خصومة فاطمة عند ابن عثیمین المجلد 1

هوية الکتاب

ISBN 978-933-592-8-7 789933582482 و رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 2835 لسنة 2020 مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف LC:

BP80.I82 N33 2020 المؤلف الشخصي: نبيل، نبيل - مؤلف.

العنوان: خصومة فاطمة عليها السلام عند ابن عثيمين المتوفی (1421 ه): قراءة في المرتكزات الفكرية والمفاهمية في ضوء مقاصيدية القرآن والسنة / بيان المسؤولية: دراسة بينية السيد نبيل الحسني.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2020 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 2 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 804).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 184).

سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات في آل علي (عليه السلام)، الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام)؛ 5).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش. موضوع شخصي: العثيمين، محمد صالح، 1929 - 2001 - شبهات وردود موضوع شخصي: فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، 8 قبل الهجرة - 11 للهجرة - دفع مطاعن.

مصطلح موضوعي: أهل بيت الرسول عليهم السلام (الشيعة الامامية) - دفع مطاعن.

مصطلح موضوعي: الحديث - شرح. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الدراسات في آل علي (علیه السلام) (5) الصديقة الطاهرة فاطمة (علیها السلام) خصومة فاطمة عند ابن عثیمین قراءة في المرتکزات الفكرية والمفاهمية في ضوء مقاصدية القرآن والسنة دراسة بينية الجزء الأول (عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل يدرك به مايقول، أويفعل، أوما هو الصواب فيه، فنسأل الله أن يعفوا عنها، وعن هجرها خليفة رسول الله صلى الله عليه [واله] وسلم) (ابن عثيمين، المتوفى سنة 1421: شرح صحیح مسلم، کتاب الجهاد والسير) تألیف السيد نبيل الحسني الكربلائي اصدار العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1442 ه / 2020 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

الإهداء

إلی الطفولة المنحورة عند أعتاب الخلاقة... إلى السقط الشهيد المحسن بن علي بن أبي طالب (علیهما السلام)... إلى عبد الله الرضيع بن الحسين بن علي بن أبي طالب المذبوح على صدر أبيه (علیهم السلام)... إلى عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب المنحور بين و يدي عمه الحسين (علیهم السلام)... إلى القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب الشهيد الذي لم يراهق (علیهم السلام)... إلى اطفال آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) الذين استشهدوا وتيتموا وتشردوا بفتاوي الخلافة. أهدي كتابي هذا.

خاومکم نبیل

ص: 5

صورة

ص: 6

صورة

فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهِ عَنِ الْحَقِّ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلّی الله علیه وآله وسلم يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ. فَقَالَ عَلِي لأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ الْعَشِیَّةُ لِلْبَيْعَةِ. فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ صَلَاةَ الظُّهْرِ رَقِي عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِي وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ، وَلَکِنَّا کُنَّا نَرَى لَنَا فِي الأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتُبِدَّ عَلَیْنَا بِهِ، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ.

۞ قوله: «فَأَبَی أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيِتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلّی الله علیه وآله وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ». نسأل الله أن يعفو عنها، وإلا فأبو بكر رضي الله عنه ما استند إلى رأي، وإنما استند إلى نص، وكان عليها رضي الله عنه أن تقبل قول النبي صلّی الله علیه وآله: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ولكن كما قلت لكم قبل قليل عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل يُدْرِك به ما يقول أو ما يفعل، أو ما هو الصواب فيه؛ فنسأل الله أن يعفو عنها، وعن هجرها خليفة رسول الله صلّی الله علیه وآله.

وما فعله عليٌّ أمر عجيب، ولا يمكن أن نُخَطِّئ الصحابة رضي الله عنه في بيعة أبي بكر، ونُصَوِّب علي بن أبي طالب فيما رآه؛ لأن ما رآه علي رضي الله عنه مخالف لظاهر ما جاءت به السنة؛ يعني: أنه أحق من أبي بكر وغيره؛ لقرابته من رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلم، وذلك من وجوه:

أولًا: أن النبي صلّی الله علیه وآله وسلم حين استخلف في مرضه في صلاته، إنما خلَّف أبا بكر رضي الله عنه، وإمامة الصلاة إمامة صغرى؛ ولهذا يجب على المأمومين أن يتابعوا الإمام كما يجب على الرعية أن تطيع الإمام.

ثانيًا: أن النبي صلّی الله علیه وآله وسلم خلَّفه في قيادة الحجيج في السَّنة التاسعة، ولو كان غيره أولى منه في خلافة الرسول علیه الصلاة والسلام لاستخلفه، ولم يستخلف أبا بكر رضي الله عنه.

ثالثًا: أنه صلّی الله علیه وآله وسلم في مرضه قال: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَليَّ في مَالي وَصُحْبَتِي أَبُو بَكْرٍ، وَلَا يَبْقَى بَابٌ في الْمَسْجِدِ إِلا سُدَّ إلا بَابَ أَبِي بَكْرٍ». وهذا إشارة إلى أن أبا بكر سيكون هو الخليفة الذي يدخل إلى المسجد من باب بيته.

ص: 7

صورة

ص: 8

صورة

رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَی أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ(1)، [1] اللَّهُمَّ اعفُ عنها، وإلَّا فإن أبا بكر رضي الله عنه ما استند إلى رأي، وإنَّما استند إلى نصٍّ، وكان عليها أن تقبل قول النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا نُورَث، مَا تَرَکْنَا صَدَقَةٌ»، ولكن عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل يُدْرِك به ما يقول أو ما يفعل أو ما يتصرَّف فيه، فنسأل الله أن يعفو عنها عن هِجْرتها خليفةَ رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم.

فإذا قال قائل: ما الجمع بين فعل فاطمة رضي الله عنها، وقولِ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَحِلُّ لمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ»؟.

فالجواب: لعلها تری رضي الله عنها أن الهجر لسبب -ولو طال - لا بأس به، کما هَجَر ابن عمر رضي الله عنهما أحد أبنائه لمَّا حدَّثه أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا تمنعوا إِمَاء الله مساجد الله»، قال : والله لنَمْنَعهُنَّ، فأقبل عليه عبد الله بن عمر، وسبَّه سبًّا شديدًا، وقال: لا أكلِّمك ما حَيِيتُ(2)، فكأنهم يَرَوْن أن الهجر

ص: 9


1- أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم (6065)، ومسلم: کتاب البر والصلة، باب تحريم التحاسد والتباغض، رقم (2559 / 23) عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الهجرة، رقم (6077)، ومسلم: کتاب البر والصلة، باب تحریم الهجر فوق ثلاث، رقم (2560 / 25) عن أبي أيوب رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في الموضع السابق، رقم (6075)، ومسلم في الموضع السابق، رقم (2561 / 26) عن ابن عمر رضي الله عنهما
2- تقدم تخريجه (ص: 27)

ص: 10

مقدّمة الكتاب

«الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم، والثناء بما قدم من عموم نعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاء أسدها، وإحسان منن أولاها»(1).

«وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُولُه، أَرْسَلَه بِالدِّينِ الْمَشَهُورِ وَالْعَلَمِ الْمَأْثُورِ، وَالْکِتَابِ الْمَسْطُورِ وَالنُّورِ السَّاطِعِ، والضِّيَاءِ اللَّامِعِ والأَمْرِ الصَّادِعِ، إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ واحْتِجَاجاً بِالْبَیِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالآيَاتِ وَتَخْوِيفاً للْمَثُلَاتِ»(2).

وأن عترته وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا «هُمْ مَوْضِعُ سِرِّه ولَجأُ أَمْرِه، وعَيْبَةُ عِلْمِه ومَوْئِلُ حُكْمِه، وَکُهُوفُ کُتُبِه وجِبَالُ دِینِه، بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِه وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِه»(3).

و «هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَعِمَادُ الْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ یَفِيءُ الْغَالِي وَبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ، وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ والْوِرَاثَةُ»(4)، فصل اللهم عليه وعليهم صلاة تامة، ونامية، ومتواصلة، ومتصلة، بعدد ما أحاط به علمك، ومنتهی رحمتك وفضلك ولطفك واحسانك وبركاتك، إنّك حميد مجيد.

ص: 11


1- السقيفة وفدك للجوهري (ت 323 ه): ص 140؛ بلاغات النساء لابن طيفور (ت 380 ه): ص 15؛ دلائل الإمامة للطري الإمامي (ت 400 ه): ص 111
2- نهج البلاغة بتحقيق الشيخ قيس العطار: ص 80، ط: العتبة العلوية
3- نفس المصدر
4- نفس المصدر السابق: ص 83، 82

وألعن اللّهم اعدائهم، ومبغضيهم، والشاكين في فضلهم، والمانعين حقهم، والدافعين لهم عن مكانهم الذي وضعتهم فيه؛ وأحلل عليهم غضبك، ونقمتك، وعذابك أبد الأبد، ومنتهى العدد، حتی يرضي حبيبك وخيرتك من خلقك (صلى الله عليه وآله وسلم) ولن يرضى حتى ترضى بضعته، وصفيته، وقرة عينه، وقلبه، وروحه التي بين جنبيه، فاطمة المظلومة الشهيدة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).

أما بعد:

فإن النفس البشرية ومنذ أن دخلت عالم الاختبار، وجبلت على الاختيار والاقتدار في الأقوال والأفعال، فقد نشأ فيها التخاصم؛ وذلك لتأصل الخير والشر في النفوس إلا ما رحم ربي.

فبين مخاصم في حق، ومنازع في باطل، ومحاد في عداء، وملاد في أعتداء؛ فكان تاريخ البشرية مليء بالحوادث والمواقف والمشاهد من المخاصمة، والمنازعة، والمحاججة، والمحادة، والملادة؛ ليس بين بني البشر فحسب، بل بين الإنسان والله عز وجل «فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ»(1).

بل الإنسان عدو شرس في خصامه الله وأوليائه منذ أن بعث آدم (عليه السلام) وشرع في بيانه لإحكام الله عز وجل، فكان أول أعدائه ولده قابيل الذي ناصبه العداء وحاده إيما محاده .

ص: 12


1- سورة يس، الآية: 77

ولم يزل الأمر سارياً مع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) ومن آمن بهم ووالاهم، فقتل من قتل، وعُذَب من عذب، وشُرد من شرد.

حتى إذا انتهى بنا التاريخ الى سيرة سيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) وجدنا أن هذه السيرة لم تزل تأن من المحادة لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخاصم الله ورسوله آناء الليل وأطراف النهار.

فبين مجاهر بخصامه وبين مضمر، وبين معتذر عن خصم مبين، وملتمس لعدو لعين، ومنمق للباطل، وملمع لوجه القاتل، ظهرت أمم وأفلت أخرى، وهي لا تهتدي إلى حقيقة أن بعض أسيادها وقادتها ورؤسائها قد ضلوا وأضلوها السبيل.

والعلة في ذلك أنهم كانوا يوادون من حاد الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يكونوا في حقيقة أمرهم مؤمنين بما جاء من عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ قال تعالى:

«لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ»(1).

فتبعوا آبائهم وأبناءهم وأخوانهم وعشيرتهم، و أطاعوا كبرائهم وساداتهم وهم يعلمون أن كبرائهم وساداتهم يحادون الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخاصمونهما.

أو يتجاهلون ذلك ركوناً منهم إلى العصبية، وتلبساً في براثن الجاهلية،

ص: 13


1- سورة الحشر، الآية: 22

واستجابة إلى المطامع، واستئناساً بأماني المنافع، فكانوا شراكاً في الأثام، وموازرة اللئام، فخاصموا أولياء الله ألد الخصام.

ولأن طاعة الكبراء والسادات، الذين طغوا في البلاد، وعاثوا فيها الفساد كانت نتائجه الهلاك والخسران المبين؛ فقد كشف القران ما تؤول اليه حال من يطيعهم، فقال عز وجّل: «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا» ولكي لا يقع المسلم في فخهم ويهلك بطاعتهم فقد حذّرَ أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) من هذا الإتباع والطاعة، فقال:

«أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِکُمْ وَ کُبَرَائِکُمْ، الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَجَاحَدُوا الله عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ، مُکَابَرَةً لِقَضَائِه ومُغَالَبَةً لِآلَائِه، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَسُیُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَاتَّقُوا الله ولَا تَكُونُوا لِنِعَمِه عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً، ولَا لِفَضْلِه عِنْدَکُمْ حُسَّاداً، ولَا تُطِيعُوا الأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِکُمْ کَدَرَهُمْ، وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِکُمْ مَرَضَهُمْ، وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّکُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ، وَأَحْلَاسُ الْعُقُوقِ، اتَّخَذَهُمْ إِبْلِیسُ مَطَايَا ضَلَالٍ، وَجُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِکُمْ، وَدُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ، فَجَعَلَکُمْ مَرْمَی نَبْلِه، وَمَوْطِئَ قَدَمِه، ومَأْخَذَ یَدِه»(1).

ص: 14


1- نهج البلاغة: ص 456

وما مخاصمة بضعة النبوة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) ومعاداتها إلا واحدة من المشاهد التي زخرت بها سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قديماً وحديثاً، منذ أن شرع أبان بن عثمان في نسخ السيرة وتقديمها لسليمان بن عبد الملك بن مروان في عام (82 للهجرة). فلما وجدها تتحدث عن الحقائق التي تتقاطع مع منهج بني أبيه وأسلافة الأمويين أمر بتخريقها وأتلافها، ثم أخبر أبيه بذلك فقال عبد الملك بن مروان:

(وما حاجتك أن تقدم [علينا] بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها)(1).

ومما أخفاه الامويون عن الناس من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكثير جداً، وما دلَّسوه ووضعوه في السيرة لكثير أيضاً؛ لا سيما فيما يرتبط بالعترة المحمدية (صلوات الله عليهم أجمعين).

وما هذا المنهج عن عصرنا اليوم ببعيد، فقد دأب الخلف على اقتفاء أثر السلف في التدليس، والتحريف، وقلب الحقائق، ونفث الشبهات.

ومنها:

قول ابن عثيمين في خصومة سيدة نساء العالمين (صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) في ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحلتها التي نحلها الله ورسوله المخصصة في أرض فدك، وسهم ذي القربی.

فقد دخل ابن عثيمين فيما شجر بين الصحابة، ونعت بضعة النبوة بقول

ص: 15


1- الموفقيات للزبير بن بكار: ص 322 - 323

بذيئ والعياذ بالله فيقول:

(نسال الله أن يعفوا عنها، وإلا فأبو بكر ما استند إلى رأي، وإنما استند الى نص، (لا نورث ما تركناه صدقة) ولكن كما قلت لكم قبل قليل:

عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل يدرك به مايقول، أو يفعل، أو ما هو الصواب فيه، فنسأل الله أن يعفوا عنها، وعن هجرها خليفة رسول الله).

وعليه:

استلزم البحث دراسة هذه الشبهة عبر المرتكزات الفكرية والمفاهيمة للخصومة في القرآن والسُنّة ضمن الفصل الثاني من الدراسة، وإرجاع ما تكون في فكر ابن عثيمين من مفهوم ومعنى للخصومة وعرضه على القرآن والسُنّة لبيان ضلال هذا الفكر وتحيزه لأسياده وكبرائه.

أما الفصل الأول فقد خصص لبيان التعريف بفاطمة (عليها السلام) وخصمها في مقاصدية القرآن والسُنّة، وذلك أن هذا التعريف هو الأساس الذي انطلقت منه الدراسة في تبديد هذه الشبهة الفكرية والعقدية والتاريخية وقد اشتملت الدراسة على تمهيد خصص للتعريف بمصطلحات البحث ومفردات العنوان ومقتضياته؛ وأنهيناها بخاتمة أشتملت على جملة من النتائج.

«وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».

«إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».

ص: 16

التمهيد

المسألة الأولى: الغاية من الدراسة

اشتملت الدراسة على جملة من المحاور الأساسية والمصطلحات، فضلاً عن بعض الصعوبات والمعوقات، والتي لا يخلو منها أي جهد يبذل في مجال المعرفة لا سيما الحقل العقدي الذي يرثه الإنسان من أسرته ومجتمعه أو عبر دراسته وتحصيله المعرفي؛ ومن ثم فالدراسة تخوض غمار البحث في الموروث العقدي.

فضلاً عن أننا نخوض غمار البحث فيما شجر بين عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وبالأخص في أمرٍ متجدد منذ وقوعه بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وذلك لما ترکه من أثرٍ بالغ في شق العقيدة الإسلامية إلى نصفين وتكوين منظومتين تسير باتجاهين متضادين، نتج عنهما ما نتج من حوادث فادحة ومصائب عظيمة.

وأي أمرٍ أعظم مصاباً من محاربة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتدفن البضعة النبوية سراً ويُعفى ثراها، ولعل قول أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) فيما جرى عليها من حرب و ظلم وجور، وهو يخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد حول بوجهه الى قبره، فيه الكفاية في بيان أثر هذه الرزية والمصيبة فيما جناه المستولين عليهم، فيقول (عليه السلام):

«السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله عَنِّي، والسَّلَامُ عَلَيْكَ عَنِ ابْنَتِكَ، وَزَائِرَتِكَ،

ص: 17

والْبَائِتَةِ فِي الثَّرَی بِبُقْعَتِكَ، والْمُخْتَارِ الله لهَ سُرْعَةَ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ الله عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وعَفَا عَنْ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّي بِسُنَّتِكَ فِي فُرْقَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَۃِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ نَفْسُكَ بَيْنَ نَحْرِي وصَدْرِي.

بَلَى وفِي كِتَابِ الله لِي أَنْعَمُ الْقَبُولِ - إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْه رَاجِعُونَ، قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وأُخِذَتِ الرَّهِینَةُ، وَأُخْلِسَتِ الزَّهْرَاءُ فَمَا أَقْبَحَ الْخَضْرَاءَ والْغَبْرَاءَ.

یَا رَسُولَ الله، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، وَهَمٌّ لَا يَبْرَحُ مِنْ قَلْبِي أَوْ يَخْتَارَ الله لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مُقِيمٌ، کَمَدٌ مُقَیِّحٌ، وهَمٌّ مُهَيِّجٌ، سَرْعَانَ مَا فَرَّقَ بَيْنَنَا، وإِلَى الله أَشْکُو، وسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّه سَبِيلاً، وَسَتَقُولُ وَيَحْکُمُ الله وهُوَ خَيْرَ الْحَاکِمِينَ، سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ الله الصَّابِرِينَ.

وَاه وَاهاً، والصَّبْرُ أَیْمَنُ وأَجْمَلُ، ولَوْ لَا غَلَبَةُ الْمُسْتَوْلِينَ لجَعَلْتُ الْمُقَامَ والَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً، ولأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ الثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ الرَّزِيَّةِ، فَبِعَيْنِ الله تُدْفَنُ ابْنَتُكَ سِرّاً، وتُهْضَمُ حَقَّهَا، وتُمْنَعُ إِرْثَهَا، ولَمْ يَتَبَاعَدِ الْعَهْدُ، ولَمْ يَخْلَقْ مِنْكَ الذِّكْرُ، وإِلَى الله یَا رَسُولَ الله الْمُشْتَکَی، وفِيكَ یَا رَسُولَ الله أَحْسَنُ الْعَزَاءِ، صَلَّی الله عَلَيْكَ، وعَلَيْهَا، السَّلَامُ والرِّضْوَانُ»(1).

ولعل قوله - أيضاً - في معركة صفين والتي يلزم أن تقرأ بفتح الصاد، وذلك أنها بينت حقيقة واقع المسلمين وانقسامهم الى صفين، الأول: يسير

ص: 18


1- الكافي للكليني: ج 1 ص 459

تحت لواء الخلافة التي تمخضت من سقيفة بني ساعدة فأنجبت أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، ويزيد، ومروان بن الحكم، وابنائه، وهلم جراً لمن حكم المسلمين تحت عنوان الخلافة.

والثاني: يسير تحت لواء الإمامة المجعولة من الله تعالى، وتعيين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم من بعده: أولهم الإمام علي أمير المؤمنين، وآخرهم الحجة المهدي؛ الذي يملي الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلمات وجوراً (صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آبائه، وجدته المظلومة الشهيدة فاطمة) فهو الذي سيعيد الأمه الى الثقلين، ((کتاب الله و عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))(1). بعد أن فرقتها الخلافة إلى فرق عدة.

وحسبك من هذه الفرق وحال قادتها وأئمتها وكبرائها وساداتها، ما رواه نصر بن مزاحم (المتوفي سنة 213 ه) في بيانه لأحداث معركة صفين ومجرياتها، فيقول:

(أن عليا مرَّ على جماعة من أهل الشام بصفين، فيهم الوليد بن عقبة(2)

ص: 19


1- وهو الحديث المتواتر الذي أخرجه العديد من حفاظ المسلمين عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: «إني تارك فیکم الثقلين أحدهما اكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى یردا على الحوض» ينظر: مسند أحمد: ج 3 ص 14؛ سنن الترمذي: ج 5 ص 328؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 15؛ مسند ابن الجعد: ص 397 المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7 ص 417 منتخب مسند عبد بن حميد: ص 108؛ ما روي في الحوض للقرطبي: ص 88
2- الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو القرشي، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وعنه أبو موسى عبد الله الهمداني وعامر الشعبي و حارثة بن مضرب. أسلم يوم الفتح. مات أيام معاوية بن أبي سفيان. «تهذيب التهذيب: 11 / 142». كان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأُمّه وكان عامله على الكوفة، فصلَّى بهم الصبح ثلاث رکعات وهو سكران، ثم التفت إليهم فقال: إن شئتم زدتكم. «العقد الفريد: 4 / 307 - 306 طبع دار الكتاب العربي»

وهم يشتمونه ويقصبونه(1) فأخبروه بذلك، فوقف في ناس من أصحابه فقال:

«انهدوا إليهم وعلیکم السكينة وسيما الصالحين ووقار الإسلام، والله الأقرب قوم من الجهل بالله عز وجل قوم قائدهم ومؤدبهم معاوية، وابن النابغة(2)، وأبو الأعور السلمي(3) وابن أبي معيط(4)، شارب الحرام، والمجلود

ص: 20


1- القصب: العيب والشتم، ومثله التقصيب
2- يعني عمرو بن العاص. واسم أمه «النابغة» وهي من بني عنزة
3- أبو الأعور السلمي: اسمه: عمرو بن سفيان من أعيان أصحاب معاوية قال ابن الأثير في «أسد الغابة»: 4، 109 و 5، 138 وعليه كان مدار الحرب بصفين، وكان أشد من معاوية على علي بن أبي طالب [عليه السلام]، وكان علي يدعو عليه في القنوت. وقال: لا تصح له صحبة ولا رواية شهد حنینا کافرا ثم أسلم وحديثه عن النبي (صلى الله عليه [وآله] و سلم) مرسل: إنما أخاف على أمتي شحّا مطاعا، وهوى متبعا، وإماما ضالَّا. وكان من أصحاب معاوية. كذا ذكره ابن أبي حاتم، لم يجعل له صحبة، وهو الصواب، وذكره هناك كثير. روى عنه عمرو البكالي. (الإستیعاب، ابن عبد البر: 3 / 1178)
4- عقبة بن أبي معيط: هو الملعون الذي فرق سلا الجزور أو البعير على ظهر النبي فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام) عليه، شهد هو مع عمار بن الوليد وأبي بردة بن موسی وعبد الرحمن بن أشعث عند معاوية على إراقة دم حجر بن عدي. وهو والد الوليد، ومن أتباع معاوية يوم صفين. ذمه أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه شارب الخمر والمجلود جدا في الاسلام. وهو من الذين رفعوا المصاحف. (ينظر: مستدرکات علم رجال الحدیث، الشيخ علي النازي الشاهرودي: 5 / 245)

حدا في الإسلام وهم أولاء يقومون فيقصبونني، ويشتمونني، وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام.

فالحمد لله ولا إله إلا الله، وقديما ماعاداني الفاسقون. إن هذا هو الخطب الجليل. إن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين، وعلى الإسلام وأهله متخوفين، أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الأمة فأشربوا قلوبهم حب الفتنة، فاستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان، وقد نصبوا لنا الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله (والله متم نوره ولو كره الكافرون).

اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم، وشتت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت»(1).

وعليه:

فقد نصبوا الحرب لفاطمة وعلي وولدهما (سلام الله عليهم أجمعين) واشياعهم ومواليهم مذ جمعوا الحطب عند بابها وحرقه، ولم يزالوا في خصامهم کابر عن كابر، وجيل بعد جيل، وما قول ابن عثيمين الا ثمرة من ثمار هذه الشجرة، ونتيجة من نتاج هذه العقيدة والمدرسة.

فكانت الغاية من هذه الدراسة بيان ما يلي:

1 - إنّ المرتكزات المفاهمية لنصوص القرآن والسُنّة عند منظومة الخلافة لا سيما المدرسة التي أنتجت ابن عثيمين وهي الوهابية السلفية تعتمد على اليه

ص: 21


1- وقعة صفين: ص 319؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 8 ص 54 - 55

ألواء عنق النص وتحييده عن مقصده الشرعي؛ کما سیمر في عينة الدراسة، أي خصومة فاطمة (عليها السلام).

2 - إن ما جرى من المخاصمة بين بضعة النبوة (سلام الله عليها) وأبي بكر قضية متجددة بتجدد المناهج البحثية ووالسائل المعرفية، فما زال المسلمون بأمس الحاجة الى معرفة العلّة في تفرقهم الى ثلاث وسبعين فرقة؛ وأن الفرقة الناجية من بين هذه الفرق، هي فرقة واحدة(1).

وهو أمرٌ انقادت له الأعناق لثبوته عند جميع هذه الفرق والمذاهب، ولذا: نجد الجميع ينسب نفسه وفرقته ومذهبه ومدرسته لهذه (الناجية)؛ ومن ثم فمن هي الفرقة الناجية، والقوم ما زالوا يخاصمون بضعة النبوة، وصفوة الرسالة، وسيدة نساء العالمين، وسيدة نساء الامة، وسيدة نساء أهل الجنة(2)! فأي أمة هذه التي تعاهدت على مخاصمة أسيادها!! وأي جنّة هذه التي تضم فاطمة وخصائها، والناصبين لها الحرب الى يومنا هذا؟!!! 3 - إنّ مما لا شك فيه أننا بحاجة إلى البحث العلمي الرصين، والدراسة المتأنية، والسليمة من الضغائن والأهواء فيما وقع بين بضعة النبوة (عليها السلام) وأبي بكر وعمر كي يأمن الإنسان المسلم على نفسه وأهله وذلك امتثالاً لقوله تعالى:

ص: 22


1- المسند للشافعي: ص 316؛ صحیح ابن حبان: ج 14 ص 141؛ مسند أبي يعلي الموصلي: ج 10 ص 317
2- صحيح البخاري، باب: علامات النبوة: ج 4 ص 183؛ مسند أحمد: ج 5 ص 391؛ سنن الترمذي: ج 5 ص 326

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(1).

4 - إن هذا المنع الذي وضعه الحكام وأرباب السلطة، وشدد عليه السلفيون، والوهابيون في دراسة ما شجر بين الصحابة والإمساك عنه، هو مخالف للقرآن والسُنّة وسيرة العلماء، ومنهجهم في البحث والدراسة، فضلاً عن حاکمية العقل والفطرة السليمة.

5 - إن القائلين بدعوى الإمساك عما شجر بين الصحابة قد ابتغوا من ذلك وضع حصانة لأنفسهم، بغية الاستطلال بهذه الحصانة والانتفاع منها. فضلا عن إرضاء السلطان، واتباع الهوى، والانقياد للأنا، وإلاّ فهم أول من خالف هذه الدعوة کا سیمر عبر هذه الدراسة.

6 - إن حديث «لا نورث ما تركناه صدقة» لم يزل الركن الأساس الذي يستند إليه أنصار منظومة الخلافة في المحاججات التي دارت وتدور بينهم وبين أنصار منظومة القرآن والعترة (عليهم السلام)؛ فكانت على النحو الآتي:

أ - فمن المحاججة في قراءة الحديث على الرفع عند اتّباع منظومة الخلافة. فقيل: «صدقةٌ» إلى قراءته على النصب عند اتّباع منظومة القرآن والعترة (عليها السلام) فَقُرِءَ بلفظ: «صدقةً» وقد أفراد الشيخ المفيد (رضوان الله تعالى عليه) رسالة في قراءة حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فرد الخبر والاستدلال به على نفي الإرث عن الأنبياء (عليهم السلام) عبر اظهار المغالطة في القراءة على الرفع.

ص: 23


1- سورة التحريم، الآية: 6

ب - تمسك أهل السُنّة والجماعة بالحديث ودفاعهم عنه ومحاولتهم تدعيم آحاده، وترميم ألفاظه، وترقيع إعرابه.

ج - إصرارهم على المغالطة والمكابرة فيما شجر بين بضعة النبوة (عليها السلام) وأبي بكر وذلك عبر تخطأتها أو وسمها بأخذ ما ليس لها أو المغايرة في الدعوى، فضلا عن عينة الدراسة في نعت ابن عثيمين لها بعدم الإدراك والعقل!! والعياذ بالله من غضب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وغضب فاطمة (عليها السلام).

7 - دراسة جذور الخصومة بين أبي بكر وبيت النبوة في حياة رسول الله (صلة الله عليه وآله) وبعد وفاته وابراز مظاهرها وانعكاساتها بعد تسنم ابي بكر خلافة المسلمين فكان من ابرزها منع فاطمة (عليها السلام) من حقوقها.

8 - إن التعرض لبضعة النبوة وصفوة الرسالة (عليها الصلاة والسلام) قديماً وحديثاً هو تعرض لنواة أهل بيت النبوة وتكوينها ومن ثم فإن الدوافع إلى ذلك متعددة منها قصدية محاربة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وقد قال الله تعالى في بيان هذه الفئة: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ».

ومنها: الجهل بفاطمة وشأنيتها عند رسول الله (صلى الله علیه و آله) فلزم بيان هذه الشأنية في مقاصدية القرآن والسُنّة؛ ومنها: التكبل بقيود الموروث الفكري والعقدي الذي أسس له أرباب منظومة الخلافة وأشياعها إلى يومنا

ص: 24

هذا کا سیمر عبر عينة الدراسة.

9 - إن اعتماد هذه الدراسة على المنهج البيني کشف عن كوامن مقاصدية قول ابن عثيمين عبر المرتكزات الفكرية والمفاهيمية للمدرسة التي ينتمي إليها والتي لم تزل حاملة لواء المخاصمة لبيت النبوة متكئين على كونهم جزء لا يتجزء من أهل السنة والجماعة.

وعليه: ولاهمية الموضوع وسعة البحث والدراسة فيه فقد افردناله کتابا مستقلا والموسوم ب: (ما أنكره أعلام أهل السُنّة والجماعة فيما شجر بين إبي بکر وفاطمة (عليها السلام) قراءة في الانساق الثقافية والعقدية في ضوء مقاصدية القران والسُنّة واللغة والتاريخ).

المسألة الثانية: من هو ابن عثيمين خصم فاطمة (علیها السلام) في عصره ولماذا لم يمسك لسانه فيما شجر بين الصحابة؟!

لعل أبرز المخاصمين لبضعة النبوة (عليها الصلاة والسلام) في عصره - وما اكثرهم في كل زمان ومکان - والداخلين فيما شجر بينها وبين أبي بكر، هو ابن عثيمين؛ فما الذي دعاه لهذا الخصام، ومن هو هذا الرجل؟ هذا ما سنتناوله في النقاط الآتية:

أولا- أسمه ونسبه

ص: 25

محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن العثيمين الوهيبي التميمي، ولد في مدينة عنيزة أحدى مدن القصيم في السعودية عام 1929 م، وعُثيمين تصغير عثمان وهو أسم لاحد أجداده فغلب على العائلة.

ثانياً - نشأته

نشأ ابن عثيمين في أسرة متوسطة الحال، ولم تتيسر له سبل العيش الكريم، وقد وصف حاله بنفسه مبیناً قلة ذات اليد وأنه لا يملك إلا (الروض المربع يقرأ فيه في غرفة من طين تطل على زريبة بقر)(1).

ثالثاً - شيوخه ومراجعة اللذين تأثر بهم

درس ابن عثيمين عند بعض شيوخ السلفية والوهابية إلا أن اكثرهم تأثیراً عليه فكراً ومنهجاً، هما:

1 - ابن سعدي (1889 - 1956 م).

وهو: عبد الرحمن بن ناصر السعدي التميمي، فلزمه ابن عثيمين أحد عشر عاماً، وهو بذاك يكون مرجعه الأول، فأخذ عنه التفسير، والحديث، والفقه وأصوله، والنحو، والعقيدة؛ ولذا: فقد تأثر بمنهجه وفكره وعقيدته وطريقة تدريسه.

2 - ابن باز (1912 - 1999 م).

ص: 26


1- کلمات في رثاء الشيخ محمد بن عثيمين، اعداد: محمد حامد محمد، ص 113 طبع ونشر دار الإيمان - الاسكندرية

وهو: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وشهرته أكثر بكثير من ابن سعدي، وذلك لشغله منصب مفتي عام المملكة العربية السعودية منذ عام 1992م والى وفاته، فضلا عن ترأسه لهيئة كبار علماء السعودية .

ولذا: يعده الوهابيون والسلفيون إمام عصرهم، وقد تأثر به ابن عثيمين فكرا وعقيدة ومنهجا، وقرأ عليه الصحيحين البخاري ومسلم.

رابعاً - عقيدته

صرّح ابن عثيمين كما صرح مشايخه لا سيما ابن سعدي وابن باز بعقيدته التي سار عليها محمد بن عبد الوهاب، والمعروفة بالوهابية نسبة لهذا الرجل على نحو الأخص، وعلى العقيدة السلفية على نحو الخصوص، وعلى العقيدة التيمية أي: ابن تيمية الحراني. على نحو الأعم، وعلى عقيدة أهل السُنّة والجماعة على نحو العموم، والتي ينتسب إليها اكثر المسلمين على اختلاف فرقهم، ونحلهم، وملهم، و أراءهم، ومذاهبهم، وكلهم يدعي أنه (الفرقة الناجية).

ومن ثم: فلا عجب بخصامه واسلافه لفاطمة (عليها السلام) فهو وهابي، سلفي، تيمي.

خامساً - مذهبه

أعتمد ابن عثيمين منهج شيخه ومرجعه الأول أبن سعدي في تبني أراء ابن تيمية وفتاويه، وتلميذه ابن القيم، وترجيحهما على أراء إمام المذهب الحنبلي الذي يتعبد به السلفيون، وهو بذاك يكون متبعاً سيرة ابن تيمية وفتاويه ومنهجه؛ وإنْ كان هذا الأمر لا يلقى أستحسانا من مشايخ الوهابية

ص: 27

المعاصرين، إذ يحاولون التمظهر بالإنتساب للمذهب الحنبلي، وصرف الأنظار عن كونهم على مذهب ابن تيمية فقها وعقيدة، وذلك لمواقفه المعادية لله ورسوله (صلى الله عليه واله) وأهل بيته، کما سیمر بیانه عبر الدراسة.

سادساً - مؤلفاته

إن المتتبع لما طبع لابن عثيمين ومراجعته يجد أن أغلب هذا المطبوع من العنوانات هو في الأساس مشغول من قبل المؤسسة الوهابية عبر إلية جمع دروس ابن عثيمين وخطبه و محاضراته المسجلة على (أشرطة الكاسيت) أو (الأقراص الصلبة والليزرية) ثم تفريغها على الورق وتعديلها وتصويبها، وإخراجها بهيئة الكتاب وطباعتها؛ ومما يدل على هذه الحقيقة:

1 - إن مبدأ ابن عثيمين في التأليف كان يدفعه إلى عدم الكتابة وقد صرّح بذلك حينما سئل عن التأليف، فأجاب:

«من ألّف فقد أسُتهدف»(1).

ولذا:

كان يتجنب الكتابة والتأليف إلاّ ما ندر، کشرحه للعقيدة الواسطية وعرضها على شيخه ابن سعدي.

ويظهر من وصيته لطلبته واتباعه إن الدافع في كتابته وشرحه للعقيدة الواسطية هو حبه لابن تيمية، وعقيدته، وایمانه بها، فكان يسميه: ب (كثير البركة)(2).

ص: 28


1- الدر الثمين، إعداد عصام المرّي: ص 358
2- کلمات في رثاء الشيخ ابن عثيمين، محمد حامد ص 68

ولا شك أنه كان (كثير البركة) على ابن عثيمين فقد خاصم بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بفعل التأثر بهذه العقيدة.

2 - إنّ خير دليل على إتباعه هذا المبدأ في التأليف والكتابة، أي: كي لا يُسْتَهدَفْ فيما يَكْتُبْ، هو أن قوله في فاطمة (عليها السلام) في شرحه على صحیح مسلم، والتعليق عليه، كان عبر الإلقاء وليس الكتابة، فقد قال:

(ولكن كما قلت لكم قبل قليل: عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل يدرك به مايقول، أو يفعل، أو ما هو الصواب فيه؛ فنسأل الله أن يعفو عنها)!!! وقوله: (ولكن كما قلت لكم قبل قليل) واضح الدلالة على أن شرحه الصحيح مسلم كان إلقاءاً ولم یکن تحریراً، مما يكشف عن إن كثيراً مما ينسب إليه من كتب هي جمع من دروس ومحاضرات من هنا وهناك، وليس تألیفاً وتحريراً بقلمه.

سابعاً - بعض آرائه وفتاويه

إنّ أنتماء ابن عثيمين للمدرسة الوهابية نشاءة ودراسة حتى عدَّ من أهم رموزها المعاصرين، قد أوجب عليه، أي هذا الانتماء، عدم الانحراف عن مسار محمد بن عبد الوهاب، وابن القيم، وابن تيمية، في العقيدة والرأي والفتوى.

ومن ثم فإن آرائه وفتاويه كانت من رحم هذه الفرقة، لا سيما في التجسیم، والتشبيه؛ فهم يقاتلون ويقتلون في أثبات أن الله عز وجل - والعياذ بالله - عينين، ويدين، وهبوط، ونزول، وجلوس، وغيرها مما يرتبط بالتجسيم والتشبيه.

ص: 29

وأما التوسل بالأنبياء والأولياء، وشد الرحال الى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتبرك بأثاره، وغيرها؛ فهو مما عرفت به الوهابية وجرت فيما بينهم وبين علماء المسلمين الكثير من الردود والمواجهة ابتداءاً من عصر التأسيس على يد ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والى يومنا هذا.

فقد أنبرى الكثير من علماء المسلمين لمواجهة هذا الركام من الفكر في إبعاد الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تحریم شد الرحال الزيارته والتشرف بتقبيل أعتاب قبره؛ وحسبك من هذه الردود العلمية ما صنّفه إمام السُنّة والجماعة في وقته تقي الدين السبكي (ت 756 ه) في كتابه الموسوم ب (شفاء السقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم).

ولقد أثنى جملة من العلماء على هذا الكتاب ومنهجه العلمي في الرد على ابن تيمية، منهم:

1 - أبو زرعة العراقي (ت 826 ه).

قال في معرض ردوده على فتاوی ابن تيمية، ومنها فتوى الطلاق، وشد الرحال إلى القبر النبوي، فيكتفي أبو زرعة في ذلك بقوله:

(وما أبشع مسألتي ابن تيمية في الطلاق والزيارة، وقد ردّ عليه فيهما معاً الشيخ تقي الدين السبكي، وأفرد ذلك بالتصنيف، فأجاد وأحسن)(1).

2 - أبو الصلاح الصفدي (ت 764 ه). فقد أنشد في كتاب الوافي، مثنياً ومادحاً ومثمناً، فقال:

ص: 30


1- الأجوبة المرضية من الأسئلة المكية، أبو زرعة العراقي: ص 96 - 98

قول ابن تيمية زخرف *** أتى في زيارة خير الأنام فجاءت نفوس الورى تشتكي *** إلى خير حبر وأزكى إمام فصنّف هذا وداواهم *** فكان يقينا شفاء السقام)(1) 3 - قال ابن حجر الهيثمي المصري (ت 973 ه) في بيان حال ابن تيمية وما صنّفه الحافظ السبكي في الرد عليه، قائلاً:

(ابن تيمية عبد خذله الله، وأضله، وأعماه، وأصمه، وأذله، وبذلك صرّح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله، وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وبلاغه رتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي، وولده التاج، والشيخ بن جماعة، وأهل عصرهم، وغيرهم من الشافعية، والمالكية، والحنفية)(2).

ثم يظهر ابن حجر الهيثمي تقيمه ورأيه وعقيدته في ابن تيمية، فيقول:

(والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن؛ بل يرمي في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه: أنّه مبتدع، ضال، ومضل، جاهل، غال، عامله الله بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله؛ آمين)(3).

ص: 31


1- الوافي بالوفيات للصفدي: ج 21 ص 256
2- الفتاوى الحديثية لابن حجر: ص 114 - 115، ط دار المعرفة - بيروت
3- المصدر السابق نفسه

من هنا:

فإن ابن عثيمين في فتاويه وآراءه، وعقيدته، هو سنخ من ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب، وابن باز، وغيرهم من أبناء هذه الفرقة.

إلا أن الذي أستوقني من هذه الآراء والفتاوي ما يلي:

ألف: فتوى تحريم إقامة اسبوع المولد النبوي وجواز اسبوع محمد

عبد الوهاب! سئل ابن عثيمين عن الفرق بين ما يسمى باسبوع الشيخ محمد عبد الوهاب، والإحتفال بالمولد النبوي حيث ينكر على فعل الثاني دون الأول؟ أي: إن الوهابية والسلفية ينكرون على أهل السُنّة والجماعة احتفالهم بمولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفرحتهم بهذه المناسبة، وإنشاد المديح في سيد الخلق، والاطعام، وإدخال السرور على قلوب المؤمنين، على الرغم من رفع الوهابية شعارًا بكونهم من أهل السُنّة والجماعة.

في حين أن الوهابية لا ينكرون على أتباعهم، وأبناء فرقتهم، إقامة أسبوع في نشر آراء مؤسس الفرقة محمد بن الوهاب وعقيدته!!! والعلة في هذا الفرق بينهما، أي بين تحريمهم اسبوع المولد النبوي وبين اسبوع محمد عبد الوهاب، كما يقول ابن عثيمين:

(الفرق بينهما من وجهين:

(الأول: إن أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يتخذ تقربا إلى الله عز

ص: 32

وجل، وانما يقصد به إزالة شبهة في نفوس بعض الناس في هذا الرجل ويبين (ما منَّ الله به على المسلمين على يد هذا الرجل).

الثاني: أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يتكرر ويعود کما تعود الأعياد، بل هو أمر بين الناس وكتب فيه ما كتب، وتبين في حق هذا الرجل ما لم يكن معروفاً من قبل الكثير من الناس، ثم انتهى أمره)(1).

ونقول:

1 - إنّ هذه الفتوى لا تحتاج الى مزيد من التدليل على تمسك ابن عثيمين بعقيدة ابن تيمية في محاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تحرم أقامة الاحتفال والسرور بميلاد خير خلق الله وسيد أنبيائه ورسله، وتبيح أقامه سبعة أيام لمؤسس الحركة الوهابية ووصفه بانه (منّة الله) على المسلمين وهو يعلم أن المتة التي من الله بها على الخلق هي بعثه لحبيبه المصطفی (صلی الله عليه وآله وسلم)!! وليس إمامه وشيخه محمد بن عبد الوهاب.

قال تعالى:

«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ»(2).

ولكن لا غرابة في قول ابن عثيمين فهو مفتون بإمامه ابن عبد الوهاب فعدّه منّة من الله عليه وعلى أبناء هذه الفرقة.

ص: 33


1- مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ج 16 ص 194، برقم (1312)
2- سورة آل عمران، الآية 164

قال تعالى:

«وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ»(1).

2 - ولكن ثمة سؤال: مَنْ هو الأولى بتخصيص أسبوع للكتاب والحديث والتعليم وكشف الشبهات أهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم شیخ الوهابية؟!

باء: تحريم إقامة اسبوع المساجد.

إن من الغرابة إن يُسأل ابن عثيمين عن حكم الشريعة في إقامة أسبوع المساجد، وأسبوع الشجرة وغيرها؟ فيجيب قائلاً:

(هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلاً في الشرع، وإذا اتخذت على سبيل التعبد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد، فأنها تلتحق بالبدعة...)(2)!!! والسؤال المطروح:

أ - أين الأصل الشرعي في أقامة الوهابية لأسبوع شيخهم محمد بن الوهاب؛ لماذا لم يدّلنا عليه المفتون به ابن عثيمين؟ فإما أن يكون عالماً فدَّلس على الناس وأظلهم فأحل لهم ما حرّم الله، وأما جاهلاً فأظلهم بجهله.

ص: 34


1- سورة الأنعام، الآية 53
2- مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: ج 16 ص 195، رقم الفتوى: (1313)

ب - وما هو حكم من يتخذ هذا الأسبوع، أي: أسبوع الشيخ محمد عبد الوهاب من أتباع الوهابية على سبيل التعبد (لان الله منّ به عليهم) أفيكونوا بهذا الأسبوع مبتدعون؟! ج - ولماذا أعرض عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحها: «الخديعة في النار ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(1).

أفهل كان أسبوع شیخ الوهابية على أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!!

ثامناً - موقفه مما حصل بين الصحابة ولماذا ناقض نفسه ولم يصدق في الدعوة إلى الإمساك عما شجر بينهم.

يذهب ابن عثيمين الى ما ذهب إليه أشياخه من الوهابية والسلفية في الدعوة إلى الإمساك فيما شجر بين الصحابة، والقول بحرمة الدخول، ووجوب الإمساك.

فيقول في شرح عقيدة إمامه ابن تيمية فيما شجر بين الصحابة:

(فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل؟ والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.

أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم؛ فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.

ص: 35


1- صحيح البخاري، باب: لم يجوز الخيار: ج 3 ص 24؛ وباب بیان خير الشهود، ج 5 ص 132

وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم، لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم، والوقيعة فيهم، والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون، وإما سالمون، ولسنا غانمين ابداً.

فالواجب علينا اتجاه هذه الأمور، أن نسكت عما جرى بين الصحابة، وأن الانطالع الأخبار أو التاريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة)(1).

ونقول:

1 - أما الجهة الأُولى، أي الحكم على الفاعل، بانه صادر عن اجتهاد، وصاحبه معذور مغفور له.

فهذه هي الطامة الكبرى، وأنه ليضحك الثكلى، إذ جعل ما قام به الصحابي الشجري عبد الرحمن بن عدیس البلوي(2) و الصحابي عمرو بن الحمق(3).

في اقتحامها بيت خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وضربه بشاخص، وقتله (مغفور لها، معذوران فيه) فقد أجتهدا فأخطئا، وأما إذا كانا صائبين فلهما آجران.

ص: 36


1- مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، شرح العقيدة الواسطية، ص 617 - 618، ط 2 / دار الثريا - السعودية - 1996 م
2- ينظر في ترجمته: وانه ممن بايع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة، وكان قائد الفرسان الذين قدموا من مصر لمحاصرة عثمان وقتله: (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 71؛ الإصابة لابن حجر: ج 4 ص 281؛ الاستذكار لابن عبد البر: ج 2 ص 389)
3- ينظر: الاستیعاب لابن عبد البر: ج 3 ص 1173؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 71

ولقد روى ابن سعد (ت 230 ه): إن الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي (وثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال:

أما ثلاث منهن فإني طعنتهن لله، وأماست فإني طعنته إياهن لما كان في صدري عليه)(1).

ومما لا شك فيه - وبناءا على فتوى ابن عثيمين واشياخه واسلافه - أن الصحابي عمرو بن الحمق قد أجتهد هنا، وهو بين أمرين: إما الصواب وأما الخطأ:

فإن كان قد أصاب في هذه الطعنات التي طعن بها عثمان بن عفان الأموي، لا سيما اجتهاده في الطعنات الثلاثة التي قال فيها (أنها لله) فيكون له أجران على اجتهاده، فضلاً عن النساء في النية التي كانت لله، فيضاعف الله فيها أجر العامل بعشرة أمثاله، فإن كل طعنة لعثمان بعشر عند الله.

وإن كان قد أُخطئ في الطعنات الستة (لما كان في صدره على عثمان) فهي مغفورة له، معذور فيها باجتهاده، فضلاً عن أن هذه الطعنات الست قد أذهبتها الطعنات الثلاثة التي كانت خالصة لله تعالى، وذلك لقوله عز وجل:

«إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ».

ولا شك أننا هنا نلزم ابن عثيمين وأئمة الوهابية والسلفية بما ألزموا به أنفسهم في فتوى أثابة اجتهاد الصحابة في الخطأ والصواب، وبيان مخالفتها للقرآن وسُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، نعم هي موافقة لسُنّة الخلفاء و ابن تيمية.

ص: 37


1- الطبقات: ج 3 ص 74؛ أنساب الأشراف: ج 5 ص 272

2 - أما الجهة الثانية التي شرَّعها ابن عثيمين فنقول فيها:

لقد حکم ابن عثيمين بنفسه على نفسه، فهو في دخوله فيما شجر بين سيدة نساء العالمين وسيده نساء أهل الجنة (صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) وبين أبي بكر قد أصبح ملزماً بما شرّعه للناس، وان فتاواه ستأخذ بعنقه أولاً، فهو محكوم عليه بما يلي:

أ - قد خالف امراً واجباً، وذلك لقوله: (فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم).

ب - أتخذ من فعل فاطمة (عليها السلام) بهجرتها لأبي بكر (مجالاً للسب، والشتم، والوقيعة فيهم) وهذا قد فعله ابن عثيمين بعد أن نهى أبناء الفرقة الوهابية والسلفية عنه!!! فقد وقع - والعياذ بالله ما قال - في سب بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشتمها، والوقيعة فيها) بقوله: في مخاصمتها لأبي بكر:

(عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل!! يدرك به مايقول!! أو يفعل!! أو ما هو الصواب فيه!! فنسأل الله أن يعفو عنها!! وعن هجرها خليفة رسول الله!!).

ج - أنه قد أوقع بهذا القول البذيئ البغضاء بين المسلمين، وبث الفتنة، وتأجيج نارها للاقتتال بينهم بهذه الفرية والوقيعة بين الصحابة وبين بيت النبوة (عليهم السلام).

ص: 38

د - إنّ ابن عثيمين بتطاوله وتجاوزه على بضعة النبوة وصفوة الرسالة (عليها السلام) ونعتها بهذه الكلمات هو آثم وغير غانم ولا سالم من عذاب الله، وانه قد حكم على نفسه بقوله للناس:

(ونحن في فعلنا هذا إما آثمون، وإما سالمون، ولسنا غانمين أبداً).

ه - إنّ ابن عثمين قد بين العلة في موقفه هذا الذي جرّه للوقيعة والمخاصمة لبضعة النبوة (صلوات الله وسلامه عليها) فيقول:

(والواجب أن لا نطالع الاخبار أو التاريخ في هذه الأمور) فأبن عثيمين أوجب على نفسه عدم قراءة ما صنّفه علماء أهل السُنّة والجماعة في أخبار الصحابة وسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقرأ أخبار الجرح والتعديل، وتراجم الرجال، لأنها غير ضرورية، وذلك أنها لم تصنّف على أيدي ابن تيمية، وابن عبد الوهاب، وابن باز، اللذين فُتن بهم.

فأصبح من المخاصمين لبضعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومما لا ريب ولا شك فيه، سيكون هذا حال كل من أفتتن به وبأشياخه وأسلافه.

تاسعاً - مرضه ومعاناته من السرطان بين التسليم والتزكية.

لم تكن السنوات والشهور الأخيرة من حياة ابن عثيمين بالسهلة عليه، فقد عانى أشد المعاناة من مرضه الذي ابتلاه الله تعالى به، (فقد أصيب بالسرطان في بادئ الأمر في الأمعاء وتحديداً في المستقيم قبل أن ينتشر المرض في جميع بدنه.

ص: 39

والسبب في ذلك أنه كان يعتقد في بادئ أمره أنه يتألم من البواسير التي ابتلي بها قبل أكثر من عشرين سنة، فكان يظن أنها من جراء العمل الجراحي الذي أجري له حينها.

ولما أشتد عليه المرض ثقلت عليه الحركة، فكان يأخذ وقتاً طويلاً في الوضوء والأكل والصلاة، وفي آخر الأيام عندما كان في عنيزة ويؤم المصلين كان يحصل معه أثناء الصلاة (السلس)، فكان يقطع الصلاة ويقدم أحداً مکانه)(1).

ومن المواقف التي نقلها عنه معاصروه ومرافقوه أثناء مرضه وابتلائه بالسرطان أمورًا عدة، منها:

1 - إنّه لم يكن يسمي مرض السرطان بالمرض الخبيث، بل يسميه بالمرض الخطير، وكان يقول:

(ليس في أفعال الله خبيثا).

وكان يريد من ذلك دفع الاعتقاد بأن الله تعالى قد سلط عليه الخبيث تنزيهاً لنفسه؛ في حين رد عليه معاصروه: (فيه تأمل لإطلاق وصف الخبيث في القرآن والسُنّة على عدة أصناف من المخلوقات)(2).

2 - تزكيته لنفسه:

إنه لما سمع من الأطباء بانه مصاب بالخبيث، أي: السرطان، قال:

ص: 40


1- الدر الثمين: ص 372 - 373
2- الدر الثمين: ص 372

(إن الإنسان المؤمن إذا قام بطاعة الله، وفعل أوامره، واجتنب نواهيه فإنه لا یرجو بذلك إلا رحمة الله ودخول الجنة، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى الجنة إلا بالموت؛ والموت قد كتب على جميع البشرية، فمرحباً بالموت، إذا كان الموت هو الذي بيننا وبين الجنة)(1).

وهنا قد حكم ابن عثيمين على نفسه وزكاها وعدد صفاته من (الإيمان، وطاعة الله، وفعل أوامره، واجتناب نواهيه) ثم يختم قوله: (فمرحبا بالموت، أذا كان الموت هو الذي بيننا وبين الجنة)!! فليس بينه وبين الجنة سوى الموت، فلا حساب، ولا ميزان، ولا جواز على الصراط، ولا عرض على حوض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وغيرها من منازل الآخرة لا سيما البرزخ وسؤال منكر ونكير، مما يطول ذكره؛ فقد غفل ابن عثيمين عن أن قبول الاعمال أو ردها بيد الله وحده؛ ويكفي في ذاك نهياً عن تزكية المرء لنفسه قوله تعالى:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا»(2).

وقال سبحانه:

«فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى»(3).

وغيرها من الآيات والأحاديث النبوية الناهية عن تزكية المرء لنفسه.

ص: 41


1- الدر الثمين: ص 372
2- سورة النساء، الآية: 49
3- سورة النجم، الآية: 32

3 - بل أن ابن عثيمين كان يرى في لحيته قدراً؛ ولذا لم يرض أن يتعالج من الخبيث بالجرعات الكيمياوية وذلك لقولهم: أنها تسقط الشعر، فقال:

(لا أحب أن ألقى ربي بلا لحيتي)(1).

دون أن يرجع فتواه ورأيه إلى القرآن أو السنّة النبوية! فمنذ متى كانت اللحى موضع تقرب إلى الله تعالى، أو أنّه سبحانه ينظر الى اللحى دون صحيفة الإنسان، وما ذنب من لم ينبت الله له لحية فكيف سيلقى الله تعالى؟!! وما تصنع اللحى والناس يحشرون حفاة عراة، فعن ابن عباس قال: خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال:

«إنكم تحشرون الى الله حفاة عراة غرلاً، ثم قرأ: «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ» - إلى أن قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إلا أنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يارب أصحابي، فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح:

«وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».

فيقال:

إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم»(2).

ص: 42


1- جريدة الوطن السعودية، العدد، 105؛ الدر الثمين: ص 377
2- رواه البخاري في عدة مواضع من الصحيح، منها: کتاب بدء الخلق، ج 4 ص 110، وكتاب تفسير القرآن: ج 5 ص 191، وكتاب الرقاق: ج 7 ص 195؛ فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، أحمد عبد الرزاق الدويش: ج 3 ص 75

والحديث يشير إلى مسألة مهمة، وهي أن البخاري رواه في صحيحه، وقرأه ابن عثيمين على شيخه ابن باز، لكنه لم يسأله عن معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«فأقول يا رب أصحابي؟! فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك».

ولعل ابن عثيمين سأل شيخه بن باز عن هؤلاء الصحابة الذين أحدثوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يزالوا مرتدین! لكنه لم يدري بماذا يجيبه، والصحابة عنده (كلهم عدول)؟!.

وهكذا هي الأمور عند ابن عثيمين، وابن باز، وابن عبد الوهاب، وابن تيمية، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم في تزكية الأنفس، وتكفير من يخالفهم المعتقد والرأي، وذلك أنهم يحبون أن يلاقوا الله عز وجل باللحى!! وليس بحب فاطمة وعلي وولدهما (عليهم السلام) مع علمهم بوجوب مودتهم وأتباعهم ونصرهم لا مودة وأتباع من أحدثوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يزالوا مرتدین منذ فارقهم رسول الله (صلى الله علیه و آله وسلم) کما صرَّح بذلك النبي المصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبر أمته، ويخرجه جل حفاظ المسلمين في كتبهم لا سيما البخاري ومسلم وأحمد.

وعليه:

يتضح أنه ليس بالأمر الغريب بعد هذا الحديث النبوي أن يصف ابن عثيمين بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دفاعها عن حقها بأرض فدك، وسهم ذي القربى، وميراثها المغصوب المنهوب، بأنها - والعياذ بالله مما يقولون - (ليس لها عقل)!!!

ص: 43

عاشراً - وفاته وما شوهد عند احتضاره وعلاقة ذلك بالمولاة لآل البيت (علیهم السلام).

ليس من المستغرب أن ينتهي الحال بابن عثيمين بعد معاناة طويلة مع المرض الخبيث الذي أكل معظم بدنه أن تتدهور حاله، لينقل إلى المستشفيات فيقضي فيها أيامه وساعاته الأخيرة.

إلا أن هناك ثمة أمور شاهدها من حضر عنده في هذه الأيام التي انتقل بعدها إلى الله عزَّ وجل، وهي:

1 - حاله عند الاحتضار والنزع للروح.

فقد قيل: (إنه كان ينازع الموت لأربع ساعات، من الساعة الواحدة وحتى الساعة السادسة الا خمس دقائق، حيث بدا عليه التعب الشديد، وبدأ العرق يخرج منه، وكأنه يشعر بشيء ويحرك أصبعه وشفتيه، وكان الأوكسجين موضوعاً في فمه الى أعلى درجته، ولكن مع ذلك كان لديه هبوطاً في الأوكسجين، مما أستدعى حضور الأطباء الذين أخبروا ذويه بأنه في حالة خروج الروح)(1).

2 - عدم القدرة على أغلاق فمه بعد خروج روحه.

من الشواهد التي نقلت من احتضاره ووفاته: (إن فمه کان مفتوحاً ظاهرة أسنانه، فحاول أبنه عبد الرحمن ومن حضر معه قفل فمه لمدة نصف ساعة، ومع ذلك لم يستطيعوا، فترك فمه مفتوحاً)(2).

ص: 44


1- الدر الثمين لعصام عبد المنعم المري: ص 394
2- المصدر السابق

3 - إن أبنائه لم يقيموا عليه التعزية واكتفوا بقبول التعازي عبر الهاتف، وذلك أن ابن عثيمين كان يرى عدم الجلوس للتعزية فلم يقم العزاء عند موت والديه، فسار أبنائه على نهجه فلم يقيموا العزاء على أبيهم(1).

وقد توفي يوم الأربعاء في الخامس عشر من شوال (لعام 1421 ه) عن عمر مقداره أربعة وسبعين عاماً، ودفن بالقرب من شيخه ابن باز لا يفصل بينها سوى بضع خطوت(2).

وهنا لنا بعض الملاحظات وذلك أننا نخوض غمار البحث في مسألة عقدية في غاية الأهمية، فنقول:

ألف - انکشاف الحقائق للإنسان عند الموت.

وهذه المسألة العقدية دلّ عليها القرآن والسُنّة، وهي كالاتي:

1 - يظهر القرآن هذه الحقيقة في جملة من الآيات، منها:

أ - قال عز وجل: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ»(3).

ب - وقال سبحانه: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ «لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ

ص: 45


1- الدر الثمين: ص 394
2- المصدر السابق
3- سورة الأنعام، الآية: 93

يُبْعَثُونَ»(1).

ج - وقال تعالى: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ»(2).

د - قوله تعالى «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا»(3).

وقد روى الفقيه المفسر ابن جرير الطبري (ت 310 ه) جملة من الروايات في بيان الآية فكان منها، أنه قال:

(يعني بذلك جل ثناؤه: (وليست التوبة) للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله «حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» يقول أحدهم إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه، قال: وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشر جته وغرغرته «إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة)(4).

وروي عن الربيع: أن قوله تعالى:

(ولسيت التوبة للذين يعملون السيئات) نزلت في المنافقين؛ وقد ذهب الثوري إلى إنها في أهل المعاصي وليست في المنافقين للتفريق بينهم وبين

ص: 46


1- سورة المؤمن، الآية: 99
2- سورة المنافقون، الآية: 10
3- سورة النساء، الآية: 18
4- تفسير الطبري: ج 4 ص 401

الكفار بلحاظ ان المنافقين هم كفار ايضاً.

وهذا القول لا يصمد إمام بیان القرآن لحال فرعون الذي أدركه الغرق فقال الان آمنت، قال تعالى: «وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»(1).

وعليه:

يتضح أنها في أهل النفاق فهم لا توبة لهم عند حضور الملائكة لنزع أرواحهم، ويتضح أيضاً حقيقة المشاهدة للملائكة، واختلاف حال الميت بما يراه من الشدة أو التخفيف في نزع روحه من عروق بدنه، بين كونه مؤمناً، فيّهون عليه النزع، وبين كونه منافقاً أو كافراً فيشدد عليه.

2 - ولم يكن القرآن هو الوحيد الذي بينّ للناس هذه الحقيقة، بل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين لأزواجه ذلك أيضاً، فما أخرجه البخاري وأحمد في ذلك، ما يلي:

أ - أخرج البخاري، عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:

«من أحب لقاء الله، أحب الله لقائه؛ ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه» قالت عائشة، أو بعض أزواجه:

إنا لنكره الموت؟

ص: 47


1- سورة يونس، الآية: 90 - 91

قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ليس ذلك، ولكن المؤمن أن أحضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، کره لقاء الله، وكره الله لقاءه»(1).

ب - وأخرج أحمد بن حنبل عن يونس، عن الحسن، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«من أحب لقاء الله، أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله عز وجل، كره الله القاءه».

فقالت عائشة:

یا رسول الله، كراهية لقاء الله أن يكره الموت، فوالله أنا لنكرهه؟ فقال:

«لا، ليس بذلك، ولكن المؤمن إذا قضى الله عز وجل قبضه فرَجَ له عما بين يديه من ثواب الله عز وجل و كرامته، فيموت حين يموت وهو يحب لقاء الله عز وجل، والله يحب لقاءه، وان الكافر والمنافق إذا قضى الله عز وجل قبضه فرج له عما بين يديه من عذاب الله عز وجل وهوانه فيموت حين يموت وهو يكره لقاء الله، والله يكره لقاءه»(2).

ص: 48


1- صحيح البخاری، کتاب الرقاق، ج 7 ص 191
2- مسند أحمد، حديث عائشة : ج 6 ص 218

باء - رؤية المسلم للنبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) ووصيه الإمام علي (علیه السلام) في الاحتضار ونزع الروح.

إن من الحقائق التي نص عليها القرآن والسُنّة في احتضار المسلم، أي حينما تحضره الملائكة لقبض روحه، أنّه يبشر بأحد أمرين، إما أنه يبشر برضوان الله وكرامته فيحب لقاء الله تعالى، وأما يبشر بعذاب الله وعقوبته؛ فيكره لقاء الله، کما مرّبیانه آنفاً فيما رواه البخاري، عن عائشة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن عائشة لم تسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مَن الذي يُبشر المحتضر، أهي الملائكة، أم ملك الموت عزرائیل (عليه السلام) أم أعوانه، أم النبي ووصيه علي (صلوات الله وسلامه عليها)؟! أو لعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرها لكنها كرهت ذكر علي (عليه السلام)، وهو أمر عرُف عنها واشتهرت به، لا سيما في أخبارها عن خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الصلاة في أيام مرضه، وقبل وفاته لما سمع بأن أبا بكر يصلي بالناس، فخرج محمولاً يتهادى بين رجلين أحدهما العباس(1).

فهنا لم تكشف عائشة عن أسم الشخص الثاني فذكرت العباس فقط، في حين يظهر عبد الله بن عباس السبب الذي منع عائشة من ذكر الشخص الآخر، الذي أستند إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خروجه إلى المسجد، فيقول: (أ تدرون من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ هو علي!

ص: 49


1- صحيح البخاري، باب: أهل العلم والفضل، ج 1 ص 169

ولكن عائشة لا تطيب له نفساً!!)(1).

إلّا أن ما لا تطيب له عائشة نفسا!! ذكرته الروايات الواردة عن الذين خرج بهم النبي (صلى الله عليه واله) لمباهلة نصاری نجران على صدق دعوته ونبوته.

فضلا عن ذكر بعض أعلام أهل السُنة والجماعة هذه الحقيقة؛ فلقد تضافرت النصوص الواردة عن ثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأصغر، وهم عترته أهل بيته (عليهم السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيه أمير المؤمنين (عليه السلام) يحضرون عند حضور ملائكة الموت لنزع الأرواح من الأبدان.

وهذه الحقيقة وإن كان ابن تيمية ومن أخذ بحجزته، وسار على عقيدته لا يؤمنون بها إلا أنها لا تغير من الحقيقة شيئاً فيما بعد الحق وهدي القرآن و عترة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا الضلال، قال تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

ومن هذه النصوص الشريفة، ما يلي:

أ - أخرج الشيخ الكليني (عليه الرحمة والرضوان) (ت 329 ه) بسنده عن علي بن عقبة، عن أبيه قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام):

ص: 50


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 228
2- سورة المائدة، الآية: 105

«یَا عُقْبَةُ لَا يَقْبَلُ الله مِنَ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَذَا الأَمْرَ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْه وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وبَيْنَ أَنْ يَرَى مَا تَقَرُّ بِه عَيْنُه إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ نَفْسُه إِلَى هَذِه» ثُمَّ أَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى الْوَرِيدِ، ثُمَّ اتَّكَأَ وكَانَ مَعِيَ الْمُعَلَّى فَغَمَزَنَي أَنْ أَسْأَلَه فَقُلْتُ يَا ابْنَ رَسُولِ الله فَإِذَا بَلَغَتْ نَفْسُه هَذِه أَيَّ شَيْءٍ يَرَی؟ فَقُلْتَ لَه بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً أَيَّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ فِي كُلِّهَا «یَرَی» ولَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَلَسَ فِي آخِرِهَا فَقَالَ:

«یَا عُقْبَةُ»! فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ فَقَالَ: «أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا ابْنَ رَسُولِ الله إِنَّمَا دِینِي مَعَ دِينِكَ فَإِذَا ذَهَبَ دِینِي کَانَ ذَلِكَ؛ كَيْفَ لِي بِكَ يَا ابْنَ رَسُولِ الله كُلَّ سَاعَةٍ، وَبَکَیْتُ فَرَقَّ لِي فَقَالَ:

«يَرَاهُمَا والله» فَقُلْتُ بِأَبِي وأُمِّي مَنْ هُمَا قَالَ:

«ذَلِكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعَلِيٌّ (عليه السلام) یَا عُقْبَةُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ أَبَداً حَتَّى تَرَاهُمَا»، قُلْتُ: فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمَا الْمُؤْمِنُ أيَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا؟ فَقَالَ:

«لَا، يَمْضِي أَمَامَه إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمَا مَضَى أَمَامَه» فَقُلْتُ لَهُ: يَقُولَانِ شَيْئاً؟ قَالَ:

«نَعَمْ يَدْخُلانِ جَمِيعاً عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَيَجْلِسُ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عِنْدَ رَأْسِه وعَلِيٌّ (عليه السلام) عِنْدَ رِجْلَيْه فَيُکِبُّ عَلَيْه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فَيَقُولُ: يَا وَلِيَّ الله أَبْشِرْ أَنَا رَسُولُ الله، إِنِّي خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَرَکْتُ مِنَ الدُّنْيَا، ثُمَّ یَنْهَضُ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فَيَقُومُ عَلِيٌّ (عليه السلام) حَتَّى يُکِبَّ عَلَيْه، فَيَقُولُ: يَا وَلِيَّ الله أَبْشِرْ، أَنَا عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي کُنْتَ تُحِبُّه، أَمَا لأَنْفَعَنَّكَ».

ص: 51

ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا فِي كِتَابِ الله عَزَّ وجَلَّ»، قُلْتُ: أَيْنُ جَعَلَنِيَ الله فِدَاكَ هَذَا مِنْ کِتَابِ الله؟ قَالَ: «فِي يِونُسَ، قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ هَاهُنَا:

«الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»)(1).

ب - أخرج الكليني بسنده، عن سعيد بن يسار، أنه حضر أحد أبني سابور وكان لها فضل، وورع وإخبات، فمرض أحدهما وما أحسبه إلا زکریا بن سابور قال: فحضرته عند موته، فبسط يده ثم قال:

(أبيضت يدي يا علي)! قال: فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) و عنده محمد بن مسلم، قال: فلما قمت من عنده ظننت أن محمدا يخبره بخبر الرجل، فأتبعني برسول فرجعت إليه فقال:

«أخبرني عن هذا الرجل الذي حضرته عند الموت، أي شيء سمعته يقول»؟ قال: قلت بسط يده ثم قال: أبيضت يدي يا علي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

«والله رآه، والله رآه، والله رآه»(2).

ج - وروى حسين بن سعيد الكوفي (ت 300 ه) وغيره عن عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): حدثني صالح بن میثم عن عباية الأسدي، أنه سمع علياً (عليه السلام) يقول:

ص: 52


1- الكافي للكليني، باب: ما يعاين المؤمن والكافر: ج 3 ص 128 - 129
2- الكافي، باب: ما يعاين المؤمن والكافر عند الموت: ج3 ص 130 - 131

«والله لا يبغضني عبد أبداً فيموت على بغضي إلّا رآني عند موته حيث يكره، ولا يحبني عبد أبدا فيموت على حبي إلّا رآني عند موته حيث يحب»، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «نعم، ورسول الله باليمين»(1).

د - أخرج الشيخ المفيد والشيخ الطوسي (عليهما الرحمة والرضوان) في أماليها، قدوم الحارث الهمداني على أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) فكان ما جرى بينهما من الحديث، أنّه (عليه الصلاة والسلام) قال للحارث:

«أبشرك يا حارث لتعرفني عند الممات، وعند الصراط، وعند الحوض، وعند المقاسمة».

قال الحارث:

وما المقاسمة يا مولاي؟ قال: «مقاسمة النار، أقاسمها قسمة صحيحة؛ أقول: هذا وليي فاتركيه، وهذا عدوي فخذيه...»(2).

ولشهرة الحديث بين أتباع آل البيت (عليهم السلام) فقد أنشد السيد الحميري (عليه الرحمة والرضوان) في ذلك فيقول:

ص: 53


1- الزهد، لحسين بن سعيد الكوفي: ص 83؛ الكافي للكليني: ج 3 ص 132؛ الفصول المهمة للحر العاملي: ج 1 ص 305
2- أمالي الشيخ المفيد: ص 7؛ أمالي الشيخ الطوسي: ص 627؛ المختصر لحسن بن سليمان الحلي: ص 64؛ کشف الغمة للآربلي: ج 2 ص 39

قول علي الحارث عجب *** کم ثم أعجوبة له جملا ياحارهمدان من يمت يرني *** من مؤمن أو منافق قبلا يعرفني طرفه وأعرفه *** بنعته واسمه وما فعلا وأنت عند الصراط تعرفني *** فلا تخف عثرة ولا زللا أسقيك من بارد على ظمأ *** تخاله في الحلاوة العسلا أقول للنار حين تعرض للعرض *** دعية لا تقربي الرجلا دعيه لا تقر بيه إن له *** حبلا بحبل الوصي متصلا)(1) ه - ولشهرة الحديث عند أهل السُنّة والجماعة فقد واجهوه بثلاثة أمور، وهي:

الاول: إنكار الحديث على الرغم من صحته وشهرته بين أهل السُنّة لكنهم أبت نفوسوهم إلا الإصرار على محاربة الحديث بشتى الطرق، ومنها أنكار الحديث وهو ما أثار استغراب إمام المذهب الحنبلي، فعن محمد بن منصور، قال:

(کنّا عند أحمد بن حنبل، فقال له رجل: يا أبا عبد الله ما تقول في هذا الحديث الذي يروى، أن عليا قال:

(أنا قسيم النار)؟!

ص: 54


1- الأمالي للمفيد: ص 7؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 34

فقال: وما تنكرون من ذا أليس روينا عن النبي (صلى الله عليه واله) قال لعلي:

(لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)؟!! قلنا: بلى.

قال فاين المؤمن؟ قلنا في الجنة؛ قال: وأين المنافق؟ قلنا: في النار قال: فعلي قسيم النار)(1).

الثاني: تضعيف الحديث فبعد أن سمعوا من إمام المذهب الحنبلي والذي عُرف بتشدده على الرافضة إلا أنه لم يستطع أن ينكر صحة الحديث، ولذا أشار الى نكارة السائل للحديث؛ واستدل عليه بما هو أعظم على نفسه ونفوس الحاضرين بما لا يمكن أنکاره فأثبت لهم صحة أن عليا (عليه الصلاة والسلام): قسیم النار والجنة ولذا: عمدوا إلى تضعيف کلا من موسی بن طريف الأسدي، وعباية بن ربيع الأسدي الذي سمع أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) يقول:

«أنا قسيم النار هذا لي وهذا لك».

الثالث: إعلان الحرب على الأعمش الذي سمع الحديث عن موسی بن طريف الأسدي، عن عباية، عن علي (عليه السلام)، فقد لاقى الأعمش من معاصريه من أهل السُنّة والجماعة حربا ضروسا كادت أن تقضي على حياته!! وذلك أنه أخذ يحدث الناس بقول الإمام علي (عليه السلام): أنا قسيم النار.

ص: 55


1- طبقات الحنابلة لمحمد بن أبي يعلى: ج 1 ص 320

والعلة في هذه الحرب يكشفها عيس بن يونس فيقول:

(مارايت الأعمش غضع إلا مرة واحدة، فانه حدثنا بهذا الحديث، قال علي (أنا قسيم النار) فبلغ ذلك أهل السُنّة فجائوا أليه فقالوا: أتُحدِّث باحادیث تقوي بها الروافضة والزيدية والشيعة؟ فقال: سمعته فحدثت به.

فقالوا: فكل شيء سمعته تحدث به؟!! قال: فرأيته خضع ذلك اليوم)(1).

والحديث لا يحتاج إلى مزيد من البيان في ممارسة التدليس والتعتيم والتضليل والاخفاء والاقصاء لثقل النبي (صلى الله عليه واله) الأصغر في أمته.

هذه الأمة التي تعاهدت على تغيير سُنّته أذا عملت بها شيعة أهل بيته (عليهم السلام) وما قول ابن تيمية عن ذاك ببعيد، أذيقول في حكم السُنّة النبوية في تسطيح القبور والنهي عن تسنيمها:

(ومن هنا أفتى بعض فقهاء أهل السُنّة بترك بعض المستحبات إذا صارت شعارا لهم، أي للشيعة فانه وان لم يكن الترك واجبا لذلك، لكن في أظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميز السني من الرافضي)(2).

وقال الرافعي: (التسنيم أفضل مخالفة لشعار الروافض)(3).

ورد الحافظ النووي على هذا التحامل على الشيعة الرافضة واتخاذه شعارا

ص: 56


1- ضعفاء العقيلي : ج 3 ص 416؛ لسان الميزان لابن حجر: ج 3 ص 247
2- منهاج السُنّة: ج 2 ص 143
3- فتح العزيز: ج 5 ص 224

في ترك الواجبات والسنن النبوية فيقول: (ورد الجمهور على ابن أبي هريرة في دعواه أن التسنيم أفضل لكون التسطيح شعار الرافضة. فلا يضر موافقة الرافضي لنا في ذلك ولو كانت موافقتهم لنا سببا لترك ما وافقوا فيه، لتركنا واجبات و سُننا كثيرة)(1).

والسؤال المطروح:

ماذا شاهد ابن عثيمين عند احتضاره، وماذا شاهد غيره من أسلافه الذين تعاهدوا على مخاصمة بضعة النبوة وصفوة الرسالة، بعد هذه الحقيقة التي دلَّ عليها القرآن والسُنّة، وماذا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وماذا قال لأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بعد اشتراكه في خصومة فاطمة (عليها الصلاة والسلام)؟! لا شك أن الإجابة على هذه التساؤلات أضمرتها - أن لم تكن قد صرّحت بها - تلك الساعات الأربعة التي قضاها في الاحتضار فتنتهي بفمه المفتوح الذي عجز عن أقفاله الحاضرون.

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(2).

المسألة الثالثة: مصطلحات الدراسة، ونوعها، ومنهج البحث.

اشتملت الدراسة على بعض المصطلحات التي دارت في فلك بعض الحقول المعرفية، وهي على النحو الآتي:

ص: 57


1- المجموع :ج 5 ص 269
2- سورة الشعراء، الآية: 227

أولًا - الخصومة.

عُرفت الخصومة اصطلاحاً: بالمنازعة، والجدل، وأصل المخاصمة: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر: أي جانبه، وأن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب(1).

وهذا المعنى الاصطلاحي له نظائر عدة وردت في حقول معر فيه شتی، لا سيما اللغة والقرآن والفقه والاخلاق، وهي كالاتي:

1 - الجدل والجدال والمجادلة.

الجدل: هو شدة الخصومة(2).

والمجادلة: المخاصمة والمدافعة، وقد ورد في الحديث:

«ما أوتي الجدل قوم إلا ضلوا..» والمراد به الجدل على الباطل وطلب مغالبة(3).

قال الراغب: الجدال : المفارضة على سبيل المنازعة والمغالبة(4).

قال الشيخ المفيد (عليه الرحمة والرضوان):

(الجدال على ضربين: أحدهما بالحق، والآخر بالباطل، فالحق منه مأمور به ومرغّب فيه، والباطل منه منهي عنه ومزجور عن استعماله.

ص: 58


1- معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية لمحمود عبد الرحمن: ج 2 ص 33
2- الصحاح للجوهري: ج 4 ص 1653
3- المصطلحات: اعداد مركز المعجم الفقهي: ص 877
4- غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، للميرزا القمي: ج 6 ص 252

قال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم):

«وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(1).

فأمر بجدال المخالفين وهو الحجاج لهم، إذ كان جدال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقا، وقال تعالى لكافة المسلمين: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(2).

فأطلق لهم جدال أهل الكتاب بالحسن، ونهاهم عن جدالهم بالقبيح.

وحکی سبحانه عن قوم نوح - عليه السلام - ما قالوه في جدالهم فقال سبحانه: «قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا»(3).

فلو كان الجدال کله باطلا لما أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) به، ولا استعمله الأنبياء - عليهم السلام - من قبله، ولا أذن للمسلمين فيه.

فأما الجدال بالباطل فقد بيّن الله تبارك وتعالى عنه في قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ»(4).

فذم المجادلين في [آيات الله] (5) لدفعها أو قدحها (6) وإيقاع الشبهة في حقها.

ص: 59


1- سورة النحل، الآية: 125
2- سورة العنكبوت، الآية: 46
3- سورة هود، الآية: 32
4- سورة غافر، الآية 69

وقد ذكر الله تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - أنه حاج کافرا في الله تعالى فقال: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ»(1).

وقال محبرا عن حجاجه قومه: «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ»(2).

وقال سبحانه آما لنبيه (صلى الله على وآله وسلم) بمحاجة مخالفيه: «قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا»(3).

وقال لنبيه (صلى الله على وآله وسلم): «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ»(4).

وما زالت الأئمة (عليهم السلام)- يناظرون في دين الله سبحانه ويحتجون على أعداء الله تعالى. وكان شيوخ أصحابهم في كل عصر يستعملون النظر، ويعتمدون الحجاج ويجادلون بالحق، ويدمغون الباطل بالحجج والبراهين، وكان الأئمة - (عليهم السلام) - يحمدونهم على ذلك ويمدحونهم ويثنون عليهم بفضل)(5).

2- اللّد، واللدد.

أ - قال الفراهيدي (ت 175 ه) في معنى اللد:

ص: 60


1- سورة البقرة، الآية: 258
2- سورة الأنعام، الآية: 83
3- سورة الأنعام، الآية: 148
4- سورة آل عمران، الآية: 61
5- تصحيح الاعتقادات: ص 68 - 70

(اللدد، مصدر الألد: أي السيّء الخلق الشديد الخصومة، العسر الانقياد، ورجل ألندد ویلندد: كثير الخصومات، شرس المعاملة)(1).

وقال ابن فارس (ت 395 ه):

(لد): اللام والدال، أصلان صحيحان، أحدهما يدل على خصام، والأخر يدل على ناحية وجانب فالأول: اللدد: وهو شدة الخصومة؛ يقال: رجل ألد، وقوم لُد.

قال الله تعالى:

«وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا»(2) (3).

ب - وقال الشيخ الطوسي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 460 ه):

في بيان حال أبي بكر في خصومته لبضعة النبوة (عليها السلام)، وذلك عبر قولها للإمام علي (عليه السلام):

«والله لقد أجد في ظلامتي، وألد في خصامي»(4).

ج- وقال الزمخشري (ت 538 ه):

في شكاية أمير المؤمنين (عليه السلام) مما لقاه من المنافقين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:

ص: 61


1- کتاب العين للفراهيدي : ج 8 ص 9
2- سورة مريم، الآية: 97
3- معجم مقايس اللغة لابن فارس: ج 5 ص 203
4- الأمالي للطوسي: ص 683

«سنح لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، فقلت: «یا رسول الله ما لقيت بعدك من الإدد والأود» وروي (من اللدد)(1).

وأورد الشريف المرتضى (عليه الرحمة والرضوان) في بيان معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال:

(أما الأود: فهو الميل تقول العرب لأقيمن ميلك وحنفك وأودك وذراك وضلعك وصعرك وصدغك وظلعك بالظاء وصعوك وصدعك كل هذا المعنى واحد.. وقال ثعلب: الأود إذا كان من الانسان في كلامه ورأيه فهو عوج، وإذا كان في الشيء المنتصب مثل عصا وما أشبهها فهو عوج؛ وهذا قول الناس كلهم إلا أبا عمرو الشيباني فإنه قال:

العوج بالكسر الاسم والعوج بالفتح المصدر؛ وقال ثعلب: كأنه مصدر عوج يعوج عوجا، ويقال : عصا معوجة، وعود معوج، وليس في كلامهم معوج..

وأما - اللدد - فقيل: هو الخصومات؛ وقال ثعلب، يقال: رجل ألد، وقوم الد: إذا كانوا شديدي الخصومة؛ ومنه قول الله تعالى: (وهو ألد الخصام)..

وقال الأموي: اللدد: الاعوجاج، والالد في الخصومة الذي ليس بمستقیم، أي هو أعوج الخصومة يميل فلا يقوى عليه ولا يتمكن منه؛ ومن ذلك قولهم: لد الصبي، وإنما يلد في شق فيه، وليس يلد مستقیما فهو يرجع إلى معنى الميل والاعوجاج. وقال فسر لنا الحكم بن ظهير، فقال: ألد الخصام أي أعوج الخصام؛ وأنشد أبو السمح لابن مقبل:

ص: 62


1- الفائق في غريب الحديث للزمخشري: ج 1 ص 26

لقد طال عن دهاء لدى وعذرتي *** وكتمانها أكانی بام فلان جعلت لجهال الرجال مخاضة *** ولوشنت قد بينتها بلساني - اللدد - الجدال والخصومة.. وقال أبو عمرو: الألد: الذي لا يقبل الحق ويطلب الظلم، وقوله - محاضة - يقول: إنهم يخوضون في شعري، ويطلبون معانيه فلا يقفون عليها..

وأنشد أبو السمح:

لا تفتر الكذب القبيح فإنه *** للمرء معتبة وباب ملام واصدق بقولك حين تنطق إنه *** اللصدق فضل فوق كل كلام وإذا صدقت على الرجال خصمتهم *** والصدق مقطعة على الظلام وإذا رماك غشوم قوم فارمه *** باللد مشتغر المدى غشام لاتعرضن على العدو وسيلة *** واحذر عدوك عند كل مقام)(1) ويتضح مما ذُكر:

إن بضعة النبوة (عليها السلام) كانت في ظلامة عظيمة؛ فقد نازعها أبو بکر حقها قهر وأغلظ، وشدد، وألد في خصامها؛ فكان مجادلاً، و مخاصماً، وملداً، فلم تقوى عليه أبنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تتمكن من أخذ حقها منه، ولم يبق أمامها سوى الهجر، فهجرته غاضبة، كاظمة

ص: 63


1- الأمالي للشريف المرتضى: ج 4 ص 78 - 79

لآلمها، محتسبة الى رباها، فهو نعم المولى ونعم النصیر.

وثمة سؤال ينبثق من هذا المعنى مفاده: هل كان ابن عثيمين عالماً بمعنی الخصومة فنضجت في فكره أنها تؤثر على الإنسان فلا تبقي له عقل يدرك به مايقول أو يفعل أو ما هو الصواب فيه؟! وعليه:

لا بد من التعريف بالفكر والفهم كي نصل إلى الإجابة.

ثانياً - معنى الفكرفي اللغة والاصطلاح.

الف - الفكر لغةً.

ورد معنی مفردة (الفكر) في المعاجم اللغوية، على النحو الاتي:

1 - قال الجوهري (ت 393 ه) في بيان معنى الفكر: (التفكير، التأمل، والاسم الفكر، والفكرة، والمصدر الفكر بالفتح، ويقال: ليس لي في. (هذا الأمر فكر، أي ليس لي فيه حاجة، ورجل فكير: أي كثير التفكير)(1).

2 - وقال ابن فارس (ت 395 ه): (الفاء والكاف والراء، تردد (القلب في الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبراً)(2).

ص: 64


1- الصحاح للجوهري: ج 2، ص 783
2- معجم مقاییس اللغة لابن فارس: ج 4، ص 446

3 - قال ابن سيده (ت 458 ه): (الفكرة: إعمال الخطار في الشيء (والجمع فکّر)(1).

4 - وقال الفيروز آبادي (ت 817 ه): (الفكر بالكسر، وبفتح: إعال (النظر في الشيء كالفكرة والفكري بكسرهما والجمع أفكار)(2).

أقول: ويمكن أن نستخلص من هذه التعاريف، أن الفكر هو أشغال القلب، أي العقل في التأمل عبر النظر في الشيء.

باء - الفكر أصطلاحاً.

أما معنى المفردة في الاصطلاح فقد جاءت:

1 - قال شيخ الطائفة الطوسي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 460 ه):

(والفكر هو التأمل في الشيء المفكر فيه، والتمثيل بينه وبين غيره، وبهذا يتميز من سائر الأعراض من الإرادة والاعتقاد وليس في المتعلقات بأغيارها شيء يتعلق بكون الشيء على صفة أو ليس عليها غير النظر - والنظر هو الفكر -)(3).

2 - وقال الجرجاني (ت 811 ه):

(إعمال النظر والتأمل في مجموعة من المعارف لغرض الوصول إلى معرفة جديدة، وهو بهذا عملية يقول بها العقل أو الذهن بواسطة الربط بين: (المدركات أو المحسوسات واستخراج معانٍ غائبة عن النظر المباشر)(4).

ص: 65


1- المخصص لابن سيدة : السفر الثالث عشر: ص 745
2- القاموس المحيط: ج 2، ص 111
3- الاقتصاد للشيخ الطوسي: ص 94
4- التعريفات للجرجاني: 55

3 - وقيل هو:

(حركة النفس نحو المبادي والرجوع عنها إلى المطالب)(1).

4 - وقيل أيضاً:

(حركة النفس في المعقولات بخلافها في المحسوسات فأنَّها تخييل لا فكري)(2).

5 - وقيل:

(إعمال العقل بالمعلوم للوصول إلى المجهول)(3).

6 - ويقول جميل صلبيا:

(إنَّ الفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات أو يطلق على المعقولات نفسها؛ فإذا أطلق على فعل النفس دل على حركتها الذاتية وهي النظر والتأمل، وإذا أطلق على المعقولات دل على: المفهوم الذي تفكر فيه النفس)(4).

أقول: ويمكن أن نستخرج من هذه التعريفات:

إنّ الفكر اصطلاحاً هو التأمل والنظر في أمرٍ ما، بقصد الوصول إلى معلومة جديدة وتكوّن معرفة حول الشيء المفكر فيه.

ص: 66


1- معجم المصطلحات والألفاظ الفقيهة لمحمود عبد الرحمن : ج 3، ص 52
2- المصدر نفسه
3- معجم لغة الفقهاء، لمحمد قلعجی: ص 349
4- المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية، جميل صليبا: ج 2، ص 156، دار الكتاب اللبناني

ثالثاً - معنى الفهم في اللغة والاصطلاح.

مما ورد في الدراسة هو البحث في المرتكزات المفاهمية لابن عثيمين في خصومة فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها، والتي انتجت هذه الفتوى والرأي بانها -والعياذ بالله - كانت (لا تعقل...)!! ولذا:

لا بد من الرجوع إلى أهل الاختصاص في اللغة والاصطلاح لمعرفة معنى الفهم ودلالته كي نصل إلى جذور هذه الفتوى التي أطلقها ابن عثيمين.

ألف - الفهم لغةً.

1 - قال الفراهيدي (ت 175 ه):

(فهم: فهمت الشيء، فَهْماً وفِهْماً: عرفته وعقلته، وفهمت فلانا وافهمته: عرفته. ورجل فهم: سريع الفهم)(1).

2 - قال ابن منظور (ت 711 ه):

(الفهم: معرفتك الشيء بالقلب.

فَهِمَه فَهْمَا وفَهَماً وفهامة: عِلمَه؛ وفهمت الشيء: عقلته وعَرفته)(2).

ص: 67


1- کتاب العين للفراهيدي: ج 4 ص 61
2- لسان العرب لابن منظور: ج 12 ص 459

باء - الفهم إصطلاحاً.

جاء معنی مفردة (الفهم) في الاصطلاح، بمعنى:

(تصور المعنى من لفظ المخاطب أو المتكلم أو من عبارة الكتاب).

والتفهيم: إيصال المعنى إلى فهم السامع بواسطة اللفظ)(1).

جيم - الفرق بين الفهم والعلم.

ذکر أبو هلال العسكري (ت 395 ه) فرقا بين أن يكون المرء قد فهم الشيء وبين أن يكون قد علم، فقال:

(أن الفهم، هو: العلم بمعاني الكلام عند سماعه خاصة؛ ولهذا يقال: فلان سيء الفهم، إذا كان بطيء العلم، بمعنی: مايسمع، ولذلك كان الأعجمي لا يفهم كلام العربي، ولا يجوز أن يوصف الله بالفهم لأنه عالم بكل شيء على ما هوبه فيما لم يزل، وقال بعضهم: لا يستعمل الفهم إلا في الكلام ألا ترى أنك تقول: فهمت كلامه؛ ولا تقول: فهمت ذهابه و مجيئه کا تقول علمت ذلك.

وقال أبو أحمد بن أبي سلمة رحمه الله: الفهم يكون في الكلام، وغيره من البيان الإشارة ألا ترى أنك تقول فهمت ما قلت وفهمت ما أشرت به إلي.

قال الشيخ أبو هلال رحمه الله: الأصل هو الذي تقدم وإنا استعمل الفهم في الإشارة لان الإشارة تجري مجرى الكلام في الدلالة على المعنى)(2).

ص: 68


1- معجم المصطلحات والالفاظ الفقهية، محمد عبد الرحمن: ج 1 ص 481؛ معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي: ص 350
2- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص 414

وقيل: الفهم: تصور المعنى من لفظ المخاطب، وقيل: ادراك خفي، دقیق، فهو أخص من العلم، لان العلم نفس الادراك سواء كان خفياً أو جلياً، ولهذا قال سبحانه في قصة داود وسليمان (عليهما السلام):

«فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا».

خص الفهم بسلیمان، وعمم العلم لداود وسلیمان)(1).

وعليه:

يتضح من هذا البيان ثمة اسئلة:

1 - هل علم ابن عثيمين معاني الكلام ليفهم الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن عائشة في هجرة فاطمة (عليها السلام) لأبي بکر کي يسأل الله ان يعفوا عنها لهجرتها؟! 2 - أمْ أنَّه فهم النصوص القرآنية في سهم ذي القربى وارض فدك وأقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما ورثه من اشياخه فكونت لديه مقاصدية محددة في قوله الذي نعت به فاطمة (عليها السلام)؟ 3 - وهل ارتكزت هذه المفاهيم مع قصدية القرآن والسُنّة النبوية والتاريخ وسير الخلفاء؟! ومن ثم فلا بد من التعريف بالقصد والمقاصدية، التي اعتمدت عليها الدراسة في الوصول إلى مضمرات القول، وهي کما يلي:

ص: 69


1- الفروق اللغوية: ص 414

رابعاً - معنى المقاصدية ومفهومها.

للوصول إلى معنى القصدية ومفهومهافلا بد من الرجوع إلى تعريفها في اللغة والاصطلاح وما ذكره البلاغيون من استعمالات ودلالات و معنی للقصد في كتبهم.

ومن ثم لنقف عند مقاصدية قول ابن عثيمين في بضعة النبوة فاطمة (عليها السلام) وما نتج عنه من شبهات عقدية، وهو كالاتي:

ألف - معنى القصد والمقاصدية في اللغة.

إن المستفاد من معنی مفردة (قصد) في اللغة، هو أصابة المعنى في اللفظ والوصول إليه.

أ - قال الفراهيدي:

(القصد: استقامة الطريق، والقصد في المعيشة أن لا تسرف ولا تقتر؛ وقد جاء في الحديث: ماعال مقتصد، ولا يعيل)(1).

ب - وقال ابن فارس (ت 395 ه):

قصد: القاف، والصاد، والدال؛ أصول ثلاثة يدل أحدهما على إتيان شيء وأمه، والأخر على كسر وانکسار، والأخر على اكتناز في الشيء؛ فالأصل: قصدته قصداً و مقصداً.

ص: 70


1- کتاب العين: ج 5 ص 54

ومن الباب: أقصد السهم إذا أصابه فقتل مكانه وكأنه قيل ذلك لأنه لم يحد عنه)(1).

وهذا يكشف عن دلالة القصد في النص: أي إصابة المعنى الذي عناه منتج النص كما يصيب السهم الهدف ويصل إليه:

(فأقصدها سهمي وقد كان قلبها *** الأمثالها من نسوة الحي قانصاً)(2) وفي الأصل الثالث الذي ذكره ابن فارس يحدد وظيفة القصد في اللفظ، أي أن النص يكون متمثلاً ومكتنزاً للمعاني والدلالات فتكون وضيفة المتلقي اخراج هذه المعاني التي اكتنزها اللفظ.

ولذا قيل:

(الناقة القصيدة: المكتنزة الممتلئة لحماً.

قال الأعشى:

قطعت وصاحبي سرح كناز *** كركن الرعن ذعلبة قصيد ولذا سميت القصدية من الشعر قصيدة لتقصيد أبيهاتها، ولا تكون أبياتها إلا تامة الأبنية)(3).

ص: 71


1- معجم مقاییس اللغة: ج 5 ص 95
2- المصدر السابق
3- معجم مقاییس اللغة: ج 5 ص 96

ج - وأظهر أبو هلال العسكري (ت 395 ه):

(إنَّ المعنى: القصد الذي يقع به القول على وجه، وقد يكون معنى الكلام في اللغة ما تعلق به القصد.

وقيل: إنَّ المعنى هو القصد، ما يقصد إليه من القول، فجعل المعنى: القصد لأنه مصدر)(1).

د - وقد كان لابن جني بیاناً موفقا في تحديد موقع اللفظ وأصله، أي (القصد) في كلام العرب، وهو: الاعتزام، والتوجه، والنهود، والنهوض، نحو الشيء على أعتدال كان ذلك أو جور.

هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، الاترى وانك تقصد الجور تارة کما تقصد العدل أخرى، فالاعتزام والتوجه شامل لها جميعاً)(2).

وهذا يرشد الى أنَّ القصد يراد به في الأصل في كلام العرب حينما تتم المقارنة مع النظرية التداولية وتحديداً في معيار المقصدية هو التوجه بالمعنی والنهوض به نحو الشيء الذي عناه منتج النص مرتكزاً على الاعتدال في توجيه المعنی بغية احراز التفاعل مع المتلقي.

باء - القصد والمقاصدية في الاصطلاح.

يمكن الوقوف على معنى القصدية في الاصطلاح عبر المفاهيم التي

ص: 72


1- الفروق اللغوية: ص 505
2- لسان العرب لابن منظور: ج 3 ص 355

تناولت اللفظ في بعض العلوم، فالقصدية في الفلسفة هي:

(اتجاه الذهن نحو موضوع معين وادراكه له ويسمى القصد الأول، وتفكيره في هذا الادراك سمي القصد الثاني)(1).

في حين عرَّفها علماء الظاهراتية (الفينومينولوجيا): هي مبدأ كل معرفة وتعني: أنَّ المعنى يتكون من خلال الفهم الذاتي والشعور القصدي الآتي بإزائه)(2).

جيم - مفهوم مقاصدية القرآن والسُنّة.

حينما كان القران والسُنة النبوية المصدران الأساسان للشريعة فان مقاصد الشريعة هي في مفهومها قريبة من مقاصد القران والسُنّة إن لم يكن المفهومان متلازمان في المعنى والدلالة، والغاية.

ولذا: فقد ذهب البعض إلى تعريف مقاصد القران والسُنّة ب(الأمر باکتساب المصالح وأسبابها والزجر عن أكتساب المفاسد وأسبابها؛ والتعريف يلمح للمقصد العام للإسلام بأنه جلب للمصالح ودرء المفاسد)(3).

ص: 73


1- معجم المصطلحات في اللغة والادب، تأليف مجدي وهبة وكامل المهندس: ص 288، ط 2 مكتبة لبنان
2- هي مدرسة فلسفية تعتمد على الخبرة الحسية للظواهر كنقطة بداية (أي ما تمثله هذه الظاهرة في خبراتنا الواعية) ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل هذه الظاهرة وأساس معرفتنا بها. للمزيد ينظر: ويكيبيديا العربية، علم الظواهر
3- مقاصد القران الكريم ومحاوره عند المتقدمين والمتاخرین، د. عیسی بوعكاز، كلية العلوم الاسلامية - جامعة باتنة، مجلة الأحياء، العدد 20 - لسنة 2017

وقد اختلفت الأقوال في تحديد أقسام مقاصد القران، فكانت على النحو الآتي: 1 - السيوطي (ت: 911 ه)، وقد جعلها أربعة مقاصد، فقال:

إن مقاصد القرآن في أربعة علوم قامت بها الأديان، علم الأصول ومداره على معرفة الله وصفاته ومعرفة النبوات ومعرفة المعاد؛ وعلم العبادات؛ وعلم السلوك، وهو حمل النفس على الاداب الشرعية؛ وعلم القصص وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة، وقد نبّه عزّوجل في سورة الفاتحة على جميع مقاصد القرآن(1).

2 - محمد صدر الدين الشيرازي (ت: 1050 ه)، وقد جعلها ستة مقاصد وسماها ايضا بالاصول المهمة، فقال:

وهي: معرفة الله وصفاته وأفعاله، معرفة الصراط المستقيم والصعود الى الله والسلوك عليه وعدم الانحراف؛ معرفة المعاد والمرجع إليه وأحوال الواصلين إلى دار رحمته؛ معرفة المبعوثين من عند الله لدوعة الخلق ونجاة عن حبس الجحيم؛ حكاية أقوال الجاحدين فضائحهم وتسفيه عقولهم: تعلیم عمارة المنازال والمراحل إلى الله تعالى وكيفية أخذ الزاد والمقصود منه كيفية معاملة الانسان مع أعيان هذه الدنيا، وهي علم الأخلاق وعلم السياسة والتدبير وعلم أحكام الشريعة كالقصاص والديات والأقضية والحكومات وغيرها(2).

ص: 74


1- الاتقان في علوم القران: ج 2 ص 284
2- اسرار الايات: ص 21 - 22

3 - الفيض الكاشاني (ت 1091 ه)، وعرّفها قائلًا:

إنّ مقاصد القران الكريم ترجع عند التحقيق إلى ثلاثة معان: معرفة الله ومعرفة السعادة والشقاوة الاخرويتين، والعلم بما يوصل إلى السعادة ويبعد عن الشقاوة(1).

4 - الآلوسي (ت 1650 ه)، وعرّفها قائلًا:

إن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي، بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل: لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن، التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد، والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام أولاً بالذات والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عز وجل إذ التخصيص له جزآن النفي عن الغير والإثبات للمخصص به فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة، وقيل: إن مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ(2).

وعليه:

فثمة سؤال تفرضه الدراسة: هل هناك أصل لما استند اليه ابن عثمين في مقاصدية القرآن والسُنّة في (أن الانسان عند المخاصمة لا يبقى له عقل يدرك به ما يقول أو يفعل أو ما هو الصواب فيه)؟!!

ص: 75


1- الوافي: ج 8 ص 669
2- تفسير الألوسي:ج 30 ص 250

دال - المقاصدية في التراث البلاغي.

يتضح اهتمام البلاغيون العرب في تتبع قصد منتج النص عبر اهتمامهم بالمعنى وفهم كلام القائل وقدرته على إفهام السامع وهو ما يعنيه اللسانيون في دراستهم لمعياري القصدية والمقبولية.

فقد أظهر أبو هلال العسكري مفهوم القصدية في بيانه لمفهوم مفردة المعنى ودلالتها فيقول:

(المعنى: هو القصد الذي يقع به القول على وجه دون وجه فيكون معنی الكلام ما تعلق به القصد)(1).

ثم يأتي بمثل في بيان حقيقة القصد ومراده فيقول:

(والكلام لا يترتب في الأخبار والاستخبار وغير ذلك إلا بالقصد، فلو قال قائل: (محمد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -) ویرید جعفر بن محمد بن جعفر كان ذلك باطلاً)(2).

ثم يأتي الى بيان الغرض الذي أراده منتج النص في خطابه، فيقول:

(والغرض هو المقصود بالقول أو الفعل بإضمار مقدمة)(3).

وبين السبب في تسميته بالغرض (تشبيهاً بالغرض الذي يقصده الرامي بسهمه وهو الهدف)(4).

ص: 76


1- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص 504
2- المصدر السابق
3- الفروق اللغوية: ص 504
4- الفروق اللغوية: ص 504

وتظهر مفاهيم العملية التواصلية في التراث البلاغي عبر تعريفهم للبيان کما جاء عن الجاحظ والقيرواني (ت 453 ه) والظهار أن القيرواني نقل هذا التعريف عن الجاحظ، فيقول:

(والبيان أسم جامع بكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان من أي جنس كان ذلك الدليل لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والأفهام فبأي شيء بلغت الأفهام وأوضحت عن المعنى فذاك هو البيان في ذلك الموضع)(1).

ويظهر مدار العملية التواصلية في معياري القصدية والمقبولية في قوله:

(والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والأفهام) ومن ثم يكون الخطاب التواصلي بين الناس ثمرة وهي (البيان).

ويتجلى اعتماد البلغاء والشعراء القصدية في بيانهم للمعنى المنظور والموزون في الشعر، قال ابن جني:

(سمي قصيدة لأنه قصد واعتمد)(2).

وقال الجوهري: (سمي قصيداً لأن قائله احتفل له فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار وأصله من القصيد)(3).

ص: 77


1- البيان والتبيان للجاحظ: ص 55؛ زهر الآداب للقيرواني: ج 1 ص 149
2- لسان العرب: ج 3 ص 356
3- المصدر السابق

وقيل (سمي الشعر التام قصيداً لان قائله جعله من باله فقصد له قصداً ولم يحتسّه على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روی فیه خاطره واجتهد في تجويده ولم يقتضبه اقتضاباً فهو فعيل من القصد، وهو الأُم)(1).

أن مفهوم القصدية في التراث النقدي والبلاغي كان حاضراً في مظهرين رئيسيين:

أولهما: النية؛ حيث سمي الشعر التام قصيداً لان قائله جعله من باله فقصد اله قصداً؛ إضافة إلى تعريفهم للشعر بأنه بعد النية على أربعة أشياء، وهي:

اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر لأن من الكلام موزوناً مقفّى وليس بشعر لعدم القصد والنية، بل اشترط بعضهم في الشعر أن يكون أكثر من بيت احترازاً عما يقع في سطر واحد بوزن الشعر دون القصد.

اما المفهوم الثاني للقصد: فيتمثل في المصطلحات التي استعملها القدامی للدلالة على المراد من النص او الكلام، مثل: المعنى، والغرض، والهدف، والحاجة، والغاية التي يريد أن يبلغ اليها المتكلم، بل لعل تعريفهم للبلاغة يتضمن جانباً من القصدية حيث ينشطرون لتحقق بلاغة النص أو الكلام وضوح القصد للسامع)(2).

ص: 78


1- لسان العرب: ج 3 ص 354
2- القصدية والمقبولية في التراث النقدي والدرس اللساني، د. أياد نجيب عبد الله، و أ. ميلود مصطفى عاشور: ص 353، مجلة جامعة المدينة العالمية، العدد السابع عشر - يوليو - 2016 م

وبناءاً عليه:

فقد أقتضت الدراسة البحث في مقاصد النص الوارد عن ابن عثيمين في بضعة النبوة (عليها السلام) وبيان مر کوزه ومدی توافقه مع القرآن والسُنة واللغة والأدب والسيرة.

کما اقتضت الدراسة التأصيل المعرفي المقام قطبي الخصومة، أي بضعة النبوة فاطمة (عليها السلام) وأبي بكر في ضوء مقاصدية القرآن والسُنّة ليتضح عند ذلك حقيقة قول منتج النص. أي ابن عثيمين؟!

خامساً - نوع الدراسة: بينية.

اعتمدنا في هذه الدراسة على أهم الطرق العلمية في بناء النتائج المعرفية والفكرية؛ إذ تعد الدراسات البينية من أهم ما توصلت إليه المناهج العلمية في طرق جمع المعلومة واعادة بلورتها في نتاج معرفي جديد يرتكز على الممازجة بين الحقول المعرفية المتعددة للوصول إلى نتاج معرفي و فکري جديد يمكن الباحثين والدارسين من فهم مادة البحث سواء أكانت هذه المادة البحثية هي الانسان وما يصدر عنه أو ما يختلج في مكنون نفسه ضمن العلوم الانسانية أو ما أرتبط بالعلوم الأساسية أو التطبيقية.

وذلك أن الهدف من الدراسات البينية هو (تعظيم الإستفادة من التوجهات الفكرية للتخصصات المشاركة وتحقيق الإبداع في طرق التفكير والتكامل المعرفة وليس وحدتها)(1).

ص: 79


1- تزاوج الإختصاصات، نجيب عبد الواحد؛ 3 يونيو 2017؛ الدراسات البينية التعليم العالي

مما يحقق أيضًا (تكامل المعارف الانسانية على اختلاف مجالاتها لتظهر علوم وكشوف جديدة نافعة للبشرية)(1).

وهذا ما سعت الى تحقيقه الدراسة عبر المازجة بين الحقول المعرفية المتعددة بغية الوصول إلى نتائج جديدة في قضية بلغت من الأهمية بمكان ما جعلها متجددة في البحث والدراسة ألا وهي ظلامة بضعة النبوة وصفوة الرسالة فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها)؛ وماعينة الدراسة التي بين أيدينا إلا شاهد متجدد في أروقت الفكر وحقوله المعرفية لاسيما الحقل العقدي الذي عليه قيام العلاقة مع الله تعالى ورسوله الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم).

فضلا عن كاشفية افتقاد خصم فاطمة عليها السلام الذي نعتها ونشئها بقوله الى الأصول العلمية والمعرفية التي يلزم بالباحث الاخذ بها وتحكيمها فيما يقول أو يبحث، فضلا عن تعارض قوله وفكره مع مقاصدية القران والسُنّة واللغة والادب والتاريخ؛ لنستنتج أنه أرتكز في فهمه وفكره على المكون العقدي الذي ورثه من أشياخه وأسلافه؛ ومن ثم فمقاصدية النص هي مكونات العقيدة الوهابية والتيمية.

سادسا - منهج البحث.

اعتمدت في هذه الدراسة على ثلاثة مناهج بحثية، وهي: المنهج الاستقرائي، والمنهج الوصفي، والمنهج التحليلي، وذلك لدراسة المعطيات التاريخية،

ص: 80


1- صحيفة المدينة، يوم الاثنين، 28 شوال - 1 يوليو 2019

والروائية، والعقدية، والثقافية، عبر استنطاق النصوص، والاحداث، والمظاهر والبواطن للمواقف بغية الوصول إلى نتائج وكشوفات معرفية جديدة تسهم في أصلاح الإنسان والمجتمع والرجوع به إلى هويته القرآنية والنبوية والتمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته (عليهم السلام).

فلم ولن يضل من تمسك بهما حتى یردا على الحوض؛ عهد معهود من الله لنبيه المصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) ولن يضر الله شيئاً من كفر من الناس وكان في شك مريب.

قال تعالى: «وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ».

«أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»(1).

وليقف القارئ على حقيقة ما لحق بضعة النبوة وصفوة الرسالة من الظلم والاذى منذ أن توفي رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والى يومنا هذا.

فما قول بن عثيمين إلا عينية جديدة في طرحها، قديمة في منهجها وعقديتها في ظلم فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).

ص: 81


1- سورة إبراهيم، الآية: 9

ص: 82

الفصل الأول: فاطمة (علیها السلام) وخصمها أبي بكر في مقاصدية القرآن والسُنّة

ص: 83

ص: 84

المبحث الأول فاطمة (علیها السلام) في مقاصدية القران والسُنّة.

من هي فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) في مقاصدية القرآن والسُنة النبوية؟ سؤال يطرح لكن أجابته معلومة لدى معظم المسلمين وغيرهم ممن أطلع على الإسلام وحياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن قصدية السؤال لا يراد منها الإجابة المعهودة، بل التعريف بفاطمة بما عرّفها به الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي أمير المؤمنين وابنائها الأئمة (عليهم الصلاة والسلام أجمعين).

وإلاّ بخلاف هذه القصدية يكون التعريف بخصهما أرجح في الوضوح فسرعان مايقال: إن خصهما. أبو بكر خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فينصرف الذهن إلى التفضيل بما يرتكز في ذهن أبناء العامة من المسلمين من موروث تاريخي وعقدي حرص القائمون على تدوينه على تغييب العترة النبوية من روح الإسلام ومكوناته وهيئته.

وما قول ابن عثيمين إلا مصداق لهذا التركيب والتدوين الذي أسست له الخلافة وشيده الخلفاء.

ص: 85

وعليه:

فإن فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) هي في الإجابة العامة في منطوق السؤال أبنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي منطوق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجابته القولية والعملية لها أثار و ضوابط وحدود و قوانين تفرض على المسلم إلية خاصة للتعامل مع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتظهر مدار معرفتها، وتقدم الإجابة على السؤال الذي تصدّر عنوان المبحث ليتضح حين ذاك مقاصدية القرآن والسُنّة، ويتضح أيضاً من هو خصمها، ومن هو ابن عثيمين الذي وصفها بما وصف، وهو على النحو الآتي:

المسألة الأولى: إنّ فاطمة (علیها السلام) هي نواة تكوين بيت النبوة في مقاصدية القرآن والسُنّة.

ينطلق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في بناء المجتمع الإسلامي من منهج البناء التقوائي للفرد والأسرة والمجتمع، بمعنى: أنه أنشئ المجتمع على العقيدة وليس على الطبقية القبائلية وركيزة الاحساب والانساب على الرغم من أن القبيلة وجذورها الضاربة في الشخصية العربية كانت من الأسس التي أعاد الإسلام بناء مكونتاها النفسية وذلك عبر محاربته صلى الله عليه وآله وسلم للجاهلية بجميع مكوناتها؛ إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوی.

ولذلك: لم يكن الفعل النبوي أو القول النبوي في التعامل مع شخص فاطمة عليها السلام يرتكز على العنصر الرحمي والوالدي، وإنما يرتكز

ص: 86

على العقيدة الإسلامية المكونة لمجتمع جديد يضم جميع الأعراق والألوان والطبقات، لاسيما وإن هذا الهدي المحمدي كان في المدينة المنورة وبعد أن تكوّن فيها نواة البيت النبوي عند تزويج النور من النور وولادة نورا النبوة والإمامة في الحسن والحسين عليهم السلام فهؤلاء الأنوار الأربعة كانوا المنار الذي ينير للمسلمين بعد (السراج المنير)(1)، طريقهم إلى الله تعالى وهم يأمن المسلمون من الوقوع في الظلال أو الدخول في التيه کا دخله من كان قبلهم من الأمم السابقة.

ولأجل هذا: كان المنهاج النبوي في التعامل مع هذه النواة التي تكوّن منها البيت النبوي المحمدي على النحو الآتي:

أولاً - انحصار (الأهل) بفاطمة وبعلها وولدها (علیهم السلام) في مقاصدية القرآن والسُنّة.

قد لا يخفى على الباحث والمتتبع لشؤون المجتمع العربي الدور الكبير للعشيرة والأهل في تكون التحزبات والتجمعات لدى الإنسان العربي.

فالعشيرة والأهل، هم مصدر القوة، والمال، والعزة، والحسب، والتفاخر، والمنعة، والغلبة، والسلطان، وغيرها من المعان والدلالات الراسخة في العقلية العربية قديماً وحديثا وإن تفاوتت من مجتمع إلى آخر العراق واليمن ومصر فكل مجتمع منها تتفاوت فيه هذه العناصر المكوّنة للمجتمع.

في حين كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعند بدئه في تكوين

ص: 87


1- هو قوله تعالى: «وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا»؛ سورة الأحزاب، الآية: 46

مجتمع جديد في المدينة المنورة قد اختار من هذه المفاهيم مفهوماً واحداً وهو أن لا قيام للإنسان بدون التقوى فالأهل تجمعهم التقوى وتفرقهم كذلك، کما کان حال نوح وولده .

قال تعالى:

«وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ»(1).

والقرآن في هذه الآية المباركة لم يكن ليغض الطرف عن علاقة الإنسان بالأهل وانجذابه الفطري إلى أهله وارتباطه وتمسكه بهم وإن لهم الحظوة لديه، فهم مبدأ نشأته ونموه وأساس وجوده في الحياة.

لكن هذه الأحاسيس والروابط النفسية والروحية لم تكن حاجزاً وبحسب المفهوم القرآني - عن طاعة الله تعالى؛ إذ إنها تنهار فيما لو كان أحد أفراد الأهل خارجاً عن عنوان التقوی کما هو حال ابن نبي الله نوح (عليه السلام).

بل: يأتي القرآن في مواضع أخرى يظهر للمسلم وفي مجتمعه الجديد الأسس التي يقوم عليها هذا المجتمع الذي انظم إليه فكان أحد مكوناته وأحد عناصر وجوده وديموميته.

فيقول سبحانه:

ص: 88


1- سورة هود، الآية: 46

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...»(1).

أي: الاستفادة من هذه الفطرة، ومن هذه الروابط النفسية والروحية لتكون حافزاً في نجاة هؤلاء (الأهل) من النار.

لكن هؤلاء الأهل إذا كانوا حائلاً بين المسلم وبين طاعة الله عزّ وجل ويدفعون به إلى الخروج عن الطاعة لله فيتلبس فيه معنى آخر وهو الفسق، كما هو واضح في قوله تعالى:

«قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»(2).

وهنا: يقدم القرآن معنی جديداً للحب بكونه أحد المكونات الأسرية وواحداً من أهم الروابط التي تجمع الأهل فيجعله القرآن ضمن ضابطة جديدة ترتكز على حب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أما في مفهوم الموالاة فكذاك يقدم القرآن ضابطة وقاعدة جديدة يرتكز عليها هذا البناء الأسري في الإسلام، إلا وهو الموالاة لله تعالى.

يقول سبحانه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ

ص: 89


1- سورة التحريم، الآية: 6
2- سورة التوبة، الآية: 24

عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1).

فمن هذه المفاهيم القرآنية الجديدة في إعادة بناء الأسرة في المجتمع الإسلامي وبلحاظ إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو العمود الفقري لهذا المجتمع وأن له أهلاً كما للمسلمين، وتربطه بهم مجموعة من الروابط کما تربط كل إنسان بأهله - مع الفارق - في تقنين هذه المفاهيم کما أسلفنا ومن ثمّ فإن هؤلاء الأهل الذين ينتمي إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وينتمون إليه وتربطه بهم روابط الحب والألفة والدم والقرابة؛ وجب معرفتهم كما يعرف المسلمون کلاً أهله، وأن لهم عليه حقوقاً، وله عليهم حقوقاً كذلك، لذا لزم على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تعينهم وإظهارهم للناس كي يعلم المسلمون ما يجب عليهم من الحقوق اتجاههم، مع ملاحظة: أن هؤلاء لهم خصوصية الأهلية التقوائية التي جاء بها القرآن كعنصر أساس في قيام الأهل أو فك جميع الأواصر بهم.

وعليه:

كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من واجبه الشرعي أن يحدد للمسلمين من هم أهله بالمنظور القرآني والتحديد الرباني، إذ - وكما أسلفنا - للمجتمع الإنساني والعربي (تحديداً) مفاهيم أخرى في تكوين الروابط الأسرية والأهل.

لاسيما وأن النبي الهاشمي القرشي له أقارب وأبناء عمومه وعشيرة كبيرة لم يكن لها مثيلاً في الحسب والمفاخر، فضلاً عن تزوجه من نساء عدة فكانت

ص: 90


1- سورة التوبة، الآية: 23

مصاهرته لهذه القبائل عامل آخر في اتساع دائرة القرابة وتداخلها مع هذه البيوتات بحسب ما تفرضه القوانين القبائلية في تكون المجتمع العربي.

من هنا:

كان اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وبحسب هذا المكوّن الاجتماعي - أن يشرع في تحديد الأهل للناس جميعاً كي يدرك المسلم ما لهؤلاء من حقوق وواجبات ينبغي مراعاتها، وذلك بحسب مجموعة من المفاهيم.

1 - إن لهم حرمة الدم التي تأسس عليها المجتمع الإنساني وخصوصاً العربي، فضلاً عن تثبيت القرآن قانون القصاص في مجال الحدود والتعزيرات.

2 - إن لهم حرمة الشأنية إذ أن المجتمع العربي وغيره من المجتمعات بني على تلازم شأنية كل فرد بحسب أسرته وأهله، ومن ثم فلهم من الشأنية الاجتماعية ما لغيرهم من الأسر المحترمة التي بلغت مراتب عالية من المآثر والمفاخر وهو ما يعرف بالحسب.

3 - إن التعدي على أحدهم تعدي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

4 - إن إكرام أحدهم هو إكرام للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فهذه المفاهيم وغيرها من الأسس التي قام عليها المجتمع هي نفسها موجودة لدى (الأهل) الذين اختص بهم النبي المصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) واختصوا به.

فكيف إذا ألحقت بها أسس جديدة سَنّها القرآن وأوجبها على الأمة جميعاً والتي كان الملاك فيها والقاعدة التي بني عليها هذا البناء الجديد هي التقوى؛

ص: 91

وإن لهم - فضلاً عما للمسلمين مع أهلهم من الحقوق المذكورة.

ولذلك:

حدد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هم أهله للمسلمين کي لا يحتج محتج يوم القيامة فيقول لم أعلم من هم؛ فكان ذلك عبر مجموعة من الأقوال والأفعال النبوية كشفت عن هؤلاء الأهل، وما يترتب على هذه الأمة من حقوق اتجاههم ضمن تلك الأسس التي جاء بها القرآن الكريم، فكانت كالآتي:

ألف: التلازم بين نزول الوحي وفعل النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) في تحديد الأهل بفاطمة وبعلها وولدها (علیهم السلام).

لو نظرنا إلى القرآن الكريم وتدبرنا في آياته لاسيما المتعلقة بعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) لوجدنا تلازماً لا ينفك بين الوحي والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمرة يسبق الوحي الفعل النبوي، وأخرى يسبق النبي الوحي في بيان أمرٍ شرعي لاسيما فيما يختص بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويبدو أن الأمر منحصر في الحكم الشرعي وماله عند الله تعالى من المنزلة والشأنية التي حرص الأنبياء جميعا على إظهارها، ولأجلها كانوا ينطقون في تبليغهم فصدعوا بما أمروا في تعليم الناس: إن لا حرمة فوق حرمة الشريعة، وإن أهل الشريعة اكتسبوا هذه المنزلة لاختصاصهم بالحكم الشرعي المرتبط بالله عزّ وجل فهو صاحب الشريعة.

ص: 92

من هنا:

نجد أن هذا التلازم بين الوحي والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما كان لارتباط أهله بالحكم الشرعي وما يفرضه على المسلم من حدود قد حذّر القرآن أشد التحذير من تعديها أو المساس بها حتى أصبح المبتدعون أي الذين يدخلون أحكاماً إلى الشريعة ما أنزل الله بها من سلطان مصيرهم الحتمي إلى النار لأنهم أهل ضلال.

ومن هنا أيضاً: أصبح آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم تلك الحرمة الشرعية المتلازمة مع حرمة الحكم الشرعي، وإلا لا معنى أن يكون الوحي والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أتى بكل هذا البيان لمجرد أن الهم صفة الرحم والقرابة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وواقع الحال يحكي عن وجود أرحام وأقارب للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فلماذا لم يهتم بهم الوحي والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجم هذا الاهتمام الذي قدمه القرآن والنبي لفاطمة وبعلها وبنيها (عليهم أفصل الصلاة والسلام)؟! وعليه:

كان هذا التلازم ظاهراً لكل قارئ للقرآن مطلع على سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ففي الوقت الذي ينزل الوحي بقوله تعالى:

«... فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(1).

ص: 93


1- سورة آل عمران، الآية: 61

يقوم النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بيان من هم أهل بيته فيخرج فاطمة وعلي وولديهما، وذلك عبر هذا الحديث النبوي الذي أخرجه كثير من الحفاظ، لاسيما مسلم النيسابوري في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً (أن يسب علي بن أبي طالب فامتنع) فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم سمعت رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) يقول له (وقد) خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي:

«یا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟».

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي».

وسمعته يقول يوم خيبر:

«لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله».

قال: فتطاولنا لها، فقال:

«أدعو لي علياً».

فأتی به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه؛ ولما نزلت هذه الآية: «... فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ...»، دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسنا وحسيناً، فقال:

ص: 94

«اللهم هؤلاء أهلي»)(1).

باء: استخدام النبي (صلّی الله علیه وآله) للوسائل التعليمية في بيان مراد الوحي في التشديد والمبالغة بحصر الأهل بفاطمة وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام).

يلجئ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الوسائل التعليمية في إرشاد المسلمين إلى معرفة الحكم الشرعي کي يرسّخ ذلك في أذهانهم ويذهب عنهم التأويلات والآراء والأباطيل والبدع التي يلجئ إليها المنافقون والظالمون والساسة لغرض مصالحهم الشخصية.

ص: 95


1- حدّثنا الربيع المرادي، حدثنا أسد بن موسی، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا بکیر بن مسمار، عن عامر بن سعد عن أبيه، قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً وفاطمة و حسن و حسیناً (عليهم السلام)، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي)؛ أبو داود، إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، و(أسد بن موسی) المصري احتج به النسائي، وعلق له البخاري في تاريخه الكبير برقم 1645 بقوله: مشهور الحديث، يقال له: أسد السُنّة) ووثقه النسائي، وابن يونس، وابن حبان، والعجلي، وابن نافع، وأبو يعلى، و الخليلي في (الإرشاد) وضعفه ابن حزم ولكن رد عليه الذهبي قائلاً: وما علمت به بأساً؛ رواه مسلم کاملاً في کتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) حدیث (2404) بتسلسل 32، والترمذي في الجامع الصحیح کتاب تفسير القرآن باب 4 حدیث 2999 وأخرجه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 108 / 109 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هذا السياق وساقه الذهبي في التلخيص على المستدرك ج 3، ص 108؛ لكنهم أخرجوه ضمن آية المباهلة، ورواه النسائي في (الخصائص) رقم 54؛ وابن جرير في تفسيره ج 22، ص 8؛ والطحاوي في مشكل الآثار ج 2، ص 35، حدیث 761؛ والترمذي في صحيحه كتاب المناقب باب فضائل فاطمة حديث 3871 عن شهر بن موسى عن أم سلمة وفي المعجم الصغير للطبراني : ج 2، ص 91 حدیث 170 وجاء فيه (هؤلاء حامتي وأهل بيتي)

واستخدام النبي الأكرم للوسائل التعليمية والإرشادية في بيان دلالة الحكم الشرعي كثيرة لا يسعنا تتبعها في هذه الأسطر، ولكن فيما يخص إرشاد الناس إلى معرفة آل النبي وعترته وأهل بيته استخدم وسيلة القماش في إرشاد الناس إلى حصر أهل بيته بمن يجللهم هذا القماش أو الكساء وجمعه لأطراف هذا الكساء لقطع الطريق على من يعتقد أن أهله غير هؤلاء بلحاظ ما للمجتمع الإنساني والعربي من عرف في معنى الأهل.

ولذلك:

كانت هذه الوسيلة التعلمية للناس - على بساطتها - إلاّ أنها بالغة الدلالة في تحديد أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حصرهم بهؤلاء الأربعة وهم (فاطمة وعلي وولديها صلوات الله عليهم أجمعين)؛ وذلك كما دلت عليه الأحاديث الآتية:

1 - أخرج الحاكم النيسابوري عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن أبيه قال:

(لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة هابطة، قال:

«ادعوا لي ادعوا لي».

فقالت صفية: من یا رسول الله؟ قال:

«أهل بيتي علياً وفاطمة والحسن والحسين».

فجيء بهم فألقى عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) کساءه ثم رفع يديه، ثم قال:

ص: 96

«اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد».

وأنزل الله عزّ وجل:

«وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1))(2).

2 - روى الحاكم عن عامر بن سعد يقول: قال سعد - بن أبي وقاص - : (نزل على رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) الوحي فأدخل علي وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ثم قال:

«اللهم هؤلاء أهلي وأهل بيتي»).

ونلاحظ هنا أن الفعل النبوي قد تلازم مع الوحي في بيان أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حصرهم عبر هذه الوسائل الإرشادية كي لا يبقى أحد يعتقد أن آل محمد وأهل بيته غير هؤلاء الأربعة.

وهذا المعنى قد التفت إليه الحاكم النيسابوري، أي الحكمة في استخدام النبي للكساء أو الثوب في بيان مراد القرآن والوحي في تحديد الآل والأهل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهؤلاء الأربعة فقط دون غيرهم، فقال: (وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عن موسى بن إسماعيل في الجامع الصحيح؛ وإنما خرجته ليعلم المستفيد أن أهل البيت والآل جميعاً هم)(3).

ص: 97


1- سورة الأحزاب، الآية: 33
2- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 147
3- المستدرك على الصحيحين للحاکم: ج 3، ص 147

بمعنى: أن آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته هم واحد، وهم هؤلاء الأربعة الذين جللهم بالكساء، وهم الذين أخرجهم للمباهلة.

والحديث الذي قال عنه الحاكم: (وقد روي هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري هو هذا: - قال - عبد الرحمن بن أبي ليلى: لقيني كعب بن عجرة فقال: إلا أهدي لك هدية سمعتها من النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم)؟ قلت: بلى، قال: فأهدها إليه.

قال: سألنا رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال:

«قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وآل محمد کما بارکت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»)(1).

3 - أخرج أحمد بن حنبل، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلل على علي وحسن وحسين وفاطمة كساء ثم قال:

«اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

فقالت أم سلمة: یا رسول الله أنا منهم؟

ص: 98


1- صحيح البخارب، کتاب بدء الخلق، ج 4 ص 118

قال:

«إنكِ على خير»)(1).

وتظهر الحكمة بشكل كبير في اعتماد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إرشاد الناس وبالأخص أزواجه إلى تحديد أهل بيته وذلك حينما كان تجلیله لهم بالكساء في دار أم سلمة وفي رواية في دار عائشة كي لا تدّعي إحداهن بأنها من آله وأهل بيته الذين حددهم القرآن وليس الذين يحددهم المجتمع فيكون المعنى مجازي وذلك بالرجوع إلى العِشرة والمودة فقد يصبح إثنان من الناس وبسبب العِشرة الطيبة بأنهم أهل ولعل المودة والأخلاق الحميدة تجعلهم قريبين إلى القلب بأكثر مما يمتاز به أهل البيت الواحد الذين تربطهم رابطة الدم.

ولذلك:

المراد بال النبي وأهل بيته هم أولئك الأربعة وليس أزواجه أو أقرباءه أو أحبابه وخلانه وأصحابه وإن كان لأحدهم مكانة في نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا لا يعني أنهم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين حرم عليهم الصدقة.

من هنا:

ندرك حكمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في استخدام الكساء في دار أم سلمة أو عائشة أو غيرها وندرك أيضاً معنى أن يجمع النبي أطراف هذا الكساء ويمنع أم سلمة من الدخول تحته وقوله لها أنك على خير.

ص: 99


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 304

ثانياً - مقاصدية القرآن والسنة بتلازم حب النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) بحب فاطمة وبعلها وولديها.

يمضي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في إظهار منزلة فاطمة (عليها السلام) لديه وذلك عبر بيانه لقصدية القرآن أن حب فاطمة وبعلها وبنيها هو متلازم مع حبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ثمّ فإن هذا الحب يقود إلى غاية شرعية أظهرها القرآن الكريم وهو ضمن العناوين الآتية:

ألف - إنّ المراد من الحب الإتباع.

إن هذا العنوان الشرعي المبين لإحدى دلالات الحب، وهو الإتباع جاء من خلال القرآن الكريم كما هو واضح في قوله تعالى:

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»(1).

بمعنى: لا يمكن أن ينزرع حب الله في قلب أي إنسان وينمو ويعطي ثماره ما لم يكن هناك إتباع لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ بل لا معنی للحب بدون الإتباع وهو ما عليه الوجدان الإنساني والسيرة العُقلائية، بل يكفي لو تأمل الإنسان أن ذلك سنة كونية جرت في النبات والحيوان وإن اختلف المحرك في الإتباع بين الفطرة والغريزة والحب، فعندها يكون الحب في الموجودات فطري وغرائزي يدفع الإنسان إلى ما يحب حتى وإن اختلفت الأهداف فقد يكون الإنسان محب للشهوات لكنه في طبيعته وفطرته يندفع لهذه الشهوات ويتبع كل ما يحقق له إشباع هذا الحب.

ص: 100


1- سورة آل عمران، الآية: 31

ولذلك: وجود الحب يقتضي الإتباع وبدون الإتباع لا معنى للقائل بأنه يحب وذلك لأنه يكون قد خالف الفطرة التي فطر الله عليها الموجودات، بل كلما كان الحب أكبر كلما كان الإتباع أشد حتى لا يستطيع المحب الانفكاك عن المحب، بل حتى يكون صورة له في أفعاله وأقواله وهديه وسمته وسننه، وهذا الذي يريده القرآن من حب الله وحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي أن يكون المحب - وبحسب - مستوى هذا الحب صورة تحاكي المحب في الهدي والسمت والسُنّة.

من هنا:

حينما نأتي إلى معرفة أولئك الذين كانوا مصداقاً للحب النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك أنهم كانوا يمثلون في فعلهم وقولهم وهديهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنا لا يمكن أن نتعدى أهل بيته (عليهم السلام) وذلك حسبما أكدته النصوص ودلت عليه الروايات.

1 - روى الترمذي عن عائشة قال:

(ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلا وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم)(1).

والحديث يكشف عن رتبة فاطمة (عليها السلام) ومنزلتها الاتباعية لهدي

ص: 101


1- سنن الترمذي : ج 5، ص 361؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 78؛ المستدرک للحاکم: ج 4، ص 272؛ فتح الباري لابن حجر: ج 8، ص 103؛ السنن الکبری للنسائي: ج 5، ص 96؛ نصب الراية للزيلعي: ج 6، ص 156، مطالب السؤول لابن طلحة: ص 36؛ سبل الهدى والرشاد للشامي: ج 11، ص 46

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سنته، فلم يكن أحد بعد علي بن أبي طالب (عليه السلام) - کما سیمر - في مثل إتباعها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أصبحت تشابهه في سمته ودله وهديه فكان الناظر إليها يخال نفسه ينظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2 - وفي سُنّة الإتباع التي فطر الله تعالى عليها الخلق فكان الحب قائد المرء في إتباعه للأشياء هو درجة حبه لها، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يكشف للناس لاسيما أولئك الذين يدعون أنهم يحبون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم أبعد الخلق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حجم حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أصبح المصداق الأول لهذه السُنّة في الإسلام فيقول:

«ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري؛ ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غیر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما أری نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس حق عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير»(1).

ص: 102


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة: ج 2، ص 157

إذن:

يقتضي حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإتباع کما دلّ عليه القرآن والسُنّة وسيرة العقلاء، وأن أشد الناس حباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي وفاطمة وولديهما (عليهم السلام) فقد كان مصداق هذا الحب من خلال الإتباع المطبق لهدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمته وسنته وخلقه.

باء - إنّ المراد من حب رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم) الإيمان به.

يطرح القرآن قضية حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إطار آخر وتحت عنوان شرعي جديد إلاّ وهو الإيمان بالله تعالى إذ يبدأ القرآن في أول الأمر عند تأسيس هذا العنوان الشرعي والبنائي للمجتمع المسلم عبر بيان أن الإيمان هو عين الحب لله تعالى، ومن ثم فالذين أمنوا هم أشد الناس حباً لله تعالی کما دلّ عليه قوله تعالى:

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...»(1).

ثم يمضي القرآن في التأسيس لهذا العنوان الشرعي في نفوس الناس کي يتم بناء المجتمع الأنموذج الذي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فيكون مصداقا لقوله تعالى:

ص: 103


1- سورة البقرة، الآية: 165

«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...»(1).

وذلك عبر ترسيخ حب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقديمه على كل شيء تعلق به الإنسان في الحياة وارتبط به.

فيقول سبحانه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»(2).

وهذا التأسيس والبناء للعقيدة الإسلامية وبهذه الكيفية التي يطرحها القرآن ويريدها الله تبارك اسمه فيكون حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرتكز على الإيمان به وإن مراتب هذا الإيمان مرتبطة بمراتب هذا الحب کما هو مبين في الآية الكريمة عبر الروابط النفسية والروحية والاجتماعية التي يرتبط بها الإنسان فتعلق بها، بل ويصرف في بقائها ودوامها الكثير من متعلقاته الأخرى وذلك بحسب التفاوت القائم لدى كل إنسان فيما يرتبط به من علاقة أبوية أو أخوية أو والدية أو قرابية أو زوجية أو مالية، كما هو منصوص عليه في الآية المباركة.

ص: 104


1- سورة آل عمران، الآية: 110
2- سورة التوبة، الآية: 24

فهذه العلائق تتفاوت الناس في التعاطي معها والارتباط بها حتى تأتي العلاقة بالله ورسوله متأخرة أو متقدمة بحسب الإيمان الذي يختلج في قلب الإنسان.

وعليه:

يجعل القرآن حب الله ورسوله والجهاد في سبيله هو المقدم على هذه العلائق التي ارتبط بها الإنسان وأحبها وتفاوتت فيما بينها لديه في الحب والأهمية فقد يكون المال أحب جميع هذه الأشياء وقد یکون الأبناء وقد تكون الزوجة.

إلاّ أن المنهج القرآني في بناء العقيدة الإسلامية للمسلم هو أن يكون حب الله ورسوله هو العنوان الأول والأساس فيها يرتبط بالإنسان من أشياء عديدة.

ثم لیأتي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هذا النص القرآني ليبين للناس وللمسلمين تحديداً وفي إطار العقيدة القرآنية التي أرادت أن یبنی الإسلام عليها أن يكون حب فاطمة وعلي وولديهما (عليهم السلام) هو تبع لحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ بل لا يمكن أن يصدق عنوان الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكن هناك حب لفاطمة وعلي وولديهما (عليهم السلام) کما نصت عليه الأحاديث النبوية الشريفة فكانت كالآتي:

1 - روی ابن عساکر وغيره عن زيد بن أرقم، قال: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمرت فاطمة (عليها السلام) وهي خارجة من بيتها إلى حجرة نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعها إبناها الحسن

ص: 105

والحسين (عليهم السلام) وعلي في أثرهم فنظر إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:

«من أحب هؤلاء فقد أحبني ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني»(1).

2 - روى الشيخ الصدوق والطوسي والترمذي والحاكم والبخاري وغيرهم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أحبوا الله لما يغدو كم به - (يغذوکم) - من نعمة، وأحبوني لحُب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي»(2).

3 - روی ابن تيمية وغيره عنه (صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعمه العباس:

«والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي»(3).

4 - روی ابن أبي شيبة الكوفي، والطبراني وابن عساکر وغيرهم، عن أبي الضحی مسلم بن صبيح قال: قال العباس: یا رسول الله إنا لنرى وجوه قوم من وقائع أوقعتها فيهم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 106


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساکر: ج 14، ص 154، کنز العمال للهندي: ج 12، ص 103؛ کشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 525؛ سبل الهدى للصالحي الشامي: ج 11، ص 57
2- الأمالي للصدوق ص 446؛ الأمالي للطوسي: ص 933؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 330 - 329؛ المستدرك للحاکم: ج 3، ص 150 التاريخ الكبير للبخاري: ج 1، ص 183؛ تفسیر ابن کثیر: ج 4، ص 123؛ الآداب للبيهقي: ج 2، ص 23؛ الدر المنثور: ج 6، ص 7؛ شعب الایمان للبيهقي: ج 1 ص 366
3- الوصية الكبرى لابن تيمية: ص 297؛ البحر الزخار: ج 6، ص 131، حدیث 2175؛ القول القيم لابن القيم: ص 12

«لن يصيبوا خيراً حتى يحجبوكم لله ولقرابتي، أترجو سلهب شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب»(1).

5 - روی أحمد بن حنبل، ومحمد بن سليمان الكوفي، والترمذي، والحاكم النيسابوري، وغيرهم بطرق عدة، منها ما رواه أحمد عن عبد الله بن الحرث عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت يا رسول الله إن قريشا إذا لقی بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا، لقونا بوجوه لا نعرفها؟! قال: فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غضباً شديداً، وقال:

«والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله»(2). والملاحظ في الحديث بعض النقاط منها:

أ : تخصيص الإيمان بالله تعالى وأنه مرهون بحب أهل البيت (عليهم السلام)، أي يكون حب كل رجل أو امرأة لأهل البيت (عليهم السلام) خالصاً لله تعالى وإن كانوا يجدون من يقول بخلافهم وإن كانوا أقرب الناس

ص: 107


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 518؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 11، ص 343؛ کنز العمال: ج 12، ص 41؛ تاریخ دمشق لابن عساکر: ج 26، 337؛ تاریخ المدينة لابن شبة النميري: ج 2، ص 640؛ رأس الإمام الحسين لابن تيمية: ص 201؛ ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 2، ص 112؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 24، ص 235
2- مسند أحمد: ج 1، ص 207؛ وج 4، ص 165؛ المناقب لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 2، ص 122؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 318؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 50؛ فضائل الصحابة للنسائي، ص 23؛ المستدرک للحاکم: ج 3، ص 333؛ المعجم الكبير للطبراني: ص 285؛ تهذیب الخصائص للسيوطي: ص 432؛ الشفا للقاضي عياض: ج 2، ص 48؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، ص 92

إليهم کآبائهم وأبنائهم كما نصت الآية الكريمة التي مرّ ذكرها.

ب: إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغضب غضباً شديداً لتغير وجوه قريش في وجه عمه العباس وذلك لما أحدثه الإسلام من تغيرات في المجتمع فكيف يكون حاله عند قتل ابنته فاطمة وولدها (عليهم السلام) على النحو المعروف - نعوذ بالله من سوء المنقلب ومن غضب الله وغضب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - .

ج: من البديهي أن أسباب حصول الغضب يضادها أسباب حصول الرضا، بمعنى: كلما زاد إيمان الإنسان كلما زاد حباً لأهل البيت (عليهم السلام) وكلما كان الحرص أشد على خدمتهم وإدخال السرور عليهم فإن بذلك إدخال السرور على قلب سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم).

6 - روى أحمد بن حنبل، والترمذي، والدولابي، والطبراني جميعاً عن علي بن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد بن علي الباقر عن أبيه الإمام علي بن الحسين عن أبيه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال:

«إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد حسن وحسين (عليهما السلام) فقال:

من أحب هذين وأباهما وأمها كان معي في درجتي يوم القيامة»(1).

ص: 108


1- مسائل علي بن جعفر: ص 50؛ کامل الزيارات: ص 117؛ أمالي الصدوق: ص 299؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 78؛ سنن الترمذي : ج 5، ص 305؛ تحفة الأحوذي: ج 1، ص 163؛ الذرية الطاهرة للدولأبي: ص 167؛ المعجم الصغير للطبراني: ج 2، ص 70؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 3، ص 50؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 210؛ کنز العمال للهندي: ج 12، ص 97؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 13، ص 196؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 6، ص 228؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 10، ص 284؛ ذكر أخبار أصبهان للحافظ الأصبهاني: ج 1، ص 192

والحديث الشريف يجمع ما قدمناه من دلالات في أن معنى الحب هو الإتباع والاقتداء والهدي بهؤلاء إلى المستوى الذي يكون الشخص بسمته وطريقة معيشته وتعامله مع الناس صورة حاكية عن الحسن والحسين وعلي وفاطمة (عليهم السلام) فمن استطاع أن يصل إلى هذا المستوى من الحب فإنه لا شك وبنص الحديث النبوي الشريف سينال من الرضا والقرب الإلهي ما يجعله مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة في الدرجة التي أعدها الله تعالى لحبيبه المصطفی (صلی الله عليه وآله وسلم) في جنة عدن أو الفردوس لأنه قد بلغ رتبة من التقوى العملية مكنته من الوصول إلى هذه المنزلة.

ثالثاً - تلازم بغض فاطمة وبعلها وولديها ببغض رسول الله (صلّی الله علیه وآله).

إنّ من السنن الكونية التي أوجدها الله تعالى في الخلق هي سُنّة التضاد، وهذه السُنّة قرن الله تعالى بها نظام الاستقامة في الحياة؛ بمعنى إما أن يعتدل الإنسان بفعل هذه السُنّة في سلوكياته ومسيرته وتعایشه في الحياة.

وإما أنه يميل إلى أحد المتناقضين فيكتسب من أحدهما طاقته ودوامه وعنوانه الحياتي فيكون ملاصقاً له؛ بل يصبح أحد أدواته الفاعلة والمؤثرة في الحياة.

ص: 109

ومثال ذلك الخير والشر، والجهل والعلم والصدق والكذب، والإيمان والكفر، والحب والبغض، فإما أن يكون الإنسان معالجاً للجهل بالعلم، وللكذب بالصدق، وللكفر بالإيمان، وللبغض بالحب، وإما أنه يميل إلى أحد هذين القطبين فيكون متصفاً به، وعنواناً له، فيصبح إما شريراً أو خيراً وإما عالماً أو جاهلاً، أو محباً أو مبغضاً.

وهنا:

في مسألة حب فاطمة وبعلها وولديها (عليهم السلام) لا يمكن أن يكون الإنسان يحمل مثقال ذرة من حبهما، ومثقال ذرة من بغضهما في آن واحد؛ فحالهما أي الحب والبغض حال الإيمان والكفر، فمثقال من الكفر يؤدي إلى الهلاك ومثقال من الخير يؤدي إلى النجاة کما دلّ عليه قوله تعالى:

«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1).

وفي حب آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبغضهم تظهر الخطورة العظمی حيث يندرج الإنسان ضمن قائمة الضالين الذين غضب الله عليهم کا دلت عليه النصوص الشريفة، فمنها:

1 - عن أبي الجارود عن أبي عبد الله الحداي قال: قال لي أمير المؤمنين (عليه السلام):

«يا أبا عبد الله ألا أخبرك بالحسنة التي من جاء بها أمن من فزع يوم القيامة، وبالسيئة التي من جاء بها كب على وجهه في جهنم؟».

ص: 110


1- سورة الزلزلة، الآيتان: 7 و 8

قلت: بلى يا أمير المؤمنين، فقال:

«الحسنة حبنا، والسيئة بغضنا أهل البيت»)(1).

2 - روى الشيخ الطوسي عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ما بال أقوام إذا ذكر عندهم آل إبراهيم (عليه السلام) فرحوا واستبشروا، وإذا ذكر عندهم آل محمّد اشمأزت قلوبهم؟، والذي نفس محمد بيده لو أن عبداً جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبياً ما قبل الله منه حتى يلقاه بولايتي وولاية أهل بيتي»(2).

3 - عن أبي حمزة الثمالي قال: (كنت مع أبي جعفر (عليه السلام)، فقلت:

جعلت فداك يبن رسول الله: قد يصوم الرجل النهار، ويقوم الليل، ويتصدق، ولا يعرف منه إلا خيراً، إلا أنه لا يعرف الولاية، قال: فتبسم أبو جعفر (عليه السلام) وقال:

«یا ثابت إنا في أفضل بقعة على ظهر الأرض، لو أن عبداً لم يزل ساجداً بين الركن والمقام حتى يفارق الدنيا لم يعرف ولايتنا، لم ينفعه ذلك شيئاً»)(3).

ص: 111


1- المحاسن للبرقي: ج 1، ص 150؛ دعائم الإسلام للقاضي المغربي: ج 1، ص 71؛ الأمالي للطوسي: ص 493؛ تفسير الثعلبي: ج 7، ص 230؛ شواهد التنزيل للحاکم الحسكاني: ج 1، ص 548؛ کشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 328؛ ينابيع المودة اللقندوزي: ج 1، ص 291
2- الأمالي للشيخ الطوسی: ص 140؛ کشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 11
3- الأصول الستة عشر بتحقيق المحمودي: ص 333؛ تفسير أبي حمزة الثمالي: ص 137؛ مستدرك الوسائل : ج 1، ص 151

من هنا:

نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قرن هذا الحب - وبلحاظ هذه السُنّة السلوكية- بالبغض فمن أحبهم فقد أبغض أعدائهم، ومن أبغضهم أحب أعدائهم؛ وذلك أن المؤمن ينجذب إلى الخير، سریع الالتحاق بأهله، ويأنس بهم ويستوحش من غيرهم؛ والحال نفسه قائم عند الكافر فهو يستوحش من أهل الخير، سريع الفرار منهم، بل نجده يشمئز من الإيمان والذکر کما دلّ عليه قوله تعالى:

«وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ»(1).

وهذه الحالة النفسية التي يمكن ملاحظتها في جميع الأزمنة نجدها متجسدة في المؤمن والكافر وتنعكس على حاله وأفعاله؛ بل نجدها لتتضاعف معه حتى يصبح المؤمن سلم لمن سالم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وحرب لمن حارب آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لتلازم الإيمان بالحب، والبغض بالنفاق فيكون إما من أهل الإيمان، وإما من أهل النفاق، فيسالم أهل سنخه ويعادي أهل نقيضه.

ولعل كثير من النصوص الصريحة والواضحة في هذا الجانب تقطع الطريق على المتأولين في دفع المسلم عن مراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تحديد المسار والعلاقة مع أهل البيت (عليهم السلام)، فكان منها:

ص: 112


1- سورة الزمر، الآية: 45

1 - روى الزرندي، وابن حجر، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي، ومن أحب أن ينسأ له في أجله، وأن يتمتع بما خوّله الله، فليخلفني في أهلي خلافة حسنة، فمن لم يخلفني فيهم بتر الله عمره، وورد عليّ يوم القيامة مسوداً وجه»(1).

2 - روی أبو يعلى الموصلي (عن بن حوشب الحنفي، قال:

حدثتني أم سلمة قالت: ثم جاءت فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) إلى رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) متوركة الحسن والحسين، في يدها برمة للحسن فيها سخين حتى أتت بها النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم)، فلما وضعتها قدامه قال لها:

«أين أبو الحسن».

قالت:

«في البيت».

فدعاه، فجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين يأكلون.

قالت أم سلمة:

ص: 113


1- نظم درر السمطين للزرندي: ص 231؛ الإصابة لابن حجر: ج 1، ص 406؛ فيض القدير للمناوي: ج 2، ص 220؛ کنز العمال: ج 12، ص 99

وما سامني النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) وما أكل طعاماً قط إلا وأنا عنده إلاّ ساميته قبل ذلك اليوم(1).

فلما فرغ التف عليهم بثوبه ثم قال:

«اللهم عادِ من عاداهم ووالِ من والاهم»)(2).

ويمضي النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان تلازم الحب والبغض وارتباطهما الإيراني والنفاقي، فيبين للمسلمين إن حب أهل بيته هو عین حبه (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما أسلفنا - وإن بغضهم هو عين بغضه - والعياذ بالله -.

ولشدت حرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إيصال هذا الحكم إلى الناس وحثّهم على العمل به تعدد منه صدور هذا الحكم الشرعي بنحوي المجمل والمفصل؛ فمرة يخص بهذا الحكم الشرعي الحسن والحسين (عليهما السلام) فيقتصر على ذكرهما فيظهر تلازم حبهما بحبه وبغضها ببغضه؛ ومرة أخرى يخص بالذكر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومرة ثالثة بفاطمة، ورابعة بهم جميعاً.

والظاهر - كذلك - من سيل الروايات الكثيرة في هذا الخصوص أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك موقفاً أو مناسبة إلا وقد صرّح للمسلمين بهذا الحكم الشرعي كي يلتفت المسلمون إلى خطورة هذا العنوان، وذلك لما

ص: 114


1- بسامني: دعاني إليه
2- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 12، ص 384؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج33، ص 92

يترتب عليه من صلاح هذه الأمة أو فسادها وضلالها.

ولذلك:

نجد أن السبب في تعدد هذه الأحاديث وكثرتها، هو لما ذكرناه، فكان من هذه الأحاديث مايلي:

1 - أخرج أحمد في المسند عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».

يعني حسناً و حسيناً)(1).

ولا يخفى على اللبيب إن ما يترتب على الحب من عناوين شرعية وروحية واجتماعية يترتب على البغض كذلك.

2 - وعن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة، قال: (خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة، ويلثم هذا مرة حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما؟ فقال:

«من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضها فقد أبغضني»)(2).

وفي حبه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)

ص: 115


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 2، ص 288؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 20
2- مسند أحمد: ج 2، ص 440، سنن ابن ماجة: ج 1، ص 21؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 166

وما يترتب على المسلم من حكم شرعي من التلازم بين حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحب علي بن أبي طالب (عليهما السلام) فقد بغض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليها السلام) فقد بغض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روى الحاكم في المستدرك، عن عوف بن أبي عثمان النهدي قال:

(قال رجل لسلمان: ما أشد حبّك لعلي؟ - فقال سلمان -: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

«من أحبّ علياً فقد أحبني ومن أبغض علياً فقد أبغضني»)(1).

والحديث واضح الدلالة في أن شدة حب سلمان لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) إنما في حقيقته هو حبه الشديد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن هنا:

فإن الذين كانوا يبغضون علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهم يبغضون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك للملازمة بين حبيها وبغضيهما؛ أي: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام).

فمن يدعي حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لزم منه حب علي (عليه السلام)، فضلاً عن مفاهيم الحب ومصادیقه ک: (الإتباع، والإيمان، والموالاة، والنصرة، والسلم) وغيرها، وفضلاً عن نقائض هذه المصادیق ک(التخلي، والكفر، والبراءة، والخذلان، والحرب) وغيرها، فمن اتبعهم تخلى

ص: 116


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 130

عن غيرهم، ومن آمن بهم كفر بغيرهم، ومن والاهم تبرأ من أعداءهم ومخالفيهم، ومن نصرهم خذل غيرهم، ومن سالمهم حارب غيرهم إن كانوا حرب لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولأجل ذلك:

وما يترتب عليه من تحديد للهوية الإسلامية والأخروية حينما يقف المسلم بين يدي الله تعالى، لقوله سبحانه:

«وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ».

عن آل محمد كيف خلفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، كان كل هذا التشديد والتحذير من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:

1 - روى القندوزي عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه)، رفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال له:

«یا سلمان من أحب فاطمة ابنتي فهو في الجنة معي، ومن أبغضها فهو في النار، یا سلمان حب فاطمة ينفع في مائة موطن أيسر تلك المواطن: الموت، والقبر، والميزان، والصراط، والحساب، فمن رضيت عنه ابنتي فاطمة رضيت عنه، ومن رضيت عنه رضي الله تعالى عنه، ومن غضبت ابنتي فاطمة عليه غضبت عليه ومن غضبت عليه غضب الله عليه».

«یا سلمان، ويل لمن ظلمها ويظلم بعلها عليا، وويل لمن يظلم ذريتها وشيعتها»(1).

ص: 117


1- ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 332؛ الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ج 1، ص 20

2 - روى القاضي عياض في الشفا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال:

«معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب»(1).

3 - روی الحافظ الخركوشي في شرف المصطفی (صلی الله عليه وآله وسلم)، والقندوزي عن علي (عليه السلام)، قال:

«سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

من آذاني في أهل بيتي فقد آذى الله عزّ وجل، ومن أعان على أذاهم ورکن إلى عدوهم فقد أذن بحرب من الله، ولا نصيب له غداً في شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»(2).

4 - أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله (عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إنّ علياً وصيي وخليفتي، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ابنتي، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولداي، من والاهم فقد والاني،

ص: 118


1- الشفا بتعريف المصطفى للقاضي عياض: ج 2، ص 48؛ العجاجة الزرنبية للسيوطي: ص 33؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 7؛ وج 2، ص 254
2- شرف المصطفى للحافظ الخركوشي (مخطوط) يرقد في مكتبة الأسد الوطنية تحت الرقم (1887) ويحمل رقم المصغر الفيلمي (4891) الورقة 180، من جهة اليمين؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 81؛ كتاب الأربعين للقمي الشيرازي: ص 472؛ شرح إحقاق الحق: ج 9، ص 467

ومن عاداهم فقد عاداني، ومن ناواهم فقد ناواني، ومن جفاهم فقد جفاني، ومن برهم فقد برني، وصل الله من وصلهم، وقطع من قطعهم، ونصر من نصرهم، وأعان من أعانهم، وخذل من خذلهم، اللهم من كان له من أنبيائك ورسلك ثقل وأهل بيت، فعلي وفاطمة والحسن والحسين أهل بيتي وثقلي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»)(1).

رابعاً - منهج الوحي والنبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) في تبليغ الرسالة بين تذكير الأمة وانفلات العامة.

مثلما كان هناك تلازماً بين فعل النبي (صلى الله عليه وآله) وقول الوحي فإن المنهج التبليغي الذي جاء به الوحي وعمل به النبي كان يرتكز على الملازمة أيضاً؛ فبين نهي القرآن وتذكيره کان المنهج النبوي يدور في نفس فلك المنهج القرآني.

ففي التذكير کمنهج نص عليه الوحي في محكم التنزيل ضمن مجموعة من الآيات، منها:

1 - قوله سبحانه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ»(2).

2 - قال تعالى:

«فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى»(3).

ص: 119


1- الأمالي للصدوق: ص 473
2- سورة ق، الآية: 45
3- سورة الأعلى، الآية: 9

3 - قال عزّ وجل:

«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ»(1).

فكان هذا المنهج القرآني الذي حدد للمصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) الأسلوب في تبليغ الرسالة تبعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبناءً على ما أمره الله به فقد كان مذكراً للأمة بآل بيته وكيفية التعامل معهم وبیان شأنهم ومنزلتهم في الشريعة ودورهم الرسالي في الأمة.

فقام بتذكيرهم بأهل بيته فحذر وأنذر وأبلغ وأعذر فكان مما ذكر به ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم إنه قال:

(أقام رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) يوماً فينا خطيباً بماء يدعی خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال:

«أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر یوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به».

فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال:

«وأهل بيتي أذکرکم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»)(2).

فهذا النهج الذي سار به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأمة

ص: 120


1- سورة الغاشية، الآية: 21
2- صحیح مسلم: ج 7، ص 123

تبعه بمقتضيات أخرى تصب في نفس المعين لينجوا المسلمون من الوقوع في الضلال حينهما ينزلقوا خلف انفلات العامة من حدود الله تعالى والعمل بشريعة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتحذير من التعرض لتلك الحدود التي فرضها الإسلام وأوجب على المسلم الالتزام بها، فكان التحذير واحداً من مصاديق التذكير الذي أمر به القرآن وعمل به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جملة من الأحاديث الكاشفة عن منع وقوع الأمة في الانفلات من هذه الضوابط الشرعية والحدود الإلهية كما وقع فيه الإعراب والعوام.

وفي ذلك روى الشيخ الصدوق، والترمذي، والحاكم النيسابوري، والطبراني، وغيرهم، عن زيد بن أرقم أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي وفاطمة والحسن والحسين:

«أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم»)(1).

والتحذير الذي قدمه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للأمة لم يكن محصوراً بزمن محدد بل تكشف الروايات عن أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حدد لهذه الأمة موضعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل بيته ومنذ أن تكون بیت علي وفاطمة (عليها السلام).

ص: 121


1- عیون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 59؛ کشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 452 - 453؛ الأمالي للطوسي: ص 336؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 360؛ المستدرك اللحاكم النيسابوري: ج 3، ص 149؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 5، ص 182؛ موارد الضمان للهيثمي: ص 555؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 52، حدیث 145

فعن عطية العوفي (عن أبي سعيد الخدري، قال: لما دخل علي بفاطمة جاء النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) أربعين صباحاً إلى بابها فيقول:

«أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم»)(1).

ويدل وقوف النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على باب علي وفاطمة هذه المدة الزمنية التي حددتها الرواية بالأربعين صباحاً على حكمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دفع الالتباس أو الجهل عن المسلمين في تحديد موقعه (صلى الله عليه وآله وسلم) الشرعي من أهل بيته، فمن حاربهم إنما يحارب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحاربه؛ ومن سالمهم كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سلماً له.

والظاهر من الرواية أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ابتدأ مع المسلمين في منهاجه التذكيري والتحذيري من موقع الحكم الشرعي، بمعنى: أظهر لهم وذکَّرهم وحذَّرهم في الحرب والسلم لهؤلاء قبل أن يحدد للمسلمين من هم أهل بيته.

بمعنى آخر: إن تحديده لأهل بيته ظهر للمسلمين بعد ولادة فاطمة (عليها السلام) للحسن والحسين (عليهم السلام) أما قبل ولادتها لهما فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدد الموقع الشرعي لهذا البيت الذي تكوّن بعلي وفاطمة (عليها السلام).

ص: 122


1- فضائل سيدة النساء لعمرو بن شاهين: ص 29؛ تفسیر فرات الكوفي: 338؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2، ص 44

والهدف في ذلك تحديد الحدود الشرعية الكاشفة عن عظم هذا البيت وأهله ومنزلتهم عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن كان يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي: إن الخطاب موجه للمسلمين وليس للمشركين، بمعنى: (استحق من حاربهم اسم المحارب الله ورسوله وإن لم يكن مشركاً)(1).

وهو حکم قرآني أشار إليه الجصاص (المتوفي سنة 307 ه) و تغافل عنه الكثيرين تسترا على ما قام به بعض الرموز من الصحابة في محاربتهم لعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).

المسألة الثانية: مقاصدية الحديث النبوي في اختصاص فاطمة (علیها السلام) برسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم).

يتفاوت الناس في الشرافة حينما يقترنون بالعظماء، والعظماء يختلفون بحسب المعطيات الثقافية لدى الناس، فقد يكون المرء عظيما في الملك أو المال أو العلم أو الحسب أو الأدب أو غير ذلك.

لكنما الأمر الذي تسالم عليه العقلاء - بلحاظ - دوام العظمة هو ما اقترن بالآخرة والشريعة والقداسة؛ فتلك قد كتب لها الدوام وإن اختلفت التوجهات والأفكار عند الناس.

ولذا:

يحرص الكثيرون على الالتصاق بالشرائع السماوية أو الروحية أو الدينية

ص: 123


1- أحكام القرآن للجصاص: ج 2، ص 508

کي يكتسبوا من تلك الشرائع شرفاً أو تشریفاً لينالوا حظهم الأوفر من التعظيم وإظهار منزلتهم وفقاً لمواضعهم وأماكنهم من العظماء.

ولا شك: أن أعظم الناس هم الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وذلك لتوفر جميع عناصر العظمة بهم ابتداءً من اختصاصهم بالله تعالى وانتهاءً بما لدیهم في الآخرة حيث الحياة الأبدية من الوجاهة والمنزلة لاسيما وإن القرآن الكريم يرشد العاقل إلى هذه الحقيقة في آيات عدة، منها:

1 - قال تعالى:

«وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ»(1).

2 - وقال تعالى:

«إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ»(2).

3 - وقال عزّ وجل:

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»(3).

وغيرها من الآيات المباركة الكاشفة عن منازل الأنبياء (عليهم السلام) عند الله تعالى مما يجعل الذين يعاصرون الأنبياء ويؤمنون بهم يتنافسون -

ص: 124


1- سورة الأنبياء، الآيتان: 26 و 27
2- سورة آل عمران، الآية: 45
3- سورة التكوير، الآيات: 19 و 20 و 21

کلا حسب إیمانه - في الالتصاق بالنبي، وإحراز عناوین شرعية يرتقي بها أصحابها بين الناس، فيفاض عليهم من عظمتها وقدسيتها.

وهؤلاء الملتصقون بالأنبياء (عليهم السلام) صنفان، صنف شاء أن يحظى بمكاسب دنیوية بين الناس بما للقرب من الحظرة النبوية من آثار اجتماعية ونفسية وروحية على المؤمنين، فضلاً عن اكتساب الحصانة حيناً والذريعة حيناً آخر في تمشية المصالح الشخصية، كما كان في حال السامري في بني إسرائيل وحال غيره في الأمم السابقة وهذه الأمة.

والصنف الآخر كان التصاقه بالأنبياء (عليهم السلام) التصاق سنخي لتلازم الإيمان والطهر والصدق فيكون شأنهم مدعماً بالآيات والبراهين الإلهية لأنهم نصروا الله فنصرهم.

ومن بين هؤلاء الذين التصقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي فاطمة وبعلها وولديها (صلوات الله عليهم أجمعين).

وقد أسلفنا أنهم مع ما لهم من صلة الرحم والدم والقرابة القريبة، فهم الأهل والآل والعترة، ومع هذا كله لهم خصوصية الشريعة المرتكزة على التقوى والطاعة لله تعالى فكانوا بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حجج الله على العالمين وأئمة على الخلق أجمعين.

من هنا:

كان لفاطمة التصاقاً سنخياً بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع ما أحيط بهذه الشخصية من عبودية لله ورسالة ونبوة وإمامة وحرمة

ص: 125

وطاعة وعصمة ومنزلة عند الله تعالى إلا أنه لا نبوة ولا رسالة بعد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

بمعنی:

لا يمكن أن ينال الإنسان تلك العظمة ما لم يكن مرتبطاَ بالله تعالى؛ وحيث أن الارتباط الإلهي يكشفه القرآن في درجات و مراتب حددها الوحي عن الله تعالى فكانت في قمة الارتقاء هي العبودية المحضة لله، فإن النبوة والرسالة والإمامة تأتي تبعاً لما ينال الإنسان من حظه في سلم العبودية لله عز وجل مما يكشف أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أعبد الخلق للخالق وأن جمعه لجميع ما دون هذه الرتبة هو من ثمار تلك العبودية، وأن فاطمة قد نالت من تلك الدرجات والمراتب - بما للمصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) - ابعاض منها وهو ما دلّ عليه الحديث النبوي الشريف المعروف بحديث البضعة، الذي تناقلته الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها(1).

بمعنى آخر:

حينما ننظر إلى شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن نظرتنا إليه يقومها النص القرآني الذي أعطاه ما لم يعط أحداً من الأنبياء والمرسلين إذ يكفي في ذلك قول تعالى:

«ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * «فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى»(2).

ص: 126


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين، ج 4، ص 210؛ صحیح مسلم: ج 4، ص 140، مسند أحمد: ج 4، ص 328
2- سورة النجم، الآيتان: 8 و 9

ومن ثم فإن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث البضعة لا يندرج ضمن الحدود المادية التي تنم عن ضيق الفهم وعسر الاستيعاب وعمى البصيرة وذلك أن شخوص الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) يتعامل معهم بما أحرزوا من الشأنية عند الله تعالى لا على أساس الفناء الملاصق للمادة وولادتها من رحم الحياة الدنيا.

بل: تسالم العقلاء في تقييمهم وتعظيمهم للرموز من خلال ما يتصف به أولئك الرموز من عناوین روحية وشرعية ودينية وقدسية.

من هنا:

كان لفاطمة تلك الملاصقة مع شخص النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت بعضاً من رتبة العبودية التي نالها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعضاً من الرسالة والنبوة والإمامة والنذارة والبشارة والشهودية وغيرها مما أوتي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإلا فإن حديث البضعة بخلاف هذه المفاهيم يصبح مجوفاً من الروح لا حياة فيه لا طريق لديه في قلوب قد ران عليها الكفر وطبع عليها النفاق فهم لا يفقهون.

ومن هنا أيضا:

لم يكتف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان منزلة فاطمة (عليها السلام) ضمن تلك المفاهيم القرآنية بحديث البضعة وإنما أردفه بأحاديث أخرى تسوق الذهن فیستم القلب إلى أنها بلغت من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغاً عظيماً فكانت الأحاديث كالآتي:

ص: 127

أولًا - تعدد ألفاظ الحديث النبوي في قصدية البضعة.

يعد حديث البضعة من الأحاديث المشهورة لورودها في عدد كبير من المصادر الإسلامية إلاّ أن التثقيف عليه وبیان دلالاته يعد قليلاً جداً حتى يكاد المسلم حينما يسمع به في بعض المحافل يحسبه من الأحاديث المندثرة أو الغير صحيحة لعزوف أصحاب المنابر في العالم الإسلامي لاسيما أبناء السُنّة عنه وكأنه لا يعني لهم شيئاً أو هو مما يشكل إرباكاً في منهجهم العقدي کي لا يعد المتكلم به من المتشيعين لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

والحديث الشريف ورد بألفاظ عديدة مما يكشف عن كثرة تکرار صدوره من الحضرة النبوية كي يرسخ في أذهان المسلمين ما لفاطمة من المنزلة الشرعية والروحية في الإسلام فكانت ألفاظ الحديث على النحو الآتي:

1 - أخرجه البخاري في الصحيح عن المسور بن مخرمة: بألفاظ عدة:

أ: إنّ رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»(1).

ب: وبلفظ: وإن فاطمة بضعة مني وأني أكره أن يسؤها»(2).

ج: ولفظ آخر:

ص: 128


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 4، ص 210
2- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 4، ص 212

«فإنما هي بضعة مني يُريبني ما أرابها»(1).

2 - أخرجه مسلم النيسابوري عن المسور بن مخرمة بألفاظ عدة:

أ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها»(2).

ب: وبلفظ آخر:

«فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رآبها ويؤذيني ما آذاها»(3).

3 - أخرجه أحمد بن حنبل بلفظ:

أ: عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«إنها فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها»(4).

ب: وبلفظ آخر:

«إنما فاطمة بضعة مني وإني أكره أن تفتنوها»(5).

4 - أخرجه سلیم بن قیس الهلالي عن فاطمة عليها السلام أنها سألت أبي بکر وعمر فقالت:

ص: 129


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 1، ص 158
2- صحیح مسلم: ج 7، ص 141، باب: فضائل فاطمة عليها السلام
3- المصدر السابق نفسه
4- مسند أحمد: ج 4، ص 5، من حديث عبد الله بن الزبير
5- المصدر السابق نفسه

«نشدتكما بالله هل سمعتها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني؟».

قالا: نعم، فرفعت يدها إلى السماء فقالت:

«اللهم إنّهما قد آذياني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك»(1).

وغيرها من الألفاظ التي تناقلتها الرواة(2).

فكان هذا الحديث من الأحاديث الدالة على ارتباطها عليها السلام بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثانياً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام): (شُجْنَة منه (صلّی الله علیه وآله وسلم)).

إن من الملاحظ في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان خصوصية فاطمة (عليها السلام) لديه ومنزلتهاعنده استخدامه لألفاظ

ص: 130


1- کتاب سلیم بن قیس الهلالي: ص 392
2- أنظر في تعدد ألفاظ حديث البضعة: مناقب ابن المغازلي: ص 282، حدیث 327؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 158؛ المناقب للخوارزمي: ص 335؛ سنن البيهقي: ج 7، ص 64؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 20، ص 18؛ الطبقات الكبرى الابن سعد: ج 8، ص 206؛ مسند البزار: ج 6، ص 169، حدیث 1938؛ اتحاف السائل للمناوي: ج 1، ص 7؛ مختصر صفة الصفوة لابن الجوزي: ص 121؛ فضل آل البيت للمقريزي: ص 37؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22، ص 93؛ المصنف لابن أبي شیبة: ج 12، ص 126؛ الروض الاُنف: ج 1، ص 279؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 327؛ الشفا للقاضي عياض: ج 2، ص 574؛ البحر الزخار: ج 6، ص 150؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 165؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ص 24، حدیث 30؛ مشارق الأنوار للقاضي عياض: ص 128؛ تهذيب الخصائص للسيوطي: ص 433؛ صحیح ابن حبان: ج 5، ص 406؛ خصوصیات النبي للقسطلاني: ص 135

متعددة تشير إلى تلك الحرمة المترتبة على دلالة هذه الألفاظ فكان منها حدیثه (صلى الله عليه وآله وسلم) المعروف بحديث الشجنة.

وقد أخرجه أحمد، والحاكم، والهيثمي، والطبراني، وغيرهم بألفاظ متفاوتة في السعة والاختصار.

1 - فقد رواه أحمد بهذا اللفظ:

(عن جعفر بن محمد، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن المسور بن مخرمة: أن حسن بن حسن بعث إلى المسور يخطب ابنة له فقال:

قل له يوافيني في وقت قد ذكره فلقيه فحمد الله المسور، وقال: ما من سبب ولانسب ولا صهر أحب إليّ من نسبكم وصهرکم ولکن رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها وإنه يقطع يوم القيامة الأنساب إلا نسبي وسببي».

وتحتك ابنتها ولو زوجتك قبضها ذلك، فذهب عاذراً له)(1).

2 - وأخرجه الحاكم النيسابوري بالسند المذكور، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:

«إنما فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها».

ص: 131


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 33؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 20، ص 25، حدیث 30؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 328؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج 2، ص 765، حدیث 1347

وأردفه الحاكم بقوله: وهذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)(1).

3 - وأخرجه الحميري (رحمه الله) في قرب الإسناد (عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) قال:

«لما ولي عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمة».

قال: «فدخل عليه أخوه فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضّل بني فاطمة عليها السلام - عليهم».

فقال: أفظلهم، لأني سمعت، لا أبالي أن أسمع أولا أسمع، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول:

«إن فاطمة شجنة مني، يسرني ما أسرها ويسوؤني ما أساءها».

فأنا أتبع سرور رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم)(2).

وللوقوف على دلالة الحديث الشريف نورد ما جاء عند أهل اللغة في بیان معنى الشجنة:

1 - قال ابن فارس في (شجن): الشين والجيم والنون أصل واحد يدل على اتصال الشيء والتفافه من ذلك الشجنة وهي الشجر الملتف.

ويقال: بيني وبينه شجنة رحم پرید اتصالها والتفافها، ويقال: للحاجة الشجن، وإنما سميت بذلك لالتباسها وتعلق القلب بها والجمع شجون.

ص: 132


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري : ج 11، ص 2، حدیث 4717؛ نثر الدرّ: ج 1، ص 343، المناقب لابن شهر: ج 3، ص 332
2- قرب الإسناد للحميري: ص 53

قال: والنفس شتی شجونها.

والأشجان جمع شجن(1).

2 - وقال ابن الأثير:

(شجن) فيه - الحديث الشريف -:

«الرحم شجنة من الرحمن».

أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، شبه بذلك مجازاً واتساعاً؛ وأصل الشجنة بالكسر والضم: شعبة في غصن من غصون الشجرة(2).

ومن هذا المعنى نستدل على أن فاطمة (عليها السلام) لها من الترابط مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما للعروق في الشجرة الواحدة وقد تشابکت والتفت مع بعضها البعض إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه العروق شيئاً واحداً لا ينفك كل جزء فيه عن الآخر، وذلك للحمة التي بينها فإذا قطع عضو منه مات من الشجرة عضو آخر.

ومما لا يخفى على أهل المعرفة ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإحاطة التامة الجامعة المانعة بلغة الضاد وأسرارها وبلاغة معانيها وأبعاد ألفاظها ودلالة مفرداتها.

ص: 133


1- معجم مقاییس اللغة لابن فارس: ج 3، ص 248
2- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 2، ص 447؛ غريب الحديث لابن سلام: ج 1، ص 209

ولذلك:

نراه (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما مثل فاطمة بالشجنة منه، وبيان أهل اللغة بأنها الشعبة في غصن من غصون الشجرة، أو الشعبة من كل شيء(1)، لم يكن بأبي قد نطق بها إلا ليعرّف المسلمين بمحل فاطمة من النبوة والرسالة.

فقولهم وفعلها وتقريرها شعبة من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفعله وتقريره؛ وهذا فضلاً عن ورود نصوص عن العترة النبوية بعصمتها وإنها حجة الله تعالى على الأئمة الذين جعلهم حججاً علىهم خلقه وأوجب عليهم لزوم طاعتهم ومودتهم وإتباعهم.

ثالثاً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام): (مهجته (صلّی الله علیه وآله وسلم)).

لم يزل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتقل من بيان إلى آخر ليرشد الناس إلى عظيم منزلة فاطمة عنده وشأنها لديه كي يحذر المسلمون في تعاملهم مع المقدسات ويجتنبون الوقوع في انتهاك الحرمات عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولذلك:

ينتقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا إلى لفظ جديد ومعنى آخر يرسم صورة أخرى لهذه الشخصية الملكوتية التي أودعها الله تعالى في صلبه ليخرجها إلى الناس حجة وشاهداً و موضعاً للابتلاء الحسن ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من يحيى عن بينة.

ص: 134


1- المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 138

هذه البينة التي جهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيانها ولم يزل يظهرها - کما سیمر - علينا في بقية الأحاديث الشريفة.

وهنا:

أراد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلم الناس محلها من شخصه بذلك المستوى الذي لا يرقى إليه أحد من الخلق فمن منهم كان بمنزلة الروح من النفس، والدم من القلب، بل: هي الروح والقلب کما سیمر لاحقاً.

لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا: حينما وضعها هذا الموضع من القلب ليعلم الناس أن لا حياة للقلب بدون الروح ولا حياة للروح بدون الدم وهو ما يذهب إليه أهل اللغة في بيان معنى (المهجة).

إذ قال الخليل الفراهيدي: (المهجة: دم القلب، ولا بقاء للنفس بعدما تراق مهجتها)(1).

وقال الجوهري: هي، دم القلب خاصة، ويقال: إذا خرجت مهجته خرجت روحه)(2).

بمعنى: لا بقاء للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بدون مشكاة النور وأم الأئمة حجج الله على خلقه والأدلاء عليه والقادة إلى سبيله فلولاها لما كانوا ولما كان هناك ذكر للمصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا شریعته.

ص: 135


1- كتاب العين: ج 3، ص 397
2- کتاب الصحاح للجوهري: ج 1، ص 342؛ البحر المحيط : ج 1، ص 208

إذ حياة كل شيء بقلبه ودوامه بروحه ودوام شريعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وروح الإسلام بفاطمة (صلوات الله وسلامه عليها).

ولذا:

كان حديثه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا اللفظ الكاشف عن منزلتها لدى النبوة والرسالة، فقال:

«فاطمة مهجة قلبي، وإبناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي، حبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم به نجا ومن تخلف عنه هوى»(1).

والحديث أخرجه محمد بن أحمد القمي (المتوفي سنة 412 ه) بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن محمد بن زیاد، عن جميل بن صالح، عن الإمام جعفر بن محمد (عليها السلام) قال:

«حدثني أبي، عن أبيه عن جده الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة مهجة قلبي.......».

وساق الحديث، وذكره عنه الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) والزمخشري في مناقبه وغيرهم.

ص: 136


1- مائة منقبة لمحمد بن أحمد القمي: ص 76؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 2، ص 32؛ الصوارم المهرقة للتستري: ص 337؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 29، ص 649؛ نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي: ص 227؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 7، ص 472؛ مقتل الحسين للخوارزمي: ص 77؛ المناقب للزمخشري: ص 213 (مخطوط)؛ فرائد السمطين للحمويني: ج 2، ص 66، حدیث 390

رابعاً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام): (شعرة منه (صلّی الله علیه وآله وسلم)).

لاشك إنّ من بين أهم الأولويات لدى الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) حفظ الحرمات، ومن أعظم الحرمات هي الحكم الشرعي ثم مثال الحكم الشرعي وعنوان وجوده في الحياة وهو المعصوم (عليه السلام) سواء كان نبياً أو رسولاً أو إماماً فهؤلاء هم الأمناء على الشريعة ومنهم يخرج الحكم الشرعي - باختيار وتعيين من الله تعالى - إلى الناس.

ولذلك فالراد عليهم راد على الله تعالى والمطيع لهم مطيع الله تعالى ولعل المتتبع للآيات الكريمة يجد الكثير منها ما ينص على الملازمة بين طاعة الله تعالى وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن العاصي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) هو عاص لله تعالى.

من هنا:

كانت الملازمة بين حرمة الحكم الشرعي وبين المشرّع وهو الله ورسوله ووصي رسوله فضلاً عن ذلك فقد تفاوت الأنبياء (عليهم السلام) فيما بينهم من حيث المنزلة بلحاظ الحكم الشرعي كذلك، بمعنى: كان أولوا العزم أعظم منزلة عند الله تعالى لأن رسالاتهم كانت إلى الناس كافة وكانوا أصحاب کتب سماوية.

أي: إنهم كانوا في مسؤولية أعظم ومهمة أكبر وذلك من خلال سعة الشريعة وسعة المساحة التي تنشر فيها هذه الأحكام.

ص: 137

وعليه:

كان الإسلام أتم الأديان وأكملها وخيرها التي أخرجت للناس، فضلاً عن السعة في الشريعة والمساحة التبليغية لتشمل الأسود والأبيض والسيد والعبد والجن والأنس؛ وهذا يتطلب مسؤولية عظيمة وذلك لما يلقي على عاتق خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم).

فكان هو: النبي، والرسول، والشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى الله، والسراج المنير، وهو قوله تعالى:

«وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا»(1). وفي موضع آخر يظهر الوحي ما لهذه الرسالة من حرمة ومنزلة وخصوصية خاصة ارتكزت على ما حمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحكام شرعية وما أوتي من كتاب فقال عزّ وجل:

«وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ»(2).

ولم يصف الوحي أي كتاب من الكتب المنزلة ب(العظیم) سوى القرآن وذلك لما أنزل الله فيه من العلم حتى أصبح حاضنة للعلوم، فكان هذا القرآن العظيم بحرمته ملازما للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

من هنا: يصبح كل أمرٍ مرتبط برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينظر إليه من حيث الصغر والکبر کنعله وثوبه وعصاه ودابته وما

ص: 138


1- سورة الأحزاب، الآية: 46
2- سورة الحجر، الآية: 87

يلحق به من وسائل الحياة أو ما اختص ببدنه کظفره وشعره وبصاقه وعرقه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو أردنا أن نأتي بشواهد من السيرة والتأريخ على حرمة هذه الأشياء وآثارها التكوينية - بإذن الله تعالى - لخرجنا من الكتاب.

ولذا:

يستخدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مختلف الوسائل الإرشاد المسلمين إلى طاعة الله تعالى والاحتراز من الوقوع في المعصية، فكان من بين ما أرشد به الناس إلى تلك الحرمات وحفظها وصونها هو حديث الشعرة.

فقد روى الأربلي (عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إنّ فاطمة عليها السلام شعرة مني، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملئ السماء وملئ الأرض»)(1).

وروی جمع من المصنفين حديث الشعرة بلفظ آخر (عن عمرو بن خالد، قال حدثني زيد بن علي بن الحسين وهو أخذ بشعره، قال: حدثني أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) وهو آخذ بشعره، قال حدثني الحسين بن علي (عليهم السلام)، وهو آخذ بشعره، قال: حدثني علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو آخذ بشعره، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخذ بشعره، قال:

ص: 139


1- کشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 95

«من آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه اللہ ملئ السماء وملئ الأرض»)(1).

والحديث يرشد السامع إلى تلك الدلالة التعظيمية لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جزء لا يتجزأ من تلك الحرمة، حالهم في ذلك حال القرآن فمن أنكر حرفاً منه أنكر القرآن ومن انتهك حرمة آية منه انتهك حرمة القرآن جميعاً.

بل إن التعرض لهم بذلك المقدار الذي حدده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشعرة يوجب ذلك العقاب واللعن ملي السماء وملئ الأرض، فكيف بمن قام وعزم وساعد وأسس لقتلهم وتشريدهم وسلب أموالهم وغيرها من الانتهاكات التي تعرض لها آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

فضلاً عن قتل شيعتهم ومن يتولاهم منذ أن قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى اليوم الذي يأذن الله فيه بالظهور لمهدي آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فيقتص من الظالمين ومن رضا بفعلهم.

خامساً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام): (أحب أهله إليه (صلّی الله علیه وآله وسلم)).

إنّ من المفاهيم التي مرّ ذكرها وبيانها ضمن هذا المبحث هو مفهوم الحب بمدلولاته القرآنية المتلازمة مع الإيمان والإتباع والمولاة والطاعة.

ص: 140


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 209؛ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: ج 2، ص 227؛ دلائل الإمامة للطبري: 135؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 105؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 54، ص 308؛ مناقب الإمام علي عليه السلام لابن مردويه: ص 80

من هنا: حينا نأتي إلى حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناطق عن حبه لفاطمة وبعلها وبنيها (عليهم السلام) فهو لا يتعدى عن ذلك المفهوم الذي أدل عليه الوحي ضمن سلسلة من الآيات الكريمة.

بمعنى: أن حب النبي وبغضه، ورضاه وغضبه مرتكز على حب الله ورضاه وغضبه، فإذا أحب كان حبه لله وإذا رضا كان كذلك، أو إذا غضب كان غضبه لله تعالى.

فضلاً عن كاشفيته لرضا الله وغضبه وحبه وبغضه بمعنى: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحب شيئاً إلا إذا كان الله تعالى يحبه ولا يبغض شيئاً إلا إذا كان الله قد بغض هذا الشيء وكذا في رضا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغضبه فهو كاشف عن رضا الله وغضبه.

وعليه: تصبح الأحاديث الشريفة الكاشفة عن حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي كاشفة في الحقيقة عن حب الله تعالى لهذا الشيء.

بل: إن حبه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبغضه هو عينه حب الله وبغضه، وذلك أن النبي الأعظم مثال الحكم الإلهي على الخلق.

ولذا: یکون حبه لفاطمة وبعلها وولديها (صلوات الله عليهم أجمعين) ملازم لحب الله تعالى لهم، بل هو عين حب الله تعالى لهؤلاء؛ ومن ثمّ لا يتصور أن يكون حب الله تعالى لهم إلا لأنهم مثال أحكامه وعنوان شريعته وحجته على خلقه؛ إذ ليس هناك قرابة بين الله تعالى وبين أحد من خلقه فتعالى الله ربنا المالك لما خلق وهو العزيز الحكيم.

ص: 141

إذن: حينما يروي الرواة عنه، كما في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، وغيرها، عن عائشة وقد دخل عليها جميع بن عمير التميمي فيسألها قائلاً: (أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟) قالت: فاطمة، فقيل من الرجال؟ قالت: زوجها)(1).

أو ما رواه أسامة بن زيد، فقال: (كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي فقالا لي يا أسامة استأذن لنا على رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم).

فدخلت على النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فاستأذنته فقلت: له إن العباس وعلي يستأذنان، قال:

«هل تدري ما حاجتهما؟».

قلت: لا والله ما أدري، قال:

«لكني أدري، أئذن لهما».

فدخلا عليه، فقالا: یا رسول الله جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك؟ قال:

«أحب أهلي إلى فاطمة بنت محمد»)(2).

ص: 142


1- سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب: فضل فاطمة: حديث 3874
2- مستدرك الحاكم: ج 2، ص 417؛ الأحاديث المختارة للمقدسي: ج 4، ص 161؛ المعجم الكبير للطبراني : ج 22، ص 403؛ الجامع الصغير: ج 1، ص 37؛ فیض القدير للمناوي: ج 1، ص 217؛ تفسیر ابن کثیر: ج 3، ص 99؛ الدر المنثور: ج 5، ص 201؛ تأريخ مدينة دمشق لابن عساکر: ج 8، ص 54

وغيرها من الألفاظ(1) الكاشفة عن حجم حبه (صلى الله عليه وآله وسلم) لابنته فاطمة (صلوات الله عليها) مما يدل على منزلتها لديه ضمن تلك المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم.

سادساً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام) هي: (قلبه وروحه التي بين جنبيه (صلّی الله علیه وآله وسلم)).

روى الأربلي نقلاً عن كتاب لأبي إسحاق الثعلبي عن مجاهد قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخذ بيد فاطمة (عليها السلام) وقال:

«من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي الذي بين جنبي؛ فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(2).

يمتاز هذا الحديث الشريف عن سابقه في بيان منزلة فاطمة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) بكونه يقدم فاطمة (عليها السلام) ضمن صيغة تعريفية للناس من خلال تحديد هذه المعرفة بهذه الألفاظ.

ص: 143


1- أنظر في ذلك: السنن الكبرى للنسائی: ج 5، ص 140، برقم 8498؛ مسند البزار: ج 7، ص 71؛ الاستیعاب: ج 4، ص 1897، ط دار الجيل؛ الآحاد والمثاني: ج 5، ص 360، برقم 2951؛ مجمع الزوائد: ج 9، ص 302
2- کشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 665؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 664؛ البحار: ج 33، ص 54؛ المحتضر للحسن بن سليمان الحلي: ص 234؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 52؛ عوالم العلوم للسيد البحراني: ج 11، ص 148، حدیث 20؛ إحقاق الحق: ج 10، ص 212

بمعنى: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يعرفها ضمن تعريفه هو، فيقدمها ضمن مقامات ثلاثة يبتدأها بكلمة (هي) يسبق بها هذا المقام أو ذاك، كي تكون كل كلمة (هي) منفصلة عن غيرها لكونها تقدم تعریفاً مستقلاً عن فاطمة عليها السلام؛ فكانت على النحو الآتي:

ألف - من عرف هذه، فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي فاطمة بنت محمد.

هنا وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستثني من بيانه وتعريفه لفاطمة من كان عارفاً لها إلا أنه يرجع فيقدم فاطمة (عليها السلام) ضمن تعریف محدد بتلك المقامات الثلاثة، ولذا قال:

«ومن لم يعرفها فأنا أعرفه بها».

ومن البديهي أن الجميع يعرفون أنها ابنته (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذاك يتساوى الجميع في هذا المقام التعريفي سواء من كان منهم مؤمنا أو منافقاً إذ أن الصورة التي ينقلها الحديث وعلى لسان الراوي: ممثلاً بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخذ بيد فاطمة (عليها السلام) إنما كان لهذا القصد، أي: تقديم معرفة جديدة للناس غير تلك المعرفة التي يعرفون بها فاطمة، وقد تسالوا على أنها ابنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعليه:

يتضح من قوله: (فهي فاطمة بنت محمد) نفي شبهة التبني أو الربيبة عن فاطمة حصراً؛ بمعنى: إذا كانت هناك شبهة في كون (رقية، وأم كلثوم،

ص: 144

وزينب) هن ربائب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة (عليها السلام)(1).

أو تسالم هذه الحقيقة في أذهان الناس في كون الربيبة بنتاً؛ فإن النبي أراد بهذا الخروج مع أخذه بيد فاطمة وتقديمها إلى الناس بهذا الشكل الذي يبتدأ فيه قوله: (من عرف هذه)، أي: يعرفها بأنها البنت الواحدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقد عرفها)؛ (ومن لم يعرفها) بأنها ابنتي وأنا أبوها ومن صلبي وليست بالربية، فأنا أعرفه بها: (هي فاطمة بنت محمد) (صلى الله عليه وآله وسلم).

إذن:

من كان يظن أنها ربيبة فهو خاطئ، إنما هي فاطمة بنت محمد، وإلاّ لا معنی لقوله هذا صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوا أنها بنت النبي مالم يكن هناك من يعتقد بأنها ليست ابنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفع هذه الشبهة وهذه الظنون وإعلامهم جميعاً بأنها بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

باء - (هي بضعة مني).

قد مرّ علينا سابقاً بیان دلالة لفظ (البضعة) إلا إننا هنا نضيف بأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يندرج في بيان منزلة فاطمة (عليها

ص: 145


1- للمزيد من المعرفة، أنظر کتابنا: خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، الجزء الأول والذي نستدل فيه كونهن ربائب

السلام) وتعريفها لدى الناس فبعد أن قدمها بكونها (ابنة محمد) (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي ليست بالربيبة ينتقل إلى بيان أعظم وتعريف أدق يكشف عن خصوصيتها منه؛ وحينما نقول منه أي: من النبوة والرسالة وحرمة هذه المقامات في الشريعة.

ولذلك: لم يكتف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكونها ابنته، بل لها تلك المنزلة من كونه رسول الله ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ختم الله به النبوة والرسالة.

وإن لها من الحرمة ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن خصوصية الحكم الشرعي المتمثل بالطاعة والإتباع والعصمة.

جيم - (هي قلبي).

يرتفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تعريف فاطمة (عليها السلام) ضمن هذا السلم المعرفي فينتقل إلى منزلة هي أعظم من سابقتيها، (البنوة، والبضعة) لتكون فاطمة منه منزلة القلب.

وحينما تكون فاطمة عليها السلام في تلك المنزلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهنا لابد من بيان بعض النقاط حسبما يكشفه منطوق الآيات والأحاديث حول قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

إذ من البديهي أن خزانة أسرار الوحي هو قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لقوله تعالى:

ص: 146

1 - «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»(1).

2 - «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ»(2).

والآيتان واضحتان في الدلالة على ما يحتويه قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خزانة للوحي والذكر الحكيم، ولما كانت فاطمة بهذا الوصف وبهذه المنزلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا يعني أنها - ومن لحاظ تكوينها النوراني - خزانة للوحي والذكر الحكيم.

ولذا فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما جاء بها إلى الناس ليعرفها لهم لم يكن ليتخطى تعريف القرآن في بيانه قلبُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الناس کما في الآيتين - ولو كان المراد القلب المادي لما احتاج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إخراجها إلى الناس ومخاطبتهم ليكشف لهم الشأنية والمنزلة التي لها عند الله تعالى ولاكتفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لها من المعرفة النَّسبية والاجتماعية حالها في ذاك حال رقية وأم كلثوم وزينب، فقد اكتفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بما رسخ في أذهان الناس من معرفة الهن، ولم يحتج إلى كل هذا البيان والتأكيد والتحذير والتعريف الذي انتهجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع فاطمة (عليها السلام) لولا تلك المنزلة والشأنية التي جعلها الله تعالى فيها فاراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 147


1- سورة البقرة، الآية: 97
2- سورة الشعراء، الآيات: 192 - 194

حفظ حرمتها ومعرفة قدرها كي لا يقع أحد من المسلمين في تعديه لهذه الحدود الإلهية.

دال - (وهي روحي).

هذه المنزلة التي أظهرها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن الحديث الذي أوردناه في مقدمة المبحث والتي جاءت بالعطف على (القلب) فقد أخرجها الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده (عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (عليه السلام) فلما راه بکی، ثم قال:

«إليّ يا بني».

فما زال يدنيه حتی أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين (عليها السلام)، فلما رآه بکی، ثم قال:

«إليّ يا بني».

فما زال يدنيه حتی أجلسه على فخذه اليسرى، ثم أقبلت فاطمة (عليها السلام)، فلما رآها بکی، ثم قال:

«إليّ يا بنيّة».

فأجلسها بين يديه، ثم أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما رآه بکی، ثم قال:

«إليّ يا أخي».

ص: 148

فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن، فقال له أصحابه: یا رسول الله ماتري واحداً من هؤلاء إلا بكيت، أو ما فيهم من تسر برؤيته! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، إنّي وإياهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب إليّ منهم.

أما علي بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي، وبعد مماتي، محبة محبي، ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة، وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي حتى إنه ليزال عن مقعدي، وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي...»)(1).

ص: 149


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 175؛ الاعتقادات في دين الإمامية: ص 106؛ الفضائل الابن شاذان: ص 83

لا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يريد أن يمتدح ابنته ويرطب مسامعها بكلمات اللطف والحنان والحب فيصفها بأنها قلبه وروحه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو أراد هذا المعنى وقصد هذه الدلالة لكان ذلك ضمن نطاق الأسرة وداخل البيت حاله في ذاك حال بقية الآباء حينما يتناغمون في كلماتهم الرقيقة مع بناتهم وأبنائهم دون الحاجة إلى أسماع الناس؛ بل لعل أسماع الأبناء هذه الكلمات خارج المنزل لا يحقق ما يريده الأب من إظهار الحب لهذا الابن أو البنت.

ولذلك: كان المراد من هذه الكلمات هو الناس وليس فاطمة وهو خلاف ما عليه النظام الأسري والأبوي في مختلف المجتمعات إذ حينما يقدم الأب على المدح والثناء وإظهار حبه لأبنائه وبناته فهو يقبل على الشخص المعني فيسمعه هذه الكلمات لكي يعزز أواصر المحبة والبر ويدفعه إلى التقوى في بر الوالدين.

لكن الحالة هنا مختلفة جذرياً إذ أن المخاطب في هذه الألفاظ الناس وليس فاطمة، أي: أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعرف الناس بمنزلة فاطمة لديه وشأنها عنده وحينما كان يريد فهو لا يقصد المعنى المادي المختزن في لفظ (القلب والروح) فهذه المعرفة تكون سطحية، بل لا يتحقق الهدف من هذا الخطاب والبيان وحيث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حکیماً ومأموراً في كشف الضلال عن الأمة وبيان الحدود الشرعية، كان القصد من هذه الكلمات هو المعنى الشرعي والروحي، والمناقبي، بمعنى: أنها قلب النبوة وروحها؛ وأن التعرض لها هو تعرض لقلب النبوة وروح الرسالة.

ص: 150

وحيث أن روح كل شيء يكون به حياته وقوامه وديمومته كذاك كانت فاطمة فهي روح النبوة ومن خلالها كان دوام الشريعة وذلك من خلال كونها أم الأئمة وأم الأوصياء لرسول رب العالمين أولهم الإمام الحسن وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وعليه:

أردف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الكلمات وهذا البيان والتعريف بالغاية المنشودة منه وهي حفظ حرمتها وعدم التعدي لهذا الخط الأحمر الذي يترتب عليه هلاك أقوام ونجاة أخرى.

ولذا: يختم قوله وبیانه (صلى الله عليه و آله وسلم) فيقول:

«فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله».

وعليه:

فمن آذى الله، عليه لعنة الله وأنبياءه ورسله وملائكته والناس أجمعين عدد ما خلق الله ومبلغ علمه.

المسألة الثالثة: مقاصدية الفعل النبوي في اختصاص فاطمة (علیها السلام)

برسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم). لم يكتف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بإظهار منزلة فاطمة (عليها السلام) لديه عبرَّ الألفاظ، وهو ما تناولناه آنفاً؛ وإنما بادر المصطفی (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إظهار منزلة فاطمة وأختصاصها به عبرَّ الفعل

ص: 151

أيضاً كي يرشد الناس إلى بيان شأنية هذه الشخصية وحرمتها في الشريعة؛ والمستفاد من هذا المنهج النبوي جملة من الأمور، منها:

1 - إن الألفاظ تحتاج إلى قرائن تفهم السامع بما ينطوي عليه مراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد يتعذر المتعذرون بذلك، أي: افتقادهم إلى القرائن في الوصول إلى المعاني أو المعنى المراد من لفظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

في حين قد لا يحتاج الفعل النبوي إلى تلك القرائن المرادفة للألفاظ في الوصول إلى المعنى المراد في اللفظ.

2 - إن الفعل النبوي هو بحد ذاته قرينة خارجية ترشد السامع إلى المعنى والمقصد الذي أراده المعصوم في قوله، ومن ثم يريد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قطع الطريق على المعتذر في فهم الألفاظ النبوية عند غياب القرينة الخارجية.

3 - إنّ الفعل النبوي لا يحتاج إلى بيان يؤكد المعنى الذي يقصده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالفعل لغة يفهمها الكبير والصغير فيهرع إلى تقليدها، وإذا رآها تتكرر أمامه فسوف تنطبع في ذهنه وتنمو معه لیشب عليها وعندها يصبح من الصعب بمكان التحرر من هذا التقليد.

4 - إن الفعل وسيلة تعليمة للناس سواء كانوا يدركون هذا الفعل أو لا وذلك إن القصد منه هو إتباع الناس لهذا الفعل النبوي ومن ثمّ نشره بين الناس.

ص: 152

5 - حينما يتلازم القول النبوي والفعل النبوي في الموضوع الواحد فذلك يؤدي إلى ترسيخ هذا الموضوع في أذهان الناس واستنانهم به وحرصهم على تأديته لما يحمل من أهمية عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

6 - إن الفعل النبوي أسرع انتشاراً بين الناس من القول لاشتراك حاسة البصر مع السمع في إدراك الحكم الشرعي إذ يقرن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القول والعمل.

7 - إن قيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الفعل أو ذاك يحرك في أذهان الصحابة الاستفهام مما يدفعهم إلى الاستفسار وفهم المقصد من هذا العمل.

وعليه: هناك جملة من الفوائد تقترن بهذا المنهاج النبوي في التفاعل مع ما يصدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لينعكس على بناء المجتمع وتثبيت قواعد نهضته وعوامل إصلاحه، وهو ما نحاول أن نوصله إلى القارئ الكريم.

أولًا- مقاصدية قيام النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لفاطمة (علیها السلام) وتقبيلها وإجلاسها في مجلسه.

فيها روي عن عائشة، أنها قالت:

1 - (ما رأيت أحداً من الناس أشبه کلاماً برسول الله (صلى الله عليه - وآله -وسلم)، ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) إذا رآها قد أقبلت رحب بها، ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه؛ وكانت إذا رأت النبي

ص: 153

(صلى الله عليه وآله وسلم) رحبت به فقامت إليه فقبلته....)(1).

2 - وفي لفظ آخر أخرجه الحاكم، والبيهقي، والنسائي، وغيرهم، عن عائشة، أنها قالت:

(ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثا من فاطمة برسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) وكانت إذا دخلت عليه رحب بها وقام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه)(2).

واللفظان الواردان يكشفان عن جملة من الأمور، وهي على النحو الآتي:

ص: 154


1- صحيح ابن حبان: ج 15، ص 403، برقم 6952؛ الجامع الصغير للسيوطي: ص 188؛ شعب الایمان للبيهقي: ج 6، ص 467، برقم 8927؛ الأدب المفرد: ص 326؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 167؛ برقم 6732؛ وفي ج 3، ص 174، برقم 4753؛ موارد الظمآن: ج 1، ص 549؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 7، ص 101، برقم 13356؛ تحفة الأحوذي: ج 10، ص 253؛ الاستیعاب: ج 4، ص 1896؛ الدراية لابن حجر: ج 2، ص 232؛ سنن أبي داوود: ج 4، ص 87؛ برقم 213؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 392، برقم 9237؛ تلخيص الحبير لابن حجر: ج 4، ص 93؛ نصب الراية للزيلعي: ج 4، ص 258؛ فضائل الصحابة: ج 4، ص 242، برقم 4089؛ المصنفّ لابن أبي شيبة: ج 4، ص 47؛ مسند إسحاق بن راهوية: ج 1، ص 8؛ المعجم الأوسط للنسائي: ص 78؛ مسند الروياني: ص 428، برقم 655؛ مسند الشاميين: ج 1، ص 299، برقم 523؛ مسند الموصلي: ج 4، ص 352، برقم 4266؛ الأحاد والثاني: ج 5، ص 359، برقم 2948؛ المعجم الكبير: ج 22، ص 225، برقم 595
2- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 7، ص 101؛ تحفة الأحوذي: ج 8، ص 26؛ السنن الکبری للنسائي: ج 5، ص 392؛ کشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 80؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 55؛ السيدة فاطمة لمحمد بيومي: ص 156

1 - لا شك إن هذا الفعل النبوي کاشف عن تعظيم فاطمة (صلوات الله عليها) أمام الحاضرين لاسيما نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) کما هو واضح عبر منطوق الحديث وراويه، أي عائشة.

2 - إن من البديهي أن يكون علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما سيجري على فاطمة من بعده يجعله يقوم باتخاذ السبل لمنع وقوع الفتنة وهلاك المقترف للذنب في حق بضعته فاطمة، وذلك بما لها من الملازمة بحرمة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فالمتعرض لها متعرض لله ورسوله كما مرّ بيانه.

ومن ثم أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قطع الطريق على من تسول له نفسه بالتعدي على حرمته من بعد وفاته فيسيء إلى قلبه وروحه وبضعته، كأن يقول لم أسمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يدل على هذا التعظيم والحرمة لاسيما ما كانت تقوم به عائشة أثناء حياة رسول الله من الكيد بها والنيل من أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) وهو أمر تواتر عنها في صحاح المسلمين.

3 - إن هذا التعظيم كان له أكثر من صورة وكل صورة، كانت تنطق عن منزلة خاصة وخصوصية منفردة كترحيبه بها حينما تدخل عليه، وقيامه لها، وأخذه بيدها، وتقبيل يدها، أو تقبيلها كما في الرواية الأولى وإجلاسها في مجلسه) كل هذه الصور لها دلالات محددة ومفاهيم خاصة.

ص: 155

ثانياً - مقاصدية فعله (صلّی اله علیه وآله وسلم) إذا أراد السفرجعل فاطمة (علیها السلام) آخر من يودع وأول من يقصد بعد رجوعه.

روى الطبرسي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:

«كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد السفر سلّم على من أراد التسليم عليه من أهله ثم يكون آخر من يسلم عليه فاطمة (عليها السلام) فيكون توجهه إلى سفر من بيتها وإذا رجع بدأ بها»(1).

إن التعامل مع بيت فاطمة في منهج الوحي (عليه السلام) كان منذ أن شاء الله تعالى أن يتكون هذا البيت في زواجها من علي (عليه السلام) حينما زوّج الله سبحانه النور من النور فجمع في بيت أعده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسبقاً حينما بدء ببناء المسجد النبوي حينما قدم المدينة.

فمنذ هذه اللحظات الأولى لتكوّن هذا البيت بقطبيه ونوريه كان الوحي له منهاجاً خاصاً في التعامل معه، فبين وقوف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند باب فاطمة مردداً.

«أنا سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم» إلى مجيئه كل صباح عند صلاة الصبح فيأخذ بعضادتي الباب فيقول:

«الصلاة، الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنکم الرجس أهل البيت فيطهركم تطهيراً».

إلى صلاته وتهجده في الليل خلف بيت فاطمة (عليها السلام) إلى غير

ص: 156


1- مکارم الأخلاق للطبرسي: ص 94؛ ج 19، ص 349

ذلك من الأفعال. وعليه: فهذا المنهج هو الذي جعله (صلى الله عليه وآله وسلم) آخر مايودع هو فاطمة، وأول مايبتدأ به من السفر هو بيت فاطمة.

كل ذلك وعبر هذا الفعل النبوي المتنوع في هذه الأشهر والسنوات التي قضاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة ومنذ أن بني هذا البيت في الإسلام والى يوم وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم).

كلها تدل على قضية محددة، وهي:

إنَّ هذا البيت له من الحرمة ما يجعله موضعاً لكل هذا الإهتمام النبوي، وانه في محل من التعظيم والتقديس ما يجعل المرء يعد حتى الألف قبل أن يخطو خطوة واحدة قد تكون خالية من اللياقة والتأدب فيقع في محذور عظیم و خطر جسيم.

فضلاً عن أن الداخل إليه لابد له من مقدمات و مؤهلات تسمح له من التشرف لتقبيل اعتابه واحراز الأذن في الجلوس في فنائه.

وكيف لا وجبرائيل واسرافيل والملائكة المقربون، زواره يقبلون أعتابه، ويتشرفون بخدمة أهله والجلوس معهم، والتزود من نورهم وفيضهم.

(فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

ثالثاً - مقاصدية فعله (صلّی الله علیه وآله وسلم) بعدم الدخول على فاطمة () حتى يستأذن.

روى الشيخ الكليني (رحمه الله) عن أبي جعفر - الباقر - (عليه السلام) (عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

ص: 157

خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) پرید فاطمة (عليهما السلام) وأنا معه فلما انتهيت إلى الباب وضع يده عليه فدفعه ثم قال:

«السلام علیکم».

فقالت فاطمة:

«عليك السلام یا رسول الله».

قال - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«أدخل؟».

قالت - عليها السلام -:

«ادخل يا رسول الله».

قال:

«أدخل أنا ومن معي؟».

فقالت:

«یا رسول الله ليس عليّ قناع».

فقال:

«یا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك».

ففعلت ثم قال:

«السلام عليكم».

ص: 158

فقالت فاطمة:

«وعليك السلام یا رسول الله».

قال:

«أدخل؟».

قالت:

«نعم يا رسول الله».

قال:

«أنا ومن معي؟».

قالت:

«ومن معك؟».

قال جابر: فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخلت، وإذا وجه فاطمة (عليها السلام) أصفر كأنه بطن جرادة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«مالي أرى وجهك أصفر».

قالت:

«یا رسول الله الجوع».

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 159

«اللهم مشبع الجوعة ودافع الضيعة أشبع فاطمة بنت محمد».

قال جابر: فوالله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتى عاد وجهها أحمر فما جاعت بعد ذلك اليوم)(1).

وقد أخرج عمر بن شاهين، وابن عبد البر، وابن عساكر الدمشقي، والذهبي وغيرهم (عن عمران بن حصين قال: خرجت يوماً فإذا أنا برسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قائم فقال لي:

«یا عمران فاطمة مريضة فهل لك أن تعودها؟».

قال قلت: فداك أبي وأمي وأي شرف أشرف من هذا، فانطلق رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فانطلقت معه حتى أتى الباب فقال:

«السلام عليكم، أأدخل؟».

قالت:

«وعليكم، أدخل».

فقال رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم):

«أنا ومن معي؟».

قالت:

«والذي بعثك بالحق ما عليّ إلا هذه العباءة».

ص: 160


1- الكافي للكليني: ج 5، ص 528. وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 30، ص 215 - 216

قال ومع رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) ملاءة خلقة فرمى بها إليها، فقال:

«شدی بها على رأسك».

ففعلت ثم قالت:

«ادخل».

فدخل ودخلت معه فقعد عند رأسها وقعدت قريبا منه فقال:

«أي بنية كيف تجدك».

قالت:

«والله يا رسول الله إني لوجعة وإني ليزيدني وجعا إلى وجعي أن ليس عندي ما آكل».

قال فبکی رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) وبكت وبكيت معهما، فقال لها:

«أي بنية اصبري مرتين أو ثلاثة».

ثم قال لها:

«يا بنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين».

قالت:

«يا ليتها ماتت فأين مریم بنت عمران».

ص: 161

قال لها:

«أي بنية تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك والذي بعثني بالحق لقد زوجتك سيدا في الدنيا وسيدا في الآخرة لا يبغضه إلا كل منافق»)(1).

يظهر الحديثان جملة من الأمور العقدية والتربوية والأسرية وذلك بحسب ما احتوته ألفاظ كل منها مشتركة أو انها اختلفت في إظهار جانب معين من تلك الأمور؛ وهي على النحو الآتي:

ألف. يظهر الحديثان حقيقة عقدية مرتبطة بمنزلة فاطمة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك عبر الفعل النبوي المبارك، إلا وهو «الاستئذان من فاطمة قبل الدخول إلى دارها».

على الرغم من أن الاستئذان مرفوع فيها بين الوالد وابنته عند الدخول إليها في دارها.

ولعل قائلاً يقول: إن السبب في استئذان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على فاطمة (عليها السلام) لكونه كان يصطحب معه شخصاً اجنبياً کما نصت الرواية الأولى والثانية، فالرواية الأولى أوردت اصطحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لجابر بن عبد الله، وفي الثانية كان عمران بن

ص: 162


1- فضائل فاطمة لابن شاهين: ج 1، ص 15، ح 12. الاستیعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1895؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساکر: ج 2، ص 134. سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 126. الجوهرة في النسب للبري: ص 17. ذخائر العقبى للطبري: ج43. نظم درر السمطين للزرندي: ص 188. المناقب للخوارزمي: ص 340. مشکل الآثار للطحاوي: ج 1، ص 141. حلية الأولياء: ج 2، ص 42. اتحاف السائل للمناوي: ص 76 - 77. ح 42. الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 460

حصين، وكلاهما لا يحق لها الدخول دون استئذان.

وأقول: لا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وبلحاظ أنه صاحب الشريعة - لا يخفى عليه وجود شخصين أجنبيين على ابنته، ومن ثم لا يجوز لها الدخول إلى دار فاطمة (عليها السلام) دون استئذان.

ولكن: الحكمة النبوية تكمن في اصطحابه لها؛ وذلك ليحدثان الناس بما سيشاهدان ويسمعان منه ومن ابنته (صلوات الله عليهما) مما يحقق الهدف التبليغي والإرشادي والتربوي الذي قصده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من هذه الزيارة.

وعليه: فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من شأنه أنه لا يدخل إلى بيت فاطمة عليها السلام حتى يستأذن، ولعل أخذه (صلى الله عليه وآله وسلم) الإذن مجدداً ولمن معه فقال لها: «أنا ومن معي»؛ ليرّسخ في ذهن من اصطحبه إلى بيت فاطمة (عليها السلام) بأنه لا يدخل عليها حتى يستأذن.

باء. لا شك أن دلالة الاستئذان تكشف عن شأنية صاحب الدار، فهذا الفعل دلالته الاجتماعية والعرفية والعقلائية ثابتة لدى الناس.

إلا أن الجديد في هذا الاستئذان هو شخص المستأذن، بمعنى: إنّ هذا الفعل في العادة يدل في وقوعه على شأنية صاحب الدار فكلما عظمت شأنيته الزم إظهار الإذن وتفخیمه؛ لكن هنا الحال يختلف فالقادم هو أعظم شأناً ومنزلة، ومن ثم يلزم خروج صاحب الدار لاستقباله بحفاوة وتكريم، فضلاً عن سقوط الإذن، أي أن عظيم شأنية القادم تستلزم أن لا يستأذن على

ص: 163

أحد كما هو الحال في زيارة الملوك والسلاطين لدى الرعية، فالرعية والناس هم الذين يظهرون الحفاوة والتكريم للسلطان أو الحاكم عند قدومه للزيارة، فضلاً عن أن هذه الزيارة تفضي على صاحب الدار الوجاهة والكرامة.

فكيف إذا كان الزائر والقادم هو سيد الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يحيط به من صفوف الملائكة والأنوار الربانية، وكيف سيكون أثر هذه الزيارة والتشريف؟! على صاحب الدار؟ ولذلك كل هذه الدلالات ترشد الناظر إلى عظیم منزلتها (صلوات الله عليها).

جيم. إن قول عمران بن حصين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما عرض عليه عيادت فاطمة (صلوات الله عليها): «فداك أبي وأمي، وأي شرف أشرف من هذا؟».

يكشف عن تحقيق الغاية في الاصطحاب، أي: إظهار شرف صاحب الدار، ومصاحبة رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) في هذه الزيارة، وهو ما أراده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلاً عن إيصال معرفتها إلى الصحابة وبما لديها من المنزلة عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولذلك: كيف سيكون حال الداخل لهذه الدار عنوة ومروعاً لفاطمة ووليدها (عليهما السلام) وما له من العقاب عند الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أتراه كان يدرك ما فعل، أم انه جاهل بمقامها وحرمتها؟

ص: 164

ولعل قول الناس له حينما جمع الحطب على الباب لحرقه؛ (إن في الدار فاطمة)، قد قطع العذر في الجهل؛ ولعل قوله: «وإن» قد قطع العذر في عدم الإدراك مما فعل، بل كان عارفاً أين سيسدد ضربته، ولمن وجه رميته، وهو على الإصرار والسبق والترصد.

وعليه: كان الهدف في اصطحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لشخصين في عايدت فاطمة (صلوات الله عليها) هو تثقيف المسلمين على هذه العقيدة وبيان الحرمة الشرعية لهذه الدار وأهلها، ولذا قالوا: (إن في الدار فاطمة)(1).

أذن: هذا الفعل النبوي وما سبقه من أقواله (صلى الله عليه وآله وسلم) يظهر بجلاء مقاصدية القرآن والسنّة في ملازمة حرمة فاطمة (عليها السلام) لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشأنها لشأنه، وقدسيتها القدسيته، وحبها لحبه، وبغضها لبغضه، ورضاها لرضاه، وأذاها لأذاه.

ومن آذاه (صلى الله عليه واله) فقد حكمت الشريعة بلعنه في محكم التنزيل.

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا»(2).

ص: 165


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1، ص 178. تاريخ أبي الفداء: مج 1، ص 156؛ انساب الأشراف للبلاذري: مج 1، ص 685؛ تاریخ الخميس للديار بكري: ج 1، ص 178؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 2، ص 100
2- سورة الأحزاب، الآية: 57

ص: 166

المبحث الثاني مظاهر علاقة أبي بكر ببيت النبوة في مقاصدية القرآن والسُنَّه مثلما جرت قصدية السؤال في المبحث الأول تجري هنا إذ أن التعريف بشخص أبي بكر لا يراد به - قطعا - أنه الخليفة، وانما ما شهده تاریخ هذه الشخصية قبل وقوع الخصومة لبيت النبوة فألدَّ في خصام بضعة النبي (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).

فقد يكون التخاصم معهوداً منه لبيت النبوة، ومشهوداً لدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد يكون وليد مقتضيات العهد الجديد الذي مكنّهُ من الجلوس في مجلس الحكم وتأسيس الحكومة الجديدة وتثبيتها؟ إنها تساؤلات كثيرة نبحث عن اجاباتها في مصادر التراث الإسلامي، لعلنا نجد فهماً لما سنّهُ أبو بكر من المخاصمة لبضعة النبوة (عليها السلام) منذ الأيام الأولى لتوليه الحكومة والى يومنا هذا الذي أنبرى فيه ابن عثيمين وأسلافه وأتباعه وهلم جراً؛ إذ لم يزل الخلف أوفياء لما سَنّه السلف في مخاصمة فاطمة (عليها السلام).

ص: 167

المسألة الأولى: مظاهر العلاقة مع بيت النبوة قبل وفاة رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم).

إنّ الرجوع إلى المصادر التاريخية، وقراءة مجريات البعثة النبوية، ومحطات التبليغ الذي سار به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يرشد الى جملة من المواقف التي بدا فيها التخاصم جلياً في العلاقة بين أبي بكر وبيت النبوة حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) کما سیمر عبر نقاط هذه المسألة.

وعليه:

لم تكن مخاصمة أبي بكر لفاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) وليدة مقتضيات السلطة والحكومة التي تسنمها أبو بكر، وإنها منذ الهجرة النبوية وقبل الدخول الى المدينة التي تنورت بأقدام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمنذ ذلك الوقت كان التخاصم والمخاصمة للبيت النبوي. وهي كالاتي:

أولاً - أول مظهر للخصومة مع بيت النبوة كان في قباء قبل دخول المدينة.

وهذه الحقيقة المغيبة من كتب السيرة أظهرها الشيخ الكليني (عليه الرحمة والرضوان) (ت 329 ه) في روايته عن سعيد بن المسيب وهو يتوجه إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدین (عليه السلام) في جملة من الأسئلة، فكان منها، أنه قال:

(جُعِلْتُ فِدَاكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ اللهَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حِينَ أَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَيْنَ فَارَقَه؟ فقال:

«إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِلَى قُبَا فَنَزَلَ بِهِمْ يَنْتَظِرُ قُدُومَ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ لَه أَبُو بَكْرٍ:

ص: 168

انْهَضْ بِنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ فَرِحُوا بِقُدُومِكَ وهُمْ يَسْتَرِيثُونَ إِقْبَالَكَ إِلَيْهِمْ فَانْطَلِقْ بِنَا ولَا تَقُمْ هَاهُنَا تَنْتَظِرُ عَلِيّاً فَمَا أَظُنُّه يَقْدَمُ عَلَيْكَ إِلَى شَهْرٍ، فَقَالَ لَه رَسُولُ اللهَّ (صلى الله عليه وآله):

کَلَّا مَا أَسْرَعَه وَلَسْتُ أَرِيمُ حَتَّى يَقْدَمَ ابْنُ عَمِّي وأَخِي فِي اللهَّ عَزَّ وجَلَّ وأَحَبُّ أَهْلِ بَيْتِي إِلَيَّ فَقَدْ وَقَانِي بِنَفْسِه مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ واشْمَأزَّ ودَاخَلَه مِن ذَلِكَ حَسَدٌ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) و کَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عَدَاوَةٍ بَدَتْ مِنْه رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) وَأَوَّلَ خِلَافٍ عَلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ وتَخَلَّفَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بِقُبَا یَنْتَظِرُ عَلِيّاً (عليه السلام)»)(1).

وقد ترك هذا الأمر اثراً كبيراً في نفس أبي بكر، ومن قبا بدأت مرحلة جديدة في مسيرته وعلاقته مع الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) بنحو خاص ومع بيت النبوة بنحو عام، لا سيما وأن الخصائص التي نالها الإمام علي (عليه السلام) والإنجازات التي حققها في سيره الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تسير بتصاعد مستمر.

فضلاً عن الفضائل والخصائص التي أكرمه الله بها، وخصه دون غيره من المسلمين، على اختلاف مراتبهم وفضلهم ومكانتهم من المهاجرين والأنصار.

ومنها، أي هذه الخصائص الإلهية والمنح المولوية مؤاخاة النبي (صلى

ص: 169


1- الكافي للكليني: ج 8 ص 340؛ الطرائف لابن طاووس: ص 11؛ مختصر بصائر الدرجات لحسين بن سليمان الحلي: ص 130؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 1 ص 159

الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) في مكة والمدينة؛ أي قبل الهجرة وبعدها، وهو ما سنتناوله في ثانياً.

ثانياً - مؤاخاة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لعلي (علیه السلام) وتركه لأبي بكر وأثرها في الخصومة.

ذكر المؤرخون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد آخى بين الصحابة من المهاجرين والأنصار بعد قدومه المدينة بفترة وجيزة قيل: خمس أشهر أو ثمانية(1)، ولعلها ثاني الأعمال التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، أي: بعد بنائه للمسجد؛ وكان عددهم فيما يقال: خمسة وأربعين رجلا من المهاجرين ومثلهم من الأنصار(2)، وقيل: مائة وست وثمانين(3).

فقد أخرج ابن سعد في الطبقات، عن ضمرة بن سعيد عن أبيه، قالوا:

(لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة آخی بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمواساة ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام(4) ثم نسخت آية الميراث التوارث بينهم.

أما كيفية المواخاة بينهم، فقد ذكرها المصنفون على النحو الآتي:

1 - أخرج ابن عساكر الدمشقي الأموي (ت 571 ه) عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي (عليه السلام)، قالا، أي عبد الله وأبيه محمد:

ص: 170


1- الطبقات الکبری: ج 1 ص 238؛ أمتاع الاساع للمقريزي: ج 1 ص 69
2- الطبقات الکبری: ج 1 ص 238
3- امتاع الأسماع للمقريزي: ج 1 ص 69
4- الطبقات الکبری: ج 1 ص 238

(آخی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة بين أبي بكر وعمر بن الخطاب، فلما قدم رسول الله المدينة، نقض تلك المؤاخاة إلا اثنين، المؤاخاة التي بينه وبين علي بن أبي طالب، والتي بين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة)(1).

وأخرج أيضاً:

عن عمرو بن حزام الأنصاري السلمي: (أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم) حين آخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد الخزرجي)(2).

2 - وأخرج ابن عساکر، عن زيد بن أبي أوفي، قال:

دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسجده، فقال:

«أين فلان ابن فلان»؟ فجعل ينظر في وجوه أصحابه - فذكر الحديث في المؤاخاة وفيه - فقال علي (عليه السلام):

«لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري، فإن كان هذا من سخط علي فلك العتبى و الكرامة»؟! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 171


1- تاريخ مدينة دمشق: ج 30 ص 94
2- الدرر لابن عبد البر: ص 90

«والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسی غير أنه لا نبيَّ بعدي، وأنت أخي، ووارثي»، قال:

«وما أرث منك يا رسول الله؟»، قال: «ما ورثت الأنبياء من قبلي»، قال:

«وما ورثت الأنبياء من قبلك؟» قال:

«کتاب ربهم وسُنّة نبيهم، أنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة أبنتي، وأنت أخي ورفيقي» ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ» «المتاحين في الله ينظر بعضهم»(1).

3 - وأخرج البلاذري (المتوفي سنة 279 ه) عن زيد بن أرقم، قال:

(آخی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أصحابه، فقال علي (عليه السلام):

«یا رسول الله آخيت بين أصحابك وتركتني»؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أنت أخي أما ترضى أن تدعي إذا دعيت، وتكسي إذا کسیت، وتدخل الجنة إذا دخلت»؟ قال: «بلى يا رسول الله»(2).

ص: 172


1- تاريخ مدينة دمشق : ج 42 ص 53
2- أنساب الاشراف : ج 2 ص 144

والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد تعرض لها المصنفون منذ القرن الأول والثاني للهجرة النبوية، ولا مجال هنا لإيراد هذا الكم منها، فالبحث غير مخصص لحديث المؤاخاة.

ورحم الله العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي فقد قال في حديث المؤاخاة:

(وعلى كل حال فإن حديث المؤاخاة متواتر لا يمكن إنكاره ولا التشكيك فيه، ولا سيما مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) سواء في المؤاخاة الأولى في مكة، أم الثانية في المدينة، وهو مروي عن عشرات من الصحابة والتابعين كما يتضح للمراجع.

وقد روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام):

إذا كان يوم القيامة نوُدِيتُ من بطنان العرش، نعَّم الأب أبوك أبراهيم ونعَّم الاخ أخوك علي)(1).

وعليه: فإن اختيار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) ومؤاخاته ثلاث مرات، الأولى في مكة قبل الهجرة حينما آخی بين المهاجرين؛ والثانية في المدينة حينما آخى بين المهاجرين مرة أخرى، والثالثة بين المهاجرين والأنصار.

ص: 173


1- الصحیح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): ج 5 ص 107؛ وينظر ايضاً: المحاسن للبرقي: ج 1 ص180 الأمالی للصدوق: ص 403، مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) لابن المغازلي: ص 56؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساکر: ج 42 ص 54

وإلا ما معنى أن يعيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤاخاة بين المهاجرين في المدينة، ثم بينهم وبين الأنصار إلّا أن تكون المؤاخاة قد جرت ثلاث مرات وفي جميعها يؤاخي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبين علي (عليه السلام)؛ ومما لا ريب فيه إن ذلك ترك اثراً كبيراً في نفاسة أبي بكر العلي (عليه السلام) و مخاصمته له ولبيت النبوة، لا سيما وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صحب ابا بکر معه في الطريق الى المدينة، ثم فارقه ابو بكر في قباء ودخلها وحده وبقي النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتظر قدوم الإمام علي (عليه السلام) مع الفواطم إلى المدينة فدخلاها جميعاً.

فعظمة خصومته لعلي (عليه السلام) في ذلك.

ومما زاد في الخصومة لبيت النبوة ولعلي فاطمة (عليها السلام) على نحو الخصوص هو رد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر حينما تقدم لخطبة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) ولمرات عدة، وفي كل مرة يرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وهو ما سنتناوله في ثالثاً.

ثالثاً - تزويج النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لفاطمة من علي (علیهما السلام) وردّه لأبي بكر وعمر وأثره في الخصومة.

تفيد الروايات التأريخية والحديثية في تزويج فاطمة (صلوات الله علیها) ان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أعرض بوجهه عن جميع من تقدم لخطبتها وردهم؛ حتى كان يظن الرجل منهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (ساخط عليه، أو قد نزل على رسول الله (صلى الله عليه

ص: 174

وآله وسلم) فيه وحي من السماء)(1).

وعن ابن عباس أنه قال:

(كانت فاطمة تذكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يذكرها أحد إ لاَّ صدّ عنه حتى يئسوا منها)(2).

وكان ممن خطبها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو بكر، وعمر، وقد ظهر عبر الروايات أنهما تقدما أكثر من مرة لخطبتها فردهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل مرة، فكانت على النحو الآتي:

1 - اعراض النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) عن أبي بكر في المرة الأولى.

تفيد الروايات أن أبا بكر تقدم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقعد بين يديه، فقال:

یا رسول الله، علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام، وتقدمي على غيري، وإني، وإني...

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «وما ذاك؟!» قال: تزوجني فاطمة! فاعرض عنه، وفي لفظ آخر: فسكت عنه.

ص: 175


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 43 ص 124
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 410، رقم (1022)؛ المصنف لبعد الرزاق برقم 9782؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 333، برقم 95213

فرجع أبو بكر الى عمر بن الخطاب، فقال له: قد هلكت وأهلكت! قال عمر: وما ذاك؟! قال: خطبت فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعرض عني؟!!...)(1).

2 - تقدمه لخطبتها (علیها السلام) بتوسط عائشة ورد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) له في المرة الثانية.

ومن الروايات التاريخية والحديثية ما يكشف عن إصرار أبي بكر على خطبة فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها)، فبعد أن تقدم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه دون وسيط، و رد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له واعراضه عنه، لم يكف عن هذا الطموح، بل: عاد هذه المرة وقد أدخل ابنته عائشة في الأمر، كي تتوسط له عند النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله وسلم) لنيل مبتغاه في زواجه من بضعة النبوة (صلوات الله وسلامه عليها).

فقد أخرج أبو بكر العتكي البزار (ت 293 ه)، والهيثمي (ت 807 ه) عن أنس بن مالك، أنه قال:

(إن عمر بن الخطاب أتی أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ما يمنعك أن تتزوج فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ص: 176


1- المعجم الكبير للطبراني: ج 22 ص 407 - 409؛ صحیح ابن حبان: ج 15 ص 393؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8 ص 19 أنساب الاشراف للبلاذري: ج 1 ص 487 (مختصرا)؛ أتحاف السائل للمناوي: ص 34 - 35؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 331 برقم (15210)

قال: لا يزوجني:

قال إذا لم يزوجك، فمن يزوج، وأنك من أكرم الناس عليه، وأقدمهم في الإسلام؟ قال أنس بن مالك:

فانطلق أبو بكر إلى بيت عائشة، فقال: يا عائشة إذا رأيت من رسول الله طيب نفس وإقبالا عليك، فاذكري له أني ذكرت فاطمة، فلعل الله عزّ وجل أن يسيّرها لي.

قال أنس: فجاء رسول الله (صلى الله عليه واله) فرأت منه طيب نفس وإقبالا، فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر ذکر فاطمة، وأمرني أن أذكرها.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«حتى ينزل القضاء».

قال أنس: فرجع إليها أبو بكر فقالت: يا أبتاه وددت أني لم أذكر له الذي ذكرت !!)(1).

إلا أن أبا بكر لم ينته من معاودة خطبة ابنت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) بعد أن رده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين وذلك لحرصه الشديد على أن ينال بضعة النبوة، فقد علم منزلتها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن المكاسب التي سيجنيها من مصاهرته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن نصره الله تعالى في الخروج من مكة

ص: 177


1- مجمع الزوائد: ج 9 ص 332، برقم 10211؛ مسند البزار المشهور بالبحر الزخار: حديث رقم (6911)

وبناء الإسلام في المدينة، وقد دان له أكثر أهلها من الأنصار، والأمر لا يحتاج إلى المزيد من البيان، أذ يكفي في ذلك قوله لابنته عائشة: (لعل الله يسيّرها لي)؛ ولذا:

نجده لم يزل ساعياً لنيل هذه الغنيمة العظمى؛ فقد تقدم لخطبتها مرة ثالثة، وهنا رد عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برد جديد، وهو على النحو الآتي:

3 - رد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لأبي بكر في خطبته لفاطمة (علیها السلام) للمرة الثالثة.

فقد أخرج الحاكم النيسابوري، والنسائي، وأقره الذهبي في التلخيص، وغيرهم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال:

(أن أبا بكر وعمر خطبا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فقال:

«أنها صغيرة»(1).

فخطبها علي (عليه السلام) فزوجها منه)(2).

فهنا كان رد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يختلف عما سبق فكونها صغيرة يستلزم أن ينتظر، ليكف أبو بكر عن التقدم مرة أخرى لخطبتها (صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).

ص: 178


1- المستدرك على الصحيحين للحاکم: ج 2 ص 167، أقره الذهبي في التلخيص وهو مطبوع مع المستدرك: ج 2 ص 167 السنن الکبری للنسائي: ج 3 ص 265 برقم (5329)؛ صحیح ابن حبان ج 15 ص 399
2- المصدر السابق

إلا أن الذي كشفته الروايات وأفصحت عنه النصوص أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) رد أبي بكر وعمر وغيرهما من خطب فاطمة (عليها السلام) لسبب آخر غير هذه الأسباب التي بيّنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي: أنه ينتظر بها القضاء؛ «وأنها صغيرة».

فقد دلت مقاصدية قوله الجديد - الذي سيمر - عن السبب الرئيسي الذي منع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تزويج فاطمة لغير علي (عليهما السلام).

نعم: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتظر بها القضاء فقد أمر الله جلَّ شأنه بزواج «النور من النور»(1).

وأنها كانت صغيرة، فهي في العاشرة من عمرها، لكن في الأمر سبب آخر منع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تزويجها لأبي بكر أو عمر أو غيرهما؛ وهو مما زاد في خصومة أبي بكر لفاطمة وعلي (عليها السلام) فما هو السبب الأعظم؟ وجوابه فيما يلي:

4 - «هي لك يا علي لست بدجال».

إن تغيير حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لعلمه بعدم صدق الذين تقدموا لخطبة فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها)

ص: 179


1- الكافي للكليني: ج 1 ص 460؛ الأمالي للصدوق: ص 989؛ مناقب الإمام علي (عليه السلام) للموفق الخوازمي

فهو يعلم أنهم لن يصدقوا في رعايتها والحفاظ عليها وصون حرمتها.

ولذا:

فهم غير جديرين بان يودعهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بضعته النبوية وسيدة نساء العالمين، ولا يستحقون أن يقلدهم قلبه وروحه التي بين جنبيه.

وقد صرّح النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بتلك الحقيقة، وأعلن لهم عن أحد أسباب إعراضه عنهم وتزويجه علياً (عليه السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«هي لك يا علي لست بدجال»(1).

وقد حاول ابن سعد توجيه الحديث لغير معناه الواضح ودلالته البينة ومقصوده الجلي، قائلا:

(خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«هي لك يا علي لست بدجال».

يعني: لستُ بكذاب، وذلك أنه قد وعد عليا بها قبل أن يخطب إليه أبو بکر وعمر(2).

ص: 180


1- الطبقات الکبری: ج 8 ص 19 - 20 مسند الفردوس للديلمي: ج 3، ص 373، رقم (5130)؛ وفاة فاطمة للبحراني: ص 10
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص20

وهذا التعليل من ابن سعد الذي جاء بضم التاء أراد به نفي الكذب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس الإمام علي (عليه السلام) بمعنی: نفي العلة عن الأشخاص الذين تقدموا لخطبة فاطمة (عليها السلام)، وهو تعليل خاطئ وتدليس وهذا أولاً.

ثانياً: قد ورد في كثير من الأحاديث: أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان آخر من تقدم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطبا؛ لأنهم يئسوا منها(1)، وفي أخرى أنه لم يذهب حتی عوتب من قبل جماعة من الأنصار(2)، وفي رواية أخرى أنه كان غير ملتفت أصلا إلى هذا الأمر(3)، وفي غير هذه الروايات: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بعث إليه فزوجه(4).

فمتی وعده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بفاطمة (عليها السلام)، وكما يقول ابن سعد: قبل أبي بكر وعمر.

ثالثا: لماذا لم يصرح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك أمام كل خاطب، فيعتذر منه: بأنه وعد عليا بها ولا يريد أن يخلف بوعده! أليس

ص: 181


1- البحار للعلامة المجلسي ج 43، ص 92؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 410، برقم (1022)؛ مجمع الزوائد: ج 9، ص 223، رقم (15213)
2- رشفة الصادي للحضرمي: ص 9؛ کشف اليقين للحلي: ص 195؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 136 - 137، برقم 34 عن بريدة
3- صحيح ابن حبان: ج 15، ص 393؛ مجمع الزوائد: ج 9، ص 331؛ المناقب لابن المغازلي ص 17
4- دلائل الإمامة للطبري: ص 12؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 345 - 347

هذا أهون بكثير على نفوس المتقدمين إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من إعراضه وصدّه عنهم حتى كان يظن الرجل منهم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ساخط عليه أو أن وحیانزل فيه؟! وبحسب ما جاء به هذا الحديث: فما زوّج النبي فاطمة لعلي (عليهما السلام) إلا لإنتفاء العلة المانعة عنه، وثبوتها في غيره(1).

مما ترك اثراً كبيراً في تنامي خصومة أبي بكر لعلي وفاطمة (صلوات الله وسلامه عليهما) ولو كان أبو بكر قد ردّ الأمر إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تنامت هذه الخصومة في نفسه وتعاظمت بمرور الأيام وتكررت مع المناقب والفضائل في سير الإمام علي (عليه السلام) الى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فزادت معه مظاهر الخصومة؛ وهو ما سنتناوله في رابعاً.

رابعاً - تراجع أبي بكرفي خيبر وتقدم الإمام علي (علیه السلام) فاتحاً لحصونها وأثره في تنامي الخصومة.

كثيرة هي المظاهر التي نال فيها الإمام علي (عليه السلام) التقدم والإسراع إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونيل رضاهما وحبهما ولو صرفنا الجهد لعدها وذكرها لخرج الكتاب عن عنوانه ومضمونه لا سيما تلك المواطن التي فشل فيها الآخرون ممن صحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 182


1- لمزيد من الإطّلاع ينظر: صببُ السجال في حديث: (هيَ لك يا علي لستَ بدجّال)؛ للمؤلف

ولذا:

سنكتف بهذا المظهر والذي سيليه، ففي ذلك الكفاية انشاء الله لمن كان له قلب أو «أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»(1).

فقد كان فيها أبو بكر على المحك، لا سيما وان كثير من المصنّفين والباحثين من أتباع أهل السُنّة والجماعة قد حاولوا الالتفاف على هذه الحقائق أو التدليس فيها أو لمس العذر لأبي بكر، وهو ما وقع في فتح خيبر أو أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لسورة براءة منه وتسليمها الإمام علي (عليه السلام) کما سیمر بیانه في المظهر القادم.

أما كيفية تراجعه عن التقدم لفتح خیبر، فكان على النحو الآتي:

1 - أخرج أحمد بن حنبل في المسند عن أبي بريدة قال:

(حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له، ثم أخذه من الغد فخرج فرجع ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أني دافع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له» فبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غداً، فلا أن أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغداة، ثم قام، قائما فدعا باللواء والناس على مصافهم، فدعا علياً وهو أرمد، فتفل في عينيه، ودفع إليه اللواء، وفتح له)(2).

ص: 183


1- ق، الآية: 37
2- مسند أحمد: ج 5 ص 354

2 - وأخرج البخاري (256 ه) في صحيحه عن سهل بن سعد، قال:

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر:

«لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله».

فبات الناس ليلتهم أيهم يعطي فغدوا كلهم يرجوه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«این علي»؟ فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعي له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال:

«أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا»؟ فقال:

«أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم أدعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لإن يهدي الله بك رجل، خير لك من أن تكون لك حمر النعم»(1).

والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة جداً، وهي نارً على علم، وقد تناقلها الرواة ودونها علماء المسلمين في كتبهم، وقد قدّمنا رواية إمام الحنابلة على رواية البخاري لبيان تقدم أبي بكر مرتين لفتح خيبر وفشله في ذلك حتى أصاب المسلمين الجهد واليأس من عدم فتحها، لا سيما وأن غير واحد من

ص: 184


1- صحيح البخاری، باب: دعاء النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)، ج 4 ص 20

الصحابة قد جرّب حظه كعمر بن الخطاب الذي رجع يجّبن الناس ويجبنونه.

وعليه:

قد كان هذا الحدث وفيما شهده الناس لا سيما صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فشل أبي بكر وتراجعه عن التقدم، وعدم مقدرته على انجاز شيء يذكر، ثم إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس في ليلة الفتح والنصر على اليهود وفتح حصنهم الأعظم، بإعطائه الراية غداً لرجل، فيه صفات خاصة لم تكن في أحډغيره وتفرده بها، وإلاّ لكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أشرك علياً (عليه السلام) مع غيره في هذا الأمر. والعلة في ذلك أنه لا يوجد بين الصحابة من يتصف بهذه الصفات، وهي:

1 - يحب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2 - يحبه الله ورسوله (صلى الله عليه و آله وسلم).

3 - الملازمة التطابقية في كينونة هذا الحب بين الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينه (عليه السلام)، إذ لا ينفك هذا التلازم ولا يختلف في الرتبة والتعظيم والشأنية، فالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عظیم في نفس علي (عليه السلام).

ولذا: فهو عظيم عندهما؛ وإلا فكل الصحابة يدعون ذلك، بل كلّ مسلم يدعي حب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن كيف هي منزلتها في نفس من يدعي حبهما؟ ومما لا ريب فيه أن ذلك يتضح في الأفعال.

ص: 185

من هنا:

كان لحدث فتح خيبر على يديه (عليه الصلاة والسلام) مع تلك الأوسمه التي نطق بها لسان الوحي «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»(1).

والتي تفاوت المصادر في نقلها بين الايجاز والسعة كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«کرار غير فرار يفتح الله عليه، جبرائیل عن يمينه ومیکائیل عن يساره»(2).

فهذه الاوسمة التي رافقت الحدث وحظي بها أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، ومنع منها أبي بكر بعد فشله وخسرانه، كان لها أثرها البالغ في تعاظم الخصومة في نفسه أتجاه علي (عليه السلام).

وما تمضي الأيام إلا وهي في كل يوم مصحوبة بفضائل للوصي (عليه الصلاة والسلام) حتى إذا قربت من عام الفتح أبلجت عن صبح مشرق في حياة الولي (عليه السلام) وأسفرت عن أعظم الأحاديث أثراً في نفس أبي بكر، ولعلنا لا نبالغ أن قلنا أنها كانت القاضية التي قسمت ظهر ما بقي بينهما من أمر مستور فتجلى في سورة براءة، وهو ما سنتناوله في المظهر الخامس والذي نکتف به في بيان حجم الخصومة للبيت النبوي وبالأخص لفاطمة وعلي (عليهما السلام) قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 186


1- سورة النجم، الآيات (3 - 5)
2- تاریخ مدينة دمشق لابن عساکر: ج 42 ص 219، تاريخ اليعقوبي: ج 3 - ص 56؛ رسائل الشريف الرضي: ج 4 ص 104

خامساً - منع النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) أبي بكر من تبلیغ سورة براءة وحمل علي (علیه السلام) لها وأثره في تعاظم الخصومة.

إن المتتبع لحياة رسول الله (صلى الله عليه واله) يجد أمورا ثلاثة لا تفارق فضائل الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في كتب القوم اللذين لا يدينون الله بحبه (عليه السلام) ألا وهي: التدليس، والتحريف، والتضليل، جاهدين في ذلك ما استطاعوا، لا سيما تلك التي فيها أصول مبنى الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنها حديث سورة براءة الذي أجزع أبي بكر وأوجعه(1).

ومن ثم كان له اثاره واستحقاقه من نفس أبي بكر في خصومته لعلي وفاطمة (عليهما السلام) والذي تحول بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صراع دموي وحربي في هجوم أنصاره على بيت النبوة - کما سیمر بیانه انشاء الله تعالى -.

وعليه: فقد جهد مخالفوا الإمام علي (عليه السلام) في اتّباع أسلافهم في التلاعب في صياغة الحدث ومجرياته سواء بمنطوق الرواية التاريخية أو التفسيرية أو الحديثية أو العقدية.

ص: 187


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1 ص 319، وجاء فيه: (ولما رجع أبو بكر إلى النبي جزع، وقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنك أهلتني الأمر طالت الأعناق فيه فلما توجهت له رددتني عنه)

ومهما يكن من أمرٍ مضلل وماكرٍ إلّا أن الحقيقة الثابتة إن لا أحد يستطيع - قديما وحاضراً ومستقبلاً - إن يخفي حقيقة إرسال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) خلف أبي بكر ليأخذ منه سورة براءة ويبلغ بها الناس في مكة، وفي هذا الأمر كفاية لبيان هذه الفضيلة وأثرها في نفوس السلف ابتداءاً من صاحب القضية أي: أبي بكر ومن تولاه وسار على طريقته ونهجه في مخاصمة بيت النبوة، لا سيما ابن عثيمين.

أما كيفية وقوع الحدث فهو على النحو الآتي، والذي نقدم فيه روایات علياء مذهب القرآن والعترة النبوية:

1 - إنّ خير ما نبتدأ به بيان الحدث هو ما أخرجه الشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان) بسنده الى جميع بن عمير، قال:

(صليت في المسجد الجامع، فرأيت ابن عمر جالساً فجلست إليه، فقلت: حدثني عن علي (عليه السلام)، فقال:

بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر ببراءة، فلما أتی ذا الخليفة اتبعه علياً (عليه السلام) فأخذها منه؛ قال أبو بكر:

يا علي مالي أنزل فيَّ شيء؟ قال:

«لا، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي».

قال كثير: قلت لجميع، أتشهد على ابن عمر بهذا؟ قال: نعم، ثلاثاً)(1).

ص: 188


1- علل الشرائع: ج 1 ص 189

2 - أما ما أخرجه محمد بن اسماعيل البخاري في صحيحه عن أبي هريرة والذي أورد الحادثة بالاختصار والابهام والتضليل للقارئ، فقد أوضحها ابن حجر العسقلاني مصرحاً بثبوت أخذ الإمام علي (عليه السلام) سورة براءة من أبي بكر بعد أن خرج بها إلى مكة.

فقد أخرج البخاري في باب: قوله (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر...) عن حميد بن عبد الرحمن:

(أن أبا هريرة، قال:

بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنی، أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان؛ قال حميد بن عبد الرحمن، ثم أردف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة.

قال أبو هريرة: فإذن معنا علي - (عليه السلام) - يوم النحر في أهل منی ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان)(1).

وقد أوضح ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) اللبس في الحديث، وبينّ ما أخفاه أبو هريرة أو البخاري، فقد قال في شرحه للحديث:

(قوله قال حميد) هو ابن عبد الرحمن بن عوف (ثم أردف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي وأمره أن يؤذن ببراءة) هذا القدر من الحديث مرسل، لان حميد لم يدرك ذلك، ولا صرح بساعه له من أبي هريرة لكن ثبت

ص: 189


1- صحيح البخاري: ج 6 ص 202 ط دار الفكر لسنة 1981 م

أرسال علي (عليه السلام) من عدة طرق)(1).

وثبوت ارسال علي (عليه السلام) خلف أبي بكر لأخذ سورة براءة منه وبعدة طرق هو الأساس في بيان هذه الحقيقة التي نقلها غير واحد من علماء المسلمين فكان منهم:

3 - الحافظ ابن مردوية (ت 419 ه) عن الإمام علي (عليه السلام)، قال:

(لما نزلت عشر آيات من براة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال لي: «أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه».

ورجع أبو بكر، فقال: يا رسول الله، نزل فيَّ شيء؟!! قال:

«لا، ولكن جبرائیل جاءني، فقال: لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك»(2).

4 - أخرج الجوهري (المتوفي سنة 323 ه)، وابن عساكر (المتوفي سنة 571 ه) وغيرهم، عن ابن عباس، قال: (أني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة، يده في يدي، فقال:

يا ابن عباس، ما أظن صاحبك إلا مظلوماً، فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها، فقلت: يا أمير المؤمنين، فأردو عليه ظلامته، فانتزع يده من يدي، ثم مرَّ یهمهم ساعة، ثم وقف فلحقته، فقال لي:

ص: 190


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري: ج 8 ص 239
2- مناقب علي ابن أبي طالب (عليه السلام) 252

یا ابن عباس: ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم أستصغروه، فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، فقلت: والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر)(1).

وفي لفظ أخرجه الزبير بن بکار ونقله عنه ابن أبي الحديد حينما قال عمر بن الخطاب: إلا أنهم استصغروه، فرد عليه ابن عباس فقال:

(والله ما استصغره الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك فاعرض عني وأسرع)(2).

وعليه:

کیف لا يكون لذلك الحدث أثر في تعاظم الخصومة في نفس أبي بكر للإمام علي (عليه الصلاة والسلام) وهو القائل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(أهلتني لإمر طالت الاعناق فيه، فلما توجهت له رددتني عنه)!! وقال أيضاً:

(نزل فيَّ شيء)؟! وغير ذلك من الأقوال الكاشفة عن حجم تأثر أبي بكر بما جری وانعكاسه سلباً على علاقته ببيت النبوة الذي ظهر جلياً وعظيماً بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

ص: 191


1- السقيفة وفدك للجوهري: 72؛ تاریخ دمشق لابن عساکر: ج 7 ص 293، شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 6 ص 46
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 46

المسألة الثانية: مظاهر العلاقة مع بيت النبوة بعد وفاة رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم) والتجاهر بالخصومة لفاطمة (علیها السلام).

إنَّ القراءة المنصفه - والتي يرجوا فيها القارئ اليوم الآخر - لتتابع الأحداث في الاسلام ليجد أنها تكشف عن تعاظم شخص أمير المؤمنين الامام علي (عليه الصلاة والسلام) منذ أن بعث رسول الله (صلى الله عليه واله) وحتى وفاته، والتي تكاثرت فيها المواقف وتعددت أثارها على الفكر والعقيدة والحياة بمختلف جوانبها، والتي لا يمكن عرضها مفصلاً في هذه الاسطر، فمنها:

1 - ثبات الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في معركة أُحد، وفرار غيره من الصحابة؛ حيث كان (عليه السلام) يذود المشركين بمهجته وسيفه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى اعْوجَّ سيفه مرارا.

2 - مبارزة الإمام علي (عليه السلام) لعمرو بن ود في معركة الأحزاب وقتله وعزوف أبي بكر عن الخروج فلم يتجرأ للمواجهة.

3 - قيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتخليف الإمام علي (عليه السلام) في المدينة في معركة تبوك وقوله له (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي).

4 - اختيار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) في محاربة الوثنية وتكسير الأصنام في عام الفتح وصعوده على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وترك أبي بكر وعدم تقديمة لهذه المهمة.

ص: 192

5 - أخذ البيعة لعلي (عليه السلام) في حجة الوداع عند غدیر خم وتسليم الصحابة عليه (عليه الصلاة والسلام) بلفظ (السلام عليك يا أمير المؤمنين) وبلفظ الولاية كقول عمر:

(بخ بخ لك يا علي، أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن ومؤمنة)(1).

6 - اخراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر في سرية أسامة بن زید ليكون تحت أمرته، وأسامة شاب لم يكتمل عارضيه فلم يمنعه ذلك من أن يكون أميراً لأبي بكر وقد ناهز الستين من عمره في حين أبقى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام علي (عليه السلام) إلى جواره في المدينة.

7 - تمريض الإمام علي وفاطمة (عليهما السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ايامه الأخيرة دون أزواجه.

8 - إبطال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصلاة أبي بكر بعد أن عصى أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الالتحاق بسرية أسامة فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتهادى بين الإمام علي (عليه السلام) والعباس بن عبد المطلب ورجلاه (صلى الله عليه وآله وسلم) تخطان الأرض من الضعف فأبطل صلاة أبي بكر بالمسلمين(2).

ص: 193


1- رسائل الشريف الرضي (رحمه الله): ج 4 ص 131؛ مناقب الإمام علي (عليه السلام) الابن المغازلي: ص 37؛ عمدة عيون الاخبار لابن البطريق: ص 344
2- لمزيد من الاطلاع والمراجعة ينظر كتابنا الموسوم ب: وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و موضع قبرة وروضته بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه)

9 - طرد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر وعمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة حينما حضروا عنده وقد عصوه ولم يلتحقوا بسرية أسامة، فلما رأهم من حوله، قال لهم:

«أتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً» فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا:

ما شأنه أهجر؟! أستفهموه، فذهبوا يردون عليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه...»(1).

وغير ذلك من الأحداث التي تجلت فيها خصومتهُ لبيت النبوة ولعلي وفاطمة (عليها السلام) على نحو خاص، كما أخبر الإمام علي بن الحسين زین العابدین (عليهما السلام) في تحديد وقت ظهور هذه الخصومة في قبا حينما أعرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أبي بكر وبقی منتظراً القدوم علي (عليه السلام).

فمنذ ذلك الوقت والخصومة بينه وبين بيت النبوة يتعاظم أمرها لتتجلّى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحرب مفتوحة على بيت النبوة وثقل الرسالة في الأمة، وهم فاطمة وعلي وولدهما (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وفي مجالات متعددة.

لا سيما في المجال الاقتصادي، وذلك بمصادرة أرض فدك، وحبس میراث

ص: 194


1- صحيح البخاري: ج 5 ص 137، باب: مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمواله، وسهم ذوي القربی من الخمس وغيرها؛ وفي المجال النفسي والاجتماعي بعزل هذا البيت النبوي من الدخول إليه، واعراض الناس بوجههاعن علي (عليه السلام) فكانوا بين حائر لا يدري ماذا يصنع، أو مهادن للسلطة ومنتفع من العهد الجديد، أو خائف هائم على وجهه يحذر الوصول إلى بيت النبوة، بعد أن انتهك أبو بكر وعمر حرمته، وأرعبا بالنار أهله؛ وغير ذلك، وهو على النحو الآتي:

أولاً - محاربته بيت النبوة بالسيف والإحراق بالنار.

إن أولى المهام التي قام بها الحاكم الجديد الذي ولد من رحم السقيفة هي الانقضاض على خصومه الأساسيين، وهم علي وفاطمة (صلوات الله وسلامه عليهما) ومحاربتهم بشتى الوسائل إلا أن كثير من الصحابة لم یکن يخطر على باله أن أبا بكر تصل به الجرئة إن يدفع بعصابة من أتباعه لإقتحام بيت النبوة فيعلنها حرباً عليهم.

فقد ذكرت النصوص: (أنه تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي (عليه السلام) فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم، وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب، وقال:

والذي نفس عمر بيده، لتخرجين، أو لأحرقها على من فيها!!! فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة؟!! فقال: وإنْ !!!)(1).

ص: 195


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ج 1 ص 19؛ مسند فاطمة للسيوطي: حدیث 31؛ البحار للمجلسي: ج 28 ص 356

وفي رواية اليعقوبي (ت 248 ه):

(وبلغ أبا بكر وعمر، أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله - (صلى الله عليه واله) - فاتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر فصارعه عمر، فصرعه و کسر سيفه، ودخلوا الدار، فخرجت فاطمة، فقالت:

«والله لتخرجنَّ أو لأكشفنَّ شعري ولأعجنَّ إلى الله»!!!(1).

إن قراءة متأنية للحديث الذي أوردته كتب الفريقين بألفاظ متعددة، ودراسته وتحليله ترسم لنا صورة واضحة عن مجريات هذه الجريمة العظمی في الإسلام وبيان تفاصيل وقوعها.

لاسيما وكما أسلفنا أن القوم قد حاولوا التضليل والتغيير والتعتيم على هذه الحادثة بشتى الصور؛ ولذا فقد وردت بصورة مختلفة عن الواقع فضلاً عن حذف كثيرٍ من تفاصيل مراحل وقوع جريمة الهجوم على بيت النبوة.

وعليه:

فإننا نجد أن المرحلة الأولى من اقتحام بيت النبوة هي (جمع الحطب عند بیت فاطمة وعلي وولديهما) جرت ضمن اختصارات كثيرة في روايات أهل السُنّة والجماعة يمكن ملاحظتها، أي هذه الاختصارات عبر المقارنة فيما بينها وبين الروايات الواردة في مدرسة العترة النبوية من جهة، ومن جهة أخرى مقارنتها فيما بينها أيضاً، أي: مقارنة هذه الروايات في نفس مصادر أهل

ص: 196


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 126؛ ط دار صادر؛ و ج 2 ص 11 ط الأعلمي

السُنّة والجماعة، لا سيما ما أخرجه ابن أبي شيبة الكوفي بسند صحيح، فقد اتضح عبر دراسته وتحليله ومقارنته مع غيره من المصاردر ما يلي:

1 - أورده ابن أبي شيبة الكوفي في مصنفه، وابن أبي الحديد المعتزلي بصورة کاملة، في حين حذف منه التهديد بحرق البيت بمن فيه كلٌّ من ابن عبد البر، والصفدي، والنويري، فبدلوا قول عمر بن الخطاب لفاطمة (صلوات الله وسلامه عليها):

(وأيم الله ما ذاك بمانعي أن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت)(1).

إلى قول آخر نسبوه لعمر بن الخطاب وهو:

(ولإن بلغني أن هؤلاء النفر يدخلون عليك، لأفعلن وأفعلن)(2)!! واستبدلوا قول فاطمة (عليها السلام) الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي عاصم، والمعتزلي لهؤلاء الصحابة الذين التجؤوا إلى دارها من قولها لهم:

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لإن عدتم ليحرقن علیکم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدین»(3).

ص: 197


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 57، ح 4؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاسم: ص 91؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2، ص 45
2- الاستیعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 975؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17، ص 167؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19، ص 41
3- المصنف لابن أبي شيبة : ج 8، ص 57؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 45

إلى قول آخر، وهو:

«إن عمر قد جاءني وحلف لان عدتم ليفعلنّ، وأيم الله ليفعلنّ بها، فانظروا في أمركم»(1).

في حين قام الخطيب البغدادي بحذف جميع الحادثة في تهديد عمر لفاطمة (عليها السلام) بحرق بيتها بمن فيه وجوابها له، فقال مختصراً الأمر ومظهراً له بحلة جديدة، فقال: قال عمر بن الخطاب لفاطمة: (يا بنت رسول الله ما كان أحد أحب من الناس إلينا من أبيك، وما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك)(2).

ولا ريب أن الهدف من هذا التدليس هو ان القارئ لهذا الحديث يجد صورة جميلة جداً عن إيمان ابن الخطاب!! وذلك لمقدار حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنته من بعده!!! ومن ثم لا وجود لحادثة حرق بيت فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) بيد عمر بن الخطاب!! وقتلها متأثرة بهذا الهجوم والترويع لها ولولديها.

وبفضل جهود الخطيب البغدادي كان الشيخان أكثر الناس اتباعاً لهذه السُنّة فقد صانا عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده، ومن ثم يخرج القارئ لا يعلم شيئاً عن سُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو أنه يجد سُنّة متضاربة ومتناقضة، وذلك بفضل تلك الجهود التي بذلها

ص: 198


1- الاستیعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 975؛ الوافي بالوفيات: ج 17، ص 167؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19، ص 41
2- تاریخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 5، ص 168

أولئك المخالفون للشئة النبوية والمتمسكون بشتة الشيخين في إخراج المرويات بحسب المقاسات التي ترتضيها الساسة وعطاياهم.

2 - أن مما لا شك، ولا ريب، ولا شبهة فيه، أن هذا الخطاب الذي توجه به عمر ابن الخطاب لبضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء بالكيفية التي أخرجها ابن أبي شيبة، وابن أبي عاصم من التهديد الصريح بحرق دارها بمن فيها!! وفيه فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) وبعض الصحابة من المهاجرين والأنصار.

أو سواء بالكيفية التي أخرجها ابن عبد البر، أو الصفدي، أوالخطيب البغدادي؛ ففي كلتا الكيفيتين فإن عمر بن الخطاب قد أرعب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وولديها الحسن والحسين، واذاهما أشد الأذى، وأرعب الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأدخل عليهم الذّعر والخوف، وأنه آلم بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو بهذا الصنيع يكون قد ارتكب مجموعة من الأفعال التي غيرت عقيدة المسلمين وتفريقهم، وهي كالاتي:

أ - إنّه آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

1 - لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها، ويؤذني ما آذاها»(1).

2 - وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 199


1- صحيح البخاری، کتاب النکاح: ج 6، ص 158

«فمن آذاها فقد آذاني...»(1).

والله تعالى يقول في محكم كتابه الكريم في بيان جريمة من يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ شأنه وعقابه اللعن في الحياة الدنيا وفي الآخرة كذاك تكون عقوبته اللعن والعذاب المهين كما هو واضح وصريح في الآية المباركة:

«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا»(2).

ب - إن عقوبة من يرعب أهل المدينة، أو يحدث فيها حدثاً، أو يخيف أهلها، قد أظهره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس، وقد أخرجه أئمة الحديث عند أهل السُنّة والجماعة في صحاحهم، فمنها:

1 - أخرج البخاري ومسلم، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال:

«المدينة حرم ما بين عير على ثور؛ فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»(3).

2 - أخرج أبو داود في السنن، من حديث علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 200


1- المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 109؛ فتح الباري: ج 9، ص 287
2- سورة الأحزاب، الآية: 57
3- صحیح البخاری، کتاب فضائل المدينة، باب: حرم المدينة برقم (1870)، صحيح مسلم، کتاب الحج، باب فضل المدينة حديث (1366)

«المدينة حرام ما بين عافر إلى ثور؛ فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، لا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تلفظ لفظها إلاّ لمن أنشدها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجلاً بعيره»(1).

3 - ذكر إمام المذهب الحنبلي في مسنده، عن ابن صعصعة، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:

«من أخاف أهل المدينة ظلية، أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»(2) أي لا نفلًا ولا فرضاً»(3).

4. أخرج العباسي والجنيدي عن جابر بن عبد الله، قال: أشهد لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول:

«من أخاف أهل المدينة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(4).

وعليه:

لا يمكن تغيير الحقائق أو تحسين الجرائم أو تبرير الآثام لا سيما وأن الأمر متعلق بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يمكنهم أن يطفئوا نور الله، والله عزّ شانه يقول:

ص: 201


1- سنن أبي داود، باب تحريم المدينة، حدیث (2034) ج 2 ص 529؛ مشير العزم الساكن لابن الجوزي: ص 235 مكتبة الصحابة بجدة
2- مسند أحمد: ج 4 ص 55، حديث (16622)
3- الدرة الثمينة لابن النجار: ص 46 ط دار الأرقم
4- عمدة الأخبار في مدينة المختار للعباسي: ص 90 - 91 ط أسعد الحسيني، فضائل المدینة للجنيدي المكي: ص 30 ط دار الفكر

«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1).

ثانياً - محاربته بيت النبوة بالتجويع والحجر الاقتصادي.

إن الاحداث الفظيعة التي جرت على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) کما مرّ في الحرب التي شنتها السلطة الجديدة في محاربة بيت النبوة بالسيف والإحراق بالنار، أتبعتها بحرب جديدة؛ إذ لم تكتف السلطة بهذه الأضرار الجسدية والنفسية التي أفرزها اقتحام بيت فاطمة (عليها الصلاة والسلام) وإرهاب أطفالها وترويعهم.

وإنما تحولوا من الحرب بالسيف والإحراق بالنار، وحرب العصابات المسلحة، إلى الحرب الاقتصادية ومحاصرة فاطمة وعلي وولديهما (سلام الله عليهم أجمعين) ومنعهم من جميع حقوقهم التي فرضتها الشريعة الإسلامية، وهي على النحو الآتي:

1 - مصادرة السلطة لنحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة، أي: أرض فدك.

2 - إرثها (عليها السلام) من أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) ممثلاً بال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المعروف بالحوائط السبعة والعوالي.

3 - خمس خیبر، ممثلا بسهم ذوي القربي.

وبذلك تكون فاطمة وبعلها وولدها (عليهم السلام) قد منعوا من جميع

ص: 202


1- سورة التوبة، الآية: 32

المصادر المالية كي لا تقوم لأهل هذا البيت قائمة بعد رحيل سيد هذا البيت وعموده (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولذا:

فقد أقدمت السلطة على هذا الحجر والتجويع في حربها الاقتصادية على بيت النبوة والتي أظهرته عائشة وهي تروي ما شجر بين أبي بكر وفاطمة (عليها السلام)، فقالت:

(إن فاطمة - (عليها السلام) - أرسلت إلى أبي بكر تسأله عن ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خیبر.

فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال».

وإني والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت من ذلك على أبي بكر وهجرته فلم تکلمه حتى توفيت)(1).

وقد كشفت الرواية عن جملة من الامور: 1 - إن أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

ص: 203


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين: ج 4، ص 210

ألف - أمواله في المدينة.

باء - أرض فدك.

جیم - خمس خیبر.

وهذه الأموال جاءت فاطمة (عليها السلام) تطالب بها أبي بكر وذلك بعد حبسها ومصادرتها وجعلها من ضمن أموال السلطة.

2 - إطلاق اسم جديد على هذه الأموال وعنوان تشريعي يمّكن أبي بكر من مصادرة هذه الأموال لحسابه کي يتصرف فيها مايشاء، فسميت ب(صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أي: نفي الملكية الخاصة عن هذه الأموال إلى الملكية العامة فتنفق بحسب ما تراه السلطة التي وضعت يدها على هذه الأموال.

ولذلك نجد في كتب التاريخ والسيرة وغيرها أن هذه الأموال تسمی بصدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) کي يضيع معها أي حق لفاطمة (عليها السلام) وأن لا يلتفت إليه المسلمون فيما بعد وعلى مرور الزمن.

3 - إن أبا بكر كان يدرك جيداً أن هذه الأموال هي مما يستعين به آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على مؤونتهم وذلك أن الله تعالى كان قد حرم عليهم الصدقة وأباح لهم الخمس وما ورثته فاطمة من أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أفاء الله تعالى عليه - کما سیمر بیانه-.

وعليه:

أصبح آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بين مطرقة حرمة الصدقات فلا يجوز لهم أكل الصدقة وبين حبس الخمس فمن أين يأكلون؟! ولذا:

ص: 204

كان حصاراً بعنوان شرعي حتى يتم القضاء على أهل بيت فاطمة (عليها السلام).

4 - إن هذه الممارسات التي أقدمت عليها السلطة نتج عنها غضب بضعة النبوة (عليها السلام) على أبي بكر، فلم تکلمه حتى انتقلت إلى بارئها، لتشكو إليه ظلامتها، وقد ثبت في الصحيح عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

«فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها»(1).

ثالثاً - قذف بيت النبوة على منبر رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم).

قد لا يخفى أن فضاعة هذا الفعل وقبحه يزداد ويعظم كلما كان المرء ذو شأن وقداسة وحرمة، فضلاً عن مكان الشتم والقذف وحرمته.

ومن ثم: فلا منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له رحمة ولا مسجده، ولا بضعته، ولا شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجميع هذه الأمور والأشياء مرتبطة به ومتلاصقة معه في التعظيم والحرمة.

ولعل ما وقع من أبي بكر بقذفه بضعة النبوة وصفوة الرسالة وعلى منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي مسجده وفي محضر أصحابه من المهاجرين والأنصار ليخجل جبين الأمة، ويعاظم في سخط الله عليها؛

ص: 205


1- صحيح البخاري، کتاب النکاح: ج 6 ص 158؛ صحیح مسلم، باب: فضائل فاطمة (عليها السلام): ج 7 ص 141 سنن الترمذي، ما جاء في فضل فاطمة (عليها السلام): ج 5 ص 359؛ سنن أبي داود، باب في الشغار: ج 1 ص 460 وغيرها

وكيف لا وقد رضت و شایعت الجبت والطاغوت، فكانت شريكة في العمل، حاملة لوزرهما، قديماً وحديثاً ومستقبلاً، متبعة في ذلك سنن الذين ظلموا من الأمم السالفة، كعاقر ناقة نبي الله صالح (عليه السلام) وسامري بني إسرائيل.

فان یکن الجاني نفر واحد في عقر الناقة ألاّ أن العذاب شمل الأمة التي رضيت وسكتت وسالمت مع الطاغوت.

قال تعالى:

«فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا»(1).

وقال سبحانه:

«فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ»(2).

بل: لقد أقدمت هذه الأمة في انتهاكها لحرمة فاطمة (عليها السلام) بما لم تقدم عليه أمة من الأمم، فها هي مريم أبنت عمران (عليهما السلام) حينما عادت الى بيت المقدس تحمل وليدها (عليه السلام) لم يقذفها رهبان اليهود وأحبارهم، بل تأدبوا في محضرها، فقالوا «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا»(3).

ص: 206


1- سورة الشمس، الآية: 14
2- سورة الشعراء، الآية: 157
3- سورة مريم، الآية: 27

فلم ينادونها باسمها تأدباً وتعظیماً واجلالاً لقدرها، فقالوا: يا أخت هارون؛ على الرغم من انها جاءت تحمل طفلاً من غير أب.

ولذا:

«فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا»(1).

ألا هذه الأمة، وعلماء السوء فيها الذين لم يرعو لفاطمة حرمة، ولا كرامة، ولا قدر، ولا شأن؛ و آنی لمريم ما لفاطمة (عليها السلام) وهي بضعة النبوة، وصفوة الرسالة، وسيده نساء العالمين، ونساء أهل الجنة.

(ما لكم كيف تحكمون) وباي وجه على الله ستقدمون.

إلاّ أن أبا بكر لم يمنعه مانع في قذف بضعة النبوة والرسالة، ومن على منبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونعتها بالسيئات - والعياذ بالله -!!! فأي شناعة وبشاعة واستهجان ومجاجة وتوحش وتجرء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا الفعل!!! ولعل الرجوع الى قول أبي بكر في قذف بيت النبوة الذي أخرجه العديد من علماء أهل السُنّة والجماعة منذ القرن الثالث للهجرة النبوية ليرفع العجب الذي يخالط نفس القارئ، ويكشف له ارهاب السلطة في حربها المفتوحة على بيت النبوة لا سيما الحرب النفسية والاجتماعية.

فقد روى الجوهري (ت 323 ه)، وأبو هلال العسكري (ت 395 ه)، وابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 هت)، وغيرهم:

ص: 207


1- سورة مريم، الآية: 29

(فلما سمع أبو بكر خطبتها(1) شق عليه مقالتها، فصعد المنبر، وقال:

(أيّها الناس ما هذه الترعة إلى كلّ قالة، أين كانت هذه الأمانيّ في عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم)، ألا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلَّم، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه، مربّ لكلّ فتنة، هو الَّذي يقول: كرّوها جذعة بعدما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، «كامّ طحال أحبّ أهلها إليها البغيّ»!!! ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، إنّي ساکت ما تركت).

ثم التفت إلى الأنصار، فقال:

قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائکم، وأحق من لزم عهد رسول الله - (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) - أنتم، فقد جاء کم فاويتم ونصرتم، ألا إنّي لست باسطايدا ولا لسانا على من لم يستحقّ ذلك منّا، ثمّ نزل، فانصرفت فاطمة إلى منزلها)(2).

ويكشف النص التاريخي عن حجم المأساة والمصيبة التي نزلت بالأمة.

ص: 208


1- خطبة فاطمة (عليها السلام) التي ألقتها في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جمع من المهاجرين والأنصار، تخاطب أبي بكر وتحاججه بعد أن صادر أموال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واخرج عاملها على أرض فدك، ومنع عليها سهم خيبر، وميراث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). للاطلاع على الخطبة الشريفة، ينظر : بلاغات النساء لابن طيفور: ص 15 - 19؛ دلائل الامامة للطبري: ص 112 - 116؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 123 - 127
2- السقيفة وفدك للجوهري : ص 104؛ جمهرة الامثال للعسكري: ج 1 ص 554؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 16 ص 215، دلائل الامامة للطبري: ص 123، بحار الأنوار: ج 29 ص 326؛ منهاج البراعة لحبيب الله الخوئي: ج 20 ص 100

حتى أصحبت هذه الشنيعة سُنّة لاتباع أبي بكر وعمر، فقد تعاهدوا على ذلك في التجري على أهل بيت النبوة وهجائه وقذفه، وفي ذلك يقول الإمام جعفر ابن محمد الصادق (عليهما السلام):

«إن الكبائر سبع فينا أنزلت، ومنا استحلت، فأولها الشرك بالله العظيم، وقتل النفس التي حرم الله قتلها، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وإنکار حقنا.

فأما الشرك بالله، فقد أنزل الله فينا مانزل، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قال، فكذبوا الله ورسوله وأشركوا بالله.

واما قتل النفس التي حرم الله قتلها فقد قتلوا الحسين بن علي (عليهما السلام) وأصحابه.

وأما أكل مال اليتيم، فقد ذهبوا بفيئنا الذي جعله الله لنا، واعطوه غيرنا.

وأما عقوق الوالدين، فقد أنزل الله ذلك في كتابه فقال:

«النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ....»(1).

فعقوارسو الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذريته وعقوا أمهم خديجة في ذريتها. وأما قذف المحصنة، فقد قذفوا فاطمة (عليها السلام) على منابرهم.

وأما الفرار من الزحف، فقد أعطوا أمير المؤمنين بيعتهم طائعين غير مكرهين ففروا عنه وخذلوه.

ص: 209


1- سورة الأحزاب، الآية: 6

وأما إنكار حقنا، فهذا ما لا ينازعون فيه»(1).

ولعل الرجوع إلى ما أخرجه أحمد في المسند وغيره(2) من إجراء سُنّة سب الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر، ليغني القارئ والباحث عن التتبع فيما أسسه الأولون من التعرض لأهل بيت النبي (صلى الله عليه واله) وقضفهم على المنابر.

وما قول ابن عثيمين إلا خير شاهد معاصر على إجراء هذه السُنّة في الأمة، فقد أنبرى على اشتراكه في هذه الحرب المفتوحة على بيت النبوة (عليهم السلام) ومن على منبر المسلمين وفي مسجدهم لينعت بنت نبيهم (صلى الله عليه واله) وبضعته فاطمة (عليها السلام) ويقذفها لخصومتها أبي بکر وهجرها له حتى ماتت، بأنها: (ليس لها عقل تدرك به ما تقول أو تفعل أو ما هو الصواب)!!! وعليه:

لزم علينا الرجوع إلى مقاصدية القرآن والسُنّة وعرض ما قاله ابن عثيمين في خصومة فاطمة (عليها السلام) لأبي بكر، واستنطاقهما بغية الوصول إلى معرفة المرتكزات الفكرية والمفاهيمية والعقدية لمنتج النص؛ أي ابن عثيمين ومقاصدية قوله في بضعة النبوة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها). وهو ما سنتناوله في الفصل القادم.

ص: 210


1- علل الشرایع للصدوق: ج 2، ص 474
2- مسند أحمد بن حنبل، من مسند عبد الله بن عباس : ج 1، ص 331؛ المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 132؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 113

فهرس المحتويات

مقدّمة الكتاب...11

التمهيد...17

المسألة الأولى: الغاية من الدراسة...17

المسألة الثانية: من هو ابن عُثيمين خصم فاطمة علیها السلام في عصره ولماذا لم يمسك لسانه فيما شجر بین الصحابة؟!...25

أولا - أسمه ونسبه...25

ثانياً - نشأته...26

ثالثاً - شيوخه ومراجعة اللذين تأثر بهم...26

رابعاً - عقيدته...27

خامساً - مذهبه...27

سادساً - مؤلفاته...28

سابعاً - بعض آرائه وفتاويه...29

ألف: فتوى تحريم إقامة اسبوع المولد النبوي وجواز اسبوع محمد عبد الوهاب!...32

باء: تحريم إقامة اسبوع المساجد...34

ثامناً - موقفه مما حصل بين الصحابة ولماذا ناقض نفسه ولم يصدق في الدعوة إلى الإمساك عما شجر بينهم...35

تاسعاً - مرضه ومعاناته من السرطان بين التسليم والتزكية...39

عاشراً - وفاته وما شوهد عند احتضاره وعلاقة ذلك بالمولاة لآل البيت (علیهم السلام)...44

ص: 211

ألف - انکشاف الحقائق للإنسان عند الموت...45

باء - رؤية المسلم للنبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) و وصية الإمام علي (علیه السلام) في الاحتضار ونزع الروح...49

المسألة الثالثة: مصطلحات الدراسة، ونوعها، ومنهج البحث...57

أولاً - الخصومة...58

1 - الجدل والجدال والمجادلة...58

2 - اللّد، واللدد...60

ثانياً - معنى الفكر في اللغة والاصطلاح...64

الف - الفكر لغةً...64

باء - الفكر أصطلاحاَ...65

ثالثاً - معنى الفهم في اللغة والاصطلاح...67

ألف - الفهم لغةً...67

باء - الفهم إصطلاحاَ...68

جيم - الفرق بين الفهم والعلم...68

رابعاً - معنى المقاصدية ومفهومها...70 ألف - معنى القصد والمقاصدية في اللغة...70

باء - القصد والمقاصدية في الاصطلاح...72

جیم - مفهوم مقاصدية القرآن والسُنّة...73

دال - المقاصدية في التراث البلاغي...76

خامساً - نوع الدراسة: بينية...79

سادسا - منهج البحث...80

الفصل الأول: فاطمة (علیها السلام) وخصمها أبي بكر في مقاصدية القرآن والسُنّة...83

ص: 212

المبحث الأول فاطمة (علیها السلام) في مقاصدية القران والسُنّة

المسألة الأولى: إن فاطمة (علیها السلام) هي نواة تكوين بيت النبوة في مقاصدية القرآن والسُنّة...86

أولاً - انحصار (الأهل) بفاطمة وبعلها وولدها (علیهم السلام) في مقاصدية القرآن والسُنّة...87

ألف: التلازم بين نزول الوحي وفعل النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) في تحديد الأهل بفاطمة وبعلها وولدها (علیهم السلام)...92

باء: استخدام النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) للوسائل التعليمية في بيان مراد الوحي في التشديد والمبالغة بحصر الأهل بفاطمة وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام)...95

ثانياً - مقاصدية القرآن والسُنّة بتلازم حب النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) بحب فاطمة وبعلها وولديها...100

ألف - إنّ المراد من الحب الإتباع...100

باء - إنّ المراد من حب رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم) الإيمان به...103

ثالثاً - تلازم بغض فاطمة وبعلها وولديها بغض رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم)...109

رابعاً - منهج الوحي والنبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) في تبليغ الرسالة بين تذكير الأمة وانفلات العامة...119

المسألة الثانية: مقاصدية الحديث النبوي في اختصاص فاطمة (علیها السلام) برسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم)...123

أولاً - تعدد ألفاظ الحديث النبوي في قصدية البضعة...128

ثانياً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام): (شجنة منه (صلّی الله علیه وآله وسلم))...130

ثالثاً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام): (مهجته (صلّی الله علیه وآله وسلم))...134

رابعاً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام): (شعرة منه (صلّی الله علیه وآله وسلم))...137

خامساً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة (علیها السلام) : (أحب أهله إليه (صلّی الله علیه وآله وسلم))...140

سادساً - قصدية الحديث النبوي في أن فاطمة علیها السلام هي: (قلبه وروحه التي بين جنبيه صلّی الله علیه وآله)...143

ألف - من عرف هذه، فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي فاطمة بنت محمد...144

ص: 213

باء - (هي بضعة مني)...145

جیم - (هي قلبي)...146

دال - (وهي روحي)...148

المسألة الثالثة: مقاصدية الفعل النبوي في اختصاص فاطمة (علیها السلام) برسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم)...151

أولاً - مقاصدية قيام النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لفاطمة (علیها السلام) وتقبيلها وإجلاسها في مجلسه...153

ثانياً - مقاصدية فعله (صلّی الله علیه وآله) إذا أراد السفر جعل فاطمة (علیها السلام) آخر من يودع وأول من يقصد بعد رجوعه...156

ثالثاً - مقاصدية فعله (صلّی الله علیه وآله وسلم) بعدم الدخول على فاطمة (علیها السلام) حتى يستأذن...157

المبحث الثاني مظاهر علاقة أبي بكر ببيت النبوة في مقاصدية القرآن والسُنّه المسألة الأولى: مظاهر العلاقة مع بيت النبوة قبل وفاة رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم)...168 أولاً - أول مظهر للخصومة مع بيت النبوة كان في قباء قبل دخول المدينة...168

ثانياً - مؤاخاة النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لعلي (علیه السلام) وتركه لأبي بكر وأثرها في الخصومة...170

ثالثاً - تزويج النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لفاطمة من علي (علیهما السلام) وردّه لأبي بكر وعمر وأثره في الخصومة...174

1 - اعراض النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) عن أبي بكر في المرة الأولى... 175

2 - تقدمه لخطبتها (علیهما السلام) بتوسط عائشة ورد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) له في المرة الثانية...176

3 - رد النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) لأبي بكر في خطبته لفاطمة (علیها السلام) للمرة الثالثة...178

4 - هي لك يا علي لست بدجال»...179

رابعاً - تراجع أبي بكر في خيبر وتقدم الإمام علي (علیه السلام) فاتحاً لحصونها وأثره في تنامي الخصومة...182

ص: 214

خامساً - منع النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) أبي بكر من تبلیغ سورة براءة وحمل علي (علیه السلام) لها وأثره في تعاظم الخصومة...187

المسألة الثانية: مظاهر العلاقة مع بيت النبوة بعد وفاة رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم) والتجاهر بالخصومة الفاطمة (علیها السلام)...192

أولاً - محاربته بيت النبوة بالسيف والإحراق بالنار...195

ثانياً - محاربته بيت النبوة بالتجويع والحجر الاقتصادي...202

ثالثاً - قذف بيت النبوة على منبر رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم)...205

فهرس المحتويات...211

ص: 215

ص: 216

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.