن جبير أنّه كان حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا نزلت هذه الآية الكريمة خرّوا سجّدا(2).

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «يجاء بصاحبها(3) يوم القيامة، فيقول اللّه عزّ و جلّ : إنّ لعبدي هذا عندي عهدا، و أنا أحقّ من وفى بالعهد، ادخلوا عبدي الجنّة »(4).

سورة آل عمران (3): آیة 19

اشارة

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)

سورة آل عمران (3): آیة 19

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات توحيد ذاته بالبراهين العقليّة و شهادة الشّهود العدول، أشار إلى النّتيجة

ص: 594


1- و ايضا. (2و3) تفسير روح البيان 12:2.
2- تفسير أبي السعود 17:2.
3- أي صاحب الشهادة.
4- تفسير أبي السعود 17:2.

بقوله: إِنَّ الدِّينَ الحقّ المرضيّ عِنْدَ اللّهِ من لدن آدم إلى قيام السّاعة هو اَلْإِسْلامُ و الانقياد له، و الالتزام بالتّوحيد الخالص عن شوب الشّرك، المستلزم للاعتقاد بالمعاد و الإيمان بالرّسل و الشّرائع، بالضّرورة من العقل و دلالة الأدلّة القاطعة، بحيث لا مجال للشّكّ فيه.

ففيه دلالة على أنّ أصل الدّين في جميع الأزمنة واحد، و إنّما الفرق في بعض الفروع و الأحكام.

و مع ذلك اختلف النّاس فيه، و أنكروا التّوحيد و تديّنوا بالشّرك وَ مَا اخْتَلَفَ فيه اليهود و النّصارى اَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من التّوراة و الإنجيل، و ما اختاروا الشّرك بقولهم: عزير ابن اللّه، أو المسيح ابن اللّه، أو ثالث ثلاثة، في حال من الأحوال، أو وقت من الأوقات إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ

بالتّوحيد، و صحّة دين الإسلام، و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لم يكن اختلافهم لخفاء الحقّ و الشّبهة فيه، بل كان بَغْياً و حسدا كائنا فيما بَيْنَهُمْ حيث إنّ الاختلاف بعد وضوح الحقّ غايته، لا يمكن تحقّقه الاّ لأجل الأخلاق الذّميمة، و حبّ الدّنيا و الرّئاسة.

و فيه غاية التّشنيع، و دلالة على ترامي حالهم في الكفر و الضّلالة.

ثمّ هدّد الجاحدين بقوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّهِ الدّالاّت على الحقّ ، و يعرض عن الحجج السّاطعة على الصّواب فَإِنَّ اللّهَ يحاسبه و يجازيه بأشدّ العقاب من غير بط ء و مهلة، حيث إنّه سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب جميع الخلائق في أقلّ من لمحة.

سورة آل عمران (3): آیة 20

اشارة

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

سورة آل عمران (3): آیة 20

ثمّ أنّه تعالى بعد ظهور لجاج الكفّار و عنادهم، بحيث لا تنفعهم الحجج، قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: فَإِنْ حَاجُّوكَ في التّوحيد، و جادلوك في الحقّ ، و عارضوك في النّبوّة فَقُلْ في جوابهم، معرضا عنهم:

إنّي أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ و أخلصت قلبي و نفسي و شراشر(1) وجودي لِلّهِ وحده لا اشرك في انقيادي [إليه] غيره. وَ أسلم له أيضا مَنِ اتَّبَعَنِ و آمن بي و اهتدى بهداي وَ قُلْ بعد ذلك لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النّصارى وَ الْأُمِّيِّينَ الّذين لا علم لهم و لا كتاب، من مشركي

ص: 595


1- الشّراشر: معظم الشيء و جملته.

العرب، تقريرا: أَ أَسْلَمْتُمْ بعد وضوح الحقّ ، و تمام الحجّة، و ظهور المعجزات الباهرة، كما أسلم أتباعي، أم أقمتم بعد لجاجا و عنادا على كفركم ؟ و فيه تعييرهم على اللّجاج بقلّة الإنصاف، و توبيخهم بالبلادة و الجهل، و تهييجهم على الانقياد و التبعية.

فَإِنْ أَسْلَمُوا للّه، و التزموا بالتّوحيد، و اعترفوا بنبوّتك و صحّة دينك فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الحقّ ، و سلكوا الصّراط المستقيم، و فازوا بالنّجاة من العذاب، و أصابوا جميع الخيرات وَ إِنْ تَوَلَّوْا عن قبول قولك، و أعرضوا عن الإسلام و الإيمان بك، فليس لك مسئولية، و ما عليك من تبعة فَإِنَّما

الواجب عَلَيْكَ الْبَلاغُ و الدّعوة، و إقامة الحجّة، و إيضاح الحقّ ، و قد أدّيت ما عليك بما لا مزيد عليه، و بالغت في تبليغك بلا توان و لا فتور وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ و مطّلع على فطرتهم، و سجيّتهم، و سوء أخلاقهم، و قبائح أعمالهم. و فيه غاية التّهديد.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا قرأ هذه الآية على أهل الكتاب، قالوا: أسلمنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله لليهود:

«أ تشهدون أنّ عيسى كلمة اللّه و عبده و رسوله ؟» فقالوا: معاذ اللّه.

و قال صلّى اللّه عليه و آله للنّصارى: «أ تشهدون أنّ عيسى عبد اللّه و رسوله ؟» فقالوا: معاذ اللّه أن يكون عيسى عبدا، و ذلك قوله: وَ إِنْ تَوَلَّوْا (1).

سورة آل عمران (3): الآیات 21 الی 22

اشارة

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)

سورة آل عمران (3): آیة 21

ثمّ اعلم أنّه تعالى بعد تهديد المصرّين على الكفر، المعرضين عن الإسلام - بنحو الإجمال - هدّدهم بعد بيان خبث ذاتهم، و شناعة أعمالهم تفصيلا بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ توحيد اَللّهِ و يجحدون الحقّ و دلائله، و ينكرون نبوّة نبيّه و معجزاته وَ يَقْتُلُونَ لعنادهم الحقّ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يتصوّر، و من غير استحقاق في نظرهم، كما قتلهم أسلافهم.

و روي أنّ نسبة القتل إلى الّذين في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باعتبار رضاهم بفعل أوائلهم.

وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ و يدعون إلى الحقّ و العدل مِنَ النّاسِ .

ص: 596


1- تفسير أبي السعود 19:2، تفسير روح البيان 14:2.

عن أبي عبيدة [بن] الجرّاح: قال: قلت يا رسول اللّه، أيّ النّاس أشدّ عذابا يوم القيامة ؟ قال: «رجل قتل نبيّا أو رجلا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر» ثمّ قرأها، ثمّ قال: «يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيّا من أوّل النّهار، في ساعة واحدة، فقام مائة رجل و اثني عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، و نهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا من آخر النّهار في ذلك اليوم، و هو الذي ذكره اللّه »(1).

قيل: إنّ تكرير الفعل للإشعار بالتّفاوت بين القتلين من الفظاعة، أو باختلافهما في الوقت.

ثمّ لمّا كان اشتياق هؤلاء إلى الفحشاء و المنكر بمنزلة اشتياقهم إلى العذاب، عبّر عن إنذارهم بالعذاب بالتّبشير بقوله: فَبَشِّرْهُمْ يا نبيّ الرّحمة بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الآخرة.

سورة آل عمران (3): آیة 22

أُولئِكَ البعيدون عن رحمة اللّه، المبتلون بأسوإ الأحوال، هم اَلَّذِينَ حَبِطَتْ و بطلت أَعْمالُهُمْ الخيريّة و أفعالهم الحسنة في الدّارين، فلا يترتّب عليها الأثر المرغوب منها، من المدح و الثّناء و العزّ و الرّفاه و البركة و السّلامة فِي الدُّنْيا - بل يذمّون عليها و يلعنون بها و يقتلون و يغار عليهم(2) و يسبون و يسترقّون - وَ لا في اَلْآخِرَةِ من الخلاص من النّار، و الفوز بالجنّة، بل يحرمون منها، و يساقون إلى جهنّم و أشدّ العذاب وَ ما لَهُمْ حينئذ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم على اللّه، أو يشفعون لهم عنده، أو يدفعون عنهم عذابه.

سورة آل عمران (3): آیة 23

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

سورة آل عمران (3): آیة 23

ثمّ أنّه تعالى - لتوضيح غاية خبث ذاتهم، و شدّة لجاجهم، و دفع العجب من نهاية تمرّدهم عن الإيمان بخاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و بكتابه المشتمل على الإعجاز - ذكر تمرّد علمائهم عن أحكام التّوراة التي كانوا معترفين بكونها الحقّ المنزل من اللّه؛ بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد إِلَى ما يعجبك من صنيع أحبار اليهود اَلَّذِينَ أُوتُوا من جانب اللّه نَصِيباً وافرا، و حظّا متكاثرا مِنَ العلوم التي في اَلْكِتابِ الذي علموا أنّه حقّ منزل من اللّه تعالى، و هو التّوراة، و اعترفوا بصحّة جميع ما فيه. و قد أخبر اللّه فيه ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و نعوته و حقّانيّة دينه.

ص: 597


1- تفسير الرازي 214:7، و فيه: اليوم فهم الّذين ذكرهم اللّه تعالى.
2- في النسخة: و يغارون.

ثمّ كأنّه قيل: ما ذا يصنعون من العجائب حين ينظر إليهم ؟ فأجاب سبحانه: يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللّهِ الذي اوتوا نصيبا منه، و آمنوا به لِيَحْكُمَ ذلك الكتاب بأوضح بيان (فيما) وقع الاختلاف فيه بَيْنَهُمْ و بين النبيّ و المسلمين.

ثُمَّ يقع منهم ما هو في غاية المباينة من إيمانهم بالكتاب، و هو أنّه يَتَوَلّى عن تلك الدّعوة و لا يجيبها فَرِيقٌ مِنْهُمْ بعد علمهم بوجوب الرّجوع إليه، و الالتزام بما فيه وَ هُمْ في هذا الحال مُعْرِضُونَ عن ذلك الكتاب و أحكامه بقلوبهم.

و قيل: إنّ المراد: أنّ ديدنهم الإعراض عن الحقّ ، و الإصرار على الباطل.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل مدارس اليهود، فدعاهم إلى الإيمان، فقال له رئيسهم نعيم بن عمرو:

و على أيّ دين أنت ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «على ملّة إبراهيم» قال: إنّ إبراهيم كان يهوديّا، قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ بيننا و بينكم التّوراة فهاتوها»، فأبوا، فنزلت (1)[الآية].

و عن الكلبي: أنّها نزلت في الرّجم: فجر رجل و امرأة من أهل خيبر، و كانا في شرف منهم، و كان في كتابهم الرّجم، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجاء رخصة عنده، فحكم عليهم بالرّجم، فقالوا: جرت علينا، ليس عليهما الرّجم، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بيني و بينكم التّوراة» قالوا: قد أنصفتنا، قال: «فمن أعلمكم بالتوراة ؟» قالوا: ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشيء من التّوراة فيه الرّجم دلّه على ذلك ابن سلاّم، فقال له: «اقرأ» فلمّا أتى على آية الرّجم وضع كفّه عليها، و قام ابن سلاّم فرفع إصبعه عنها، ثمّ قرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و على اليهود: إنّ المحصن و المحصنة إذا زنيا، و قامت عليهما البيّنة رجما، و إن كانت المرأة حبلى تربص حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك، فرجعوا كفّارا، فأنزل اللّه هذه الآية(2).

سورة آل عمران (3): آیة 24

اشارة

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

سورة آل عمران (3): آیة 24

ثمّ بيّن اللّه سبحانه علّة تولّيهم عن الكتاب، و جرأتهم على اللّه بقوله: ذلِكَ التّولّي عن إجابة الدّعوة، و الإعراض بالقلب عن الكتاب، كان بِأَنَّهُمْ قالُوا اختلافا من عند أنفسهم، و افتراء على اللّه

ص: 598


1- تفسير روح البيان 15:2.
2- تفسير روح البيان 15:2.

لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ في الآخرة بسبب الكفر و المعصية أبدا إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ قلائل. روي أنّهم كانوا يقولون: مدّة عذابنا سبعة أيّام، و قيل: هي أربعون يوما، مقدار عبادة بني إسرائيل العجل(1).

فهوّن عليهم الذّنوب و الخطوب رسوخ اعتقادهم على ذلك وَ غَرَّهُمْ و خدعهم فِي مخالفة دِينِهِمْ و أحكامهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ على اللّه من قولهم: أنّه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذّب أولاده إلاّ تحلّة قسم(2).

عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: زعمت اليهود أنّهم وجدوا في التّوراة: أنّ ما بين طرفي جهنّم أربعون سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزّقّوم، و إنّما نعذّب حتّى نأتي إلى شجرة الزّقّوم، فتذهب جهنّم و تهلك، و أصل الجحيم سقر، و فيها شجرة الزّقّوم، فإذا اقتحموا من باب جهنّم و تبادروا في العذاب حتّى انتهوا إلى شجرة الزّقّوم و ملئوا البطون قال لهم خازن سقر: زعمتم أنّ النّار لن تمسّكم إلاّ أيّاما معدودات، قد خلت أربعون سنة و أنتم في الأبد(3).

أقول: فيه دلالة على أن المراد من الأيّام المعدودات أربعون سنة و عبّر عنها بها تقليلا لها.

سورة آل عمران (3): آیة 25

اشارة

فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

سورة آل عمران (3): آیة 25

ثمّ أبطل اللّه سبحانه ما غرّهم باستعظام عذابهم، و تهويل ما يحيق بهم بقوله: فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أخرجناهم من قبورهم و جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ عظيم شديد الأهوال يكون وقوعه ممّا لا رَيْبَ فِيهِ لعاقل.

روي أنّ أوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفر راية اليهود، فيفضحهم اللّه عزّ و جلّ على رءوس الأشهاد، ثمّ يأمر بهم إلى النّار(4).

وَ في ذلك اليوم وُفِّيَتْ و اعطيت من غير نقص كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس جزاء ما كَسَبَتْ و حصّلت من عمل خير أو شرّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بتنقيص الثواب، أو زيادة العقاب. و فيه دلالة على أنّ الثّواب و العقاب يكونان بالاستحقاق.

ص: 599


1- تفسير الرازي 218:7.
2- تفسير روح البيان 16:2.
3- نفس المصدر.
4- تفسير روح البيان 16:2.

و أستدلّ بعض العامّة به على أنّ العبادة لا تحبط (1).و فيه: أنّ إيفاء جزاء المعصية يكون بحبط ثواب العبادة، كما أنّ إيفاء ثواب العبادة يكون بالعفو عن عقوبة المعصية.

سورة آل عمران (3): الآیات 26 الی 27

اشارة

قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

سورة آل عمران (3): آیة 26

ثمّ - لمّا كان من أباطيل اليهود قولهم: بأنّه لا بدّ أن تكون النّبوّة و الملك فيهم، و أنّهم أحقّ بهما لكونهم من بيوت الأنبياء، و من أهل العلم و الكتاب، و لا يجوز أن يكونا في العرب لكونهم أمّيّين - أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يثنيه بالقدرة الكاملة و الفضل الشّامل الدّالّين على بطلان قولهم، بقوله: قُلِ يا محمّد اَللّهُمَّ يا مالِكَ الْمُلْكِ ملكا حقيقيا إشراقيّا و يا سلطان عالم الوجود، لا شريك لك فيه و لا معادل، تتصرّف فيه كيف تشاء، إيجادا و إعداما و إحياء و إماتة و فضلا و منعا و تعذيبا و إثابة، و تدبّره كيف تريد؛ و من تدبيرك و سلطانك أنّك تُؤْتِي و تهب اَلْمُلْكِ و السّلطنة أو النّبوّة مَنْ تَشاءُ

أن تملّكه و تشرّفه بفضلك وَ تَنْزِعُ و تسلب اَلْمُلْكِ و السّلطنة الدّنيويّة و الدّينيّة، و هي النبوة مِمَّنْ تَشاءُ أن تنزعها عنه، و تنقلها إلى قوم آخرين. و فيه إشعار بأنّ السّلطنة الحقيقيّة مختصّة به تعالى، و سلطنة غيره بطريق المجاز.

وَ تُعِزُّ في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما مَنْ تَشاءُ أن تعزّه في الدّنيا بمنصب النّبوّة، و المطاعية المطلقة، و الفضائل الكريمة، و الهداية و التّوفيق، و النصر و الغلبة، و في الآخرة بالجنّة العالية، و المقامات الرّفيعة، و النّعم الدّائمة وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ذلّة في الدّنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، بالخذلان و البعد عن الرّحمة، و الكفر و الضّلال و الأخلاق الرّذيلة، و الفقر و المسكنة و اللّعنة الدّائمة بِيَدِكَ و قدرتك خاصّة دون غيرك اَلْخَيْرُ كلّه، قبضا و بسطا، على حسب مشيّئتك و حكمتك، و على ما تقتضيه قابليّة القوابل، و استعداد الممكنات.

و إنّما خصّ الخير بالذّكر - مع أنّ جميع الامور بيده حتّى الشّرّ - لكون الكلام في ما يسوقه سبحانه

ص: 600


1- تفسير الرازي 219:7-220.

إلى المؤمنين، من النّبوّة و الهداية و الكتاب، أو لأنّ كلّ ما هو من قبل اللّه تعالى، من النّافع و الضّار، عين الخير و الصّلاح، و موافق للحكمة و النّظام الأتمّ ، أو لأنّ الشّرور من قبل الماهيّات و الخيرات، من قبل الوجود المفاض منه تعالى، أو لمراعاة الأدب، لوضوح منافاته لخطابه: بأنّ الشّرّ منك.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا خطّ الخندق عام الأحزاب، و قطع لكلّ عشيرة(1) من أهل المدينة أربعين ذراعا، و جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، فأخذوا يحفرونه، خرج من بطن الخندق صخرة كالفيل العظيم، لم تعمل فيها المعاول، فوجّهوا سلمان رضى اللّه عنه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبره.

فجاء صلّى اللّه عليه و آله و أخذ المعول من سلمان، فضربها ضربة صدعتها مقدار ثلثها، و برق منها برقا أضاء ما بين لابتيها (2) ،كأنّه مصباح في(3) بيت مظلم، فكبّر و كبّر معه المسلمون، و قال: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنّها أنياب الكلاب»، ثمّ ضرب الثّانية، فقال: «أضاءت [لي] منها قصور الحمر في أرض الرّوم» ثمّ ضرب الثّالثة، فقال: «أضاءت لي قصور صنعاء، و أخبرني جبرئيل عليه السّلام أنّ امّتي ظاهرة على الامم كلّها؛ فابشروا».

فقال المنافقون: أ لا تعجبون ؟ يمنّيكم و يعدكم الباطل، و يخبركم أنّه يبصر(4) قصور الحيرة، و مدائن كسرى، و أنّها تفتح لكم، و أنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق (5) ،لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزلت [الآية ](6).

ثمّ قرّر سبحانه سعة قدرته، و أكّدها بقوله: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من إيتاء الملك و نزعه، و الإعزاز و الإذلال، و غيرها من الامور الممكنة قَدِيرٌ لا يتصوّر فيك عجز و لا قصور.

سورة آل عمران (3): آیة 27

تُولِجُ و تدخل اَللَّيْلَ فِي النَّهارِ بتعقيبه إيّاه، أو تنقيص الأوّل و زيادة الثّاني، حتّى يصير النّهار خمس عشر ساعة، و اللّيل تسع ساعات(7) و يمكن أن يكون تأويله، إدخال ظلمة الكفر في نور الفطرة وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بالتّعقيب، أو الزّيادة و النّقصان، بعكس الأوّل. و يمكن أن يكون من بطونه(8)

ص: 601


1- في تفسير روح البيان: عشرة.
2- أي لابتي المدينة، مثنى لابة، و هي الحرّة، أي الأرض ذات الحجارة السّود، و المدينة تقع بين لابتين.
3- زاد في تفسير روح البيان: جوف.
4- زاد في تفسير روح البيان: من يثرب.
5- أي الخوف.
6- تفسير روح البيان 18:2.
7- في النسخة: آيات.
8- أي من بطون تفسير هذه الآية، بمعنى التأويل.

إدخال نور الإيمان أو نور الموجود في ظلمة الماهيّة.

وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ و تخلقه مِنَ الجسم اَلْمَيِّتِ و من مادّة لا حياة لها من تراب، أو نطفة، أو بيضة. أو المراد: تخلق العالم من الجاهل وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ كالنّطفة و التّراب و غيرهما مِنَ المبدأ اَلْحَيَّ كالإنسان و غيره من الحيوانات.

و عن (المعاني): عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المؤمن إذا مات لم يكن ميّتا، و أنّ الميّت هو الكافر»، ثمّ فسّر الآية: بأنّ المؤمن يخرج من الكافر، و الكافر من المؤمن(1).

وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ أن ترزقه بِغَيْرِ حِسابٍ و تعب، أو بغير تقتير.

عن أبي العبّاس المقري، قال: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى التّعب، قال تعالى: وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، و بمعنى العدد، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (2) ،و بمعنى المطالبة، قال تعالى: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (3).

سورة آل عمران (3): آیة 28

اشارة

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28)

سورة آل عمران (3): آیة 28

ثمّ بعد ما بيّن اللّه سبحانه أنّ الملك و العزّة و الخير و الرّزق كلّه بيد اللّه، نهى المؤمنين عن موالاة الكفّار بطمع الخير و العزّة و المال بقوله: لا يَتَّخِذِ و لا يختار اَلْمُؤْمِنُونَ لقرابة، أو صداقة جاهليّة، أو جوار أو غيرها من الأسباب اَلْكافِرِينَ الّذين هم أعداء اللّه، و أعداء دينهم أَوْلِياءَ

و أحبّاء لأنفسهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الّذين هم أولياء اللّه و أحبّاؤه، و بدلا منهم، مع كونهم للأخوّة الحقيقيّة المعنويّة أحقّاء بالموالاة، و الكفّار أحقّاء بالمعاداة للمباينة الدّينيّة.

فليس للمؤمن أن يؤثر ولاية أعداء اللّه و المباينين له في الدّين على ولاية أحبّائه و اخوّتهم الدّينيّة وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الفعل الشّنيع من اتّخاذ أعداء اللّه أولياء فَلَيْسَ مِنَ ولاية اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ

يصحّ أن يطلق عليه اسم الولاية، و يكون خارجا عنها و منسلخا منها رأسا، لكمال التّنافي بين ولاية

ص: 602


1- معاني الأخبار: 10/290، تفسير الصافي 301:1.
2- الزمر: 10/39.
3- تفسير روح البيان 18:2، و الآية من سورة ص: 39/38.

المتعاديين.

فلا يجوز أن تتولّوا الكفّار ظاهرا و باطنا في حال من الأحوال إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا و تخافوا مِنْهُمْ

و تتحذّروا من شرّهم و ضرّهم تُقاةً باطنيّة و حذرا واقعيّا، فلا بأس بإظهار موالاتهم مع اطمئنان النّفس بعداوتهم و بغضهم، حتّى يزول مقتضى التّقيّة، فيجب عند ذلك معاداتهم ظاهرا و باطنا.

في وجوب التقية

عن (الاحتجاج): عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في حديث: «و آمرك أن تستعمل التّقيّة في دينك، فإنّ اللّه يقول: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الآية - إلى أن قال -: و إيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، و أن تترك التّقيّة التي أمرتك بها، فإنّك شائط بدمك(1) و دماء إخوانك، معرّض لنعمك و نعمهم للزّوال، تذلّهم في أيدي أعداء دين اللّه، و قد أمرك اللّه بإعزازهم »(2).

و عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا إيمان لمن لا تقيّة له »(3).

و عنه عليه السّلام: «التّقيّة ترس اللّه بينه و بين خلقه »(4).

و في رواية: «التّقيّة ديني و دين آبائي »(5).

ثمّ أردف اللّه سبحانه النّهي بالتّهديد بقوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ و يخوّفكم من سطوته، كي لا تعصوه فتستحقّوا عقابه.

ثمّ أكّد التّهديد و التّحذير بقوله: وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ و المنقلب لعامّة الخلق، فلا يخرج أحد عن سلطانه و [من] تحت قدرته. و في تكرير اسم الجلالة إدخال الرّوعة و تربية المهابة.

سورة آل عمران (3): آیة 29

اشارة

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29)

سورة آل عمران (3): آیة 29

ثمّ لمّا أذن سبحانه و تعالى في التّقيّة، و إظهار الموالاة لهم، و كان مدارها الخوف القلبي - و هو أمر باطنيّ لا يطّلع عليه أحد، و قد يجعل مندوحة للمعاشرة و المودّة في الظّاهر، مع عدم تحقّق خوف منهم في الباطن، بل الموالاة الباطنيّة صارت منشأ للموالاة الظّاهريّة، و لكن عند اعتراض المؤمنين

ص: 603


1- شاط دمه: أي ذهب هدرا.
2- الاحتجاج: 239، تفسير الصافي 302:1.
3- تفسير العياشي 664/297:1، تفسير الصافي 302:1.
4- الكافي 19/175:2، تفسير الصافي 302:1.
5- جامع الأخبار: 657/253.

الصّادقين عليهم، يعتذرون لهم بالخوف - أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بإعلام المنافقين المحتالين في موالاتهم بسعة علمه تعالى بالسّرائر كالظّواهر، بقوله: قُلْ يا محمّد: إِنْ تُخْفُوا أيّها المنافقون ما فِي صُدُورِكُمْ و ضمائركم من نيّات السّوء و موالاة الكفّار أَوْ تُبْدُوهُ و تظهروه للنّاس يَعْلَمْهُ اللّهُ و يطّلع عليه.

فإنّه لا سرّ إلاّ و هو عنده تعالى علانيّة، و لا باطن إلاّ و هو عنده ظاهر، و كيف يخفى عليه سرائركم أَوْ هو يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ من الخفايا و الدّقائق، فإنّ وجود جميع ما فيها بإفاضته و تدبيره، فإذا كانت إحاطته بهذه المرتبة من الكمال، يجب على العباد أن يحذروا من مخالفته في الباطن و السّرّ أيضا؛ لأنّه يعلمها و يعاقب عليها وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من العقوبة و غيرها قَدِيرٌ و فيه غاية التّهديد و الوعيد.

سورة آل عمران (3): الآیات 30 الی 31

اشارة

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)

سورة آل عمران (3): آیة 30

ثمّ بيّن اللّه تعالى صفة اليوم الذي يكون مصير الخلق فيه إليه، و يجب على النّاس الحذر منه تعالى فيه، بقوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ من النّفوس المكلّفة ما عَمِلَتْ في الدّنيا مِنْ خَيْرٍ و صالح مُحْضَراً عندها، أحضره اللّه بصورته المثاليّة التي تكون لذلك العمل في عالم المثل و الصّور، لما حقّق في محلّه من أنّ لكلّ شيء في هذا العالم - و لو كان من الأعراض - صورة جوهريّة في عالم الصّور و المثل المعلّقة، كما هو مستفاد من كثير من الأخبار. أو المراد إحضاره بوجوده الكتبي في صحيفة الأعمال، أو بجزائه و آثاره.

وَ كذا تجد ما عَمِلَتْ النّفس مِنْ عمل سُوءٍ و قبيح محضرا عندها بصورته الجوهريّة أو بجزائه، فتضجر و تستوحش منه، بحيث تَوَدُّ قيل: كأنّه يقال: حال النّفس التي عملت الخير معلوم أنها في سرور و أمن، فما حال النّفس الشّرّيرة التي عملت السّوء؟ فقال تعالى: تودّ و تتمنّى تلك النّفس، حين ترى السّوء لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً و بونا بَعِيداً من سوء المنظر و وخامة

ص: 604

الآثار.

و قيل: معنى الآية: تودّ و تتمنّى كلّ نفس، يوم تجد صحائف أعمالها، أو جزاء أعمالها، من الخير و الشّرّ حاضرة، لو أنّ بينها و بين ذلك اليوم و هو له أمدا بعيدا(1).

و قيل: المعنى: اذكروا يوم تجد كلّ نفس و (تودّ) حال من الضّمير في (عملت) أو خبر ل (ما عملت من سوء).

ثمّ بالغ سبحانه في التّحذير و أكّده بتكرار قوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ فاحذروا سخطه و بأسه.

ثمّ لتربيته الخوف و الرّجاء في القلوب أردف الوعيد بالوعد، و أعلن برأفته، بقوله: وَ اللّهُ رَؤُفٌ

سريع الرّضا، و كثير الرّحمة بِالْعِبادِ المؤمنين.

و يحتمل كون التّذييل به، لبيان علّة التّحذير، و هي الرأفة العظيمة منه بهم، حيث يكون تحذيره كتحذير الوالد الشّفيق ولده عمّا يوبقه و يضرّه.

في أن حبّ اللّه مستلزم لحبّ محبوباته

سورة آل عمران (3): آیة 31

ثمّ لمّا قالت اليهود و النّصارى: نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه، أمر اللّه رسوله بردّهم بقوله:

قُلْ لهم: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ كما تقولون، فلازم حبّه طاعته و الانقياد له، و طلب القرب منه بالقيام بمرضاته، حيث إنّ الحبّ هو ميل النّفس إلى شيء، لإحرازها كمالا و حسنا فيه، بحيث يحملها إلى ما يقرّبها إليه.

فإن علمتم أنّ ذاته المقدّسة مستجمعة لجميع الكمالات، بل لا كمال لأحد إلاّ هو منه و بإفاضته، فعليكم أيّها المدّعون لمحبّته أن تطلبوا رضاه و قربه بطاعته.

ثمّ لمّا تبيّن لكم أنّي رسوله إليكم، و أنّه ما من شيء يقرّبكم إليه إلاّ [و] أنا آمركم به، و ما من شيء يبعدكم عنه إلاّ و أنا ناهيكم عنه، إذن فَاتَّبِعُونِي في ما أدعوكم إليه، و آمركم به من الإقرار برسالتي، و العمل بأحكامي، فإذا فعلتم ذلك يُحْبِبْكُمُ اللّهُ و يرضى عنكم، و يقرّبكم إليه.

و هذا أجزل الاجور و أعظم المثوبات، لوضوح أنّ أقصى آمال المحبّ كونه محبوبا عند حبيبه، و لا يتحقّق إلاّ بإتيان محبوباته، و حبّ أحبّائه.

و من الواضح أنّ أحبّ النّاس إلى اللّه رسوله و خلفاؤه، و لذا قال الصادق عليه السّلام: «هل الدّين إلاّ الحبّ »(2) ،و من أحبّ الرّسول و أوليائه و خلفائه، أطاعهم و أوفق رضاهم.

ص: 605


1- تفسير روح البيان 21:2.
2- الخصال: 74/21، تفسير الصافي 303:1.

و في (الكافي): عنه عليه السّلام، في حديث: «من سرّه أن يعلم أنّ اللّه يحبّه، فليعمل بطاعة اللّه و ليتّبعنا، أ لم تسمع قول اللّه عزّ و جلّ لنبيّه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

و اللّه لا يطيع اللّه عبد [أبدا] إلاّ أدخل اللّه عليه في طاعته اتّباعنا، و لا و اللّه لا يتّبعنا عبد أبدا إلاّ أحبّه(1)

اللّه، و لا و اللّه لا يدّع أحد اتّباعنا أبدا إلاّ أبغضن عدوّنا (2) ،و لا و اللّه لا يبغضنا أحد أبدا إلاّ عصى اللّه، و من مات عاصيا للّه أخزاه اللّه، و أكبّه على وجهه في النّار »(3).

ثمّ أشار سبحانه إلى أدنى ثمرات حبّه له، بقوله: وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ و يستر بعفوه سيّئاتكم وَ اللّهُ غَفُورٌ للمعاصي، و ستّار للقبائح رَحِيمٌ لمن تحبّب إليه بطاعته و اتّباع رسله و خلفائه.

قيل: نزلت حين دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كعب بن أشرف و من تابعه إلى الإيمان، فقالوا: نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه.

و قيل: نزلت في وفد نجران، لمّا قالوا: إنّا نعبد المسيح حبّا للّه(4).

و قيل: نزلت في أقوام زعموا على عهده صلّى اللّه عليه و آله أنّهم يحبّون اللّه، فامروا أن يجعلوا قولهم مطابقا لعملهم(5).

و عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وقف على قريش و هم في المسجد الحرام يعبدون الأصنام، و قد علّقوا عليها بيض النّعام، و جعلوا في آذانها الشّنوف (6) ،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا معشر قريش، قد خالفتم ملّة إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام» فقالت قريش: إنّما نعبدها حبّا للّه ليقرّبونا إلى اللّه زلفى، فقال تعالى لنبيّه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ و تعبدون الأصنام لتقرّبكم إلى اللّه فَاتَّبِعُونِي أي اتّبعوا شريعتي و سنّتي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ فأنا رسوله إليكم، و حجّته عليكم(7).

سورة آل عمران (3): آیة 32

اشارة

قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

سورة آل عمران (3): آیة 32 ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت آية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ ، قال

عبد اللّه بن أبي: إنّ محمّدا يجعل

ص: 606


1- في النسخة: لمحبّة.
2- في الكافي و الصافي: لا يدع أحد اتباعنا أبدا إلاّ أبغضنا.
3- الكافي 1/14:8، تفسير الصافي 304:1.
4- تفسير أبي السعود 25:2.
5- تفسير أبي السعود 25:2.
6- الشنوف: جمع شنف، و هو القرط من الدّر أو الذهب و الفضّة و كل ما يعلّق في شحمة الاذن أو فوقها من الزينة.
7- تفسير أبي السعود 25:2.

طاعته كطاعة اللّه، و يأمرنا أن نحبّه كما أحبّت النّصارى عيسى، فنزلت (1)قُلْ يا محمّد، ردّا لشبهة المنافقين: أَطِيعُوا اللّهَ لكونه بالذّات مستحقا للطّاعة، وَ أطيعوا اَلرَّسُولَ لكونه رسولا و مبلّغا عن اللّه، لا لأهليّة نفسه، كما تقول النّصارى في عيسى فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن طاعة اللّه في أحكامه التي جاء بها رسوله، فقد كفروا بنعمه، و استوجبوا سخطه فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ

به و بنعمه، بل يبغضهم و يعذّبهم بأشدّ العذاب.

ففيه دلالة على أنّ وجوب طاعة النبيّ ، لكونها من شئون وجوب طاعة اللّه، فمن ادّعى محبّة اللّه، و خالف أوامر نبيّه و نواهيه، فهو كاذب في دعواه.

سورة آل عمران (3): الآیات 33 الی 34

اشارة

إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

سورة آل عمران (3): آیة 33

ثمّ أنّه لمّا بيّن سبحانه أنّ محبّته لا تنفكّ عن طاعة الرّسل، بيّن علوّ درجاتهم، و شرف مناصبهم، تحريصا عليها؛ بقوله: إِنَّ اللّهَ اصْطَفى و اختار من جميع خلقه آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ

و أشراف ولده، و هم إسماعيل و إسحاق و الأنبياء من ذرّيّتهما، و لا شبهة أنّ أشرفهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيّته الطّيّبة.

عن الباقر عليه السّلام، أنّه تلا هذه الآية، فقال: «نحن منهم، و نحن بقيّة تلك العترة »(2).

و عن الصادق عليه السّلام، قال: «قال محمّد بن أشعث بن قيس الكندي عليه اللّعنة للحسين عليه السّلام: يا حسين بن فاطمة أيّة حرمة لك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليست لغيرك ؟ فتلا الحسين عليه السّلام هذه الآية، ثمّ قال: و اللّه إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لمن آل إبراهيم، و إنّ العترة الهادية لمن آل محمّد عليهم السّلام »(3).

و في (العيون)، في حديث: فقال المأمون: هل فضّل اللّه العترة على سائر النّاس، فقال أبو الحسن عليه السّلام: «إن اللّه تعالى أبان فضل العترة على سائر النّاس في محكم كتابه».

فقال المأمون: أين ذلك من كتاب اللّه ؟ فقال له الرّضا عليه السّلام: «في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ

ص: 607


1- تفسير الرازي 19:8.
2- تفسير العياشي 669/299:1، تفسير الصافي 305:1.
3- أمالي الصدوق: 239/221.

وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ الآية »(1).و قد فسر آل إبراهيم بآل محمد صلى الله عليه و آله.

وَ آلَ عِمْرانَ قيل: هم موسى، و هارون؛ ابنا عمران بن يصهر بن فاهث(2) بن لاوي بن يعقوب، و أولادهما النبيّون.

و قيل: عيسى و أمه مريم بنت عمران بن ماثان، و إنّ ماثان كان من نسل سليمان بن داود، و كان ينتهي بسبعة و عشرين أبا إلى يهودا بن يعقوب. و بين العمرانين ألف و ثمانمائة سنة(3).

و في رواية: هو آل إبراهيم و آل محمّد على العالمين، فوضعوا اسما مكان اسم(4).

و عن (المجمع): و آل محمّد على العالمين(5).

و عن القمّي رحمه اللّه، قال: قال العالم عليه السّلام: «نزل آل إبراهيم (6) ،و آل عمران، و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله على العالمين »(7).

و عن الصادق عليه السّلام قال: «آل محمّد كانت فمحوها »(8).

و في تخصيص آل عمران أو آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالذّكر مع دخولهم في آل إبراهيم، إظهار لكمال الاعتناء بشأنهم و شرفهم.

فهؤلاء الّذين أنعم اللّه عليهم بالنّفس القدسيّة، و الملكات الجميلة الرّوحانيّة، و الفضائل الجسمانيّة، فضّلهم اللّه بمنصب الرّسالة عَلَى الْعالَمِينَ و جميع الخلق أجمعين من أوّل الدّنيا إلى يوم الدّين من الملائكة و الجنّ و الانس و سائر موجودات عالم الملك و الملكوت، حال كون جميع المصطفين ذُرِّيَّةً واحدة مسلسلة منشعبة بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ .

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الّذين اصطفاهم اللّه؛ بعضهم من نسل بعض »(9).

و عن (العياشي): عنه عليه السّلام، قيل: ما الحجّة في كتاب اللّه أنّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله هم أهل بيته ؟ قال: «قول اللّه عزّ و جلّ : (إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ و آل محمّد على العالمين) هكذا

ص: 608


1- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 1/230:1، تفسير الصافي 305:1.
2- في تفسير البيضاوي: قاهث.
3- تفسير البيضاوي 156:1.
4- تفسير العياشي 670/299:1، تفسير الصافي 305:1.
5- مجمع البيان 735:2، تفسير الصافي 305:1.
6- (آل إبراهيم) ليس في المصدر.
7- تفسير القمي 100:1، تفسير الصافي 305:1.
8- تفسير العياشي 674/301:1، تفسير الصافي 305:1.
9- مجمع البيان 735:2، تفسير الصافي 306:1.

نزلت (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) و لا تكون الذّرّيّة من القوم إلاّ نسلهم من أصلابهم »(1).

و الظاهر أنّ السائل احتمل أن يكون المراد بالآل جميع المؤمنين، كما عليه بعض المفسرين من العامّة، مستشهدين له بقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (2).

وَ اللّهُ سَمِيعٌ لأقوال النّاس عَلِيمٌ بضمائرهم و أخلاقهم، و ملكاتهم و أعمالهم، فيختار منهم من هو أحسن قولا، و أصلح عملا، و أزكى قلبا، و أخلص نيّة، و أقوى بصيرة، كما قال تعالى: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (3).

في أن الأنبياء مخالفون لغيرهم في القوى الروحانية و الجسمانية

نقل الفخر الرّازي في تفسيره عن الحليمي كلاما يعجبني أن أذكره بطوله، لاشتماله على ذكر معجزات عديدة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و فضيلة فائقة لأمير المؤمنين عليه السّلام.

قال الحليمي: إنّ الأنبياء عليهم السّلام لا بدّ أنّ يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانيّة، و القوى الرّوحانيّة. أمّا القوى الجسمانيّة، فهي إمّا مدركة و إمّا محرّكة. أمّا المدركة فهي إمّا الحواسّ الظاهريّة، و إمّا الحواسّ الباطنيّة. أمّا الحواسّ الظاهريّة؛ فهي خمسة:

أحدها: القوّة الباصرة، و لقد كان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله مخصوصا بكمال هذه الصّفة، و يدلّ عليه وجهان؛ الأوّل: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «زويت(4) لي الأرض فاريت مشارقها و مغاربها»، و الثّاني: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أقيموا صفوفكم و تراصّوا، فإنّي أراكم من وراء ظهري». و نظير هذه [القوة] ما حصل لإبراهيم، و هو قوله تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (5) ذكروا في تفسيره: أنّه تعالى قوّى بصره حتّى شاهد جميع الملكوت من الأعلى و الأسفل.

قال الحليمي: إنّ (6) البصراء يتفاوتون، فروي أنّ زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيّام، فلا يبعد أن يكون بصر النبيّ أقوى من بصرها.

و ثانيها: القوّة السامعة، و كان صلّى اللّه عليه و آله أقوى النّاس في هذه القوّة، و يدل عليه وجهان؛ أحدهما:

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أطّت(7) السّماء و حقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلاّ و فيه ملك ساجد للّه تعالى» فسمع أطيط السّماء و الثاني: أنّه سمع دويّا، و ذكر أنّه هوي صخرة قذفت في جهنّم، فلم تبلغ قعرها إلى

ص: 609


1- تفسير العياشي 675/301:1، تفسير الصافي 306:1.
2- تفسير الرازي 22:8، و الآية من سورة المؤمن: 46/40.
3- الأنعام: 124/6.
4- زوى الشيء: قبضه و جمعه.
5- الأنعام: 75/6.
6- في المصدر: و هذا غير مستبعد لأنّ .
7- أطّ الشيء: صوّت.

الآن.

قال الحليمي: و لا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فانّهم زعموا أن فيثاغورس راض نفسه حتّى سمع حفيف الملك (1).و نظير هذه القوّة لسليمان عليه السّلام في قصّة النّمل: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ (2) فاللّه تعالى أسمع سليمان كلام النّملة و واقفه على معناه. و هذا داخل أيضا في باب تقوية الفهم، و كان حاصلا لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حين تكلّم مع الذّئب و مع البعير.

و ثالثها: تقوية قوّة الشّمّ ، كما في حقّ يعقوب عليه السّلام، فإنّ يوسف لمّا أمر بحمل قميصه إليه و إلقائه على وجهه، فلمّا فصلت العير قال يعقوب: إنّي أجد ريح يوسف، لو لا أن تفنّدون. فأحسّ بها من مسيرة أيّام.

و رابعها: تقوية قوّة الذّوق، كما في حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قال: «إنّ هذا الذراع يخبرني أنّه مسموم».

و خامسها: تقوية القوة اللاّمسة، كما في حقّ الخليل، حيث جعل اللّه تعالى النّار بردا و سلاما عليه، و كيف يستبعد هذا، و يشاهد مثله في السّمندل(3) و النّعامة ؟!.

و أما الحواسّ الباطنة، فمنها قوّة الحفظ ، قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (4) و منها: قوّة الذّكاء، قال عليّ عليه السّلام: «علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألف باب من العلم، و استنبطت من كلّ باب ألف باب». فإذا كان هذا حال الوليّ ، فكيف حال النبيّ ؟

و أمّا القوى المحركة، فمثل: عروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المعراج، و عروج عيسى حيّا إلى السّماء، و رفع ادريس و إلياس، على ما وردت به الأخبار، و قال تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ (5).

و أمّا القوى الرّوحانيّة العقليّة فلا بدّ أن تكون في غاية الكمال، و نهاية الصّفاء.

اعلم أنّ تمام الكلام في هذا الباب أنّ النّفس القدسيّة النّبويّة مخالفة بماهيّتها لسائر النّفوس، و من لوازم تلك النّفس الكمال في الذّكاء و الفطنة و الحرية، و الاستعلاء و التّرفّع عن الجسمانيّات

ص: 610


1- في المصدر: خفيف الفلك.
2- النمل: 18/27.
3- السّمندل: طائر بالهند لا يحترق بالنار فيما زعموا، و نسيج من ريش بعض الطيور لا يحترق.
4- الأعلى: 6/87.
5- النمل: 40/27.

و الشهوات، فإذا كانت الرّوح في غاية الصّفاء و الشّرف، و كان البدن في غاية النّقاء و الطّهارة، كانت هذه القوى المحرّكة و المدركة في غاية الكمال؛ لأنّها جارية مجرى الأنوار الفائضة من جوهر الرّوح، الواصلة إلى البدن، و متى كان الفاعل و القابل في غاية الكمال، كانت الآثار في غاية القوّة و الشّرف و الصّفاء.

ثمّ أنّ اللّه تعالى بعد ما اصطفى آدم بالقوّة الكاملة، وضع كمال القوّة الرّوحانيّة في شعبة معيّنة من أولاد آدم عليه السّلام هم شيث و أولاده إلى إدريس، ثمّ إلى نوح، ثمّ إلى إبراهيم، ثمّ حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل و إسحاق، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الرّوح القدسيّة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و جعل إسحاق مبدأ لشعبتين: يعقوب و عيص (1) ،فوضع النّبوّة في نسل يعقوب، و وضع الملك في نسل عيص(2) ، و استمرّ ذلك إلى زمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فلمّا ظهر محمّد صلّى اللّه عليه و آله نقل نور النّبوّة و نور الملك إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و بقيا - أعني الدّين و الملك - لأتباعه إلى يوم القيامة، و من تأمّل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة، انتهى(1).

و فيه مواضع للنّظر و التّخطئة، و العجب أنّه التزم بانتقال نور النّبوّة و الملك في نسل المصطفين إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم يلتزم به في ذرّيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بل جعله لأتباعه.

سورة آل عمران (3): الآیات 35 الی 37

اشارة

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

سورة آل عمران (3): آیة 35 ثمّ ذكر سبحانه و

تعالى قضيّة ولادة مريم و عيسى - استشهادا بها على اصطفائه آل عمران، و ردّا على النّصارى القائلين بالوهيّة عيسى، أو أنّه ثالث ثلاثة، أو أنّه ابن اللّه - بقوله: إِذْ قالَتِ قيل:

الظّرف متعلّق ب (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) و المعنى: و اللّه سميع للدّعاء، عليم بالضّراعة، حين دعت و تضرّعت

ص: 611


1- تفسير الرازي 21:8.

حنّة بنت فاقوذ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ ابن ماثان، امّ مريم.

في قضية ولادة مريم و عيسى

عن عكرمة: أنّها كانت عاقرا لا تلد، و كانت تغبط النّساء بالأولاد(1).

و عن محمّد بن إسحاق: أنّها ما كان يحصل لها ولد حتّى شاخت، و كانت يوما في ظلّ شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا له، فتحرّكت نفسها للولد، فدعت ربّها أن يهب لها ولدا، فحملت بمريم، و هلك عمران، فلمّا عرفت حملها جعلته للّه بقولها: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي من الولد مُحَرَّراً و عاهدتك أن أجعله خادما للمسجد، أو لمن يدرس الكتاب، أو مخلصا للعبادة، أو عتيقا من أمر الدّنيا لطاعة اللّه.

قيل: كان الأمر في دين بني إسرائيل أنّ الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه، كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا بالنّذر يتركون ذلك النّوع من الانتفاع، و يجعلونه محرّرا لخدمة المسجد، و طاعة اللّه.(2)

و قيل: كان المحرّر يجعل في الكنيسة، يقوم بخدمتها حتّى يبلغ الحلم، ثمّ يخيّر بين الذّهاب و المقام، فإن أبى المقام و أراد أن يذهب ذهب، و إن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار. و لم يكن نبيّ إلاّ و من نسله محرّر في بيت المقدس، و لم يكن التّحرير جائزا إلاّ في الغلمان.(3)

قيل: إنّ تحرير حنّة كان بإلهام اللّه(4) ثمّ أنّها لإظهار أنّ هذا النّذر كان لطلب مرضاة اللّه و تقرّبا إليه، قالت: فَتَقَبَّلْ هذا التّحرير، و تلقّه مِنِّي بالرّضا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائي اَلْعَلِيمُ

بخلوص نيّتي و حقيقة ضراعتي، و في تخصيص الوصفين به تعالى إظهار لقوّة يقينها، و إشعار باختصاص دعائها به تعالى، و انقطاع رجائها من غيره.

سورة آل عمران (3): آیة 36

ثمّ أنّه كان في ظنّها أنّ النّسمة التي في بطنها غلام فَلَمّا وَضَعَتْها و رأت أنّها انثى، و لم تكن الجارية صالحة للتّحرير؛ لخدمة المسجد، و ملازمته، لما يصيبها من الحيض و الأذى قالَتْ تحزّنا و تحسّرا على خيبة رجائها رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها حال كونها أُنْثى .

ثمّ لمّا كانت جاهلة بقدرها و شأنها، قال سبحانه تعظيما لها و إظهارا لجلالتها: وَ اللّهُ أَعْلَمُ من غيره بِما وَضَعَتْ حنّة، و بما علق بها من عظائم الامور.

و قرئ (وضعت) على الخطاب، و المعنى أنّك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة، و ما لها من علوّ الشأن

ص: 612


1- تفسير الرازي 25:8.
2- تفسير الرازي 25:8.
3- تفسير الرازي 25:8.
4- تفسير الرازي 25:8.

و سموّ المقام. و في قراءة (وضعت) على المتكلّم، على أنّه من كلامها، تسلية لنفسها، و هو مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1).

ثمّ أنّه تعالى زاد في تبيين عظمة موضعها و رفعه منزلتها و مقامها بقوله: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ الذي كانت تطلبه، و تتمنّى أنّه يكون كواحد من سدنة المسجد كَالْأُنْثى التي وهبتها لها، في الفضيلة و الشّرف و الكرامة عندي.

عن (الكافي) و (القمي): عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكرا سويّا مباركا يبرئ الأكمه و الأبرص، و يحيي الموتى بإذني، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك - و هي امّ مريم - فلمّا حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما، فلمّا وضعتها قالت:

[ربّ ] إنّي وضعتها انثى و ليس الذّكر كالانثى، [أي] لا تكون البنت رسولا، يقول اللّه تعالى: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فلمّا وهب لمريم عيسى، كان هو الذي بشّر به عمران و وعده إيّاه »(2).

و عنه عليه السّلام: «أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها، فلمّا وضعتها [انثى] قالت: ربّ إنّي وضعتها انثى(3) و ليس الذّكر كالانثى، إنّ الانثى تحيض، فتخرج من المسجد »(4).

و في رواية اخرى عنه عليه السّلام: «و ليس الذّكر كالانثى في الخدمة »(5).

و مقتضى هذه الرّوايات أنّ الجملة المعترضة في الآية قوله: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فقط ، و أنّ قوله: لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى من كلام حنّة، و هو المعطوف عليه لقوله: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ .

قيل: إنّ مريم بالعبرانيّة بمعنى: العابدة أو خادمة الرّبّ ، و إنّ إظهار تسليتها بهذا الاسم لإظهار بقائها على نيّة وقفها لعبادة ربّها؛ غير راجعة عنها، فكأنّها قالت: إنّ هذه الانثى، و إن لم تكن خليقة لوقفها لخدمة المسجد و سدانة بيت المقدس، فلتكن من العابدات فيه.

و في تصدّيها للتّسمية إشعار بموت عمران قبل ولادة مريم؛ لأنّ مقتضى العادة أنّ الأب يتولّى تسمية الولد إذا كان حيّا(6).

ثمّ لمّا كانت حنّة عالمة بأنّ الشّيطان يطمع في إغواء كلّ مولود خصوصا النّساء، قالت: وَ إِنِّي

ص: 613


1- جوامع الجامع: 57.
2- تفسير القمي 101:1، الكافي 1/449:1، تفسير الصافي 307:1.
3- زاد في العياشي: و اللّه أعلم بما وضعت.
4- تفسير العياشي 677/302:1، تفسير الصافي 307:1.
5- تفسير العياشي 678/302:1، تفسير الصافي 307:1.
6- تفسير روح البيان 27:2.

أُعِيذُها بِكَ و اجيرها بلطفك و الجئها بحفظك، وَ كذا ذُرِّيَّتَها و نسلها مِنَ كيد اَلشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود من كل خير.

عن النبي صلى الله عليه و آله: «ما من مولود يولد إلا و الشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخا (1) ،إلا مريم و ابنها »(2).

قيل: لما قالت حنة هذه الكلمات، و تضرعت إلى الله في قبول مريم لعبادته، و حفظها من إغواء الشيطان، لفتها في خرقة، و حملتها إلى المسجد، و وضعتها عند الأحبار، أبناء هارون، و هم في بيت المقدس كالحجبة في مسجد الحرام، و قالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم، و كان بنو ماثان رءوس بني إسرائيل و أحبارهم و ملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، فقالوا: لا حتى نقرع عليها، فانطلقوا - و كانوا سبعا و عشرين - إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم ثلاث مرات في النهر. و قيل: نهر الأردن. ففي كل مرة ارتفع قلم زكريا فوق الماء و رسبت أقلامهم، فسلموها إلى زكريا.

سورة آل عمران (3): آیة 37

قيل: هو معنى قوله: فَتَقَبَّلَها رَبُّها و مليكها، و مكمّل نفسها بكمالات لائقة بها بِقَبُولٍ حَسَنٍ

فكأنّه أخذها ربّها من امّها و سلّمها لزكريّا.(3)

قيل: إنّ الحكم في تلك الشّريعة أنّه لم يكن التّحرير جائزا، إلاّ في غلام عاقل قادر على خدمة المسجد، و من حسن القبول أنّ اللّه بعد تضرّع حنّة، قبل تحرير بنتها حال صغرها، و عدم قدرتها على خدمة المسجد(4) و في لفظ التّقبّل إشعار بشدّة الاعتناء بقبولها.

وَ أَنْبَتَها ربّها نَباتاً حَسَناً و ربّاها تربية صالحة كاملة، و هيّأ لها جميع ما يصلحها.

قيل: إنّها تكلّمت في صباها كما تكلّم المسيح، و لم تلتقم ثديا قطّ ، و كانت تنمو في اليوم مثل ما ينمو المولود في عام وَ كَفَّلَها اللّه زَكَرِيّا و جعله ضامنا لمصالحها، و قائما بتدبير امورها.

و في عدّة روايات من طرق أصحابنا أنّه عليه السّلام كان زوج اختها، لا زوج خالتها.

و روي أنّها لمّا صارت شابّة، بنى زكريّا لها غرفة، و في رواية: محرابا في المسجد، و الظّاهر أنّ المحراب و الغرفة واحد، و لا يصعد إليها إلاّ بسلّم، و لا يدخل عليها غيره، و إذا خرج أغلق عليها سبعة

ص: 614


1- زاد في تفسير الرازي: من مسّ الشّيطان.
2- تفسير الرازي 28:8.
3- تفسير الرازي 28:8.
4- تفسير الرازي 28:8.

أبواب(1).

و مع ذلك كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً روي أنّه كان يأتيها رزقها من الجنّة، و أنّه كان يجد عندها فاكهة الشّتاء في الصّيف، و فاكهة الصّيف في الشّتاء (2) ،فتعجّب زكريّا و قالَ لها: يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا الرّزق، و من أين جاءك، و من أتاك به، و الأبواب مغلقة عليك ؟ قالَتْ مريم في جوابه: هُوَ نازل عليّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فلا تعجب و لا تستبعد إِنَّ اللّهَ بفضله و جوده يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أن يرزقه بِغَيْرِ حِسابٍ و تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق، قيل: إنّ الذّيل(3) من كلامه عزّ و جلّ .

في نزول مائدة الجنة لفاطمة عليها السّلام كما نزلت لمريم

ثمّ أنّه روى أبو السّعود و البيضاوي في تفسيرهما أنّ فاطمة الزّهراء عليها السّلام أهدت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رغيفين و بضعة لحم، فرجع بها إليها، فقال: «هلمّي يا بنيّة» فكشفت عن الطّبق، فإذا هو مملوء خبزا و لحما، و قال لها: «أنّى لك هذا؟» قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل»، ثمّ جمع عليّا و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جميع أهل بيته، فأكلوا و شبعوا، و بقي الطّعام كما هو، فأوسعت على جيرانها(4).

و عن العيّاشي: عن الباقر عليه السّلام، قال: «إنّ فاطمة عليها السّلام ضمنت لعليّ عليه السّلام عمل البيت و العجن و الخبز و قمّ البيت (5) ،و ضمن لها عليّ عليه السّلام ما كان خلف الباب [من] نقل الحطب، و أن يجيء بالطّعام. فقال لها يوما: يا فاطمة، هل عندك شيء؟ قالت: لا، و الذي عظّم حقّك، ما كان عندنا منذ ثلاثة أيّام شيء نقريك(6) به، قال: أ فلا أخبرتني ؟ قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهاني أن أسألك شيئا، فقال: لا تسألي ابن عمّك شيئا، إن جاءك بشيء عفوا و إلاّ فلا تسأليه.

قال: فخرج عليّ عليه السّلام فلقي رجلا فاستقرض منه دينارا، ثمّ أقبل به و قد أمسى، فلقي المقداد بن الأسود فقال للمقداد: ما أخرجك في هذه السّاعة ؟ قال: الجوع، و الذي عظّم حقّك يا أمير المؤمنين، قال [عليه السّلام]: فهو أخرجني، و قد استقرضت دينارا، و ساوثرك به؛ فدفعه إليه، فأقبل فوجد رسول

ص: 615


1- تفسير الرازي 30:8، تفسير روح البيان 29:2.
2- تفسير روح البيان 29:2.
3- الذيل هو قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .
4- تفسير أبي السعود 30:2، تفسير البيضاوي 158:1.
5- أي كنسه.
6- من القرى، و هو ما يقدّم إلى الضيف من طعام و شراب.

اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا و فاطمة عليها السّلام تصلّي، و بينهما شيء مغطّى، فلمّا فرغت اجترّت(1) ذلك [الشيء]، فإذا جفنة من خبز و لحم، قال: يا فاطمة، أنّى لك هذا؟ قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لا احدّثك بمثلك و مثلها؟ قال: بلى، قال: مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ . فأكلوا منها شهرا، و هي الجفنة التي يأكل منها القائم، و هي عندنا »(2).

سورة آل عمران (3): الآیات 38 الی 39

اشارة

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (39)

سورة آل عمران (3): آیة 38

ثمّ لمّا رأى زكريّا كرامة مريم عند اللّه، و منزلتها لديه، تمنّى أن يكون له من أيشاع زوجته ولد مثل ولد حنّة في الجلالة و الكرامة، و هو عند مريم هُنالِكَ و في مكانه ذلك دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ و كان دعاؤه أن قالَ رَبِّ هَبْ لِي و أعطني مِنْ لَدُنْكَ و من محض قدرتك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً و ولدا صالحا مباركا تقيّا مرضيّا، تستطاب أخلاقه و أفعاله، كما وهبت لحنّة إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ و مجيبه

سورة آل عمران (3): آیة 39

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي لربّه فِي الْمِحْرابِ الذي كان مكان مريم في المسجد: أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ يا زكريّا بولد ذكر يكون مسمّى بِيَحْيى .

قيل: إنّه سمّي به؛ لأنّه يحيا به رحم امّه، حيث كانت عجوزا عاقرا، أو تحيا [به] القلوب و يحيا به أهل الجنّة و النّار في الآخرة؛ لأنّه هو الذي يذبح الموت حين يجاء به بصورة الكبش الأملح في المحشر.

في أن يحيى أول من صدّق بنبوة عيسى عليه السّلام

و من كمالات ذلك الولد أنّه يكون مُصَدِّقاً برسالة عيسى الملقّب بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ .

روي أنّه كان أوّل تصديق يحيى بعيسى أنّه كان لا يصعد إلى مريم في صومعتها غير زكريّا، و هو يصعد إليها بسلّم، فإذا نزل أقفل عليها، ثمّ فتح لها من فوق الباب كوّة صغيرة يدخل عليها منها الرّيح، فلمّا وجد مريم و قد حبلت، ساءه ذلك و قال في نفسه: ما كان يصعد إلى هذه أحد غيري

ص: 616


1- في تفسير الصافي: اختبرت، و اجترّته: أي جذبته نحوها.
2- تفسير العياشي 681/303:1، تفسير الصافي 308:1.

و قد حبلت! و الآن افتضح في بني إسرائيل لا يشكّون أنّي أحبلتها، فجاء إلى امرأته و قال لها ذلك، فقالت: يا زكريّا، لا تخف، فإنّ اللّه لا يصنع بك إلاّ خيرا، فآتني مريم حتّى انظر إليها و أسألها عن حالها.

فجاء بها زكريّا إلى امرأته، فكفى اللّه مريم مئونة الجواب عن السؤال. و لمّا دخلت إلى اختها، و هي الكبرى و مريم الصّغرى، لم تقم إليها امرأة زكريّا فأذن اللّه تعالى ليحيى، و هو في بطن امّه، فنخس(1)

بيده في بطنها و أزعجها، و ناداها: يا أمّت، تدخل إليك سيّدة نساء العالمين، مشتملة على سيّد رجال العالمين فلا تقومي [إليها]! فانزعجت و قامت إليها، و سجد يحيى و هو في بطن امّه لعيسى بن مريم، فذلك كان أوّل تصديقه له، فلذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحسن و الحسين: «إنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، إلاّ ما كان من ابني الخالة عيسى و يحيى »(2).

وَ سَيِّداً فائقا على قومه، و على سائر النّاس في أنّه لم يهمّ بمعصية.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «ما من نبيّ إلاّ و قد عصى أو همّ بمعصية، غير يحيى فإنّه لم يعص، و لم يهمّ »(3).

و المراد بالمعصية، على تقدير صحّة الرّواية، هو ترك الأولى.

و عن تفسير الإمام [العسكري عليه السّلام]: في تفسير (السيّد) قال: «رئيسا في طاعة اللّه على أهل طاعته »(4).

و عن ابن عبّاس: السيّد: الحليم. و قيل: الفقيه: العالم، و قيل: المتقدّم المرجوع إليه(5).

وَ حَصُوراً مبالغا في حبس نفسه عن مشتهياتها مع القدرة عليها.

روي أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللّعب، فقال: ما للّعب خلقت(6).

و عن الصادق عليه السّلام في تفسير (الحصور): «هو الذي لا يأتي النّساء »(7).

وَ نَبِيًّا صالحا معدودا مِنَ الأنبياء اَلصّالِحِينَ أو ناشئا منهم؛ لأنّه كان من أصلاب الأنبياء و الصّلحاء.

ص: 617


1- نخس الدابة: طعن مؤخرها بعود أو نحوه.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 660.
3- تفسير الرازي 37:8.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 374/660.
5- تفسير الرازي 36:8.
6- تفسير أبي السعود 32:2، تفسير الصافي 310:1.
7- مجمع البيان 742:2، تفسير الصافي 310:1.

قيل: إنّ توصيفه بكونه من الصّالحين، مع أنّ جميع الأنبياء صلحاء، مشعر بأنّ صلاحه كان أتمّ من صلاح سائر الأنبياء، فيكون المعنى: أنّه من الصّالحين من بين سائر الأنبياء. و في الصّلاح ينتظم الخير كلّه.

و عن تفسير الإمام عليه السّلام: «ما ألحق اللّه صبيانا برجال كاملي العقول إلاّ هؤلاء الأربعة: عيسى بن مريم، و يحيى بن زكريّا، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام »(1).

سورة آل عمران (3): الآیات 40 الی 41

اشارة

قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41)

سورة آل عمران (3): آیة 40

ثمّ لمّا كان قول جبرئيل عن اللّه، و حكاية لقوله، خاطب زكريّا ربّه و قالَ استبعادا عاديّا، أو تعجّبا، أو استفهاما و سرورا بالولد: رَبِّ أَنّى يَكُونُ و كيف يحصل لِي بحسب العادة غُلامٌ

و ولد ذكر وَ الحال أنّه قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ في السّنّ ، و أدركني الهرم ؟

قيل: كان له ستّون سنة. و قيل: خمس و ستّون. و قيل: سبعون. و قيل: خمس و سبعون. و قيل: خمس و ثمانون. و قيل: اثنتان و تسعون. و قيل: تسع و تسعون. و قيل: مائة و عشرون.

و فيه إشعار بأنّ كبر السّنّ ، من حيث إنّه طلائع الموت، طالب للإنسان.

ثمّ بعد ذكر قصور نفسه، ذكر قصور زوجته بقوله: وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ لم تلد أبدا، و الكبر و العقم منافيان للولادة غاية المنافاة.

قيل: كان لزوجته مع عقمها، ثمان و تسعون سنة(2).

قالَ اللّه تعالى، أو الملك: كَذلِكَ الفعل العجيب من خلق الولد من شيخ فان و عجوز عاقر اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادة.

سورة آل عمران (3): آیة 41

ثمّ نقل أنّه جاء الشّيطان زكريّا عند سماعة البشارة، فقال: إنّ هذا الصّوت من الشّيطان، و قد سخر منك، فلذا اشتبه الأمر على زكريا(3) و قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة دالّة على أنّ تلك البشارة من

ص: 618


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 374/659، تفسير الصافي 310:1.
2- تفسير الرازي 39:8.
3- تفسير الرازي 39:8.

الوحي و كلام الملائكة، لا من إلقاء الشّيطان.

و قيل: إنّ المراد: اجعل لي علامة تدلّ على تحقّق مسئولي، و وقوع الحبل و العلوق؛ لأنّه أمر خفيّ ، حتّى أتلقّى تلك النّعمة الجليلة بالشّكر من حين حصولها(1).

و قيل: إنّ سؤال الآية كان بعد البشارة بثلاثة أشهر. و قيل: بثلاث سنين. و هذا الاختلاف مبنيّ على الاختلاف في التّفاوت بين سنّ يحيى و عيسى أنّه ستّة أشهر أو ثلاث سنين.

ثمّ عقيب سؤال الآية بلا فصل قالَ اللّه تعالى، أو الملك: آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ و لا تقدر على النّطق بغير الذّكر و التّسبيح و الشّكر ثَلاثَةَ أَيّامٍ متواليات بلياليها إِلاّ رَمْزاً و إشارة بيد، أو رأس، أو غيرهما.

قيل: إنّما جعل عجزه عن الكلام الدّنيوي آية ليخلص أوقاته بالذّكر و الشّكر قضاء لحقّ هذه النّعمة العظيمة(2).

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام: «أنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ولدا(3) و نادته الملائكة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصّوت من اللّه، فأوحى إليه أنّ آية ذلك أنّ يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيّام، فلمّا أمسك لسانه و لم يتكلّم، علم أنّه لا يقدر على ذلك إلاّ اللّه »(4).

عن العيّاشي: عن أحدهما عليهما السّلام: «أنّه كان يؤمئ برأسه »(5).

و قيل: إنّ المراد من التّكلّم: كلّ ما أدّى المراد و لو كان غير اللّفظ ، و على هذا يكون الاستثناء متّصلا.

و قيل: إنّه عليه السّلام عوقب بذلك من حيث سؤال الآية بعد بشارة الملائكة، فأخذ اللّه لسانه، و صيّره بحيث لا يقدر على الكلام(6).

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ في حبس لسانك ذكرا كَثِيراً أداء لشكر النّعمة وَ سَبِّحْ ربّك بِالْعَشِيِّ

و هو من الزّوال إلى الغروب وَ الْإِبْكارِ و هو من طلوع الفجر إلى الضّحى. و قيل: إنّ المراد بالتّسبيح هو الصّلاة(7).

ص: 619


1- تفسير روح البيان 31:2.
2- تفسير روح البيان 31:2.
3- في المصدر: ذكرا.
4- تفسير العياشي 683/305:1، تفسير الصافي 311:1.
5- تفسير العياشي 684/305:1، تفسير الصافي 311:1.
6- تفسير الرازي 41:8.
7- تفسير الرازي 42:8، تفسير أبي السعود 34:2.

سورة آل عمران (3): آیة 42

اشارة

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)

سورة آل عمران (3): آیة 42

ثمّ عاد سبحانه إلى قصّة اصطفاء مريم، عطفا على قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ (1) بقوله: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ و في العدول عن (نادت) إلى (قالت) إشعار بأنّ مريم رأت جبرئيل، فخاطبها و شافهها بقوله: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ أوّلا بأن تقبّلك من امّك لخدمة المسجد بقبول حسن، و أنبتك نباتا حسنا، و ربّاك في حجر زكريّا، و رزقك من فواكه الجنّة، و أكرمك بكرامات سنيّة.

عن الباقر عليه السّلام: «معنى الآية: اصطفاك من ذرّيّة الأنبياء »(2).

وَ طَهَّرَكِ من رجس الكفر، و دنس المعاصي، و رذائل الأخلاق الرّوحانيّة، و ذمائم الصّفات النّفسانيّة، و الشّهوات الحيوانيّة، و مسيس الرّجال، و الأنجاس الجسمانيّة من الحيض و النّفاس و غيرهما من الأذى.

و عن الباقر عليه السّلام: «طهّرك من السّفاح »(3).

وَ اصْطَفاكِ آخرا و فضّلك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب - كما عن الباقر عليه السّلام ما يقرب منه (4)- و شرّفك بصحبته و خدمته إيّاك، و جعلك و ابنك آية للعالمين.

في نقل كلام الفخر الرازي و ردّه

قال الفخر الرّازي: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم، و آسية امرأة فرعون، و خديجة، و فاطمة عليهنّ السّلام».

ثمّ قال: فقيل: هذا الحديث دلّ على أنّ هؤلاء الأربع أفضل من سائر النساء، و هذه الآية دلّت على أنّ مريم عليها السّلام أفضل من الكلّ ، و قول من قال: المراد أنّها مصطفاة على عالمي زمانها، فهذا ترك للظّاهر(5).

أقول: بل هو عمل بنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، في الرّواية التي تكون من المسلّمات بين الفريقين، من قوله:

«الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيّدة [نساء] بني إسرائيل»(6) فإنّه صريح في أنّ سيادتها مختصّة بنساء بني إسرائيل. و قد دلّت الرّوايات الكثيرة من طرق أصحابنا على أنّ فاطمة عليها السّلام أفضل من الكلّ .

ص: 620


1- آل عمران: 35/3.
2- مجمع البيان 746:2، تفسير الصافي 311:1.
3- مجمع البيان 746:2، تفسير الصافي 311:1.
4- نفس المصدر.
5- تفسير الرازي 43:8.
6- البداية و النهاية 115:6، الدر المنثور 186:2.

في أنّ فاطمة كانت أفضل من مريم

في (العلل) عن الصادق عليه السّلام: «سمّيت فاطمة محدّثة؛ لأنّ الملائكة كانت تهبط من السّماء تناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إنّ اللّه اصطفاك و طهّرك و اصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك و اسجدي و اركعي مع الرّاكعين، فتحدّثهم و يحدّثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أ ليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إنّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها، و إنّ اللّه عزّ و جلّ جعلك سيّدة نساء عالمك و عالمها، و سيّدة نساء الأوّلين و الآخرين »(1).

مضافا إلى أنّ فضائلها الخاصّة بها - من كون والدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خاتم النّبيّين، و أنّها روحه التي بين جنبيه، و أحبّ الخلق إليه، و أنّ والدتها خديجة سيّدة نساء العالمين، و تربيتها في حجرهما، و أن زوجها علي بن أبي طالب، و هو بنصّ الكتاب نفس الرّسول، و بنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سيّد العرب، و ولداها الحسن عليه السّلام و الحسين عليه السّلام سيّدا شباب أهل الجنّة، و معارفها و علمها معارف أبيها مقتبسة و مأخوذة منه، و شريعتها أكمل الشّرائع، و ذرّيّتها أفضل الذّراري، و كونها أعبد أهل زمانها، و كانت مشيتها مشية أبيها، و كونها مطهّرة بنصّ آية التّطهير - تدلّ على أنّها أفضل، حيث إنّه لا تقاس هذه الفضائل بفضائل مريم التي هي بنت عمران و حنّة، و المربّاة في حجر زكريّا، الوالدة لعيسى المنقطع نسلها به، العاملة بشريعة ولدها و شريعة من قبلها.

مع أنّ فضيلة هذه الامّة على سائر الامم مقتضية لأن يكون نبيّها أفضل من سائر الأنبياء، و وصيّ نبيّها أفضل من سائر الأوصياء، و شرعها أكمل من سائر الشّرائع، و معارفها أتمّ من معارف سائر الامم، و سيّدة نسائها أفضل من سيدات نساء سائر الامم.

سورة آل عمران (3): آیة 43

اشارة

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ (43)

سورة آل عمران (3): آیة 43

ثمّ ناداها جبرئيل بعد تذكيرها بالنّعم، ترغيبا لها في الطّاعة: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي و قومي إلى العبادة، أو أطيلي القيام فيها شكرا لِرَبِّكِ الذي أنعم عليك بالنّعم العظام وَ اسْجُدِي و عفّري خدّك خضوعا له. و إنّما قدّم الأمر بالسّجود على الأمر بالرّكوع بقوله: وَ ارْكَعِي لكون السّجود غاية الخضوع، حال كونك مَعَ الرّاكِعِينَ و في جماعتهم، و قيل: إنّ المعنى: اركعي كركوعهم(2).و فيه

ص: 621


1- علل الشرائع: 1/146 ب 146، تفسير الصافي 311:1. (2و2) تفسير الرازي 44:8.
2- تفسير الرازي 44:8.

إشعار بكمالها، حيث عدّها في عداد الرّجال، حيث قال: (مَعَ الرّاكِعِينَ ) و لم يقل: (مع الرّاكعات).

و قيل: إنّ المراد بالقنوت: إدامة العبادة، و بالسّجود: خصوص الصّلاة، و التّكنّي عنها به، لكونه أفضل أركانها، و بالرّكوع: الخشوع و الإخبات (1).

روي أنّها لمّا امرت بذلك قامت في الصّلاة حتّى تورّمت قدماها (1) ،و كذلك روي في حقّ فاطمة عليها السّلام(2) كما روي في حقّها كلّ فضيلة كانت لمريم من نزول مائدة الجنّة لها (3) ،و محادثة الملائكة (4) ،و الاجتهاد في العبادة، و الزّهد في الدّنيا، و غير ذلك.

سورة آل عمران (3): آیة 44

اشارة

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

سورة آل عمران (3): آیة 44

ذلِكَ المذكور من قصّة حنّة و زكريّا، و مريم و عيسى، يكون مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ لا طريق لأحد إلى العلم به إلاّ الوحي، و نحن نُوحِيهِ إِلَيْكَ و ننزله بوساطة جبرئيل ببيان فيه الإعجاز.

ثمّ أنّه تعالى - بعد وضوح انحصار طريق العلم بالقضايا الماضية في قراءة الكتب و السّماع من العالم، أو المشاهدة، أو الوحي، و بداهة كونه صلّى اللّه عليه و آله امّيّا لم يقرأ كتابا، و لم يصحب عالما - قرّر كون علمه صلّى اللّه عليه و آله بهذه القضايا بالوحي بنفي مشاهدته بقوله: وَ ما كُنْتَ حاضرا لَدَيْهِمْ حتّى تطّلع على قضاياهم بالمشاهدة، و ما كنت شاهدا إِذْ يُلْقُونَ و حين ينبذون في الماء أَقْلامَهُمْ التي كانوا يكتبون بها التّوراة، ليقرعوا بها، و ليعلموا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ و يتشرّف بحضانتها و خدمتها، قيل: اختاروا تلك الأقلام للقرعة تبرّكا بها وَ ما كُنْتَ حاضرا لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ و حين يتنازعون في شأنها تنافسا في كفالتها، و التّعهّد للقيام بتدبير امورها، و حفظ مصالحها.

و يحتمل أن يكون هذا الكلام مسوقا لبيان إظهار نهاية غرابته، و نهاية اعجوبته.

سورة آل عمران (3): آیة 45

اشارة

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ

ص: 622


1- تفسير أبي السعود 35:2، تفسير روح البيان 33:2.
2- المناقب/لابن شهرآشوب 341:3، مقتل الحسين/للخوارزمي 80:1، ربيع الأبرار/للزمخشري 104:2.
3- الدر المنثور 186:2، البداية و النهاية 115:6، أمالي الطوسي: 614-1271/615 و 1272.
4- علل الشرائع 21/182:1، دلائل الامامة: 20/80.

مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

سورة آل عمران (3): آیة 45

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر اصطفاء مريم بالكمالات النّفسانيّة و الكرامات الفائقة، شرع في بيان قصّة ولادة عيسى بقوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ و قد مرّ أنّ المراد خصوص جبرئيل - على ما قيل -: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ و يسرّ قلبك بالإخبار بِكَلِمَةٍ تامة كائنة مِنْهُ و يفرحك بولد يهبه لك، بإرادته التّكوينيّة التي يعبّر عنها بكلمة (كن) من غير مبادئ عاديّة اِسْمُهُ عند اللّه اَلْمَسِيحُ قيل:

هو معرّب مشيخا بالعبريّة، و معناه: المبارك(1).

و المراد من لفظ الاسم هنا، ما يحكى عن ذات معيّنة، و لو كان لقبا و أمّا علمه فهو عِيسَى قيل:

هو معرّب إيشوع (2) ،و كنيته اِبْنُ مَرْيَمَ و هو يكون وَجِيهاً و شريفا فِي الدُّنْيا بمنصب النّبوّة، و مطاعية النّاس، وَ في اَلْآخِرَةِ بالشّفاعة، و علوّ الدّرجة في الجنّة، و معدودا مِنَ الْمُقَرَّبِينَ

عند اللّه، قيل: فيه إشارة إلى رفعه إلى السّماء(3).

سورة آل عمران (3): آیة 46

اشارة

وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ (46)

سورة آل عمران (3): آیة 46

ثمّ بشّرها بكمال علمه بقوله: وَ يُكَلِّمُ النّاسَ بكلمات الأنبياء الجامعة للحكمة و الموعظة، حال كونه طفلا كائنا فِي الْمَهْدِ وَ كونه كَهْلاً بالغا إلى كمال البشريّة، من غير تفاوت بين الحالين، و هذا من أعظم معجزاته.

بل نقل أنّه قالت مريم: إذا خلوت أنا و عيسى، حدّثني و حدّثته، فإذا شغلني عنه إنسان كان يسبّح في بطني و أنا أسمع(4).

و في ذكر أحواله المختلفة إشارة إلى أنّه بمعزل من الالوهيّة.

في نقل إنكار النصارى تكلّم عيسى في المهد و ردّه

قيل: إنّ النّصارى أنكرت تكلّمه في المهد (5) ،و لو كانت هذه المعجزة لتواترت بينهم، و كانوا أحقّ بمعرفتها من غيرهم، و لا يمكن منهم إخفاؤها مع إفراطهم في محبّته، حتّى ذهبوا إلى الوهيّته.

ص: 623


1- تفسير روح البيان 35:2.
2- تفسير روح البيان 35:2.
3- تفسير أبي السعود 37:2.
4- تفسير روح البيان 35:2.
5- .تفسير الرازي 52:8.

و فيه: أنّ القدر الثّابت من تكلّمه في المهد، ما كان منه لبراءة امّه من الفحشاء (1) بعد اعتراض اليهود عليها و إشارتها إليه، من قوله: إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (1) إلى آخر الآيات. و على هذا يمكن كون الحاضرين عنده قليلا من اليهود المعاندين، فأخفوا هذه المعجزة عنادا، أو خوفا من تكذيب سائر اليهود.

و لم يؤمن به أحد إلاّ بعد بلوغه في العمر ثلاثين سنة أو أكثر، و هؤلاء المؤمنون لم يطّلعوا على كراماته السّابقة، و بقي الأمر مكتوما إلى أن أخبر به محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالوحي من اللّه تعالى، مع أنّه نقل عن جعفر بن أبي طالب أنّه لمّا قرأ على النّجاشي سورة مريم، قال النّجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى و بين المذكور في هذا الكلام بذرّة(2).

و أمّا تكلّمه في الكهولة، فقد قال جمع: إنّه يكون بعد نزوله من السّماء في آخر الزّمان؛ حيث إنّ سنّ الكهولة أربعون سنة، و هو عليه السّلام [قد] رفع قبل بلوغه ذلك السّنّ (3).

روي أنّه لمّا بلغ عمره ثلاثين سنة أرسله اللّه إلى بني إسرائيل، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا، و في قول: ثلاث سنين و ستّة أشهر، ثمّ رفع إلى السّماء (4).و لذا قيل: إنّ الآية نصّ في نزوله من السّماء(5).

و قال جمع: إنّ الكهل في اللّغة: ما اجتمع قوّته و كمل شبابه (6) ،و هذا الحال في الإنسان ببلوغ ثلاثين سنة، ثمّ يكون على حال الوقف لا يزيد و لا ينقص إلى أربعين، فمبدأ الكهولة ثلاثون، و منتهاها أربعون. و على هذا، كان بعثه في الكهولة، و هذا القول هو الأظهر و الاوفق بالآية.

ثمّ مدحه سبحانه بقوله: وَ هو مِنَ الصّالِحِينَ قيل: في ذكر هذه الصّفة بعد الحالات الثّلاث دلالة على أنّها أعلى المراتب و أعظمها؛ حيث إنّ المرء لا يكون صالحا على الإطلاق، إلاّ بكونه في جميع أفعاله و تروكه مواظبا على النّهج الأصلح الأكمل (7).و من الواضح أنّ ذلك يتناول جميع المقامات العالية الدّينيّة و الدّنيويّة، و كمال أفعال القلوب و الجوارح.

سورة آل عمران (3): آیة 47

اشارة

قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

ص: 624


1- مريم: 30/19.
2- تفسير الرازي 52:8.
3- تفسير روح البيان 35:2.
4- تفسير روح البيان 35:2.
5- تفسير الرازي 52:8.
6- تفسير الرازي 51:8.
7- تفسير روح البيان 35:2.

سورة آل عمران (3): آیة 47 ثمّ كأنّه قيل: فما قالت مريم بعد تلك البشارة ؟ فقال سبحانه: قٰالَتْ مريم - استبعادا لوقوع هذا الأمر الخارق للعادة، و استعظاما لقدرة اللّه، أو استفسارا من أنّه قد

يكون الولد بسبب التّزوّج، أو بغيره -: رَبِّ أَنّى يَكُونُ و من أين يوجد لِي وَلَدٌ؟ إذ هو متوقّف على مباشرة الفحل وَ أنا إلى الآن لَمْ يَمْسَسْنِي و لم يقربني بَشَرٌ و هذه حالة منافية للولادة على حسب العادة قالَ

اللّه تعالى أو جبرئيل عليه السّلام: كَذلِكِ الخلق العجيب الخارق للعادة اَللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أن يخلقه.

و لمّا كان لفظ الخلق مشعرا بالاختراع - و لذا كان ذكره أنسب بولادة العذراء من غير أب، من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان هرم - عقّبه ببيان كيفيّة الاختراع بقوله: و إِذا قَضى اللّه و حتم أَمْراً من الامور بالإرادة التّكوينيّة، و تمّ صلاح وجود شيء من الأشياء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و هو كناية عن تعلّق الإرادة التّكوينيّة بوجوده فَيَكُونُ و يوجد من غير توقّف على مادّة و مدّة، و من غير حاجة إلى مئونة و عدّة.

في كيفية احتبال مريم و مكالمة يوسف معها

عن ابن عبّاس رحمه اللّه: أنّ مريم كانت في غرفة، قد ضربت دونها سترا، إذا هي برجل عليه ثياب بيض، و هو جبرئيل عليه السّلام تمثّل لها بشرا سويّا، أي تامّ الخلق، فلمّا رأته قالت: أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (1) ثمّ نفخ في جيب درعها، حتّى وصلت النّفخة إلى الرّحم فاحتبلت(2).

و عن وهب: أنّه كان معها ذو قرابة يقال له يوسف النّجار، و كان يوسف هذا يستعظم ذلك، فإذا أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها، و إذا أراد أن يبرّئها رأى ما ظهر عليها، فكان أوّل ما كلّمها أن قال لها: قد دخل في صدري شيء أردت كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت الكلام أشفى لصدري. قالت: قل. قال: فحدّثيني هل ينبت الزّرع من غير بذر؟ قالت: نعم. قال: فهل ينبت شجر من غير أصل ؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، أ لم تعلم أنّ اللّه أنبت الزّرع يوم خلقه من غير بذر، و البذر يومئذ إنّما صار من الزّرع الذي أنبت اللّه من غير بذر، أ لم تعلم أنّ اللّه خلق آدم و حوّاء من غير انثى و لا ذكر.

فلمّا قالت له ذلك، وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء أكرمها اللّه به(3).

سورة آل عمران (3): الآیات 48 الی 49

اشارة

وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ

ص: 625


1- مريم: 18/19.
2- تفسير روح البيان 36:2، و فيه: الرّحم فاشتملت.
3- تفسير روح البيان 36:2.

فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

سورة آل عمران (3): آیة 48

ثمّ أنّ جبرئيل بعد أن بشّرها بولادة عيسى بقوله: يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ (1) عطف عليه تبشيرها بكماله العلمي، و مرتبة رسالته، بقوله: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ السّماوي الذي نزل على آدم و من بعده، و قيل: المراد: الكتابة و الخطّ (2) ،وَ يعلّمه اَلْحِكْمَةَ و العلوم العقليّة و الشّرعيّة، و تهذيب الأخلاق وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ و إفرادهما بالذّكر بعد ذكر جنس الكتاب الشّامل لهما، لزيادة فضلهما، و إنافتهما على غيرهما.

روي أنّ عيسى عليه السّلام حفظ التّوراة و هو في بطن امّه، و كانت مريم تسمع عيسى و هو يدرس في بطنها(3).

في بيان زهد عيسى عليه السّلام

ثمّ لمّا شرّف عالم الشّهود أعطاه [اللّه] الزّهادة في الدّنيا؛ فإنّه كان يلبس الشّعر، [و] يتوسّد الحجر، و يستنير القمر، و قد كان له قدح يشرب فيه الماء، [و يتوضّأ] فيه فرأى رجلا يشرب بيده. فقال لنفسه: يا عيسى، هذا أزهد منك، فرمى القدح و كسره.

و استظلّ يوما في ظلّ خيمة عجوز؛ و كان قد لحقه حرّ شديد، فخرجت العجوز فطردته، فقام و هو يضحك فقال: يا أمة اللّه، ما أنت أقمتني، و إنّما أقامني الذي لم يجعل لي نعيما في الدّنيا و لمّا رفع إلى السّماء، وجد عنده إبرة كان يرقع [بها] ثوبه، فاقتضت الحكمة الإلهيّة نزوله في السّماء الرّابعة(4).

سورة آل عمران (3): آیة 49

وَ يبعثه رَسُولاً في حال الصّبا، أو بعد البلوغ، أو بعد ثلاثين سنة إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ حال كونه قائلا: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ يا بني إسرائيل بِآيَةٍ عظيمة، و معجزة باهرة، دالّة على صدق نبوّتي، كائنة مِنْ رَبِّكُمْ و مكمّل نفوسكم، و مصلح امور دنياكم و آخرتكم.

قيل: إنّ أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف، و آخرهم عيسى(5).

روي في (الإكمال): عن الباقر عليه السّلام: «أنّه ارسل إلى بني إسرائيل خاصّة، و كانت نبوّته ببيت

ص: 626


1- آل عمران: 45/3.
2- تفسير الرازي 54:8، تفسير روح البيان 37:2.
3- تفسير روح البيان 36:2.
4- تفسير روح البيان 36:2.
5- تفسير أبي السعود 38:2، تفسير روح البيان 37:2.

المقدس »(1).

ثمّ بيّن الآية و فصّلها بقوله: أَنِّي أَخْلُقُ و اصوّر و اسوّي لَكُمْ شيئا مِنَ الطِّينِ بهيئة و صورة كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ و مثل صورته فَأَنْفُخُ فِيهِ فتلج فيه الرّوح فَيَكُونُ طَيْراً حيّا طيّارا كسائر الطّيور بِإِذْنِ اللّهِ و أمره و قدرته، لا بقدرة منّي.

روي أنّه عليه السّلام لمّا ادّعى النّبوّة، و أظهر المعجزات، طالبوه بخلق الخفّاش، فأخذ طينا و صوّرة و نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السّماء و الأرض، قال وهب: كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا، ليتميّز من خلق اللّه تعالى(2).

قيل: إنّما طلبوا خلق الخفّاش؛ لأنّه أكمل الطّير خلقا، و أبلغ دلالة على القدرة؛ لأنّ له ثديا و أسنانا، و هي تحيض و تطهر و تلد كسائر الحيوانات، و تضحك كما يضحك الإنسان، و تطير بغير ريش، و لا يبصر في ضوء النّهار و لا في ظلمة اللّيل، و إنّما يرى في ساعتين ساعة بعد الغروب، و ساعة بعد طلوع الفجر(3).

قيل: لم يخلق عيسى غير الخفّاش. و قيل: خلق أنواعا من الطّير(4).

وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ و من ولد أعمى، أو أعوج العين وَ الْأَبْرَصَ و هو المبتلى بمرض البرص، و هو لون مختلط حمرة و بياضا أو غيرهما، و لا يحصل إلاّ من فساد المزاج و خلل في الطّبيعة، و لم تنفر العرب من شيء نفرتها منه و تخصيص هذين الدّاءين؛ لأنّهما ممّا أعيا الأطبّاء، مع كونهم في غاية الحذاقة [في] زمنه عليه السّلام.

قيل: كان يجتمع عليه عليه السّلام الوف من المرضى، من أطاق منهم أتاه، و من لم يطق أتاه عيسى عليه السّلام، و ما يداويهم إلاّ بدعاء(5).

وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ و تكرير (بِإِذْنِ اللّهِ ) للاهتمام بدفع توهّم الالوهية.

في أن عيسى أحيا أربعة من الأموات

قيل: سألوا جالينوس عنه عليه السّلام، فقال: الميّت لا يحيا بالعلاج، فإن كان هو يحيي الموتى، فهو نبيّ و ليس بطبيب. فطلبوا أن يحيي الموتى، فأحيا أربعة أنفس: [احيا]

ص: 627


1- كمال الدين: 2/220، تفسير الصافي 312:1.
2- تفسير الرازي 56:8، تفسير روح البيان 37:2، و في تفسير روح البيان: ليتميز فعل الخلق من فعل اللّه.
3- تفسير روح البيان 37:2.
4- تفسير الرازي 56:8.
5- تفسير روح البيان 38:2.

العازر، و كان صديقا له، فأرسل اخته إلى عيسى عليه السّلام أنّ اخاك العازر يموت فأته، فكان بينه و بينه مسيرة ثلاثة أيّام، فأتاه هو و أصحابه، فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لاخته: انطلقي بنا إلى قبره [فانطلقت معهم إلى قبره] و هو [في] صخرة مطبقة، فقال عيسى عليه السّلام: اللّهمّ ربّ السّماوات [السبع] و الأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك، و اخبرهم أنّي احيي الموتى، فأحيي العازر، فقام العازر و ودكه(1) يقطر، فخرج من قبره، و بقي و ولد له.

و أحيا ابن عجوز مرّ به ميّتا على عيسى عليه السّلام، على سرير يحمل، فدعا اللّه عيسى عليه السّلام، فجلس على سريره، و نزل عن أعناق الرّجال و لبس ثيابه، و حمل السّرير على عنقه، و رجع إلى أهله، فبقي و ولد له.

و أحيا ابنة العاشر الذي يأخذ العشور، قيل له: أحيها، و قد ماتت أمس، فدعا اللّه تعالى، فعاشت، و بقيت و ولد لها.

فقالوا: يحيي من كان قريب العهد من الموت، فلعلّهم لم يموتوا، بل أصابتهم سكتة، فأحيي لنا سام بن نوح، فقال عيسى: دلّوني على قبره، فخرج و القوم معه حتّى انتهى إلى قبره، فدعا اللّه تعالى بالاسم الأعظم، فخرج من قبره و قد شاب رأسه، فقال عيسى: كيف شاب رأسك، و لم يكن في زمانك شيب ؟ قال: يا روح اللّه، لمّا دعوتني سمعت صوتا يقول: أجب روح اللّه، فظننت أنّ القيامة قد قامت، فمن هول ذلك قد شاب رأسي. فسأله عن النّزع، فقال: يا روح اللّه، إنّ مرارته لم تذهب من حنجرتي و قد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدّقوه فإنّه نبيّ ، فآمن به بعضهم و كذّبه آخرون، ثمّ قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذني اللّه سكرات الموت، فدعا اللّه ففعل(2).

و عن (الكافي) و العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل هل كان عيسى بن مريم [قد] أحيا أحدا بعد موته، حتّى كان له أكل و رزق و مدّة و ولد؟ فقال: «نعم، إنّه كان له صديق مؤاخ له في اللّه تعالى، و كان يمرّ به و ينزل عليه، ثمّ إنّ عيسى غاب عنه حينا، ثمّ مرّ به ليسلّم عليه، فخرجت إليه امّه فسألها عنه، فقالت: مات يا رسول اللّه، فقال: أ فتحبّين أن تريه ؟ قالت: نعم، فقال لها: فإذا كان غدا فآتيك حتّى احييه لك بإذن اللّه تعالى، فلمّا كان من الغد أتاها، فقال لها: انطلقي معي إلى قبره، فانطلقا حتّى إذا أتيا قبره، فوقف [عليه] عيسى عليه السّلام ثمّ دعا اللّه، فانفرج القبر و خرج ابنها حيّا، فلمّا رأته امّه و رآها بكيا فرحمهما عيسى عليه السّلام فقال: أ تحبّ أن تبقى مع امّك في الدّنيا؟ فقال: يا نبيّ اللّه، بأكل و رزق و مدّة، أم

ص: 628


1- ودك الميت: ما يسيل منه.
2- تفسير روح البيان 38:2.

بغير أكل و لا رزق و لا مدّة ؟ فقال له عيسى: بأكل و رزق و مدّة، و تعمّر عشرين سنة، و تزوّج و يولد لك.

قال: نعم [إذا] قال: فدفعه عيسى إلى امّه، فعاش عشرين سنة، [و تزوّج] و ولد له »(1).

نقل أنّه كان يحيي الموتى ب (يا حيّ و يا قيّوم )(2).

في إحياء خاتم النبيين جمعا من الأموات

ثمّ اعلم أنّه كان لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله هذه المعجزة، روي في (الاحتجاج): عن الحسين بن علي عليهما السّلام (3) ،و في (التوحيد): عن الرضا عليه السّلام، في حديث: «لقد اجتمعت قريش إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجّه معهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال له: أذهب إلى الجبّانة (4) ،فناد بأسماء هؤلاء الرّهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان، [و يا فلان و] يا فلان، يقول لكم محمّد [رسول اللّه] صلّى اللّه عليه و آله: قوموا بإذن اللّه، فقاموا ينفضون التّراب عن رءوسهم، و أقبلت قريش تسألهم عن امورهم، ثمّ أخبروهم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد بعث نبيّا، و قالوا:

وددنا أنّا كنّا أدركناه، فنؤمن به» الخبر.

و من المعلوم أنّ هذا الإحياء أعجب من إحياء عيسى عليه السّلام بمراتب.

و روي عنهم عليهم السّلام أنّه صلّى اللّه عليه و آله أبرأ الأكمه و الأبرص و المجانين، و كلّمه البهائم و الطير [و الجنّ ] و الشياطين(5).

ثمّ أخبر اللّه بأعظم معجزاته الباهرة، و هو إخباره بالمغيّبات، بقوله: وَ أُنَبِّئُكُمْ و اخبركم بِما تَأْكُلُونَ من أنواع المأكولات وَ ما تَدَّخِرُونَ من شيء، و تخفونه من متاع فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الخوارق للعادات لَآيَةً عظيمة و دليلا واضحا لَكُمْ على صدق دعواي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بآية من الآيات.

عن القمّي: عن الباقر عليه السّلام: «أنّ عيسى عليه السّلام كان يقول لبني إسرائيل: إنّي رسول اللّه إليكم، و إنّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ

و الأكمه: هو الأعمى، قالوا: ما نرى الذي تصنع إلاّ سحرا، فأرنا آية نعلم أنّك صادق، قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ يقول: ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا، و ما

ص: 629


1- الكافي 532/337:8، تفسير العياشي 690/308:1، تفسير الصافي 313:1.
2- تفسير روح البيان 400:1.
3- كذا في تفسير الصافي 314:1 أيضا، و الحديث الآتي مرويّ في الاحتجاج عن الامام الرضا عليه السّلام.
4- الجبّانة: المقبرة.
5- التوحيد: 1/423، الاحتجاج: 419، تفسير الصافي 314:1.

ادّخرتم باللّيل، تعلمون أنّي صادق ؟ قالوا: نعم، و كان يقول: أنت أكلت كذا و كذا، و شربت كذا و كذا، و رفعت كذا و كذا، فمنهم من يقبل منه فيؤمن، و منهم من [ينكر] فيكفر »(1).

قيل: و يخبر الصّبيان و هو في المكتب، بما يصنع أهلهم، و بما يأكلون و يخبّئون لهم، و كان الصّبي ينطلق إلى أهله و يبكي عليهم حتّى يعطوه ما خبّئوا له، ثمّ قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا السّاحر. الخبر(2).

وهم و دفع

ثمّ اعلم أنّ صدور هذه المعجزة من نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أكثر من أن يحصى.

فإن قيل: إنّ طرق الإخبار بالغيب لا تنحصر بالوحي و الإعجاز، بل يمكن بطريق علم النّجوم و الجفر.

قلنا: هذه الطرق محتاجة إلى التّعلّم و الاستعانة بالآيات، و تقدّم السؤال، و التّفكّر في الحساب، و كلّ ذلك كان منتفيا في إخبار الأنبياء، فلا بدّ أن يكون بالوحي و الإلهام.

سورة آل عمران (3): الآیات 50 الی 51

اشارة

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

سورة آل عمران (3): آیة 50

ثمّ أنّه عليه السّلام بعد ما أخبر بمعجزاته و أتى بها، بيّن ما ارسل به بقوله: وَ إنّي جئتكم لأكون مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ و ما تقدّمني مِنَ التَّوْراةِ و تقرير غالب أحكامها، و بيان أسرارها، و حلّ مشكلاتها و غوامضها، و إزالة شبهات منكريها، و دفع التّحريف منها وَ لِأُحِلَّ و ارخّص لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أكله في شريعة موسى من لحوم السّمك، و لحوم الإبل، و الشّحوم.

قيل: كان الأحبار قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة، و نسبوها إلى موسى عليه السّلام، فجاء عيسى عليه السّلام و رفعها و أبطلها، و أعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السّلام(3).

ثمّ أنّ اللّه قد حرّم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، ثمّ جاء عيسى عليه السّلام و رفع بعض التّشديدات عنهم.

ص: 630


1- تفسير القمي 102:1، تفسير الصافي 313:1.
2- تفسير روح البيان 38:2، تفسير الرازي 57:8. (3و3) تفسير الرازي 59:8.

و قيل: إنّ عيسى عليه السّلام رفع كثيرا من أحكام التّوراة، و لم يكن قادحا في كونه مصدّقا بالتّوراة(1).

عن العيّاشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «كان بين داود و عيسى بن مريم أربعمائة سنة، و كانت شريعة عيسى عليه السّلام أنّه بعث بالتّوحيد و الإخلاص، و بما أوصى به نوح و إبراهيم و موسى عليهم السّلام، و انزل عليه الإنجيل، و اخذ عليه الميثاق الذي اخذ على النّبيّين، و شرّع له في الكتاب إقام الصّلاة مع الدّين، و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و تحريم الحرام و تحليل الحلال، و انزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال و حدود، ليس فيها قصاص و لا أحكام حدود، و لا فرض مواريث، و انزل [عليه] تخفيف ما كان [نزل] على موسى في التّوراة، و هو قول اللّه عزّ و جلّ في الذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ و أمر عيسى من معه ممّن يتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التّوراة و الإنجيل» (2).

ثمّ أعاد قوله: وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ عظيمة، شاهدة على رسالتي، كائنة مِنْ رَبِّكُمْ للإنجاع في القلوب، و ازدياد التّأثير في الطّباع المألوفة بالعادات.

ثمّ خوّفهم بقوله: فَاتَّقُوا اللّهَ و خافوه في تكذيبي و مخالفة أحكامي وَ أَطِيعُونِ في أوامري و نواهي.

سورة آل عمران (3): آیة 51

و يحتمل أن يراد من الآية التي جاء بها قوله: إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ و فيه دعوة إلى التّوحيد الخالص، و إشعار بأنّ أوّل الكمال و أعلى الفضائل هو الحكمة النّظريّة التي غايتها معرفة اللّه بالوحدانيّة ذاتا و صفاتا و أفعالا، و في قوله: فَاعْبُدُوهُ دعوة إلى الكمال الثاني، و هو الحكمة العمليّة، و هي القيام بالطّاعة، و وظائف العبودية.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: هذا الذي هديتكم إليه من التّوحيد و العبادة صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ و طريق سويّ يوصلكم إلى محلّ القرب، و أوج الكرامة، و مستقرّ الرّحمة، و نعم الجنّة.

و وجه كونه آية صدقه أنّ ما دعا إليه ممّا يشهد به العقل المتين و الحقّ الذي اتّفق عليه جميع الأنبياء و المرسلين.

سورة آل عمران (3): الآیات 52 الی 54

اشارة

فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ

ص: 631


1- تفسير العياشي 691/309:1، تفسير الصافي 314:1.

أَنْصارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)

سورة آل عمران (3): آیة 52

ثمّ أنّه - بعد البشارة بولادته، و علوّ مقامه، و بهور معجزاته، و حسن دعوته - بيّن أنّ النّاس مع جميع ذلك، عارضوه بالكفر و الجحود، بقوله: فَلَمّا أَحَسَّ و شاهد عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ بأن سمع منهم صريح الإنكار، أو تيقّن به بحيث صار كالمحسوس له، و عرف عزمهم على قتله.

في بدو ظهور أمر عيسى عليه السّلام

قيل: إنّ اليهود كانوا عارفين بأنّه هو المسيح المبشّر به في التّوراة، و أنّه ينسخ دينهم، فأخذوا في الطّعن عليه، و صمّموا على قتله، فلمّا أظهر الدّعوة اشتدّ غضبهم، و أصرّوا في إيذائه و إيحاشه، و طلب قتله(1).

و قيل: إنّه تعالى لمّا بعثه رسولا إلى بني إسرائيل، جاءهم و دعاهم إلى دين اللّه، فتمرّدوا و عصوا، فخافهم و اختفى عنهم، و كان أمر عيسى عليه السّلام في قومه كأمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكّة، فكان مستضعفا، و كان يختفي من بني إسرائيل، كما اختفى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الغار و في منازل من آمن به لمّا أرادوا قتله.

ثمّ أنّه عليه السّلام خرج مع امّه يسيحان في الأرض، فاتّفق أنّه نزل [في] قرية على رجل فأحسن الرجل ضيافته، و كان في المدينة ملك جبّار، فجاء ذلك الرّجل يوما حزينا، فسأله عيسى عليه السّلام عن السّبب، فقال: ملك هذه المدينة رجل جبّار، و من عادته أنّه جعل على كلّ رجل منّا يوما يطعمه و يسقيه هو و جنوده، و هذا اليوم نوبتي، و الأمر متعذّر عليّ .

فلمّا سمعت مريم ذلك قالت: يا بني ادع اللّه ليكفي ذلك، فقال: يا امّاه، إن فعلت ذلك كان فيه الشّرّ، فقالت: قد أحسن و أكرم، و لا بدّ من إكرامه. فقال عيسى عليه السّلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك و خوابيك ماء ثمّ أعلمني، فلمّا فعل ذلك دعا اللّه تعالى، فتحوّل ما في القدور طبيخا، و ما في الخوابي خمرا، فلمّا جا الملك أكل و شرب، و سأله: من أين هذا الخمر؟ فتعلّل الرّجل في الجواب، فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتّى أخبره بالواقعة.

فقال: إنّ من دعا اللّه حتّى جعل الماء خمرا، إذا دعا أن يحيي اللّه ولدي لا بدّ و أن يجاب. و كان ابنه قد مات قبل ذلك بأيّام، فدعا عيسى عليه السّلام و طلب منه ذلك، فقال عيسى عليه السّلام: لا تفعل، فإنّه إن عاش

ص: 632


1- تفسير الرازي 61:8.

كان شرّا، فقال: ما ابالي ما كان إذا رأيته، و إن أحييته تركتك على ما تفعل، فدعا اللّه عيسى، فعاش الغلام، فلمّا رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسّلاح و اقتتلوا، و صار أمر عيسى مشهورا في الخلق، و قصده اليهود (1) ،و أظهروا الطّعن فيه، و الكفر به(2).

فإذن قالَ عيسى عليه السّلام لمن آمن به و صدّقه: مَنْ أَنْصارِي و أعواني منكم؛ حال كونه سالكا و متوجّها إِلَى اللّهِ بطاعته و نصرة دينه ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ و هم صفوة أصحابه و خلّص المؤمنين به.

في وجه تسمية اثني عشر من أصحاب عيسى بالحواريين

عن (العيون): عن الرّضا عليه السّلام أنّه سئل لم سمّي الحواريّون حواريّين ؟

قال: «أمّا عند النّاس، فإنّهم سمّوا حواريّين؛ لأنّهم كانوا قصّارين يخلّصون الثّياب من الوسخ بالغسل، و هو اسم مشتقّ من الخبز الحوّار (3) ،و أمّا عندنا فسمّي الحواريّون حواريّين؛ لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم، و مخلّصين غيرهم من أوساخ الذّنوب بالوعظ و التّذكير »(4).

و عن (التوحيد): عنه عليه السّلام: «أنّهم كانوا اثني عشر رجلا، و كان أفضلهم و أعلمهم لوقا »(5).

و قيل: كان بعضهم من الملوك، و بعضهم من صيّادي السّمك، و بعضهم من القصّارين (6) ،و بعضهم من الصبّاغين(7).

نقل أنّ عيسى عليه السّلام لمّا دعا بني إسرائيل إلى الدّين و تمرّدوا عليه، فرّ منهم و أخذ يسيح في الأرض، فمرّ بجماعة من صيّادي السّمك، و كان فيهم شمعون و يعقوب و يوحنّا أبناء زبدي؛ و هم من جملة الحواريّين الاثني عشر، فقال عيسى عليه السّلام: الآن تصيد السّمك، فإن اتّبعتني صرت بحيث تصيد النّاس لحياة الأبد، فطلبوا منه المعجزة، و كان شمعون قد رمى شبكته تلك اللّيلة في الماء، فما اصطاد شيئا، فأمره عيسى عليه السّلام بإلقاء شبكته في الماء مرّة أخرى، فاجتمع في تلك الشّبكة من السّمك ما كادت تتمزّق منه، فاستعان بأهل سفينة اخرى، و ملئوا السّفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السّلام(8).

و قيل: إنّ واحدا من الملوك صنع طعاما و جمع النّاس عليه، و كان عيسى عليه السّلام على قصعة لا يزال

ص: 633


1- في تفسير الرازي: و قصد اليهود قتله.
2- تفسير الرازي 60:8.
3- كذا، و الحوّارى، هو الدقيق الأبيض، و هو لباب الدقيق. و خبز الحوّارى: الخبز المعمول من هذا الدقيق.
4- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 10/79:2، تفسير الصافي 315:1.
5- التوحيد: 1/421، تفسير الصافي 315:1، و في التوحيد: الوقا، بدل: لوقا.
6- القصّار: المبيّض للثياب.
7- تفسير أبي السعود 42:2.
8- تفسير الرازي 61:8.

يأكل منها و لا تنقص، فذكروا ذلك للملك، فاستدعاه عليه السّلام [و] قال له: من أنت ؟ قال: أنا عيسى بن مريم، فترك ملكه و تبعه مع أقاربه، فاولئك هم الحواريّون(1).

و قيل: إنّه سلّمته امّه إلى صبّاغ، فأراد الصّبّاغ يوما أن يشتغل ببعض مهمّاته، فقال له عليه السّلام: هاهنا ثياب مختلفة قد جعلت لكلّ واحد منها علامة معيّنة، فاصبغها بتلك الألوان فغاب، فجعل عليه السّلام كلّها في جبّ واحد، فقال: كوني بإذن اللّه كما اريد، فرجع الصّبّاغ فسأله، فأخبره بما صنع، فقال: أفسدت عليّ الثّياب! قال: قم فانظر، فجعل يخرج ثوبا أحمر، و ثوبا أخضر، و ثوبا أصفر، إلى أن أخرج الجميع على أحسن ما يكون حسب ما كان يريد، فتعجّب منه الحاضرون و آمنوا به عليه السّلام، و هم الحواريّون(2).

قيل: إنّهم كانوا إذا جاعوا قالوا: جعنا يا روح اللّه، فيضرب بيده الأرض، فيخرج منها لكلّ واحد رغيفان، و إذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون، فقالوا يوما: من أفضل منّا؟ قال عليه السّلام: أفضل منكم من يعمل بيده، و يأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثّياب بالاجرة(3).

و قيل: إنّه عليه السّلام قال للحواريّين الاثني عشر: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ ؟ و هذا لمّا طلبته اليهود للقتل، و كان هو في الهرب منهم، فأراد: أيّكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنّة على أن يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني؛ فأجابه إلى ذلك بعض، و ذلك قوله تعالى: نَحْنُ أَنْصارُ اللّهِ و حماة دينه، و أعوان أنبيائه في إعلاء كلمته، و دفاع أعدائه، حيث إنّا آمَنّا بِاللّهِ و الإيمان به مقتضي لمحبّته المقتضية لبذل النّفس و المال في سبيله وَ اشْهَدْ أنت يا نبيّ اللّه يوم القيامة، حين يشهد الرّسل على اممهم عند اللّه بِأَنّا مُسْلِمُونَ لك منقادون لأمرك، مخلصون في محبّتك و طاعتك.

سورة آل عمران (3): آیة 53

ثمّ توجّهوا إلى اللّه متضرّعين إليه بقولهم: رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ من الإنجيل وَ اتَّبَعْنَا بقلوبنا و جوارحنا اَلرَّسُولَ الذي أرسلته إلينا بالحقّ ، في جميع ما يأتي و ما يذر.

ثمّ أنّهم - بعد عرض الإيمان بالرّسول و بما جاء به، و إظهار الانقياد و الطّاعة له - سألوا رفعة المقام عند اللّه، و الدّخول في زمرة أوليائه الكرام بقوله: فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ لك بالتّوحيد، و لأنبيائك بالتّصديق، أو مع اولي العلم الذين قرنتهم بنفسك في آية شَهِدَ اللّهُ (4) ،أو مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و امّته الذين هم شهداء على جميع الامم، و هو مرويّ عن ابن عبّاس (5) ،أو مع الأنبياء الذين هم شهداء على

ص: 634


1- تفسير الرازي 64:8، تفسير أبي السعود 41:2.
2- تفسير أبي السعود 42:2.
3- تفسير أبي السعود 41:2.
4- آل عمران: 18/3.
5- مجمع البيان 757:2.

اممهم.

قيل: إنّه تعالى قد أجاب دعوتهم، و جعلهم أنبياء و رسلا، فأحيوا الموتى و صنعوا ما صنع عيسى عليه السّلام(1).

في اجتماع اليهود على قتل عيسى و رفعه إلى السماء

سورة آل عمران (3): آیة 54

ثمّ إنّ كفّار بني إسرائيل أصرّوا على عداوة عيسى عليه السّلام وَ مَكَرُوا به و سعوا خفية في قتله، بأن وكّلوا به من يقتله غيلة وَ مَكَرَ اللّهُ بأن دبّر ما يدفع القتل عنه، من رفعه إلى السّماء، و إلقاء شبهه على أحد محبّيه و حواريه، أو على الذي دلّ أعداءه عليه منهم.

قيل: إنّ يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السّلام، و كان جبرئيل لا يفارقه ساعة، فأمره أن يدخل بيتا فيه روزنة (2) ،فلمّا دخلوا البيت أخرجه جبرئيل من تلك الرّوزنة، و كان قد ألقى شبهه على غيره، فأخذوه و صلبوه(3).

وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ و أقواهم كيدا و تدبيرا، و أقدرهم على الإضرار بمن يريد الضّرر بأوليائه.

سورة آل عمران (3): آیة 55

اشارة

إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

سورة آل عمران (3): آیة 55

ثمّ بيّن اللّه أنّ ذلك المكر كان إِذْ قالَ اللّهُ و حين أوحى إليه بلا واسطة جبرئيل: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ و قابضك كاملا من الأرض، أو متوفّي أجلك المسمّى، عاصما إيّاك من قتلهم وَ رافِعُكَ إِلَيَّ و إلى محلّ كرامتي و مقرّ ملائكتي، بروحك و جسدك وَ مُطَهِّرُكَ و مخلّصك مِنَ أيدي اَلَّذِينَ كَفَرُوا و من سوء جوارهم، و خبث مرافقتهم.

قيل: إنّ اليهود لمّا عزموا على قتله، اجتمع الحواريّون في غرفة، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر بهم إبليس جميع اليهود، فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة، فقال المسيح للحواريّين: أيّكم يخرج و يقتل و يكون معي في الجنّة، فقال واحد منهم: أنا يا نبيّ اللّه، فألقى عليه مدرعة من صوف و عمامة من صوف، و ناوله عكّازة، و القي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود

ص: 635


1- تفسير الرازي 64:8.
2- الرّوزنة: هي الكوّة في الحائط ، غير نافذة يوضع فيها المصباح، و تسمى بالمشكاة.
3- تفسير الرازي 65:8.

فقتلوه و صلبوه(1).

و في رواية عن ابن عبّاس: فقال الملك لرجل خبيث منهم: ادخل عليه فاقتله، فدخل البيت، فألقى اللّه عزّ و جلّ شبهه عليه، فخرج يخبرهم أنّه ليس في البيت، فقتلوه و صلبوه(2).

و قيل: إنّه عليه السّلام جمع الحواريّين ليلة و أوصاهم، ثمّ قال: ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الدّيك و يبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا و تفرّقوا، و كانت اليهود تطلبه، فنافق أحدهم فقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح، فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها و دلّهم عليه، فالقي عليه شبه عيسى عليه السّلام، فرفعه إلى السماء، فأخذوا المنافق و هو يقول: أنا دليلكم، فلم يلتفتوا إلى قوله و صلبوه، ثمّ قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى و بدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، و إن كان صاحبنا فأين عيسى ؟! فوقع بينهم قتال عظيم(3).

قيل: حملت مريم عليها السّلام بعيسى عليه السّلام و هي بنت ثلاث عشرة سنة، و وضعته ببيت لحم من أرض أورشليم، لمضي خمس و ستّين سنة من غلبة الاسكندر على أرض بابل، و أوحي إليه على رأس ثلاثين سنة، و رفعه اللّه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان، و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، و عاشت امّه بعد رفعه ستّ سنين(4).

و قيل: لمّا صلب المصلوب جاءت مريم عليها السّلام و معها امرأة أبرأها اللّه من الجنون بدعاء عيسى عليه السّلام، و جعلتا تبكيان على المصلوب، فأنزل اللّه عيسى عليه السّلام فجاءهما فقال: علام تبكيان ؟ [فقالتا: عليك].

فقال: إنّ اللّه تعالى رفعني، و لم يصبني إلاّ خير، و إنّ هذا شيء شبّه لهم(5).

قيل: إنّ اللّه تعالى كساه الرّيش و النّور، و ألبسه النّور، و قطع عنه شهوة المطعم و المشرب، فطار مع الملائكة(6).

في افتراق أصحاب عيسى عليه السّلام بعد رفعه على ثلاث فرق

ثمّ أنّ أصحابه حين رأوا ذلك تفرّقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان اللّه فينا ثمّ صعد إلى السّماء، و هم اليعقوبيّة، و قالت فرقة اخرى: كان فينا ابن اللّه ما شاء اللّه ثمّ رفعه

ص: 636


1- تفسير أبي السعود 43:2.
2- تفسير روح البيان 40:2، و الرواية ليست عن ابن عبّاس.
3- تفسير أبي السعود 42:2.
4- تفسير أبي السعود 43:2.
5- تفسير أبي السعود 43:2، تفسير روح البيان 40:2.
6- تفسير أبي السعود 44:2، تفسير روح البيان 40:2.

إليه، و هم النّطوريّة (1) ،و قالت فرقة اخرى منهم: كان فينا عبد اللّه و رسوله ما شاء اللّه، فرفعه اللّه إليه، و هؤلاء المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم، فلم يزل الإسلام منطمسا إلى أن بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ اعلم أنّه لمّا كان النّصارى معتقدين بأنّ اليهود أخذوا المسيح و صلبوه في مشهد جمّ غفير من النّاس، و كانوا يستهزءون به و يسخرون منه و هو مصلوب، حتّى شهق على الخشبة شهقة و مات، و كان قتل النبيّ خصوصا بهذه الذّلّة و المهانة من أعظم المصائب على امّته و من يعتقد بنبوّته، كان إخبار اللّه تعالى في كتابه المنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إخبار الرّسول بكذب القائلين بوقوع هذه الامور، و تخطئة النّصارى في هذا الاعتقاد، و قوله صلّى اللّه عليه و آله بأنّه ما قتل و ما صلب و ما أصابه وهن و ضرّ، بل رفعه اللّه حيّا في غاية الكرامة إلى السّماء، و كان المقتول و المصلوب عدوّه، أو المنافق الدّالّ عليه أو غيرهما، تسلية عظيمة للنّصارى و محبّي عيسى عليه السّلام، فينطبق على نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله جميع ما أخبر عيسى عليه السّلام حواريّيه بمجيء مسلّ بعده، و أمره إيّاهم بطاعته و استماع قوله، حيث لم يجئ أحد بعده بهذه الصّفة إلاّ خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله.

في إخبار عيسى ببعثة خاتم النبيين

و في إنجيل يوحنّا المترجم بالفارسية: (اين سخنان را بشما گفتم وقتى كه با شما بودم، لكن تسلّى دهنده؛ يعنى روح القدس، كه پدر او را باسم من مى فرستند او همه چيز را بشما تعليم خواهد داد و آنچه بشما گفتم به ياد شما خواهد آوريد).

إلى أن قال: (و الآن قبل از وقوع، بشما گفتم تا وقتى كه واقع گردد ايمان آوريد، بعد از اين بسيار با شما نخواهم گفت، زيراكه رئيس اين جهان ميايد و در من چيزى ندارد).

إلى أن قال: (لكن چون تسلّى دهنده كه او را از جانب پدر نزد شما مى فرستم آيد، يعنى روح راستى كه از پدر صادر مى گردد او بر من شهادت خواهد داد.

إلى أن قال: (و من بشما راست مى گويم كه رفتن من براى شما مفيد است، زيرا اگر نروم تسلّى دهنده نزد شما نخواهد آمد، امّا اگر بروم او را نزد شما مى فرستم، و چون او آيد جهان را بر [عدم] گناه و عدالت و داورى ملزم خواهد نمود )(2).

ص: 637


1- كذا، و الظاهر أنها النّسطوريّة.
2- جاء في النسخة العربية من انجيل يوحنا - الاصحاح (14-16): و أمّا المعزّي الرّوح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلّمكم كلّ شيء و يذكّركم بكلّ ما قتله لكم - إلى أن قال: - و قلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون. لا أتكلّم أيضا معكم كثيرا لأنّ رئيس هذا العالم يأتي و ليس له فيّ شيء - إلى أن قال: - و متى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي - إلى أن قال: - لكني أقول لكم إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. و لكن إن ذهبت أرسله إليكم. و متى جاء ذاك يبكّت العالم على خطيّة و على بر و على دينونة.

إن قيل: إن جوّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان لزم السّفسطة بحيث يحتمل أنّ كلّ من نراه يكون غيره تصوّر بصورته، و يلزم بطلان الشّرائع، إذ الشّرائع لا تثبت إلاّ بالأخبار المتواترة عن المحسوسات، فإذا احتمل الخطأ في الحسّ و وقوع الغلط فيه، لا نقطع بقولهم: إنّ النبيّ قال كذا، أو فعل كذا، و أنّهم رأوا النبيّ ، بل يحتمل أنّهم رأوا غير النبيّ بصورته.

و فيه: أنّ وقوع هذا الأمر بالمعجزة في مورد لا يوجب الشّكّ في سائر الموارد، كما أنّ مسخ الإنسان قردا أو خنزيرا لا يوجب احتمال أنّ كلّ خنزير تراه كان إنسانا متصوّرا بصورة الخنزير، مع أنّ المسخ مسلّم الوقوع في بعض الامم، أو إذا رأينا أنّ موسى ألقى عصاه فصارت ثعبانا، لا يحتمل أن ينقلب كلّ خشب ثعبانا.

و الحاصل: أنّ الإعجاز سبب انقلاب صورة بصورة، فإذا لم يحتمل وجود السّبب، لا يحتمل وجود المسبّب.

إن قيل: إنّ جبرئيل كان ملازما لعيسى، و كان قادرا على إهلاك اليهود، و كذا عيسى كان قادرا على إحياء الموتى و إماتة الأحياء، فكانا قادرين على إهلاك جميع اليهود.

قلنا: كان صلاح النّظام في رفعه إلى السّماء، و حفظه عن اليهود بهذا النّحو، و كان من صلاحه أن يكون حجّة على من ينكر طول عمر الحجّة بن الحسن عليه السّلام، لشبهة امتناع بقاء الإنسان في هذا المقدار من الزّمان الطّويل بلا شيب و هرم.

إن قيل: إنّ النّصارى على كثرتهم في مشارق الأرض و مغاربها، و شدّة محبّتهم للمسيح، أخبروا أنّهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلوا أنكرنا ذلك كان طعنا فيما ثبت بالتّواتر، و هذا يوجب الطّعن في نبوّة خاتم النّبيّين.

قلنا: إنّما ثبت بالتّواتر أنّهم رأوا من كان بصورة عيسى مقتولا، و لو لا إخبار اللّه بخطئهم في الحسّ ، لقطعنا بقتل عيسى عليه السّلام. و أمّا الإشكال في جواز الخطأ في الحسّ فهو الإشكال الأوّل، و جوابه جوابه.

ص: 638

إن قيل: إنّه ثبت بالتّواتر أنّ المصلوب بقي حيّا زمانا طويلا، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع و لقال: إنّي لست بعيسى، بل إنّما أنا غيره، و لبالغ في تعريف ذلك، و لو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق، فلمّا لم يكن من ذلك أثر، و لم يوجد في دفتر، علمنا أنّه ليس الأمر كما ذكر.

قلنا: أمّا على تقدير كون المصلوب مؤمنا قد قبل هذا الأمر لنفسه، فهو لم يكن يظهر الأمر البتّة، و أمّا على تقدير كونه عدوّا، أو مؤمنا منافقا، فقد نقل أنّه أظهر ذلك، و قال: إنّي لست بعيسى، فلم يقبلوا منه، و كان عاجزا عن إثبات دعواه.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بشّره بالبشارتين الرّاجعتين إلى نفسه المقدّسة، بشّره بكرامة أتباعه المؤمنين به حقّ الإيمان بقوله: وَ إنّي جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ في العقائد و الأعمال، و آمنوا بك حقّ الإيمان، و لم يغلوا فيك كمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و أتباعه المؤمنين به فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك من اليهود المكذّبين، و النّصارى الغالين فيك، بالغلبة عليهم بالسّيف، و العزّة و الحجّة، من الآن إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و جاعل الذين خالفوك تحت سلطان المؤمنين، أذلاّء مقهورين ثُمَّ إِلَيَّ في يوم القيامة مَرْجِعُكُمْ

و مرجع مخالفيكم بالبعث و النّشور فَأَحْكُمُ إثر رجوعكم إليّ في ذلك اليوم بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ

في الدّنيا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ و تتنازعون من الكفر و الإيمان، و العقائد و الأعمال.

سورة آل عمران (3): آیة 56

اشارة

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

سورة آل عمران (3): آیة 56

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة حكومته بينهم مفصّلا بقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه، و جحدوا رسالتك و دينك فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل، و السّبي، و الذّلّة، و المسكنة، و أخذ الجزية، و الأمراض و المصائب التي هي العقوبات الزائدة في حقّ الكفّار على عقوبات الآخرة، و من ألطافه تعالى في حقّ المؤمنين، لكونه ابتلاء لهم، و رفع درجة. و في اَلْآخِرَةِ بالنّار، و السّلاسل و الأغلال، و سائر ما اعدّ للكفّار وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ و حامين ينجونهم من أحد العذابين فضلا عن كليهما.

ص: 639

ص: 640

فهرس المحتوى

مقدمة المؤسسة 5

مقدمة التحقيق 7

ترجمة المؤلف 11

هذا الكتاب 15

الطرفة الأولى 23

الطرفة الثانية 27

الطرفة الثالثة 29

الطرفة الرابعة 36

الطرفة الخامسة 40

الطرفة السادسة 51

الطرفة السابعة 54

الطرفة الثامنة 56

الطّرفة التّاسعة 59

الطّرفة العاشرة 61

الطّرفة الحادية عشرة 69

الطّرفة الثانية عشرة 71

الطّرفة الثالثة عشرة 71

ص: 641

الطّرفة الرابعة عشرة 74

الطّرفة الخامسة عشرة 75

الطّرفة السادسة عشرة 78

الطّرفة السابعة عشرة 83

الطّرفة الثامنة عشرة 85

الطرفة التاسعة عشرة 93

الطرفة العشرون 98

الطرفة الحادية و العشرون 109

الطرفة الثانية و العشرون 110

الطرفة الثالثة و العشرون 115

الطرفة الرّابعة و العشرون 120

الطرفة الخامسة و العشرون 122

الطرفة السادسة و العشرون 123

الطرفة السّابعة و العشرون 128

الطرفة الثامنة و العشرون 132

الطرفة التاسعة و العشرون 134

الطرفة الثلاثون 135

الطرفة الحادية و الثلاثون 137

الطرفة الثانية و الثلاثون 142

الطرفة الثّالثة و الثلاثون 145

الطرفة الرابعة و الثلاثون 147

الطرفة الخامسة و الثلاثون 149

الطرفة السّادسة و الثّلاثون 151

الطرفة السّابعة و الثّلاثون 153

ص: 642

الطرفة الثّامنة و الثّلاثون 155

الطرفة التّاسعة و الثّلاثون 156

الطرفة الأربعون 166

خاتمة 173

في تفسير الاستعاذة أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم 175

في تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) 179

في تفسير فاتحة الكتاب 185

[1-7] بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم 185

في تفسير سورة البقرة 193

[1-3] بسم الله الرحمن الرحيم ا لم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين 193

[4 و 5] و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون 195

[6 و 7] إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون 197

[8 و 9] و من الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين 207

[10-12] فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا و لهم عذاب أليم 208

[13-16] و إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أ نؤمن كما آمن السفهاء 211

[17-20] مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله 215

[21 و 22] يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم 219

[23 و 24] و إن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله 222

[25] و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى 226

[26-29] إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين 235

[30-32] و إذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أ تجعل 240

[33] قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال أ لم أقل 244

[34] و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر 244

[35 و 36] و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما 246

ص: 643

[37] فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم 252

[38] قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي 254

[39] و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 255

[40] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم و أوفوا بعهدى 255

[41 و 42] و آمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم و لا تكونوا أول كافر به 256

[43] و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اركعوا مع الراكعين 257

[44] أ تامرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب أ فلا تعقلون 257

[45 و 46] و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين 259

[47 و 48] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم و أنى 260

[49] و إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون 262

[50-52] و إذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون و أنتم 263

[53] و إذ آتينا موسى الكتاب و الفرقان لعلكم تهتدون 264

[54] و إذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل 264

[55 و 56] و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم 265

[57] و ظللنا عليكم الغمام و أنزلنا عليكم المن و السلوى كلوا من طيبات 266

[58 و 59] و إذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا 267

[60] و إذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت 268

[61] و إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج 269

[62] إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله 270

[63 و 64] و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة 271

[65 و 66] و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة 273

[67-73] و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أ تتخذنا 274

[74] ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة و إن 277

[75] أ فتطمعون أن يؤمنوا لكم و قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله 279

ص: 644

[76-78] و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلا بعضهم إلى بعض 280

[79] فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله 282

[80 و 81] و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله 283

[82] و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم 284

[83] و إذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدون إلا الله و بالوالدين إحسانا 285

[84 و 85] و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم و لا تخرجون أنفسكم 289

[86] أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب 291

[87-89] و لقد آتينا موسى الكتاب و قفينا من بعده بالرسل و آتينا عيسى 291

[90] بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله 293

[91] و إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا 294

[92 و 93] و لقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده و أنتم 295

[94 و 95] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس 296

[96] و لتجدنهم أحرص الناس على حياة و من الذين أشركوا يود أحدهم 298

[97 و 98] قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا 299

[99 و 100] و لقد أنزلنا إليك آيات بينات و ما يكفر بها إلا الفاسقون * أو كلما 300

[101] و لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من 301

[102 و 103] و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان و ما كفر 302

[104 و 105] يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا و اسمعوا 305

[106] ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ا لم تعلم 307

[107] ا لم تعلم أن الله له ملك السماوات و الأرض و ما لكم من دون الله 308

[108] أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل و من 308

[109] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا 309

[110] و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه 310

[111 و 112] و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك 311

ص: 645

[113 و 114] و قالت اليهود ليست النصارى على شىء و قالت النصارى 313

[115] و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم 315

[116] و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما فى السماوات و الأرض 317

[117] بديع السماوات و الأرض و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 317

[118] و قال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال 318

[119] إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا و لا تسأل عن أصحاب الجحيم 319

[120] و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى 320

[121] الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به و من يكفر 321

[122 و 123] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم و أنى 322

[124] و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما 322

[125] و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا و اتخذوا من مقام إبراهيم 327

[126] و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا و ارزق أهله من الثمرات 329

[127-129] و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك 329

[130] و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه و لقد اصطفيناه فى الدنيا 335

[131 و 132] إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * و وصى بها 336

[133] أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون 337

[134] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسألون عما 338

[135] و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا و ما 338

[136] قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق 339

[137] فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما هم فى شقاق 340

[138] صبغة الله و من أحسن من الله صبغة و نحن له عابدون 341

[139] قل أ تحاجوننا فى الله و هو ربنا و ربكم و لنا أعمالنا و لكم أعمالكم و نحن 342

[140 و 141] أم تقولون إن إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط 343

[142] سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله 344

ص: 646

[143] و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول 348

[144] قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول 351

[145] و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك و ما أنت بتابع 353

[146] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم 354

[147] الحق من ربك فلا تكونن من الممترين 355

[148] و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله 356

[149 و 150] و من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام و إنه 357

[151 و 152] كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا و يزكيكم 359

[153 و 154] يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة إن الله مع الصابرين 362

[155] و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس 364

[156] الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون 367

[157] أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون 368

[158] إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح 369

[159 و 160] إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه 371

[161 و 162] إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله 373

[163] و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم 374

[164] إن فى خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك 375

[165-167] و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله 381

[168 و 169] يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا و لا تتبعوا 384

[170] و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا 385

[171] و مثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء صم 386

[172 و 173] يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم و اشكروا لله 387

[174-176] إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب و يشترون به ثمنا قليلا 390

[177] ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر 392

ص: 647

[178 و 179] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر 395

[180-182] كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا 397

[183-185] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين 399

[186] و إذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع 404

[187] أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم و أنتم لباس 406

[188] و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا 409

[189] يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس و الحج و ليس البر بأن تأتوا 411

[190-193] و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله 414

[194 و 195] الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى 416

[196] و أتموا الحج و العمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى 419

[197] الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث و لا فسوق 422

[198] ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات 423

[199-202] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و استغفروا الله إن الله 425

[203] تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى و اتقوا الله و اعلموا أنكم إليه تحشرون 430

[204-206] و من الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا و يشهد الله على 431

[207] و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤف بالعباد 433

[208 و 209] يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة و لا تتبعوا خطوات 434

[210] هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ضلال من الغمام و الملائكة 436

[211] سل بنى إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة و من يبدل نعمة الله 438

[212] زين للذين كفروا الحياة الدنيا و يسخرون من الذين آمنوا و الذين 438

[213] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل 439

[214] أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا 443

[215] يسألونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين 444

[216] كتب عليكم القتال و هو كره لكم و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير 445

ص: 648

[217 و 218] يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير و صد 447

[219 و 220] يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس 450

[221] و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن و لأمة مؤمنة خير من مشركة 456

[222] و يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض 458

[223] نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله 461

[224] و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا و تتقوا و تصلحوا بين 463

[225-227] لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت 464

[228] و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء و لا يحل لهن أن يكتمن 466

[229 و 230] الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان و لا يحل لكم 469

[231] و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو 473

[232] و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن 474

[233] و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة 476

[234] و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر 479

[235-237] و لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم فى 480

[238 و 239] حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين 484

[240-242] و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى 487

[243 و 244] أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت 489

[245] من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة و الله 492

[246 و 247] أ لم تر إلى الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبى 493

[248] و قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من 497

[249] فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه 500

[250 و 251] و لما برزوا لجالوت و جنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبت 501

[252] تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق و إنك لمن المرسلين 504

[253] تلك الرسل فصلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم 505

ص: 649

[254] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه 507

[255] الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما فى السماوات 508

[256] لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن 512

[257] الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا 514

[258 و 259] أ لم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال 516

[260] و إذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أ و لم تؤمن قال بلى 523

[261] مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل 526

[262] الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى 527

[263] قول معروف و مغفرة خير من صدقة يتبعها أذى و الله غنى حليم 528

[264] يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى كالذى ينفق ماله 529

[265] و مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله و تثبيتا من أنفسهم 531

[266] أ يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل و أعناب تجرى من تحتها الأنهار 532

[267] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم 533

[268] الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا 535

[269] يؤتى الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا و ما 536

[270] و ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه و ما للظالمين 537

[271] إن تبدوا الصدقات فنعما هى و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لكم 538

[272] ليس عليك هداهم و لكن الله يهدى من يشاء و ما تنفقوا من خير 539

[273] للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الأرض 541

[274-276] الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فلهم أجرهم 542

[277] إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة لهم 547

[278-280] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين 548

[281] و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم 550

[282 و 283] يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه 551

ص: 650

[284] لله ما فى السماوات و ما فى الأرض و إن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه 561

[285] آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته 563

[286] لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ربنا 566

في تفسير سورة آل عمران 571

[1 و 2] بسم الله الرحمن الرحيم ا لم * الله لا إله إلا هو الحى القيوم 571

[3 و 4] نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و أنزل التوراة و الإنجيل 573

[5 و 6] إن الله لا يخفى عليه شىء في الأرض و لا في السماء * هو الذى 575

[7] هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر 578

[8 و 9] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت 582

[10] إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا و أولئك 583

[11 و 12] كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله 584

[13] قد كان لكم آية فى فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله و أخرى كافرة 586

[14] زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من 588

[15] قل أ أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها 591

[16 و 17] الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا و قنا عذاب النار 592

[18] شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط لا إله 593

[19] إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما 594

[20] فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله و من اتبعن و قل للذين أوتوا الكتاب 595

[21 و 22] إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون 596

[23] أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم 597

[24] ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات و غرهم فى دينهم 598

[25] فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه و وفيت كل نفس ما كسبت و هم 599

[26 و 27] قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء و تنزع الملك 600

[28] لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين و من يفعل ذلك 602

ص: 651

[29] قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله و يعلم ما فى السماوات 603

[30 و 31] يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود 604

[32] قل أطيعوا الله و الرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين 606

[33 و 34] إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين 607

[35-37] إذ قالت امرأت عمران رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررا فتقبل 611

[38 و 39] هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك 616

[40 و 41] قال رب أنى يكون لى غلام و قد بلغنى الكبر و امرأتى عاقر قال 618

[42] و إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء 620

[43] يا مريم اقنتى لربك و اسجدى و اركعى مع الراكعين 621

[44] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم 622

[45] إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح 622

[46] و يكلم الناس فى المهد و كهلا و من الصالحين 623

[47] قالت رب أنى يكون لى ولد و لم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق 624

[48 و 49] و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل * و رسولا إلى 625

[50 و 51] و مصدقا لما بين يدى من التوراة و لأحل لكم بعض الذى حرم 630

[52-54] فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال 631

[55] إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك و رافعك إلى و مطهرك من الذين كفروا 635

[56] فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا فى الدنيا و الآخرة و ما لهم من 639

ص: 652

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.