تَقْرِيبُ تَهْذِيبِ الأصول المجلد 7

هوية الکتاب

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء السابع

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.

منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

ص: 1

اشارة

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء السابع

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.

منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأُصُول

الجزء السابع

آية الله السيد

علي الموسوي السبزواري

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

(لا يَخْفى أنَّ الأُصولَ مُقدمَّةٌ وَآلةٌ لِلْتَعرُّفِ على الفِقهِ؛ وَلَيسَ هُوَ مَطلُوباً بالذّاتِ, فَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ البَحْثُ فِيهِ بِقَدَرِ الإحْتياجِ إِلَيهِ فِي ذِي المُقدِّمَة؛ لا زائِدَاً عَلَيهِ, وَأَنْ تَكُونَ كَيْفيَّة الإِسْتِدلالِ فِيهِ مِثلها فِي الفِقه فِي مُراعاةِ السُّهُولةِ, وَما هُوَ أَقْرَبُ إلى الأَذْهانِ العُرفيَّةِ, لابْتِناءِ الكِتابِ وَالسُنَّةِ اللَّذَينِ هُما أَساس الفِقْهِ عَلى ذلِك, فَالأُصُولُ مِنْ شُؤُونِ الفِقْهِ؛ لا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ خُصُوصيّاته مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)(1).

فَقِيهُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِ

آيَةُ الله العُظْمى

السَّيِّد عَبْدُ الأَعْلى المُوسَويُّ السَّبْزَوارِيُّ قدس سره

ص: 5


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص6.

ص: 6

خاتمة في النسبة بين الأمارات والأصول ونسبة الأصول بعضها مع بعض

تمهيد

لا ريب في تقدم الأمارات على الأصول العملية، كما لا إشكال في تقدّم بعض الأصول العملية على بعضها الآخر.

والكلام يقع في وجه هذا التقدم والنظريات المذكورة فيه والملاكات فيها؛ إذ التقدم يكون على أنحاء خمسة وهي؛ التخصص والتخصيص والجمع العرفي والورود والحكومة.

وقد ذكرت هذه الأنحاء في عدة مواضع من البحوث الأصولية إلا أنَّهم ذكروها في بحث التعارض مفصلاً.

والكلام في المقام يقع في تقدّم الأمارات على الأصول العملية؛ ومجمل الكلام في التقدم وملاكه والنكات المذكورة فيه.

وفي البداية نبيّن الملاكات في تقديم أحد الدليلين على الآخر، وهي:

1- التخصّص: وهو رفع أحد الدليلين لموضوع الآخر تكويناً وذاتياً فيخرج الفرد عن الموضوع العام حقيقةً. كما في نسبة (لا تكرم الجاهل) إلى (أكرم العالم).

2- التخصيص: وهو رفع الدليلين لحكم الآخر فيكون خروج الفرد عن الموضوع العام حكماً لا حقيقةً. كما إذا كان الحكم في العام يشمل الجميع فيخرج بعض الأفراد عن ذلك الحكم. كما في نسبة (لا تكرم زيد العالم) إلى (أكرم العلماء).

3- الجمع العرفي: وهو عبارة عن الجمع بين الدليلين بما يقتضيه الطبع السليم ويرتضيه الذوق المستقيم ولا تضبطه ضابطة كلية، بل يختلف باختلاف الموارد.

ص: 7

4- الورود: وهو رفع أحد الدليلين لموضوع الآخر حقيقة بواسطة التعبد الشرعي، فهو يشترك مع التخصص في هذه النكتة وهي الخروج الحقيقي؛ ولكنه يختلف في أنّ الخروج في التخصص ذاتي تكويني وفي الورود حقيقي تعبدي كما في نسبة الدليل الإجتهادي إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية، فإنَّه بقيام الدليل في المورد يرتفع موضوع القاعدة لأنَّه بيان جزماً، ولكنه من قبل الشارع وجعل منه؛ إذ لولاه لما كان بيان حقيقة.

وهذه المعاني الثلاثة التي ذكرناها في الجملة مِمّا لا إشكال فيه, وإنْ كان للمحقق الخراساني قدس سره في الورود معنى آخر كما يظهر من كفايته، ثم إنَّ الورود له أقسام خمسة، لأنَّ الدليل الوارد تارةً؛ يرفع موضوع الآخر بالجعل, وأخرى؛ يرفعه بفعلية مجعولة, وثالثةً؛ وصوله, ورابعةً؛ بتنجزه, وخامسةً؛ بامتثاله؛ والكلام في هذه الأقسام يأتي في بحث التعارض.

والمهم في المقام هو تقسيم آخر, وهو أنَّ الورود تارةً؛ يكون فيه رفع موضوع الآخر بلسان الإخبار, كما إذا قال: (أكرم العالم) ثم أخبر بأنَّ زيداً ليس بعالم وهذا ما يسمى بالتخصص أيضاً كما عرفت, وأخرى؛ يكون بلسان الإنشاء والتعبد, كما في تقدم الأدلة الإجتهادية التي تدلّ على الإلزام وجوباً أو حرمةً بالنسبة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية, فإنَّه ما لم تقم حجة على الإلزام فإنَّ المكلف في سعة منه والبراءة عنه, وهذا هو الورود بالمعنى الأخص؛ وهذا أيضاً تارةً؛ بحسب الطبع اللغوي العام يقتضي تضييق دائرة الدليل المورود بالوارد حقيقةً, وأخرى؛ يكون بالكناية على نحو الإدعاء السكاكي؛ بأنْ يجري المتكلم في كلامه على ادعاءات السكّاكي, كما إذا قال (أكرم العالم) ثم قال: (الفاسق ليس بعالم), ومثل هذا النوع قد اعتبره المحقق النائيني من الحكومة وهو اصطلاح منه ولا مشاحة في الإصطلاح كما يأتي بيانه, وإنَّما النكتة هو التقدم ورفع الموضوع حقيقةً على نحو ادعاء السكّاكي في لسان الشارع في الألفاظ.

ص: 8

5- الحكومة(1): وفيها يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر نظر كشف وتفسير, فيكون الملاك والنكتة فيها القرينة بمعنى كشف المراد من أحد الدليلين وتفسيره بالدليل الآخر؛ ويسمى الكاشف الدليل الحاكم، والآخر الدليل المحكوم, ولا ريب في تقدم القرينة على ذيها ولا حاجة إلى إقامة البرهان على ذلك لأنَّه من القضايا التي قياساتها معها.

والبحث في القرينة على نحوين:

النحو الأول: القرينة الشخصية

وذلك بأنْ يعد المتكلم كلامه على التفسير والشرح؛ والحكومة على هذا النحو تكون بالأشكال التالية:

1- أنْ يكون الكلام بلسان التفسير, كما إذا تضمن كلامه على حروف التفسير, مثل: (أي) و(أعني) ونحوهما, واشتمل كلامه على هذا المعنى كما في قوله تعالى: (هُنَّ أُمُّ ألْکِتابِ)(2), بمعنى أنَّهن المرجع في تفسير المتشابهات؛ وتسمى بالحكومة التفسيرية.

2- أنْ يكون الكلام بلسان التنزيل, کقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاة)(3)، أي أنَّه منزل منزلة الصلاة فيكون ناظراً إلى الدليل المحكوم, ويعبر عن هذه بالحكومة التنزيلية.

3- أنْ يكون مضمون أحد الدليلين ناظراً إلى مفاد الدليل الآخر بحسب مناسبات الحكم والموضوع المكتنفة به, وقد اصطلح عليه بعض المعاصرين بالحكومة المضمونية(4)؛ كما في أدلة نفي العسر والحرج ولا ضرر بالنسبة لأدلة سائر الأحكام.

ص: 9


1- . والمعبّر عنه بالقرينية.
2- . سورة آل عمران؛ الآية 7.
3- . نهج الحق وکشف الصدق؛ ص472.
4- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص347.

وفي هذا القسم؛ هل أنَّ الدليل الحاكم ينافي ويعارض حقيقةً الدليل المحكوم أو لا؟.

وقد ذهب إلى الأول بعض المحققين, لأنَّ فيه تصرف في المضمون. وذهب آخرون إلى عدمه, لأنَّ الدليل الحاكم إمّا ينظر إلى عقد موضوع دليل محكوم لنفيه وإثباته تعبداً بإثبات الحكم على تقدير تحقق الموضوع, أو لا يكون منافياً.

والحقُّ؛ أنَّ الأمر عرفي أكثر من كونه دقياً, فإنَّ العرف يرى أنَّ في الحكومة نظر الشرح والتفسير بأيِّ أسلوب كان, ومثل هذا النظر لا يتأتى فيه المعارضة والمنافاة حقيقةً وإنْ كان في النظر البدوي كذلك, ولعل الإختلاف بينهم نشأ من ذلك, ومن هذه الجهة إختلفت الحكومة عن الورود والتخصص, ويأتي تتمة الكلام في التعارض إنْ شاء الله تعالى.

النحو الثاني: القرينة العامة النوعية

بأنْ يكون تفسير أحد الدليلين للآخر على أساس أسلوب عرفي عام, كما في موارد تخصيص العام بالخاص, وإنَّ المتكلم اعتمد على ذلك من دون أنْ يجعل قرينة معدة في كلامه كما في الصورة السابقة, فإنَّه يكشف أنَّه اعتمد على الكاشف النوعي, وقد ذكر بعض الأصوليين أنَّ الحكومة تبتني على القرينة الشخصية, وأمّا الذي يعتمد على القرينة النوعية فهو جمع عرفي. ولكن الظاهر أنَّه لما كان الملاك في تقديم الخاص على العام والجمع العرفي والحكومة هو أمر واحد وهو تقدم القرينة على ذي القرينة فلا تفترق من هذه الناحية؛ سواء كانت القرينة شخصية أم نوعية, وإنْ كان الخاص والعام يعتمد على الكشف النوعي دون غيره, ولكنه لا يغير شيئاً, إلا ما يقال من أنَّ التفسير الشخصي أقرب إلى الواقع, فتكون الحكومة أقوى من التخصيص وسائر وجوه الجمع العرفي ومقدمة عليها, وهو وإنْ كان صحيحاً في الجملة لكن لا كلية فيه؛ إذ ربما يكون الكاشف

ص: 10

النوعي الذي يعتمد عليه العرف في محاوراتهم أقوى وأقرب إلى المقصود؛ سواء كانت القرينة النوعية في المدلول التصوري للكلام أو المدلول التصديقي أو المدلول الإستعمالي فيما إذا حكم العرف العام بذلك.

وكيف كان؛ فإنَّ المهم في المقام معرفة الملاك والنكتة في تقديم أحد الدليلين على الآخر كما عرفت, وسيأتي أنَّ هذا التقسيم مجرد اصطلاح لا ثمرة فيه كما ترى, والتفصيل يطلب في محله,

ثم إنَّ البحث يقع في مقامين؛ الأول؛ في تقدم الأمارات على الأصول، والثاني؛ في تقدم بعض الأصول على بعضها.

المقام الأول: تقدم الأمارات على الأصول

اشارة

المعروف أنَّ فيه ثلاثة إتجاهات:

الإتجاه الأول: التقديم بملاك الورود، ورفع الموضوع

وقد قيل في تقريبه أحد وجهين:

إمّا أنْ يكون على أساس الورود الحقيقي.

وإمّا أنْ يكون على أساس الورود الإدّعائي السكّاكي كما تقدمت الإشارة إليه.

أمّا الأول؛ فقد قيل في توجيهه:

أولاً: إنَّ المتفاهم عرفاً من العلم المأخوذ غاية في أدلة الأصول العملية مطلق الحجة لا خصوص القطع الوجداني, والأمارة حجة حقيقةً.

ثانياً: أنْ يكون المراد بالعلم خصوص العلم الوجداني, ولكن المراد من الحكم كالحرمة في قول الإمام الصادق علیه السلام : (حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ)(1) الأعم من الحرمة الواقعية أو الثابتة بالحجة, وهو حاصل في مورد الأمارة حقيقةً.

ص: 11


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص89.

وأشكل على كليهما بأنَّ حمل العلم على الأعم من الحقيقي والتعبدي فيه مؤونة زائدة مخالفة للظاهر الأولي, كما أنَّ حمل الحكم على الأعم من الحكم الواقعي وما أدَّت إليه الأمارة خلاف الظاهر, فلا يمكن المصير إليهما من دون قرينة, ولعل إطلاق لفظ العلم الوجداني على العلم التعبدي, والحكم الحقيقي على الحكم المماثل من باب التشابه والإصطلاح, وإلا فلا ربط وشبه بينهما.

ويرد عليه: بأنَّه ليس فيه خلاف الظاهر بعدما علم أنَّه مراد الشارع من الأدلة، كما تقدم.

وأمّا الثاني(1)؛ فقد قيل في تقريبه أحد وجهين أيضاً:

الأول: إنَّ الشارع له اعتبارات خاصة في باب العلم ومراده من العلم المأخوذ في الأصول العملية ما يكون علماً حسب اعتباره ونظره.

وهذا الوجه هو المستفاد من كلمات المحقق النائيني قدس سره (2)؛ حيث ذهب إلى أنَّ هذا نوع من الحكومة, وقد عرفت أنَّه اصطلاح خاص منه وإلا فإنَّه على ما عرفت من أنَّ الورود روحه ارتفاع الموضوع حقيقةً فهو ينطبق عليه لا أنْ يكون حكومة, وإلا فإنَّ مجرد اعتبار غير العلم علماً من دون أنْ يكون مراده من العلم اعتباراته الخاصة لا قيمة له ولا يوجب تقدم أحد الدليلين على الآخر.

الثاني: القول بأنَّ الشارع له اعتبارات خاصة في الحكم ومتعلق العلم, فإنَّه يريد العلم بالحرمة مطلق العلم بها؛ سواء كان واقعياً أو ظاهرياً, فيقال بجعل الحكم المماثل في مورد الأمارات, فيكون العلم بالحكم علماً بهذا المعنى الحقيقي فيكون وروداً, ولا حاجة إلى تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع على هذا التقدير.

ص: 12


1- . وهو الورود الإدّعائي.
2- . فوائد الأصول؛ ج3 ص25.

وقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) من كون تقديم الأمارات على الأصول بنحو الورود توجيهاً آخر يعتبر توضيحاً لما تقدم, فقال بأنَّ تمامية الورود يتوقف على فرض أمور ثلاثة:

1- فرض أنَّ إطلاق الشارع لفظ العلم يقصد به ما يراه علماً بحسب اصطلاحه واعتباره.

وهذا الإحتمال لا دليل عليه بل لا يمكن إحتماله.

2- فرض أنَّ جعل الحجة في الأمارات يكون بمعنى جعل العلم.

وهو ليس إلا من مجرد اختلاف التعبير, وإلا فلا دليل عليه.

3- فرض الفرق بين الأمارات وبين الأصول التي يمكن فيها دعوى جعل العلم واليقين كما في الإستصحاب.

وعلى هذا الإفتراض يتحقق السؤال, وهو: لماذا افترض أنَّ دليل حجية خبر الثقة يجعله علماً وغاية للإستصحاب دون العكس؟ ولماذا لا يكون على العكس؛ فيكون التوارد من الطرفين ويتعارضان؟.

وحاول الجواب عنه بأحد وجهين:

الوجه الأول: إنَّ دليل الأمارة وارد في مورد الأصول العملية لأنّ أهم مدرك على حجية خبر الثقة والظهور هو السيرة, وهي ثابتة في مورد الأصول أيضاً, فيجب أنْ يكون موضوعهما بنحو لا ينتفي بالأصول.

الوجه الثاني: إنَّ دليل حجية الأصل قد أخذ في موضوعه الشك وعدم العلم, بخلاف دليل حجية الأمارة وهو الذي ذكره جمع من الأعلام ويعتبر من أمتن الوجوه التي تمسكوا بها في تقدم الأمارة على الأصول؛ سواء كان هذا التقدم بنحو الورود أو الحكومة كما سيتضح إنْ شاء الله تعالى.

ص: 13


1- [2].بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص345.

ولكن العمدة هو إثبات هذا الوجه, فإنَّه يمكن تقريبه بأحد وجهين:

أحدهما: إنَّ دليل الأصل قد أخذ في لسانه الشك وعدم العلم, والمفروض إرادة العلم بحسب إعتبارات الشارع الخاصة فيكون جعل العلمية للأمارة رافعاً لموضوع دليل الأصل حقيقةً, فيكون وارداً عليه, وهذا بخلاف دليل الأمارة؛ فإنَّه لم يؤخذ في لسانه الشك وعدم العلم, فلا موجب لأخذ العلم بهذا المصطلح الخاص في موضوعه, فيتمسك بإطلاق الحجية حتى لمورد العلم الخاص الثابت بالأصل, حيث يمكن جعل الحجية للأمارة فيه, نعم؛ من المستحيل جعلها في مورد العلم الوجداني كما تقدم بيانه في مباحث القطع.

وعلى هذا يكون إطلاق دليل حجية الأمارة رافعاً حقيقةً لموضوع دليل حجية الأصل دون العكس, فيكون وارداً عليه كما عرفت في ملاك الورود.

وهذا الوجه صحيح فيما إذا لم نقل بأنَّ عدم العلم قد أخذ قيداً في أدلة الحجية إرتكازاً أو عقلاً, بحيث يعدّ من التخصيص المتصل, ولكن لا يضرّ بأصل المقصود؛ وهو تقدم الأمارة على الأصل.

والآخر: إنَّ دليل الأصل يقترن بقرينة متصلة تمنعه عن إفادة جعل العلمية, فلا يكون رافعاً لموضوع الأمارة بخلاف العكس, وهذه القرينة المتصلة هي أخذ عدم العلم والشك في موضوع الأصل, فإنَّ هذا لا يتناسب مع إرادة إلغاء الشك وجعل العلمية وإلا وقع التهافت بين الموضوع والمحمول.

ولكن يرد على هذا الوجه أنَّه ليست أدلة الأصول كلها قد أخذ فيها تلك القرينة المتصلة كما في قاعدة اليد والسوق, كما أنَّه قد أخذت هذه القرينة المتصلة في بعض أدلة الأمارات,

ص: 14

كما في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(1), وهذا مِمّا يكشف عن أنَّه لا يمكن إقامة الأدلة الإثباتية على تقدم الأمارات على الأصول على نحو الورود.

وفيه: إنَّه لا يضرّ بعد استفادة ذلك من مجموع أدلة الأصول والأمارات.

والصحيح؛ أنَّ ما ذكر في وجه تقديم الأمارات على الأصول من باب الورود لا بأس به, فهو ليس من مجرد الفرض والتقدير في مرحلة التصور كما ادّعاه السيد الصدر قدس سره , بل الوجوه التي أقيمت عليه تامة, ولكن المهم بعد ذلك كون الملاك في التقدم هو الورود أو الحكومة بعد تماميتها, وهذا ما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

الإتجاه الثاني: وهو التقدم بنحو الحكومة

وهو مِمّا لا إشكال فيه ثبوتاً, وإنَّما الكلام في إقامة الدليل عليه إثباتاً من جهة أنَّه لا بُدَّ أنْ يكون نظر دليل الحاكم إلى الدليل المحكوم؛ إمّا بنحو التفسير أو التنزيل أو المضمون كما تقدم بيانه في تفسير الحكومة, وذهب بعض الأصوليين إلى أنَّ الحكومة التفسيرية لا وجه لها, إذ لا دليل صريحاً في أدلة الأمارات يقوم بتفسير أدلة الأصول, فينحصر منشأ دعوى الحكومة بأحد القسمين الآخرين التنزيلية أو المضمونية.

ولكن يمكن أنْ يقال بأنَّه إذا لم تكن صراحة في أدلة الأمارات في التفسير لكن لو جمعناها مع أدلة الأصول يظهر عند العرف أنَّ اللسان لسان التفسير والشرح, فيكون المتكلم قد أعدَّ كلامه فيها على نحو التفسير وإنْ لم يرد في كلامه ما يدلُّ صريحاً عليه: مثل كلمة (أي) أو (يعني), وقيل: إنَّ الحكومة فيها هي التنزيلية, فتكون أدلة الأمارات حاكمة على الأصول العملية من باب التنزيل, لأنَّها تنزل الأمارة منزلة العلم في الأحكام, ومن جملة الأحكام هو ارتفاع حكم الأصل العملي.

ص: 15


1- . سورة النحل؛ الآية 43, وسورة الأنبياء؛ الآية 7.

وقبل بيان الدليل عليه ينبغي ذكر الفرق بين هذا النحو من التقدم وبين التقدم بالورود؛ حيث ذكروا فروقاً كثيرة بعضها لا يخلو من إبهام وغموض في التعبير عنها عند المحقق النائيني قدس سره (1) وتلامذته, فقد يعبرون عن الورود بالحكومة, ونحن نذكر ثلاثة منها:

الأول: إنَّه بناءً على الحكومة التنزيلية يكون مفادها أنَّ الأمارة تقوم مقام القطع المأخوذ عدمه في موضوع الأصل, وعلى هذا النحو من التقدم يكون بحسب الحقيقة لمسألة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي نفس دليل الحجية.

والظاهر أنه ردّ لما ذكره المحقق الخرساني قدس سره (2) من استحالة ذلك؛ للزوم التهافت والجمع بين النظر الآلي والإستقلالي في كيفية ملاحظة الأمارة والقطع. وقد أجيب عنه في مباحث القطع.

وكيف كان؛ فإنَّ هذه الميزة لا تكون إذا قلنا بأنَّ التقدم بنحو الورود, لأنَّه ليس فيه تنزيلاً ليحتاج إلى ملاحظة المنزل عليه أبداً.

الثاني: إنَّ الأثر في الورود إنَّما يتحقق بالتمسك بالدليل المورود لأنَّه من أفراده حقيقةً لتتحقق موضوعه واقعاً على حدّ سائر أفراده, وأمّا الحكومة التنزيلية فإنَّ إثبات أثر المنزل عليه يتوقف على التمسك بإطلاق دليل التنزيل وشموله لذلك الأثر في مقام التنزيل لأنَّه فرداً حقيقياً من موضوع ذلك الحكم حتى يتمسك بدليله مباشرة وعليه؛ فلا بُدَّ من ترتيب أيّ أثر في مورد الحكومة وملاحظة إطلاق دليل التنزيل وتماميته ليمكن إثبات ذلك الحكم, فإذا كان الدليل لبياً لا لسان له حتى يثبت له الإطلاق فيه فلا يمكن إثبات الحكم المشكوك بالتنزيل؛ وهذا بخلاف الورود.

ص: 16


1- . فوائد الأصول؛ ج3 ص19-22.
2- . كفاية الأصول؛ ص263.

الثالث: إنَّ الورود كما يتم بتقريب إرادة العلم بحسب اعتبارات الشارع في موضوع الأصل؛ كذلك يتم بإرادة الحكم المتيقن الأعم بحسب اعتبارات الشارع من الواقعي والظاهري كما تقدم بيانه.

وأمّا الحكومة فإنَّها لا تتم إلا بتنزيل الأمارة منزلة العلم بالواقع لا تنزيل المؤدى منزلة الواقع, لأنَّ تنزيل المؤدى منزلة الواقع لا يلزم تنزيل العلم بالمؤدى منزلة الواقع إلا أنْ يقال بالتركيب؛ بأنْ نقول أنَّ القضية مركبة من جزئين؛ العلم بعنوان الحرمة التي هي الغاية, وأنْ تكون تلك الحرمة واقعية. والجزء الأول وجداني, والجزء الثاني يثبت بالتنزيل.

هذه بعض الفروق بين الحكومة والورود, وسيأتي في بحث التعارض أنَّ تلك الفروق ليست بذات أهمية بعد الإتّفاق على كثير من الخصوصيات المشتركة, مع أنَّها لا تخلو من الإشكال.

وكيف كان؛ فإنَّ المهم في المقام هو إثبات كون حكومة الأمارة على الأصل على نحو التنزيل؛ فقد استشكل عليه بعضهم بأنَّه لا دليل عليه كما تقدم مثله في دعوى الورود, فإنَّ دليل حجية الأمارة لو سلّمت دلالتها على جعل العلمية والطريقية وأنَّ لسان تنزيل ما ليس بعلم منزلة العلم فإنَّ أدلة النهي عن العمل بالظن ولسان دليل الأصول الترخيصية لسان نفي العلمية والتنزيل ونفي الحجية والطريقية, فلا حكومة لأحدهما على الآخر, فإنَّ الدليلين في عرض واحد.

ولكن يمكن الجواب عنه بما يلي:

أولاً: إنَّ النافي من أدلة النهي عن العمل بالظن هي نفي اعتبار الظن وسلب الحجية عنه, فيكون نفي العلمية والطريقية ملحوظاً من نفي الحجية وجداناً, وأمّا أدلة الأصول الترخيصية فإنَّ ظاهرها إطلاق العنان, وهو أعم من نفي العلمية والطريقية.

ص: 17

ثانياً: إنَّ ظاهر أدلة الأمارات إثبات الطريقية والكاشفية التي تكشف على أنَّ للشارع طرق أخرى غير العلم الوجداني تسهيلاً على العباد, فهي بهذا الوجه تمنع من انعقاد ظهور في أدلة الأصول العملية الترخيصية في أنَّها بصدد إثبات الكاشفية لها إلا مايقال في الإستصحاب كما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى, ومِمّا ذكرنا يظهر أنَّ دليل الأمارة حاكمة أو واردة على أدلة النهي عن اعتبار الظن وأدلة الأصول الترخيصية.

الإتجاه الثالث: تقديم الأمارة بالقرينة النوعية.

عرفت أنَّ القرينة تارةً؛ تكون خاصة يقيمها المتكلم في كلامه؛ متصلاً أو منفصلاً كما عرفت آنفاً, وأخرى؛ تكون القرينة عامة كالبناء العقلائي وسيرة العقلاء ونحو ذلك, وأدرج فيه التخصيص والتقييد والأظهرية, وقيل أنَّه لا مصير إليها إلا بعد عدم تمامية الورود والحكومة.

ولكن لنا أنْ نقول: إنَّ القرينة لا تختص بالموارد المذكورة فهي تشملها والحكومة والورود أيضاً, فإنَّه لو ألقينا جميع تلك الموارد على العرف يفهم أنَّ القرينية محفوظة في الجميع؛ ففي الورود؛ إنَّ الوارد يكون قرينة على إخراج الفرد عن المورد حقيقةً, كذلك في الحكومة؛ فإنَّ القرينة في الحاكم واضحة ومجرد تسميته ذلك بالورود والحكومة لا تغير من الواقع شيئاً فلا بُدَّ أنْ نقول أنَّ الجميع تشترك في هذه الجهة وإنْ اختلفت الأفراد في الخصوصيات, وعليه؛ تكون الأمارة مقدمة على الأصل من هذه الجهة.

وكيف كان؛ فإنَّ تقديم الأمارة بهذا الملاك يقتضي البحث عن لحاظ الأمارة مع دليل كلّ أصل؛ فيقع الكلام كما فعله بعض الأصوليين(1) ضمن أمور:

الأمر الأول: تقديم الأمارة على أصالة البراءة, فإنَّه يكون باعتبار أخصية دليل الأمارة عن

ص: 18


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص350.

البراءة بعد انتفاء كون النسبة بينهما عموماً من وجه لحجية الأمارة في مورد الترخيص, كما تجري البراءة فيه أيضاً, وجريان البراءة في مورد فقدان الأمارة, والمراد بالتخصيص ليس التخصيص الحرفي بل المقصود تحقق ملاك التخصيص, لأنَّ دليل حجية الأمارة إذا فقد إطلاقه في الأمارة الملزمة لزم إلغاء مفادها رأساً لأنَّ ثبوت الترخيص في مورد الأمارة الترخيصية ليس بملاك الأمارة لكفاية الشك وعدم ثبوت الإلزام في التأمين, فتكون حجية الأمارة حينئذٍ اللغو عرفاً, وبما أنَّ أكثر أدلة حجية الأمارة واردة في مورد الأمارة الإلزامية الذي هو مورد البراءة لولا الأمارة فتكون أخص, أو تكون الأمارة على الإلزام هو القدر المتيقن منه على أقل تقدير.

هذا في الأدلة اللفظية؛ وأمّا الأدلة اللبية -أعني السيرة عقلائية أو المتشرعية- فإنَّه من الواضح أنَّ المتيقن منها الأمارات الإلزامية, ومنه يظهر حال حجية الظهور, ولكن يمكن أنْ نقول بأنَّه إنْ كان المقصود من هذا الملاك القرينة العرفية فإنَّه يندرج فيه عنوان الورود أو الحكومة أيضاً, فلا وجه لجعله في التخصيص فقط إلا في التسمية وهو لا يليق بالعلماء كما هو معلوم.

الأمر الثاني: تقديم الأمارة على الإستصحاب؛ فقد قيل بالأخصية أيضاً بالمعنى الذي تقدم, لأنَّ تخصيص دليل حجية الأمارة بموارد عدم الحالة السابقة أو تواردهما أو تساقط الإستصحاب بعلم إجمالي ونحوي أمر غير عرفي لندرته, بخلاف العكس, فيكون دليل حجية الظهور والخبر بمثابة الأخص فيقدم على دليل الإستصحاب

الأمر الثالث: تقديم الأمارة على أصالة الطهارة, فإنَّه يكون بنكات أخرى غير الأخصية المتقدمة كما هي مذكورة في سائر القواعد والأصول أيضاً؛

منها؛ إنَّ من جملة أدلة حجية الظهور والخبر السيرة العقلائية التي تشمل باب النجاسة,

ص: 19

ولا يحتمل الفرق بين النجاسة وغيرها فلا موجب لرفع اليد عن هذه السيرة في باب النجاسة الا إطلاق قاعدة الطهارة, وهو لا يصلح للردع.

ومنها؛ إدّعاء عدم احتمال الفرق بين باب النجاسة وسائر الأبواب في حجية الأمارة, فلو فرض حجيتها في غيرها كانت حجة في باب النجاسة أيضاً، فتكون حجية الخبر الدال على النجاسة مثلا مدلولاً لأصل دليل الحجية فيكون بحكم الأخص.

ومنها؛ لو فرضنا التعارض على نحو العموم من وجه فإنَّه لا بُدَّ من تقديم دليل حجية الأمارة لكونه قطعي السند؛ إمّا لكونه قراناً أو سنة قطعية متواترة ولو إجمالاً بخلاف دليل القاعدة فتقدم الأمارة على قاعدة الطهارة, وهذا يثبت حجية الأمارة في الشبهة الحكمية لأنَّه القدر المتيقن منها, بخلاف الخبر في الشبهة الموضوعية فإنَّه قد لا يكون داخلاً في المتيقن.

ومنها؛ إنَّه على فرض التعارض والتساقط في مورد الإجتماع فإنَّه نرجع إلى استصحاب حكم الحجية للأمارة الثابت في أول الشريعة ولو إمضاءً وعدم الردع قبل تشريع قاعدة الطهارة.

ولا يخفى أنَّ بعض هذه النكات لا تخلو من المناقشة؛ والصحيح أنْ يقال إذا كان التقديم بملاك القرينة فهو لا ينافي أنْ يكون بنحو الحكومة أو الورود؛ فالنزاع لفظي فقط.

أمور ختامية

الأمر الأول: ذهب المشهور إلى أنَّ الأمارة تقدم على الأصل حتى إذا كان مرافقاً لها, لأنَّها ترفع موضوع الأصل, وهذا إنَّما يتم بناءً على الورود؛ حيث يكون رفع الموضوع فيكون من موارد الفرق بينه وبين غيره من الملاك كما تقدم بيانه إجمالاً.

وأشكل بعضهم على ذلك بأنَّ التنافي بين الدليليين لا المدلولين, فلا ورود في المقام, ولكن عرفت أنَّ ملاك القرينة يشمل جميع تلك العناوين وهو يعتمد على التنافي بين الدليلين أو

ص: 20

المدلولين عرفاً, وعليه؛ فإنَّ الأمارة تتقدم على الأصل مطلقاً؛ موافقاً كان أو مخالفاً مع الأمارة, إلا أنَّ العلماء جرت سيرتهم على التمسك بالأصل في مورد الموافقة, ولعله يرجع إلى عدم ترتب مخالفة عليه في هذه الصورة فيجعلون الأصل مؤيداً لمدلول الأمارة لا دليلاً مستقلاً, ولا حاجة إلى تبرير ذلك بما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) وغيره فإنَّه غير تام مع أنَّه من التطويل الذي لا طائل تحته.

الأمر الثاني: ذكر السيد الصدر قدس سره أنَّ من أقسام الحكومة الحكومة المضمونية, وقد عرفها بأنْ يكون نظر دليل آخر بحسب مناسبات الحكم والموضوع المكتنفة بهما.

وعليه؛ يمكن القول بأنَّه بعد ورود دليل الأمارة في مورد الإلزام فإنَّ المستفاد من ذلك أنَّ الشارع لو لم يجعل الحجية للأمارة في هذا المورد, فإنَّه يفترض عدم الإلزام وثبوت التأمين وإلا لم تكن حاجة إلى جعلها, وهذا يعني أنَّ دليل حجية الأمارة الإلزامية فرضت مضمون الأصل الترخيصي في المرتبة السابقة لتخصصه أو تحدده فتكون حاكمة عليه.

والحق أنَّ ذلك من لزوم ما لا يلزم, فإنَّه يكفي في افتراض التأمين الرجوع إلى البراءة العقلية أو الشرعية من دون حاجة إلى افتراض ثبوت مضمون الأصل الترخيصي, فلا حكومة مضمونية بهذا المعنى ولا مناص من الرجوع إلى ما ذكرناه من أنَّ التقدم إنَّما يكون بملاك القرينة وكون دليل الأمارة قرينة على نوع من التصرف في دليل الأصل؛ سواء كان على نحو الورود أو الحكومة أو الأخصية, وهذا القسم من الحكومة المضمونية إنْ اعتبره العرف من القرينة صحَّ وإلا فهو مجرد الفرض والتقدير.

أمّا الآثار المترتبة على كلِّ واحد من هذه الأمور فهي ليست بذات أهمية بعد الإتّفاق على كثير منها بأيِّ عنوان كان.

ص: 21


1- . المصدر السابق؛ ص352.

الأمر الثالث: ذكر بعض الأصوليين أنَّ تقدم الأمارة على الأصول العملية إنَّما يكون بملاك الورود, لأنَّ حكم العقل العملي في باب الإطاعة والعصيان؛ سواء بالبراءة أم بالإشتغال إنَّما يكون معلقاً على عدم ورود شيء من المولى لأنَّه حريص على ملاكاته الواقعية والإلزامية أو الترخيصية ويهتم بإبراز ذلك بأيّ أسلوب كان ولو لم يكن بلسان الجعل الظاهري.

ويلحق بالأصول العملية الأصول الشرعية؛ التي هي في مرتبة الأصل العملي لتلك الحجج التي أخذ فيها عدم الحجة على الخلاف في موضوعه, كما يقال في شهادة العدلين أو مطلق الحجة, وادّعى أنَّ ذلك هو المستفاد من رواية مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق علیه السلام : (الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَة)(1), ويلاحظ على ذلك بأنَّ ما ذُكر يشهد على صحة ما ذكرناه من كون التقديم للأمارة على الأصول مطلقاً؛ عقلية أو شرعية إنَّما هو بملاحظة القرينية وإنْ أطلق عليها الورود.

هذا كلّه ما يتعلق بالمقام الأول؛ وهو تقديم الأمارة على الأصل, وقد عرفت على الإجمال أنَّ ما ذكره الأصوليون لا يخلو عن تشويش واضطراب وخلط, وسيأتي مزيد بيان لذلك في بحوث التعارض إنْ شاء الله تعالى.

المقام الثاني: تقديم الأصول بعضها على بعض

تمهيد

اشارة

إنّ الأصل العملي تارةً؛ يكون أصلا سببياً أو يكون مسبباً, وأخرى يكون أصلاً محرزاً أو لا يكون كذلك، والتعارض بين الأصلين إمّا أنْ يكون بين الأصلين المتوافقين أو يكون بين المتنافيين, والمتنافيان إمّا أنْ يكون التنافي بينهما بالذات في مرحلة الجعل وإمّا يكون

ص: 22


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص89.

التنافي بالعرض في مرحلة الجعل لا بالذات, كما إذا علم إجمالاً بكذب أحدهما, وإمّا أنْ يكون التنافي بينهما في مرحلة الإمتثال والتزاحم, كما إذا استصحب وجوب الصلاة ووجوب الإزالة في وقت لا قدرة للمكلف على الجمع بينهما؛ والكلام في ذلك يكون في موارد أربعة:

المورد الأول: في الأصلين المتوافقين أو المتنافيين ذاتاً

ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) ومن تبعه(2) أنَّ أحد الأصلين يكون حاكماً على الآخر بشرطين:

الشرط الأول: إذا كان أحد الأصلين محرزاً؛ بأنْ يكون لسان دليله إلغاء الشك المأخوذ في موضوع الأصل الآخر, كما هو الأمر في استصحاب الطهارة أو النجاسة بالنسبة إلى أصالة الطهارة أو الحل, فإنَّه في مثل ذلك يكون الأصل المحرز حاكماً على غير المحرز لأنَّه يرفع موضوعه تعبداً؛ وهو معنى الحكومة على بعض التفاسير كما تقدم.

الشرط الثاني: أنْ يكون أحدهما سبباً والآخر مسبباً, أي جارياً في موضوعه الشرعي, فيقدم الأصل الجاري في السبب على الأصل الجاري في المسبب بالحكومة أيضاً, وإنْ كان الأصل المسببي محرزاً يلغي الشك في السببي, وعلى هذا يكون أصالة الطهارة في الماء المغسول به الثوب النجس أو استصحابها مقدماً على استصحاب النجاسة في الثوب بعد الغسل, لأنَّ الأصل الجاري في السبب يلزمنا التعبد بحكمه وهو السبب فيلغى الشك المأخوذ في موضوع الأصل المسببي بخلاف العكس.

واستشكل عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ ما ذكر في تقديم الأصل المحرز في الأصلين المتوافقين على غير المحرز منهما من الأصل المحرز يلغي موضوع الأصل غير المحرز فيكون حاكماً عليه غير تام

ص: 23


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص711.
2- . مصباح الأصول؛ ج2 ص256.

كبرى وصغرى؛ أمّا الكبرى؛ فلما قيل من أنَّ مبنى الحكومة لم يكن تاماً في حد نفسه لأنَّ الغاية منها هو العلم بالخلاف لا مطلق العلم, والأول منتفٍ في الأصلين المتوافقين, هذا ولكن تقدم أنَّ ملاك الحكومة وأخويها هو القرينة عل التصرف, ولم يتحقق هذا في المقولتين عرفاً, وأمّا الصغرى؛ فإنَّ تقديم أحد المتوافقين على الآخر على هذا المبنى فيه محاذير لا يمكن الإلتزام بها؛

منها؛ إنَّ تقديم استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة يستلزم اختصاص القاعدة بفرض نادر كموارد توارد الحالتين مثلاً, إذ في غير ذلك يجري إمّا استصحاب الطهارة أو استصحاب النجاسة فلا تجري القاعدة.

وفيه: إنَّه لا يضر إذا كان المبنى صحيحاً, وقد عرفت أنَّه ليس بصحيح.

ومنها؛ إنَّه يلزم تقديم استصحاب الحلّ والترخيص على البراءة وأصل الحلّ الظاهريين كما هو مفاد دليلهما الدال على الإمتنان, فإنَّه لا يبقى لدليل البراءة مورد إلا محل توارد الحالتين فقط.

وفيه: ما أوردناه على سابقه أيضاً.

ومنها؛ إنَّ تقديم الأصل السببي على المسببي في المتوافقين خلاف مورد أدلة الإستصحاب ورواياته, فإنَّها أجرت الإستصحاب المسببي في الطهارة من الحدث أو الخبث رغم وجود الإستصحاب السببي في المورد وهو استصحاب عدم النوم أو عدم إصابة الدم, وهذا بنفسه دليل على بطلان مبنى الحكومة في الأصلين المتوافقين.

وفيه: إنَّ تقديم الأصل المسببي في صحيحتي زرارة لعله من أجل أنَّه أقرب إلى ذهن السائل وأوضح إلى فهمه وألصق بالمراد من ذكر الأصل السببي والمسببي, فلا يمكن استفادة بطلان تقديم الأصل السببي على المسببي منهما.

ص: 24

الوجه الثاني: إنَّه لا إشكال في تقديم الأصل السببي؛ وعلى ذلك جرت عادة الفقهاء في الفقه, لأنَّه الموافق للعرف ومرتكزات الفقهاء, إلا أنَّ الكلام في وجه تخريجهم لذلك؛

فقيل أنَّه من باب الحكومة؛ وقد اختاره المحقق النائيني قدس سره كما عرفت آنفاً, لأنَّ الأصل السببي يلغي الشك في مورد الأصل المسببي دون العكس, وقد تقدم أنّ الأمر على إطلاقه مشكل إلا إذا كان الأصل السببي محرزاً يوجب إلغاء الشك كما عرفت في مثال تقديم أصالة الطهارة في الماء المغسول به الثوب النجس على استصحاب النجاسة.

وقيل: إنَّ التقديم إنَّما يكون بملاك أنَّ أصالة الطهارة في الماء تنقّح موضوع الدليل الدال على كبرى المطهرية, فإنَّ موضوعها الغسل بماء وأنْ يكون طاهراً, والأول محرز بالوجدان والثاني نحرزه بأصالة الطهارة؛ فيتحقق موضوع دليل

المطهرية فيتمسك به لإثبات الطهارة, ولما كان من الأمارة يكون حاكماً على استصحاب النجاسة.

وفيه:

1- بناءً على ما ذكر تثبت الطهارة الواقعية؛ وهو غير صحيح, لأنَّ ثبوت الآثار والأحكام في باب الحكومة لا بُدَّ فيه من الرجوع إلى دليل الحاكم لا دليل المحكوم كما عرفت سابقاً.

2- إنَّ حكومة الأصول والأمارات المنقحة لموضوع حكم شرعي على دليل ذلك الحكم ظاهرية لا تثبت حكماً واقعياً, فلا يمكن التمسك بدليل المطهرية في المقام بل المثبت لطهارة الثوب المغسول نفس أصالة الطهارة فتكون الطهارة ظاهرية, وهي منافية مع النجاسة الظاهرية التي يثبتها الإستصحاب.

وقيل: إنَّ الملاك هو القرينة اللغوية, وذلك لأنَّ أصالة الطهارة في الماء قرينة لغوية على جعل ذات الطهارة في الماء دون آثارها, وأمّا الآثار فهي مترتبة في كلِّ مورد تجري فيه

ص: 25

قاعدة الطهارة, ومن جملة هذه الآثار طهارة الثوب المغسول بذلك الماء, فإنَّه من آثار وطهارة الماء, فيكون دليل الطهارة حاكماً بملاك النظر على استصحاب النجاسة في الثوب دون العكس.

وأورد عليه بأنَّ دليل أصالة الطهارة ناظر إلى الآثار الواقعية المترتبة على الطهارة, ولهذا يكون هذا الأصل ملغى إذا فرض انتفاء تلك الآثار, فتكون حاكمة على دليل الآثار الواقعية حكومة ظاهرية وليست هي ناظرة إلى الأحكام والآثار الظاهرية والتعبدية المترتبة على المسبب لتكون حاكمة على استصحاب الجاري فيه.

والحقُّ أنَّ جميع ذلك من الفرضيات التي تدور في أذهان الأصوليين وهي بعيدة عن الفهم العرفي للأخبار والأدلة التي تبتني على الذوق العرفي السليم, فلا بُدَّ من التماس كون دليل قرينة في التصرف في دليل الحكومة بأيِّ أسلوب يمكن استناده إلى العرف, ومن المعلوم أنَّ دليل الأصل السببي إذا لوحظ مع دليل الأصل المسببي يظهر بوضوح أنَّ الأول يرفع موضوع الثاني فيتقدم عليه, فإنَّ أذهان العرف تبتني على السذاجة والبساطة, فإنَّه يرى أنَّ الأصل الجاري في السبب يوجب طهارة الثوب المغسول به الثوب فيكون رافعاً لنجاسة الثوب وناقضاً لها في مرحلة الثبوت, كذلك في الإثبات؛ فإنَّ العرف يحكم بأنَّ دليل طهارة الماء إثباتاً مقدمٌ على استصحاب النجاسة وناقضاً لإثبات النجاسة فيه.

ومِمّا ذكرنا يظهر أنَّ جميع ما ذكر في المقام إنَّما هو خلاف الفهم العرفي وهو من التطويل الذي لا طائل تحته.

المورد الثاني: ما يتعلق بالأصلين العرضيين المتنافيين

إختار المحقق النائيني قدس سره حكومة الأصل الذي يلغي الشك في الآخر كالإستصحاب وأصالة الطهارة, وأمّا إذا لم يكن أحدهما كذلك أو كانا كلاهما معاً يلغيان الشك؛ فإنَّ الأصلين يتعارضان ويتساقطان.

ص: 26

وأورد عليه بعدم الحكومة والورود بملاك إلغاء الشك وجعل الطريقية كما عرفت آنفاً, بل إنَّ تقديم الإستصحاب على البراءة وقاعدة الطهارة يكون لنكتةٍ تقدم تفصيل الكلام فيها.

وفيه: ما عرفت من أنَّ التقديم، وما ذكر من العناوين كلها يكون بملاك القرينية العرفية؛ فهي وإنْ كانت بتقدم الأصل على غيره ولكن لم تنطبق عليه أحد العناوين التي ذكروها ويأتي ما يتعلق بذلك.

وقد ذكر المحقق العراقي قدس سره (1) في المقام وجهاً آخراً في تقديم الإستصحاب؛ وحاصله: إنَّ مفاد دليل الإستصحاب هو الأمر بالجري العملي على طبق آثار اليقين والنهي عن نقض آثاره, أي يكون مفاده تنزيل الشك منزلة اليقين في الجري العملي وهو على إطلاقه يشمل الأثر العملي لليقين الطريقي للجري نحو الواقع المنكشف به والأثر العملي لليقين المقتضي لترك العمل بالأصول الملغاة بالعلم, فيكون دليل الإستصحاب ناظراً إلى كل تلك الآثار الواقعية الطريقية والظاهرية الموضوعية فيكون حاكماً على أدلتها حكومة مضمونية.

وأشكل عليه بأنَّه لو تم ذلك واستظهرنا من أدلة الإستصحاب التعبد ببقاء اليقين ولو بلحاظ الجري العملي ولكنه يختص بالنسبة إلى الجري العملي الذي يقتضيه اليقين الطريقي لا اليقين الموضوعي فإنَّ أثر القطع الموضوعي ليس جرياً عملياً لليقين, كما ذكره بعض المحققين.

وذهب السيد الصدر قدس سره (2) إلى التفصيل حيث ذكر أنَّ الأصلين العرضيين المتنافيين إذا كانا ثابتين بدليل واحد كالإستصحاب في مورد توارد الحالتين بناءً على جريانهما يحصل

ص: 27


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الرابع، ص109.
2- . بحوث في علم الاصول؛ ج6 ص358.

التعارض في دليل الحجية فلا يشمل شيئاً منهما, وإنْ كانا بدليلين فإنْ وجدت نكتة تقتضي الأخصية وما بحكمها بالنسبة إلى الآخر قدم عليه، وإلا تعارضا وتساقطا.

وعلى هذا الأساس تتقدم قاعدة اليد وقاعدة الفراغ والتجاوز على الإستصحاب المخالف لها في مواردها عادة, فإنَّه يكون التقديم بنكته الأخصية عرفاً, فإنَّ دليلها كالنص في تخصيص حكم الإستصحاب لورود جملة منها في مورد الإستصحاب المخالف. وأمّا الإستصحاب مع البراءة الشرعية فإنْ كان في الشبهات الموضوعية فإنَّ الإستصحاب الموضوعي مقدم على البراءة لكونه سبباً, وإنْ كان في الشبهات الحكمية فإنَّ الإستصحاب يتقدم على دليل البراءة العقلية بمقتضىالورود, وفي البراءة الشرعية يتقدم دليل الإستصحاب على دليل البراءة بالأظهرية لأنَّه كالصريح في العموم والتأكيد بأنَّه لا يُنقض اليقين بالشك أبداً؛ بخلاف إطلاق دليل البراءة، والخاص أو الأظهر مقدم على العام أو الظاهر.

والحقُّ ما ذكره المحققون في وجه تقديم الإستصحاب على غيره من الأصول العملية المتنافية إنْ رجع إلى ملاك القرينة العرفية فهو الصحيح وإنْ اختلفوا في التعبير كالحكومة والورود أو التنزيل, وإلا فإنَّ الإشكال فيما ذكروه واضح ولاوجه لإطالة الكلام بعد أنْ كان الموضوع مِمّا يجب الرجوع فيه إلى العرف في تعيين خصوصيات القرينة كما ذكرنا.

وعلى هذا الأساس نقول في الموردين السابقين:

أمّا المورد الأول؛ فإنَّ تقديم الإستصحاب على سائر الأصول العملية يبنى على فهم العرف من أدلة الإستصحاب أنَّه بمنزلة الدليل الشرعي, لأنَّه قد أخذ في الإستصحاب الحالة السابقة فاعتبره العرف من إسراء الدليل السابق إلى حالة الشك في مدلوله ومفاده, فيكون الدليل علماً أو أمارة على قسمين؛ حقيقي وتنزيلي؛ والإستصحاب من الثاني, فكل

ص: 28

حكم يترتب على الدليل الحقيقي يكون للتنزيل أيضاً إلا إذا كانت قرينة معتبرة على الخلاف, وحيث أنَّ الدليل الحقيقي مقدم على الأصول مطلقاً كذلك يكون الدليل التنزيلي, فما يكون من الدليل الحقيقي وارداً على الأصول يكون التنزيلي كذلك, كما أنَّ ما يكون حاكماً في الحقيقي فكذلك في التنزيلي.

والحاصل: إنَّ الأدلة الإجتهادية مطلقاً؛ سواء كانت حقيقية أو كانت تنزيلية تتقدم على الأصول مطلقاً, والإستصحاب من القسم الثاني فيكون مقدماً على سائر الأصول, والعرف لا يتردد في تقديمه عليها بل لا يلتفتون مع لحاظ الحالة السابقة إلى أصل آخر من الأصول العملية.

هذا بالنسبة إلى الأثر الأول وهو تقديم الإستصحاب على سائر الأصول؛ وقد ذكرنا في طيّ كلامنا السابق أنَّه لو بني على تقديم الأصول على الإستصحاب فإنَّه يلزم أنْ يكون اعتباره لغواً, كما يلزم أنْ يكون من التخصيص بلا مخصص على وجه دائر فراجع, ومِمّا ذكرناه يظهر وجه الضعف في كثير من كلمات الأعلام مع أنَّه من التطويل الذي لا طائل تحته.

وأمّا المورد الثاني؛ وهو تعارض الإستصحابين فإنَّه على أقسام:

القسم الأول: أنْ يكون الشك في أحدهما سبباً شرعياً للشك في الآخر كالشك في الكرية الذي يكون سبباً للشك في طهارة المتنجس المغسول فيه, ولا ريب في تقديم الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب؛ إستصحاباً كان أو غيره لما عرفت من أنَّ ذلك مِمّا تقتضيه المرتكزات العرفية في المحاورات الدائرة بينهم لأنَّهم يرون أنَّ بجريان الأصل في السبب يزول الشك في المسببشرعاً, فيكون خروجه عن تحت عموم دليل الأصل بالتخصيص بخلاف العكس, فإنَّ خروجه يكون بلا مخصص كما هو واضح.

ص: 29

وحينئذٍ لا وجه للنزاع في أنَّ هذا من باب الورود أو الحكومة أو التخصيص, وإنْ كان لكلِّ واحد منها وجه وقائل به، ولا ثمرة عملية أو علمية في تحقيق ذلك, كما تقدم بعض الكلام فيه بعد معرفة الملاك في التقديم وكونه أمراً إرتكازياً عرفياً.

ولا فرق في ذلك بين توافق الأصلين المتعارضين في المؤدى أو تخالفهما فيه.

القسم الثاني: أنْ يكون الشك في كلِّ واحد منها مسبباً عن الشك في الآخر, وهذا من مجرد الفرض الوهمي ولا تحقق له في الخارج؛ لا في الشرعيات ولا في غيرها؛ لاستلزامه الدور.

القسم الثالث: أنْ لا يكون بينهما سببية ومسببية أصلاً ولكن يلزم من جريان الأصل فيها مخالفة عملية, كالإنائين الطاهرين اللذين علم بحدوث نجاسة أحدهما؛ فإنَّه يلزم من جريان الأصل فيها المخالفة العملية فلا يجري من هذه الجهة, كما لا يجري الأصل في أحدهما المردد لعدم تحقق الفرد في الخارج, مع أنَّ جريانه في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح, فلا مناص من سقوط الأصلين بالتعارض فيتبخر العلم الإجمالي بالإجتناب عن الإنائين كالعلم التفصيلي بنجاستها.

القسم الرابع: أنْ لا تكون سببية في البين أصلاً ولا يلزم المخالفة العملية أيضاً, ولكن يكون جريانهما مستلزماً المخالفة العلمية, أي مخالفاً لما هو المعلوم في البين, كما إذا علم تفصيلاً بنجاسة الإنائين ثم علم بطهارة أحدهما, فإنَّه لا يلزم من استصحاب نجاستهما المخالفة العملية, بل يكون مخالفاً لما هو المعلوم في البين فلا يجري من هذه الجهة.

القسم الخامس: ما إذا لم يكن في البين سببية أصلاً ولا مخالفة عملية ولا مخالفة علمية, ولكن دلَّ الدليل من الخارج على عدم جريانهما, كما إذا كان هناك ماء طاهر ينقص عن مقدار الكر بقدر خاص وقد تمم ذلك القدر بماء نجس في أحد اطرافه؛ فإنَّه لا مانع من إجراء إستصحاب طهارة الماء الأول ونجاسة الماء المتمم ويترتب الأثر على كلٍّ منهما,

ص: 30

فيكون الطرف الذي ألقي فيه النجس نجساً بخلاف باقي الأطراف, ولكن الإجماع قام على أنَّ الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه من حيث الطهارة والنجاسة لكن يمكن أنْ يقال بأنَّ نجاسة المتمم سبب لنجاسة الماء فيجري الإستصحاب في السبب ويلغي الشك في الطرف الآخر, فلا يبقى حينئذ موضوع لجريان الأصل الآخر, ويدخل هذا القسم في القسم الأول, إلا أنَّ السيد الوالد قدس سره (1) إستشكل في ذلك فقال بأنَّ منشأ حدوث السببية الإجماع المدَّعى على أنَّ الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه.ويصحُّ لنا القول بأنَّ السببية قد حدثت ويحكم بها العرف, ولا يضرُّ بعد ذلك أنْ يكون منشأها الإجماع أو غيره, فالمثال المزبور يمكن إدراجه في القسم الأول, فلا بُدَّ من التماس مثال آخر لهذا القسم.

القسم السادس: ما إذا لم يكن شيءٌ مِمّا سبق في البين أصلاً, كمن توضأ بمائع مردد بين الماء والبول غفلةً منه ثم التفت إليه؛ فإنَّه يجري استصحاب طهارة مواضع وضوئه كما يجري استصحاب بقاء حدثه بناءً على صحة التفكيك في لوازم الأصول, وإلا يكون هذا القسم من القسم الرابع الذي يستلزم من جريانهما مخالفة علمية كما لا يخفى.

والمتحصل مِمّا ذكرناه أنَّ مقتضى الأصل في جميع أقسام تعارض الإستصحاب هو التساقط, لأنَّ الأخذ بأحدهما ترجيح بغير مرجح, كما أنَّه لا تخيير في البين؛ لعدم وجود دليل على التخيير إلا إذا أمكن الجمع بينهما -وهو خلاف المفروض- أو كان دليل أو قرينة على ترجيح أحدهما كما عرفت مفصلاً.

وربما احتمل بعضهم أنَّه في جميع الأقسام المزبورة يجب الأخذ بالراجح, ومع فقده فالتخيير.

ص: 31


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص289.

وأورد عليه السيد الوالد قدس سره بأنَّ الترجيح إنْ كان بالأمارة المعتبرة فمع وجودها لا تصل النوبة إلى الأصل حتى يتحقق التعارض كما تقدم من أنَّه لا وجه لجريان الأصل مع وجود الأمارة المعتبرة؛ موافقة كانت أو مخالفة. وأمّا إذا كان الترجيح بأمارة غير معتبرة فقد تقدم أنَّ الظنون غير المعتبرة لا تصلح للترجيح, كذلك الترجيح بالأصل؛ فإنَّه لا يصلح للترجيح, إذ لا دليل على حصوله بالأصل فهو كالظنون غير المعتبرة.

نعم؛ لا بأس بأنْ يكون الأصل مرجعاً بعد سقوط المتعارضين عن الإعتبار.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ الترجيح قد يكون بنكتة القرينية مثل الأخصية والأظهرية وغيرهما مِمّا تقدم ذكره ولو كانت في أمارة أو أصل فراجع.

هذا كلهُّ في الموردين مِمّا سبق ذكرهما؛ ومن جميع ذلك يظهر الوجه في المورد الآتي.

المورد الثالث: التعارض بالعرض بين الأصول العملية

وهو القسم الثالث من الأقسام المتقدمة الذي يكون التنافي فيه عرضياً قد حصل من ناحية العلم الإجمالي, وحكمه أنَّه إذا كان علماً إجمالياً بالتكليف فإنَّه يوجب التعارض بين الأصول والتساقط لأنَّه بجريانهما يستلزم الترخيص في المخالفة العملية ولا يجري الأصل في بعضها لأنَّه ترجيح بغير مرجح, ولا في الفرد المردد لعدم وجود له, كما أنَّه لا تخيير في البين لعدم الدليل عليه.كلُّ ذلك لا نزاع فيه, وإنَّما الكلام فيما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره (1), فإنَّه يحلل تارةً عدم جريان الأصل في الطرفين بلزوم المخالفة العملية القطعية, وأخرى؛ علَّله بمحذور إثباتي؛ بأنَّه يستلزم مناقضة صدر دليل الإستصحاب مع ذيله.

ص: 32


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص737.

وقد أورد عليه بوجوه نذكر منها ما عن بعضٍ(1) من أنَّه إذا كانت الأصول في أطراف العلم الإجمالي لا تستلزم المخالفة القطعية, كما إذا كان العلم الإجمالي علماً بالترخيص والطهارة وجرى استصحاب النجاسة في الأطراف -كما في القسم الرابع مِمّا تقدم ذكره- فإنَّه قد يقال بالتعارض فيما بينهما إذا كانت محرزة كالإستصحاب؛ فإنَّه لا يلزم محذور الترخيص في المخالفة القطعية, ومنشأ هذا الزعم ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره في المحذور الإثباتي, لأنَّ صدر دليل الإستصحاب يدلُّ على النهي عن نقض اليقين بالشك مطلقاً وهذه سالبة كلية, وأمّا بحسب ذيله؛ فإنَّه يدلُّ على لزوم نقضه بيقين آخر, فلو كنّا مع الصدر نحكم بأنَّ اليقين بالنجاسة في كلِّ طرف لا ينقض بالشك فيهما وهي سالبة كلية, ولكن الذيل يدلُّ على انه إذا كان يقين اخر لزم نقض اليقين الأول به, وهذه موجبة جزئية تناقض تلك السالبة الكلية فيتعين حينئذ جعل اليقين بالطهارة إجمالاً ناقضاً لأحد اليقينين في الطرفين فيقع التعارض بين الصدر والذيل.

وأجيب عنه بوجوه:

منها؛ إنَّه إذا كان أحد أدلة الإستصحاب يستلزم ذلك، ولكن بقية الروايات لا تكون كذلك, إذ لم يرد قول الإمام الصادق علیه السلام : (وَلَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وإِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر)(2) في جميع روايات الإستصحاب فتسلم عن هذا الإشكال فلا إجمال فيها.

ومنها؛ عدم الإجمال في ذلك الدليل, إذ المراد من اليقين الناقض هو اليقين التفصيلي كاليقين المنقوض كما هو الظاهر.

ص: 33


1- .بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص360.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص245.

ومنها؛ ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) من أنَّ عدم جريان الإستصحاب في المثال المذكور يستلزم منه المخالفة العلمية, ولا ربط له بمناقضة الصدر والذيل.

ومنها؛ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) على مبناه في الأصول التنزيلية المحرزة من أنَّ المجعول فيها الطريقية والعلمية, وإنَّ معنى جعلها هو تتميم الكشف الناقص الثابت فيه, وعليه؛ يكون جعل الإستصحابين غير معقول لأنَّه يستحيلالكشف الذاتي حتى الناقص لهما معاً بأنْ يفيد كلاهما الظن, فإنَّه مع العمل الإجمالي بانتقاض أحدهما لا يمكن حصول الكشف والظن فيهما معاً.

وفيه: فساد المبنى وما بني عليه؛ لإمكان حصول الظن في كلِّ طرف وعدم حصول المناقضة بين الظن في الأطراف مع العلم الإجمالي بخلافه.

ومنها؛ ما ذكره قدس سره (3) أيضاً من جعل العلمية والطريقية بشرط احتمال المطابقة للواقع وعدم القطع بالكذب, فإنَّه لا يعقل جعل ما يقطع بكذبه طريقاً وحاكياً عن الواقع؛ سواء كان القطع بالكذب تفصيلياً أو إجمالاً في أحد الطرفين.

وفيه: إنَّه لا دليل على هذا الشرط الزائد عمّا هو اللازم عقلاً من انحفاظ الحكم الظاهري المأخوذ في دليل الحجية ظاهراً عند الشك في الواقع.

وأمّا احتمال المطابقة في كِلا الكشفين؛ التفصيلي والإجمالي عرضاً بمعنى مطابقة المجموع فلا دليل على اشتراطه ولزومه, وقد تقدم تفصيل ذلك في مباحث الإحتياط فراجع.

ص: 34


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص290.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص484 وما بعدها.
3- . أجود التقريرات؛ ج2 ص87.

المورد الرابع: التعارض بين الأصلين في مرحلة الإمتثال

وهو ما إذا وقع التزاحم بين الأصلين في مرحلة الإمتثال من دون أنْ يكون بينهما تنافٍ في أصل الجعل, كما إذا استصحب وجوب الصلاة ووجوب الإزالة مع عدم القدرة على الجمع بينهما؛ فإنَّه قد يقال بحصول التنافي بين الأصلين, لأنَّ الظاهر من الإستصحاب هو المجعول الفعلي فيحصل التنافي بين المجعولين الفعليين, فلا بُدَّ أنْ يجري أحدهما, وأمّا الآخر فيعلم بانتفائه؛ إمّا لانتهاء أمده أو لارتفاع موضوعه بالإشتغال بالآخر.

وذهب المحقق النائيني قدس سره إلى أنَّه لا تعارض بين الإستصحابين, ولا يسري التنافي إليهما, لأنَّه في باب التزاحم لا تسري المنافاة إلى الحكمين أصلاً, فما يقال في الحكمين الواقعيين يجري في الحكمين الظاهريين؛ فإنَّ الموضوع فيهما هو القادر. وفي التزاحم يكون بدلاً لا جمعاً فيكون صرف القدرة في كلِّ واحد منهما رافعاً لموضوع الآخر.

والحقُّ أنَّ كِلا الرأيين يرجعان إلى شيء واحد؛ وهو: إنَّه لا بُدَّ في مورد التزاحم صرف القدرة إلى أحدهما لفرض امتناع الجمع بينهما, فإذا صرف المكلف قدرته إلى أحدهما لا يبقى موضوع للآخر حتى يجري فيه الإستصحاب؛ بلا فرق في ذلك بين القول بأنَّ المنجز عقلاً فعلية المجعول لا الجعل أو القول بأنَّ مصبّ الإستصحاب هو المجعول الفعلي, فإنَّه لا تنافي بين الأصلين فتدبر.

وبذلك نختم الكلام في بحث الإستصحاب.

ص: 35

قواعد فقهية

إعتاد الأصوليون تبعاً للشيخ الأنصاري قدس سره (1) ذكر بعض القواعد في خاتمة بحث الإستصحاب المتقدمة عليه, ومنهم السيد الوالد قدس سره (2), ونحن نقتفي أثرهم في ذكر بعض القواعد التي تتقدم على الإستصحاب.

وقبل ذلك ينبغي التنبيه على أمور:

الأمر الأول: ذكر العلماء في الفقه والأصول إصطلاحات ثلاثة؛ المسألة الأصولية, والقاعدة الفقهية, والمسألة الفقهية, وقد ذكرنا في مواضع متعددة الفرق بين القاعدة الفقهية والمسألة الأصولية وبيَّنا أنَّ الفرق بينهما من وجهين:

الأول: إنَّ المسألة الأصولية؛ هي ما وقعت كبرى قياس الإستنباط, بحيث لو انظمَّ إليها صغراها أنتجت حكماً كلياً فرعياً إلهياً.

أمّا القاعدة الفقهية؛ فهي بنفسها حكم فرعي تنطبق على مواردها الجزئية الكثيرة في أبواب متفرقة بخلاف نتيجة المسألة الأصولية, فهي أيضاً كبرى كلية لو انظمَّ إليها صغراها أنتجت حكماً جزئياً.

الثاني: إنَّ المسألة الأصولية لا تكون قابلة للإلقاء على المقلد, بل إنَّ تطبيقها على صغرياتها من وظائف المجتهد؛ بخلاف القاعدة الفقهية الفرعية؛ فإنَّ المقلد يحقّ له تطبيقها على صغرياتها, بل إنَّ تطبيق المجتهد لا أثر له إلا من باب حجية قوله لكونه من أهل الخبرة في ذلك, ومن هذه الجهة تتم الأمور الشرعية للمكلف فينفذ إقرار كلّ فرد من بيعه وشرائه وهبته وصلحه وعاريته وإجارته وتزويجه وطلاقه وسائر عقوده وإيقاعاته ومعاملاته,

ص: 36


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص706.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص291.

فيكون حال المجتهد والمقلد في مقام تطبيق القاعدة الفقهية على حدٍّ سواء, إلا أنَّ المجتهد بعد أنْ يستنبطها من أدلتها يفتي بمضمونها, ولكن التطبيق يعمّ جميع الأفراد؛ بما فيهم المجتهدون.

نعم؛ قد يقع في تفحص الموضوع وتعيينه في بعض الموارد غموض لا يمكن للعامي رفعه فيرجع إلى الفقيه والمجتهد في ذلك, كما إذا حصل الشك في ملكية الصبي ونفوذ إقراره ووصيته فيرجع العامي إلى الفقيه في معرفة كون الصبي مالكاً؛ فإذا أفتى المجتهد بملكيته فإنَّ العامي بعد أنْ يأخذ الحكم بمالكيته ويطبقه على صغرياته, فينفذ إقرار المالك ووصيته ونحوه.

هذا كله في الفرق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية.

وأمّا الفرق بين القاعدة الفقهية والمسألة الفقهية؛ فقد قيل بأنَّ القاعدة الفقهية موضوعها أوسع من موضوع المسألة الفقهية؛ بأنْ تكون مسائل متعددة فقهية مندرجة تحت تلك القاعدة الفقهية المنطبقة على جميع تلك المسائل, فإنَّه مثلاً إذا ثبت قاعدة الضرر فإنَّه يندرج تحتها مسائل كثيرة فقهية في أبواب مختلفة من مسائل العبادات والمعاملات وتنطبق عليها, وقد يشتبه في بعض الموارد فتطلق القاعدة على المسألة وبالعكس؛ ولا ضير في ذلك.

نعم؛ تختلف القواعد الفقهية في سعة دائرة انطباقها على المسائل في أبواب الفقه وضيقها, فمثلاً بعضها تختص بالعبادات وبعضها تجري في المعاملات وبعضها تعمّ الجميع كقاعدة الصحة؛ فإنَّها تجري في أبواب العبادات كما تجري في أبواب المعاملات, وهذا واضح لا خلاف فيه.

والحاصل؛ إنَّ القاعدة الفقهية عبارة عن الحكم الفرعي المتعلق بالإنسان من حيث الحكم المجعول شرعاً ويكون تحتها مسائل كثيرة, والفرق بينها وبين المسائل الفقهية بالعموم

ص: 37

والخصوص, وقد يتساويان فيطلق إحداهما على الأخرى ولا مشاحة في الإصطلاح, ولكن تكون نسبة القاعدة إلى المسائل الداخلة تحتها نسبة الكلي إلى الفرد.

ومن جميع ذلك يظهر الفرق بين المسائل الأصولية والقاعدة الفقهية, وهي والمسألة الفقهية, وراجع ما ذكرناه في مدخل الأصول العملية أيضاً.

وعلى ضوء ما ذكرناه ينحلّ الخلاف بين العلماء في كثير من القواعد الفقهية في أنَّها من المسائل الأصولية أو من القواعد الفقهية.

الأمر الثاني: تقدم في البحث السابق أنَّ الأمارات تتقدم على الأصول؛ سواء كان التقدم على نحو الحكومة أم الورود أم التخصيص؛ لما عرفت من أنَّ ما يعتذر به المكلف من الأمارات والأصول ليست في عرض واحد ومرتبة واحدة, بل بينهما اختلاف في الرتبة, وهذا مِمّا لا خلاف فيه.

ومن هذه الجهة قالوا بتقديم الأمارات مطلقاً على الأصول؛ موضوعية كانت أو حكمية, كما لا ريب في تقدم الأصول الموضوعية على الأصول الحكمية, ولا تصل النوبة إلى كلِّ لاحق مع وجود السابق رتبةً, وإنَّ ذلك مِمّا جرت عليه السيرة في المحاورات والإحتجاجات الدائرة بين العقلاء كما عرفت آنفاً, وقد تقدمت الإشارة إلى أنَّ ذلك أَولى مِمّا استدلّ به الأصوليون عليه, وقد عرفت أنَّه لا يخلو من بحث ونقاش؛ فقد استدلوا عليه باستقرار إطلاق دليل اعتبار الأمارة في مورد الشك مطلقاً؛ سواء كان هناك أصل أم لم يكن, وأمّا دليل اعتبار الأصل فإنَّ شموله لمورد وجود الأمارة مشكوك بل معلوم العدم, وإلا لبطل اعتبار الأمارات مطلقاً, إذ ما من أمارة إلا في موردها أصل من الأصول, فلو قدم دليل اعتبار الأصل على دليل اعتبار الأمارة لدار, لأنَّ التقدم متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة, واعتباره معها متوقف على تخصيص دليل الأمارة بدليل

ص: 38

الأصل, وهذا التخصيص متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة, واعتباره معها متوقف على تخصيص دليل الأمارة بدليل الأصل, وهذا التخصيص متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة, إذ لولاه لكان من التخصيص بغير مخصص؛ وهذا هو الدور الواضح.

ولا يخفى إنَّه وإنْ كان صحيحاً ولكنه من تبعيد المسافة كما ذكره السيد الوالد قدس سره , لأنَّه بعد كون تقديم الأمارة على الأصل من الواضحات عند أهل المحاورة, فلا حاجة إلى الإستدلال عليه بمثل ذلك الذي لا يخلو من غموض فراجع ما ذكرناه سابقاً. ثم أنَّه بعدما عرفت من اختلاف الرتب بين الأمارات والأصول كذلك يكون بين الأصول بعضها مع بعض؛ فإنَّ الإستصحاب يتقدم على جميع الأصول, لأنَّ الإستصحاب عند الأصوليين ليس أصلاً محضاً بل هو برزخ بينه وبين الأمارة المحضة, فمن الجهة الأولى تقدمت الأمارات عليه, ومن الجهة الثانية يتقدم على جميع الأصول, وقد ادُّعي الإتّفاق على هذا الحكم, وقد عرفت فيما سبق الوجه في ذلك أيضاً فراجع.

الأمر الثالث: التقدم الذي ذكرناه في الأمارات والأصول في غير مورد التزاحم إنَّما يكون لأحد أمور معروفة, وقد إدّعى السيد الوالد قدس سره أنَّها مرتكزة في أذهان أهل المحاورة إجمالاً وإنْ لم يلتفت إليها تفصيلاً؛ وهي خمسة كما تقدمت الإشارة إليها في أول الكلام:

الأول: التخصيص.

الثاني: الورود.

الثالث: الحكومة.

الرابع: التخصص.

الخامس: الجمع العرفي.

ص: 39

وأمّا في موارد التزاحم فإنَّ التقدم إنَّما يكون بمناط الأقوائية في الملاك على ما تقدم تفصيله في محله.

وقد اختلفوا في وجه تقديم الأمارة على الأصول؛

فقيل: إنَّه بملاك الحكومة.

وقيل: إنَّه بملاك الورود, لأن الأصول مجعولة في ظرف الحيرة المحضة والشك المطبق, وهما منتفيان مع وجود الأمارة, وقد تقدم أنَّه لا ثمرة عملية في البين؛ سواء كان التقدم من أجل الورود أو الحكومة أو غيرها, فلا وجه للإطناب فيه, وذكرنا بعض الكلام فيما تقدم وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ثم أنَّ التخصيص عبارة عن الخروج الحكمي عن دليل العام مع كونه من أفراده موضوعاً.

والتخصّص عبارة عن الخروج الموضوعي تكويناً.

والورود عبارة عن الخروج الموضوعي بعناية التعبد أو بناء العقلاء.

والحكومة عبارة عن كون دليل الحاكم مفسراً وشارحاً لدليل المحكوم؛ توسعة أو تضيقاً, أو هما معا من جهتين.

وقد يفرق بين التخصيص والحكومة بأنَّ الثاني من شؤون المعنى أولاً وبالذات بخلاف التخصيص؛ فإنَّه من شؤون الألفاظ في المحاورات.

والجمع العرفي عبارة عن الجمع بين الدليلين بما يقتضيه الطبع السليم ويرتضيه الذوق المستقيم, ولا تضبطه ضابطة كلية بل يختلف باختلاف الموارد.

إذا عرفت ذلك يقع البحث في بعض القواعد الفقهية التي تتقدم على الإستصحاب فيها.

ص: 40

قاعدة التجاوز والفراغ

اشارة

والكلام فيها يقع ضمن مباحث:

المبحث الأول: في كون القاعدة من المسائل الأصولية أو القواعد الفقهية.

قد عرفت أنَّ الأصول تارةً؛ تكون تنزيلية, وأخرى؛ لا تكون كذلك.

والأخير لا مصير إليه في المقام بلا ريب ولا إشكال, فالإحتمال يدور بين كونها من الأصول التنزيلية وبين كونها قاعدة فقهية.

وتقدم آنفاً أنَّ الميزان في معرفة المسألة الأصولية والتمييز بينها وبين القاعدة الفقهية من وجهين؛ كِلاهما متوفر في هذه القاعدة؛

أمّا الوجه الأول؛ فهي حكم كلي فرعي حصلت من نتيجة المسألة الأصولية كحجية الخبر الواحد وحجية الظواهر وغيرها بعد ضم صغراها إليها وهي عدم الاعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ من العمل أو التجاوز عن المحل, فلو انضم إلى ذلك صغراه انتج حكماً جزئياً وهو عدم اعتناء المكلف الخاص بشكه في عمله بعد الفراغ والتجاوز.

وأمّا الوجه الثاني؛ فلأنَّ المكلف يحق له الرجوع إلى هذه القاعدة وتطبيقها على عمله الذي يشك فيه فلا يعتني بشكّه بعد الفراغ أو بعد التجاوز عن المحل ولا حاجة للرجوع إلى المجتهد؛ فلا اشكال في كونها من القواعد الفقهية وليست من المسائل الأصولية.

المبحث الثاني: في كون هذه القاعدة من الأمارات الحاكمة على الأصول مطلقاً

ومنها الإستصحاب كما اختاره جمعٌ.

وأشكل عليه:

أولاً: بما ذكرناه في المباحث السابقة من أنَّ أمارية كلّ أمارة إنَّما تتحقق فيما إذا كان فيها جهة كشف ناقص, وإنَّ الشارع لم يلغِ هذه الجهة بل اعتنى بها واعتبرها كشفاً تاماً وإنْ لم

ص: 41

يكن كذلك تكويناً, كما في القطع؛ ولذلك يكون احتمال الخلاف فيها موجوداً, وهذا الملاك موجود في هذه القاعدة, فإنَّ فيها كشف وطريقية لوجود العمل التام الصحيح بعد الفراغ في مورد قاعدته أو وجود الجزء المشكوك بعد تجاوز محله في مورد قاعدة التجاوز.

ثانياً: بظهور جملة من الأخبار الواردة فيها كالتعليل الوارد في قول الإمام الصادق علیه السلام : (هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ)(1), وهو ظاهر في الأمارية بلحاظ الكشف عن وجود المشكوك, ويترتب على القول بكونها من الأمارات اعتبار مثبتاتها فيترتب عليها لوازمها العقلية.وعليه؛ إذا شك في وقوع الصلاة مع الطهارة بعد الفراغ وحكمنا بمقتضى هذه القاعدة صحة الصلاة واقترانها مع الطهارة؛ كان لازمها عقلاً ثبوت الطهارة حتى بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة فيجوز الشروع في صلاة أخرى.

وذهب آخرون إلى أنَّ هذه القاعدة من الأصول العملية تثبت وظائف مقررة للشاك في مقام العمل, واستدلوا عليه بالأخبار الواردة فيها, فإنَّ ألسنتها مختلفة؛ ففي بعض تلك الأخبار: (إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْ ءٍ لَمْ تَجُزْه)(2) وفي بعضها الحكم بأنَّه يمضي, وفي بعضها: (فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ)(3), وظاهر هذه العبارات على اختلافها أنَّها تدلُّ على الجري العملي ولا يمكن إثبات الأمارية بها.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ حجية هذه القاعدة إنْ كانت بحسب الأخبار وكونها من القواعد التعبدية فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأخبار واستفادة أحد الأمرين من الأمارية والأصل منها, وقد عرفت أنَّ ألسنة الأخبار فيها مختلفة.

ص: 42


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص471.
2- . المصدر السابق؛ ص470.
3- . المصدر السابق؛ ج8 ص237.

وأمّا إذا قلنا بأنَّ هذه القاعدة من القواعد العقلائية وحجيتها من باب بناء العقلاء على صحة المركب الذي يصدر منهم إذا شكوا في إتيانه كاملاً بعد الفراغ عنه, أو إذا شكوا في إتيان جزء بعد التجاوز عن المحل والشارع كشف عنها كما هو كذلك في جملة من القواعد الفقيهة كما هو الحق الذي ينبغي قبوله, وذلك لأنَّ العمل المركب الذي يصدر من كل عاقل فإنَّ إرادته تتعلق بإيجاد تمام أجزائه وشروطه وجميع خصوصياته, فكلُّ عمل يصدر منه مطابق لهذه الإرادة الجامعة وبعيد جداً أنْ يأتي بعمل خلاف ذلك, فالإخلال الحاصل في العمل؛ إمّا أنْ يكون عمدياً بأنْ تتعلق إرادته بترك العمل عمداً وهو خلف كما هو واضح, وإمّا أنْ تكون إرادته تتعلق بإتيان بعض الأجزاء أو الشرائط وإتيان بعض الموانع وهذا أيضاً خلف.

وإمّا أنْ يكون الترك لبعض الأجزاء أو الشرائط أو إتيان بعض الموانع عن غفلة أو نسيان بعدما تعلقت إرادته بإتيان العمل المركب جامعاً لجميع ما يعتبر فيه وجوداً وعمداً, وبما أنَّ الغفلة والنسيان حالتان عارضتان على الإنسان وهي على خلاف الأصل, لأنَّ ظاهر حال كلّ من يشتغل بالعمل الإلتفات إلى خصوصياته, والخروج عن ذلك خلاف الطبع الأولي؛ فانعقد بناء العقلاء على أصالة عدم الغفلة والنسيان عند الشك فيهما, ومن هنا يصح القول بأنَّ هذه القاعدة من صغريات أصالة عدم السهو والخطأ والغفلة والبقاء على الإرادة الإجمالية الإرتكازية الكامنة في النفس عند إرادة إتيان العمل المتدرج في الوجود, فتكون الأخبار تقريراً لذلك فلا يستفاد التعبدية المحضة منها.وعليه؛ فمِّا ورد في بعض أخبار هذه القاعدة كقول الإمام الصادق علیه السلام : (هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ)(1)؛ إنَّما هو إرشاد إلى هذا المرتكز العقلائي, فلا يستفاد منه التعبدية

المحضة كما ذكره بعضهم.

ص: 43


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص471.

لكن هذا المعنى المستفاد من بناء العقلاء هو بنفسه كاشف عن تمامية العمل وعدم الإخلال فيه والأخبار على اختلاف ألسنتها ترشد إلى هذا الكشف أيضاً؛ سواء كان لسانها الجري العملي أو لسانها الكشف عن وجود المشكوك, فإنَّ الجري العملي إنَّما هو على طريق بناء العقلاء, فلا ثمرة عليه علمية تترتب على هذا البحث من كون القاعدة أمارة أو من الأصول العملية, مع أنَّه لا إشكال في تقديم هذه القاعدة على الأصول التنزيلية كالإستصحاب فضلاً عن غير التنزيلية التي هي مقدمة عليها على كلِّ حال، سواء قلنا بأنَّها أصلاً عملياً أم أمارة, وعلى فرض كونها من الأصول التنزيلية فإنَّه لا بُدَّ من تقديمها على الإستصحاب وإلا استلزم لغوية جعلها.

أمّا ترتيب اللوازم عليها؛ إذا قلنا بأنَّها أمارة فقد سبق الكلام في أنَّه لا كلية لمقولة حجية الأمارة في مثبتاتها وعدم حجية الأصل في مثبتاته, وقد عرفت أنَّه لا دليل عليها ولا أصل لها, بل يدور اعتبار المثبتات مدار الدلالات العرفية المعتبرة في المحاورات, ومع وجودها تكون المثبتات معتبرة, وإلا فمع عدمها أو الشك فيها فلا اعتبار في المثبتات.

ويمكن القول بأنَّ هذه الدلالة العرفية موجودة في الإخباريات والحكايات لقيام السيرة على ذلك, أو لما ذكره المحقق الخرساني قدس سره (1) من أنَّ الإخبار عن الملزوم إخبار عن لازمه, وكِلاهما يرجعان إلى الدلالات العرفية فلا وجه للإشكال عليهما وتقدم تفصيل الكلام فيه.

المبحث الثالث: في أنَّهما قاعدتان أو قاعدة واحدة.

لا ريب في أنَّ قاعدة الفراغ لها من العموم بحيث تجري في جميع أبواب الفقه من العبادات كالصلاة والطهارات والحج وغيرها، والمعاملات بالمعنى الأخص كالعقود والإيقاعات,

ص: 44


1- . كفاية الأصول؛ ص93.

والمعاملات بالمعنى الأعم كالتطهير ونحوه؛ فهي من هذه الجهة مثل أصالة الصحة في فعل الغير. وأما قاعدة التجاوز فقد اختلفوا في عمومها فذهب الشيخ الأنصاري قدس سره (1) إلى العموم فتجري في جميع أبواب الفقه، ولكن خرج عن هذا العموم الوضوء بالنص الصريح الدالّ على الإعتناء بالشك في الأثناء، وألحق به التيمم والغسل بالإجماع أو المناط. وذهب المحققالنائيني قدس سره (2) إلى انها تختص بباب الصلاة، وقد خرجت الطهارات الثلاث بالتخصص فقط لا بالتخصيص، ولم يستشكل أحد في عدم جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث إما تخصيصاً أو تخصصاً واعتبروا أنّ ذلك يرجع إلى كونها قاعدة واحدة أو قاعدتان.

وكيف كان؛ فقد استدل على اختلافهما وأنهما قاعدتان بأمور:

الأمر الأول: إنّ المجعول في كل منهما مغاير للمجعول في الآخر؛ فإنّ التعبد في قاعدة التجاوز إنَّما يكون بأصل وجود المشكوك بنحو مفاد كان التامة، بينما في مورد قاعدة الفراغ يكون الوجود مفروغاً عنه بالتعبد بصحة الموجود وتماميته, أي؛ بنحو مفاد كان الناقصة فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد لأنّ التعبد في قاعدة الفراغ قد تعلق بصحة المشكوك بعد كونه مفروض الوجود، وفي قاعدة التجاوز إنّ التعبد تعلّق بأصل وجوده بعد فرض عدمه، وفرض الوجود وفرض العدم متنافيان لا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد، فتكون الكبرى المجعولة من قبل الشارع في قاعدة الفراغ غير الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز، ولا يمكن جمعهما في استعمال واحد إلا بناءً على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وهو محال.

ص: 45


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص715.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص468.

وردّه المحقق الأنصاري قدس سره من أنّ المشكوك في كلا الموردين هو الوجود بمفاد كان التامة؛ غايته أنه في قاعدة التجاوز هو وجود الجزء، وفي قاعدة الفراغ هو وجود المجموع المركب فترجع قاعدة الفراغ إلى مفاد كان التامة بالقول بأنها ترجع إلى التعبد بوجود الصحيح لا التعبد بصحة الموجود حتى يكون مفاد كان الناقصة.

وبعبارة أخرى؛ قد جعل الصحة قيداً للموضوع لا للمحمول، فيكون المحمول هو الوجود المطلق، فيكون مفاد كان التامة. ونقول عند الشك في صحة العمل الذي فرغ عنه العمل الصحيح وجد فتكون الكبرى المجعولة معنىً واحد في القاعدتين وهي التعبد بوجود الشيء.

وأورد عليه المحقق النائيني قدس سره :

أولاً: إنّ متعلق التجاوز الوارد في الأخبار في قاعدة الفراغ ذات الشيء ونفسه, وفي قاعدة التجاوز محله، ولا جامع بينهما, فإرجاع قاعدة الفراغ إلى الشك في وجود المركب من حيث المجموع وأنّ التعبّد فيها بوجود العمل الصحيح الجامع للشرائط خلاف ظاهر دليلها، فإنّ قول الإمام الصادق علیه السلام : (كُلُّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِكَ وطَهُورِكَ فَذَكَرْتَهُ تَذَكُّراً فَأَمْضِهِ ولَا إِعَادَةَ عَلَيْكَ فِيهِ)(1) ظاهر في كونأصل العمل مفروغاً عنه، وأنّ التعبد قد تعلق بصحته بخلاف دليل قاعدة التجاوز, مثل قوله علیه السلام : (إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ)(2), فإنها واردة في أنّ ظاهر الشك في أصل وجود الشيء

وأنّ التعبّد قد تعلق بأصل وجوده وتحققه، وإرجاع الأول إلى الثاني بعيد جداً.

ثانياً: إنّ التعبّد بوجود الصحيح لا يثبت صحة الموجود إلا بناءً على القول بالأصل المثبت لأنّ الأثر مترتب على صحة الموجود لا على الوجود الصحيح.

ص: 46


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص471.
2- . المصدر السابق؛ ج8 ص237.

نعم؛ قد يقال بأنه يكفي في سقوط الأمر وتحقق الإمتثال بالتعبد بوجود الصحيح.

ولكنه إن تمّ فإنما يتمّ في العبادات لأنّ الأثر يترتب فيها على التعبد بوجود طبيعي العمل المأمور به في الخارج, لأنّ العقل غرضه في العبادات هو تحصيل المؤمّن من العقاب فراراً من الإشتغال اليقيني وهو يحصل بذلك، وأما في المعاملات فلا يتمّ ذلك لأنّ الأثر في المعاملات لا يترتب على وجود طبيعي المعاملة خارجاً، بل هو مترتب على صحة المعاملة الشخصية الموجودة في الخارج بعد الفراغ عن كونها موجودة.

نعم؛ لو كانت هذه القاعدة من الأمارات وقلنا بحجيتها في مثبتاتها لا يبقى وجه لهذا الاشكال.

ثالثاً: إنّ متعلق الشك في قاعدة التجاوز هو الجزء, وفي قاعدة الفراغ هو الكل، ولاجامع بين الجزء والكل في عالم اللحاظ, لأنّ لحاظ الجزء شيئاً بحيال ذاته لا يكون إلا في الرتبة السابقة على الكل, فإنّ النسبة بين الأجزاء والكل نسبة العلية والمعلولية فيكون للأجزاء تقدم على الكل في الرتبة.

وبعبارة أخرى: إنّ شيئية الأجزاء مندكّة في شيئية الكل؛ ففي مرتبة لحاظ الكل شيئاً لا يمكن لحاظ الجزء شيئاً، إذ لا شيئية له في تلك المرتبة. فلم يكن لحاظ شيئية الجزء وشيئية الكل في مرتبة واحدة؛ وفي مرتبة لحاظ شيئية الجزء لا كلَّ في البين حتى يلاحظ له شيئية، وفي مرتبة لحاظ شيئية الكل لا شيئية للجزء لأنَّها مندكة في شيئية الكل، فالجمع بينهما في لحاظ واحد غير ممكن.

وقد أجيب عن الإيرادات الثلاثة:

أما الأول؛ فإنَّه وإن ذكر بعضهم بأنه متين جداً باعتبار كونه خلاف ظاهر الدليل فيها، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ التجاوز عن الشيء كما يصدق بالتجاوز عن نفسه والمضي

ص: 47

عنه كذلك يصدق بالتجاوز عن محله الذي عيّنه له الشارع للإطلاق الوارد في الأخبار كما ستعرف.

وقد أورد عليه المحقق النائيني قدس سره (1) بأنّ متعلق التجاوز في قاعدة الفراغ أيضاً محل الجزء المشكوك وجوده لأنّ الشك في صحة العمل المركب بعد الفراغ عنهمسبب أيضاً عن وجود ذلك الجزء المشكوك الموجود في محله, ومن المعلوم أنّ هذا الشك المسببي إنَّما يكون بعد التجاوز عن محل ذلك الجزء المشكوك الوجود.

ويرد عليه: إنَّه مضافاً إلى أنه يستلزم الإستخدام في ضمير قوله علیه السلام :ٍ (إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْ ءٍ لَمْ تَجُزْه)(2) فإنّ المراد من الشيء نفس المركب، ومن الضمير في (لم تجزه) الجزء المشكوك في وجوده، وهو معنى الإستخدام، وهو خلاف الأصل. والظاهر إنه بناءً على هذا الكلام يلزم رجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز، بل إنكار قاعدة الفراغ بالمرة. والصحيح في الجواب عن هذا الإيراد أن يقال: أنّ إطلاق قول أبي جعفر علیه السلام : (كُلُّ مَا شَكَكْتَ فِيهِ مِمَّا قَدْ مَضَى فَامْضِهِ كَمَا هُوَ)(3). وإطلاق قول أبي عبد الله علیه السلام : (كُلُّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِكَ وطَهُورِكَ فَذَكَرْتَهُ تَذَكُّراً فَأَمْضِهِ ولَا إِعَادَةَ عَلَيْكَ فِيهِ)(4) يشمل كلتا القاعدتين. نعم؛ قوله علیه السلام : (إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ)(5)؛ إنَّما هو لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل كجريانها بعد الفراغ، فلا يستفاد التعددية كما لا يستفاد التعبدية المحضة كما عرفت. وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 48


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص623.
2- .وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص470.
3- . المصدر السابق؛ ج8 ص238.
4- . المصدر السابق ؛ ج1 ص471.
5- . المصدر السابق؛ ج8 ص237.

وأما الثاني؛ فيرد عليه بأنه ليس مراد الشيخ قدس سره من مفاد قاعدة الفراغ الذي هو التعبد بتحقق العمل الصحيح وجود طبيعي العمل خارجاً من أيّ فاعل؛ فإنَّه بناءً على هذا لا ينفع جريانها في العبادات أيضاً, لأنّ وجود طبيعي العمل المأمور به خارجاً ولو من غير المكلف لا يوجب أمنه من العقاب ولا فراغ ذمته، بل المراد وجود العمل الصحيح من شخص المكلف الشاكّ بلا فرق بين المعاملات والعبادات، فتجري في الأول كما تجري في الثاني.

وأما الثالث؛ فيرد عليه بأنّ عالم اللحاظ وسيع جداً يصحّ اجتماع اللحاظ التبعي والإستقلالي فيه، بل في استعمال واحد وهو شائع في المحاورات، والأمر عادي عند الناس فإنّ كل متكلم تجتمع عنده اللحاظات في كلامه فإنّ أجزاء الكلام ملحوظة تبعاً وتمامها ملحوظ استقلالاً، وعلى فرض التنزّل فإنّ ما لا يمكن الجمع بينهما في لحاظ واحد هو الجزء بعنوان أنه جزء, والكل بعنوان أنه كل، لا الجزء والكل بعنوان أنهما موجودان وشيئان كسائر الأشياء؛ فالجزء والكل شيء بعناية واحدة وهي أنهما موجودان، فالذي لا يمكن هو لحاظ الكل والجزء بعنوانهما الخاص في لحاظ واحد واستعمال واحد من لفظ واحد دون الثاني. فما ذكره المحقق النائيني قدس سره من الإيراد على كلام المحقق الأنصاري قدس سره غير تام.الأمر الثاني: ومما استدل به على تغاير القاعدتين ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) وغيره من انه لو كانت القاعدتان قاعدة واحدة استلزم لحاظ الجزء بلحاظ استقلالي وبلحاظ تبعي في دليل واحد وهو محال, لان التعبد في قاعدة الفراغ إنَّما هو بتحقق المركب من حيث المجموع, وفي قاعدة التجاوز بتحقق الجزء بما هو جزء فيلزم من الجمع بينهما بدليل واحد اجتماع اللحاظين.

ص: 49


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص465.

وفيه: مضافاً إلى ما ذكرناه آنفاً من إمكان ذلك أن مقتضى الإطلاق هو الشك بعد التجاوز عنه سواء كان جزءً أو كلاً فلم تلحظ خصوصية المركب ولا خصوصية الجزء بما هو، فإنَّ كل ذلك ملغىً؛ لا سيما بعدما ذكرناه مكرراً من أن المراد من الإطلاق رفض القيود لا أخذها, فيكون موضوع الحكم المطلق هو الكلي الملغى عنه جميع الخصوصيات ففي المقام فإنّ موضوع الحكم ما شك فيه بعد التجاوز عنه؛ سواء كان كلاً أم جزءاً فلا يلزم الجمع بين اللحاظين.

وربما يورد على ذلك بأنَّ معنى التجاوز في قاعدة الفراغ حقيقي لا يحتاج إلى عناية لأنه الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل المركب، ولكن في مورد قاعدة التجاوز مجازي يحتاج إلى عناية لأن المشكوك فيها أصل وجود الجزء أو الشرط وهذه العناية؛ أما في الإسناد بأن يكون التجاوز مسنداً حقيقة إلى محل الجزء أو الشرط وأسند مسامحة إلى نفسه, وأما في اللفظ والإضمار والتقدير وكلاهما خلاف الأصل والقاعدة فالجمع بين إرادة المعنى الحقيقي والمجازي معاً في استعمال واحد غير صحيح فلا بُدَّ أن يكونا قاعدتين.

ويظهر الجواب عنه مِمّا تقدم وأما الجواب عنه بإمكان إرجاع الشك في صحة المركب إلى الشك في وجود الجزء أو الشرط وهو الذي يهتم به المكلف الذي يحصل به الإمتثال فيكون

التجاوز باعتبار محله فيكون إطلاقه بعناية في الجميع.

فإنَّه قد عرفت الإشكال فيه بأنه يستلزم في قوله علیه السلام : (إنَّما الشك في شيء لم تجزه) كما أنه يستلزم إنكار قاعدة الفراغ رأساً.

الأمر الثالث: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره أيضاً من أنه لو كانتا قاعدتين لا يلزم محذور، وإن كانتا قاعدة واحدة لزم التضاد في دليل قاعدة الفراغ فإن قول الإمام الصادق علیه السلام : (كُلُّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِكَ وطَهُورِكَ فَذَكَرْتَهُ تَذَكُّراً فَأَمْضِهِ ولَا إِعَادَةَ عَلَيْكَ فِيهِ) بمنطوقه

ص: 50

يدل على عدم الإعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ، وبمفهومه يدل على الإعتناء به إذا كان قبل الفراغ. فالشك في إتيان الجزء بعد التجاوز في الأثناء يكون مورداً للمفهوم فإنَّه بناءً على كونهما قاعدتين يكون دليل التجاوز وارداً في مورد المفهوم فيقدم عليه بالحكومة أو التخصيص فلا تدافع,وأما إذا كانتا قاعدة واحدة فالشك في الجزء أو الشرط في الأثناء يكون داخلاً تحت المنطوق والمفهوم باعتبارين؛ فمن حيث شمول الرواية للمركب يكون الشك في الجزء قبل المضيّ فلا بُدَّ من الإعتناء به بمقتضى المفهوم, ومن حيث شمولها للشك في الجزء بعد تجاوز محله فلا بُدَّ من عدم الإعتناء به، فيلزم التدافع فلا بُدَّ أن تكونا قاعدتين دفعاً للمحذور.

ويرد عليه: إنَّه لا خلاف من أحد في تغاير موردهما واختصاص قاعدة الفراغ بما بعد العمل والتجاوز بالأثناء, فلا تجري قاعدة الفراغ في الأثناء حتى يلزم التدافع والتناقض. ولكن ذلك لا يوجب تعددها بعد إمكان إدراجهما تحت عنوان كلي كما تقدم بيانه، وذلك لما عرفت من أنّ الدليل له من الإطلاق ما يشمل الشك في الشيء سواء كان جزءً أم كلاً، والمجموع المركب ومرجع الشك فيه هو الشك في وجود العمل الصحيح التام. فإذا حكم الشارع بإلغاء الشك والتعبد الشرعي بالصحة فلا يبقى مجال حينئذٍ للتهافت كما هو واضح.

وقد استدلوا على تعدد القاعدتين بأمور أخرى مردودة، وقد عرفت عدم تمامية الجميع. والحق أن يقال: إن كل ما ذكروه تطويل لا طائل تحته، فإنَّه لا ثمرة عملية بل ولا علمية معتدٌ بها من كونهما قاعدتين أو قاعدة واحدة إلا ما قيل من أنه مع الوحدة لا بُدَّ أن تجري قاعدة الفراغ في الأثناء في كل مورد تجري فيه قاعدة التجاوز، وأن تجري قاعدة التجاوز في الوضوء مع أنه لا قائل بذلك.

وفيه: إنه بناء على الوحدة أيضاً يكون لكل منهما خصوصية لدليل دلّ عليها بالخصوص، وذلك لا ينافي وحدة أصل الكبرى كما عرفت.

ص: 51

والحاصل؛ إنه بناءً على كون القاعدتين من أفراد أصالة عدم السهو والغفلة والخطأ؛ فلا إشكال في وحدتهما كما لا يخفى، وكذا بناءً على كونهما من التعبديات المحضة لأنّ إطلاق قول أبي جعفر علیه السلام : (كُلُّ مَا شَكَكْتَ فِيهِ مِمَّا قَدْ مَضَى فَامْضِهِ كَمَا هُوَ). وقول أبي عبد الله علیه السلام : (كُلُّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِكَ وطَهُورِكَ فَذَكَرْتَهُ تَذَكُّراً فَأَمْضِهِ ولَا إِعَادَةَ عَلَيْكَ فِيهِ) يشملهما معاً.

إلا أنّ قوله علیه السلام : (إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ) إنَّما ورد لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل أيضاً كجريانها بعد الفراغ، وليس في مقام تشريع قاعدتين مختلفتين. وأمّا اشتراط الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ففيه بحث يأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا وجه لإرجاع الفراغ إلى قاعدة التجاوز، أو بالعكس فإنّ فيه من التكلّف ما لا يخفى. إلا إنّ المحقق النائيني قدس سره ذكر وجهاً آخر لإرجاع القاعدتين إلى قاعدة الفراغ بدعوى؛ أنّ المجعول هو التعبد بعدم الإعتناء بالشك إذا كان بعد الفراغ والتجاوز في المركب، ثم في خصوص باب الصلاة اعتبر الشارع الجزء بمنزلة الكل وجعل التجاوز عن محله بمنزلة التجاوز عنالمركب. فبالتعبد أوجد صغرى تعبدية لقاعدة الفراغ التي هي الشك بعد العمل المركب، ويمكن الإستدلال عليه بقوله علیه السلام في خبر ابن أبي يعفور عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْ ءٍ مِنَ الْوُضُوءِ وقَدْ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ شَكُّكَ بِشَيْ ءٍ؛ إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْ ءٍ لَمْ تَجُزْهُ)؛ فإنَّها تشتمل على الأصل وهو عدم الإعتناء بالشك بعد الفراغ عن العمل المركب والعكس وهو الإعتناء به إذا كان قبل التجاوز عنه إلا أنّ صحيحة زرارة وغيرها تصرّح بعدم الإعتناء بالشك في أجزاء الصلاة في الأثناء بعد التجاوز عن محل الأجزاء، كما عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ

ص: 52

اللَّهِ علیه السلام رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ وقَدْ دَخَلَ فِي الْإِقَامَةِ؟ قَالَ: (يَمْضِي. قُلْتُ: رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ والْإِقَامَةِ وقَدْ كَبَّرَ؟ قَالَ: يَمْضِي. قُلْتُ: رَجُلٌ شَكَّ فِي التَّكْبِيرِ وقَدْ قَرَأَ؟ قَالَ: يَمْضِي. قُلْتُ: شَكَّ فِي الْقِرَاءَةِ وقَدْ رَكَعَ؟ قَالَ: يَمْضِي. قُلْتُ: شَكَّ فِي الرُّكُوعِ وقَدْ سَجَدَ؟ قَالَ: يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ؛ ثُمَّ قَالَ: يَا زُرَارَةُ؛ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ)(1)؛ فإنَّه علیه السلام جعل التجاوز عن محل الجزء كالتجاوز عن المجموع المركب في غير الصلاة. ومن ذلك يستفاد أنّ قاعدة التجاوز مرجعها إلى قاعدة الفراغ.

وفيه: ما عرفت من أنّ الملاك والكبرى في القاعدتين هو التجاوز، والمضيّ بعد الشك في الشيء سواء كان جزءاً أم مجموع المركب من هذه الناحية واحدٌ.

وبناء عليه تجري قاعدة الفراغ في مورد جريان قاعدة التجاوز، وبالعكس وإن اختص الشك في أثناء العمل باسم قاعدة التجاوز خاصة.

ولا مجال لما ذكره السيد الخوئي قدس سره (2) في الرد على المحقق النائيني قدس سره من جعل الملاك في قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز واحد وهو الشك في الصحة سواء كانت صحة مجموع

العمل بعد الفراغ عنه, أو صحة الجزء بعد التجاوز عن محله.

وقد عرفت الجواب عنه مِمّا سبق فلا مانع ثبوتاً وإثباتاً من إرجاع القاعدتين إلى قاعدة واحدة.

وسيأتي مزيد توضيح عند ذكر الأخبار الواردة في المقام.

ص: 53


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص237.
2- . دراسات في علم الأصول؛ ج4 ص281.

المبحث الرابع: في ذكر الأخبار الواردة في الباب

وهي كثيرة نذكر منها ما يلي:1- ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن أبي يعفور عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْ ءٍ مِنَ الْوُضُوءِ وقَدْ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ شَكُّكَ بِشَيْ ءٍ؛ إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْ ءٍ لَمْ تَجُزْهُ).

وهو ظاهر في الشك في أثناء العمل، وقد ذكرنا سابقاً أنه لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل، واصطلح عليه بقاعدة التجاوز فلا يستفاد منه التخصيص.

2- ما رواه الشيخ أيضاً عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ وقَدْ دَخَلَ فِي الْإِقَامَةِ؟ قَالَ علیه السلام : (يَمْضِي قُلْتُ: رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ والْإِقَامَةِ وقَدْ كَبَّرَ؟. قَالَ علیه السلام : يَمْضِي. قُلْتُ: رَجُلٌ شَكَّ فِي التَّكْبِيرِ وقَدْ قَرَأَ؟ قَالَ علیه السلام : يَمْضِي. قُلْتُ: شَكَّ فِي الْقِرَاءَةِ وقَدْ رَكَع؟ قَالَ علیه السلام : يَمْضِي. قُلْتُ: شَكَّ فِي الرُّكُوعِ وقَدْ سَجَدَ؟ قَالَ علیه السلام : يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ؛ ثُمَّ قَالَ علیه السلام : يَا زُرَارَةُ؛ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ)(1).

إنّ صدر الحديث يدل على كبرى كلية في الشك في الجزء والدخول في غيره، ولكن ذيله له من الإطلاق ما يشمل المضي عن العمل أيضاً فيكون الشك في الأثناء والشك بعد الفراغ من العمل على حدٍّ سواء، فهو في مقام بيان كبرى كلية تنطبق على كلا الموردين ولها من العموم ما يشمل الصلاة وغيرها إلا ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من اختصاصه -أي قاعدة التجاوز- بباب الصلاة، فتخرج سائر المركبات عن عمومها إما تخصصاً وإما تخصيصاً بلا فرق في ذلك بين الطهارات الثلاث وغيرها. وأنت خبير بأنه بناء على هذا

ص: 54


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص237.

الكلام يلزم إنكار قاعدة التجاوز والإلتزام بجريان قاعدة الفراغ في خصوص أجزاء الصلاة دون سائر المركبات العبادية، وبالأحرى إنه التزم بأنّ هناك قاعدة واحدة وهي قاعدة الفراغ ولكنها لا تجري إلا في أجزاء الصلاة بواسطة التنزيل، وهو بعيد جداً عن سياق الحديث، بل يأباه الذوق السليم الذي يحكم بأنّ قوله علیه السلام : (إنَّما الشك في شيء لم تجزه) له من الإطلاق والعموم ما يشمل الصلاة وأجزائها وغيرها من العبادات من المركبات التي لأجزائها محل شرعي، فهو يبين أنّ المناط هو التجاوز عن المحل الشرعي، فلا وجه لتخصيصه بخصوص أجزاء الصلاة. نعم؛ عدم جريانها في الطهارات الثلاث يكون لجهة أخرى كما سيأتي بيانه.

3- موثقة ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (كُلُّ مَا شَكَكْتَ فِيهِ مِمَّا قَدْ مَضَى فَامْضِهِ كَمَا هُوَ).

وهذا الحديث له من الإطلاق ما يشمل الجزء والكل.

4- معتبرة إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام : (إِنْ شَكَّ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَمَا سَجَدَ فَلْيَمْضِ, وإِنْ شَكَّ فِي السُّجُودِ بَعْدَمَا قَامَ فَلْيَمْضِ؛ كُلُّ شَيْ ءٍ شَكَّ فِيهِ مِمَّا قَدْ جَاوَزَهُ ودَخَلَ فِي غَيْرِهِ فَلْيَمْضِ عَلَيْهِ)(1).

وهو وإنْ كان مختصاً بالتجاوز في أثناء العمل ولكن يصحّ أنْ يقال بأن ما ورد في الحديث تطبيق لتلك الكبرى الكلية التي دلّ عليها ما تقدم من الأخبار.

5- ما رواه حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : أَشُكُّ وأَنَا سَاجِدٌ؛ فَلَا أَدْرِي رَكَعْتُ أَمْ لَا؟. فَقَالَ علیه السلام : (قَدْ رَكَعْتَ؛ امْضِهْ)(2).

ص: 55


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج6 ص318.
2- . المصدر السابق؛ ص317.

وهو كسابقه في ذكره لبعض المصاديق، فلا يدل على الإختصاص.

6- موثقة بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: قُلْتُ لَهُ(1) الرَّجُلُ يَشُكُّ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ؟. قَالَ علیه السلام : (هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ)(2).

وهو يدل على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء وإن جرت فيه قاعدة الفراغ.

وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

هذه جملة من الأخبار، وهناك روايات أخرى لا تخلو عن نقاش في استفادة الكبرى الكلية, ولكن فيما ذكرناه غنىً وكفاية.

والمتحصل من جميع الأخبار ما يلي:

أولاً: ثبوت القاعدتين شرعاً بلا ريب ولا إشكال.

ثانياً: إنها وإن كانت ظاهرة في التعبدية، ولكن قد عرفت أنهما لو كانتا من صغريات أصالة عدم السهو والغفلة والخطأ فلا يمكن استفادة التعبدية المحضة كما تقدم بيانه.

ثالثاً: إستفادة الكبرى الكلية منها مع تطبيقها على بعض الصغريات في الصلاة وأجزائها؛ فإنّ لكلمة (الشيء) الواردة في الموثقتين معنى عام يشمل الجزء والكل, وإنّ الخروج والتجاوز لهما من الإطلاق ما يشملهما فيكون للتجاوز مصداقان: أحدهما؛ التجاوز عن محله الذي عيّن له الشارع، وبهذا الإعتبار يقال لها قاعدة التجاوز.

والآخر؛ التجاوز عن نفسه بالفراغ عنه.

وبهذا الإعتبار يشمل قاعدة الفراغ، والجامع بينهما هو عنوان المضي والتجاوز الوارد في الروايات المتقدمة من دون أن يلزم محذور في البين.

ص: 56


1- . الإمام الصادق علیه السلام .
2- . المصدر السابق؛ ج1 ص471.

رابعاً: إنّ مفهوم الحصر في موثقة ابن أبي يعفور (إنَّما الشك في شيء لم تجزه) يدل على أنّ التجاوز عن شيء، فعدم الشكّ يعني إلغاء الشارع له والتعبد بعدمه, وعلى هذا يكون حال الحديث حال سائر الأخبار الواردة من استفادة كبرى كلية؛ وهي عدم الإعتناء بالشك في كل شيء إذا تجاوز عنه سواء كان ذلك الشيء أحد أجزاء المركب أو نفسه، فلا فرق في حكم الشارع بعدم الإعتناء بالشك بعد التجاوز عن المشكوك والخروج عنه والدخول في غيره بأن يكون الخروج عن مجموع المركب وبين الخروج عن جزء من أجزاءه والدخول في غيره، وإن كان المراد من الخروج عن الجزء باعتبار محله.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ الأخبار لها من الظهور الذي يدركه كل من له ذوق مستقيم وطبع سليم في أنها تدل على قاعدة واحدة، وأنّ الكبرى التي بيّنتها الأخبار تنطبق على كلتا القاعدتين، فالأمر أوضح من أن يخفى. فما ذكره بعضهم من أنّ دلالتها على كونهما قاعدتين لا شك فيه؛ لا وجه له، كما هو واضح مِمّا قدمناه.

المبحث الخامس: في معنى التجاوز والفراغ

بعدما ظهر أنهما قاعدة واحدة, فالتجاوز المعتبر في قاعدة التجاوز الوارد في الروايات والفراغ المعتبر في قاعدة الفراغ يرجعان إلى معنى واحد وهو التجاوز عن المشكوك والدخول في غيره إلا أنّ لهذا المفهوم مصداقين:

أحدهما؛ التجاوز عن نفس الشيء، بمعنى إتمام وجوده والمضي عنه. وهذا هو مورد قاعدة الفراغ.

والآخر؛ التجاوز عن محله. وهذا مورد قاعدة التجاوز.

وفي كل منهما جعل الشارع موضوع حكمه هو التعبد بعدم الإعتناء بالشك في هذين العنوانين اللذين كلاهما مصداقان حقيقيان لمفهوم التجاوز عن الشيء، ولم يستلزم من

ص: 57

هذا الإطلاق أي تجوّز وإضمار كما ذكره بعضهم مِمّا نبهنا عليه سابقاً، لأنّ التجاوز عن المحل الذي عيّنه الشارع لشيء يكون تجاوزاً عن ذلك الشيء حقيقة بأنّ كل عمل مركب شرعي ذي أجزاء؛ فإنّ أي جزء من أجزائه التدريجية في الوجود قد جعل الشارع لإيجاد أجزائها ترتيباً يكون كل جزء له محل شرعي لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه، وهذا واضح.

وكيف كان؛ فإنّ الفراغ في مورد قاعدة الفراغ على أنحاء ثلاثة:

1- الفراغ الواقعي.

2- الفراغ الإحرازي بوجه معتبر.

3- الفراغ العرفي البنائي؛ بمعنى صدق عنوان الفراغ عن العمل ومضيّ المركب عرفاً، وهو يتحقق بما إذا كان المكلف يرى نفسه فارغاً فإذا رأى المصلي نفسه فارغاً عن الصلاة بعدما كان بانياً عليه بحسب حاله.أما الأول؛ (وهو الفراغ الحقيقي الواقعي) فهو من مجرد الإحتمال، لأنَّه يستلزم منه منافاته لتحقق الشك إذ لا يجتمعان حقيقة.

وأما الثاني؛ فإنّ إرادته تحتاج إلى دليل وهو مفقود، مع أنه خلاف التسهيل والامتنان الذي تبتني عليه مثل هذه القواعد الإمتنانية، فيتعين الأخير(1) الذي هو الموافق لسهولة الشريعة، ويوافق الفهم العرفي أيضاً فيشمل كل مورد يكون العامل بانياً بحسب حاله على الفراغ عنه وشك في صحته؛ فلا بُدَّ أن تجري هذه القاعدة في حقّه وإن كان منشأ الشك في إتيان الجزء الأخير من العمل المركب، ويقابله ما إذا كان بانياً على أنه في أثناء العمل فتجري قاعدة التجاوز حينئذٍ، ولا تجري قاعدة الفراغ لعدم تحقق شرطها. هذا إذا كان المكلف

ص: 58


1- . وهو الفراغ العرفي البنائي، أي النحو الثالث.

عالماً بحاله من البناء على الفراغ أو البناء على أنه في العمل. وأما إذا شك في أنه بانٍ على الفراغ ولم يعلم بحاله فلا يمكن الرجوع لدليل قاعدة الفراغ لأنَّه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه, بل المرجع أصالة عدم الفراغ عن العمل فيكون في أثناء العمل.

وأما التجاوز؛ فإنّ المراد منه المضي عن محل الجزء المشكوك نفسه, إذ مع الشك فيه لا يعقل التجاوز عنه. والمحل الذي يعتبر في مورد قاعدة التجاوز على أنحاء أيضاً:

1- المحل الشرعي؛ وهو يتحقق في العمل المركب التدريجي الذي جعل الشارع لإيجاد أجزائه ترتيباً، فيكون لكل جزء محل شرعي لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه.

2- المحل العادي؛ وهو الذي يحصل به الترتيب بحسب العادة، كما إذا كانت عادته على الوضوء بعد كل حدث أصغر أو الغسل بعد كل حدث أكبر.

3- المحل الحقيقي؛ والذي يصدق عليه تكويناً وبفقده ينتفي المركب كما في المركبات التكوينية الخارجية من أجزاء حقيقية، ولا ريب في عدم اعتبار الأخير.

كما لا ريب في صدق التجاوز والمضيّ في المورد الأول لما عرفت من أنّ جميع أجزاء المركبات التدريجية في الوجود التي جعل الشارع لإيجادها ترتيباً خاصاً، فكل جزء له محل شرعي لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه, ومن هنا كان المضيّ والتجاوز في هذا القسم حقيقياً.

وأما التجاوز والمضي من المحل العادي للجزء فقد وقع الكلام في أنّ التجاوز عن المحل العادي للشيء يكون تجاوزاً عن الشيء حقيقةً كالتجاوز عن المحل الشرعي أو لا؛ فإن صدق عليه التجاوز حقيقةً كما يصدق على المحل الشرعيحقيقةً فتنطبق عليه الكبرى الواردة فيما تقدم من الروايات؛ مثل قول الإمام الصادق علیه السلام في صحيح زرارة: (يَا زُرَارَةُ؛ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ء), وإن لم يصدق عليه التجاوز حقيقةً فلا تدخل تحت الكبرى. ويترتب عليه ثمرات فقهية مهمة مثل ما إذا كان

ص: 59

من عادته الوضوء عقيب الحدث الأصغر, أو الغسل عقيب الحدث الأكبر؛ فلو شك في وقت من الأوقات أنه توضأ عقيب الحدث الأصغر، أو اغتسل عقيب الحدث الأكبر؛ فعلى التعميم لا بُدَّ من القول بالطهارة في الموردين، وإلا فلا بُدَّ من الوضوء والغسل لاستصحاب الحدث. وقد عرفت أنّ صدق التجاوز عن المحل الشرعي يكون صدقاً حقيقياً بلا تجوّز ولا إضمار. وعليه؛ لا وجه لإلحاق المحل العادي بالمحل الشرعي لأنَّه لم يرد في أخبار المقام (التجاوز عن المحل) حتى يقع البحث في أنّ لفظ المحل له عموم يشمل المحل العادي أو لا، بل الموجود فيها عنوان (المضي عن الشيء والتجاوز عنه) وأمثال ذلك، وهي لا تصدق على المحل العادي.

قد يقال: إنه لا بُدَّ من تقدير لفظ (المحل) من باب دلالة الإقتضاء صوناً للكلام عن اللغوية، كما قالوا بتقدير (الأهل) في قوله تعالى: (وَسْئَلِ ألْقَريَةَ)(1).

وعليه؛ يكون لفظ المحل المقدر أعم من المحل الشرعي والعادي.

وفي مقام الجواب نقول:

أولاً: إنه لا ملزم لهذا التقدير -كما عرفت من كون صدق التجاوز بالمعنى الحقيقي- على التجاوز عن المحل الشرعي من دون حاجة إلى التقدير.

ثانياً: إنه على فرض القول به وبكناياته بقبول دلالة الإقتضاء -وهو غير عادم النظير كما ذكرنا في الآية الشريفة وغيرها- ولكن تطبيق الإمام الصادق علیه السلام الكبرى التي ذكرها في قوله علیه السلام (إنَّما الشك في شيء لم تجزه) وأمثالها على الشك في وجود الأجزاء بعد التجاوز عن محلها الشرعي كما في صحيح زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ وقَدْ دَخَلَ فِي الْإِقَامَةِ؟. قَالَ علیه السلام : (يَمْضِي. قُلْتُ: رَجُلٌ شَكَّ فِي الْأَذَانِ والْإِقَامَةِ وقَدْ

ص: 60


1- . سورة يوسف؛ الآية 82.

كَبَّرَ؟. قَالَ علیه السلام : يَمْضِي...) وهكذا؛ سؤال السائل في الأجزاء بعد تجاوز المحل الشرعي, فإنّ الإمام علیه السلام يقول: يَمْضِي, ثم أخبر عن كبرى كلية بقوله علیه السلام : (يَا زُرَارَةُ؛ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ء)؛ فإنّ المنصرف من جميع ما ورد في هذه الرواية هو المحل الشرعي والخروج عنه، والتجاوز والمضي عنه، وهو القدر المتيقن منه. هذا، ولكن يمكن توجيه الشمول بأحد وجهين:الأول: إنها من القواعد الإمتنانية، ومقتضى سهولة الشريعة وسماحتها هو القول بالشمول للمحل العادي.

الثاني: تنزيل المحل العادي منزلة المحل الشرعي, والإدعاء بأنه مطلوب للشارع أيضاً لا سيما إذا كانت تلك العادة مِمّا ندب إليها الشارع كما في المثال المتقدم في الوضوء والغسل.

وهذا التنزيل أولى مِمّا ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) في المقام؛ حيث استدل على الإختصاص بالمحل الشرعي بأنه هو الذي عيّن له الشارع كما في المركبات المترتبة الأجزاء فيتنزل منزلة التجاوز عن نفس الشيء والإدّعاء بأنه هو, ومن المعلوم أنّ مثل هذا التنزيل والإدّعاء من طرف الشارع لا يكون إلا بالنسبة إلى المحل الشرعي الذي عيّن له، وأما المحل العادي فهو أجنبي عن تنزيله، ولكنه بعيد لما عرفت من أنّ التجاوز عن الشيء كما أنه يتحقق بإيجاد الشيء والفراغ عنه, كذلك يتحقق حقيقة، لا ادّعاءً بالتجاوز عن المحل الذي عيّن الشارع له في المركبات التدريجية.

وقد استشكل على التعميم بأنَّه بناء عليه يستلزم تأسيس فقه جديد، وهو بنفسه محذور ولو لم يكن محذور آخر في البين ولكن لا يخفى أنه ليس لهذه المقولة ضابطة كلية وإن استدل بها في موارد كثيرة في الفقه.

ص: 61


1- ..فوائد الأصول؛ ج4 ص627.

فالحق أن يقال بأنّ الشمول للمحل العادي وإن كان موافقاً للإمتنانية والتسهيل والإدّعاء ولكن القول به مخالف لمشهور القائلين بالإختصاص بالمحل الشرعي، فالإحتياط يقتضي عدم الإلحاق.

المبحث السادس: في اعتبار الدخول في الغير

اشارة

والكلام فيه يقع من جهات:

الجهة الأولى: في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ

والحق؛ عدم اعتباره فيها لأنّ المناط في جريان هذه القاعدة هو الفراغ عن العمل والمضيّ عنه، وهو يتحقق بالصدق العرفي -كما بيَّناه آنفاً- وهو يصدق على المضيّ البنائي عن العمل بأن يرى المكلف نفسه بانياً على الإنتهاء من العمل من دون حاجة إلى الدخول في الغير، وهو مقتضى الأصل والإطلاقات وظهور التسالم.

وتفصيل الكلام فيه تارةً؛ يكون من حيث التماس الإطلاق ليعمّ مورد الشك في الصحة قبل الدخول في الغير، فيكون البحث من حيث وجود المقتضي لعدم اعتبار الدخول في الغير, وأخرى؛ يكون من حيث المانع بعد ثبوت المقتضي وهو الإطلاق، فهل يكون في البين دليل يوجب تقييد العموم وتخصيص الإطلاق.أما الأولى(1)؛ فإنّ بعض الأخبار الواردة في المقام لها من العموم أو الإطلاق مِمّا يدل على عدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ كما هو ظاهرموثقة ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (كُلُّ مَا شَكَكْتَ فِيهِ مِمَّا قَدْ مَضَى فَامْضِهِ كَمَا هُوَ)؛ فإنّ عمومها يدل على عدم الإعتبار، وهكذا إطلاق قول الإمام الصادق علیه السلام في موثقة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ: (إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْ ءٍ لَمْ تَجُزْه). وغيرها.

ص: 62


1- . وهي التماس الإطلاق في الدليل.

وأما الثانية(1)؛ فتكون من جهات:

منها؛ إنّ المطلق ينصرف إلى أفراده الشائعة؛ ولا يعمّ الأفراد النادرة والأفراد الشائعة للشك فيما مضى الدخول في الغير.

وفيه: قد ذكرنا في مواضع متعددة أنه لا يصحّ تخصيص المطلق بالفرد النادر، بل هو مستهجن؛ إذ بناءً عليه لا يبقى مورد للتمسك بالإطلاق إلا نادراً مع أنه لم يستشكل أحد في التمسك بإطلاق الأخبار في جميع الموارد.

ومنها؛ وجود القدر المتيقن في البين؛ فإنّ المتيقن من الشك فيما مضى ما إذا كان بعد الدخول في الغير.

ويرد عليه: مضافاً إلى أنّ وجود القدر المتيقن لا يمنع من التمسك بالإطلاق؛ إنه على فرض التسليم لا يمنع من التمسك بالعموم في الرواية الأخرى.

ومنها؛ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنّ التمسك بالإطلاق إنَّما يكون في الماهية التي يكون صدقها على جميع أفرادها على حدّ سواء, كالماء الصادق على ماء الفرات ودجلة والبحر والحوض وغيرها بنحو واحد. وأما الماهية التشكيكية فلا يصحّ فيها التمسك بالإطلاق, كعنوان الحيوان فإنَّه لغةً وإن كان يصدق على الإنسان أيضاً إلا أنه منصرف عنه عرفاً, ولذا لو أطلق على أحد استنكر ذلك، ففي مثله لا يمكن لأحد التمسك بالإطلاق. ولذا لم يتمسك أحد بإطلاق موثقة ابن أبي بكير الواردة في لباس المصلي للحكم بفساد الصلاة في شيء من أجزاء الإنسان كشعره ولعابه مثلاً.

وفي المقام؛ إنّ المضيّ عن المشكوك ماهية تشكيكية يكون في صدقه على ما قبل الدخول في الغير خفاء فلا يمكن الأخذ بإطلاقه.

ص: 63


1- . وهي موانع التمسك بالإطلاق أو العموم بعد ثبوت المقتضي.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص436.

ويرد عليه: إنّ التشكيك في الماهية على النحو الذي ذكره في سائر العلوم صحيح، وأما في مقام الألفاظ فإنّ التشكيك المعتبر فيها هو الظهور والأظهرية بأن يكون صدق الماهية على جميع أفرادها ظاهراً إلا أنّ صدقها على بعضها أظهر من صدقها عل البعض الآخر, وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق, بلأكثر المطلقات من هذا القبيل. نعم؛ لو كان الصدق على فرد خفياً كصدق الحيوان على الإنسان حيث لا يراه العرف فرداً لتلك الطبيعة، وفي مثل هذا يتمّ ما أفاده قدس سره . وهذا النوع يختلف باختلاف المجتمعات والأعصار والعادات؛ فمثلاً كلمة الدابة تطلق في العصر الحاضر على الحيوانات ذوات الأربع, ولكن بحسب اللغة تطلق على كل ما يدبّ في الأرض. وعلى هذا ورد في بعض الأخبار في تفسير قوله تعالى: (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ)(1) أنه الإمام المنتظر عج الله تعالی فرجه الشریف ، فمن استنكر ذلك إنَّما لأجل الإطلاق المتعارف في عصرنا، بينما التفسير يرجع إلى المعنى اللغوي الذي كان متعارفاً في عصر نزول القرآن.

والحاصل؛ إنه لا إشكال في وجود المقتضي لعدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ، فهو تامّ من هذه الجهة وهو الإطلاق في إحدى الروايتين، والعموم في الأخرى؛ نعم؛ مثل قوله علیه السلام : (إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ), وقوله علیه السلام في الصحيح: (فَإِذَا قُمْتَ مِنَ الْوُضُوءِ وفَرَغْتَ فَقَدْ صِرْتَ فِي حَالٍ أُخْرَى؛ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ؛ فَشَكَكْتَ فِي بَعْضِ مَا سَمَّى اللَّهُ مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ فِيهِ وُضُوءاً فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْكَ)؛ فإنها تدل على اعتبار الدخول في الغير، وبها يقيد إطلاق أو عموم ما دلَّ على عدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ.

ص: 64


1- . سورة النمل؛ الآية 82.

وفيه:

أولاً: إنّ ظاهر الرواية الأخيرة إنَّما هو لتوضيح الفراغ وبيان له, لأنَّه لا ريب في أنّ من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء هو الصيرورة في حال أخرى غير ما كان مشغولاً به أولاً, فهو علیه السلام ليس في مقام بيان القيد الشرعي في مورد قاعدة الفراغ. وعليه؛ فإن كانت الرواية لبيان هذه الجهة التي هي من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء فهو مسلّم عند الجميع، وأما إذا كانت في مقام بيان التعبّد الشرعي فهي قاصرة عن إثباته.

ثانياً: في موثقة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْ ءٍ مِنَ الْوُضُوءِ وقَدْ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ شَكُّكَ بِشَيْ ءٍ؛ إنَّما الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْ ءٍ لَمْ تَجُزْه)؛ إنْ كان مرجع الضمير في (غَيْرِهِ) الوارد هو المشكوك، أي دخلت في غير المشكوك, فيكون هو مفاد قاعدة التجاوز، فهي لا تجري في الوضوء الذي هو مورد الرواية فينتفي الظهور فيها كما هو واضح، إذ لا وجه لثبوت الظهور في مورد وانتفاءه في مورد آخر, وإما أن يكون المرجع هو الوضوء، أي غير الوضوء من سائر الحالات فهو وإن كان مفاد قاعدة الفراغولكن يجري فيه الكلام الذي تقدم آنفاً من أنه في مقام بيان اللازم التكويني للفراغ، وعلى فرض عدم الترجيح لأحد الإحتمالين تكون مجملة.

ثالثاً: إنّ الأمر كذلك في معتبرة اسماعيل بن جابر؛ فإنها وردت في قاعدة التجاوز فإذا اعتبرنا الدخول في الغير فيها فإنَّه لا يوجب اعتباره في قاعدة الفراغ, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

والحاصل؛ إنّ الأخبار المزبورة مرددة بين ما تبيّن الأمر التكويني فيكون ذكره توضيحياً لا احترازياً فلا تستفاد التعبدية منها، وبين ما هو تعبدي ولكنه مختص بقاعدة التجاوز. وسيأتي أنّ الشرط فيها محقِّق للتجاوز فيكون توضيحاً أيضاً. وعلى كل حال لا تكون هذه

ص: 65

الأخبار مقيدة لإطلاق دليل الشك في الصحة الذي هو مورد جريان الفراغ، فيكون المناط فيها هو صدق الفراغ عرفاً.

فالمقتضي لعدم اعتبار الدخول في الغير فيها موجود، والمانع عنه مفقود فيتحقق المضيّ في قاعدة الفراغ قبل الدخول في الغير، وقد ذكرنا أنّ الفراغ عبارة عن الإنتهاء من العمل حقيقة ولو كان بنائياً.

رابعاً: إنّ ذيل موثقة ابن أبي يعفور قرينة على عدم اعتبار الدخول في الغير كما عرفت، ومما ذكرنا يظهر حال صحيحة زرارة أيضاً؛ فقد ورد الشك في من غسل يديه وهو على وضوءه؛ أي أنه مشغول به، حيث أمر علیه السلام بالإعتناء بشكّه، ثم بيّن علیه السلام أنه إذا فرغ من وضوءه ودخل في الصلاة أو غيرها ثم شكّ فلا يعتني بشكه، وهو لبيان اللازم التكويني للفراغ من الشيء, وإلا، فلو كان القيد احترازياً لزم إهمال الإمام علیه السلام لبعض صور الشك؛ وهي ما إذا كان الشك بعد الفراغ وقبل الدخول في الغير. هذا كله بما يرتبط باعتبار الدخول في الغير من قاعدة الفراغ.

الجهة الثانية: في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز.

لا ريب في اعتبار الدخول فيها كما هو صريح الصحيحة والموثقة المتقدمتين، وقد عرفت مفصلاً أنّ المناط في التجاوز هو التجاوز عن المحلّ المشكوك لا نفسه لأنَّه مع الشك فيه لا يعقل. والكلام يقع في أمرين:

أحدهما: هل أنّ اعتباره على التعبدية المحضة، أو أنه محقِّق لعنوان التجاوز والمضيّ الواردين في الأخبار كما عرفت.

والآخر: في المراد من الغير(1).

ص: 66


1- . وهو ما سنبحثه في الجهة الثالثة من الكلام.

أما الأمر الأول؛ فإن قلنا بأنّ قاعدة التجاوز من صغريات أصالة عدم الغفلة والسهو والخطأ وأصالة البقاء على الإرادة الإجمالية الإرتكازية، فلا وجه لتعبدية الدخول في الغير فإنّ في الأمور التدريجية تكون إرادة الدخول في الجزء اللاحقكاشفة عن تحقق الجزء السابق عليه بفضل أصالة عدم السهو المعتبرة عند العقلاء، فلا تعبدية في البين، بل إنّ أقصى ما يستفاد من الأخبار أن الدخول في الغير محقق لعناوين التجاوز والمضيّ، بل الفراغ أيضاً، إلا أن يقال بالتعبدية من دلالة الدليل عليه ولو لم يتوقف على تحقق أحد هذه العناوين عليه. وهنا؛ يقع الكلام في أنّ الدخول في الغير له موضوعية خاصة، أو يكون طريقاً وكاشفاً عن مضيّ المحل.

والظاهر هو الأخير كما هو مقتضى المرتكزات في كفاية إرادة الدخول في الغير ليكشف عن تجاوز المحل والرجوع إلى العرف في ما يصدر منهم من الأعمال التدريجية، فيثبت ما ذكرناه؛ فإنّ الإنسان إما أن يكون مريداً وبانياً على إتيان الجزء اللاحق, وإما أن يكون بانياً على العدم, وإما أن يكون متردداً.

والمتعارف عند الناس أنهم لا يعتنون بالشك في إتيان الجزء السابق في الحالة الأولى، والأخبار وردت على طبق ذلك. وأما الحالتان الآخريان فانهم يعتنون بالشك. نعم؛ إنّ نفس الإرادة الإجمالية للدخول في الغير غير ملتفت إليها تفصيلاً بحسب الغالب فيكون طريق إحرازها تحقق الدخول في الغير خارجاً، ومن هذه الجهة اعتبرت الروايات الدخول في الغير لا لموضوعية خاصة فيه.

ومن ذلك يظهر أنّ مجرد إرادة الدخول يكون كاشفاً عن تحقق المراد السابق وهو يوافق الإرتكاز أيضاً, مع أنه مع عدم إحراز الموضوعية المحضة في اعتبار الدخول في الغير فإنَّه يكفي في عدم الجزم به منضماً إلى ما مرّ ذكره من اكتفاء العرف بعدم الإعتناء بالشك

ص: 67

السابق عند تحقق إرادة الدخول في الغير ولو لم يدخل فيه بعد التجاوز عن محل الجزء السابق. فلا يبقى في الأدلة ظهور لإثبات الموضوعية الخاصة، كما لا يمكن إثبات التعبدية المحضة منها وأنّ المراد منه هو المضيّ الحقيقي.

الجهة الثالثة: في المراد من الغير.

وفيها أمور:

الأمر الأول: قد عرفت أنّ الفرق بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ في أنّ الأخيرة تجري في صحة العمل بعد تحققه من دون اعتبار الدخول في الغير، والأولى إنَّما تجري في أثناء العمل عند الشك في تحقق جزء منه, وذكرنا أنه يعتبر في جريانه الدخول في الغير على التفصيل المتقدم. ثم وقع الكلام في المراد من الغير وما يعتبر فيه مِمّا يصدق عليه عنوان التجاوز وقد عرفت أنه بناء على ما سلكناه لا وجه لكثير من الفروع التي ذكرها الفقهاء في هذه الجهة مِمّا سيأتي بيانه، فنقول:

أما قاعدة الفراغ فلا يشترط شيء في جريانها سوى المضي والتجاوز عن نفس العمل المعبّر عنه بالفراغ، وقد عرفت أنّ المراد منه هو الفراغ العرفي البنائي.أما الجزء الأخير فقد اختلفوا في جريان قاعدة الفراغ أو التجاوز فيه، وتفصيل الكلام في الجزء الأخير

أولاً: ما يعتبر فيه الموالاة؛ كالتسليم في الصلاة.

ثانياً: ما لا يعتبر فيه الموالاة؛ كالغسل إذا شك في غسل الجانب الأيسر.

أمّا أولاً(1)؛ فالصور فيه متعددة:

1- أنْ يكون الشك في التسليم – مثلاً – قبل الدخول في عمل أصلاً، كما لو اعتقد أنه سلّم ثم شكّ فيه.

ص: 68


1- .وهو فيما يعتبر فيه الموالاة كالتسليم في الصلاة.

2- أنْ يكون الشك فيه بعد الدخول في التعقيب ونحوه مِمّا هو مترتب عليه شرعاً.

3- أنْ يكون الشك فيه بعد الدخول في أعمال غير مترتبة عليه؛ مباحة كانت كالكتابة، أو مستحبة كقضاء حوائج الإخوان.

4- أنْ يكون الشك فيه بعد الإتيان بالمنافي، ونحن في غنى عن ذلك بعد ما عرفنا الملاك، فيكون تفصيل الكلام فيها من التطويل الذي لا طائل تحته؛ إذ بناءً على ما تقدم إن رأى المصلّي نفسه فارغاً في قاعدة الفراغ عادة وتحققت منه إرادة الدخول في الغير مما يكون كاشفاً عن تحقق المضيّ والتجاوز عن الجزء السابق في قاعدة التجاوز، فكلتا القاعدتين تجريان في جميع الصور المتقدمة من دون حاجة إلى الدخول في الغير، أما بناءً على ما ذهب إليه الفقهاء من اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز، وأنّ له موضوعية خاصة فقد أطالوا البحث فيه بما لا يستحق التطويل.

أما الصورة الأولى؛ فقد قيل إنه لا بُدَّ من الإتيان بالتسليم لعدم صدق المضيّ ولا التجاوز عنه لاحتمال كونه في الصلاة وعدم فوات محل التسليم.

وفيه: إنّ المضي والتجاوز يصدقان عرفاً عند إرادة الدخول في الغير كما تقدم بيانه، ولعلّ من أجل ذلك ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى صدق كلا العنوانين؛ أما المضيّ فلأنَّه يصدق عند مضي معظم الأجزاء، والمفروض تحققه. وأما التجاوز فالإكتفاء في صدقه الدخول في مطلق الغير ولو لم يكن مترتباً، وهو متحقق أيضاً.

والحقُّ؛ إنَّه قدس سره لو تمسك بما ذكرناه من الصدق العرفي عند إرادة الدخول في الغير الكاشفة عن مضي المحل وتحققه لكان أولى مِمّا ذكره فإنّ الإشكال فيه واضح لأنّ المضيّ

ص: 69


1- .أجود التقريرات؛ ج2 ص472.

عن المركب لا يصدق إلا بمضيّ جميع أجزاءه لا معظمالأجزاء, إلا أنّ قوله بالإكتفاء بصدق الدخول في مطلق الغير -المعبّر عنه بالتجاوز الإعتقادي- هو الصحيح إذا كان المراد منه ما ذكرناه.

والإشكال عليه بأنّ ظاهر المضيّ هو الحقيقي سواء كان المضيّ صحيحاً أو فاسداً, كما يستفاد العموم من نفس الأدلة حيث أطلق فيها المضيّ مع فرض الشك في الصحة واحتمال الفساد؛ مردودٌ؛ بأنّ المضيّ والتجاوز الواردين في الأخبار ليس المراد منها الحقيقي بل العرفي بالمعنى الذي ذكرناه وهما يصدقان في المقام، فيمكن الرجوع إلى قاعدة الفراغ فضلاً عن قاعدة التجاوز.

وأما الصورة الثانية؛ فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى صدق التجاوز عن التسليم، حيث ذكر أنّ الفقيه يشرف على القطع بأنّ لواحق الصلاة بمنزلة أجزاءها لما ورد في مقدمات الصلاة من الأذان والإقامة، وأنّ الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة لا يعتنى به.

وأورد عليه بأنّ التعقيب ليس مثل الأذان والإقامة، وأنه من القياس لأنّ صدق التجاوز عن الشيء بالدخول في غيره إنَّما يكون فيما إذا اعتبر تقدمه عليه ولو إستحباباً كما في الأذان والإقامة فيصدق التجاوز عن الأذان بعد الشروع في الإقامة كما ورد في الرواية, والتسليم ليس كذلك؛ فإنَّه لم يعتبر فيه التقدم على التعقيب كتسبيحة الزهراء علیها السلام وإنْ اعتبر

فيها التأخّر إستحباباً.

وفيه: إنه لا حاجة إلى ذلك بناءً على ما ذكرناه آنفاً, مع أنّ التسليم والتعقيب مثل الأذان والإقامة؛ فإنّ الدليل كما هو المستفاد مِمّا دل على استحباب التعقيب بعد الصلاة. ويرشد إلى ذلك لفظ التعيقب بعد الصلاة؛ فإنَّه يثبت التقدّم والتأخّر في الجملة, فما ذكره المحقق

ص: 70


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص467.

النائيني قدس سره من أنّ الفقيه يشرف على القطع صحيحٌ لا ريب فيه.

ومن ذلك يظهر حكم الصورة الثالثة؛ من صدق التجاوز على كل حال سواء قلنا بمقالة القوم أم بناءً على ما ذكرناه من معنى التجاوز العرفي.

أما الصورة الرابعة؛ فلا إشكال في صدق التجاوز في المنافي مطلقاً؛ السهوي والعمدي في الصحة التامة فيها. نعم؛ قد يختلفان في أنّ الشك بعد المنافي السهوي يوجب البطلان لو لم تجَرِ قاعدة الفراغ بخلاف المنافي العمدي فإنّ الصلاة صحيحة ولو لم تجرِ قاعدة الفراغ؛ والخلاف في لزوم الإتيان بالتسليم وسجدتي السهو, وهو لا يضرّ.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ الشك في التسليم بعد التجاوز، والمضيّ منه إرادة الإنتهاء، والبناء عليه يوجب الرجوع إلى قاعدة الفراغ كما يصدق التجاوز عنمحل الجزء بإرداة الدخول في شيء بعد الصلاة؛ كان مستحباً أم لم يكن، بل يصدق ولو لم يدخل في شيء، وكذلك يصدقان إذا أتى بالمنافي سهواً أو عمداً. هذا كله في التسليم في الصلاة. وأما في الوضوء؛ فإذا شك في الجزء الأخير فيه فمقتضى القاعدة صدق التجاوز فيما إذا دخل في الصلاة كانت الرطوبة موجودة على الأعضاء أو لم تكن فتجري قاعدة الفراغ، ويدلّ عليه النص المتقدم أنه حين الوضوء لا بُدَّ من الإعتناء بالشك، وعدم الإعتناء به إذا قعد عن الوضوء، وإطلاقه يشمل الشك في الجزء الأخير فيتطابق النص مع القاعدة.

وأمَّا ثانياً(1)؛ فلا بُدَّ من الإعتناء بالشك في الإتيان بالجزء الأخير مطلقاً حتى إذا كان الشك بعد الدخول في الصلاة؛ لعدم اعتبار المولاة فيه، فلا يصدق عليه المضيّ والتجاوز فلا تجري قاعدة التجاوز لعدم صدقه على المشكوك فيه؛ لا عن نفس وجوده لأنّ المفروض أنه مشكوك الوجود، ولا عن محله الشرعي لأنّ المفروض عدم اعتبار المولاة فيه، ففي أي

ص: 71


1- . وهو ما لا يعتبر فيه الموالاة كالغسل.

وقت يأتي به يكون في محله إلا أن يلحق المحل العادي بالمحل الشرعي كما عرفت. وأما بالنسبة إلى قاعدة الفراغ؛ فإن صدق الفراغ عرفاً فلا إشكال، وإلا ففيه إشكال، ويدل على ذلك أيضاً حديث اللمعة. نعم؛ لو شك في صحة الغسل بعد الإنتهاء منه تجري قاعدة الفراغ بلا منازع سواء دخل في الصلاة أم لا. هذا كله في الجزء الأخير،

أما باقي الأجزاء فالكلام فيها كالكلام في الجزء الأخير في أنه لا يعتبر في جريان قاعدة التجاوز فيها الدخول في الغير كما عرفت مفصلاً. وأما بناء على اعتبار الموضوعية في الدخول في الغير فقد وقع الخلاف في أنّ المراد به الأجزاء المستقلة، أو الأعم منها ومن أجزاء الأجزاء، أو الأعم منها ومن مقدماتها. فالإحتمالات ثلاثة:

أولها: إختصاص الغير بالأجزاء المذكورة في الروايات فقط كرواية زرارة ورواية إسماعيل ابن جابر.

وهذا الإحتمال مبني على اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة، وعليه فلا تشمل السورة إذا شك في الحمد بعد دخوله فيها, كما لا تشمل التشهد إذا شك في السجود وبعد دخوله فيه؛ إذ لم يردا في الروايتين.

ولكنه جمود بلا مبرر، لا سيما أنّ ذيل حديث زرارة في مقام بيان الكبرى كما تقدم بيانه.

وثانيها؛ شموله لكل جزء من أجزاء الصلاة المستقلة المذكورة في الكتب الفقهية.

وعلى هذا الإحتمال يشمل السورة والتشهد، ولكن لا يشمل مقدمات الأجزاء ولا أجزاء الأجزاء. وقد رجح هذا الإحتمال المحقق النائيني قدس سره (1) لأنَّه يقول بأنّ إطلاق الشيء على الأجزاء إنَّما يكون بالعناية وإلادعاء وألا يكون الجزء شيئاًفي عرض شيئية الكل، وحيث إنّ هذا الإدعاء غير شرعي فيقتصر على الأجزاء المستقلة ولا يشمل أجزاء الأجزاء ومقدماتها. وقد عرفت الجواب عنه مفصلاً وسيأتي أيضاً.

ص: 72


1- .فوائد الأصول؛ ج4 ص635.

وثالثها؛ التعميم لكل ما يصدق عليه مفهوم الغير.

ويشهد لهذا الإحتمال عموم لفظ الغير الذي يقال بأنه متوغل في الإبهام من كل جهة، وظهور جملة من النصوص الواردة في المقام على التعميم، وهذا هو الأقوى.

وقد أشكل عليه بما يلي:

1- ما ذكرناه في الإحتمال السابق من اختصاص الغير بالأجزاء المستقلة، لما ورد في صحيحة زرارة من الإقامة والركوع والسجود فلا يشمل غيرها، وبها يخصص عموم ذيلها حيث قال علیه السلام : (يَا زُرَارَةُ؛ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَشَكُّكَ لَيْسَ بِشَيْ ءٍ ).

ويرد عليه: إنه علیه السلام في مقام إعطاء الضابطة الكلية التي تجري في جميع الموارد، وتخصيصها بخصوص مورد السؤال خلاف المحاورات العرفية، وقد تقدم ما يتعلق بهذه الجهة فراجع.

2- ما ورد في صحيح إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ : (إِنْ شَكَّ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَمَا سَجَدَ فَلْيَمْضِ, وإِنْ شَكَّ فِي السُّجُودِ بَعْدَ مَا قَامَ فَلْيَمْضِ؛ كُلُّ شَيْ ءٍ شَكَّ فِيهِ مِمَّا قَدْ جَاوَزَهُ ودَخَلَ فِي غَيْرِهِ فَلْيَمْضِ عَلَيْهِ).

وفيه: ما ذكرناه في صحيح زرارة, فإنّ الجواب في مقام إعطاء الكبرى الكلية، فلا وجه لتخصيصها بما ورد في هذا الصدد فيكون ما ذكرمن باب المثال لا الخصوصية.

3- قوله علیه السلام أيضاً في الصحيح المزبور: (وإِنْ شَكَّ فِي السُّجُودِ بَعْدَ مَا قَامَ فَلْيَمْضِ)، فإنَّه لو كان الدخول في مطلق الغير كافياً لم يكن وجه لذكر القيام لتحققه في النهوض له قبل القيام.

ويرد عليه: إنّ للقيام عن السجود مراتب يصدق بعضها على أول مرتبة النهوض من السجود فيصحّ التمسك بإطلاق القيام عليه.

ص: 73

والحق؛ هو القول بالتعميم؛ فإنّ لفظ الغير في الروايات له من العموم ما يشمل جميع الأجزاء المستقلة وأجزاء أجزاءها ومقدماتها، ويشهد للعموم بل يدل عليه صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام رَجُلٌ أَهْوَى إِلَى السُّجُودِ فَلَمْ يَدْرِأَ رَكَعَ أَمْ لَمْ يَرْكَعْ قَالَ قَدْ رَكَعَ ) (1)؛ فإنَّه نص في كفاية الدخول في مقدمة الجزء أيضاً، وبناءً على ذلك فإنَّه لا فرق في الأجزاء بين كونها واجبة أو مندوبة، وهو الموافق لسهولة الشريعة المقدسة، وبها ندفع الشك الذي هو أقوى وساوس الشيطان.

وأما ما استدل به للإحتمال الثاني فهو غير صحيح؛ لأنّ الشيء يطلق على الأجزاء والكل على حدٍّ سواء حقيقة بدون عناية وتنزّل، وقد استعمل في الجامع بينهما. هذا وإنّ الكلام في عموم (الغير)، لا (الشيء) فإنَّه لا يأتي فيه دعوى الإدعاء والتنزيل فيشمل كل الأجزاء وأجزاء الأجزاء ومقدمات الأجزاء مطلقاً سواء كان اعتباره من باب تحقق التجاوز والمضيّ أم كان من جهة دلالة الأخبار تعبداً، ولا اختصاص له بالصلاة كما ذكره المحقق النائيني قدس سره .

نعم؛ يبقى الكلام في وجه عدم جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث، ويأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

المبحث السابع: في السكوت بعد الفراغ أو في الأثناء

إختلفوا في السكوت بعد الفراغ أو في الأثناء؛ فقيل بعدم اعتباره إلا أن يصدق عليه أحد العنوانين؛ إما الفراغ أو التجاوز.

والصحيح أنْ يقال: إنه بناءً على ما ذكرناه من أنّ المناط في قاعدة الفراغ ما إذا رأى المكلف نفسه فارغاً عن العمل الذي كُلّف به وكان بناؤه على إتمامه.

ص: 74


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 6 ص318.

وأما في التجاوز فإنّ المعتبر فيه إرادة الدخول في الغير بما يكون كاشفاً عن تحقق المضيّ والتجاوز عن الجزء السابق, وبناءً على ذلك فإنّ السكوت المنسوب إلى إرادة المكلف يصدق عليه الفراغ بعد العمل والتجاوز من دون حاجة إلى اعتبار الدخول في الغير، وعليه؛ يكون السكوت الطويل القاطع للهيئة الإتصالية يوجب صدق عنوان الفراغ في قاعدة الفراغ وكذلك في قاعدة التجاوز؛ إلا أن يستشكل فيه بأنه قد يكون ماحياً للهيئة الإتصالية فتبطل الصلاة من هذه الناحية. وتفصيل الكلام مذكور في الفقه.

وما يمكن أن يقال هنا؛ أنّ الشروط على أقسام ثلاثة:

الأول: الشرط العقلي لتحقق عنوان المأمور به، كقصد الظهرية أو العصرية في صلاة الظهر والعصر ونحوها، فإنّ عنوان كل واحد منهما لا يتحقق إلا بهذا القصد لأنَّها أمور قصدية لا انطباقية قهرية كما قيل.

الثاني: الشرط الشرعي لصحة المأمور به وتحققه، كالإستقبال والستر والطهارة وغير ذلك.الثالث: الشرط الشرعي للجزء، كالجهر والإخفات بناءً على كونهما شرطاً للقراءة لا للصلاة في حال القراءة.

ثم إنّ الشرط الشرعي للصلاة -مثلاً- إما أن يكون شرطاً لها في حال الإشتغال بها كالإستقرار، وإما أن يكون شرطاً لها مطلقاً ولو في حال السكونات المتخللة كالستر والإستقبال والطهارة الحدثية. وعلى كل واحد منهما؛ إما أن يكون له محل شرعي كالطهارة الحدثية فإنها شرط شرعي للصلاة ولها محل شرعي أيضاً، وهو أن يكون قبل الصلاة كما هو مقتضى قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ)(1), وإمّا أن لا يكون للشرط الشرعي محل شرعي كالستر والإستقبال.

ص: 75


1- . سورة المائدة؛ الآية 6.

ولا إشكال في جريان قاعدة الفراغ في الشك في الشرط بجميع أقسامه نصّاً وإجماعاً إلا ما يقال من عدم جريانها فيما إذا كان الشك في الشرط العقلي كما سيأتي بيانه. وأما قاعدة التجاوز فقد وقع الخلاف في جريانها في الشك في الشرط؛ فذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنه إذا كان للشرط محلاً شرعياً مخصوصاً كالطهارة فتجري القاعدة فيه لأصالة عدم الغفلة والسهو وإطلاق الأدلة، وأما إذا لم يكن له محل مخصوص شرعاً كالستر والإستقبال فعن جمعٍ عدم جريانها. واستدلوا عليه بأمور:

الأول: إنّ الأمثلة المذكورة في الأخبار الواردة في المقام جميعها من الأجزاء فلا تشمل الشرط.

وفيه: إنَّه من باب المثال لا الخصوصية.

الثاني: إنه ليس لمثل هذا الشرط محل مخصوص حتى يصدق عليه التجاوز عن المحل.

وفيه: إنّ تجاوزه يكون باعتبار محل المشروط, وذلك يكفي في صدق التجاوز بالنسبة إلى الشرط أيضاً.

الثالث: إنّ مجرى قاعدة التجاوز ما كان مورداً للإرادة التبعية كالاجزاء, وأما الشروط فإنّ الإرادة تتعلق بها استقلالاً لا تبعاً.

وفيه: إنها أيضاً مِمّا تتعلق بها الإرادة التبعية بالنسبة إلى المشروط. نعم؛ بعض الشروط يكون من مورد الإرادة الإستقلالية أيضاً كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر, ولكن لا دخل لهذه الجهة بالمقام.

وتفصيل ما ذكره السيد الوالد قدس سره \ بالنسبة إلى الأقسام المتقدمة هو أن يقال:

في القسم الأول؛ أي الشرط العقلي لتحقق المأمور به كقصد الظهرية والعصرية والمغربية والعشائية والصبحية يكون من أجل تحقق هذه العناوين؛ أي صلاة الظهر والعصر

ص: 76


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص299.

والمغرب والعشاء والصبح. وقد قيل بعدم جريان قاعدة التجاوز، بل قاعدة الفراغ أيضاً فيها كما إذا كان الشك في تحقق نية الظهرية أو العصريةونحوها, لأنّ تعنون الصلاة بهذه العناوين من الآثار العقلية التكوينية لواقع قصدها، فالتعبد بوجود نية الظهر مثلاً لا يترتب عليه هذا الأثر فيكون هذا التعبد لغواً، فلا تجري قاعدة التجاوز كما لا تجري قاعدة الفراغ بالنسبة إليها أيضاً بعد الفراغ عن العمل لأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل وفساده بعد إحراز عنوانه، وأما إذا لم يحرز عنوانه كما إذا شك في أنّ الذي صدر منه هل هو صلاة أو كان رياضة مثلاً فإنّ قاعدة الفراغ لا تثبت كونه صلاة.

ويمكن مناقشته بما يلي:

1- إنّ الصحة لما يقال من الشروط العقلية بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً لا يتعلق بها التعبد أصلاً لاستلزامه اللغوية؛ فإنَّه يكفي في المقام ترتيب الأثر عليه وهو الرجوع إلى قاعدة الفراغ أو التجاوز في رفع الشك والحكم بصحة العمل، وقد ذكرنا ذلك مراراً في بحوثنا الأصولية.

2- إنه إن كان المراد من النية قصد العنوان المقوم للمعنون فهو خارج عن مفروض الكلام؛ فإنّ المكلف في أثناء العمل أذكر كما ورد في الصحيح، فلا يصدر منه فعل ذو أجزاء وشروط من دون حصول القصد للعنوان المقوّم عادةً إلا أن يكون ذاهلاً عن نفسه بالكلية وهو نادر جداً.

وإن كان المراد من النية قصد القربة؛ فإن قلنا بأنه شرط شرعي ولو بمتمّم الجعل فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيه عند الشك في صحته من جهة احتمال وقوع الخلل فيما اعتبره الشارع فيه من ترك جزء أو شرط أو وجود مانع, كما عرفت. وكذا تجري قاعدة التجاوز لأنَّه شرط شرعي شك في تحققه بعد التجاوز.

ص: 77

والإشكال عليه بأنه ليس لهذا الشرط محلاً شرعياً يتحقق التجاوز عنه؛ فقد عرفت الجواب عنه آنفاً فإنّ التجاوز عنه إنَّما يكون باعتبار محل المشروط.

وإن قلنا بأنّ قصد القربة ما يعتبره العقل في مقام الإمتثال فالإشكال الذي ذكرناه آنفاً في قصد العنوان يجري فيه فلا تجري قاعدة الفراغ لأنّ الشك فيه يكون شكاً في الإمتثال، لأنَّه أمر عقلي فلا يتعلق به التعبد الشرعي.

وقد عرفت الجواب بأنه يتعلق به الجعل الشرعي أيضاً، كما أنّ قاعدة التجاوز لا تجري لأنَّه ليس لهذا الشرط بهذا المعنى محل شرعي؛ فإنّ العقل يحكم بلزوم هذا القصد من أول الشروع في العمل إلى إتمامه، ولم يكن الشارع قد جعل محلاً لهذه النية.

وقد عرفت الجواب عنه أيضاً.

فالصحيح؛ جريان القاعدتين في الشك في تحقق قصد القربة إلا أن يحكم العرف بأنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في الإمتثال، وحينئذٍ يكون الحكم جريان قاعدة الإشتغال. هذا كله ما يتعلق بالقسم الأول.وفي القسم الثاني؛ أي ما كان شرطاً شرعياً للمركب المأمور به كالإستقبال والستر والطهارة للصلاة مثلاً، فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ مطلقاً سواء كان شرطاً له محل شرعي أو لا، وسواء كان شرطاً في حال الإشتغال بالأجزاء أم كان شرطاً مطلقاً حتى في حال السكونات بلا إشكال من أحد لأنَّه شك في صحة العمل بعد الفراغ منه من جهة عقد شرطه، وأما جريان قاعدة التجاوز في الأثناء كالطهارة الحدثية وصلاة الظهر لصلاة العصر, وصلاة المغرب لصلاة العشاء؛ فإنّ محل الطهارة الحدثية قبل الصلاة بمقتضى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا

ص: 78

بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1).

كما أنّ محل صلاة الظهر والمغرب قبل العصر والعشاء كما يدل عليه قول الإمام الصادق علیه السلام : (إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاتَيْنِ؛ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ قَبْلَ هَذِه)(2)؛ فالظاهر جريان قاعدة التجاوز فيه، وذلك لعدم الفرق بين الجزء المشكوك والشرط المشكوك الوجود؛ لأنّ المناط فيهما واحد وهو كون صحة العمل متوقفة على وجود الجزء أو الشرط المشكوك وجودهما بعد التجاوز والمضيّ عن محلهما المقرر لهما شرعاً، فلا تفاوت بينهما. نعم؛ قد يشكل على جريانها في الشرط بأنّ التجاوز الذي هو موضوع القاعدة لم يتحقق بالنسبة إلى الأجزاء الباقية التي لم يأتِ بها بعد, فلا أثر لجريان قاعدة التجاوز في الأثناء حيث تثبت صحة العمل من ناحية احتمال فقْدِ الشرط.

ويمكن الجواب عنه بأنه إذا صحّ الجزء الذي شك فيه فيصحّ العمل بمجموعه، إلا أنّ الكلام وقع في ترتيب الآثار على هذه القاعدة:

فقد قيل: إنها تجري وتثبت وجود الشرط مطلقاً حتى بالنسبة إلى شروط أخرى، فلا تجب الطهارة حتى بالنسبة إلى صلاة أخرى غير التي هي بيده ما لم يتحقق ناقض لها. ففي مثال الظهر والمغرب إذا شك فيهما في أثناء العصر والعشاء فيثبت وجودهما مطلقاً بقاعدة التجاوز فلا يجب الإتيان بهما حتى بعد الفراغ عن العصر والعشاء.

وقيل: بانه إنَّما يثبت بها تلك الشروط من حيث شرطيتها لتلك المذكورات التي شك فيها فلا بُدَّ من تحصيل الطهارة للصلوات الأخرى واتيان الظهر والمغرب بعد الإتيان بالعصر والعشاء واتمامهما

ص: 79


1- . سورة المائدة؛ الآية 6.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص276.

وقيل: إنها تثبت الشرط بالنسبة إلى الأجزاء الماضية فقط، وأما بالنسبة إلى الأجزاء الباقية مِمّا لم يأتِ بها بعد فيجب تحصيل الشرط إن كان ممكناً، وإلا فالعمل يبطل إذا كان مركباً أو إرتباطياً.والظاهر أنّ ذلك يرجع إلى النزاع الذي ذكرناه في بداية البحث؛ وهو أنّ هذه القاعدة هل هي من الأصل أو كونها أمارة؛ فإن قلنا بأنها أمارة فيثبت وجود الشرط بناءً على أنّ الأمارة حجة في مثبتاتها ولوازمها فتترتب عليه جميع آثار وجود الشرط واقعاً، فلا يجب عليه تحصيل الطهارة للصلوات التي أتى بها، ولا يجب الإتيان بصلاة الظهر والمغرب بعد إتمام العصر والعشاء.

وأما إذا قلنا بأنها أصل تنزيلي فيكون مفادها ترتيب آثار وجود الشرط من حيث كونه شرطاً لهذا العمل الذي بيده، وشك في وجود الشرط في أثناءه فيجب معاملة وجود صلاة الظهر مثلاً من حيث شرطيته لصحة صلاة العصر لا مطلقاً.

وقد عرفت أنه لا يترتب ذلك على كونها أمارةً أو أصلاً تنزيلياً، بل لا بُدَّ من الرجوع إلى أخبار المقام واستفادة أحد الإحتمالين أو الإحتمالات. ويصحّ القول بأنّ المستفاد من مجموعها هو الإحتمال الأول وإن كان الإحتياط يقتضي الأخذ بالإحتمال الثالث؛ فإن أمكن تحصيل الشرط في الأثناء من دون أن يلزم مانع في البين فتجري القاعدة بالنسبة إلى الأجزاء السابقة فتصحّ كما تصحّ الأجزاء اللاحقة لتحقق الشرط فيها، وإن لم يكن إلا بتخلل مانع فالإحتياط يقتضي إتمامه ثم إعادته.

هذا كله فيما إذا كان للشرط محلاً شرعياً. وكذا تجري قاعدة التجاوز في الشك في الشرط في الاثناء إذا لم يكن له محلاً شرعياً لأصالة عدم السهو والغفلة والإطلاق، والإشكالُ بعدم صدق المضيّ والتجاوز فيما إذا لم يكن له محل شرعي مردودٌ بما تقدم بيانه.

ص: 80

وفي القسم الثالث؛ وهو الشرط الشرعي للجزء، وما ذكرناه في القسم السابق يجري في هذا القسم أيضاً فتجري قاعدة الفراغ إذا كان الشك بعد العمل في صحته وفساده كما تجري قاعدة التجاوز في أثناء العمل عند الشك في وجوده لأصالة عدم السهو والغفلة وإطلاق الأدلة كما تقدم بيانه مفصلاً.

وقد يستشكل عليه بأنّ الشرط حيث لا وجود له استقلالاً، فلا يصدق عليه أنه قد تجاوز عنه، بخلاف نفس المشروط فإنَّه لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز.

ويرد عليه: بما تقدم من أنَّه موجود قطعاً، فإنّ للشرط وجوداً ولو بوجود مشروطه، فلا فرق بين الشرط العقلي والشرط الشرعي بالنسبة إلى الجزء. والكلام يجري في الشرط العقلي للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة؛ فتجري قاعدة التجاوز بلا إشكال لأنّ مرجع الشك في مثل هذا الشرط إلى الشك في وجود الجزء، أي الكلمة بعد التجاوز عن محله. وقد عرفت أنّ الشك في الشرط العقلي مستلزم للشك في المشروط، أي الجزء.

ومن جميع ذلك يظهر صحة ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره من جريان القاعدتين في الشك في الشرط مطلقاً سواء كان شرطاً لمجموع العمل أم كان شرطاًللأجزاء؛ شرعياً كان أم عقلياً فتجري القاعدة لوجود المقتضي وفقْد المانع، فلا إشكال.

المبحث الثامن: في جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، بل في الطهارات الثلاث.

المشهور عدم جريانها في الوضوء، ويدل عليه مضافاً إلى الإجماع الصريح النصُّ الصريح, فقد ورد في صحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (إِذَا كُنْتَ قَاعِداً عَلَى وُضُوءٍ ولَمْ تَدْرِ؛ أَ غَسَلْتَ ذِرَاعَكَ أَمْ لَا فَأَعِدْ عَلَيْهَا وعَلَى جَمِيعِ مَا شَكَكْتَ فِيهِ أَنَّكَ لَمْ تَغْسِلْهُ أَوْ تَمْسَحْهُ مِمَّا سَمَّى اللَّهُ مَا دُمْتَ فِي حَالِ الْوُضُوءِ, فَإِذَا قُمْتَ مِنَ الْوُضُوءِ وفَرَغْتَ فَقَدْ صِرْتَ فِي حَالٍ أُخْرَى؛ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ؛ فَشَكَكْتَ فِي بَعْضِ مَا سَمَّى اللَّهُ مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكَ

ص: 81

فِيهِ وُضُوءاً فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْكَ)(1)؛ فإنها صريحة في التفصيل بين قاعدة التجاوز فلا تجري في أثناء الوضوء وبين قاعدة الفراغ وجريانها بعد الفراغ منه فلا إشكال فيه. والمشهور ألحقوا الغسل والتيمم بالوضوء أيضاً وحكموا بعدم جريان قاعدة التجاوز فيهما, واستدلوا في المقام بأحد وجهين:

الأول: ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من اختصاص دليل قاعدة التجاوز بالصلاة فقط، وبناءً على ذلك فلا حاجة إلى التماس الوجه فيه. وقد تقدم فساد هذا الرأي؛ فإنّ أخبار المقام لها من الإطلاق والشمول ما يشمل الصلاة وغيرها لا سيما الصحيحة والموثقة فإنهما في مقام بيان كبرى كلية وقاعدة عامة، قد طبقها علیه السلام على مورد السؤال، وقد تقدم بيانه مفصلاً.

الثاني: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره (2) في وجه عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء من أنه وإن كان مركباً من الغسلات والمسحات إلا أنّ الشارع اعتبرها أمراً واحداً سماها الطهارة، وهي أمر بسيط لا يعقل فيه الشك في الأجزاء والتجاوز عنها، وهو متحقق في التيمم والغسل أيضاً.

وأُشكل عليه بما يلي:

1- إنْ كان مراده قدس سره أنّ المأمور به في الوضوء هو تحصيل ذلك الأمر البسيط المتحصل من الغسلات والمسحات فهو منافٍ لظاهر الآية المباركة: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(3)، كما أنَّه منافٍ لظاهر الرواية التي تدل على حمل الأثر؛ وهو الطهور أو النور على نفس الأفعال.

ص: 82


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص33.
2- . فرائد الأصول؛ ج2 ص713.
3- . سورة المائدة؛ الآية 6.

2- إنه مناف لظاهر قوله علیه السلام في معتبرة ابن أبي يعفور عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْ ءٍ مِنَ الْوُضُوءِ وقَدْ دَخَلْتَ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ شَكُّكَ بِشَيْ ءٍ إِنَّمَا الشَّكُّ إِذَا كُنْتَ فِي شَيْ ءٍ لَمْ تَجُزْهُ)، فإنّ المراد من قوله علیه السلام (في شيء من الوضوء) هو أجزاء الوضوء، وهو يدل على أنّ الشارع فرض للوضوء أجزاءً، فهو ليس أمراً بسيطاً.

3- إذا لاحظنا الأثر المترتب في الوضوء فهو لا ينحصر به، لأنّ كثيراً من العبادات المركبة من الأجزاء لها وحدة وبساطة في الأثر، ومع ذلك فإنّ لها أجزاء، ويطلق عليها الشيء الوارد في قوله علیه السلام : (كلما شككت في شيء ودخلت في غيره)، والوضوء كذلك؛ فإنّ له أجزاءَ متميزة يطلق على كل واحد منها كلمة (الشيء).

فإذا كان الأثر المترتب عليها واحداً بسيطاً كما أشار إليه قوله علیه السلام : (الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ)(1)، مع أنّ هذه الأجزاء الخارجية تكون مقدمة شرعية لذلك الأمر البسيط، وتكون مأموراً بها شرعاً ولو بالأمر المقدّمي، فلا بُدَّ أن تجري قاعدة التجاوز ولو كان المأمور به بالأمر المقدّمي.

وبعد عدم تمامية الوجهين في إلحاق التيمم والغسل بالوضوء فلا بأس بجريان قاعدة التجاوز فيهما، فإذا شك في الجزء السابق في التيمم أو الغسل بعد التجاوز والمضيّ فتجري قاعدة التجاوز، ويمكن التمسك للعموم بإطلاق أدلة قاعدة التجاوز وعموم كلمة (الشيء) الواردة في الروايات. وقد ذهب إليه جمعٌ من الفقهاء، إلا أن يدّعى الإجماع على

ص: 83


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص377. أصل الرواية ما جاء عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أنه قَالَ: مَنْ جَدَّدَ وُضُوءَهُ لِغَيْرِ حَدَثٍ (وفي بعض النسخ؛ صلاة) جَدَّدَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْفَارٍ. ورَوَاهُ فِي الْفَقِيهِ (ج1 ص41) مُرْسَلاً، وَزَادَ هذه العبارة في حَدِيثٍ آخَرَ.

الإلحاق وهو موهون، أو يقال بإمكان إلحاق التيمم بالوضوء بمقتضى البدلية, ولكن استفادة التعميم بالبدلية موضع إشكال. ولكن الأحوط ما ذهب إليه المشهور من عدم جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاثة؛ لما يظهر من النقاش فيما ذكروه ردّاً على المحقق الأنصاري قدس سره فتأمل.

وهناك فروع تتعلق بهذا البحث مذكورة في الفقه فراجع.

المبحث التاسع: إعتبار إحراز أصل التكليف في الجملة في جريان القاعدتين

إنه مع وجود الشك من جهة السهو والنسيان والغفلة يكون الكلام في هذا الشرط في أمرين:

الأمر الأول: يشترط في جريان قاعدتي الفراغ والتجاوز أن يكون المكلف قد أحرز جميع أجزاء المركب المأمور به وشرائطه وموانعه إما وجداناً أو تعبداً.وبعبارة أخرى: إنه قد أحرز التكليف المتعلق بالفعل المركب منها, وإنّ الشك إنَّما يكون من جهة انطباقه على ما هو المأمور به بسبب السهو والنسيان والغفلة، ويكون هناك عمل يشك في انطباقه على المأمور به، وهذا هو محور الكلام في هاتين القاعدتين، وأما إذا كان الشك في صحة العمل من ناحية احتمال اعتبار شيء في العمل جزءاً أو شرطاً، أو احتمال اعتبار عدمه ليكون مانعاً فلا ربط له بالقاعدتين، فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأدلة الأخرى من الأمارات والأصول العملية عند فقدها كما عرفت مفصلاً في مباحث الأصول. ودليل هذا الشرط هو أنّ هاتين القاعدتين من القواعد أو الأصول التي يعتمد عليها في مقام الإمتثال وإسقاط التكليف، لا أن تكونا في مقام إثبات التكليف، وهذا واضح لا إشكال فيه. والظاهر إنه لا يعتبر الإلتفات التفصيلي إلى العمل حين الإتيان به، بل يكفي التوجه الإجمالي الإرتكازي للأصل والإطلاق، ولعل هذا هو المراد بالأذكرية الواردة في بعض الأخبار المتقدمة فراجع.

ص: 84

الأمر الثاني: أن يكون الشك بعد إحراز العمل من ناحية عروض الدهشة أو الإضطراب أو احتمال تعمد الترك أو لأجل الجهل بالحكم أو الموضوع أو من أجل احتمال قصور أو تقصير في الإجتهاد أو التقليد أو نحو ذلك، فلا تجري هاتين القاعدتين في هذه الموارد فلا بُدَّ من الرجوع إلى القواعد والأصول الأخرى، ولا توجد ضابطة كلية بل تختلف باختلاف الموارد والأشخاص. والصور المتصورة في ذلك هي:

الصورة الأولى: أن يكون الشك مع التفات المكلف حين العمل إلى الأجزاء أو الشرائط والموانع في صحة العمل وفساده من جهة طروّ الشك والسهو والغفلة.

وقد عرفت إنه إذا كان حصول الشك في أثناء العمل يكون مجرى قاعدة التجاوز، وإن كان الشك قد حصل بعد الفراغ عن العمل يكون مجرى قاعدة الفراغ على التفصيل المتقدم؛ وهذه الصورة هي القدر المتيقن من صور جريان هاتين القاعدتين بعد توفر شروطهما.

الصورة الثانية: عين الصورة السابقة ولكن الشك من جهة احتمال أن يكون الترك للجزء أو الشرط عن عمد واختيار.

والمعروف عدم جريان القاعدتين في هذه الصورة لعدم شمول أدلتهما لها، فإذا كان المدرك هو بناء العقلاء فإنَّه يشك في شموله لمثل هذا المورد لما عرفت من أنّ بنائهم على ذلك من جهة أصالة عدم الغفلة والسهو والنسيان كما تقدم بيانه؛ ولا مورد لجريان هذا الأصل مع احتمال العمد والإختيار، وإن كان المدرك هو الأخبار فقد عرفت أنه ليس مفادها الحكم التعبدي الصرف بل باعتبار أنّ المكلف إذا أراد الدخول في عمل مركب من أجزاء وشرائط يكون بناؤه أن يأتي به على طبق ما يريده الشارع، وقد ألغى الشارع احتمال الغفلة والشك والسهو في هذاالمورد ولكنه لم يلغِِ الشك مع احتمال العمد والإختيار, ويدل على ذلك قول الإمام الصادق علیه السلام : (هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ)؛ فإنَّه يدل على أنّ

ص: 85

منشأ الترك هو الغفلة والسهو والنسيان لا العمد لأنّ الترك مع الغفلة والسهو والنسيان ينافي كونه أذكر، بخلاف الترك العمدي فإنَّه لا ينافي كونه أذكر. ولعل من أجل ذلك قال الفقهاء من شرط جريان قاعدة التجاوز والفراغ أن لا يكون احتمال الترك عن عمد؛ لأنَّه ليس لأخبار المقام إطلاق يشمل هذه الصورة.

الصورة الثالثة: أن يكون الترك من جهة الجهل وعدم المعرفة بتمام أجزاء المركب وشرائطه وموانعه حال الإشتغال بالعمل سواء كان جهله من ناحية الشبهة الحكمية أو الموضوعية؛ فالأول كما إذا لم يعلم بأنّ السورة واجبة في الصلاة وأنها جزء منها، والثاني مثل ما إذا علم بأنَّ الإستقبال شرط في الصلاة ولكن لا يعلم بأنَّ هذه الجهة التي صلى إليها قبلة أم لا وبعد حصول الشك يعلم بصورة العمل الذي صدر منه. واحتمال أنَّ الجهة التي صلى إليها قبلة من باب الإتّفاق.

ولا تجري القاعدة في هذه الصورة أيضاً لأنّ مطابقة العمل للواقع لو كانت فهي من باب الإحتمال والإتفاق فلا تشملها الأخبار وبناء العقلاء كما تقدم بيانه في الصورة السابقة.

ومن ذلك يظهر حكم ما إذا كان الجهل من جهة احتمال قصور أو تقصير في الإجتهاد أو التقليد فإنّ الحكم في الجميع واحد.

الصورة الرابعة: ما إذا شكّ بعد العمل أو التجاوز ولكن كان هذا الشك قبل الدخول في العمل؛ كما إذا شك قبل الصلاة في الطهارة الحدثية وكان مسبوقاً بالطهارة فدخل في الصلاة مع استصحاب الطهارة فلا محالة أنه يكون شاكاً في صحة الصلاة التي دخل فيها، لأنّ الطهارة شرط واقعي في الصلاة؛ فالشك فيها ملازم مع الشك في صحة الصلاة وقد صحّ دخوله فيها بالإستصحاب، وبعد الصلاة انقلب الإستصحاب إلى الشك الساري لزوال اليقين السابق في الظرف الذي فرض وجوده, فليس له الإستصحاب حتى يحكم بوجود الشرط تعبداً, ولكن هل يمكن في هذه الصورة تصحيح العمل بقاعدة الفراغ؟.

ص: 86

قد يقال بجريانها فيها لأنّ المناط هو الدخول في الصلاة مع توفر شرطها ولو كان حاصلاً في قيام أمارة كالبينة أو أصل كالإستصحاب، وهذا المقدار يكفي في جريان قاعدة الفراغ بعد العمل الذي شك في صحته بتخلف الأصل أو البينة بظهور فسقها حين الشهادة.

ولكن الصحيح عدم جريان قاعدة الفراغ في هذه الصورة لما عرفت من أنّ مورد جريان القاعدتين هو الشك في صحة العمل من جهة وجود الخلل في المأتي به الحاصل غفلة أو سهواً أو نسياناً، والمقام ليس كذلك؛ إذ المفروض عدم حصول الغفلة والسهو والنسيان عن جزء أو شرط، بل المكلف أخلّ في الصلاةباستصحاب زائل أو بينة تبيّن فسقها حال الشهادة فيكون الدخول بتخيّل الإستصحاب أو البينة، لا البينة الواقعية.

الصورة الخامسة: نفس الصورة السابقة مع الفرق بأنّ المكلف لا يجوز له الدخول في الصلاة في هذه الصورة، بخلاف السابقة التي كان دخوله فيها جائزاً بالإستصحاب أو البينة.

وفي هذه الصورة يشك المكلف في كونه محدثاً قبل الصلاة ولم يكن له استصحاب الطهارة ليعتمد عليه، فلا يجوز له الدخول في الصلاة للزوم إحراز الطهارة؛ فلو غفل وصلى فلا ريب في أنه بعد الصلاة يشك في صحة عمله. وفي هذه الحالة؛ تارة يحتمل أنه توضأ بعد الشك في الحدث، وأخرى لا يحتمل كذلك.

أما الحالة الأولى؛ فالمعروف جريان القاعدتين في مثل هذه الصلاة, لأنّ حال الشك في الحدث لم يكن بأعظم من القطع بالحدث فدخل في الصلاة غفلة وبعد الصلاة إحتمل أنه توضأ، فإنهم قالوا بجريان القاعدتين في مثل ذلك؛ ففي مورد الشك يكون بطريق أولى.

أما الحالة الثانية؛ فإنَّه إذا لم يحتمل الوضوء بعد العلم بالحدث فالظاهر عدم جريان القاعدتين فيه, لما ذكرنا من أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز مفادها إلغاء احتمال ترك جزء أو شرط غفلة أو سهواً أو نسياناً.

ص: 87

وفي المقام دخل في الصلاة غفلة عن كونه شاكاً في الحدث وإلا فلا يجوز له الدخول في الصلاة، فمع الدخول غفلة لا يمكن رفعها بقاعدة التجاوز والفراغ كما لا يخفى. وهناك صور أخرى مذكورة في الفقه.

والمتحصل من جميع ذلك أنّ جريان القاعدتين في الأثناء وبعد العمل منوط بما إذا كان الشك منحصراً في انطباق المأتي به مع المأمور به نتيجة الغفلة والسهو والنسيان، ولم يكن هذا الشك مسبوقاً بالشك في صحة العمل المأمور به قبل أن يشرع فيه لإحتمال فقْد شرط أو جزء أو وجود مانع، وإلا فلا تجري القاعدة. وكذا لا تجريان فيما إذا كان منشأ الشك هو احتمال تعمد الترك أو الجهل تقصيراً أو قصوراً, أو حدوث الدهشة والإضطراب، وإلا فإنه لا بُدَّ من الرجوع إلى الأمارات والأصول التي لا تضبطها ضابطة كلية, فعلى الفقيه والمكلف التنّبه التام في مراعاة الضابطة في جريان القاعدتين.

المبحث العاشر: في أنّ المضي وعدم الإعتناء بالشك في القاعدتين على نحو العزيمة

بمعنى أنه لا يجوز الإعتناء بالشك، ويحرم إتيان المشكوك ثانياً، أو أنه على نحو الرخصة؛ بمعنى إنه بالخيار يجوز له أن يمضي ولا يعتني بالشك، كما يجوز له أن يأتي بالمشكوك بعنوان الإحتياط ورجاء درك الواقع.ذكر السيد الوالد قدس سره (1) إن الظاهر من الأدلة هو الثاني وإن البناء على الواقع في موردهما ترخيصي لا أن يكون عزيمة فيجوز الرجوع والإتيان ما لم يلزم محذور في البين من زيادة ركن ونحوه.

ولكن ذهب المحقق النائيني قدس سره (2) إلى أنّ الظاهر من حكم الشارع في مورد قاعدة التجاوز بالمضي على نحو العزيمة، لأنَّه بعد أن حكم الشارع بوجوب المضي وإلغاء الشك

ص: 88


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص300.
2- .فوائد الأصول؛ ج4 ص653.

وعدم الإعتناء به لا يجوز إتيان الجزء أو الشرط المشكوك فيه ولو رجاءً لأنَّه لا موضوع له مع الحكم بوجوده فيكون الإتيان به من الزيادة العمدية.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ الإحتياط وإتيان المحتمل الآخر غير ما قامت عليه الحجة لا ينافي مثل الأمارات فضلاً عن الأصول؛ لأنّ معنى حجية الأمارة أو الأصل هو لزوم الإتيان بمؤداها لا عدم الإتيان بالمحتمل الآخر.

ثانياً: إنّ موضوع الإحتياط وجوباً أو جوازاً هو احتمال التكليف، وفي المقام إنّ احتمال عدم وجود المشكوك وجداني لا يرتفع بقاعدة التجاوز وإن حكم الشارع بالمضيّ وعدم الإعتناء بالشك امتناناً, فلا وجه لقول المحقق المزبور مع الحكم بوجود المشكوك والأمر بالبناء عليه وأنه لا موضوع للإحتياط.

ثالثاً: إن ما ذكره قدس سره من إنه يلزم من الإحتياط الزيادة العمدية موهون بما يلي:

1- إنه أخص من المدعى؛ لأنَّه بناء على ما هو عليه الحق من عدم اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة، وأنّ الزيادة العمدية مبطلة في خصوص الصلاة.

2- إنه يمكن الإحتياط بإعادة الصلاة لا بإعادة الجزء فقط حتى لا يلزم الزيادة العمدية.

3- إن كان المراد من الزيادة العمدية هو احتمال الزيادة فهذا الإحتمال موجود في الشك في المحل أيضاً، وأما التجاوز عن المحل فقد ذكرنا أنه لا يرفع الإحتمال.

فالحق ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره وغيره من أنَّ عدم الإعتناء بالشك في مورد القاعدتين على نحو الرخصة لا العزيمة كما هو الشأن في سائر الحجج الشرعية من الأمارات والأصول، ولا يوجد محذور في الإحتياط برجاء درك الواقع في موردها.

ص: 89

المبحث الحادي عشر: في البناء على كونهما من صغريات أصالة عدم السهو والغفلة والنسيان

فالقاعدتان لا تختصان بمورد خاص، بل تجريان في جميع العبادات والمعاملات. وأما بناء على التعبد فيهما فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة فلا تجري في غيرها مطلقاً, وقد عرفت أنه خلاف ظاهر الأخبار التي هي في مقام بيان الكبرى الكلية، والصلاة من صغريات تطبيقات تلك الضابطة والكبرى.

وأما قاعدة الفراغ فلم يقل أحد باختصاصها بالصلاة فهي تجري في جميع العبادات.

وكيف كان؛ فقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) إلى أنَّه بناءً على التعبد فيهما فالتعميم بحيث

تشملان جميع العبادات والمعاملات مبني على عدم كون المورد مخصصاً، وهو وإن كان كذلك, كما عرفت مفصلاً ولكن حيث أنّ الحكم مخالف لقاعدة الإشتغال فالإقتصار على المورد لعله يكون هو الأحوط، بل يمكن القول بأنه حتى بناءً على كونهما من صغريات أصالة عدم السهو والنسيان يشكل التعميم أيضاً لو لم يكن إجماع عليه في البين؛ لأنّ مدرك اعتبارهذا الأصل إنَّما هو السيرة والشك في تعميمها وهو يكفي في عدم التمسك بها للعموم. ولكن يمكن القول بالتعميم بناءً على كلا الرأيين؛ أي التعبد، وكونهما من صغريات الأصل, فإنّ الأخبار لها من الظهور في التعميم مِمّا لا يخفى، وكذا الأصل فإنّ بناء العقلاء تامّ في ذلك ولا شك فيه. فما ذهب إليه قدس سره مبني على الإحتياط الإستحبابي.

هذا كله ما يتعلق بقاعدتي التجاوز والفراغ، ولا ريب في تقديمهما على الإستصحاب سواءً كان على نحو الحكومة أو غيرها.

ص: 90


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص300.

قاعدة أصالة الصحة

اشارة

والكلام فيها من جهات:

الجهة الأولى: في بيان الدليل عليها.

لا ريب في أنها من القواعد المعتبرة, ويدل على اعتبارها الأدلة الأربعة:

أما الكتاب الكريم؛ فهي جملة من الآيات:

منها؛ ما تكون عامة, كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْ)(1).

وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(2).

وقوله تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ)(3).

ومنها؛ ما تكون خاصة ببعض العناوين, كقوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(4).

وقوله تعالى: ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)(5).

وغيرها من الآيات الواردة في مقام التسهيل والتيسير.

والمستفاد من مجموعها أنّ التكاليف الفردية والإجتماعية الدائرة بين الناس مبنية على التيسير والتسهيل مهما أمكن إليها من سبيل، ومن اليسر والسهولة حمل فعل المؤمن على الصحة.

وقد يستشكل على الإستدلال بها:

أما الطائفة الأولى؛ فإنها تختص بالمؤمنين.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنه على فرض الإختصاص لا يضرّ بالمقصود، مع أنها إذا كانت

ص: 91


1- . سورة البقرة؛ الآية 185.
2- . سورة الحج؛ الآية 78.
3- . سورة الحجرات؛ الآية 12.
4- . سورة المائدة؛ الآية 1.
5- . سورة النساء؛ الآية 29.

في مقام الإمتنان والتسهيل والتيسير فلا تختص بالمؤمنين، فتشمل المسلمين أيضاً كما سيأتي مزيد توضيح لذلك.

وأما الطائفة الثانية؛ فقيل إنها:

أولاً: تختص بالعقود بالمعنى الشامل للإيقاع كما هو مقتضى المدلول اللغوي بهذه الكلمة.

ويرد عليه أنه إذا تمّ في العقود فإنه يتمّ في غيرها لعدم القول بالفصل كما ستعرف.

ثانياً: إنّ الخطاب فيها متوجه إلى الملّاك دون غيرهم.

ويرد عليه: إنّ اختصاصها بالملاك ومن يلحق بهم كالوكيل ونحوه ممن يقوم بإجراء العقود من المسلمين لا يضرّ بالإستدلال بها.ثالثاً: إنّ التمسك بها في موارد الشك يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لورود مخصصات كثيرة عليها، ويحتمل كون الصادر من هذه المخصصات.

وفيه: إن القاعدة تجري في موارد إحراز الموضوع في الجملة كما سيأتي بيانه، فلا إشكال في التمسك بالآيات لاعتبار قاعدة الصحة.

وأما السنة؛ فهي أخبار مستفيضة واردة في أبواب متفرقة وبألسنة مختلفة, مثل:

1- قول أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام فِي كَلَامٍ لَهُ: (ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ, ولَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا)(1).

وقريب من هذا المضمون أخبار كثيرة.

2- رواية حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (لَوْ لَمْ يَجُزْ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ)(2)؛ فإنَّه لو لم تجر أصالة الصحة في فعل الغير لاستلزم اختلال النظام، وهو أشد من ترك العمل بأمارية اليد كما هو واضح.

ص: 92


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص362.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص292.

وأورد عليه بأنه تامّ ولكنه لا عمومية له ليشمل حتى مثل غسل الثوب فإنَّه لو لم تجر فيه أصالة الصحة لا يستلزم الهرج والمرج.

ولا وجه لهذا الإشكال؛ إذ لا مانع من إجراء قاعدة الصحة فيه، فإنَّه وإن لم يستلزم الهرج والمرج ولكنه يستلزم العسر والحرج.

وأما الإجماع؛ فالمتفق عليه هو إجراؤها عند الشك في فساد عمل أو قبحه، ولذا يعتمد على هذا الأصل في موارد النزاع في الصحة والفساد.

وأشكل عليه بأنّ تحصيل الإجماع في كل مورد بخصوصه مشكل، مع أنه لا يكون تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم علیه السلام .

وفيه: إنه يكفي حصول الإجماع على أصل اعتبار هذه القاعدة وإن كان في بعض الموارد يحتاج إلى تحقيق وإطباق العلماء على اعتبارها من دون خلاف منهم، وهو أصدق شاهد على كونه إجماعاً تعبدياً فلو لم يكن مثل هذا الإجماع كذلك لما بقي للإجماع مورد يعتمد عليه إلا نادراً.

وأما العقل؛ وهو بناء العقلاء على إجراء أصالة الصحة في فعل الغير وعدم تبادرهم إلى الحكم بالفساد عند الشك فيه, بل إنهم لا يعتنون بالشك مطلقاً، ومن بادر إلى الحكم بالفساد يستنكر منه ذلك. وقيام هذه السيرة عند العقلاء والمتدينين مِمّا لا يمكن إنكارها، وهي قائمة حتى زمان المعصومين علیهم السلام في جميع أفعالهم من العبادات والمعاملات، ومطلق الأحكام ممضاة شرعاً؛ إذ لم يرد ردع منهم علیهم السلام عنها.ويمكن الإستدلال عليها أيضاً بأصالة عدم السهو والنسيان لأنّ إتيان الفاسد خلاف ما يقتضيه طبع الإنسان فتكون الصحة مقتضى الطبع في كل شيء مطلقاً إلا مع الحجة على الخلاف. وقد تقدم مكرراً أنّ الأصول النظامية العقلائية لا تحتاج إلى التقرير، بل يكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع.

ص: 93

ومن هنا يظهر أنه لا وجه لإبداء المناقشة على الآيات والروايات، مع أن أي واحدة منها تكفي للتقرير واستكشاف عدم ثبوت الردع خصوصاً في الشريعة التي بنيت على التسهيل في الأمور الفردية والإجتماعية.

فلا إشكال في اعتبار هذه القاعدة مطلقاً، بل هو من المسلمات التي لا خلاف فيها أصلاً بعد كونها من المرتكزات في الأذهان، كما أنه لا إشكال في حكومتها على الإستصحاب.

الجهة الثانية: لا وجه للبحث في أنها أمارة أو قاعدة أو أصل

لما عرفت من أنه لا ريب في تقديم أصالة الصحة على الأصول؛ ومنها الإستصحاب؛ حكميةً كانت أم موضوعية مِمّا تدل على الفساد ما لم يكن دليل على الخلاف لانّ تقديمها على أصالة الصحة يلزم لغويتها وبطلان تشريعها مطلقاً، وهو واضح البطلان، إلا ما يقال من أن الثمرة تظهر فيما لو قلنا بأنها أمارة؛ فإنَّه يلزم ثبوت جميع الآثار المترتبة على الفعل الذي تجري فيه أصالة الصحة إذا كان صحيحاً واقعاً, سواء كانت تلك الآثار شرعية أم من اللوازم العقلية التي لها آثار شرعية. ولكن إذا قلنا بأنها من الأصل العملي سواء كانت من الأصول المحرزة أم لا فإنَّه لا يثبت بها إلا الآثار الشرعية التي تكون لذلك الفعل بلا واسطة أمر عقلي في البين. وقد تقدم أنّ ذلك لا يختص بأصالة الصحة، بل إنها تجري في كل أصل وأمارة، وهذا هو المراد من قولهم بأنّ مثبتات الأمارات حجة دون الأصول.

كما إنهم قالوا في الثمرة المترتبة على القول بأنها أصل بتقدم الأمارات المعتبرة عليها.

وقد بينا مكرراً أنه لا كلية لتلك المقولة من اعتبار مثبتات الأمارات مطلقاً دون الأصول؛ فإنّ اعتبار مثبتات كل واحد منهما لا بُدَّ فيه من الرجوع إلى القرائن التي يستفاد منها ذلك، كما إنه لا دليل على كلية تقدّم الأمارات على الأصول مطلقاً.

ص: 94

وكيف كان؛ فإنَّه لا ريب في تقدّم أصالة الصحة على الأصول كما تقدم.

وأما كونها من الأصول المحرزة فإنَّه لا بُدَّ من الرجوع إلى الدليل الذي يعتمد عليه في اعتبار هذا الأصل؛ فإن كان مدركه الإجماع فإنّ القدر المتيقن من معقده هو ترتيب الآثار الشرعية للفعل بلا واسطة الأمر العقلي، وإن كان بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع فإنَّه يدل على كونه أمارة، فتكون حجة في مثبتاتها. إلا أنيقال بإنّ بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع من غير تتميم الكشف لا يمكن إثبات اللوازم العقلية به، فيكون أصلاً عملياً وعليه فلا يثبت بأصالة الصحة ما يلازم الفعل الصحيح عقلاً، بل يترتب على ذلك الفعل الآثار الشرعية فقط. ومن أجل ذلك فرّع الشيخ الأنصاري قدس سره (1) عليه بإنه لو شكّ في الشراء الصادر من الغير إما مما لا يُملك كالخمر والخنزير, أو بعين من أعيان ماله فإنَّه لا يحكم بخروج تلك العين من تركته, بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع لأصالة عدمه. فإن المستفاد من كلامه قدس سره صحة المعاملة بأصالة الصحة, ولكن لازم الصحة عقلاً أن يكون الثمن عيناً من أعيان ماله, لا الشيء الذي لا يملك كالخمر والخنزير لأنّ ما لا يملك ليس قابلاً للنقل والإنتقال شرعاً.

وبعبارة أخرى: تردد الثمن بين ما لا يملك وبين عين من أعيان أمواله إذا انضم إلى صحة المعاملة يكون لازمها عقلاً هو أن يكون الثمن مملوكاً, فإنّ كونه غير مملوك ينافي الصحة وهو من اللوازم العقلية للصحة لا من الآثار الشرعية، فلا يمكن إثبات هذا اللازم العقلي, وعلى هذا يحكم بصحة المعاملة بأصالة الصحة وينتقل المبيع إلى ورثة المشتري ولكن لا ينتقل شيء من تركته إلى البائع لاحتمال أن يكون الثمن ما لا يملك، وعلى هذا يحتمل بطلان المعاملة واقعاً. ولكن مع إجراء أصالة الصحة نحكم بالصحة ولا ينافيها

ص: 95


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص728.

احتمال البطلان فإنّ مورد جريان أصالة الصحة دائماً هو مع احتمال البطلان. نعم؛ لا يجوز للورثة التصرف في المبيع ومجموع التركة إذا كان طرف الترديد في الثمن المسمى عيناً معيناً وذلك من جهة العلم الإجمالي؛ إما بعدم دخول المبيع في ملك مورّثهم لو كان الثمن المسمى ما لا يملك، وإما بخروج تلك العين الشخصية أو مقدار ما يساوي المبيع من التركة من ملك مورّثهم فيجب الإحتياط بمقتضى هذا العلم الإجمالي كما أشار إليه المحقق الهمداني قدس سره (1) في حاشيته على الرسائل.

وقد استشكل على ذلك المحقق النائيني قدس سره (2) بأنَّ القول بصحة الشراء مع عدم انتقال شيء من تركته إلى البايع متنافيان، فحينئذٍ يعلم إجمالاً بكذب أحد الأصلين؛ إما أصالة الصحة، وإما أصالة عدم الإنتقال فيتساقطان بالتعارض، فيحكم ببطلان هذا الشراء للشك في قابلية الثمن للنقل والإنتقال.

واعترض عليه بإنّ ذلك صحيح بالنسبة إلى الصحة الواقعية وانتقال المبيع واقعاً إلى المشتري وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع واقعاً فإنهما متنافيان، ولكنه ليس كذلك بالنسبة إلى الصحة الظاهرية وعدم الإنتقال ظاهراً إذ من الممكن عدمالصحة واقعاً، ولكن الشارع حكم بالصحة ظاهراً في الشك كما أنّ الأمر كذلك في صورة العكس، أي يحكم الشارع ظاهراً بعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع وحكمه بصحة المعاملة واقعاً فإنَّه لا تنافي بين الظاهرين فيهما.

والصحيح أن يقال: إنّ أصالة الصحة إنَّما اعتبرها الشارع لتصحيح الأفعال والأقوال عند احتمال بطلانها وفسادها فإذا استلزم من إجرائها التنافي بين الأدلة والأصول فلا

ص: 96


1- 1حاشية فرائد الأصول (الفوائد المرتضوية على الرسائل المرتضوية)؛ ص487.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص666.

مجرى لها، فلا بُدَّ حينئذٍ من الرجوع إلى القواعد الأخرى، وفي المقام إنّ أصالة عدم انتقال المبيع عند الشك في كون الثمن مِمّا يملك أو لا يملك يقتضي الحكم بالبطلان. فما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره لا إشكال فيه.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ الصحة أقرب إلى الأمارة من كونها أصلاً محرزاً كما هو المستفاد من ظواهر الأدلة التي استدل بها على حجيتها فراجع.

وأما الثمرات التي ذكروها في المقام وغيرها فقد عرفت أنه لا كلية فيها، والمتبع هو الدليل وحصول الإطمئنان المعتبر فيها، ويمكن القول بأنّ أدلة أصالة الصحة تشمل الآثار الشرعية والعادية والعقلية المترتبة عليها لأنَّها من الأصول العقلائية ومن صغريات أصالة عدم السهو والنسيان والغفلة إلا إذا ثبت الردع عن الشمول لبعض الآثار الشرعية وهو مفقود.

ثم إنّ الأعلام فرّقوا بين أصالة الصحة وقاعدة الفراغ من جهتين:

إحداهما: أنّ قاعدة الفراغ إنَّما تجري في فعل الفاعل نفسه، وأصالة الصحة تجري في فعل الغير.

والأخرى: إنّ مجرى القاعدة بعد الفراغ من العمل عند الشك في صحته وفساده، وإن قلنا بأنها تتحد مع قاعدة التجاوز أيضاً في أثناء العمل. أما أصالة الصحة فإنها تجري في أثناء العمل وبعد الفراغ عنه على حدٍّ سواء للسيرة وإطلاق الأدلة؛ فإذا شككنا في أثناء صلاة فرد أنه قد أتى بجزء أو شرط معين فلا بُدَّ من حمل فعله على الصحة.

الجهة الثالثة: في المراد من الصحة

وقد ذكروا لها معانٍ باعتبارات مختلفة:

1- إنه تارة؛ يراد من الصحة الحسن، ويقابله القبح؛ فإذا شك فيما صدر من الغير كان حسناً أو قبيحاً فإنَّه يحمل على الحسن بمقتضى أصالة الصحة. وأخرى؛ يراد بها المؤثر ويقابلها الفاسد. والأدلة التي تقدم ذكرها تشمل المعنيين على حدٍّ سواء.

ص: 97

نعم أصالة الصحة بالمعنى الأول لا تستلزم صحته بالمعنى الثاني دائماً كما هو واضح. وقد استشكل بعضهم بأنّ الأدلة التي تدل على حجية أصالة الصحة بالمعنى الأول موضوعُها فعل المؤمن دون غيره، وقد عرفت الجواب عنه فيما سبق. ويأتي مزيد بيان له إن شاء الله.

2- الصحة الواقعية؛ وهي الصحة باعتقاد الفاعل، والصحة باعتقاد الحامل.المعروف عندهم أنّ المراد بالصحة في أصالة الصحة هي الصحة الواقعية، واستدل عليها: أولاً: إنّ المعاني الواقعية هي المنساقة في المحاورات مطلقاً ما لم يدل دليل على الخلاف، وهو مفقود في المقام.

ثانياً: إنّ الصحة الإعتقادية والظاهرية طريق إلى الواقع، ولا موضوعية فيها بوجه.

ثالثاً: إنّ أصالة الصحة من الأصول النظامية كأصالة الإباحة في الأشياء وأصالة احترام النفس والعرض والمال وغيرها؛ تكون متعلقاتها واقعيات ما لم يدل دليل على الخلاف.

رابعاً: عدم ترتب الأثر على صحة العمل بنظر الفاعل ما لم يكن صحيحاً بنظر الحامل، والسيرة جارية على ترتيب الحامل آثار الصحة على فعل الغير؛ فإذا فرضنا أنّ الفاعل يرى جواز تغسيل الميت ارتماساً فإنّ إجراء الصحة في تغسيله لا يوجب سقوطه على الحامل.

خامساً: إنّ الظاهر من الأدلة كسيرة العقلاء والإجماع وغيرهما هو الصحة الواقعية، وإلا فلو كانت الصحة باعتقاد الفاعل لما كان للصحة أثر عند العقلاء بل الناس جميعاً، فيكون شأن الشك في الفعل الصادر من الغير شأن الشك في صحة العمل بعد الفراغ عنه، فإنّ مفاد قاعدة الفراغ حمل الفعل الصادر عن الفاعل نفسه على الصحة الواقعية، وكذلك يكون الأمر في فعل الغير فإنّ الصحة في جميع تلك الموارد هي الصحة الواقعية، فلا إشكال في ذلك.

ص: 98

ثم إنّ في موارد حمل الفعل على الصحة صوراً:

الأولى: أن تكون الصحة عند الفاعل والحامل واحدة إجتهاداً أو تقليداً.

الثانية: أن تكون مختلفة عندهما وفيها احتمالات.

الثالثة: أن تكون الصحة في نظر الفاعل تمام الموضوع في الصحة عند الحامل.

والظاهر جريان أصالة الصحة في جميع تلك الصور؛ فإنّ السيرة قائمة على إجرائها ولا محذور في ذلك من عقل أو نقل وهو الذي تقضيه سهولة الشريعة.

إلا أنه قد يقال أنّ في صورة اختلاف الصحة بين الحامل والفاعل، فإنَّه:

تارةً؛ يتحد حكم المسألة بحسب نظر الحامل والفاعل بأن كان أحدهما مقلداً للآخر، أو مقلدين لشخص آخر فإنَّه لا إشكال في جريان أصالة الصحة، بل يكون هذا المورد هو المتيقن من موارد أصالة الصحة.

وأخرى؛ يختلف الحكم بالتباين بحسب نظريهما بأن يرى الحامل شرطاً ويراه الفاعل مانعاً؛ كما إذا كان الفاعل مسافراً إلى أربعة فراسخ ويريد الرجوع ليومه فيرى كونه موجباً لقصر الصلاة، والحامل لا يراه موجباً له فإنّ الركعتين بنظر الفاعل تكون مانعاً وبنظر الحامل شرطاً، وفي هذه الحالة يمكن القول بعدم جريانأصالة الصحة؛ فإنّ حمل فعل الغير على الوجه الحسن المشروع ينافي حمله على ما يراه فاسداً ولو كان هو الصحيح بنظر الحامل.

ولكن يمكن لنا القول بأن السيرة تشمل هذه الحالة أيضاً؛ إذ المناط هو الصحة مطلقاً وهي تتحقق بإجراء أصالة الصحة.

وثالثة؛ أن لا يكون الإختلاف بالتباين؛ بأن يراه الحامل شرطاً، ولا يراه الفاعل شرطاً ولا مانعاً كالسورة في الصلاة. والمعروف جريان أصالة الصحة كما ذكره الشيخ الأنصاري

ص: 99

قدس سره (1), فإنَّه من المحتمل أن ّالفاعل قد أتى بذلك الشرط وإن لم يره شرطاً من باب أفضل الأفراد، فيمكن حمل فعله على الوجه الحسن. والسيرة قائمة على ذلك وإن استشكل بعضهم في إثبات قيام السيرة، ولكنه ليس بشيء، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتروك شرطاً أو لا. وذهب بعض الفقهاء إلى الفرق بينهما فإنَّه إذا كان ما يراه الحامل شرطاً ولم يكن من الأركان كالتسبيحات الأربع فإنّ الإخلال بها لا يوجب الإعادة، وبين ما إذا كان كذلك كالسورة؛ فإنَّ المأموم مكلف بالقراءة والإمام يتحملها عنه، فإذا فرض أنه لم يقرأها لأنَّه لا يراها واجبةً لم تسقط عن الماموم، فلا يجوز له الإقتداء به إلا بعد ركوع الإمام وسقوط القراءة. ولكن الحق عدم الفرق بينهما.

الجهة الرابعة: يشترط في جريان أصالة الصحة إحراز عنوان العمل

وذلك بأن يعلم بأنّ الصادر منه بيع أو إجارة أو هبة أو غير ذلك، وإلا فلا مورد لجريانها وإن علم بأنّ الصادر منه عمل ما ولكن لا يعلم عنوانه. كما يشترط فيه أنّ يكون الصادر منه عن قصد واختيار وإلا فلا مجرى لها.

واستدل على كلا الشرطين بسيرة العقلاء وبنائهم؛ فإنها تجري في العمل الصادر منه عن قصد بعنوان معين، ثم احتمل فقْد جزء أو شرط أو وجود مانع فإنهم لا يعتنون بذلك الإحتمال ويبنون على الصحة. وأما إذا كان الشك في أنه قصد الفعل أم لا، أو قصد الفعل المعين فإنَّه يشك في شمول بنائهم لذلك، فيكون قصد العنوان بمنزلة الموضوع لهذا الأصل، ولا وجه لجريانه مع الشك في موضوعه ولكن يمكن القول بأنّ ذلك وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى الشرط الأول إلا أنه لا يتم بالنسبة إلى الشرط الثاني فإنّ نفس جريان قاعدة الصحة في العمل يدل عرفاً على تحقق القصد والإختيار أيضاً، ولا يبتني ذلك على

ص: 100


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص722.

اعتبار مثبتاتها حتى يقال بعدم الحجية فيها لأنّ القصد سواء كان شرطاً للعمل أم جزءً منه يكون كسائر أجزاء العمل وشروطه، فكما تجري القاعدة في ما إذا شك في تحققها تجري عند الشك في تحقق القصد والإختيار أيضاً لا سيما بعدما عرفت من أنها من صغرياتأصالة عدم الغفلة، وهي جارية في الشك في القصد أيضاً. وهو تامٌّ في أصل صدور العمل، وشكٌّ في كونه عن قصد أو صدر عن غير قصد.

وكذا إذا كان العمل مِمّا لا يتقوم بعنوان معيّن كالتطهير من الخبث فإنَّه لا حاجة إلى قصد العنوان، بل لا حاجة إلى القصد أصلاً؛ فإنّ أصالة الصحة تنفي أيَّ احتمالٍ للفساد، ولكن لو كان الفعل متقوماً بقصد عنوان معين كما لو شك في صلاة الظهر أو العصر مثلاً في أنه قصد الظهرية أو العصرية وكذلك في غيرهما من الصلوات، وكل فعل معنون بعنوان قصدي بحيث لا يتحقق إلا بذلك العنوان فإنَّه لا يجري الأصل المزبور إلا بعد إحراز ذلك العنوان.

كما أنه يعتبر في جريان هذا الأصل وجود الشيء؛ فإذا حدث الشك في الشيء الواقع في أنّ ما أتى به هل هو صحيح؛ أي تامّ من حيث الأجزاء والشروط وعدم الموانع ويترتب عليه الأثر المطلوب منه، أو لا فإنّ هذا الأصل يجري ويحكم عليه بالصحة، وأما قبل وجوده فلا معنى لأن يقال بأنّ ما يريد أن يأتي به صحيح وتام يترتب عليه الأثر.

وعليه؛ فلو شك في الفعل الصادر من شخص -سواء كان بعده أم في أثنائه- هل هو صحيح أو لا، فإنّ هذا الأصل يجري ويحكم عليه بصحة ما أتى به جزءً أو كلاً، ولكنه لا يجري قبل إتيان الغير له، وليس بناء العقلاء على ذلك. فلو شك بعد إتيان عمرته التمتعية في صحتها فإنَّه تجري أصالة الصحة بالنسبة إليها، ولكنها لا تجري بالنسبة إلى الحج الذي لم يأتِ به بعد، وهذا واضح. وهناك فروع أخرى مذكورة في محلها فراجع.

ص: 101

الجهة الخامسة: لا فرق في مجرى هذه القاعدة بين كونها من العبادات أو غيرها مطلقاً.

ونعني بذلك في العقود والإيقاعات؛ لشمول الأدلة للجميع، بل عن بعضٍ دعوى إجماع آخر على جريانها في غير العبادات غير الإجماع على أصل اعتبارها، بل الظاهر أنّ مورد استدلالهم بأنه لو لم تجرِ لاختل النظام وتعطلت أسواق الأنام إنَّما هو في غير العبادات.

ومن المعلوم أن هذا الأصل في المعاملات الأعم من العقود والإيقاعات مقدّم على أصالة الفساد التي هي عبارة عن أصالة عدم النقل والإنتقال فيها، وإنما الكلام في أنّ جريان أصالة الصحة في صحتها مطلقاً أو أنّ هناك تفصيل؛ فإنّ هنا احتمالات ثلاثة، وقد قال بكل واحد منها قائل:

الأول: الجريان في صحتها مطلقاً سواء كان الشك من جهة وقوع خلل في شروط العقد أم في شروط المتعاقدين أم في شروط العوضين. واستدلوا عليه بعموم الدليل وإطلاق التعليل. نعم؛ لو كان الشك في أصل الصدور والوجود بمفاد كان التامة فإنَّه لا مجرى له حينئذٍ لأنّ مجراه هو الشك في صحة الموجود لا الشك في أصل التحقق والوجود كما هو المتفاهم من الأدلة اللفظية ومقتضى السيرة العقلائية كما تقدم آنفاً.الثاني: الجريان في مورد الشك في شرائط نفس العقد فقط دون شرائط المتعاقدين أو العوضين.

الثالث: الجريان فيما سوى الشروط العرفية للمتعاقدين أو العوضين.

وتظهر الثمرة بين الإحتمالات؛ أنه بناءً على الإحتمال الأول تكون أصالة الصحة متقدمة على كل أصل يقتضي فساد العقد سواء كان منشأ الفساد الشك في شروط العقد أم شروط المتعاقدين أم شروط العوضين.

وبناءً على الإحتمال الثاني تكون حاكمة على الأصل الذي يقتضي الفساد الجاري في شروط العقد نفسه دون ما يقتضي الفساد الجاري في شروط المتعاقدين أو شروط العوضين.

ص: 102

وبناءً على الإحتمال الثالث تكون حاكمة على كل أصل يقتضي الفساد إلا إذا كان الأصل الذي يقتضي الفساد في الشروط العرفية للعوضين أو المتعاقدين.

تفصيل ذلك؛ إنّ العمل الواقع خارجاً من عقد أو إيقاع أو غير ذلك إذا أحرز قابلية الفاعل لصدور الفعل عنه وقابلية المورد لوقوع الفعل عليه شرعاً وعقلاً -وهذا هو المراد بقول الفقهاء الصحة التأهلية- ولكن شك في صحته الفعلية من بقية الجهات؛ كاحتمال فقدانه لشرط أو نحوه مِمّا اعتبر فيه فإنَّه لا إشكال في جريان أصالة الصحة، بل هذا هو القدر المتيقن من مورد جريانها.

وقد يكون الشك فيه من جهة الشك في قابلية الفاعل لصدور الفعل عنه أو قابلية المورد لوقوعه عليه، وقد وقع الخلاف في هذا القسم، وفيه قد تكون القابلية المشكوكة مِمّا اعتبرها العقلاء في الفاعل كالشك في صحة البيع الصادر من أحد لاحتمال كونه غير مميز فإنَّ عقد الصبي غير المميز ليس بصحيح عند العقلاء وفي قابلية المورد، كما إذا شك في صحة بيع لاحتمال أن لا يكون المبيع مالاً؛ كالخنفساء بناءً على اعتبار المالية فيه عقلاً، وهو مورد الخلاف أيضاً. وقد تكون القابلية مِمّا اعتبرها الشارع فقط في الفاعل كما إذا شك في صحة عقد لاحتمال عدم كون العاقد بالغاً لاعتبار البلوغ في المتعاقدين شرعاً لقوله علیه السلام : (حتى يحتلم)(1)، وليس معتبراً عند العقلاء، أو في المورد كما إذا شككنا في صحة البيع لاحتمال كون المبيع خمراً أو خنزيراً، فإنّ كل واحد منهما وإن كان مالاً عرفاً ولكن الشارع منع من بيعها.

وقد ذهب المحقق الثاني(2) والعلامة(3) إلى اختصاص أصالة الصحة بما إذا كانت الصحة

ص: 103


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص45.
2- . جامع المقاصد؛ ج7ص307.
3- . قواعد الأحكام؛ ج2ص156، تذكرة الفقهاء؛ ج2ص87.

التأهلية محرزة، وكان الشك في الصحة الفعلية، وأنها لا تجري فيما إذا كان الشك في الأركان؛ أعني القابلية. وذهب الشيخ الأعظم(1) إلى جريانها مطلقاً.

وقد يستدل لما ذهب إليه العلمان (قدس سراهما) بالرجوع إلى بناء العقلاء وسيرتهم فإننا نرى بالوجدان أنّ أحداً إذا باع مالاً لم يكن تحت يده أو احتملنا كونه مالكاً أو وكيلاً أو أجنبياً فإنَّه ليس لبناء العقلاء حمل فعله على الصحة والحكم بكونه مالكاً للبيع وترتيب آثار الصحة على بيعه. وكذا إذا طلق أحد زوجة غيره واحتملنا كونه وكيلاً عن الزوج أو أجنبياً فليس بناء العقلاء على بينونة الزوجة عن زوجها بمجرد ذلك عملاً لحمل فعل المطلِّق على الصحة. هذا من حيث الشك في قابلية الفاعل.

وهكذا إذا كان الشك في قابلية المورد، كما إذا شككنا في صحة من يصلي على الميت لاحتمال أن لا يكون المصلى عليه ميتاً فإنّ سيرة العقلاء لم تثبت على الإكتفاء بصلاته، ولو شككنا في ثبوت السيرة وعدمها، كان مجرد الشك كافياً في عدم جريان أصالة الصحة كما هو واضح.

ويرد عليه:

1- إنّ عموم الدليل وإطلاق التعليل ثابت لا يصحّ إنكاره.

2- إنّ السيرة قائمة على كفاية مجرد تحقق الإلتزام في الخارج بعد معرفة عنوانه من عقد أو إيقاع، فلو تحقق بيع في الخارج وشككنا في كونه من البيع الصحيح عند العقلاء لاحتمال فقْد قابلية الفاعل فيه أو فقْد قابلية المورد فإنَّه أصالة الصحة تجري ويبنى على صحته. والسيرة قائمة على ذلك، وقد ذكرنا أنّ مجراها هو الشك في صحة الموجود، لا الشك في أصل التحقق والوجود، والمقام من الأول دون الثاني.

ص: 104


1- . فرائد الأصول؛ ج2ص724.

ومن هنا فإنّ الشيخ الأنصاري قدس سره ذهب إلى أنّ العقلاء من المتدينين وغيرهم يدخلون السوق ويشترون الأموال من أهل السوق مع أنهم يحتملون انتقالها إليهم من الصبي أو السارق أو الغاصب، كما إنهم يبنون على مالكيتهم لما في أيديهم إذا احتملوا أنهم شروها من الصبي أو السارق ومن ليس أهلاً للمعاملة حتى عند العقلاء.

ولا وجه للإشكال عليه بأنّ الموارد المذكورة إنَّما تكون من جهة اليد لما في يد غيره أو في يد نفسه فإنّ اليد أمارة الملك مطلقاً؛ فهي خارجة عن محل الكلام لأنّ مورد البحث إنَّما هو الإعتماد على مجرد أصالة الصحة.

وفيه: إنّ مورد كلام الشيخ قدس سره هو الشك في صحة نقل وانتقال ما في السوق من جهة الشك في صحة معاملاتهم لفقْد شرط من شروطها؛ إما قابلية الفعل أوقابلية المورد، وليس الشك في مالكيتهم لما في أيديهم حتى يقال بأنّ اليد أمارة الملك مطلقاً. والفرق بين مراد الشيخ قدس سره وما ذكره المستشكل واضح.

3- إن ما ذكر من الإيراد على استدلال الشيخ لعله يرجع إلى أنّ فقْد جزء أو شرط يرجع إلى الشك في أصل الوجود، لأنّ الكل ينعدم بانعدام جزءه -شرعياً كان أم غيره- كما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه كذلك، فلا مجرى لأصالة الصحة.

ويرد عليه: إنّ المناط في أصل التحقق المعتبر في جريان أصالة الصحة هو التحقق العرفي على الإجمال والخروج من العدم إلى الوجود في الجملة، لا التحقق من كل حيثية وجهة بجميع القيود والشرائط المعتبرة فيه، وإلا فلا يبقى مورد لجريان أصالة الصحة فيكون المقام نظير التمسك بالعمومات والإطلاقات في المعاملات لنفي القيود المشكوكة، فإنَّه كما يكفي فيها مجرد التحقق العرفي في الجملة لئلا يكون التمسك بها في الشبهة المصداقية، فكذا المقام اللهم إلا أن يستلزم الشك في الشرط

ص: 105

والجزء الشك في أصل الوجود العرفي فإنَّه لا وجه لجريان قاعدة الصحة. وهو صحيح، ولعل نظر المحقق الثاني قدس سره إلى هذا القسم.

فالصحيح ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره من جريان أصالة الصحة مطلقاً في المعاملات –العقود والإيقاعات- سواء كان منشأ الشك من جهة نفس العقد أم كان من جهة قابلية الفاعل أم كان من جهة قابلية المورد؛ لإطلاق الأدلة وعموم التعليل والسيرة الجارية بين الناس. ولكنه قدس سره ذكر أننا لو فرضنا التنزّل عما ذكرنا وقلنا بعدم جريان أصالة الصحة فيما إذا كان الشك من جهة قابلية الفاعل أو من جهة قابلية المورد فلا بُدَّ من إحراز ذلك في جريانها فإنه يصحّ في الإيقاعات والعقود إذا كان الشك في قابلية كلا الطرفين. وأما إذا لم يكن كذلك كما إذا أحرزت القابلية في أحد الطرفين دون الآخر فتجري أصالة الصحة في فعله، وتترتب عليه آثار العقد الصحيح التام من حصول الملكية والنقل والإنتقال مثلاً.

والصحيح أن يقال: إذا قلنا بجريان أصالة الصحة من جهة الشك في الصحة وإنها تجري مطلقاً؛ سواء كان من الطرفين أو من طرف وحد لأنّ مرجع الشك في صحة الموجود لا في أصل التحقق والوجود إذ لم تجر أصالة الصحة لأنَّه من الشك في أصل تحقق الجزء أو الشرط، فلا مجرى لها في كلا الموردين.

وعلى ضوء ما تقدم يتبين حكم العقود التي تتوقف صحتها على تحقق أمرين؛ أحدهما أصل العقد، والآخر تحقق الأذن من المالك. وإن اختلف الفقهاء فيها وهي كثيرة:منها؛ عقد الفضولي، وبيع العين المرهونة إذا اختلف المالك والعاقد في الأذن وعدمه.

فقد قالوا بجريان أصالة الصحة في نفس العقد ويحكم بصحته بحدّ نفسه، ولا إشكال فيه. وهذا هو أحد الجزئين وأما الجزء الآخر -وهو

ص: 106

إجازة المالك المشكوك وجودها- فهو أمرٌ آخر لا يرتبط بأصالة الصحة ولا يثبت بها وإن جرى في أحد جزئَي المركب كما في المقام.

وبعبارة أخرى؛ إنّ أصالة الصحة إنَّما تثبت الصحة التأهلية، وأما الصحة الفعلية المتوقفة على إجازة المالك فلا يمكن إثباتها بأصالة الصحة فلا يمكن ترتيب النقل والإنتقال إلا بعد إحراز رضا المالك.

وكذلك عقد الرهن؛ فإنَّه إذا باع الراهن ماله المرهون مع الشك في إذن المرتهن فإنَّ موضوع الأثر فيه مركب من العقد الصادر من المالك الراهن، وإذن المرتهن. وأصالة الصحة في الأول لا تثبت إذن المرتهن أو إجازته.

بل قيل: إنه لا معنى لإجراء أصالة الصحة في نفس العقد الصادر من الفضولي أو الراهن فإنَّه محرز بالوجدان، ولا وجه لجريان أصالة الصحة في ما علم بتحققه وعدم الخلل فيه.

وفيه: إنّ جريان أصالة الصحة في نفس العقد من حيث هو إنَّما يثبت الصحة التأهلية بمعنى قابلية العقد لأن يكون جزءَ السبب، ويلحقه الإذن والرضا ممن له ذلك. وهذا المقدار من الأثر كافٍ في جريان أصالة الصحة، ولا يكون مجراها دائماً عند الشك في الصحة الفعلية حتى يقال بأنّ المقام ليس كذلك.

ومنها؛ بيع الصرف والسلم والهبة ونحوها مِمّا اعتبر فيه القبض، فإنّ النقل والإنتقال فيها مركب من أمرين؛ تحقق العقد الصحيح بالقبض، والإقباض في المجلس. ولا يترتب على أصالة الصحة في الأول تحقق القبض وهو الجزء الآخر وترتب الأثر من النقل والانتقال على المجموع فإنَّه لا بُدَّ من إحرازه ليترتب عليه الأثر.

ومنها؛ بيع الوقف عند الشك في عروض المجوّز.

والحق أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية والسيرة هو ترتيب جميع آثار الصحة مطلقاً؛ فإنّ كل أثر يترتب على الصحيح الواقعي يترتب على المشكوك الصحة، فلو شك

ص: 107

في صحة بيع الصرف من جهة الشك في تحقق القبض في المجلس، أو في بيع الوقف من جهة عروض المجوّز، أو بيع الفضولي من جهة لحوق الإجازة، وفي عمل النائب من جهة الشك في فراغ ذمة المنوب عنه؛ فإنّ الكل من مجاري هذه القاعدة، وبجريانها تترتب آثار الصحة حتى بالنسبة إلى ذمة المنوب عنه.

هذا كله إذا شك غير المتعاملين في صحة العقد وفساده، أو اعترف أحدهما بالصحة والآخر بالفساد إجمالاً من دون الإعتراف بمنشأ الفساد بالخصوص. وأماإذا اعترف أحدهما بالصحة وصرّح الآخر بعدم الرضا حين العقد، أو إذا علم بصدور البيع عن المالك الراهن -مثلاً- وعلم برجوع المرتهن عن إذنه ولكن شك في المتقدم منهما؛ فلو كان الرجوع بعد البيع فلا أثر له، فالبيع صحيح، ولو كان متقدماً عليه فالبيع باطل، فإنّ جريان أصالة الصحة في مثل ذلك مشكلٌ لعدم ثبوت السيرة في مثل هذه الصورة، والمتيقن من الإجماع غيرها. ولذا ذهب جمعٌ كثير إلى عدم الجريان، ولكن هل يمكن تصحيح البيع بإجراء أصالة الصحة في إذن المرتهن فإنّ صحة إذنه تستدعي صحة البيع؟.

إختار هذا الوجه بعض الفقهاء، أو القول بفساد البيع كما ذهب إليه جمعٌ آخرين تمسكاً بأصالة الصحة في الرجوع فإنّ صحته تستدعي عدم ترتيب الأثر على البيع.

وأُشكل على كلا القولين:

أما الثاني؛ فلأنّ صحة الرجوع لا تستدعي فساد البيع، لأنّ الفساد من آثار تأخّر البيع عن الرجوع وكونه بدون إذن المرتهن، وليس من آثار صحة الرجوع بما هو.

وأما الأول؛ فلأنّ صحة الإذن لا تستلزم صحة البيع لما تقدم من أنّ جريان أصالة الصحة في الإذن يستلزم صحته بحدّ نفسه خارجاً، ولكنه لا يستلزم صحة عقد البيع الذي هو الجزء الآخر بالنسبة إلى حصول المبادلة التي تترتب على المجموع، وهو البيع بإذن المرتهن. وقد تقدم أنّ إجراء الأصل في أحد الجزئين لا يقتضي صحة الجزء الآخر.

ص: 108

ولكن الحق؛ عدم جريان أصالة الصحة في مثل هذه المعاملات والعقود لعدم ثبوت السيرة، كما أنهم لم يتمسكوا بهذا الأصل فيما إذا عقد رجل على بنت الأخ وادّعت العمة عدم الإذن وادعى هو الإذن، فإنّ الفقهاء يقدّمون قول العمة مع أنّ المقتضي هو أصالة تقديم قول الرجل.

وقد يقال في مسألة بيع العين المرهونة بأنّ أصالة عدم تحقق الرجوع إلى زمان وقوع البيع يقتضي القول بصحة البيع؛ وذلك لأنّ موضوع الأثر شرعاً في مثل هذا البيع الذي يكون سبباً للنقل والإنتقال هو صدور البيع عن المالك الراهن مع إذن المرتهن، والأول محرز وجداناً، والثاني بأصالة عدم الرجوع فإنّ معناه بقاء الإذن فيتحقق كلا جزئي الموضوع؛ أحدهما بالوجدان والثاني بالأصل وهو أصالة عدم الرجوع أو بقاء الإذن فإنهما بمعنى واحد. اللهم إلا أن يقال بأنّ هذا الأصل معارض باستصحاب عدم وقوع البيع إلى زمان الرجوع، ولكنه موهون بأنَّ هذا الأصل مثبت؛ إذ لازمه عقلاً وقوع البيع مع عدم إذن المرتهن.

وكيف كان؛ فإنّ ما ذكرناه من جريان أصالة الصحة في غير الصورتين السابقتين هو ترتب جميع آثار الصحة مطلقاً، فكل أثر يترتب على الصحيح الواقعي يترتب على مشكوك الصحة أيضاً. وعلى هذا قلنا بجريان أصالة الصحةفي بيع الفضولي وبيع الصرف وبيع الوقف كما عرفت مفصلاً، وكذلك في عمل النائب؛ فإنّ الكل من مجاري هذه القاعدة، فتجري في فعل النائب أيضاً لو شككنا بعد عمل النائب في أنه هل قصده عن المنوب عنه أو لا؛ فإنَّه يجريان أصالة الصحة تترتب آثار الصحة مطلقاً حتى بالنسبة إلى فراغ ذمة المنوب عنه. إلا أنّ الفقهاء اختلفوا في ذلك أيضاً وهو يرجع إلى ما هو معروف من أنّ العناوين القصدية لا تجري فيها أصالة الصحة إلا بعد إحراز أنَّ الفاعل لذلك قد قصد

ص: 109

ذلك العنوان الخاص، لما تقدم من اعتبار جريان الصحة لإحراز كون الفاعل قد قصد العنوان الخاص، ثم شك في صحته وفساده فإنّ الذي يصلي صلاة الظهر مثلاً لا تجري أصالة الصحة في فعله إلا بعد إحراز أنه قصد عنوان الظهرية. والنيابة من العناوين القصدية بلا إشكال، فلو أتى النائب بفعل من صلاة أو صيام أو حج أو زيارة أحد المعصومين علیهم السلام ,؛ فما لم يقصد كونها من المنوب عنه لا تقع النيابة عنه إلا إذا أحرز المنوب عنه بأنه قد قصد بفعله النيابة عنه، فإذا أحرز ذلك بمحرِز وجداني أو تعبدي ثم شك في صحة فعله من جهة اشتماله على جميع الشروط والأجزاء أو عدمه فإنَّه تجري أصالة الصحة في فعل النائب ويثبت جميع آثار الصحة؛ ومنها وقوعه عن المنوب عنه وفراغ ذمته، ويستحق النائب الأجرة على فعله إن كانت له أجرة.

وبالجملة؛ لا بُدَّ في جريانها من تحقق الفعل خارجاً وإحراز قصد الفاعل لعنوان الفعل في العناوين القصدية، وقد ذكرنا بأنّ السيرة والأدلة لا تشمل ما إذا لم يوجد الفعل أو شك في قصد الفاعل للعنوان الخاص. وعلى هذا الأساس قالوا بأنه إذا أتى النائب بالعمل وشككنا في أنه قصد به وقوعه عن المنوب عنه أو لم يقصد ذلك فإنَّه لا يمكن الحكم بفراغ ذمة المنوب عنه واستحقاق الأجير للأجرة بأصالة الصحة، لأنّ المفروض أنّ الشك إنَّما هو في أصل تحقق الفعل عن المنوب عنه خارجاً، ولا يجري الأصل المزبور عند الشك في وجود العمل وأصل قصده.

إلا أنّ الشيخ الأنصاري قدس سره (1) ذهب إلى التفصيل بين استحقاق النائب للأجرة، وفراغ ذمة المنوب عنه؛ وذلك لأنّ الفعل الصادر نيابة عن الغير فيه حيثيتان:

حيثية صدوره عن الفاعل؛ وبها يكون الفعل تابعاً لما هو وظيفة الفاعل من الأجزاء والشرائط والموانع كالتستر في الصلاة فإنّ النائب إذا كان رجلاً لا يجب عليه إلا ستر

ص: 110


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص727-728.

عورته وإن كان المنوب عنه إمرأة، وكذا العكس، وهكذا في الجهر والإخفات فإنّ الصلاة منهما تابعة لما هو وظيفة الفاعل دون المنوب عنه.

وحيثية كونه عن المنوب عنه؛ وبهذه يتبع النائب في بعض الأحكام وظيفة المنوب عنه كالقصر والإتمام، والتمتع والقران في الحج، والترتيب في الفوائت؛لأنّ النائب من هذه الحيثية بمنزلة الآلة، والمنوب عنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب فإذا أجرينا أصالة الصحة من الحيثية الأولى نحكم بصحة فعل النائب بما هو فعله ويترتب عليه استحقاق الأجرة، ولكن لا تثبت الصحة من الحيثية الثانية فلا يترتب عليه فراغ ذمة المنوب عنه إلا بعد إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه النيابة. وعدَّ بعض الفقهاء(1) ما ذكره الشيخ قدس سره من الغرائب لأنّ مورد الإجارة لم يكن الفعل الصحيح مطلقاً ولو لم يقصد به النيابة أصلاً أو قصد النيابة عن غير المنوب عنه، وإنما مورد الإجارة الفعل الصادر بعنوان النيابة عن المنوب عنه بخصوصه، وأصالة الصحة لا تثبت ذلك كما عرفت فلا يستحق الأجرة.

والصحيح أن يقال: إنه لا وجه للتفكيك في جريان أصالة الصحة في عمل النائب من حيث هو من دون جهة الإضافة إلى المنوب عنه لأنّ النيابة؛ إما تنزيل نفسي بأن يجعل نفسه بمنزلة غيره، وإما تنزيل عملي. وكل منهما مستلزم عند المتشرعة لفراغ ذمة المنوب عنه بعد تصحيح عمل النائب، فلا وجه للتفكيك.

ولكن عند ذلك لا يبقى لزوم لإحراز قصد النيابة في جريان أصالة الصحة، إذ إحرازه تارةً يكون بالعلم الوجداني، وأخرى بالتعبد كقيام البينة، كما إذا أحرز الشاهدان بأنه قد أُتي بالفعل نيابة، أو بإخباره إذا كان إخباره يوجب الوثوق والإطمئنان، ولا حاجة لأن

ص: 111


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج4 ص330.

يكون عادلاً؛ إذ لا دليل عليه إلا في البينة. وحينئذٍ سوف لا تكون ثمرة في النزاع في جريان أصالة الصحة في فعل النائب إلا في مورد العلم بعدم قصده النيابة، وهو نادر لأنّ الحكم في فعله بالأصل يكفي في ترتيب آثار الصحة عليه، ومنها فراغ ذمة المنوب عنه.

الجهة السادسة: لا يشترط في مجري هذه القاعدة البلوغ

فهي تجري في أفعال المميزين أيضاً، إلا أن يقال بعدم ترتب الأثر على أقوالهم وبطلان معاملاتهم رأساً حتى بعنوان الآلية بين الأولياء، فحينئذٍ لا يبقى موضوع لها. ولكنه قول بلا دليل كما هو مفصّل في الفقه، كما لا يشترط في مجراها ظهور عدالة الشخص وعدمه، وذلك كله للعمومات، وعموم بناء العقلاء، وأصالة عدم الغفلة التي هي من الأصول النظامية.

كما أنّ مقتضى ذلك عدم الفرق بين الأفعال والأقوال في مجراها، لأنّ الأقوال من حيث هي فعل من أفعال المكلفين أيضاً؛ فلو تكلم شخص بكلام وشكّ في أنه حرام أو مباح أو كونه مطابق للمحاورات العقلائية أو كاشف عن قصده الجدّي أو لا؛ فإنّ أصالة الصحة تجري في جميع ذلك، فيحكم بإباحته ومطابقته للمحاورات وكشفه عن قصده الجدّي.ولكن لو شك في أنّ الكلام له ظهور أو لا، أو أنه مطابق للواقع أو لا؛ فإنَّه لا يمكن إثبات الظهور ولا المطابقة للواقع بأصالة الصحة، فإنّ إثباتهما لا بُدَّ أن يكون بما هو المتداول في المحاورات. نعم؛ هي تجري في نفي احتمال الكذب، وهو أعم من إثبات المطابقة للواقع.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما فصلّه الشيخ الأنصاري قدس سره في جريان أصالة الصحة في الأقوال؛ فإنّ جملة من الصور التي ذكرها لا ربط لها بأصالة الصحة كما في الشك في الظهور ومطابقته للواقع، فإنّ في الظهور يكون المرجع أصالة الظهور الكاشف عن مراد المتكلم

ص: 112

أو الأصول التي تستعمل لتشخيص الظاهر عن غيره كأصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق.

وعلى ضوء ما تقدم فلو شكّ في صحة القراءة في الصلاة؛ حيث إنّ النقص في مادتها كنقص حرف، أو من جهة النقص في إعرابها، أو من جهة الشك في الصوت من حيث مخارج الحروف فإنّ أصالة الصحة تجري ويترتب عليها الأثر.

وأما الإعتقاديات؛ فإما أن يكون المراد بها العقائد في أصول الدين، وإما أن يكون المراد بها الإعتقاد في الفروع والأحكام الفقهية.

أما العقائد؛ فإنّ الشك فيها تارةً؛ يكون في صحة الإعتقاد بها أو فساده، وكان للإعتقاد الصحيح أثراً شرعياً يترتب عليه؛ فلا بُدَّ من استعلام الحال منه، فإن أظهر اعتقاده بدالّ من قول أو فعل فيكون ذلك حجة له أو عليه ولا ربط بأصالة الصحة.

وأخرى؛ هي نفس ما ذُكر ولكن لا يمكن الإستظهار؛ إما لغيابه أو موته وكان لاعتقاده الصحيح أثر شرعي ولو بعد الموت، وحصل هذا الشك؛ فالظاهر أنه لا إشكال في جريان أصالة الصحة إذا ثبت أنه منتحل للإسلام. وعلى ذلك جرت سيرة المسلمين على صحة اعتقاد من يظهر الإسلام حتى يعلم خلافه.

وثالثة؛ أن يكون الشك في التقصير فيها فلا إشكال في جريان أصالة الصحة فيها.

ورابعة؛ إذا كان منشأ الشك في العقيدة هو الشك في القصور أو في مطابقته للواقع فإنَّه لا مجرى لأصالة الصحة، بل لا بُدَّ من استعلام حاله كما تقدم في الصورة الأولى.

وأما الإعتقاد في الأحكام والفروع الفقهية؛ كما في رأي الفقيه واعتقاده بالنسبة إلى ما يفتي به لمقلديه، فإنّ لاعتقاده ورأيه أثر بالنسبة إلى مقلديه إذا كان عن استنباط صحيح، فإذا شك في كون رأيه عن استنباط صحيح أو لا؛ فالظاهر هو الحمل على الصحة، وعليه

ص: 113

جرت سيرة المتدينيين من المقلدين وغيرهم سواء قلنا بأنّ الأصل يجري في الإعتقاد؛ أي الرأي، أو في الاستنباط. وإن كان في الحقيقةهو الأخير، ولكن جريان الأصل فيه لا يفيد بأنّ هذا الرأي والإعتقاد هو المطابق للواقع لأنّ الإستنباط الموافق للموازين الفقهية الشرعية لا يلزم أن يكون دائماً مطابقاً للواقع، فلا يمكن إثبات الإصابة للواقع بإجراء أصالة الصحة.

ثم إنّ محور البحث في جميع ما ذكرناه كان صدور فعل من الفاعل ثم الشك في صحته وفساده، ولكن هل يعمّ مطلق الشك في صدور محرّم منه ولو كان عدماً، كما لو قبض الوصي مال الميت لأن يعمل فيه بالوصية ومات الوصي ثم شككنا في أنه عمل بها فيه أو لا؛ فإنَّه تجري أصالة الصحة أيضاً للعمومات والإطلاقات.

الجهة السابعة: في أنّ مجرى قاعدة الصحة هو الشك في الغير.

ولكن ذكر بعض العلماء ومنهم السيد الوالد قدس سره (1) عدم اختصاصها بفعل الغير، بل تجري بالنسبة إلى نفس الفاعل أيضاً لو شك في صحة فعله وفساده، فتكون جملة من القواعد كقاعدة التجاوز والفراغ، وأصالة عدم المانع، وعدم وجوب الإعادة والقضاء وغير ذلك من صغرياتها؛ بعد كون الجميع من القواعد التسهلية الإمتنانية، ولا محذور في ذلك عقلاً أو شرعاً، اللهم إلا أن يقال بأنّ اختصاص أصالة الصحة لفعل الغير هو مقتضي ظواهر الأدلة اللفظية، مثل قول أمير المؤمنين علیه السلام : (ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ)(2).

ص: 114


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص306.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص362.

ولكنه مردود بأنّ التمسك بمثله للإختصاص من قبيل التمسك بمفهوم اللقب، ولا اعتبار به كما هو الثابت في محله. مع أنّ المناط كله على عدم الإعتناء بالشك الذي هو من فعل الشيطان كما ورد في بعض الأخبار. فلا فرق حينئذٍ بين الغير والنفس إلا فيما قام دليل معتبر على العدم من إجماع أو غيره وهو مفقود. إلا أنّ جريان أصالة الصحة في فعل الإنسان نفسه قد لا يجدي نفعاً بعد جريان جملة من القواعد التسهيلية في حقه، ولعل الفقهاء لم يتعرضوا لذلك من أجل هذا الأمر.

الجهة الثامنة: في حاكمية القاعدة

بناءً على ما تقدم من جريان أصالة الصحة في العقود والإيقاعات مطلقاً في نفس العقد وشروط المتعاقدين وشروط العوضين عند الشك في صحتها وفسادها ووجودها على التفصيل الذي تقدم؛ يكون هذا الأصل حاكماً على جميع الأصول الموضوعية النافية فإنَّه بناءً على كونه أمارة فالأمر واضح، وكذا بناءً على كونه أصلاً محرزاً فبجريان أصالة الصحة يكشف عن وجود تلك الشروط تعبداً فلا يبقى موضوع للإستصحابات أصلاً.ولكن قد يقال بأنه بناءً على كونه أصلاً محرزاً لا يمكن تقديمه على الإستصحابات العدمية لأنّ الجميع من الأصول المحرزة، فلا بُدَّ من القول بالتعارض.

ويمكن الجواب عنه بأنّ إطلاقات الأدلة التي دلت على حجية هذا الأصل لها حكومة على الأصول العدمية؛ أما الأخبار فلا إشكال في ثبوت الإطلاق لها، وأما الإجماع كما ذهب إليه جمع من المحققين منهم السيد الوالد قدس سره والمحقق النائيني قدس سره فإنّ لمعقده إطلاق يشمل موارد الإستصحابات العدمية الموضوعية ولا يمكن إنكاره إذا راجعنا كلماتهم في المقام، فيكون إطلاق معقد الإجماع حاكماً على تلك الأصول العدمية، مثل الإطلاق في الدليل اللفظي.

ص: 115

وكذا لو قلنا بأنّ مدرك الأصل سيرة العقلاء وبنائهم فإنّ عدم ردع الشارع عنها يكشف عن الإمضاء، ولا إشكال أن السيرة قامت على إلغاء الشك في ما إذا كان المكلف متحيراً في صحة عقد أو إيقاع من جهة فقْد شرط من شروطها، بمعنى أنه لا يلتفت إلى كونه شاكاً فلا يشمله دليل (لا تنقض) ونحوه حتى لا يكون رادعاً، مع أنه لو قلنا بأنّ الأصول الموضوعية العدمية تتقدم على أصالة الصحة في موارد الشك في الصحة والفساد لكان تشريعها لغواً وبلا فائدة، فيستلزم اختلال النظام فيكون الأصل أخص بحسب المورد عن الإستصحابات، فيكون مخصصاً لدليل الإستصحاب فلا ريب في تقدم أصالة الصحة على الأصول الحكمية والموضوعية العدمية التي تدل على الفساد وعدم النقل والإنتقال.

لكن لا ينبغي التأمل في أنه لا تجري هذه القاعدة مع وجود العلم المنجز على الخلاف تفصيلياً كان أم إجمالياً، وكذا لا تجري مع وجود البينة أو الأمارة على الخلاف لعدم شمول أدلتها لمثل هذه الموارد، بل الظاهر عدم الجريان في ما إذا غلب الفساد على شخص بحيث لم يبقَ موضوع لحمل فعله على الصحة، فلا بُدَّ من التفحص. وقد ورد في بعض الروايات (إِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّر)(1)، إذ ربما يحصل من إجراء أصالة الصحة الإختلال أيضاً.

ص: 116


1- ..نهج البلاغة؛ الحكمة 114.

قاعدة اليد

اشارة

وهي من القواعد المعروفة في الفقه والكلام يقع فيها ضمن أمور:

الأمر الأول: في المراد باليد في هذه القاعدة.

ذكر اللغويون لها معانٍ متعددة، والمهم بيان المعنى العرفي لها، فقالوا أنّ المتفاهم العرفي منها هو الإستيلاء على الشيء خارجاً سواء كان عيناً أم منفعة أم انتفاعاً أم حقاً.

والمراد بالإستيلاء كون زمان ما استولى عليه بيده يتصرف فيه ما يشاء من التصرفات العقلائية المتعارفة، ولا يتحقق ذلك إلا بفعلية الإستيلاء خارجاً، ولا يكفي مجرد التمكن من تحصيل هذه السيطرة والإستيلاء، فلا يقال بحقه أنه ذو اليد.

وربما يتوهم أنّ اليد بهذا المعنى قد تكون مسببةً عن الملكية؛ إختيارية كانت -كما في أبواب المعاوضات- أم قهرية -كما في الإرث- وقد يكون سبباً لحصول الملكية كما في حيازة المباحات إذا كان الإستيلاء بقصد الملكية. وعليه؛ فلا يمكن القول بأنّ الإستيلاء مطلقاً يكون كذلك.

ويرد عليه: بأنّ المفهوم من اليد عرفاً هو الإستيلاء والسيطرة الخارجية، وهي لا تحصل إلا بأسبابها الخارجية من وجود المقتضي -كإرادة الإستيلاء والسيطرة مع تحقق شرائطها- وفقد الموانع. والملكية الإعتبارية لا أثر لها في هذا الأمر الخارجي؛ نعم؛ الملكية أو الإذن من المالك يؤثران في عدم كون اليد عدوانية كما هو واضح.

ثم إنّ المرجع في الإستيلاء وتحققه هو العرف؛ فإنهما أمران لا بُدَّ من الرجوع إلى العرف في تشخيص مفادهما، وهو يختلف باختلاف الموارد، وما استولى عليه بحسب الأعصار والأمصار؛ فإنّ الإستيلاء على الدكان والدار والخان وأمثالها إنَّما يكون بالسكون في الدار، والإشتغال بالكسب في الدكان والخان، أو يكون الإستيلاء بأخذ المفتاح بيده.

ص: 117

وأما في الأراضي فإنَّما يكون الإستيلاء عليها بالزرع أو الغرس وأمثال ذلك، وفي الدواب بركوبها وربطها في المرابض، والسيارة بالسياقة أو أخذ المفتاح وغير ذلك مِمّا هو معروف عند العرف.

نعم؛ قد يتزاحم بعض هذه الجهات كما إذا كان أحدهما راكباً على الدابة والآخر آخذ بزمامها بيده، وفي السيارة أحدهم يقود والآخر بيده المفتاح وثالث راكب فيها ونحو ذلك. وكل واحد منهم يدعى ملكية تمامها. ومن هذا الباب ما إذا تحققت يدَين على مال واحد كشريكين في دار أو دكان أو غيرهما.

وكيف كان؛ فإنَّه لا بُدَّ من الرجوع إلى العرف في تشخيص استيلاء أحدهما فعلاً فيحكم عليه بأنه صاحب اليد، وأما إذا لم يحكم بشيء فتسقط كلتا الجهتين عنالإعتبار ولا يحكم بتحقق اليد لكل واحد منهما. وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ولا يخفى أيضاً أنه لا ينحصر الإستيلاء والسيطرة أن يكون في شخص واحد، بل قد يتحققان في شخصين أو أكثر كما في الشركاء فإنَّه بناءً على كون اليد أمارة الملكية فتثبت لشريكين أو أكثر، وإلى هذا يرجع ما اشتهر بين الفقهاء من أنّ تحقق اليدين على مال واحد يرجع إلى ثبوت يد واحدة تامة مستقلة على نصف ذلك المال، أو الثلاث على الثلث وهكذا.

ثم إنه لا إشكال في أنّ يد الوكيل والودعي والمستأجر والمستعير يدٌ للموكِّل والمودع والمؤجر والمعير مع اعترافهم بهذه العناوين.

وبعبارة جامعة؛ إنّ كل أمين من طرف المالك إذا اعترف بأنه أمين من قبله تكون يده يد المالك.

ص: 118

الأمر الثاني: في الدليل على اعتبارها

وقد استدل على اعتبارها بالأدلة الأربعة:

أما الكتاب الكريم؛ فمثل قوله تعالى: ( لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(1)؛ فإنّ الإضافة إنَّما تتحقق باليد والإستيلاء، وهكذا سائر الآيات التي تضيف الأمتعة والأموال إلى أصحابها، فإنّ الإضافة تتحقق بالإستيلاء واليد.

وأما السنة؛ فهي اخبار مستفيضة نذكر منها:

1- رواية حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِذَا رَأَيْتُ شَيْئاً فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَجُوزُ لِي أَنْ أَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ؟. قَالَ: (نَعَمْ. قَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ ولَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَهُ؛ فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : أَ فَيَحِلُّ الشِّرَاءُ مِنْهُ؟. قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ؛ فَمِنْ أَيْنَ جَازَ لَكَ أَنْ تَشْتَرِيَهُ ويَصِيرَ مِلْكاً لَكَ ثُمَّ تَقُولَ بَعْدَ الْمِلْكِ هُوَ لِي وتَحْلِفَ عَلَيْهِ, ولَا يَجُوزُ أَنْ تَنْسُبَهُ إِلَى مَنْ صَارَ مِلْكُهُ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكَ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : لَوْ لَمْ يَجْرِ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ)(2).

2- رواية مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (كُلُّ شَيْ ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ, وذَلِكَ مِثْلُ الثَّوْبِ؛ يَكُونُ عَلَيْكَ قَدِ اشْتَرَيْتَهُ وهُوَ سَرِقَةٌ, أَوِ الْمَمْلُوكِ عِنْدَكَ ولَعَلَّهُ حُرٌّ قَدْ1- بَاعَ نَفْسَهُ أَوْ خُدِعَ فَبِيعَ قَهْراً, أَوِ امْرَأَةٍ تَحْتَكَ وهِيَ أُخْتُكَ أَوْ رَضِيعَتُكَ؛ والْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَة)(3).

ص: 119


1- . سورة النساء؛ الآية 29.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص292.
3- . المصدر السابق؛ ج17 ص89.

3- ما رواه الصدوق في علل الشرايع(1), ورواه الطبرسي(2), كما رواه الحر العاملي(3) فِي حَدِيثِ فَدَكَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: (أَ تَحْكُمُ فِينَا بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمُسْلِمِينَ؟. قَالَ: لَا. قَالَ علیه السلام : فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ شَيْ ءٌ يَمْلِكُونَهُ ادَّعَيْتُ أَنَا فِيهِ مَنْ تَسْأَلُ الْبَيِّنَةَ؟. قَالَ: إِيَّاكَ كُنْتُ أَسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا تَدَّعِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ علیه السلام : فَإِذَا كَانَ فِي يَدِي شَيْ ءٌ فَادَّعَى فِيهِ الْمُسْلِمُونَ تَسْأَلُنِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا فِي يَدِي وقَدْ مَلَكْتُهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم وبَعْدَهُ, ولَمْ تَسْأَلِ الْمُؤْمِنِينَ (4) الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَوْا عَلَيَ (5) كَمَا سَأَلْتَنِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَيْتُ عَلَيْهِمْ؛ إِلَى أَنْ قَالَ علیه السلام : وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى والْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ).

4- صحيحة الْعِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ مَمْلُوكٍ ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ ولَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ؛ أَشْتَرِيهِ؟. قَالَ: (نَعَمْ)(6).

5- موثقة يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي امْرَأَةٍ تَمُوتُ قَبْلَ الرَّجُلِ أَوْ رَجُلٍ قَبْلَ الْمَرْأَةِ؛ قَالَ: (مَا كَانَ مِنْ مَتَاعِ النِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ, ومَا كَانَ مِنْ مَتَاعِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا, ومَنِ اسْتَوْلَى عَلَى شَيْ ءٍ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ)(7).

ص: 120


1- . ج1 ص191.
2- . الإحتجاج؛ ج1 ص92.
3- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص293.
4- . وفي نسخة: المسلمين.
5- . وفي نسخة: علي شهوداً.
6- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج18 ص250.
7- . المصدر السابق؛ ج26 ص216.

6- رواية الْعَبَّاسِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام ذَكَرَ: (أَنَّهُ لَوْ أُفْضِيَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ لَأَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ ولَمْ يَنْظُرْ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا بِمَا حَدَثَ فِي سُلْطَانِهِ, وذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه و آله و سلم لَمْ يَنْظُرْ فِي حَدَثٍ أَحْدَثُوهُ وهُمْ مُشْرِكُونَ, وأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَقَرَّهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ)(1).

إلى غير ذلك من الروايات التي لا شك في دلالتها على اعتبار اليد، ولا وجه للمناقشة السندية بعد اشتهارها واستفاضتها.

وقد استشكل على رواية حفص بما يلي:

أولاً: إنّ مصبّ سؤال السائل جواز الشهادة بالملكية لذي اليد بمجرد كون الشيء تحت يده، وهذا غير كافٍ في إثبات الملكية باليد حتى تكون اليد حجة كما هو المطلوب.

وهذا الإشكال مردود بأنّ حكم الإمام علیه السلام بجواز الشهادة استناداً إلى اليد يدل بالإلتزام على إثبات الملكية لها أيضاً، ولا سيما بعد ما استدل علیه السلام على هذا الحكم بجواز الشراء مِمّا في يده.

ثانياً: إنّ ظاهر الرواية جواز الشهادة استناداً إلى اليد من دون حصول العلم للشاهد، وهو مخالف لما هو المتسالم عند المسلمين من اعتبار العلم من موضوع الشهادة، فلا يكفي الإستناد إلى الأصول أو الأمارات، فظاهر الرواية مِمّا لم يعمل به فتسقط عن الإعتبار.

وفيه: إنه إذا كان المناط في موضوع الشهادة هو القطع الموضوعي، أي ما أخذ على نحو الصفتية، فالأمر كما ذكر في الإشكال، وأما إذا كان مأخوذاً على الطريقية والكشف فإنّ الأمارات والأصول تقوم مقام القطع الطريقي كما أثبتناه في مباحث القطع خلافاً للمحقق الخراساني قدس سره فتجوز الشهادة على مورد قام عليه الأصل والأمارة. ومن المعلوم أنّ

ص: 121


1- . المصدر السابق؛ ج27 ص292.

القطع المأخوذ في موضوع أداء الشهادة هو من حيث الطريقية والكشف عن متعلقه لا بما هو على الصفتية، وقد ذكرنا في مبحث القطع أنه لم يوجد في الشرعيات مورد يكون القطع مأخوذاً في الموضوع على نحو الصفتية إلا في بعض الموارد التي أُخذ الإطمئنان موضوعاً أو جزءً، ولكن ذلك غير أخذ القطع في الموضوع على نحوالصفتية. مع أنه لو لم نقل بجواز الشهادة استناداً إلى اليد وترتيب آثار الملكية على ما في اليد لاختل النظام. فهذا الأشكال ساقط رأساً.

كما أُشكل على الإستدلال بحديث فدك بأنّ أقصى ما يدل عليه هو أنّ البينة ليست على المنكر، وهو ذي اليد، بل على المدعي. وهنا لا ربط لكون اليد حجة على الملكية فإنّ قضية (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) من المسلمات، وقد قضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بذلك في موارد عديدة. ولا شك أنّ المراد بالمنكر في المقام هو ذو اليد، والمدعي مقابله الذي يرجع الدعوى إلى المنكر ويوجهها إليه.

فالحديث لا يدل إلا على هذا الأمر، ولا ربط له بإثبات الملكية باليد الذي هو موضوع البحث في المقام.

ويرد عليه: إنّ في الحديث قرائن تدل على المطلوب, منها قوله علیه السلام : (فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ شَيْ ءٌ يَمْلِكُونَهُ ادَّعَيْتُ أَنَا فِيهِ), أو قوله علیه السلام : (فَإِذَا كَانَ فِي يَدِي شَيْ ءٌ فَادَّعَى فِيهِ الْمُسْلِمُونَ تَسْأَلُنِي الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا فِي يَدِي وقَدْ مَلَكْتُهُ.....)؛ فالمفهوم من الحديث هو إثبات الملكية باليد، مع أن المتفاهم عرفاً من كون غيرذي اليد مدعياً، وأنه مطالب بالبينة، وأنّ ذا اليد مالكاً وإلا فلا وجه لإثبات ما يدعيه.

كما أُشكل على رواية مسعدة بن صدقة بأنه لا دلالة لها على المطلوب أصلاً، بل مضمونها حلّية مشتبه الحرمة حتى يثبت خلاف ذلك بالعلم أو البينة.

ص: 122

ويمكن الجواب عنه بأنّ مساق الرواية وإن كان كذلك ولكن في الأمثلة التي ورد فيها ما يدل على المطلوب أيضاً فإنّ الشك في الحلية قد يكون منشؤه الشك في الملكية، وأما بقية الروايات فدلالتها على كون اليد أمارة الملكية واضحة، بل أوضح من أن يخفى. فلا ينبغي الإرتياب في دلالة مجموع الروايات التي ذكرناها والتي لم نذكرها على اعتبار اليد وكونها أمارة على الملك. ومن وهن الإشكالات عليها إنّه لم يذكرها السيد الوالد قدس سره في المقام.

وأما الإجماع؛ فلا ريب في تحقق الإتّفاق من المسلمين على أنّ من كان في يده من الأموال فإنها تكون له، ولا خلاف في ذلك. نعم؛ هناك خلاف في بعض التفاصيل ولكنه لا يضرّ بأصل التسالم والإجماع الذي يكشف عن رأي المعصوم، أو دليل معتبر عند الكل في مقام الثبوت.

نعم؛ قد يكون في مقام الإثبات دليل آخر فإن استفدنا من القرائن أنّ المجمعين قد اعتمدوا عليه فيكون الإجماع مدركياً لا اعتبار به، وإلا فيكون من الإجماع المعتبر الذي يكون في عداد الأدلة، ولا يكفي مجرد احتمال مدرك إذا كان المدعين للإجماع من الأساطين المحققين الذين لهم باعٌ طويل في التحقيق وسبر الأقوال.

وأما العقل؛ فإنَّ بناء العقلاء وسيرتهم من جميع الملل والأقوام المتدينين منهم وغيرهم على اعتبارها وكأنها أمارة على الملكية، فإنهم لا يتوقفون في ترتيب آثار الملكية على ما في أيدي الناس، وقد أمضى الشارع تلك السيرة بالأخبار مع أنه يكفي عدم الردع عن بناء العقلاء في إمضاءه ومشروعيته.

فالحق؛ أنه لا ريب في اعتبار اليد في الجملة وكأنها من المسلّمات، ولا حاجة إلى تطويل البحث فيها.

ص: 123

الأمر الثالث: في تقدم اليد على الإستصحاب.

إنه سواء قلنا بأنّ اليد أمارة أو أصل فاليد مقدمة، والكلام في ذلك عين ما تقدم في سابقتها، وإن ذكر السيد الوالد قدس سره (1) بأنها أشبه بالأمارة كما هو الظاهر.

لكن قال بعض الفقهاء بأنه لا بُدَّ من الرجوع إلى دليل اعتبارها فإن كان الإجماع فإنَّه لا يدل إلا على ترتيب آثار الملكية لما تحت يد الشخص من دون التعرض إلى أنّ اليد طريق إلى الملكية وكاشف عنها.وأما الأخبار فإنّ مفادها؛ إما جواز الشراء والشهادة مستنداً إلى اليد كما في رواية حفص، وهذا المعنى أعم من كونها أمارة أو أصل فإنَّه يجتمع مع كل واحد منهما، وكذا رواية حمزة بن عمران وصحيحة العيص فإنّ مفادهما ليس إلا جواز الشراء من ذي اليد وعدم الإعتناء بقول الجارية والعبد ما لم يقيما البينة، وقد عرفت أنّ ذلك أعم من الأمارة والأصل؛ إذ يجتمع مع كل واحد منهما، وهكذا رواية مسعدة بن صدقة إن دلت على أصل اعتبار قاعدة اليد.

وأما معتبرة يونس بن يعقوب فإنّ قوله علیه السلام : (ومَنِ اسْتَوْلَى عَلَى شَيْ ءٍ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ) لا يدل إلا على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه، وهو أعم من العناوين.

فالأخبار تقصر عن إثبات أحد هذين الأمرين، ومن المعلوم أنه مع الشك في الأمارية والأصلية فإنّ الأصول العملية توافق كونها أصلاً لأنّ إثبات اللوازم شيء زائد على ثبوت أصل المؤدى الذي هو المستفاد من هذه الأخبار قطعاً.

ولكن الحق أن يقال: أنه لو لاحظنا كل رواية لوحدها فربما يستشكل في دلالة كل واحدة منهما على الأمارية، ولكن العرف يفهم من سياق هذه الأخبار التي تدل على اعتبار اليد

ص: 124


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص307.

أنها كاشفة عن ثبوت الملكية بها، لا مجرد التعبد بترتيب آثار الملكية عند الشك فيها؛ هذا إذا كانت الأخبار بنفسها دليلاً مستقلاً، وأما إذا قلنا بأنها إمضاء للسيرة العقلائية فالأمر أوضح كما ستعرف. وأما إذا كان المدرك هو بناء العقلاء وسيرتهم فلا إشكال في دلالته على الأمارية فإنّ بناء العقلاء ليس من جهة التعبد بترتيب آثار الملكية عند الشك فيها، بل من جهة كشفها عن الملكية فإنّ العرف يرى أنّ اليد طريق وكاشف عن ملكية ذي اليد ما لم يعترف بأنه ليس له، فيكون شأن اليد شأن سائر الظنون النوعية والطرق والأمارات التي تدل على الكشف عرفاً. وهذا هو المراد من قول السيد الوالد قدس سره من أن ظاهر الأدلة أنها بالأمارة أشبه فتكون اليد أمارة وحاكمة على الإستصحاب.

الأمر الرابع: في سعة وضيق القاعدة

تقدم أنه لا إشكال في حجية قاعدة اليد في الجملة إلا أنه وقع الخلاف في سعة دلالتها وضيقها؛ فإنّ المصاديق متعددة؛ بعضها يكون من المسلمات كما في صورة ملكية الأعيان المتحولة القابلة للنقل والإنتقال بحدّ نفسها ما لم يعترف ذو اليد بأنه ليس له فلا إشكال في أمارية اليد على الملكية، بل ولا خلاف بينهم في ذلك بالنسبة إلى الغير، ولكن بعضها الآخر وقع الخلاف فيه بين الفقهاء، نذكر بعض مصاديقه :

عدم الخلاف في جريان اليد بالنسبة إلى نفس الإنسان فيما إذا شك أنّ ما في يده هل هو ملك له أو لغيره، فإنّ حجية اليد في هذه الصورة وإثباتها1- الملكية لما في يده لنفسه لا يخلو من كلام، وإن كان المختار -على ما سيأتي- هو إثبات الملكية لاتحاد المناط بين نفسه وغيره.

2- الأموال المتحولة التي لا تقبل النقل والإنتقال بحدّ نفسها لا بعروض عنوان خاص كما في الأعيان الموقوفة التي لا تقبل ذلك إلا بعنوان محرز.

ص: 125

3- الأراضي المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح؛ فإنها أيضاً لا يجوز نقلها إلا إذا رأى ولي المسلمين المصلحة في نقلها.

4- إذا كانت اليد من أول حدوثها مجهولة العنوان بحيث لا يعلم أنها يد مالكة، أو يد أمانة شرعية كاللقطة، أو أمانة مالكية كالإجارة والعارية والوديعة وأمثال ذلك من الأمانات المالكة.

وتفصيل الكلام في ذلك يكون في موارد:

المورد الأول: إذا كانت حال حدوثها معلومة العنوان من أمانة أو غصب، ثم احتمل ملكية ذي اليد بالإنتقال الصحيح الشرعي؛ فقد ذهب الفقهاء إلى عدم الحكم بالملكية من أجل اليد واستدلوا عليه:

تارة؛ بعدم السيرة على الحكم بالملكية في هذه الصورة وعدم شمول الأدلة اللفظية له.

وأخرى؛ بأنّ السيرة على خلاف ذلك لعدم جريانها مقابل المدارك المعتبرة كالبينة والإقرار ونحوهما في مقابل اليد والحكم بها عليها.

وثالثة؛ حكومة استصحاب حال اليد من كونها عادية أو أمانة على نفس اليد، والقول بأنه بعد إثبات أمارية اليد لا وجه لحكومة الإستصحاب عليها، بل الأمر على عكس من ذلك فإنَّه لو كان التعارض بين المؤديين فلا شك في تقدم اليد من حيث كونها أمارة على الإستصحاب، وهو صحيح فيما إذا كان حال اليد معلوماً إلا أنّ في المقام يجهل حال اليد هل هي يد مالكة بنقل شرعي فإنّ الإستصحاب يرفع هذا الجهل تعبداً، فلا يبقى موضوع لقاعدة اليد حتى تجري لتكون حاكمة على الإستصحاب.

ومما ذكرناه يظهر حكم ما لوكانت الحالة السابقة لما في يده عدم جواز نقله وانتقاله في حدّ نفسه إلا بطروّ أحد الأمور المجوزة لهما كالوقف.

ص: 126

وفي هذه الحالة لا تكون اليد أمارة على كون ما في يده ملكاً له, وذلك لاستصحاب عدم طروّ ما يجوز معه النقل والإنتقال وبجريانه لا يبقى موضوع للقاعدة لأنّ موضوعها المال القابل للنقل والإنتقال، وبالإستصحاب تنتفي القابلية إلا إذا احتملنا أنّ ما تحت اليد كان قبل حدوث اليد قابلاً للنقل والإنتقال لأجل طروّ أحد المجوزات، فلا يبقى مجال لاستصحاب حال اليد لأنَّها مجهولة من أول حدوثها من هذه الجهة.وهكذا حال الأراضي المفتوحة عنوة؛ فإنّ المستفاد من الأخبار أنها ملك للمسلمين جميعاً ولكنها مجعولة في أيديهم لا يجوز بيعها وشراؤها، وإنما يؤخذ الخراج ممن بيده هذه الأراضي. وبناءً عليه فهي ليست قابلة للنقل والإنتقال إلا بمجوز فيكون حالها حال الوقف؛ فإنّ أصالة عدمه تجري ولا يصحّ الرجوع إلى قاعدة اليد والحكم بملكية من بيده تلك الأرض.

نعم؛ لو قلنا بأنّ الأراضي المفتوحة عنوة قابلة للنقل والإنتقال تبعاً لمتعلقاتها وهي ليست مثل الوقف محبوسة لا يجوز نقلها إلا بمجوز من المجوزات، غاية الأمر نقلها بيد وليّ المسلمين فهو يرى المصلحة في النقل أو الإبقاء على ملك المسلمين وأخذ الخراج ممن بيده. وعلى هذا الرأي يجوز الإعتماد على اليد والحكم بملكية ذي اليد لها.

المورد الثاني: ما إذا كان في مقابل ذي اليد من يدعي الملكية لما في يده فإنه:

تارة؛ يقيم البينة على دعواه، فلا إشكال في ثبوت الملكية له، فيؤخذ المال من ذي اليد ويعطى للمدعي من أجل البينة على دعواه.

وأخرى؛ إذا أقرّ ذو اليد بملكية المدعي لما في يده فالأمر كذلك؛ فإنَّه يُنتزع من يده ويعطى للمُقَر له.

ص: 127

وثالثة؛ إذا اعترف ذو اليد بأنّ ما في يده ملكاً للمدعي ولكنه انتقل إليه بناقل شرعي ففي هذه الصورة تنقلب الدعوى فيصير ذو اليد مدّعياً بعدما كان منكراً لأنَّه بذلك يصير قوله مطابقاً للأصل وهو أصالة عدم الإنتقال فينقلب منكِراً، وهذا مِمّا لا إشكال فيه. وإنما الكلام في أنّ المال يؤخذ منه ويعطى للمنكر الجديد المدعي السابق بواسطة إقرار ذي اليد أو يبقى عنده بواسطة أمارية اليد.

قد يقال: بسقوط أمارية اليد باعتراف ذي اليد بأنّ المال كان للطرف الآخر.

ولكن يرد عليه بأنّ اعترافه أنّ المال كان له لا ينافي كون اليد أمارة على الملك الفعلي، وفي أغلب الموارد نعلم أنّ الأموال التي تكون تحت ذي اليد كانت ملكاً لغيره فليكن حال الإعتراف حال العلم، فكما لا يوجب العلم سقوط أمارية اليد على الملكية، كذلك لا يوجب الإعتراف سقوطها عنها.

ومن أجل ذلك نقول أنه لا فرق بين أن يثبت أنّ ما في يده كان ملكاً لمن يدعيه بحكم الحاكم أو بالبينة أو بالعلم الوجداني أو بإقرار ذي اليد وغير ذلك من الوجوه؛ فإنّ ثبوت الملكية بأحد هذه الأمور لا ينافي الملكية حال الدعوى لذي اليد، وقد عرفت أنّ بناء العقلاء على أمارية اليد على الملكية لما في اليد قد أمضاها الشارع فيحكم بالملكية الفعلية لذي اليد إلا أن يثبت الآخر عدم الإنتقال.واعترض المحقق النائيني قدس سره (1) على ذلك بأنَّ انقلاب الدعوى من آثار نفس الإقرار وليس من آثار الواقع حتى لا يكون فرقاً بين العلم والبينة والإقرار، فإذا أقرّ فهو مأخوذ بإقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع.

ص: 128


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص613.

ويرد عليه مضافاً إلى أنه لا حجية للإقرار مع العلم التفصيلي بمخالفته للواقع؛ أنّ معنى أخذه بإقراره ترتيب آثار الملكية السابقة، لا عدم أمارية اليد للملكية الفعلية إلا إذا انضم إلى اعترافه بالملكية السابقة للمدعي دعوى الإنتقال إليه بناقل شرعي. فمن حيث هذه الدعوى يكون ذو اليد مدعياً للإنتقال، والطرف المقابل له يصير قوله مطابقاً لأصالة عدم الإنتقال فتنقلب الدعوى ويصير منكراً.

وذكر المحقق العراقي قدس سره (1) بأنّ انقلاب الدعوى إنَّما هو من جهة استصحاب عدم الإنتقال مع وجود اليد الفعلية على المال، فيكون مقتضى اليد كون المال ملكاً لذي اليد وانتقاله إليه من الطرف الآخر، ومقتضى استصحاب عدم الإنتقال عدم كونه ملكاً لذي اليد وبقاءه على ملك الطرف، فحجية الإستصحاب وأمارية اليد مِمّا لا يجتمعان.

ويرد عليه أيضاً بأنه لو قلنا بأمارية اليد في هذه الصورة كما هو المفروض تكون اليد حاكمة على الإستصحاب لما تقدم من حكومة الأمارات على الأصول.

فالصحيح أنَّ ها هُنا دعويان: أحدهما؛ دعوى الإنتقال، وبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون مدعياً وعليه إثباتها.

والأخرى؛ دعوى الملكية لليد الفعلية، وبالنسبة إلى هذه الدعوى لا بُدَّ على الطرف الآخر إقامة البينة. وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

والحاصل؛ إنه لو كان شيء في يد شخص فعلاً وثبت شرعاً أنه كان لغيره سابقاً يحكم بملكية ذي اليد لجريان السيرة على العمل بقاعدة اليد، ولعدم المنافاة بين كون شيء ملكاً لشخص سابقاً ولآخر فعلاً، بل ذلك غالبي الوقوع كما هو معلوم.

ص: 129


1- . الحاشية على فوائد الأصول (للعراقي)؛ ج4 ص614.

المورد الثالث: لو أقرّ ذو اليد بأنّ ما في يده كان لمورثه، فإنّ ثبوت موت المورث وثبوت وارثه ذي اليد يؤكدان إقراره، ولكن هذا الإقرار لا ينافي استيلائه على ما في يده وملكيته له، ولا وجه للحاكم في مطالبته بالبينة أصلاً, ولا ربط له بانقلاب الدعوى الذي تقدم ذكره في الفرض السابق.

وعلى هذا الأساس يكون طلب أبي بكر البينة من الصديقة الطاهرة علیها السلام لا وجه له, فإنَّه إنْ كان لإثبات موت النبي صلی الله علیه و آله و سلم فهو مِمّا يقبح صدوره منه. وإنْ كان لإثبات أنَّ فاطمة الزهراء علیها السلام إبنته فهو مِمّا يقبّحه المسلمون بأجمعهم؛ خواصهموعوامهم كسابقه. وإنْ كان من أجل أنَّ يد الوارث لا تدلُّ على ملكية ما انتقل إليه من مورثه فهو خلاف إجماع المسلمين، بل سيرة العقلاء كافة.

فلا بُدّ لأبي بكر في منع الصديقة الطاهرة علیها السلام من فدك من إثبات أحد أمرين:

1- إمّا عدم موت النبي صلی الله علیه و آله و سلم .

2- وإمّا إثبات حديث: (نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ).

والأول؛ مخالف للوجدان وما هو معلوم بين الناس.

والثاني؛ مخالف للقرآن المجيد وسيرة الأنبياء السابقين والعقلاء أجمعين, كما أنَّه لم يثبت هذا الحديث بنفسه كما هو مفصل في الكتب الكلامية والحديثية؛ حيث لم نجده مروياً إلا عن أبي بكر وحده في قضية فدك الزهراء علیها السلام .

هذا إذا كانت دعوى الصديقة الطاهرة علیها السلام أنَّ فدك قد انتقلت إليها بالإرث، وأمّا إذا كانت دعواها أنَّها كانت نِحلة من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أو من الله تعالى؛ كما يظهر من بعض الأخبار؛ فالحكم يكون أوضح, فإنَّ مقام قداسة الصديقة الطاهرة علیها السلام وعدم المعارض لها

ص: 130

في هذه الدعوى من أحد المسلمين ولا من غيرهم، وكون فدك في يدها؛ كلُّ ذلك يدلُّ على أنَّها علیها السلام مالكة لفدك, فلا مبرر لانتزاعها منها.

وربما يتوهم بأنَّ المعارض لها أبو بكر وهو وليّ المسلمين فلا يصغي للقول بأنَّ دعواها بلا معارض.

ولكنه موهون بأنَّه لا بُدَّ لأبي بكر حينئذٍ من ردِّ دعواها بمقام ولايته لا بحديث (نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ). والمسألة مذكورة على نحو التفصيل في كتب الكلام والتاريخ من الفريقين.

وقد يقال بأنَّ المقام يندرج تحت موضوع انقلاب الدعوى؛ وذلك بأنَّه لما احتج أمير المؤمنين علیه السلام على أبي بكر في خبر العلل المتقدم بأنَّ الصديقة الطاهرة علیها السلام ذات اليد على فدك التي كانت لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقد نحلها إياها، فادَّعت علیها السلام الإنتقال إليها منه صلی الله علیه و آله و سلم بعد اعترافها بأنَّها له صلی الله علیه و آله و سلم فقد انقلبت الصديقة الطاهرة علیها السلام مدَّعية؛ فتكون البينة عليها؛ ولكن هذا القول مخالف للرواية, لأنَّ أمير المؤمنين علیه السلام في خبر الإحتجاج ينفي أنْ تكون البيّنة عليها, فالرواية تدلُّ دلالة صريحة على عدم انقلاب الدعوى.

وعلى فرض التنزل والقبول نقول أنَّ دعوى الإنتقال إليها علیها السلام كانت من المسلّمات عند الجميع؛ إمّا إرثاً, وإما نِحلة منه صلی الله علیه و آله و سلم أو من الله تعالى -كما تقدم-, وأمّا الملكية فقد احتج أمير المؤمنين علیه السلام على أبي بكر بأنَّها علیها السلام ذات يد علىالطرف الآخر وعلى أبي بكر -باعتباره ولي المسلمين- إقامة البينة على عدم الملكية.

والأمر واضح لا عموم فيه. ولكن السياسة تدخلت في هذا الموضوع -كما في كثير من المواضيع-؛ فانقلبت الدعاوى الصحيحة الحقة إلى باطلة, وبها أزاحوا الحقَّ عن أهله.

ص: 131

المورد الرابع: لا ريب في شمول قاعدة اليد للأعيان المتحولة التي تقبل النقل والإنتقال بحدّ نفسه، ولكن وقع الخلاف في شمولها للمنافع والحقوق والنسب والأعراض.

أما المنافع؛ فإنّ لها إطلاقان:

أحدهما؛ ما يطلق على بعض الأعيان الخارجية عرفاً كاللبن في الضرع، والثمرة على الشجرة؛ فهذه خارجة عن محل الكلام إذ لا شك في إمكان وقوعها مستقلاً تحت اليد، والأدلة تشملها.

والآخر؛ ما لا وجود لها استقلالاً وإنما تستوفى تدريجاً كسكن الدار والدكان ونحوهما، وإنما يكون وجودها تبعاً لوجود العين فتكون اليد على العين يد على المنافع حقيقة وواقعاً، فإذا استولى على العين لا يصحّ سلب السلطنة والإستيلاء على المنفعة؛ وبهذا صحّح الفقهاء الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة من باب ضمان اليد.

وإذا عرفت ذلك نقول: إذا وقعت المنافع مورد التنازع فإنَّه تارة يكون بين المالك المدعي وذي اليد؛ كما إذا اعترف الأخير بأنّ الدار التي يسكن فيها الآن هي ملك لك، ولكنها في إجارتي إلى مدة سنة مثلاً.

وأخرى؛ يكون بين المدعي الأجنبي غير المالك وذي اليد؛ كما إذا ادعّى الأجنبي أنّ الدار في إجارتي وذي اليد -وهو الطرف الثاني- يقول إنها في إجارتي.

فقد ذهب جمع من الفقهاء إلى اعتبار اليد في الثاني دون الأول، واستدلوا على ذلك بأنّ المنفعة أمر معدوم بالنسبة إلى الزمان اللاحق من زمان النزاع، وقد عرفت أنها غالباً ما يكون من الأمور غير القارّة؛ أي التي لا يوجد جزء منه إلا بعد انعدام الجزء السابق فلا يمكن وقوعها تحت اليد استقلالاً. وقد تقدم أنّ المناط في الإستيلاء والسيطرة في اليد هو الخارجي منهما؛ ولهذا تتحقق اليد في الغاصب مع أنها لا اعتبار بها لا شرعاً ولا عقلاً.

ص: 132

وفي المقام تحققت السيطرة على المنفعة تبعاً للسيطرة على العين فتكون اليد على العين يد على المنافع غير القارة حقيقة وعرفاً، فتكون العين واسطة في الثبوت لا أن تكون واسطة في العروض. ومن هنا لا يصحّ سلب السلطنة والإستيلاء على المنفعة، فاليد الفعلية على العين تدل على الملكية للمنافع إذا لم يصدر منه ما يدل على ما ينافي أماريتها.وأما إذا كان المدعي هو المالك كما في الفرض الأول فإنَّه بعد اعتراف ذي اليد بأنّ يده أمانية من قبل المالك؛ تكون يده يد المالك فلا يبقى موضوع للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد، والسيرة لا تشمل مثل ذلك فتكون الخصومة بينهما ترجع إلى تحقق الإجارة وعدمها أو طول المدة وقصرها، والفصل حينئذٍ يكون حسب القواعد والأصول كما هو مفصّل في محله.

نعم؛ لا بُدَّ من إقامة الدليل على اعتبار مثل هذه اليد التبعية؛ فإنَّه يمكن القول بأنّ السيرة كما تدل على اعتبار اليد الإستقلالية تدل على اعتبار اليد التبعية وكذلك الأخبار فإنَّه وإن كان مورد أغلبها الأعيان، ولكن يمكن القول بشمولها للأعيان عرفاً، بل أن عموم قوله علیه السلام في موثقة يونس: (ومَنِ اسْتَوْلَى عَلَى شَيْ ءٍ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ) شامل لهما فلا قصور في الشمول، وورود بعضها في الأعيان إنَّما يكون من باب المثال لا الخصوصية، وكذلك يمكن الأخذ بإطلاق معقد الإجماع.

وكيف كان؛ فإن الفرق بين الفرضين إنَّما هو من جهة بناء العقلاء حيث يفرقون بين أن يكون المدعي هو المالك أو الأجنبي لا لقصور في شمول أدلة اعتبار اليد للمنفعة. هذا كله في المنافع وجريان اليد فيها.

وأما في الحقوق؛ فلا ريب أنها تختلف عن الملك حيث يعبرون عنها بأنها مرتبة ضعيفة من الملك، ومن المعلوم آنفاً أنها مجعولة في عالم الإعتبار من طرف العقلاء والشارع على شيء

ص: 133

أو شخص فهي إما متعلقة بالأعيان على اختلاف أنحائها سواء كانت الأعيان متحولة كحق الرهان وحق التولية وغيرهما، أو غير متحولة كحق الإختصاص المتعلقة بالميتة والخمر والأعيان النجسة. وهذه كذلك لم تقع تحت اليد ابتداءً، بل تكون بتبع الأعيان فيكون حالها حال المنافع إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الحق يسقط بإسقاطه فإنَّه أمر واقعي محمول بالضميمة بخلاف المنفعة. فما ذكرناه بالنسبة الى المنافع يجري في الحق أيضاً، وأنّ الدليل هو عموم بعض الأخبار والسيرة وبناء العقلاء. ولكن مع الفرق؛ أننا في المنافع ذهبنا إلى التفصيل، ولكن في الحقوق يمكن القول بالتعميم لأنّ المالك المتنازع مع ذي اليد قد يدّعي أنه سلّط الآخر على العين مع إسقاط الحق المتعلق بها، وهذا واضح. فالحق هو التعميم.

وأما في النسب والأعراض؛ كما لو تنازع شخص مع آخر من زوجة تحت يد أحدهما كأن تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوج مع زوجته، أو في صبي تحت يد أحدهما. والأقوال في ذلك مختلفة والآراء مضطربة.

والحق؛ هو اعتبار اليد فيها، لاستقرار بناء العقلاء على أمارية اليد في هذه المواضع أيضاً، وأنّ الظن الحاصل هنا أقوى بمراتب من الظن الحاصل في باب الأملاك لأنّ الغصب في الأملاك شائع بخلافه في باب الأعراض والنسب فإنّغصب زوجة الآخر وولده في غاية القلّة والندرة. وقد ذكرنا أنّ عموم قوله علیه السلام : (ومَنِ اسْتَوْلَى عَلَى شَيْ ءٍ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ) يشمل المقام أيضاً، والمسألة محل نقاش مذكور في محله.

وهناك فروع أخرى تتعلق بقاعدة اليد؛ محلّ تفصيلها كتاب القضاء أو الكتب المعدّة للبحث في القواعد الفقهية.

ص: 134

قاعدة القرعة

اشارة

وهي من القواعد الفقهية المعروفة بين المسلمين فتوىً وعملاً، بل عند العقلاء, والتي أمضاها الشارع, وقد أضاف إليها بعض الشروط؛ فهي حجة على التفصيل الآتي.

والكلام عنها يقع في جهات:

الجهة الأولى: في الدليل على اعتبارها

وقد استدلَّ عليها بالأدلة الأربعة:

أما الكتاب؛ فبقوله تعالى في قصة يونس علیه السلام (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(1).

والمراد من المساهمة؛ دخوله في الإقتراع فكان من المغلوبين.

وقوله تعالى في حق مريم علیها السلام : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَ)(2).

والآية الأولى تبين دخول النبي يونس علیه السلام في المقترعين، والثانية تبين كيفية اقتراعهم ليتبين أيّهم أحقّ بكفالة مريم علیها السلام بعد أن ادعى زكريا علیه السلام أحقيته لأنّ خالتها كانت عنده، فاقترعوا ثلاث مرات، وفي كل مرة يظهر قلم زكريا علیه السلام ، وقصتهما معروفة في كتب التفسير والأخبار، وكلاهما يدلان على معروفية القرعة باعتبارها حلاً لمشكلة أو رفعاً للحيرة والإضطراب.

وأُشكل على الإستدلال بالآيتين بأنّ غاية ما تفيده الآية الأولى هو أنّ القرعة كانت حلاً في ذلك الوقت، وأنّ الناس الذين ركبوا مع النبي يونس علیه السلام في السفينة اختاروا هذا الحل. أو أن يكون ذلك ناشئاً من تشريع خاص لا ظهور للآية فيه، وأنه عَزَّ وَجَلَّ قد حكى القصة كذلك كما يحكى القصص في القرآن الكريم، فلا تدل على مشروعية القرعة.

ص: 135


1- . سورة الصافات؛ الآية 141.
2- . سورة آل عمران؛ الآية 44.

ويرد عليه: إنّ الآية تدل على الرجوع إلى القرعة في حلّ المشكلة بعد أن لم يكن لها حلٌّ سواها، وهي بذلك تكون من الأمور العقلائية التي أمضاها الشرع الإلهي الذي كان يمثله نبي زمانه وهو يونس علیه السلام ، ولم يرد في شرع الإسلام ما ينهي عنه، ويكفي في الإمضاء عدم الردع عنها كما ذكرنا مكرراً.

وأما الآية الثانية؛ فإنّ غاية ما تدل عليه أنّ الناس؛ ومنهم زكريا علیه السلام قد لجأوا إلى هذا الحلّ الذي رضي به الجميع، فلا تدل على وجود حالة شرعية ملزمة بذلك.

ويرد عليه: بما ذكرناه آنفاً، مع أنه يكفي في الإمضاء أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ ذكر القصتين في محكم كتابه ولم يعلّق عليها تعليقاً سلبياً يدل على رفضها كما هوالأمر كذلك في حكاية بعض العادات السيئة, مثل قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(1).

فالآيتان تدلان على مشروعية القرعة بالإمضاء بعد أن كانت مِمّا تعارف عليها العقلاء في رفع الحيرة وحلّ المشكلات، فلا إشكال في ذلك.

وأما السنة؛ فقد وردت أخبار كثيرة عن الأئمة الطاهرين علیهم السلام لا يبعد تواترها معنىً، وهي مذكورة في أبواب متفرقة جمعها المحقق النراقي قدس سره (2)، وهي على طائفتين:

الطائفة الأولى: الأخبار العامة التي لا اختصاص لها بمورد خاص، فهي تشمل جميع الموارد المجهولة أو المشتبهة أو المشكلة على اختلاف ألسنتها، وهي عديدة:

1- ما رواه الصدوق قدس سره في الفقيه والشيخ في التهذيب عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكِيمِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ شَيْ ءٍ فَقَالَ لِي: (كُلُ مَجْهُولٍ فَفِيهِ

ص: 136


1- . سورة النحل؛ الآيات 58-59.
2- .عوائد الأيام؛ عائدة (62) في بيان القرعة وشرعيتها؛ ص640-651.

الْقُرْعَةُ. فَقُلْتُ: إِنَّ الْقُرْعَةَ تُخْطِئُ وتُصِيبُ؟. فَقَالَ علیه السلام : كُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ)(1).

ومعنى قوله علیه السلام : (كُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ)؛ أنَّ القرعة حكم إلهي لا يتصور فيه الخطأ, لا أنْ تكون القرعة لا تخطئ أبداً.

2- ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلاً عن الإمام الصادق علیه السلام : (مَا تَقَارَعَ قَوْمٌ فَفَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا خَرَجَ سَهْمُ الْمُحِقِّ )(2).

وقال علیه السلام : (أَيُّ قَضِيَّةٍ أَعْدَلُ مِنَ الْقُرْعَةِ إِذَا فُوِّضَ الْأَمْرُ إِلَى اللَّهِ؛ أَ لَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(3))(4).

وهاتان الروايتان وإنْ كانتا مرسلتين ولكن قد يستشهد بهما على مشروعية وإصابة القرعة للواقع.

3- ما رواه القاضي في الدعائم عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد الله علیهم السلام أنَّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل، فقال: قال أبو عبد الله علیه السلام : (وَأَيُّ حُكْمٍ فِي الْمُلْتَبَسِ أَثْبَتُ مِنَ الْقُرْعَةِ؛ أَ لَيْسَ هُوَ التَّفْوِيضَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ.وذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قِصَّةَ يُونُسَ علیه السلام ؛ وهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(5), وقِصَّةَ زَكَرِيَّا علیه السلام وقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)(6), وذَكَرَ قِصَّةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ علیه السلام لَمَّا نَذَرَ ذَبْحَ مَنْ يُولَدُ لَهُ؛

ص: 137


1- . من لا يحضره الفقيه؛ ج3 ص92.
2- . المصدر السابق.
3- . سورة الصافات؛ الآية 141.
4- . من لا يحضره الفقيه؛ ج3 ص92.
5- . سورة الصافات؛ الآية 141.
6- . سورة آل عمران؛ الآية 44.

فَوُلِدَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم , فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّتَهُ, فَأَلْقَى عَلَيْهِ السِّهَامَ وعَلَى إِبِلٍ يَنْحَرُهَا يَتَقَرَّبُ بِهَا مَكَانَهُ؛ فَلَمْ تَزَلِ السِّهَامُ تَقَعُ عَلَيْهِ وهُوَ يَزِيدُ؛ حَتَّى بَلَغَتْ مِائَةً فَوَقَعَ السَّهْمُ عَلَى الْإِبِلِ, فَأَعَادَ السِّهَامَ مِرَاراً وهِيَ تَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ, فَقَالَ: الْآنَ عَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي قَدْ رَضِيَ. ونَحَرَهَا)(1).

4- ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (... والْقُرْعَةُ سُنَّةٌ )(2).

5- ما رواه الشيخ أيضاً في التهذيب بسنده عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم عَلِيّاً علیه السلام إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُ حِينَ قَدِمَ: حَدِّثْنِي بِأَعْجَبِ مَا مَرَّ عَلَيْكَ. فَقَالَ علیه السلام : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَانِي قَوْمٌ قَدْ تَبَايَعُوا جَارِيَةً فَوَطِئُوهَا جَمِيعاً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَوَلَدَتْ غُلَاماً, واحْتَجُّوا فِيهِ؛ كُلُّهُمْ يَدَّعِيهِ؛ فَأَسْهَمْتُ بَيْنَهُمْ وجَعَلْتُهُ لِلَّذِي خَرَجَ سَهْمُهُ وضَمَّنْتُهُ نَصِيبَهُمْ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ تَنَازَعُوا ثُمَّ فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ إِلَّا خَرَجَ سَهْمُ الْمُحِقِّ )(3).

6- صحيح جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ مَسْأَلَةٍ. فَقَالَ لَهُ: (هَذِهِ تُخْرَجُ فِي الْقُرْعَةِ؛ ثُمَّ قَالَ: وأَيُّ قَضِيَّةٍ أَعْدَلُ مِنَ الْقُرْعَةِ إِذَا فُوِّضَ الْأَمْرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ أَ لَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(4))(5).

ومن مجموع هذه الأخبار يمكن تأسيس الكبرى الكلية الواردة في كلمات الفقهاء؛ (القرعة لكلِّ أمرٍ مشكل).

ص: 138


1- . دعائم الإسلام؛ ج2 ص522-523.
2- . تهذيب الأحكام؛ ج6 ص239.
3- . المصدر السابق؛ ج8 ص170.
4- . سورة الصافات؛ الآية 141.
5- . المحاسن (للبرقي)؛ ج2 ص603.

الطائفة الثانية: الروايات التي وردت في موارد خاصة, وهي كثيرة جداً؛ نذكر جملة منها:

1- ما رواه الشيخ قدس سره في التهذيب باسناده عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (إِذَا وَقَعَ الْحُرُّ والْعَبْدُ والْمُشْرِكُ عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَادَّعَوُا الْوَلَدَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ؛ وكَانَ الْوَلَدُ لِلَّذِي يَقْرَعُ )(1).

2- ما رواه الكليني قدس سره في الكافي عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام لِأَبِي حَنِيفَةَ: (يَا أَبَا حَنِيفَةَ؛ مَا تَقُولُ فِي بَيْتٍ سَقَطَ عَلَى قَوْمٍ وبَقِيَ مِنْهُمْ صَبِيَّانِ, أَحَدُهُمَا حُرٌّ والْآخَرُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ, فَلَمْ يُعْرَفِ الْحُرُّ مِنَ الْمَمْلُوكِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ نِصْفُ هَذَا ويُعْتَقُ نِصْفُ هَذَا ويُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : لَيْسَ كَذَلِكَ؛ ولَكِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا, فَمَنْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ فَهُوَ حُرٌّ, ويُعْتَقُ هَذَا فَيُجْعَلُ مَوْلًى لَهُ )(2).

3- ما رواه الشيخ في التهذيب باسناده عَنْ حَرِيزٍ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام بِالْيَمَنِ فِي قَوْمٍ انْهَدَمَتْ عَلَيْهِمْ دَارُهُمْ وبَقِيَ صَبِيَّانِ؛ أَحَدُهُمَا حُرٌّ والْآخَرُ مَمْلُوكٌ؛ فَأَسْهَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام بَيْنَهُمَا فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا, فَجَعَلَ لَهُ الْمَالَ وأَعْتَقَ الْآخَرَ )(3).

4- ما رواه الشيخ في التهذيب باسناده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الرَّجُلِ أَنَّهُ سُئِلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى رَاعٍ نَزَا عَلَى شَاةٍ قَالَ: (إِنْ عَرَفَهَا ذَبَحَهَا وأَحْرَقَهَا, وإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ أَبَداً؛ حَتَّى يَقَعَ السَّهْمُ بِهَا فَتُذْبَحُ وتُحْرَقُ؛ وقَدْ نَجَتْ سَائِرُهَا)(4).

ص: 139


1- . تهذيب الأحكام؛ ج6 ص240.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج7 ص138.
3- . تهذيب الأحكام؛ ج6 ص239.
4- . تهذيب الأحكام؛ ج9 ص43.

5- ما في المستدرك عن أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى فِي نَوَادِرِهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى علیه السلام أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِكَ يَنُمُّ عَلَيْكَ فَاحْذَرْهُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ لَا أَعْرِفُهُ؛ أَخْبِرْنِي بِهِ حَتَّى أَعْرِفَهُ. فَقَالَ: يَا مُوسَى؛ عِبْتُ عَلَيْهِ النَّمِيمَةَ وتُكَلِّفُنِي أَنْ أَكُونَ نَمَّاماً؟. فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ وكَيْفَ أَصْنَعُ؟. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَرِّقْ أَصْحَابَكَ عَشَرَةً عَشَرَةً ثُمَّ تُقْرِعُ بَيْنَهُمْ, فَإِنَّ السَّهْمَ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي هُوَ فِيهِمْ, ثُمَّ تُفَرِّقُهُمْ وتُقْرِعُ بَيْنَهُمْ, فَإِنَّ السَّهْمَ يَقَعُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ السِّهَامَ تُقْرَعُ قَامَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُكَ لَا واللَّهِ لَا أَعُودُ )(1).

6- وفي البحار روايتان(2)؛ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (كَانَ عَلِيٌّ علیه السلام إِذَا سُئِلَ فِيمَا لَيْسَ فِي كِتَابٍ ولَا سُنَّةٍ رَجَمَ فَأَصَابَ؛ وهِيَ الْمُعْضِلَاتُ).وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: (إِنَّ عَلِيّاً علیه السلام إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ لَمْ يَجِئْ بِهِ كِتَابٌ ولَا سُنَّةٌ رَجَمَ بِهِ, يَعْنِي سَاهَمَ فَأَصَابَ؛ ثُمَّ قَالَ علیه السلام : يَا عَبْدَ الرَّحِيمِ وتِلْكَ الْمُعْضِلَاتُ).

وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب متفرقة تدل على اعتبار القرعة في الموارد الخاصة، وقد عرفت أنه لا وجه للمناقشة السندية في أصل دلالتها على ذلك، بل ينبغي أن تعدّ دلالة تلك الأخبار والآيات على اعتبارها من القطعيات.

وأما الإجماع؛ فقد ادعاه جمعٌ منهم ابن إدريس(3) فقال: (إذا ولد مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء أُقرع عليه، فإن خرج سهم الرجال أُلحق بهم وورث ميراثهم، وإن خرج

ص: 140


1- . مستدرك الوسائل؛ ج17 ص375.
2- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص177.
3- . السرائر؛ ج2 ص173.

سهم النساء أُلحق بهنّ وورث ميراثهن، وكل أمر مشكل مجهول يشتبه فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة لما روى عن الأئمة علیهم السلام وتواترت الآثار وأجمعت عليه الشيعة الإمامية). ومنهم الشهيد الثاني(1) كما حكى عن الشيخ ما ظاهره الإجماع على اعتبارها. ومن يتتبع كلمات العلماء في هذا الموضوع يظهر له أنه لم يدّع أحد منهم عدم اعتبارها بنحو السلب الكلي. نعم؛ إذا كان هناك نقاش ففي بعض الموارد ومن جهات خاصة.

وكيف كان؛ فلا يوجد أحد من الإمامية ينكر اعتبارها في الجملة. نعم؛ هذا الإتفاق ليس هو من الإجماع المصطلح عليه في علم الأصول الذي يكون حجة على الحكم الشرعي، فإنّ استناد المدعين للإجماع على النصوص واضح، وعلى أية حال لا ريب في اعتبار قاعدة القرعة ومشروعيتها على الإجمال.

وأما العقل؛ فكما تقدم بيانه.

الجهة الثانية: في بيان مقدار دلالة النصوص على هذه القاعدة.

والكلام يقع في ضمن أمور:

الأمر الأول: يختص مورد جريانها بالشبهات الموضوعية التي ينحصر رفع الشبهة فيها بخصوص القرعة فقط.

فلا تجري في الموارد التي يرتفع فيها التحيّر المطلق لسبب من الأسباب الشرعية التالية:

1- إذا كان هناك أمارة كالبينة أو الإقرار أو حكم الحاكم ترفع الجهالة.

2- إذا كان المورد من موارد جريان الإستصحاب وسائر الأصول الأخرى؛ حتى البراءة وقاعدة الحلية والطهارة.

ص: 141


1- . تمهيد القواعد؛ ص238.

3- إذا أمكن الوصول إلى الواقع المجهول بواسطة الوسائل والطرق والآلات الحديثة لحل المشكلة كتحليل النطفة أو بواسطة آلات الضبط للصورة أو الصوت ونحو ذلك مِمّا يوجب الإطمئنان. والدليل على ذلك هو أنّ موضوع قاعدة القرعة إنَّما هو التحيّر المطلق من كل حيثية وجهة كما هو المتفاهم من الأدلة اللفظية كقوله علیه السلام : (كُلُ مَجْهُولٍ فَفِيهِ الْقُرْعَةُ) وغيره، كما أنه المتيقن من الأدلة اللبّية، وحينئذٍ لا تعارض بين هذه القاعدة وغيرها حتى تحتاج إلى التماس تقديم إحداها على الأخرى.

الأمر الثاني: لا شبهة في عدم جريانها في الشبهات الحكمية لأنّ رفع الشبهة فيها ينحصر بالطرق المعهودة الشرعية من الرجوع إلى الأدلة الإجتهادية، وبعد فقْدها لا بُدَّ من الرجوع إلى الأدلة الفقاهتية فلا مجال للرجوع إلى القرعة من رفع الجهالة فيها، فالقول بشمولها للشبهات البدوية مِمّا لا يصغى إليه.

الأمر الثالث: لقد وقع الكلام في أنّ خروج الشبهات الحكمية من أدلتها من باب التخصيص أو التخصص؟

ولا يخفى أنّ العناوين الواردة في أدلة القرعة هي خمسة: عنوان المجهول، وعنوان المشتبه، وعنوان المشكل، وعنوان المتلبس، وفي بعض الروايات؛ عنوان المعضلات.

قد يقال: إنّ الأوّلين؛ أي عنوان المجهول والمشتبه، لهما من العموم بحسب مفهومهما بحيث يشمل الصور الأربع؛ أي الشبهات الحكمية والموضوعية سواء كانتا مقرونتين بالعلم الإجمالي أم كانت بدوية.

ويدفعه: إنّ التأمل في الروايات وملاحظة العلة التي ذكرها الإمام علیه السلام : (وأَيُّ قَضِيَّةٍ أَعْدَلُ مِنَ الْقُرْعَةِ إِذَا فُوِّضَ الْأَمْرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) يوجب الإطمئنان بأنّ المراد من هذه العناوين الخمسة هو المجهول والمشتبه في الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي إذا

ص: 142

كانت من المعضلات والمشكلات التي لا حلّ لها إلا بالرجوع إلى القرعة؛ لأنّ الإحتياط إما غير ممكن، أو يوجب العسر والحرج. ونحن نعلم بأنّ الشارع لم يوجب الإحتياط فيها كما في مثل الغنم الموطوءة المشتبهة في قطيع الغنم، فإنَّه وإن كان مقتضى القاعدة الأولية هو وجوب الإحتياط والإجتناب عن جميع أفراده في الشبهة المحصورة إلا أننا نعلم بأنّ الشارع لم يوجب الإحتياط بأن يحرَق القطيع لأنَّه تضييع للمال الكثير الذي لا يُتحمل عادة، والمفروض أنه لا يمكن تعيين الموطوء حتى يترتب عليه حكمه من حرمة لحمه ووجوب إحراقه، فصار من المشكلات والمعضلات في الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي فيكون موضوعاً لجريان القرعة. كما أنّ الإحتياط بتضمين الواطئ لا يكون إلا في خصوص الموطوء، لا في سائر أفراد القطيع؛ فيكون في الإحتياط ضرر عظيم على صاحب القطيع على كل حال، فلامورد للإحتياط. ومن أجل ذلك كله صار الموضوع مشكلاً ومعضلاً ولا يرتفع إلا بالقرعة كما عرفت آنفاً.

مع أنّ موارد القرعة هي الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي التي تكون فيها معرضية النزاع والمخاصمة. ومن أجل هذا تعرض الفقهاء لها في كتاب القضاء في مسألة تعارض البينات؛ فقد حكموا بالقرعة بعد التساوي وفقْد المرجّح، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك، ولا نقول أنّ ذلك علّة لتشريع القرعة، بل إنها تشمل جميع الموارد التي لا يمكن الوصول إلى الواقع ورفع الإلتباس والمعضلة بوجه من الوجوه حتى لو لم يكن نزاع ومخاصمة في البين، ولا يمكن الإحتياط فيه؛ إما لعدم إمكانه كما في الأَمة الموطوءة، أو يستلزم العسر والحرج، أو لم يشرع فيه الإحتياط؛ فلا بُدَّ من الرجوع إلى القرعة في رفع الحيرة والجهالة حتى لو لم يكن نزاع وخصومة في البين؛ كما إذا قال (أحد عبيدي حرّ)، أو (إحدى زوجاتي طالق)، أو (صاحب القطيع من الغنم إذا وطأ إحدى شياهه) فإنّ الأدلة تشملها جميعاً.

ص: 143

والمتحصل؛ أنّ خروج الشبهات الحكمية من مورد الأدلة التي تدل على مشروعية القرعة مِمّا لا إشكال فيه، فلا تشملها، فيختص موردها بالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي بحيث تكون من المعضلات. والى هذا أشار الإمام أبو جعفر علیه السلام في رواية البحار المتقدمة (وهِيَ الْمُعْضِلَاتُ)، أو في رواية أخرى (وتِلْكَ الْمُعْضِلَاتُ).

ولا فرق في ذلك كله بين أن يكون المشتبه من حقوق الناس، أو من حقوق الله تعالى مثل ما ورد في استخراج البهيمة المنكوحة ونحو ذلك، بعد تحقق الموضوع في الجميع وعموم الأدلة وإطلاقاتها.

الجهة الثالثة: في شروط جريان القاعدة

ومن جميع ما ذكرناه تظهر شروط جريان قاعدة القرعة وهي:

الأول: أن يكون المورد من المجهول المشتبه المطلقين كما هو منطوق بعض الأخبار الواردة في القرعة.

الثاني: أن تكون الجهالة في الموضوعات كما استفدنا من الأدلة على التفصيل الذي ذكرناه بحيث لا يشمل الجهالة في الأحكام.

الثالث: أن تكون الجهالة والإشتباه في الموضوعات المقرونة بالعلم الإجمالي، وفي غير هذه الصورة يكون المرجع فيها هو الأدلة والقواعد الأخرى غير قاعدة القرعة.

فلا مجرى لهذه القاعدة في الشبهات الحكمية مطلقاً؛ بدوية كانت أم مقرونة بالعلم الإجمالي؛ فإنّ المرجع فيها إما الإستصحاب أو الإحتياط أو البراءة بعد فقْد الدليل الإجتهادي في موردها.

الرابع: أن يكون المورد من المعضلات التي لا يمكن رفع الشبهة وحلّ المشكلة فيها بالطرق المعهودة كالعلم والأمارة أو الأصول؛ حتى أصل البراءة أو الطرق الحديثة الموجبة للاطمئنان.

ص: 144

فيختص بالموضوع المشتبه الذي لم ينزّل فيه بالخصوص حكم؛ لا في الكتاب ولا في السنة، وإلا فالموضوعات الكلية التي ورد حكمها في الكتاب والسنة ليست من المعضلات لأنّ القواعد المجعولة للشك تشمل جميع الشكوك البدوية، فلا بُدَّ أن يكون الضابط في المعضلات والشبهات ما ذكرناه، وعلى هذا الضابط يخرج ما ذكره المحدث القمي(1) في موارد استعمال القرعة في الأخبار المذكورة في كتاب البحار فراجع.

ثم إنّ المحقق العراقي قدس سره (2) ذكر في بيان عدم شمول الأدلة في القرعة للشبهة الحكمية بأن الظاهر من جملة (كل أمر مجهول) أن يكون نفس الشيء وذاته مجهولاً، لا أنّ حكمه يكون كذلك فتختص بالشبهات الموضوعية.

وهو وإن كان يوافق ما ذهبنا إليه إلا أنه من التبعيد في المسافة؛ فلفظ (أمر) كلفظ (الشيء) يشمل الأحكام والموضوعات، فالحكم المجهول مثل الموضوع المجهول يصدق عليه أنه أمر مجهول فلا بُدَّ من تخصيصه بالموضوع من قرينة كما عرفت مفصلاً.

الجهة الرابعة: في أنّ القرعة أمارة أو أصل.

قد عرفت الفرق بينهما في مباحثنا السابقة مفصلاً. وقد ذكرنا أنّ الأمارة ما يكون فيها جهة كشف بخلاف الأصل فإنَّه لم يعتبر فيه ذلك.

ومن المعلوم أنّ وجود جهة الكشف في شيء لا يكفي في الأمارية إذا لم يكن من ناحية الشارع جعل لتلك الجهة بحيث يعتبرها كشفاً تاماً في عالم الإعتبار التشريعي، فتكون أمارية الشيء متقومة بأمرين:

أحدهما؛ أن تكون فيه جهة كشف.

والآخر؛ أن يعتبره الشارع كشفاً تاماً في عالم الجعل والتشريع.

ص: 145


1- . سفينة البحار؛ ج7 ص288.
2- . نهاية الأفكار؛ ج4 ص105.

ثم إنّ جهة الكاشفية تارة؛ تكون تامة لا نقص فيها، ويسمى ذلك بالعلم أو القطع حيث إنّ الكاشفية التامة لا تحتمل الخلاف. وقد ذكر الأصوليون أنّ مثل هذا النوع لا يحتاج إلى جعل الحجية له؛ فإنّ حجيته ذاتية، بل قالوا أنّ جعل الحجية له من الشارع يكون محالاً لأنَّه من قبيل تحصيل الحاصل، بل أسوء منه لأنَّه من قبيل تحصيل الحاصل بالوجدان لا بالتعبد. كما أنهم ذكروا أنّ سلب الحجية عنه محال أيضاً لأنَّه من سلب الذاتيات.

وقد علقنا على ما ذكروه في بحث القطع، وقلنا أنّ ذلك من المباحث الفلسفية التي دخلت في الأصول، وإلا فإنّ الحجية أمرُ وضعها ورفعها بيد الشارع الذي يحتجّعلى العباد (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(1)، فله تبارك وتعالى أن يجعل الحجية في مورد تكون فيه الحجية ذاتية لمصالح شيء، وله أن يرفعها في ذلك المورد لأغراض كذلك.

وأخرى؛ تكون جهة الكشف ناقصة يحتمل فيه الخلاف فيجعلها الشارع حجة يتمم كشفه في عالم الإعتبار فتصير أمارة، فإذا كان في شيء هاتين الجهتين يسمى عند الأصوليين أمارة.

وجهة الكشف تارة تكون دائم المطابقة؛ بمعنى وجود الملازمة بين الكاشف والمنكشف ويسمى هذا بالقطع، وأخرى لا تكون كذلك فليست موجبة لدوام المطابقة ولكنها تكون موجبة لكون الشيء غالب المطابقة، ويسمى هذا بالكشف الناقص. ويعبّر عنه بالظن، وهذا بخلاف الأصل فإنه لا يكون كذلك إلا أنه قد يكون محرزاً وقد لا يكون كذلك حسب ما يستفاد من أدلة اعتباره.

وبعد معرفة ذلك نقول:

إنّ ظاهر الأخبار الواردة في القرعة؛ لا سيما قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لأمير المؤمنين علي علیه السلام (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ تَنَازَعُوا ثُمَّ فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ إِلَّا خَرَجَ سَهْمُ الْمُحِقِّ).

ص: 146


1- . سورة الأنعام؛ الآية 149.

وقول أبي الحسن الكاظم علیه السلام : (كُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ) بعد قول الراوي: (إِنَّ الْقُرْعَةَ تُخْطِئُ وتُصِيبُ)؛ هو كون القرعة من الأمارات وأنها غالب المطابقة، وإن لم نقل بأنها دائم المطابقة كما ذهب إليه بعض الفقهاء, وعلى فرض التنزيل فلا أقل من دلالة الأخبار على تتميم الكشف فيها، كما يدل عليه قول الإمام الكاظم علیه السلام : (كُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ) بعدما قاله علیه السلام في مقام الرد على سؤال الراوي (إِنَّ الْقُرْعَةَ تُخْطِئُ وتُصِيبُ)؛ فإما هي دائم الإصابة كما ذهب إليه بعض الفقهاء، أو غالب الإصابة فلا إشكال في كونها من الأمارات, ولكن لا تعارض بينها وبين غيرها من القواعد والأمارات والأصول أبداً لما عرفت من أنّ مرتبتها تكون بعد فقْد جميعها. نعم؛ يبقى الكلام في تقديمها على الإستصحاب، والبحث في ذلك فرع وقوع التعارض بينهما، مع أنه قد تقدم عدم وقوع ذلك لأنّ مرتبة الرجوع إلى هذه القاعدة تكون بعد انتفاء جميع ما يمكن الإعتماد عليه شرعاً؛ ومنه الإستصحاب لما عرفت من اختصاص قاعدة القرعة بالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي التي تكون من المعضلات، وهي وإن أمكن في حدّ نفسها إجراء الإستصحاب فيها، ولكنها تسقط غالباً بالمعارضة فالمرجع حينئذٍ قاعدة القرعة.

ولو فرضنا وجود مورد يكون مجرىً لكليهما بدون سقوط أحدهما فلا إشكال في حكومة الإستصحاب على القاعدة لأنّ تشريعها إنَّما كان في مورد لا علاج ولاحيلة فيه لحلّ المشكل؛ فكان من المعضلة، ولذا قلنا بأنه لا يكون مجرى الإحتياط ولا أصلاً من الأصول الشرعية كالبراءة وإلا قدمت عليها حتى لو كان الأصل من أضعف الأصول فضلاً عن الإستصحاب الذي هو من أقوى الأصول.

ولا عجب في تقديم الأصل على الأمارة لاختلاف الرتب بينها، وذلك لأنّ التعارض إنَّما يكون في مورد يتحقق فيه موضوع الأمارة وكانت المعارضة في مؤداها.

ص: 147

وأما إذا كان الأصل رافعاً لموضوع الأمارة فلا يبقى وجه لتقديمها على الأصل كما في المقام فإنّ الإستصحاب يكون رافعاً لموضوع القرعة حيث لا مشكلة ولا معضلة حينئذٍ.

الجهة الخامسة: في أنّ المجهول ظاهري أم واقعي

وهل المراد من المجهول والمشتبه الواردين في أخبار القرعة هو الظاهري منهما أو الواقعي؟.

وبعبارة أخرى: هل أنّ القرعة تختص بما إذا كان هناك واقع مجهول يراد اكتشافه بالقرعة في الموضوعات لا في الأحكام كما تقدم، أو أنه ليس كذلك، بل إنّ القرعة لرفع الإشتباه والجعل الظاهري فتكون حلاً حيث لا حلّ، لا أنها كاشف حيث لا كاشف، وعلى كلا الإحتمالين فإنه يرجع إليها بعد استنفاذ كل الوسائل والطرق لحلّ المشكلة ورفع المعضلة حيث لا بُدَّ من اختيار فرد من أفراد؛ فإنّ الجهل يوجب الإشكال ولا يمكن التخيير حيث لا مرجّح في البين -كما هو المفروض- ولا يمكن الإحتياط الواجب كما تقدم.

فذهب جمعٌ من الفقهاء إلى الإحتمال الأول وقالوا بأنّ القرعة كاشفة حيث لا كشف في البين فهي تبين الواقع المجهول. وقد استفادوا ذلك من بعض الروايات, مثل قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم : (لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ تَنَازَعُوا ثُمَّ فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا خَرَجَ سَهْمُ الْمُحِقِ).

وقول أبي الحسن الكاظم علیه السلام : (كُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ). وغير ذلك.

وقد ذكرنا أنّ بعض الفقهاء استفاد من مثل هذه الروايات أنّ القرعة دائم الإصابة. واختار آخرون أنّ القرعة حلاً حيث لا حلّ، وأنها قد تصيب وقد تخطئ.

واستدلوا على ذلك بأنّ الواقع لا يمكن أن يتطرق إليه التردد والجهل من حيث هو واقع، لما ثبت في محله من أنّ الوجود مساوق للتشخص ومنافٍ للتردد فيكون الجهل والتردد ظاهرياً لا واقعياً. كما أنه لا إشكال في أنّ القرعة قد تصيب وتخطئ. ويدل عليه بعض ما

ص: 148

ورد وتعارف على الألسنة من أنّ (القرعة لكل أمر مشكل)، أو (كل مشتبه ففيه القرعة). وقد حملوا تلك الروايات التي تدل على الإصابة على أن ذلك حكمة الجعل، لا كونه تمام العلّة، أو تحمل على بعض المحامل.وتظهر الثمرة بين القولين في مسائل كثيرة، منها؛ مسألة إسلام الكافر عن أزيد من أربع زوجات، فإنَّه على القول الأول لا يمكن إجراء قاعدة القرعة لعدم وجود واقع مجهول يراد اكتشافه فإنّ غاية ما في هذا الموضوع أنّ إحدى زوجاته أولى في مقام الزوجية من الأخرى، فليس هناك امرأة معينة يراد اكتشافها، والمطلوب إبقاء أربع والتخلي عن الخامسة مثلاً. وأما بناءً على الإحتمال الثاني فتجري القرعة وترفع الحيرة لعدم وجود ميزة ووجه لترجيح إحداهن على الآخريات حلاً حيث لا حلّ.

والصحيح؛ هو القول الثاني لعدم تمامية ما ذكروه للوجه الأول فيكون الرجوع إلى القرعة لا من جهة بيان الواقع فيها، بل من أجل كونها حلاً لمشكلة ورفعاً لجهالة وحيرة كما هو الشأن في الإستخارة حيث يرجع إليها المؤمن في الموارد التي يحتار فيها وتكون حلاً لمشكلة، ولكن مع الفرق بينهما كما سيأتي بيانه وتمام البحث في كتاب القضاء.

ويمكن رفع الإختلاف بين الروايات بأن نقول: إنّ الأخبار التي تدل على الإصابة إنَّما ترشد إلى أنّ القرعة حكم إلهي؛ فمن يعتمد عليه في حلّ أموره فقد اعتمد على حكم مشروع فيكون عمله دائم الإصابة لأنه لم يتخطَّ الحكم الإلهي، ولكنها لا تدل على أنّ مؤداها هو الواقع بعينه؛ فقد تخطئ وقد تصيب، وإن كانت الإصابة غالبية وهي التي تشير إليها الطائفة الأخرى من الروايات مع أنّ مجموع الروايات في القرعة ترشد إلى أمر آخر وهو أنه قد يبتلى الإنسان في حياته فيقع في حيرة واضطراب تؤثران على نفسيته وتوجب الوهن في عزيمته وتؤدي إلى الوقوع في مشاكل إجتماعية وصحية؛ فكان من منن

ص: 149

الله عَزَّ وَجَلَّ عليه أن شرّع له القرعة لرفع ذلك كله في دائم الإصابة من هذه الجهة، ولا إشارة فيها إلى الواقع.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ اختلاف الفقهاء يرجع إلى الخلاف في أنّ مورد القرعة يختص بما إذا كان هناك واقع متعين في نفسه ولكن غاب هذا التعيين بسبب الجهل والإلتباس؛ فصارت مشكلة ومعضلة حيث لم يقم دليل أو أمارة على التخيير والإحتياط فتكون معينة حيث لا تعيين، أو أنه يختص بما إذا كان هناك واقع مجهول ويراد معرفته فتكون حلاً حيث لا حلّ.

فإن قلنا بالتعميم وشمول القرعة لكل الموارد كما هو الصحيح لأنّ المستفاد من بعض الروايات كونها مشروعة بشكل واسع كما هو ظاهر قول أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (والْقُرْعَةُ سُنَّةٌ)(1)؛ فمعناه إنها قاعدة يعتمد عليها الناس ويجرون عليها في جميع الموارد كما يجري الناس على السنة، فلا يكون لهذا النزاع أثراً.وأما بناءً على القول بعدم التعميم نظراً إلى أنه ليس عندنا عموم يشمل شرعية القرعة لمثل الموارد التي لا واقع معين مجهول فيها؛ مثل ما إذا كانت من المسائل التي لا تعيين فيها بحسب الواقع ويراد تعيينها بحسب الجري العملي لأنَّه ليس فيها ترجيح في أحد الطرفين فيكون المرجح هي القرعة لتكون مرجحاً. وقد ذهب إلى هذا الراي جمعٌ من الفقهاء؛ فقد ذكروا في المسألة المعروفة: لو أسلم الكافر على أكثر من أربع، ومات قبل الإختيار فإنه لا يمكن الرجوع إلى القرعة في إخراج واحدة منهن لأنَّها لم تكن معنية في الواقع.

وذكر السيد الحكيم قدس سره : (إنّ القرعة إنَّما تكون طريقاً إلى تعيين الواقع المتعين في نفسه والمفروض عدمه)(2). وذلك أنّ نسبة الزوجية إلى كلِّ واحدة من النساء الخمس أو الست

ص: 150


1- . تهذيب الأحكام؛ ج6 ص239.
2- . مستمسك العروة الوثقى؛ ج14 ص102.

على حدّ سواء، وليست هناك زوجة معينّة يعتبر زواجها باطلاً بلحاظ إسلامه من دون الآخريات واشتبه أمرها عندنا حتى تجري القرعة فليس المقام من موارد جريان القرعة، لا أن القرعة إنَّما تعيّن المحق وسهمه فلا بُدَّ ان يكون في البين محق ومبطل وان القرعة يتعين سهم المحق. والمسألة المتقدمة ليست كذلك.

ويمكن الإشكال عليه:

أولاً: بما ذكرنا من وجود بعض العمومات في أخبار القرعة بحيث تشمل كلا الموردين كقول أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (... والْقُرْعَةُ سُنَّةٌ)(1).

ثانياً: إنّ القرعة هي آخر وسيلة يعتمد عليها في مورد يتحير الناس فيه، ويراد تمييز ما أشكل عليهم أمره بلا فرق بين أن يكون واقعاً متعيناً أو لا يكون؛ فهي المعيّن حيث لا يكون هناك معيناً، وحلٌّ حيث لا يكون حلّ، وإطلاقات أدلة القرعة تشملها.

ثالثاً: قد يستدل بالآيتين لشمول الموارد التي لا واقع فيها كما في قوله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(2)؛ باعتبار أنّ الحوت لا يريد شخصاً معيناً فهو يريد فرداً من الموجودين على متن السفينة.

كما أنّ قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)(3) يبيّن أنّ هناك شخص يريد أن يكفل مريم علیها السلام لا تعّين له في الواقع.

ويرد عليه: إنّ المستفاد من الآيتين بقرينة الروايات الواردة في تفسيرهما أنّ الواقع كان فيهما معلوماً؛ وهو يونس علیه السلام الذي أراد الله تعالى أن يوقعه في البحر ليبتلعه الحوت من

ص: 151


1- . تهذيب الأحكام؛ ج6 ص239.
2- . سورة الصافات؛ الآية 141.
3- . سورة آل عمران؛ الآية 44.

دون أكله ليكون له بيتاً يدور في البحار تنبيهاً له، وتكون مريم علیها السلام عند زكريا النبي علیه السلام الذي هو زوج خالة مريم العذراء علیها السلام التي هي أقرب الناس إليها.

فالواقع من كلا الموردين معلوم ولكنه مجهول عند المقترعين، فعينه الله تعالى بالقرعة ظاهراً ليتطابق الواقع مع الظاهر. فالآيتان هما أقرب إلى استدلال القائلين بالتعيين في الواقع من غيره، ومن أجل ما ذكرناه يظهر الجواب عن الإشكالات التي ذكرت على الآيتين فراجع.

نعم؛ الآيتان تدلان على أنّ القرعة من الأمور العقلائية التي يعتمد عليها في رفع الحيرة والجهالة، والقرآن قرّر ذلك كما أنّ السنة الشريفة لاحظت هذه الجهة.

نعم؛ قد يستشكل على استفادة العموم من الروايات باعتبار أنّ كثيراً منها وردت في موارد خاصة فلا يستفاد منها العموم لتكون القرعة من المرجّحات الشرعية، فالأصل يقتضي العدم فتختص بتلك الموارد التي جاءت فيها نص خاص لتكون معنية.

ومن ذلك استشكل على الإستدلال بالعمومات باعتبار عدم صلاحيتها للعموم فتقتصر على موردها.

ولكن ذكرنا بأنّ هذه الروايات تأبى التخصيص فلا يرد هذا الإشكال عليها؛ فإنّ قول أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (... والْقُرْعَةُ سُنَّةٌ) كافٍ في التعميم، فما ورد في النصوص الخاصة إنَّما يكون من باب التطبيق لا التخصيص فافهم. ولعل ذلك كله كان السبب في توقف بعض الفقهاء في العمل بالقرعة إلا في تلك الموارد التي عمل بها الفقهاء فهي جزء الدليل لا تمامه كما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) في آخر كلامه, فيكون شأنها شأن قاعدة الميسور وقاعدة العدل والإنصاف فيتوقف جريانها في كل مورد على عمل الأصحاب.

ص: 152


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص309.

وقد ذكرنا أنّ المراد من هذا القول أنه بعد عدم وضوح موارد جريان القرعة والإبهام الحاصل من ملاحظة الأدلة الواردة منها فلا بُدَّ أن ترجع إلى عمل الأصحاب لتنقيح موضوعها وموارد جريانها، وهو لا بأس به إذا لم تستفد من الأدلة العموم كما تقدم.

الجهة السادسة: في أنّ القرعة رخصة أم عزيمة

بعدما عرفت مشروعية القرعة وجريانها في الشبهات الموضوعية التي لم يكن فيها علاج لرفع الإشتباه فصارت من المعضلات فهل يجب الرجوع إلى القرعة في حلّها أو لا يجب فيمكن الرجوع إلى التخيير أو الإحتياط إن أمكن ذلك.

الظاهر هو التفصيل التالي:1- إما أن يكون موردها من موارد الخصومة والتنازع بين الأطراف بحيث لا يمكن رفع النزاع إلا بالرجوع إلى القرعة حيث لا سبيل آخر في البين؛ ففي هذه الحالة يجب الرجوع إلى القرعة، ويدل على ذلك بعض الروايات الواردة في القرعة.

إن قلت: إنَّ مقتضى الحصر في قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ والْأَيْمَانِ وبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)(1)؛ أن يكون الفصل منحصراً في البينات والأيمان فلا مجال للقرعة حينئذٍ. وقد عرفت أنه لا يمكن الرجوع إلى التخيير كما لا يمكن الإحتياط.

ويمكن دفعه بأنه خلاف الفرض؛ لأنّ الرجوع إلى القرعة إنَّما يكون بعد انتفاء المرجّحات المعتبرة شرعاً، ومع وجود البينة أو اليمين لا يكون المورد مشكلاً أو معضلة فلا بُدَّ من الرجوع إلى القرعة لتعيين الحق، فيكون عزيمة لا رخصة.

ص: 153


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج7 ص414.

2- وإما أن يكون موردها مِمّا قد تعيّن في الواقع ولكنه مجهول يراد تعيينه، ولا سبيل آخر في رفع الجهل، فالظاهر وجوب الرجوع إلى القرعة أيضاً ويكون عزيمة؛ كما لو كان هناك إنسان ليس له ما للرجال ولا ما للنساء؛ ونريد أن نعيّن حكمه فلا نعلم أنه ذكر أو أنثى، وقلنا إنه لا واسطة بين الذكورة والأنوثة. أو مثل الولدين اللذين انهدم على أهلهما البيت وكان أحدهما حرّاً والآخر مملوكاً واشتبه الحرّ منهما بالمملوك، وأمثال ذلك التي يكون فيها واقع معين نريد الوصول إليه مع الجهل به حتى تترتب عليه الآثار الشرعية المعلومة على الموضوع الواقعي, كالإرث والنفقة والنكاح وغيرها من الأحكام؛

فإن أمكن الإحتياط فلا إشكال في لزومه؛ كما لو كان هناك مال مردّد بأن يكون لزيد أو لعمرو، أو أنّ شخصاً عنده ودائع وادعى زيد أنها له وادعى عمرو أنها له. فقال الفقهاء بوجوب الإحتياط بأن يعطي الوديعة لأحدهما ويشتري مثلها للآخر.

وأما إذا لم يمكن الإحتياط؛ كما لو طلق إحدى زوجتيه وجهل أنها هذه أو تلك فإنّ مقتضى القاعدة حرمتهما معاً من ناحية الوطئ والنظر، بخلاف القسم والنفقة فإنَّه قد لا يكلّف بهما فليس في هذا المورد حلّ لهذه المشكلة إلا القرعة حيث لا طريق آخر غيرها.

فإنّ الجامع بينهما أنه إذا لم يمكن تحديد الحق ولا يوجد سبيل لتعيين الوظيفة الشرعية فإنَّه في مثل هذه الحالات لا بُدَّ من القرعة.

3- وإما أن تكون القرعة جارية في مورد يكون الجهل هو الحكم فيه، ونريد رفع الحيرة من دون أن يكون فيه واقع مجهول؛ ففي هذه الحالة تكون الأطراف المحتملة متساوية من جهة انطباق العنوان عليهم. كما إذا أوصى بعتق ثلث عبيده ولم يكن عنده إلا ثلاثة عبيد، أو أمر بأن يعطي هدية لأول قادم إلى مكان معين،

ص: 154

فدخل ثلاثة دفعة واحدة فإنَّه إذا كان مرجح في البين من قرينة لفظية أو حالية فتتبع لا محالة وتنفذ الوصية فيه، كما انه لو كانت سيرة على التخيير فلا إشكال حينئذٍ ولا مجال إلى الرجوع إلى القرعة فيهما. أما إذا لم يكن مرجَّح ولم يكن هناك وجه للتخيير فيمكن القول بالرجوع إلى القرعة لرفع الإضطراب، ولكن لا يكون ملزمه إلا إذا ترتب على عدم إجراء القرعة مفسدة فإنَّه يلزم حينئذٍ.

والحاصل؛ أنّ القرعة قد تكون ملزمة، وقد تكون رخصة غير ملزمة إلا أنّ عدم لزومها قد ينقلب إلى اللزوم إذا كانت هناك مصلحة ملزمة فإذا أمكن إحراز ذلك فهو، وإلا فيرجع إلى الحاكم الشرعي في تعيين الخصوصيات.

ومن جميع ذلك يظهر أنه في الموارد التي يلزم الرجوع إلى القرعة فيها لتعيين الواقع أو لرفع الخصومة والمنازعات يجب إجراؤها بعد الإقتراع، وفي غير ذلك لا ملزم لإجرائها إلا أن يقال بأنّ التخيير إنَّما يكون قبل الإقتراع، وأما بعده فالمستفاد من بعض الأخبار هو لزوم التنفيذ كما هو ظاهر صحيحة الفضيل بن يسار؛ فإنّ فيها تعليم للكيفية والدعاء وبعض الخصوصيات. وكذا ما ورد من أنّ القرعة تفويض الأمر إلى الله تعالى فإنَّه بعد الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى تكون النتيجة ملزمة. وكذا ما ورد (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ تَنَازَعُوا ثُمَّ فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا خَرَجَ سَهْمُ الْمُحِقِ) وسهم الأصوب فإنّ المستفاد من جميع ذلك وجوب الأخذ بالنتيجة، وإلا كان خلاف حكمة تشريعها.

قد يقال: إنه لا يستفاد من تلك الروايات كون القرعة ملزمة؛ فإنها إنَّما توجب الخروج عن المأزق فتكون القرعة مشابهة للإستخارة من هذه الجهة.

ويرد عليه: إنه إذا كان صحيحاً في بعض الموارد التي لا موجب لها كما تقدم بيانه ولكن إجراء القرعة وعدم العمل بها إنَّما يعتبر مخالفة لظاهر أدلتها وحكمة تشريعها، فلم تكن مشابهة للإستخارة أصلاً كما سيأتي بيانه.

ص: 155

والحاصل؛ إن كانت القرعة في مقام تعيين الحق المعين في الواقع سواء كانت في مورد القضاء، أو كانت في مقام التصالح على أساس القرعة، أو في مقام حصول الإطمئنان النفسي ورفع الحزازات والمهاترات فإنّ ظاهر أدلتها هو الإلتزام بمؤداها فتكون نظير البينة وسائر الأمارات فإنها ملزمة للمكلف بالعمل بمؤداها، ولا سيما أنّ أدلة القرعة تثبت أنها حكم الله سبحانه وتعالى فليس بمخطئ. ولا حاجة إلى القول بأنّ القرعة لها الطريقية لتحديد الواقع وتعيينه بعد القول بأنّ القرعة تخطئ وتصيب فيجب العمل بها حتى يستشكل عليه بأنّ القرعة ليستكاشفة عن الواقع، بل يكون مطابقتها للواقع من باب الإتفاق، وما كان حاله كذلك لا معنى لطريقيته وكاشفيته. وأما التصادف الدائمي أو الاكثري بإرادة الله تعالى والأسباب الغيبية وإن كان ممكناً لكنه بعيد جداً، بل لا يمكن الإلتزام به لأنّ الروايات التي تثبت الإصابة للواقع إنَّما يراد منها أنّ مؤداها يكون بمنزلة الواقع فيكون العمل بلحاظ أنه الواقع، فيكون معناه مثل قوله علیه السلام : (كُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ)(1). أنّ الكاشفية تارة تكون بلحاظ ذاتها، وأخرى تكون بلحاظ المؤدى. والحق؛ لزوم العمل بمؤدى القرعة إلا إذا ثبت عدم الوجوب بدليل خاص أو سيرة، ولعله من أجل اختلاف موارد تطبيقها والشبهات التي أثيرت في لزوم تنفيذها وغير ذلك مِمّا تقدم بيانه ذهب جمعٌ من الفقهاء منهم السيد الوالد قدس سره إلى أنّ القرعة إنَّما يرجع إليها في الموارد التي عمل بها الفقهاء فتكون جزء الدليل ليكون عملهم محققاً لمورد جريانها وتشخيص موضوعها.

ص: 156


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص260.

ختام فيه أمران

الأمر الأول: لا يعتبر في القرعة كيفية خاصة للقرعة في أدائها؛ فإنّ الأمر فيهما موكول إلى العرف، إذ المناط كله هو الإكتفاء بكل ما يحقق مؤداها؛ وهو تعيين الحق، أو رفع الحيرة والخروج عن المأزق الذي يقع فيه الإنسان، وحلّ المعضلة التي هو فيها. فمن يراجع النصوص الواردة فيها من الكتاب الكريم والسنة الشريفة لم يعثر على تعيين طريقة خاصة؛ ففي القرآن الكريم ورد في قصة مريم علیها السلام طريقة إلقاء الأقلام، كما ورد في قصة يونس علیه السلام ذكر السهام، ولم يرد فيهما التفاصيل مِمّا يرشد أنهما من الوسائل التي كانت في تلك العصور، وكذلك الحال في الروايات.

نعم؛ ورد في صحيحة الفضيل (يَكْتُبُ عَلَى سَهْمٍ عَبْدَ اللَّهِ وعَلَى سَهْمٍ آخَرَ أَمَةَ الله)؛ والظاهر أنه من باب المثال لكل ما يمكن أن يتحقق به مضمون القرعة، فيمكن أن يقع في ضمن السهام أو الأقلام أو الأخشاب، وكل ما يمكن أن يصدق عليه عنوان القرعة ولو بالوسائل الحديثة.

كما أنه لم يُشترط في إجراء القرعة دعاء معين، بل يمكن أن يتحقق بكل ما يوحي أنه من تفويض الأمر إلى الله تعالى، وهو إنَّما يتحقق بأسلوب الدعاء والروايات الواردة في القرعة؛ إما مطلقة لم يرد فيها ذكر الدعاء أبداً، وإما ذُكر فيها الدعاء.ومقتضى الصناعة وإن كان هو حمل المطلق على المقيد إلا أنّ في المقيد ما يوحي على وجود قرائن تدل على الندب فيها؛ لاختلافها من حيث الأدعية الواردة فيها. ففي رواية يُونُسَ قَالَ فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ عِدَّةُ مَمَالِيكَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ عَلَّمَنِي آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ حُرٌّ؛ فَعَلَّمَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى ولَمْ يُدْرَ أَيُّهُمُ الَّذِي عَلَّمَهُ الْآيَةَ؛ هَلْ يُسْتَخْرَجُ بِالْقُرْعَةِ؟ قَالَ: (نَعَمْ؛ ولَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ أَحَدٌ إِلَّا الْإِمَامُ؛ فَإِنَّ لَهُ كَلَاماً وَقْتَ الْقُرْعَةِ يَقُولُهُ

ص: 157

ودُعَاءً لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ ولَا يَقْتَدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ)(1), فهي تدُّل على وجود دعاء خاص لا يعلمه إلا الإمام علیه السلام ؛ فإنْ كان هو الذي ورد في روايات أخرى فلا إشكال، وأما إذا كان دعاءً فوق العادة لا يمكن أن يعرفه سوى الإمام علیه السلام فالروايات الأخرى تنفيه؛ إذ سائر الأئمة ذكروا أدعية أخرى وعلّموها أصحابهم ولم تكن شيئاً خاصاً بهم، مع أنّ المناط كله في القرعة هو تفويض الأمر إلى الله تعالى. والإشكالُ على رواية يونس بالضعف والإرسال غيرُ سديد؛ لأنّ مثل يونس لا يسأل غير الإمام علیه السلام .

وفي موثقة سَمَاعَةَ قَالَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى عَلِيٍّ علیه السلام فِي دَابَّةٍ فَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا نُتِجَتْ عَلَى مِذْوَدِهِ, وأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً سَوَاءً فِي الْعَدَدِ؛ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمَا سَهْمَيْنِ, فَعَلَّمَ السَّهْمَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَلَامَةٍ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ورَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ ورَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ عَالِمَ الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ أَيُّهُمَا كَانَ صَاحِبَ الدَّابَّةِ وهُوَ أَوْلَى بِهَا فَأَسْأَلُكَ أَنْ يُقْرَعَ وَيُخْرَجَ سَهْمُهُ؛ فَخَرَجَ سَهْمُ أَحَدِهِمَا فَقَضَى لَهُ بِهَا )(2).

وفي صحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (كَانَ عَلِيٌّ علیه السلام إِذَا أَتَاهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ بِشُهُودٍ عِدَّتُهُمْ سَوَاءٌ وعَدَالَتُهُمْ سَوَاءٌ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَيِّهِمَا تَصِيرُ الْيَمِينُ وكَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ورَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ مَنْ كَانَ الْحَقُّ لَهُ فَأَدِّهِ إِلَيْهِ ثُمَّ يَجْعَلُ الْحَقَّ لِلَّذِي تَصِيرُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ إِذَا حَلَف)(3). ففي هذه الصحيحة دعاء مختصر.

وأما كون القرعة في الرواية لتعيين اليمين على أحدهما فلعله من أجل فصل الخصومة بينهما.

وفي صحيحة فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ مَوْلُودٍ لَيْسَ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ ولَا لَهُ مَا لِلنِّسَاءِ قَالَ: (يُقْرِعُ الْإِمَامُ أَوِ الْمُقْرِعُ بِهِ يَكْتُبُ عَلَى سَهْمٍ عَبْدَ اللَّهِ وعَلَى سَهْمٍ آخَرَ

ص: 158


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج6 ص197 ح14.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص254.
3- . من لا يحضره الفقيه؛ ج3 ص53.

أَمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يَقُولُ الْإِمَامُ أَوِ الْمُقْرِعُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عالِمَ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَبَيِّنْ لَنَا أَمْرَهَذَا الْمَوْلُودِ كَيْفَ يُوَرَّثُ مَا فَرَضْتَ لَهُ فِي الْكِتَابِ ثُمَّ يُطْرَحُ السَّهْمَانِ فِي سِهَامٍ مُبْهَمَةٍ ثُمَّ تُجَالُ السِّهَامُ عَلَى مَا خَرَجَ وُرِّثَ عَلَيْهِ)(1).

وهذه الرواية مغايرة لغيرها في الدعاء ولكنها مفصلة من حيث كيفية القرعة، ومن يقوم بعملية القرعة سواء كان هو الإمام علیه السلام أو كل من يكون مقرعاً قادراً على ذلك.

والمستفاد من جميع ذلك أنّ الدعاء لم يكن شرطاً في القرعة، وإنما هو تبين لحالة التفويض إلى الله سبحانه في القرعة فيتحقق بكل ما يدل على ذلك، وإن كان الأولى ذكر الدعوات التي وردت في الروايات. ومنه يستفاد عدم اشتراط دعاء معين حين إجراء القرعة، كما أنه لا يشترط أن يكون المجري لها هو الإمام أو المجتهد، بل يتحقق من كل شخص يعرف ذلك كما تدل عليه صحيحة الفضيل.

الأمر الثاني: بيان الفرق بين القرعة والإستخارة

کلام في الإستخارة

اشارة

الإستخارة: هي من الأمور التي جرت عليها سيرة الشيعة الإثني عشرية؛ العلماء منهم والصالحين، وبها يرجعون إلى اللّه عَزَّ وَجَلَّ في أمورهم التي يستخيرون عليها ويقتدون بأئمتهم علیهم السلام في ذلك.

وقد وردت روايات عديدة، ويمكن دعوى وجودها عند أهل السنة، وإن لم تكن بالصورة التي هي موجودة عند الشيعة الإمامية ولكنها وجه من وجوهها.

وهي من مصاديق تفويض الأمر إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن هنا اشتركت مع القرعة وإن اختلفتا في كثير من الجهات كما يأتي بيانه.

وحقيقة الإستخارة هي طلب الخير؛ وأما المتعارف عند من يستعملها فهو استكشاف الواقع بالإستعانة بالله سبحانه وتعالى لأنَّه عالم الغيب والشهادة بعد التسليم له بما يحكم

ص: 159


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج7 ص158 ح2.

به والإعتراف بالعجز أمام عظمته وقيومتيه؛ فيلجأ إليه سبحانه ويطلب الخير في جميع الأمور. فهي عبادة لله عَزَّ وَجَلَّ وخضوع له وتفويض الأمر إليه.

وهذه هي التي وردت في الأحاديث المروية عن الأئمة الطاهرين علیهم السلام من طلب الخير من الله عَزَّ وَجَلَّ، ويتحرك المؤمن على أساسها؛ فإن لم يصل إلى مقصوده أو وصل إليه مكروه فإنَّه لا يقع في قلبه إلا أنه هو الخير الذي اختاره الله عَزَّ وَجَلَّ له، حيث طلب منه أن يختار له فهو الذي اختار له ذلك.

ومن هنا كانت الإستخارة مبنية على التفويض والتسليم، فلا بُدَّ أن يكون قبل ذلك اعتقاد من المستخير على وحدانيته سبحانه وربوبيته وقدرته وحكمته؛ فهو الملجأ حيث لا ملجأ سواه.

ولعل ذلك هو مراد من قال أنّ الإستخارة من أقوى الحجج على إثبات الصانع على ما حكى عنه السيد البجنوردي قدس سره (1), فإنَّه لو لم يكن صانع لما التجأ إليهفي طلب الخير ولما فوض الأمر إليه وليس ذلك من الطرائف كما اعتبره بعض المعاصرين.

ص: 160


1- . حيث قال: (وذلك كما في الإستخارة أقوالهم علیه السلام ما خاب من استخار، يوجب الإطمئنان بإصابتها للواقع، ولذلك نُقل لي عن بعض الأعاظم قدس سره أنّ الإستخارة من أقوى الأمارات وأقوى الحجج على إثبات الصانع؛ لأنّه لو لم يكن صانع كان أيّ ارتباط بين عدد الزوج أو الفرد، وبين ما فيه المصلحة والمفسدة؟ ولكن الله تعالى شأنه هو الذي يجعل ما فيه المصلحة أو المفسدة زوجاً أو فرداً بعد تفويض الأمر إليه تعالى، وكذلك الأمر في القرعة). [القواعد الفقهية؛ ج1 ص69]. وقال الشيخ الميرزا أبو المعالي الكلباسي: (إنّ من أدلة وجود واجب الوجود الإستخارة، سواء كانت من القرآن المجيد أم غيره، لأنّ بالمواظبة عليها وانكشاف آثارها، ولا سيّما الآثار التى تقع بعد أزمنة بعيدة غاية البعد يظهر استناد جودة الإستخارة ورداءتها إلى العالم بالمغيّبات الغريبة والخفيّات العجيبة، سبحان من لا يخفى عليه شي ء لا في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض وما تزداد أرحام النساء. ونظير ذلك ما قيل من أدلة وجود واجب الوجود أنّه كثيراً ما يشاهد انحلال عقد المكاره العسر الوعرة بحيث يصل استناد ذلك إلى القادر الذي لا تنتهي عجائب قدرته بالتقصّي والإحصار). [رسالة في الإستخارة؛ ص61. (ط. مؤسسة الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه الشریف ].

وكيف كان؛ فلا إشكال في مشروعيتها في الجملة، وقد وردت أحاديث كثيرة في الإستخارة نذكر بعضاً منها:

1- ما رواه في الكافي بسنده عن الْحَلَبِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (صَلِّ رَكْعَتَيْنِ واسْتَخِرِ اللَّهَ؛ فَوَ اللَّهِ مَا اسْتَخَارَ اللَّهَ مُسْلِمٌ إِلَّا خَارَ لَهُ الْبَتَّةَ)(1).

بمعنى؛ من استخار الله سبحانه مفوضاً الأمر إليه راضياً بما يختاره الله له فإنَّه سيختار له ما فيه الخير حتماً.

2- ما رواه الكليني قدس سره بسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ علیه السلام إِذَا هَمَّ بِأَمْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ عِتْقٍ تَطَهَّرَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيِ الِاسْتِخَارَةِ فَقَرَأَ فِيهِمَا بِسُورَةِ الْحَشْرِ وبِسُورَةِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ يَقْرَأُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِذَا فَرَغَ وهُوَ جَالِسٌ فِي دُبُرِ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَا وكَذَا خَيْراً لِي فِي دِينِي ودُنْيَايَ وعَاجِلِ أَمْرِي وآجِلِهِ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ ويَسِّرْهُ لِي عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وأَجْمَلِهَا, اللَّهُمَّ وإِنْ كَانَ كَذَا وكَذَا شَرّاً لِي فِي دِينِي ودُنْيَايَ وآخِرَتِي وعَاجِلِ أَمْرِي وآجِلِهِ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ واصْرِفْهُ عَنِّي؛ رَبِّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ واعْزِمْ لِي عَلَى رُشْدِي وإِنْ كَرِهْتُ ذَلِكَ أَوْ أَبَتْهُ نَفْسِي)(2).

والرواية تدلّ على عدم انحصار طلب الخير من اللّه في العاجل؛ أي الدنيا، بل تشمل الآخرة والآجل.

3- ما رواه قدس سره أيضاً بسنده عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (إِذَا أَرَدْتَ أَمْراً فَخُذْ سِتَّ رِقَاعٍ فَاكْتُبْ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ خِيَرَةً

ص: 161


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص470 ح1.
2- . المصدر السابق؛ ح2.

مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانَةَ؛ إفْعَلْهُ, وفِي ثَلَاثٍ مِنْهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؛ خِيَرَةً مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانَةَ؛ لَا تَفْعَلْ, ثُمَّ ضَعْهَا تَحْتَ مُصَلَّاكَ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ, فَإِذَا فَرَغْتَ فَاسْجُدْ سَجْدَةً وقُلْ فِيهَا مِائَةَ مَرَّةٍ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ خِيَرَةً فِي عَافِيَةٍ, ثُمَّ اسْتَوِ جَالِساً وقُلِ: اللَّهُمَّ خِرْ لِي واخْتَرْ لِي فِي جَمِيعِ أُمُورِي فِي يُسْرٍ مِنْكَ وعَافِيَةٍ, ثُمَّ اضْرِبْ بِيَدِكَ إِلَى الرِّقَاعِ فَشَوِّشْهَا وأَخْرِجْ وَاحِدَةً؛ فَإِنْ خَرَجَ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ افْعَلْ فَافْعَلِ الْأَمْرَ الَّذِي تُرِيدُهُ, وإِنْ خَرَجَ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ لَا تَفْعَلْ فَلَا تَفْعَلْهُ, وإِنْ خَرَجَتْ وَاحِدَةٌ افْعَلْ والْأُخْرَى لَا تَفْعَلْ فَأَخْرِجْ مِنَ الرِّقَاعِ إِلَى خَمْسٍ؛ فَانْظُرْ أَكْثَرَهَا فَاعْمَلْ بِهِ ودَعِ السَّادِسَةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا)(1).

وهذه الرواية تبيّن استخارة ذات الرقاع المعروفة.

واستشكل عليها بضعف السند بسهل بن زياد وأحمد بن محمد البصري، ولكن شهرتها روايةً تجبر ضعفها، مع أنّ الكليني يروي كثيراً عن سهل بن زياد. وقد أنكر بعض علماء الرجال ما نسب إليه، ولذا قال بعضهم بأنّ الأمر في سهلٍ سهلٌ. وأما البصري فهو وإن رُمي بالغلو، ولكن أنكره آخرون. وكيف كان؛ فإنّ الرواية يمكن الإعتماد عليها لشهرتها عند الأعلام.

4- ما رواه الكليني أيضاً بسنده عن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ عَنْهُمْ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ -وقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْأَمْرِ يَمْضِي فِيهِ ولَا يَجِدُ أَحَداً يُشَاوِرُهُ فَكَيْفَ يَصْنَعُ؟- قَالَ: (شَاوِرْ رَبَّكَ. قَالَ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ: قَالَ لَهُ: انْوِ الْحَاجَةَ فِي نَفْسِكَ ثُمَّ اكْتُبْ رُقْعَتَيْنِ فِي وَاحِدَةٍ لَا وفِي وَاحِدَةٍ نَعَمْ واجْعَلْهُمَا فِي بُنْدُقَتَيْنِ مِنْ طِينٍ, ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ واجْعَلْهُمَا تَحْتَ ذَيْلِكَ وقُلْ: يَا اللَّهُ إِنِّي أُشَاوِرُكَ فِي أَمْرِي هَذَا وأَنْتَ خَيْرُ

ص: 162


1- . المصدر السابق؛ ح3.

مُسْتَشَارٍ ومُشِيرٍ؛ فَأَشِرْ عَلَيَّ بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ وحُسْنُ عَاقِبَةٍ؛ ثُمَّ أَدْخِلْ يَدَكَ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَعَمْ فَافْعَلْ, وإِنْ كَانَ فِيهَا لَا لَا تَفْعَلْ؛ هَكَذَا شَاوِرْ رَبَّكَ )(1).

وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي تختلف في كيفية الإستخارة وبيان أنواعها والدعاء الوارد فيها. ولا وجه للمناقشة السندية فيها بعد اشتهارها رواية وعملاً من العلماء وقد تلقوها بالقبول. فلا إشكال في مشروعيتها، بل استحبابها كما سيأتي.

ثم إنهم قد ذكروا حول الإستخارة شبهات:

الشبهة الأولى: ما ذكره جمعٌ من العامة كالطبري في تفسيره (2)، والزمخشري (3)؛ من أنّ الإستخارة هي الإستقسام بالأزلام, وهو فسق كما يدل عليه قوله تعالى: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ)(4), وقد قال جمعٌ من المفسرين في تفسير الآية أنّ العرب الجاهلية كانوا يطلبون الخير وقسمة الأرزاق بالأزلام وهي جمع الزلم؛ وهو السهم الذي لا ريش عليه، فكانوا يتفألون بها في أمورهم ويطلبون ما هو الخير من فعل أو ترك بتلك الأزلام في جميع أمورهم. وكان الإستسقام عند شخص معين يكون بمنزلة السادن لتلك السهام المحترمة عندهم التي كتب على بعضها (أمرني ربي)، وعلى بعضها الآخر (نهاني ربي)، وبعضها غفل ولم يكتب عليها شيء.

فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهّمون به عمدوا إلى السهام وضربوا عليها، فإذا خرج السهم الذي كتب عليه (أمرني ربي) يمضي في حاجته، وإن خرج السهم الذي عليه (نهاني ربي) لم يقدم على ذلك الأمر، وإن خرج سهم الغفل أعادوا العمل حتى يتبيّن الحال.

ص: 163


1- . المصدر السابق؛ ص473 ح8.
2- . جامع البيان في تفسير القرآن؛ ج6 ص49.
3- . الكشّاف؛ ج1 ص604.
4- . سورة المائدة؛ الآية 3.

فقالوا بأنّ هذا العمل عين الإستخارة فيكون عملها والمضيّ على طبقها حراماً وفسقاً.

وهذه الشبهة باطلة لما يلي:

أولاً: أنّ المفسرين ذكروا معانٍ متعددة للإستقسام بالأزلام منها هذا التفسير، وأغلبها مخالفة لظاهر الآية الشريفة التي هي في مقام بيان تمييز الحلال عن الحرام في المأكولات وما هو المذكى وغير المذكى واللحوم المحرمة في الجاهلية, فقال عزّ من قائل:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ), فيكون الإستقسام بالأزلام راجعاً إلى مضمون الآية.

ويرشد إلى ذلك ما نقل في تفسيره من أنّ الأغنياء في الجاهلية إذا أجدبت سنة كانوا يشترون جزوراً ويجزؤنه أجزاء، وكانت عندهم سهام عشرة وهي الأزلام؛ أي القطع التي لا ريش لها وكانت بيد أمين ولها عشرة أسماء معروفة(1)؛ فكان الأمين يجعل السهام في خريطة ويستخرج كلُّ واحد من المقامرين واحدةً من تلك السهام ويأخذ سهمه فالفذ يأخذ سهماً والتوأم يأخذ سهمان وهكذا. ومن خرج له أحد السهام المهملة يغرم ثمن الجزور ولا سهم له. فالله سبحانه وتعالى نهى عنأكل مثل هذا اللحم لأنَّه مأخوذ بالقمار، وهذا التفسير هو الموافق لظاهر الآية الشريفة، ولا ربط لها بالإستخارة المعروفة كما تقدم فلا تشملها الآية حتى تكون منهية.

ص: 164


1- .وتفصیلها على ما رواه الصدوق بإسناده عن الإمام الباقر علیه السلام : (سبْعَةٌ لَهَا أَنْصِبَاءُ وثَلَاثَةٌ لَا أَنْصِبَاءَ لَهَا فَالَّتِي لَهَا أَنْصِبَاءُ الْفَذُّ وَالتَّوْأَمُ والْمُسْبِلُ وَالنَّافِسُ وَالْحِلْسُ وَالرَّقِيبُ وَالْمُعَلَّى وَالْفَذُّ لَهُ سَهْمٌ وَالتَّوْأَمُ لَهُ سَهْمَانِ وَالْمُسْبِلُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَالنَّافِسُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَالْحِلْسُ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَالرَّقِيبُ لَهُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَالْمُعَلَّى لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَالَّتِي لَا أَنْصِبَاءَ لَهَا السَّفِيحُ والْمَنِيحُ وَالْوَغْدُ وَثَمَنُ الْجَزُورِ عَلَى مَنْ لَا يُخْرِجُ لَهُ مِنَ الْأَنْصِبَاءِ شَيْ ء). [الخصال؛ ج2 ص452].

ثانياً: ورد في تفسير الإستقسام بالأزلام وجه آخر كما ذكره الطبري(1) في تفسيره عن ابن إسحاق؛ أنهم يستقسمون بالأزلام بعد ما يقربون إلى هُبل الهدية ويتوسلون به ويوكلون الأمر إليه والدعاء لطلب الخير منه.

ولا ريب أنه شرك صريح، وأين هذا من الإستخارة التي قلنا بأنها تفويض الأمر إلى الله تعالى والإستعانة به فهي طاعة وعبادة، فلا تقاس مع عبادة الأصنام، فهل يقاس الشرك بالتوحيد وعبادة الله تعالى والخضوع له وتفويض الأمر إليه؛ فيكون شأنها شأن القرعة التي فيها تفويض الأمر إلى الله. فهذه الشبهة باطلة على كل حال.

الشبهة الثانية: ما ذكره المحقق الأردبيلي(2) من أن هذه الآية ربما تدل على تحريم هذا النوع الخاص وهو ما إذا كانت الإستخارة على نحو الإستقسام بالسهام، ومعناه طلب معرفة ما قسم له عن طريق الرجم بالغيب، وهو محرّم. والإستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها، بل استحبابها من هذا القبيل.

وفيه: ما عرفت من أنّ الآية الشريفة بمعزل عن الإستخارة بالكلية على ما ورد في تفسيرها من طرقنا. وعلى فرض القبول بأنّ الآية لها معنيان؛ أحدهما طلب ما قسم لهم من الغيب في الأفعال، والآخر أن يطلبوا ما قسم لهم من الجزور؛ فيكون اللفظ مردداً بينهما، فلا بُدَّ من البحث عن القرينة التي تعيّن أحدهما. وقد ذكروا أن الثاني هو المتعيّن لظاهر الآية الشريفة التي وردت في بيان المحرمات ورواية الخصال.

الشبهة الثالثة: إنّ الإستخارة لم تكن رجماً بالغيب، لكنها تؤدي إليه وهو ضلال، والإعتقاد به افتراء على الله سبحانه، وقد حرّم الإستقسام من هذه الجهة لأنّ الله تعالى لا

ص: 165


1- . جامع البيان في تفسير القرآن؛ ج6 ص50.
2- . زبدة البيان؛ ص625.

يريد للإنسان أن يرجم بالغيب وليس أن يبتدع طريقاً لذلك غير ما أراده الله عَزَّ وَجَلَّ والذي يعرّفه بواسطة رسله وأنبيائه علیهم السلام .

ويرد عليه: إنه بعد ما عرفت من أنّ الإستخارة طاعة وعبادة وتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى والتوكل عليه؛ فيكون المتيقن عند المؤمنين أنهم لا ينطلقون من ناحية الرجم بالغيب، بل يتحركون في أمورهم وحياتهم من منطلق الإبتهال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ في ذلك. فهي في مقام استكشاف الواقع بالإستعانة بالله تعالى لأنَّه عالم الغيب والشهادة بتسليم الأمر له، بخلاف الإستقسام بالأزلام لأنَّه إماشرك أو إهمال للواحد الأحد، والرجوع إلى طريق آخر ليوصلهم إلى الغيب فيكون رجماً. فالإستخارة والإستقسام متباينان حقيقة ووجداناً.

الشبهة الرابعة: الإشكال في الإستدلال بالروايات وسيرة العلماء على مشروعية الإستخارة واستحبابها. فالأولى تناقش سنداً، والثانية (السيرة) ربما يكون منشؤها رجاء المطلوبية وليس مشروعيتها. إلا أن يعتمد على قاعدة التسامح في أدلة السنن في إثبات استحبابها. ولكن المعروف أنّ هذه القاعدة إنَّما تثبت الإنقياد ونيل الثواب لا أن تثبت الحجية والحكم الشرعي كالإستحباب. ومن هنا ذهب جمعٌ من العلماء (قدست أسرارهم) إلى أنّ الإتيان بالإستخارة إنَّما يكون برجاء المطلوبية لا بعنوان الورود والمشروعية، إذ لا يمكن إثباتها بالطرق المعروفة عند الفقهاء مطلقاً سواء كان ذلك على طريقة الإستخارة بالرقاع أو بالمسبحة ونحو ذلك. وقد ذكر بعضهم في توجيه ذلك أنّ هذه الإستخارة المشهورة بيننا لم تكن موجودة بين القدماء وإنما هي شهرة متأخرة منذ زمن السيد ابن طاووس قدس سره الخبير في الأدعية والإستخارات، وبما أنه معروف بين العلماء وغيرهم بالثقة والتقديس فقد أخذوا الإستخارة وأنواعها منه ولو لم يكن على الطريق العلمي المعهود

ص: 166

بين العلماء. ومن أجل ذلك كله تحفّظ من الإستخارة ابن إدريس، والمحقق في المعتبر، وكثير من العلماء المتأخرين منهم المحقق الهمداني قدس سره كما يلوح ذلك منه(1).

والحق أن يقال: إنّ كثرة الروايات الواردة في الإستخارة وشهرتها روايةً عند الرواة والمحدثين ونقلها في الكتب الحديثية المعتبرة لا سيما بعد وجود قرائن داخلية فيها؛ والتي لا تخفى على الفطن الخبير المأنوس بكلام الأئمة الهداة علیهم السلام فإنَّ جميع ذلك مِمّا يوجب الإطمئنان بصحة الصدور. نعم؛ قد يكون هناك توقف في بعض الخصوصيات مِمّا لم يتم عليها الدليل. كما أنّ العلماء قد تلقوها بالقبول والعمل وإن اختلفوا في الشدة والضعف بينهم، ولكنه لم يعهد عدم العمل بها أصلاً حتى يقال أنها قد حدثت بعد حياة السيد ابن طاووس قدس سره ؛ فإنَّها دعوى لم تثبت، وعلى فرض القبول فإنّ شدة اهتمام العلماء من بعده والإلتزام بالإستخارة على نحو الإلتزام بالواجبات لا يمكن أن يكون عملاً بشيء لم يكن مشروعاً وإنما يأتون بها برجاء المطلوبية.

ومن أجل ذلك فإنّ صاحب الجواهر قدس سره بعد استعراض كلمات المخالفين وانتقادها، قال: (فما في السرائر من الإقتصار في الإستخارة على ذات الصلاة والدعاء، ثم فعل ما يقع في القلب، والتشديد في الإنكار على الإستخارة بالرقاع والبنادق والقرعة، قال: لأنّ رواتها فطحية مثل زرعة ورفاعة وغيرهماملعونون، فلا يلتفت إلى ما اختصا بروايته، والمحصلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه إلا ما اخترناه، ولا يذكرون البنادق والرقاع والقرعة إلا في كتب العبادات دون كتب الفقه، فشيخنا أبو جعفر لم يذكر في نهايته ومبسوطه واقتصاده إلا ما ذكرناه واخترناه، وكذلك شيخنا المفيد في رسالته إلى ولده لم يتعرض للرقاع ولا للبنادق، بل أورد روايات كثيرة فيها صلوات وأدعية، ولم

ص: 167


1- . مصباح الفقيه؛ ج6 ص56، ج9 ص426.

يتعرض لشي ء من الرقاع، والفقيه عبد العزيز أورد ما اخترناه، وقال: قد ورد في الإستخارة وجوه عديدة أحسنها ما ذكرناه، وأيضاً فالإستخارة في كلام العرب الدعاء، وهو من استخارة الوحش، وذلك بأن يأخذ القانص ولد الظبية، فيفرك أذنيه فيبغم، فإذا سمعت أمه بغامه لم تملك أن تأتيه فترمي بنفسها عليه فيأخذها القانص حينئذٍ، واستدل على ذلك بقول حميد بن ثور الهلالي، ثم قال: وكان يونس بن حبيب اللغوي يقول: إن معنى قولهم: استخرت الله استفعلت من الخير؛ أي سألت الله أن يوفق لي خير الأشياء؛ أي أفضلها، فمعنى صلاة الإستخارة على هذا صلاة الدعاء؛ محل للنظر من وجوه، وإن تبعه المصنف فيما حكي من معتبره حيث قال: وأما الرقاع وما يتضمن إفعل ولا تفعل ففي حيّز الشذوذ، نحو ما يحكى عن بعض نسخ المقنعة من أن هذه الرواية -مشيراً به إلى رواية الرقاع- شاذة ليست كالذي تقدم، لكنّا أوردناها على وجه الرخصة دون محض العمل، لكن عن ابن طاوس أنّ النسخ الصحيحة العتيقة لم توجد فيها هذه الزيادة، ولم يتعرض الشيخ في التهذيب لها، وقال: (إني قد اعتبرت كلما قدرت عليه من كتب أصحابنا المتقدمين والمتأخرين، فما وجدت ولا سمعت أنّ أحداً أبطل هذه الاستخارة) إنتهى.

ولقد أجاد الفاضل في المختلف -بعد أن نقل ما سمعته من السرائر- في قوله: وهذا الكلام في غاية الرداءة، وأي فرق بين ذكره في كتب الفقه وكتب العبادات، فإنّ كتب العبادة هي المختصة به، ومع ذلك فقد ذكره المفيد في المقنعة وهي كتاب فقه، والشيخ في التهذيب وهوأصل الفقه، وأيّ محصل أعظم من هذين، وهل استفيد الفقه إلا منهما، وأما نسبة الرواية إلى زرعة ورفاعة فخطأ، فإنّ المنقول روايتان ليس فيهما زرعة ولا رفاعة، ثم أخذ يشنع عليه بعدم معرفته بالروايات والرجال، وأنّ زرعة ورفاعة ليسا من الفطحية، وأنّ مَن حاله كذلك كيف يجوز له أن يقدم على رد الروايات والفتاوى، ويستبعد ما نص عليه الأئمة علیهم السلام ، وهلا استبعد القرعة وهي مشروعة إجماعاً في حق الأحكام الشرعية

ص: 168

والقضاء بين الناس، وشرعها دائم في جميع المكلفين، وأمر الإستخارة سهل يستخرج منه الإنسان معرفة ما فيه الخير في بعض أفعاله المباحة المبتنية عليه منافعها ومضارها الدنيوية.

وعن ابن طاوس في كتاب الإستخارات رداً على السرائر أيضاً أنه ما روينا عن زرعة وسماعة شيئاً، وإنما روينا عمن اعتمد عليه ثقات أصحابنا، وكأنّ ماحضره من نسخة السرائر فيها إبدال رفاعة بسماعة، وعن وسائل الحر أنّ ابن طاوس روى الإستخارة بالرقاع بعدة طرق، وفي الذكرى إنكار ابن إدريس الإستخارة بالرقاع لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب وعدم راد لها سواه وسوى الشيخ نجم الدين في المعتبر، وكيف تكون شاذة وقد دونها المحدثون في كتبهم والمصنفون في مصنفاتهم، وقد صنف السيد السعيد العالم العابد صاحب الكرامات الظاهرة والمآثر الباهرة أبوالحسن علي بن طاوس الحسني كتاباً ضخماً في الإستخارات، واعتمد فيه على رواية الرقاع)(1).

وقد نقلنا كلامه قدس سره لما فيه من الفوائد الجمّة في علم الفقه لا سيما طريقة المناقشة العلمية والتعامل مع الروايات. وإذا جعلنا كلمات أمثاله من الأعلام مقياساً في علم الفقه فإننا نرى الفرق الكبير بين ما يجري في عصرنا الحاضر وما كان عليه أعلامنا (قدس الله أسرارهم) في هذا العلم الذي يعتمد على قواعد وأسس متينة؛ غير ما هو الموجود في الفقه المعاصر.

وأما الإعتماد على قاعدة التسامح فهي وإن لم تثبت حكماً شرعياً سوى الإنقياد ونيل الثواب، ولكن يمكن القول بأنّ اعتماد العلماء على رواية ضعيفة والإلتزام بمؤداها بما يشبه الإلتزام بواجباتها مِمّا يكشف عن ثبوت الإستحباب عندهم، لا مجرد رجاء المطلوبية ونيل الثواب كما في الموضوع الذي نحن فيه فتدبر.

ص: 169


1- . جواهر الكلام؛ ج12 ص166 وما بعدها.

وقد ذكر بعض العلماء أنّ الإستخارة تارة؛ يكون المقصود منها مشاورة الله سبحانه وطلب الخير منه عَزَّ وَجَلَّ ثم يمضي، وأخرى؛ يكون المقصود منها معرفة الواقع الذي يستخير عليه بحيث يرجع إلى المواضعة بين المستخير وبين الله تعالى –كما هو المتعارف في هذه الأعصار- والداعي إلى فعلها حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ، فهو خير مستشار ومشير لأنَّه لا تخفى عليه خافية ولا يغشّ من استنصحه واستخاره وتوكل عليه. وهذا المعنى بحدّ ذاته أمر راجح عقلاً وشرعاً. وأما المواضعة التي ترجع إلى تعليق فعله على حصول الأمر الذي جعل له علامة في الإستخارة بحيث يكون عدد المسبحة زوجاً أو فرداً ونحو ذلك والإعتماد على هذه العلامة وجعلها طريقاً لاستكشاف كونه مصلحة له؛ فهو ناشئ من حسن الظن بالله تعالى، وهو لا يخيّب من رجاه؛ فهو أمر لا محذور فيه، بل راجح شرعاً وعرفاً وعقلاً ما لم يقصد بفعله التعبّد والتوظيف، وإلا فهو تشريع محرّم ما لم يدل عليه دليل معتبر. والإستناد على الأخبار الضعيفة كما هو الشأن في أغلب الروايات المنقولة عن غير الكتب المعتبرة غير صحيح إلا أن يعتمد على قاعدة التسامح وقد عرفت أنها محلّ تأمّل؛ فمن يريد العمل بذلك فالأحوط له عدم قصد التوظيف في شيء من ذلك بأن لا يقصد الإنسان أنّ هذه وظيفته.

والمتحصل؛ إنه لا يمكن الإعتماد على هذه الطرق والوسائل على أساس أنها قد ورد التشريع فيها بحيث نستطيع أن نعتمد عليه ونقول أنّ استخارة ذات الرقاع -مثلاً- ثابتة وصحيحة. والشهرة بين الأصحاب؛ إما أن يكون منشؤها فعل شخص، أو حسن الظن باللّه سبحانه وتعالى، أو باعتبارها من الناحية الروحية؛ ولكن ليس عندنا ما يثبت أنّ ذلك ثابت في الشريعة كوسيلة من وسائل اكتشاف الغيب بفعل الإنسان، وهذا الذي ذهب إليه المحقق الهمداني وغيره من إتيان الإستخارة بهذه الطريقة فلا بُدَّ أن يكون برجاء

ص: 170

المطلوبية، وبشرط أن لا يستعملها استعمالاً يعطل الجانب الفكري أو جانب الإستشارة لديه لقوله علیه السلام : (شَاوِرْ رَبَّك)(1), بمعنى؛ إذا كان مجال للمشاورة فلا تتأنَّ بالإستخارة، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: ﱥﱝ ﱞ ﱟﱠﱤ(2).

وتحقيق الكلام؛ إنه بعدما عرفت من أنّ الإستخارة طاعة وعبادة لله الواحد الأحد لأنّ فيها تفويض الأمر إليه عَزَّ وَجَلَّ وتوكّل عليه وطلب الخير منه وتسليم الأمر إليه بحيث أنّ ما يقضي به الله سبحانه عليه هو الخير ولو لم يكن موافقاً لما يريده أو يكون مخالفاً؛ وهذه الإستخارة إنَّما يتوسل بها المؤمن لإثبات الطمأنينة في نفسه بعد الإضطراب وعدم القناعة بما يحصل له.

ومن هنا إذا كان المؤمن مطمئناً أو كان له سبيل في رفع اضطرابه من المشاورة والإستنصاح من إخوته لا يرجع إلى الإستخارة إلا نادراً، وهذه هي الحقيقة التي عليها العلماء والصالحين في الإستخارة، وهي المستفادة من الروايات الواردة فيها، وأما غير ذلك مِمّا هو دائر عند العوام فلا شأن للعلماء به ولا بدَّ من تصحيحه. فلا إشكال في أصل الإستخارة وأدلتها، ولم يخطر ببال المستخيرين من أنها تعيّن الواقع أو يكون فيها الرجم بالغيب كما تتوهمه أذهان من يشك فيها، بل ليست هي مواضعة بين المستخير وبين الله تعالى فيدعو المستخير الله لأن يريد الصالح في ما يستخير عليه، فهي نوع من الدعاء بهذه الكيفية. وقد اعترف المستشكل المزبور بأنها حسن الظن بالله تعالى وخير مشاور ومستشير وتوكل عليه؛ فإن خرجت (إفعل) أقدم عليه ويراه المستشير خيراً له حتى لو كان على خلاف ما يريد، فلو كانت المواضعة بهذا المعنى فهي ليست إلا من الخير ونوع من العبادة

ص: 171


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص69.
2- . سورة آل عمران؛ الآية 159.

والطاعة فيكون مشروعاً بالأدلة العامة التي تدل على حسن الطاعة لله تعالى وعبادته ورجحانهما شرعاً وعقلاً. كما أنه هو الذي تثبته أخبار الإستخارة إلا أن يكون مقصود المستخير معرفة الغيب كما يحصل بعض العوام؛ وهو أمر منهيّ عنه، ولا بدَّ من إرشاده وتصحيح نيّته، فلا إشكال في صحة إتيان الإستخارة على نحو المشروعية والإستحباب بهذا المعنى. وغير ذلك إما وهم فلابُدَّ من تصحيحه، أو لا يرجع إلى منهج العلماء والمتدينين فلا يصحّ إرجاع ذلك إلى الروايات ثم ردّها.

تنبيهان:

التنبيه الأول: الفرق بين القرعة والإستخارة بعدما عرفت أنهما تشتركان في كونهما من مصاديق التفويض إلى أمر الله عَزَّ وَجَلَّ والتوكل عليه سبحانه كما تشتركان في عدم صحة إجرائهما في موارد الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية غير المقرونة بالعلم الإجمالي، ولكنهما تختلفان في أنّ قاعدة القرعة إنَّما تجري في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي لاستبيان الأمر الواقعي وحلّ المشكلة فيها وفصل الخصومة بعد فقْد ما يمكن الإستناد عليه شرعاً كما تقدم تفصيله؛ فإنّ القرعة إما أن تكون كشفاً للواقع المجهول أو تكون حلاً حيث لا حلّ، فهي ضرورة لا بُدَّ فيها. وأما الإستخارة فإنها ليست من الضرورات كذلك؛ فإنّ هناك وسائل أخرى لرفع الحيرة والإضطراب وتحصيل القناعة بأية وسيلة كانت كالمشاورة والصدقة.

ومن هنا كان الفرق بينهما كبيراً؛ فإنّ الحاجة إلى القرعة إنَّما تكون ملّحة وأمراً أساسياً في تنظيم أمور الناس كسائر الطرق والأمارات التي شرعها الله عَزَّ وَجَلَّ في هذا السبيل، وقد ذكرنا أنّ من شرط جريانها انحصار الطريق بها لمعرفة الحق.

ومن أجل هذا قلنا بأنّ القرعة من الأمور العقلائية، وقد جرت عليها سيرتهم ولكن أضاف إليها الشارع بعض الأمور.

ص: 172

وأما الإستخارة فليس الأمر فيها كذلك فهي طلب الخير من الله عَزَّ وَجَلَّ وإرشاده إلى ما هو الأفضل بالنسبة إلى حال المستخير فقط، ولا يشترط فيها أن لا يكون في مورد جريانها فقْد كل الطرق وإنما هي من مجرد تحصيل الإطمئنان والقناعة النفسية حتى لو كان المستخير يريد من استخارته كشف الواقع مثلاً، ولكن لم يكن هذا الكشف من الرجم بالغيب، بل عن طريق الدعاء والتضرع إلى الله تعالى والتسليم لأمره حتى ولو كان الواقع على خلاف ما يريده كما تقدم تفصيل ذلك.

التنبيه الثاني: المستخير تارة؛ يكون أصيلاً، وأخرى؛ يكون نائباً عن الغير؛ وكلاهما صحيحان، بل الثاني من الأمور المتعارفة حيث يرجع أحدهم إلى شخص صالح أو عالم يعتقد بتقواه وقربه إلى الله تعالى لأن يستخير له؛ لعموم أدلة الوكالة، ولكن ذكر بعض أنه لا دليل على ذلك، بل الدليل على العدم لأنَّها من الأمور التعبدية كالدعاء والصلاة والصيام والتقرب إلى الله سبحانه؛ وهي أمور غير قابلة للوكالة، مضافاً إلى أنّ الروايات التي وردت في الإستخارة لم يرد فيها ما يشير إلى النيابة في الإستخارة وأنما الوارد فيها السؤال عن الإستخارة وما يفعل، لا أن يسأل أن يستخير له الإمام علیه السلام ، فلو كان جائزاً لكانالأولى أن يطلبها من الإمام علیه السلام مباشرة بدلاً من أن يستخير هو مباشرة، ولو فرض الشك في الجواز فإنّ الأصل يقتضي عدمه.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ عمومات أدلة الوكالة وإطلاقاتها تكفي لشمولها المقام؛ فإنها تشمل العبادات وغيرها إلا ما خرج بالدليل، وهو مفقود كما هو مفصل في كتاب الوكالة.

ثانياً: إن أخبار الإستخارة لها من العموم ما يشمل النيابة فيها أيضاً.

ثالثاً: إنّ سؤال السائلين من الأئمة الطاهرين علیهم السلام عن أصل الإستخارة ومشروعيتها وكيفيتها لا ينافي الإستنابة بعد شمول عمومات أدلة الوكالة في كلِّ شيء، وعدم الوقوع

ص: 173

على فرضه لا يدل على عدم المشروعية.

فالحق؛ جواز الإستنابة في الإستخارة كما تجوز في الدعاء والصلوات الواجبة والمندوبة وغيرها من العبادات، ولكن مع الشروط المعينة فيها كما هي مذكورة في كتاب الصلاة. مع أنّ الإستخارة كما عرفت هي دعاء واستشفاع إلى الله تعالى، ولا يوجد مانع من النيابة فيها ولا حاجة إلى تأويل ذلك بتأويلات بعيدة عن مساق الأخبار وذوق العلماء.

ثم إنّ هناك طرق كثيرة في الإستخارة وردت فيها روايات مذكورة في كتب الأدعية من شاء فليرجع إليها؛ ومن الطرق المعروفة هي الإستخارة بالقرآن الكريم التي ورد فيها حديث أَبِي عَلِيٍّ عَنِ الْيَسَعِ الْقُمِّيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : أُرِيدُ الشَّيْ ءَ فَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ فَلَا يُوفَقُ فِيهِ الرَّأْيُ؛ أَفْعَلُهُ أَوْ أَدَعُهُ؟ فَقَالَ: (انْظُرْ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَانْظُرْ إِلَى شَيْ ءٍ يَقَعُ فِي قَلْبِكَ فَخُذْ بِهِ وافْتَحِ الْمُصْحَفَ, فَانْظُرْ إِلَى أَوَّلِ مَا تَرَى فِيهِ فَخُذْ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى)(1). ولا إشكال في دلالته على جواز الرجوع إلى المصحف بأخذ أول ما يرى فيه، وإن اختلف العلماء في المراد من قوله علیه السلام (أول ما ترى فيه) حيث فسروه بوجوه؛ أول الآيات، وأول الصحفة ، أو طبيعة الآية في ذاتها، أو بلحاظ المقام، أو السياق؛ والتفصيل مذكور في محله.

وبأزاء ذلك رواية تدل على المنع من التفأول بالقرآن(2) فإنّ المراد من التفأول الإستخارة فيقع التعارض فيهما.

ولكن الحق أنّ التفأول غير الإستخارة؛ فإنّ التفأول اكتشاف المستقبل, والإستخارة إنَّما هي طلب الخير، ولا نظر فيها إلى المستقبل واكتشافه فلا تعارض بينهما.

هذا ما أردنا إثباته في المقام والتفصيل موكول إلى محله والحمد الله أولاً وآخراً.

ص: 174


1- . تهذيب الأحكام؛ ج3 ص310.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج6 ص233.

المقصد الخامس

تعارض الأدلة الشرعية

ص: 175

ص: 176

المقصد الخامس:تعارض الأدلة الشرعية

اشارة

لا ريب إنه من مسائل علم الأصول، بل من أهم المباحث الأصولية. وقد ذكره السيد الوالد قدس سره في مباحث الألفاظ، وقال في توجيه ذلك: (لرجوعه إلى كيفية الاستفادة من الدليلين المتعارضين بحسب المحاورات العرفية)(1)؛ خلافاً لما عليه الأصوليون المتأخرون حيث يذكرونه في آخر مباحث الأصول العملية. وربما يكون الوجه في ذلك هو اشتماله على مباحث متعددة أصولية وغيرها وعدم اختصاصه بتعارض الأخبار فقط.

والحق ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره لأنَّه يرجع إلى كيفية الجمع بين الروايات المتعارضة والأدلة الشرعية كذلك بحسب المحاورات، فكان انتسابه إلى الألفاظ أوفق، وإن اشتمل البحث على مباحث أخرى عقلية وغيرها إذ كل لا يخلو من ذلك.

وكيف كان؛ فهو من أهم المباحث الأصولية لأنَّه بحث واسع الأفق ومتعدد الجوانب والأطراف، ولا يسع كل أحد الخوض فيه إلا من كان له معرفة واسعة وعلماً بأكثر العلوم الإسلامية لا سيما الفقه وأصوله والحديث وعلوم الأدب والكلام؛ ولأنَّه يتكفل البحث عن أهم القواعد الأصولية، وله الدور الكامل في الفقه، إذ تتفرع عليه كثير من المسائل الفقهية وقلّما تخلو مسألة من الروايات المتعارضة فيها وهي التي يعتمد عليها الفقيه في عملية استنباط الأحكام.

وهذا الكتاب يشتمل على المباحث الثلاثة المعروفة؛ التعارض، التعادل, التراجيح وخاتمة.

وقبل الخوض في ذلك لا بُدَّ من بيان المصطلحات التي يستعملها الأصوليون في هذا الموضوع.

ص: 177


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص164.

تمهيد فيه أمور

اشارة

الأمر الأول: ورد في هذا المبحث عناوين ثلاثة وهي: التعارض، والتعادل، والتراجيح. وقد اختلفوا في تعريف كل واحد من هذه المفاهيم كما سيأتي ذكره، والأجدر في ذلك هو الرجوع إلى العرف في تعريفها؛ إذ لا يخلو علم من العلوم النظرية من هذه المفاهيم ولا أظن أنّ لهم فيها اصطلاحاً خاصاً كما سيتضح ذلك من المباحث القادمة.

الأمر الثاني: ورد في الأصول والفقه إصطلاحات ثلاثة: التعارض، والتزاحم، واشتباه الحجة بغير الحجة.

والتعارض؛ عبارة عن عدم إمكان تشريع الحكمين ثبوتاً مع اجتماع شروط الحجية في دليلهما إثباتاً، فلا قصور في دليلهما في مقام الإثبات ولكن القصور قد تحقق في مقام الثبوت فقط حيث لا يكون في البين إلا حكمٌ واحد؛ وحكمه هو الترجيح في مقام الإثبات، ومع عدمه فالتخيير الإثباتي كما يأتي.

والتزاحم؛ عبارة عن عدم إمكان الجمع بين الحكمين مع اجتماع الشروط فيهما ثبوتاً وإثباتاً؛ وذلك من ناحية عدم قدرة المكلف فقط، فالحكمان تامان ملاكاً وتشريعاً وكل واحد منهما حجة في مقام الإثبات من كل جهة، ولكن المكلف لا يقدر أن يجمع بينهما فيلزم أن يكون ذلك إتفاقياً لأنّ جعل ما لا يقدر عليه المكلف دائماً قبيح. وسيأتي أنّ الترجيح يكون بحسب الملاك فقط لفرض تمامية الحجة عليهما في مقام الإثبات، ولو لم يوجد الترجيح الملاكي يتعين التخيير الثبوتي لا محالة.

واشتباه الحجة بغير الحجة؛ يشترك مع التعارض في أنه ليس فيه إلا حكم واحد في مقام الثبوت ولكنه يفترق عنه في مقام الإثبات؛ فإنّ الدليل فيه واحد لا تعدد فيه بوجه، فهو خارج عن مورد التعارض والتزاحم تخصصاً ولكنه يتردد بين كونه حجة أو غير حجة

ص: 178

كتردد رجال السندين؛ الثقة وغير الثقة، وتردد الحديث بين كونه للتقية وعدمها إلى غير ذلك من الجهات الموجبة لعدم الحجية. والمرجع فيه هو التفحّص لاستبيان هذه الأمور، وبعد الفحص واليأس عن الحجية فالمرجع هو الأصول العملية.

الأمر الثالث: من الشائعات في المحاورات؛ النص، والأظهر، والظاهر. ولا ريب في تقديم الأول على الأخيريين، والثاني على الأخير لما هو المتسالم في المحاورات من أنّ للنص الصلاحية للتصرف في الأخيرين، بخلاف العكس. كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى الأظهر والظاهر، وهذا من المسلّمات عندهم كالتسالم على اعتبار الظواهر. وقد تقدم البحث عنه في مباحث الألفاظ، وقلنا بأنه من الوضوح بمكان مما لا حاجة إلى إقامة البرهان عليه.

الأمر الرابع: من الشائعات في الفقه والأصول أيضاً؛ الجمع العرفي: وهو عبارة عن التصرف في الدليلين أو أحدهما بحيث إذا عرضناه على العرف حكموا بعدم التعارض بينهما مع هذا التصرف، ولكن يشترط فيه أن تدل قرينة معتبرة على هذا التصرف والجمع، وإلا كان من الجمع التبرعي الإفتراضي الذي يعبّر عنه العلماء بأنه لغو لا اعتبار به.

كما أنه قد شاع فيما قارب هذه الأعصار بين الأعلام مصطلحا؛ الحكومة والورود، وقسّموا الأول إلى الواقعية والظاهرية، وقد تقدم في بحث الإستصحاب شرحهما على الإجمال وسيأتي التفصيل.

الأمر الخامس: مِمّا هو شائع في المحاورات أيضاً؛ التخصيص والتخصّص؛ وقد فرّق العلماء بينهما وبين الحكومة والورود بوجوه.

وقد استقرت سيرة العلماء على تقديم الخاص على العام مطلقاً سواء كان قطعيين من حيث السند والدلالة، أو ظنيين كذلك، أو بالإختلاف؛ لأنّ الخاص قرينة على التصرف

ص: 179

في العام، وتقديم القرينة على ذي القرينة من الأمور القطعية عند العقلاء ومحاوراتهم ولا فرق بين كونهما في كلام واحد أو لا. وقد تقدم التفصيل في ذلك في مباحث الألفاظ.

الأمر السادس: إن كان النص والأظهر معلومين فلا ريب في تقديم النص على الأظهر كتقدمهما على الظاهر، وإن لم يكن أحدهما معلوماً؛ فإن أمكن تعيينه بقرينة خاصة فهو المتبع لا محالة، وإلا فإنّ النوبة تصل إلى القرائن العامة. وقد اختلفوا في القرائن العامة ووجودها في بعض الموارد كما سيأتي بيان ذلك إنْ شاء الله تعالى.

الأمر السابع: اشتهر بين العلماء أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، واستدلوا عليه بأمور كلها قابلة للمناقشة، كما أنهم اختلفوا في المراد من الجمع والإمكان كما سيأتي تفصيل كل ذلك في المباحث الآتية.

ص: 180

التعارض

وفيه مباحث:

المبحث الأول: معنى التعارض

اشارة

1- المعنى اللغوي

من المعلوم أنّ التعارض على وزن تفاعل مأخوذ من العَرضَ (بفتح أوله وسكون ثانيه)، وهو لا يتحقق إلا بين متعدد، وله معانٍ عديدة فی اللغة:

منها؛ المنع، ومنه قولهم (سرت فعرض لي عارض)؛ أي مانع من السير، ومنه قولهم (عارضه في كلامه)؛ أي منعه منه. ومنه سميّ الرد على الدليل بالإعتراض عليه.

ومنها؛ العرض بمعنى جعل الشيء حذاء الشيء الآخر وفي قباله، وهذه العرضية ربما تكون بين المتماثلين للمباراة بين الشيئيين، ومنه عارض فلان شعر المتنبي؛ أي أنشد مثله، وربما يكون بين المتخالفين بملاك التناقض والتكاذب بين شيئيين، فيكون أحد الشيئيين في عرض الآخر.

وقد يستفاد من كلماتهم أنه من الألفاظ المشتركة.

ولكن الصحيح؛ هو أنّ مادة عرض تدل على كون شيء مقابل شيء وبحذاءه سواء كان على سبيل المنع والمخالفة أم على سبيل المماثلة، فهي ليست من الألفاظ المشتركة.

ومن هنا سميّ الكلامان المتكاذبان بالمتعارضين فيكون إطلاق التعارض على الدليلين المتنافيين إطلاقاً حقيقياً؛ قد فهم التقابل والتنافي من نفس لفظ التعارض لا أن يكون لازمَ معناه كما عن بعض الأصوليين.

ص: 181

2- المعنى الإصطلاحي

ذكر الأصوليون تعاريف عديدة للتعارض:

منها؛ ما ذكره المشهور, كما عن الشيخ الأنصاري قدس سره بأنه: (تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد)(1), ويأتي شرحه إنْ شاء الله تعالى.

ومنها؛ ما ذكره المتأخرون تبعاً للمحقق الخراساني قدس سره بأنه: (تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد)(2). وأرادوا من ذلك إخراج موارد الجمع العرفي عن تعريف المشهور لأنّ التنافي بين المدلولين ثابت في موارد الجمع العرفي أيضاً فيشمله تعريف المشهور، بخلاف تعريفالمحقق الخراساني فإنَّه لا يشمله لعدم التنافي بحسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.

وأورد المحقق النائيني قدس سره (3) على تعريف المشهور بأنَّه لا يشمل موارد الجمع العرفي لعدم التنافي بين المدلولين فيها, وقد فصل السيد الخوئي قدس سره (4) الكلام في توضيح عبارة أستاذه قدس سره بما لا حاجة إلى ذلك كما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى، وذلك لأنه اعتبر في الجمع العرفي وجود قرينة على التصرف في الدليلين أو أحدهما بحيث إذا عرضناه على العرف بعد التصرف لا يعدّهما متعارضين أو متنافيين كان بينهما حكومة أو تخصيص أو ورود وتخصص أو الظاهر والأظهر ونحو ذلك، كما سيتضح ذلك.

ص: 182


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص750.
2- . كفاية الأصول؛ ص437.
3- . فوائد الأصول؛ ج4 ص700، وأجود التقريرات؛ ج2 ص501.
4- . مصباح الأصول؛ ج2 ص347-352.

والوجه في عدول المتأخرين عن تعريف المشهور يرجع إلى أمور:

1- إنَّ المحقق الخراساني قدس سره لا يرى التلازم بين التنافي بين المدلولين، والتنافي بين الدلالتين فاعتقد بأنّ الأول ثابت في موارد الجمع العرفي دون الثاني.

2- إنَّ المحقق النائيني قدس سره ومن تبعه ينفي التنافي بين المدلولين في موارد الجمع العرفي فضلاً عن التنافي بين الدلالتين.

3- إنَّ المحققَين (قدّس سراهما) كلاهما يتفقان على لزوم إخراج موارد الجمع العرفي عن تعريف التعارض.

ومن المتعارف ما اختاره السيد الصدر قدس سره (1) من أنّ التعارض هو التنافي بين المدلولين ذاتاً بلحاظ مرحلة فعلية المجعول التي هي متأخرة عن مرتبة الجعل باعتبار أنّ الدليل يتكفل الجعل لا فعلية المجعول؛ فكلما كان تنافٍ بين المدلولين فإنَّما يكون بلحاظ مرحلة المجعول؛ بمعنى عدم إمكان اجتماع المدلولين معاً في مرتبة الفعلية، فإنَّه في هذه الصورة يصدق التعارض بهذا المعنى سواء كان هذا التنافي ناشئاً من التنافي بين الجعلين أم لا، وبذلك تنحل مشكلة عدم شمول التعريف موارد الورود أيضاً الذي هو موضع الإختلاف بينهم لأنّ في هذه الموارد لا يمكن اجتماع الفعليين، وإن كان اجتماع الجعليين ممكناً. وبذلك حاول قدس سره الجواب عن الوجوه الثلاثة المتقدمة التي أوجبت العدول عن تعريف المشهور.

وقبل الدخول في تفاصيل النقاش في تلك التعاريف ينبغي شرح تعريف المشهور الذي ورد فيه الدليل، والمدلول، والدلالة، والتنافي.

ص: 183


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص22.

أما الدليل؛ فقد عرفّه الأصوليون بأنه ما يمكن التوصل به بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري؛ سواء كان ذلك التوصل علمياً أو ظنياً. وأما في مقام العمل فإنهم يقولون بأنّ الدليل؛ كل ما يمكن التعويل عليه في الشريعة المقدسة لمعرفة الأحكام أو موضوعاتها سواءً كان عقلياً أم شرعياً معتبراً.

ومرادهم من المطلوب الخبري ما ينتزع من الخطاب الإنشائي كوجوب الصلاة أو حرمة الربا ونحوهما، وإلا فإنّ الإنشاء مجرد البعث أو الزجر، وهما لا واقعية لهما حتى يمكن تحصيلها. ثم إنّ الدليل؛ إما أن يكون اجتهادياً أو يكون فقاهتياً، كما إنه؛ إما أن يكون تعبدياً محضاً أو لا يكون كذلك، كما هو مفصّل في محله.

والمراد من الدليلين؛ الأعم من الإثنين والأكثر، لما عرفت من أنّ التعارض من التفاعل، وهو لا يكون إلا بين متعدد، وإنما اقتُصر على الإثنين لأنَّه أظهر الأفراد فيكون ذكر الأدلة في تعريف المتأخرين إستدراك لا وجه له.

كما أنّ المراد من الإثنينية؛ الأعم من الإثنينية الحقيقية كالوجوب والحرمة، أو تكون حكمية كما في الدليل الواحد فإنَّه يعارض نفسه بالنسبة إلى فردين، كما لو حفر المالك بئراً في داره تضرّ بجاره فإنّ حديث (لا ضرر) يعارض نفسه فيه؛ فالمالك يتضرر إذا منع من حفرها، والجار يتضرر بحفرها؛ فإنّ حديث (لا ضرر) يعارض نفسه فيهما. كذلك الأمر في تعارض الإستصحابين.

وأما المدلول؛ فالمراد به واضح وهو ما يدل عليه الدليل، وتنافي المدلولين؛ هو إمتناع الاجتماع بينهما على نحو التناقض أو التضاد ولا يكفي مجرد التنافي من دون أن يكون كذلك؛ فإنّ بين العام والخاص والحاكم والمحكوم تنافٍ ولكن لا على نحو التضاد أو التناقض فلا يدخل مثل ذلك في التعريف.

ص: 184

وأما الدلالة؛ فهي بمعنى ما يلزم منه العلم بشيء آخر، أو ما يحصل به العلم.

وأما تنافي الدلالتين؛ فهو دلالة كل واحد من الدليلين على ما يمتنع اجتماعه مع مدلول الآخر بحيث يكون بين مدلولين المنافاة والمدافعة. سواء كانت بالذات؛ كما لو دلَّ أحد الدليلين على حكم شرعي معين والآخر على عدمه، أم كانت المدافعة بالعرض فيما إذا قام دليل ثالث على عدم اجتماعهما كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب الظهر يوم الجمعة، والآخر على وجوب صلاة الجمعة في يومها، ولكن قام الإجماع –وهو دليل ثالث- على عدم اجتماع الوجوبين للظهر والجمعة.

ثم إنَّ تقييد التنافي بالمدلولين أو الدلالة؛ إما لإخراج التنافي بحسب الأمر كما في موارد التزاحم فإذا دلَّ الدليل على إنقاذ الغريق، والدليل الآخر على إطفاء الحريق، أو وجوب الصلاة، فابتلى المكلف في مقام العمل ولم يتمكن من إتيانهما دفعة واحدة فيكون التزاحم بين الدليلين. وإما لإخراج الدليلين المتنافيين بحسبالمرتبة كما إذا دلّ أحدهما على حكم لموضوع في مرتبة الظاهر، والآخر دلّ عليه في مرتبة الواقع فإنّ التنافي بينهما إنَّما يكون باختلاف المرتبة لا بين المدلولين ولا في الدلالة؛ مثال ذلك ما إذا دلّ دليل على نجاسة شيء في الواقع ودلّ آخر على طهارته في الظاهر، فإنّ التنافي بينهما في المرتبة فقط.

ثم إنه لا يختص التعارض في حدّ ذاته بدليل دون دليل، بل يجري في جميع الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ويحصل التعارض بين كل منهما مع نفسه أو مع غيره إلا في القطعيين منهما، ولكن الأصوليين خصصوا بحث التعارض بخصوص الأمارات الشرعية في الأحكام الشرعية، كما ستعرف إنْ شاء الله تعالى.

كما أنّ المراد بإثنينية الدليلين الأعم من الإثنينية الشخصية؛ كما لو كان دليل واحد شخصي يعارضه دليل واحد شخصي آخر، أو الإثنينية النوعية؛ كما لو كانت أدلة أكثر من واحد

ص: 185

يعارضها دليل واحد، أو أدلة أكثر من واحد أعم من أن يكون على وجه يعارض كل منها كل واحد من صاحبيه؛ كما لو دلَّ دليل على وجوب شيء والآخر على إباحته والثالث على حرمته، أو يكون على وجه يعارض واحد منها، أو أكثر الأدلة متعاضدة دالة على معنى واحد؛ كما لو دلّ دليل واحد أو أكثر على وجوب شيء ودلت أدلة أكثر من واحد على حرمته.

كما أنّ المراد بالدليل الأعم من النوع كتعارض السنة مع الكتاب، أو مع الإجماع، أو مع العقل، أو يكون بحسب الصنف؛ كتعارض أصناف السنة بعضها مع بعض مثل تعارض القول والفعل والتقرير والإجماع المنقول وغيرها من أصناف السنة، وكتعارض البراءة والإشتغال والإستصحاب وغيرها من أصناف الدليل العقلي، وكتعارض الإجماع المحقق والمنقول والبسيط والمركب ونحوها من أصناف الإجماع مِمّا سياتي بيانه مفصلاً. ومن جميع ذلك يظهر المراد من التعريفين الآخرين أيضاً.

وإذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الإختلاف بين التعريفين؛ المشهور والمتأخرين؛ هو في شمول الأول لموارد الجمع العرفي دون الأخير الذي تداركه بتبديل لفظ المدلول إلى لفظ الدلالة ومقام الإثبات، وإنّ الأول يختص بالدليلين فلا يشمل الأدلة المتعارضة فأُدرج في التعريف لفظ الأدلة لتدارك ذلك.

والصحيح أنْ يقال: إنّ ما ذكروه في تعريف التعادل لم يكن من الأمور الشرعية التي لا بُدَّ من التعبد بها؛ لا سيما إذا لم تسلم من الإشكال من وجوه فلا بُدَّ من الرجوع إلى العرف في تعيين معناه، فإذا عرضنا الدليلين اللذين هما حجة في مقام الإثبات فإنهما يدلان على حكمين لا يمكن ثبوتهما معاً في الواقع، فإنّ العرف يرى التكاذب بينهما بحيث لا يمكن اجتماع مدلولهما كالدليلين الدال أحدهما على حكم والآخر يدل على ضده أو سلبه، فإنّ العرف يعتبره منالتعارض. وأما إذا لم يكن بين الدليلين تكاذب فلا يحكم بالتعارض كما

ص: 186

في موارد الدليل المورود مع الدليل الوارد، أو الدليل الإجتهادي مثل الأمارات مع الدليل الفَقاهتي كالأصل، أو الدليل المطلق مع الدليل المقيد، أو الدليل العام مع الدليل الخاص، أو الدليل المحكوم مع الدليل الحاكم، أو الدليل الظاهر مع الدليل الأظهر، وكموارد الجمع العرفي التي ليس بينها التكاذب والتنافي بعدما أمكن العرف الجمع بينهما ولا يتحير في المراد فيهما وإن صدرت من متكلم واحد عاقل وكان في الوهلة الأولى يرى التنافي ولكنه بالتأمل في تلك الموارد يحكم بعدمه فيجمع بينهما بوجه مقبول. ومن أجل ذلك لا يرى قوة أحد الدليلين من حيث الصدور في هذه الموارد ضرورة أنّ منشأ التنافي وعدمه هو الدلالة لا الصدور فإنَّه لا ريب في أنّ القطع بالصدور لا يوجب قوة الدلالة، ولا الظن بالصدور يوجب ضعف الدلالة، فإنَّ العرف هو المتبع في دلالة الألفاظ.

وبالجملة؛ إنّ موضوع التعارض هو التحيّر في الحجة، فإذا كان العرف يجمع بينهما فلا تحيّر بينهما.

وعلى ضوء ذلك؛ إن كان مراد العلماء في تعريف التعارض ما ذكرناه من المعنى العرفي فلا بأس، ولكن لا وجه للمناقشة فيها بما يناسب التعاريف الفلسفية، فإنّ العرف أوسع منها وأبسط بلا ريب ولا إشكال، وإذا أردنا اختيار أحد تلك التعاريف فالتعريف المشهور هو الأولى. ولعله لما ذكرناه دافع المحقق النائيني قدس سره عنه بشدة.

وأما الإشكال عليه من أنَّه يشمل موارد الجمع العرفي أو لا يشمل موارد الورود؛ فقد عرفت أنهما خارجان عن التعارض عرفاً فلا يدخلان فيه أصلاً حتى يستشكل عليه.

كما أنّ تعريف السيد الصدر قدس سره مبني على دفع تلك الإشكالات، وقد عرفت عدم دخولها في التعارض حتى نحتاج إلى زيادة قيد أو حذفه، مع أنّ تعريفه قدس سره أشبه بشرح تعريف المشهور من كونه تعريفاً مستقلاً، فإنَّه لا إشكال في أنّ التعارض إنَّما يصدق بعد الجعل وفي مرحلة المجعول ودلالته.

ص: 187

أما التفصيل الذي ذكره السيد الخوئي قدس سره في شرح كلام استاذه المحقق النائيني قدس سره فإنَّه من التطويل الذي لا طائل تحته بعد الإحاطة بما ذكرناه، فمن شاء فليرجع إلى تقريراته.

ثم إنّ المشهور اعتبروا في التنافي بين الدليلين أن يكون على وجه التناقض أو التضاد. وقد عرفت الوجه في تقييدهم بذلك لأنَّهم أرادوا إخراج الموارد التي يكون فيها مطلق التنافي من دون أن يرجع إلى التناقض أو التضاد فلا حاجة إلى التكرار. والمراد من التنافي في التناقض هو التنافي بالإيجاب والسلب؛ كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب شيء، والآخر دلَّ على سلب الوجوب عنه فإنَّهما يكونانمتناقضين بحسب الدلالة، كما أنّ المراد من التنافي في التضاد هو دلالة كل منهما على أمر وجودي منافٍ للآخر؛ كما إذا دلَّ أحدهما على الوجوب والآخر دلَّ على الحرمة أو الإستحباب فإنَّهما يكونان متضادين بحسب الدلالة.

وقد أورد على هذا التفصيل أمور:

الأمر الأول: إنَّ المتعارضين لا يُنحصر فيهما؛ فقد يكونان متنافيين مع دلالة كل واحد منها على السلب كما إذا دل أحدهما على سلب الوجوب عن صلاة الجمعة مثلاً، ودلَّ الآخر على سلب جواز تركها فإنّ الدليلين متنافيين مع أنّ كل منهما دال على السلب.

وفيه: إنه يمكن إرجاع دلالتهما إلى المتناقضين؛ فإنّ سلب الوجوب يقتضي جواز الترك فيكون الدليل الدال على سلبه مناقضاً له ولولا ذلك لما كان بينهما تنافياً. وإنما ذكروا التناقض والتضاد لأنَّهما أغلب الأفراد، فلا يستشكل في المقام بأنه بناءً على هذا الجواب يقتضي الإستغناء عن التضاد إذا أرادوا منهما المعنى العرفي؛ فإنهما؛ إن كان من قبيل السلب والإيجاب سمّي عند العرف تناقضاً، وما كان بينهما تنافٍ من قبيل الوجوديين كالوجوب والجواز سمّي عندهم تضاداً. ومن أجل ذلك يجعل بعض الفقهاء بين صلاة

ص: 188

الجمعة وصلاة الظهر في يوم الجمعة تضاداً مع أنه لا تضاد بينهما بحسب الإصطلاح، وإنما عَرَضَ لهما التنافي في هذا اليوم من جهة دليل آخر يدل على عدم وجوبهما معاً فيه.

الأمر الثاني: الإيراد عليه بالمتخالفين العامين من وجه؛ كما لو دلَّ الدليل على وجوب إكرام كل عالم، ودلَّ الدليل الآخر على عدم إكرام أهل البلد الفلاني؛ فإنَّ هذين الدليلين يتنافيان في العالم من ذلك البلد.

ويمكن الجواب عنه بأنه يرجع إلى المتناقضين أيضاً بالنسبة إليه؛ لأنَّ أحدهما يدل على وجوبه، والآخر يدل على عدم وجوبه، وهذا المقدار يكفي في التناقض بينهما بحسب الدلالة.

الأمر الثالث: الإيراد بما إذا كان التقابل بينهما بنحو العدم والملكة؛ كما لو دلَّ الدليل على صحة البيع في يوم الجمعة والآخر على فساده، فإنَّ تقابل الصحة والفساد يكون على نحو تقابل العدم والملكة؛ إذ أنَّ الفساد وسلب الصحة يكونان عما من شأنه أن يكون صحيحاً.

والجواب عنه يظهر من الجواب الأول.

الأمر الرابع: بما إذا دلَّ الدليل على وجوب صلاة الجمعة، ودلَّ الآخر على وجوب صلاة الظهر فيها؛ فإنّ التعارض بينهما إنَّما حصل بسبب العلم الإجمالي بعدم وجوب أحدهما، ولولاه لما كان تضادّ ولا تناقض بين وجوب صلاة الجمعة وبين وجوب صلاة الظهر كما هو واضح.والجواب عنه يظهر من الجواب الأول؛ فإنّ المراد من التناقض والتضاد هو المعنى العرفي كما في المقام فإنّ العلم الإجمالي هو الذي أوجد التضاد لأنَّه دلَّ على عدم اجتماع وجوبهما؛ فهما متضادان كما تقدم.

ص: 189

أنواع تنافي الدليلين

وهي ثلاثة:

الأول: أن يكون التنافي في مرحلة الدلالة المطابقية، كما إذا دلَّ دليل على وجوب شيء ودلَّ آخر على عدم وجوبه أو حرمته.

الثاني: أنْ يكون في مرحلة الدلالة التضمنية، كما في العامّين من وجه، لأنّ كلاً منهما يدل على بعض ما دلَّ عليه الآخر، ومنه ما لو اختلف الدليلان بالكلّ والجزء، كما إذا قيل (كُلْ قرص الخبز بأجمعه)، وقيل (لا تأكل ربعه)، ومنه العام والخاص والمطلق والمقيد عند بعضهم، وإلا فقد ذكرنا أنه لا منافات بينهما.

الثالث: أنْ يكون في مرحلة الدلالة الإلتزامية كالمفهومين المتنافيين، كما إذا دلَّ الدليل على أنّ منْ أفطر متعمداً فعليه الكفارة، ودلَّ آخر على أنه إذا سافر وأفطر فلا كفارة عليه، فإنّ مفهوم الأول إذا لم يفطر متعمداً فلا كفارة عليه سواء سافر أم لا، ومفهوم الثاني إن لم يسافر وأفطر فعليه الكفارة سواء تعمد الإفطار أم لا. هذا في مطلق التنافي ولكن تحقُّق التعارض في هذه الأنواع يتوقف على تحقق شروطه.

شروط تحقق التعارض

من جميع ما ذكرناه يُعلم الشروط التي لا بُدَّ من توفرها ليتحقق التعارض المبحوث عنه في المقام وهي:

الشرط الأول: أن يكون التنافي بين مدلولي الدليلين في مرتبة واحدة؛ بأن يكون الدليل المعارض دالاً على الحكم المنافي في مرتبة الحكم الذي عليه الدليل الآخر.

مثل ما إذا دلَّ أحد الدليلين على وجوب شيء في الواقع، والآخر يدل على حرمته في الواقع أيضاً. أو يدل أحد الدليلين على حلية الشيء في الظاهر، والآخر يدل على حرمته في

ص: 190

الظاهر؛ كما في مشكوك الحلّية والحرمة المعلوم حرمته سابقاً فإنّ أصالة الحلّ تدل على حليته في مرحلة الظاهر، واستصحاب حرمته يدل على الحرمة ظاهراً وهكذا.

وعلى ضوء ذلك؛ فلو اختلفت المرتبة فلا تعارض، كما إذا دلَّ أحد الدليلين على الحكم الواقعي والآخر المعارض على الحكم الظاهري فلا تعارض بينهما لاختلاف المرتبة. وقد عقد الأصوليون لهذا القسم بحثاً مستقلاً أسموه (بحث الترتب).ومن هذا الباب ما إذا دلَّ على أحد الحكمين المتلازمين واقعاً، ولكن دلَّ آخر على غير الملازم في الظاهر فإنَّه لا يكون بينهما تعارض لأنّ التلازم كان بينهما في الواقع لا في الظاهر. مثال ذلك ما إذا توضأ بماء مشتبه بالبول فإنَّه يحكم بطهارة بدنه لدليل أصالة الطهارة، ويحكم عليه بإعادة وضوءه لاستصحاب الحدث مع أنه في الواقع تكون طهارة بدنه باستعمال المشتبه ملازمة لصحة وضوءه، إلا أنّ هذه الملازمة كانت في الواقع، والإنفكاك بينهما إنَّما كان في الظاهر. ومن الأمثلة على ذلك أيضاً تحريم إحدى الأختين على من ادّعى زوجيته للأخرى مع إنكار الأخرى لذلك، فإنّ دليل تحريم إحدى الأختين لا تعارض دليل جواز تزويج المنكرة من غيره؛ فإنّ التحريم والجواز في الفرع المذكور وإن كانا متنافيين في مرتبة الواقع إذ تحريم إحدى الأختين لازمه زوجية الأخرى التي ادّعى أنها زوجته فيحرم زواجها من غيره لا جوازه، ولكن في الظاهر يجوز ذلك بلا إشكال.

الشرط الثاني: ثبوت التكاذب بين الدليلين لعدم اجتماع مدلوليهما عرفاً بالتفصيل الذي ذكرناه؛ فلا يشترط في تحققه توفّر جميع الوحدات الثمان التي ذكرها المناطقة في المتناقضين وهي: وحدة الموضوع، والمحمول، والمكان، والزمان، والشرط، والإضافة، ووحدة الجزء والكل، ووحدة القوة والفعل وغيرها(1), لأنّ مراد الأصوليين في هذا المقام هو مجرد بيان

ص: 191


1- . وهي وحدة الحمل؛ التي أضيفت كوحدة تاسعة.

تكاذب الدليلين لعدم اجتماع مدلوليهما بالنظر العرفي سواء كان ذلك بالذات أم بالعرض. نعم؛ إشتراط بعض تلك الوحدات الثمان يكون من البديهيات لعدم تحقق التكاذب بينهما عرفاً بدونها.

الشرط الثالث: تمامية الحجية للدليلين في مقام الإثبات؛ فلا قصور في حجيتها وإنما لم نعلم بصدورهما واقعاً. ومن هنا قالوا بعدم شمول أخبار التعارض لمقطوعي الصدور، فلو علمنا بصدور الدليلين المتعارضين قطعاً فلا بُدَّ أن تكون الحال فيه على أحد وجوه:

الأول: أن يكون الدليلان مقطوعي الصدور ومقطوعي الجهة لبيان الواقع؛ مثل ما لو تعارضت آيتان، أو آية مع خبر متواتر، أو خبران متواتران، أو خبرا آحاد مقرونان بالقرائن الموجبة للقطع بالصدور والجهة؛ ففي هذه الحالة إن أمكن الجمع العرفي بينهما بأن كان أحدهما أظهر أو حاكماً فإنَّه يحمل أحدهما على الآخر، وإن لم يكن كذلك فإنَّه يُحكم عليهما بالإجمال العرضي لأنَّه مع القطع بالصدور والقطع بالجهة يحصل لنا القطع بأنّ الظاهر من أحدهما أو كليهما غير مراد، فلعله كانت قرينة في البين قد سقطت ولم نطلع عليها فلم يكن تكاذب بينهما قطعاً فلا يكونان من المتعارضين، بل يمكن دعوى توافقهما للقطع بسقوط القرينة التي تقتضي توافقهما وذلك لاستحالة التناقض والتنافي في كلام الحكيم فكيف بالمعصوم علیه السلام . وحينئذٍ يعرض الإجمال لهما بواسطة هذا القطع بسقوط القرينةالتي ينكشف بها المراد. ولا ريب إنّ الإجمال يوجب سقوط الدليل مطلقاً عن الحجية في مؤداها إلا أنهما حجة في القدر المتيقن منهما لو وجد، كما أنهما حجة في نفي الحكم المخالف لهما، فلا يجوز الرجوع إلى الأصل المخالف لهما للقطع بذلك الحاصل من القطع بصدورهما. وحينئذٍ يؤخذ بالقدر المتيقن لو وجد، ويعمل بالأصل الموافق له دون المخالف له لظهور المجمل في ذلك، والظهور حجة لما هو المعروف من أنّ الإجمال يمنع عن الحجية بمقداره. والتفصيل مذكور في محله.

ص: 192

الثاني: أن يكون الدليلان نصيين؛ بأن كانا -مع كونهما مقطوعي الصدور- مقطوعي الدلالة لا يحتمل وجود قرينة على خلاف ظاهر أحدهما؛ ففي هذه الصورة لا يمكن الجمع العرفي بينهما لكونهما نصين مقطوعي الدلالة, فلا يمكن القول بأنهما من المتعارضين؛ لعدم تكاذبهما, لأنَّه مع القطع بالصدور والقطع بالدلالة يحصل لنا القطع بعدم كون أحدهما لبيان الواقع، فلا يكون مراداً. ومن الواضح أنه لا تكاذب بين دليلين مختلفي الجهة، فيكون المقام من باب الإشتباه بغير الحجة.

الثالث: أن يكون الدليلان مشكوكي الظاهر وحجيته؛ بأن يكونا مقطوعي الصدور وكان لكل واحد منهما ظاهر هو حجة، وجهة صدور لبيان الواقع لو لم يُبتلَ بالمعارض فإذا ابتلى بالمعارض فالأمر لا يخلو؛ إما أن يكون الظاهر غير مراد، أو أنّ الواقع غير مقصود بيانه من أحدهما أو كليهما، والحكم حينئذٍ؛ إن أمكن الجمع العرفي بينهما بأن يكون أحدهما أظهر أو حاكماً جُمع بينهما لأنّ أصالة الجهة تجري في كل منهما ولا يلزم من ذلك العلم بعدم حجية أحدها إجمالاً، وإنْ لم يمكن الجمع العرفي بينهما فإنْ كان أحدهما مخالفاً للكتاب أو موافقاً لمذهب المخالفين فلا بُدَّ من الطرح وإلا فالحكم ما ذكرناه في الوجه الأول آنفاً.

الرابع: ما إذا كان أحدهما قطعي الصدور والآخر ظني الصدور؛ فإن أمكن الجمع العرفي بينهما بالوجه الذي ذكرناه سابقاً يتعين الأخذ به. ومن أجل هذا صحّ تخصيص عموم القرآن الكريم بالخبر الظني الصدور، وإنْ لم يمكن الجمع العرفي فالأولى الأخذ بقطعي الصدور، لأنّ قطعي الصدور أولى من الأخذ بالأوثق والأعدل ونحوهما، كما في مظنوني الصدور عند المشهور، وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الشرط الرابع: أن يكون التكاذب في مورد التعارض مستنداً لامتناع اجتماع مدلوليهما؛ إما بالذات أو بالعرض كما تقدم بيانه، فلا يكون من التعارض مجردُ العلم بكذب أحد

ص: 193

الدليلين إجمالاً حتى لو كان العلم حاصلاً من دليل قطعي من دون أن يكون ما يدل على امتناع اجتماع مدلوليهما؛ إذ لم يكذّب أحدهما الآخر لا بالذات ولا بالعرض، وإنما علم بكذب أحدهما إجمالاً وأنه غير مطابق للواقع؛ كما لو قام خبر معتبر على وجوب الإقامة للصلاة، وقام خبر معتبر آخر على وجوب الأذان لها وحصل لنا علم إجمالي بكذب أحدهما؛ إما من إجماع محقق، أوخبر معتبر على ذلك فإنّ أدلة التعارض لا تشمل هذا القسم، بل يتعامل معه معاملة اشتباه الحجة بغير الحجة، وهذا بخلاف ما إذا حصل علم إجمالي بامتناع اجتماع وجوب الأذان مع وجوب الإقامة فيكونان من المتعارضين فيترتب عليهما حكم التعارض.

مناقشة ما ذكره الأصوليون في المقام

بعد الإحاطة بما تقدم بيانه في تعريف التعادل وما يرتبط به من أقسامه وأنواعه وما أورد عليه؛ يظهر أنه لا وجه للتفاصيل التي ذكرها الأصوليون في المقام، فإنَّها خارجة عن إطار المفاهيم العرفية، وكلها من التطويل الذي لا طائل تحته. ونحن نذكر بعض ما قالوه ويتبيّن الوجه في سائرها:

القول الأول: ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى أنّ تعريف المشهور لا يشمل موارد الجمع العرفي لعدم التنافي بين المدلولين في هذه الموارد. وقد أوضح السيد الخوئي قدس سره ذلك في كلام طويل وخلاصة ما ذكره: إنَّ الدليلين؛ إما أن يكون نسبة أحدهما إلى الآخر على نحو التخصيص، أو الحكومة، أو التخصّص، أو الورود؛ فإنَّه في جميع ذلك لا يكون بينهما تنافٍ بين مدلوليهما فيخرجان عن التعارض؛ أما التخصّص؛ فإنَّ خروجه عن التعارض من الواضحات لأنَّه يرجع إلى الخروج الموضوعي بمعنى خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر وجداناً، فلا يتصور التنافي بين الدليلين أبداً.

ص: 194

ومثله الورود؛ فإنّ فيه رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر تكويناً بعناية التعبد الشرعي، كما في قيام الأمارة في موارد الأصول العملية فإنَّه يرتفع موضوع تلك الأصول وجداناً لكن بواسطة التعبد الشرعي كما تقدم بيانه فلا منافاة بينهما، فتخرج موارد الورود عن التعارض أيضاً.

وأما الحكومة؛ فهي إما أن تكون على نحو الشرح اللفظي والتفسير، كأن يكون أحدهما بمدلوله اللفظي شارحاً للمراد من الدليل الآخر بأي أسلوب كان؛ كما إذا اشتمل أحدهما على أداة التفسير مثل (أي) أو (أعني) أو غير ذلك، فإنّ دليل الحاكم يكون نافياً للحكم في دليل المحكوم إما بلسان نفي الموضوع، أو بلسان نفي الحكم.

وإما أن يكون أحد الدليلين رافعاً بمدلوله لموضوع الحكم في الدليل الآخر وإن لم يكن على أسلوب الشرح كحكومة الأمارات على الأصول الشرعية، فإنّ قيام الأمارة يوجب رفع موضوع الأصل بالتعبد الشرعي فلا تنافي بينهما حتى يدخل في التعارض.

فإنّ الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم ولو كان بينهما عموم من وجه لارتفاع موضوع المحكوم في مادة الإجتماع بلا فرق بين كون الحاكم أقوى دلالة من المحكوم أو أضعف.وأما التخصيص؛ فإنّ الوجه في خروجه من التعارض أنّ الخاص قرينة على المراد من ظهور العام بلا فرق بين كونها متصلة أو المنفصلة.

كما لا فرق بين القرينة القطعية والقرينة الظنية كالخبر.

واعتبر قدس سره كون دليل الخاص حاكماً على دليل العام، فأرجع التخصيص إلى الحكومة.

والحق؛ أنّ ما ذكره لا يخلو عن تعقيد حتى بحسب النظر الأصولي.

وأما بالنظر العرفي الذي تبتني عليه تلك المصطلحات فإنّ في جميع تلك الموارد يكون أحد الدليلين قرينة على تعيين الظهور، ولا ريب في تقدم القرينة على ذيها من دون أن يكون تعارض بين القرينة وذي القرينة أبداً وينطبق عليها عنوان واحد وهو الجمع العرفي، فلا

ص: 195

تنافي في البين حتى يدخل في موضوع التعارض، فلو أرجعنا الأمر إلى النظر العرفي لاستغنى عن ذلك كله.

القول الثاني: بيّن السيد الصدر قدس سره أنّ التنافي في موارد الجمع العرفي بناء على تعريف المشهور يكون بين المدلولين، وبناءً على تعريف المتأخرين يكون في الدلالة.

والحق؛ إنه إن أُثبت التنافي في موارد الجمع العرفي فهو يوجد في كلا الموردين، فإنَّه كما يوجد بين المدلولين كذلك يوجد بين الدلالتين؛ فإنّ الدلالة إما أن يكون المراد منها الظهور، أو يكون المراد الحجية:

أما التنافي في الظهور؛ فيحصل لا محالة في الدليل المنفصل لأنَّه لا يرفع الظهور فيبقى التنافي بين الدليلين المنفصلين محفوظاً في موارد الجمع العرفي.

وأما التنافي في الحجية؛ فلأنّ حجية العام مع حجية ظهور الخاص لا محالة متنافيان.

والصحيح؛ إنه لا تنافي في كلا الموردين، لانّ ظهور العام مشروط بعدم قيام القرينة على خلافه، فالتقابل بينهما يكون بين القرينة وذيها فلا ينعقد الظهور إلا بما تقتضيه القرينة ولو كانت منفصلة، فإذا انعقد للعام ظهور فإنما يكون اقتضائياً، والظهور البدوي غير المستقر لا يمكن الإعتماد عليه عند العرف إلا بعد استيفاء الشرط.

فما ذكروه في المقام إنَّما هو مجرد فروض لا يلتزمون بها في مقام العمل وسيأتي مزيد بيان.

القول الثالث: ذكر السيد الصدر قدس سره أيضاً(1) أنّ التقابل في موارد التخصيص يكون على أنحاء ثلاثة:

1- التقابل بين دليل الخاص ودليل حجية العام.

2- التقابل بين دليل حجية الخاص ودليل حجية العام.

3- التقابل بين نفس الدليل الخاص ونفس الدليل العام.

ص: 196


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص18.

أما التقابل الأول؛ فلا تنافي فيه أصلاً إذ لا تعارض بينهما ولو بنحو غير المستقر بين دليل خاص ودليل حجية العام, لأنّ مفاد الأول حكم واقعي، ومفاد الثاني حكم ظاهري، وقد تقدم أنه لا تعارض بينهما إذ لا مانع من اجتماع هذين الحكمين ثبوتاً.

أما التقابل الثاني؛ فإنَّه يقدم دليل حجية الخاص على دليل حجية العام بالورود لأنّ دليل حجية العام مقيد بعدم قيام الخاص على خلافه وبعد قيامه يرفع هذا الموضوع وجداناً.

وأما التقابل الثالث؛ فيقدم دليل الخاص على العام بالتخصيص الذي هو علاج عرفي لتعارض غير مستقر بين العام والخاص، حيث يرى العرف أنّ للمتكلم الحقّ في أن يعتمد على القرائن في تحديد مراده ولو كانت منفصلة، ثم استنتج من ذلك أنّ محطّ الجمع العرفي إنَّما هو التقابل الثالث الذي يكون بين الدليل الخاص والدليل العام نفسيهما.

والصحيح أن يقال: إنه إن كان المناط في تعيين المراد من الكلام هو الظهور العرفي والفهم العرفي فلا بُدَّ من الرجوع إليهما، واذا رجعنا إلى العرف فإنه يحكم بأنّ الخاص قرينة على تعيين المراد من العام كما هو كذلك في الوارد والمورود والحاكم والمحكوم وغيرها؛ فإنّ جميع ذلك من موارد الجمع العرفي بعد تحقق المناط، فلا وجه إلى تقسيم التقابل المذكور. ومن جميع ذلك يظهر وجه النقاش في كلام العَلَمين المذكورين (قدّس سراهما) مع أنه تطويل لا طائل تحته، ولا تخلو من تشويش واضطراب.

القول الرابع: ذكر السيد الصدر قدس سره (1) جملة من الأسئلة على تعريف التعارض وجعل الجواب على عهدة علم الأصول:

السؤال الأول: إنّ التعارض إذا كان مستحكماً هل يسري إلى دليل الحجية فيكون اقتضاء دليل الحجية الشمول لأحدهما منافياً فعلاً لاقتضاءه شمول الدليل الآخر، أو أنّ هذا

ص: 197


1- . المصدر السابق؛ ص20-21.

التعارض بين الدليلين يقتصر على مرحلة دلالتهما أو مدلوليهما فلا يسري إلى دليل الحجية؟.

وقد عرفت الجواب بأنّ التعارض عرفاً موضوعه التكاذب بين الدليلين على نحو لا يمكن الجمع بينهما في مدلوليهما، ولا يسري إلى دليل الحجية فتخرج موارد الجمع العرفي عنه.وأما التعارض بين دليلي الحجية له حكم آخر غير أحكام التعارض المبحوث عنه في المقام كما تقدم فراجع.

السؤال الثاني: إذا كان التعارض المستحكم سارياً إلى دليل الحجية فما هو مقتضى دليل الحجية؛ هل التساقط أو التخيير أو الترجيح؟.

وقد عرفت الجواب عن ذلك، وعلى فرض قبول سريان التعارض إلى دليل الحجية فإنّ له حكماً آخر غير ما ورد في أخبار العلاج.

ومنه يظهر الجواب عن السؤال الثالث.

وبالجملة؛ إنّ التعارض المبحوث عنه في المقام هو التعارض العرفي بحيث إذا عرضنا الدليليين المتنافيين في مدلوليهما على نظر العرف ويحكم عليه بالتكاذب بينهما فلا يمكن الجمع بينهما بأي نحو من الأنحاء التي ذكرناها في موارد الجمع العرفي، فلا يشملها التعريف حتى نحتاج إلى إخراجها، فيختص بالتعارض المستحكم المستقر، فلا يشمل التعريف التعارض غير المستقر سواء انطبق عليه أحد العناوين السابقة أم لا. وقد عرفت أيضاً موارد شمول تعريف الدليل لها والموارد التي لم تدخل في موضوع التعارض إما من أجل عدم حصول التكاذب بينهما في الدلالة أو المدلول فراجع.

فالتعارض في كلمات الأصوليين أقرب إلى التعريف العرفي من كونه مصطلحاً علمياً حتى يناقش بالنقض والإبرام، ولا حاجة إلى تطويل الكلام كما صنعه السيد الصدر قدس سره وغيره.

ص: 198

المبحث الثاني: أسباب التعارض ومنشؤه

لا ريب في أنّ التعارض بين الأحاديث الواردة عن المعصومين علیهم السلام أمر طارئ لا بُدَّ أن يكون له منشأ لوقوعه؛ لأنَّه مع العلم بأنّ الأئمة علیهم السلام إنَّما كان همّم بيان الأحكام الشرعية وتثبيت دعائم الشرع المبين خالياً من التناقض والإختلاف حتى لا يتطرق التشكيك إلى أصول العقائد وقواعد الدين القويم، بل التراث الشيعي بكامله من عصمة الأئمة علیهم السلام واعتبار أقوالهم وأفعالهم الصادرة عنهم بأنهم عِدل القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وأنّ الجميع عند الإمامية مصادر للتشريع يرجع إليها في التعّرف على أحكام الشرع المبين، فقد يتخذ المشكّكون ظاهرة التعارض والإختلاف في النصوص الصادرة عنهم علیهم السلام وسيلة لزعمهم بأنّ أئمة الشيعة ليسوا إلا مجتهدين يصيبون ويخطأون كسائر الفقهاء والمجتهدين، وأنّ النصوص ليست إلا آرائهم الإجتهادية الخاصة، فيكون من الطبيعي وقوع التعارض والإختلاف فيما بينهما، وبهذا تفقد هذه الأحاديث قيمتها التشريعية والمصدرية مع إطباق علماء الشيعة على خلاف ذلك، بل اعتبروا التعارضوالإختلاف أمراً طارئاً وأنهما خلاف الطبيعة فلا بد أن يكون هناك منشأ خاص. وأهم ما ذكروه في المقام:

المنشأ الأول: التدرج في البيان؛ وهو من أهم العوامل في نشوء التعارض في الروايات؛ فإنَّ أسلوب التدرج الذي اتبعه الأئمة الهداة علیهم السلام في مقام بيان الأحكام الشرعية وتبليغها إلى الناس، حيث لم يكونوا يفصحون عن الحكم وتفاصيله دفعة واحدة، بل كانوا يتبعون المصالح والفرص في تبليغها. وهذه الظاهرة كانت واضحة في سيرتهم مع أصحابهم وتظهر بوضوح لمن يتتبع الأحاديث الواردة عنهم، فقد يذكرون الحكم إجمالاً ثم يتبعونه بذكر حدوده وشروطه حسب سؤال السائلين أو مصالحهم وأحوالهم، كما كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يفعل ذلك مع أصحابه في بداية البعثة؛ فإنّ الجميع واحد.

ص: 199

المنشأ الثاني: التقية؛ والتي لها الدور الكبير في حياة الأئمة الطاهرين علیهم السلام وشيعتهم حيث عاشوا في ظروف صعبة جعلتهم يستعملون التقية في القول والسلوك، ويمكن دعوى أنّ التقية سبب رئيسي في نشوء التعارض بين الروايات. والتقية التي كان يستعمل الأئمة علیهم السلام لها أسباب عديدة؛ منها؛ ظلم حكام بين أمية وبني العباس.

ومنها؛ الظروف العامة التي اكتنفت حياة المسلمين وأحوالهم.

ومنها؛ المعتقدات عند العامة التي نشأت من عوامل غير موضوعية وأصبحت من الموروثات الدينية والمرتكزات عندهم.

ومنها؛ أحوال شيعتهم الذين وقعوا تحت أشدّ الإضطهاد. وغير ذلك مِمّا هو مذكور في محله. كما أن مظاهر التقية عند الأئمة الطاهرين علیهم السلام مختلفة:

فقد يكون في بيان حكم يوافق مذهب المخالفين. وقد يكون في الإعتراف بالمذاهب الأخرى وفتاوى علمائهم على رغم أنهم علیهم السلام يعلمون بعدم صحتها ولكنهم يقصدون من وراء ذلك عدم تحدّي تلك المذاهب التي راجت بين الأمة، وهم في الوقت نفسه يسجلون عليهم مخالفتها مع ما عندهم من الحق. وقد يكون في نسبة ما يفتون به إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم مسنداً عن آبائهم. فلولا أنهم كانوا يراعون المذاهب الأخرى دفعاً لهم واحتجاجاً، وإلا كان يكفي ذكر الحكم الشرعي لشيعتهم وبيانه لهم.

ومنها؛ ابتعادهم عن التعرض عن المواضيع التي توجب شدة الإختلاف وإظهار الضغائن أو ما يوجب النزاع الطائفي كالخلافة والخلفاء، ومن أجل ذلك اقتصروا على الأحكام الشرعية. كل ذلك مع حرصهم على حفظ أسس الدين ومقوماته وحفظ مكانتهم الدينية والعلمية بين جميع فئات الأمة ومختلف الفئات والمذاهب حتى يؤدوا دورهم القيادي الصحيح.

ص: 200

ومِمّا ذكرناه وغيره يتضح السبب في شيوع التقية بين الأخبار والروايات الصادرة عنهم حتى جعلوا مخالفة العامة مقياساً لترجيح إحدى الروايتين المتعارضتين على الأخرى كما سيأتي بيان ذلك. ومع ذلك فقد حاولوا علیهم السلام توضيح ظروف التقية وملابساتها التي حصلت للأمة والرأي العام لأصحابهم والثقات من رواة أحاديثهم لدفع ما يحدث من الشك في نفوسهم، ولا يرتابوا في أمرهم عندما تصلهم الأحاديث المختلفة المتعارضة والمخالفة لما هو المعروف لديهم من الحق.

ويدل على ما ذكرناه جملة من الأحاديث نذكر بعضها والتفصيل موكول إلى محله:

1- عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْقُنُوتِ فَقَالَ: (فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُ أَبَاكَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْخَمْسِ كُلِّهَا؟! فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبِي؛ إِنَ أَصْحَابَ أَبِي أَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِالْحَقِّ, ثُمَّ أَتَوْنِي شُكَّاكاً فَأَفْتَيْتُهُمْ بِالتَّقِيَّةِ)(1).

وهو يدل على تحقّق التقية من شيعتهم، وقد بيّن علیه السلام الوجه في إفتاءه بالحكم المخالف لأبيه علیهما السلام .

2- رواية عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قَالَ لِي: (يَا زِيَادُ؛ مَا تَقُولُ لَوْ أَفْتَيْنَا رَجُلًا مِمَّنْ يَتَوَلَّانَا بِشَيْ ءٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؟ قَالَ قُلْتُ لَهُ: أَنْتَ أَعْلَمُ جُعِلْتُ فِدَاكَ. قَالَ: إِنْ أَخَذَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأَعْظَمُ أَجْراً. قَالَ وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى؛ إِنْ أَخَذَ بِهِ أُجِرَ وإِنْ تَرَكَهُ واللَّهِ أَثِمَ)(2).

وهي تدل على الإلتزام بمبدأ التقية ما دامت أسبابها متحققة، وقد بيّن علیه السلام وجهها وسرّها له.

ص: 201


1- [1]. وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج6 ص263.
2- . المصدر السابق؛ ج27 ص107.

3- عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: (قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام فِي الْقُنُوتِ: إِنْ شِئْتَ فَاقْنُتْ وإِنْ شِئْتَ فَلَا تَقْنُتْ؛ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام : وإِذَا كَانَ التَّقِيَّةُ فَلَا تَقْنُتْ؛ وأَنَا أَتَقَلَّدُ هَذَا)(1).

وهي تدل على أمرهم أصحابهم بالتقية في أقوالهم وسلوكهم.

4- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام (اقْرَأْ مِنِّي عَلَى وَالِدِكَ السَّلَامَ وقُلْ: إِنَّمَا أَعِيبُكَ دِفَاعاً مِنِّي عَنْكَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ والْعَدُوَّ يُسَارِعُونَ إِلَى كُلِّ مَنْ قَرَّبْنَاهُ وحَمِدْنَا مَكَانَهُ بِإِدْخَالِ الْأَذَى فِيمَنْ نُحِبُّهُ ونُقَرِّبُهُ؛ إِلَى أَنْ قَالَ: وعَلَيْكَ بِالصَّلَاةِ السِّتَّةِ والْأَرْبَعِينَ, وعَلَيْكَ بِالْحَجِّ أَنْ تُهِلَّ بِالْإِفْرَادِ وتَنْوِيَ الْفَسْخَ, إِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ فَطُفْتَ وسَعَيْتَ فَسَخْتَ مَا أَهْلَلْتَ1- بِهِ وقَلَبْتَ الْحَجَّ عُمْرَةً وأَحْلَلْتَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ, ثُمَّ اسْتَأْنِفِ الْإِهْلَالَ بِالْحَجِّ مُفْرِداً إِلَى مِنًى, واشْهَدِ الْمَنَافِعَ بِعَرَفَاتٍ والْمُزْدَلِفَةِ, فَكَذَلِكَ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم , وهَكَذَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَفْعَلُوا أَنْ يَفْسَخُوا مَا أَهَلُّوا بِهِ ويَقْلِبُوا الْحَجَّ عُمْرَةً, وإِنَّمَا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم عَلَى إِحْرَامِهِ لِسَوْقِ الَّذِي سَاقَ مَعَهُ, فَإِنَّ السَّائِقَ قَارِنٌ والْقَارِنُ لَا يُحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ, ومَحِلُّهُ النَّحْرُ بِمِنًى؛ فَإِذَا بَلَغَ أَحَلَّ؛ هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِهِ حَجُّ التَّمَتُّعِ فَالْزَمْ ذَلِكَ ولَا يَضِيقَنَّ صَدْرُكَ, والَّذِي أَتَاكَ بِهِ أَبُو بَصِيرٍ مِنْ صَلَاةِ إِحْدَى وخَمْسِينَ, والْإِهْلَالِ بِالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ, ومَا أَمَرْنَا بِهِ مِنْ أَنْ يُهَلَّ بِالتَّمَتُّعِ فَلِذَلِكَ عِنْدَنَا مَعَانٍ وتَصَارِيفُ لِذَلِكَ مَا يَسَعُنَا ويَسَعُكُمْ, ولَا يُخَالِفُ شَيْ ءٌ مِنْ ذَلِكَ الْحَقَّ ولَا يُضَادُّهُ والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(2).

ص: 202


1- . المصدر السابق؛ ج6 ص269.
2- . المصدر السابق؛ ج16ص233-234.

5- عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُسْلِمٍ النَّحْوِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقْعُدُ فِي الْجَامِعِ فَتُفْتِي النَّاسَ؟! قُلْتُ: نَعَمْ؛ وأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ؛ إِنِّي أَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَجِي ءُ الرَّجُلُ فَيَسْأَلُنِي عَنِ الشَّيْ ءِ, فَإِذَا عَرَفْتُهُ بِالْخِلَافِ لَكُمْ أَخْبَرْتُهُ بِمَا يَفْعَلُونَ, ويَجِي ءُ الرَّجُلُ أَعْرِفُهُ بِمَوَدَّتِكُمْ فَأُخْبِرُهُ بِمَا جَاءَ عَنْكُمْ, ويَجِي ءُ الرَّجُلُ لَا أَعْرِفُهُ ولَا أَدْرِي مَنْ هُوَ فَأَقُولُ جَاءَ عَنْ فُلَانٍ كَذَا وجَاءَ عَنْ فُلَانٍ كَذَا؛ فَأُدْخِلُ قَوْلَكُمْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ لِيَ: اصْنَعْ كَذَا؛ فَإِنِّي كَذَا أَصْنَعُ)(1).

وهو يدل على أنّ تحفّظ الأئمة علیهم السلام لم يكن من الحكام فحسب، بل كانت مراعاة للناس والمذاهب المختلفة التي كانت رائجة عندهم.

وغير ذلك من الروايات التي تبين خصوصيات التقية.

المنشأ الثالث: الدسّ والتزوير؛ وقد ذكره جمعٌ, ومنهم السيد الصدر قدس سره ؛ حيث ذكر أنّ عملية الدسّ والتزوير في الأحاديث التي قام بها بعض المغرضين والمعادين لمذهب أهل البيت علیهم السلام على ما ينقله التاريخ وكتب التراجم والسير؛ قد وقع كثير من ذلك في عصر الأئمة أنفسهم على ما يظهر من جملة من الأحاديث التي تنبّه أصحابهم إلى وجود حركة الدسّ والتزوير فيما يروون عنهم من الأحاديث. فقد روى محمد بن عيسى عن يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا سَأَلَهُ وأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؛ مَا أَشَدَّكَ فِي الْحَدِيثِ وأَكْثَرَ إِنْكَارَكَ لِمَا يَرْوِيهِ أَصْحَابُنَا, فَمَا الَّذِي يَحْمِلُكَ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: (لَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا حَدِيثاً إِلَّا مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ والسُّنَّةَ, أَوْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِداً مِنْ أَحَادِيثِنَا الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ دَسَّ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي أَحَادِيثَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا أَبِي، فَاتَّقُوا اللَّهَ ولَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا مَاخَالَفَ قَوْلَ رَبِّنَا تَعَالَى وسُنَّةَ نَبِيِّنَا صلی الله علیه و آله و سلم فَإِنَّا إِذَا حَدَّثْنَا قُلْنَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 203


1- . المصدر السابق؛ ص258.

قَالَ يُونُسُ: وَافَيْتُ الْعِرَاقَ فَوَجَدْتُ بِهَا قِطْعَةً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام ووَجَدْتُ أَصْحَابَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام مُتَوَافِرِينَ فَسَمِعْتُ مِنْهُمْ وأَخَذْتُ كُتُبَهُمْ، فَعَرَضْتُهَا مِنْ بَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام ؛ فَأَنْكَرَ مِنْهَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام , وقَالَ لِي: إِنَّ أَبَا الْخَطَّابِ كَذَبَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام ؛ لَعَنَ اللَّهُ أَبَا الْخَطَّابِ! وكَذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي الْخَطَّابِ؛ يَدُسُّونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام ، فَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا خِلَافَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّا إِنْ تَحَدَّثْنَا حَدَّثْنَا بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ ومُوَافَقَةِ السُّنَّةِ, إِنَّا عَنِ اللَّهِ وعَنْ رَسُولِهِ نُحَدِّثُ، ولَا نَقُولُ قَالَ فُلَانٌ وفُلَانٌ فَيَتَنَاقَضَ كَلَامُنَا, إِنَّ كَلَامَ آخِرِنَا مِثْلُ كَلَامِ أَوَّلِنَا وكَلَامَ أَوَّلِنَا مُصَادِقٌ لِكَلَامِ آخِرِنَا، فَإِذَا أَتَاكُمْ مَنْ يُحَدِّثُكُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَرُدُّوهُ عَلَيْهِ وقُولُوا أَنْتَ أَعْلَمُ ومَا جِئْتَ بِهِ! فَإِنَّ مَعَ كُلِّ قَوْلٍ مِنَّا حَقِيقَةً وعَلَيْهِ نُوراً، فَمَا لَا حَقِيقَةَ مَعَهُ ولَا نُورَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ)(1).

وقد استفاد بعض من هذا الخبر تهويل الأمر في عملية الدس والتزوير في كتب الموثوقين من أصحاب الأئمة علیهم السلام ، واعتبرها السيد الصدر من أهم العوامل التي يمكن أن تكون تبريراً لحالات التعارض فيما بين الأحاديث الصادرة عن الأئمة علیهم السلام .

وحق القول؛ هو إنّ الدسّ والتزوير في ضمن أحاديث الأئمة المعصومين علیهم السلام لا يمكن إنكاره، ولكن لا يصل إلى التهويل وتعظيم الحال بحيث يوجب الشك والتوقف في روايات أهل البيت علیهم السلام .

ولو كنا والخبر الذي تقدم نقله فإنَّه يدل على شدة مراقبة الأئمة الطاهرين للأخبار المنسوبة إليهم وشدة حيطة أصحابهم على نقل الروايات بحيث يحصل لنا الجزم بأنّ دائرة الدسّ والتزوير ضيقة جداً، ولا تصل إلى حدّ جعله من أسباب التعارض فضلاً عن أهمها

ص: 204


1- . رجال الكشي ص224-225.

كما ادّعاه السيد الصدر قدس سره ، فلو راجعنا تاريخ أحاديث الأئمة علیهم السلام نجد انها مرت بثلاث مراحل مهمة:

المرحلة الأولى: من بعد ارتحال الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، وعصر الخلفاء، وعصر الأمويين؛ ففي هذه المرحلة كان الإبتعاد عن أئمة أهل البيت علیهم السلام وإخفاء أمرهم هو العنصر السائد، فقد فعلت السياسة الزمنية فعلها في إبعاد الناس عن قادتهمالحقيقيين، وكان إعلامهم منصبّاً على نشر فضائل رموزهم بكل وسيلة كانت لديهم.

ومن مميزات هذه المرحلة أنّ روايات الأئمة علیهم السلام إنحسرت من بين عموم المسلمين إلا عند الخواص من أصحابهم وبعض المسلمين، وهم أيضاً على خوف ووجل في نشرها وإعلانها، فلم تصل النوبة إلى الدسّ والتزوير في أحاديثهم.

المرحلة الثانية: من أواخر العصر الأموي إلى أوائل عصر الغيبة الصغرى. ولا ريب أنّ في هذه المرحلة قد أتيحت الفرصة الكبرى لأهل البيت علیهم السلام وأصحابهم لنشر علومهم وأحاديثهم، وأصبح مذهب أهل البيت علیهم السلام معروفاً بين المسلمين وإن كانت السلطة الزمنية قد عارضت بأشدّ أنواع المعارضة هذا المذهب عن طريق تأسيس مذاهب أخرى ودعم العلماء المعارضين وإخفاء مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وربما وقع في هذه المرحلة الدسّ والتزوير.

ولكنّ الأئمة الطاهرين علیهم السلام كانوا على رعاية تامة لما ينقل عنهم واهتموا اهتماماً بليغاً في حفظ أحاديثهم من التزوير والدسّ وأرشدوا أصحابهم ورواة أحاديثهم إلى هذه المكيدة من الأعداء، فجعلوا الضوابط في أحاديثهم كموافقة القرآن والسنة الشريفة التي كانوا هم الحفّاظ عليها تارة, وتنبيه الأصحاب من الكذابين وتعيين أشخاصهم وجماعاتهم؛ أخرى؛ مِمّا كان سدّاً منيعاً في انتشار هذه الظاهرة، ولا يمكن إنكار أنه إن كان دسّ وتزوير ولكنه لم يصل إلى المرحلة الخطيرة والتعارض الكبير بين الروايات.

ص: 205

المرحلة الثالثة: من عصر الغيبة الصغرى إلى ما بعد جمع الكتب الأربعة. وهي مرحلة جمع الأخبار المروية عن الأئمة الهداة علیهم السلام التي كانت على مجموعات متعددة؛ فبعضها كانت منقولة في الأصول التي حددوها بالأربعمائة، أو كانت في ضمن الكتب التي صنفها الأصحاب، أو كانت على سبيل نقل الآحاد. ولا ريب أنّ كثيراً من تلك الأصول والكتب المصنفة قد ضاعت وذهبت أيام الفترات المظلمة التي مرت على هذه الطائفة، ولكن فضل الله تعالى ورعاية صاحب الأمر عج الله تعالی فرجه الشریف لهذا المذهب أنها لم تذهب جميعها، وهي مع قلّتها قد فاقت روايات المخالفين. وأما العلماء الذين جمعوا تلك الروايات في كتبهم؛ كالكتب الأربعة قد بذلوا غاية جهدهم في نقلها عن مصادرها الموثوقة حتى أتى عصر التشكيك والجرح والتعديل التي لا تخلو من اجتهادات لا يمكن قبول أكثرها. وتفصيل الكلام يأتي في محله إنْ شاء الله تعالى.

والحاصل؛ أنّ هذا العامل؛ أي الدسّ والتزوير لم يكن ذو أهمية كبيرة في أحاديث الشيعة حتى يصبح من أهم العوامل في التعارض.

المنشأ الرابع: تصرف الرواة والنقل بالمعنى؛ ولا ريب أنّ الراوي الثقة بحكم وثاقته لا ينقل إلا ما سمعه من المنقول إليه من دون زيادة أو نقيصة ولا يتصرف في ألفاظ النص، ولكن قد تحصل غفلة أو وهم من الراوي؛ فيحصل التصرف في اللفظ، بل ربما تكون المحافظة على حرفية النص من الأمور الصعبة جداً؛ فقد أجاز الأئمة علیهم السلام النقل بالمعنى، وعلى هذا الأساس يكون تصرف الرواة والنقل بالمعنى من العوامل في نشوء التعارض بين النصوص لوقوع التغيير والتبديل في دلالة النص؛ فقد تنقلب مرتبة النصّية إلى الأظهرية أو الظاهرية، أو يتغير مدلول النص نتيجة الغفلة والجهل والتصرف فينشأ من ذلك التعارض بحيث لو لم يكن ذلك لما كانت معارضة بين الروايات. ويشهد على وجود

ص: 206

هذ العامل جملة من الأخبار، بل قد يلحق ذلك في أحاديث بعض الرواة من أصحاب الأئمة علیهم السلام ، وقد اشتهرت روايات عمار الساباطي مثلاً عند الفقهاء بالتشويش لكثرة ما لوحظ فيها من الإجمال والإرتباك في الدلالة، والإضطراب والتهافت في المتن.

المنشأ الخامس: ضياع القرائن؛ ومما لا يمكن إنكاره أنّ الروايات قد اشتملت على القرائن اللفظية أو الحالية والسياقات التي كانت تكتنف النصوص، وقد ضاعت تلك القرائن لأسباب عديدة: منها؛ تقطيع النصوص، ومنها؛ الغفلة في مقام النقل والرواية مِمّا أوجب ذلك التعارض بين النصوص. وقد ورد عن الأئمة علیهم السلام التنبيه على ذلك؛ كما في رواية الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ؟ قَالَ: (قُوتُهُ بِغَيْرِ سَرَفٍ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَاهُ فَقَدَّمَ أَبَاهُ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ ومَالُكَ لِأَبِيكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءَ بِأَبِيهِ إِلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبِي وقَدْ ظَلَمَنِي مِيرَاثِي مِنْ أُمِّي, فَأَخْبَرَهُ الْأَبُ أَنَّهُ قَدْ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ وعَلَى نَفْسِهِ, وقَالَ أَنْتَ ومَالُكَ لِأَبِيكَ ولَمْ يَكُنْ عِنْدَ الرَّجُلِ شَيْ ءٌ, أَ وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم يَحْبِسُ الْأَبَ لِلِابْنِ؟!)(1).

وهناك شواهد أخرى في الروايات تدل على أنّ هناك قرائن قد اختفت حين النقل لا سيما تلك القرائن الإرتكازية العامة التي تتكون من البيئة وظروف النص والحالة الإجتماعية ونحو ذلك؛ فإنّ الراوي مهما جاهد في نقل النص بحدوده وقيوده بحكم أمانته، ولكنه يغفل عن تلك القرائن الإرتكازية اعتماداً على وضوحها. ومن هنا نقول أنه لا بُدَّ في كثير من الموضوعات الواردة في الروايات من الرجوع إلى ما كان متعارفاً في عصر صدور النص؛ فإنَّ الملابسات والحالات الإجتماعية الدائرة تعيّن مدلولاتها فلا تصل النوبة إلى

ص: 207


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص265.

الإجمال والتخلص من مشكلته. ومن هنا كان على الفقهاء مراجعة النصوص وملاحظاتها مع القرائن التي كانت مكتنفة بها حين صدورها لا سيما تلك التي ترتبطبالحالات الإجتماعية؛ فإن هذه القرائن الإرتكازية والحالات الإجتماعية تتبدل عبر عصور متعاقبة وتتغير المعاني تبعاً لتغيرها وتبدلها كما هو المحسوس, ولو اكتفينا بأصالة عدم القرينة كما عليه المشهور فسوف ينشأ من ذلك التنافي بين هذا النص وغيره الذي يبين نفس الحكم الشرعي، وأما بناءً على ما ذكرناه فربما لا تصل النوبة إلى التعارض، بل تكون في مصبّ واحد.

المنشأ السادس: ملاحظة ظروف الراوي؛ فإنَّه لا ريب أنّ ظروف الراوي لها الدخل في الحكم الذي يتعلق به، فإنَّ الإمام علیه السلام قد يلاحظ حال السائل من حيث العلم أو الجهل والنسيان والمرض والإضطرار والعذر ونحو ذلك، فيحكم على أساس وضعيته الخاصة التي هو عليها، ولكنه يتبدل بتغير تلك الحالة؛ فلم يكن الحكم مطلقاً ولكن السائل نقل ذلك الحكم على سبيل الإطلاق من دون أن يلتفت إلى حاله ودخالتها في الحكم، فيحصل عن ذلك التعارض بينه وبين ما صدر من المعصوم في نفس الموضوع الذي اختلف عن ما كانت عليه ظروف الراوي الأول. وفي الأحاديث المروية شواهد على ذلك كالتي نبّه الإمام علیه السلام فيها الرواة حينما عرض عليه بعض موارد التعارض في كلماتهم، منها؛ ما رواه صفوان عن أبي أيوب قال: حدثني سَلَمَةُ بْنُ مُحْرِزٍ أَنَّهُ كَانَ تَمَتَّعَ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ طَافَ بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا والْمَرْوَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى ولَمْ يَطُفْ طَوَافَ النِّسَاءِ؛ فَوَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ, فَذَكَرَهُ لِأَصْحَابِهِ؛ فَقَالُوا: فُلَانٌ قَدْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ, فَسَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام ؛ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً قَالَ سَلَمَةُ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: (لَيْسَ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ, فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا قَالَ لِي, قَالَ فَقَالُوا: اتَّقَاكَ وأَعْطَاكَ مِنْ عَيْنٍ كَدِرَةٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فَقُلْتُ إِنِّي لَقِيتُ أَصْحَابِي فَقَالُوا اتَّقَاكَ, وقَدْ فَعَلَ فُلَانٌ مِثْلَ مَا فَعَلْتَ

ص: 208

فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً, فَقَالَ: صَدَقُوا؛ مَا اتَّقَيْتُكَ, ولَكِنْ فُلَانٌ فَعَلَهُ مُتَعَمِّداً وهُوَ يَعْلَمُ, وأَنْتَ فَعَلْتَهُ وأَنْتَ لَا تَعْلَمُ؛ فَهَلْ كَانَ بَلَغَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ قُلْتُ: لَا واللَّهِ مَا كَانَ بَلَغَنِي. فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ )(1).

وقد ذكرو عوامل أخرى كالنسخ وغيره، ولكنها ليست بتلك الدرجة التي تكون عليه ما ذكرناه، فإنّ المناقشة فيها واضحة.

المبحث الثالث: أقسام التعارض

اشارة

بعد الإحاطة بما تقدم بيانه لمفهوم التعارض وأنواعه والمناقشات التي أُثيرت حولهما وأسباب التعارض يتضح أنّ التعارض على قسمين:

الأول: التعارض غير المستقر؛ والمراد به الذي يحصل لأول وهلة ويزول بالجمع العرفي تبعاً لوجود ملاكاته، فلا يستحكم التعارض ولا يسري إلى دليل الحجية.الثاني: التعارض المستقر؛ والمراد به ذلك التعارض المستحكم الذي يسري إلى دليل الحجية بأن يحصل التنافي والتكاذب بين الدليلين في مرحلة شمول دليل الحجية لهما.

القسم الأول: التعارض غير المستقر
الأمر الأول: إنه لا تكاذب فيه بين الدليلين

تقدم أنّ التعارض يتقوّم بالتكاذب والتنافي بين مدلولي الدليلين، وقد ذكرنا شروطه؛ فلا تعارض إذا لم يكن هناك تكاذب في البين. وعليه؛ فهذا يعني اختصاصه بالتعارض المستقر ولا يشمل غير المستقر إذ لا تكاذب فيه، وإن كان، فلا يكون حقيقياً والعرف لا يرى مثل ذلك النوع من التعارض. فالبحث عن التعارض غير المستقر يكون استطرادياً، وإنما ذكره بعض الأصوليين لبيان بعض الثمرات مِمّا سيأتي بيانه. وقد ذكروا أنّ ضابط التعارض

ص: 209


1- . المصدر السابق؛ ج13 ص124-125.

غير المستقر هو أن لا يوجد تنافٍ في اقتضاء دليل الحجية سواء حصل ذلك من عدم المحذور في فعلية كِلا اقتضاء الدليلين للشمول لكلا الدليلين أم لعدم وجود الإقتضاء إلا في واحد منهما. ثم إن عدم السراية إلى دليل الحجية يكون في حالتين:

الحالة الأولى: أن لا يكون تنافٍ وتعارضٌ في مرحلة الدلالة؛ بأن يكون التنافي والتعارض بين المجعولين الفعليين دون أن يكون ناشئاً من تنافي الجعلين كما هو الحال في موارد الورود، فإنَّ التنافي لا يكون بين الجعلين فيها وإنما لا يكون اجتماع للمجعولين الفعليين.

الحالة الثانية: أن يكون التنافي والتعارض في مرحلة الدلالة؛ بأن يكون التنافي بين المجعولين مِمّا يوجب التنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة، لكن دلالة أحد الدليلين تستحق التقديم على دلالة الدليل الآخر بلحاظ دليل الحجية بأن لا يكون له اقتضاء الشمول للدليلين في عرض واحد.

وفي الحالة الأولى لا نحتاج في نفس سراية التعارض إلى دليل الحجية إلى برهان زائداً عن المسلّمات الأولية؛ فإنَّه ما دام لم يكن الدليلان متنافيين في مرحلة الدلالة فيتعين في هذه الحالة شمول دليل الحجية لكلا الدليلين.

وأما في الحالة الثانية فما دام هناك تنافٍ وتعارض في مرحلة الدلالة فنحتاج إلى عناية زائدة لإثبات عدم سراية التعارض إلى دليل الحجية حتى يثبت أنّ دليل الحجية لا اقتضاء فيه للشمول لأحد الدليلين بعينه فيكون اقتضاؤه لشمول الدليل الآخر بلا مزاحم.

ولكن حق القول في المقام؛ إنه إذا كان المعيار في تعيين التعارض وأقسامه هو العرف فإذا حكم بأنّ التعارض في الدليلين لم يتضمن التكاذب والتنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة فإنَّه هو المتبع، فهو يشمل الحالتين المتقدمتين وغيرهما كما في موارد الجمع العرفي وموارد الورود وموارد التزاحم وموارد التخصيصوالتخصص؛ فإنّ الجميع يشترك في عنوان

ص: 210

واحد وهو عدم التنافي والتكاذب بين الدليلين لا في مرحلة الجعل ولا في مرحلة الدلالة، ولا نظر له إلى سراية ذلك إلى دليل الحجية، بل يحكم بعدم السراية إليه في تلك الموارد. فما ذكره السيد الصدر قدس سره في المقام كله من التطويل الذي لا طائل تحته، فلا بُدَّ من صرف النظر إلى بيان الفرق بين تلك الموارد بالنظر العرفي التي هي من موارد تطبيق التعارض غير المستقر، وقد ذكرنا ما يتعلق بها إجمالاً فيما سبق هنا، وفي بحث الإستصحاب.

الأمر الثاني: في نظرية الورود.

ولا بُدَّ من التنويه إلى أنّ الورود والحكومة من المستحدثات، وقد شاعا فيما قارب هذه الأعصار مع خلوّ كلمات القدماء عنهما. والإبتلاء بالحكومة أكثر في الفقه بخلاف الورود فإنَّه قليل الإبتلاء فيه كما لا يخفى على الأعلام.

وكيف كان؛ فإنّ الكلام في الورود يتم في بحوث:

البحث الأول: تقدم في تعريف الورود أنه كون مفاد أحد الدليلين رافعاً لموضوع مفاد الدليل الآخر ونافياً له حقيقة. وعليه فلا توجد أية معارضة في الورود بين الدليلين لإمكان اجتماعهما فعلاً ولو كانا متنافيين في مرحلة الدلالة.

ولا ريب في تقديم دليل الوارد على دليل المورود بعد تمامية حجتيهما؛ وذلك لفعلية المجعول في دليل الوارد دون المجعول في دليل المورود، ومثل هذا التقديم من الواضحات التي لا حاجة إلى إقامة البرهان عليه، فهو مستنبط من فرض الورود وتقييد مفاد أحد الدليلين بعدم الآخر.

ومنه يظهر عدم استقرار المعارضة وعدم سرايتها إلى دليل الحجية، وهذا هو الورود بالمعنى العام.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون دليل الوارد متصلاً بدليل المورود أو منفصلاً عنه لأنّ الإنفصال لا يغيّر من الواقع شيئاً ولا يخلق إشكالاً بعد تحقق الملاك في كل واحد منهما.

ص: 211

وهذا الورود بالمعنى العام يمكن تقسيمه بحسب منشأه إلى الورود بالمعنى الخاص، والتخصص؛ والأول ما يكون فيه الرفع الحقيقي للدليل الوارد لموضوع الدليل المورود بالتعبد بحيث يكون التعبد منشأً للرفع الحقيقي.

وأما التخصص فيكون الرفع الحقيقي فيه لا بلحاظ التعبد بلا فرق بين أن يكون الرفع بنظر إخباري؛ كما إذا قال (أكرم كل عالم) ثم أخبر بأنّ زيداً ليس بعالم، وبين أن يكون بنظر إيجادي كما إذا قال (رفع ما لا يعلمون)، ثم أوجد العلم بالحرمة بواسطة دليل قطعي، فيكون الفرق بين التخصص والورود بالمعنى الخاص؛ أنّ التخصص سنخ دليل لم يؤخذ فيه التعبد بخلاف المورود فإنَّه سنخ دليل أخذ فيه ارتفاع الموضوع حقيقة بالتعبد كما في موارد قيام الحجية المأخوذ في موضوع البراءة الشرعية، فإنَّ حقيقة التعبد فيه ترتفع، فليس الفرق بينهما فيحقيقة الورود، ولذا ينصب الكلام في الورود بالمعنى العام إذ لا أثر في هذا التقسيم. والورود قد يكون من جانب واحد، وقد يكون من الجانبين بحيث يكون كل واحد من الدليلين رافعاً بمرتبة موضوع الحكم في الدليل الآخر. والكلام يقع في القسم الأول والثاني يقع تباعاً.

البحث الثاني: إنّ الورود لا يختص بمرحلة من مراحل الحكم الخمسة المعروفة؛ مرحلة الجعل، ومرحلة الفعلية، ومرحلة الوصول، ومرحلة التنجّز، ومرحلة الإمتثال؛ فإنّ الحكم الذي يتكفل الدليل الوارد إثباته برفع موضوع الدليل الآخر يكون في إحدى تلك المراحل، فتكون الأقسام خمسة، وعلى كل واحد منها أمثلة وشواهد في الفقه:

القسم الأول: أنْ يكون أحد الحكمين رافعاً لموضوع حكم الدليل الآخر بمجرد جعله؛ ومثاله كما ذكره بعضهم(1) فيما هو المعروف عند الفقهاء من عدم تعلق الزكاة بشيء واحد

ص: 212


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص50.

مرتين، حيث ذكر بأنّ معناه أنه لا يشرع دخول عين واحدة زكوية في نصابين في السنة الواحدة، فلوكان المكلف يملك عشرين ناقة لمدة ستة أشهر وهو النصاب الرابع في الإبل، فهو حكم مجعول غير فعلي وإنما هو مشروط ببقائه إلى آخر السنة فيجب عليه دفع أربع شياه. ثم إنه لو فرض أنّ إبله قد زادت إلى خمس وعشرين ناقة على رأس ستة أشهر أخرى وهو النصاب الخامس الذي يثبت فيه خمس شياه فيقع التعارض بين دليلي جعل الزكاة في هذين النصابين، فإذا لاحظنا ما ذكره الفقهاء في هذا المورد من أنّ وجوب الزكاة الثانية مشروط بعدم تقدم ما يقتضي وجوب الزكاة الأولى فإنّ وجوب الزكاة الأولى بنفسه قبل أن يصبح فعلياً رافعاً لموضوع وجوب الزكاة الثانية، ولكن هذه المسألة موضع خلاف بين الفقهاء والتفصيل يطلب في محله.

القسم الثاني: أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون بفعليته رافعاً لموضوع الحكم في الدليل المورود؛ ومثاله الدليل الذي دلَّ على حرمة شيء قد أخذ شرطاً في العقود فإنّ هذا الدليل الوارد بفعليته على الدليل المورود دالّ على وجوب الوفاء بالشروط إلا ما خالف الكتاب والسنة فإنّ هذا الحكم بمجرد أن يصير فعلياً يكون رافعاً لوجوب الوفاء بالشرط، حيث أصبح هذا الشرط مخالفاً للكتاب والسنة.

القسم الثالث: أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون بوصوله رافعاً لموضوع الحكم في الدليل المورود كالدليل القطعي المتكفل لحكم شرعي الوارد على دليل(رفع ما لا يعلمون) إذا كان المراد من الغاية في حديث الرفع (متى تعلمون) هو ظاهره، وأما إذا أُريد منه التنجّز كان مثالاً للقسم الرابع.

القسم الرابع: أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون تنجّزه رافعاً لموضوع الحكم في دليل المورود؛ كما في دليل المتزاحمين بناءً على استحالة الترتب لأنّ موضوع المهم لا يقيد

ص: 213

بعدم امتثال الأهم حتى يقتصر في التقييد عليه، لأنّ مثل هذا التقييد لا يرفع معضلة طلب الضدين عند من يقول باستحالة الترتب؛ إذ يبقى المحذور المذكور في صورة تركه للإمتثالين معاً، وإنما يرتفع موضوع المهم بتنجّز الأهم سواء امتثله أم لا.

ولا يخفى أنّ الفعلية أعم من التنجز، وإلا فإذا حكمنا بارتفاع موضوع المهم بمجرد فعلية الأهم فإنَّه يدخل في القسم الثاني.

ومن هذا القسم أيضاً الواجبات التي يشترط فيها القدرة عقلاً وشرعاً؛ فإنَّه يرتفع بمجرد تنجز المنافي عليه كما يقال في الحج من أنّ وجوبه مشروط بعدم تنجز واجب آخر يتنافى معه وإن كان موضع الخلاف بين الفقهاء أيضاً.

وكذا يقال بأنَّ وجوب الوضوء يتوقف على عدم تنجز وجوب صرف الماء في وجه آخر.

القسم الخامس: أن يكون الدليل الوارد متكفلاً لحكم يكون بامتثاله رافعاً لموضوع الحكم الثابت في الدليل المورود، وذلك في الدليلين الدالين على حكمين متزاحمين بناءً على إمكان الترتب؛ فإنَّه بامتثال الأهم أو المساوي يرتفع موضوع الآخر، ومنه ما يقال بأنّ الدليل الدال على وجوب صوم شهر رمضان الوارد على دليل وجوب الكفارة على المفطر، فإنه بامتثاله يرفع موضوع الآخر.

ومن الجدير بالذكر أنّ أغلب الأمثلة المذكورة قابلة للمناقشة كما هو مفصل في الفقه وإنما ذكرناها للتقريب فقط. كما أنه لا يخفى أنّ كل ذلك خارج عن باب التعارض؛ إذ لا تنافي فيه بين الجعلين ذاتاً، وإنما التنافي يحصل بمجرد تقييد موضوع أحد الدليلين بعدم حكم الدليل الآخر؛ وهذا غير التعارض المبحوث عنه في المقام كما تقدم بيانه.

وما ذكرناه يجري في الورود من الجانبين وإن كان هذ القسم قليل الورود في الفقه، وأمثلته موضع بحث ونقاش بين الفقهاء، ومثاله أن يكون الدليلان متكفلين لحكمين مشروطين

ص: 214

بعدم وجود حكم آخر يعارضه أو يزاحمه مطلقاً؛ كالدليل الدال على وجوب الحج مع الدليل على وجوب النذر بعد فرض أنّ كلاً منهما مشروط بعدم الآخر بحيث يكون ثبوت كل منهما رافعاً لموضوع الآخر ووارداً عليه. ومثل هذ القسم غير معقول في حدّ نفسه لأنَّه مستلزم لتقييد كلٍّ من الخطابين بعدم الآخر المستلزم لتوقف كل منهما على عدم الآخر وهو دور، إلا أن يكون الشرط بعدم وجود الآخر لا مطلقاً؛ بأن يكون عدمه على تقدير عدم الأول، وهو صحيح،ويمكن تطبيقه على مثال وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر على تفصيل مذكور في كتاب الحج. وهناك أمثلة أخرى يمكن استظهارها بالتأمل فراجع.

البحث الثالث: أحكام الورود

ويستفاد مِمّا سبق ذكره في تعريف الورود وأقسامه أحكام الورود وهي:

الحكم الأول: إنَّ ملاك الورود هو رفع أحد الدليلين موضع الحكم في الدليل الآخر حقيقةً وينفيه نفياً حقيقياً، فلا فرق فيه بين كون الدليل الوارد متصلاً بالدليل المورود أو منفصلاً عنه، كما تقدم التنبيه على ذلك.

الحكم الثاني: إنّ الورود لا يتقوم بالتنافي بين الدليلين في الدلالة فيكون تقديم الوارد على المورود بملاك خاص لا يرجع إلى شؤون الألفاظ حتى يلاحظ الظهورات، فقد يتقدم الدليل الوارد ولو كان ظهوره من أضعف الظهورات وكان ظهور الدليل المورود من أقوى الظهورات.

والترجيح بأقوائية الظهور إنَّما يتصور في فرض التنافي في الدلالة، والمفروض أنه لا تنافي بينهما فيؤخذ بكليهما، ولكن يرتفع موضوع المورود في مورد الوارد.

الحكم الثالث: إنه لا فرق في تقدم الوارد بين كون الخطاب فيه وجداني أو تعبدي؛ إذ المدار هو التعبد بصدور الخطاب الوارد وهو يستلزم التعبد بارتفاع موضوع دليل المورود

ص: 215

أيضاً، وهذا التعبد لا ينافي دلالة الدليل المورد وقد عرفت أنه لا تعارض حقيقي لا بين نفس الوارد والمورود، ولا بين دليل حجية الوارد والدليل المورود، ولا بين حجية الوارد ودليل حجية المورود.

الحكم الرابع: إنّ الورود لا يحتاج إلى الناظرية بخلاف الحكومة التي تتقوم بها؛ وعليه؛ إذا تعددت الآثار لموضوع الحكم في الدليل المورود فإنَّه لا حاجة إلى الإطلاق في دليل الوارد لنفيها، والرجوع إلى الإطلاق فرع النظر وهو غير موجود في الورود. وعليه؛ فإذا كان الوارد يثبت الموضوع تكويناً وحقيقة فلا محالة أنه تترتب عليه جميع الآثار فلا حاجة إلى الإطلاق.

كما أنه لا يمكن تصوير اشتراط تأخّر زمان دليل الوارد عن زمان دليل المورود لأنّ ذلك فرع النظر وهو مفقود في الورود كما عرفت. وسيأتي مزيد بيان لذلك في الحكومة من أنّ ذلك لم يعتبر في الحكومة أيضاً.

الحكم الخامس: عرفت أنّ في الورود لا حاجة إلى ملاحظة اللسان اللفظي؛ لأنَّه ليس تصرفاً في الألفاظ وإنما هو تصرف معنوي حقيقي في ركن من أركان الدليل المورود وهو الموضوع، وهو يتحقق ولو لم يكن هناك لفظ، وهذا بخلاف الحكومة كما سيأتي بيان ذلك.

الحكم السادس: إذا شك في الوارد فلا يمكن التمسك بالمورود مطلقاً سواء كان الشك في أصل الورود أم في حجيته أم في سعته؛ بنحو الشبهة المفهومية أو الشبهة الموضوعية من دون فرق بين الوارد المتصل أو المنفصل، وهذا بخلافما ذكر من التمسك بالعام عند الشك في المخصص وذلك لأنّ احتمال الوارد مساوق لاحتمال انتفاء موضوع المورود فيكون التمسك بالمورود تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية لموضوع العام. نعم؛ ربما يجرز موضوع العام بالإستصحاب إذا لم تكن الشبهة مفهومية.

ص: 216

البحث الرابع: التزاحم

اشارة

إذا عرفت معنى الورود على نحو العموم فلا بُدَّ من التعرض إلى التزاحم وما يرتبط به، فقد يقال بأنه من تطبيقات الورود، والكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: خروج التزاحم عن التعارض الحقيقي ودخوله في الورود.
اشارة

وقبل بيان ذلك لا بُدَّ من تعريف التزاحم وما يرتبط به.

تقدم في أوائل البحث أنّ التزاحم عبارة عن عدم قدرة المكلف على الجمع بين الخطابين المختلفين المتوجهين إليه في الإمتثال مع اجتماع شروط الحجية فيهما ثبوتاً وإثباتاً، فيلزم أن يكون ذلك اتفاقياً، وذلك لاشتراط القدرة في كل تكليف. فهو والتعارض يختلفان ملاكاً ولكن قد يتوهم التعارض في مقام الإمتثال، ولدفع ذلك يتوقف ثبوت أمرين:

الأول: الإلتزام بإمكان الترتب في الوجوبين المتزاحمين بأن يثبت الوجوب الآخر على تقدير عصيان الوجوب الأول.

الثاني: الإلتزام بأنّ كل خطاب مقيد بقيد لبّي يمنع من التمسك بإطلاق الخطاب حال الإشتغال بالضد الواجب فيكون موضوع وجوب الصلاة -مثلاً- من لم يشتغل بالضد الواجب لها، وكذا في وجوب الإزالة.

فإن تمّ هذان الشرطان خرجت موارد التزاحم عن مورد التعارض الحقيقي؛ لأنَّه بناءً على ذلك لا يقع أي تنافٍ بين الجعلين، بل يكون كلاهما ثابتين في موضوعه -وهو القادر على متعلقها- بنحو يُنتج حكمين مشروطين على نحو الترتب، وإنما التنافي في مرحلة فعلية التكليف حيث يستحيل فعلية كلا الموضوعين في حال امتثال المكلف لأنَّه بحكم وحدة القدرة التي يملكها إذا صرفها في أي واحد من الواجبين كان عاجزاً عن امتثال الآخر، وهذا ليس تعارض بين الدليلين، وهذه قضية واضحة.

ص: 217

وإنَّما يكون الكلام في بيان الوجه لإثبات الشرطين:

أما الشرط الأول؛ فقد تقدم تحقيق الكلام فيه في مباحث الأمر. ولو فرض أن قلنا باستحالة الترتب فإنَّه يحصل التنافي بين الخطابين لأدائه إلى فعلية كلا المجعولين في فرض العصيان، وهو يستلزم سراية التنافي إلى الجعل واستحالة ثبوت الخطابين المشروطين بما هو كذلك، فيحصل التعارض بين الدليلين.

وأما الشرط الثاني؛ فقد قيل في تقريبه الوجوه التالية:الوجه الأول: إنّ جميع الخطابات الشرعية مقيدة بالقدرة التكوينية؛ إما من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، أو من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك. فبناءً على إمكان الترتب لا يلزم أي تنافٍ بين الجعلين لأنَّه لا محذور في ثبوت القضيتين المشروطتين بالقدرة، إلا أنه لا يكون المجعولان فعليين معاً لأنّ المكلف لا يقدر على امتثال كلا التكليفين حسب الفرض، فيكون أحدهما تعييناً أو تخييراً موجباً لعجزه عن امتثال الآخر تكويناً، فيكون انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، فلا يكون تعارضاً.

وأُشكل على هذا الوجه بأنه:

1- لو أُخذت القدرة التكوينية في موضوع كل تكليف –حسب الفرض- مطلقاً؛ حدوثاً وبقاءً فيكون التكليف بالصلاة مثلاً مشروطاً بعدم العجز عنها وعدم صرف القدرة في الضد الآخر، وثبوت أمرٍ من هذا القبيل بالضدين المتزاحمين لا إشكال فيه؛ حيث لا محذور فيه ولكن لازمه ارتفاع التكليف وعدم تحقق العصيان لو اشتغل المكلف بضد الواجب ولو لم يكن واجباً، وهذا مِمّا لا يلتزم به أحد لأنّ مثله يكون تعجيز المكلف نفسه بعد القدرة على التكليف، فيكون عصياناً بلا إشكال.

ص: 218

2- وإن أُخذت القدرة في التكليف حدوثاً فقط فيصبح التكليف فعلياً بمجرد تحقق القدرة في الآن الأول، فلو صرف قدرته في غيره وعجزّ نفسه كان عاصياً، ولكن يلزم منه أن يكون الجعلان المشروطان بالقدرة بهذا المعنى أوسع من الجعلين المترتبين؛ حيث يكون موضوعهما محفوظاً حتى مع امتثال أحدهما، وهو مستحيل فيحصل التعارض بين الدليلين لا محالة.

ويرد عليه: إنه يمكن اختيار الشق الأول، ولكن اللازم منه مردود بظواهر الأدلة العقلية والنقلية التي تدل على عدم جواز صرف القدرة بضد الواجب إذا لم يكن واجباً.

الوجه الثاني: إنه على فرض كون الشرط هو القدرة التكوينية حدوثاً إلا أنه في موارد التزاحم لا تكون إلا قدرة واحدة على الجامع بين الواجبين تتعين في أحد الطرفين باختيار المكلف، فلا يكون إلا تكليف واحد فعلي في حقّ المكلف في موارد التزاحم، وأما التكليف الآخر فإنَّه يرتفع بامتثال الأول فلا يقع تعارض بين دليلي الجعلين.

وأُشكل عليه بأنّ شرطية القدرة تكفي فيها القدرة على الجامع بين الواجب وغيره، ولذلك صحّ التكليف بأحد الضدين تعييناً ولا يشترط في القدرة عليه تعييناً. وعليه؛ لو كان الشرط هو القدرة حدوثاً فهي محفوظة بلحاظ كلا المتزاحمين بنفس القدرة على الجامع بينهما.وفيه: إن هذا الوجه وإن أمكن فرضه ثبوتاً، ولكن لا دليل عليه إثباتاً فإنّ ظاهر دليل كل واحد من التكليفين هو القدرة عليه، لا تعلّقها بالجامع.

الوجه الثالث: إنّ الخطاب كما هو مقيد لبّاً بالقدرة التكوينية فكذلك يكون مقيداً لبّاً بالقدرة الشرعية؛ بمعنى عدم كون العبد مشغولاً بضدّ واجب لا يقلّ أهمية عن الواجب المفروض لاستحالة إطلاق الأمر في أحد المتزاحمين، لفرض الإشتغال بالمزاحم الآخر

ص: 219

الذي لا يقل أهمية عنه. وبذلك يرتفع التنافي بين التكليفين فلا يحصل التعارض بين دليليهما لأنّ التكليف المستفاد من كل منهما مشروط بعدم الإشتغال بما لا يقل عنه في الأهمية؛ أي يكون مساوياً أو أهم، وإلا فإن فرض تساويهما معاً كان الجعلان معاً مشروطين بعدم الإشتغال بالآخر، فيكون الترتب من الطرفين. وإن كان أحدهما أهم من الآخر كان جعله مطلقاً وجعل الآخر مشروطاً بعدم الإشتغال بالأول، فيكون الترتب من طرف واحد، ولا محذور في كلا الموردين بعد البناء على إمكان الترتب.

ولكن هذا الوجه يرجع إلى الوجه الأول بناءً على ما ذكرناه في توجيهه.

وعلى كل حال؛ فإنه بناءً على هذا يتضح وجه تحقق العصيان إذا صرف المكلف قدرته في ضدٍّ ليس بواجب أو واجب مرجوح؛ فإنّ التكليف قد أصبح فعلياً في حقه لأنّ موضوعه هو القادر تكويناً وشرعاً، واشتغاله بالضد غير الواجب لا يرفع هذا الموضوع.

والحق؛ إنه يمكن إرجاع الوجوه الثلاثة إلى وجه واحد ولا حاجة إلى هذا التفصيل بعد الإحاطة بما أوردناه على الوجهين السابقين، فتدبر.

وكيف كان؛ فقد اعتُرض على جميع ما ذكر عند فصل باب التزاحم عن باب التعارض.

وأُجيب على تلك الإعتراضات بوجوه، وهي لا تخلو من إشكال.

والحق أنّ ذلك كله تطويل لا طائل تحته، ولا ثمرة علمية فيه؛ فإنّ الجميع متفقون على أنه لا تنافي في مورد التزاحم في مرحلة الدلالة ولا في مرحلة الجعل والتشريع، وأنّ التنافي قد يحصل من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال الحكمين معاً، ولا إشكال عند الجميع أنّ ذلك يحصل اتفاقاً لاشتراط القدرة في كل تكليف. وحلّ هذه المشكلة يكون بالترتب وصرف القدرة في أحدهما تعييناً أو تخييراً.

والحاصل؛ إنه لا مانع من التكليف بالمتزاحمين كالتكليف بالضدين عند عدم قدرة العبد على الجمع بينهما في الإمتثال؛ فالمجعول هو كلا الحكمين بإطلاقهما، ولا يجب امتثالهما معاً

ص: 220

بحكم العقل إلا لأحدهما تعييناً أو تخييراً، وقد عرفت آنفاً أنّ ثبوت الإطلاق لكل واحد من الخطأ الذي حصل عند البعض الذي توهّم التعارض بينهما.

ويمكن لنا القول أنّ الإطلاق والأمر لكل من الضدين له مراتب:أحدها: إطلاقه بالنسبة إلى القدرة على الآخر والعجز عنه.

وثانيها: إطلاقه بالنسبة إلى إتيانه نفسه وعدم إتيانه.

وثالثها: إطلاقه بالنسبة إلى وجوب الآخر وعدم وجوبه.

ورابعها: إطلاقه بالنسبة إلى وجوب امتثال الآخر وعدم وجوبه.

وخامسها: إطلاقه بالنسبة إلى إمكان الجمع بين الإمتثالين وعدمه.

فإذا لم يتحقق الإطلاق بالنسبة إلى المراتب الأربع الأولى لم يكن الأمر منجزاً ليستحق على مخالفته العقاب فلم يمتنع تعلقه بالممتنع، والمفروض أنّ الأمر بالضدين لا إطلاق له بالنسبة إلى المرتبة الرابعة، وحينئذٍ يكون بيان الوظيفة موكولاً إلى العقل. إلا أنّ الأمرَ مجرداً عن الإطلاق المذكور ثابتٌ ما لم يدل دليل على تقييده في إحدى المراتب الأولى.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ التزاحم يختلف عن التعارض في الملاك والخطاب والأثر لأنّ الأمر بالضدين إذا كان بنحو التنافي بأن يكون التضاد بينهما كلياً بحيث لا يجتمعان في مورد؛ كما إذا قام الدليل على وجوب صوم يوم الشك من شهر رمضان، وقام دليل آخر على وجوب إفطار ذلك اليوم؛ فإنَّه لا ريب في وقوع التعارض لحصول التكاذب بينهما. وأما إذا كان بنحو التنافي الجزئي بأن يجتمعان في بعض الموارد ويفترقان في بعض آخر؛ كما لو قام الدليل على وجوب إكرام العلماء، وقام دليل آخر على وجوب إهانة الفساق فإنَّه يحصل الأمر بالضدين؛ الإكرام والإهانة في مورد العالم الفاسق. ومثله الأمر بإنقاذ الغريق والأمر بإطفاء الحريق فإنَّه لا تنافي بينهما في الجعل لأنّ لكل واحد من الدليلين

ص: 221

إطلاق أو عموم يكشفان عن وجود الملاكين لهما أو المقتضيين لهما، فلم يكن بين الجعلين للحكمين أي تنافٍ إذ لا يلزم من تحققهما في نفسهما محذور أبداً بحيث لو فرض صدورهما منه كان ممتثلاً لهما، أو صدرا معاً من شخصين كانا ممتثلين ولكن التنافي بينهما يكون في مقام الإمتثال؛ إذ لا يمكن للعبد أن يأتي بهما دفعة واحدة لعدم القدرة إلا على واحد منهما؛ فمن هنا أصبح الدليلان من قبيل المتزاحمين فلا ربط لمسألة الأمر بالضدين بباب التعارض.

حكم المتزاحمين

ومما ذكرنا يظهر ان للمتزاحمين أحكاماً:

الحكم الأول: التخيير بينهما مع عدم المرجح لأحدهما؛ وهذا التخيير عقلي حيث إنّ العقل يحكم به للمتمكن من فعل أحدهما في مقام الإمتثال مع إرادة الشارع له لوجود المقتضي للإمتثال في كل واحد منهما وعدم المانع، إلا عن الجمع بخلاف خصال الكفارة فإنّ الشارع قد خيّر بينهما، ولا وجوب إلا لأحدهما.

الحكم الثاني: إستحقاق العقاب فيما لو تركهما معاً إذا قلنا بالترتب؛ لأنَّه بناء عليه يكون التكليف بالمتزاحمين هو وجوب أحدهما عند عصيان الآخر، فإذا تركهاستحق العقاب عليهما معاً. أما إذا لم نقل بالترتب فلا يكون العقاب إلا على ترك أحدهما. وتنقيح الكلام في ذلك قد تقدم في بحث الترتب.

الحكم الثالث: وقوع الترتيب بين الأهم والمهم فإنَّ العقل يكشف من تحقق خطاب الأهم أنّ خطاب المهم غير منجز عليه إلا في حال عصيان خطاب الأهم تحصيلاً للمصلحة الملزمة في المهم بعد انحسار المزاحمة من الأهم الذي كان مزاحماً عن تحصيل تلك المصلحة، فيكون المقتضي لامتثاله موجوداً وهو فعلية حكمه والمانع من امتثاله مفقود. وتقدم التفصيل في مباحث الترتب.

ص: 222

الحكم الرابع: تنجّز الخطاب بالآخر حين العلم به وتحقق النسيان أو الجهل بالآخر حتى لو كان المجهول هو الأرجح؛ لأنّ المانع عند العقل هو عدم تنجز المجهول، ومع عدم تنجزه للجهل به فيرتفع المانع عن تنجز الآخر، لما عرفت آنفاً من وجود الحكمين بشروطهما في موارد التزاحم، وإنما المانع من امتثالهما حكم العقل بعدم إمكانه؛ فإذا جهل أحدهما زال هذا الحكم العقلي ويتبدل حكمه بالإمتثال لما هو المعلوم لإحرازه وعدم تنجزه ما يزاحمه في امتثاله. وربما يتوهم بأنّ المهم حال المزاحمة بالأهم يكون فاقداً لشرط فعليته فيبقى خطاباً إنشائياً، ومجرد العلم به لا يخرجه عن إنشائيته إلى فعليته.

ولكنه مردود بأنّ المزاحمة بحسب الفرض كانت في مرحلة الإمتثال وهي مرتبة بعد مرتبة كمال الحكم وفعليته وتماميته، وإلا لم تكن مزاحمة في البين وإنما يزاحمه الأهم في مرتبة التنجز، ومع الجهل به لا يتنجز. وسيأتي مزيد بيان لهذه الأحكام في مباحثنا الآتية.

المقام الثاني: مرجحات باب التزاحم
اشارة

بعدما عرفت أنّ التزاحم خارج عن باب التعارض فلا تشمله المرجّحات المنصوصة في باب التعارض. وقد ذكر الأصحاب مرجحات خاصة لباب التزاحم، وإن كان بعضها يرجع إلى عدم التزاحم، بل يمكن إرجاعها إلى باب الورود وهي:

المرجح الأول: ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية

فإذا كان أحد الحكمين قد أخذت القدرة في موضوعه شرعاً ولم يؤخذ في الآخر ذلك؛ قُدِّم الثاني عند التزاحم بينهما، كما لو دار الأمر على المكلف بين دفع ما عنده من المال وفاءً لدَينه أو صرفه في الحج الواجب عليه ولم يمكن له الجمع بينهما لأنّ المال لا يكفي إلا لأحدهما فإنَّه يقدم الذي قد أُخذ فيه القدرة العقلية دون ما أخذ فيه القدرة الشرعية؛ ففي المقام يقدَّم وفاء الدين على الحج لأنَّه قد أُخذ في موضوعه الإستطاعة وهي القدرة

ص: 223

الشرعية، لأنّ القدرة على الحج تنتفي مع وجوب ما يزيل القدرة عنه، فيرتفع الوجوب المشروط بها لقاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه. بخلاف المشروط بالقدرة عقلاً فإنّ الحكم مقيد بها عقلاً فيكونموضوعه فعلياً مع فعليته، وهذ الأمر واضح في الجملة. إلا أنه لا بُدَّ من بيان قضية وهي أنهم قد اختلفوا في المراد من القدرة الشرعية التي تكون دخيلة في موضوع الحكم الشرعي؛ فقال المحقق النائيني قدس سره (1) أنّ القدرة الشرعية ما تكون دخيلة في ملاك الوجوب بحيث لا مصلحة ملزمة في متعلقه عند العجز عن الإتيان به، والقدرة العقلية هي المأخوذة في موضوع التكليف لأجل استحالة تكليف العاجز، لا لأجل عدم مقتضي التكليف وملاكه في حقّه، فهو فعليّ على وجه الإطلاق حتى في حال العجز.

وقيل: إنّ المراد من القدرة الشرعية هو القدرة التكوينية في قبال العجز التكويني الإضطراري؛ فإنّه لا موجب لترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية لأنّ الملاك في كل واحد من الواجبين يكون فعلياً كما هو واضح، ومع فعلية الملاكين يكون اختيار أي واحد منهما تفويتاً للملاك الآخر، فهما من هذه الجهة على حدّ سواء.

وإن كان المراد من القدرة الشرعية هو القدرة القابلة للعجز مطلقاً الشامل للعجز الواقع باختيار المكلف لاشتغاله بضد واجب؛ فيتمّ ما ذكر من ترجيح ما هو المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية لأنّ الإشتغال بالأول لا يكون مفوتاً لملاك الآخر بل رافعاً لموضوعه، بخلاف العكس فإنَّه لم يفوت ملاك المشروط بالقدرة العقلية لفعلية ملاكه. وعليه؛ يكون إطلاق الخطاب المشروط بالقدرة العقلية لحال الإشتغال بالمشروط بالقدرة الشرعية بهذا المعنى غير ساقط لتحقق تقييد لبيّ عام يقتضي تقييد موضوع كل

ص: 224


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص272.

خطاب بعدم الإشتغال بضد واجب لا يكون ملاكه معلقاً على عدم الإشتغال بذلك المتعلق الذي يقل أهمية عن الضد الواجب.

وإن كان المراد من القدرة الشرعية القدرة هو القدرة المساوقة لعدم المانع التكويني وعدم المانع المولوي الشرعي ولو لم يكن مشتغلاً فعلاً بضد واجب بل مأموراً من قبل المولى بالإشتغال به؛ فإنَّه يتم الترجيح المذكور أيضاً لأنّ المشروط بالقدرة العقلية يكون بنفس فعليته وتنجزه رافعاً لموضوع الخطاب الآخر فيتحقق المانع الشرعي بذلك دون العكس. وهذا الوجه يرجع إلى ما نذكره من المعنى، وحق القول إنّ ما ذكر أشبه بالفروض العقلية، وأما إذا رجعنا إلى العرف في التمييز بين القدرتين نرى أنهم يحكمون بأنّ القدرة التي جعلت ميزاناً في الترجيح هي القدرة الخاصة أي القدرة على مباشرة العمل؛ بمعنى تهيئة أسبابه التي يتمكن معها من إتيان العمل ومباشرته له، وهذا هو المناسب للإحتمال الثالث من القول الثاني، لا القدرة العامة التي هي عبارة عن التمّكن من إتيانالعمل وعدم العجز عنه. ولا ريب أنّ القدرة التي يأخذها المولى في موضوع التكليف أو في مقدماته كالحج هي القدرة بالمعنى الأول أي القدرة الخاصة، وإلا فالقدرة بالمعنى الثاني معتبرة في كل تكليف، وشروطه بحكم العقل البديهي؛ فإن أخذها المولى كذلك يكون بلا وجه ولا تتحقق تلك الثمرة. فما ذكره بعض الأصوليين في المقام لا يخلو من تعقيد وإشكال فراجع.

ثم إنه لو علمنا بالقدرة الشرعية فلا إشكال، وأما لو شككنا في كون القدرة شرعية أو عقلية؛ إما لعدم دليل من الخارج، أو عدم قرينة من لسان دليل الحكمين يقتضي ذلك، فلا محالة يشك في كون القدرة دخيلة في الملاك فتكون شرعية أم لا؛ والبحث فيه تارة؛ يكون بحسب الأصل ومقتضاه، وأخرى؛ يكون بحسب القاعدة ومقتضى إطلاق دليلي الحكمين؛

ص: 225

فالبحث يقع من جهتين:

الجهة الأولى: في صور الشك فيها:

الصورة الأولى: أن يكون الشك في كلا الخطابين، فلا يعلم أنّ القدرة فيهما شرعية أو عقلية، ومقتضى الأصول العملية في هذه الصورة هو التخيير وعدم ترجيح أحدهما على الآخر لأنّ الشك يرجع إلى سعة الخطاب، والمرجع فيه هو البراءة لأنَّه مع العلم بوجوب كل واحد منهما على تقدير عدم الإشتغال بالآخر يحصل الشك في وجوب كل منهما على تقدير الإشتغال بالآخر فيرجع الشك في سعة التكليف وهو مجرى البراءة لا محالة.

الصورة الثانية: أن يحرز كون القدرة في أحد الخطابين -كالصلاة- شرعية، ويشك في الآخر -كالإزالة- في أنها شرعية أم عقلية:

فقيل: بلزوم الإحتياط في هذه الصورة لأنّ المكلف حين الإشتغال بالتكليف الذي يحتمل أن تكون القدرة فيها عقلية بالنسبة إليه يعلم بأنه لم يفوّت على المولى ملاكاً أصلاً لأنّ الخطاب الآخر قد افترض كون القدرة فيه شرعية، وأما إذا جاء بالآخر فيحتمل أنه قد فوّت على المولى ملاكاً كان فعلياً عليه.

وقيل: بالتخيير في هذه الصورة أيضاً لأنّ الشك فيها يرجع في الحقيقة إلى الشك في سعة الخطاب المشكوك فيه نوعية القدرة المأخوذة فيه لحال الإشتغال بالآخر، وهو من الشك في أصل التكليف خطاباً وملاكاً مع عدم ما يوجب التنجيز، فيكون مجرىً للبراءة. وهذا القول هو الأولى بالقبول وإن كان الأول هو الموافق للإحتياط.

الصورة الثالثة: عكس الثانية؛ بأن يحرز في أحدهما كون القدرة عقلية ويشك في الآخر كونها شرعية أم عقلية.

والصحيح هو الرجوع إلى البراءة أيضاً لأنّ المكلف يشك في كون القدرة خاصة فيها -كما تقدم في بيان القدرة الشرعية- وهو يحتاج إلى مزيد بيان، والمرجع فيه البراءة.

ص: 226

وقيل بالإحتياط بناءً على الإحتمال الثاني للقدرة في القول الثاني والبراءة على المعنى الثالث. وقد عرفت ضعف المبنى ويضعف البناء عليه.

والحاصل؛ إنَّه في جميع الصور الثلاث يكون المرجع هو البراءة.

هذا كله بحسب الأصل العملي.

الجهة الثانية(1): إنّ الصور الثلاث من الشك تجري في المقام أيضاً، وفي جميع هذه الصور؛ بناء على ما اخترناه في تفسير القدرة الشرعية أنها قيد يشك في أخذه في التكليف، والمرجع فيه الإطلاق في نفيه كما هو الحال بالنسبة إلى جميع القيود المشكوكة؛ ففي الخطابين المتزاحمين المشكوك في نوعية القدرة فيهما أو في أحدهما؛ هو الحمل على كونها قدرة عقلية والرجوع إلى الإطلاق في نفي احتمال كونها شرعية فيتعين التخيير أو ترجيح أحدهما المعين وهو الذي احرز كون القدرة فيه عقلية كما سيأتي بيانه.

ولكن ذهب بعض الأصوليين(2) إلى التفصيل بناءً على صور الشك الثلاثة المتقدمة فإنّ هناك ثلاث حالات، وخلاصة ما ذكره في المقام:

الحالة الأولى: أن يؤخذ في موضوع أحدهما القدرة بالمعنى الثالث في القول الثاني فيتقيد الخطاب بعدم الأمر بالضد الآخر؛ وحينئذٍ لا بُدَّ من التمسك بإطلاق دليل الحكم غير المقيد لإثبات فعليته فيكون وارداً على الحكم الآخر لأنّ التقييد بهذا المعنى زائداً على ما يقتضيه المقيد اللبي المتصل بالخطاب فينفي بإطلاق الدليل؛ نظير ما ذكره بعضهم في تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بمثل النذر والعهد والشرط؛ حيث ادّعى استفادة هذا النحو من التقييد من لسان أدلة وجوب الوفاء المقيدة بأن لا يكون مخالفاً مع كتاب

ص: 227


1- . أي البحث من ناحية القواعد ومقتضى إطلاق دليل الخطابين المتزاحمين.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص74 وما بعدها.

الله وشرطه، فإنّ العرف يفهم منه عدم الأمر بالخلاف. وهذا بخلاف دليل وجوب الحج فإنَّه مطلق من هذه الجهة، فلا يصحّ هذ القول إلا على هذا الوجه الفني.

الحالة الثانية: أخذ القدرة قيداً في لسان الدليلين معاً أو عدم أخذها في لسان شيء منهما؛ وفي هذه الحالة لا يمكن إثبات ترجيح أحد الخطابين على الآخر فلا بُدَّ من الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية.

الحالة الثالثة: أخذ القدرة قيداً في لسان أحد الدليلين دون الآخر؛ وقد حكموا في هذه الحالة بترجيح ما لم يؤخذ في لسان دليله قيد القدرة على ما أخذ فيه ذلك باعتبار أنّ ما أُخذ في لسان دليله القدرة تكون شرعية، وما لم يؤخذ فيه تكون القدرة عقلية.

فهنا حكمان؛ أحدهما ترجيح ما لم يؤخذ في لسان دليله القدرة، والآخر ما أخذ في لسان دليله القدرة الشرعية.أما الحكم الأول؛ فقد استدلوا عليه بأمرين:

أحدهما: التمسك بإطلاق المدلول الإلتزامي للخطاب بعد أن كان مدلوله المطابقي وهو التكليف مقيداً لبّاً بالقدرة، فلا يشمل حال العجز إلا أنّ مدلوله الإلتزامي وهو الكشف عن الملاك بما له إطلاق يشمل حال العجز، إذ لا دليل على تقييده بحال القدرة.

وأشكل عليه:

1- بتطابق الدلالتين المطابقية والإلتزامية ذاتاً وحجة، فإذا سقطت الأولى عن الحجية لم يبقَ ملاك الحجية في الثانية.

وفيه: إنه ممنوع صغرى وكبرى كما حققناه في محله إلا في التلازم في الوجود؛ فإنَّه لا إشكال فيه.

ص: 228

2- إنّ المقيد اللبّي المخرج لحال العجز يعتبر بمنزلة المخصص المتصل، وهو يمنع من انعقاد الدلالة المطابقية ذاتاً لا حجيةً فقط، والتبعية بين الدلالتين ذاتاً ووجوداً مِمّا لا إشكال فيه.

وفيه: إنّ العرف يرى أنّ إطلاق الخطاب تامٌّ ذاتاً وحجيةً إلا أنه لم يتنجز الإمتثال في حالات العجز، وهو لا يمنع عن فعلية ملاك الخطاب.

ثانيهما: التمسك بإطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني؛ وهو الملاك كما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ للمادة محمولين في عرض واحد؛ أحدهما الحكم والخطاب، الآخر الملاك. فكما أنّ إطلاق المادة في الحكم يشمل حالاتها كذلك يقتضي بإطلاق المادة في الملاك ليعمّ تمام مواردها. والمقيد اللّبي المذكور يقيّد المحمول الأول فلا يثبت في حال العجز، ولكن الملاك يبقى على إطلاقه ليثبت في حال العجز.

ويرد عليه: إنه بعيد عن فهم العرف حيث لا يرى في الخطاب إلا دلالته على الحكم فقط، فليس للمادة إلا محمول واحد وهو غير ثابت في حال العجز، وأما الملاك فإنَّه يستكشف بالدلالة الإلتزامية العقلية؛ فقد يكون ثابتاً حتى بعد انتفاء الحكم كما ذكرناه في الفقه.

وأما الحكم الثاني؛ وهو أنّ كل ما أخذ في دليله القدرة تكون القدرة شرعية، فهو صحيح على ما اخترناه من أنها قدرة خاصة سواء كان اللسان عنوان القدرة أم الاستطاعة أم غيرهما؛ إذ المناط هو استفادة العرف كونها قدرة خاصة دخيلة في تحقق العمل ومباشرته بتهيئة أسبابه. فما ذكره السيد الصدر قدس سره وغيره من الإشكال على ذلك إنَّما هو تبعيد للمسافة وخروج عن الذوق العرفي، بل هي مجرد فروض عقلية لا تخفى على من راجع كلامه قدس سره في المقام.

ص: 229


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص75-76.

ثم إنهم ذكروا خصائص لهذه القدرة الشرعية وهي:

1- إنّ القدرة الشرعية إذا أخذت في موضوع التكليف أو أخذت في شرائطه كالحج كانت شرطَ الوجوب، فلا يجب تحصيلها كما لا يجب العمل بها عند عدم حصولها كما هو المعروف بين الأصوليين والفقهاء، بخلاف ما إذا لم تكن القدرة شرعية بأن لا تؤخذ في موضوع التكليف ولا في شرائطه كانت من شرائط وجوده، فيجب تحصيلها وإتيان العمل بها. ومن أجل ذلك قالوا بأنه لا يجب على المكلف قبول الهدية التي تكفي لحجه ولا يجب عليه استيفاء الدين كذلك، بخلاف ما لو كان له دين فإنَّه يجب عليه استيفاء دينه لوفاء الدين الذي عليه، وغير ذلك من الفروع المذكورة في الفقه.

2- إنّ القدرة المذكورة التي أخذت في موضوع التكليف لا بُدَّ أن تكون قبل وجود التكليف؛ فالقدرة على الحج لا بُدَّ أن تكون قبل وجود الحج.

ثم إنه لا يخفى أنّ محلّ الكلام في المقام فيما إذا حصل واجب فعلي قبل القدرة الشرعية التي أخذت في موضوع الواجب الآخر ثم حصلت له هذه القدرة الشرعية؛ كما إذا كان عليه وجوب وفاء الدين ثم حصل له المال بحيث لو لم يكن عليه وجوب الدين لكان عليه الحج؛ فيقع البحث في وقوع التزاحم بينهما أو الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم. وأما إذا حصلت القدرة الشرعية قبل أن يتحقق الواجب الآخر فيما لو استطاع للحج وبعد تحققها ودخول وقت الحج استحق دين عليه، أو وجبت دية عليه فإنَّه لا ريب في تحقق المزاحمة بينهما.

والحاصل؛ إنّ محل الكلام ما إذا كان وجوب الواجب فعلاً فيما لو كانت له قدرة لا يمكن صرفها إلا فيه أو في الحج يكون وجوب الحج مزاحماً له.

ص: 230

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ وجوب الواجب كوفاء الدين الذي لم تؤخذ القدرة في موضوعه هو المقدّم لأنَّها بوجوبه لرفع القدرة التي هي من شرائط الحج تكون مقدمة في ذلك الواجب فيجب صرفها فيه لفعليته، بخلاف الحج حيث لم يكن في هذه الحال واجباً عليه حتى لو دخل وقته لأنّ القدرة منعت من صرفها فيه.

ومن أجل ذلك قالوا بأنه لو كان عنده نصاب الزكاة وقد استحق عليه الدين فعلاً لم تجب عليه الزكاة إذا كان الدين مِمّا يوجب نقص المال عن النصاب لأنَّه يعتبر في الزكاة التمكن من التصرف في النصاب بعد بلوغه. وللمقام أمثلة كثيرة في الفقه.

وعمدة الكلام؛ إنّ ما أُخذت القدرة فيه عند دخول وقته لم يكن واجباً عليه لارتفاع موضوعه وهو القدرة الشرعية لمنع صرفها فيه، ولعل السرّ يرجع إلى أنّ أخذ القدرة قيداً في واجب كالحج يكشف عن دخلهما في موضوعه ومصلحته، وعدم أخذها في الحكم الآخر كالوفاء بالدَّين يكشف عن دخلها في موضوعه ومصلحته؛فإذا تحقق التزاحم بينهما فإنّ ما لم تؤخذ القدرة في موضوعه يكون واجداً لموضوعه ومصلحته قطعاً، والآخر لم يعلم تحقق موضوعه ووجدانه للمصلحة، والعقل يرجح الأخذ بما هو معلوم الموضوع على ما هو مشكوك الموضوع، وقد عرفت ما يتعلق بذلك أيضاً.

ثم أنه قد وقع البحث في أنّ هذا المرجح (وهو تقديم غير المشروط بالقدرة الشرعية على المشروط بها) هل يشمل صورة ما إذا كان المشروط بالقدرة الشرعية أهم ملاكاً من غير المشروط بها.

والصحيح هو الإطلاق؛ لأنّ الخطاب المرجوح ملاكاً رافع لموضوع الآخر فيكون وارداً عليه بنفس فعليته، فلا يكون في الآخر ملاك حتى يبحث في تقديمه عليه.

ص: 231

المرجح الثاني: ترجيح المضيق

بأن يكون أحد الواجبين المتزاحمين مضيقاً والآخر موسعاً؛ فإنّ الترجيح يكون للأول كما إذا وجب عليه صلاة الكسوف الجزئي أول الزوال فإنَّه يقدم الفرد الواجب من صلاة الكسوف الجزئي على الفرد الواجب من صلاة الظهر، مع أنّ كل واحدة منهما واجدة لملاك الوجوب وموضوعَ الوجوب تامٌّ فيه.

ودليله واضح، لأنَّ بإتيانه لصلاة الكسوف لم يفوت واجباً عليه بخلاف ما لو صلى الظهر، فإنَّه يفوت عليه صلاة الكسوف في وقتها لغرض كونه جزئياً.

ومن هذا الباب التزاحم بين إزالة النجاسة عن المسجد الواجب فوراً وبين الصلاة فيه مع سعة الوقت، ولو انعكس الأمر بأن كانت الصلاة في آخر وقتها فتقدَّم الصلاة حينئذٍ.

المرجح الثالث: ترجيح الأسبق زماناً.

وذلك فيما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين أسبق زماناً من الآخر بأن يكون وقت امتثاله سابق على وقت امتثال الآخر؛ وقد ذكروا أن التقديم يكون للأسبق زماناً وترجيحه على المتأخر زماناً، واستدل عليه بأنّ خطاب الأسبق يكون فعلياً قبل فعلية مزاحمه، فتركه غير معذور فيه. فإذا امتثل الأسبق فإنَّه لا يبقى معه مجال لفعلية الخطاب المتأخر حيث ترتفع القدرة فيه.

هذا إذا لم يكن شرط صحة امتثال المتأخر إتيان الأول كالظهر والعصر فإنَّه لا إشكال حينئذٍ؛ ومثال ذلك ما لو دار أمره بين الركوع في الركعة الأولى أو الثانية، وكذا القيام في الأولى أو الثانية فإنَّه يقدم الركوع في الأولى لفعلية وجوبه، وبإتيانه لم يبق له قدرة على الثاني في وقته.

وقد استشكل بعض الأصوليين(1) في مرجحية الأسبقية لأنّ الواجبين المتزاحمين؛ إمّا أنْ تكون القدرة مأخوذة فيهما عقلاً، وإمّا أنْ تكون مأخوذة شرعاً بأن يكونا مشروطين

ص: 232


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص101.

بالقدرة الشرعية، أو تكون القدرة مطلقة فيهما؛ وعلى الأول لا ترجيح بالأسبقية لأنّ كلا الخطابين مقيد لبّاً بقيد واحد، وهو عدم الإشتغال بضدّ واجب فعلي ملاكه مساوٍ أو أهم كما تقدم بيانه. وعليه؛ فكما يكون الإتيان بالأسبق زماناً رافعاً لفعلية الخطاب المتأخر كذلك يكون الإتيان بالمتأخر في زمانه رافعاً لفعلية الخطاب المتقدم وهو معنى الترجيح.

وأما على الفرض الثاني فقد يتوهم الترجيح لأنّ القدرة الشرعية التي لها الدخل في الملاك والفعلية من حقّ الأسبق، بخلاف المتأخر لأنّ الإتيان بالأسبق يرفع القدرة على الواجب المتأخر في ظرفه، بخلاف الواجب المتأخر فإنَّه لا يرفع القدرة على الأسبق في الزمان المتقدم وجداناً.

ولكنه غير تام لأنّ الواجب المتأخر إن فرض أنّ ملاكه مشروط بالقدرة على الواجب في ظرف امتثاله بالخصوص فيكون ارتفاع فعلية الخطاب المتأخر بامتثال المتقدم وإن كان ثابتاً، إلا أنه ليس من باب ترجيح أحد المتزاحمين بما هما واجبين على الآخر، بل باعتبار قيد خاص في أحد الخطابين بنحو يرتفع بإتيان الفعل المتقدم ولو لم يكن واجباً وهو خارج عن محل الكلام.

وإن فرض أنه مشروط بمطلق القدرة المحفوظة مع الإشتغال بالضدّ -كما هو المفروض في موارد التزاحم- فهذه القدرة كما هي فعلية في حق الواجب للأسبق زماناً، كذلك هي فعلية في حق المتأخر زماناً؛ إذ يمكن للمكلف أن يحفظ قدرته للواجب المتأخر بترك المتقدم.

والصحيح؛ هو القول بأنه يكفي السبق واللحوق في الفعلية للواجبين والترجيح للسابق زماناً بحكم العقلاء بأنّ إتيانه رافع لفعلية المتأخر زماناً لانتفاء القدرة عليه، سواء كانت القدرة شرعية أم عقلية أم مطلق القدرة، وإن كانت بحسب الفروض العقلية تخرج عن

ص: 233

المتفاهم العرفي كما ذكره الأصوليون(1) في وجه ترجيح الأسبق زماناً، هو الأولى بالقبول بالنظر العرفي. ومع ذلك فقد يخرج عن هذا المورد فيما إذا كان المتأخر زماناً أهم؛ كما إذا دار الأمر بين بذل المال فعلاً للوضوء وبين بذله بعد يوم لحفظ النفس أو العرض قُدِّم حفظ النفس أو العرض، وإن كان متأخراً زماناً لحكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الواجب الأهم بتفويت القدرة عليه كما يقال في وجوب المعرفة أيضاً.كما انه يتعين الترجيح للأسبق زماناً فيما إذا كان يحتمل فوات الواجب المتأخر زماناً بعجزٍ أو موتٍ أو نحو ذلك؛ فإنَّه مع وجود هذا الإحتمال يصح القول بلزوم تقديم الأسبق والمبادرة إليه تمسكاً بإطلاق خطابه لإثبات فعليته وتنجزه.

المرجح الرابع: ترجيح الواجب المعين على الواجب المخيّر

كما إذا وجب عليه وفاء الدين وكان عليه إحدى الكفارات الثلاث، وليس عنده من المال إلا ما يكفي لوفاء الدين أو الإطعام أو عتق رقبة؛ فإنَّه يقدم الوفاء للدين لأنَّه بارتكابه لا يحصل مخالفة المولى، بخلاف ما إذا أطعم أو أعتق فإنَّه يلزم المخالفة لوجوب الوفاء.

المرجح الخامس: ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل.

وذلك فيما إذا كان أحد الواجبين فرداً لواجب لا بدل له إضطراري، والآخر له بدل إضطراري؛ وقد مثلوا لذلك بما إذا وجب عليه إزالة النجاسة عن بدنه ووجب عليه الوضوء للصلاة وليس عنده من الماء ما يكفيه لهما معاً؛ فقالوا أنه يقدّم ما لا بدل له على ما له بدل، فيصرف الماء في تطهير البدن وإتيان الآخر ببدله وهو التيمم؛ لأنَّه مع تقديم الأول لا يفوت على المكلف واجب، بخلاف ما إذا ارتكب الثاني فإنَّه يفوت الآخر منه دون أن يتداركه ببدل.

ص: 234


1- . المصدر السابق؛ ص120-121.

وقد ناقش بعض الأصوليون في أصل المقام وبعضهم في المثال.

والتحقيق أن يقال: إنه إذا أحرزنا أهمية أحدهما عند المشرع فلا إشكال في تقديم الأهم على الآخر كما إذا دار الأمر بين صرف الماء في حفظ النفس المحترمة وبين صرفه في الوضوء أو الغسل؛ قُدّم الأهم كما سيأتي بيانه.

وأما إذا لم نحرز الأهمية سواء أحرزنا تساويهما في الشرع بأن أحرزنا احتمال الأهمية في كل واحد منهما كما هو مفروض الكلام؛ كما في مثال دوران الأمر بين إزالة النجاسة والوضوء فإنّ العقل في مقام الإمتثال يقدم ما ليس له البدل لوجهين:

الأول: إنه من الواضح أنّ التزاحم بين الواجبين يوجب منع امتثال أحدهما من الإتيان بالآخر فيكون بينهما تمانع عقلاً.

فالمحكمّ هو العقل حينئذٍ وهو يحكم بتقديم ما ليس له البدل لأنّ الشارع قد أمر بترك ما له البدل عند المنع منه إلى بدل دون الآخر.

الوجه الثاني: إنّ المقام يدخل في موارد الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الإمتثال عند العقل لاحتمال تعيين ما ليس له البدل على الآخر لعدم قيام بدل له مقامه، ولا يحتمل تعيّن ما له البدل عليه لتساويهما في المصلحة أو تساويهما في احتمال الأهمية، فإنّ العقل يحكم في مقام الإمتثال بتقديم ما ليس له البدل كذلك.

ومما ذكرناه يظهر الجواب عما استشكله بعض الأصوليين على ذلك بأنّ الكلام فيما له بدل طولي الذي يكون متفرعاً على العجز من الإتيان بالمبدل. ومنالواضح أنّ الأمر يقتضي متعلقه بالخصوص، ولو كان له بدل طولي أنما يقتضي متعلقه بالقياس إلى بدله العرضي كما في الواجب التخييري؛ فلو فرض أنّ لأحد الواجبين بدلاً عرضياً لا يزاحم الواجب الآخر كان ذلك خروجاً عن باب التزاحم.

ص: 235

ولا يخفى أنّ هذا الإيراد خارج عن موارد البحث بعد البيان الذي ذكرناه من الوجهين السابقين، فما بنى عليه السيد الصدر قدس سره (1) يكون من لزوم ما لا يلزم.

المرجح السادس: الترجيح بالأهمية.
اشارة

والبحث فيه تارة؛ من حيث الفروض المتصورة من الأهمية، وأخرى؛ من حيث طرق إثبات الأهمية، وثالثة في سريان الترجيح بالأهمية إلى المشروطين بالقدرة الشرعية.

فالكلام يقع في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في الفروض المتصورة

وهي ثلاثة:

الفرض الأول: ما إذا ثبت أنّ أحد الواجبين المتزاحمين أهم من الآخر فلا إشكال في تقديمه على الآخر؛ كما إذا دار الأمر بين إنقاذ الإمام وإنقاذ شخص مسلم. ويمكن الإستدلال عليه بأحد وجوه:

أوّلها: حكم العقل بلزوم تقديم خطاب معلوم الأهمية على الآخر لأنّ تركه يوجب تفويت الملاك المولوي المنجز من دون عذر، وتحصيل ملاك المهم لا يكون عذراً لتفويت ما في الملاك الآخر من الزيادة بخلاف العكس.

وبعبارة أخرى: إنّ الأمر دائر بالنسبة إلى الملاك وروح الحكم بين تحصيل الملاك الأقل أو الأكثر في مقام الإمتثال، والعقل يحكم بلزوم تحصيل الملاك الأكثر بعد تنجزه بالعلم فلا يجوز تفويته.

والمراد من الملاك هو ما يهتم به المولى من المصلحة وغيرها والتي تدخل في العهدة وتتنجز بحكم العقل، لا مجرد المصلحة الواقعية.

ص: 236


1- . المصدر السابق؛ ص83.

وهذا الوجه صحيح، ولكنه موقوف على أن يكون الملاك فعلياً على كل حال حتى في حال الإشتغال بالمهم، وأما إذا كان ملاك الأهم تعليقياً؛ أي مشروطاً بالقدرة الشرعية على المهم، أو احتمل ذلك فلا يكون الإتيان بالمهم تفويتاً لملاك الأهم كما لا يخفى.

وثانيها: وجود القيد اللبّي العام -الذي تقدم بيانه- الدالّ على عدم الإشتغال بضدّ واجب لا يقل أهمية عن المتعلق؛ وهذ القيد ينطبق على الإشتغال بالأهم بالنسبة إلى المهم فيكون رافعاً لموضوع وجوب المهم، ولكنه لا ينطبق على الإشتغال بالمهم لأنَّه اشتغل بواجب أقل أهمية كما هو المفروض فيبقى إطلاق دليل الأهمعلى حاله، ولا ملزم عقلاً بتقييده بحال عدم الإشتغال بالمهم وهذا يعني أنّ امتثال وجوب الأهم يرفع موضوع وجوب المهم دون العكس، فيكون دليل الأهم وارداً على دليل المهم أيضاً.

وقد يتوهم بأنّ إطلاق خطاب الأهم في فرض الإشتغال بالمهم إنَّما يمكن التمسك به إذا كان ملاك الأهم فعلياً حتى حين الإشتغال بالمهم؛ أي مشروطاً بالقدرة العقلية، وأما إذا كان مشروطاً بالقدرة الشرعية فلا يكون فعلياً حتى الإشتغال بالمهم، والعلم بالأهمية لا دخل له في تعيين القدرة لكونها عقلية أو شرعية في الأهم. كما أنّ إطلاق الخطاب أيضاً لا يثبت كون القدرة عقلية في الواجب إلا بالقياس إلى واجب آخر ثبت كون القدرة فيه شرعية. فلا يمكن لنا إثبات كون ملاك الأهم فعلياً في فرض الإشتغال بالمهم حتى يكون الإشتغال بالأهم رافعاً لموضوع المهم.

وهذا التوهم مردود بأنه يمكن إثبات كون ملاك الأهم فعلياً في فرض الإشتغال بالمهم؛ أي كون القدرة فيه عقلية بالقياس إلى المهم بنفس إطلاق الخطاب، لأنّ القيد اللبّي مشروط بأمرين هما؛ أن لا يقل عنه في الأهمية، وأن يكون ملاكه محفوظاً حين الإشتغال بالواجب؛ فإذا انتفى أحدهما كفى ذلك في التمسك بإطلاق الخطاب لفرض الإشتغال به

ص: 237

إذ لا موجب لتقييد زائد. وفي المقام يعلم بانتفاء الشرط الأول في المهم، فالمقيد اللبّي غير منطبق عليه فيصحّ التمسك بإطلاق خطاب الأهم لغرض الإشتغال بالمهم وبه تثبت فعليته خطاباً وملاكاً ويتم الورود.

وثالثها: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ التكليف بالأهم بما هو كذلك يصلح أن يكون معجزاً مولوياً للمكلف عن الطرف الآخر دون العكس، فتكون نسبة الأهم إلى غيره كنسبة الواجب إلى المستحب أو المباح, كما لا يمكن أن يكون المباح أو المستحب مزاحماً للواجب كذلك لا يمكن أن يكون المهم مزاحماً للأهم.

وهذا الوجه إن أمكن إرجاعه إلى الوجه الأول فلا بأس به كما هو الظاهر، وإلا ففيه خفاء فراجع.

الفرض الثاني: ترجيح محتمل الأهمية على غيره وقد ذكروا في توجيهه أحد وجوه:

الوجه الأول: ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني قدس سره كما في بعض التقريرات(2) من أنه بناء على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين والإلتزام بالترتبمن الجانبين؛ فإذا علمنا بأهمية أحدهما دون الآخر فقد علمنا بسقوط الإطلاق عن الآخر، وباشتراطه بعدم الإتيان بمتعلق الأول.

وأما ما يحتمل أهميته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بُدَّ من الأخذ به، وعلى هذا الأساس يقدَّم محتمل الأهمية على غيره في مقام المزاحمة.

وفيه: إنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ مع احتمال المساواة في الأهمية لا يمكن لنا التمسك بالإطلاق. ويمكن مناقشته كما يأتي إنْ شاء الله تعالى.

ص: 238


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص277.
2- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص274.

الوجه الثاني: التمسك بأصالة الإشتغال العقلية؛ لأنَّه مع الإتيان بمحتمل الأهمية يعلم بسقوط الخطاب الآخر، لأنَّه مقيد بعدم الإشتغال بالمساوي أو الأهم، ومحتمل الأهمية لا بُدَّ أن يكون أحدهما. أما الإتيان بغير محتمل الأهمية فإنَّه لا يعلم بسقوط خطاب محتمل الأهمية لعدم إحراز كون ما أُتي به مساوياً فيكون المورد من موارد الشك في السقوط فالمرجع هو أصالة الإشتغال.

ويرد عليه: إنّ الشك في السقوط الذي هو مورد أصل الإشتغال هو الشك الحاصل من الشك في الإمتثال بعد العلم بثبوته، والمقام ليس كذلك؛ فإنّ الشك يكون في سعة دائرة القيد المأخوذ في موضوع خطاب محتمل الأهمية من أول الأمر، فيرجع إلى الشك في التكليف الزائد.

الوجه الثالث: التمسك بأصالة الإشتغال بتقريب آخر؛ وهو إنّ عدم الإشتغال بكلٍّ منهما مفوّت لغرض لزومي للمولى، ولكن هذا التفويت إذا انطبق على تفويت غير محتمل الأهمية بالإشتغال بمحتمل الأهمية فهو تفويت معذور فيه من قبل المولى، وفي غيره لا يعلم بالمعذورية لعدم إحراز المساواة، والعقل يحكم بالأول.

والحق؛ إنّ هذا الوجه يمكن إرجاعه إلى الوجه الأول وإثبات إطلاق محتمل الأهمية من دون أن يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ وذلك لأنّ رفع اليد عن الإطلاق لا يصحّ إلا بمقدار ما تمّ البرهان عليه، والمفروض أنّ القيد العام في كل خطاب هو عدم الإشتغال بضدٍّ واجب معلوم المساواة أو معلوم الأهمية أو محتملها، وعليه يكون الإشتغال بمحتمل الأهمية رافعاً لموضوع الخطاب الآخر دون العكس. وبذلك يظهر أنه لا حاجة إلى الإستدلال بإدراج المقام في مسألة الدوران بين التعيين والتخيير؛ فإنَّه تطويل للمسافة.

ص: 239

الفرض الثالث: الترجيح بقوة احتمال الأهمية؛ والمراد به أنّ إحتمال الأهمية في أحد الواجبين المتزاحمين أقوى منه في الآخر فيقدَّم الأول. والدليل نفس ما ذكرناه في محتمل الأهمية، وذلك للقيد الذي ذكرناه آنفاً وتوسعته بما يشمل المقام؛ أي الإشتغال بما يعلم أنه إما مساوٍ أو أهم أو يحتمل فيه الأهمية؛ مساوياً في الآخر أو أقوى منه، فإذا اشتغل بما يكون احتمال الأهمية أضعف من احتمالها في الآخر فلا ضرورة لسقوط إطلاق ذلك الخطاب فيها.ومن جميع ذلك يظهر أنه في موارد احتمال الأهمية أو قوة احتمالها في أحد الخطابين يحكم العقل ببقاء إطلاق الخطاب وعدم تفويت ملاك الأهم أو محتمله أو ما فيه قوة الإحتمال.

الجهة الثانية: طرق إثبات الأهمية.

وهي كثيرة ترجع إلى الاستظهارات العرفية في لسان الدليل والمناسبات والنكات التي تختلف من مقام إلى مقام، وأهمها:

1- إطلاق الخطاب الشامل لصورة الإشتغال بالواجب الآخر؛ والذي يكشف عن أهمية ملاكه ورجحانه على ملاك الآخر. وهذا الطريق يختص بما إذا كان دليل الخطاب لفظياً ودليل الخطاب الآخر لبّياً لا إطلاق فيه.

وأُشكل عليه بأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصّصه اللبّي كما تقدم بيانه. ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ الإطلاق إذا استفيد من اللفظ ولم يكن مجملاً من هذه الناحية فيؤخذ به، بخلاف الآخر الذي لم يثبت له إطلاق فيؤخذ فيه بالقدر المتيقن، وفي غير هذه الصورة يشكل الإعتماد على الإطلاق في تعيين الأهمية.

لسان الدليل؛ وهو على أنحاء: فتارة؛ يكون أحدهما دالاً على شدة اهتمام المولى بمتعلقه بتعظيم شأنه؛ كالصلاة التي ورد أنها (عمود الدين، إن قُبلت قُبل ما سواها وأن رُدّت رُدّ

ص: 240

ما سواها)(1). وأخرى؛ بتشديد العقاب الدنيوي أو الأخروي على تركه؛ كحفظ النفس المحترمة، وثالثة؛ بشدة الحثّ على طلبه وتأكيد إرادته ووجوبه ونحو ذلك.

إستفادة الأهمية من الأدلة الثانوية التي تتكفل أحكام ذلك الواجب؛ مثل ما ورد في حق الصلاة من أنها (لا تترك بحال)(2) فإنَّه يستفاد منه أنّ الصلاة الأعم من الإختيارية والإضطرارية أهم من غيرها الذي لم يرد فيه ذلك، فقد اهتم المولى بملاكاتها.

2- مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الذهن العرفي بحيث تجعل ظهوراً عرفياً للخطاب الشرعي؛ ويكثر هذا في الأدلة المتكفلة لبيان أحكامٍ مركوزة عند العقلاء؛ نظير حرمة الغصب ووجوب حفظ النفس1- المحترمة عند التزاحم بينهما، فإنَّه لا إشكال في لزوم حفظ النفس المحترمة ولو أدى إلى إتلاف شيء من ماله أو التصرف فيه من دون إذنه لأنّ حفظ مال الغير وملاكه يعتبر من شؤون حفظ نفس الغير ومن تبعاته، فلا يعقل أن يكون مزاحماً لحفظ النفس. وهذا الإرتكاز العرفي هو الذي يعطي لدليل وجوب حفظ النفس المحترمة ظهوراً في أهمية ملاكه، فيرجّح خطابه على خطاب حرمة الغصب.

2- كثرة النصوص على الحكم من قبل الشرع؛ فإنَّه يدل على مزيد اهتمام الشارع به وبملاكه، بشرط أن تنحصر النكتة في هذا الأمر فإنّ أكثر النصوص في أحد

ص: 241


1- . لم يرد هذا النص كرواية، وإنما هو قول مشهور يذكره الأعلام كمقدمة ترغيبية في كتاب الصلاة؛ كما ذكره في الفقه الرضوي؛ ص100، والصدوق في الأمالي؛ ص641، والمقنع؛ ص73. نعم؛ نسبها في فلاح السائل؛ ص127 إلى الصدوق في من لايحضره الفقيه بإسناده إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ولم نجده فيه.
2- . لعلّ المقصود هو ما رُوي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ لَا تُتْرَكُ عَلَى كُلِ حَالٍ؛ إِذَا طُفْتَ بِالْبَيْتِ, وإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُحْرِمَ, وصَلَاةُ الْكُسُوفِ, وإِذَا نَسِيتَ فَصَلِّ إِذَا ذَكَرْتَ, وصَلَاةُ الْجِنَازَةِ). [الکافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص288].

الحكمين لها مناشئ متعددة؛ منها كون الحكم محلاً للإبتلاء أكثر من الآخر, أو كونه ما يغفل عادةً، أو كونه مورداً لسؤال الرواة كثيراً وغير ذلك من المناشئ المختلفة. وحينئذٍ إن حصل لنا الإطمئنان بوجه من الوجوه بعدم وجود منشأ للأكثرية سوى كون الحكم له من الأهمية عند الشارع كان ذلك من موجبات ترجيحه على الآخر إن لم يكن مانع في البين.

الجهة الثالثة: في سريان الترجيح بالأهمية إلى المشروطين بالقدرة الشرعية.

بعدما عرفت أنه لا إشكال في الترجيح بالأهمية، كما لا إشكال في ذلك إذا كان في الحكمين المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقلية وكذلك الحال في المشروطين بالقدرة الشرعية، وإن اختار المحقق النائيني قدس سره عدم الترجيح بالأهمية في المشروطين بالقدرة الشرعية لأنّ الأهمية إنَّما توجب التقديم فيما إذا كان كل من الملاكين تاماً وفعلياً، وفي المشروطين بالقدرة الشرعية يكون كل من الملاكين موقوفاً على القدرة على تحصيله فلا محالة يكون أحد الملاكين غير ثابت في نفسه لاستحالة ثبوت كلا الملاكين مع عدم ثبوت القدرتين، فلا يعلم إنّ ما لم يثبت من الملاك هل هو الأهم على تقدير وجوده أو غيره؛ فلم يكن الدوران بين تفويت الملاك الأضعف وبين تفويت الملاك الأقوى ليتعين بحكم العقل تفويت الأضعف، بل الدوران في أصل ثبوت الملاك وأنه واقعاً هل هو الأضعف أو الأقوى. ولا موجب لترجيح احتمال كونه الأقوى على احتمال كونه الأضعف كما هو الحال في باب التعارض فيما إذا دلّ دليل على ثبوت ملاك وجوبي شديد والآخر دلّ على ملاك إستحبابي، وعلمنا بكذب أحد الدليلين؛ فإنَّه لا يقدَّم دليل الوجوب على دليل الإستحباب، فكذلك المقام فإنه لا يقدَّم احتمال الملاك الأقوى على احتمال الملاك الأضعف.

ص: 242

وأشكل عليه بأنّ باب التزاحم يختلف عن باب التعارض الذي يعلم إجمالاً بكذب أحد الدليلين كما تقدم، ولكن التزاحم ليس كذلك حتى في مثل المشروطين بالقدرة الشرعية؛ وذلك للعلم بفعلية الملاك الأهم في المقام لأنَّه ثابت على تقدير القدرةعقلاً وشرعاً بدليل وجوب الأهم بلا معارض، إذ لا مانع عقلي ولا شرعي من الإتيان به. فالمقتضي وهو نفس تقدير القدرة عقلاً وشرعاً محرزٌ وجداناً، أما انتفاء المانع العقلي فهو واضح، وأما المانع الشرعي فلأنّ ما يتصور كونه مانعاً شرعياً هو الأمر التعييني بالآخر فهو غير محتمل لوضوح عدم المعيِّن له، فالأمر دائر بين التخيير وتعيين الأهم، وأما تعيين غيره فهو غير محتمل؛ فالقدرة على الأهم عقلاً وشرعاً تامة فيتمّ ملاكه وخطابه ويكون بذلك معجزاً مولوياً عن الوجوب الآخر ورافعاً لملاكه.

وفصلَّ السيد الصدر قدس سره (1) بأنه؛ إن كان المراد بالقدرة الشرعية عدم الإشتغال بواجب آخر فما ذكره المحقق النائيني قدس سره من عدم الترجيح بالأهمية صحيح، لأنّ كل واحد من الخطابين مشروط بحسب الفرض ملاكاً وخطاباً بعدم الإشتغال بواجب آخر، ويكون الإشتغال بكل منهما رافعاً لوجوب الآخر ملاكاً وخطاباً، فيكون التوارد من الطرفين وهو بمعنى التخيير في باب التزاحم.

ويرد عليه: إنّ هذا المعنى غير ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من قياس المقام على موارد التعارض واحتمال وجود الملاك الأهم.

وإما أن يكون المراد بالقدرة الشرعية هو عدم العجز المولوي؛ بمعنى عدم الأمر بالخلاف المقتضي لصرف القدرة إليه تعييناً فيكون الأمر التعييني بالخلاف المنجز على المكلف معجزاً مولوياً فيتم الترجيح بالأهمية في المقام أيضاً؛ إذ الأهم يكون ملاكه فعلياً على كل

ص: 243


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص95-96.

حال لثبوت القدرة عليه عقلاً وعدم المنجز للخلاف شرعاً بعد تقييد خطابه بالقدرة عقلاً وشرعاً بالمعنى المذكور.

وإن أُريد بالمعجز المولوي واقع الأمر التعييني بالخلاف؛ فإذا أُريد الأمر بالخلاف الناشئ عن مقتضى ملاكي التعيين ثم الترجيح بالأهمية أيضاً لأن الخطاب المهم لا يحتمل في حقه تعيين ينشأ من ملاك تعييني؛ فيكون إطلاق وجوب الأهم رافعاً لموضوع وجوب المهم خطاباً وملاكاً باعتباره معجزاً مولوياً وأمراً تعييناً بالخلاف.

وأما إذا أُريد الأمر بالخلاف ولو من دون مقتضٍ ملاكي لتعيينه فلا يتم هذا الترجيح فإنَّه كما يحتمل ثبوتاً ذلك أي جعل الوجوب التعييني للأهم وجعل الإطلاق للأمر بالأهم؛ كذلك يحتمل جعل خطابين مشروطين بعدم الإشتغال بالآخر أو جعل الإطلاق للأمر بالمهم ولو من باب اختيار أحد الجعلين المتساويين وترجيحه على الآخر بلا مرجح؛ من دون محذور عقلي لارتفاع أصل ملاك الأهم بحسب الفرض كما في المقام، فلا يصحّ التمسك بإطلاق خطاب الأهم حال الإشتغال بالمهم، كما لا يصحّ العكس أيضاً لأنَّه من التمسك بالعام فيالشبهة المصداقية، وفي هذ الفرض يتم فرض المحقق النائيني قدس سره من احتمال وجود الملاك الأهم نظير موارد التعارض.

والحق أن يقال: إنه لا فرق في كون القدرة المأخوذة في الواجبين عقلية أو تكون شرعية؛ فإنّ العرف يرى أنّ للأهمية دخل في ترجيح أحدهما على الآخر، وإنَّما الفرق بينهما هو أنّ في الخطابين المشروطين بالقدرة العقلية يكون الخطاب تامّاً ملاكاً وفعلاً، وفي المشروطين بالقدرة الشرعية التي يكون ملاك جعلها لكونها الوسيلة لإتيان العمل ومباشرته؛ فإذا كان في أحدهما الأهمية يحكم العرف بأنه المتقدم على الآخر، وباختياره يسقط الخطاب الآخر المهم ملاكاً وفعلاً.

ص: 244

حكم التزاحم في حالة عدم الترجيح

لا ريب عند فقد المرجّحات وفرض التساوي بين المتزاحمين يثبت التخيير بينهما، ولكن وقع الكلام في كونه تخييراً عقلياً أو تخييراً شرعياً.

والمراد بالتخيير العقلي؛ وجود خطابين شرعيين تعيينيين كلٍّ منهما مشروط بعدم امتثال الآخر، وإنما يتخير بينهما في مقام الإمتثال بحكم العقل.

والمراد بالتخيير الشرعي؛ وجود خطاب واحد تخييري بدلاً من خطابين مشروطين.

وتظهر الثمرة من هذا البحث في وحدة العقاب وتعدده؛ فإنَّه بناءً على كونه تخييراً عقلياً يتعدد العقاب على العاصي بتركهما معاً لأنَّه عصى خطابين شرعيين. وأما بناءً على التخيير الشرعي فلا يكون عاصياً إلا لخطاب واحد.

وحق الكلام أن يكون في مقامين:

المقام الأول: في كون التخيير عقلياً أو شرعياً؛ والظاهر كونه تخييراً عقلياً مطلقاً؛ سواء كان الخطاب مشروطاً بالقدرة الشرعية؛ أي يكون الإشتغال بالضد الواجب رافعاً للملاك والخطاب معاً أم كان مشروطاً بالقدرة العقلية.

والدليل عليه؛ ظاهر دليل كل واحد من الحكمين المتزاحمين في كون الخطاب فيهما تعيينياً، ولكنه؛ إما مقيد بالقدرة الشرعية أو بالقيد اللبّي الذي تقدم بيانه، ومن المعلوم أنّ كل واحد منهما في فرض عدم الإشتغال بالآخر يكون مقدوراً، فيكون إطلاقه ثابتاً وهو يقتضي كونه تعينيياً ملاكاً وخطاباً فلا موجب لرفع اليد عنه وفرض وجود ملاك واحد في الجامع بينهما كما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1).

ص: 245


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص277-279.

وعليه؛ فلو ترك المكلف امتثال الخطابين معاً يكون مخالفاً لتطبيقين فعليين في حقه ومفوتاً لملاكين ثابتين للمولى، بخلاف ما إذا امتثل أحدهما فإنَّه يكون رافعاً لموضوع التكليف الآخر.نعم؛ بناءً على إنكار الترتب والقول باستحالته يقع التعارض بين الخطابين الظاهرين في التعيينية في مورد التزاحم، فإذا علم ثبوت التكليف في الجملة وعدم سقوطه يندرج المقام في الشبهة الحكمية؛ حيث يحتمل وجود تكليف واحد متعلق بالجامع، أو تكليف يتعلق بهذا تعييناً، فلا بُدَّ من الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية في المقام.

المقام الثاني: في تعدد العقاب ووحدته، وقد عرفت أنهم ذكروا بأنه إذا كان التخيير عقلياً يتعدد العقاب على التارك لهما معاً، ووحدته إذا كان شرعياً. ولكن لا كلية في ذلك لأنّ هناك عدة مسالك في تشخيص ما هو الميزان في تحقق العصيان وصحة العقوبة:

المسلك الأول: كون الميزان في صحة العقوبة هو القدرة على الإمتثال، فإذا لم يكن الإمتثال مقدوراً لا يصحّ العقاب. وهذا المسلك هو الذي اتخذه القائلون باستحالة الترتب وجعلوه نقضاً على نظرية الترتب، لأنَّها تستلزم العقوبة على أمر غير اختياري. وعليه؛ لا يكون في مورد التزاحم إلا خطاب واحد وعقوبة واحدة.

المسلك الثاني: أن يكون الميزان هو القدرة على التخلّص من المخالفة؛ سواء كان ذلك بالإمتثال أم برفع الموضوع، وبذلك تصحّ العقوبة وتتعدد في مورد التزاحم إذا كان التخيير عقلياً لأنّ التخلّص والفرار من مخالفة كلا الوجوبين المترتبين مقدور للمكلف. وكذلك في القدرة الشرعية بمعنى عدم دخول الإشتغال بواجب آخر في الملاك، فهناك ملاكان فعليان على تقدير تركهما معاً.

المسلك الثالث: أن يكون الميزان هو أن لا يفوّت على المولى ملاكاً لزومياً يهتم به؛ إذ لا موضوعية للخطاب بما هو جعل وتشريع في نظر العقل الذي هو الحاكم المطلق في باب

ص: 246

الطاعة والعصيان، وإنما هو مجرد طريق لإبراز اهتمام المولى بالملاك, ولهذا يتحقق العصيان بتفويت ملاك لزومي للمولى إذا استكشفه العبد عن طريق الخطاب.

وعليه؛ لا يتعدد العقاب على العاصي في موارد القدرة العقلية سواء كان هناك خطاب واحد بالجامع أم خطابين مشروطين، فإنّ أحد الملاكين فواته قهري في المقام على كل حال وليس بتفويت المكلف. وكذلك الحال في المشروطين بالقدرة الشرعية إذا كان الملاك بمقدار القدرة لا أكثر، فليس في هذه الحالة إلا قدرة واحدة وملاك واحد، فلا تكون إلا عقوبة واحدة.

والمعروف بينهم هو المسلك الثاني، بينما اختار بعضهم المسلك الثالث.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ المقياس في تعدد العقوبة ووحدتها لا يرتبط بكون التخيير عقلياً أو شرعياً وإنما يرتبط بأمور أخرى.

تنبيهات باب التزاحم

التنبيه الأول: ذكرنا في بداية البحث أنّ التزاحم بين الخطابين عبارة عن عدم قدرة المكلف على الجمع بين الخطابين المختلفين المتوجهين إليه في مقام الإمتثال بعد اجتماع شروط الحجية فيهما ثبوتاً؛ فيلزم أن يكون ذلك اتفاقياً لاشتراط القدرة في كل تكليف، وإلا فلو كان التضاد بين الحكمين في الإمتثال دائمياً لأصبح من موارد التعارض بين الخطابين, وقد جعلوا ذلك من شروط التزاحم, وهذا واضح في الضدين اللذين لا ثالث لهما. أما في غيره ففيه غموض.

توضيح ذلك: إنّ التضاد الدائمي بين المتعلقين تارةً؛ يكون في فرض عدم وجود ضد ثالث لهما، وأخرى؛ يكون في فرض وجوده. أما الفرض الأول فلا غموض في وقوع التعارض بين الحكمين لأنَّه لا يعقل التكليف بهما معاً؛ لا جمعاً، لاستلزامه الجمع بين

ص: 247

الضدين. ولا بدلاً، بأن يشرط أحدهما أو كلاهما بعدم الآخر لأنَّه من تحصيل الحاصل لأنّ وجود أحدهما على تقدير ترك الآخر ضروري فيكون أحد التكليفين لغواً، إلا أن يقال بأنه لا لغوية في الجعل والتشريع إذا كان فيه مصلحة ولو في جعله.

وأما الفرض الثاني (وهو وجود ضد ثالث لهما) كما إذا قال المولى (تجب الصلاة عند طلوع الفجر) وقال أيضاً (يجب المشي عند طلوع الفجر)؛ فإنهما ضدان لهما ثالث، فهل يعاملان معاملة المتزاحمين اتفاقاً فلا يكون بينهما التعارض لأن كل واحد منهما مقيد لبّاً بعدم الإشتغال بالمساوي أو الأهم، فإذا لم يفرض الأهمية فيهما معاً؛ فإما أن يكونا متساويين في الملاك فيكون الترتب من الجانبين، وإما أن يكون أحدهما أهم فيكون الترتب من أحد الجانبين أو يقع التعارض بينهما.

وقد اختار المحقق النائيني قدس سره (1) الإفتراض الثاني، واختار آخرون الثالث. ولكن التعارض يقع بين إطلاق الخطابين لا بين أصلهما لأنّ ثبوت كل منهما مشروطٌ بعدم الإشتغال بالآخر لا محذور فيه بعد إمكان الترتب، وإنَّما يقع التعارض بين إطلاق الخطابين؛ لأنَّه بعد ثبوت الإطلاق في كل من الخطابين عرفاً حتى في حال الإشتغال بالآخر سوف يكون معارضاً مع إطلاق الآخر فلا بُدَّ من تطبيق قواعد التعارض بين الإطلاقين، فإن ثبت ترجيحٌ لأحدهما كان مطلقاً والآخر مشروطاً بعدم الإتيان به، وإلا فيتساقطان ويثبت بهما حكمان مشروطان على نحو الترتب من الطرفين بعد فرض عدم التعارض بين أصل الخطابين. ولكن يمكن توجيه كلام المحقق النائيني قدس سره من وقوع الترتب من أحد الجانبين إذا ثبتت أهمية أحدهما فلا نزاع في البين.

ص: 248


1- . المصدر السابق؛ ص310-311.

التنبيه الثاني: قد عرفت أنّ التزاحم خارج عن التعارض الحقيقي إذا تحقق بين الحكمين المتزاحمين ترتب مطلقاً من جانب أو من الجانبين.ومن هنا قالوا بأنه بناءً على إمكان الترتب خرجت موارد التزاحم عن التعارض الحقيقي، وإلا فهي داخلة فيه كما تقدم بيانه.

وعليه؛ فإن أمكن الترتب في مورد المتزاحمين فلا إشكال.

وأما إذا لم يمكن الترتب فلا يكون من باب التزاحم. وقد ذكر بعضهم(1) أنه يشترط في إمكان الترتب أمران:

الأول: أن لا يكون أحد الخطابين مشروطاً بالقدرة الشرعية إذا أُريد منها عدم الأمر بالخلاف؛ إذ لو كان كذلك فإنَّه يستحيل ثبوت الترتب لأنّ الشرط هو عدم نفس الأمر الآخر وهو غير محفوظ حتى لو لم يشتغل بالمنافي.

الثاني: أن لا يكون ترك أحدهما مساوقاً مع تحقق الآخر كما في الضدين اللذين لا ثالث لهما، وإلا كان الأمر به ولو مشروطاً بعدم الآخر مستحيلاً لأنَّه من طلب الحاصل.

والصحيح؛ إنه لا حاجة إلى اعتبار هذين الشرطين في إمكان الترتب بعد توفر مقوماته؛ أما الأول؛ فلأنَّه مبنيّ -كما تقدم- على كون المراد من القدرة الشرعية عدم الأمر بالخلاف، وقد عرفت أنه لا وجه له.

وأما الثاني؛ فلأنّ طلب الحاصل إنَّما يكون مستحيلاً إذا كان الغرض من الطلب البعث، وأما إذا كان لغرض صحيح عقلائي بنفس الطلب فلا يكون مستحيلاً كما بيّناه في بحث الأوامر.

ص: 249


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص111.
الموارد الخارجة عن باب التزاحم

وكيف كان؛ فقد ذكر المحقق النائيني قدس سره موارد إدّعى استحالة الترتب فيها, وبالتالي خروجها من باب التزاحم, وهي:

المورد الأول: ما إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة الشرعية إذ لا يكون فيه ملاك حينئذٍ حتى يعقل الأمر به ولو مترتباً.

وأشكل عليه السيد الخوئي قدس سره (1) بأنه دور؛ إذ الملاك يستكشف بالخطاب فهو موقوف عليه في مقام الإثبات، فلو كان الخطاب الترتبي يُستكشف بالملاك وموقوفاً على إحرازه لزم الدور ولزم بطلان الترتب في جميع الموارد؛ إذ لا علم لنا بالملاك فيها جميعاً إلا من ناحية الخطاب.

ويرد عليه: إنه ممنوع كبرى وصغرى كما ذكرناه مراراً في الفقه والأصول. كما أنّ السيد الصدر قدس سره (2) أورد على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنّ القدرة الشرعية الدخيلة في الملاك؛ إن أُريد منها دخل عدم وجود المانع الشرعي، أي الأمر بالخلاف في الملاك فلا يعقل الترتب لا لعدم إحراز الملاك في المرتبةالسابقة حتى يلزم الدور، بل لانتفاء التكليف ملاكاً وخطاباً بانتفاء شرطه وهو القدرة بالمعنى المذكور. وإن أريد بها دخل عدم الإشتغال بالواجب في الملاك كان الترتب معقولاً لتحقق الشرط بترك الإشتغال بالآخر.

والحقُّ؛ إنّ القدرة الشرعية بالمعنى العرفي الذي تقدم بيانه في الواجب الذي اشترطت فيه هذه القدرة تنتفي عند ابتلائها بالواجب المزاحم، فلا يمكن تحقق الترتب على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره كما هو واضح.

هذا كله بحسب الكبرى الكلية.

ص: 250


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص267-268.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص112.

وأما بالنسبة إلى الصغريات والتطبيقات؛ فإنها تختلف بحسب القرائن والمناسبات فقد يثبت الترتب في بعض الموارد التي أخذ في متعلقها القدرة الشرعية، ونذكر بعضاً منها:

1- إذا تحقق التزاحم بين الوضوء وواجب آخر أهم يقتضي صرف الماء فيه؛ كما إذا توقف نجاة نفس محترمة عليه، فقد حكم المحقق النائيني قدس سره (1) بسقوط وجوب الوضوء والإنتقال إلى التيمم؛ فلو توضأ بالماء بطل وضوءه لكونه مشروطاً بالقدرة الشرعية وهي منتفية.

والصحيح؛ إنّ ما يمكن أن يذكر لكون القدرة شرعية هو أحد تقريبين لا يمكن الإعتماد على أيّ منهما؛

أحدهما؛ كون الوضوء مِمّا له بدل وهو التيمم، وكل ما له بدل يكون مشروطاً بالقدرة الشرعية.

وفيه: إنه لا كلية فيه، فلا يمكن استفادة ذلك من مجرد وجود البدل للواجب كما تقدم بيانه.

والآخر؛ إنّ المستفاد من قوله تعالى:(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)(2) هو التفصيل بين الوضوء والتيمم، وأنّ الأخير إنَّما يجب في فرض عدم وجدان الماء، والتفصيل قاطع للشركة فيكون موضوع الوضوء هو الواجد الماء.

كما أنّ المراد من وجدان الماء ليس وجوده الخارجي، بل القدرة على استعماله ولو بقرينة ذكر المرض مع السفر في الآية المباركة فإنَّه يدل على أنّ الميزان في الوضوء هو القدرة وعدم المشقة، وهو معنى القدرة الشرعية.

ص: 251


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص192-193.
2- . سورة النساء الآية 43.

وفيه:

أولاً: إنه لا يستفاد من الآية الكريمة كون القدرة في الوضوء شرعية، وإنما أُخذ في الآية الكريمة عنوان عدم وجدان الماء، وهو كناية عن العجز وعدم القدرة على الوضوء بتوسعة من الشارع.

ثانياً: إنّ التفصيل في الآية لبيان الوظيفة العملية في مقام الإمتثال، وليس لها ظهور في التفصيل من حيث الحكم والخطاب. وتمام الكلام يطلب في محلّه.

ومن ذلك يظهر أنّ الأمر الترتبي في الوضوء محفوظ في موارد المزاحمة مع تكليف آخر.

2- ما إذا كان الوضوء حراماً لكونه تصرفاً في مال الغير بغير إذنه؛ فإنَّه بناءً على امتناع الترتب يدخل في باب التعارض، وأما بناءً على إمكانه فمع عدم المندوحة يكون من التزاحم بين التكليفيين إلا إذا كانت القدرة المأخوذة في الوضوء شرعية فيكون باطلاً لعدم إمكان الأمر به ولو بنحو الترتب. وأما إذا كانت مندوحة فالأمر بالوضوء فعليٌّ على كلِّ حال لأنّ ملاكه المشروط بالقدرة الشرعية فعليّ، وحينئذٍ؛ فإن قيل بعدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيّق بحيث يمكن الأمر بالجامع الذي ينطبق على الفرد المزاحم لتكليف أهم صحّ الوضوء بالأمر العرضي، والأصحّ هو الوضوء بالأمر الترتبي بذلك الفرد لكون الملاك فعلياً على كل حال.

وأورد عليه بأنّ الوضوء إن اشترط فيه القدرة الشرعية بالمعنى الذي يستحيل معه الأمر بالترتب فالأمر واضح، وأما إذا كانت القدرة الشرعية المأخوذة فيه بمعنى القدرة التكوينية أو عدم الإشتغال بالضد الواجب الأهم فالوضوء صحيح بالخطاب الترتبي، وإن أُريد بها عدم وجود حكم شرعي على خلافه فالظاهر بطلانه لأنّ ظاهر الأمر بشيء

ص: 252

مشروطاً بعدم المنافي المولوي أن لا يوجد منافٍ مولوي حين الإتيان به حدوثاً وبقاءً؛ فيكون المستفاد من دليل شرطية القدرة بهذا المعنى أنّ الأمر بالوضوء لا يجتمع مع فعلية الحكم المنافي لأنَّه يكون معلقاً على عدمه.

ولكن الحق ما ذكرناه من أنّ جميع ذلك مبني على فرضيات أصولية لم يقم دليل عليها، بل إنّ بطلان الوضوء في المقام يرجع إلى الإرتكاز العرفي لأنه لا يمكن التقرب بما هو مبغوض لدى المولى على التفصيل الذي ذكرناه في الفقه.

المورد الثاني: إذا كان المتزاحمان طوليين في عمود الزمان مع كون المتأخر هو الأهم والقدرة فيهما عقلية؛ فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى استحالة الأمر بالمتقدم فيهما ولو بنحو الترتب. وأما إذا كانت القدرة شرعية فيهما فقد ذكر قدس سره أنه لا ترجيح فيهما أبداً لا بالأهمية ولا بغيرها من المرجّحات فيكون التخيير حينئذٍ شرعياً لوجود قدرة على الجامع وملاك واحد. ولو كانت في أحدهما عقلية وفي الآخر شرعية فقد تقدم أيضاً عدم إمكان الترتب عنده قدس سره في القدرة الشرعية فلا يوجد إلا تكليف مطلق مشروط بالقدرة العقلية فقط. ففي جميع الصور الثلاثة ذهب إلى استحالة الترتب فيهما، وقد تقدم الكلام في الصورة الثانية؛ أي المشروطين بالقدرة الشرعية، والصورة الثالثة؛ أي الإختلاف بينهما في القدرة الشرعية والعقلية. وأما الصورة الأولى؛ وهي المشروطين بالقدرة العقلية، فقد استدل على استحالة الترتب فيها بوجوه أربعة:

الأول: أن يكون الأمر بالمتقدم مشروطاً بعدم الإتيان بالخطاب المتأخر وهو مستحيل لأنَّه يستلزم الشرط المتأخر وهو غير معقول، مضافاً إلى أنه لا يكفي هذا التقييد لدفع المنافاة بينه وبين خطاب وجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم.

الثاني: أن يكون مشروطاً بعدم تعقّب امتثال الأهم، والتعقب شرط مقارن عنده قدس سره وبه حاول تصحيح ما ثبت في الفقه مِمّا ظاهره الإناطة بالشرط المتأخر. وهذا مستحيل

ص: 253

أيضاً لأنَّه لا يدفع المحذور الثاني في الوجه الأول، مضافاً إلى أنّ هذا التقييد بهذا القيد يحتاج إلى دليل وهو مفقود.

الثالث: أن يكون مشروطاً بعصيان خطاب وجوب حفظ القدرة وهو شرط مقارن، وهذا مستحيل أيضاً؛ لأنّ عصيان وجوب حفظ القدرة؛ إما أن يكون بنفس الواجب المتقدم أو بفعل آخر مضادٍّ لهما لو فرض وجوده، والتقييد بكليهما غير معقول إذ الأول يلزم منه طلب الحاصل، والثاني طلب الضدين.

الرابع: أن يكون مشروطاً بالعزم على عصيان الواجب المتأخر وهو شرط مقارن أيضاً، وهو أيضاً مستحيل لعدم إمكان الأمر الترتبي مشروطاً بالعزم على العصيان كما تقدم بيانه في محله.

ومن أجل هذه الوجوه الأربعة ذكر أنه يستحيل الأمر بالتقدم ولو بنحو الترتب في المتزاحمين الطوليين في عمود الزمان مع كون المتأخر هو الأهم والقدرة فيهما عقلية وليس في البين إلا أمر واحد بالأهم.

والحق؛ أنّ جميع الوجه الأربعة مبنية على استحالة الشرط المتأخر ولكن الصحيح أنه لا استحالة فيه كما هو محقق في محله. مع أنه على ما ذكره في الوجه الأول من بقاء المضادة بين الأمر الترتبي وبين خطاب وجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر؛ إن وجوب حفظ القدرة حكم عقلي لا خطاب شرعي وذلك لأنّ العقل يحكم باستحقاق العقاب على تفويت الواجب الأهم بتفويت القدرة عليه، وعليه يحكم العقل بلزوم إطاعة التكليف الأهم وهو ليس حكماً آخر وراء التكليف الأهم حتى يلزم محركية زائدة، وحينئذٍ لا منافاة بين محركية الخطاب الأهم المطلق مع محركية الأمر الترتيبي كما تقدم بيانه في بحوث الضدّ فتأمل.

ص: 254

وعلى فرض التنزّل وقبول كون وجوب حفظ القدرة خطاب شرعي وليس حكماً عقلياً بلزوم الطاعة فلا ريب أنه حكم طريقي محض للحفاظ على الواجب الأهم فليس لها محركية حتى تكون منافية مع محركية الأمر الترتبي بالضدّ.

ومنه يظهر الجواب عن الوجوه الأخرى فراجع.

ومن جميع ذلك يتضح أنّ الترتب في المقام معقول فيندرج في باب التزاحم.

المورد الثالث: ما إذا وقع التزاحم بين الواجب والحرام؛ كما لو توقف الواجب على فعل ذلك الحرام وكان الواجب هو الأهم ملاكاً فإنَّه لا يعقل جعل الخطاب التحريمي على المقدمة المحرمة ولو بنحو الترتب.

ولكن هذا المورد مبني على الأقوال في وجوب مقدمة الواجب؛ فإنَّه بناءً على عدم وجوبها أو وجوب المقدمة الموصلة فقط فإنَّه يمكن جعل الخطاب التحريمي على المقدمة بنحو الترتب بأن تحرم على تقدير عدم الإتيان بالواجب الأهم.

وأما بناءً على وجوب مطلق المقدمة واستحالة تخصيص الوجوب بالموصلة فقط كما اختاره المحقق الخراساني قدس سره (1) فإنَّه يستحيل جعل الحرمة للمقدمة على كل حال لأنّ جعلها ولو مشروطاً منافٍ مع عدم إمكان تخصيص وجوبها بالموصلة، فلا محالة يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذيها، فيكون من باب التعارض لا التزاحم. ومنه يتضح أنه لا مجال للخطاب الترتبي التحريمي بالمقدمة المحرمة على جميع المسالك في وجوب المقدمة؛ فهو إما خطاب تحريمي مطلق فلا تزاحم ولا تعارض، أو خطاب تحريمي معارض مع الأمر بذي المقدمة. ولا يختص ذلك بالمقام، بل يجري في تمام موارد التزاحم بين الواجب والحرام مع كون الواجب أهم ولو لم يكن الحرام مقدمة

ص: 255


1- . كفاية الأصول؛ ص116-118.

للواجب أو بين الحرامين فإنَّه لا حاجة فيها إلى الترتب، وإن كان في المقام بحوث ومناقشات يطول الكلام بذكرها ولا فائدة في بيانها، ولا بدَّ من الرجوع إلى العرف في تحديد الحكم في المقام وأمثاله وقد ذكره الفقهاء في موارد متعددة فراجع.

المورد الرابع: موارد اجتماع الأمر والنهي؛ فإنَّه بناءً على الجواز وعدم المندوحة يقع التزاحم بينهما، فإذا كان النهي أهم ملاكاً لم ينعقد إطلاق الأمر في مورد النهي لاستلزامه التكليف بغير المقدور، ولكن هل يبقى بنحو الترتب كما لو قال (إذا غصبت فصلّ)، أو لا يمكن ذلك؟ ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى الثاني، وذهب آخرون إلى الأول بتقريب أنه بناءً على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي باعتبار أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون خارجاً دخل المقام في موردالتزاحم بين واجب ملازم مع الحرام خارجاً، فلا إشكال في الأمر الترتبي فيه إذا لم يكن ارتكاب الحرام مساوقاً مع تحقق الواجب، وإلا فلا يجري فيه.

وأما إذا قيل بكفاية تعدد العنوان في جواز الإجتماع لدفع غائلة الإستحالة ولو كان المعنون واحداً وأمثاله من المسالك التي لا ترى تعدد المعنون خارجاً؛ فقد يقال بمنع الأمر الترتبي لأحد وجهين:

أحدهما: إنّ عصيان الحرام سوف يكون بنفس الصلاة أو المشي مثلاً لأنّ المعنون واحد حسب الفرض فيستحيل أن يؤثر في الصلاة مشروطاً بالغصب على نحو الترتب لأنَّه يستلزم إما طلب الحاصل كما في الصلاة، أو طلب الضدين كما في المشي.

والآخر: إنّ الصلاة مركب من جامع الحركة، وكونها صلاة وعصيان الخطاب التحريمي إنَّما يكون بالحركة في المغصوب التي هي التصرف فيه، فيرجع الأمر الترتبي بالصلاة

ص: 256


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص186-187.

مشروطاً بالغصب إلى الأمر بالحركة الصلاتية في المغصوب على تقدير الحركة فيه، وهذا يعني الأمر بضمّ الجزء الثاني على تقدير تحقق الجزء الأول؛ أي الأمر بالحركة الصلاتية على تقدير أصل الحركة، لا الأمر بالصلاة التي هي عبارة عن مجموع الجزئين. وهذا خلاف ظاهر الدليل فلا يمكن التمسك به لإثبات الأمر الترتبي.

وأورد على كلا الوجهين:

أما الأول؛ فلأنّ ما يتقيد به الأمر الترتبي إنَّما هو عصيان الخطاب الآخر الذي هو الجامع بين الحركة الصلاتية في الغصب والحركة غير الصلاتية فيه، ومن الواضح أنّ التقييد بالجامع بنحو صرف الوجود لا يستلزم التقييد بكل فرد من أفراده، ولا يسري إلى مصاديقه. نعم؛ إذا كان الأمر عبادياً فإنَّه ينشأ محذور عدم إمكان التقرب بالفعل الحرام ولو كان مصداقاً لعنوان واجب. ولكن هذا محذور آخر لا ربط له بالمهم في المقام.

ويمكن ردّه بأنّ الإتحاد العرفي بين الفرد الواجب والحرام يجعل الأمر الترتبي غير مقبول عرفاً وإن امكن تصويره ثبوتاً وبحسب الدقة كما حرره البعض.

وأما الثاني؛ فإنّ الأمر بأصل الحركة في ضمن الصلاة أمر ضمني، والأمر الضمني يكون محركيته وتحصيله ضمنياً؛ أي في ضمن تحصيل الكل، وما هو الشرط المفروض حصوله إنَّما هو الحركة الإستقلالية أي ذات الحركة، فلا يلزم تحصيل الحاصل من طلب الحركة الضمنية على تقدير أصل الحركة.

وفيه: إنّ طلب الحاصل إنَّما يكون غير معقول إذا كان في الأمور الخارجية وأما الأمور الإعتبارية مثل التكليف ونحوه فلا دليل على امتناعه، إذ يمكن أن يتعلق به الخطاب والإنشاء بدواعٍ متعددة ولا استهجان فيه؛ ففي المقام يصحّ تعلّقالخطاب بالحركة الصلاتية على تقدير أصل الحركة، ولا يستلزم منه استهجان واستحالة.

ص: 257

ومما ذكرناه يظهر أنه لا يمكن تصوير الأمر الترتبي بالنظر العرفي في موارد اجتماع الأمر والنهي لا سيما إذا كان الأمر عبادياً لما عرفت.

نعم؛ يصحّ فيما إذا لم يستهجنه الذوق العرفي فلا بُدَّ من ملاحظة المناسبات في موارد اجتماع الأمر والنهي فليست لنا قاعدة كلية في المنع أو الجواز. ومن أجل ذلك نقول في موارد التزاحم بين الواجب والحرام، أو بين محرّمين أننا لا نحتاج إلى التحفّظ على الخطاب التحريمي إلى مبنى إمكان الترتب، بل يكفي فيها ثبوت الحرمة مطلقاً مع تقييد الحرام بالحصة الخاصة المقرونة بترك مزاحمه.

التنبيه الثالث: في التزاحم بين الواجبات الضمنية، كما إذا وقع التضاد بين جزئين من مركب إرتباطي؛ وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى عدم الفرق بينهما وبين الواجبات الإستقلالية والرجوع إلى قواعد التزاحم. وذهب غيره إلى أنّ التزاحم بين الواجبات الضمنية الإرتباطية يوجب وقوع التعارض بين أدلتها.

وقد استدل عليه بوجوه عديدة نذكر المهم منها:

الوجه الأول: إنّ الواجبات الإرتباطية تكون وجوباتها إرتباطية أيضاً فتكون مجعولة بجعل واحد متعلق بالمركب لا بجعول متعددة، وهذا الجعل الواحد يشترط فيه ما يشترط في كل تكليف من القدرة على مجموع متعلقه؛ فإذا وقع التضاد بين جزئين من هذا المجموع لم يعد مقدوراً للمكلف فيسقط الأمر به، فإذا لم يقم دليل على وجوب سائر الأجزاء في فرض العجز عن بعضها فلا يمكن إثبات وجوبها بدليل الأمر الأول.

نعم؛ إن قام دليل على عدم سقوط الواجب كلياً، كما في الصلاة من أنها لا تترك بحال فيدور الأمر بين التكليف بسائر الأجزاء مع الجامع بين الجزئين المتزاحمين، أو بها مع

ص: 258


1- . ذكره تلميذه في محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص293.

أحدهما تعييناً؛ وهذه شبهة حكمية في أصل التكليف وليس من باب التزاحم فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصول والقواعد العامة.

وفيه: إنّ كون الواجبات الإرتباطية لها وجوبات متعددة إرتباطية أيضاً أول الكلام؛ فإنّ الوجوب في الواجبات الإرتباطية واحد إنبساطي على جميع الأجزاء فإذا تعذّر أحد الأجزاء لا يضرّ ذلك بأصل الوجوب، ولا حاجة إلى دليل آخر لثبوته بالنسبة إلى سائر الأجزاء. ومن هنا قلنا بأنّ عدم سقوط الميسور عند تعسر بعض الأجزاء موافق للقاعدة.

الوجه الثاني: إنّ لازم التزاحم بين الواجبين الإستقلاليين هو فعلية إيجابهما عند تركهما معاً لفعلية شرط كلا الوجوبين، وهذا اللازم يستحيل تحققه في الواجبينالضمنيين فيستحيل ملزومه وهو التزاحم. والوجه في استحالة اللازم؛ أنّ الوجوبين في المقام جزءان تحليليان من وجوب واحد، فإذا فرض أنّ المكلف تركهما كليهما كان شرط كلا الأمرين الضمنيين فعلياً وبالتالي يصبح الأمر بالمركب كله فعلياً، وهذا معناه ثبوت أمر إستقلالي واحد يطلب فيه الجمع بين المتضادين وهو محال؛ لأنَّه من طلب الجمع بين الضدين لا الجمع في الطلب كما هو كذلك في الطلبين الإستقلاليين المتزاحمين.

وقيل في ردّ هذ الوجه وغيره من الوجوه التي استدل بها: إنه يمكن افتراض تعلّق الأمر ابتداءً بعنوان ما هو المقدور من أجزاء المركب، وهو عنوان جامع ينطبق على مجموع الأجزاء إذا كانت كلها مقدورة وعلى المقدور منها إذا كان بعضها غير مقدور تعينيياً؛ فإذا وقع التزاحم بين اثنين منهما يكون ترك كل واحد منهما محقِّقاً للقدرة على الآخر فيكون مقدوراً فيكون هو الواجب.

وهذا هو معنى قولهم أنّ كلاً منهما منوط بترك الآخر كما في الواجبين الإستقلاليين.

ص: 259

وأشكل عليه بأنّ أدلة الأجزاء والشرائط ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئية والشرطية ولو كانت بلسان الأمر أو النهي، وهذا المفاد لا يجري فيه التزاحم أصلاً؛ إذ ليس مفادها حكماً تكليفياً يستحيل ثبوته للمتزاحمين معاً حتى نفتش عن المقيد اللبّي له، فيكون مقتضى إطلاقها لحال العجز يعني ثبوت الجزئية والشرطية فيه، فيلزم سقوط التكليف الإستقلالي بالمجموع رأساً، ولو فرض العلم من الخارج بعدم سقوطه يقع التعارض بين إطلاق دليلي الجزئين المتزاحمين لفرض العلم بانتفاء أحد الجزئين.

والحق؛ أنّ جميع ما ذكر في المقام بعيد عن روح الواجب الضمني فإنّ الوجوب المتعلق بالمركب من الأجزاء والشرائط هو وجوب واحد ينبسط على أجزاء المركب فليس لها وجوب آخر غير الوجوب الإنبساطي المتعلق بالكلّ.

ومن هنا يكون حكمُ الأجزاء حكمَ الكل؛ فما يجري في الواجب الإستقلالي يجري في الواجب الضمني، وإنما استفدنا الضمنية من الأدلة التي تعلقت بالأجزاء والشرائط فهي وإن كان لسانها لسان الإرشاد إلى الجزئية أو الشرطية ولكن لا تخرج الأجزاء والشرائط عن كونها من ضمن الكل الذي تعلق به الوجوب الذي انبسط عليها. ومن هنا قلنا بأنّ تعسّر بعض تلك الأجزاء لا يوجب سقوط أصل الوجوب المتعلق بالكل المنبسط على بقية الأجزاء إلا إذا دلّ دليل على سقوطه.

وبعبارة أخرى: إنّ أدلة الأجزاء والشرائط تثبت الشرطية والجزئية للمركب وتجعلها في ضمن المركب الذي تعلق به الوجوب الإنبساطي.

ومن هنا لا بُدَّ من التماس المقيّد اللبّي كما يلتمس بالنسبة إلى الواجب الإستقلالي، فما ذكره المحقق النائيني قدس سره هو الصحيح.

ص: 260

التنبيه الرابع: في التزاحم بين الواجب الموسع والواجب المضيق.

نُسب إلى المحقق الثاني قدس سره (1) القول بعدم جريان التزاحم فيهما؛ لإمكان الأمر بالواجب الموسع المزاحم مع الواجب المضيق في عرض واحد بلا حاجة إلى تقييد أحدهما بعدم الإتيان بالآخر، مستدلاً عليه بأنّ الواجب الموسع يرجع إلى إيجاب الجامع بين الأفراد الطولية والإتيان بهذا الجامع مع الواجب المضيق جمعاً مقدور فلا يلزم من الآمر بهما في عرض واحد المحال.

وقد نوقش ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنّ القدرة شرط في كل تكليف من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فإذا كان الخطاب بنفسه يتطلب اختصاص متعلقه بالحصة المقدورة لأنَّه مفاد البعث والزجر وهو لا يعقل نحو غير المقدور؛ فلا بُدَّ أن يكون متعلق الأمر حينئذٍ مقيداً بالحصة المقدورة عقلاً وشرعاً من أفراده.

وهذا يعني أنه لا إطلاق في الواجب الموسع للفرد المزاحم لعدم القدرة عليه شرعاً، وهو معنى عدم إمكان الأمر به في عرض الأمر بالواجب المضيق. نعم؛ يمكن الأمر به بنحو الترتب.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ التكليف من الأمور الإعتبارية التي يعتبرها الشارع على المكلفين، وإنما يبرزه بمبرز خارجي مثل الإنشاء ونحوه، وهذا الإعتبار لا يقتضي الإختصاص بالحصة المقدورة وإنما العقل يعتبرها شرطاً من لزوم الإمتثال والطاعة.

ص: 261


1- . جامع المقاصد؛ ج5 ص13-14.
2- . فوائد الأصول؛ ج1 ص271-272.

ثانياً: على فرض كون الخطاب بداعي الباعثية والتحريك ولكنه لا يتطلب أكثر من مقدورية ما تعلق به الحكم، والمتعلق في الواجب الموسع هو الجامع بين الأفراد، والجامع بين الفرد المقدور وغير المقدور يكون مقدوراً ولا موجب لتقييده بالفرد غير المقدور.

ثالثاً: إنّ المتعلق في كل خطاب هو الطبيعة الكلية؛ فإذا تحققت في ضمن أي فرد كان امتثالاً للتكليف لا محالة.

الوجه الثاني: أنه بناءً على القول بالواجب المعلق وإمكان تقديم زمان الوجوب على زمان الواجب فإنّ الأمر بالواجب الموسع يكون فعلياً حتى زمان المزاحمة -الذي هو زمان الواجب المضيق- مع كون متعلقه استقبالياً لأنَّه غير مقدور شرعاً بالفعل، وإنما يصبح مقدوراً في الزمان الثاني، فلا معنى للمزاحمة حينئذٍ.وأُجيب عنه باستحالة الواجب المعلق، وذلك لوجهين:

أولهما: إنّ الحكم يستبطن المحركية والباعثية فيقتضي التحركُ والإنبعاث التضايفَ بينهما، أو المحركية والباعثية ملازمة في الإمكان والإمتناع لإمكان الإنبعاث وامتناعه. والمراد هو أنّ إمكانية البعث تلازم إمكانية الإنبعاث لا التلازم خارجاً إذ يمكن أن يتحقق بعث ولا يكون انبعاث خارجاً كما في العاصين. وفي مورد الواجب المعلّق لا إمكانية للإنبعاث خارجاً فلا يكون البعث ممكناً.

وهذا الوجه غير تام؛ لأنّ الجعل كما عرفت أمر اعتباري لا يتوقف ثبوته على إمكانية الإنبعاث، والعرف يفهم من الخطاب المولوي جعل فعل في ذمة العبد سواء كان بداعي البعث أم بدواعٍ أخرى. والإنبعاث أمر طبيعي حاصل في العبد بمقتضى عبوديته وحكم العقل بالإطاعة.

ص: 262

ثانيهما: إنّ الواجب المعلق يستلزم أن يكون الحكم مشروطاً بشرط متأخر، فإنَّه باعتبار تأخُّر زمان الواجب عن زمان الوجوب في الواجب المعلق لا محالة يكون مجيء ذلك الزمان شرطاً في صحة جعل الوجوب المتقدم فيكون مستحيلاً بناء على استحالة الشرط المتأخر. نعم؛ لو كان الشرط هو التعلق بالأمر المتأخر الذي هو شرط مقارن أمكن جعله ثبوتاً، ولكنه خلاف ظاهر الدليل على شرطية نفس الزمان المتأخر في الواجب إثباتاً.

وهو غير صحيح أيضاً لمعقولية الشرط المتأخر، ودليل ذلك:

أولاً: إنّ شرطية القدرة وتقييد الخطاب به في المقام كانت بحكم العقل بقبح تكليف العاجز.

ثانياً: إنه لا قبح في التكليف بالجامع من أول الأمر بعد ثبوت القدرة عليه في الزمان المتأخر، فيتمسك بإطلاق الخطاب لإثبات الوجوب في المقام لإمكانه ولو على وجه كون الشرط هو تعقّب القدرة.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ الصحيح ما ذهب إليه المحقق الثاني قدس سره من عدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيق.

التنبيه الخامس: ما ذكرناه حتى الآن إنَّما يتعلق بموارد التزاحم بين الخطابين فيما إذا كان الخطاب في كل واحد منها تاماً من حيث الفعلية والتنجّز، وأما إذا وقع التزاحم في مورد يفرض الجهل بأحدهما فقد يتصور وقوع التعارض بين الخطابين لاستحالة ثبوتهما معاً واقعاً فلا بُدَّ من انتفاء أحدهما؛ من دون فرق بين علم المكلف وجهله فيكون نظير موارد اجتماع الأمر والنهي بناءً على الإمتناع وتغليب جانب الأمر بلا فرق بين العلم بالحرمة أو الجهل بها.

هذا كله بناءً على استحالة الترتب.

ص: 263

وأما إذا قلنا بإمكان الترتب فقد ورد في بعض تقريرات المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ الترتب إنَّما يعقل فيما إذا كان الخطاب المترتب عليه واصلاً للمكلف ومنجزاً عليه، فلو لم يكن كذلك لم يكن موقع للخطاب الترتبي؛ إما لأنَّه لا يتحقق العصيان للخطاب المترتب عليه الذي هو شرط للخطاب المترتب لأنّ المفروض عدم تنجزه، وإما لأجل عدم إمكان تحقق العلم بالخطاب المترتب لعدم العلم بما هو موضوعه من كونه عاصياً للخطاب المترتب عليه لأنّ العلم بالعصيان فرع العلم بالتكليف والمفروض أنه جاهل. ففي كل الحالات إنه يرجع التزاحم في مورد الجهل بأحد الخطابين إلى وقوع التعارض بين الخطابين.

والحق؛ صحة الترتب في مفروض المقام، ولا تصل النوبة إلى التعارض بين الخطابين، ولا يصحّ قياسه بموارد اجتماع الأمر والنهي بناءً على الإمتناع فيصحّ التمسك بالخطابين الواصل منهما حتى لو قلنا باستحالة الترتب فضلاً عن القول بإمكانه، وذلك لأنّ محذور الإمتناع في مسألة اجتماع الأمر والنهي المستوجب للتنافي بين الحكمين يرجع إلى مبادئ الحكم من الحب والبعض والإرادة والكراهة؛ إذ بناءً على امتناع الإجتماع يستحيل اجتماع الكراهة والإرادة على موضوع واحد، ولا نظر له إلى مرحلة الإمتثال وتحرك المكلف إلى الطاعة فإنّ الإستحالة بناءً على صحتها ثابتة سواء وصل الحكم إلى المكلف أم لا.

وأما امتناع الترتب في المقام فإنه يرجع إلى أنّ الحكم يستتبع التحريك إلى الإمتثال، والتحريك نحو امتثال الضدين معاً غير معقول، ومع قطع النظر عن ذلك فلا محذور من إرادتهما إذ لا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين؛ مع أنّ مبادئ الحكم من الحب والبغض هي أمور تكوينية لا ضير في تعلقها بالضدين فتكون النكتة في المحذور منحصرة في هذا الباب

ص: 264


1- . المصدر السابق؛ ص222.

بمرحلة الجعل، وما يستتبعه من التحريك نحو الإمتثال. وحينئذٍ يمكن القول بأنه هل يجري في موارد الجهل بأحد الحكمين أو لا. والصحيح؛ أنّ هذا المحذور غير جارٍ في موارد الجهل بأحد الحكمين المتزاحمين وعدم تنجزه؛ إما لأنّ الحكم من الإعتباريات وهو يشمل موارد العجز، غاية الأمر أنّ العقل لا يحكم بالطاعة فيها فلا محذور من تعقّل الأمر بالضدين مطلقاً مع حكم العقل بعدم لزوم الطاعة لأكثر من واحد منهما، فإذا كان التكليف الأهم غير منجز حكَمَ العقل بتنجز التكليف المهم ولزوم امتثاله فلا إشكال في البين.

وأما بناءً على القول بأنّ التكاليف تختص بموارد القدرة على الإمتثال وعدم ثبوتها في موارد العجز لقبح تكليف العاجز، لكونه إحراجاً له على العصيانفالأمر واضح أيضاً؛ لأنَّه مع عدم تنجّز أحد التكليفين فلا يلزم أي إحراج من إطلاق الآخر للمكلف على العصيان.

وأما إذا قلنا بأنّ التكليف إنَّما هو بداعي البعث والتحريك فلا يشمل إلا موارد إمكان الإنبعاث خارجاً، والضدان لا يمكن الإنبعاث إليهما فلا بُدَّ من تقييد إطلاق أحد الخطابين. ومن المعلوم أنه ليس المقصود من داعي البعث هو البعث الفعلي، وإلا لزم عدم تكليف الجاهل أو اختصاص التكليف بما إذا كان مطيعاً ومنقاداً، بل يكون المراد الإنبعاث الإقتضائي حيث لا مانع عقلاً وشرعاً منه. وهذا المعنى يعقل ثبوته في كلا الضدين في موارد عدم تنجز أحدهما؛ إذ لا يلزم من إطلاق الأمر في كل منهما مشروطاً بعدم تنجز الآخر أي محذور في الداعويتين لا ذاتاً ولا عرضاً، وعلى هذا فلا موجب لرفع اليد عن إطلاق الخطاب الواصل في فرض عدم تنجز الخطاب الآخر.

ص: 265

ومن هنا يتجه القول لتصحيح الضدّ العبادي عند القائلين باستحالة الترتب فيما إذا كان التكليف الأهم مجهولاً، بينما يحكم بالبطلان في موارد الإجتماع بناءً على الإمتناع ولو كانت الحرمة مجهولة.

ومن جميع ذلك يظهر وجه النقاش فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره .

هذا ما أردنا ذكره في التزاحم الحقيقي بين الخطابين الذي يكون خارجاً عن باب التعارض، وأما تطبيق ذلك في الأحكام الفقهية فإنّ موارده في الفقه كثيرة فراجع وتأمل.

ولكن هناك قسماً آخر من التزاحم يكون من باب التعارض قد اصطلح عليه المحقق الخراساني قدس سره (1) بالتزاحم بين مقتضيات الأحكام وملاكاتها في مقام التأثير ولا بأس بالإشارة إليه.

التنبيه السادس: في التزاحم الملاكي؛ وقد عرفه جمع من الأصوليين بأنه التنافي بين مقتضيات الأحكام وملاكاتها في مقام التأثير؛ فإنّ الأحكام والقوانين -على ما هو المعروف- تابعة للمصالح والمفاسد قوةً وضعفاً، فهي قد تتزاحم في نظر المشرِّع للأحكام والمقنِّن للقوانين فيكون الحكم والقانون تابعاً للأرجح منها عنده، ويكون مانعاً عن حكمه على طبق المرجوح منهما، ومع التساوي عنده يتساقط الحكمان ويخير المشرع بين مقتضييهما. وعليه؛ فإنّ التزاحم الملاكي إنَّما يتحقق في الموارد التي لا يمكن فيها فعلية الحكمين معاً ولو بنحو الترتب كموارد اجتماع الأمر والنهي بناءً على الإمتناع، ونذكر موردين من تلك الموارد:

الأول: موارد التضاد بين الواجبين بحيث يكون ترك أحدهما مساوقاً مع فعل الآخر بحيث لا يمكن الأمر الترتبي فيها كما تقدم بيانه.

ص: 266


1- . كفاية الأصول؛ ص155.

الثاني: موارد التضاد الدائمي بين الخطابين بناءً على مسلك المشهور من وقوع التعارض فيها بين أصل الدليلين.

ففي هذين الموردين وغيرهما إذا أحرز الملاك في الحكمين فسيقع التزاحم الملاكي بينهما بالكيفية التي ذكرناها آنفاً.

ويمكن توضيح الفرق بين التزاحم الحقيقي والتزاحم الملاكي من وجوه:

1- إنّ التزاحم الحقيقي الإصطلاحي -كما تقدم من تعريفه- هو التنافي بين الحكمين في مقام العمل ومرحلة الإمتثال دون الملاك ولذا قد يكون بين فردين من واجب واحد، بخلاف التزاحم الملاكي فإنَّه يكون في عالم التشريع ومرحلة التكوين للحكم والجعل له.

وبعبارة أخرى: إنه لم تكن أي منافاة بين الحكمين المتزاحمين -في التزاحم الحقيقي- بحسب عالم الجعل، بل كل منهما ثابت على موضوعه المقدّر الوجود -وهو القادر- من دون محذور، وإنما التنافي يكون في مرحلة امتثالهما بحيث يكون امتثال أحدهما رافعاً لموضوع الآخر فلا يكون فعلياً. وأما التزاحم الملاكي فإنّ التنافي يكون بين الجعلين؛ إما من جهة وحدة موضوعهما المستلزم لاجتماع الضدين، وإما من جهة كون عصيان أحدهما مساوقاً مع حصول متعلق الآخر المستلزم لطلب الحاصل؛ وكلاهما مستحيل، فيبقى محذور استحالة اجتماع الحكمين المتضادين أو استحالة طلب الحاصل على كل حالة حتى على فرض اشتراط أحدهما بعصيان الآخر بخلاف التزاحم الحقيقي الذي يرتفع المحذور بهذا الشرط كما عرفت.

2- إنه بناءً على ما تقدم يكون التكاذب في التزاحم الملاكي بين الدليلين؛ لأنّ الدليل يدل على الجعل للحكم، والحال أنّ المجعول هو واحد والوظيفة فيه هو الرجوع لما

ص: 267

يقرره المولى من جعل الحكم بيده لا بيد غيره، وهذا بخلاف التزاحم الحقيقي فإنَّه ليس فيه تعارض بين الدليلين المتكفلين لهما، لأنّ الدليل مفاده الجعل لا فعلية المجعول.

3- بناءً على ما تقدم؛ لا حاجة في موارد التزاحم الحقيقي إلى بذل عناية من المولى في ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو التخيير بينهما؛ لأنَّه ليس من وظيفة المولى تحديد موضوع الجعل، وما هو المرتفع والثابت منه، والعقل هو الذي يشخص ذلك، بخلاف التزاحم الملاكي فإنَّه لا بُدَّ للمولى من تعيين الوظيفة إذا أُريد ترجيح أحد الحكمين على الآخر لأنّ جعل الحكم بيده من وظيفته تحديده إطلاقاً أو تقييداً، وليس للعقل شأن فيهما.

وبعد معرفة هذه الفروق يقع الكلام في المقام من جهات:

الجهة الأولى: إنّ التزاحم الملاكي إنَّما يمكن قبوله بناءً على ما هو معروف من تبعية الأحكام الإلهية للمصالح والمفاسد، بل قيل إنه مذهب العدلية وعليه يدور وضع القوانين الوضعية أيضاً، فلا يكون مشرِّعاً إلا أن تكون أحكامه تابعةللمصالح والمفاسد. ولكن بناء على ما هو الأصح من أن تصحيح الجعل والتشريع في الأحكام الإلهية إنما يكون من أجل تصحيح طاعة العباد لربهم وتحديد رسم العبودية لخالقهم بعد حكم العقل بأصل الطاعة، ويدل عليه بعض النصوص؛ ففي وصية الإمام الكاظم علیه السلام المعروفة لهشام؛ (يَا هِشَامُ؛ نَصْبُ الْحَقِّ لِطَاعَةِ الله (1), ولَا نَجَاةَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ, والطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ, والْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ, والتَّعَلُّمُ بِالْعَقْل)(2), وغيرها من النصوص التي تدل على أنّ غاية

ص: 268


1- . كلمة (نصب)؛ إمّا مصدر أو فعل مجهول، وقراءتها على المعلوم بحذف الفاعل أو المفعول بعيد، وإنَّما نصب الله الحق والدين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليطاع في أوامره ونواهيه.
2- . الکافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص17.

التشريع هي تحديد مسار عبودية العباد وتصحيح الطاعة ورقيّ العبد في مدارج الكمال والوصول إلى درجات القرب إلى المعبود الحق، وأما سائر التشريعات الوضعية فإنّ النظر المادي هو المحكّم فيها؛ فقد جعلوا المصالح والمفاسد محطّ نظرهم في وضع القوانين وتشريعاتهم، ولا يصحّ قياس التشريع الإلهي الذي هو أسمى من كل تشريع من كل الجهات؛ على تلك التشريعات المادية التي هي محدودة بالحدود الإمكانية. والبحث في ذلك نفيس، وبناءً على هذه النظرية الرصينة فلا تزاحم بين ملاكات الأحكام الشرعية إلا التزاحم الإصطلاحي الذي يكون في مقام الإمتثال والعمل، ولا تكاذب فيه بين الدليلين، ولا يتوقف هذا التزاحم على إحراز الملاك لكل واحد من الحكمين.

ويضاف إلى ذلك إنه على فرض قبول أنّ التزاحم الملاكي إنَّما هو من شؤون المشرِّع والمقنِّن فهو الذي شرع الحكم على طبق الملاكات؛ فإذا تعارضت وتزاحمت فهو الذي يختار الأهم منها، وإلا فله الخيار، وليس للمكلفين دخل في هذا الأمر أبداً فإنّ المراد بالبحث في التزاحم الملاكي هو تعيين وظيفة المشرِّع والمقنِّن، فليس ذلك من شؤون علم الأصول ولا يرتبط به، بل لذلك قواعد وضوابط يعرفها المشرِّع والمقنِّن ولا يمكن تخطّيها فإنَّه لا بُدَّ من ملاحظتها بما يرجع إلى صلاح الفرد أو الأمة كما هو معلوم.

ومن ذلك يظهر لنا أنّ ما ذكروه في المقام قابل للمناقشة وأنه خارج عن بحوث علم الأصول.

الجهة الثانية: طرق اكتشاف الملاكين في مورد التزاحم.

وقد ذكروا لذلك طرقاً، وهي:

1- أن يقوم دليل من الخارج على وجود الملاك في كل واحد من الحكمين في مورده ولو في بعض الحالات؛ كما يستكشف وجود ملاك وجوب الجهر ووجوب الإخفات عند الجهل أو النسيان، ووجوب القصر والتمام عندهما لإجزاء أحدهما

ص: 269

عن الآخر، وكما ورد أنّ الصلاة لا تترك بحال؛ فإنَّه يستفاد منه أنّ ملاك وجوبها مقدَّم على كل حال.

2- الدلالة الإلتزامية؛ فإنّ الدليل كما يدلّ بالدلالة المطابقية على الحكم الشرعي كالوجوب وغيره فهو يدل أيضاً بالدلالة الإلتزامية العقلية على تحقق الملاك تبعاً لنظرية تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد؛ فإذا تعارض الدليلان فإنهما يتساقطان في الدلالة المطابقية، ولكن تبقى دلالتهما الإلتزامية على حالها.

وفيه:

أولاً: إنّ أصل هذه النظرية موضع نقاش كما عرفت آنفاً.

ثانياً: إنّ الدلالة المطابقية إذا سقطت فلا بُدَّ أن تسقط الدلالة الإلتزامية لأنّ ثبوتها وبقائها إنَّما يكون بأحد طرق ثلاثة:

إما الخطاب؛ والمفروض سقوطه، وإما دليل خارجي؛ والمفروض عدمه، وإما الإستصحاب؛ وهو غير جارٍ لاحتمال كون الملاك ما دام مقيداً بوجود الخطاب لا يكون مطلقاً ودائمياً حتى مع سقوط الخطاب.

وحينئذٍ يشك في أصل موضوع الإستصحاب فلا يجري، والقولُ بأنّ التعارض إنَّما أزال الدلالة المطابقية في الحجية، والدلالة الإلتزامية إنَّما تتبع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية؛ فاسدٌ، وهو أول الكلام ويحتاج إلى دليل، وقد عرفت عدم إمكان إثبات الدلالة الإلتزامية التي هي تابعة للدلالة المطابقية وجوداً وحجةً لأنّ أدلة الحجية إنَّما شملتها بواسطة الدلالة المطابقية؛ فإذا خرجت عن الحجية سقطت الدلالة الإلتزامية عنها إلا إذا حكم العرف بثبوتها فيتبع ذلك المورد فقط.

ص: 270

3- التمسك بإطلاق المادة لإثبات الملاك في موارد العجز الدال على كون القدرة عقلية في الخطاب، وقد ذكر ذلك المحقق النائيني قدس سره (1) وذهب إلى أنّ للمادة محمولين عرضيين؛ أحدهما الحكم، والآخر الملاك. وما لا يعقل ثبوته في موارد اجتماع الأمر والنهي والحكمين المتضادين إنَّما هو إطلاق المادة بلحاظ المحمول الأول دون المحمول الثاني فلا موجب لرفع اليد عنهما.

ولكن عرفت فيما سبق عدم تمامية ذلك فراجع، وهو يرجع إلى السابق وقد عرفت فساده.

4- التمسك بإطلاق المادة بوجه آخر لإثبات المصلحة المقتضية، كما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2), لأنّ المولى إذا كان في مقام بيان الحكم الحقيقي الفعلي فإنَّه يكون في مقام بيان تمام موضوع حكمه، والمفروض1- عدم تقييد حكمه لفظاً بعدم الإتحاد مع الغصب في مورد الإجتماع مثلاً. وأما تقييده من حيث أنه موضوع الحكم الفعلي بعدم الإتحاد مع الحكم المضاد عقلاً لا يوجب تقييد المادة مولوياً، فتمام موضوع الحكم هو نفس طبيعة الصلاة المطلقة، وإن لم يكن لها حكم عقلاً إذا اتحدت مع الحكم المضاد أو لمانع آخر مثل الجهل أو النسيان، فتكون المصلحة قائمة بذات الصلاة المطلقة في جميع الأحوال، ولا يمكن الإعتماد في تقييد الموضوع على القرينة العقلية البرهانية. وبهذه الطريقة يمكن إحراز الملاك في موارد التزاحم الملاكي بين إطلاق الخطابين لا أصلهما في موارد اجتماع الأمر والنهي.

ص: 271


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص82.
2- . نهاية الدراية؛ ج2 ص302-303.

ويرد عليه: ما ذكرناه آنفاً من أنَّ الملاكات على فرض القبول إنَّما يمكن إثباتها بتعلق الخطاب بموضوعاتها، وبعد زوال الحكم لا يمكن إثبات الملاك بطريق آخر، فلا ريب في زوال الملاكات بزوال الأحكام، والتفصيل موكول إلى محله.

الجهة الثالثة: الثمرة في معرفة الملاك.

بعد الإحاطة بما ذكرناه يتضح أنه لا ثمرة في معرفة الملاك لأنّ الثمرة؛ إن كانت في أصل تشريع الحكم فقد عرفت أنه تابع لنظرية تبعية الأحكام للأغراض والمصالح وقد تقدم عدم صحتها، مع أنه من شؤون المشرِّع والمقنِّن، وليس للمكلفين فيه دخل إذ ليس للعبد فائدة في معرفة الملاك أو معرفة الراجح منه؛ لا سيما أنّ الأمر عند العبد يعود إلى التعارض في الأدلة فيؤخذ بالأقوى دلالة وإن كان أرجح ملاكاً، كما يؤخذ بالأقوى سنداً، وإن كان أضعف ملاكاً والعبد إنَّما يعمل ما يقرره المولى عليه. وإن كانت الثمرة ترجع إلى العبد عند سقوط الخطاب وزوال الأمر في مورد العبادات وجواز إتيانها بداعي الملاك كما عن بعض المحققين من الفقهاء والأصوليين(1)؛ حيث ذهبوا إلى تصحيح العبادة بقصد ملاكها ومصلحتها وإن سقط الخطاب وزال الأمر؛ إما لابتلاءه بالضد كالصلاة إذا زاحمها إحياء النفس، وإما من أجل اجتماعه مع النهي كالصلاة في الدار المغصوبة وتقديم جانب النهي عند النسيان أو الجهل بالحكم عن قصور، وإما عند الإضطرار لمخالفته النهي. ففي هذه الموارد قالوا بأنّ الأمر الصلاتي وإن زال ولكن يمكن إتيان الصلاة بداعي الملاك.

ويشكل عليه:

أولاً: إنه لا طريق لاكتشاف الملاك بعد سقوط الخطاب، فلا يمكن التقرّب بالعبادة.

ص: 272


1- . أجود التقريرات؛ج2 ص25-26.

ثانياً: إنّا لا نسلم كفاية قصد الملاك في صحة الطاعة وتحقق العبادة والتقرب إليه تعالى ما لم يكن في ذاته عبادة، فإنّ المصلحة والملاك فيه لم تكن عائدة إلى الله تعالى، فلا يوجب قصد الملاك التقرب والعبودبة لله عَزَّ وَجَلَّ. نعم؛ خرج عن ذلك فيما إذا كانت المصلحة والملاك عائدة إلى الله تعالى لأنّ العمل بذاته عبادة كالسجود، فحقيقته الخضوع لله تعالى فلا حاجة إلى قصد الملاك حينئذٍ إلا أن يكون مانعاً من التقرب به إليه عَزَّ وَجَلَّ كالرياء.

ثالثاً: إنه على فرض التنزّل وقبول ذلك، ولكن ليس كل مقرّب يكون محصّلاً للغرض فلعلّ المحصّل له هو التقرّب بأمره تعالى دون التقرّب بمصلحته ومناطه، إلا أن يقال بأنّ مع فرض الشك يكون مقتضى الأصل هو الإشتغال كما ذهب إليه بعض المحققين.

ولكنه مردود بأنّ الأصل يقتضي عدم اعتبار قصد الملاك بعد الشك في أصل وجوده أو الشك في مقربيته.

وقد يتوهم بأن ذلك ينافي ما عليه المشهور من صحة عبادة الجاهل بالغصب موضوعاً، بل حكماً إن كان قاصراً مع ذهابهم إلى امتناع اجتماع الأمر والنهي، وليس ذلك إلا من أجل إحراز بقاء الملاك وكفاية قصده في صحة الصلاة.

وتحقيق الكلام في الجواب عنه من وجوه:

الأول: يمكن توجيه فتوى المشهور بصحة الصلاة عند الجهل بالغصب بناءً على ذهابهم إلى إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي؛ وهو وإن كان على خلاف القاعدة إلا أنه لا مانع منه مع قيام الدليل عليه، وهو دل على صحة الصلاة في الساتر المباح ظاهراً؛ مثل ما جاء عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام فِي وَصِيَّتِهِ لِكُمَيْلٍ قَالَ: (يَا كُمَيْلُ؛ أنْظُرْ فِي مَا تُصَلِّي وعَلَى مَا تُصَلِّي؛ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَجْهِهِ وحِلِّهِ فَلَا قَبُولَ)(1)، فإن ظاهره أنّ مجرد كون ما يصلي فيه حلّ كافٍ في الصحة.

ص: 273


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 5 ص119 نقلاً عن تحف العقول؛ ص174

الثاني: التمسك بعموم حديث أو قاعدة (لا تعاد) بناءً على جريانها في مثل المورد حتى لو قلنا بعدم ثبوت الأمر الظاهري.

الثالث: إنّ المنافاة الحاصلة بين الأمر والنهي تكون في مورد وجودهما ولو من جهة الإطلاق، ومن المعلوم أنه لا نهي في مرتبة الجهل بالحكم؛ إذ لا إطلاق له بالنسبة إلى المرتبة المتأخرة عن مرتبة الجعل. ولا ريب أنّ مرتبة العلم بالحكم والجهل به متأخرة عن مرتبة الجعل لأنّ موضوعهما الحكم فلو لم يكمل الحكم لم يتعلقا به؛ بلا فرق بين الجهل بالحكم والجهل بالموضوع وإن كان مورد فتوى المشهور هو الثاني، لأنّ الجاهل بالغصب أيضاً يرجع إلى جهله بالحكم الناشيء من الجهل بموضوعه، فلا يمكن أن يدخل الجاهل مطلقاً تحت إطلاق النهي عن الغصب فيبقى إطلاق الأمر بالنسبة إليه سليماً.الرابع: إنّ عمدة الوجه في بطلان العبادة في المقام يرجع إلى عدم إمكان التقرب بالمبغوض، ومع الجهل بالحرمة يتأتى منه قصد القربة إلا أن يقال بأنّ المبغوضية الواقعية كافية في البطلان ولو لم يعلم بها ظاهراً.

وهو مردود بأنّ المبغوضية الواقعية مع العذر في ارتكابها لا تؤثر في البطلان إذا تحقق منه قصد القربة. والتفصيل مذكور في الفقه فراجع.

الجهة الرابعة: أحكام التزاحم الملاكي

إختلف الأصوليون في هذه الأحكام؛ فذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى إلحاق التزاحم الملاكي بباب التعارض بين الدليلين، فلا بُدَّ من تطبيق قواعد التعارض عليها ولم تلاحظ مرجحات التزاحم الحقيقي ومدى تأثيرها عليه.

وذهب آخرون إلى التفصيل بين المرجّحات في باب التزاحم الحقيقي.

ص: 274


1- . نقله في بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص151.

والحقُّ؛ إنَّه بعد ما عرفت من عدم قبول التزاحم الملاكي من أساسه فلا تصل النوبة إلى المرجّحات في باب التزاحم الحقيقي أو مرجحات باب التعارض، إذ بعد سقوط الخطاب لا يمكن إتيان العمل العبادي بداعي الملاك إلا إذا دلّ دليل خاص عليه فلا بُدَّ من ملاحظة دلالته، فقد يستفاد منها أهمية حكم على آخر فعند التزاحم الملاكي يثبت الأهم بدليل خاص.

وقال بعض بدخول التزاحم الحكمي في باب التعارض لأنَّه يرجع إلى التعارض بين إطلاق الخطابين فيندرج تحت قواعده من الترجيح بحسب الدلالة أو السند أو التساقط عند فقد المرجّحات.

والحق عدم تمامية ذلك؛ أما المرجّحات الدلالية وإن كان انطباقها بحسب الظاهر في مورد التزاحم الملاكي ولكن الكلام في أنّ مجرد أقوائية أحد الخطابين ملاكاً من الآخر هل يكون موجباً لترجيح دلالي جديد فيجمع على أساسه بين الخطابين أم لا يكون كذلك، ذهب صاحب الكفاية قدس سره إلى الأول؛ قال: (لا بُدَّ من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الإقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة)(1).

وعليه؛ إذا كان أحد الخطابين أقوى ملاكاً فإنه يقتضي عرفاً حمل الخطاب الأضعف ملاكاً على الحكم الإقتضائي إذ لا يحتمل العكس، فيكون من حمل الظاهر على النص.

ويرد عليه: إنه إذا أحرز بالعلم وجود الملاك الأقوى في مورد التعارض ففي هذه الحالة يعلم بسقوط الخطاب الأضعف ملاكاً عن الحجية فترتفع المعارضة من البين، وأما إذا لم يحرز الملاك بالعلم الوجداني، بل أحرز بنفس الخطاب فإنَّه وإنلم يعلم بسقوط أحدهما إلا أنَّ هذا الجمع مِمّا لا يساعد عليه العرف؛ إذ لا معنى لثبوت الحكم الإقتضائي لأنَّه خلاف ظاهر الدليل.

ص: 275


1- . كفاية الأصول؛ ص155.

مع أنّ الجمع بين الدليلين المتعارضين يرجع إلى القرينية أو الأظهرية؛ وكلاهما يختصان بمرحلة الدلالة، وليس التزاحم الحكمي مِمّا يرجع إلى دلالة الدليل كما عرفت. أما المرجّحات السندية المستفادة من الأخبار العلاجية فلا إشكال في عدم انطباقها في موارد التزاحم الملاكي لأنَّه مضافاً إلى أنّ دوره يكون بعد سقوط الخطاب بالمعارضة؛ إنّ المرجّحات السندية تختص بموارد سريان التعارض إلى السند كما سيأتي بيانه، وفي مورد التعارض الحكمي يكون بين إطلاق الخطابين كما عرفت التفصيل.

وأما تساقط الدليلين في موارد التزاحم الملاكي عند فقد المرجّحات الدلالية والسندية -وهذا هو المتعين بعد عدم إمكان الرجوع إلى المرجّحات الدلالية والسندية- فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصول العملية بلا فرق بين التساقط الجزئي، وذلك في مورد سقوط كل من الدليلين في إثبات مفاده تعييناً مع بقائهما على الحجية في نفي الثالث، أو التساقط المطلق.

والتفصيل يطلب في الفقه حيث تختلف المسائل من حيث الرجوع إلى الأصول العملية والقواعد الفقهية.

التنبيه الرابع: في التزاحم بين المستحبات

قد يبدو لأول وهلة اختصاص التزاحم وأحكامه بالواجبات وعدم جريانه في المستحبات وخطاباتها؛ بدعوى أنّ الأوامر الإستحبابية لا يلزم من إطلاق أدلتها لحال التزاحم بين متعلقاتها محذور التكليف بغير المقدور؛ لجواز ترك المستحب على كل حال، فلا تعارض بين إطلاقاتها حتى تصل النوبة إلى رفع التنافي فيما بينها بمخصّص لبّي أو نحوه كما هو الحال في الواجبات.

وهو صحيح إن كان الوجه في منع شمول الأمر للضدين هو استلزمه الإحراج للمكلف بإيقاعه في العصيان, لأنّ هذا المحذور يختص بالأوامر الوجوبية التي يتحقق العصيان

ص: 276

بمخالفتها، وهو غير موجود في الأوامر الإستحبابية لعدم تحقق العصيان بمخالفتها.

وأما إذا كان الوجه في منع شمول الأمر للضدين هو استلزامه طلب الجمع بين الضدين كما هو زعم من قال باستحالة الترتب، أو كان الوجه في ظهور الخطابات في داعي الباعثية والمحركية فلا تشمل موارد عدم إمكان التحرك والإنبعاث، فلا بُدَّ حينئذٍ من تقييدها لبّاً بحال عند الإشتغال بضدٍّ واجب مساوٍ أو أهم؛ فإنَّه بناءً على هذين الوجهين لا يفرّق فيهما بين الأوامر الوجوبيةوالإستحبابية؛ إذ أنّ كلا الوجهين متحققان في الأوامر الإستحبابية ولا تفترق عن الأوامر الوجوبية إلا في شدة الطلب وضعفه.

ويمكن القول بأنّ العرف لا يرى التضادّ في الأوامر الإستحبابية لأنّ العنصر الذي يوجب الفرق بينها وبين الأوامر الوجوبية هو الترخيص في الترك، وهو يكفي في دفع التزاحم في الأوامر الإستحبابية. وما ذكر من وجوه المنع من شمول الأمر بالضدين إنَّما يختص في نظر العرف بما إذا كان الأمر واجباً ليس فيه ترخيص في الترك.

ومن أجل ذلك يثبت التخيير في الأوامر الإستحبابية المتزاحمة إلا ما دل الدليل على أهمية أحدهما من جهة كثرة الثواب أو تعظيم شأنه ونحو ذلك. وقد ورد في استحباب الصوم يوم عرفة إلا إذا كان يضعفه عن الدعاء.

ص: 277

البحث الخامس: القرينة

اشارة

عرفت المراد من الورود والحكومة من تعريفها، وربما تعتمد الحكومة على القرينة التي هي على قسمين: القرينة الشخصية، والقرينة النوعية.

ومن صغريات الأولى الحكومة, كما أنّ من صغريات الثانية التقييد, والتخصيص, والأظهرية ونحوها.

وهذا البحث ينعقد لبيان القرينة بأنواعها وتمام الكلام يقع ضمن أمور:

الأمر الأول: الحكومة

وفيها بحوث:

البحث الأول: لا ريب أنّ الحكومة تبتني على القرينة لأنَّها عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى مدلول آخر يكون فيه تحديد المراد منه. ومن هذه الجهة يمكن اعتبار الحكومة من القرينة، وقد عدّها بعض الأصوليين قرينة شخصية لأحد الدليلين على الآخر؛ حيث يكون الدليل الحاكم مشتملاً على خصوصية زائدة على ظهوره اللفظي تجعله محدداً للمراد في الدليل المحكوم، فيحصل من مجموع الدليل الحاكم والدليل المحكوم المراد النهائي للمتكلم.

ومن ذلك يظهر الفرق بين الحكومة والتخصيص بعد اشتراكهما في أصل القرينة إلا أنّ التخصيص تكون قرينته نوعية عرفية وليس من إعداد المتكلم نفسه في توضيح المراد من كلامه، وهذه القرينة الشخصية كما تتحقق في الحكومة عنطريق النظر كذلك تتحقق لقرار شخصي عام من المتكلم, كما إذا قرر الشارع بأنّ المحكمات التي هي أم الكتاب قرينة في تعيين المراد من المتشابهات فيتقدم ظهور القرينة على ظهور الدليل الآخر بنفس القرينة الشخصية كما في الحكومة، ولكن لا بلسان النظر فقط كما يفترقان بحسب لسان الدليل واللفظ.

ص: 278

كما تفترق الحكومة عن الورود في أنّ الأخير خارج عن التعارض الحقيقي بين الدليلين لأنّ في الورود خروج أحد الدليلين عن مورد الدليل الآخر موضوعاً بعناية الجعل، بخلاف الحكومة فإنها تكون من حالات التعارض فيما إذا كان الدليل الحاكم يثبت شيئاً خلاف ما يثبته المحكوم باعتبار كون الحاكم قرينة والمحكوم ذي القرينة. وبين القرينة وذيها تنافٍ في الجملة كما هو واضح.

ومن أجل ذلك أدرجوها في التعارض غير المستقر اعتماداً على كبرى عرفية وهي؛ إنّ للمتكلم الحق في أن يفسرّ كلامه بما يوضح المراد النهائي لمجموع كلامه.

وعلى هذا الأساس يتقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم؛ سواء كان متصلاً به أم منفصلاً عنه، بخلاف المخصص المنفصل فإنَّه يحتاج في تقديمه إلى نكتة خاصة كما سيأتي بيانه.

ومع ذلك كله فقد ورد في كلمات المحققين وجهان آخران لتقديم الحاكم على المحكوم.

الوجه الأول: خروج موارد الحكومة عن التعارض الحقيقي بين الدليلين, لأنّ دليل المحكوم يدل على قضية شرطية مفادها ثبوت الجزاء على تقدير ثبوت الشرط, كما في قوله تعالى: (وَحَرَّمَ الرِّبَا)(1)؛ فإنَّه يدل على قضية شرطية مفادها أنّ ما كان ربا فهو حرام.

والدليل الحاكم الدال على إنه لا ربا بين الوالد وولده ناظر إلى الشرط في الدليل المحكوم إثباتاً أو نفياً فليس ما هو محطّ النفي في أحد الدليلين هو محطّ الإثبات في الدليل الآخر حتى يتحقق التعارض, والقضاء بالشرطية لا نظر لها إلا إلى الملازمة بين ثبوت الجزاء وثبوت الشرط، ولا نظر لها إلى إثبات الشرط أو نفيه كما هو معلوم.

ص: 279


1- . سورة البقرة؛ الآية 275.

ويمكن الإشكال عليه:

أولاً: إنّ ذلك يقتضي أنّ ما كان ربا -كما هو في المثال- بنظر الشارع في دليل المحكوم ينفيه الدليل الحاكم الدال على عدم اعتبار الزيادة بين الوالد وولده ربا، فيكون هذا الدليل وارداً لا حاكماً لأنَّه يرفع الموضوع حقيقةً لا تعبداً، وإن كانالشرط في المحكوم ما هو ربا حقيقة والدليل الحاكم ينفيه كذلك فلا إشكال في ثبوت التعارض حقيقةً بين مدلولي الدليلين.

ثانياً: إنه بناء على هذا الوجه لا بُدَّ من الإقتصار على موارد الحكومة التي لسانها نفي الموضوع, وليس جميع حالات الحكومة كذلك.

الوجه الثاني: إنّ الدليل الحاكم يتعرض إلى شيء زائد لا يتعرض إليه الدليل المحكوم, فإنّ الحاكم يتعرض إلى أنّ الربا بين الوالد وولده ليس ربا، إضافة إلى تعرضه لعدم الحرمة. والمحكوم يتعرض لحرمة الربا فقط، ولا يتعرض لكونه ربا أو لا؛ فيتقدم الأول على الثاني ولا بأس به، وإلا فإنّ مجرد تعرض دليل على شيء زائد لا يتعرض إليه الدليل المحكوم لا يكون سبباً للتقدم.

والحاصل؛ إن أمكن إرجاع الوجهين إلى قرينة الدليل الحاكم فيتقدم على ذي القرينة فلا بأس بذلك كله، وإلا فالإشكال وارد عليهما.

البحث الثاني: أقسام الحكومة.

إختلف الأصوليون في تعيين أقسام الحكومة؛ فبعضهم اعتبرها قسمين، وبعضهم جعلها ثلاثة. والظاهر أنه لا مشكلة في ذلك لما عرفت من أنّ الحكومة مبنية على القرينية، وأنّ الدليل الحاكم قد اشتمل على خصوصية تجعله ناظراً إلى الدليل المحكوم وتبين المراد النهائي من مجموع كلامه, فتكون بمنزلة القرينة على تحديد المرام.

ص: 280

وهذه الخصوصية يمكن أن تكون ضمن أساليب ثلاثة:

1- أسلوب التفسير؛ بأنْ يكون أحد الدليلين مفسِّراً للآخر؛ سواء كان ذلك بأحد أدوات التفسير المعروفة مثل (أي، وأعني) ونحوهما أم بما يكون مستبنطاً لذلك فتكون حكومة تفسيرية؛ وهي إما صالحة للتوسيع، أو صالحة للتضييق، أو لهما معاً. وكلّ منهما؛ إما بالنسبة إلى الموضوع، أو المحمول، أو هما معاً. فالأقسام كثيرة كما لا يخفى.

2- لسان التنزيل؛ بأن يكون أحد الدليلين قد نزّل شيئاً منزلة موضوع الدليل الآخر, كما في قوله علیه السلام : (الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ)(1).

فيستفاد منه ترتيب آثر المنزّل عليه على المنزّل ولولاه لما كان للتنزيل وجه معقول, وهذه هي الحكومة التنزيلية.

3- مناسبات الحكم والموضوع؛ والتي تكتنف بالدليل الحاكم بحيث تجعله ناظراً إلى الدليل المحكوم, كما يقال في أدلة نفي الحرج ونفي الضرر من ظهورها في نفي إطلاقات الأحكام الأولية لا نفي الحكم الضروري1- والحرجي ابتداءً؛ باعتبار أنّ الشارع ليس من شأنه جعل أحكام ضررية بطبيعتها, وإنما المترقب جعل أحكام قد تصبح ضررية وحرجية في بعض الأحيان؛ فتكون أدلة نفي الحرج والضرر في ظهورها نفي إطلاقات الأحكام الأولية, لا نفي الضرري والحرجي ابتداءً؛ باعتبار أنّ الشارع ليس من شأنه جعل الأحكام ضررية بطبيعتها, وإنما المترقب جعل أحكام قد تصبح ضررية وحرجية في بعض الاحيان فتكون أدلة نفي الحرج والضرر بهذه المناسبة ناظراً إلى تلك الإطلاقات وبحكم الإستثناء منها, وقد

ص: 281


1- . مستدرك الوسائل؛ ج9 ص410.

اعتبر بعضٌ(1) هذه حكومة مضمونية، وذكر آخرون أنّ الدليل الحاكم؛ إما أن يكون صالحاً لتوسيع مورد الدليل المحكوم، أو تضييقه، أو يصلح لهما معاً(2).

ولكن مما يهوّن الخطب أنّ القرينة يمكن تحديدها في ما يوجب تعيين المراد؛ فإذا أمكن حصرها في أقل من ذلك وإرجاع بعضها إلى بعض كان أولى بالقبول، فنقول أنّ الحكومة؛ إما أن تكون بملاك النظر والشرح، ومثلوا لها بحكومة الأدلة الواقعية بعضها على بعض كحكومة دليل نفي الربا بين الوالد وولده على دليل حرمة الربا, وحكومة دليل لا ضرر ولا ضرار على أدلة الأحكام الأولية بحيث لو لا الدليل المحكوم يكون الدليل الحاكم لغواً.

وإما أن تكون الحكومة بملاك رفع الموضوع؛ مثل حكومة الأحكام الظاهرية بعضها على بعض كحكومة الأمارات على الأصول العملية؛ فإن كان النظر إلى أنّ الحكومة تتحدد بملاك القرينية فتفرض تارةً؛ بملاك النظر، وأخرى؛ بملاك رفع الموضوع بالنظر العرفي, وكان النظر إلى نفس القرينة وجعلها في أساليب مختلفة فتنقسم إلى الأقسام الثلاثة كما تقدم.

فلا وجه للإشكال والنقض والإبرام بعد ما اتضح المقصود فراجع. نعم؛ قد يقع النزاع في بعض الموارد من أنه من أي واحد من الأقسام، أو أنه من الحكومة أو الورود. وهذا شيء آخر، وقد ذكروا أقساماً أخرى لا ثمرة عملية فيها.

البحث الثالث: أحكام الحكومة

ص: 282


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص169.
2- . وهو السيد الوالد قدس سره في تهذيب الأصول؛ ج1 ص167.

وهي متعددة:

1- إنّ الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم مطلقاً سواء كان متصلاً بالمحكوم أم كان منفصلاً عنه، ولكن مع الفرق بأنه إذا كان متصلاً فيرفع1- الظهور, وإذا كان منفصلاً فيرفع الحجية عن الدليل المحكوم دون الظهور؛ فيكون الدليل الحاكم كالتخصيص من هذه الجهة.

ويمكن أن يقال بأنّ الفرق بين الحكومة والتخصيص هو ما إذا كان المناط في الحكومة هو تحديد المراد النهائي من مجموع كلام المتكلم الحاكم والمحكوم بعد ظهور كل واحد منهما في الدلالة، فلا يفرّق بين المتصل والمنفصل في تحديد الظهور النهائي بعد ثبوت الظهور والحجية في كل منهما، وإنما يتحدد الظهور النهائي بالجمع بين الحاكم والمحكوم.

وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

2- إنّ موازين التمسك بالمحكوم عند الشك في الحاكم المنفصل بأقسامه هي نفس موازين التمسك بالعام عند الشك في مخصصه المنفصل بأقسامه؛ فيجوز التمسك بالمحكوم في باب الحكومة عندما يجوز التمسك بالعام في باب التخصيص, ولا يجوز حينما لا يجوز.

وأما المحكوم المتصل بالحاكم؛ إذا كان الأخير مجملاً فإنَّه يكون مثل ابتلاء المخصص المجمل المتصل بالعام من حيث تأثيره فيما اتصل به، وسريان الإجمال منه إليه, والسبب في ذلك كله هو كون الحكومة مبنية على القرينة.

والحق أن يقال في الفرق بين الحكومة والتخصيص؛ إنّ في الأخير لا ينعقد ظهور العام في المخصص المتصل إلا بما دلّ عليه المخصص فإذا كان مجملاً يسري إجماله

ص: 283

إلى العام لا محالة, بينما في الحكومة قد انعقد ظهور المحكوم كما انعقد ظهور الحاكم، ولكن بحكم القرينية بينهما لا بُدَّ من تحديد المراد النهائي من مجموع الكلامين؛ فإذا شك في دليل الحاكم من حيث وجوده أو من حيث ظهوره أو من حيث كونه قرينة فلا ينصرف ذلك بالمراد من المحكوم ليكون هو المرجع إلا إذا تحقق ما يوجب صرفه عن المراد كما هو واضح.

3- إنّ الدليل الحاكم يتقدم ولو كانت دلالته من أضعف الظهورات على الدليل المحكوم، ولو كانت دلالته من أقوى الظهورات ولا ينظر إلى قانون تقديم أقوى الظهورين لأنّ المناط في تقديم الحاكم على المحكوم هو القرينية الشخصية في تعيين المرام من مجموع الكلام، فلا وجه لملاحظة النسبة ودرجة الظهور بين الدليلين في موارد الحكومة, بخلاف التخصيص كما سيأتي توضيحه.

4- بعدما عرفت أنّ ملاك الحكومة هو النظر فلا بد من إحراز ذلك في إثبات حكم بالدليل الحاكم رفعاً أو وضعاً؛ فلو دلّ الدليل على أنّ الطواف بالبيت صلاة, فإنّ المقدار الذي يمكن إثباته من آثار الصلاة وأحكامها للطواف1- بهذا الدليل تابع لمقدار النظر في الدليل الحاكم إلى أحكام الصلاة, لأنّ نكتة النظر والشرح والتفسير تتحدد بحدود لا محالة. وكذلك الحال في حكومة أدلة نفي الحرج ونفي الضرر على أدلة الأحكام الأولية؛ فإنها تتقدم على أدلة الأحكام الأولية بمقدار نظرها إليها عموماً أو على الخصوص لبعض الآثار, وهذا واضح لا إشكال فيه.

5- إنّ الحكومة تختص بالأدلة اللفظية ولا مصير لها في الأدلة العقلية واللبيّة, لأنّ الحكومة مبنية على النظر في الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم وتحديد المرام النهائي منهما، والنظر من شؤون الدلالة اللفظية وخصائصها.

ص: 284

وبعد الجمع بين الحاكم والمحكوم ينشأ ظهور جديد في الدليل اللفظي ويكون حجة، وهذه الحجة لا تكون مستقلة.

ومن هنا قلنا أنّ الحكومة لا تكون تصرفاً حقيقياً في الدليل المحكوم. وعليه؛ لا يصحّ إعمال الحكومة في الأدلة اللبيّة كالإجماع ونحوه.

هذا ما أردنا إثباته في الحكومة في المقام، والتي تبتني على القرينة، وقلنا أنّ بعضهم اعتبرها قرينة شخصية.

الأمر الثاني: التقييد

التقييد من مصاديق القرينة فلا بد أولاً من بيان معنى القرينة، والمعروف إنها؛ ما يدل على المراد من غير أن يكون صريحاً فيه، ولا يمكن أن تتحقق القرينة إلا إذا كانت دلالتان وإفادتان؛ تكون أحداهما قد أُعدت إعداداً لتفسير الدلالة الأخرى وتحويل مفادها إلى مفاد آخر.

وهذه النكتة تتحقق في الدليل الحاكم -كما تقدم بيانه- وفي موارد التقييد والتخصيص وغيرهما، وإن اعتبر بعضهم(1) أنّ القرينة في الدليل الحاكم معدّة إعداداً شخصياً من قبل المتكلم لتفسير الدليل المحكوم بقرينة النظر, وأما في غيره فإنّ الإعداد لا يكون شخصياً، بل يكون بجعل عرفي فيكون إعداداً نوعياً, ومقتضى طبع المتكلمين متابعة العرف في ذلك فهو يعِدّ القرينة لتفسير ذي القرينة بكشف نوعي.

وقد ذكرنا آنفاً أنّ الإعداد الشخصي للقرينة ربما يقبله العرف فيصير نوعياً أيضاً؛ فالتمييز بين القرينة والحكومة قد يكون دقيقاً ولكنه لا يضرّ بأصل المقصود.

ص: 285


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص173.

وكيف كان إنّ ملاك تقدّم القرينة على ذيها هو نفس ملاك تقدّم الحاكم على المحكوم في أنه محاوري عرفي يمنع ذلك من سريان المعارضة إلى الدليلوالحجية. ولما كانت القرينة من صغريات الظهور الذي له مراتب فكذلك تكون للقرينة مراتب؛ أما مراتب الظهور فهي ثلاثة:

1- الظهور التصوري الحاصل من سماع اللفظ ولو كان من غير ذي شعور، ولا ريب أنه ينشأ من أصل الوضع على ما تقدم بيانه في مباحث الوضع.

2- الظهور التصديقي الحاصل من الإرادة الإستعمالية، وهو عبارة عن ظهورها في أن المتكلم قاصد لاستعمال اللفظ في معناه وإخطاره في ذهن السامع. ومن أجله كان لهذا الظهور دلالة تصديقية لا تصورية، فيحتاج إلى أن يكون اللفظ صادراً من ذي شعور يتأتى منه القصد والإرادة.

3- الظهور التصديقي بلحاظ الإرادة الجدّية؛ والذي هو عبارة عن ظهور حالي في المتكلم أيضاً؛ يدل على إنه قاصد لمعنى كلامه جداً فليس بهازل ولا ممتحن ونحو ذلك، حيث أنّ ظاهر كل متكلم ملتفت أنّ داعيه منه هو الجدّ، فلا بُدَّ أن يكون اللفظ صادراً عن ذي شعور كما في سابقه. ومنشأ هذين الظهورين الحاليين هو الغلبة الخارجية الحاصلة من التعهد النوعي العقلائي في المحاورات؛ فإنّ حال كل متكلم أن يكون قاصداً للمعنى بإرادة جدّية, ولا بد من تطبيق القرينة على هذه المراحل من الظهور.

أما تصور القرينة بلحاظ المرحلة الأولى فقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) أنّ الظهور التصوري للكلام تارة؛ يكون بسبب مفردات الكلام، وأخرى؛ يحصل من هيئة المفرد أو

ص: 286


1- . المصدر السابق؛ ص175-176.

الجملة، وثالثة يحصل أيضاً للهيئة التركيبية لمجموع الكلام المعبر عنها بالسياق؛ إذ يضيف إلى الذهن في جميع تلك الموارد معناها عند سماع ذلك من كل لافظ حتى لو لم يكن له الشعور قبل الوصول إلى انتزاع الظهور التصديقي, وكذلك الحال في القرينة فإنّ المنساق من ذكرها في الكلام هو المعنى الذي دلت عليه القرينة، فإذا قال اللافظ ولو بغير شعور (أسد يرمي) فإنّ ذلك يدل على الرجل الشجاع في الظهور التصوري أيضاً, وهذا مِمّا يدل على أن كلمة (يرمي) في هذه الجملة أوجدت سياقاً غيّر من الظهور التصوري. فكلمة (أسد) أنشأت ظهوراً تصورياً آخر في الرجل الشجاع فتكون القرينة قد أوجدت سياقاً أوجب تغيير الظهور التصوري إلى ظهور آخر كذلك. والسبب في تكوين هذا الظهور التصوري الجديد بحيث يغلب على الظهور التصوري للمفردات؛ إما أن يرجع إلى أنّ السياق بنفسه موضوع لإفادة صورة معينة كما هو الحال في وضع المفرد لمعناه الذي أوجد ظهوراً تصورياً كذلك وضع السياق. وإما أن يرجع إلى الأنس الذهني؛ فإنّ جملة (رأيت أسداً يرمي) كما توجِد ظهوراً تصورياً للمفردات كذلك تحقق ظهوراً ثانوياً للرجل الشجاع وأنه يرمي بالسهم. ولما كان هذاالظهور هو الأقرب إلى الذهن من صورة الأسد بمعنى الحيوان المفترس وهو يرمي، فكان الظهور الثانوي أقوى من الظهور الأولي. هذا إذا كانت القرينة نصّاً في معناها، وإما إذا كانت مِمّا يحتمل التأويل, فإنّ مجرد أنس الذهن وعدمه بالنسبة إلى المعنى الحقيقي لمفردات الجملة لا تفيد إلا صَرف الذهن عن ذلك المعنى.

وأما تعيينه في معنى مجازي متأخر فإنَّه يحتاج إلى نكتة أخرى وهي؛ إما أقوائية الظهور الثاني من الآخر الحاصلة من الأنس بين اللفظ والمعنى في عالم الذهن الذي له مراتب متفاوتة شدة وضعفاً، فكلما كان الإقتران آكد كانت الدلالة التصورية أقوى وأظهر.

ص: 287

ولكن ذلك لا يصلح أن يكون عاماً في كل الموارد فإنَّه لا يشترط أن تكون القرينة أظهر من ذي القرينة.

وإما من أجل تقديم الظهور التصوري للقرينة على الظهور التصوري للمفردات الأصلية؛ فإنّ ذلك هو الموافق لدور القرنية في الكلام وطبعها, وخلاف ذلك يكون خلاف الطبع. وهذه النكتة أَولى من الأُولى لأنَّها تجري حتى لو لم يكن ظهور القرينة أقوى من ظهور ذيها. هذا ما ذكره السيد الصدر قدس سره في المقام.

والحق أن يقال: إن دور الظهور التصوري ليس إلا إخطار المعاني في الذهن, وأما دلالة الألفاظ على تلك المعاني فهي تتبع الظهورات التصديقية، فإثبات دلالة الجملة والمفردات على المعنى المجازي يحتاج إلى عناية أكثر من أنس الذهن أو الطبع؛ فإنهما لم يحصلا إلا بعد تحقق الظهورات التصديقية, وإلا فإنّ مجرد سماع المفردات في الكلام الأصلي والقرنية لا تثبت الظهور الثانوي إلا بعد استتباع الظهور التصديقي في الإرادة الإستعمالية والإرادة الجدّية.

نعم؛ سماع تلك المفردات يوجب إخطار معانيها في الذهن ولو كانت صادرة من غير ذي شعور، وبما أنّ تلك الدلالات مرتبطة في الذهن يطرأ آثار أحدهما على الأخرى ويصعب التمييز بينهما؛ ففي هذه المرحلة -أي الظهور التصوري- لا يمكن إثبات المعنى المجازي إلا بالطريق التي تتحقق في الدلالتين الأخريين, فليس للقرينة دور حقيقي في إثبات الظهور التصوري الثانوي للجملة والسياق.

وأما تصور القرينة بلحاظ الظهور التصديقي بلحاظ المراد الإستعمالي, وذلك بأن ينصب المتكلم ما يكون معدّاً لتفسير المراد الإستعمالي من كلامه فتوجب تغيير مدلوله التصديقي

ص: 288

وتثبيت ظهورٍ جديد للكلام، وهذا صحيح وواقع خارجاً ولكن في الحكومة على نحو النظر والشرح, وفي التقييد والتخصيص على نحو الكشف النوعي كما تقدم بيانه.

وأما تصور القرينة بلحاظ الظهور التصديقي بلحاظ المراد الجدي بأن يجعل في الكلام ما يكون معدّاً لتفسير المراد الجدي من كلامه؛ فالكلام فيه كالكلام في سابقه في نصب قرينة على تفسير المراد الجدي وذلك بقرار عرفي عام أيضاً.ثم إنه قد ذكرنا أنّ النكتة في وجه تقديم القرينة على ذي القرينة في كلا الظهورين هو العرف المحاوري بلا فرق بين الحاكم والمحكوم. وبقية الموارد وإن كانت النكتة في الحكومة هي أنّ المتكلم بنفسه قد أعدّ في كلامه ما يحدد النهائي منه, كما إنه لا فرق بين أن تكون القرينة متصلة أو منفصلة, إلا أنّ القرينة المتصلة لا تحتاج إلى عناية إذ أنها لا توجب تصرفاً زائداً في كبرى حجية الظهور, ولكن في القرينة المنفصلة وباعتبار كون الكلام السابق قد انعقد ظهوره فانهدامه يحتاج إلى عناية زائدة, وهي التوسعة ليشمل المنفصل. وهي البناء النوعي العقلائي لإلحاق المنفصل بالمتصل في تحكيم القرينة على ذي القرينة. ومن هنا اعتبر الأصوليون التقييد والتخصيص والأظهرية من موارد الجمع العرفي أيضاً.

إذا عرفت ذلك فلا بُدَّ من بحث كل واحد منها مستقلاً:

التقييد: وهو رفع اليد عن الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة لوجود ما يدل على ذلك وهو المقيد، وهو إما أن يكون متصلاً كما إذا قال (أكرم الأدباء ولا تكرم فسّاقهم) وإما أن يكون منفصلاً؛

ففي الحالة الأولى؛ اجتمع في الكلام دالّان: أحدهما ظاهر في الإطلاق, والآخر ظاهر في التقييد. ولا تعارض بينهما لأنّ فرض الإطلاق للدال على التقييد فرع تمامية مقدمات الحكمة، ومع وجود الدال المتصل على التقييد لم تتم مقدمات الحكمة فترتفع دليلتيه

ص: 289

بسبب دليلية التقييد فلا يكون في البين إلا دليل واحد, لا أن يكون دليلان حتى يتحقق التعارض بينهما.

وفي الحالة الثانية؛ وهي ما إذا كان الدال على التقييد منفصلاً فإن قلنا بالملاك المتقدم في الدالّ المتصل فيكون الدليل المنفصل رافعاً لدليلية الإطلاق بعد عدم تمامية مقدمات الحكمة فيه،, وذلك للبناء العقلائي العام الشامل للمتصل والمنفصل، والأمر واضح.

وأما إذا لم نقل بذلك فلا بد من التماس نكتة أخرى في إتمام ذلك، والسبب في هذا الإختلاف يرجع إلى أنّ مقدمات الحكمة التي هي منشأ الدلالة الإطلاقية هل تتوقف على عدم الدالّ عل التقييد مطلقاً ولو كان منفصلاً، أو أنها تتوقف على عدم التقييد المتصل فقط؟ إختار بعض الأصوليين(1) الثاني؛ فاعتبر أنّ الدلالة الإطلاقية تتوقف على عدم الدالّ المقيد المتصل فلا ينعقد الإطلاق، وأما المقيد المنفصل فلا يرفع الدلالة الإطلاقية وإنما يوجب سقوطها على الحجية. واستدل على ذلك بأنّ تمامية الدلالة الإطلاقية وانعقادها وصحة التمسك بها إنَّما تكون بمجرد انتهاء المتكلم من المطلق وعدم نصب قرينة على تقييده، فلو كانت الدلالة الإطلاقية متوقفة على عدم القرينة المنفصلة على التقييد لما أمكن إثبات الإطلاقفي مورد، ولانسدّ باب مقدمات الحكمة إذ لا يمكن إحراز شرطه وهو عدم التقييد المنفصل.

قد يقال: إنه يمكن إحرازه لأصالة عدم القرينة.

وجوابه: إنّ هذا الأصل يجري في ما إذا ثبت في مقام الإثبات ظهورٌ للكلام يقتضي إفادة شيء ونشكّ في ورود قرينة على خلافه، فيدفع الإحتمال بأصالة عدم القرينة فيكون المرجع هو أصالة الظهور وعدم جواز رفع اليد عنها لمجرد الإحتمال. وأما في المقام فلا

ص: 290


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص181.

يوجد ظهور سوى مقدمات الحكمة وهي تقتضي إفادة الإطلاق، وهو موضوع الشك. وقد ذكر بعض الأصوليين وجهاً آخر، وذكرنا ما يتعلق بذلك في مباحث المطلق والمقيد.

ثم إنّ الأساس في تقديم القرينة المنفصلة هو كونها من القرينة عند العرف، ولا ريب أنها هي الملاك في موارد الجمع العرفي للتقييد والتخصيص وغيرهما على ما تقدم بيانه؛ فإنّ العرف يرى أنّ انعقاد الظهور الإطلاقي يتوقف على عدم وجود ما يكون معدّاً عندهم لتفسير الأعم ولو كان منفصلاً عنه فيكون تقديم المقيد المنفصل على المطلق راجع إلى أنّ المقيد هو المحدّد النهائي لمدلول مجموع كلامه, فلا يرى التعارض بينهما لدليل الحجية, ولا ريب أنّ ذلك يرجع إلى البناء العقلائي العام في المحاورات من أنّ المتكلم له الحق في بيان جميع مرامه وتفسيره ولو على سبيل التدريج.

ومن جميع ذلك يتضح إنه تارة؛ نحرز الإطلاق من كلام المتكلم بالقطع, وأخرى؛ بالظاهر والأصل؛ وعلى كل منهما فإما أن يكون في البين ما يشك في كونه قيداً، أو لا. فالأقسام أربعة، ولا ريب في ثبوت الإطلاق في ثلاثة منها وهي ما إذا أحرز الإطلاق بالقطع سواء كان في البين ما يشك في كونه قيداً أم لا, وما إذا احرز بالأصل ولم يكن في البين ما يشك في كونه قيداً. كما لا ريب في عدم ثبوته في ما إذا أحرز بالأصل وكان في البين ما يصلح للتقييد، وذلك لعدم صحة الإعتماد على الأصل حينئذٍ.

وإما إذا لم يكن كذلك بل كان من مجرد الشك في المقيد فأصالة الإطلاق محكّمة بلا فرق بين كون الشك في أصل التقييد أو في قيدية الموجود إلا إذا كانت أمارة معتبرة على التقييد, بلا فرق في جميع ذلك بين القيد المتصل والقيد المنفصل فينعقد الإطلاق في الأخير حتى يأتي القيد. كل ذلك بالعرف المحاوري العام، وقد تقدم التفصيل في مباحث المطلق والمقيد فراجع.

ص: 291

التخصيص: وهو من الشائعات في المحاورات مطلقاً، وهو عبارة عن رفع اليد عن العموم الثابت بالوضع وأدوات العموم لوجود الدال على التخصيص، فيفيد في إخراج بعض أفراد العام عن حكمه فقط بلا عناية كون دليل الخاص ناظراً إلى التضييق في أفراد العام وإن كان يترتب عليه ذلك قهراً, وهو تارة يكون متصلاًبالعام, وأخرى يكون منفصلاً عنه. وما ذكرناه في التقييد يجري في التخصيص إلا أنّ هناك فروقاً بينهما، ويقع الكلام عن ذلك في جهات:

الجهة الأولى: في التخصيص بالمتصل؛ ولا إشكال في تقديم المخصص المتصل على العام وإنما البحث يقع في تخريج الوجه الفني لذلك، وقد ذكرنا أنّ التخصيص من موارد الجمع العرفي التي يكون الملاك في تقديم دليل على آخر فيه القرينية, فإنّ العرف يرى أنّ ظهور العام في العموم والإستغراق والشمول إنَّما ينعقد إذا لم يكن في البين ما يكون معدّاً عرفاً لتفسير ذلك العام وتضييق حكمه بالنسبة إلى بعض الأفراد فلا تعارض بين دليل الخاص ودليل العام. نعم؛ قد يلتبس ذلك في بعض الموارد.

ولبيان ذلك نقول: إنّ التخصيص له أقسام ثلاثة يختلف بعضها عن الآخر في الوضوح، وهي:

القسم الأول: أن يكون المخصّص المتصل مدخولاً لأداة العموم, كما هو الحال في التخصيص بالوصف وشبهه مثل قولهم (أكرم كل عالم عادل)، ولا ريب في عدم وجود التنافي والتعارض بين ما يدل على العموم وبين ما يدل على الخصوص؛ لأنّ أدوات العموم قد وضعت للدلالة على شمول مجموع ما وقع مدخلاً لها إلا خصوص ما يتعقبها ويتصل بها من العناوين فكأنما المدلول في المثال هو الموصوف والوصف بعد تقييد الأول بالثاني قبل العموم فيكون طارئاً على العنوان المقيد من أول الأمر. .

ص: 292

القسم الثاني: التخصيص بالإستثناء؛ كقولهم (أكرم كل الشعراء إلا الفساق) فإنّ في هذا القسم قد انعقد مدخول الأداة على العموم قبل الإستثناء لعدم كون الإستثناء جزءً من مدخولها نظير(أكرم هؤلاء العشرة إلا زيداً)، فقد انعقدت الدلالة على العشرة في نفسها ولكن

المستثنى قد انقطع منها.

والملاك الذي ذكرناه يجري في المقام؛ فإنّ الإستثناء قرينة معدّة عرفاً في توضيح مدخول الأداة؛ أي العام بعد شموله للمستثنى، وهذا بالنظر العرفي المبني عليه المحاورات تام. وأما بحسب الدقة فقد يقال أنّ في المثال المزبور ثلاث دلالات:

أولها؛ دلالة الأداة على العموم، وثانيها؛ دلالة أداة الإستثناء على الإنقطاع وعدم شمول حكم المستثنى منه المستثنى؛ وهاتان بينهما تنافٍ، والثالثة؛ دلالة السياق الحاصل من العام المتعقب بالإستثناء على العموم المنقطع منه مقدار المستثنى. وهذه الدلالة هي التي تثبت ظهوراً جديداً في الذهن ويستقر فيه، وبهذا الظهور الجديد يرتفع التعارض بين الدلالتين،

ولكن ذلك فيه نوع من التعقيد. وقد ذكرنا سابقاً أنّ كل متكلم له الحق أن يشرح كلامه ويعيّن مرامه بنصب كل ما يكون له الدخل في تعيين مراده.ومن أجل هذا لم يثبت العرف التنافي بين دلالة العموم ودلالة الخصوص لأن بينهما نسبة القرينة وذي القرينة، ولم يقع التعارض بين دليلهما؛ لأنَّهما قد إتّحدا في تعيين الظهور السياقي الجديد لمجموع الكلام.

وفي هذين القسمين يبقى العموم على عمومه وإن خرج بعض الأفراد عن حكم العام لأنّ الظهور العام لم ينخرم بورود التخصيص عليه، فلا تسقط حجيته بالنسبة إلى الباقي كما فصلنا الكلام فيه في بحث العام والخاص.

ص: 293

القسم الثالث: التخصيص بجملة مستقلة تعقبت الجملة الدالة على العموم ودلت على خلاف حكم العام في موضوع يكون نسبته إلى العام نسبة الخصوص إلى العموم؛ كما إذا قال (لا يجب إكرام كل عالم)، ثم قال (أكرم الفقيه)؛ والوجه في ما ذكرناه آنفاً في القسمين السابقين يجري في هذا القسم أيضاً بلا فرق بين أن يكون التخصيص متصلاً على نحو الوصف أو الإستثناء أو تكون جملتين مستقلتين؛ إذ المناط في الجميع واحد كما عرفت. إلا أنه قد يستشكل في وجه تقديم الخاص على العام وبقاءه على العموم في الباقي بعد التخصيص.

ولهم محاولات في الجواب عن هذين الإشكالين نذكر اثنين منها:

المحاولة الأولى: دعوى أنّ الخاص المتعقب للعام إنَّما يتقدم عليه باعتبار الأظهرية وأقوائية دلالته من دلالة العام فينطبق عليه قانون تقديم الأظهر على الظاهر وتقديم أقوى الدلالتين على أضعفهما.

ويرد عليه: إنه لا يتمّ فيما إذا انقلب الأمر وكانت دلالة العام أظهر أو أقوى من دلالة الخاص كما في المثال المتقدم (يجب إكرام كل عالم) و(أكرم الفقيه)، وقلنا بأنّ دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي هي أضعف من دلالة الأداة على العموم فلا بُدَّ أن يحمل الأمر على الإستحباب حينئذٍ لأنّ دلالة العام لفظية, ودلالة الخاص إطلاقية, فلا وجه لحمل العام على غير الفقيه، ويخصص الأقوى بالأضعف والأظهر بالظاهر.

مع أن هذا الجواب لا يحلّ الإشكال الثاني وهو بقاء العام حجة من الباقي، ولهذا التجأ الشيخ الأنصاري قدس سره (1) وغيره إلى حلّه بالتبعيض في الدلالات من حيث الحجية بأن نقول: إنّ العام يدل على إرادة تمام أفراده، فكل فرد منها يكون مراداً ضمناً، وعندما

ص: 294


1- . هذا الرأي منسوب إلى الشيخ الأنصاري كما حكاه في بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص191.

تسقط إرادة بعض الأفراد بالتخصيص فلا موجب لسقوط الباقي، بل يبقى العام حجة في دلالاتها التضمنية الأخرى.

وقد حمل كلام المحقق الأنصاري قدس سره هذا على إرادة مرحلة الدلالة الإستعمالية. وأشكلوا عليه بأنّ الدلالة الإستعمالية هي الدلالة على إخطار المعنى الموضوع له اللفظ في الذهن السامع؛ فإذا لم يرد العموم فقد استعمل اللفظ فيغير ما وضع له رأساً. ومن أجل ذلك طبق المحقق الخراساني قدس سره وغيره هذا البيان على مرحلة الدلالة الجدّية للكلام؛ بمعنى أنّ هناك دلالات جدّية بعدد الأفراد، فكلّ فرد يشمله العموم يكون داخلاً في المراد الجدّي للمتكلم فإذا سقطت بعض تلك الدلالات فلا وجه لسقوط الباقي.

وأُشكل عليه بأنّ ذلك إن تم في العام الإستغراقي فإنَّه لا يتم في العام المجموعي؛ إذ لا يوجد فيه دلالات تصديقية عديدة بعدد أفراد العام، بل هناك دلالة تصديقية واحدة على إرادة المجموع كموضوع واحد ذي حكم، مع إنّ العام حجة في الباقي مطلقاً بلا فرق بين العام الإستغراقي والعام المجموعي.

ويمكن الإنتصار لما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس سره من دون أن يرد عليه الإشكال والإعتراض عليه؛ بأنّ المتكلم لما قصد إخطار المعنى في ذهن السامع وأنه قاصد لاستعمال اللفظ في المعنى وهو عموم اللفظ في المقام فإنّ السامع والمتكلم يعلمان بأنّ العرف قد أعطى للمتكلم حق نصب القرينة في تعيين مرامه وتفسير مراده؛ فإنّ العموم المستفاد من اللفظ قد ينثلم بنصب ما يدل على التخصيص وإخراج بعض الأفراد عن حكم العام سواء كان ذلك الإخراج لفرد أو أفراد عن مجموعة أفراد أم كان الإخراج فرداً عن جمع معين؛ فإنّ نظر العرف في ذلك العموم لا يختلف في بقاءه على العموم في الباقي, ومن المعلوم أنّ المحاورات مبنية على المواضعات العرفية لا الدقيات العقلية.

ص: 295

المحاولة الثانية: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنّ تقدّم الخاص على العام بملاك القرينة. وقد تقدم أنّ المراد بالقرينة ما يعدّه المتكلم إعداداً نوعياً لتفسير دلالة أخرى وتحويل مفادها إلى مفاد آخر, ولا ريب أنّ العرف يرى بأنّ القرينة لا تنافي ذي القرينة لأنَّها تعيّن المراد النهائي للمتكلم وتجعل لمجموع كلامه مفاداً نهائياً يكون هو المقصود. وهذا يرجع إلى ما ذكرناه أيضاً, وإن فصلّ السيد الصدر كلام المحقق النائيني بما لا يرجع إلى محصل بعد معلومية الملاك. ولكن أشكلوا على هذه المحاولة بأنها لم تبين حجية العام في تمام الباقي إلا أنّ أصحابها حاولوا تخريج الملاك على الوجه الذي ذكره أصحاب المحاولة السابقة والتي استشكل عليها بأنها لا تفي بحلّ الإشكال في العام المجموعي، وقد عرفت الجواب عنه آنفاً فراجع.

وهناك محاولات أخرى لا تخلو عن مناقشة؛ فإذا أمكن إرجاعها إلى ما ذكرناه، وإلا فلا وجه لذكرها وإطالة الكلام فيها.

الجهة الثانية: في التخصيص بالمنفصل؛ بأن يكون الدال على التخصيص بخطاب منفصل عن خطاب العام، وما ذكرناه في التخصيص المتصل يجري في المقام أيضاً باعتبار أنّ التخصيص سواء كان متصلاً أم منفصلاً مبني علىالقرينة, فإذا كان هناك عرف عام على أنّ القرينة إذا عدّت نوعاً بحيث تكون مبيّنة الدلالة محدّدة المراد النهائي من الكلام فلا يفرق فيه حينئذٍ بين أن تكون القرينة متصلة أو منفصلة، وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع من قال بأنّ أدوات العموم وضعت لعموم ما يراد من مدخوله، وهو يتوقف على عدم البيان المتصل والمنفصل, ولا حاجة إلى إدراجه في الإطلاق ومقدمات الحكمة حتى يستشكل عليه بأنّ المراد من عدم البيان هو الذي أجرى مقدمات الحكمة هو عدم البيان المتصل كما إنه يمكن إرجاع ما قيل بأنّ تقديم الخاص على العام لكونه أظهر وأقوى دلالة

ص: 296

لأنَّه يرجع إلى القرينية الثابتة في الحالتين؛ المتصلة والمنفصلة، كما إنه لا حاجة إلى إضافة مصادرة زائدة في وجه تقديم الخاص المنفصل بأن يقال أنّ إعداد البيان الأخص لكي يكون مفسراً لما هو المراد من العام لا يختص بفرض الإتصال، بل يجري في فرض الإنفصال أيضاً فإنّ كل ذلك تطويل لا طائل تحته.

نعم؛ تكون القرينة المتصلة هادمة للظهور, والقرينة المنفصلة ربما تكون هادمة للحجية, وقد تقدم الكلام في ذلك في بحث الظهور.

والمتحصل من جميع ذلك هو: إنّ سيرة العقلاء استقرت على تقديم الخاص على العام مطلقاً؛ سواء كانا قطعيين من حيث السند والدلالة أو ظنيين كذلك، أو بالإختلاف لأنّ الخاص قرينة للتصرف في العام، وتقديم القرينة على ذيها من القطعيات في المحاورات, ولا فرق بين كونهما في كلام واحد أو كانا في خطابين فيقدم الخاص على العام مطلقاً, وليس من دأب العقلاء في المحاورات ملاحظة النسبة بين القرينة وذيها. وكذا الكلام في المطلق والمقيد مع تحقيق شرائط التقييد التي فيها إحراز وحدة المطلوب كما تقدم تفصيله.

وأما القول بأنّ تعدد الخطاب هو حقيقة مفروضة في شريعة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم فهو مِمّا لا وجه له, لأنّ ألسنة المعصومين علیهم السلام من بدء البعثة إلى بدء الغيبة الكبرى لسان واحد ويحكي عن واحد، فلا تلاحظ النسبة بينهما.

وكيف كان؛ فما ذكره الأصوليون في المقام كله تطويل لا طائل تحته.

الجهة الثالثة: في الفرق بين التخصيص والحكومة؛ وقد ذكروا بينهما فروقاً:

1- إنّ التخصيص من شؤون الألفاظ، والحكومة من شؤون المعاني.

ويرد عليه: إنه من مجرد الدعوى, مع أنّ اللفظ طريق إلى المعنى وبالتالي يصير التخصيص من شؤون المعنى.

ص: 297

2- إنّ إجمال الحاكم يرجع إلى المحكوم مطلقاً متصلاً كان أم منفصلاً، بخلاف الخاص فإنَّه إن كان منفصلاً وتردد بين الأقل والأكثر فإنَّه يؤخذ بالعام بالنسبة إلى الأكثر.

3- وفيه: إنه يمكن القول بذلك في الحكومة أيضاً كما تقدم بيان ذلك.

إنّ التخصيص يكون للتضييق دائماً، بخلاف الحكومة فإنها ربما توسّع كما تقدم بيانه.

ويرد عليه: إنه يمكن استفادة التوسعة من التخصيص أيضاً كما إذا قال (لا تكرم الفساق) فإنَّه يضيّق مفاد (أكرم العلماء)، ويوسع دائرة الفساق لتشمل فساق العلماء. وقد ذكروا وجوهاً أخرى، وهي ضعيفة.

والحق؛ إنّ ما ذكرناه في حق الحكومة من أنها مبنية على النظر، والقرينة الشخصية بخلاف التخصيص فلا يتقوم بذلك، وهو عمدة الفرق بينهما.

الأمر الثالث: النص والظاهر والأظهر
اشارة

وهي من الشائعات في المحاورات ولا يطلق أحدها على الآخر؛ لا عرفاً ولا لغة ولا شرعاً, ولا ريب في تقديم النص على الآخرين, كما لا ريب في تقديم الأظهر على الظاهر, وذلك لصلاحية النص للتصرف فيهما دون العكس, كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى الأظهر والظاهر, ويعتبر ذلك من المسلّمات عند أهل المحاورة كالتسالم على اعتبار الظواهر، فلا نحتاج إلى إقامة دليل من الخارج عليه. ولعله من أجل هذا اعتبر ذلك من موارد الجمع العرفي وهو من الوضوح بمكان، ولا حاجة إلى إطالة الكلام فيه ولكن دأب الأصوليين التفصيل والإطالة.

ص: 298

وكيف كان؛ فقد ذكروا بأنّ النص والأظهر والظاهر من الدلالات المتنافية ولكن تمتاز أحدها عن الأخريين بالصراحة أو الأقوائية. والكلام في ذلك يقع في نقاط:

النقطة الأولى: إذا اجتمع النص والظاهر, أو الأظهر والظاهر في خطاب واحد؛ فقد قالوا بأن النص يهدم ظهور الآخرين, كما أن الأظهر يهدم ظهور الظاهر. وقد ذكروا في تخريج ذلك وجوهاً:

الوجه الأول: إفتراض وقوع التزاحم بين المقتضيين للظهور التصوري من كل منهما في مقام التأثير لتعيين الصورة النهائية المستقرة في الذهن من اللفظ فيتغلب المقتضي الأقوى في مقام التأثير الذي يكون في النص أو الأظهر.

الوجه الثاني: إنعقاد الظهور التصديقي على طبق ما يكون الظهور التصوري على نحو آكد وأقوى فيرجع إلى أنّ المتكلم يكون قاصداً للمعنى الأظهر في موارد صدور كلامين مختلفين منه.

الوجه الثالث: تطبيق قاعدة القرينة على التفصيل المتقدم.

وكلّ ذلك خارج عن الخطّ المحاوري العرفي مع ما تقدم من الإشكال على ذلك. فالصحيح ما ذكرناه من أنّ العرف المحاوري قائم على أنّ للنص صلاحية التصرف في الأظهر والظاهر, كما أنّ للأظهر هذه الصلاحية في التصرف في الظاهر، وهو من المسلمات المحاورية فلا حاجة إلى إقامة البرهان على ذلك.

النقطة الثانية: إذا كان ذلك في خطابين منفصلين؛ والكلام فيه كالكلام في السابق، إلا أنهم قالوا بأنّ الوجوه الثلاثة لا تجري في هذا القسم فلا بُدَّ منمصادر إضافية كما ذكر في تقديم الخاص المنفصل على العام, وقد ذكرنا بعض المحاولات فيما سبق فإنها تجري في النص والظاهر، والأظهر والظاهر.

ص: 299

وقد عرفت الإشكال فيها وإنه لا حاجة إلى ذلك كله بعد وضوح الأمر ومسلّمية الحكم عند أهل المحاورة.

النقطة الثالثة: إنّ قاعدة تقديم النص والأظهر مطلقاً إنَّما يمكن الإعتماد عليها وإعمالها فيما إذا كانت النصوصية والأظهرية ثابتة مستندة إلى اللفظ وثابتة في الكلام بحسب ما يكتنفه من القرائن والملابسات, فلا تكفي النصوصية المتولدة من مجرد علم خارجي يحصل بالصدفة وتستند إلى الظهور. كما إذا انتفى في الخارج احتمال في أحدهما وهو موجود في الآخر. والوجه في ذلك يرجع إلى أنّ تقديم النص والأظهر إنَّما كان بملاك الظهور أو القرينية أو التزاحم بين المقتضيين في مقام التأثير كما قيل، وكل ذلك ينحصر بما إذا كان للخطاب درجة من الكشف والظهور ليكون قرينة أو أقوى اقتضاءً من الآخر، فلا يشمل مجرد حصول علم لدى السامع ولو لم يكن من ظهور اللفظ. وقد تقدم تفصيله في بحث الظهور فراجع.

النقطة الرابعة: في إمكان تخريج الجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل ما يوافق منهما للعامة على التقية على أساس الجمع العرفي وتطبيق قانون النصوصية أو الأظهرية على الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم؛ وذلك من جهة اختلافهما في درجة الظهور في الجدّية.

ولكن هذا وإن أمكن قبوله إلا أنّ جعله من موارد الجمع العرفي فيه نوع مسامحة، لأنّ الرجوع إلى هذا الجمع لا يصحّ إلا بعد عدم إمكان التوصل إلى الجمع العرفي بأحد الأنحاء التي تقدم ذكرها من التقييد والتخصيص والأظهرية والظاهرية, فيكون هذا الجمع طولياً بالنسبة إلى تلك الأنحاء لأنَّها أكثر شيوعاً وعموميةً من الجمع بلحاظ مرحلة الدلالة الجدّية؛ لما عرفت من أنّ إرادةَ المقيد من المطلق، أو الخاص من العام بناءٌ

ص: 300

نوعي عقلائي، بخلاف إرادة التقية مِمّا ظاهره الجدّ فإنها عناية شخصية لظروف الإمام علیه السلام إلا أن تكون هذه الحالة قد بلغت من الكثرة بحيث عمّ البلوى بها مِمّا يجعلها في مصافّ الخاص والمقيد في الشيوع. ولا يبعد حصول ذلك في بعض الأوقات، كما لا يخفى على الخبير.

وبذلك ننهي الكلام عن التعارض غير المستقر الذي لا يسري إلى دليل الحجية, وإنما يرتفع بأدنى معالجة بتقديم الوارد والحاكم والخاص والمقيد والأظهر؛ وغير ذلك من موارد الجمع العرفي، فتنتفي المعارضة بسهولة وأدنى تفكّر.

ختام فيه أمران

الأمر الأول: ذكرنا إنه في موارد الجمع العرفي إنَّما يتقدم أحد الدليلين على الآخر كما في الخاص على العام, والمقيد على المطلق, والحاكم على المحكوم, والأظهرعلى الظاهر, بملاك الظهور والقرينة بينهما؛ ولا ريب أنّ العرف لم يلاحظ النسبة بين القرينة وذيها، ومن أجل ذلك قلنا بأنّ النسبة لم تلاحظ بين العام والخاص وكونهما قطعيين أو ظنيين أو بالاختلاف، كما لم تلحظ النسبة بين دليلهما؛ فإذا حكم العرف بتقديم أحد الدليلين في أقسام التعارض غير المستقر على الآخر لم تلاحظ النسبة بين دليل حجيتهما، ومع ذلك فقد وقع الكلام والنقاش في ملاحظة النسبة بينهما، ولكنه مجرد بحث نظري لا تترتب عليه أية ثمرة علمية؛ فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى أنّ نسبة دليل الخاص إلى دليل العام هي نسبة الحكومة بمعنى أن الخاص رافع لموضوع حجية العام تعبداً لا وجداناً, وذهب آخرون إلى أن النسبة بينهما نسبة الورود أي أن الخاص يرفع موضوع العام وجداناً لا تعبداً.

ص: 301


1- . فوائد الأصول؛ ج3 ص161.

وقد تمسك القائلون بالأول بأنّ دليل الحجية قد أخذ في موضوعه مجموع أمرين؛ الظهور وعدم العلم بإرادة الخلاف, فالعلم إذا ورد حجية أحدهما في قباله كالخاص علمنا بإرادة خلاف العموم منه، ولكنه علم تعبدي لا وجداني فيكون حكومة لا وروداً.

واستدل القائل بالثاني بأنّ العام مقيدٌ حجةً بعدم نصب الخاص قرينة على خلافه ولو منفصلاً, فمع ورود الخاص يرتفع ما هو موضوع الحجية عن العام حقيقة ووجداناً فيكون وروداً لا حكومة.

والحق أن يقال: إنّ النزاعَ -مضافاً إلى إنه لا ثمرة علمية فيه- لفظيٌ؛ فإنّ حجية العام إنَّما تأتي من ناحية الظهور الذي اعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وهم يرفعون اليد عنها إذا وردت حجة في قبالها، واللفظ كاشف عنها؛ فما يطرأ على الكاشف يطرأ على المنكشف, وكذا بالعكس فلا وجه لملاحظة أحدهما دون الآخر.

الأمر الثاني: ذكرنا أنه يتقدم الخاص على العام ويخصص به من دون ملاحظة النسبة بينهما؛ لكون الخاص قرينة على التصرف في العام، والعرف المحاوري قائم على عدم ملاحظة النسبة بين القرينة وذيها؛ فلا إشكال في تقديم الخاص وإن كان ظنياً سنداً أو دلالة على العام وإن كان قطعياً سنداً أو دلالة, وهو واضح.

وقد ذكر الأصوليون تقريبات لذلك، وكلها ترجع بالتالي إلى ما ذكرناه، وهي:

التقريب الأول: إنّ سند الخاص الظني إذا كان حجة عند العقلاء فإنّ سيرتهم العملية قد انعقدت على العمل بالخاص في مورد معارضة العام، وتخصيص الأخير به كما انعقدت سيرة المتشرعة منذ عصر الأئمة علیهم السلام على العمل بالروايةالمخصصة لعموم أو إطلاق ولو كانا في دليل قطعي السند, فتطابقت السيرتان العقلائية والمتشرعية في ذلك.

ص: 302

التقريب الثاني: التمسك بإطلاق الأدلة اللفظية التي تثبت حجية السند كما تقدم بيان ذلك في بحث حجية الخبر؛ فإنَّه بناءً عليه يقدَّم الخاص الظني على دلالة العام في فرض إجمال في السيرة العملية.

ولكن يمكن القول بأنّ التمسك بالدليل اللفظي يتوقف على أن يكون متعرضاً لكبرى الحجية مطلقاً بصراحة, وأما إذا لم يكن كذلك بأن كان في مقام بيان الحجية بما هو المرتكز لدى العرف مِمّا استغنى معه عن الصراحة فلا ينعقد له إطلاق. وقد تقدم ذلك في بحث حجية الخبر والجواب عنه.

وكيف كان؛ فإنّ في السيرة العملية غنىً وكفاية سواء ثبت الإطلاق للأدلة اللفظية؛ كما هو المختار، أم لم يثبت.

التقريب الثالث: إنه لو فرض أنّ سند الخاص لم يكن حجة عند العقلاء وإنما ثبت حجيته بدليل شرعي، فلم يعمل العقلاء بالخاص الظني السند وكان اعتمادهم على عموم العام، ومع ذلك لا بُدَّ من العمل بالخاص وتقديم سنده؛ لأنّ السيرة العقلائية قامت على العمل بكل ظهور على نحو القضية الحقيقية لا القضية الخارجية ما لم تثبت قرينة على الخلاف, فإذا ثبتت حجية دليل عند الشارع كان صالحاً لإثبات القرينة ورفع حجية ذلك الظهور. ولا ريب أنّ جميع ذلك يرجع إلى ما ذكرناه من أنّ الخاص قرينة؛ وهي مقدمة على ذيها في كل الأحوال كما لا يخفى على الخبير.

الشروط العامة للتعارض غير المستقر

بعدما عرفت حكم التعارض غير المستقر, وموارد الجمع العرفي التي يرتفع فيها التعارض بين الدليلين المتنافيين، وقد تقدم أنّ في مورد التعارض غير المستقر لا يسري التعارض إلى دليل الحجية فإنَّه يمكن استخلاص الشروط العامة لهذا القسم من التعارض من جميع ما

ص: 303

ذكرناه، وأنه ليس كل تعارض بين دليلين وتنافٍ في الدلالتين يكون من التعارض غير المستقر والذي له أحكام خاصة كما عرفت. والشروط أربعة:

الشرط الأول: أن يكون المتكلم بالكلامين اللذين يجمع بينهما بأحد أنحاء الجمع العرفي واحداً أوبحكم الواحد, فلو تعدد المتكلم فلا يتأتى الجمع المذكور.

وهذا الشرط يكون واضحاً في الموارد التي يبتني الجمع العرفي فيها على القرينة كالحكومة والتخصيص والتقييد، وإنَّما يختص بالقرينة الصادرة من نفس الشخص الذي صدر منه ذو القرينة. وكذا الأمر في الورود، إلا أنه قد يكون فيه نوع خفاء لأنّ الورود قد تلاحظ فيه الجهة الإنشائية للدليل الوارد بأن كان متكفلاً لجعل مولوي يقتضي رفع موضوع الجعل في الدليل الآخر.فلا إشكال في ملاحظة الشرط المزبور فيه لأنّ رافعيةَ جعلٍ لموضوعِ جعلِ موضوعٍ آخر إنَّما تدخل في تشريعات جهة واحدة.

ولو فرض أنّ شخصاً أناط حكمه بعدم صدور الحكم من الآخر يكون الحكم من الآخر وارداً عليه, ولكنه ليس من التعارض مطلقاً، وإذا نسب التعارض إليه فإنَّما يكون مصطنعاً، وأما إذا كان الملاحظ في الورود هو الجنبة الإخبارية؛ بأن يكون الوارد متكفلاً للإخبار عن عدم انطباق موضوع المورود على فرد, فلا يتوقف هذا على وحدة المصدر للوارد والمورود كما لا يخفى.

ثم إنّ المراد من كون المتكلم بحكم واحد، وهم المتكلمون المتعددون الذين يمثلون جهة واحدة كما بالنسبة إلى الأئمة المعصومين علیهم السلام فإنهم واحد يحكون عن واحد من بدء البعثة إلى بداية الغيبة الكبرى؛ فإنّ كلامهم واحد فقد يكون المتكلم منهم في صدر البعثة والشارح

ص: 304

المفسر يكون في بداية الغيبة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى أشخاص غير معصومين إذا كانوا يمثلّون جهة واحدة في غير الشريعة فإنَّه يسري الجمع العرفي في كلماتهم.

الشرط الثاني: حصول الإطمئنان بصدور الخطابين اللذين بينهما الجمع العرفي, فلو علم إجمالاً بعدم صدور أحدهما فإنَّه يكون من موارد التعارض المستقر، ولا تصل النوبة إلى الجمع العرفي الذي هو علاج للتعارض الدلالي الحاصل بين الخطابين, ومع العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يكون التعارض بين مدلولي الخطابين، بل يكون بين نفس الخطابين, ومع العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يكون التعارض بين مدلولي الخطابين، بل يكون بين نفس الخطابين, ولا معنى للجمع العرفي حينئذٍ, فيكون التعارض مستقراً وسارياً إلى دليل الحجية.

الشرط الثالث: أن لا يستلزم من الجمع العرفي إلغاء دلالة ذي القرينة, فلا بد أن يبقى مجالاً للتعبد بمقدار دلالة ذي القرينة، وإلا فلا مجال لإعمال الجمع العرفي.

والوجه في هذا الشرط هو أنه مع عدم إمكان التعبد بدلالة ذي القرينة -كما هو المفروض- فإنّ التعارض حينئذٍ يرجع إلى دليل التعبد بالسند, فليست المعارضة في الحقيقة بين القرينة وذي القرينة بحسب الدلالة, والمفروض في هذه الصورة أنّ التعبد بالسند مع الجمع العرفي غير ممكن, فهذا يعني أنّ التعارض يكون بين سند القرينة وسند ذي القرينة وهذا هو معنى سريان التعارض إلى دليل حجية السند, والحكم هو التساقط بعد فقْد المرجح.

وبناءً على هذا الطرح قال بعض الأصوليين(1) بعدم إدراج الحمل على التقية من موارد الجمع العرفي بين الدليلين لما تقدم من إنه بلحاظ ظهورهما التصديقي فيالإرادة الجدّية

ص: 305


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص209، ويمكن القول أنّ ذلك يظهر أيضاً من كلمات المحقق الخراساني في الكفاية؛ ص257، وأوضحُ منه في حاشية المشكيني؛ ج5 ص250.

يكون المخالف للعامة نصّاً في الإرادة الجدّية دون الآخر فيؤوّل غير النص على أساس النص حيث ذكر بأنّ هذا الجمع ليس صحيحاً لأنّ حمل الموافق عل التقية يوجب إلغاء التعبد بدلالته رأساً، ومعه لا يمكن شمول دليل التعبد بالسند, فيقع التعارض بين التعبد بالسندين، ومعه لا ينفع إمكان الجمع العرفي.

ولكن الكلام في أصل اعتبار دليل هذا الشرط؛ فقد ذهب بعضهم إلى عدم صحة هذا الشرط لأنّ دليل التعبد بالسند مقيَّد لبّاً بوجوب أثر عملي لمفاد السند المتحصل بعد ملاحظة سائر القرائن؛ فإذا فرض المفاد العرفي للسند المتحصل بعد ملاحظة القرائن لم يكن له أثر فهو خارج عن موضوع دليل التعبد بالسند، وهذا يعني أنّ التعبد بالسند بشموله لسند القرينة يقتضي كون المفاد العرفي لذي القرينة سنخ مفاد لا أثر عملي له، ومعه يخرج سند ذي القرينة موضوعاً عن دليل التعبد.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ دليل التعبد بالسند إنَّما يشمل كل خبر يترتب عليه الأثر عرفاً مطلقاً على سبيل القضية الحقيقية, فما يترتب عليه الأثر يدخل في موضوعه وإن كان هذا الأثر يزول بالجمع العرفي مع القرينة أو بانتفاء موضوعه ونحو ذلك.

الشرط الرابع: أن يكون التعارض غير المستقر بين الدليلين ذاتياً قائماً على أساس التناقض أو التضاد, وأما إذا كان التعارض بالعرض وعلى أساس العلم الإجمالي بمخالفة مدلول أحدهما للواقع فلا يمكن تطبيق قواعد الجمع العرفي حينئذٍ بأن يقدَّم أقوى الدليلين؛ كما لو فرض ورود أمر بصلاة الظهر في يوم الجمعة الظاهر في وجوبها, وورود دليل آخر صريح في وجوب صلاة الجمعة فيها, وعلم من الخارج بعدم جعل فريضتين على المكلف في وقت واحد, فلا يمكن جعل الدليل الصريح قرينة لحمل الأمر بالظاهر على الإستحباب.

وقد ذكر بعضهم(1) أن هذا الشرط قد استفيد من كلمات المحقق النائيني قدس سره .

ص: 306


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص210-211.

واستدل عليه بأحد أمور:

الأول: القياس على الخاص والعام إذا علم إجمالاً بكذب أحدهما؛ كما تقدم في الشرط الثاني, وكذلك لا يقدم أقوى الدليلين على أضعفهما إذا علم إجمالاً بكذب مفاد أحدهما.

الثاني: قياس المقام بموارد اشتباه الحجة باللاحجة، وذلك لأنّ العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين يوجب سقوط معلوم الكذب عن الحجية واقعاً فيكون أحدهما غير حجة في نفسه، فيدخل في مورد معارضة دليلين علم بعدم حجية أحدهما تفصيلاً، ثم اشتبه الأمر وتردد غير الحجة مع الحجة منهما, فإنَّه لا يحكم بتقديم أقوى الظهورين كما هو واضح.وفيه: إنّ موضوع الحجة هو الظهور الذي لم تقم قرينة على خلافه ولم يعلم مخالفته للواقع, وأما في المقام فإنّ العلم الإجمالي بالمخالفة وإن كان متحقَّقاً ولكن نسبته إلى كل واحد منهما على حدٍّ سواء، فتكون نسبته احتمالية لا يقينية, فالقياس على مورد العلم التفصيلي بعدم حجية أحدهما المعين ثم اشتباهه بالحجة في غير محله.

الثالث: إنّ تقديم أقوى الظهورين على أضعفهما إنَّما يكون بملاك القرينيية واعتبار كون الأقوى ظهوراً مفسراً للمراد من الظهور الأضعف، وهذا إنَّما يصحّ فيما إذا كان الدليل الأقوى متعرضاً بمفاده لمفاد الآخر, ومجرد العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يجدي في ذلك.

ويرد عليه: إنه إذا قلنا بأنّ كل تعارض بالعرض يرجع بعد التحليل إلى تعارض بالذات بين المدلول الإلتزامي لكل من الخطابين مع المدلول المطابقي للآخر, ويحلّ هذا التعارض بالجمع العرفي وقوانينه بحمل المدلول الأضعف على ما يوافق الدليل الأقوى على تقدير وجود كذب في البين, ويكون دور العلم الإجمالي الحقيقي هو إحراز هذا التقدير لا أكثر. فالأمر بناءً عليه يكون واضحاً.

ص: 307

الرابع: إنّ في موارد التعارض بالعرض لا يصلح أن يكون الدليل الأقوى من الدليلين للقرينية عل الدليل الأضعف وهدم ظهوره؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي بالخلاف إليهما على حدٍّ واحد, وهذا يعني عدم صلاحية أقوى الدليلين للقرينية على أضعف الدليلين في مورد التعارض بالعرض.

ويرد عليه: إنّ ملاك القرينية وتقديم الأقوى على الأضعف محفوظ في المقام أيضاً, وإنّ العلم الإجمالي لا يوجب سلب القرينية وانثلام الظهور من كلا الدليلين كما هو معلوم.

والحاصل من جميع ذلك: إنه لا فرق في تطبيق قواعد الجمع العرفي والتعارض غير المستقر بين أن يكون التعارض بين الدليلين بالذات أو بالعرض إلا أنّ الفرق بينهما من ناحية أخرى تقدم الكلام فيها فراجع.

ثمرات الجمع العرفي ونتائجه

بعد معرفة موارد تطبيق قواعد الجمع العرفي على الدليلين المتعارضين؛ يقع البحث عن نتائجها بلحاظ كل من الدليل الغالب والدليل المغلوب بعد معلومية الأخذ بمفاد الدليل الغالب, وأما حال الدليل المغلوب وتشخيص ما يتبقى له من مدلول فيُتصور على أنحاء:

1- أن لا يبقى للدليل المغلوب مدلول عملي رأساً؛ وحينئذٍ يخرج عن موضوع دليل الحجية تخصصاً كما تقدم بيانه في البحث السابق. مثل موارد الحمل على التقية, أو موارد الحمل على جملة خبرية غير مولوية بقرينة منفصلة.ولكن عرفت في الشرط الثالث أنه ربما يستشكل في عدم شمول دليل الحجية لمثل ذلك, فإنَّه يشمل كل حالة ظهور عرفي على سبيل القضية الحقيقية, إلا أنّ سقوطها عن الفعلية لأجل عارض لا يستلزم عدم شمول الدليل له فيكون نظير صدور خطاب من متكلم لم يجد له مخاطبين في البين حين الخطاب، أو أنهم كانوا ولكنهم

ص: 308

هلكوا جميعاً, فإنّ ذلك لا يستلزم القول بسقوط الظهور عن الحجية وعدم شمول دليلها له.

2- أن يبقى محتفظاً بتمام مدلوله؛ كما هو الحال قبل الجمع العرفي. كما في موارد الجمع العرفي بالورود التي يتحقق التنافي فيها بين الجعلين، وإنما يكون بين المجعولين في مقام الفعلية.

3- أن يبقى الدليل المغلوب محتفظاً بجزء من مدلوله بعد الإقتطاع منه بجزء آخر؛ كما في موارد التخصيص والتقييد التي يبقى العام والمطلق حجة في الباقي.

4- أن يثبت للدليل المغلوب مفاداً يغاير مفاده الأول؛ وإنما يعيّنه الدليل الغالب. كما في موارد الحكومة التفسيرية بحيث يحدد الحاكم مفاداً يغاير مفاد المحكوم قبل الحكومة.

5- أن يثبت للدليل المغلوب مفاداً يغاير مفاده الأول لكن يعيّنه الدليل المغلوب نفسه؛ وهذا إنَّما يتصور فيما إذا كان للدليل المغلوب أكثر معنى واحد وإن كان ظاهراً في أحدها الذي عارضه الدليل الغالب، وحينئذٍ؛ إن كان المعنى الآخر البديل للمعنى الأول الذي رفعنا اليد عنه بالدليل الغالب لا يحتاج إلى عناية زائدة فلا إشكال، وأما إذا احتاج إلى عناية زائدة بأن كانت هناك مجازات عديدة للفظ, فلا بد من تعيين أحدها بالخصوص من افتراض ظهور ثانوي للدليل المغلوب في إرادة ذلك المعنى بعد عدم إرادة معناه الحقيقي الأول.

ولكل واحد من هذه الأنحاء أمثلة فقهية معروفة في الفقه، وقد تجتمع في مورد واحد كما في المثال المعروف وهو (حمل الدليل على الإستحباب بعد ورود دليل يدلّ على الترخيص)؛ فإنّ ذلك يختلف باختلاف المباني في دلالة الأمر على الوجوب؛ فإن قلنا بأنه مستفاد من

ص: 309

حكم العقل -كما عليه المحقق النائيني قدس سره ومن تبعه-, فليس الوجوب مدلولاً لفظياً للأمر، فيندرج هذا المثال في النحو الثاني حيث لا يكون أي تنافٍ بين مدلول دليل الترخيص مع الأمر، فيبقى دليله محتفظاً بتمام مدلوله وهو الطلب, وإنما الذي ارتفع موضوعه هو حكم العقل بالوجوب.

وأما إذا قلنا بأنّ الوجوب يستفاد من الأمر بإطلاق وجريان مقدمات الحكمة فإنّ إطلاق الطلب يقتضي الطلب المطلق؛ وهو معنى الوجوب, فيكون هذا المثال من النحو الثالث الذي يتبقى فيه للدليل المغلوب جزء من مدلوله وهو أصل الطلب.وأما إذا قلنا بأنّ الأمر يدل على الوجوب بالوضع فإنَّه لا بُدَّ من حملة على الإستحباب فيكون من النحو الخامس، لأنّ للأمر ظهور وضعي أوّلي في الوجوب, وظهور ثانوي في الإستحباب عند عدم إرادة الوجوب منه. والمناط في الحجية هو الظهور دائماً, فإذا لم يكن للكلام ظهور في المعنى المراد إثباته لا يمكن تعيينه من بين المعاني المحتملة.

وبذلك ننهي الكلام في القسم الأول من التعارض وهو التعارض غير المستقر والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 310

القسم الثاني: التعارض المستقر
تمهيد
اشارة

تقدم أنّ التعارض إذا أُطلق أُريد به هذا القسم، أما القسم السابق فإنّ إطلاق التعارض عليه تسامحي لأنَّه بدوي يرتفع بأدنى نظر وفكر؛ وهو عبارة عن عدم إمكان تشريع الحكمين ثبوتاً مع اجتماع شرائط الحجية في دليليهما، ومنشؤه التنافي بين الدليلين على نحو يسري إلى دليل الحجية فيقع التنافي في مقتضى دليل الحجية العام الشامل للدليلين معاً.

ولا ريب أن هذا النحو من التعارض إنَّما يكون في الموارد التي لا يمكن فيها تطبيق أنحاء الجمع العرفي المتقدمة.

ولا يخفى إنّ التعارض من الأمور الشائعة في جميع العلوم، بل هو متحقق في العرفيات ولا يختص بالفقه وأدلته، ويمتنع عادةً والحال هذه؛ أن لا يكون للعقلاء في حلّه بناء مستمر أو سيرة مستمرة. ومن أجل ذلك لا بُدَّ أولاً من تحقيق بناء العقلاء في مورد التعارض، ثم الرجوع إلى الأدلة الشرعية؛ فإن كان هناك ردعٌ عن بناءهم فهو المتبع لا محالة، وإلا فيكفي عدم ثبوت الردع في اعتبار بناءهم في هذا الأمر العام البلوى كسائر السير العقلائية.

وهنا نقول: ذكرنا أنّ التعارض من الأمور الشائعة في جميع العلوم ولا يختص بأدلة الفقه، فلا بُدَّ أن يكون للعقلاء فيه حكم معين، وإذا تأملنا في سيرتهم نجدهم يحكمون بالفطرة في مورد التعارض بالاعتماد على دعائم ثلاث:

الدعامة الأولى: عدم الحجية الفعلية للمتعارضين، لأنّ حجيتهما معاً غير معقولة، وحجية أحدهما بالخصوص ترجيح بلا مرجح، وهو مرفوض عند جميع العقلاء أيضاً فتبقى الحجية الإقتضائية فقط من دون أن تكون حجية فعلية في مورد تعارض الدليلين، وهو مِمّا تحكم

ص: 311

به الفطرة في جميع موارد التعارض مطلقاً، وقد اتفق عليه العلماء أيضاً وجعلوه أصلاً مسلّماً عندهم، بل اعتبروه من الأصول العقلائية لديهم، وهو بناء على الطريقية المحضة التي استقرت عليها السيرة في الحجج العقلائية مِمّا لا إشكال فيه.

وأما بناءً على السببية فقد يستشكل في ذلك، وإن ذهب جمع من الأصوليين منهم السيد الوالد قدس سره (1) إلى صحة ذلك حتى بناء على السببية سواء كانت من السببية الباطلة أم السببية الصحيحة التي هي عبارة عن وجود المصلحة السلوكية المتداركة للواقع عند التخلّف، لأنّ الظاهر عدم وجود القائل بتحقق مصلحتين كذلك في صورة التعارض، وعلى فرض وجود القول بذلك فيكون من التزاحم في المصلحة السلوكية، إذ يمكن ثبوتاً جعل المصلحة كذلك في كل منهما إن لم يمكن تصوير ذلك في السببية الباطلة لأنّ مورد التزاحم ما كان ثبوته ممكناً، والمفروض عدم إمكانه, ولكن الحجية الإقتضائية ثابتة لا محذور فيها، إذ لا تعارض في مقام الإقتضاء وإنما هو في المرتبة الفعلية والتأثير.

وقد يقال: كيف تسقط الحجية الفعلية مع كون المتعارضين حجة في نفي الثالث.

فإنه يقال: أولاً: إنّ نفي الثالث يستند إلى التفحص والنظر في الأدلة وعدم الظفر به، لا أن يكون مستنداً إلى المتعارضين.

ثانياً: إنّ نفي الثالث مستند إلى الدلالة الإلتزامية، وهي تابعة للدلالة المطابقية لا أنها تابعة لحجية المدلول المطابقي؛ ولا ريب في أنّ أصل الدلالة شيء وحجيتها شيء آخر، والساقط بالتعارض هو الثاني دون الأول من دون فرق في ذلك بين الإلزاميات وغيرها كالمندوبات ونحوها.

ص: 312


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص174.

الدعامة الثانية: إنّ العقلاء بعد سقوط الحجية الفعلية يسعون بالتأمّل والتفحص إلى إيصال الحجية الإقتضائية إلى المرتبة الفعلية بإعمال ما يمكن أن يصير منشأً لذلك من المرجّحات التي لا تضبطها ضابطة كلية، فهي مختلفة باختلاف الموارد والأشخاص.

والظاهر إنّ هذا أيضاً من الأمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل وبرهان.

الدعامة الثالثة: إنهم بعد استقرار التحيّر المطلق واليأس عن الظفر على المرجح من كل حيثية وجهة فإنّ فطرتهم تبعث إلى التخيير، وهو تخيير عقلائي، وقد يكون عقلياً كما في موراد دوران الأمر بين المحذورين.وهذه الأمور الثلاثة إنَّما يغني الوجدان فيها عن إقامة البرهان، وتجري في جميع موارد التعارض كالبينات المتعارضة القائمة على الموضوعات وأقوال اللغويين والمفسرين وأهل الرجال وآراء المجتهدين وغير ذلك مِمّا يقع فيه التعارض والتنافي ويكون مورداً للإبتلاء، فإن ثبت من الشرع ما يكون رادعاً فيتبّع، وإلا فما حكم به العقلاء هو المتبّع، ولتوضيح ما تقدم لا بُدَّ من بيان أمور:

الأمر الأول:في كيفية تحصيل الأدلة الشرعية

الأمر الأول: تقدم في مباحث بيان خلاف علماء الإسلام في كيفية تحصيل الأدلة الشرعية والمصادر المعتبرة في أنها من باب الطريقية إلى الواقع أو من باب السببية والموضوعية، وتبيّن أنّ لهم في ذلك نظريتين(1):

النظرية الأولى: ما هو المعروف عند الإمامية، بل المتفق عليه أنها معتبرة من باب الطريقية المحضة؛ فقد جعلها المشرع حجة من جهة كشفها عن الواقع لمصلحة التسهيل على نوع المكلفين من دون أن تحدث مصلحة للمكلف بقيامها كما هو الظاهر من أدلتها. وقد اتفق أصحابنا عليه؛ حيث لم يذهب أحد إلى أنّ الأمارات لم تنصب طريقاً إلى الواقع ولم يذكر أحد بأنه لا حجة معتبرة طريقاً.

ص: 313


1- . تم تفصيل الكلام مع منابع الآراء حول هذا الموضوع في الجزء الرابع تحت عنوان: أقسام السببية، فراجع.

النظرية الثانية: أنها تكون باب السببية والموضوعية؛ بأن كانت حجيتها من جهةِ أنّ بقيامها توجد مصلحة للمكلف بالإتيان بمؤداها وتوجب حكم الشارع على طبقها، وهي تتصور على أنحاء ثلاثة:

النحو الأول: ما هو منسوب إلى المعتزلة وهو قيام المصلحة في مؤدى الحجة عند مخالفتها للواقع، نظير العنوان الثانوي العارض على العمل فإنَّه يوّلد فيه مصلحة جديدة توجب حكماً جديداً، فيكون قيام الأمارة مثل ما إذا اضطر إلى الشيء يكون فيه مصلحة، وبناء على هذا المعنى في السببية يجب العمل بالأمارة حتى مع العلم التفصيلي بمخالفتها للواقع فضلاً عن العلم الإجمالي، وبهذه المصلحة تُتدارك مصلحة الواقع لو خالفته.

والفرق بين هذا الوجه وبين الطريقية المحضة؛ هو أنّ المصلحة على الطريقية مجرد تسهيل للمكلف، وهي موجودة مع الأمارة سواء طابقت الواقع أم خالفته، وأما على هذا الوجه من السببية فإنّ المصلحة تكون في مؤدى الأمارة إذا خالفت الواقع وأما إذا وافقته فإنّ الواقع هو الذي يكون متنجزاً.

وهذه السببية المنسوبة إلى المعتزلة باطلة؛ لأنَّها توجب انقلاب الواقع كما هو عليه بقيام الأمارة على خلافه، وقد قام الإجماع على أنّ حكم الله في الواقعة لا يتغير ولا يتبدل بقيام الأمارة عليه، وأنّ الأخبار قد دلت على أنّ حلال الله الذيجاء به النبي صلی الله علیه و آله و سلم حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة(1)، فالواقع لا يتبدل بقيام الأمارة على خلافه.

ص: 314


1- . ويدل عليه مجموعة من الروايات، منها؛ ما ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ علیه السلام قَالَ: (قَالَ جَدِّي رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : أَيُّهَا النَّاسُ حَلَالِي حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَرَامِي حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة). [وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص169]. وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً نَبِيّاً فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ, أَحَلَّ فِيهِ حَلَالَهُ وحَرَّمَ فِيهِ حَرَامَهُ؛ فَحَلَالُهُ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة). [بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج47 ص35].

وبناء على هذه النظرية يكون حكم المتعارضين نظير حكمها بناء على الطريقية لأنّ الأدلة التي دلت على حجية الأمارات واحدة على كلتا النظريتين؛ فإنّ العلم بكذب أحد الدليلين في مورد التعارض يوجب سقوطهما عن الحجية، إلا أن يقال بأنّ المانع من شمول أدلة حجية الأمارات للأمارة التي يعلم بكذبها بناءً على الطريقية هو ارتفاع طريقيتها وزوال كشفها الذي هو الملاك لحجيتها، بخلاف نظرية السببية بهذا المعنى، فإنّ الملاك لحجيتها هو المصلحة الحادثة في متعلقها؛ وهي موجودة حتى مع العلم بكذب الأمارة. وعليه يكون تعارض الأمارتين من قبيل طروّ عنوانين ثانويين على موضوعين لا يمكن إتيانهما معاً فيدخل من باب التزاحم إذا كانا حكمين الزاميين قد تعلقا بمتضادين، والحكم هو التخيير المسمى بالتخيير التنجيزي؛ لتنجز التكليف فيه بالوصول للمكلف وإنما طرأ العجز في مقام الإمتثال، وإنّ دليل التعبد يشمل كلا الخطابين مع وجود المصلحة الملزمة في كل منهما، والعقل يحكم بالتخيير إذا لم يكن ترجيح في البين، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه. كما أنه لو كان الخطابان قد تعلقا بغير متضادين كالظهر والجمعة فإنَّه يكون من باب دوران الأمر بين المحذورين فيكون التخيير عقلياً، وأما إذا تعلقا بفعل الشيء وتركه فإنّ الحكم هو التخيير أيضاً، ويسمى هذا التخيير بالتخيير اللاحرجي؛ بمعنى أنه لا حرج في الفعل أو الترك لمكان الإلزام المردد بينهما فلا تجري الأصول العملية كالبراءة في هذه الموارد؛ فإنّ العقل يحكم بالتخيير بينهما وعدم الحرج في ارتكاب أيّهما شاء.

النحو الثاني: السببية المنسوبة إلى الأشاعرة بمعنى عدم ثبوت حكم للشارع في الواقع أصلاً، وإنما الواقع يثبت بقيام الأمارة فتكون فتوى المجتهد سبباً لجعل الحكم على طبقها. وهذه السببية هي التي عُبّر عنها بالتصويب الأشعري، وبناء عليه؛ فالحكم تابع لرأي المجتهد، فلا تزاحم في حقه لأنّ ما أدى إليه رأيه هو حكم الله في حقه؛ فعند التعارض إما

ص: 315

أن يرجّح في نظره أحدهما على الآخر فيكون مؤدى ما اختاره هو حكم الله في حقه، وإما أن يؤدي إلى التخيير بينهما وحينئذٍ يكون الحكم الواقعي هو التخيير الشرعي بين مؤداهما.وربما يتوهم أنّ تعارض الأمارتين بناءً على هذه السببية لا يكون من باب التزاحم أصلاً لأنَّه في المتعارضين يعلم بموافقة أحدهما للواقع، والمفروض أنه بقيام الأمارة المخالفة للواقع يوجب زوال فعلية الحكم الواقعي وتنجزه، فلو بقي على فعليته وتنجزه لوجب الإتيان به مع احتمال وجوده كما هو الحال فيما قبل التفحّص. وعليه؛ فإذا فرض زوال فعليته وتنجزه فلا يكون ما دلّ عليه مزاحماً مع ما دلت الأخرى عليه لسقوط مطلوبيته، فيكون المتعارضان حينئذٍ من قبيل معارضة ما دلّ على الحكم غير المنجّز مع ما دل على الحكم المنجّز فلا يكونان متزاحمين، بل إنّ المنجّز منهما واحد وهو المخالف للواقع دون الموافق له، ولا يمكن أن يكون كلاهما موافقين للواقع لتنافيهما. نعم؛ لو كان كلاهما مخالفين للواقع وقع التزاحم بينهما، إلا أنّ المتعارضين لا يحرز فيهما ذلك وإنما هو أمر محتمل فيهما، فلا يحرز موضوع التزاحم فلا بُدَّ أن يعاملان معاملة اشتباه الحجة باللاحجة.

ويضعف هذا التوهم بأنّ المفروض أنّ بقيام الأمارة الموافقة للواقع يتنجز الواقع؛ بمعنى أنه بقيامها تتأكد مصلحة الواقع أو تزداد بحيث تجعل الواقع منجزاً أو مطلوباً مثل مطلوبيته مؤدى الأمارة المخالفة له، فيقع التزاحم بينهما.

النحو الثالث: السببية بمعنى ثبوت المصلحة في نفس سلوك الأمارة(1)؛ ويتدارك بها ما يفوت مصلحة الواقع عند المخالفة حتى لو زالت طريقيتها للواقع؛ كما لو علم إجمالاً بكذبها بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعاً عن فعلية الحكم الواقعي لكون سلوك الأمارة غالبة على مصلحة الواقع، فالحكم الواقعي فعليّ في حق من لم تقم عنده الأمارة

ص: 316


1- . وهي التي ذهب إليها بعض العدلية.

المخالفة، وأما من قامت عنده الأمارة المخالفة فإنّ الحكم الواقعي فيه شأنيّ؛ إذ لو بقى على فعليته لوجب الإتيان به عند احتماله، فيكون الواجب عند قيام الأمارة هو الإتيان بمؤداها؛ هو ومتعلق الحكم المحتمل، ويمكن تصوير السببية بهذا المعنى.

ويظهر من الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في أول مباحث الظن اختياره لهذا النحو من السببية، كما ينسب ذلك أيضاً إلى المحقق النائيني قدس سره ، ولكن هذه السببية مخالفة لأدلة حجية الأمارات لا سيما الأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع.

وعلى فرض قبولها فإنَّه عند تعارض الأمارتين يكون الكلام فيه مثل الكلام في السببية بالمعنى الأول، غاية الأمر أنّ المصلحة كانت في الأول في متعلق الأمارة المخالفة، وفي الثاني تكون في سلوك الأمارة.وربما يستشكل على هذا المعنى من السببية بأنّ المصلحة السلوكية فرع كونها طريقاً معتبراً للواقع، ولا يمكن جعل المتعارضين طريقين للزوم التناقض.

ويرد عليه: إنّ جعل الشارع تابع لحدوث المصلحة، لا أنّ المصلحة توجد بجعل الشارع؛ فمع فرض حصولها بقيام الأمارة يتحقق الجعل إلا أنه غير منجز.

وبعبارة أخرى: إنّ الشارع لما علم بأنّ المصلحة ملزمة؛ فإذا تحقق التنافي بينها بحيث لا يمكن الجمع في امتثالها كانت كما يتنافى أفراد الواجب بعضها مع بعض كإنقاذ الغريق، فيقع بينهما التزاحم فيكون قيام الأمارتين مثل ذلك، وحيث إنّ الإطاعة والإمتثال بيد العقل، وهو يحكم في مثل هذه بلزوم الأخذ بالراجح منهما أو محتمل الأرجحية والتخيير عند تساويهما كما هو شأن المتزاحمين مطلقاً.

ص: 317


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص71.

والحق أن يقال: إنه لا فرق بين القول بالطريقية وبين القول بالسببية في تحقق التعارض بين الأحكام المتزاحمة، لأنّ أدلة الحجية والإعتبار تدل على وجوب السلوك، فيتزاحم الطريقان في وجوب السلوك مطلقاً سواء قلنا بالطريقية والسببية -وليس التزاحم في الحكم الذي دلّ الدليلان عليه حتى يقال بأنه لا تزاحم فيما إذا تعارضا بالسلب والإيجاب- أم قلنا بغيرهما كمثال الظهر والجمعة، أو يقال بأنّ الحكم الدال عليه أحدهما فعلّي دون الآخر. وغير ذلك مِمّا ذكر في نفي التزاحم، كما تقدم بيانه.

هذا وقد نسب إلى بعض الأعلام(1) الذهاب إلى عدم التزاحم بناءً على السببية لوجهين:

الأول: إنّ دليل الحجية لا يشمل المتعارضين، فلا يكون فيهما مصلحة تقتضي الحكم على طبقها، فلا تزاحم بينهما من قبيل الحجتين غير المعتبرتين.

وفيه: ما عرفت من أنه لا مانع من شمول الأدلة لهما لانطباق العنوان الوارد فيها على كل واحد من المتعارضين، ولكن المرجح هو العقل في بقاء الحكم بعد التعارض أو زواله عنهما أو عن أحدهما كما تقدم بيانه.

الثاني: ما ذكره السيد اليزدي قدس سره (2) وتبعه جمعٌ من أنّ شرط التزاحم هو العجز عن الإمتثال لا عدم إمكان جعل التكليف. وفي المقام لا يمكن جعل التكليف لأنّ المتعارضين إذا دلّ أحدهما على الحكم والآخر على عدمه؛ إما بالمطابقة؛ كما لو دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدمه، أو بالإلتزام؛ كما لو دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر يدل على حرمته، أو يدل على وجوب ضده. والمفروض أنّ قيام الأمارة على الحكم -بناء على السببية- يوجب حدوث المصلحة التي تقتضي إنشاء الحكم على طبقها،

ص: 318


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص447، والرأي السديد؛ ص156، وفقه الشيعة؛ ص61.
2- . التعارض؛ ص188.

وقيام الأمارة على عدمه يوجب عدم المصلحة التي تقتضي عدم الحكم، فيلزم اجتماع المصلحة وعدمها في شيءواحد، ومحال في حدّ نفسه إنشاء للحكم على طبقها لمحالية تحقق المصلحة التي تقتضيه، ويتأكد ذلك في المتعارضين بالوجوب والحرمة لشيء واحد لأنّ فيه اجتماع للضدين؛ إذ يلزم حدوث المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة في شيء واحد، وهو محال، فلم يمكن إنشاء الحكم على طبقهما حتى يتحقق التزاحم بينهما في مقام الإمتثال.

يضاف إلى ذلك أنّ التكليف في هذه الصورة إن كان بفعل الشيء وتركه على نحو الإجتماع يكون من التكليف بغير المقدور، وإن كان على نحو التخيير بينهما فإنَّه يكون من طلب الحاصل لعدم خلّو المكلف عنها فيكون تكليفه بأحدهما تخييراً يكون لغواً، فلا تكليف حتى يتحقق التزاحم.

ويرد عليه: إنه بناء على السببية يكون قيام الأمارة موجباً لحدوث المصلحة الملزمة لإنشاء الحكم على طبقها فإنّ المشرّع على طبق ذلك أنشأ وجوب العمل بها وجعل القانون بوجوب متابعتها، فإذا وجد فردان لا يمكن العمل بهما معاً وقع التزاحم بينهما فيكون كل واحد منهما يجب سلوكه وجوباً فعلياً، لأنَّه مقتضى سببية الخبرين للحكمين ولكنه عاجز عن امتثالهما معاً.

ولكن مِمّا يهوّن الخطب أنه في السببية الباطلة لا وجه للقول بالتزاحم لأنّ مورده فيما إذا كان ثبوته ممكناً، والمفروض عدم إمكانه, وفي السببية الصحيحة يمكن القول بالتزاحم في المصلحة السلوكية، فإنَّه من الممكن ثبوتاً جعل المصلحة كذلك في كل منهما، ولكن لا قائل بتحقق مصلحتين كذلك، فافهم.

الأمر الثاني: في استيعاب التعارض لمدلول الدليلين
اشارة

التعارض تارةً؛ يكون مستوعباً لتمام المدلول للدليلين كما في التعارض بالتباين، وأخرى؛ لا يكون مستوعباً لتمام المدلول كما في التعارض بنحو العموم من وجه.

ص: 319

وعليه؛ فالكلام يقع في قسمين:

أما القسم الثاني(1)؛ فهو على نحوين:

أحدهما؛ ما إذا لم يتعقل كون مورد الإفتراق موضوع حجية الدليل فيه بالخصوص فإنَّه في هذه الحالة؛ إما أن يخرج هذا المورد عن التعارض غير المستوعب ويندرج في التعارض المستوعب فيما إذا كان دلالة كل من الدليلين بنحو لا يعقل حجية الدليل في مورد الإفتراق، وإما أن يدخل تحت التعارض غير المستقر إذا كان أحد الدليلين بنحو لا يعقل حجيته فيه بالخصوص.

والآخر؛ ما إذا كان مورد الإفتراق للدليلين قابلاً لأن يكون الدليل حجة فيه بالخصوص، في هذا القسم لا ريب في بقاء الدليلين المتعارضين على الحجية سنداً لإثبات مدلول كل منهما في مورد افتراق عن الآخر، إذ لا موجب لسريان الإجمال إلى السند الظني.ولكن قد يقال بأنّ المعارضة وإن كانت بين الدلالتين أولاً وبالذات، إلا أنه يعلم إجمالاً؛ إما بكذب إحدى الدلالتين أو بكذب السند الظني فيكون كل واحد من الإحتمالين داخلاً في أطراف العلم الإجمالي بالكذب، فكما يكون رفع اليد عن أحد الدلالتين كافياً لانتفاء التعارض، كذلك يكون رفع اليد عن سند ظني رافعاً للتعارض فلا موجب لترجيح حجية السند على حجية الدلالة.

وقيل في الجواب عنه بأنّ حجية الدلالة هي الساقطة على كل حال، وذلك لأنّ الدوران في الحقيقة ليس بين التمسك بدليل حجية السند الظني، أو دليل حجية الدلالة الظنية، بل الدليل الذي يتمسك به في المقام هو دليل حجية السند الظني فقط، وأما دليل حجية الدلالة وآثارها فهي إنَّما تثبت تعبداً ظاهراً بدليل حجية السند، لأننا لا نواجه الدليل

ص: 320


1- . وسيأتي بيان القسم الأول بعده إنْ شاء الله.

الصادر من المعصوم علیه السلام حقيقةً وواقعاً لكي نواجه دليل حجية الظهور، وإلا؛ إذا أحرزنا النص بشهادة الراوي وبفضل دليل حجية هذه الشهادة.

ومن الواضح أنّ هذا إحراز ظاهري فتكون حكومة ظاهرية لا واقعية، فيكون مقتضى إطلاق حجية هذه الشهادة هو إثبات تمام الآثار الشرعية المترتبة على الواقع ظاهراً والتي منها حجية الظهور في مادة التعارض.

وعليه؛ يكون الأمر دائراً بين الأقل والأكثر في إطلاق دليل واحد وهو دليل حجية الشهادة؛ حيث يدور الأمر بين الأخذ به بلحاظ الأثر المترتب في مورد الإفتراق أو ترك الأخذ به رأساً؛ الذي يكون معناه سقوط إطلاق ترتيب الأثر في مورد التعارض، فلا موجب لإسقاطه في الآثار المترتبة في حجية الدلالة في مورد الافتراق، وهذا هو معنى حجية السند في المقام.

هذا كله بلحاظ مورد الافتراق للدليلين المتعارضين، وأما مورد الإجتماع منهما فيستقر التعارض فيه لا محالة فلا بُدَّ من تطبيق قواعد التعارض وعلاجه، وسيأتي تتمة الكلام في كلا القسمين إنْ شاء الله تعالى.

وأما القسم الأول؛ وهو التعارض المستوعب لتمام مدلول الدليلين بحيث لا يبقى بعد تقديم أحدهما مجال للآخر كما في موارد التعارض بنحو التباين. والكلام فيه يقع تارة؛ في تنقيح الموضوع فيه، وأخرى؛ في أحكامه، وهنا بحثان:

البحث الأول: في تنقيح الموضوع

وقد يُدّعى بأنه يمكن الرجوع إلى الجمع بين الدليلين مهما أمكن فيكون أولى من الطرح، فنخرج المتعارضين بذلك عن التعارض بالكلية.

ومن هنا اشتهر على الألسنة أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح؛ وقد اختلف الأصوليون

ص: 321

في هذه المقولة اختلافاً كبيراً؛ فلم يعدّها السيد الوالد قدس سره (1) قاعدة بل اعتبرها قضية مشهورة، وذلك من جهتين:

الأولى: في أصل اعتبارها؛ حيث استدل عليها بعدة أمور:

1- الإجماع.

ويرد عليه: إنه منقول لا اعتبار به، مع أنه لا رسم ولا إشارة إليه بين القدماء، مع كون المسألة ابتلائية بين العلماء، وعلى فرض الإعتبار فالمتيقن منه مثل المطلق والمقيد، والعام والخاص ونحوهما مِمّا هو من العرفيات المسلمة في المحاورات. وقد تقدم في المباحث السابقة أنّ هذه الأمور العرفية لا حاجة إلى الإستدلال عليها، بل هي ما يستدل بها فراجع.

2- إنّ الطرح يكون للدلالة الأصلية وهي الدلالة المطابقية، والجمع يكون الطرح للدلالة التضمنية أو الدلالة الإلتزامية، وطرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية.

ويرد عليه: إنّ طرح الدلالة وبقاءها إنَّما يدوران مدار الأغراض المحاورية المعتبرة؛ فمع وجود الغرض الصحيح في البين يؤخذ بالدلالة الإلتزامية وتطرح الدلالة المطابقية كما في الكنايات ونحوهما، ومع عدم وجود الغرض الصحيح تنتفي جميع الدلالات.

فلا وجه لما ذكر من أنّ طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية، مع أنّ ذلك عين المدعى ويحتاج في إثباته إلى دليل، وهو مفقود.

3- إنّ الأصل في كل دليل هو الإعتماد عليه.

وفيه: إنه لا دليل على كلية هذا الأصل، وإن صحّ فهو بمعنى الغلبة في الجملة، ولا بأس به في تمام مدلوله لا في بعضه، فلا دليل على كلية هذه القضية أبداً.

ص: 322


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص169.

نعم؛ لو أريد منها الجمع العرفي المقبول عند أهل السلائق المستقيمة والأذهان القويمة فهو صحيح كما سيأتي بيانه.

والحاصل: إنه لا دليل على هذه القاعدة بهذا المعنى، وأما إذا أريد منها غير ذلك فسيأتي الكلام فيه.

الثانية: ذُكرت لهذه القضية تفاسير متعددة:

أن يكون المراد بها الأخذ بكل من الدليلين في جزء مدلوله، والطرح في الجزء الآخر فيكون قد تحملنا بهما معاً، كما في المثال المعروف: (ثَمَنُ الْعَذِرَةِ مِنَ السُّحْتِ)، و(لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَذِرَةِ)(1)؛ حيث حُمل الأول على عذرة غير المأكول، وحُمل الثاني على عذرة المأكول، لأنَّه بعد تعذر1- العمل بتمام مدلولهما لا يكون ذلك مسوغاً لطرحهما في تمام مفادهما فلا بُدَّ من العمل بجزء من مدلول كل منهما فيكون ذلك جمعاً بين الدليلين لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها دائماً.

وهذا التفسير الذي استدل عليه بما ذكرنا من الأدلة قد عرفت أنه باطل تفسيراً ودليلاً، كما عرفت من أنّ ترك جزء من مفاد كل دليل مقابل الأخذ بما يقابله من الدليل الآخر يكون من مجرد الدعوى؛ لأنّ كلاً من الطرح والأخذ يدور مدار الأغراض المعتبرة العقلائية، مع أنّ طرح جزء من الدليل والأخذ بالجزء من الآخر من حيث كونه موضوعاً للحجية يكون ترجيحه على الآخر بلا مرجّح.

2- تفسيرها على أساس الجمع العرفي؛ بمعنى أنّ موارد التعارض إذا أمكن فيها الجمع العرفي بوجه من الوجوه فيؤخذ بالدليلين ويكون أولى من الطرح. وهو تارة يكون بالجمع بينهما بحسب الموضوع، وأخرى بحسب المحمول.

ص: 323


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص175.

ومثال الأول؛ ما ورد من أنّ (ثَمَنُ الْعَذِرَةِ مِنَ السُّحْتِ)، و(لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَذِرَةِ)؛ فإنَّه يخصص موضوع أحدهما بغير موضوع الآخر؛ بدعوى أنّ في كل منهما دلالتين دلالة وضعية على ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة المستفادة من إسم الجنس, ودلالة إطلاقية على شمول الحكم لتمام الأفراد، والمعارضة بحسب الواقع ليست بين الدالّين على القضيتين المهملتين، بل بين الدلالة الإطلاقية من كل منهما مع مدلول الآخر؛ ولما كانت الدلالة على القضية المهملة وضعية أقوى من الدلالة الإطلاقية فتُرفع اليد عن إطلاق كل منهما بالظهور الوضعي في الآخر، وبذلك تصل النوبة إلى تعارض الدلالتين الإطلاقيتين وتساقطهما فتكون النتيجة أنهما قضيتان مهملتان تتعيّنان في القدر المتيقن من كل طرف، فيحكم بحرمة بيع عذرة غير المأكول، وجواز بيع عذرة المأكول.

ومثال الثاني؛ ما إذا ورد أمر بشيء ظاهر في وجوبه مع ورود ترخيص في تركه بلسان ظاهر في إباحته بالمعنى الأخص؛ فإنَّه يمكن الجمع بينهما بحمل الأمر على مطلق الرحجان لأنّ كل واحد من الدليلين له دلالة ظهورية ودلالة صريحة، فإنّ دليل الأمر ظاهر في الوجوب وصريح في الرجحان، ودليل الترخيص ظاهر في الإباحة بمعنى الأخص ونصٌّ في نفي الإلزام، فترفع اليد عن ظاهر كل منهما بصراحة الآخر وينتج الإستحباب.

ويرد على هذا التفسير: أنّ الجمع العرفي إذا كان مستنداً إلى القرائن المعتبرة فهو مقبول، لأنّ مدلول كل واحد من الدليلين إنَّما يتعين بملاك القرينتين فيثبت الرجحان بحسبهما، وإلا فلا اعتبار بهذا الجمع ولا يكون مورداً للجمع العرفي؛ ففي المثالين المتقدمين لا يكون استفادة الرجحان من دليل الأمر ولا القضية المهملة من المطلق بقرينة مستقلة وصريحة وأظهر من مدلول الدليل المعارض حتى يكون مورداً للجمع العرفي، وإنما هو مدلول مستخلص من مفادين يتردد بينهما الدليل، ويكون أحدهما معارضاً مع الآخر لأنَّه

ص: 324

يهدم أصل ظهوره، ويكون على الآخر قرينة عليه. ومثل ذلك لا تكون مورداً للجمع العرفي، بل تكون من الجموع التبرعية التي لا أساس لها أبداً.

3- تفسيرها على أساس الجمع بحسب القرائن الخارجية والداخلية؛ فيكون المراد من الجمع هو الجمع العرفي المقبول عند الأذهان السليمة والسلائق المستقيمة، والمراد من الإمكان هو القياسي منه بالنظر إلى القرائن الخارجية والداخلية فإنّ مثل هذا مقبول، فيكون المراد بالأولى حينئذٍ هو اللزوم، كما في قوله تعالى:(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ)(1), ومثل هذا الجمع شائع في الفقه، بل في جميع العلوم مطلقاً، فتكون هذه القضية من القضايا التي قياساتها معها، وإنّ محض تصورها يغني عن إقامة البرهان عليها؛ فلا يراد من الجمع في القضية مطلق الجمع ولو كان بعيداً، ولا تقوم عليه قرينة مقبولة بحيث يكون المراد من الإمكان مطلق الإمكان الذاتي مقابل الإستحالة الذاتية، ولا الإمكان الوقوعي مقابل الإمتناع العادي العرفي، فإنَّه لم يذهب إلى صحة هذا النحو من الجمع أحد من العقلاء فضلاً عن العلماء؛ فهو من الجمع التبرعي الذي لا يمكن تخريجه على قواعد الجمع العرفي.

ثم إنه قد عرفت فيما تقدم من البحوث أنّ القرائن الشاهدة على صحة مثل هذا الجمع لا تضبطها ضابطة كلية، بل تختلف باختلاف الموارد، وقد ذكرنا جملة منها في الفصل السابق عند البحث عن التعارض غير المستقر، وقد أطال السيد الصدر قدس سره الكلام في المقام، ولكن بعد الإحاطة بما ذكرناه في الفصل السابق وفي المقام يظهر أنه من التطويل الذي لا طائل تحته.

ص: 325


1- . سورة الأنفال؛ الآية 75.
البحث الثاني: البحث عن أحكام التعارض
اشارة

عرفت إنه إذا لم يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين بوجه عرفي مقبول فقد تقدم في بداية هذا الفصل أنه لا بُدَّ من الرجوع إلى السيرة العقلائية في موارد التعارض مطلقاً التي عرفت أنها تقوم على أسس ثلاثة، ولكن الأصوليون ذكروا –كما هي عادتهم- كلاماً طويلاً نحن في غنى عنه لو رجعنا إلى حكم العقلاء وسيرتهم في هذا الموضوع.

وخلاصة ما ذكروه هو: إنه تارة يقع البحث بحسب الأصل الأولي؛ أي عموميات أدلة الحجية العام، وأخرى يكون بحسب الأصل الثانوي؛ أي ما يقتضيه دليلالحجية بعد وقوع التعارض في الجملة وعدم التساقط المطلق. وقبل بيان ذلك لا بُدَّ من تحرير محور البحث في مورد التعارض فإنّ الدليلين المتعارضين؛ إما أن يكونان قطعيين من حيث السند بحيث يعلم بصدورهما من الشارع، وإما أن يكونان ظنيين من حيث السند بأن يكون صدورهما ثابتاً بدليل الحجية، وإما يكونان مختلفين بأن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً من حيث السند. وتمام البحث من ناحيتين:

الأولى؛ في تحديد مركز التعارض بين الدليلين في كل منهما حسب الفروض الثلاثة.

والثانية؛ في مقتضى الأصل الأولي والثانوي بلحاظ دليل الحجية الذي وقع مركزاً للتعارض.

الناحية الأولى: الكلام يقع في الفروض الثلاثة المتقدمة.

أما الفرض الأول؛ وهو ما إذا كان الدليلان قطعيين، ولكن لم يقطع ببطلان مفاد أي واحد منهما في نفسه مع تعذر الجمع العرفي، وعليه يكون مركز التعارض دليل حجية الظهور لا السند لأنَّه قطعي كما هو المفروض.

أما الفرض الثاني؛ وهو ما إذا كان الدليلان ظنيين سنداً فإذا كانت الدلالة قطعية فلا إشكال في أنّ مركز التعارض في هذا الفرض هو دليل حجية السند. وأما إذا لم تكن الدلالة قطعية فيهما فقد وقع الكلام في تحديد مركز التعارض.

ص: 326

فقيل: إنه لا موجب لسريان التعارض إلى دليل حجية السند، لأنّ كلاً منهما يحتمل مطابقته للواقع فيكون كِلا الظهور بين المتعارضين صادراً من المولى حقيقة، فلا يقاس بموارد قيام أمارتين متعارضتين في الموضوعات التي يسري فيها التعارض إلى دليل حجتيهما للعلم بكذب أحدهما.

وقيل: بالتفصيل حسب ما يستفاد من تقادير حجية السند، وهي على وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن تكون حجية كل من سند الرواية ودلالتها ثابتة بجعل واحد يشمل المجموع بنحو الإرتباط؛ كما إذا كان دليل الحجية يدل على لزوم اتباع مفاد الرواية وما يخبر به الثقة.

وبناء على هذا الوجه فلا إشكال في سريان التعارض إلى دليل حجية السند، فإنّ إثبات حجية مجموع الحجتين في كلٍّ من الطرفين بدليل الحجية مستحيل، وإثبات إحدى الحجتين في أحد الطرفين أو كلاهما فهو خلف الإرتباطية في جعل الحجتين.

الوجه الثاني: أن تكون حجية السند مستقلة غير مشروطة بحجية الظهور، فيكون مفاد دليل الحجية هو التعبد بأصل الصدور من دون نظر إلى مفاد الرواية.

وبناء على هذا الوجه تثبت الحجية للسندين معاً وتترتب آثار الصدور الأعم الشامل للمعنى الظاهر وغير الظاهر، وحينئذٍ؛ لو كان هناك أثر يترتب على الأعم من المعنيين فلا بُدَّ من ترتيبه، وأما إذا كان مفاد الدليلين متعارضين فإنَّهيرجع إلى ما ذكرناه في الوجه الأول من الحجية الإرتباطية، فإنّ التعارض يسري من الظهورين إلى السندين لأنّ في البين حجية واحدة جعلت لما هو المتحصل من إخبار الرواي الثقة؛ فإذا كان المتحصل منه معارضاً بخبر آخر لا تمكن حجيته، بخلاف ما إذا كان مفاده مجملاً مردداً من أول الأمر بين المعنيين؛ فإنّ الجامع بين المعنيين يمكن التعبد به ثم تعيينه في أحدهما بنحو مقبول.

ص: 327

الوجه الثالث: أن تكون حجية السند مجعولة بجعل مستقل عن حجية الظهور، ولكنها مقيدة بحجيته، بأن تكون الحجة من الأسانيد ما يكون على تقدير ثبوته حجة بحسب الظهور أيضاً.

وفي هذا الوجه؛ تارة؛ يكون الشرط ثبوت مقتضي الحجية في ظهوره، وأخرى؛ يكون الشرط حجيته بالفعل:

وفي الأول لا يسري التعارض إلى السندين، بل يكون دليل الحجية شاملاً لهما فلا بُدَّ من التعبد بصدور الخبرين معاً. وحينئذٍ يثبت المعنى الظاهر وغيره؛ أي الجامع كما في السابق. وفي الثاني لا تثبت حجية شيء منهما لأنّ ثبوتها لهما معاً محال إذ يستلزم عدم ثبوتها من اجتماع الشرطين معاً في هذه الحالة، فيكون من قبيل التوارد من الجانبين المستحيل. وهو يعني أنّ مركز التعارض في هذه الحالة دليل حجية السندين كما في الوجه الأول. هذا كله في الفرض الثاني.

أما الفرض الثالث(1)؛ وهو ما إذا كان أحد الحديثين قطعياً من حيث السند، والآخر ظنياً كذلك مع تعذر الجمع العرفي؛ كما إذا تعارض خبر الثقة مع ظهور قرآني فإن فرض أنّ الدليلَ الظني السند قطعيُّ الدلالة فإنّ مركز التعارض هو دليل حجية السند الظني ودليل حجية الظهور في الدليل القطعي. وإن فرض أنّ الدليل الظني السند ظنيُّ الدلالة أيضاً فإنّ التعارض بين دليل حجية الظهور في كل منهما يسري إلى دليل حجية السند أيضاً كما عرفت في الفرض الثاني.

والحاصل من جميع ذلك: إنّ مركز التعارض إما أن يكون دليلاً واحداً، وإما أن يكون دليلين. والأول في الفرضين الأول والثاني، والثاني يكون في الفرض الثالث.

ص: 328


1- . من فروض الناحية الأولى.

الناحية الثانية: تأسيس الأصل في الفروض الثلاثة المتقدمة.

إذا كان مركز التعارض بين المتعارضين دليلاً واحداً للحجية كما في التعارض بين قطعيي السند؛ والذي كان مركز التعارض فيه هو دليل حجية الظهور لكل منهما، أو التعارض بين الظنيين سنداً الذي يكون مركز التعارض فيه دليل حجية السند لكل منهما؛ وحينئذٍ لا محيص عن التساقط وعدم حجية شيء من المتعارضين إذا كان دليل حجية السند هو السيرة العقلائية أو دليل لفظي يتقدر بمقدارها.وأما إذا كان دليل الحجية لفظياً وكان له إطلاق يشمل جميع الحالات إلا ما دلّ الدليل العقلي على امتناعه، وفي هذه الحالة يقع البحث تارة عن مقتضى الأصل الأولي من ذلك الدليل اللفظي المطلق وأنه هل يقتضي التخيير أو الترجيح أو التساقط، وأخرى عن مقتضى الأصل الثانوي لو فرض قيام دليل على عدم التساقط المطلق. والكلام يقع في جهتين:

الجهة الأولى: مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين الدليلين.

والأقوال فيه ثلاثة:

الأول: التساقط المطلق؛ وهو الذي ذهب إليه الجمهور.

الثاني: بقاء الحجية في الجملة.

الثالث: التفصيل الذي ذكره المحقق العراقي قدس سره .

أما القول المشهور (وهو التساقط المطلق)؛ فقد ذكروا في وجهه أنّ إعمال دليل الحجية في المتعارضين بكل أنحاءه الأربعة المتصورة باطلة، وهي:

1- إفتراض شمول دليل الحجية لهما معاً، وهذا غير معقول لأدائه إلى التعبد بالمتعارضين.

وهو مستحيل.

2- إفتراض شمول دليل الحجية لواحد منهما بعينه.

وهذا غير معقول أيضاً لأنَّه من الترجيح بغير مرجح.

ص: 329

3- إفتراض شمول دليل الحجية لكل منهما على تقدير عدم الأخذ بالآخر؛ لأنّ ثبوت الحجية المقيدة في كل من الطرفين لا محذور فيه، وإنما المحذور في الحجتين المطلقتين كما عرفت؛ فلا موجب لرفع اليد عن أصل دليل الحجية في الجملة.

ولكن هذا النحو أيضاً باطل لاستلزامه اتصاف كل منهما بالحجية عند عدم الأخذ بهما معاً، وهو معنى التعبد بالمتعارضين.

4- إفتراض حجية كل منهما مقيدة بالأخذ به لا بترك الآخر كما في الفرض السابق.

وهذا الفرض أيضاً باطل؛ لأنّ لازمه عدم حجية كل منهما في فرض عدم الأخذ بهما فيكون المكلف مختاراً بالنسبة إلى الواقع فيمكنه الرجوع إلى الأصول اللفظية أو العملية. وهو مِمّا لا يلتزم به القائل بالتخيير، ولا يقاس المقام على التخيير الثابت بالدليل الذي يرجع في الواقع إلى الحجية المقيدة في كل منهما فيجب الأخذ بأحدهما، فلو تركهما معاً يعاقب على ترك الواقع، بخلاف المقام فإنّ مقتضى القاعدة هو التقييد في حجية كل منهما وشرطيتها بالأخذ به لا وجوب الأخذ به، إذ لا دليل عليه.

فإذا بطلت الفروض المتصورة في حجية الدليلين المتعارضين فلا بُدَّ من التساقط بحكم الأصل الأولي في التعارض بين الدليلين.واستشكل عليه بأنّ هذا المقدار من البيان لا يمكن أن يكون برهاناً على التساقط؛ فإنَّه يرد عليه عدة مناقشات منها أنه يمكن قبول الإفتراض الرابع ونلتزم بإعمال دليل الحجية مشروطاً بالأخذ بأحدهما، ولا يلزم منه المحذور المزبور لأنَّه يمكن التفكيك بحسب الإرتكاز العرفي والمتشرعي بين حجتين مشروطةٍ كل واحدة منهما بالأخذ، وبين وجوب الأخذ بإحدى الحجتين، فإذا كان ذلك محتملاً فيمكن الإلتزام بالحجتين المشروطتين تمسكاً بدليل الحجية مهما أمكن فلا يلزم محذور، وإلا كان دليل الحجية صالحاً لإثبات هاتين الحجتين بالمطابقة، وهو يدل بالإلتزام على وجوب الأخذ بأحدهما.

ص: 330

والحق أن يقال: إنّ ما ذكر في الإستدلال على التساقط، وما قيل في الرد عليه غير تام؛ فقد ذكرنا في بداية البحث أنّ التعارض وحكمه لا بُدَّ من الرجوع فيهما إلى المرتكزات العقلائية بعد أن كان التعارض أمراً مألوفاً في سائر العلوم، وقد بينّا موضوع التعارض فيما سبق، وأما حكمه فهو يختلف بحسب اختلاف حالات التعارض؛ فقد يكون الحكم هو التخيير، وقد يكون الترجيح، وقد يكون التساقط، وقد يقتضي الجمع بينهما.

ولكن بعدما ذكرنا أنّ في مورد التعارض يكون الساقط هو الحجية الفعلية لكل واحد من الدليلين المتعارضين، والباقي هو الحجية الإقتضائية. والعلماء إنَّما شأنهم التماس ما يوجب إيصال الحجة الإقتضائية إلى الفعلية بالتماس المرجّحات، وعند فقدها يقولون بالتخيير. وقد ذكرنا أنّ ذلك من الأمور الفطرية فالفروض المتصورة هي أربعة:

الفرض الأول: ما إذا احتمل العقلاء الترجيح في كلٍّ من الطرفين فيتبادر إلى الذهن التساقط لأنّ احتمال الترجيح؛ أي الحجية المطلقة في كل منهما غير مفيد لأنَّه معارض به في الآخر، فيتعين التخيير؛ أي الحجية المقيدة في كل منهما.

ولكن قيل بأنه لا يمكن إثباته بدليل الحجية العام كما تقدم بيانه، أو لأنّ إطلاق دليل الحجية العام لكل منهما على تقدير الأخذ به، أو عدم الأخذ بالآخر معارض بإطلاق لشمول الآخر في نفس هذا التقدير.

وكلا الوجهين غير مقبول؛ فإنّ العقلاء يرون بأنه بعد سقوط الحجية الفعلية يتأملون ويتفحصون في إيصال الحجية الإقتضائية إلى مرتبة الفعلية بإعمال ما يمكن أن يصير منشأً لذلك من المرجّحات التي لا تضبطها ضابطة كلية؛ فلا يحكمون بالتساقط راساً.

وهذا الأمر الفطري الإرتكازي هو الذي يقيد إطلاق دليل الحجية فتكون الحجية المقيدة بمعنى قيام ما يصلح أن تصل إلى مرتبة الفعلية بعد وجود مقتضاها، وإلا فله حكم آخر يأتي بيانه.

ص: 331

الفرض الثاني: أن يعلم من الخارج أنّ ملاك الحجية لو كان موجوداً فهو في أحدهما المعيّن أقوى من الآخر، ولا ريب في أنّ مقتضى الأصل ترجيح هذاالدليل ويقين العمل به لأنّ إطلاق دليل الحجية إنَّما يثبت الحجية المطلقة له ولا يعارضه إطلاقه للآخر لأنَّه معلوم السقوط حيث يعلم بعدم حجيته.

الفرض الثالث: العلم بأنّ ملاك الحجية إن كان ملحوظاً في مورد التعارض فهو بالنسبة إليهما على حدٍّ سواء، وفي هذه الصورة يثبت التخيير لبقاء إطلاق الحجية لكل منهما على تقدير الأخذ به بلا معارض كما عرفت.

الفرض الرابع: إحتمال الترجيح لأحدهما المعيّن ولا نحتمله في الآخر.

وقد عرفت أنّ العقلاء لا يتعدون ويتركون الآخر، وحينئذٍ نقطع بسقوط إطلاق دليل الحجية لشمول الآخر عند الأخذ بالأول؛ إما لأنّ العقلاء لا يرون ثبوت ملاك الحجية فيه رأساً، أو لوجوده فيهما بنحو التساوي ووجوده في الراجح بنحو آكد في المرجوح.

وكيف كان؛ فإنّ العقلاء يحكمون بثبوت الإطلاق عند الأخذ بالخبر المحتمل رجحانه، فيكون إطلاق دليل الحجية فيه بلا معارض. وعليه؛ فإنهم يحكمون بعدم التساقط المطلق، فيدور الأمر بين الترجيح والتخيير. وسيأتي بيان مقتضى الأصل الثانوي ما يرتبط بالمقام.

والحاصل؛ إنه لا يمكن الحكم بالتساقط بمجرد حدوث التعارض بين الدليلين وسقوط إطلاق دليل الحجية بالنسبة إليهما مع وجود سيرة العلماء ومرتكزات العقلاء في التماس الترجيح بلا فرق في جميع ذلك بين أن يكون التعارض بين الدليلين عرضياً أو ذاتياً. وقد ذكرنا فيما سبق ما يتعلق بالتنافي بالعرض والتنافي بالذات فراجع.

وقد أطال السيد الصدر قدس سره (1) الكلام في قسم التنافي بالعرض. والصحيح؛ إنه لا حاجة إلى ذلك لأنّ حكم التعارض من الترجيح والتخيير معلوم.

ص: 332


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص240 وما بعدها.

ثم إنَّ التخيير يختص بالمتباينين مطلقاً ولا يعمّ غيره فلا يشمل العام والخاص، ولا المطلق والمقيد لما تقدم من تحقق الجمع العرفي المقبول فيهما, بل عرفت أنه لا تعارض بينهما في المحاورات أصلاً فيخرجان عن أحكام التعارض تخصصاً. وكذا موارد العموم من وجه؛ لأنّ المتفاهم من أدلة التعارض ما إذا لم يمكن الأخذ بالدليلين في الجملة، وهو ممكن في مورد الإفتراق في الدليلين، بل وكذا في مورد الإجتماع أيضاً لأنّ المنساق من أدلة أحكام التعارض –ترجيحاً أو تخييراً- إنَّما يكون في ما إذا لزم من الطرح والرجوع إلى الأصل محذورٌ شرعي، ولا يلزم ذلك في مورد الإجتماع من العامّين من وجه؛ فإنّ الشائع في المحاورات هو الطرح ولا محذور فيه، وإلا لزم التفكيك في العمل بمدلول الدليل. ولا إشكال فيه، بل هو كثير في الفقه كما لا يخفى.ومع ذلك فقد قسّم الأصوليون التنافي العرضي إلى ثلاثة أقسام؛ نذكرها مع شيء من التفصيل.

أقسام التنافي العرضي

القسم الأول: ما إذا كان التعارض عرضياً على أساس العلم الإجمالي من الخارج بكذب أحد الدليلين؛ وقد عرفت مِمّا سبق عدم الفرق بينه وبين التعارض بالذات والحكم هو نفس الحكم.

ولكن ذكروا عدة محاولات للمنع من الحكم بتساقطهما:

المحاولة الأولى: إذا كان الدليلان يدلان على حكمين إلزاميين لا ترخيصين فإنَّه لا يلزم منهما محذور الترخيص في المخالفة، وبذلك نكون قد عملنا بكلا الدليلين؛ إذ كل دليل لا بُدَّ وأن يعمل به ما لم يلزم منه محذور.

وأُشكل عليه بأنّ ملاك التعارض على قسمين: إما ترخيص في المخالفة القطعية، وإما أن يكون أحد الدليلين منجزاً للتكليف والآخر معرضاً عنه؛ فإنّ هذا أيضاً مستحيل.

ص: 333

وفي محل الكلام ينتفي القسم الأول إذا كان الدليلان إلزاميين، إلا أنّ الملاك الثاني للتعارض موجود لأنّ كل واحد من الدليلين يكون حجة في مدلوله الإلتزامي أيضاً والذي ينفي ما أثبته الآخر فيقع التعارض بين المدلول المطابقي لكل منهما مع المدلول الإلتزامي للآخر بالملاك الثاني. وبهذا يختلف المقام عن الأصلين الإلزاميين في موارد العلم الإجمالي بالخلاف؛ فإنّ حجية الأصل إنَّما تكون بمقدار المؤدى المطابقي الإلتزامي.

ويرد على هذه المحاولة بأنّ المرتكزات التي كان الإعتماد عليها في حلّ مشكلة التعارض بالتباين سواء كان حاصلاً بالذات أم بالعرض تقتضي القول بأنه إذا أمكن الجمع بينهما بوجه فهو المتعيّن، وإلا فالتخيير. وحينئذٍ لا يفرّق عندهم بين الملاكين المذكورين، مع ما لنا من الكلام في قبول الدلالة الإلتزامية للدليلين مطلقاً، كما يأتي بيانه.

المحاولة الثانية: إنّ التساقط إنَّما يأتي من ناحية الدلالتين الإلتزاميتين، وهما ساقطتان لا محالة؛ إما تخصصاً أو تخصيصاً لأنّ الجمع بين الدلالات الأربع غير ممكن؛ فإما أن يسقط الجميع بما فيه الدلالتان الإلتزاميتان فتسقطان تخصصاً لسقوط الدلالتين المطابقتين بناء على تبعية الدلالة الإلتزامية للدلالة المطابقية في الحجية، وإما أن تسقط الإلتزاميتان فقط فيكون السقوط تخصيصاً وتبقى المطابقيتان على الحجية من دون معارض.

وأورد عليه بأنه لا كلية في سقوط الدلالتين الإلتزاميتين فإنّ الدلالة الإلتزامية ليست تابعة لمعارضها المطابقي في الحجية بل هي تابع للدلالة المطابقية الأخرى، فلا تكون متعينة للسقوط في مقابل ما يعارضها على كل حال، فيمكن افتراضسقوط إحدى الدلالتين المطابقيتين مع دلالتها وبقاء الدلالة الإلتزامية مع الدلالة المطابقية في الطرف الآخر.

والحق أن يقال: إنّ جميع ما ذكر خلاف ما عليه التحقيق في أصل ثبوت التبعية بين الدلالتين الإلتزاميتين وبين الدلالة المطابقية مطلقاً، وهو محلّ تأمل وبحث، وقد ذكرناه في

ص: 334

بحوثنا السابقة؛ فإنّ العرف هو المحكّم في إثبات الحجية أو عدمها، وليست لنا قاعدة كلية يعتمد عليها في إثبات الدلالة الإلتزامية في عرض الدلالة المطابقية، كما إنه ليست لنا قاعدة عامة في التبعية بينهما في الحجية وطوليتهما أو عرضيتهما. بل إنّ قبول الدلالة الإلتزامية يدور مدار الظهورات العرفية، ومن هنا لم يحكم الفقهاء بقبول الدلالات الإلتزامية في الأقارير والشهادات إلا في موارد الظهور العرفي.

المحاولة الثالثة: إنّ الحكم بسقوط المتعارضين إنَّما يكون فيما إذا كان مقتضى الحجية في كل منهما تاماً في نفسه، وأما إذا كان مقتضى الحجية غير تام في أحدهما المعيّن كان الآخر حجة بالفعل كما هو واضح. وعليه؛ فإنّ الدلالتين الإلتزاميتين لا تصلحان لمعارضة المطابقيتين؛ إذ لو كانت كذلك لكان معناه توقف عدم الحجية الفعلية للدلالة المطابقية لدليل وجوب الظهر -مثلاً- على اقتضاء الحجية للدلالة الإلتزامية لدليل وجوب الجمعة بناءً على التبعية كما هو كذلك في صورة العكس أيضاً.

وهذا يعني: إنّ عدم الحجية لكلٍّ من الدلالتين المطابقيتين لتكون موقوفة على حجية الآخر، وهو مستحيل لاستلزامه مانعية كل منهما عن الآخر، فلا تثبت الحجية في الدلالتين الإلتزاميتين، وهو معنى عدم صلاحيتهما لمعارضة الدلالتين المطابقيتين.

والجواب عليه ما ذكرناه آنفاً من أنّ إثبات الدلالة الإلتزامية على نحو الحجية أو تبعيتها للدلالة المطابقية وطوليتهما على فرض الثبوت أو عرضيتهما لا يمكن قبوله إلا بالرجوع إلى العرف والظهورات العرفية.

المحاولة الرابعة: إنّ البرهان الذي يُستند إليه للتساقط في موارد التعارض إنَّما هو برهان الترجيح بلا مرجّح؛ فلو أردنا أن نأخذ بأحد الدليلين دون الآخر كان ترجيحاً بغير مرجّح لأنّ نسبة دليل الحجية الحاصل منهما على حدٍّ سواء، فلا وجه للإستناد على أحدهما دون الآخر.

ص: 335

وأورد عليه بأنه لا كلية لهذا الدليل؛ إذ يمكن فرض ما إذا كان في تقديم أحدهما على معارضه استلزام ارتكاب محذورين؛ ففي مثل هذه الحالة يتعين سقوطُه فيكون معارضه حجة، فلا يكون ترجيحه بغير مرجّح. وهذا الفرض يمكن أن يكون قاعدة عامة، ويكون المقام من تطبيقاتها.والإشكال على ذلك واضح؛ فهو من النزاع الصغروي فلا حاجة إلى ذكره وذكر الجواب عنه كما فعله السيد الصدر قدس سره (1).

والصحيح في الإستدلال على سقوط احتمال التساقط للدليلين المتعارضين فيما إذا علمنا إجمالاً بكذب أحدهما؛ هو ما ذكرناه من أنّ مرتكزات العقلاء لا يحكم بالتساقط فيها إذا فُقد الترجيح لأحدهما، بل يحكم بالتخيير. وعليه يُنزّل ما ورد في أخبار المقام، وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

القسم الثاني: أن يكون التعارض ذاتياً على نحو التناقض؛ بأن يكون فرض كذب أحدهما مساوقاً مع كذب الآخر ولو لم يكونا من النقيضين اصطلاحاً، فقيل: إنّ الصحيح هو التساقط المطلق لأنّ المحتملات المتصورة للحجية ثلاثة: حجيتهما مطلقاً، وحجية أحدهما المعين، وحجية أحدهما تخييراً. وكلها باطلة في هذا القسم فيتعين التساقط.

أما الإحتمال الأول؛ فلأنّ فرض حجيتهما معاً يرجع إلى اجتماع التنجيز والتعذير معاً، وهو غير معقول.

ومن ذلك يظهر الفرق بين هذا القسم والقسم السابق الذي لم ينشأ منه هذا المحذور بالأخذ بالدليلين كما تقدم.

أما الإحتمال الثاني؛ فلأنّ تعيين أحدهما للحجية ترجيح بلا مرجّح.

ص: 336


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص243.

وأما الإحتمال الثالث؛ فلأنّ التخيير في الحجية على أنحاء عديدة، وهي:

1- حجية كلٍّ منهما بشرط عدم حجية الآخر.

2- حجية كلٍّ منهما بشرط عدم صدق الآخر.

3- حجية كلٍّ منهما بشرط عدم الإلتزام بالآخر.

4- حجية كلٍّ منهما بشرط الإلتزام بالآخر.

5- حجية الفرد المردّد منهما.

6- حجية الجامع بينهما.

7- حجية غير ما عُلم إجمالاً كذبه.

وكل تلك الأنحاء صحيحة في حدّ نفسها بالنظر البدوي لتخريج الحجية التخييرية ويمكن الإلتزام بها في المقامات المختلفة؛ كلٍّ بحسب ما تقتضيه الحال. ولكن قيل بأنها باطلة في المقام لأنَّها جميعاً تفقد شرطاً وأكثر من شروط التخيير في الحجية؛ إذ الحجية التخييرية المبحوث عنها في الأصول يراد بها رفع التنافي بين اقتضاءات دليل الحجية ليشمل المتعارضين بتقييد حجية كل منهما بحالة دون الحالة التي يكون الآخر حجة فيها.وبعبارة أخرى: تقييد الحجية بنحو يعالج التعارض. وهذا المعنى لا يتم إلا ضمن شروط معينة وهي شروط أربعة:

الشرط الأول: أن لا تكون الحجيتان المشروطتان باقيتين على التعارض كالحجتين المطلقتين، وهذا واضح.

الشرط الثاني: أن تكون الحجية المشروطة معقولة في نفسها؛ بأن لا يستلزم من تقييد الحجتين المحال.

ص: 337

الشرط الثالث: أن لا تكون الحجية المشروطة في أحد الطرفين منافية للحجية المطلقة من الطرف الآخر، وإلا لرفع التعارض بين دليل الحجية المشروطة ولو بالمقدار في كل طرف مع إطلاق دليل الحجية في الطرف الآخر.

الشرط الرابع: أن لا تكون الحجية المشروطة مباينةً لما يستفاد من دليل الحجية العام، بل تكون حصة من حصصها.

وإذا توفرت هذه الشروط في الحجية المشروطة أمكن إثباتها بدليل الحجية العام، فيمكن إثبات الحجية التخييرية، وأما إذا فقدت أو فُقد شرطٌ منها فلا يمكن إثبات الحجية التخييرية، كما هو كذلك في الأنحاء المذكورة.

وقد أطال بعض الأصوليين(1) الكلام في المقام في بيان إبطال الإحتمالات السبعة في الحجية المشروطة في المقام فقال:

أما النحو الأول؛ وهو الحجية المشروطة بعدم حجية الآخر، فإنّه يفقد الشرط الثاني من الشروط لأنّ لازمه مانعية حجية كل منهما عن حجية الآخر، والتمانعُ من الطرفين من الدور المحال إن كانت الشروط الثلاثة الأخرى متوفرة في هذا النحو، كما هو واضح.

ولا حاجة إلى نقل كلامه، مع أنّ بطلان الإحتمال الخامس وهو حجية الفرد المردد واضح لما عرفت مكرراً من أنّ الفرد المردد لا وجود له لا في الخارج ولا في الذهن.

وأما حجية الجامع بينهما؛ والمراد به المردد المفهومي، فيمكن تصحيحه باعتباره وجهاً من وجوه الجمع بين الدليلين المتعارضين وكان موافقاً للذوق العرفي.

والصحيح؛ إنّ هذا القسم مثل سابقه في أنه إذا أمكن بكل وجه مقبول الجمعُ بين الدليلين؛ ولو كان بإثبات الجامع بينهما بحيث يعترف به العرف، فلا بُدَّ من أخذه.

ص: 338


1- . المصدر السابق؛ ص247 وما بعدها.

وأما إذا لم يمكن الجمع بينهما فإنّ مقتضى المرتكزات هو التخيير، إلا إن يقال بأنّ العرف يرى في هذا القسم التساقط لأنّ العلم الإجمالي بكذب أحدهما يجعل التخيير بينهما بعيداً بحسب أذهان العرف، فتأمّل.القسم الثالث: أن يكون التعارض ذاتياً على أساس التضاد؛ أي يكون التقابل فيه حاصلاً من ناحية إمكان كذب الدليلين معاً بعد عدم إمكان صدقهما معاً. والمعروف فيه هو الحكم بالتخيير على مقتضى الأصل الأولي بنحو من الأنحاء السبعة المتقدمة لتصوير الحجة التخييرية مثل النحو الثاني وهو حجية كل منهما مشروطاً بعدم صدق الآخر، أو النحو السابع وهو حجية غير ما علم إجمالاً كذبه، فإنّ كل واحد منهما معقول في هذا القسم ولم يستلزم ما ذكروه في القسم السابق من الإشكال من عدم توفر الشروط الأربعة المزبورة أو بعضها، وذلك لأنَّها متوفرة في هذا القسم.

أما الشرط الأول؛ (وهو عدم التنافي بين الحجتين المشروطتين) فهو محفوظ من جهة أنّ الحجية في هذا القسم مقيدة لكل طرف بكذب الآخر. وهذا يمنع من فعلية كلتا الحجتين بنحو يلزم التنافي في إطلاقات دليل الحجية، لأنّ الواصل للمكلف هو إحدى الحجتين لا أكثر؛ إذ يعلم بكذب أحد الضدين إجمالاً، فتكون الحجة هي الواصلة بوصول موضوعها إجمالاً فلا يقع تنافٍ بين الحجتين. وهذا هو مسلك مشهور القائم على تقوّم الحجية بالوصول ولو إجمالاً، وأنّ الأحكام الظاهرية تتعارض في مرحلة الوصول.

وأما بناءً على ما ذكره بعضهم من ثبوت الأحكام الظاهرية واقعاًَ كالأحكام الواقعية، فلا محذور فيه أيضاً لعدم المانع من إطلاق دليل الحجية لكل منهما مشروطاً بكذب الآخر لاحتمال فعلية إحدى الحجتين واقعاً، وبمجرد كذبهما معاً لا يمنع من صحة التمسك بإطلاق دليل الحجية لإثبات الحجتين المشروطتين.

ص: 339

وأما الشرط الثاني؛ (وهو معقولية جعل الحجية المشروطة) فهو متوفر أيضاً لأنّ فائدة هذه الحجية هو إحراز حجية أحد الدليلين إجمالاً، وهذا يعني أنه لم يكن محرزاً لولا الحجية المشروطة.

وأما الشرط الثالث؛ (وهو عدم تنافي الحجية المشروطة في إحدى الطرفين مع الحجية المطلقة في الطرف الآخر) فهو أيضاً محفوظ لأنّ الحجية المشروطة لا تصبح فعلية في أحد الطرفين تعييناً إلا إذا علم بكذب الآخر تعييناً، ومعه لا موضوع للحجية المطلقة فيه حتى تتنافى مع الحجية المشروطة.

وكذا الحال في الشرط الرابع؛ لأنّ هذه الحجية حصة من حصص الحجية المطلقة والمستفادة من دليل الحجية العام وليست حجية جديدة.

وحينئذٍ؛ يتم إثبات الحجية الإجمالية في هذا القسم وتثبت النتيجة العملية لذلك من نفي الثالث وغيره.

وأما الأنحاء الأخرى للحجية التخييرية فيمكن إرجاعها إلى القسمين السابقين إلا بعضها الذي لا يتم في هذا القسم؛ كالنحو الأول الذي مفاد حجية كل منهما مشروط بعدم حجية الآخر فإنّ محذور الدور والتمانع باقٍ في هذا القسم.ومن جميع ما ذكرناه في هذا البحث يظهر أنّ مقتضى الأصل الأولي فيما إذا كان دليل الحجية لفظاً تعبدياً هو عدم التساقط -ولو مطلقاً- كان بين الدليلين تنافٍ ذاتي بنحو التناقض إلا إذا كان هناك عرف قائم على التساقط فيه، وهو الذي ذهب إليه المشهور؛ فإنّ المناط في الحكم بالتساقط أو عدمه هو المرتكزات العقلائية فإنها تحكم في مثل تلك الحالات بعدم التساقط بعد ثبوت الحجية الإقتضائية في البين فإذا أمكن الترجيح لأحدهما على الآخر بأيّ وجه مقبول فيجب، وإلا فالمرجع هو المرتكزات التي تثبت

ص: 340

التخيير. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون دليل الحجية لفظياً أم غير لفظي من السيرة عليه ونحوهما.

وقد ذهب بعضهم إلى التفريق بين الدليل اللفظي والتعبدي، وأنّ الدليل اللبّي من التساقط المطلق وعدم ثبوت الحجية التخييرية في الثاني دون الأول لأنّ هذا النوع من الحجية خلاف الإرتكاز العقلائي في باب الحجية القائمة على أساس الطريقية والكاشفية، فلا أقل أنه لا ارتكاز على وفاقه فلا يمكن إثباته بأدلة الحجية اللبّية ولا بالدلالة اللفظية لعدم التصريح بكبرى الحجية في الآيات والروايات القطعية، وأما السيرة العقلائية التي هي دليل لبّي في إثبات الحجية فلا تقتضي هذا النحو من الحجية.

ويرد عليه: إنّ الأدلة الدالة على الحجية مطلقاً لا قصور فيها في إثبات الحجية التخييرية أو الحجية الإقتضائية إذا كان هناك مانع من الحجية التخييرية من تعارض ونحوه، والإرتكاز العقلائي الذي تُنزّل عليه الأدلة لا يأتي إن لم نقل بموافقته.

ومما ذكرنا يظهر صحة القول الثاني؛ وهو القول ببقاء الحجية في تمام موارد التعارض في الجملة.

وأما القول الثالث؛ وهو قول المحقق العراقي قدس سره من التفصيل بين ما إذا كان الخبران متنافيين بحسب مدلولهما فالحكم فيه هو التساقط المطلق، وبين ما إذا لم يكن تنافٍ بين مدلول الخبرين، بل يمكن صدقهما معاً ولكنه علم بكذب أحد الراويين لدلالة كل منهما بالملازمة على كذب الآخر؛ فالحكم حينئذٍ هو الحجية وتنجيز مدلولهما على المكلف. واستدل على ذلك بأنّ كلاً من الخبرين في الفرض الثاني وإن كان يكذب الآخر بالإلتزام إلا أنه لا يدل على عدم مطابقة مدلوله للواقع فيحتمل كون الحكم فيه ثابتاً في الواقع، وهذا يعني أنّ هذه الدلالة الإلتزامية لا يترتب عليها أثر عملي حتى يكون حجة

ص: 341

ومعارضاً مع مدلول الآخر فإنّ الأثر العملي؛ إما أن يكون نفياً للحكم الشرعي الواقعي الذي دل عليه الآخر؛ وقد علمت عدم دلالته على ذلك. وإما أن يكون إيقاع المعارضة بينهما باعتبار الدلالة على عدم صدور الكلام المنقول للآخر ولو لم ينته إلى نفي ذات المدلول؛ وهو مردودبأنّ عدم الصدور بمجرده لا يترتب عليه تنجيزاً أو تعذيراًَ حتى تقع المعارضة بينهما.

وأورد على هذا القول:

أولاً: إنه منقوض بموارد التكاذب بين الأمارتين صريحاً بحسب مدلولهما المطابقيتين، كما إذا أخبر أحدهما عن صدور كلام معين من المعصوم ونفي الآخر صدور ذلك الكلام عنه، فإنّ لازم ما ذكره قدس سره من بقاء الدليل المثبت على الحجية, مع أنّ التعارض وعدم الحجية معروف عند الأصوليين.

ثانياً: بالحل؛ فإنَّه إما أن نبني على أن دليل حجية السند يثبت الحكم الظاهري لحجية شخص ذلك الظهور المنقول عن المعصوم علیه السلام ، وإما أن نبني على أنه ينجز الحكم الواقعي المفاد بالخبر ابتداءً.

وعلى البناء الأول يتحقق التعارض لأنّ الخبرين إذا حقّقا صغرى حجية شخص الظهور المنقول به فيكون منجزاً بهذا الإعتبار وكذلك ينفي بالدلالة الإلتزامية تلك الصغرى فيكون معذوراً عنه بهذا الإعتبار، ومجرد احتمال وجود الحكم واقعاً لا يضرّ لأنّ المنجز هو حجية الظهور التي تنحلّ بعدد أشخاص الظهورات.

وعلى البناء الثاني يمكن التلفيق بين مدلولين إلتزاميين للخبرين معاً والتوصل إلى التعذير عن الحكم الواقعي المجهول فيكون معارضاً مع الخبر المنجز له.

وبعبارة أخرى؛ إنّ الحكم المقرون بشخص ذلك الخطاب ينفيه الخبر النافي، والحكم غير المقرون به ينفيه الخبر المثبت، وبالجمع بينهما ينفي أصل الحكم الواقعي ويؤمن عنه.

ص: 342

والصحيح؛ إنّ ما ذكر(1) في الرد على مقالة المحقق العراقي بعيد عن أذهان العرف والمرتكزات فإنَّه يحتاج إلى تثبيت دلالة إلتزامية في المقام تنفي ما تدل عليه الدلالة المطابقية، وقد عرفت سابقاً عدم تمامية ذلك.

وعليه؛ فإنّ الرجوع إلى البناء العقلائي ومرتكزات العقلاء في ثبوت الحجية في الخبرين المتكاذبين على نحو ما ذكرناه سابقاً في القسمين السابقين, فهذا التفصيل لا يمكن قبوله. فالصحيح ما ذكرناه من ثبوت الحجية الإقتضائية، فلا بُدَّ من إيصالها إلى التنجيز بإعمال المرجّحات، وعند فقدها يكون المرجح هو التخيير بحكم المرتكزات.

وبذلك ننهي الكلام عن حكم المتعارضين بحسب الأصل الأولي وأنه يقتضي الحجية التخييرية.

الأمر الثالث: في إمكان نفي الحكم المخالف

إنه بناء على التساقط المطلق -كما ذهب إليه المشهور- هل يمكن نفي الحكم الثالث المخالف مع مفاد كلا الدليلين المتعارضين، أو يمكن الإلتزام بحكم ثالث مخالف لمفادهما إذا اقتضاه الأصل؟

فيه آراء وأقوال، وقد ذهب جمعٌ من المحققين إلى الثاني وإثبات حكم ثالث مخالف لهما، واستدلوا على ذلك بوجهين، كلاهما يرجع إلى وجه واحد؛ وهو سقوط المتعارضين في مدلولهما المطابقي وعدم السقوط في المدلول الإلتزامي وهو نفي الحكم المخالف.

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2) من أنَّ التعارض بين الدليلين غاية ما يستلزمه العلم بكذب أحدهما، فما يسقط عن الحجية هو أحدهما المعلوم كذبه إجمالاً، وأما

ص: 343


1- . المصدر السابق؛ ص256-258.
2- . كفاية الأصول؛ ص440.

الآخر فلا وجه لرفع اليد عن حجيته، وحجيته لا تفيد بالقياس إلى المدلول المطابقي منهما لعدم إمكان تعيين الحجية في أحد الطرفين إلا أنها تفيد بلحاظ المدلول الإلتزامي، وهو نفي الثالث.

وأُشكل عليه بأنه إذا أريد من بقاء حجية أحدهما المفهومي؛ أي الجامع بينهما، أو أحدهما المصداقي؛ أي الفرد المردد، فهذا غير معقول؛ إذ الجامع بين الدليلين ليس دليلاً، والفرد المردد ليس فرداً ثالثاً بين الفردين، فلا يشملها دليل الحجية العام، فلا إطلاق له عرفاً. وإن أُريد حجية غير معلوم الكذب من الدليلين بوجوده الواقعي، وهذا إنَّما يفيد إذا كان لمعلوم الكذب تعيّن واقعي لأنّ العلم الإجمالي بالكذب قد نتج عن مجرد التعارض بين الدليلين وتنافي مدلولهما.

ويمكن الجواب عن الإشكال المزبور بأنّ المستدل إنَّما يريد نفي الثالث بالمدلول الإلتزامي عرفاً، فلا نظر له إلى ثبوت الجامع ولا الفرد المردد ولا الحجية بالوجود الواقعي حتى يستشكل عليه بما ذكر، مع أنه غير تام في حدّ نفسه كما سيأتي بيانه.

الوجه الثاني: ما نسب إلى المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ الدلالة الإلتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية ذاتاً إلا أنها غير تابعة لها حجيةً؛ لأنّ كلاً منهما فرد مستقل لدليل الحجية العام فإذا انعقدت الدلالة المطابقية ذاتاً انعقدت الدلالة الإلتزامية أيضاً، وسقوط الأولى عن الحجية لوجود المعارض لا يستوجب خروج الثانية عن إطلاق دليل الحجية إذا لم يكن محذور في بقاءها على الحجية، فلا موجب لسقوطها عن الحجية.

ولازم ذلك نفي الثالث بالدلالة الإلتزامية لكل من الدليلين المتعارضين اللذين كان التعارض بينهما بلحاظ مدلوليهما المطابقتين، وأما الثالث فكلاهما متفقان على نفيه بمدلوليهما الإلتزاميين.

ص: 344


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص82.

وأورد عليه بأنّ الدلالة الإلتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحجية فإذا سقطت الثانية عن الحجية بالتعارض سقطت الأولى أيضاً.

وقد استُدل على عدم التبعية بينهما في الحجية بعدة أدلة:

الدليل الأول: ما ذكره بعضهم(1) في رد الوجه المتقدم نقضاً وحلاً.

أما النقض؛ ففي موارد متعددة:

منها؛ ما لو قامت بيّنة على نجاسة الثوب بسبب البول مثلاً وعلمنا بكذب البينة وعدم وقوع البول على الثوب، ولكن احتملنا نجاسته بشيء آخر مثل الدم ونحوه، فهل يحكم بنجاسة الثوب لأجل البيّنة المذكورة باعتبار أنّ الإخبار عن وقوع البول على الثوب إخبار عن نجاسته لأنَّها من لوازمه، وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم للعلم بالخلاف لا مانع من الرجوع إليها بالنسبة إلى اللازم مع أنه لا يقول به أحد؟.

ومنها؛ ما لو أخبر شاهد بأنّ الدار تحت يد زيد وادعى عمرو أنها للأخير، وأخبر شاهد آخر أنها لخالد؛ فإنه لا حجية لكل واحد منهما في المدلول المطابقي مع قطع النظر عن المعارضة لعدم قبول قول الشاهد الواحد إلا مع اليمين، فهل يمكن الأخذ بمدلولهما الإلتزامي والحكم بكون الدار لزيد لكونهما متوافقين فيه من دون حاجة إلى ضم اليمين؟.

ومنها؛ نفس المثال المذكور إذا قامت بينة على كون الدار لعمرو وبينة أخرى على أنَّها لخالد فإنَّه بعد تساقطهما في المدلول المطابقي هل يمكن الأخذ بهما في المدلول الإلتزامي والحكم بعدم كون الدار لزيد فتكون مجهولة المالك.

ومنها؛ ما لو أخبرت البينة عن كون الدار لعمرو واعترف الأخير بعدم كونها له فتسقط البينة عن الحجة لأنّ الإقرار مقدّم عليها، كما أنّ البينة مقدمة على اليد؛ فإنَّه بعد سقوط

ص: 345


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص244-245.

البينة عن الحجية في المدلول المطابقي بسبب الإقرار المزبور فهل يمكن الأخذ بمدلولها الإلتزامي وهو عدم كون الدار لزيد مع كونها تحت يده. إلى غير ذلك من الموارد.

ويجاب عن جميع ذلك بما ذكرناه مكرراً من أنّ الدلالة الإلتزامية إنَّما تثبت في الكلام بالظهور العرفي لا لمجرد التبعية للدلالة المطابقية حتى يبحث أنها تابعة لها في الحجية أو لا، فإنّ العرف لا يأخذ بالدلالة الإلتزامية في الأمثلة المذكورة ولا غيرها، وإن قلنا بالتبعية للحجية فيهما، فلا يُعمل بكل حجة إذا لم يتم فيها شروط العمل بها؛ ومنها الظهور العرفي. ومن هنا ذكرنا فيما تقدم أنّ الفقهاء لميأخذوا بها في باب الأقارير والشهادات وغيرها، فهذا الإشكال والرد عليه في غير محلّه.

وأما الحلّ؛ فإنّ الإخبار عن الملزوم وإن كان إخباراً عن اللازم، ولكن ليس إخباراً عنه بالوجود السعي بل هو إخبار عن حصة خاصة هي لازم له. ومن هنا نقول بأنّ الإخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخباراً عن نجاسة الثوب بأيّ سبب كان، بل إخبار عن نجاسته من ناحية البول الذي هو سبب لها؛ فإذا علم بكذب البينة التي أخبرت بنجاسة الثوب بالبول يعلم كذبها بالإخبار عن نجاسة الثوب من هذه الجهة فقط، وأما النجاسة بسبب آخر فهي وإن كانت محتملة ولكنها خارجة عن مفاد البيّنة. وكذا في المقام فإنّ الخبر الدال على الوجوب يدل على حصته من عدم الإباحة التي هي لازمة للوجوب لا عدم الإباحة بقول مطلق، كما أنّ الخبر الدال على الحرمة يدل على عدم الإباحة اللازمة للحرمة لا مطلق عدم الإباحة؛ فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي للمعارضة يسقطان عن الحجية في المدلول الإلتزامي أيضاً، وهكذا في سائر الأمثلة.

وأُشكل عليه بأنه إن أريد قياس المقام على البينة في الأمثلة المذكورة فهو باطل لأنَّهما يختلفان؛ إذ البينة شهادة بالمحسوس، والخبر غير ذلك. وقد عرفت الجواب عنها.

ص: 346

وإن أُريد أنّ المدلول الإلتزامي إنَّما هو الحصة الخاصة المقارنة مع الملزوم فتكون المعارضة سارية إليه أيضاً فإنَّه يرد عليه بأنّ هذا يتم في المداليل الإلتزامية التي لها تخصّص وتعيُّن في نفسها مع قطع النظر عن المقارنة المنتزعة بلحاظ المدلول المطابقي، فتكون في نفسها مِمّا لا تجتمع مع المدلول في الدليل الآخر. وأما إذا لم يكن لها تعيّن لذلك فلا يتم هذا الوجه لأنّ المدلول الإلتزامي حينئذٍ هو ذات اللازم، والدلالة الإلتزامية دالة عليه بما هو هو لا بما هو لازم مقارن، فالتلازم نسبة بين المتلازمين وليس مأخوذاً في أحد الطرفين، فمع سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لعدم شمول دليل الحجية العام له. ولكن لا مانع من بقاء الدلالة الإلتزامية للكلام على حجيتها ما دام مدلولهما محتمل الثبوت فيه، والدلالة عليه محفوظة ذاتاً ووجوداً.

والحق؛ أنّ جميع ما ذكر في الجواب والرد عليه غير صحيح، إذ لا ينسجم مع المستفاد من أدلة الحجج والأمارات؛ فإنّ الذي يأخذه العرف من المداليل المطابقية ما إذا كان الكلام ظاهراً فيها، وكذلك لا يعتمد العرف على المداليل الإلتزامية واللوازم والملزومات، أما ما كان اللفظ ظاهراً في تلك اللوازم والمداليل الإلتزامية ومقبولاً عند مرتكزات العقلاء ولا نظر لهم في سعة الدلالة الإلتزامية وتخصصها فربما يكون الكلام ليس له ظهور في المدلول الإلتزامي، وربما يكون له ظهور في اللازم الخاص دون العام وربما يكون بالعكس إذا استفاد العرفظهور الكلام في ذلك، ولا أظن أنّ أحداً يقول بحجية الدلالة الإلتزامية إذا لم يكن للكلام ظهور فيها، ولعل مراد القائلين بتبعية الدلالة الإلتزامية للدلالة المطابقية في الحجية هذا المعنى؛ أي ما إذا كان لهما ظهور أو لأحدهما فيه، وإلا فلا وجه للأخذ بالمدلول الإلتزامي مع فقْد الظهور المعرفي وإن قلنا بتبعيته للمدلول المطابقي في الحجية، والعكس أيضاً صحيح كما يتضح ذلك من الوجوه الآتية.

ص: 347

الدليل الثاني: إنّ الدلالة الإلتزامية العقلية ليست من دلالة اللفظ على المعنى، بل من دلالة المعنى على المعنى، فيكون في الواقع دالان ومدلولان أحدهما الكلام ومدلوله المطابقي، والآخر نفس المعنى المطابقي ومدلوله المعنى الإلتزامي لأنّ الملازمة العقلية ملازمة تصديقية بين واقع المعنيين بوجودهما الحقيقيين، فإذا سقطت الدلالة اللفظية في إثبات مدلوله فلا يبقى ما يدلنا على المعنى الإلتزامي، وهذا هو معنى التبعية بينهما في الحجية.

وأورد عليه بأنّ الملازمة العقلية إنَّما تكون بين ثبوت المعنى المطابقي واقعاً أو ثبوت المعنى الإلتزامي كذلك لا ثبوتهما التعبدي، وعليه؛ فإن أريد من عدم الدال على المعنى الإلتزامي عند سقوط الدلالة المطابقية عدم ذات الدالّ على المعنى الإلتزامي فهو غير صحيح فإنّ الدال عليه ذات المعنى المطابقي وهي غير ساقطة وإنما الساقط حجيتها، وإن أريد عدم التعبد بثبوت الدالّ على المعنى الإلتزامي فهو صحيح إلا إنه لم يكن هو الدال على المعنى الإلتزامي، وإلا فثبوت حجية لوازم الأصول العملية أيضاً يكون لثبوت التعبد بمداليلها المطابقية، وإن أريد أنّ حجية الدلالة المطابقية ينقّح تعبداً موضوع حجية الدلالة الإلتزامية فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية فلا يمكن إثبات حجية الدلالة الإلتزامية لعدم إحراز موضوعها ولو تعبداً.

وفيه: إنّ موضوع الحجية في الأمارات ما كان فيه كشفاً تصديقاً ثابتاً في موارد قيامها وهي كما توجد في المدلول المطابقي كذلك توجد بالنسبة إلى المدلول الإلتزامي، ومجرد سقوط الأولى عن الحجية لا يستوجب ارتفاع الكشف الثاني.

ويرد عليه ما أوردناه على سابقه من أنّ حجية المدلول الإلتزامي إنَّما يتحقق إذا كان لها مقبولية عرفية وظهور عرفي، وإلا فإنّ مجرد تبعيته للمدلول المطابقي في الحجية أو في الواقع أو في التعبد لا يثبت شيئاً من الحجية إذا لم يكن هناك مقبولية عرفية.

ص: 348

الدليل الثالث: ما اختاره السيد الصدر قدس سره (1) من أنّ ملاك الحجية في الدلالتين واحد فلا تبقى نكتة الحجية في الدلالة الإلتزامية إذا سقطت الدلالة المطابقية لأنّ ملاك الحجية في الحكاية والإخبار هو أصالة عدم الكذب، وفي الإنشاء والقضايا المجعولة هو أصالة الظهور وإرادة المعنى من اللفظ، وإذا سقطت الدلالةالمطابقية بظهور كذبها أو عدم إرادتها في باب الإنشاء فافتراض عدم ثبوت المدلول الإلتزامي لها لا يستدعي افتراض كذب زائد في الإخبار أو مخالفة زائدة في الإنشاء، لأنَّه لم يكن بدالٍّ إخباري أو إنشاء مستقل، وإنما كانت من جهة الملازمة بين المدلولين فتكون من دلالة المدلول على المدلول وليست دلالة واجدة لملاك مستقل للكاشفية والحجية. ثم رتّب قدس سره على ذلك أموراً.

ويشكل عليه بأنّ الدلالة المطابقية والدلالة الإلتزامية إنَّما تتطابقان في أنهما تكونان حجة إذا كانت لهما مقبولية عرفية كلّ بحسب حالها، فإنَّه بعد تبعيتهما ذاتاً تكون تبعيتهما في الحجية تدور مدار المقبولية العرفية وعدمها مطلقاً سواء في الدلالة الإلتزامية البينة؛ أي الدلالة التصورية أم غير البينة؛ أي الدلالة التصديقية، وسواء كان في الدلالة التضمنية التحليلية أم غير التحليلية. فما ذكروه في وجه التبعية وعدمها خلاف التحقيق فراجع.

الأمر الرابع: في التعارض بين أكثر من دليلين
اشارة

التعارض بين أكثر من دليلين واقع في الفقه كثيراً مثل تحديد البئر وانفعاله، وحكم السلام المخرِج عن الصلاة، وحكم الركعتين الأخيرتين في الرباعيات من حيث القراءة والتسبيحات، وحكم ذبيحة الكتابي، وحكم أكثر النفاس، وحكم إرث الزوجة من الأرض إلى غير ذلك مِمّا لا يستقصى.

ص: 349


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص264-265.

وقد ذكر بعض الفقهاء أنه لا تضبطها ضابطة كلية حتى تذكر في علوم الأصول ويبحث عنها، بل يختلف حكمها حسب اختلاف الأبواب والموارد، وقد يضطرب في بعض موارده الخبير الماهر. قال صاحب الجواهر في بحث السلام: (ويكفيك أنّ الشهيد مع شدة تبحره وحسن وصوله إلى المطالب الغامضة قد اضطرب عليه المقام كما لا يخفى على كل ناظر للذكرى)(1). والسر يرجع إلى اختلافهم في تعيين الظاهر والأظهر وغيرهما؛ إذ يختلف حال التعارض بين اثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث فتنقلب النسبة، كما إذا كانت النسبة بين الإثنين عموم وخصوص مطلق، ولكن هذه النسبة تنقلب بعد ملاحظته مع أحد الخاصين إلى عموم من وجه أو العكس، أو إلى التباين.

ومن أجل ذلك؛ أي مبحث التعارض بين أكثر من دليلين كان محل البحث والتنقيح مع العلم أنه لا حاجة إليه، وسيأتي بيان ذلك.

وكيف كان؛ فإنّ البحث يقع تارةً؛ من حيث مقتضى الأصل الأولي، وأخرى؛ من حيث صور التعارض بين أكثر من دليلين، وثالثةً؛ من حيث انقلاب النسبة بين الأدلة المتعارضة، ورابعةً؛ في ذكر بعض التطبيقات التي وقع الخلاف فيهابسبب التعارض فيها ونوعيته. ونحن نذكرها في المقام، ويأتي الكلام عنها في موضعه إنْ شاء الله تعالى.

أما الأولى؛ فإنّ الصحيح عدم الفرق في ما هو مقتضى الأصل الأولي في موارد التعارض بين ما إذا كان التعارض بين دليلين أو أكثر؛ فقيل بتساقط الجميع، كما قيل بتساقط الدليلين المتعارضين إذا لم يكن في البين ما يوجب سقوط بعضها.

ولكن سبق أن ذكرنا أنّ الأصل يقتضي التخيير إذا لم يكن في البين ما يوجب الترجيح لبعضها. والوجه في ذلك ما ذكرناه في القسم السابق، وإن استدل بعضهم على التساقط في

ص: 350


1- . جواهر الكلام؛ ج10ص321.

المقام بوقوع التنافي في اقتضاء دليل الحجية لشمول كل واحد منها مع اقتضاءه لشمول الآخر، فشموله لهما جميعاً غير ممكن، وشموله البعض دون بعض ترجيح بلا مرجح بلا فرق بين أن تكون هناك معارضة واحدة بين مجموع تلك الأدلة أو أكثر؛ كما إذا تعارض دليل مع دليلين بملاكين مختلفين، ومن دون فرق بين أن تكون المعارضة من جهة التنافي بين مدلول كل منهما مع مدلول الآخر أو من جهة التنافي بين الرواية كما إذا علم بكذب أحد الرواة وعدم صدور ما ينقله عن المعصوم علیه السلام . وألحقوا بذلك موارد اختلاف النسخ في نقل الرواية فحكموا بأنه من باب التعارض أيضاً.

وقد عرفت الجواب عن الإستدلال الذي ذكروه، وقلنا أنّ أقصى ما يستفاد منه هو انقلاب الحجية الفعلية إلى الحجية الإقتضائية، وإرجاعها إلى التخييرية يحتاج إلى التماس المرجّح، ومع فقده يكون هو التخيير. وقد قلنا أنّ ذلك هو الموافق للمرتكزات العقلائية، هذا إذا لم يكن في التعارض بين أكثر من دليلين خصوصية خاصة كما يأتي التنبيه عليه.

وقد يقال: في خصوص ما إذا وقع الإختلاف والتهافت في طريق نسخة واحدة دون طريق النسخة الأخرى أو الرواية المعارضة؛ بإمكان الأخذ بالنسخة الأخرى أو المعارض الذي لم يقع اختلاف في طريق نقلهما وإنقاذها عن المعارضة. مثال ذلك ما ورد في رواية ذريح المعروفة في العصير العنبي المغلي؛ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: (إِذَا نَشَ الْعَصِيرُ أَوْ غَلَى حَرُمَ)(1)؛ فقد نقلت في التهذيب(2) ب-(أو)، ونقلها صاحب الوسائل عن الكافي(3) كذلك، ولكن نقلت ب(الواو) كما في البحار(4), وقيل أنَّه نقلها عن الكافي أيضاً.

ص: 351


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج25 ص287-288.
2- . المصدر السابق؛ ج9 ص120.
3- . المصدر السابق؛ ج6 ص419.
4- . المصدر السابق؛ ج63 ص510.

وحينئذٍ؛ يقال باختصاص التعارض بطريقَي النسختين الواردتين في مقام تعيين عبارة الكافي، ويبقى نقل التهذيب سليماً عن التعارض.والصحيح؛ إنّ التعارض واقع بين الخبرين؛ خبر التهذيب، وخبر البحار وخبر الوسائل في عرض واحد, ولا بدَّ من التماس المرجح مع فقده يتخير الفقيه في أخذ واحدة منها فمن اختار خبر التهذيب يحكم ظاهراً بحرمة العصير عند النشيش، ومن أخذ بخبر البحار يحكم ظاهراً بحرمة العصير عند الغليان ولا يكتفي بالنشيش فقط، ففي الواقع إنما تحقق المعارضة بين المفادين. ولا موجب لسقوط الكل إلا إذا قلنا بالتساقط وقد عرفت الجواب عنه فراجع.

هذا كله البحث في الجهة الأولى وهو مقتضى الأصل. وقد قلنا أنه يقتضي التخيير لا التساقط.

الجهة الثانية: مقتضى الأصل الثانوي

الجهة الثانية(1): مقتضى الأصل الثانوي

والكلام فيه أنه هل يقتضي التعيين أو التخيير؟ ولا بدَّ من بيان الصور المفروضة في الدليلين المتعارضين بعد شمول دليل الحجية لكيلهما.

وهي تارة؛ نفرض القطع بأنّ ملاك الحجية في أحدهما المعيّن أقوى منه في الآخر، ولا إشكال في ترجيحه.

وأخرى؛ نفرض القطع بتساويه فيهما, والحكم فيه التخيير كذلك.

وثالثةً؛ نفرض احتمال تعيين الملاك وأقوائيته في أحد الطرفين تعييناً.

ورابعةً؛ نفرض احتمال تعيينه في كلّ من الطرفين, وقد وقع الكلام فيهما في أنّ مقتضى الأصل هو التعيين أو التخيير.

ص: 352


1- . من جهتي الأمر الثاني؛ وإنما تأخرت إلى ما بعد الأمر الثالث والرابع لدخولهما في الجهة الأولى.

والحاصل؛ إنّ الثابت في الأول هو الترجيح، وفي الثاني التخيير، والثالث والرابع يكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية من طرف واحد أو كلا الطرفين؛ وإنْ قلنا سابقاً بأنّ احتمال الأقوائية والتعيين يكفي في الترجيح.

وكيف كان؛ فبعد ما علمنا بعدم التساقط المطلق في مورد الدليلين المتعارضين فلا بُدَّ من استظهار مقتضى الأصل الثانوي في مورده، وهل هو تعيين الحجية في أحد المتعارضين أو التخيير بينهما؟.

المعروف بينهم أنّ مقتضى الأصل هو التعيين كما عرفت التفصيل في البحوث السابقة, ولكن فصّل بعض الأصوليين(1) الكلام في المقام وهو لا يستحق التفصيل.

وخلاصة ما ذكره: إنه تارة؛ يبحث مع افتراض عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بوجود تكاليف إلزامية في مجموع الشبهات, وأخرى؛ يبحث مع افتراض انحلال هذا العلم بموارد حددت التكاليف فيها تفصيلاً بالوجدان أو التعبد بحيث لا مانع من الإنتهاء إلى الأصول العملية المؤمّنة في غير دائرة ما علم تفصيلاً من الشبهات.ففي الفرضية الأولى؛ إذا كان احتمال هو التعيين في أحد الدليلين المتعارضين فقط، وفرض التزام الفقيه به؛ كان حجة عليه لا محالة سواء كان دليلاً إلزامياً أم ترخيصياً.

وأما إذا فرض عدم الإلتزام به وإنما التزم بالآخر، أو لم يلتزم بشيء منهما, أو كان احتمال التعيين في كلّ من الطرفين وارداً؛ فإنّ النتيجة في جميع هذه التقارير الثلاثة هو عدم ثبوت الحجية لأحدهما المعين ولزوم الإحتياط في مقام العمل, وكذلك الشك في حجية كلّ منهما وعدم إمكان رفع اليد عن مقتضى العلم الإجمالي الكبير المقتضي للإحتياط في تمام الأطراف.

ص: 353


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص268 وما بعدها.

ويرد عليه: إنّ ذلك غير تام, لأنّ العقلاء في الموارد المذكورة يتفحصون في إرجاع الحجية التقديرية الموجودة في أحدهما غير المعيّن إلى الحجية الفعلية؛ فإنْ لم يوجد ما يرجع أحدهما على الآخر فالحكم عندهم هو التخيير، والعلم الإجمالي الكبير لا وجود له بعد ورود التخصيصات والتقييدات الكثيرة في الشرع فهو من مجرد الفرض. والقول بأنّ وجوب الإلتزام بأحدهما في الجملة الثابت في موارد التخيير وعدم التساقط المطلق إنَّما يراد به حكم طريقي فحواه تنجّز الواقع على المكلف إذا لم يلتزم بشيء منهما، وليس حكماً تكليفياً مستقلاً عن الواقع المشتبه, والمفروض أنّ الواقع منجّز بالعلم الإجمالي الكبير فلا بُدَّ على المكلف من الإحتياط فلا مخالفة في ترك الإلتزام بهما مع الإحتياط.

وهذا باطل؛ لأنّ العقلاء في موارد الدليلين المتعارضين يعلمون بوجوب الإلتزام بأحدهما ويعتبرونه حكماً تكليفياً؛ فإنْ أمكنهم تعيينه بأحد المرجّحات فيتعين العمل به لأنَّه الفرد المعين, وإنْ لم يمكنهم ذلك يبقى على الاقتضاء وهم يحكمون بفطرتهم بالتخيير من دون النظر إلى العلم الإجمالي الكبير والإحتياط وليس فيه أي حكم طريقيّ بل هو الحكم الإلزامي على الإجمال المعلوم.

وفي الفرضية الثانية؛ (وهي ما إذا فرض انحلال العلم الإجمالي بموارد علم التكليف فيها إما وجدانياً أو تعبداً) فلا مانع من الرجوع في غيرها إلى الأصول العملية المؤمنة.وقد فصّل بين ما إذا فرض وجود علمٍ إجمالي بالتكليف في خصوص مورد التعارض وبين ما إذا لم يفرض وجود علم إجمالي في مورد التعارض, وحينئذٍ؛ إما أن يتعارض دليل الإلزام مع الترخيص، أو أن يتعارض دليلان إلزاميان.

ففي الوجه الأول؛ -أي ما إذا فرض وجود علم إجمالي في مورد التعارض- فقد حكم بالإحتياط لما عرفت في الفرض السابق من وجود علم إجمالي في البين, فإن التزم الفقيه بأحدهما تعيّن أخذه، وإلا فيجب الإحتياط, وقد عرفت الجواب عنه أيضاً.

ص: 354

وفي الوجه الثاني؛ صور متعددة:

الصورة الأولى: ما إذا كان احتمال التعيين في دليل الإلزام بالخصوص.وحكم هذه الصورة أنه إذا التزم الفقيه بدليل الإلزام فقد تمّت لديه الحجة عليه, وأما إذا لم يلتزم به فإنَّه يدور بين ثبوت الحجية المطلقة لدليل الإلزام وثبوت الحجية التخييرية, وهذا العلم الإجمالي دائر بين متباينين فيجب الإحتياط.

ولكن عرفت أنه لا وجه لهذا الإحتياط لعدم منجزية مثل هذا العلم الإجمالي، فيمكن جريان الأصل المؤمّن عن التعيين فتجري أصالة البراءة عن الإلزام المحصّل، ولا يعارض بأصل مؤمن آخر لعلمه بالمنجّز.

الصورة الثانية: ما إذا احتمل التعيين في دليل الترخيص.

والحكم هو إجراء الأصل المؤمّن عن الحجية التخييرية لدليل الإلزام, لأنّ فيها كلفة زائدة بخلاف الحجية التعيينية لدليل الترخيص فتجري البراءة عن الإلزام الواقعي المشكوك فتكون النتيجة في هذه الصورة هي التعيين.

الصورة الثالثة: إحتمال التعيين في كلّ واحد من الدليلين الإلزامي والترخيصي معاً.

وحكم هذه الصورة -كما في الصورة السابقة- هو جريان الأصل المؤمّن عن الحجية التعيينية والتخييرية لدليل الإلزام, لأنّ فيها كلفة زائدة دون الحجية التعيينية لدليل الترخيص.

فالنتيجة في هذه الصورة هي تعيين دليل الترخيص. نعم, تختلف الصورتان في أنه لا يمكن الإفتاء بمضمون دليل الترخيص حتى لو التزم الفقيه به في هذه الصورة لاحتمال تعيين دليل الإلزام عليه، بخلاف الصورة السابقة التي يمكن الإفتاء به.

هذا كله إذا كان الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية لدليلين متعارضين أحدهما يدلّ على الإلزام والآخر على الترخيص.

ص: 355

وأما إذا كان المتعارضان معاً يدلان على الإلزام؛ فتارة؛ يفترض أنّ الحكمين الإلزاميين سنخ حكمين يمكن الإحتياط فيهما, كما إذا دلَّ أحدهما على وجوب الصدقة على الفقير، ودلَّ الآخر على وجوب زيارة الحسين علیه السلام ، وعلم بكذب أحدهما إجمالاً.

وأخرى؛ يفترض أنه لا يمكن الإحتياط في الحكمين الإلزاميين, كما إذا دلَّ أحدهما على وجوب شيء، والآخر دلَّ على حرمته.

وعلى كلا الفرضين؛ إما أن يكون احتمال التعيين في أحد الطرفين، وإما أن يكون احتمال التعيين في كليهما، فتكون الصور أربع:

الأولى: ما إذا أمكن الإحتياط واحتمل التعيين في أحدهما, فإنَّه يلزم الأخذ بالدليل المحتمل تعينّه للعلم بالحجة على الإلزام في أحد الطرفين بخلاف الأخذ بالدليل الآخر.الثانية: ما إذا أمكن الإحتياط واحتمل التعيين في الطرفين, فإنَّه يجب الإحتياط وامتثال كلا الدليلين لتحقق علم إجمالي منجّز، والإلتزام بأحدهما لا يوجب الخروج عن عهدة العلم بالتكليف.

الثالثة: ما إذا لم يمكن الإحتياط مع احتمال التعيين في أحد الطرفين, والحكم هو الأخذ بالدليل المحتمل تعيّنه ولا يجوز تركه والأخذ بالآخر أو تركهما معاً.

الرابعة: نفس الصورة الثالثة مع افتراض احتمال التعيين في كلا الدليلين, وحكمها جريان البراءة عن كلّ من الوجوب والحرمة الواقعيين المحتملين, لأنَّه على جميع التقادير يتشكّل علم إجمالي دائر بين محذورين. فالنتيجة في هذه الصورة هي نتيجة التخيير.

والحاصل؛ إنّ مقتضى الأصل الثانوي عند الدوران بين التعيين والتخيير ليس هو التعيين كما ذهب إليه المشهور, بل قد تثبت نتيجة التخيير.

ص: 356

هذا ما ذكره بعض الأصوليين باختصار منا؛ والذي ينبغي أن يقال:

إنه عند الدوران بين دليلين متعارضين نعلم بكذب أحدهما ونقطع بعدم تساقطهما؛ تتحقق في البين حجية اقتضائية لا بُدَّ من إيصالها إلى الحجية الفعلية، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالتماس مرجّح لأحد الطرفين ويكون مقبولاً عند العرف, ومع فقده فإنَّ العقلاء بفطرتهم يحكمون بالتخيير. هذا كله بمقتضى الأصل الأولي والثانوي إلا إذا كان في البين ما يوجب الرجوع إلى الحجية التعيينية من احتياط ونحوه.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر أنّ المسلك الذي اخترناه يتميّز بأمور:

الأمر الأول: إنّ ذلك مما يحكم به العقلاء بفطرتهم, لأنّ أصل حجية الخبر الموثوق به إنَّما ثبتت ببناء العقلاء، فلا بُدَّ أن تكون من متممات الحجية وفروعها؛ فإنَّ التعارض وأحكامه من لوازم الحجة الموجودة بين العقلاء والدائرة بينهم ولا يكون هذا الأصل النظامي دائراً بينهم، بينما تكون لوازمها وفروعها مفصولة عنها عندهم مع كونها من مقوّمات محاوراتهم واحتجاجاتهم. وسيأتي أنّ المرجّحات الواردة في الأخبار ثابتة عند المتعارف أيضاً في محاوراتهم الشائعة.

الأمر الثاني: إنه بعد التكافؤ من جميع الجهات عند العقلاء واستقرار الحيرة لديهم فإنَّ المحتملات عندهم هي: إما الإحتياط في العمل إنْ أمكن, وإما التوقف مطلقاً, وإما الرجوع إلى التخيير.

وعلى الأول؛ وإنْ كان حسناً ثبوتاً, ولكنه خلاف البناء المحاوري النوعي في الطرق المعتبرة لديهم والحجج الدائرة بينهم مع أنه تشديد في التحيّر وعدم إمكان رفعه.وكذا الثاني؛ مع أنّ المورد قد لا يكون قابلاً للتوقف, بل لا بُدَّ من العمل به في الجملة فيتعين الأخير.

ص: 357

وعلى هذا, لاوجه لإتعاب النفس في ملاحظة النسبة بين الأخبار الدالة على التخيير وسائر الأخبار الواردة في حكم المتعارضين لأنَّه مع استقرار التحيّر وعدم إمكان رفعه عرفاً يثبت التخيير مطلقاً سواء كان عقلائياً أم شرعياً.

الأمر الثالث: إنه لا موضوع للتخيير مطلقاً إلا بعد الفحص عن المرجّحات واليأس عنها, لأنّ موضوعه هو قبح الترجيح بلا مرجّح، فمع وجوده أو احتماله لا موضوع له لا عقلاً ولا شرعاً.

الأمر الرابع: موضوع هذا التخيير سواء كان عقلائياً أو شرعياً إنَّما هو في تعيين الحجة؛ أي المسألة الأصولية فيختص بالمجتهد، دون العامي, كما أنه لا يكون استمرارياً لأنَّه بعد اختيار أحدهما يصير ذا حجة معتبرة فلا يبقى موضوع للتخيير حينئذٍ, كما لا وجه لاستصحاب التخيير بعد صيرورته ذا حجة معتبرة.

الأمر الخامس: بعد ما كان موضوع التخيير مطلقاً هو صورة فقْد المرجّح فلا وجه لتوهّم حمل أخبار الترجيح على الإستحباب والأخذ بإطلاق أخبار التخيير, لأنَّه من إثبات الإطلاق فيما لا موضوع له، وهو قبيح.

اللهم إلا أن يقال بأنّ مجرد الوثوق بالصدور في كلّ واحد من المتعارضين يكفي في الحجية لإطلاق أدلة الخبر الموثوق به وإطلاق السيرة العقلائية فيتحقق موضوع التخيير بمجرد الحجية الإقتضائية, وحينئذٍ؛ إنْ كان إعمال المرجّحات لزيادة الوثوق فلا دليل على اعتباره, لفرض حصول أصل الوثوق في الجملة, وإنْ كان لجهة أخرى فهي مدفوعة بالأصل, ولعلّ نظر من حمل المرجّحات على الندب إلى ذلك.

ويرد عليه: إنّ ما ذكر بعيد عن ظاهر كلماتهم، ولم نعثر على أحد منهم حررّ ذلك في كلامه, بل إنّ أصل إعمال المرجّحات مبني على التسهيل والتيسير؛ وهذه كلها من فروع

ص: 358

اعتبار التخيير في تعارض الحجج المعتبرة بعد التكافؤ واستمرار الحيرة من الأصول النظامية الدائرة لدى العقلاء في محاوراتهم، فتكون الأخبار الواردة في التخيير عند الحيرة المستقرة قد وردت على طبق هذا الأمر المرتكز في الأذهان والفطرة المستقيمة فلا يكون من الأمور التعبدية. فما ورد من الشارع إنَّما هو لأجل التقرير لهذه الطريقة المعهودة المرتكزة عند العرف.

الأمر السادس: التخيير؛ إمْا تكويني محض كما في دوران الأمر بين المحذورين مع عدم كون أحدهما من القربيات, وإمّا أن يكون عقلائياً كما في موارد تعارض الخبرين على التفصيل الذي ذكرناه, وإما أن يكون شرعياً كما في خصال الكفارات.وبناءً على ذلك فلا اختصاص للتخيير العقلائي بخصوص تعارض الروايات، بل يشمل جميع موارد التعارض؛ سواء كان في الأخبار أم في أقوال الفقهاء أم أهل اللغة أم غيرها؛ فيشمل كلّ حجة متعارضة.

نعم؛ بناءً على كون التخيير في المقام شرعياً محضاً فإنَّه يختصّ بمورد الأخبار المتعارضة لاختصاص أدلة التعارض بها, وقد عرفت أنها وردت في مقام الإمضاء وعدم الردع عن طريقة العقلاء فلا وجه للإختصاص, ومن هنا يمكن التعدّي إلى موارد اختلاف النسخ واختلاف النقل أيضاً بعد التكافؤ المطلق والتحير المستقر.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ هذا المسلك الذي اختاره السيد الوالد قدس سره (1) وفصّل الكلام فيه، هو الموافق لطريقة العقلاء والذوق العرفيّ العام, وما ذكره الأصوليين في المقام لا يخلو عن مناقشة، وهو بعيد عن الأذهان العرفية؛ فراجع.

ص: 359


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص189.
ختام في موارد اشتباه التعارض المستقر وغير المستقر

إتضح من جميع ما تقدم أنّ حكم التعارض هو الترجيح، والتخيير يختصّ بالتعارض المستقر, أي المتباينين فقط فلا وجه له في العام والخاص ولا المطلق والمقيّد لتحقق الجمع العرفي المقبول فيهما. ولذا قلنا بأنّ التعارض بينهما يكون من التعارض غير المستقر, بل قد عرفت أنه لا يكون بينهما التعارض في المحاورات فيخرجان عن موضوع البحث تخصّصاً.

هذا, وقد وقع البحث بين الأعلام في بعض الموارد على أنها من صغريات التعارض غير المستقر أو التعارض المستقر, وهي:

1- تعارض الدلالة الوضعية كالعموم مع الدلالة الحكمية كالإطلاق.

2- تعارض المطلق الشمولي مع المطلق البدلي.

3- موارد انقلاب النسبة.

4- موارد العموم من وجه.

المورد الأول: تعارض الدلالة الوضعية كالعموم مع دلالة حكمية كالإطلاق

ولا ريب في تقديم النصّ على الأظهر وتقديمهما على الظاهر إنْ كان كلّ واحد من الثلاثة معلوماً, وأما إذا لم يكن أحدهما معلوماً فإنْ أمكن تعيينه بقرينة خاصة فلا إشكال في اتباعها, وإلا فتصل النوبة إلى القرائن العامة. وقد قيل أنّ من القرائن العامة الدلالة الوضعية كالعموم فإنها تتقدم عند التعارض مع الدلالة الحكمية كالإطلاق، ومنها المطلق الشمولي إذا تعارض مع المطلق البدلي, واستدلوا على ذلك بأنّ الدلالة الوضعية أظهر في العموم فلا بُدَّ من تقييد المطلق البدلي.

وتحقيق الكلام في الأول أن نقول:

إنّ المثال المعروف فيه هو ما إذا تعارض عام مع المطلق بنحو العموم من وجه, كما إذا ورد (أكرم كلّ شاعر)، وورد أيضاً (لا تكرم فاسقاً)؛ فهل يقدّم العام على المطلق فيحمل

ص: 360

المطلق على غير موارد شمول العام فلا تسري المعارضة إلى دليل الحجية واعتبار ذلك جمعاً عرفياً, أو أنه يحكم باستقرار التعارض في مادة الإجتماع؟

وفي مقام الجواب نقول: إنّ الكلام يقع تارة؛ في المتصلين وأخرى؛ في المنفصلين:

أما الأولى؛ وهي في ما إذا ورد العام الوضعيّ متصلاً بالمطلق الحكمي, كما إذا قال (أكرم الشعراء ولا تكرم الفاسق) فإنْ قلنا بأنّ دلالة العام تتوقف على جريان مقدمات الحكمة في متعلق أدوات العموم كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره (1)؛ فبناءً عليه لا وجه للقول بتقديم العموم على الإطلاق, لأنّ كلتا الدلالتين إنَّما تثبتان بمقدمات الحكمة فيكون حالهما حال المطلقين المتعارضين فلا يتقدم العام على المطلق مطلقاً لا في مورد اتصالهما ولا في انفصالهما.

ولكن ذكرنا في محله أنّ هذا المسلك غير صحيح, بل إنّ أدوات العموم بنفسها تثبت إطلاق مدخولها من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة كما هو مذهب المشهور. ويمكن قبول مقالة المحقق النائيني قدس سره فيما إذا ثبت عموم العام بمقدمات الحكمة كالعام الأصولي لا ما إذا ثبت العموم بالوضع كلفظ (كلّ) وما يرادفه. وعليه؛ يتقدم العموم الوضعي على الإطلاق الحكمي, لأنّ دلالته مشروطة بجريان مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان فتكون دلالته تعليقية، بخلاف دلالة العام فإنها فعلية لكونها بالوضع فتكون صالحة للبيانية فيرتفع موضوع الحكمة.

ولكن قد يقال بأنّ البيان في عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة؛ إما أن يراد به القرينة على التقييد، وإما أن يراد به البيان بالفصل سواء كان قرينة أم لا، وإما أن يراد كونه بياناً في نفسه لولا الإطلاق.

ص: 361


1- . أجود التقريرات؛ ج2ص307.

أما على الإحتمال الأول؛ فتكون الدلالة الإطلاقية منعقدة في نفسها كالدلالة الوضعية في العام, لأنّ عموم العام وإنْ كان بياناً في نفسه في مادة التعارض بينهما إلا أنه ليس بياناً بنحو التقييد والقرينية.

وأما على الإحتمال الثاني؛ فلا تتمّ الحكمية لما تقدم من أنّ العام رافع لموضوعها.

وأما على الإحتمال الثالث؛ فإنّ العام أيضاً بيان في نفسه يصلح لرفع موضوع الإطلاق.

والصحيح من الإحتمالات المتقدمة هو الأخير, والأول والثاني بعيدان.

وأما الثانية؛ وهي ما إذا كانا منفصلين في الخطاب فقد اختلف الأعلام فيه:فقد ذهب المحقق الأنصاري قدس سره (1) إلى تقديم العام, لما ذكرناه في التقريب المتقدم في المتصلين من أنّ الدلالة الإطلاقية تعليقية متوقفة على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها والتي من جملتها عدم بيان الخلاف، وأنّ العام صالح للبيانية, وأما دلالة العموم فوضعية، فتكون دلالته فعلية منجّزة, والدلالة المنجّزة ترفع موضوع الدلالة التعليقية، بخلاف العكس الذي هو مستحيل.

وذهب المحقق الخراساني قدس سره (2) إلى أنّ العام لا يصلح لأن يكون بياناً في مفروض الكلام, لأنّ المراد من عدم البيان في مقام التخاطب لها إلى الأبد, فالمطلق وإنْ كانت دلالته تعليقية بخلاف العام إلا أنّ المعلّق عليه إنَّما هو عدم بيان المتصل بالمطلق لا مطلق البيان ولو منفصلاً,, فمع عدم اتصال البيان بالمطلق تنعقد دلالة فعلية له على حدّ دلالة العام فتكون من تعارض دلالتين فعليتين منجّزتين ولا مرجّح لأحدهما على الآخر, فإذا افترض ملاك الترجيح فإنَّه موجود في كلّ واحد من العام والمطلق.

ص: 362


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص792.
2- . كفاية الأصول؛ ص450.

وذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى ما اختاره المحقق الأنصاري قدس سره من توقف المطلق على عدم البيان الأعمّ من المتصل والمنفصل ولكن بتوجيه آخر؛ وهو أنّ مسلك المحقق الأنصاري القائل بتوقف الإطلاق على عدم البيان الأعمّ من المتصل والمنفصل لا يخلو من إشكال, وهو يستلزم عدم جواز التمسك بالإطلاق كلما شك في ثبوت حكم الفرد أو حال ما يشمله الإطلاق لاحتمال وجود مقيّد منفصل لم يصل إلينا, والشك في ذلك يساوق الشك في ثبوت الإطلاق وعدمه, فلا يمكن التمسك بالإطلاق لأنّ التمسك به فرع إحراز الظهور الإطلاقي في الدليل, وأصالة عدم القرينة على الخلاف حيث يعتمد عليها فيما إذا تحقق ظهور في مقام الإثبات واحتمل ورود قرينة على خلافه فيرفع هذا الإحتمال بالأصل, ففي حاقّ الواقع يكون المرجّح حينئذٍ هو أصالة الظهور وعدم جواز رفع اليد عن كشفه النوعي بمجرد الإحتمال.

ومن أجل هذه المشكلة حاول المحقق النائيني قدس سره صياغة هذا المسلك بوجه آخر, وذلك بافتراض أنّ الإطلاق في كلّ زمان فرع عدم البيان إلى ذلك الزمان لا عدم البيان ولو متأخراً, فإذا تكلم المولى بالخطاب المعلّق ولم ينصب قرينة على التقييد فإنَّه ينعقد بذلك ظهور فعليّ على إرادة الإطلاق, وهذا الظهور يبقى مستمراً ما دام عدم القرينة على خلافه, فإذا جاءت القرينة ارتفع هذا الظهور بمجيء البيان من حينه الذي يكشف على احتمال القرينة المنفصلة فيمكن إحرازالإطلاق, لأنّ الظهور في الخطاب المطلق فعليّ مع قطع النظر عن القرينة المنفصلة.

والحق؛ أنّ ما ذكره لا يخلو من مناقشة لبعده عن التفاهمات العرفية في الخطاب التشريعي, وفي مقام جعل القانون فإنَّه بجميع حدوده وقيوده سواء تحقق الفصل الزماني بينها أم لم

ص: 363


1- . فوائد الأصول؛ ج4ص729-731، وأجود التقريرات؛ ج2 ص513.

يتحقق، وطال أم قصُر يكون كتشريع واحد وجعل فارد، ولا سيما في أحكام الشريعة المقدسة حيث أنّ تشريع السنة من قِبل المعصومين علیهم السلام كان بلسانٍ واحد وإنْ تعددت صوره ولكنها واحدة حقيقة.

فما ذكره المحقق الخراساني خلال التحقيق مع أنه خلاف مبناه في الفقه أيضاً, وما ذكره المحقق النائيني قدس سره ؛ إنْ رجع إلى ما ذكرناه فهو صحيح, وإلا فهو مردود لأنَّه لا يفي بالمقصود أيضاً, لأنّ الرافع للظهور الإطلاقي بالنسبة لكلّ زمان هل هو وصول البيان والقيد إلى المكلف أو صدوره واقعاً ؟.

أما الأول؛ فلا يمكن إدعاؤه لأنّ الوصول لا دخل له في تكوّن الظهور التصديقي للكلام, وإنما له الدخل في الحجية والمنجّزية.

وأما الثاني؛ فلأنَّه إذا احتملنا ورود بيان منفصل في الزمان الثاني فإنّ المطلق يبتلى بالإجمال بلحاظ ذلك الزمان، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم القرينة لأنَّها فرع وجود كاشف فعليّ في ذلك الزمان, وأما التمسك باستصحاب بقاء الظهور الإطلاقي المنعقد في الزمان الأول لو فرض احتمال عدم البيان من أول الأمر فهو ممكن ولكنه إثبات لنتيجة الإطلاق بالأصل العملي لا اللفظي الذي هو الغرض من الإطلاق.

وقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) في المقام كلاماً طويلاً لا يرجع إلى محصّل, والصحيح ما ذكره السيد الوالد قدس سره (2) كما ذكرناه في البيان المتقدم.

وكيف كان؛ فقد يتمسّك بتقديم العام على الإطلاق بملاك الأظهرية, فإنّ عموم العام أظهر من إطلاق المطلق.

ص: 364


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص281.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص191.

ويرد عليه بأنه من مجرد الدعوى, كيف؛ وقد اشتهر بأنه ما من عام إلا وقد خُصّ، وإنْ ذكر السيد الصدر قدس سره كلاماً في وجه الأظهرية ولكنه خلاف المحاورات المتعارفة.

المورد الثاني: تعارض الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي

إذا تعارض دليل مطلق يدلّ على شمول الحكم لتمام أفراده كما في (لا تكرم الفاسق)؛ وهو المصطلح عليه بالمطلق الشمولي، مع مطلق آخر يدلّ على ثبوت الحكم على فرد واحد مِمّا ينطبق عليه كما في (أكرم فقيراً)؛ وهو ما يصطلحعليه بالإطلاق البدلي، فهل يتقدم الأول على الأخير في مورد التعارض؛ وهو (الفقير الفاسق)، فيحرم إكرامه أو لا؟

والكلام في هذا المورد كالكلام في المورد السابق؛ فإنْ قلنا بأنّ الإطلاق الشمولي أظهر فيتقدم على الإطلاق البدلي كما اختاره المحقق الأنصاري قدس سره (1) وإنْ قلنا بأنه ليس فيه أظهرية فلا يتقدم كما هو مختار المحقق الخراساني قدس سره (2) بناءً على أنّ كليهما يكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة التي تقتضي الشمولية, وقد يقتضي البدلية وقد تقتضي غيرهما فلا موجب للتقديم.

أما المحقق النائيني قدس سره (3) فقد حاول توجيه ما اختار المحقق الأنصاري قدس سره وتقريبه بوجوه عديدة, أهمها:

إنّ تقييد الإطلاق الشمولي معناه رفع اليد عن جزء مدلول الخطاب؛ إذ المطلق الشمولي ينحلّ بحسب الحقيقة إلى دلالات عديدة بعدد أفراد الطبيعة المطلقة بخلاف المطلق البدلي الذي مدلوله إنَّما هو حكم واحد تعلّق بصرف وجود الطبيعة وهو محفوظ حتى لو خرج بعض الأفراد عنه, لأنّ صرف الوجود لا يلاحظ فيه كلّ فرد وإثبات الحكم عليه.

ص: 365


1- . مطارح الأنظار (ط. قديم)؛ ص49.
2- . كفاية الأصول؛ ص107.
3- . أجود التقريرات؛ ج1 ص161.

وأورد على التوجيه:

أولاً: إنّ المناط في تقديم دليل على آخر هو القرينة أو الأظهرية، لا الإستحسانات التي منها كون مجرد الإطلاق في أحد الدليلين شمولياً إنحلالياً وفي الآخر بدلياً, فإنّ ذلك لا يصلح أنْ تكون قرينية الشمولي ولا أظهريته بعد اشتراكهما في أنّ كلّ منهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

ثانياً: إنّ المطلق البدلي أيضاً مستلزم لحكم شموليّ ينحلّ إلى أفراد المطلق, فإنّ الوجوب المستفاد من (أكرم فقيراً) وإنْ كان بدلياً متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة, إلا أنّ لازمه الترخيص في تطبيق هذا الواجب على كلّ فرد من أفراد طبيعة الفقير, فيكون تقييد المطلق البدلي مثل تقييد المطلق الشمولي فإنَّه يستلزم منه رفع اليد عن بعض هذه الأحكام الترخيصية لا محالة, فتقييد كلّ من الإطلاقين مستلزم للتصرف في جزء مدلول الآخر ومعه لا مرجّح لأحدهما على الآخر.

ويمكن مناقشة كلا الوجهين:

أما الأول؛ فلأنّ المحقق النائيني قدس سره في توجيهه المتقدم لا يستفاد منه إنكاره ملاك القرينة في الجمع حتى يورد عليه بما ذكر, بل ظاهر كلامه أنه يريد تقديم المطلق الشمولي على المطلق البدلي بملاك القرينة؛ إلا أن يريد المستشكل إنكارالصغرى وهي أنّ مجرد الشمولية لا يحقق القرينية, وهذا غير صحيح كما ستعرف.

وأما الثاني؛ فلأنَّه بعيد عن الظهورات اللفظية في الخطابات, وإنْ كان بحكم الدلالة الفعلية كذلك, ولذا كانت دلالة المطلق الشمولي على الشمولية دلالة عرفية وهي متقدمة على الدلالة الإلتزامية العقلية في المطلق البدلي.

ص: 366

وحقّ الكلام في المقام أن يقال: إنْ قلنا بأنّ الشمولية والبدلية ليستا من شؤون الإطلاق ومقدمات الحكمة لأنَّها لا تقتضي إلا شيئاً واحداً في جميع المقامات؛ وهو أنّ ما أخذ موضوعاً للحكم في مقام الإثبات إنَّما هو الطبيعة, وأما الشمولية والبدلية فإنما يستفاد من دال آخر عقلياً أو لفظياً على ما تقدم بيانه في مباحث الأوامر.

وحينئذٍ؛ إذا تحققت المعارضة بين المطلق الشمولي والبدلي فإنما تكون بين الدال على الإطلاق في كلّ منهما فلا موجب لترجيح أحدهما على الآخر إلا بالتماس وجه آخر لإثبات أظهرية أحدهما على الآخر.

وربما يكون الوجه في تقديم المطلق الشمولي على البدلي هو أقوائية الظهور الإطلاقي في المطلق الشمولي من الظهور الإطلاقي في المطلق البدلي لأنَّه يتكفل أحكاماً عديدة بنحو الإنحلال بخلاف المطلق البدلي الذي لا يتكفل إلا حكماً واحداً, وأما الترخيصات المستفادة منه بالإلتزام فإنها أحكام وضعية إنتزاعية, بمعنى أنها ترخيصات في تطبيق ذلك الحكم الواحد على أي فرد يختاره المكلف من أفراد تلك الطبيعة.

فيمكن ادّعاء أنّ التعهّد العقلائي أو الفعلية الخارجية على إرادة المتكلم لتمام مدلول الخطاب إثباتاً، وعدم إرادة خلافه الذي هو ملاك الظهور الإطلاقي الشمولي أقوى وأوكد منها في المطلق البدلي، وهو صحيح؛ فإنَّه يندرج في باب تقديم أقوى الظهورين على الأضعف منهما, ولعلّ هذا هو مقصود المحقق النائيني قدس سره . وقيل في تقديم المطلق الشمولي على المطلق البدلي وجوهاً أخرى لا تخلو عن المناقشة, فراجع.

المورد الثالث: موارد انقلاب النسبة

وموضوعه وجود التعارض بين أكثر من دليلين بحيث تكون النسبة بينهما جميعاً غير نسبة أحدهما إلى الثاني، وعلاجها، ثم ملاحظة نسبة النتيجة مع الثالث، وهكذا مع الرابع. فقد تتغير النسبة من التباين إلى العموم أو بالعكس، أو منها إلى من وجه أو العكس.

ص: 367

وبعبارة أخرى أوضح: إنّ المراد به ما إذا ورد مخصّص لأحد المتعارضين بنحوٍ إذا لوحظ المتعارضان بعد إكماله انقلبت النسبة بينهما من التعارض المستقر إلى التعارض غير المستقر, وعليه؛ لا بُدَّ من تطبيق قواعد التعارض غير المستقرّ على المتعارضين. وحينئذٍ؛ يكون البحث إما في تشخيص النسبة بين الدليلينالمتعارضين بالقياس إلى مدلولها مع قطع النظر عمّا يرد على كلّ منهما من القرائن، أو نلحظ بعد اكمال تلك القرائن.

ومن أجل ذلك اختلفت أنظار الأصوليين في علاج هذا النوع من التعارض؛ فقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره (1) وغيره إلى ملاحظة الأدلة كلها بعضها من بعض، ثم ملاحظة النسبة بينها وعدم تغير النسبة، وذهب المحقق النائيني قدس سره (2) وجمعٌ من تلامذته(3) تبعاً للمحقق النراقي قدس سره (4) إلى تغيير النسبة.

وتمام البحث يقع في جهات:

الجهة الأولى: في تحقيق الحال في أصل هذه النظرية, وأنّ النسبة بين الدليلين هل تنقلب حقاً بعد ورود مخصّص لأحدهما أو لا ؟

ذكرنا أنّ المشهور بينهم هو عدم الإنقلاب, وخالفهم المحقق النراقي والمحقق النائيني (قدّس سرّاهما) ومن تبعهما؛ حيث جعلوا انقلاب النسبة نتيجة طبيعية لما تقدم ذكره في بحث التخصيص من المصادرات المفترضة, وجعلوا انقلاب النسبة من تطبيقاتها التي يكفي مجرد تصورها التصديق بصحتها كما زعموا.

ص: 368


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص121.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص740-753.
3- . مصباح الأصول؛ ج2 ص400.
4- . عوائد الأيام (ط. الحجرية)؛ ص119-120، والطبعة الحديثة؛ ص349، العائدة رقم 40.

واستدلوا على هذه النظرية بأمرين:

الأمر الأول: إنّ المعارض لا يكون معارضاً إلا بمقدار ما يكون حجّة فيه, وإلا كان من معارضته الحجة مع اللاحجة، وهو لا معنى له، وهذا مِمّا لا يمكن إنكاره.

وقد ذكرنا في بحث الجمع العرفي أنّ الخاص قرينة على المراد من العام, ومن هنا يعتبر التعارض بين الحجة الأخصّ مع الحجة الأعمّ من التعارض غير المستقر, لأنّ كلّ خاص قرينة على العام.

وعلى ضوء ذلك؛ إذا ورد على أحد الدليلين المتعارضين فيما يخصّ مدلوله بحيث يكون ما عدا المقدار المخصّص أخصّ من المعارض الآخر فيتقدم عليه بمقتضى قانون التخصيص.

ويكون الجواب عنه بأنه لا إشكال في المقدمة الأولى من البيان المتقدم كما عرفت, إلا أنّ الإشكال في الثانية التي ادّعوا بداهتها؛ فإنّ تقديم الخاص على العام باعتبار كونه من أفراد الجمع العرفي أمر مقبول أو مسلّم عند الجميع إلا أنّ ذلك لا يقتضي تقديم كلّ حجة أخصّ على حجّة أعمّ, بل هو يتبع الظهورات اللفظية والذوق العرفي, لأنّ كلّ دليل لفظيّ يتضمن اعتبارين؛ أحدهما اعتبار ظهورهالكاشف عن مراد المتكلم، والثاني حجيته في إثبات ذلك المراد، والتعارض إنَّما يكون في الثاني وهو التنافي في الحجية, إلا أنّ الاعتبار الأول قد يكون مصادرة إضافية زائدة على الحجية في نظرية التخصيص فهي قد تقتضي تقديم الخاص بما هو حجة على العام كذلك ليعقل أن يكون تقديم الخاص بما هو كلام ظاهر على العام، وتشخيص ملاك التقديم؛ أي الأخصيتين يحتاج إلى برهان، وما ذكروه لا يثبت ذلك.

الأمر الثاني: إنّ كلّ كلام يصدر من المولى يحتوي على ظهورات ثلاثة: الظهور التصوري، والظهور التصديقي الإستعمالي والظهور التصديقي الجدي. والمخصّص -سواء كان متصلاً

ص: 369

أو منفصلاً- يرفع الظهور الثالث حيث يكشف عن عدم إرادة العموم جداً، وإنما يختلف المخصّص المتصل عن المنفصل في ارتفاع الظهور الثاني، بل الأول أحياناً.

ثم إنّ كلّ دليل يكشف عن المراد الجدي ويكون بحسب ظهوره الكاشف أخصّ مطلقاً من الدليل الآخر يتقدم عليه بالتخصيص, وبناءً على ذلك كله يتضح موضوع انقلاب النسبة؛ فإذا ورد التخصيص على أحد المتعارضين ارتفع ظهوره الكاشف عن إرادة العموم جداً وأصبح المراد ما عدا مقدار التخصيص فينقلب أخصّ مطلقاً بحسب هذا الظهور المتبقي من معارضه فيتقدم عليه بالتخصيص.

ويرد عليه: إنه إذا كان المراد من البيان المتقدم من ارتفاع الظهور الكاشف عن المراد الجدي في موارد التخصيص بالمنفصل هو ارتفاع نفس الدلالة التصديقية على الإرادة الجدية فإنّ ما ذكروه ابتداءً غير صحيح, لأنّ الدليل المنفصل لا يرفع الظهور الجدي الحالي لكلّ متكلم فإنَّه بعد انعقاد هذا الظهور حسب القاعدة لا معنى لانثلامه وانقلابه عما وقع عليه.

مع أنه لو قلنا بارتفاع الظهور التصديقي بالمخصّص المنفصل يستلزم محذور الإجمال دائماً في موارد احتمال المخصص المنفصل.

وإذا كان المراد ارتفاع حجية الدلالة التصديقية على الإرادة الجدية بالمخصّص المنفصل فإنَّه يستلزم ما أوردناه في الأمر الأول من أنّ الميزان في التخصيص أن يكون أحد الظهورين بما هو حجة أخصّ من الآخر وإنْ لم يكن كذلك بما هو ظهور, وهذا مِمّا يحتاج إلى برهان وهو مفقود؛ إذ المدار على الظهورات العرفية والذوق العرفي وهو لا يفيد ذلك. فالصحيح عدم انقلاب النسبة بين الدليلين المتعارضين لعدم تمامية ما ذكروه في المقام. وأما ما ذكروه في باب التخصيص من النكات فهو لا يدلّ إلا على تقديم الخاص بحسب

ص: 370

ظهوره على العام. إلا أنه لا بُدَّ لنا من القول بأنّ انقلاب النسبة وعدمه لا يدخل تحت ضابطة كلية حتى يبحثعنها في علم الأصول, فهو يختلف حسب اختلاف الأبواب والموارد، وقد يضطرب في بعض الموارد الخبير الماهر.

قال المحقق صاحب الجواهر في بحث السلام: (ويكفيك أنّ الشهيد مع شدة تبحره وحسن وصوله إلى المطالب الغامضة قد اضطرب عليه المقام كما لا يخفى على كلّ ناظر للذكرى)(1), ولعلّ الوجه في ذلك يرجع إلى أنّ النسب المختلفة هي على مرتبة واحدة ولا وجه لسبق ملاحظة أحد الدليلين مع الآخر على ملاحظته مع الثالث وهكذا, فلا بُدَّ من التماس مرجح لأحدهما على الآخر وهو يختلف بحسب المقامات والإستظهارات واجتهاد المجتهدين.

الجهة الثانية: في بيان تقسيمات تعارض أكثر من دليلين, فإنّ النسبة بين الأدلة المتعارضة على قسمين؛ فإما تكون نسبة واحدة، أو مختلفة.

القسم الأول: وهو الأدلة المتعارضة ذات النسبة الواحدة

وهي على أشكال ثلاثة؛ فإما أن تكون النسبة على نحو التباين، أو على نحو العموم المطلق، أو تكون على نحو العموم من وجه. ولكلّ من هذه الأشكال الثلاثة أنواع، ولكلّ نوع أصناف حتى تصل الأقسام إلى عشرين قسماً, ولكن تغيّر النسبة لا يكون إلا في ثلاثة أقسام فقط لا في جميعها، وهي:

1- في مورد التباين بين أكثر من دليلين؛ تارة؛ يكون بين الأدلة تفاوت في الظهور قوةً وضعفاً بحيث يمكن حمل بعضها على بعض عرفاً. وفي مثل ذلك يجمع بينها من دون حاجة إلى علاج مثل (أكرم العلماء) و(يستحب إكرام العلماء) و(يجوز إكرام

ص: 371


1- . جواهر الكلام؛ ج10ص321.

العلماء)؛ فإنّ ظهور الثاني أقوى من غيره، ومن أجله يحمل الأول على غير ظاهره وهو الوجوب, كما يحمل الثالث وهو الجواز على ظاهره من الرخصة بالمعنى الأخصّ أي التساوي في طرفيه. وأخرى؛ لا يكون بين الأدلة المتعارضة تفاوت في الظهور كما إذا ورد (يجب إكرام العلماء) و(يستحب إكرام العلماء) و(يحرم إكرام العلماء) فلا يمكن الجمع بينها عرفاً لأنّ الوجوب والإستحباب والحرمة متباينة، ولا يمكن للعرف الجمع بينها ولا يستكشف أيضاً إرادة بعضها دون البعض الآخر.

والحكم في هذه الصورة هو الرجوع إلى المرحّجات السندية أو الخارجية, وإلا فالحكم ما ذكرناه في المتعارضين من الأقوال وإنْ كان المختار هو التخيير كما فصّلنا الكلام فيه.

في مورد العموم المطلق بين أكثر من دليلين يكون على أربعة أنواع؛ لأنَّه إذا كان التعارض بين عام مطلق وخاصين مطلقين؛ فإما أن يكون التعارض بين الخاصين، أو لا يكون تعارض بينهما. والثاني؛ إما أن لا1- يلزم محذور من تخصيص العام بهما ولا تتغير النسبة بين العام وبين كلّ من الخاصين بعد تخصيصه بالخاص الآخر، وإما أن يستلزم تغيير النسبة, وإما أن يستلزم محذور في البيْن؛ فإذا استلزم من التعارض تغيير النسبة؛ فإما أن يكون بين الخاصين تعارض بالتباين، أو بالعموم المطلق، أو من وجه.

وفي هذه الحالات لا بُدَّ من معالجة التعارض أولاً؛ لعدم كونهما في مرتبة العام متعارضين، ثم نلاحظ النسبة بين نتيجة العلاج مع العام.

ومثال التباين؛ أكرم العلماء، لا تكرم النحويين, أكرم النحويين. والحكم هو تساقط الخاصتين على المشهور من التساقط فيبقى العام بلا معارض، والتخيير إنْ لم يكن مرجّح في البين.

ص: 372

ومثال العموم المطلق؛ أكرم العلماء، لا تكرم النحويين، أكرم العدول من النحويين. والحكم هو تخصيص أحد الخاصين بالآخر فيختص النحويين بالعدول ويخرج الفاسق عن مورد الأكرم ويبقى تحت (لا تكرم النحويين) ويخصّص به العام, والنتيجة وجوب إكرام العلماء باستثناء فساق النحويين.

ومثال العموم من وجه؛ أكرم العلماء، لا تكرم النحويين، أكرم عدول العلماء. فالنسبة بين عدول العلماء وبين النحويين العموم من وجه لتعارضهما في النحوي العادل, ويفترقان في النحوي الفاسق وفي العادل غير النحوي فإنَّه بناءً على المشهور هو التساقط في مورد التعارض وهو النحوي العادل. ويخصّص النحوي الفاسق العلماء ويبقى وجوب إكرام العلماء للجميع سوى النحوي الفاسق.

هذا كله إذا كان بين الخاصّين تعارض.

وأما إذا لم يكن بينهما تعارض فهو على أنحاء:

الأول: إذا لم يلزم من تخصيص العام بهما محذور ولم تتغير النسبة, ولا إشكال في تخصيص العام بالخاصين أما دفعة واحدة أو مرتين.

مثال ذلك: أكرم العلماء، ولا تكرم فاسق العلماء، ولا تكرم النحويين، لوجود ملاك التخصيص في الجميع بلا محذور.

الثاني: ما إذا لزم من تخصيص العام بهما محذور تخصيص الأكثر أو فناء العام مثل: أكرم العلماء, ولا تكرم عدول العلماء, ولا تكرم فساق العلماء, أكرم العلماء, ولا تكرم فسّاق العلماء, ولا تكرم العلماء المتزوجين, فلم يبق تحت العام إلا الفرد النادر وهم العلماء العدول العزاب وهو مستهجن.

وفي مثل ذلك فإنّ المحتملات هي: إما أن نقول بوقوع التعارض بين العام وبين الخاصّين جميعاً فإنَّه يستلزم إما الفناء أو تخصيص الأكثر وكلاهما باطلان كما عرفت.

ص: 373

وإما أن نقول بالتخصيص بأحدهما المعيّن وطرح الآخر وهو يستلزم الترجيح بلا مرجح، وإما أن نقول بتخصيص أحدهما المردد؛ وهو باطل أيضاً لما عرفت منأنّ الفرد المردد لا وجود له لا ذهناً ولا خارجاً, فلا يصحّ حمل شيءٍ عليه مع أنّ العرف لا يساعد على مثل هذا الجمع إذ لم يؤسس للفرد المردد ظهوراً حتى يكون حجة.

وإما أن نأخذ بالراجح من العام أو الخاصين معاً إنْ كان رجحان في البين, وإلا فالتساقط على المشهور أو التخيير على المختار أو غير ذلك مِمّا قيل في مثل ذلك مِمّا تقدم بيانه.

الثالث: ما إذا كان تخصيص العام بأحدهما يستلزم تغيير النسبة بين العام الباقي والمخصّص الآخر من العموم المطلق إلى العموم من وجه، مثل: أكرم العلماء، ولا تكرم فساق النحويين, ولا تكرم فساق العلماء, فإنْ خُصّص عموم العلماء بفسّاق النحويين تغيّرت النسبة بين العلماء غير فسّاق النحويين وبين فسّاق العلماء إلى العموم من وجه لتعارضهما في الفاسق غير النحوي, فإنّ مقتضى أكرم العلماء وجوب إكرامهم, ومقتضى النهي من إكرام فساق العلماء حرمة إكرامه، وافتراقهما في عدول العلماء والفاسق النحوي.

وهذا من موارد الخلاف بين العلماء ممن تقدم ذكرهم, والقائلون بتغير النسبة مثل المحققَين العراقي والنائيني وأنصارهما يقولون به في المقام, والقائلون بعدم التغير كالشيخ وصاحب الكفاية وأنصارهما، بل هو المشهور لا يقولون بتغير النسبة.

3- وفي نسبة العموم من وجه؛ إذا كانت النسبة بين أكثر من دليلين عموماً من وجه فهو أيضاً على أربعة أنواع كالعموم المطلق، والحكم فيها كالحكم في المطلق, ويكون في واحد منها تغيّر النسبة. نعم؛ تختلف الأمثلة فيه.

هذا كله فيما إذا كانت النسبة في الأدلة المتعارضة واحدة.

ص: 374

القسم الثاني: فيما إذا كانت النسبة في الأدلة المتعارضة ذات نسب مختلفة

وهو على أربعة أقسام:

1- أن يكون بينها التباين والعموم من وجه.

2- أن يكون بينها التباين والعموم مطلق.

3- أن يكون بينها العموم المطلق والعموم من وجه.

4- أن يكون بينها العموم المطلق والعموم من وجه والتباين.

وذلك فيما إذا كانت الأدلة ثلاثة؛ بين الأول والثاني التباين، وبين الثاني والثالث عموم من وجه، وبين الأول والثالث عموم مطلق.

وأنواع هذه الأقسام مثل أنواع النسبة الواحدة بإضافة القسم الرابع, وبالتأمل فيما ذكرناه يمكن تمييز أمثلتها واستنباط أحكامها.وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أمثلة أخرى وأبدلناها بما ذكرناه, ولكن قلنا أنه ليست لنا ضابطة كلية في ذلك حتى يبحث فيها, ومن أراد التفصيل فليراجع الكتب المطولة, مثل العوائد للنراقي, والفوائد للكاظمي, وتقريرات السيد الصدر(2) (قدست أسرارهم), وغيرهم.

الجهة الثالثة: ذكرنا ما يتعلّق بأدلة القائلين بتغير النسبة, وأما القائلون بعدمه فيكفيهم عدم نهوض تلك الأدلة, ولكنهم مع ذلك استدلوا على عدم تغير النسبة بمناقشة ما ذكره الأصوليون بالقول بالتغير؛ بأنه لا يصلح أن يكون دليلاً لإثبات انقلاب النسبة وتغيرها.

ص: 375


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص191.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ص294 وما بعدها.

وقد ذكروا هناك وجوهاً ثلاثة:

الوجه الأول: إلغاء الفواصل الزمانية بين الخطابات الشرعية في مقام اقتناص المراد منها.

وأشكل عليه: بأنه إنْ كان المراد الإلغاء الحقيقي فهو مِمّا لا يقول به أحد لوضوح بطلانه, إذ لازمه عدم انعقاد الظهور مطلقاً لا في موارد التخصيص بالمنفصل ولا في موارد مجيء المعارض.

وإنْ أريد به اعتبار تلك الفواصل ملغية بين القرينة وذيها فقط كالعام ومخصصه؛ فإنه يرد عليه بأنّ هذا لا يقتضي الإنقلاب إلا بافتراض إلغائين طوليين؛ أحدهما إلغاء الفاصل الزمني بين العام والخاص واعتبارهما بحكم الكلام المتصل, والآخر إلغاء الفاصل الزمني بين العام الآخر, فإنَّه بناءً على إلغاء الأول يعتبر كلاماً متصلاً ولكن لم يتحقق الإلغاء الثاني. ولا يمكن تفسير انقلاب النسبة على هذا الأساس بخلاف البناء على التخصيص الإعتباري فإنَّه لم يكن يتوقف إلا على التسليم بالإلغاء الأول ولا ملازمة بين الإلغائين.

الوجه الثاني: وهو أنّ المخصّص المنفصل يُنزّل في الآثار الشرعية منزلة المخصّص المتصل تعبداً, وعليه؛ يكون إلغاء خصوصية الانفصال تعبداً وتنزيلاً لا يستوجب إلغاء الشرائط الأخرى التي لا بُدَّ من توفّرها في المخصّص المتصل من قبيل كونه بحسب الظهور أخصّ.

ويرد عليه: إنّ ذلك لا ينطبق في المقام؛ فإنّ العام المخصّص بالمنفصل ليس مصداقاً لموضوع التنزيل, لأنّ دليل التنزيل يختص بالأخصّ، والعام المخصّص بالمنفصل ليس أخصّ, إلا أن ينزل العام المخصّص بالمنفصل منزلة العام المخصّص بالمتصل, وعليه يكون العام المخصّص بالمنفصل بمثابة أخصّمنفصل بالنسبة إلى العام الآخر ثم انقلاب النسبة, ولكن في هذا التنزيل عناية زائدة على التنزيل المفترض ولا دليل عليها.

ص: 376

الوجه الثالث: تطبيق قاعدة كلّ ما كان تقدير اتصاله قرينة هادمة للظهور كذلك يكون على تقدير انفصاله هادماً للحجية, والمخصّص كذلك. وعلى هذه القاعدة يمكن تخريج انقلاب النسبة؛ فإنَّه إذا جمعنا بين الأدلة الثلاثة بجمع الدليلين المتعارضين مع المخصّص المنفصل لأحدهما، وافترضنا صدورهما في مجلس واحد ارتفع التعارض من البين وأصبح العام المخصّص أخصّ من معارضه وهادماً لعمومه, فلا بُدَّ أن يكون من فرض الإنفصال هادماً للحجية.

ويرد عليه: إنه مغالطة, وذلك لأنّ ما يكون على تقدير اتصاله هادماً للعموم إنَّما هو العام المتصل به مخصّصه, فإنّ مقتضى تلك القاعدة أنّ العام المتصل به مخصّصه كما يكون قرينة تهدم ظهور العام الآخر من فرض الإتصال على المقام, إذ لا يوجد عندنا عام متصل به مخصّص إلى جانب العام الآخر؛ لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه إلا بإضافة مصادرة جديدة، كأن يقال: إنّ كلا كلاميه كان على فرض اتصالهما يشكلان قرينة على كلام ثالث بموجب القاعدة المذكورة، فهما نفس القرينة على الكلام الثالث أيضاً مع عدم اتصال أحدهما بالآخر. ولا إشكال في أنّ ذلك اعتبار زائد لم يكن مفترضاً في القاعدة.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ جعل انقلاب النسبة من الجمع العرفي لا دليل عليه, ولا يكفي ما ذكروه من المصادرات التي جعلوها قرينة في التخصيص الإعتيادي.

وقد يُستدل بوجه أخرى لتصحيح انقلاب النسبة فقيل: إنّ المراد بالأخصّية التي هي ميزان القرينة الهادمة للظهور على فرض الإتصال والهادمة للحجية على فرض الإنفصال أخصّية ما هو مقدار الحجة لا أخصّية ذات المدلول.

ولكنّ ذلك غير صحيح, لأنّ الأخصّية التي هي ميزان القرينة بحسب المرتكزات إنَّما هو الأخصّية بلحاظ ذات المدلول لا بلحاظ المقدار المعتبر منه, لأنّ البناء العقلائي في المحاورات على الظهورات وتفاوتها من حيث القوة والضعف. وعليه يتقدم الخاص على

ص: 377

العام باعتباره أقوى ظهوراً بالنسبة إلى العام وهو المعبّر عنه بالأظهرية النوعية, فإذا ثبتت قرينة على ذلك فإنَّما تكون معتبرة بلحاظ المدلول لا الأخصّية بلحاظ ما هو المقدار الحجّة منه؛ فإنّ ذلك لا يغير شيئاً من درجة الظهور بالنسبة إلى باقي الأفراد ولا يعطي ظهوراً أشدّ بالنسبة إلى تلك الأفراد الباقية حتى تصبح قرينة على عام فهو نظير القدر المتيقن من الخارج، فإنَّه لا يجعل الدليل صريحاً بنحو يصلح للقرينية على تخصيص دليل آخر, كما هو معلوم إلا إذا أوجب الظهور. وقد تقدم تفصيله.

ومن جميع ذلك يظهر عدم كفاية شيء مِمّا ذكروه من الوجوه لإثبات انقلاب النسبة, لأنّ المدار في النسب الملحوظة في الظواهر النسبة الظاهرة الأولية المنساقة من ظاهر الكلام لا المنقلبة إليها بعد التخصيص.ومن ذلك يظهر أنّ ما قيل من تخصيص العام بأخصّ الخاصين ثم ملاحظة النسبة بينه وبين الخاص الآخر؛ مردودٌ بأنه لا شاهد عليه من عُرف أو عقل أو شرع. وكونه القدر المتيقن من التخصيص لا يوجب الظهور من التخصيص به كما تقدم بيانه.

والحاصل أنّ الحكم في جميع الموارد هو تخصيص العام بتمام المخصصات ما لم يلزم محذور التخصيص القبيح بلا فرق بين ورودها في عرض واحد أو متقدماً أو متأخراً.

هذا إذا أمكن التخصيص والجمع العرفي المقبول بينهما، وإلا فالرجوع إلى الأحكام العامة للتعارض بلا فرق في ذلك بين ما إذا كان التعارض بين الدليلين أو أكثر, كما تقدم بيان ذلك مفصلاً.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ ما ذكره بعض الأصوليين(1) في المقام هو من التطويل غير المرغوب.

ص: 378


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص300 وما بعدها.

الجهة الرابعة: مسألة التعارض بين أكثر من دليلين كثيرة في الفقه؛ كما في تحديد الكرّ وانفعال البئر وحكم السلام المخرج من الصلاة وحكم الركعتين الأخيرتين من الرباعيات من حيث القراءة والتسبيحات وحكم ذبيحة الكتابي وحكم أكثر النفاس وغير ذلك مِمّا لا يستقصى ولا تضبطها ضابطة كلية حتى تذكر في الأصول. ويختلف حكمها حسب اختلاف الأبواب والموارد, ومن أجل ذلك فإنّ القائلين بتغير النسبة كالنراقي والنائيني (قدست أسرارهم) لم يلتزموا به في الفقه، وأنّ الأمثلة التي ذكروها في الأصول لتغير النسبة لم يتعرضا لها في الفقه, ونذكر بعض النماذج لذلك:

فمنها؛ ما ذكره المحقق النراقي في الالتفات في الصلاة، وأنّ أي مقدار منه يكون مبطلاً، وفي أي حال من العمد والعلم وغيرها.

قال: (ومن هذا القبيل ما ورد في الإلتفات عن القبلة حيث ورد في حديث: (إنّ الإلتفات يقطع الصلاة), وآخر: (إنّ الإلتفات لا يقطع), وثالث: (إنّ الإلتفات بكل البدن يقطع), ورابع: (أنّ الإلتفات بالإستدبار يقطع), وخامس بأنّ (الإلتفات الموجب لرؤية الخلف يقطع). ولو لوحظت المفاهيم أيضاً تزداد المعارضات؛ ففي سادس: (الإلتفات بغير الفاحش لا يقطع) ، وفي سابع: (الإلتفات لا بكل البدن لا يقطع) ، وفي ثامن: (الإلتفات غير الموجب لرؤية الخلف لا يقطع))(1).

ومع ذلك نجده في المستند لا يشير إلى تغير النسبة أبداً, مع أنّ من عادته ذكر كلّ روايات المسألة ومعظم أقوال الفقهاء, فيذكر في هذه المسألة منطوق الروايات ومفهومها وخاصّها

ص: 379


1- . عوائد الأيام (ط. الحجرية) ص120، والطبعة الحديثة؛ ص350، العائدة رقم 40. وهذه التخريجات للروايات ومصادرها من نفس العوائد، والظاهر أنّه قدس سره نقلها بالمعنى والمضمون، وإلا فالألفاظ مشتركة ومتبادلة في مصادرها الأصلية فراجع وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج7 ص244 وما حولها، ونحن لم نغيّرها حفاظاً على أصل متن العوائد.

وعامّها ومطلقها ومقيّدها ومتعارضاتها ثم يجمع بينها، كما بين الدليلين دون الرجوع إلى تغير النسبة, وكذلك فعل المحقق النائيني في تقريرات درسه في الصلاة في هذه المسألة وفصّل الكلام فيها تفصيلاً طويلاً ولكنه لم يشير إلى تغير النسبة.

ومنها؛ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في الأصول في مسألة العارية وأنّ الضمان فيها يكون مع اشتراطه، أو في الدينار والدرهم، أو في مطلق الذهب والفضة. وقسّم الروايات إلى أربعة أقسام وجعله من أمثلة تغير النسبة، ولكنه في الفقه قد لا يقول بذلك.

المورد الرابع: مورد النسبة من العموم من وجه

ذكرنا أنّ موضوع حكم التعارض من الترجيح أو السقوط أو التخيير هو المتباينان فقط، فلا يشمل العام والخاص والمطلق والمقيد؛ لتحقق الجمع العرفي المقبول فيهما، بل تقدم عدم كونهما من المتعارضين في المحاورات أصلاً فيخرجان عنه تخصصاً.

وأما العموم من وجه فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى جعل العامين من وجه من المتعارضين في محلّ الاجتماع, ولكن ذهب السيد الوالد قدس سره (1) إلى أنهما من قبيل العام والخاص والمطلق والمقيد فلا تشملهما أدلة التعارض, واستدلّ على ذلك بأنّ التفاهم من أدلة التعارض ما إذا لم يمكن الأخذ بالدليلين في الجملة, وهو يمكن في مورد الإفتراق من الدليلين، بل وكذا في مورد الإجتماع أيضاً؛ فإنّ المنساق من دليل حكم التعارض ترجيحاً أو تخييراً إنَّما هو في ما إذا لزم من الطرح والرجوع إلى الأصل محذور شرعي, وهذا لا يلزم في مورد الإجتماع في العامين من وجه, بل الشائع في المحاورات هو الطرح، ولا محذور فيه إلا لزوم التفكيك في العمل بمدلول الدليل ولا إشكال فيه، بل هو كثير في الفقه كما لا يخفى.

ص: 380


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص190.

والحقّ؛ أن يقال أنّ التعارض في العامين من وجه في مورد الإجتماع على نحوين:

الأول: ما إذا كان أحد العامّين من وجه المتعارضين وارداً في مورد اجتماعهما؛ كما إذا قيل (أكرم العلماء) في مقام, وفي مقام آخر سئل المولى عن إكرام العلماء الفسّاق فقال (لا تكرم الفسّاق) فإنّ بين (لا تكرم الفسّاق) و(أكرم العلماء) عموم من وجه يجتمعان في العلماء الفسّاق, ولكن أسلوب الكلام يقتضي الجمع بينهمابتخصيص (أكرم العلماء) بمورد الإجتماع، فيخرج العلماء الفساق منه صوناً لكلام الحكيم من اللغوية؛ إذ لو أخرجنا العلماء الفسّاق من (لا تكرم الفسّاق) فإنَّه يلزم عدم مطابقة الجواب للسؤال وخروجه عن الجواب.

الثاني: ما إذا كان بين المتعارضين عموم من وجه وكانت دلالة أحدهما على العموم بالوضع ودلالة الآخر بالإطلاق؛ فإنَّه يجمع بينهما بتقييد المطلق بالعام لما عرفت من تقديم العام المطلق وتقديم التقييد على التخصيص كما إذا قال المولى (أكرم العلماء) وقال (الفاسق لا تكرمه) فإنَّه يقيّد عموم الفاسق بغير العالم. وقد تقدمت أدلتهم على ذلك وإنْ كانت المناقشة في بعضها واضحة, فراجع.

وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات؛ فمن قال بالخروج فيما إذا لم يكن الجمع فلا بُدَّ من الطرح في مورد الإجتماع ومن قال بالتعارض فيما إذا أمكن الجمع بينهما.

ثم إنه قد ذكرنا جملة من الموارد التي يمكن التوفيق بين الدليلين عرفاً، ويجمع بينهما لغةً فيما سبق.

وهناك موارد أخرى يذكرونها في موارد متفرقة وعديدة:

المورد الأول: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر سواء كان نصّاً أو أقوى ظهوراً، وهذا لا إشكال فيه كما تقدم بيانه فيما إذا كان الأظهر والظاهر معلوماً.

ص: 381

وأما إذا شك الحال واشتبه تشخيص الظاهر والأظهر فالميزان هو الظهور النوعي لأحدهما على الآخر. وقد ذكروه في المسألة المعروفة بتعارض الأحوال المذكورة في مباحث الألفاظ, وقد ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (1) مورداً لذلك وحاصله أنّ ظاهر جملة من الأخبار العلاجية أن يعمّ النصّ والظاهر والأظهر والظاهر, كما روي عن سماعة عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ والْآخَرُ يَنْهَاهُ عَنْهُ كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ: (يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُهُ فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ)(2). والأمر ظاهر في طلب الفعل ونصّ في الجواز، والنهي ظاهر في التحريم ونصّ في طلب الترك. ومقتضى حمل الظاهر على النصّ الحكم بالكراهة والرخصة في العمل مع أنّ الإمام علیه السلام حكم بالتخيير.

وقد أجاب المحقق الإصفهاني قدس سره (3) عن ذلك بأنّ الرواية لا دلالة لها على كون المورد من قبيل النصّ والظاهر, بل ظاهرها أنّ مورد إحداهما حقيقة الأمر, ومورد الأخرى حقيقة النهي وهما متباينان, لا أنّ موردها صيغة (إفعل) وصيغة (لا تفعل) لتكونا من النصّ والظاهر, وسيأتي الكلام فيه.والحقّ؛ أنه لا بُدَّ من الرجوع في تمييز الأظهر والظاهر إلى الفهم العرفي والبناء المحاوري كما تقدم تفصيله.

المورد الثاني: ما إذا حصل القطع أو الإطمئنان بما هو حاصل الجمع بين الدليلين المتعارضين بشاهد من العقل, كما إذا قال (إعتق عبدك عني) مع قوله (لا عتق إلا في

ص: 382


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص88.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص108.
3- . نهاية الدراية؛ ج5 ص336.

ملك) فإنّ العقل يحكم بالجمع بينهما بحمل الأول على الإضمار؛ أي بعد (جعل عبدك ملكاً لي) ثم يكون العتق في الملك.

المورد الثالث: ما إذا كان الجمع بشاهد شرعي كما ورد عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ؛ قَدْ رُوِيَ عَنْ آبَائِكَ علیه السلام فِيمَنْ جَامَعَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ فِيهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ, ورُوِيَ عَنْهُمْ أَيْضاً كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ فَبِأَيِّ الْحَدِيثَيْنِ نَأْخُذُ قَالَ: (بِهِمَا جَمِيعاً؛ مَتَى جَامَعَ الرَّجُلُ حَرَاماً أَوْ أَفْطَرَ عَلَى حَرَامٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ؛ عِتْقُ رَقَبَةٍ وصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً وقَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وإِنْ كَانَ نَكَحَ حَلَالًا أَوْ أَفْطَرَ عَلَى حَلَالٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ, وإِنْ كَانَ نَاسِياً فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْه)(1).

المورد الرابع: ما إذا كان الجمع بين الخبرين المتعارضين شاهد على أنه لم يكن تفسير لهما؛ نظير ما ورد من أنّ الناسي للنجاسة يعيد الصلاة, وورد أيضاً أنّ الناسي للنجاسة لا يعيدها, وورد ثالث أنّ الناسي للنجاسة يعيدها في الوقت ولا يعيدها خارجه؛ فإنّ الخبر الثالث لم يستفد منه تفسير لهما. ولكنّ القوم ذكروا بأنه يجمع بينهما بما دلّ عليه الخبر الثالث. وذكروا في وجه ذلك بأنه يكون مقيداً لكلّ منهما, كما فعل الإجماع قولاً وعملاً بين المتعارضين بمثل ذلك.

المورد الخامس: الجمع بين الدال على الإستحباب، والدال على الوجوب بحمل الدال على الوجوب على الإستحباب؛ وهو كثير في الفقه مثل ما ورد عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ غُسْلِ الْعِيدَيْنِ؛ أَ وَاجِبٌ هُوَ,. فَقَالَ: (هُوَ سُنَّةٌ. قُلْتُ فَالْجُمُعَةُ,. قَالَ: هُوَ سُنَّةٌ)(2).

ص: 383


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج10 ص54.
2- . المصدر السابق؛ ج3 ص314 ح3.

وورد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا علیهما السلام قَالَ: (إغْتَسِلْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَرِيضاً أَوْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِكَ)(1)؛ فإنهم يجمعون بينهما بحمل الثاني على الأول، وهو المطابق للفهم العرفي. والظاهر إنه من موارد حمل الظاهر على الأظهر.

المورد السادس: الجمع بحمل ما لم يشتمل على علّة الحكم على المشتمل عليها كما عليه العرف, لأنَّه من موارد حمل الظاهر على الأظهر أيضاً, ومثله ما إذاكان أحدهما مؤكداً بأدوات التأكيد مثل (إنّ) وأدوات القسم ونحوهما فيحمل الخالي منهما على المؤكد لقوّته في دلالته.

المورد السابع: الجمع بين ما دلّ على وجوب شيء وبين ما دلّ على وجوب آخر في نفس الموضوع على الوجوب التخييري؛ مثل ما ورد من أنّ من أدرك الوقت في السفر ولم يصل حتى دخل بلده يتم صلاته, وورد أيضاً أنه يقصر، وقد جمع بينهما بالحمل على التخيير بين الإتمام والقصر. ولكن المسألة موضع الخلاف والمناقشة؛ إذ لا دليل على كلّية هذا الجمع.

المورد الثامن: الجمع بين المجمل والمبيّن لأنّ العرف يراه مفسِّراً للأول.

المورد التاسع: تقديم أحد العامّين من وجه على الآخر لقلّة المورد أو ندرة وجوده لو خصّ به؛ مثل أدلة الشك بعد الفراغ مع أدلة الإستصحاب, فلو قدّمت أدلة الإستصحاب لم يبق مورد لقاعدة الفراغ.

المورد العاشر: تقديم دلالة المطابقة على دلالة التضمن والإلتزام, والثانية على الثالثة، وهي (الإلتزام) على دلالة الإقتضاء، وهي (الإقتضاء) على دلالة التنبيه، وهي على الإيحاء. والظاهر أنها ترجع إلى الأظهرية.

ص: 384


1- . المصدر السابق؛ ح11.

المورد الحادي عشر: تقديم أحد المجازين على الآخر لأقربيته للمعنى الحقيقي عرفاً أو شهرة أو لكثرة استعماله أو من جهة الأظهرية.

المورد الثاني عشر: تقديم القول على الفعل والتقرير لكونه أصرح وأظهر.

المورد الثالث عشر: الجمع بين الأمر بالشيء والنهي عنه بحمله على الكراهة؛ بدعوى أنّ الأمر نص في الجواز وظاهر في الطلب الحتمي، وهو على كل حال يدل على أنّ الجواز والنهي نصّ في رجحان الترك وظاهر في جواز الترك مع المنع من الفعل الذي هو الحرمة, فيقدم نصّ كلّ منهما على ظاهر الآخر فيكون المراد من النهي الكراهة؛ لما مرّ من تقديم النصّ على الظاهر وهو الذي يرتضيه العرف أيضاً بلا فرق بين أن يكون في كلام واحد أو كانا منفصلين؛ وإنْ كان خلافٌ في الأخير.

وقيل: أنّ المشهور هو تقديم الخبر الدال على الحرمة كما حكي عن العضدي(1), واستدلّ عليه بوجوه كلها ضعيفة:

منها؛ أنّ الدال على الحرمة أقوى دلالة.

وفيه: إنه أول الكلام.

ومنها؛ أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المنفعة المحتملة.

وفيه: إنه أول الكلام, مع أنّ الترك الواجب أيضاً فيه مفسدة.ومنها؛ الإستقراء في موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة أنّ الحرمة المحتملة تقدم على الوجوب المحتمل.

وفيه: إنه ناقص، ولا اعتبار بالإستقراء الناقص.

ص: 385


1- . شرح مختصر الأصول؛ ج1 ص163 (ط. اسلامبول, 1310ه-).

ومنها؛ قول النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم : (مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ والْحَلَالُ إِلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ)(1).

وفيه: إنّ مورده ما إذا أحرز وجود الحلال والحرام، لا المقام الذي يحتمل وجودهما.

المورد الرابع عشر: ما إذا كان أحد المتعارضين يدلّ على حكم وضعي، والآخر يدلّ على نفي أثره؛ نظير ما دلّ على أنّ القُبلة ومسّ باطن الفرج ينقض الوضوء، وإنّ من فعل ذلك أعاد الوضوء, وورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام : (لَيْسَ فِي الْقُبْلَةِ ولَا الْمُبَاشَرَةِ ولَا مَسِّ الْفَرْجِ وُضُوء)(2). فإنَّه يُجمع بينهما بحمل الأول على استحباب إعادة الوضوء حتى يلائم الدال على عدم النقض.

المورد الخامس عشر: تعارض الإطلاق الشمولي، والمراد به شمول الحكم لتمام الأفراد بنحو الإستغراق؛ مثل (الفاسق لا تكرمه) مع الإطلاق البدلي؛ والمراد به ثبوت الحكم لتمام الأفراد بنحو البدل مثل (أكرم عالماً), فالمعروف عند الأصوليين الجمع العرفي بينهما بتقييد البدلي بالشمولي وتقديمه على البدلي, ففي المثال المذكور يكرم العالم غير الفاسق. واستدلوا عليه بأنّ الشمولي أظهر من البدلي.

وقد ذكرنا سابقاً أنه غير تام؛ لأنّ دلالة كل واحدة منهما على العموم بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

إلا أن يقال بأنّ العرف لما كان يرى الترخيص في الإتيان بأي فرد من الواجب البدلي وترك الباقي منها, ويرى أنّ من أفراده ما يحتمل فيه وجود المقتضي للمنع بانطباق الشمولي عليه فقد جمع بينهما كذلك, وقد تقدم ما يتعلق بذلك فراجع.

ص: 386


1- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص272.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص270.

المورد السادس عشر: تعارض المفاهيم بعضها مع بعض كمفهوم الشرط مع مفهوم الغاية, فإنَّه يجمع بينهما بتقييد مفهوم الشرط بمفهوم الغاية لأنّ دلالة الغاية على المفهوم بالوضع بخلاف دلالة الشرط على المفهوم فإنها بمقدمات الحكمة.

المورد السابع عشر: التخصيص بمفهوم الشرط كما في قوله (أكرم العلماء إن كانوا عدولاً) وقوله (أكرم العلماء) فإنَّه يقيد بمفهوم الشرط لكونه دالاً على الإنتفاء عند الإنتفاء فيرفع اليد عن ظهور العام في العموم عند العرف وأهل اللغة ولكثرة التخصيص حتى قيل: ما من عام إلا وقد خصّ. ونسب إلى بعض العكس؛ فقدموا ظهور العام على مفهوم الشرط لأنّ دلالة العام منطوقية, ودلالة الشرطمفهومية, ويؤيده ما ذكره المحدث الحرّ العاملي(1) من أنّ كثيراً من الجمل الشرطية الواردة في القرآن الكريم ليس لها مفهوم أصلاً.

والحق؛ إنّ النزاع فيما إذا ثبت للشرط مفهوم، وإلا فليس لكل شرط مفهوم كما تقدم بيانه في بحث المفاهيم.

المورد الثامن عشر: تعارض التقييد أو التخصيص مع النسخ فإنَّه يجمع بينهما بتقديم التخصيص على النسخ؛ كما إذا ورد عام بعد وقت حضور وقت العمل بالخاص فإنَّه يدور الأمر بين أن يكون الخاص مخصصاً للعام وبين أن يكون العام ناسخاً للخاص، مثل ما إذا قال المولى (لا تكرم زيداً العالم)، ثم قال بعد أيام (أكرم العلماء) فإنَّه يدور الأمر بين أن يكون العام ناسخاً لحكم الخاص فيجب إكرام زيد, وبين تخصيص العام بالخاص المتقدم فيكرم العلماء إلا زيداً العالم.

ص: 387


1- . الفصول المهمة؛ ص399. وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص46، ج2 ص337، ج3 ص295، ج9 ص66، ج11 ص66، ج22 ص224.

والمرجح في ذلك هو دوران الأمر بين التصرف في الدلالة الوضعية للعام على عموم الأفراد وبين الدلالة الإطلاقية للخاص على عموم الزمان. ونظير ذلك أيضاً ما إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام كما إذا قال (أكرم العلماء)، ثم قال بعد ذلك (لا تكرم زيداً) فإنّ الأمر يدور في الخاص بين أن يكون الخاص مخصصاً للعام فيكون مضيقاً لدائرة أفراد العام فيلزم التصرف في دلالته الوضعية, أو يكون الخاص ناسخاً للعام بأن يكون مضيقاً لدائرة استمرار العام ودوامه فيكون التصرف في دلالته الإطلاقية.

وهو يرجع إلى المقولة المعروفة عند الأصوليين من أنّ التخصيص والتقييد هو الإخراج من الأعيان، والنسخ هو الإخراج من الزمان.

والحقّ أن يقال: إنه إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام شيء ودار الأمر بين كونه ناسخاً أو كاشفاً عن المخصص السابق، أو مخصصاً فعلاً؛ فعن المحقق الأنصاري قدس سره استحالة الثاني، فتكون الناسخية أظهر لا محالة لتوفر الدواعي على ضبط ما ورد. فالعادة تقتضي استحالة التخصيص كشفاً أو فعلاً.

ويرد عليه: إنّ الاهتمام بالضبط مسلّمٌ ولكن وصول كلّ ما ضبطوه إلينا هو أول الكلام، فقد ذُكر أنّ المحقق قدس سره ينقل عن أصول لا رسم لها عندنا ولا أثر, راجع الجواهر بحث تطهير إناء الولوغ(1).

وقيل: بالعكس لأنّ النسخ تصرف في زمان العام والتخصيص تصرف في أفراده، وظهور العام في الأفراد أقوى من ظهوره في الأزمان لأنّ الأول بالوضع والثاني بمقدمات الحكمة.

وفيه: إنّ السريان الزماني في الأحكام ليس بمقدمات الحكمة، بل بالأدلة القطعية.

ص: 388


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص172.

ومنه ما ورد عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ الْحَلَالِ والْحَرَامِ فَقَالَ: (حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة)(1).

فيكون التخصيص أظهر, بل أنّ تقديم التخصيص على النسخ عند الدوران بينهما مِمّا عليه بناء العقلاء في محاوراتهم فيكون هذا البناء كالقرينة المعتبرة وهو متين جداً.

وعليه؛ فلا فرق بين ما إذا علم تاريخ ورود النسخ والتخصيص وبين ما إذا شك في تاريخ ورودهما فإنّ البناء المحاوري العرفي على تقديم التخصيص على النسخ مطلقاً.

وأما الإشكال بأنّ الحمل على التخصيص مع العلم بتاريخ صدور الخاص بعد حضور وقت العمل به يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم. وعليه؛ فلا يصحّ في المخصصات الواردة في أخبار الأئمة علیهم السلام بالنسبة لعموم الكتاب والسنة النبوية مِمّا علم صدورها بعد وقت العمل بالخاص فلا يمكن حملها على التخصيص، بل لا بد من حملها على النسخ.

وفيه: إنّا لا نسلّم قبح ذلك إذا كانت المصلحة تقتضي التأخير عن وقت العمل، وحينئذٍ يكون المراد من العمومات هو العموم الأفرادي ظاهراً لا العموم الأفرادي واقعاً ومراداً.

بل يمكن القول بأنه إذا اقتضت المصلحة تأخير البيان عن وقت الحاجة فإنَّه يكون وقت العمل ولم يأت بعد.

المورد التاسع عشر: ما إذا كان أحد الخبرين دالاً على التحريم والآخر دالاً على الإباحة؛ فذهب بعضهم إلى تقديم الخبر الدال على التحريم بل نسب إلى المشهور.

ص: 389


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص58.

واستدل على ذلك بوجوه:

الأول: ما عن أمير المؤمنين علیه السلام : (دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ)(1). وذلك لأنّ الخبر الدال على الحرمة مِمّا لا ريب فيه لجواز ترك المباح، وليس كذلك الخبر الدال على الإباحة فإنَّه محلٌ للريب لاحتمال كونه محرماً فيجب تركه لظاهر قوله علیه السلام (دع ما يريبك) لمكان صيغة إفعل.

وفيه: إنّ الحديث يتضمن حكماً إرشادياً لما يحكم به العقل فلا يستفاد منه الوجوب, وما يحكم به العقل هو عدم الإلزام.الثاني: قوله علیه السلام في الحديث المتقدم (ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال).

وفيه: ما تقدم من أنه ظاهر فيما إذا تحقق وجودها واختلطت الشبهات المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي، فلا يشمل المقام.

مع أنه لو كان كذلك لاستلزم الحكم بالحرمة في الشبهات التحريمية، مع أنّ المشهور على خلاف ذلك فإنهم يحكمون بالإباحة فيها.

فالحق؛ هو الرجوع في المقام إلى قواعد التعارض وأحكامه من ترجيح ذي المزية، وإلا فالتخيير.

المورد العشرون: ما إذا كان بين الدليلين تعارض التخصّص, وقد تقدم بيانه مفصلاً. وذكرنا أنه لا تعارض في البين فلو قام الدليل على وجوب (إكرام العلماء)، ثم قام دليل آخر يدل على أنّ العالم الذي لم يطابق قوله فعله فليس بعالم, فإنَّه يخرج من عموم العلماء تخصصاً ويسمى بالخروج الموضوعي.

ص: 390


1- . عيون الحكم والمواعظ؛ الحكمة4655.

المورد الواحد والعشرون: ما إذا تعارض الدليل القطعي مع الأصل العملي؛ فإن الأول يزيل موضوع الثاني واقعاً, كما تقدم بيان ذلك في تنبيهات الإستصحاب.

المورد الثاني والعشرون: ما إذا كان بين الدليلين ورود أو حكومة كما ذكرنا تفصيل ذلك.

المورد الثالث والعشرون: ما إذا كان بين الدليلين توفيق عرفي بأن يوفق العرف بينهما كالجمع بين الظاهر والأظهر، والمجمل والمبين.

المبحث الرابع: حكم المتعارضين من جهة الأخبار الخاصة.

اشارة

تقدم ما يتعلق بموارد التعارض بين الأدلة بحسب الأدلة العامة وبناء العقلاء والمحاورات العرفية مع غضّ النظر عن الأخبار الخاصة الواردة في هذا الموضوع فلا بُدَّ من إيرادها، ثم ملاحظة ما يتحصل منها مع تلك التي ذكرناه. وقد عرفت أنّ مشكلة التعارض بين الروايات قد واجهها أصحاب الأئمة علیهم السلام وعرضوها عليهم علیهم السلام لمعرفة الموقف الشرعي منها وكيفية علاجها, وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الموضوع وهي على قسمين:

الأول: أخبار الطرح. والثاني: أخبار العلاج.

القسم الأول: أخبار الطرح
اشارة

وهي تلك الروايات المستفيضة التي تأمر بعرض الأحاديث على الكتاب والأخذ بما وافقه وطرح ما يخالفه, وهذه الروايات وردت بألسنة مختلفة يمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى:

ما ورد بلسان استنكار صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين علیهم السلام والتحاشي عنه؛ ونذكر منها:

1- معتبرة أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: (كُلُّ شَيْ ءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ؛ وكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ الله فَهُوَ زُخْرُف)(1).

ص: 391


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص111.

2- معتبرة أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ)(1).

والمراد بالزخرف كل ما هو مموّه مزوّر, والتعبير به لبيان الإستنكار وعدم صدور ما يخالف الكتاب الكريم منهم, ومن أجل هذا جعلوها من أقسام أخبار الطرح.

3- معتبرة هشام بن الحكم وغيره؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (خَطَبَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم بِمِنًى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ, ومَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ)(2).

ونوقش في سندها من ناحية محمد بن اسماعيل؛ فهو مردد بين من ثبت توثيقه ومن لم يثبت، ولكن الصحيح وثاقته؛ لأنَّه شيخ الكليني قدس سره . والتعبير ب- (لم أقله) يفهم منه الإستنكار والتحاشي عن صدوره لا مجرد الأخبار بعدمه.

ورواها البرقي(3)؛ عن أبي أيوب المدائني عن ابن أبي عمير عن الهشامين جميعاً.

ونظيرهما عدة روايات أخرى.

4- مرسلة العياشي عَنْ كُلَيْبٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ: (مَا أَتَاكُمْ عَنَّا مِنْ حَدِيثٍ لَا يُصَدِّقُهُ كِتَابُ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ)(4).

وغيرها من الأخبار المستفيضة التي تدل على استنكار صدورها ما لا يوافق الكتاب منهم. والمستفاد من مجموع هذه الروايات أنها في مقام بيان تأسيس قاعدة كلية في التعامل

ص: 392


1- . المصدر السابق؛ ح14.
2- . المصدر السابق؛ ح15.
3- . المحاسن؛ ج1 ص212.
4- . مستدرك الوسائل؛ ج17 ص304-305.

مع روايات المعصومين علیهم السلام وأخبارهم وبيان دستور في الرجوع إليها؛ وهو أنّ الذي يخالف الكتاب الكريم زخرفٌ وباطل، فهو لم يصدر منهم ولا يكون حجة ولا يجوز العمل به فلا يلاحظ معه أي جهة أخرى في الحديث وهي من العموم والشمول ما يأبى عن التخصيص فلا يمكن أن تصدر منهم رواية تتضمن شيئاً مخالفاً لكتاب الله حتى لو كانت من أعلى درجات الصحةمن حيث السند؛ فكلّ حديث لا بُدَّ من عرضه على كتاب الله فإن وافقه فتلاحظ الجهات الأخرى، وإلا فيطرح مطلقاً. ثم أنّ العلماء ذكروا أموراً ترتبط بالمقام:

الأمر الأول: في المراد من قولهم (ما لا يوافق الكتاب)، وفيه احتمالان:

1- أن يكون المراد به المخالفة مع الكتاب؛ بأن يكون الكتاب قد تعرض لأمر والحديث لا يوافقه.

2- أن يكون المراد الأعمّ؛ وهو ما إذا كان الكتاب متعرضاً له، وما إذا لم يتعرض له أصلاً فيكون عدم موافقة الحديث معه من السالبة بانتفاء الموضوع.

والظاهر بحسب الفهم العرفي هو الأول؛ فإنّ العرف يفهم أنّ عدم الموافقة للكتاب يكون مع وجود دلالة في الكتاب عليه، وإنْ أمكن القول أنّ هذه الجملة بحسب الدلالة المنطقية أتمّ من السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول؛ إلا أنّ المدار إنما يكون على الإستظهار العرفي الذي يختص بالثاني، ويرشد إليه قوله صلی الله علیه و آله و سلم في معتبرة هشام المتقدمة (وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)، فقد جعل المخالفة مقابل ما يوافق الكتاب وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: في أنّ المستفاد من هذه الأخبار نفي الصدور أو نفي الحجية, ويترتب على ذلك أنه على التقدير الثاني تكون هذه الطائفة كالطائفة الآتية مقيّدة لإطلاق دليل الحجية

ص: 393

العام فلا يشمل ما إذا كان الخبر مخالفاً مع القرآن المجيد كما سيأتي بيانه. وعلى التقدير الأول يقع التعارض بين شهادة الراوي بصدور الخبر المخالف للكتاب مع هذه الطائفة التي تنفي صدوره عنهم واقعاً، فلا بُدَّ من الرجوع إلى قواعد التعارض وأحكامه؛ إما الترجيح أو التخيير.

فقد يقال: بتقديم الخبر المخالف على أساس احتمال صدوره عنهم واقعاً فيكون تخصيصاً لعموم هذه الطائفة, لأنّ الجمل الخبرية كالجمل الإنشائية تقبل التخصيص فتكون النتيجة هي عدم صدور ما يخالف الكتاب عنهم إلا في هذا المورد الذي دلّ عليه الخبر المعارض.

ويرد عليه: إباء ألسنة هذه الطائفة عن التخصيص باعتبار أنّ لسانها الإستنكار وأنّ ما خالف الكتاب هو زخرف وباطل كما عرفت آنفاً.

يضاف إلى ذلك أنّ هذه الطائفة تدلّ على نفي صدور صرف وجود المخالف للكتاب عنهم وأنه لا يصدر عنهم ذلك ولو مرة واحدة, وليس المقصود أنهم لا يخالفون الكتاب في كل فردٍ فرد من أحاديثهم. وحينئذٍ؛ إذا احتملنا صدور الحديث المخالف عنهم واقعاً وقع التنافي بين هذه الروايات وبين الخبر المخالف بلحاظ المروي, وإن استبعدنا صدوره عنهم على تقدير صدور هذه الطائفة وقع التنافي بينهما بلحاظ الرواية, إذ يعلم إجمالاً بكذب الشهادة في أحدهما؛ فإنْ قلنا بتعميمأحكام التعارض ليشمل مقام التكاذب أيضاً فنرجع إما إلى الترجيح أو التخيير، وإلا فلا، وسيأتي بيانه.

والحقّ؛ أنّ جميع ذلك لا وجه له أصلاً لما ذكرناه من أنّ المستفاد من مجموع هذه الأخبار أنّ الأئمة علیهم السلام في مقام بيان الضابطة في الأخبار الصادرة عنهم في أنه لا بُدَّ من عرضها على الكتاب، فإذا كان الخبر مخالفاً للكتاب فلا يمكن أن يكون صادراً منهم وهو لم يكن حجة

ص: 394

على أحد، فيكون نفي الحجية وعدم الصدور من المتلازمين لهذه الضابطة, فإذا ورد خبر يكون مخالفاً للكتاب لا تصل النوبة إلى ملاحظة المعارضة حتى ترجع إلى أحكام التعارض فيها. فما يذكره الأصوليون في المقام مخالف لمضمون هذه الروايات وروحها، وعليه يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه باطلاً ولم يكن حجة بشهادة ما ورد أنه زخرف وباطل وليس بشيء، أو لم نقله، أو أمر بطرحه؛ فإنها كلها تدلّ على أنّ الخبر المعارض للكتاب لا حجية له من أصله ولو لم يكن له معارض.

والحاصل؛ إنّ ما ذُكر من الإستدلال والجواب عنه مخالفٌ لروح هذه الأخبار التي يستفاد منها أنّ الأئمة علیهم السلام في مقام تأسيس الأصل الأولي، والقاعدة في الأخذ برواياتهم والتعامل معها, فما كانت مخالفة للكتاب العزيز فهي زخرف وباطل، ومثله لا يصدر منهم علیهم السلام ولم يقولوا بها ولا تكون حجة. فهذه العناوين متلازمة في هذا الموضوع الخطير؛ إذ لا ملاك للحجية فيها فإذا وردت رواية عنهم لا بُدَّ من عرضها على الكتاب فإذا خالفته فلا بُدَّ من طرحها ولا تصل النوبة إلى ملاحظة الجهات الأخرى من السند والمضمون والدلالة وجهة الصدور فإنها إنَّما تكون في مرتبة متأخرة بعد العرض على الكتاب وقبول الخبر الموافق له.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لما يقال من أنه إذا ورد خبر مخالف للقرآن تلاحظ النسبة بينه وبين أخبار المقام ثم تعيين حكمه من التعارض أو التخصيص؛ فإنَّه لم يكد يتحقق ذلك إلا في الفرض والتقدير. كما أنه لا جدوى للكلام في تعيين أقسام التعارض بين الخبر والكتاب الكريم, فهل يشمل جميع أقسام التعارض المستقر وغير المستقر، أو المراد منها قسم خاص فقط.

فإنه بعد ما عرفت من أنّ الخبر المخالف للكتاب العزيز إنَّما هو زخرف وباطل فهو لم يصدر منهم علیهم السلام ولا تصل النوبة إلى ملاحظة النسبة بينه وبين الكتاب حتى يقال بالتعارض

ص: 395

بينهما؛ هذا إذا أريد من التعارض المستقر منه، أما التعارض غير المستقر فهو لم يكن من موارد المخالفة كما عرفت مفصّلاً.

ومن هنا استقر المذهب على جواز تخصيص القرآن أو تقييده، ولم يقل أحد بأنه يستوجب طرح القرآن وتكذيبه ومخالفته؛ فلا بُدَّ من حمل المخالفة وعدم الموافقةعلى التباين الكلي وهو الموافق لمفاد هذه الأخبار التي تدلّ على شدة الإنكار والتحاشي من صدوره عنهم، فلا تشمل مجرد المخالفة الحاصلة بين العام والخاص والمطلق والمقيد؛ فإنَّه لا يصدق عليه المخالفة ولا يناسب هذا النوع من الإنكار والتشدد فيه.

والحاصل؛ أنّ هذه الطائفة لا ربط لها بموضوع التعارض المبحوث في المقام.

الطائفة الثانية: ما يدل على إناطة العمل بالرواية

وذلك بأن يكون موافقاً مع الكتاب وعليه شاهد، وهي عدة روايات أيضاً نذكر منها:

1- معتبرة أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ أَنَّهُ حَضَرَ ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ؛ يَرْوِيهِ مَنْ نَثِقُ بِهِ ومِنْهُمْ مَنْ لَا نَثِقُ بِهِ قَالَ: (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَهُ شَاهِداً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم وإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلَى بِهِ)(1).

2- معتبرة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ؛ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام فِي حَدِيثٍ قَالَ: (إِذَا جَاءَكُمْ عَنَّا حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ عَلَيْهِ شَاهِداً أَوْ شَاهِدَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَخُذُوا بِهِ وإِلَّا فَقِفُوا عِنْدَهُ ثُمَّ رُدُّوهُ إِلَيْنَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكُمْ)(2).

ص: 396


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص110.
2- . المصدر السابق؛ ص112.

ونحوهما غيرهما, وإنْ كان في أسانيد بعضها كلاماً إلا أنه لا يضر بناءً على جبره بالآخر لأنّ المضمون واحد في الجميع إلا في بعض الأمور مِمّا يأتي بيان ذلك.

وتمام البحث حول هذه الطائفة يقتضي بيان أمور:

الأمر الأول: في مفاد هذه الطائفة فإنّ المراد من اختلاف الحديث الوارد في كلام السائل:

1- إرادة تنوّع الحديث بمعنى مختلف الحديث فيكون بعض الحديث موثوقاً به والبعض الآخر لا يكون كذلك.

2- إرادة تعارض الحديث وتهافته في موضوع واحد، وفي حديث يأمر به وينهي عنه حديث آخر.

3- إرادة الحديث المختلف المتناقض مع المسلمات والمرتكزات الدينية الثابتة بالكتاب والسنة.

والظاهر أنّ ذلك لا يضر بالإستدلال؛ فإنّ العبرة بجواب الإمام علیه السلام ، لا بسؤال الراوي فقد ذكر الإمام علیه السلام كبرى كلية مستقلة تدلّ على أنّ كلّ حديث ليس عليهشاهد من الكتاب الكريم أو السنة النبوية فلا يؤخذ به. ويدلّ على ذلك التفسير المشهور لمفاد هذه الطائفة وهو أنّ كلّ حديث لا يكون في القرآن دلالة ولو بالعموم أو الإطلاق توافق مدلوله وتشهد عليه لا يكون مقبولاً.

الأمر الثاني: إختلفوا في تفسير هذه الأحاديث ومعناها، وهو على آراء:

الرأي الأول: ما ذهب إليه شيخ الطائفة في التهذيب، وفي البحار نسبته إلى المشهور؛ وهو الذي ذكرناه آنفاً من أنّ كلّ حديث لا تكون له في القرآن أو السنة دلالةٌ ولو بالعموم أو الإطلاق توافق معناه وتشهد عليه لا يكون مقبولاً.

ص: 397

وأورد عليه بأنه بناءً عليه لا يكاد يوجد مورد إلا وفي الكتاب أو السنة ما يدلّ عليه، ولو بمثل قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)(1), وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة)(2)؛ فإنّ هذا المعنى مقطوع العدم، والتبعيضُ حدّه غير معلوم فلا يوجد ما يدل على هذا التفسير من ظاهر أو اعتبار.

الرأي الثاني: إنّ المراد بها كل ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان أو لم يكن موافقاً للمسلمات التي تستفاد من الكتاب الكريم أو السنة المسلّمة، وليس المراد الموافقة المضمونية للمعنى المطابقي أو التضمني؛ مثال ذلك ما إذا ورد حديث يذكر الشهادة الثالثة في الآذان والإقامة لم يكن مخالفاً للقرآن أو السنة القطعية لأنَّه وإنْ لم يكن بخصوصها مذكور فيهما, ولكنه موافق لهما لوجود شاهد عليه؛ وهو تتابع الولاية لله والرسول وأولي الأمر في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(3), وغير ذلك.

ويؤكد هذا المعنى حديث الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ عَنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ علیه السلام قَالَ: (إِذَا جَاءَكَ الْحَدِيثَانِ الْمُخْتَلِفَانِ فَقِسْهُمَا عَلَى كِتَابِ الله وأَحَادِيثِنَا؛ فَإِنْ أَشْبَهَهَا فَهُوَ حَقٌّ وإِنْ لَمْ يُشْبِهْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ)(4). ونظيره ما روي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَهْمٍ عَنِ الإمام الرِّضَا علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام : تَجِيئُنَا الْأَحَادِيثُ عَنْكُمْ مُخْتَلِفَةً؟. قَالَ: (مَا جَاءَكَ عَنَّا فَقِسْهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وأَحَادِيثِنَا؛ فَإِنْ كَانَ يُشْبِهُهُمَا فَهُوَ مِنَّا وإِنْ لَمْ يُشْبِهْهُمَا فَلَيْسَ مِنَّا)(5).

ص: 398


1- . سورة البقرة؛ الآية 29.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص118.
3- . سورة المائدة؛ الآية 55.
4- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص123-124.
5- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص224.

والظاهر من الروايتين أنّ قياس الأحاديث على كتاب الله إنَّما هو باعتباره أصل أوليّ يرجع إليه في مقام التعامل مع الأخبار فتكون نظير الروايات السابقة ولا خصوصية للتعارض في ذلك.والمراد بالقياس هو المعنى اللغوي منه؛ الأعمّ من ملاحظة الأشباه والنظائر التي توجب الإطمئنان بالحكم، لا أن يكون المراد منه القياس المنهي عنه.

الرأي الثالث: أن تكون هذه الروايات ناظرة إلى ما كان يعتمد عليه العامة في الفقه من الأحاديث أو الأقيسة أو الإستحسانات فتردع عنها, وترشد إلى أنّ الذي يعتمد عليه هو الكتاب والسنة الشريفة القطعية فتكون هذه الروايات كسائر الأدلة الرادعة عن العمل بغير الكتاب وما يكون بحكمه.

وهذا التفسير وإنْ كان يناسب موثق ابن بكير السابق إلا أنه ربما لا يناسب ظهور الرواية التي ورد فيها (فالذي جاءكم أولى به)، وما فيه معتبرة هشام (ولا تقبلوا علينا حديثاً) ولكنه مع ذلك أسلم من بقية التفاسير.

الأمر الثالث: فيما أورد على هذه الطائفة من الأخبار من اعتراضات:

الإعتراض الأول: إنّ مقتضى هذه الأخبار إلغاء حجية الخبر الواحد مطلقاً وذلك لما يلي:

أولاً: إنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، ومن المعلوم أنه لا يمكن الإستناد في إلغاء حجية الخبر الواحد لأنَّه يستلزم الخلف.

ثانياً: كون مفادها بحكم إلغاء الخبر الواحد لأنَّها وإنْ دلت على عدم حجية خصوص ما ليس عليه شاهد من الكتاب الكريم إلا أنّ ذلك مساوق عرضاً لإلغاء الخبر مطلقاً, لأنّ الغرض العرفي من جعل الحجية للخبر فيما إذا لم يكن عليه دليل مسلم من كتاب أو سنة قطعية به فإذا كان ما لا شاهد له من كتاب أو سنة باطلاً فيبطل الخبر مطلقاً.

ص: 399

وقيل: إنّ هذا الإعتراض صحيح لا دافع له.

ولكن يمكن أن يقال بأنه لا دافع لهذا الإعتراض إذا كان المراد ب-(الشاهد) الشاهدَ الخاص, أما إذا كان المراد غيره من المعاني التي ذكرناها فلهذه الطائفة شواهد عامة في القرآن والسنة مثل قوله تعالى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(1)، وما ورد عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ مَا مِنْ شَيْ ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ويُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ, ومَا مِنْ شَيْ ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ ويُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه)(2).

وغيرها من الآيات والأحاديث, وهو وإنْ كان صحيحاً ولكنه يناسب المعنى الأول الذي تقدم الإشكال فيه.الإعتراض الثاني: إذا افترضنا أنّ المستفاد من هذه الطائفة إلغاء حجية صنف خاص من الأخبار تخصيصاً كدليل الحجية العام.

ومع ذلك يقال: إنّ تخصيص أدلة حجية خبر الواحد العامة بخصوص الخبر الواحد الذي ليس عليه شاهد من الكتاب الكريم تخصيص غير عرفي فلا يكون تخصيصاً؛ فلا يبقى ما تثبت به حجية هذه الطائفة التي هي من أخبار الآحاد.

ولكن هذا الاعتراض مردود؛ لأنّ أدلة حجية خبر الواحد لم تنحصر بالأدلة اللفظية كما تقدم بيانه, فتصلح هذه الطائفة أنّ تكون رادعة عن السيرة في جزء منها.

الإعتراض الثالث: إنّ دليلية هذه الطائفة مستحيلة لأنَّه يلزم من دليليتها عدم دليليتها؛ فهي أيضاً مِمّا لا شاهد عليها من الكتاب الكريم، وكلّ ما يلزم من ثبوته عدمه فهو محال.

ص: 400


1- . سورة الإسراء؛ الآية 9.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص45.

ويرد عليه: إنّ هذه الأخبار كغيرها لها إطلاقات عديدة بعدد مصاديق الأخبار الآحاد التي لا شاهد عليها من القرآن الكريم؛ ومن جملتها إطلاقها لنفسها بوصفها خبراً واحداً فهو لا شاهد عليه من الكتاب المجيد, والمحذور المذكور إنَّما في هذا الإطلاق خاصة فتكون مستحيلة دون حجية إطلاقاتها الأخرى.

وهناك اعتراضات أخرى ذكروها في المقام ولكنها مردودة لا تنفع، وفي ذكرها إطالة في الكلام.

والحاصل من جميع ما ذكرناه؛ أنّ شأن هذه الطائفة شأن الطائفة الأولى في أنها في مقام بيان الدستور العام في كيفية التعامل مع أحاديث الأئمة الهداة علیهم السلام وأنه لا بُدَّ ابتداءً من عرضها على كتاب الله تعالى والسنة القطعية، ولا ربط لها بمبحث التعارض.

الطائفة الثالثة: ما يكون مفاده نفي حجية ما يخالف الكتاب الكريم أو السنة القطعية.

وهي عدة روايات:

1- معتبرة جميل بن دراج؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ)(1).

ونظيره معتبرة السكوني؛ عن أبي عبد الله علیه السلام قال (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : إِنَّ عَلَى كُلِ حَقٍ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً؛ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ)(2).

ونوقش في سنده من جهة السكوني ولكن الصحيح اعتباره.

2- معتبرة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الإمام الصَّادِقُ علیه السلام : (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَرُدُّوهُ, فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى أَخْبَارِ

ص: 401


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص68.
2- . المصدر السابق؛ ص69.

الْعَامَّةِ؛ فَمَا وَافَقَ أَخْبَارَهُمْ فَذَرُوهُ ومَا خَالَفَ أَخْبَارَهُمْ فَخُذُوهُ)(1).

3- مرسلة العياشي عَنْ سَدِيرٍ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وأَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیهما السلام : (لَا تُصَدِّقْ عَلَيْنَا إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ وسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلی الله علیه و آله و سلم )(2).

وتشتمل هذه الطائفة على عقدين: عقد سلبي فيه الردع عن حجية ما خالف الكتاب الكريم, وعقد إيجابي يأمر بأخذ ما وافق الكتاب العزيز.

ولإتمام البحث فيهما لا بُدَّ من بيان أمور:

الأمر الأول: إنّ جملة (ما خالف كتاب الله فدعوه) يحتمل أن تكون جملة خبرية مفادها تنفي الصدور كما يحتمل أن يكون مفادها نفي الحجية.

ويؤيد الأول ما في بعضها (أنّ على كل حقّ حقيقة، وعلى كل صواب نور) فإنَّه ظاهر في أنّ ما لا نور له ليس بصواب فلا يكون صادراً عنهم علیهم السلام .

ويؤيد الثاني إنّ مثل هذا التعبير يفهم منه العرف عدم الحجية, ويرشد إليه لفظ (الشبهة) الوارد في معتبرة جميل فإنَّه يؤكد ذلك, لأنّ معنى الشبهة أنّ هناك احتمال المطابقة مع الواقع. والصحيح؛ هو الثاني لأنَّه من التعبيرات المتعارضة لبيان أنّ الحقّ والصواب دلائلهما واضحة في أغلب الأحيان وليست الجملة لبيان الملازمة بين الصدق وبين ظهور النور والحقيقة فلا يستفاد من هذه الجملة أكثر من نفي حجية ما خالف الكتاب الكريم.

الأمر الثاني: هل تختص هذه الطائفة بالأخبار فقط أم أنّ نفي الحجية يعمّ كلّ أمارة مخالفة للقرآن؟.

الظاهر؛ هو الثاني كما يظهر من عباراتهم في المقام فتختلف عن الطائفتين السابقتين.

ص: 402


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص118.
2- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص244.

وقد أورد عليه بأنه لو قلنا بالتعميم ليشمل كلّ أمارة مخالفة للقرآن يلزم أن تكون النسبة بينها وبين أدلة حجية خبر الثقة عموماً من وجه لاجتماعهما في الخبر المخالف للقرآن وافتراقهما في الأمارة المخالفة, وفي الخبر غير المخالف وفي مورد الخبر المخالف يتساقطان, فلا تكون هذه الروايات حجة في ردّ الخبر المخالف وهو خلاف المقصود.ويمكن الجواب عنه بأنه مضافاً إلى أنّ هذه الروايات نظير الروايات الأخرى في بقية الأقسام والتي تكون منصرفة إلى خصوص الأخبار.

إنّ سياق هذه الروايات سياق العنوان الثانوي الناظر إلى الخبر الحجة بما هو هو فتكون حاكمة لا معارضة فلا تساقط.

وبعبارة أخرى: إنّ تقديم إطلاق هذه الطائفة -لو تمت- على دليل حجية الخبر إنَّما يكون باعتبار حكومتها عليه.

الأمر الثالث: إنّ هذه الطائفة يحتمل في مفادها عدة احتمالات:

الإحتمال الأول: أن تكون ناظرة إلى ما كان يعتمد عليه العامة في الفقه من الأحاديث والأقيسة والإستحسانات والظنّ ونحوها فتردع عنها وترشد إلى أنّ الذي ينبغي الإعتماد عليه هو الكتاب الكريم والسنة الشريفة القطعية, فتكون كسائر الأدلة التي تردع عن العمل بغير الكتاب وما يكون بحكمه.

ويؤيد هذا الإحتمال كون ذلك محلاً للإبتلاء كثيراً في عصر صدور هذه الطائفة. ولكن إطلاقها يبعد هذا الإحتمال، وعدم التقييد بمثل ذلك مع أنّ نفس هذا العنوان (فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه) قد طبق في روايات أخرى كتلك التي ورد فيها أنّ ما خالف الكتاب فهو زخرف وباطل، ولم نقله؛ فلا موجب لافتراض اختصاصها بأحاديث العامة وأقيستهم.

ص: 403

الإحتمال الثاني: أن تكون متعرضة لخصوص ما يخالف الكتاب وما يوافقه فيلقي المخالف عن الحجية ويؤخذ بالموافق مع السكوت عن الخبر الذي لا يوافق الكتاب ولا يخالفه.

وفيه: إنّ ظاهر هذه الطائفة من الأخبار أنها في مقام إعطاء دستور عام وبصدد بيان ضابط عملي للمكلفين, فلا يمكن أن نتغافل عن هذا الصنف من الروايات؛ وهي معظم الروايات الصادرة عنهم علیهم السلام .

الإحتمال الثالث: أن يكون المراد بالموافق ما لا يخالف القرآن فيشمل ما لا يخالف ولا يوافق.

الإحتمال الرابع: أن يكون المراد بالمخالف ما لا يوافق فيشمل ما لا يوافق ولا يخالف، فتنتفي حجيته ويؤيد قوله علیه السلام : (إنّ على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نور) فما لم يحرز النور والحقيقة لا حجية له فكأنه يقول: خذْ بما يوافق الكتاب لأنَّه نور على الصواب.

وبناءً على هذا الإحتمال يصير مفاد هذه الطائفة كالطائفة السابقة الدالة على إلغاء ما لا شاهد عليه من الكتاب عن الحجية فيفهم العرف منها إلغاء الخبر عن الحجيةمطلقاً، فلا بُدَّ من تخصيصها بالخبر في أصول الدين مثلاً وحملها على التقية على ما تقدم من المناقشات في الطائفة السابقة.

والحقّ أن يقال: إنّ هذا القسم من الأخبار بطوائفه الثلاثة المتقدمة إنَّما يعالج مشكلة السنّة التي افتعلها المخالفون بعد ارتحال الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الرفيق الأعلى حيث منعت السلطة وقتئذٍ كتابة سنّة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم مدة من الزمن فاتخذ الكذابون الوضّاعون هذا المنع وسيلة لوضع الأخبار الكاذبة ودسّها بين الناس, وحثّ على ذلك بنو أمية مدّة من الزمن فغلبت الأخبار الكاذبة ووقع التحريف في الأخبار الصحيحة، ودُسّت الأكاذيب فيها؛ فخلف من بعدهم جيلاً أمام جملة كبيرة من الروايات المكذوبة على صاحب الرسالة

ص: 404

صلی الله علیه و آله و سلم ، وقد تصدى الأئمة الهداة علیهم السلام لمعالجة هذه المشكلة الكبرى بأساليب مختلفة حفظاً للتراث النبوي الطاهر المخزون عندهم ورفع الضلالة من بين المسلمين وإرشاد أصحابهم إلى ما هو الصحيح لئلا يقعوا في مثل ما وقع فيه أعدائهم. وهذه الطوائف الثلاثة ترشد إلى ذلك وقد اعتمد عليها الأئمة علیهم السلام في إنارة الطريق وكيفية التعامل مع روايات المخالفين حتى مع الروايات الصادرة عنهم علیهم السلام أيضاً لدفع دسائس المندسّين.

فجعلوا الحكم هو كتاب الله والسنّة القطعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين في حجية الأخبار والتعامل معها والأخذ بها، وبذلك أسقطوا جملة كبيرة من الروايات المتداولة والتي اعتمدوا عليها في العقيدة والأحكام الفقهية ونزهوا أخبارهم عنها، وفي ضمن ذلك أشاروا إلى أنّ الأخذ بروايات أهل البيت علیهم السلام لا بُدَّ أن يكون على هذا المقياس مطلقاً فلا يُنظر لهذه الروايات الموضوعة في مقام التعارض الحاصل في رواياتهم نتيجة الإختلاف فيها لأسباب تقدم ذكرها، والبحث طويل ليس المقام موضع ذكره.

الأمر الرابع: إنّ قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (خذْ بما وافق الكتاب) الذي هو العقد الإيجابي في تلك الروايات يدلّ على لزوم الأخذ بما وافق الكتاب؛ فهل المستفاد منه تأسيس حجية جديدة غير حجية خبر الثقة الثابتة بأدلة حجية الخبر, وحينئذٍ تكفي الموافقة للكتاب في حجية الخبر ولو كان من غير ثقة، أو أنه إرشاد إلى رفع المانع عن الحجية الناتج من مخالفة الخبر للكتاب, فلا يكون حجة إلا إذا اجتمعت شروط الحجية الأخرى فيه؛ شأنه في ذلك شأن أدلة الشرطية والمانعية الأخرى ؟

الذي يستفاد مِمّا ذكرناه في الأمر السابق هو الثاني؛ بأي معنى فسرنا الموافقة مِمّا تقدم بيانه، فإنّ هذه الأخبار إنَّما تدل على تأسيس الضابط في قبول الأخبار والقاعدة العملية في العمل بالروايات فلا بُدَّ وقبل كلّ شيء عرضها على الكتاب؛ فما وافقه يؤخذ به وإلا فلا بُدَّ من

ص: 405

طرحه؛ فتكون الموافقة شرطاً في العمل بالأخبار وتقتضيه مناسبة الحكم والموضوع العرفية لأنّ مجرد عدم المخالفة مثلاً لا يصلح لأن يكونسبباً للحجية القائمة على الطريقية والكاشفية، على أنّ مجرد تأسيس حجية جديدة وإنْ لم يكن لغواً ولكنه أثر عقلي وليس أثراً عرفياً، فالمستفاد من الأمر بأخذ ما يوافق الكتاب هو التعويل على الكتاب الكريم لا جعل الحجية فيه للخبر الموافق معه. نعم؛ لا مانع من حجيته بدليل آخر إذا اجتمعت سائر الشروط للحجية لأنّ المانع هو المخالفة للكتاب والمفروض انتفاؤها.

الأمر الخامس: إنّ قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (ما خالف الكتاب فردوه) -وهو العقد السلبي من تلك الأخبار- يدلّ على إلغاء ما يخالف الكتاب عن الحجية؛ فإنْ كان المراد من المخالفة مطلق التنافي؛ فيشمل التنافي بنحو التباين والعموم من وجه كما يشمل التنافي بنحو الخصوص أو التقييد أو الحكومة لأنّ كلّ ذلك يصدق عليه المخالفة عرفاً، فيكون مقتضى إطلاقها طرح ما يعارض الكتاب المجيد مطلقاً، وهذا مِمّا لم يلتزم به الأصوليون. وقد أجاب المحققون عن هذا الإشكال بوجوه؛ أحسنها هو: إنّ المراد بالمخالفة التخالف بالحمل الشائع الذي يراه العرف كونه مخالفاً، وينحصر ذلك في التنافي بالتباين والعموم من وجه, وأما المخالفة بالعموم المطلق من التخصيص والتقييد والحكومة والورود فهي خارجة عن مورد هذه الروايات لما عرفت من أنّ المعارضة بالتخصيص أو التقييد أو الحكومة ليست بمخالفة عرفاً, لأنّ الخاص والمقيد والحاكم والوارد إنَّما هي قرائن تدلّ على المراد من العام والمطلق والمحكوم، فلا تعارض بينها فهي خارجة عن التعارض تخصصاً كما تقدم بيان ذلك مفصلاً. ثم إنه على فرض التنزّل فإننا نعلم إجمالاً بصدور كثير من التخصيصات والتقييدات ونحوهما عن المعصومين علیهم السلام ، وهذا العلم الإجمالي قرينة داخلية صارفة لأن يصدق عنوان المخالفة عليها.

ص: 406

ويمكن أن يستدل عليه أيضاً بمعتبرة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الإمام الصَّادِقُ علیه السلام : (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَرُدُّوهُ, فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى أَخْبَارِ الْعَامَّةِ؛ فَمَا وَافَقَ أَخْبَارَهُمْ فَذَرُوهُ ومَا خَالَفَ أَخْبَارَهُمْ فَخُذُوهُ)(1)؛ فإنّ الظاهر من قوله علیه السلام : (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان) إنّ الإمام علیه السلام بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين في أنفسهما لولا التعارض، فيكون دليلاً على عدم قدح المخالفة مع الكتاب في الحجية الإقتضائية لكلّ منهما، وليس فيه إطلاق يشمل جميع أقسام الخبر المخالف مع الكتاب لأنَّه ليس في مقام بيان هذه الجهة ليتمّ في الإطلاق. فلا بُدَّ من الإقتصار على المتيقنفي مفاده، والقدر المتيقن منه هو المخالفة على نحو القرينية، والجمع العرفي كما في موارد التخصيص والتقييد والحكومة والورود.

وهذا المفاد -كما ترى- لا يخرج عما ذكرناه في الوجه الأول.

الأمر السادس: إذا كانت المخالفة بنحو العموم من وجه فهل يسقط الخبر عن الحجية رأساً حتى في مورد الافتراق, أو أنه يسقط في خصوص مورد التنافي فقط ويبقى مورد الافتراق على الحجية؟

الظاهر هو الثاني؛ إما لأنَّه هو الذي يصدق عليه المخالفة فقط دون مورد الافتراق, وإما لأنّ العناوين الواردة في روايات الردّ مثل؛ زخرف وباطل، ولم نقله, وإنْ كانت ظاهرة في طرح السند إلا أنّ المنصرف منها هو المخالفة التباينية؛ بمعنى طرح ذلك السند الذي يكون مخالفاً للقرآن لا بإطلاقه فقط.

ص: 407


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص118.

وبعبارة أخرى: إنّ المستفاد منها عرفاً إسقاط السند الذي لو أخذ به لزم منه طرح مفاد الكتاب القطعي، وهذا لا يلزم في موارد التعارض بنحو العموم من وجه؛ إذ لم يكن التعارض من جهة المنافاة بين الدلالتين، وإنما من جهة خصوصية الإطلاق في الخبر بحيث لو لم يشمل مورد الإفتراق لكان مقدماً على إطلاق الكتاب الكريم.

وهذا ليس بأشدّ من العلم الوجداني بمخالفة الإطلاق للواقع وعدم مطابقته له حيث لا يسقط المطلق صدوراً، بل يسقطه إطلاقاً.

الأمر السابع: إذا تعارض الخبر مع ظاهر القرآن الكريم بالعموم من وجه فإنّ المخالفة بينهما تكون على أنحاء أربعة:

1- التعارض بينهما بالعموم الوضعي لكليهما.

2- التعارض بينهما بالإطلاق فيهما.

3- أن يكون الكتاب بالوضع والخبر بالإطلاق.

4- أن يكون بالعكس.

والظاهر عدم الفرق بينها كما عليه السيرة العملية للفقهاء في الفقه، فيسقط عموم أو إطلاق الخبر مقابل عموم أو إطلاق الكتاب لصدق المخالفة في جميع تلك الأنواع.

واختلاف أسباب الدلالة على العموم مطلقاً؛ الإستغراقي والبدلي من الوضع أو مقدمات الحكمة لا يوجب الفرق في صدق عنوان المخالفة في الجميع.

ولكن ذهب بعض الأصوليين(1) إلى عدم صدق المخالفة إذا كان الخبر مخالفاً مع إطلاق القرآن الكريم مدعياً في وجه ذلك أنّ الإطلاق غير داخل في مدلول اللفظ، بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن جريانها في هذه الصورة, فالمستفاد

ص: 408


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص431 (ط. الداوري)، ج2 ص520 (ط. نشر آثار السيد الخوئي).

من الكتاب؛ ذات المطلق لا إطلاقه كي يقال إنّ مخالفته زخرف أو باطل.

وعليه؛ إذا كان العموم في الخبر وضعياً، وفي الكتاب أو السنة إطلاقياً يقدم عموم الخبر في مورد الإجتماع, وإنْ كان العموم في كلّ منهما بالإطلاق يسقط الإطلاقان في مورد الإجتماع.

وعليه؛ يتقدم القرآن والسنة القطعية على الخبر في صورتين من تلك الصور الأربعة؛ وهما كونهما بالعموم الوضعي، أو كون القرآن بالعموم الوضعي والخبر بالعموم الإطلاقي. وتساقطها في صورة كونهما بالإطلاق, وتقدم الخبر إذا كان بالعموم الوضعي, والكتاب والسنة بالعموم الإطلاقي.

ويرد على ما ذكره:

أولاً: تقدم أنّ المراد بمخالفة القرآن والسنّة كونه مخالفاً للدليل القطعي، ولذا قلنا بالتعميم لمخالف الخبر المتواتر والمخالف لما هو المحفوف بالقرائن التي توجب القطع بالصدور أو القطع بالمراد. ولا ريب في أنّ الإطلاق القرآني من هذا القبيل وإنْ لم يصدق عليه القرآن كما زعمه.

ثانياً: إنّ عدم صدق القرآن على الإطلاق القرآني ممنوع جداً؛ فقد ورد في الروايات نسبة الإطلاق إليه عَزَّ وَجَلَّ مثل ما ورد في الموثق عن أمير المؤمنين علیه السلام : (الرَّبَائِبُ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ مِنَ الْأُمَّهَاتِ اللَّاتِي قَدْ دُخِلَ بِهِنَّ هُنَّ فِي الْحُجُورِ وغَيْرِ الْحُجُورِ سَوَاءٌ والْأُمَّهَاتُ مُبْهَمَات)(1).

وفِي حَدِيثٍ عنه علیه السلام قَالَ: والْأُمَّهَاتُ مُبْهَمَاتٌ دُخِلَ بِالْبَنَاتِ أَوْ لَمْ يُدْخَلْ بِهِنَّ فَحَرِّمُوا وأَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ (2). والمراد ب- (أبهم الله) أي أطلق الله.

ص: 409


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج20 ص459.
2- . المصدر السابق؛ ص463.

والتعبير بذلك معروف, مثل مرسل الْعَيَّاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ

علیه السلام عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا؛ أَ تَحِلُّ لَهُ ابْنَتُهَا؟ قَالَ, فَقَالَ: (قَدْ قَضَى فِي هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام ؛ لَا بَأْسَ بِهِ؛ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)(1), ولَوْ تَزَوَّجَ الِابْنَةَ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا. قَالَ, قُلْتُ لَهُ: أَ لَيْسَ هُمَا سَوَاءً؟. قَالَ فَقَالَ: لَا لَيْسَ هَذِهِ مِثْلَ هَذِهِ؛ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ؛ لَمْ يَسْتَثْنِ فِي هَذِهِ كَمَا اشْتَرَطَ فِي تِلْكَ, هَذِهِ هُنَا مُبْهَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا شَرْطٌ وتِلْكَ فِيهَا شَرْطٌ)(2)؛ أي مطلقة لم يشترط بالدخول كالعكس. فالمطلقكما أنه من القرآن, فالإطلاق أيضاً كذلك يكون من القرآن للصدق العرفي عليه الذي هو الملاك في الموضوعات التي ترد في لسان الشرع الحنيف.

ثالثاً: إنه بناءً على ما ذكره فإنّ إطلاق السنّة يقتضي أن لا يكون من السنّة مطلقاً؛ لا في السنّة القطعية ولا في السنّة الحجة, ولا يصدق (النبأ) عل الإطلاق وكذا الخبر والحديث ونحو ذلك، وهو ممنوع.

رابعاً: إنّ الظهور في العموم في كلّ واحد من العموم الوضعي والعموم الإطلاقي واحد وإنْ كان السبب مختلفاً؛ ففي الأول يكون السبب هو الوضع.

وفي الثاني هو مقدمات الحكمة, وذلك لا يضرّ في صدق العموم والظهور فيه فإنَّه واحد فيهما.

خامساً: إنّ ما ذكره مبني على ما سلكه في باب المطلقات من توقف تمامية الإطلاق على عدم البيان الأعمّ من المتصل والمنفصل والكتاب؛ إذا كان بالعموم كان بياناً رافعاً لموضوع

ص: 410


1- . سورة النساء؛ الآية 23.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج20 ص465.

الإطلاق في الخبر، وإذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة لم يحكم العقل بالإطلاق في شيء منهما.

وقد عرفت عدم تمامية هذا المبنى وما بُني عليه.

والحاصل؛ عدم الفرق بين الأنحاء الأربعة المتقدمة في المخالفة؛ سواء كانت المخالفة بين الوضعين العمومين أو إطلاقين أو بالإختلاف، فيسقط الخبر ويجب ترك العمل به.

ثم إنه قد يُستشكل في التعارض بالعموم بين الخبر والكتاب أو السنّة القطعية بأنّ سقوط الخبر في مورد الإجتماع بناءً على المشهور فيستلزم التفكيك بين أبعاض المدلول، فهل التفكيك يكون في الصدور أو يكون من حيث الحجية؟.

الظاهر؛ هو الثاني حتى لو قلنا بتبعية الدلالة الإلتزامية للمطابقية في الثبوت والسقوط معاً، لأنّ المبحوث عنه في المقام هو الدلالة التضمنية لا الدلالة الإلتزامية، ولا تبعيةَ بين التضمنية والمطابقية لأنّ دلالة اللفظ على بعض مدلوله ليست تابعة لدلالته على البعض الآخر، وهذا واضح لا إشكال فيه.

والتبعيض في الدلالة أمر شائع عند العلماء وفي خصوص الفقه أيضاً مثل ما إذا قامت بينة تقول بأنّ الدراهم العشرة التي في يد زيد هي ملك لخالد, وقامت بينة أخرى تقول بأنّ خمسة منها لعمرو، وكانت الخمسة له، وتعارضت البينتان في الخمسة الأخرى.

والحاصل؛ إنّ التعبد إنَّما يكون بالصدور لا بالعموم؛ إذ قد يوجد مانع بالنسبة إلى الأخير فقط دون الصدور؛ لإمكان صدور الكلام عن المعصوم علیه السلام بغير وجه العموم لقرينة لم تصل إلينا، وهذا واضح لا إشكال فيه. وحينئذٍ؛ لا تصل النوبة إلى القول بالتفكيك في الصدور حتى يقال بامتناعه فيبنى عليه التساقط رأساً بخلاف القول بالتفكيك في الحجية فإنَّهما يتساقطان في مورد المعارضة فقط.

هذا كله فيما إذا لم يكن ترجيح لأحدهما في البين، وإلا فالأمر واضح.

ص: 411

الأمر الثامن: إنّ ما تقدم بيانه في مخالفة السنّة القطعية النبوية أو مطلق السنّة القطعية أم لا؛ لا بُدَّ من ملاحظة ملاك المخالفة للكتاب. ولا ريب أنّ الدلالة القرآنية تشتمل على ثلاث خصائص:

الأولى: إنها كلام الله تعالى المعجز.

الثانية: إنها قطعية الجهة حيث لا يحتمل فيها التقية ونحوها.

الثالثة: إنها قطعية الصدور.

وتشترك السنّة النبوية القطعية مع الكتاب في الثانية والثالثة, كما تشترك السنّة القطعية غير النبوية مع الكتاب في الأخيرة فقط إذا لم تكن قطعية الجهة كما هو الغالب. فلا بُدَّ من الرجوع إلى أخبار المقام واستبيان أنّ أي واحدة من تلك الخصائص دخيلة في الحكم بطرح المخالف.

قد يقال: بأنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي أن نقول بأنّ الخصيصة الأولى لا دخل لها في الحكم المزبور لأنَّها تناسب الحكم باحترام القرآن ووجوب الإنصات إليه وتلاوته وعدم مسّه بغير طهارة ونحو ذلك، لا الحكم بالحجية المبنية على الكاشفية والطريقية بخلاف الخصيصة الثانية والثالثة فإنّ احتمال دخالتهما معاً في المقام وإنْ كان معقولاً في حدّ نفسه إلا أنه يبعده دعوى الإنسباق العرفي إلى الذهن من هذه الروايات؛ وهو الحكم بإلغاء ما يخالف الكتاب على أساس كونه قطعياً سنداً لأنّ قطعية السند هي الصفة البارزة عند المتشرعة للقرآن المجيد كدليل شرعي.

وأما التقية فلم تكن معروفة لدى الجميع لا سيما في عصر صاحب الرسالة صلی الله علیه و آله و سلم الذي أسندت إليه جملة من الروايات الواردة في قاعدة طرح ما خالف القرآن.

فإذا عرفنا الملاك في الحكم بالطرح يمكن التعميم إلى المخالفة مع كل دليل قطعي, فتأمل.

ص: 412

الأمر التاسع: كلّ ما ذكرناه في هذا القسم من الأخبار؛ وهي أخبار الطرح بطوائفها الثلاثة إنَّما هو بناءً على ما فهمه الأصوليون, ولكن بناءً على ما أشرنا إليه في مطاوي البحث من أنها في مقام بيان أمر أهمّ؛ وهو جعل ضابطة ودستور في العمل بالأخبار المنسوبة إلى المعصومين علیهم السلام باعتبار أنها أدلة ظنية لا بُدَّ من عرضها على مستند قطعي، فإذا لم يكن منسجماً مع طبيعة المعارف والتشريعات الواردة في القرآن لم يكن حجة, وليس المراد الموافقة والمخالفة المضمونية الجدية مع آياته.

وهذا هو الذي يقتضيه الوضع الإجتماعي العام في عصر صدور الروايات مع تسلط الطاغين ومعاداتهم للأئمة المعصومين علیهم السلام , ودعمهم للوضّاعين وحثّهم على الدسّ في الأخبار بما يناسب سياستهم، كما أنّ ذلك هو ما يقتضيه دور الأئمةالطاهرين علیهم السلام في الدفاع عن شريعة جدّهم صلی الله علیه و آله و سلم وإبعادها عن كلّ زور وباطل فكان دورهم في بيان الأحكام وكلّ ما يرتبط بهذه المهمة بالحفاظ على كلّ ما يرتبط بالحق وأهله؛ فقد أمروا بالتفقّه في الدين والإطلاع على تفاصيله. كلّ ذلك يشكّل قرينة متصلة لهذه الأحاديث تصرفها إلى إرادة هذا المعنى وترشد إليه بعض الأخبار.

وعلى هذا الأساس نقول بأنّ أخبار الطرح لا تدلّ على إلغاء الأدلة الظنية المعارضة مع الكتاب الكريم معارضة لا توجب إلغاء أصل مفاد قرآني واضح؛ كما في موارد التعارض غير المستقر والتعارض بنحو العموم من وجه أيضاً، وإنما يحكم بسقوطها في مورد المعارضة فقط كما تقدم بيانه.

الأمر العاشر: إنّ الطائفة الأخيرة تشير إلى أمر عظيم شأنه؛ فإنّ قوله علیه السلام : (إن على كل حقّ حقيقة، وعلى كل صواب نور) وإن استفاد منه العلماء ما تقدم بيانه، ولكنه قول صادر من أهل العصمة الطاهرين علیهم السلام ؛ وهو حقّ فعليه حقيقة, وهو صواب عليه نور,

ص: 413

والنور الذي يكون على أقوال أئمتنا الهداة المعصومين علیهم السلام من النور الذي على كلام الله المجيد لا يدركه إلا من كان له قلب سليم ونفس مصفّاة من الكدورات فيجعل الله له نوراً يدرك به الحقائق ويمشي به في الظلمات؛ (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(1), ولعل كثيراً من العلماء أدركوا الحقائق بهذا النور الفطري الذي اقترن مع النور الكسبي الذي أفاضه الله تعالى عليهم بجهادهم واجتهادهم، ولكنهم لم يشيروا إلى ذلك في كلماتهم لئلا يتخذه الجاهلون المدّعون وسيلة في تصحيح الروايات وتضعيفها فيختلّ بذلك نظام الإجتهاد وقواعده.

والبحث نفيس، ومن راجع كلمات المحققين من علمائنا الأبرار يستفيد كثيراً من الإشارات, نسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب ويرزقنا النور. والحمد لله أولاً وأخيراً.

القسم الثاني: أخبار العلاج
اشارة

وهي مجموعة من الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار علیهم السلام لعلاج حالات التعارض والإختلاف الواقع بين الروايات، وهي على طوائف مختلفة تبعاً لمضامينها المتعارضة. ومن هنا نجد أنّ الأخبار قد ابتليت بالتعارض فيما بينها؛ حيث قد يستفاد من بعضها التخيير، ومن بعضها الآخر الترجيح على اختلافٍ بينها في ذكر المرجّحات وتقدُّم بعضها على بعض, ومن ثالث تدلّ على التوقفوالإرجاء الذي تكون نتيجته الإحتياط. وهي على طوائف، وقد قسم السيد الوالد قدس سره (2) تلك الأخبار إلى أقسام عديدة:

1- ما يدلّ على الأخذ بالأخير.

2- ما يدلّ على التوقّف.

ص: 414


1- . سورة النور؛ الآية40.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص175.

3- ما يدلّ على الأخذ بما يوافق الإحتياط.

4- ما يدلّ على التخيير.

ويمكن إضافة أقسام أخرى تبعاً لبعض العناوين الواردة فيها، إلا أنه يمكن تصنيفها على طوائف ثلاث:

الطائفة الأولى: أخبار التخيير.

الطائفة الثانية: أخبار العلاج بالترجيح.

الطائفة الثالثة: أخبار التوقف والإرجاء.

وقد يقع البحث عن عناوين أخرى في ضمن تلك، ويتمّ البحث عن الجميع تباعاً.

الطائفة الأولى: أخبار التخيير

وهي جملة من الأخبار لها ظهور في التخيير عند تعارض الروايات من دون ملاحظة المرجّحات، ولكن ذهب المشهور إلى التخيير إذا لم يكن ما يوجب الترجيح بأحد المرجّحات. وقد استندوا إلى جملة من الروايات التي تدلّ على التخيير الظاهري الذي هو أحد الأصول العملية التي موضوعها الشك بالواقع لا التخيير الواقعي الذي ظرفها الشك وهي عديدة:

الرواية الأولى: معتبرة سَمَاعَةَ؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ؛ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ؛ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ والْآخَرُ يَنْهَاهُ عَنْهُ؛ كَيْفَ يَصْنَعُ، قَالَ: (يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُهُ؛ فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ)(1).

وذكروا في تقريب الإستدلال بها على المدّعى بأنّ قوله علیه السلام : (فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ) ظاهر في جواز الأخذ بأيهما شاء وهو معنى التخيير, وأما قوله (يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ

ص: 415


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص108.

يُخْبِرُهُ) فهو يرجع إلى الحكم الواقعي بعد اكتشافه، وهذا لا ينافي التخيير في الحجية الذي هم حكم ظاهري.

وقد اعترض على ذلك بوجوه:الوجه الأول: إنّ موردها الدوران بين المحذورين؛ بقرينة ما افترض فيها من أنّ أحد المخبرين يأمر بشيء، والآخر ينهى عنه. والتخيير في مثل ذلك على مقتضى القاعدة فلا تشتمل الرواية على حكم جديد(1).

ويرد عليه:

أولاً: إنّ التخيير العملي في موارد الدوران بين المحذورين إنَّما يُنتهى إليه إذا لم يكن أصل حاكم فيكون تخييراً عقلياً. وإطلاق الرواية أعمّ من التخيير العقلي والتخيير الشرعي, فتكون الرواية قد تضمنت حكماً شرعياً غير عقلي في المحذورين، وهو حكم جديد.

ثانياً: إنّ المستفاد من قوله علیه السلام : (فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ) هو الأخذ بأحدهما في مقام العمل بالحجة، أو مجرد الترخيص الظاهري في مقام الإمتثال.

ثالثاً: إنّ التخيير الوارد في موارد الدوران بين المحذورين عند من يقول به إنَّما هو فيما إذا كان جنس الإلتزام معلوماً، فيحمل التخيير على التخيير العملي الثابت بمقتضى القاعدة في مورد المحذورين. وحينئذٍ؛ لا بُدَّ من حمل الرواية على ذلك إذا أردنا أن نستفيد التخيير العملي منها, مع أنه لم يظهر من سؤال السائل فرض العلم بالإلزام، وإنما فرض ورود خبرين متعارضين؛ وهذا لا يلزم منه العلم بجنس الإلزام إذ يحتمل كذبهما معاً.

الوجه الثاني: إنّ الرواية وردت في العقيدة بما يرتبط بمسائل الجبر والتفويض والقضاء والقدر والبداء والمشيئة؛ بقرينة قول السائل (أحدهما يأمر بأخذه) فإنّ النظر لو كان في الفروع

ص: 416


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص424 (ط. الداوري).

لكان الأنسب التعبير عنه بالأمر بفعله، والتعبير عنه بالأخذ يناسب الأمور الإعتقادية، وكذلك التعبير الوارد في كلام الإمام علیه السلام (يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُهُ) ؛ فإنّ الإرجاء ومن يخبره يناسب الإعتقاد لا الفروع.

وفيه: إنه لا دليل على ذلك، إذ التعبير يستعمل في المعارف والتشريع كلاهما، وإطلاقه يشملهما كما فهمه العلماء أمثال الكليني وغيره الذين ذكروا الرواية في عنوان اختلاف الحديث.

الوجه الثالث: إجمال الحديث؛ فإنّ قوله علیه السلام : (فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ) كما يحتمل فيه أن يكون بياناً لمطلب على خلاف القاعدة؛ وهو التخيير في الحجية والسعة من حيث الأخذ بكلّ منهما, كذلك يحتمل فيه أن يكون المراد من السعة؛ الفحص أو شدّ الرحال إلى الإمام علیه السلام ، لا الحكم الواقعي. ولا أقلّ من الإجمال فلا دلالة على التخيير(1).وفيه: إنه خلاف الظاهر فيكون من مجرد الإحتمال، ويحتمل أن تكون من أخبار التوقف التي يأتي ذكرها باعتبار أنّ المراد بالسعة في كلام الإمام علیه السلام ؛ أي السعة في ترك العمل بالخبرين وعدم المحاسبة عليه.

الرواية الثانية: معتبرة عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ قَالَ: قَرَأْتُ فِي كِتَابٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ علیه السلام اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي رِوَايَاتِهِمْ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ؛ فَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنْ صَلِّهِمَا فِي الْمَحْمِلِ, ورَوَى بَعْضُهُمْ لَا تُصَلِّهِمَا إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ؛ فَأَعْلِمْنِي كَيْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ لِأَقْتَدِيَ بِكَ فِي ذَلِكَ؟. فَوَقَّعَ علیه السلام : (مُوَسَّعٌ عَلَيْكَ؛ بِأَيَّةٍ عَمِلْتَ)(2).

فإنّ قوله علیه السلام : (مُوَسَّعٌ عَلَيْكَ؛ بِأَيَّةٍ عَمِلْتَ) ظاهر في الدلالة على التخيير وصحة العمل بكل واحد من الخبرين المتعارضين.

ص: 417


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص341.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج4 ص330.

وأشكل عليه:

أولاً: إنّ المراد السعة والتخيير الواقعي لا التخيير الظاهري بين الحجتين, كما هو ظاهر كلٍّ من سؤال الراوي وجواب الإمام علیه السلام .

أما سؤال الراوي؛ فمن أجل أنه مقتضى التنصيص في سؤاله على الحكم الذي تعارض فيه الخبران فيكون ظاهراً في السؤال عن الحكم الواقعي. ويدل عليه قوله: (فَأَعْلِمْنِي كَيْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ لِأَقْتَدِيَ بِكَ فِي ذَلِكَ) فإنَّه كالصريح في أنّ السؤال عن الحكم الواقعي للمسألة. ومقتضى المطابقة بين السؤال وبين الجواب كون الجواب أيضاً كذلك.

وأما جواب الإمام علیه السلام ؛ فإنَّه ظاهر في التخيير الواقعي أيضاً باعتبار إنه المناسب مع حال الإمام علیه السلام العارف بالأحكام الواقعية والمتصدي لبيانها فيما إذا كان السؤال عن واقعة معينة.

ثانياً: وجود الجمع الدلالي العرفي بين الخبرين؛ بأن يحمل الأمر على الإستحباب, والصلاة في المحمل على الترخيص. فلعل التوسعة الواردة في الجواب من أجل ذلك فلا يستفاد من الخبر التخيير الظاهري.

ثالثاً: إنّ الحديث مختص بواقعة معينة فلا يستفاد العموم منه؛ لا من سؤال الراوي ولا من جواب الإمام علیه السلام إلا أن يدلّ على إلغاء الخصوصية ظهور عرفي ليعمّ الحكم؛ وهو مفقود لاحتمال كون التوسعة التخيير في اللاإقتضائيات فلا يتعدى منها إلى الإقتضائيات لعدم إحراز الملاك.

الرواية الثالثة: ما رواه الشيخ في الغيبة بسنده فِي جَوَابِ مُكَاتَبَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ إِلَى صَاحِبِ الزَّمَانِ علیه السلام إِلَى أَنْ قَالَ علیه السلام فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ: (حَدِيثَانِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا؛ فَإِذَا انْتَقَلَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى أُخْرَى فَعَلَيْهِ التَّكْبِيرُ, وأَمَّا الْآخَرُ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ

ص: 418

رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وكَبَّرَ ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ بَعْدَ الْقُعُودِ تَكْبِيرٌ, وكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى؛ وبِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ كَانَ صَوَاباً)(1).

وأشكل عليه تارةً؛ من حيث السند من جهة كون أحمد بن إبراهيم النونجتي مجهولاً أو مهملاً.

ويمكن الجواب عنه بأنّ أحمد بن إبراهيم النونجتي كان كاتباً للحسين بن روح، وهو لا يخلو من مدح, مع أنّ محمد بن أحمد بن داود قال بأنه إملاء الحسين بن روح على الحميري، فلا يضرّ جهالته, فيمكن الإعتماد على الحديث.

وأخرى؛ من حيث الدلالة بوجوه:

الأول: أنه لا عموم في السؤال والجواب كما ذكرنا في الخبر المتقدم فلا يستفاد التعميم.

الثاني: إنّ المسألة من غير الإلزاميات, إذ لا إشكال في عدم وجوب التكبير، فلا يمكن التعدي إلى الواجبات التي هي مورد البحث عن العلماء, وغير الإلزاميات يمكن الجمع العرفي فيها.

الثالث: ظهور الحديث في الرخصة الواقعية لا الظاهرية؛ إما لظهور حال المعصوم علیه السلام لبيان الحكم الواقعي، وإما لكون ظاهر السؤال عن الواقع.

ولكن ظهور جملة (من جهة التسليم) في الرخصة الظاهرية مِمّا يجعل الحديث مجملاً إنْ لم نقل بأنّ ظهور حال الإمام والسؤال أظهر.

الرابع: إنّ في مورد الحديث جمعاً عرفياً، ولا ينسحب إلى ما لا جمع عرفي فيه كما تقدم.

الخامس: إنه لو تمت دلالتها على التخيير الظاهري في الحجية، فإنّ موردها الحديثان القطعيان اللذان نقلهما الإمام علیه السلام بنفسه كما هو المناسب لتعبيره عنهما بالحديثين؛ المشعر بكونه سنّة

ص: 419


1- . المصدر السابق؛ ج27 ص121.

ثابتة عند المعصومين علیهم السلام ، فلا يمكن التعدي منه إلى التعارض بين خبرين ظنيين من حيث السند لاحتمال أن يكون مزيد اهتمام الشارع بالقطعيين موجباً لجعل الحجة التخييرية في موردهما خاصة، فلا إطلاق في الرواية حتى يتمسك به.الرواية الرابعة: مرسل الإحتجاج؛ عن الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (إِذَا سَمِعْتَ مِنْ أَصْحَابِكَ الْحَدِيثَ وكُلُّهُمْ ثِقَةٌ فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ حَتَّى تَرَى الْقَائِمَ علیه السلام فَتَرُدَّ إِلَيْه)(1).

والإستدلال بهما على التخيير من جهة التوسعة في الأخذ بأي واحد من الحديثين واضح كما هو الظاهر منه.

وقد أشكل عليه:

أولاً: إنّ مفاد المرسلة حجية أخبار الثقة إلى ظهور الحجة علیه السلام ، ولا دلالة لها على حكم المتعارضين.

ويرد عليه: إنّ دلالة المرسلة تامة، فإنّ ظاهر قوله علیه السلام : (فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ), وقوله علیه السلام : (وكُلُّهُمْ ثِقَةٌ) في التعارض مِمّا لا يمكن إنكاره, وإلا فلا معنى لقوله: (فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ).

ولو سلّمنا عدم ورودها في التعارض، ولكنّ استفادة التخيير من إطلاقها يشمل موارد التعارض لأنّ دليل الحجية إذا كان بلسان التوسعة وأنّ للمكلف أن يعمل به يشمل المتعارضين معاً, لأنّ جواز العمل بأحد المتعارضين لا ينافي جواز العمل بالآخر أيضاً، فلا إشكال في دلالة الحديث من هذه الجهة على التخيير. نعم, يمكن أن يقال بأنّ المرسلة من الأخبار التي تدل على حجية خبر الثقة كما هو مقتضى قوله علیه السلام : (وكُلُّهُمْ ثِقَةٌ), فإنّ فرْضَ وثاقة الكلّ مأخوذ على نحو الإنحلال لتصبح وثاقة كل راوٍ دخيلة في الحكم بالسعة في مقام الأخذ بالرواية. ويمكن أن نستفيد من خبرٍ جهاتٍ متعددةً، وهو واقع في الأحاديث.

ص: 420


1- . المصدر السابق؛ ص122.

ثانياً: يحتمل أن يراد من التوسعةِ التوسعةُ في الوظيفة العملية وبملاك الأصول المؤمّنة مع افتراض سقوط المتعارضين عن الحجية، فلا يكون دليلاً على التخيير في الحجية.

ويرد عليه: إنه خلاف ظاهر الحديث، مع أنّ مجاري الأصول العملية لا تكون دائماً في موارد

التعارض، بل قد تكون مورداً للتخيير لوجود دليل من عموم أو إطلاق لا بُدَّ من الرجوع إليه بعد التعارض، أو أصل عملي منجّز كما في باب المعاملات.

ولكن يمكن أن يقال بأنّ المرسلة يحتمل أن تكون من أخبار التوقف؛ بأن يكون المراد من قوله علیه السلام : (فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ) التوسعة وعدم المحاسبة في ترك الخبرين المتعارضين حتى تلقى الحجة علیه السلام .وكيف كان؛ فإنّ هذه المرسلة مِمّا تدل على التخيير، وإنَّما يصار إليه بعد التكافؤ بين الخبرين المتعارضين كما هو مفروض كلامه علیه السلام : (وكُلُّهُمْ ثِقَةٌ), وسيأتي مزيد بيان.

الرواية الخامسة: ما رواه الطبرسي في الإحتجاج مرسلاً عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ عَنِ الإمام الرِّضَا علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ: تَجِيئُنَا الْأَحَادِيثُ عَنْكُمْ مُخْتَلِفَةً؟ فَقَالَ: (مَا جَاءَكَ عَنَّا فَقِسْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وأَحَادِيثِنَا؛ فَإِنْ كَانَ يُشْبِهُهُمَا فَهُوَ مِنَّا وإِنْ لَمْ يَكُنْ يُشْبِهُهُمَا فَلَيْسَ مِنَّا. قُلْتُ: يَجِيئُنَا الرَّجُلَانِ وكِلَاهُمَا ثِقَةٌ بِحَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ولَا نَعْلَمُ أَيُّهُمَا الْحَقُّ؟ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَعْلَمْ فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ؛ بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ)(1).

وهذه الرواية من أوضح الروايات في الدلالة على التخيير ولم يرد عليها أي إشكال مِمّا سبق، إلا أنها ساقطة سنداً بالإرسال, ولم يكن جبر بالعمل لوجود الخلاف بين العلماء في التخيير مطلقاً.

ص: 421


1- . المصدر السابق؛ ص121-122.

الرواية السادسة: مرفوعة زرارة التي يأتي ذكرها في أخبار الترجيح فقد ورد في ذيلها عند فقد المرجّحات، قال زرارة: سَأَلْتُ الإمام الْبَاقِرَ علیه السلام فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ ... إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ؛ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ علیه السلام : (إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وتَدَعَ الْأَخِيرَ)(1).

ويرد عليه مضافاً إلى قصور سنده بالإرسال أنه علیه السلام قال في روايةٍ: (إِذَنْ فَأَرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَتَسْأَلَهُ)(2).

وأما الإشكال عليها بأنّ المراد من الشهرة التي ذكرت في المرجّحات هي الشهرة الروائية لا الفتوائية، وهي مساوقة مع قطعية سندها؛ فهو خارج عن محل الكلام, فإنّ البحث عن التخيير في الخبرين المتعارضين غير القطعيين, فإنَّه سيأتي في الكلام عن المقصود من الشهرة المذكورة في مرجحات هذه الرواية، مع أنه يمكن أن نفرض أنّ الشهرة هي الروائية ولكنها لم تصل إلى مرتبة التواتر حتى يكونا قطعيين كما يشهد له سياق الحديث على ما سيأتي بيانه.

هذا أهم ما يمكن الإستدلال به من الأخبار على التخيير، وهي بين ما تكون قاصرة سنداً أو قاصرة دلالةً؛ إما من جهة إنها لا عموم لها، أو أنها تدلّ على التخيير الواقعي لا الظاهري إلا الرواية الأولى فإنها معتبرة سنداً ودلالة على عرفت. ومن مجموعها يمكن استفادة التخيير. إلا أنّ التخيير بحسب المرتكزات إنَّما يكون في مورد التحيّر المطلق، وهو منتفٍ مع المرجح، فيختصّ بصورة فقْد المرجّحات لهذه القرينة الإرتكازية المحفوفة بالروايات فلا إطلاق لها حتىتُعارض بها بقية الروايات من المقبولة وغيرها مِمّا يدلّ على الترجيح. فلا وجه لحمل ما يدلّ على الترجيح على الندب.

ص: 422


1- . مستدرك الوسائل؛ ص303-304.
2- . المصدر السابق.
الطائفة الثانية: أخبار الترجيح
اشارة

وهي عدّة أخبار تدلّ على تقديم أحد الخبرين المتعارضين على أساس المرجّحات التي هي عديدة ومختلفة.

تمهيد:
اشارة

الترجيح لغةً؛ بمعنى جعل الشيء راجحاً، واصطلاحاً؛ هو اقتران إحدى الأمارتين بما يوجب تقويتها على معارضها، ونتيجته هو تقديم الأمارة الراجحة على الأخرى في العمل بالمؤدى.

ولا إشكال في أنّ ذلك من أعمال المجتهدين في مقام الإستنباط، ولا خلاف بينهم في وجوب الترجيح عند وجود المزية لأحد المتعارضين, وإنَّما الاختلاف في أنّ المزية المرجحة لا بُدَّ أن تكون منصوصاً عليها كما ذهب إليه جمعٌ؛ منهم المحقق النراقي(1), والفاضل التوني(2) والمحدث البحراني(3)، بل الإخباريين قاطبة.

ولكن نسب إلى أكثر الأصوليين القول بوجوب الترجيح بكلّ مزية وإنْ لم تكن منصوصاً عليها. وسيأتي الكلام في ذلك.

ثم أنّ الأخبار المتضمنة للمرجحات قد اشتملت على جملة من العناوين وهي:

1- الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

2- الترجيح بالشهرة.

3- الترجيح بالأحدثية.

4- الترجيح بصفات الراوي.

ص: 423


1- . مناهج الأصول؛ ص317-318.
2- . الوافية؛ ص333.
3- . الحدائق؛ ج1 المقدمة الأولى، والدرر النجفية؛ ج1 ص313-314.

5- الترجيح بالإجماع.

6- الترجيح للحكم على المتشابه.

7- الترجيح بموافقة الإحتياط.

ويمكن تصنيفها إلى أربعة أصناف:

الأول: ما يدلّ على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

الثاني: ما يدلّ على الترجيح بالشهرة.

الثالث: ما يدلّ على الترجيح بالأحدثية.

الرابع: ما يدلّ على الترجيح بصفات الراوي.

الصنف الأول: الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

ودلت عليه جملة من الأخبار:الخبر الأول: الذي يعدّ من أهمّ الأخبار في هذا الموضوع، وهو ما نقله الحر العاملي في الوسائل عن قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا عن محمد وعلي ابني علي بن عبد الصمد عن أبيهما عن أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أيوب بن نوح عن محمد ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قَالَ الإمام الصَّادِقُ علیه السلام : (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَرُدُّوهُ, فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى أَخْبَارِ الْعَامَّةِ؛ فَمَا وَافَقَ أَخْبَارَهُمْ فَذَرُوهُ ومَا خَالَفَ أَخْبَارَهُمْ فَخُذُوهُ)(1).

ص: 424


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص118.

وتمام الكلام حول هذا الخبر يقتضي البحث عن سنده، وعن دلالته، وعن علاقته مع غيره من الأخبار.

أما البحث عن سنده؛ فقد نوقش فيه من جهات:

الجهة الأولى: إستبعاد وجود كتاب لقطب الدين الراوندي؛ لأنّ اثنين من تلامذته وهما ابن شهر آشوب ومنتجب الدين قد ترجماه في كتابيهما معالم العلماء والفهرست ولم يذكرا هذه الرسالة ضمن مؤلفاته(1).

ص: 425


1- . قال منتجب الدين: (الشيخ الإمام قطب الدين أبوالحسين سعد بن هبة الله بن الحسن الراوندي؛ فقيه عين صالح ثقة له، تصانيف منها المغني في شرح النهاية عشر مجلدات، خلاصة التفاسير عشر مجلدات، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة مجلدان، تفسير القرآن مجلدان، الرائع في الشرائع مجلدان، المستقصي (وهو جامع الرواة المستصغر) في شرح الذريعة ثلاث مجلدات، ضياء الشهاب في شرح الشهاب مجلدان، حلّ العقد من الجمل والعقود، الإيجاز في شرح الإيجاز (نسخة إجازات)، النهاية غريب النهاية، إحكام الأحكام، بيان الإنفرادات، شرح ما يجوز وما لا يجوز، التغريب في التعريب، الأغراب في الإعراب، زهرة المباحثة وثمر المنافثة، تهافت الفلاسفة، جواهر الكلام في شرح مقدمة الكلام، كتاب النيات في جميع العبادات، نفثة المصدور وهي منظومة، الخرائج والجرائح في المعجزات، شرح الآيات المشكلة في التنزيه، شرح الكلمات المائة لأمير المؤمنين علیه السلام ، شرح العوامل المائة، شجار العصابة في غسل الجنابة، المسألة الكافية في الغسلة الثانية، مسألة في العقيقة، مسألة في صلاة الآيات، مسألة في الخمس، مسألة أخرى في الخمس، مسألة في من حضره الأداء وعليه القضاء، فقه القرآن). [الفهرست؛ ص68-69، رقم الترجمة 186]. وقال في موضع آخر: (القاضي ركن الدين محمد بن سعد بن هبة الله بن دعويدار؛ فاضل فقيه دين له نظم حسن). [المصدر السابق؛ ص122، رقم الترجمة 479]. والظاهر إنهما اثنين لاختلاف الأوصاف والأسماء والألقاب، والأول هوشيخه. وقال ابن شهر آشوب: (شيخي أبوالحسين سعيد بن هبة الله الراوندي؛ له كتب منها: كتاب ضياء الشهاب ومشكلات النهاية، وجني الجنتين في ذكر ولد العسكريين) . [معالم العلماء؛ ص55، رقم الترجمة 368].

وأيّد هذا الإشكال الشيخ أسد الله التستري قدس سره ؛ فاحتمل أن تكون هذه الرسالة للسيد الراوندي الذي كان معاصراً مع الشيخ الراوندي المعروف.

ويرد على هذا الإشكال:

أولاً: إذا فُرض تمامية طريق صاحب الوسائل إلى أحد تلامذة الراوندي فإنّ ذلك يكفي في الإنتساب إليه, ومجرد سكوت منتجب الدين وابن شهر آشوب عن ذكرها في ترجمة الراوندي لا يكفي في إسقاط طريق صاحب الوسائل عن الإعتبار؛ إذ لعل الرسالة وصلت إلى ثالث لم يكن زميلاً لهما لا سيما أنّ الرسالة وهي رسالة مختصرة لم تكن ذا شأن بالغ، ولذلك لم يكن لها إسم خاص أو عنوان واضح، وأنّ صاحب الوسائل ذكرها بالوصف.

ثانياً: إنّ صاحب البحار ذكر(1) أنّ هناك رسالة للراوندي سماها برسالة الفقهاء، وقال أنها وصلت إليه عن طريق الثقاة, والمظنون أنها عين هذه الرسالة.

ثالثاً: إنّ إبن شهرآشوب ومنتجب الدين (قدس سراهما) لم يُعلم من حالهما أنهما كانا بصدد حصر جميع مؤلفات الشيخ الراوندي، فلم يذكرا جميع كتبه، بل ذكر أحدهما كتاباً لم تذكره الأخبار.

رابعاً: وجود كتب أخرى نسبت إلى الراوندي مع عدم ذكر التلميذين لها من قبيل كتاب قصص الأنبياء، والخرائج والجرائح؛ فلم ينقلا عن الراوندي قدس سره ذلك، وذكر السيد ابن طاووس في مهج الدعوات(2) أنهما لسعيد بن هبة الدين الراوندي.

والحقُّ أنْ يقال؛ بأنَّ الراوندي لقب علمَين من أعلامنا (قُدِّست أسرارهم), ومن ذلك يحصل اشتباه في نسبة الكتب إليهما؛ فتأمل.

ص: 426


1- . ج1 ص12.
2- . ذكر ذلك بنحو الإشارة؛ ص307 و312.

الجهة الثانية: الإشكال في أنه لا بُدَّ من طريق لصاحب الوسائل إلى هذه الرسالة، ولكنه لم يذكر طريقه إليها في كتاب الوسائل، وإنما الموجود في فوائد الخاتمة هو الطريق الذي اعتمد عليه إلى كتاب قصص الأنبياء وكتاب الخرائج والجرائح للراوندي.

ويرد عليه: أنّ الشيخ الحرّ قدس سره قد ذكر طريقه إلى الراوندي في كتابه قصص الأنبياء والخرائج

بالإسناد الذي ذكرناه عن العلامة عن والده عن الشيخ مهذب الدين الحسين بن ردة عن القاضي أحمد بن عبد الجبار الطبرسي عن سعيد بن هبة الله الراوندي.

ثم قال قدس سره في آخر الفائدة الخامسة: (ونروي باقي الكتب بالطرق المشار إليها, والطريق المذكور عن مشايخنا وعلمائنا رضي الله عنهم جميعاً وجزاهم الله عنا وعن الإسلام خيراً)(1).فإنه يستظهر من هذين الكلامين أنّ إسناده إلى بقية الكتب هو نفس الإسناد إلى كتابَي الخرائج وقصص الأنبیاء وإنْ لم يصرّح بها في المشيخة عن مؤلفيها.

ومما يؤيد ذلك أنّ إسناد صاحب الوسائل إلى الكتابين ينتهي إلى العلامة قدس سره كما صرح به, والعلامة ذكر في طريقة إلى الشيخ الراوندي أنه يروي بهذا الطريق جميع كتب سعيد بن هبة الله الراوندي. وقد أورد العلامة ذلك في الإجازة المعروفة منه لآل زهرة.

الجهة الثالثة: إنّ صاحب الوسائل نقل هذه الرسالة عن العلامة عن مشايخه, ولكننا لم نجد لها عيناً ولا أثراً في كتب العلامة ومشايخه كتهذيب العلامة ومعتبر المحقق ومعارجه وغيرها. كما أننا لم نجد أنهم استدلوا بهذه الرسالة ولو كان لظهر وبان.

ويرد عليه: إنّ عدم استدلالهم بهذا الخبر لا يدلّ على عدم وجوده عندهم, فكم من رواية كانت عندهم ولم يستدلوا بها. وقد اقتصر المحقق في المعارج على بعض روايات الترجيح.

ص: 427


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج30 ص189.

الجهة الرابعة: إنّ محمداً وعلياً ابني علي بن عبد الصمد الواقعان في السند؛ قيل إنهما ليسا محمداً وعلياً ابني علي بن الصمد، وإنما هما محمد وعلي ابنا عبد الصمد لأنَّهما شخصان معروفان ومن مشايخ ابن شهرآشوب وأساتذته الذين يروي عنهم, وقد وقعا في طرق صاحب الوسائل كثيراً، وأما محمد وعلي ابنا علي عبد الصمد فلم يقعا في طرق صاحب الوسائل وإجازته المعروفة. ومن البعيد أن يكون الشيخ الراوندي المتقدم على ابن شهر آشوب ينقل عن أولاد علي بن عبد الصمد الذي هو من أساتذة ابن شهر آشوب ومن ينقل عنه. وهذا مِمّا يوجب وجود خطأ في البين بأن يكون المقصود محمداً وعلياً ابني عبد الصمد وهما ثقتان بلا إشكال، ولكن الإشكال في أبيهما عبد الصمد فإنَّه لم تثبت وثاقته.

وفيه:

أولاً: إنّ محمداً وعلياً ابنا علي بن عبد الصمد واقعان في أسانيد الراوندي، وقد تكرر ذلك في قصص الأنبياء كما يشهد به مؤلف كتاب (رياض العلماء؛ ج2 ص112) وغيره ممن ترجم الراوندي, فقد ذكروا محمداً وعلياً ابنا علي بن عبد الصمد في عداد مشايخه، ولم يجيء ذكر محمد وعلي ابني عبد الصمد أصلاً.

ثانياً: إنّ الإلتباس وقع في تشخيص علي بن عبد الصمد من جهة تشابه الأسماء؛ حتى أنّ الشيخ الحر قدس سره في كتابه أمل الآمل ترجم عدة أشخاص بهذا الاسم فقال: (محمد بن علي بن عبد الصمد النيسابوري فاضل جليل من مشايخ ابن شهر آشوب).

ص: 428

وقال: (محمد بن عبد الصمد النيسابوري عالم فاضل جليل القدر من مشايخ ابن شهر آشوب)(1).

وقال: (علي بن علي بن عبد الصمد التميمي النيسابوري فقيه ثقة قرأ على والده وعلى الشيخ أبي علي بن الشيخ أبي جعفر)(2).

وقال: (الشيخ علي بن عبد الصمد التميمي السبزواري فقيه دين ثقة قرأ على الشيخ أبي جعفر -أي الصدوق- قاله منتجب الدين)(3).

وقال (الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الصمد النيسابوري التميمي فاضل عالم يروي عن شهر آشوب ولا يبعد اتحاده مع التميمي السبزواري السابق، بل الظاهر ذلك).

والظاهر أنّ هناك عبد الصمد الجد، وعبد الصمد الحفيد ولكليهما ابن مسمى بعلي، وشيخُ ابنِ شهرآشوب هو علي بن عبد الصمد الحفيد, وشيخُ القطبِ الراوندي هو علي بن عبد الصمد الجدّ, فراجع.

الجهة الخامسة: أنّ الراوي عن الصدوق قدس سره ؛ وهو أبو البركات علي بن الحسين الحلي الخوزي(4) الذي يروي عنه الراوندي لم يوثَّق إلا بشهادة صاحب الوسائل قدس سره بوثاقته، وهي غير معتبرة لاحتمال أن تكون عن حدس لا عن حسّ للبعد الزماني الممتد بينهما بما يقرب من سبعمائة عام.

وفيه:

أولاً: إنّ المقياس في منشأ الحسّ مقابل الحدس ليس طول الزمان أو قصره فحسب، وإنما يتحكم فيه ما يحيط بذلك الزمان -سواء كان طويلاً أم قصيراً- من الملابسات والقرائن والمدارك مِمّا يستوجب أن تكون الشهادة حسّية؛ فقد يكون الزمان قصيراً ولكن لم يكن

ص: 429


1- . أمل الآمل؛ ج2 ص278.
2- . المصدر السابق؛ ص194.
3- . المصدر السابق؛ ص192.
4- . الجوري؛ على قول بعض.

فيه ما يوفر للباحث ما يحتاجه من المدارك الواضحة بحيث توجب الشهادة أن تكون حسّياً, فالمناط كون الشهادة في توثيق الرواة هذا المعنى من الحسّية التي لا تنافي في الحدس أيضاً فهي ليست اجتهادية محضة، كما أنها لم تكن حسّية كذلك؛ إذ لا يمكن أن تكون الشهادة حسية في أصحاب الأئمة علیهم السلام ورواة الأحاديث، وكلّ من يدعيها يكون مكابراً، وهذا هو المقياس في التوثيقات في مرّ العصور. ومن ذلك تفتح أبواب في توثيق الروايات من ناحية الأسانيد, وعلى هذا الأساس تصحّ توثيقات الشيخ الطوسي وغيره من العلماء الذين تكون الفاصلة الزمنية بينهم وبين أصحاب الأئمة علیهم السلام والرواة الذين شهدوا بوثاقتهم, وهذه القاعدة تنطبق على صاحب الوسائل وأبي البركات أيضاً.ثانياً: مع قطع النظر عن ذلك فإنّ أبا البركات من الموثوقين بحدّ نفسه؛ فقد ذُكر في رياض العلماء(1) في حقّ أبي البركات عن أحد رواة الحديث عنه: (حدثنا الإمام الزاهد أبو البركات الخوزي عن الصدوق)(2)؛ فإنّ مثل هذا التعبير يدلّ على التوثيق وزيادة.

ثالثاً: إنّ جملة من القرائن تدلّ على وثاقته كما هو مذكور في محلّه.

والحاصل؛ من جميع ذلك أنّ الحديث معتبر سنداً ولا إشكال فيه، وما ذكروه تطويل لا طائل تحته ومن لزوم ما يلزم كما يأتي التنبيه عليه.

وأما البحث عن دلالته؛ فقد أُشكل على مفاده بأنه يشتمل على مرجّحين طوليين:

أحدهما: الموافقة والمخالفة مع الكتاب، فيرجح الموافق للكتاب على ما خالفه.

والآخر: الموافقة والمخالفة مع العامة, فيرجح المخالف مع العامة على الموافق معهم.

ص: 430


1- . ج3 ص336-337.
2- . راجع عيون أخبار الرضا علیه السلام ؛ ج1 ص2 هامش 1 (طبعة مؤسسة الأعلمي، بيروت)؛ حيث نقل من بعض النسخ الخطية العتيقة القديمة للصدوق قوله: (..... حدثنا السيد الإمام الزاهد أبو البركات الجوري 0، وفي خاتمة المستدرك؛ ج3 ص65 نقل عن رياض العلماء قوله: رأيت في صدر إسناد بعض النسخ العتيقة من كتاب عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق هكذا ..... إلى أن قال: حدثني السيد الإمام الزاهد أبو البركات الخوزي 0).

وقد تقدم البحث في المراد من الموافق والمخالف، ولا يدلّ هذا الحديث على شيء خلاف ما ذكرناه سوى أنه يمكن القول بأنّ ظاهر النصّ ومقتضى مناسبات الحكم والموضوع أن يكون المراد منهما؛ في القرآن المخالف له فيطرح، وفي العامة الموافق لهم فيطرح، وهو صحيح لا بأس به.

وإنما الكلام في أنّ المخالفة والموافقة مع العامة تختص بأخبارهم كما هو نصّ الحديث فيرجح ما خالفها على ما يوافقها، أو أنها تشمل فتاواهم وآرائهم؛ والظاهر هو الثاني لأنَّهم لم يعتمدوا على الأخبار فقط بل، اعتمدوا عليها وعلى الإستحسان حيث جعلوهما من أدلة الاستنباط عندهم ويدلّ على ذلك بعض أخبار المقام، فيكون ذكر الأخبار في الحديث المزبور إما لكثرتها أو من باب المثال. ولا إشكال في استفادة الطولية من الرواية بالنسبة إلى الترجيحين فإنّ الأول منهما مقدم في مقام علاج التعارض على الثاني.

وأما الحديث عن نسبة هذا الحديث إلى سائر الأخبار؛ فلا إشكال في عدم المعارضة بين معتبرة الراوندي مع أخبار التخيير التي تقدم ذكرها باعتبار أنّ المعتبرة تثبت الترجيح. وقد عرفت سابقاً أنّ أخبار التخيير تختص بما إذا لم تكن مزية لأحدهما على الآخر وتحقق التحيّر المطلق، ومع وجود المزية لا تحيّر. وأما نسبة هذه المعتبرة مع بقية أخبار الترجيح أو أخبار التوقف أو الإرجاء فيأتي الكلام فيها.الخبر الثاني: ما رواه الراوندي بإسناده عن الصدوق عن شيخه ابن الوليد عن الصفار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن رجل عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحُسَيْنِ (1) بْنِ السَّرِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَخُذُوا بِمَا خَالَفَ الْقَوْمَ)(2).

ص: 431


1- . وفي البحار؛ الحسن.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص118.

وقد أشكل عليه بضعف السند، ولكنه ليس بشيء لجبره بورود نصّه في الرواية المتقدمة للراوندي المعتبرة وغيرها مِمّا جعلت مخالفة العامة من موجبات الترجيح. نعم, معتبرة الراوندي تختصّ بأخبار العامة، وفي هذه الرواية مطلق ما خالف القوم, ولكن عرفت صحة التعدي عن مفاد المعتبرة كما هو ظاهر الأخبار الواردة في المقام. وعلى فرض عدم القبول نقول بتخصيص هذه الرواية بالمعتبرة المتقدمة فتختص بمخالفة أخبارهم.

الخبر الثالث: رواية الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ قَالَ: قُلْتُ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ علیه السلام : هَلْ يَسَعُنَا فِيمَا وَرَدَ عَلَيْنَا مِنْكُمْ إِلَّا التَّسْلِيمُ لَكُمْ؟ فَقَالَ: (لَا واللَّهِ لَا يَسَعُكُمْ إِلَّا التَّسْلِيمُ لَنَا. فَقُلْتُ: فَيُرْوَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام شَيْ ءٌ ويُرْوَى عَنْهُ خِلَافُهُ؛ فَبِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ؟ فَقَالَ: خُذْ بِمَا خَالَفَ الْقَوْمَ؛ ومَا وَافَقَ الْقَوْمَ فَاجْتَنِبْهُ)(1).

الخبر الرابع: رواية مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا علیه السلام : كَيْفَ نَصْنَعُ بِالْخَبَرَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ؟. فَقَالَ: (إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ خَبَرَانِ مُخْتَلِفَانِ فَانْظُرُوا إِلَى مَا يُخَالِفُ مِنْهُمَا الْعَامَّةَ فَخُذُوهُ, وانْظُرُوا إِلَى مَا يُوَافِقُ أَخْبَارَهُمْ فَدَعُوهُ)(2).

وهما كسابقتهما في الدلالة.

الخبر الخامس: مرسلة الطبرسي عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قُلْتُ: يَرِدُ عَلَيْنَا حَدِيثَانِ وَاحِدٌ يَأْمُرُنَا بِالْأَخْذِ بِهِ والْآخَرُ يَنْهَانَا عَنْهُ قَالَ: (لَا تَعْمَلْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى تَلْقَى صَاحِبَكَ فَتَسْأَلَهُ، قُلْتُ: لا بُدَّ أَنْ نَعْمَلَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا(3)، قَالَ: خُذْ بِمَا فِيهِ خِلَافُ الْعَامَّةِ)(4).

ص: 432


1- . المصدر السابق.
2- . المصدر السابق؛ ص119.
3- . وفي بعض النسخ؛ بأحدهما.
4- . المصدر السابق؛ ص122.

وهذه الرواية تدلّ على الترجيح بمخالفة العامة، ولكن قيل أنها مقيدة بحال حضور الإمام علیه السلام فيختص العمل بأحد المتعارضين في عصر الحضور.

وسيأتي الكلام عنه في هذه الجهة؛ في روايات التوقف.وهي أيضاً ساكتة عن الترجيح بموافقة الكتاب, إلا أنه يمكن استفادة كون الخبرين المتعارضين موافقين للكتاب الكريم بشهادة قول السائل: (لا بُدّ من العمل بواحد منهما) فلا حاجة إلى القول بتقييد هذه الرواية برواية الراوندي, فلا تخرج دلالتها عن سائر روايات المقام.

الخبر السادس: رواية عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (مَا سَمِعْتَهُ (1) مِنِّي يُشْبِهُ قَوْلَ النَّاسِ فِيهِ التَّقِيَّةُ ومَا سَمِعْتَ مِنِّي لَا يُشْبِهُ قَوْلَ النَّاسِ فَلَا تَقِيَّةَ فِيهِ)(2).

ولا إشارة فيه إلى الخبر من المتعارضين المبحوث عنه في المقام، بل الظاهر منه أنّ كلّ خبر يتضمن الأساليب المعروفة عند الناس في مقام استنباط الحكم الشرعي فيكون بصدد التقية فيكون ساقطاً عن الحجية، فيكون مضمون الحديث وارداً في طبيعي الخبر، فيدل على سقوط ما يشبه العامة عن الحجية مطلقاً.

الخبر السابع: رواية عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ عَنِ الإمام الرِّضَا علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ تَجِيئُنَا الْأَحَادِيثُ عَنْكُمْ مُخْتَلِفَةً. فَقَالَ: (مَا جَاءَكَ عَنَّا فَقِسْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وأَحَادِيثِنَا؛ فَإِنْ كَانَ يُشْبِهُهُمَا فَهُوَ مِنَّا وإِنْ لَمْ يَكُنْ يُشْبِهُهُمَا فَلَيْسَ مِنَّا. قُلْتُ: يَجِيئُنَا الرَّجُلَانِ وكِلَاهُمَا ثِقَةٌ بِحَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ولَا نَعْلَمُ أَيُّهُمَا الْحَقُّ؟ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تَعْلَمْ فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ؛ بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ)(3).

ص: 433


1- . وفي بعض النسخ؛ ما سمعت.
2- . المصدر السابق؛ ص123.
3- . المصدر السابق؛ ص121-122.

وهو لا يرتبط بالمقام؛ لا صدره ولا ذيله؛ أما صدره؛ فهو في مقام بيان الكبرى في العمل بالأخبار مطلقاً فيدلّ على الطرح إذا لم يوافق الكتاب والسنة؛ فيشبه بذلك الأخبار المتقدمة التي نقلناها في القسم الأول من أخبار الطرح التي تدلّ على أنّ حجية الأخبار منوطة بوجود شاهد منه عليه. وأما ذيله؛ فيدلّ على التخيير في موارد التعارض فيكون من أخبار التخيير، وقد عرفت الكلام فيها.

ومن الأخبار التي تدلّ على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة التي سيأتي الكلام في مفادها.

والحاصل من جميع ما تقدم:

1- إنه لا إشكال في دلالة الأحاديث المتقدمة بمجموعها في الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

إنّ هذه الأحاديث تختلف في ما ورد فيها؛ فقد ذُكر في بعضها موافقة الكتاب فقط، وفي آخر مخالفة العامة، وفي ثالث ذُكر فيه الأمران معاً، وفي رابع ذكر فيه الأمران وغيرهما كمقبولة عمر بن حنظلة. ومقتضى

2- الجمع العرفي حمل المطلق على المقيد كما تقدم بيانه إلا إذا كانت قرائن تدلّ على خلاف ذلك بسبب ورود مرجحات متعددة.

وقد اختُلف في تقديم بعضها على بعض وتأخيره مِمّا ينافي التقييد، وحينئذٍ لا بُدَّ من حمل التقييد إما على مطلق الرجحان، أو الرجحان الإضافي، أو غير ذلك مِمّا سيأتي بيانه.

3- إنّ إطلاق الأحاديث ينافي أخبار التخيير، وقد عرفت أنه لا منافاة بين الطائفتين لأنّ الرجوع إلى التخيير إنَّما يكون بعد فقْد المرجح والمزية، وهذه الطائفة تثبتهما فلا تخيير.

ص: 434

الصنف الثاني: أخبار الترجيح بالشهرة

وأهمّ ما ورد فيها هو مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة، وفي رواية الطبرسي(1) قَالَ: وَرُوِيَ عَنْهُمْ علیهم السلام أَنَّهُمْ قَالُوا: (إِذَا اخْتَلَفَتْ أَحَادِيثُنَا عَلَيْكُمْ فَخُذُوا بِمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ شِيعَتُنَا؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ فِيه)(2).

وهذه الرواية وإنْ كانت ضعيفة سنداً بالإرسال إلا أنها مشهورة في الفقه وعلى لسان الفقهاء بحيث يعدّونها قاعدة عامة، وعليها عملهم فتكون جابرة.

والمراد بقوله (ما اجتمعت عليه شيعتنا)؛ إما الاجتماع في الرواية فيكون مساوقاً للتواتر، ولا إشكال حينئذٍ في لزوم العمل به وطرح الخبر المخالف له.

وإما أن يراد به الإجتماع عليه في العمل والفتوى فيرجع إلى مرجّحية الشهرة الفتوائية. والظاهر هو الأخير من جهة إضافة الإجتماع فيها إلى الشيعة لا إلى الرواة بالخصوص وهذا يناسب الإجتماع في الرأي والعمل.

ولا إشكال في تقدم هذه الطائفة على أخبار التخيير كما تقدم بيانه، وأما نسبتها إلى أخبار الترجيح بالموافقة للكتاب والمخالفة للعامة كمعتبرة الراوندي وغيرها, فتكون النسبة بينهما عموم من وجه. وسوف يأتي الكلام في هذه الجهة إنْ شاء الله تعالى.

الصنف الثالث: أخبار الترجيح بالأحدث
اشارة

والمراد بالأحدثية هو صدور الخبر في زمن يتأخر عن زمن صدور الآخر, وقد وردت عدة روايات يستفاد منها ترجيح الأحدث من المتعارضين على الآخر، وهي:

1- رواية الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (أَ رَأَيْتَكَ لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ الْعَامَ ثُمَّ جِئْتَنِي مِنْ قَابِلٍ فَحَدَّثْتُكَ بِخِلَافِهِ بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ؟

ص: 435


1- . الإحتجاج؛ ج2 ص358.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص122.

قَالَ: كُنْتُ آخُذُ بِالْأَخِيرِ. فَقَالَ لِي: رَحِمَكَ الله )(1).

2- رواية عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : إِذَا جَاءَ حَدِيثٌ عَنْ أَوَّلِكُمْ وحَدِيثٌ عَنْ آخِرِكُمْ بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ فَقَالَ: (خُذُوا بِهِ حَتَّى يَبْلُغَكُمْ عَنِ الْحَيِ؛ فَإِنْ بَلَغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ فَخُذُوا بِقَوْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : إِنَّا واللَّهِ لَا نُدْخِلُكُمْ إِلَّا فِيمَا يَسَعُكُمْ)(2).

3- رواية أَبِي عَمْرٍو الْكِنَانِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (يَا أبَا عَمْرٍو؛ أَ رَأَيْتَ لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِفُتْيًا ثُمَّ جِئْتَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتَنِي عَنْهُ فَأَخْبَرْتُكَ بِخِلَافِ مَا كُنْتُ أَخْبَرْتُكَ أَوْ أَفْتَيْتُكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ؟ قُلْتُ: بِأَحْدَثِهِمَا وأَدَعُ الْآخَرَ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ يَا أبَا عَمْرٍو؛ أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُعْبَدَ سِرّاً؛ أَمَا واللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ إِنَّهُ لَخَيْرٌ لِي ولَكُمْ؛ أَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا فِي دِينِهِ إِلَّا التَّقِيَّةَ)(3).

4- مرسل الكليني(4) قَالَ: وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: (خُذُوا بِالْأَحْدَثِ)(5).

وغير ذلك من الأخبار التي ذكروها في المقام.

والبحث حول هذه الأخبار يقع ضمن أمور:

الأمر الأول: في إسنادها

وقد أشكلوا عليها بضعفها؛ أما خبر الحسين المختار ورواية الكليني؛ فلإرسالهما. وأما خبر الكناني ومعلى بن خنيس؛ فلضعفهما.

ص: 436


1- . المصدر السابق؛ ص109.
2- . المصدر السابق.
3- . المصدر السابق؛ ص112.
4- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص67.
5- . المصدر السابق؛ ص109.

ولكن يمكن القول بأنّ معلّى بن خنيس معتبر على ما هو الأصحّ كما ذكرناه في محله.

وأما أبو عمرو الكناني فإنَّهم وإنْ قالوا بعدم ثبوت وثاقته, ولكن يمكن دفعه بوجهين:

أحدهما: أنّ السيد البروجردي قدس سره (1) نقل سنداً آخر لهذه الرواية عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله علیه السلام بدون واسطة الكناني بينه وبين الإمام الصادق علیه السلام فيكون السند صحيحاً يمكن الإستناد عليه؛ إلا أن يقال بسقوط أبي عمر في هذا السند سهواً بقرينة كون الخطاب في كلام الإمام علیه السلام إلى أبي عمرو مرتين.

ويمكن دفعه بأنّ الخطاب وإنْ كان متوجهاً إلى أبي عمرو ولكن هشام بن سالم كان حاضراً في المجلس ونقل الخبر مباشرة من دون واسطة الكناني، وهذا أولى من احتمال السهو الذي هو خلاف الأصل.وهذه الرواية لم ترد في الوسائل حسب ما نقله بعضٍ(2).

والآخر: إنه مع ذلك من عدم وجود الرواية في الوسائل -وإن كان عدم نقلها في الوسائل لا يضرّ- فيصحّ لنا أن نستفيد اعتبار الكناني، بل جلالة قدره من جوابه للإمام علیه السلام بالأخذ بالأحدث ولا يعرف هذا عادة إلا الخواص، مضافاً إلى تعقيب الإمام علیه السلام معه بالسرّ والتقية وأنه خير له ولهم مِمّا لا يتحقق إلا للخواص. والإشكال بأنه يستلزم الدور غير وارد, فافهم.

الأمر الثاني: في دلالتها

لا إشكال في دلالة مجموع هذه الروايات على رجحان الأحدث وترك السابق عند تعارض الروايات سواء كان من أجل النسخ كما تشير إليه معتبرة محمد بن مسلم؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله

ص: 437


1- . جامع أحاديث الشيعة؛ ج1 ص66.
2- . بيان الأصول؛ ج9 ص274.

علیه السلام قَالَ: (إِنَّ الْحَدِيثَ يُنْسَخُ كَمَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ)(1)، أم من أجل التقية كما ورد في خبر الكناني المتقدم. والمراد من قوله بيان أنه كما يقع النسخ في القرآن كذلك يقع النسخ في السنّة فينسخ بعضها الآخر, أما نسخ القرآن بالسنّة فهو موضوع آخر يبحث عنه في غير المقام.

الأمر الثالث: البحث في تمامية دلالة هذه الطائفة على الترجيح بالأحدثية، وقد ذكرنا أنّ ظاهرها وإنْ كان دالاً على الترجيح بالأحدث ولكنها غير صالحة للحجية لجهات عديدة:

الجهة الأولى: إنه لو كان الأخذ بالأحدث عند التعارض مطلقاً قاعدةً عامة لتواتَرَ نقلُه واشتهر وبان عند الأصحاب كلّهم لكثرة الإبتلاء بالروايات المتعارضة، وليس بناء العقلاء في موارد

التعارض بين الحجج على الأخذ بالأحدث مطلقاً فلا يفرق في التعارض بين السبق واللحوق.

الجهة الثانية: إعراض الأصحاب قديماً وحديثاً عن الترجيح بالأحدث، وهذا مِمّا يدل على أنّ هذه الروايات وردت في قضايا معينة لقرائن خاصة في البين.

الجهة الثالثة: لو تنزّلنا عن ذلك كلّه فنقول: إنّ الروايات إنَّما تدل على الأخذ بالأحدث لبيان الوظيفة الفعلية لا لبيان الواقع، ويرشد إلى ذلك مناسبات الحكم والموضوع لأنّ الأمرين المتنافيين الصادرين من المعصوم علیه السلام غالباً مّا يصدر منهم من أجل كثرة ابتلاءهم بالتقية، وهذه التقية كما تتحقق في السابق فهي تتحقق في اللاحق، وكلاهما يحتمل فيهما التقية. وربما يتكرر الأحدث في واقعة معينة عن الإمام علیه السلام ، ومن أجل ذلك كلّه فلا دلالة لهذه الأخبار على الترجيح بالأحدث كقاعدة عامة.ولقد أجاد السيد الوالد قدس سره في ردّ الإستدلال بهذه الأخبار؛ لا سيما الخبران المتقدمان

-خبرا المختار والكناني- لإثبات الترجيح بالأحدثية، حيث قال قدس سره : (وفيه مضافاً إلى مخالفتهما -أي خبر حسين المختار وخبر الكناني- للمشهور؛ إذا لم أجد عاملاً بهما في ما

ص: 438


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص208.

تفحصت, ومعارضتهما بغيرهما مِمّا هو كثير أنهما ليسا في مقام بيان حكم المتعارضين، بل في مقام التنبيه على الإختلاف إنَّما كان لأجل التقية أو نحوها من المصالح, ولا ربط لهما ببيان حكم العلاج بين المتعارضين, ويشهد لذلك ذيل خبر الكناني, مع أنه لا وجه يتصور في الأخير إلا النسخ. وبناءً عليه لا ربط لهما بالمقام أيضاً لعدم التعارض بين الناسخ والمنسوخ فإنَّه لا وجه لاحتمال الأخذ بالأخير ولو كان مخالفاً للكتاب وموافقاً للعامة, وكان الأول بالعكس, ولا يرضى بذلك فقيه فكيف بالمعصوم علیه السلام فلا وجه لعدّ هذه الأخبار من أخبار علاج المتعارضين)(1).

الأمر الرابع: في بيان النسبة بين هذا المرجّح وسائر المرجّحات؛ فهل تكون معارضة أو مخصصة؟.

وقبل بيان ذلك لا بُدَّ من بيان أمور:

أولاً: من المعلوم أنّ هذا البحث يبتني على فرض كون الأحدث مرجّحاً في مورد التعارض, وأما إذا أنكرنا هذا المرجّح كما تقدم بيانه فلا ثمرة لهذا البحث.

ثانياً: لا شك في أنّ النسبة بين هذا المرجّح وبين الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة وموافقة الشهرة هي النسبة بين سائر المرجّحات الأخرى بعضها مع بعض؛ وهي نسبة العموم من وجه, فقد يكون الأحدث موافقاً للكتاب وقد يكون مخالفاً له، وكذا النسبة بين موافقة الشهرة ومخالفة العامة, وهكذا في صفات الراوي.

والقاعدة عند المشهور كما عرفت سابقاً تقتضي التساقط في مورد الإجتماع إلا إذا استفيد من الأدلة رجحان أحد العامين من وجه على الآخر؛ فقد يقال بتقديم الموافق للكتاب والمخالف للعامة على الأحدث لأنّ المخالف للكتاب زخرفٌ، أو باطلٌ، أو لم نقله. وأما المخالف للعامة ففيه الرشد.

ص: 439


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص175.

وأما الشهرة فهي مقدمة على سائر المرجّحات فضلاً عن الأحدث، وأما الترجيح بالصفات فقد يقال بأنه لا دليل على الترجيح بها على الأحدث فيتعارضان؛ ولا يمكن الأخذ بالأحدث لأنَّه دور، ولا الأخذ بالصفات من أجله أيضاً. وسيأتي الكلام في هذه الجهة. وكلّ ذلك على فرض قبوله.

ثالثاً: لا ريب في ثبوت التعارض بين أخبار العلاج مطلقاً والبحث عن علاقة أخبار الأحدثية وأخبار التخيير.وأخبار الترجيح بأحد المرجّحات الأخرى يختلف بحسب اختلاف المباني في تعارض الأدلة الظاهرية:

المبنى الأول: القول بتعارضها في مرحلة الثبوت كالأحكام الواقعية لتحقق التناقض في تلك المرحلة؛ فلا محالة يتعارض الأحدث مع التخيير وسائر المرجّحات، ولا يصحّ التمسك بشيء من أدلتها بناءً على ما هو المشهور في تعارض الأدلة لتساقطها. فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصول العامة كل بحسب مورده.

وأما بناءً على المختار من التخيير في المتعارضين بعد فقْد المرجّح مطلقاً في الروايات المتعارضة وغيرها، أو في خصوص الروايات كما هو مختار بعض كالشيخ الكليني وجمعٌ من المتقدمين وجمهور المتأخرين، وحينئذٍ تكون النتيجة بناءً على هذا الرأي هي تقديم أخبار التخيير المقابل للترجيح بالأحدث والمقابل للترجيح بسائر المرجّحات, لأنّ فرض اقتران المتعارضين حيث لا أحدث نادرٌ جداً ولا وجود له.

المبنى الثاني: مبنى المشهور؛ من أنها تتعارض في مرحلة الإثبات والوصول إلى التنجيز والإعذار فإنَّه ينحصر في صورة العلم بالأحدث، وفي غيره لا يظهر التعارض بين روايات الأخذ بالأحدث مع سائر أخبار المقام فيمكن تخصيص هذه الأخبار بغير مورد العلم بالأحدث، وهو نادر جداً.

ص: 440

والعلم الإجمالي بأحدثية أحدهما لا أثر له لأنَّه علم إجمالي مردد بين الترخيص والإلزام فلا يكون منجزاً, فإذا فُرض أنّ روايات الأحدث كانت أخصّ مطلقاً من تلك الأخبار كما هو كذلك بالنسبة إلى أخبار التخيير فهي -أخبار التخيير- تختص بها, وأما إذا كانت النسبة العموم من وجه كما هو الحال بالنسبة لأدلة الترجيح؛ كانت النسبة عموماً من وجه, كما عرفت.

فإذا عرفت ذلك نقول في موضوع بحثنا وهو بيان العلاج بين أخبار التخيير وأخبار الأحدثية وأخبار سائر المرجّحات وتقديم إحداهما على الأخرى بعد فرض تحقق التعارض واستحكامه بينها. فقد يقال بتقديم أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجّحات على أخبار الأحدثية وبأحد وجهين:

الوجه الأول: تطبيق مفاد هذه الطائفة على غيرها لأنّ في أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجّحات ما هو أحدث من روايات الأخذ بالأحدث؛ لورود بعضها عن الأئمة المتأخرين زماناً عن الإمام الصادق علیه السلام فتُقدَّم على هذه الطائفة بحكم هذه الأخبار.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ هذا الوجه إنَّما يصحّ فيما إذا علم بصدور إحدى الطائفتين المتعارضتين فيحكم بلزوم الأخذ بإحداهما, أما أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجّحات؛ إمالكونها هي الصادرة واقعاً، أو لأنّ أخبار الأخذ بالأحدث تأمر بذلك. ولكننا لا نعلم بصدور إحدى الطائفتين فلا بُدَّ من الرجوع إلى دليل الحجية العام ونسبته إليهما على حدٍّ واحد. وقد تقدم أنه لا يمكن شموله لهما معاً, وشموله لإحداهما دون الأخرى ترجيح بلا مرجح.

ثانياً: على فرض العلم بصدور إحداهما، ولكنه أيضاً لا يتمّ هذا الوجه أيضاً, إذ يلزم منه سقوط أخبار الأخذ بالأحدث عن الحجية في تمام الموارد سوى مورد واحد؛ وهو تقديم

ص: 441

معارضها الأحدث المتمثل في أخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجّحات الأخرى, وهذا من قبيل تخصيص الأكثر، وهو يوجب إلغاء الدليل رأساً.

الوجه الثاني: أن يقال بأنّ أخبار الأخذ بالأحدث بشمولها لنفسها بلحاظ معارضتها مع ما هو أحدث منها تسقط عن الحجية فيلزم من حجيتها عدم حجيتها فنأخذ بأخبار التخيير أو الترجيح بسائر المرجّحات بدون معارض.

وفيه: إنّ الساقط عن الحجية لاستلزام حجيته هو إطلاق أخبار الأخذ بالأحدث لا أصلها، فلا موجب لرفع اليد عن حجيتها بلحاظ موارد التعارض الأخرى فيكون معارضاً مع أدلة التخيير وأدلة سائر المرجّحات.

ختام

إنّ المتحصل من جميع ما ذكرناه حول دلالة هذه الطائفة على الترجيح بالأحدثية هو عدم دلالتها على المطلوب، ولو فرضت دلالتها فلا إطلاق لها لأنّ الترجيح بالأحدثية حكم تعبدي بحت لا يطابق القواعد العقلائية، فلا بُدَّ من الإقتصار على مورد النص وذلك لأنّ كلمات الأئمة علیهم السلام تنظر إلى وقت واحد وتكشف عن حكم قد شرع في صدر الإسلام، فلا أثر لمجرد كون أحد الخبرين أحدث من الآخر صدوراً في الكاشفية والطريقية التي هي ملاك الحجية والاعتبار. ولذا نقول بأنّ مورد هذه الطائفة تتضمن خصوصيتين:

الأولى: كون الحديثين قطعيين سنداً ومسموعين من الإمام علیه السلام مباشرةً فلا يمكن التعدي منهما إلى الظنيين لاحتمال دخل القطع بالصدور في هذا الحكم، فهو ليس حكماً واقعياً، بل هو حكم ظاهري تعبدي، ومن المعقول دخل اليقين والشك فيه.

الثانية: معاصرة السامع للخبر الأحدث وحضوره في مجلس الصدور, لأنَّه المفروض فيها بمقتضى قوله علیه السلام : (ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه) فيحتمل دخل هذه الخصوصية في الحكم المذكور أيضاً.

ص: 442

ويشهد لذلك ما ورد في خبر الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : إِذَا جَاءَ حَدِيثٌ عَنْ أَوَّلِكُمْ وحَدِيثٌ عَنْ آخِرِكُمْ بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ؟ فَقَالَ: (خُذُوا بِهِ حَتَّى يَبْلُغَكُمْ عَنِ الْحَيِ؛ فَإِنْ بَلَغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ فَخُذُوا بِقَوْلِهِ)(1)، وإطلاقه وإنْ كان يشمل المقطوع الصدور ومظنونه إلا أنه يدلّ على الخصوصية الثانية كما هو واضح.

وكيف كان؛ فإنّ هذه الطائفة ليست من أدلة الترجيح، بل مفادها أمر آخر وهو ما ذكرناه من بيان الوظيفة الفعلية للسامع التي قد تكون واقعية، وقد تكون ظاهرية لظروف التقية والأخذ بالأحدث في هذه الروايات ملاحظةٌ ثانية دون الأولى، وتدلّ على التأكيد على لزوم اتّباعه على كلّ حال. ويرشد إلى ذلك فهم السائل والتفاته لذلك وجوابه بالأخذ بالأحدث مِمّا يدلّ على أنه كان أمراً مركوزاً في ذهنه, ومما يدلّ عليه أيضاً ذيل خبر الكناني (وأبى الله عَزَّ وَجَلَّ لنا ولكم في دينه إلا التقية)، كما تدل على ذلك روايات أخرى مثل ما ورد عن أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قَالَ لِي: (يَا زِيَادُ مَا تَقُولُ لَوْ أَفْتَيْنَا رَجُلًا مِمَّنْ يَتَوَلَّانَا بِشَيْ ءٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؟ قَالَ قُلْتُ لَهُ: أَنْتَ أَعْلَمُ جُعِلْتُ فِدَاكَ. قَالَ: إِنْ أَخَذَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأَعْظَمُ أَجْراً. قَالَ: وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى؛ إِنْ أَخَذَ بِهِ أُجِرَ وإِنْ تَرَكَهُ والله أَثِمَ)(2).

الصنف الرابع: الترجيح بالصفات

وأهم ما يستدل به على الترجيح بالصفات هو مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة؛ أما المقبولة فقد رواها المحدث العاملي في الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى أَنْ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ اخْتَارَ رَجُلًا مِنْ

ص: 443


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص109.
2- . المصدر السابق؛ ص107.

أَصْحَابِنَا فَرَضِيَا أَنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا واخْتَلَفَا فِيمَا حَكَمَا وكِلَاهُمَا اخْتَلَفَا فِي حَدِيثِكُمْ (1) فَقَالَ الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وأَفْقَهُهُمَا وأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وأَوْرَعُهُمَا ولَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ قَالَ فَقُلْتُ فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لَا يُفَضَّلُ (2) وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ فَقَالَ يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَاتِهِمَا(3) عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا ويُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ إِلَى أَنْ قَالَ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمْ مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ قَالَ يُنْظَرُ فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وخَالَفَ الْعَامَّةَ فَيُؤْخَذُ بِهِ ويُتْرَكُ مَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ ووَافَقَ الْعَامَّةَ- قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْفَقِيهَانِ (4) عَرَفَا حُكْمَهُ مِنَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ ووَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقاًلِلْعَامَّةِ- والْآخَرَ مُخَالِفاً لَهُمْ بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُؤْخَذُ فَقَالَ مَا خَالَفَ الْعَامَّةَ فَفِيهِ الرَّشَادُ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِيعاً قَالَ يُنْظَرُ إِلَى مَا هُمْ إِلَيْهِ أَمْيَلُ حُكَّامُهُمْ وقُضَاتُهُمْ فَيُتْرَكُ ويُؤْخَذُ بِالْآخَرِ قُلْتُ فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامُهُمْ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعاً قَالَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَرْجِئْهُ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ)(5).

وأما المرفوعة فقد رواها ابن أبي جمهور الإحسائي في عوالي اللئالي عن العلامة مرفوعاً إلى زُرَارَة بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَاقِرَ علیه السلام فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ؟. فَقَالَ: (يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ ودَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ

ص: 444


1- . في الفقيه: حديثنا (هامش المخطوط).
2- . في الفقيه: ليس يتفاضل (هامش المخطوط).
3- . وفي بعض النسخ: روايتهم.
4- . كتب المصنّف في الهامش عن التهذيب: إن كان المفتيين غَبِيَ عليهما معرفة حكمه.
5- . المصدر السابق؛ ص106-107.

فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ فَقَالَ علیه السلام خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وأَوْثَقِهِمَا فِي نَفْسِكَ فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ فَقَالَ انْظُرْ إِلَى مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ وخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيمَا خَالَفَهُمْ فَقُلْتُ رُبَّمَا كَانَا مَعاً مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوِ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ واتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً موافقين [مُوَافِقَانِ] لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مخالفين [مُخَالِفَانِ] لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ علیه السلام إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذُ بِهِ وتَدَعُ الْآخَر)(1).

والبحث عن هاتين الروايتين يقع من جهات:

الجهة الأولى: في سنديهما

أما المرفوعة فقد قيل أنه لا إشكال في سقوطها سنداً لما فيها من الرفع, بل قالوا بأنّ هذه الرواية لم توجد في كتب العلامة التي بأيدينا، والجبر بالعمل غير معلوم. ولكن يمكن القول بأنها إذا كانت ساقطة سنداً ولا اعتبار بها فلا مبرّر للحديث عن معارضتها مع المقبولة والكلام في تقديم بعض المرجّحات وتأخيرها. وقد أخذ ذلك حيزاً في كلماتهم وليس ذلك إلا من جهة الوثوق بصدورها كما سيأتي بيانه. وأما المقبولة فقد يقال بسقوط سندها عن الحجية أيضاً باعتبار عدم توثيق عمر بن حنظلة.

ولكن يمكن الجواب عنه:

أولاً: وثاقة عمر بن حنظلة كما عليه جمع من العلماء لوجوه عديدة، منها ما ورد في رواية يَزِيدَ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : إِنَّ عُمَرَ بْنَ حَنْظَلَة أَتَانَا عَنْكَ بِوَقْتٍ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : ( إِذاً لَا يَكْذِبَ عَلَيْنَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فَقَالَ: صَدَق)(2).

ص: 445


1- . عوالي اللئالي؛ ج4 ص133.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص85.

وهو ظاهر في وثاقة عمر بن حنظلة عند الإمام علیه السلام ، إلا أن يقال بأنّ يزيد بن خليفة نفسه ممن لم يوثق فلا يمكن الإعتماد على هذه الرواية في توثيق عمر بن حنظلة.

ويمكن الجواب عنه بأنّ صفوان بن يحيى يروي عن يزيد وهو ممن لا يروي إلا عن ثقة كما هو معروف, فإذا ثبت وثاقة يزيد بن خليفة في الوثوق بروايته يصح إثبات وثاقة عمر بن حنظلة أيضاً.

ثانياً: إعتناء المشايخ الأجلاء من المحدثين والفقهاء في كلّ طبقة بهذه الرواية ضبطاً وعملاً وبحثاً.

ثالثاً: وقوع صفوان بن يحيى في الطريق.

رابعاً: تلقيهم هذه الرواية بالقبول حتى أسموها بالمقبولة.

وغير ذلك من القرائن مِمّا يوجب الوثوق بصدورها، ومن جميع ذلك يتبين صحة سند المقبولة.

الجهة الثانية: في ذكر الإشكالات عليها وهي:

الإشكال الأول: إنّ المقبولة وردت في مورد الحكومة والقضاء فلا تشمل غيرها.

وفيه: إنها تنصّ في أنّ المدار على منشأ الحكم ودليله من دون أن يكون لنفس الحكم من حيث هو موضوعية خاصة، ويدلّ على ذلك قول السائل (فإنْ كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم) وقول الإمام علیه السلام (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك)، وغير ذلك مِمّا هو ظاهر في ذلك أو نصّ فيه, ولا فرق حينئذٍ بين كون الدليل دليلاً للحكم أو للفتوى فتشمل جميع الأحاديث المتعارضة الصالحة للدليلية مطلقاً.

ص: 446

الإشكال الثاني: معارضة المقبولة بمرفوعة زرارة؛ حيث ذكر في الأخيرة الشهرة أول المرجّحات، بخلاف المقبولة التي وردت الشهرة بعد صفات الراوي؛ مع أنّ سيرة العلماء على تقديم الشهرة في الترجيح على سائر المرجّحات مطلقاً.

وفيه: إنه لا اختلاف بينهما؛ فإنّ أول المرجّحات الخبرية هي الشهرة نصاً وفتوى, ففي المقبولة ذكرت الشهرة أول المرجّحات الخبرية أيضاً، وإنما ذكرت الصفات للحاكم من حيث أنه حاكم لذكر منصب الحكومة في صدر المقبولة لا للخبر المتعارض من حيث أنه خبر متعارض؛ فيكون الترجيح بالصفات في المقبولة للحاظ أحد الحكمين على الآخر لا الروايتين. ويرشد إلى ذلك قوله علیه السلام (الحكم ما حكم أعدلهما وأفقههما)؛ وهو ظاهر فيما ذكرناه كظهور قوله علیه السلام : (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه) فتكون الشهرة أول المرجّحات الخبرية، فلا تنافي بين المقبولة والمرفوعة، وما استقرعليه عمل المشهور من تقديم الشهرة على جميع المرجّحات, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الإشكال الثالث: إختصاص المقبولة بزمان الحضور لقوله علیه السلام في ذيلها (فأرجئه حتى تلقى إمامك).

وفيه: إنّ التعبيرات في الروايات مختلفة؛ ففي المقبولة (حتى تلقى إمامك)، وفي موثق سماعة (حتى يلقى من يخبره)، وفي خبر آخر (حتى يأتيكم بيان من عندنا)، وفي خبر رابع (حتى ترى القائم فيرد عليه).

والمستفاد من جميع ذلك أنه ليس ملاقاة الإمام ورؤية القائم علیه السلام موضوعية، بل المناط كله في الوصول إلى الحجة المعتبرة الصادرة عن المعصوم علیه السلام .

ص: 447

وبعد التأمل في مجموع الأخبار الواردة عنهم علیهم السلام وردّ متشابهاتها إلى محكماتها يظهر بوضوح أنّ الحجة المعتبرة عنهم علیهم السلام إنَّما هي التخيير بعد التكافؤ من جميع الجهات.

وقد تقدم أنه لم يزد ما صدر عن الأئمة الهداة علیهم السلام في حكم التعارض على ما ارتكز في العقل من العمل بالراجح، ثم التخيير. بل جميع ما صدر عنهم إرشاد إلى الفطرة وداعٍ إليها. وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الثالثة: في تحديد مفادها

لا إشكال في أنهما تتضمنان على مرجحين زائداً على ما دلّت عليه رواية الراوندي من المرجّحات؛ وهما الترجيح بالشهرة والترجيح بالصفات مع ما عرفت من الفرق بين تقديم أحدهما على الآخر في الروايتين. وقد عرفت الجواب عنه، وإنما الكلام في كيفية الترجيح بهذين المرجحين.

فقد ناقش جملة من المحققين في استفادة الترجيح بالشهرة, حيث ذهبوا إلى أنّ المراد بالشهرة التواتر والإستفاضة في النقل, وفي مثل ذلك تسقط الرواية المعارضة لدليل قطعيّ عن الحجية لشذوذها مقابل الترجيح بالشهرة، فلا يكون الأخذ بالمشهور من باب الترجيح بل يكون من باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

والحقّ أنّ ذلك غير صحيح, وذلك لأنّ الشهرة بأيّ معنى أخذت سواء كانت الشهرة في الرواية أم الشهرة في الفتوى ليست هي المساوقة مع قطعية الصدور؛ إذ لا يناسب فرض السائل من إمكان اشتهار الروايتين المتعارضتين معاً. ولو فرض ذلك لم يبق مجال بعد ذلك للترجيح بالأعدلية والأوثقية كما هو واضح.

ودعوى أنّ الشهرة الروائية حيثما توجد في المتعارضين معاً لا يحصل القطع بالصدور فيها؛ مدفوعةٌ بأنّ هذا يتم فيما إذا كان يستبعد صدور أحاديث متعارضة من الأئمة علیهم السلام ،

ص: 448

ولكن عرفت أنه لا استبعاد في صدورها عنهم بعد ابتلاءهم بظروف التقية وغيرها من الملابسات التي كانت تضطرهم إلى الإحتياط والتحفظكما تقدم بيان ذلك مفصلاً, فلا يؤثر مجرد تعارض الخبرين المشهورين بحسب الظهور في حصول القطع أو الإطمئنان بصدورهما معاً أثراً معتداً به.

ثم إنه قد يقال بأنّ سياق المرفوعة يشير إلى الشهرة الفتوائية؛ لأنّ ذكر الترجيح بالصفات فيها يأبى أن يراد بها الشهرة الروائية, إذ لو كان المراد ذلك لكان المناسب أن يرجح ما كان مجموع رواته أعدل وأصدق، مع أنّ الوارد في تعبير الإمام علیه السلام (خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك)، وجاء في تعبير السائل (أنهما عدلان مرضيان) وهو ظاهر في ملاحظة الراويين المباشرين، وهذا يدل على استفادة الترجيح بالشهرة الفتوائية منها. وهذا بخلاف المقبولة فإنّ احتمال إرادة الشهرة في الرواية منها أظهر من عبارة (فإنْ كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم).

ولكن الصحيح أنّ إطلاق الخبرين يشمل الشهرتين كما سيأتي بيانه.

الجهة الرابعة: عرفت أنّ المقبولة والمرفوعة تميزتا عن معتبرة الراوندي باشتمالهما على الترجيح بالشهرة والترجيح بالصفات، وقد اتفقتا في إثبات جميع المرجّحات التي وردت فيهما إلا أنهما تختلفان في موارد:

المورد الأول: إنّ المقبولة بدأت الترجيح بالصفات وثنّت بالشهرة، بينما في المرفوعة عكس ذلك، فيقع بين إطلاقيهما تعارض من هذه الناحية. وقد ذكر المحقق الأنصاري قدس سره (1) أنه يمكن العمل بالمقبولة بحكم المرفوعة التي تقضي بتقديم المشهور على الشاذ؛ باعتبار أنّ المقبولة مشهورة، بخلاف المرفوعة التي لم تنقل إلا عن عوالي اللئالي مرفوعاً إلى زرارة.

ص: 449


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص781.

واعترض عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (1) بأنّ هذا مستحيل؛ إذ يلزم منه سقوط المرفوعة عن الحجية, وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه يكون محالاً.

ويرد عليه: ما عرفت من أنه لا تعارض بين المقبولة والمرفوعة في هذا المورد.

وعلى فرض وجوده فليس على نحو التباين، بل بنحو العموم من وجه بمعنى التعارض بين إطلاق الترجيح بكلّ من المرجّحين المتعاكسين فيهما مع إطلاق الآخر؛ فإنّ المقبولة تثبت الترجيح بالصفات سواء كان الآخر مشهوراً أم لا، والمرفوعة تثبت الترجيح بالشهرة سواء كان الآخر واجداً للصفات أم لا, فيتعارضان في خصوص ما إذا كان أحدهما واجداً للصفات والآخر مشهوراً.

وعلى فرض التكافؤ بين المقبولة والمرفوعة؛ إما يقتضي التساقط بناءً على المشهور أو الرجوع إلى التخيير.ولكن تقدم أنّ الترجيح بالشهرة من أقوى المرجّحات عند العقلاء، وعليه إجماع العلماء فلا تصل النوبة إلى التكافؤ والتخيير، أو نقول بأنّ الترجيح بالمرجّحات المنصوصة يشمل العامّين من وجه فتصحّ دعوى الشيخ الأنصاري قدس سره , وأما إذا قلنا بأنّ المرجّحات الواردة في هذه الأخبار مخصوصة بالتعارض السندي فلا وجه لترجيح المقبولة على المرفوعة بكونها مشهورة.

وقد فصّل السيد الصدر قدس سره (2) بين صورتين:

إحداهما؛ افتراض كون المقبولة مشهورة من دون أن تكون المرفوعة واجدة لمزية صفتية. وفي هذه الحالة نحكم بتقديم المقبولة في مادة التعارض لدخول المرفوعة في مادة الإفتراق،

ص: 450


1- . نهاية الدراية؛ ج6 ص316.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص376-377.

وبالتالي تكون المرفوعة بإطلاقها في مادة الإفتراق لهذا المورد من موارد التعارض قد خصصت مادةَ اجتماعهما مع المقبولة فلا يلزم من وجوده عدمه. كما لا يلزم من إسقاط مادة اجتماعهما تخصيصهما بالفرد النادر لبقاء مورد الإقتران، ولا موجب لفرض ندرتها.

والأخرى؛ فرض كون المرفوعة أرجح من حيث صفات الراوي من المقبولة وإنْ كانت هذه أشهر, وفي هذه الحالة لا يتم ما أفاده الشيخ قدس سره لأنّ ترجيح المقبولة على المرفوعة بالشهرة عملاً بالمرفوعة ليس بأولى من ترجيح المرفوعة على المقبولة بالصفات عملاً بالمقبولة.

والحقّ أنّ ما ذكره قدس سره لا يجدي شيئاً؛ لأنّ الصورة الأولى يستلزم منها أن لا تكون النسبة عموم من وجه بين المقبولة والمرفوعة؛ فإنْ فرض عدم كون الأخيرة واجدة للصفات فلا تشملها المقبولة فيتعين العمل بها حتى تعارضها, وأما الصورة الثانية فالمشهور بين العلماء أنّ الشهرة من أقوى المرجّحات؛ فعند التعارض بين المرجّحات تُقدَّم المشهورة على غيرها، وعليه تتقدم المقبولة على كلّ حال.

وأما ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من محذور الاستحالة فهو غير وارد؛ فإنّ الإستحالة المذكورة موطنها التكوينيات والواقعيات دون الإعتباريات التي منها المقام.

وعلى فرضه لا مانع من سقوط الدليل في نقطة، ويكون حجة في نقاط أخرى لأنّ المرفوعة قد اشتملت على عدة مرجحات وتضمنت إطلاقات متعددة، فإذا كانت في مورد تتعارض مع المقبولة وتتقدم الأخيرة عليها من أجل تطبيق مضمون المرفوعة عليها لا يستلزم منه عدمه, لأنَّه إنَّما كان التقديم في هذه المرتبة دون بقية المراتب.

هذا كله بناءً على افتراض التعارض بين المرفوعة والمقبولة واستحكامه بينهما.

أما إذا أمكن الجمع بينهما جمعاً عرفياً فلا إشكال؛ فإنَّه يمكن الجمع بينهما بوجود مقبولة عند العرف كالتخصيص والتقييد ونحو ذلك، وله وجوه عديدة يمكن افتراضها في دليلي

ص: 451

الترجيح المختلفين، وهي:

1- أن يقتصر كلٌّ منهما على مرجّح غير ما تكفّله الآخر؛ كما إذا كان في أحدهما (خذ بما اشتهر بين أصحابك)، وورد في الآخر (خذ بما يرويه أعدلهما).

2- أن يقتصر إحداهما على مرجّح، ويذكر الآخر مرجّحين أحدهما غير ما ذكر في الأول؛ كما جاء في إحداهما (خذ بالمشهور)، وورد في الآخر (خذ بما يرويه الأعدل وإنْ لم يكن فبالمشهور).

3- نفس الحالة السابقة ولكن على عكسها؛ بأن كان المرجح الثاني هكذا: (خذ بالمشهور وإنْ لم يكن فبالأعدل).

4- أن يذكر كلٌّ من الدليلين كلا المرجّحين مع التعاكس في الترتيب كما هو الحال في المرفوعة والمقبولة, واستحكام التعارض إنَّما يكون في الحالة الأولى التي تكون المعارضة بنحو العموم من وجه دون الحالات الثلاثة الأخرى لأنّ الحالة الثانية يكون الدليل المشتمل على مرجحين فيها أخصّ مطلقاً من دليل الترجيح فيقيّد به، وفي الحالة الثانية لا تعارض بينهما أصلاً لأنّ الدليل المشتمل على المرجّح الأول فقط ساكت عن وجود ترجيح آخر طولي لا ينفيه.

وفي الحالة الرابعة يكون لكلّ واحد من الدليلين المتعاكسين ظهوران؛ ظهور إطلاقي يقتضي تقدُّم المرجّح الأول على المرجّح الثاني، وظهور عرفي في أنّ المرجح المذكور أولاً ليس متأخراً رتبة عن المذكور ثانياً، بل إنه إما مقدم عليه أو في عرضه، وإلا لما قُدِّم عليه في التسلسل. وهذا الظهور أقوى من الإطلاق فالتعارض واقعاً بين الظهور الإطلاقي وهذا الظهور العرفي، وهو مقدم على الظهور الآخر كما تقدم بيانه في موارد الجمع العرفي.

ص: 452

هذا إذا كان الترتيب في كلام الإمام علیه السلام ابتداءً، وأما إذا استفدنا من كلامه علیه السلام الترتيب عن طريق الترتيب في سؤال الراوي فقد لا يكون الجمع العرفي المزبور واضحاً لاحتمال أنّ جواب الإمام علیه السلام كان على عكس ترتيب سؤال الراوي.

والصحيح أن يقال: إنّ كلّ ذلك من الفرضيات التي هي بعيدة عن كلمات الأئمة علیهم السلام ، ولا بدَّ من الرجوع حينئذٍ إلى عمل الأصحاب وفهمهم لما ورد في الأحاديث, ولكن مِمّا يهون الخطب أنّ هذا البحث برمّته مبني على الفرض كما عرفت. وقد أحسن السيد الوالد قدس سره صنيعاً حيث أهمل البحث لعدم الجدوى فيه.المورد الثاني: الإختلاف بين المقبولة والمرفوعة في الصفات التي جعلت وجوهاً للترجيح في كلّ منها؛ فالمقبولة تضمنت الترجيح بأربع صفات وهي: الأعدلية والأفقهية والأصدقية في الحديث والأورعية. وأما المرفوعة فقد ذكرت صفتين: الأعدلية والأوثقية.

والأصدقية إنَّما تكون بالنسبة إلى الحديث؛ لأنَّه القابل للتفاضل بأن يكون أحد الروايتين يصدر منه الكذب الجائز شرعاً أحياناً, والآخر لا يصدر منه حتى ذلك ولا تكون الأصدقية بالنسبة إلى نفس مطابقة الواقع لأنَّها تتصف بالوجود والعدم ولا تقبل الشدة والضعف حتى يتحقق فيها التفاضل.

كما أنه يمكن إرجاع الأورعية إلى الأعدلية باعتبار أنها الإستقامة على جادة الشرع والإلتزام بها فيكون المراد بالأورعية مزيد الإستقامة وشدة الإلتزام، فلا فرق بينهما من هذه الجهة فتصير الصفات الترجيحية ثلاثة في المقبولة.

وحينئذٍ؛ إنْ قلنا بأنّ الصفات في المقبولة لأجل ترجيح أحد الحكمين على الآخر؛ فلم يكن تعارض بينها وبين المرفوعة, وأما إذا قلنا أنها لترجيح أحد الخبرين؛ فإن استظهرنا من الروايتين أنه لا خصوصية لهذه الصفات، وإنما ذكرت أمثلة لوجود المزية العقلائية

ص: 453

الموجبة للترجيح وقرب أحد الخبرين للواقع من الآخر, كما عليه جمعٌ من العلماء. وقد تقدم في بداية بحث التعارض منه من الأمور العرفية الدائرة في محاورات الناس وخطاباتهم، وانّ أصل الترجيح في المتعارضين عقلاني في الجملة، وكذلك يكون نوع الترجيح أيضاً؛ فلا اختصاص بما ورد في المقبولة والمرفوعة وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله.

وعليه؛ فلا إشكال أيضاً في عدم تحقق التعارض بينهما, لأننا استفدنا من تعدد الصفات المذكورة المثالية فيلغي الخصوصية لها فيكون المقصود الترجيح بكل مزية يوجب قرب أحد الخبرين إلى الواقع.

وأما إذا جمدنا على النصّ؛ إما من جهة استظهاره من النصّ، أو للشك في استظهار المثالية، أو استظهرنا المثالية في المقبولة بالخصوص بقرينة قوله: (قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منها على الآخر)؛ واستظهرنا الخصوصية في المرفوعة فبناءً على ذلك كلّه يقع التعارض بينهما؛ فإنّ أحدهما يقتصر على اثنين ويحكم بالرجوع إلى المرجّحات الأخرى عند فقدهما بخلاف الآخر. والعلاج لهذا التعارض يتحقق بتقييد أحدهما بالآخر فتكون هذه المرجّحات في عرض واحد، فلا تصل النوبة إلى المرجّحات الأخرى إلا بعد فقدها جميعاً.

ثم إنّ المراد من الأوثقية شدة الإعتماد عليه؛ كما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره وله أسباب عديدة ربما تكون الأصدقية أحدها.المورد الثالث: إنّ المقبولة والمرفوعة قد اشتركتا في ذكر مرجّحين؛ وهما الشهرة ومخالفة العامة ويقع التعارض بينهما من ناحيتين:

الأولى: المعارضة بالعموم من وجه وبين نفس المرجحين؛ حيث إنّ مقتضى كلّ منهما تقدمه على الآخر, وقد تقدم حكمه آنفاً في المورد الثاني.

ص: 454

الثانية: التعارض بلحاظ مورد افتراق كلّ من المرجحين بأن كان أحدهما موافقاً للكتاب -مثلاً- وكان الآخر مخالفاً للعامة بعد تساويهما في الصفات. وحكم هذه الصورة هو تقييد إطلاق المرجح الثالث بما إذا لم يوجد المرجح الثاني فيكون المرجح الثالث في طول المرجح الثاني.

وهناك صور أخرى في المقام وقع الخلاف فيها لا حاجة إلى ذكرها, هذا إذا لم نقل بتقديم مرجح الشهرة على سائر المرجّحات.

المورد الرابع: الإختلاف بين المقبولة والمرفوعة في الترجيح بمخالفة العامة وموافقة الكتاب. والكلام فيه يقع في نقاط:

النقطة الأولى: إنّ ظاهر الخبر كونهما مرجحين مستقلين كما فهمه العلماء لاختلاف الروايات فيهما؛ فإنّ بعضها ذكرت أحد الوصفين دون الآخر كالمرفوعة, وإنْ كان ذلك خلاف ظاهر حرف (الواو) الدال على كون الموضوع للترجيح الوصفين معاً.

النقطة الثانية: التعارض المتصور لاجتماع الوصفين أو انفرادهما في كلّ من المتعارضين عديدة، وربما تبلغ ستة عشر صورة حاصلة من ضرب الأربعة في أحد الخبرين؛ اجتماع الوصفين وفقدهما، وهذا وحده وذاك وحده في الأربعة في الآخر، والأربعة منها مكررات والباقي اثنتا عشرة والتي ينبغي بحثها:

1- صورة تعارض المزيتين؛ والظاهر الطولية لما دلّ على أنّ مخالف الكتاب زخرف وباطل ونحو ذلك.

2- صورة ما إذا كان في أحد الخبرين كلتا المزيتين, وفي الآخر مزية واحدة وفيها تفصيل.

ص: 455

النقطة الثالثة: إنّ المقبولة قد ذكرت الترجيح بالصفات أولاً، ثم ذكرت الترجيح بالشهرة، ثم ثلّثت بموافقة الكتاب فتكون مخالفة العامة المرجّحَ الرابع. بينما في المرفوعة تكون مخالفة العامة المرجّحَ الثالث, فإنَّه بناءً على الطولية بينهما تكون مخالفة العامة مقيّدة بقيدين، ولكن في المقبولة مقيّدة بثلاثة قيود؛ وهو عدم الترجيح بموافقة الكتاب، فلا بُدَّ حينئذٍ من تقييد المرفوعة بالمقبولية, هذا إذا دلّت المقبولة على مرجحية الصفات, وأما إذا فرضنا عدم مرجّحيتها فالمقبولة والمرفوعة تتفقان في المرجّحين الأول والثالث وتختلفان في المرجّح الثاني وهو الترجيح بالشهرة, وبعد وقوع التعارض بين إطلاقيهما بنحو العموم من وجه؛ المقتضي بعد التساقط عرضيتهما وتأخّر المرجّح الثالث عنهما معاً.المورد الخامس: قد ورد في المقبولة بعد الترجيح بمخالفة العامة ترجيحُ ما يكون قضاتهم وحكامهم أبعد عنه، وترك ما يكون أميل لهم، مع إنه لم يرد هذا في المرفوعة بينما ورد فيها الأمر بأخذ ما فيه الحائطة للدين.

والظاهر عدم التنافي بينهما, لأنّ المرفوعة مطلقة والمقبولة هي المقيدة فيحمل المطلق على المقيد هذا إنْ لم نقل بأنّ المتفاهم عرفاً أنّ المخالفة العامة لها مراتب أدناها الإبتعاد عما هو أميل لحكامهم وقضاتهم ويكفي هذه المرتبة في الترجيح.

المورد السادس: إنه قد أمرت المقبولة عند فقدان جميع المرجّحات بالإحتياط والوقوف عند الشبهة وإرجاء الواقعة إلى أن يلقى الإمام علیه السلام بينما أمرت المرفوعة بالأخذ بما فيه الحائط للدين, ومع تساويهما من هذه الجهة حكم بالتخيير بينهما.

والظاهر أنه لا اختلاف بينهما لما يلي:

أولاً: إنّ الإرجاء يلازم الإحتياط في المسألة الفرعية من حيث كونه أصلاً عملياً إنْ لم يكن الأمر بالإحتياط في المرفوعة ترجيح الخبر الموافق للاحتياط فيكون فتوى بالإحتياط وسيأتي بيانه.

ص: 456

ثانياً: ما تقدم من أنّ الأمر بالإحتياط أو الرجوع إلى الإمام علیه السلام من أجل استبيان الحجة المعتبرة الصادرة عن الإمام علیه السلام والمستفاد من جميع أخبار المقام بعد ردّ متشابهاتها إلى محكماتها يظهر بوضوح أنّ الحجة المعتبرة عندهم إنَّما هو التخيير بعد التكافؤ من جميع الجهات فلا تعارض بين هذين الخبرين من هذه الجهة.

ثم إنه هل المستفاد من المرفوعة هو الترجيح بموافقة الإحتياط, أو التساقط والرجوع إلى أصالة الإحتياط في المسألة الفرعية؟.

قد يقال بأنّ الظاهر من المرفوعة هو الترجيح بموافقة الإحتياط دون التساقط والرجوع إلى أصالة الإحتياط في المسألة الفرعية لظاهر قوله علیه السلام (خذ بما فيه الحائطة لدينك) فإنّ المراد بالإسم الموصول (ما) هو الحديث الموافق للإحتياط، والأمر بأخذه إرشاد إلى حجيته في مقابل الآخر, وهذا هو معنى الترجيح ولا سيما مع فرض الراوي بعد ذلك أنّ الحديثين معاً موافقان للإحتياط أو مخالفان فإنّ ذلك ينسجم مع نظر الراوي إلى الحديث الذي هو المفاد المطابقي للكلام.

وقيل: إنّ ذلك بالنظر إلى مفردات الحديث, وأما إذا كان بلحاظ مجموع ما يستفاد من الخبر ولو التزاماً بحيث يشمل نفي الآخر فليس الأمر كذلك؛ فإذا كان نظر الراوي إلى المجموع فإنَّه لم يتحقق فرض كون الحديثين معاً موافقين للإحتياط في مقابل كونهما معاً مخالفين له, لأنَّه إنْ أُريد الموافقة المطلقة فهي مستحيلة مع فرض التعارض كاستحالة المخالفة المطلقة، وإنْ أريد الموافقة من وجه المساوقة للمخالفة من وجه كذلك فلا يتصور في قباله شقّ آخر حينئذٍ, ولكن الصحيح أنهخلاف ظاهر الرواية وهذا بخلاف ما إذا كان نظر الراوي إلى المفاد المطابقي خاصة فإنَّه يحمل فرض موافقة الحديثين للاحتياط على الموافقة ولو من ناحية.

ص: 457

مثال ذلك: ما إذا لو دلّ خبر على وجوب التمام، وخبر آخر يدل على وجوب القصر فإنَّه يحمل فرض مخالفة الخبرين للإحتياط على المخالفة المطلقة؛ كما إذا دلّت رواية على أن مواطن التخيير بين القصر والتمام ثلاثة: مكة والمدينة ومسجد الكوفة, ودلّت رواية أخرى على أنها ثلاثة وهي مكة المكرمة والمدينة المنورة والحائر الحسيني, وعلى هذا يتبين أنّ فرض الحديثين معاً موافقين للإحتياط أو مخالفين له لا يساوق عدم إمكان الإحتياط حتى يقال بأنّ الحجية التخييرية ضرورة يلتجئ إليها المولى في فرض عدم إمكان إجراء أصل الإحتياط، بل يلائم مع إمكان الاحتياط.

وعلى ذلك يكون التفكيك بين صورة كون أحد الحديثين موافقاً للإحتياط والآخر مخالفاً له وبين صورة كون كلا الحديثين على نحو واحد من جهة الإحتياط موافقة أو مخالفة والإلتزام بالتساقط في الصورة الأولى دون الصورة الثانية على خلاف الإرتكاز العرفي لمناسبات الحجية, فإنّ مجرد كون أحد الخبرين موافقاً للإحتياط دون الآخر لا يكون سبباً لأسوئية حال الخبرين وسقوطها عن الحجية معاً.

والحق؛ إنّ ما ذكر من وجه كون الأمر بالإحتياط ظاهر في حجية ما هو الموافق للإحتياط وترجيحه على الآخر فيكون مرجحاً، وما قيل في وجه التساقط والرجوع إلى الإحتياط في المسألة الفرعية؛ كلّ ذلك لا يرفع الإجمال من هذه الجهة لاحتمال الأعمّ منها فلا بُدَّ من الرجوع إلى مجموع ما دلّ على ذلك مع القرائن.

والمستفاد من جميع ما دلّ على الأخذ بما وافق الإحتياط؛ أنها مضافاً إلى المعارضة بينها كالمقبولة والمرفوعة وغيرها، وكون المورد ما لا يمكن فيه الإحتياط، وكونه خلاف المشهور وخلاف سهولة الشريعة وسماحتها؛ أنه إرشاد إلى حسنه ولا يستفاد أكثر من ذلك فليس فيه ما يخالف بناء العقلاء وسيرتهم.

هذا ما ذكره الأصوليون في الخبرين المتقدمين وهو لا يخلو من نقاش وتعقيد وبعد عن ظاهرهما.

ص: 458

أمور ختامية

وفي الختام نذكر أموراً ترتبط بالخبرين مضافاً إلى ما تقدم:

الأمر الأول: المرجّحات المذكورة في المقبولة ثلاثة: سندية ومضمونية وجهتية.

والأولى: كالأعدلية والأصدقية وكون الخبر مشهوراً.

والثانية: كموافقة الكتاب والسنة.والثالثة: كمخالفة العامة. ومقتضى ذكرها في سياق موافقة الكتاب كونها من المرجّحات المضمونية أيضاً فينطبق عليها المرجح المضموني والجهتي معاً، ولا محذور فيه.

وأما بحسب الأفراد فهي ثمانية:

1- الأعدلية.

2- الأفقهية.

3- الأصدقية.

4- الأورعية.

5- الشهرة.

6- موافقة الكتاب.

7- موافقة السنة.

8- مخالفة العامة.

الأمر الثاني: إنّ المرجّحات الثلاثة المذكورة هي الدائرة في المتعارضات العرفية, وتنحصر عند العرف إلا أنّ المرجح المضموني عبارة عن موافقة أحد المتعارضين لما تعارض عندهم من القوانين المعتبرة لديهم خالقية كانت أو خلقية فكما أنّ أصل الترجيح في المتعارضين في الجملة عقلائي يكون نوع الترجيح كذلك.

ص: 459

الأمر الثالث: قد عرفت أنّ الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة من المرجّحات المعروفة في الأخبار عند علمائنا الأبرار.

وقد يقال بأنها وردت لتمييز الحجة عن غير الحجة لأنّ الشاذ وموافق العامة ومخالف الكتاب ساقط عن الإعتبار بالمرة، فلا وجه لعدّها من المرجّحات.

ويرد عليه: إنه قد عرفت في بحوثنا السابقة أنّ معنى الترجيح هو جعل الحجة الإقتضائية فعلية وليس الترجيح باعتبار الحجية الفعلية من كلّ جهة في واحد من المتعارضين لعدم تصورها كذلك فيها.

وبعبارة أخرى: الترجيح هو إبداء المانع عن الحجية، لا إسقاط المقتضي لها وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات؛ فمن قال بأنها من المرجّحات؛ أي لما فيه اقتضاء الحجية، ومن قال بالعدم يعني في مقام الحجية الفعلية من كل جهة. وقد تقدم ما يتعلق بذلك فراجع.

الأمر الرابع: من المعلوم الذي لا يخفى على أحد أنّ المعصوم علیه السلام إنَّما يدعو إلى كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وهو المفسّر والمبيّن له, والداعي إلى الشيء والمفسّر والمبيّن له لا يعقل أن يكون مخالفاً ومبايناً معه. فعدم صدور مخالف الكتاب من المعصوم علیه السلام من الفطريات التي تلازم دعوته إلى الكتاب وليس من التعبديات, وكذلكيكون الحال بالنسبة إلى مخالف العامة أيضاً, لأنّ أهل كلّ مذهب وملّة -حقاً كان أم باطلاً- لا يقدمون على أخذ شيء من أحكام مذهبهم من المذهب المخالف لهم إلا إذا ثبت الإتحاد فيه بالدليل المعتبر.

وهذا أيضاً من المسلّمات إنْ لم يكن من الفطريات، وإنما أوجب الشارع ذلك احتفاظاً على المذهب الحقّ وحرصاً منه على عدم دخول المذاهب الفاسدة فيه.

وهذا هو أهمّ المصالح والمقاصد في أخذ ما يخالف العامة وجعله من المرجّحات, وهذا الوجه هو من أحسن الوجوه التي قيل في هذا الحكم وهو الأمر بأخذ مخالف العامة, كما

ص: 460

ذكره السيد الوالد قدس سره (1) وقد ذكر فيه وجوه أخرى لا تخلو عن نقاش، وهي :

1- إنه من التعبد المحض.

وفيه: ما لا يخفى، فإنَّه بعيد عن الأذهان.

2- إنّ لنفس المخالفة من حيث هي موضوعية خاصة.

وفيه: إنْ رجع إلى ما قلناه فلا بأس به فهو يحتاج إلى دليل, وهو مفقود.

3- إنّ الصواب في خلافهم.

وهو حقّ في الجملة ويرشد إليه ما ورد في بعض النصوص.

4- إنّ الموافق صدر تقية.

وهو يرجع إلى ما قبله.

5- إنه لأجل إلقاء الخلاف وإنْ كان الموافق أقرب إلى الواقع ويشهد له صحيح زرارة قال أبو جعفر علیه السلام : (لَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَصَدَّقَكُمُ النَّاسُ عَلَيْنَا ولَكَانَ أَقَلَّ لِبَقَائِنَا وبَقَائِكُم)(2).

وفي خبر أبي خديجة عن أبي عبد الله علیه السلام : (لَوْ صَلَّوْا عَلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ عُرِفُوا فَأُخِذُوا بِرِقَابِهِمْ)(3).

وهذا الوجه حسن ويتوافق مع الوضع السياسي القائم في عصر الأئمة علیهم السلام بالنسبة إليهم وإلى شيعتهم.

وهناك وجوه أخرى ذكروها في الكتب المبسوطة, فراجع.

ص: 461


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص183.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص65.
3- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج4 ص137.

ولا يخفى أنّ طرح الموافق للعامة عند التعارض لا ينافي وجوب الأخذ به أحياناً للتقية لأنّ كلّ واحد من الطرح والأخذ جهتي، لا أن يكون مطلقاً.

الأمر الخامس: قد عرفت أنّ موافقة الكتاب من المرجّحات، وتقدم المراد من الموافق والمخالف له وذكرنا أنّ المنساق منها ما كان الحكم مذكوراً في الكتابوكان الخبر موافقاً له، ولكن يمكن أن يكون المراد منها عدم المخالفة ويدلّ عليه بعض الأخبار. وإذا أردنا من عدم المخالفة مطلق عدم المخالفة ولو على نحو السالبة بانتفاء الموضوع فيصير عدم المخالفة حينئذٍ أوسع دائرة من الموافقة كما لا يخفى.

ولا ريب أنّ في الكتاب مبيّنات ومتشابهات، والمراد بالمخالف له ما كان مخالفاً للمبينات لا المجملات والمتشابهات لأنَّها حمالة لوجوهٍ يستدل بها كلّ واحد من المذاهب الإسلامية لنصرة مذهبه.

كما أنّ المرد بالمخالفة ما تحيّر أبناء المحاورة في الجمع بينهما إلا ما أمكن الجمع بينهما كالمطلق والمقيد والعموم والخصوص ونحوهما مِمّا تقدم بيانه. كما أنّ المراد بموافقة السنّة أيضاً كذلك، أي؛ السنّة المبيّنة التي علم صدورها من النبي صلی الله علیه و آله و سلم والتي لم يصدر من المعصومين علیهم السلام خلافها بالمعنى الذي تقدم.

وعرفت أنّ الوجه في ذلك كله يرجع إلى ما ذكرناه من أنّ الداعي إلى الشيء والحافظ والمبيّن له لا يخالفه ولا يصدر منه ما ينافيه. فالمراد بالكتاب الكتاب المبيّن بذاته أو المشروح بالسنّة المعتبرة.

الأمر السادس: المعروف بين العلماء أنّ الشهرة هي أقوى المرجّحات كما صرح به صاحب الجواهر في أول كتاب الكفارات(1)، كما أنّ سيرة المشهور قد استقرت فتوى وعملاً على

ص: 462


1- . جواهر الكلام؛ ج33 ص171.

تقديم الشهرة على جميع المرجّحات. وقد عرفت أنه لا فرق بين المقبولة والمرفوعة في اعتبار الشهرة أول المرجّحات الخبرية, ولا تنافي بينهما من هذه الناحية وإن تقدم الترجيح بالصفات عليها في المقبولة، ولكنّا ذكرنا أنها صفات الحَكَمين دون الخبرين المتعارضين الذي هو موضوع بحثنا لابتداء المقبولة بالحكم والقضاء فاقتضى ذكر صفات الحاكم والقاضي قبل ذكر مرجّحات الخبرين المتعارضين.

قال السيد الوالد قدس سره : (المشهور بين الفقهاء فتوىً وعملاً أنّ الشهرة أقوى المرجّحات، فلا يبقى مجال معها لإعمال سائر المرجّحات, كما لا موضوع معها لإطلاق أدلة التخيير ويشهد له العرف أيضاً فإنّ الظاهر أنهم يقدمون الشهرة الإستنادية في أمورهم المعاشية والمعادية على سائر المرجّحات في موارد التعارض)(1).

ثم أنّ الشهرة على ثلاث أقسام:

الأول: الشهرة الإستنادية؛ والمراد بها إحراز استناد القدماء إلى الرواية لاعتمادهم عليها في الإحتجاج والعمل بها.الثاني: الشهرة النقلية؛ والمراد منها نقل الرواية في الجوامع والمجامع من غير إحراز استنادهم إليها في العمل والإحتجاج.

الثالث: الشهرة الفتوائية؛ وتعني اشتاهر الفتوى بشيء عند القدماء مطابقة للرواية من غير إحراز استنادهم إليها.

ولا ريب في أنّ الشهرة الإستنادية جابرة لضعف الرواية، وهذا القسم هو المتيقن من المقبولة والمرفوعة ويشهد له الإعتبار أيضاً, لأنّ اعتماد جمع من خبراء الفن على شيء من فنّهم واحتجاجهم به مِمّا يوجب حصول الإطمئنان العقلائي باعتبار ذلك الشيء, كما أنّ

ص: 463


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص186.

إعراضهم كذلك عن خبر صحيح موهن له. ولعلّ السر في ذلك يرجع إلى أنّ إعراض الخبراء عما هو صحيح يكشف ظفرهم عما يوجب الوهن.

أما الشهرة النقلية والشهرة الفتوائية فقد تكونان من المرجّحات، وقد لا تكونان كذلك، ولا كلية في ذلك إلا إذا حصل الوثوق والإطمئنان بالصدور من الشهرتين فلا إشكال في اعتبارهما حينئذٍ وإن اختلف العلماء في كفاية الوثوق بالصدور في العمل بالروايات، أو أنه لا بُدَّ من الإعتماد على السند في تصحيح الرواية والعمل بها. والمعروف المشهور بين المحققين من الفقهاء هو الأول وعليه اعتمادهم في الفقه، ومن يقول بالثاني فإنَّه يتعب نفسه في سبيل توثيق الخبر أو تضعيفه ولكنه يرجع في كثير من الأوقات إلى الطريق الأول حيث لا يشعر حتى في تضعيفاته للرواة وتوثيقهم. وقد تقدم بعض الكلام في مبحث حجية الخبر, فراجع.

الأمر السابع: وقع الكلام في الترتيب بين المرجّحات المنصوصة فقد ذهب إليه جمعٌ باعتبار كونها مذكورة في المقبولة مرتبة؛ ويترتب على ذلك أنه إذا اجتمع في أحد الخبرين المتعارضين مزية وفي الآخر مزية أخرى؛ فإنْ كان بينهما ترتيب يقدّم السابق من المزيتين على اللاحق منهما، وإذا اجتمعت مزيتين في إحداهما وفي الآخر مزية واحدة هي في الترتيب أسبق مرتبة منها يقدّم صاحب المزية على صاحب المزيتين كما تقدم بيان ذلك.

وذهب آخرون إلى عدم الترتيب بين المرجّحات لوجوه:

1- إنه بناءً على أنّ المرجّحات لا موضوعية فيها، بل هي طريق إلى الوثوق بالصدور والوصول إلى الواقع, كما سيأتي الكلام فيه. فإنَّه لا يبقى موضوع للبحث عن الترتيب بينها لفرض تحقق مناط الترجيح في الجميع فكلّ مرتبة أوجبت الإطمئنان المزبور تتقدم على الأخرى وإنْ كانت دونها في الرتبة، وإنْ ذكرنا أنّ الشهرة من أقوى المرجّحات.

ص: 464

2- إنّ مقتضى الأصل عدم الترتيب.

3- إنّ ما ذكر في وجه اعتبار الترتيب مخدوش لأنّ الترتيب الذكري اللفظي أعمّ من الواقعي مع أنها وإنْ ذكرت في المقبولة مرتبة ولكنه لم تذكر في سائر الأخبار ولم تكن كذلك وسياقها آبٍ عن التخصيص.قد يقال: إنه مع وجودها في المتعارضين من دون ملاحظة الترتيب يشك في شمول إطلاق دليل التخيير له فلا بُدَّ من مراعاة الترتيب.

وجوابه: إنه لا وجه للشك مع إحراز اتحاد المناط وإطلاقات الأدلة في المرجّحات الآبية عن التقييد, وحينئذٍ؛ إنْ أوجبت إحداهما الإطمئنان بالوثوق بالصدور والقرب إلى الواقع فيؤخذ به ويترك الآخر إلا الشهرة فإنها مقدمة على جميع المرجّحات كما تقدم بيانه.

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا وجه للبحث عن نسبة المقبولة والمرفوعة إلى رواية الراوندي وتفصيل الكلام فيه فإنَّه من التطويل الذي لا طائل تحته.

وبذلك ينتهي البحث عن أخبار الترجيح؛ وحاصله؛ إنّ المرجّحات الثابتة هي موافقة المشهور عند التعارض من جهة السند, وموافقة الكتاب عند تعارض المضمون، ومخالفة العامة من ناحية المعارضة الجهتية بمراتبها. ولا ريب أنّ موافقة الكتاب هي الأصل الأولى بالعمل بالروايات فمع المخالفة لا يلاحظ سائر المرجّحات حينئذٍ.

الطائفة الثالثة: أخبار التوقف والإرجاء
اشارة

وقد يستدل بها على لزوم التوقف عند تعارض الخبرين وعدم الأخذ بشيء منها, ويمكن تقسيمها بحسب ألسنتها إلى صنفين:

الصنف الأول: ما ورد بلسان الأمر بالردّ إلى الأئمة علیهم السلام

مثل ما رواه في السرائر(1) مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ نَقْلًا مِنْ كِتَابِ مَسَائِلِ الرِّجَالِ لِعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام :

ص: 465


1- . السرائر؛ ج2 ص584.

أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا عَنْ آبَائِكَ وأَجْدَادِكَ علیهم السلام قَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِيهِ فَكَيْفَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِهِ أَوِ الرَّدُّ إِلَيْكَ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَكَتَبَ علیه السلام : (مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَوْلُنَا فَالْزَمُوهُ ومَا لَمْ تَعْلَمُوا(1) فَرُدُّوهُ إِلَيْنَا)(2).

وروى عنه(3) في الصحيح عن محمد بن عيسى عن أبي الحسن الثالث علیه السلام .

وغيرهما من الأخبار التي ورد فيها المضمون، وقد وردت في مورد اختلاف الأحاديث وتعارضها وهي ليست واردة في طبيعي الخبر حتى يكون مفادها نفي حجية خبر الواحد حتى تخصّص بأدلة حجية خبر الثقة.

والظاهر من هذه الأخبار كون السؤال فيها عن تحديد الموقف بسبب الإختلاف في الموارد التي يلزم الأخذ بالخبر لولا الإختلاف فتكون واردة في خصوص مورد التعارض بين دليلين معتبرين في نفسهما.وأُشكل على الإستدلال بها:

أولاً: بضعف السند للجهل بحال صاحب كتاب (مسائل الرجال) الذي ينقل عنه المحقق ابن إدريس الحلي.

وفيه: إنه صحيح السند منقولٌ في بصائر الدرجات عن محمد بن عيسى الذي هو والد أحمد بن محمد بن عيسى اليقطيني الثقة كما هو المعروف، وبشهادة محمد بن عيسى بأنّ الخطّ خطّ الإمام الهادي علیه السلام . نعم, لم ينقله الحر العاملي في وسائله وإنما نقله جامع أحاديث الشيعة والمجلسي في البحار عن بصائر الدرجات، كما أنه ورد في رسائل الشيخ الأنصاري قدس سره .

ص: 466


1- . وفي بعض النسخ؛ تعلموه.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص119-120.
3- . بصائر الدرجات؛ ج1 ص524.

وأما الإشكال في مؤلف مسائل الرجال فهو مردّد بين الثقة والمجهول حاله, ولكن المنقول عن المحقق ابن إدريس اعتبار ابن عياش الجوهري فيكون معتبراً على الأصحّ, وأما إذا كان الحميري فهو ثقة بلا إشكال. فالإشكال السندي غير صحيح.

ثانياً: إنها تختص بعصر الحضور حيث يمكن الردّ إليهم واستظهار الواقع، فلا موضوع لها في عصر الغيبة.

وقد ذكرنا فيما سبق أنه غير تام؛ إذ أنّ المراد بلقاء الإمام علیه السلام هو استبيان الحقّ لا لخصوصيته في مقابلته.

ثالثاً: إنها مخصّصة بما تمّ من أدلة الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ونحوهما، كما أنها معارضة بأدلة التخيير على فرض تمامية الدلالة.

رابعاً: إنّ الإرجاء على فرض قبوله إنَّما يتمّ فيما إذا أمكن ولكنه لا يتم فيما لم يمكن الإرجاء، بل لا بُدَّ من العمل بأحد الخبرين.

الصنف الثاني: جملة من الأخبار التي وردت بلسان الأمر بالوقوف عند الشبهة

جملة من الأخبار التي وردت بلسان الأمر بالوقوف عند الشبهة وإرجاء الواقعة إلى حين لقاء الإمام علیه السلام .

ونذكر منها:

1- موثق سَمَاعَةَ؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ؛ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ والْآخَرُ يَنْهَاهُ عَنْهُ؛ كَيْفَ يَصْنَعُ؟. قَالَ: (يُرْجِئُهُ حَتَّى يَلْقَى مَنْ يُخْبِرُهُ فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَلْقَاهُ)(1).

2- ذيل مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة في أخبار الترجيح؛ حيث ورد فيها بعد افتراض السائل تساوي الخبرين المتعارضين من جميع المرجّحات؛ (إِذَا كَانَ ذَلِكَ

ص: 467


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص108.

فَأَرْجِئْهُ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ)(1).1- معتبرة الْمِيثَمِيِّ عَنِ الإمام الرِّضَا علیه السلام فِي حَدِيثِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ قَالَ علیه السلام : (وَمَا لَمْ تَجِدُوهُ فِي شَيْ ءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَرُدُّوا إِلَيْنَا عِلْمَهُ؛ فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ؛ ولَا تَقُولُوا فِيهِ بِآرَائِكُمْ, وعَلَيْكُمْ بِالْكَفِ والتَّثَبُّتِ والْوُقُوفِ, وأَنْتُمْ طَالِبُونَ بَاحِثُونَ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْبَيَانُ مِنْ عِنْدِنَا)(2).

وغيرها من الأخبار.

ويمكن الإشكال على الإستدلال بها بأنه مضافاً إلى مخالفتها للمشهور ومعارضتها بالمقبولة وغيرها مِمّا دلت على الترجيح لأنَّها تدل على التوقف بعد فقدان المرجّحات.

فيكون المراد بالتوقف في هذه الروايات ترك العمل ابتداءً وترك الإستعجال بالعمل أو الطرح من غير تأمُّل وتفحُّص في الأخبار والقرائن، فلا بُدَّ من التفحُّص حتى العثور على المرجّح ثم العمل بالراجح, فليس المراد بالتوقف أبداً وترك العمل مطلقاً حتى لو ثبت الرجحان في أحدهما.

كما أنّ المراد من الإرجاء حتى يلقى من يخبره، أو حتى يأتي البيان من عندهم، أو حتى يشرح لكم، أو حتى تلقي صاحبك هو العرض على ما ورد عنهم علیهم السلام في هذا الباب، ثم الحكم بالحصول مِمّا يستفاد من المجموع. وحينئذٍ؛ إذا ظفرنا بالمتعارضين وعرضناهما على المقبولة وغيرها مِمّا يدل على الترجيح يصدق أننا توقفنا؛ أي تركنا العمل بدواً ورجعنا إلى بيانهم علیهم السلام وما شرحوه لنا وغير ذلك من العناوين التي وردت في أخبار التوقف.

ص: 468


1- . المصدر السابق؛ ص106-107.
2- . المصدر السابق؛ ص165.

ومن هنا يمكن القول بأنّ التوقف عن العمل في المتعارضين الذين يكونان مورد الإبتلاء ملازم عرفاً للإحتياط والتفحّص عن القرائن الموجبة لصحة العمل بأحدهما, والمقبولة وغيرها تشتمل على تلك القرائن فيكون لها الحكومة على غيرها من الأخبار التي تدل على التوقف الذي هو عبارة عن التثبّت والتفحّص عما يوجب الرجحان والإطمئنان بأحدهما كما عرفت.

وما يقال: بأنّ التوقف ذكر في خبر سماعة قبل المرجّح وهو مخالفة العامة، وفي المقبولة ذكر بعد تمام المرجّحات فيتعارضان من هذه الجهة؛ (مدفوعٌ) بأنّ ما ذكر في خبر سماعة هو التوقف عن العمل من أجل الفحص والظفر بالمرجّح، وما ذكر في المقبولة إنَّما هو التوقف بعد الظفر به واليأس عن غيره فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يتعارضان.

والحاصل؛ إنه ليس في أخبار التوقف ما يخالف بناء العقلاء وسيرتهم في المتعارضين.

خاتمة؛ وفيها تنبيهات
التنبيه الأول: التعدّي في المزايا المنصوصة

ذكرنا إنه وقع الخلاف في التعدي عن المزايا المنصوصة التي وردت في أخبار العلاج, فقد نسب إلى أكثر المجتهدين القول بوجوب الترجيح بكلّ مزية وإنْ لم تكن منصوصاً عليها عدا الفاضل النراقي(1), والسيد صدر الدين شارح الوافية, والفاضل التوني(2)، والمحدث البحراني(3)، بل الإخباريين قاطبة, والحقّ هو القول الأول وعدم وجوب الاقتصار على المزايا المنصوصة فقط.

ص: 469


1- . مناهج الأصول؛ ص317-318.
2- . الوافية؛ ص333.
3- . الحدائق؛ ج1 المقدمة الأولى، والدرر النجفية؛ ج1 ص313-314.

ويمكن الإستدلال عليه بوجوه:

الوجه الأول: مقتضى القاعدة إنّ ما يّشك في حجّيته هو عدمها للأدلة الأربعة الدالة على حرمة العمل بما وراء العلم، وقد خرج عن هذا العموم ذو المزية قطعاً لعموم أدلة حجية الأمارة بخلاف الفاقد لها فإنَّه يُشك في الخروج عن تلك القاعدة فيكون عملاً بالظنّ وبغير العلم.

ويمكن الجواب عنه بأنّه من الشك في شمول أدلة حجية الأمارة لغير المزية المنصوصة؛ فمقتضى القاعدة عدم حجيتها.

الوجه الثاني: الرجوع إلى قاعدة الإشتغال, لأنّ الأمر يدور بين تعيين الأخذ بذي المزية وبين التخيير بينه وبين الفاقد لها فيكون الأخذ بذي المزية موجباً للقطع ببراءة الذمة بخلاف الأخذ بالفاقد لها, والإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وأورد عليه: بأنّ المورد إنْ كان من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير فإنّ أصل البراءة يقتضي عدم التعيين لأنّ فيه كلفة زائدة، والأصل عدمها.

ويمكن الجواب عنه: بأنه إذا كانت أدلة الحجية شاملة لها فمقتضى القاعدة سقوطهما لا دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وإنْ لم تشملهما باعتبار إجمالهما إلا القدر المتيقن منها وهو ذي المزية، ولازم ذلك أن يكون الفاقد للمزية غير حجة.

فالصحيح في الجواب عن هذا الوجه كما ذكره المحقق الرشتي قدس سره (1) من أنّ احتمال تعيين ذي المزية لا يجعل وجوب العمل بالآخر مشكوكاً إذ المفروض شمول الدليل لهما قطعاً, وإلا خرج المقام من باب التعارض فلا يصحّ ترجيح أحدهما على الآخر إلا بقيام دليل خاص يدلّ على أنّ هذه المزية موجبة لوجوب العمل به بعينه, والمفروض عدم قيام الدليل على ذلك إذ ليس في البين سوى دليل المتعارضين.

ص: 470


1- . بدائع الأفكار؛ ص438.

الوجه الثالث: إنّ ذا المزية أرجح من غيره، والعدول من الراجح إلى المرجوح قبيح عقلاً, وقد استدلّ جمع من فطاحل العلم باعتبار أنّ ذا المزية أهمّ، والفاقد لها مهم، ويقبح تقديم المهم على الأهمّ.

ويرد عليه: إنّ الأخذ بالراجح إنَّما هو بعد شمول دليل الحجية لهما وإلا لما صارا متعارضين فيكون تقديم الراجح بحكم العقل ممنوعاً لوجود ملاك الحجية فيهما. وقاعدة تقديم الأهمّ على المهم لا مجرى لها في المقام, وذلك لأنّ الأهمّ الذي يقدّم ما كان وجوبه في نظر الشارع واهتمامه به أكثر؛ فهو الذي لا ريب في وجوب تقديمه. ومن المعلوم أنّ الأهمية لا تثبت إلا من الشرع والمفروض أنه لم يقم دليل على الأهمية لذي المزية.

الوجه الرابع: إنّ بناء العقلاء والفطرة على وجوب ترجيح ذي المزية عند التعارض.

وأورد عليه بأنّ أرباب الصناعات إذا كان الخالي من المزية أقلّ كلفة أو أقرب تناولاً وألين عريكة ونحو ذلك فإنهم يرجعون إليه وإلا لبارت سلعة المفضولين.

وفيه: إنّ فيه مسامحة واضحة؛ فإنّ بناء العقلاء شيء والتسامح في موارد لأجل غرض خاص شيء آخر. وسيأتي توضيح الكلام فيه.

الوجه الخامس: ما عن أمير المؤمنين علیه السلام : (دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ)(1). وغيره مِمّا ورد في الروايات بهذا المضمون فإنّ المستفاد منها أنه إذا دار الأمر بين أمرين في أحدهما ريب، وليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به.

والمراد بالريب هو الإضافي لا الحقيقي؛ بمعنى أنّ الخبر الذي ليس فيه ريب مثل الريب الذي في الخبر الآخر يجب الأخذ به, فيدلّ هذا الخبر الشريف على قاعدة كلية في تعارض الأخبار وهي وجوب الأخذ بكلّ ما فيه نوع أقريبة للواقع.

ص: 471


1- . عيون الحكم والمواعظ؛ الحكمة4655.

وذكر الشيخ الأنصاري قدس سره (1) بعد نقل الحديث النبوي المزبور أنه دلّ على وجوب الأخذ بالخبر الذي لا ريب فيه مثل ريب المعارض له؛ ومثل لذلك بما إذا فرض كون أحد المتعارضين منقولاً بلفظه والآخر منقولاً بالمعنى؛ وجب الأخذ بالأول لأنّ احتمال الخطأ والسهو في الأول منفي بخلاف الثاني, وكذا إذا كان أحدهما أعلى سنداً بقلّة الوسائط إلى غير ذلك من المرجّحات.

وأورد فيه بأنّ ما ذكره في المقام خلاف ما ذكره في باب البراءة من أنّ الأمر في الحديث للإرشاد وهو تابع للمرشد إليه الذي هو العقل, والعقل في المقام يدعو إلى التخيير بينهما ويستحسنه؛ فإنّ المولى إذا جعل طريقاً لمعرفة مطلوبه ولميخصصه بتلك المزية فإنّ العقل يحكم بعدم وجوب العمل بها نظير الإحتياط في تحصيل مطلوب أولى.

يضاف إلى ذلك أنه لو دلّ الحديث على الوجوب لكان يقتضي الإحتياط أو العمل بما هو الأحوط من مدلولي المتعارضين ولو كان في غير ذي المزية.

كما أنه لو ثبت حجية كلّ منهما عند الشارع فإنَّه لم يكن في الأخذ بالمرجوح ريب بالنسبة إلى الراجح إذا لم يكن له بيان في أرجحيته, وهناك وجوه أخرى لا تخلو من نقاش.

ومن أجل ذلك أصبح من يقول بالإختصاص بالمرجّحات المخصوصة, والمزايا المنصوصة بعدم الدليل على وجوب الترجيح بالمرجّحات غير المخصوصة فتمسكوا بأدلة حرمة العمل بالظنّ.

قال المحدث البحراني(2): ذكر علماء الأصول من وجوه الترجيحات في هذا المقام بما لا يرجع أكثره الى محصول.

ص: 472


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص782.
2- . الحدائق الناضرة؛ ج1 ص90.

والمعتمد عندنا على ما ورد من أهل بيت الرسول علیهم السلام من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات، إلا أنها بعد لا تخلو من شوب الإشكال، فلا بد من بسط جملة منها في هذا المجال، والكلام فيها بما يكشف نقاب الإجمال وينجلي به غياهب الإشكال.

فنقول: مما ورد في ذلك:

1- إنه بناءً على هذا التساقط عند تعارض الأمارتين فإنْ كان في البين أصلاً موافقاً لأحدهما فلا يجوز الترجيح بالمزية غير المنصوصة؛ لاستلزامه إلغاء الأصل المعتبر بأمر لم يقم عليه دليل.

وإنْ بنينا على التخيير الشرعي للأخبار المطلقة الدالة على التخيير فلم يصحّ الترجيح أيضاً؛ لأنَّه يلزم منه تقييد إطلاق أدلة التخيير بما لم يثبت ترجيحه وشرعيته، ولا ريب أنّ الأصل عدم التقييد.

وإنْ بنينا على التخيير العقلي لا الشرعي وقلنا بأنّ الدليل الذي دلّ على حجيته المتعارضين يقتضي العمل بهما؛ وحيث لا يمكن العمل بهما معاً وكان الممكن من امتثال الخطاب المتعلّق بهما هو وجوب العمل بأحدهما تخييراً لمساواتهما في دليل الحجية.

إلا أن يقال بأنّ المتزاحمين إذا كان أحدهما أرجح فإنّ العقل يحكم بتقديمه مع تساويهما في دليل طلبهما.

وفيه: إنّ ذلك يختص بما إذا علم بأرجحية أحدهما عند المولى فيقدّم الراجح حينئذٍ, أما مع الشك فلا يحكم العقل بوجوب تقديمه لقبح العقاب بلا بيان. وما نحنفيه يكون كذلك فإنّ المفروض أنّ المزية لم يعلم إرادة الشارع الترجيح بها وإنما يحتمل ذلك والأصل يقتضي عدم إرادتها ويقبح عقابه على المخالفة بترك العمل بذي المزية.

ص: 473

2- ما رواه الصدوق في العيون عن أحمد بن الحسن الميثمي في حديث طويل عن الإمام الرضا علیه السلام : (فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَوْجُوداً حَلَالًا أَوْ حَرَاماً فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ، ومَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ، فَاعْرِضُوهُ عَلَى سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : فَمَا كَانَ فِي السُّنَّةِ مَوْجُوداً مَنْهِيّاً عَنْهُ نَهْيَ حَرَامٍ ومَأْمُوراً بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم أَمْرَ إِلْزَامٍ فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم وأَمْرَهُ ومَا كَانَ فِي السُّنَّةِ نَهْيَ إِعَافَةٍ أَوْ كَرَاهَةٍ ثُمَّ كَانَ الْخَبَرُ الْأَخِيرُ خِلَافَهُ فَذَلِكَ رُخْصَةٌ فِيمَا عَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم وكَرِهَهُ ولَمْ يُحَرِّمْهُ فَذَلِكَ الَّذِي يَسَعُ الْأَخْذُ بِهِمَا جَمِيعاً وبِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَسِعَكَ الِاخْتِيَارُ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ والِاتِّبَاعِ والرَّدِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم ومَا لَمْ تَجِدُوهُ فِي شَيْ ءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَرُدُّوا إِلَيْنَا عِلْمَهُ فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ ولَا تَقُولُوا فِيهِ بِآرَائِكُمْ وعَلَيْكُمْ بِالْكَفِّ والتَّثَبُّتِ والْوُقُوفِ وأَنْتُمْ طَالِبُونَ بَاحِثُونَ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْبَيَانُ مِنْ عِنْدِنَا)(1).

وموضع الإستشهاد هو قوله علیه السلام : (وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه... )، وهو صريح في المنع من الترجيح بغير المنصوص، فلا يجوز الأخذ به.

3- إنّ جميع الأخبار التي تدلّ على التخيير بين المتعارضين والتي تدلّ على الترجيح بالمرجّحات المنصوصة متفقة على عدم الترجيح بالمزية غير المنصوص عليها, إذ لو كان ذلك جائزاً لما أمره بالإرجاء في بعضها ولما خصّ الأخذ في بعضها بخصوص موافقة الكتاب وبعضها بموافقة السنة وإخراج ما عداهما, ولما أمر في بعضها بالتخيير.

وقيل بأنّ أخبار التخيير واردة في مورد السؤال بصورة التحيّر، ومع وجود المزية وإنْ كانت غير منصوصة لا تحيّر, فهي ظاهرة في خصوص هذه الصورة.

ص: 474


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص114-115.

وأورد عليه المحقق الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس سره (1) بأنّ مجرد وجود المزية في أحد الخبرين لا يرفع التحيّر، لأنّ الرافع له هو معرفة اعتبار الشارع لها لا مجرد وجودها.والصحيح أنّ كلاً من هذه الوجوه قابل للمناقشة ويتضح ذلك من مطاوي بحوثنا السابقة.

فالحقّ أن يقال: إنّ ما ذهب إليه جمهور الأصوليين هو الصحيح الذي يعتمد عليه فلا يختص الترجيح بالمزايا المنصوصة, بل يتعدى إلى كلّ ما يقبله العرف ويتقبله الطبع المستقيم من المزايا. قال السيد الوالد قدس سره : (وقع الكلام في أنّ المرجّحات المنصوصة هل تكون لها موضوعية خاصة- فلا يصحّ التعدي إلى غيرها- أو أنها ذكرت لأجل كونها موجبة للإطمئنان بالصدور غالباً، فيتعدى إلى كل ما كان كذلك؟ أقواهما الأخير، لأنّ اعتبار نفس الأمارة من حيث الطريقية المحضة فتكون المرجّحات أيضا كذلك، فكلما يوجب الإطمئنان العقلائي بالصدور يوجب الترجيح ما لم يردع عنه الشرع)(2).

وقد ذكرنا سابقاً بأنه لا وجه للتمسك بإطلاقات التخيير مع وجود محتمل الترجيح لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية.

ولا حاجة إلى الإستدلال على التعدي كما صنعه الشيخ الأنصاري قدس سره (3) وغيره بقوله علیه السلام : (إِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلَافِهِمْ)(4)؛ باعتبار أنّ إطلاقه يدلّ على أخذ كلّ ما كان فيه الرشد النسبي، وقوله علیه السلام : (خُذُوا بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيه)(5)؛ باعتبار أنّ ما

ص: 475


1- . أوثق الوسائل في شرح الرسائل (طبع قديم)؛ ص610، فرائد الأصول ؛ ج 6 ص326.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص184.
3- . فرائد الأصول؛ ج2 ص781.
4- . مقدمة الكافي؛ ج 1 ص9.
5- . المصدر السابق.

لا ريب فيه مطلقاً؛ يعني صدوراً ودلالةً وجهةً يختص بالنصوص القرآنية، فهو غير مراد، وأنّ المراد عدم الريب النسبي الإضافي, فيشمل كلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره, فيكون ترجيح بالنسبة إليه.

ووجه عدم الحاجة إلى ذلك هو عدم وجود ما يدلّ في الروايات على أنّ قوله علیه السلام : (الرشد في خلافهم)، أو قوله (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه)؛ من العلّة التامة المنحصرة المستقلة للحكم حتى يستفاد منه التعدّي إلى كلّ مورد فيه هذه العلة كالإسكار في حرمة الخمر، بل الظاهر إنه من قبيل بيان الحكمة والشك في ذلك يكفي في عدم استفادة العلية فإنَّه من المحتمل أن يكون المراد بقوله (لمجمع لا ريب فيه) أي عند الناس لا بالنسبة إلى الواقع، فإنّ الناس مجبولون على الأخذ بالمشهور لديهم مطلقاً.

فإذا كان المناط هو الوثوق بالصدور والإطمئنان فيمكن تحصيله من أمور كثيرة؛ منها ما ذكره المحدث العاملي قدس سره في خاتمة الوسائل في الفائدة الثامنة(1) مِمّايمكن تحصيل الوثوق بالصدور فراجع ما ذكره، فإنّ جملة منها مِمّا لا بأس به, ويشهد له قول الإمام الصادق علیه السلام لجميل بن دراج: (يَا جَمِيلُ لَا تُحَدِّثْ أَصْحَابَنَا بِمَا لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ فَيُكَذِّبُوكَ)(2).

وقول الإمام الرضا علیه السلام ليونس بن عبد الرحمن: (يَا يُونُسُ حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، واتْرُكْهُمْ مِمَّا لَا يَعْرِفُون)(3).

وغير ذلك من الأخبار؛ فإنَّه يمكن استفادة صحة التعدّي وتشهد له التجربة القطعية.

ص: 476


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج30 ص247.
2- . رجال الكشي؛ ص251.
3- . المصدر السابق؛ ص487.

إنْ قلت: إنّ أقصى ما يستفاد منه الظنّ بالصدور فإذا لم يقم دليل على اعتباره فالأصل يقتضي عدمه.

قلت: إنّ الظنّ إنْ قام على اعتباره الدليل فلا إشكال في صلاحيته للترجيح، كما أنه لا ريب في أنه إذا قام الدليل على عدم اعتباره فلا يصحّ التعويل عليه. وأما إذا لم يكن الظن من الأول ولا من الثاني فقد جرت سيرة الفقهاء على معاملة الترجيح معه أيضاً, فتراهم يقولون: (عليه الأكثر)، و(عليه جمع من القدماء)، و(كما عليه الشهيدان والمحققان) إلى غير ذلك من التعبيرات الكثيرة التي توجب الإعتماد. وكما أنّ عادة الفقهاء قد جرت على عدِّ الموافقة للأصل من المرجّحات، فراجع الجواهر وغيره.

ولعل الوجه في ذلك أنه مع وجود هذه الظنون يحصل الشك في شمول إطلاقات أدلة التخيير فلا يصحّ التمسك بها حينئذٍ، لا سيما مع ثبوت ملاك سائر المرجّحات فيها وهو حصول الإطمئنان في الجملة.

التنبيه الثاني: في بيان حكم المتعارضين بعد التكافؤ

ذكرنا في بداية بحث التعارض أنه كما أنّ حجية الخبر الموثوق به تكون ببناء العقلاء؛ كذلك لا بُدَّ أن تكون متمّمات الحجية وفروعها إنَّما يرجع فيها إلى بناء العقلاء. والتعارض وأحكامه من لوازم الحجية التي هي دائرة بين خطابات العقلاء وموجودة في محاوراتهم، ولا يعقل أن يكون هذا الأصل النظامي دائراً بينما تكون لوازمها وفروعها مغفولاً عنها لديهم مع كونها من مقومات محاوراتهم واحتجاجاتهم.

وقد تقدم أنّ الأنواع الثلاثة للمرجّحات ثابتة عند المتعارف في محاوراتهم, وحينئذٍ يقع البحث عن حكم المتعارضين بعد التكافؤ من جميع الجهات عند العقلاء وأنه بعد استقرار الحيرة لديهم؛ هل يختارون الإحتياط في العمل إنْ أمكن أو يتوقفون عنه مطلقاً, أو أنهم

ص: 477

يرجعون إلى التخيير بحكم فطرتهم, أو يرجعون إلى التساقط.وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك في بحوثنا السابقة, إلا أنّ الذي ينبغي البحث عنه في هذا التنبيه هو الكلام في التخيير لو فرض اختياره عند فرض التكافؤ وعدم رجحان أحد الخبرين على الآخر، أو افترضنا تمامية الإستدلال بأخبار التخيير في حالات التعارض مطلقاً, فهل الثابت في التخيير في المسألة الأصولية أو التخيير في المسألة الفقهية.

والبحث عن ذلك يقع من جهات:

الجهة الأولى: في الفرق بين التخييرين.

لا ريب في أنّ الحكم بالتخيير في حالات التعارض حكمٌ شرعي ظاهري، وليس هو تخيير واقعي وإنما البحث في أنه حكم تكليفيّ فرعيّ فيكون التخيير في المسألة الفقهية، أو أنه حكم وضعيّ أصوليّ فيكون التخيير في المسألة الأصولية؟.

والمراد بالحكم الوضعيّ الأصوليّ حجية أحد الخبرين المتعارضين إذا اختار المكلف أحدهما بالطرق التي تقدم البحث عنها. كما أنّ المراد بالحكم الفرعيّ الترخيص العمليّ للمكلفين في تطبيق أعمالهم وفق أحد الدليلين المتعارضين.

فيكون الفرق الثبوتي بين التخييرين هو أنّ الحكم العملي للمكلفين لا يتحدد في التخيير الأصولي بنفس ما هو المجعول التشريعي فيه، بخلاف التخيير الفقهي وإنما يحدده اختيار المكلف فيكون مفاده حجة عليه تعييناً بعد اختياره؛ فإذا كان أحد المتعارضين يدلّ على وجوب القصر في المواطن الأربعة واختاره المكلف صار حجةً عليه وأصبح تكليفه العملي وجوب القصر فيها, شأنه شأن سائر الأحكام التكليفية.

الجهة الثانية: إنه لا إشكال في معقولية التخيير الفقهي؛ كأن يرخّص المولى أن يطبّق العبد عمله على أحد الخبرين بنحو لا يخالفهما معاً.

ص: 478

وأما التخيير في المسألة الأصولية فقد اختلفوا في معقوليته، فقيل: إنه من سنخ ما يقال في الوجوب التخييري، وقيل: لا يعقل ذلك.

أما القول الأول؛ فإنّ الصياغة المعروفة في جعل الوجوب التخييري أحد وجهين؛ إما إيجاب الجامع بين الفعلين، وإما إيجاب كلّ منهما مشروطاً بترك الآخر. والأول يستبطن جعلاً واحداً، بينما الثاني يتضمن جعلين مستقلين. فقالوا أنّ المعقول في المقام هو الثاني لا الأول، والكلام فيهما وإن تقدم تفصيلاً.

وحاصل جميع ما ذكروه أنّ الإحتمال الأول غير معقول في جعل الحجية التخييرية كجعل واحد على حدّ جعل وجوب الجامع في الوجوب التخييري، بخلاف الإحتمال الثاني فمن المعقول جعل الحجية التخييرية كجعلين مشروطين.

والدليل على عدم معقولية الأول هو أنّ الغرض المطلوب في باب الوجوب التخييري بعث المكلف على إيجاد أحد الفردين من الجامع لا كليهما, وهذاالغرض إنَّما يحصل بتعلّق الوجوب بالجامع بنحو صرف الوجود، ويكفي هذا المقدار في بعث المكلف نحو الإتيان بفرد من الأفراد لأنّ الجامع لا يتحقق إلا بذلك، وهذا غير متحقق في الحجية التخييرية لأنّ الغرض في جعلها هو تخيير مفاد أحد الدليلين المتعارضين تعييناً؛ كما إذا لم يكن له معارض، وهذا المقدار لا يتحقق عن طريق جعل الحجية للجامع بين الخبرين، بل لا بُدَّ من نصب الجعل على شخص أحد الدليلين المتعارضين.

وأما الدليل على معقولية الوجه الثاني؛ هو أنّ جعل الحجية المشروطة في الطرفين معقول وينسجم مع الغرض المطلوب من الحجية التخييرية. ولكن الإشكال في كيفية تحديد الشرط لهذه الحجية بنحو لا يستوجب الجمع بين الحجّتين في بعض الأحيان؛ فقد ذكر المشهور أنّ الشرط عبارة عن التزام المكلف بأحد الخبرين, فكلّ ما التزم به من المتعارضين

ص: 479

يكون هو الحجة فعلاً عليه, ولا ريب أنّ العاقل لا يختار التزامين متهافتين فلا يتفق أن تجتمع في حقّه حجتان، وإنْ كان يجب عليه أحد الإلتزامين وجوباً طريقياً.

ولكن هذا المعنى وإنْ كان أمراً معقولاً في حدّ نفسه ولكنه لا يخلو عن غرابة في التشريع, إذ لم يكن فيه اختيار المكلف والتزامه شرطاً في حجية دليل مطلقاً.

وقد قيل: في دفع هذه الغرابة بتبديل الشرط وجعله عبارة عن ما يختاره المكلف مع لزوم أحد الإختيارين عليه. ولكنه لا يفي برفع الإستغراب لأنّ فيه تجويز التشريع وإعطاءه بيد المكلف.

والحقّ أن يقال: إنّ التخيير؛ إما تكويني محض، كما في دوران الأمر بين المحذورين مع عدم كون أحدهما قريباً, وإما عقلائي، كما في موارد تعارض الخبرين ونظائرهما, وأما شرعي كما في خصال الكفارات. والتخيير العقلائي إنَّما يصار إليه عند تعذّر جميع ما يوجب ترجيح أحد المتعارضين على الآخر. ومن هنا قلنا بأنه لا يختص التخيير بخصوص الأخبار، بل يشمل جميع موارد التعارض من أقوال الرجال وأهل اللغة والمفسرين وغيرها.

نعم؛ بناءً على كون التخيير شرعياً محضاً في المقام لاختص بخصوص الأخبار المتعارضة لاختصاص أدلة التعارض بها.

ولكن الصحيح أنها قد وردت في مقام عدم الردع عن طريق العقلاء, فما ذكره الأصوليون في المقام من التطويل الذي لا طائل تحته، وقد ذكرنا في بحوث الإجتهاد والتقليد وقلنا بمعقولية التخيير الفقهي والتخيير الأصولي باحتماليه, فراجع ما ذكرناه هناك.

ص: 480

الجهة الثالثة: لا ريب أنّ التخيير بكلا قسميه الأصولي والفقهي من وظيفة الفقهاء، وليس للعامي نصيب فيه, والفقيه إنَّما يفتي بالتخيير في المسألة الفقهية كحكم تكليفي ظاهري, وأما التخيير في المسألة الأصولية؛ فإن اختار الفقيه أحدالخبرين المتعارضين فهل يفتي المقلدين بالتخيير الأصولي فيجعل اختيار الخبرين على ذمة المكلف، أو يفتيهم بمفاد الخبر الذي اختاره وتعين عليه؟

أما الإحتمال الأول وهو الإفتاء بالتخيير الأصولي فقد يقال فيه:

إنّ الأحكام الأصولية مختصة بالمجتهدين ولا تثبت في حقّ المقلدين، ولكنه ليس بسديد كما ذكرناه في مباحث القطع.

وأما الإحتمال الثاني وهو إفتاؤه بمفاد الخبر الذي صار حجة في حقه؛ فتارةً؛ يلاحظ فيه كونه إخباراً منه بما أنزله الله وفرضه على عباده. وهو صحيح بعد فرض حجية الخبر الذي اختاره، فلا محذور بالنسبة إليه أن يخبر بمدلوله كحكم شرعي كما هو الحال في غير موارد التعارض. وأخرى؛ يلاحظ فيه كونه حجة على المقلدين بحيث يتعين عليهم الإلتزام به والسير عليه؛ فقد يستشكل في إثباته في المقام لأنّ التقليد ليس أمراً تعبدياً صرفاً وإنما هو أمر عقلائي، وبملاك رجوع الجاهل إلى العالم وإفتاء الفقيه بمفاد الخبر الذي أصبح حجة عليه مقابل الخبر الآخر لم يكن على أساس علم وخبرة مفقودٌ بالنسبة للمقلد، وإنما هو لمحض الرغبة والإختيار الشخصي، فالمقلد شأنه شأن المجتهد في أنه يختار أي واحد من الخبرين ويكون هو الحجة عليه.

ولكن يمكن أن يقال بأنّ هذا المقدار لا يكفي في جعل التخيير الأصولي بهذا المعنى من الشؤون التي يشترك فيها المجتهد والعامي, مع أنّ الدليل الذي ذكره مخدوش كما هو واضح، فالتخيير في المسألة الأصولية بمعنى اختيار الحجية من مختصات المجتهدين والعامي بمعزل عن ذلك.

ص: 481

الجهة الرابعة: في استفادة أحد التخييرين من الأخبار الواردة في المقام على فرض تمامية دلالتها.

وقد يقال باستفادة التخيير الأصولي بأحد وجهين:

الأول: ما ورد في بعض أخبار التخيير من التعبير بالأخذ كقوله علیه السلام : (فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ)(1). ومقتضى إطلاقه شموله للأخذ العملي والأخذ المفادي معاً، وهو مساوق مع الحجية الأصولية.

وهذا التقريب لا يتأتى في تلك الأخبار التي لم يرد فيه لفظ الأخذ؛ من قبيل قوله علیه السلام : (فَمُوَسَّعٌ عَلَيْكَ حَتَّى تَرَى الْقَائِمَ علیه السلام فَتَرُدَّ إِلَيْه)(2)؛ فإنّ السعة عرفاً مقابل التضييق، ولا ضيق عرفاً من عدم التخيير الأصولي وإنما الضيق في الإحتياط العملي فتكون السعة عبارة عن التخيير العملي الفقهي.الثاني: إستظهار ناظرية أخبار التخيير إلى دليل الحجية العام لتدارك قصوره عن شمول موارد التعارض فيكون مفادها جعل الحجية أيضاً؛ لا مجرد جعل التخيير العملي. وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك في بحوث الإجتهاد والتقليد, فراجع.

الجهة الخامسة: هل التخيير إبتدائي أو إستمراري؟

والظاهر هو الأول, فلا يكون التخيير استمرارياً, واستدل عليه بأنه بعد الأخذ بأحدهما يصير ذا حجة معتبرة فلا يبقى موضوع للتخيير حينئذٍ.

قد يقال بأنّ التخيير إستمراري, واستدلّ عليه تارة بأنه ظاهر أخبار التخيير لإطلاق قوله علیه السلام : (إذن فتخيّر)(3)؛ الشامل للإستمرار أيضاً.

ص: 482


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص122.
2- . المصدر السابق.
3- . عوالي اللئالي؛ ج4 ص133.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ الإطلاق فيه بدليٌ بلحاظ مجموع الوقائع كواقعة واحدة، فيكون معناه: إنّ في التعارض -لكلّ الوقائع- أنت مخيّر في الأخذ بأيهما شئت، فلا دلالة لهما على الإستمرار, وعلى فرض عدم استفادة الإطلاقين من الأخبار فكلّ من الشمولية والبدلية محتملة فيكون صرف التخيير هو المستفاد منها فتصل النوبة إلى الأصول العملية. وأخرى التمسك باستصحاب التخيير لإثبات الإستمرار.

وأورد عليه باختلاف الموضوع في القضيتين؛ إذ موضوع التخيير هو التحيّر، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر فلا يجري الإستصحاب.

وأشكل عليه: بأنه لم يرد في الأخبار كون الموضوع هو التحيّر، وعلى فرضه هو التحيّر في الحكم الواقعي وهو باقٍ وإن ارتفع التحيّر بالنسبة إلى الحكم الظاهري.

وهو غير سديد لما ذكرنا من أنّ التخيير في موارد التعارض إنَّما هو تخيير عقلائي، والعقلاء لا يرجعون إلى التخيير إلا بعد تكافؤ الخبرين المتعارضين، وتحقق الحيرة عندهم فإذا ارتفع التحيّر عندهم باختيار أحد الخبرين سقط الإختيار حينئذٍ بلا فرق بين التخيير الفقهي أو الأصولي. وتفصيل الكلام في ذلك من التطويل الذي لا طائل تحته.

التنبيه الثالث: في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي

قد عرفت أنّ الجمع العرفي عبارة عن التصرّف في الدليلين أو أحدهما بحيث إذا عرضناه على المتعارف من أهل اللسان يعترفون بأنه لا تعارض بينهما مع هذا النحو من التصرّف، ولكن بشرط أن تدلّ قرينة معتبرة على هذا التصرف والجمع.وذكرنا أنّ موارد الجمع العرفي هي الحكومة والورود والتخصيص والتخصّص والتقييد، وقد تقدم البحث في كلّ واحد منها. وقلنا بأنّ هذه الموارد هي من التعارض غير المستقر, بل قلنا أنه لا تعارض في البين أصلاً.

ص: 483

والكلام يقع في المقام في شمول أخبار العلاج لهذه الموارد لإطلاق لسانها؛ حيث لا تختص بالتعارض المستقر فتشمل التعارض غير المستقر؛ باعتبار أنّ الملاك في الرجوع إلى أخبار العلاج ليس هو التنافي في الحجية، بل يشمل ما إذا كان بين مدلولي الدليلين تعارضاً حقيقياً ففي هذا القسم وإنْ لم يكن التعارض سارياً إلى دليل الحجية ولكن الوارد في مفاد أخبار العلاج مطلق التعارض والإختلاف في الحديث، وهو ثابت في موارد الجمع العرفي أيضاً.

والحقّ؛ عدم تمامية ذلك لما عرفت في محلّه أنّ في موارد الجمع العرفي لم يثبت التعارض بين الدليلين عند العرف مع وجود هذا الجمع المقبول عندهم فلا تشملها أخبار العلاج لانتفاء موضوعه وهو التعارض فيها, وهذا واضح لا غبار عليه، ولكن القوم أطالوا الكلام في الردّ على البيان المتقدم بوجوه عديدة؛ وهي إنْ رجعت إلى ما ذكرناه كما لا يبعد ذلك وإن قصرت عباراتهم فهو, وإلا فهي قابلة للمناقشة لا حاجة إلى إيرادها, لأنَّه من التطويل. ويأتي مزيد بيان في التنبيه التالي.

التنبيه الرابع: في شمول أخبار العلاج لموارد التعارض بالعموم من وجه

وقد اختلف الأصوليون في ذلك فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى التفصيل بين المرجّحات السندية وبين المرجّحات الدلالية, فإنّ المرجّح السندي لا يأتي في العامّين من وجه, لأنّ تطبيقه؛ إما أن يستلزم إسقاط الخبرين في مادة الإفتراق لكلّ منهما وهو مِمّا لا موجب له, وإما أن يستلزم التبعيض في السند الواحد وهو غير معقول, وهذا بخلاف المرجّح الدلالي فإنَّه بالإمكان إعماله في مادة الإجتماع فقط لتعدد الدلالات.

ص: 484


1- . نقله في مصباح الأصول؛ ج3 ص427-429.

وذهب آخرون ومنهم السيد الوالد قدس سره (1) بأنّ حكم التعارض من الترجيح والتخيير يختص بالمتباينين فقط، وقد تقدم أنه لا يشمل العام والخاص ولا المطلق والمقيد لتحقق الجمع العرفي المعقول فيهما، بل تقدم عدم كونهما من التعارض في المحاورات أصلاً فيخرجان عنه تخصصاً.

وكذا لا تجري أحكام التعارض في موارد العموم من وجه لأنّ المتفاهم من أدلة المقام ما إذا لم يمكن الأخذ بالدليلين في الجملة؛ وهو ممكن في مورد الإفتراق من الدليلين، بل وكذا في مورد الاجتماع لأنّ المنساق من دليل حكم التعارض -ترجيحاً أو تخييراً- إنَّما هو في ما إذا لزم من الطرح والرجوع إلى الأصول العملية محذور شرعي. ولا يلزم ذلك في مورد الإجتماع من العامين من وجه, بل الشائع في المحاورات هو الطرح, ولا محذور فيه إلا لزوم التفكيك في العمل بمدلول الدليل ولا محذور فيه، بل هو شائع في الفقه كما لا يخفى والمختار هو القول الثاني.

وتمام الكلام في ذلك يقع ضمن أمور:

الأمر الأول: إنّ ما ذكره المحقق النائيني مخدوش.

وقد أورد عليه:

أولاً: بأنّ الدال وإنْ كان واحداً والدلالة متعددة إلا أنّ الأحكام المترتبة في باب النقل والأخبار بعضها يترتب على الدال وبعضها يترتب على الدلالة؛ والأول كما في حرمة الكذب فإنّ موضوعها الدال, فإذا قال (كلّ من في البلد قد خرج) كان كذباً واحداً, وبالتالي حراماً واحداً رغم تعدد الدلالات بعدد أفراد مَن في البلد، والثاني مثل حرمة الغيبة فإنّ موضوعها الدلالة فيتعدد بتعددها, كما إذا قال (كلّ هؤلاء فساق) ارتكب الحرمة بعدد أفرادهم.

ص: 485


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص190.

والحجية من قبيل الثاني لأنَّها حكم مترتب على الدلالة لا على الدال، فالعام من وجه وإنْ كان دالاً واحداً لكن دلالته في مادة الإجتماع غير دلالته في مادة الإفتراق، وكلّ منهما موضوع لحجية مستقلة بناءً على عدم التبعية بين الدلالات التضمنية في الحجية, فلا محذور في سقوطه عن الحجية في خصوص مادة الإجتماع لوجود ترجيح في معارضه.

وأورد عليه: إنّ في النقل والأخبار دالّين ودلالتين, فإنّ نقل الراوي دالّ وله مدلول واحد وهو صدور الحديث عن الإمام علیه السلام ، وحديث الإمام علیه السلام دالّ آخر وله دلالات عديدة بعدد ما يتضمنه من أحكام. وليس المقصود في المرجّح السندي ترجيح أحد كلامي المعصوم علیه السلام على كلامه الآخر بمرجّح حتى يقال أنّ الحجية تكون بلحاظ الدلالة وهي متعددة, وإنما المقصود ترجيح أحد الدالّين الأولين على الآخر؛ أي ترجيح نقل أحد الراويين على نقل الآخر، وكلّ من النقلين له دلالة واحدة ومدلول واحد.

ثانياً: إنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنّ إسقاط العام في مادة الإفتراق يكون بلا موجب فلا يمكن تطبيق المرجّحات السندية عليه، فما ذكره غير تام, لأنَّه لا بُدَّ من النظر إلى الأخبار العلاجية من حيث شمولها للعامين من وجه فإنْ فرض شمولها لهما وفرض عدم إمكان التفكيك بين مادة الإجتماع ومادة الإفتراق سقط العام حتى في مورد افتراقه، فلم يكن بلا موجب، بل هو بموجب أخبار العلاج, فما ذكره قدس سره لا يمكن المساعدة عليه.والحقّ؛ ما ذكرناه من عدم شمول أحكام التعارض علاجاً وتخييراً للعامّين من وجه في مورد الإجتماع فيسقطان إنْ لم يكن الجمع بينهما بوجه مقبول.

الأمر الثاني: قد يقال بأنّ التفكيك سنداً في مادة الإجتماع ومادة الإفتراق في موارد التعارض بالعموم من وجه ممكن ثبوتاً؛ وذلك لأنّ لكلٍّ من الروايتين شهادتين؛ شهادة

ص: 486

إيجابية بأنّ العام قاله الإمام علیه السلام ، وشهادة سلبية سكوتية بعدم استثناء الإمام علیه السلام مورد الإجتماع عن حكمه. والتعارض إنَّما يكون بلحاظ الشهادتين السلبيتين فيتعارض الحديثان, فإذا أسقط الشارع الشهادة السلبية لإحدى الروايتين أمكن بقاء الشهادة الإيجابية فيها على الحجية وبها يثبت حكم العام في مادة الإفتراق.

وهو صحيح ولكن إثبات الشهادتين يحتاج إلى دليل؛ وعلى فرض القبول في مادة الإجتماع فهو غير صحيح لما ذكرنا من أنّ مورد الاجتماع خارج عن أحكام التعارض تخصصاً, كما عرفت آنفاً.

الأمر الثالث: قسّم بعض الأصوليون(1) التعارض بنحو العموم من وجه إلى ثلاثة أقسام؛ فإما أن يكون كلاهما بالوضع، وإما أن يكونا بالإطلاق ومقدمات الحكمة، وإما أن يكون أحدهما بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة. وذكر بأنّ الأول؛ هو القدر المتيقن لتطبيق المرجّحات عليه بناءً على جريانها في التعارض غير المستوعب.

والثالث؛ يقدم فيه العموم الوضعي على الإطلاق الحكمي.

وأما الثاني؛ فقد استشكل في تطبيق المرجّحات عليه لأنّ المرجّحات إنَّما تثبت في الحديثين المتعارضين والإطلاق ليس حديثاً وإنما هو بحكم العقل ومقدمات الحكمة.

وقد تقدم بطلان ما ذكره لأنّ الإطلاق وإن استفيد من مقدمات الحكمة التي من جملتها السكوت عن القيد ولكنها مِمّا يوجب إيجاد الدلالة والظهور في الكلام, فيرجع الإطلاق إلى مدلول اللفظ عرفاً, وليس أمراً سكوتياً بحتاً.

وبعبارة أخرى: إنّ السكوت عن القيد حيثية تعليلية عرفاً لإيجاد الظهور للفظ والكلام. فما ذكره مخالف لفهم العرف.

ص: 487


1- . مباني الإستنباط؛ ج4 ص503.

يضاف إلى ذلك أنّ الإطلاق ومقدمات الحكمة إنَّما يرجع إلى حال المتكلم في مقام الكشف عن تمام مراده من خطابه, فليس المقصود من مقدمات الحكمة البراهين العقلية الخارجة عن مداليل الألفاظ.

هذا كله بناءً على اختصاص المرجّحات بالأخبار المتعارضة, وأما بناءً على التعميم لكلّ أمارة متعارضة -كما اخترناه- فلا فرق حينئذٍ بين المستفاد من اللفظأو من دليل معتبر عند العرف، فيشمل الإطلاق على فرض عدم استفادته من اللفظ.

التنبيه الخامس: تقدّم الترجيح بالمرجّحات السندية على المرجّح الجهتي

تقدم أنه لا تمايز بين المرجّحات وإنْ قلنا بأنّ أقوى المرجّحات هو المشهور، ولكن ذهب جملة من المحققين(1) إلى أنّ الترجيح بالمرجّحات السندية يتقدم على الترجيح الجهتي بالمعنى الأعمّ الشامل للترجيح المضموني.

وقد ذكروا في وجه ذلك أنّ الترجيح الجهتي إنَّما تصل النوبة إليه بعد الفراغ عن صدور الحديث فيكون الترجيح السندي في مرتبة متقدمة فلا يبقى موضوع للترجيح الجهتي.

ونحن في غنى عن ذلك بعدما عرفت من أنّ الملاك في قوة المرجّح هو أقربيته إلى الواقع وقوة الكشف فيه وما يورث الإطمئنان بالصدور.

ومن أجل هذا تعدّينا عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها وقلنا بأنّ المرجح المشهور من أقوى المرجّحات كما عليه جملة من الفقهاء، وألغينا الترتيب بين المرجّحات فراجع ما يتعلق بذلك في البحوث السابقة، إلا أنّ بعض الأصوليين(2) ذكر في المقام مقالاً لا بأس بذكره؛

ص: 488


1- . منهم الشيخ الأعظم قدس سره في فرائد الأصول؛ ج2 ص738.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص409 وما بعدها.

فقد ذكر بأنّ البحث تارةً؛ يكون بحسب ظهور دليل الترجيح في الترتيب بين المرجّحات، وأخرى؛ يكون بين المرجح السندي وغير السندي كما ورد في دليل خاص إذا لم يعرف وجود ترتيب بينهما، وثالثة؛ باعتبار المرجّحات المنصوصة لا باعتبار خصوصية فيها، بل لما يستلزم من تلك المرجّحات قوة أحد الدليلين في مقام الكشف.

وعلى ضوء هذه الفرضيات يختلف الموقف من تقديم المرجّح السندي على غيره.

أما على الفرض الثالث؛ وهو الذي اخترناه كما تقدم تفصيل الكلام فيه في التنبيه الأول فلا بُدَّ من ملاحظة درجة القوة في الكشف التي تحصل على أساس قياس المرجّحات بعضها مع بعض، ثم يؤخذ بأقواها كشفاً وأقربها إلى الواقع. وقد ذكرنا أنّ ذلك لا يدخل تحت ضابطة وقاعدة نوعية، بل يختلف باختلاف الحالات والملابسات.

وقد عرفت أنّ معظم الفقهاء اعتبروا الشهرة من أقواها فتُقدَّم على غيرها, وعلى هذا الإحتمال الذي قويناه يعرف حال الفرض الأول والفرض الثاني ولا حاجة لتطويل الكلام فيهما.وخلاصة ما ذكره في الفرض الأول؛ إنه بناءً عليها لا مجال إلا الإلتزام بالترتيب الوارد في أدلة الترجيح وهذا واضح.

وأما بناءً على الفرض الثاني؛ فإنّ المستفاد من كلماتهم أنّ هناك تقريبان لتخريج الترتيب بين المرجحين يختص أحدهما بالإفتراض الأول بينما يجري ثانيهما على كلا التقديرين.

أما التقريب الأول؛ فهو يبتني على أساس الفراغ عن الصدور؛ إذ لو لم يكن صادراً من المعصوم علیه السلام فلا معنى لكونه بداعي الجدّ أو التقية فيكون الترجيح الصدوري حاكماً على الترجيح الجهتي الجاري في مرحلة الدلالة، أو رافعاً لموضوعه وعليه يكون دليلاً آخر لما اخترناه أيضاً.

ص: 489

وقد قيل أنّ ذلك غير تام على إطلاقه لأنَّه يتصور على أنحاء ثلاثة:

النحو الأول: أن يكون قد أخذ في موضوع الترجيح الجهتي إحراز صدور الخبر المخالف. وعليه؛ فإذا فرض تساوي الخبرين من حيث المرجّحات السندية فالخبر المخالف نحرز صدوره لا بدليل الترجيح الجهتي، بل بدليل الحجية العام فإنَّه بضمّه إلى دليل الترجيح يثبت صدور الخبر المخالف جدّاً، وعدم صدور الخبر الموافق جدّاً.

وأما إذا فرض كون الخبر الموافق للعامة أرجح صدوراً فإنّ دليل الترجيح الصدوري يلغي التعبّد بصدور الخبر المخالف فلا يحرز صدوره؛ لا بدليل الترجيح الجهتي لأنَّه يثبت موضوعه، ولا بدليل الحجية العام لأنَّه قد خصص بدليل الترجيح الصدوري فينتفي الترجيح الجهتي. وعليه يثبت حكومة الترجيح السندي على الترجيح الجهتي.

النحو الثاني: أن يكون موضوع الترجيح الجهتي هو الصدور الواقعي للحديث. وعلى هذا التقدير لو فرض تساوي الخبرين من حيث المرجّحات فيمكن إثبات صدور الخبر المخالف بدليل الحجية ورجحانه على معارضه بالبيان المتقدم.

وأما إذا فرضنا رجحان الخبر الموافق سنداً؛ فإذا فرضنا أنّ دليل الترجيح السندي ينفي صدور الخبر المرجوح فإنَّه يحكم على الترجيح السندي ظاهراً ويعبدنا بعدم صدور الخبر المخالف، ولو فرض عدم التعبد بصدور الخبر المرجوح فإنَّه يمكن الرجوع إلى استصحاب عدم الصدور لنفي موضوع المرجح الجهتي. فالنتيجة على كلّ حال على هذا التقدير هي تقديم المرجح السندي على الجهتي أيضاً.

النحو الثالث: أن يكون موضوع الترجيح الجهتي تمامية مقتضى الحجية في سند الخبر المخالف, فعليه يرجع دليل المرجّح الجهتي إلى قضية شرطية؛ شرطُها كون الخبر المخالف خبر ثقة، وجزاؤها إسقاط أصالة الجدّ في الخبر الموافق فلا يمكن نفي موضوع الترجيح

ص: 490

الجهتي بدليل الترجيح السندي لأنّ موضوعه -وهوخبر الثقة- ثابت وجداناً ولا يوجد ما ينفيه ولو تعبداً, فيكون المرجّحان السندي وغير السندي في عرض واحد.

وذكر قدس سره بأنّ المتعين من هذه الإحتمالات الثلاثة هو الأخير لعدم وجود قرينة خاصة في دليل الترجيح الجهتي تقتضي أحد الإحتمالين الأولين.

والصحيح؛ أنّ مناسبة الحكم للموضوع تقتضي أحد النحوين الأولين؛ وذلك لأنّ السائلين في الأخبار إنَّما كانوا يفرضون سؤالهم في الخبرين المعتبرين عندهم، وهذا الإرتكاز يكفي أن يكون قرينة على أحد النحوين الأولين، ويرشد إلى ذلك فهم العلماء واتفاقهم على تقديم الشهرة على غيرها من المرجّحات.

وأما التقريب الثاني؛ وهو ما إذا كان مصبّ الترجيح فيها هو الصدور، والفرق إنما يكون في نكتة الترجيح، فقد تكون حيثية في السند, وقد يكون حيثية في الجهة, وحينئذٍ يكون الملاك في المرجّح السندي هو استحكام الخبر وقوة مفاده في الكشف عن الحكم الشرعي, والملاك في المرجح الجهتي هو وهن كاشفية الموافق للعامة المستوجب لاحتمال صدوره تقية.

ولكن هذا الوهن يختص بموارد التعارض فقط, ولذلك لا يستوجب حمل الخبر على التقية في غير موارد التعارض.

والنتيجة المترتبة على ذلك أمران:

1- أنْ يكون مرجع الترجيح بمخالفة العامة إلى أمارية موافقة العامة على التقية.

2- إنّ هذه الأمارية تختصّ بصورة التعارض وعدم إمكان الأخذ بالخبرين معاً.

وعلى ذلك؛ كلما أمكن حمل التعارض في رتبة سابقة على الترجيح الجهتي بالخبر الموافق للعامة لم يصحّ حمله على التقية, فيكون دليل المرجّح السندي محققاً لهذا الشرط فيرتفع موضوع الترجيح الجهتي.

ص: 491

وأورد على الأمر الأول؛ إنه كما يحتمل ذلك يحتمل أيضاً بملاك استحكام الخبر المخالف في الكشف عن الحكم الشرعي لعدم تطرق احتمال التقية فيه، فيكون كشفه أقوى من الكشف الآخر على حدّ الأقوائية في الكشف الثابتة في الأعدلية.

وعلى الأمر الثاني؛ إنّ هذه الأمارية وإنْ كانت مطلقة ولكنها مقيدة بحال التعارض بلحاظ دليل الحجية العام, فلا يجري رفع التعارض بلحاظ دليل ثانوي متمثلاً في أخبار العلاج في انتفاء موضوع الترجيح الجهتي.

والحقّ؛ أنّ ما ذكر غير تام, فإنّ كلا الإحتمالين يبتنيان مسبقاً على تحديد صدور الخبر وكون مفاده كاشفاً عن الحكم الشرعي، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

وأما الإيراد على الأمر الثاني؛ فإنّ دليل حجية العام يثبت الحجية الإقتضائية في مورد التعارض والمرجح السندي يوصلها إلى الفعلية فتُقدّم على الجهتي.

التنبيه السادس: تعارض أخبار الطرح وأخبار العلاج

ذكرنا ما يتعلق بأخبار الطرح التي وردت بلسان ما وافق الكتاب وما خالف العامة فخذوه، وما خالف الكتاب ووافق العامة فذروه واتركوه، ونحو ذلك. وقلنا بأنها تبيّن القاعدة الأساسية في التعامل مع الأخبار للمعصومين علیهم السلام والمنهج العام في الكشف عن المعارف الدينية, ولا ربط لها بموضوع بحثنا وهو التعارض وأحكامه.

ولكن ذكر بعض الأصوليين(1) أنه ربما يتصور التعارض بين هذه الأخبار وأخبار العلاج الدالة على التخيير، أو الدالة على الترجيح به والتي لم يرد فيها موافقة الكتاب ومخالفة العامة، أو وردت متأخراً من الترجيح بسائر المرجّحات؛ بدعوى أنّ كلتا الطائفتين إنَّما وردتا تخصيصاً على دليل الحجية العام والنسبة بينهما العموم من وجه.

ص: 492


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج7 ص413.

والصحيح عدم التعارض بينهما لما يلي:

أولاً: ما ذكرناه آنفاً من أنّ أخبار الطرح تُثبت عدم وجود المقتضي لحجية الأخبار المخالفة للكتاب والموافقة للعامة، فلا وجه لإثبات التعارض بين ما هو حجة وما ليس بحجة.

ثانياً: إنّ سياق أخبار العلاج -سؤالاً وجواباً- هو المفروغية من اشتمال الخبرين المتعارضين على شرائط الحجية العامة بحيث كان منشأ التوقف والحيرة منحصراً في التعارض والإختلاف, فهي تعالج مشكلة التنافي ورفع الإختلاف.

بينما تدلّ أخبار الطرح على عدم مقتضي الحجية فيما خالف الكتاب الكريم في نفسه، فتكون أخبار الطرح واردة على أخبار العلاج.

ثالثاً: على فرض وقوع التعارض بين الطائفتين فإنما تتقدم أخبار الطرح على أخبار العلاج لإباء سياقها عن التخصيص.

التنبيه السابع: في تخريج الترجيحات

ذكر الأصوليين(1) إنه يمكن تخريج الترجيحات الواردة في أخبار العلاج على مقتضى القواعد الأولية.

ونحن ذكرنا في مطاوي البحوث السابقة أنّ المرجّحات المذكورة في الأخبار هي الدائرة في المتعارضات العرفية، وهي تنحصر عندهم في الثلاثة المعروفة وهي: المرجّح السندي والمرجّح المضموني والمرجّح الجهتي؛ فهي متوافقة مع القواعد الأولية المتعارفة في محاوراتهم وخطاباتهم واحتجاجاتهم. وقد أطال بعضهم الكلام في تخريج شيء منها على مقتضى القاعدة في الجمع العرفي.

ص: 493


1- . المصدر السابق؛ ص415.

وحاصل ما ذكره هو:

إنّ الترجيح بموافقة الكتاب يمكن تخريجه على قاعدة تخصيص دليل الحجية العام بأخبار الطرح، وقد خرجنا عن إطلاقها بالقدر المتيقن، وهو غير موارد التعارض.

أما الترجيح بمخالفة العامة فيمكن تخريجه على مقتضى قاعدة حمل الظاهر على النص بلحاظ مرحلة الدلالة التصديقية الجدية بعد عدم إمكان الجمع العرفي بلحاظ مرحلة الدلالة الإستعمالية؛ فإنّ الحديث المخالف للعامة نصّ في الجدّية لو قيس إلى الخبر الموافق للعامة.

وقد اعترض المحقق الخراساني قدس سره (1) على حمل الخبر الموافق للعامة على التقية كجمع عرفي بأنه يستلزم سقوط الخبر الموافق عن الحجية رأساً إذا كان التعارض بنحو التباين؛ إذ لا معنى للتعبد بسند ثم حمله على التقية، وهو معنى سريان التعارض إلى دليل الحجية العام.

وقد عرفت الجواب مِمّا سبق ذكره في بحث التعارض غير المستقر, فراجع.

وأما الطولية بين هذين الترجيحين المستفاد من خبر الراوندي فيمكن تخريجها على القاعدة باعتبار أنّ الترجيح المخالف للعامة إنَّما كان على أساس الجمع العرفي، وأما الترجيح الموافق للكتاب فلعدم المقتضى للحجية للخبر المخالف للكتاب. ولا ريب أنّ إعمال قواعد الجمع العرفي إنَّما يكون في مورد حجية الخبرين, والمفروض عدم شمول دليل الحجية للخبر المخالف للكتاب وإنْ كان مخالفاً للعامة. وأما الترجيح بالشهرة فإنْ كان المراد بها الشهرة الروائية المساوقة مع التواتر والإستفاضة فإنّ التخريج إنَّما يكون بنفس ملاك الترجيح في موافقة الكتاب؛ فإذا أريد بها الشهرة في الفتوى والعمل -كما هو المختار- فإذا كشفت الشهرة هذه في مورد عن وجود خلل في الخبر المخالف للمشهور ولعمل الأصحاب أوجبت سقوطه عن الحجية أيضاً.

ص: 494


1- . كفاية الأصول؛ ص459.

وأما الترجيح بصفات الراوي -كالأعدلية والأوثقية- فإنَّه تخريجها حسب درجة الكشف واستحكام الصدور.

وأما الترجيح بالأحدثية على فرض قبوله فإنَّه يمكن تخريجه بأنّ الأمر يدور بين رفع اليد عن إطلاق دليل الحجية الأزماني للخبر غير الأحدث أو رفع اليد عن أصل إطلاقه للخبر الأحدث, والتخصيص الزماني أهون من التخصيص الأفرادي.

ويرد عليه بأنه لا فرق بين التخصيصين والتقييدين, وعلى فرض القبول فإنَّه يتمّ إذا كان دليل لفظي يدلّ على حجية الخبر, وأما إذا كان الدليل لبّياً كبناء العقلاءفلا إطلاق له لموارد التعارض بعدما علم من أنّ الأحدثية لم تكن من المرجّحات في الطرق والأمارات.

التنبيه الثامن: موارد تحصيل الوثوق بالصدور

قال السيد الوالد قدس سره (1) إنّ المحدث العاملي قدس سره ذكر في خاتمة الوسائل أموراً يمكن منها حصول الوثوق بالصدور كما إنه قد ذكر الشيخ الرجالي النجاشي قدس سره أموراً أخرى في مطاوي كلماته.

ذكر المحدث العاملي قدس سره في الفائدة الثامنة من خاتمة الوسائل: (في تفصيل بعض القرائن التي تقترن بالخبر قد صرّح جمع من المحققين من علمائنا أنّ القرينة هنا هي ما ينفك عنه الخبر وله دخل في ثبوته, وأما ما لا ينفك عنه فليس بقرينة ككون المخبر إنساناً أو ناطقاً أو نحوهما.

والقرائن المعتبرة في بعض أقسامها يدل على ثبوت الخبر عنهم علیهم السلام وبعضها على صحة مضمونه, إن احتمل كونه موضوعاً وبعضها على ترجيحه على معارضه ونحن نذكرها أنواعاً)(2).

ص: 495


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص185.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج30 ص243.

ص: 496

أسس وقواعد علم الرجال

وفي ختام بحوث علم الأصول ينبغي التعرض إلى أسس وقواعد علم الرجال ولو على نحو الإختصار. وما نريد قوله هو:

إنّ مطلوبية علم الرجال والبحث عن أحوال أصحاب المعصومين علیهم السلام وأحوال رواة الأحاديث تكون من أحد وجهين:

أولهما؛ البحث عن ذلك للإعتبار والإستفادة من أحوالهم الشخصية وتجاربهم وكيفية معاشرتهم مع إمامهم المعصوم ومع زملائهم الرواة ومع سائر الناس وكيفية التعامل مع السلطة الزمنية التي لم تكن على صلح ووئام معهم؛ إنْ لم نقل أنهم كانوا على طرف التعدّي والظلم عليهم. وهذا واضح لكل من سَبَرَ التاريخ.

ولا ريب أنّ مثل هذه الدراسة مطلوبة بحدّ نفسها، ولا يمكن التغافل عن فوائدها وثمراتها الحسنة على سلوك المتأخرين والإستفادة من تجارب الماضين في التعامل مع الأفراد والمجتمع والسلطة الزمنية؛ سيما أنهم كانوا على قمة الوفاء بأئمتهم علیهم السلام والتسليم لتوجيهاتهم, فقد بذلوا غاية جهدهم في سبيل حفظ دينهم ومذهبهم والمؤمنين والمنتمين إلى طريقتهم, فإنّ كلّ ذلك حسن ولا يمكن إنكار شيء من ذلك ودراسة علم الرجال من هذه الناحية لا يصحّ التغافل عنها كما هو حاصل ونشاهده في حياتنا العلمية والعملية.

والآخر؛ البحث عن علم الرجال من أجل توثيق الروايات والكتب الروائية التي وصلت إلينا.

ولا ريب في لزوم مثل هذا البحث وجداناً؛ صوناً للأخبار من الدسّ والتزوير وحفظاً لتراث الأئمة الهداة علیهم السلام من الضياع، ولا يمكن إنكاره. ولا أظنّ أحداً يناقش في أصل لزومه, ولكن الكلام في كيفية مثل هذه الدراسة وطرق الوصول إليها.

ص: 497

وبعبارة أخرى: في المنهج الذي يمكن الإعتماد عليه في إثبات تلك الأخبار والكتب المتضمنة لها.

ولا إشكال في أنّ هذا النوع من العلم يبتني على أسس وقواعد لا يمكن التخطّي عنها, وتمام البحث في المقام يقع في ضمن بحوث:

البحث الأول: لا ريب أنّ من يراجع كتب الرجال، بل كتب التاريخ؛ على العموم يلاحظ تنوّع القصد والمراد من دراستهم فلم تذكر شخصية أو حادثة في كتبهم إلا وهم يبحثون عنها من جهات عديدة وزوايا مختلفة، ومن تراكم تلك الجهات تتعيّن ملامح وخصوصيات ما يؤرخ له وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها.

فعلى كلّ باحث بعد ملاحظة هذه الحقيقة عليه:

أولاً: أن يصنّف ما يجد من المعلومات ويبحث في ملابساتها وأساسياتها ويرجعها إلى مصادرها التوثيقية لمعرفة الصحيح منها والخاطئ.ثانياً: التعرف على أحوال المؤرخ والرجالي للوقوف على نقاط قوته وجهات ضعفه وبعض خصوصياته التي لها الدخل في مهنته ودراسته.

وعلى ضوء هذين الأمرين يمكن حلّ بعض رموز هذه الصنعة العلمية التي تحمّلها هؤلاء العلماء ووقع على عاتقهم تزويد الأجيال اللاحقة ما سبق من حوادث وشخصيات.

فلو راجعنا أحد أهم كتب الرجاليين وهو رجال النجاشي الذي ألّفه الرجالي الشهير الثقة نجد بوضوح ما ذكرناه من تنوّع المراد والقصد في تراجمه للرواة والعلماء في مؤلفه, فهو يذكر:

1- توثيق الإسم والكنية واللقب.

2- توثيق بلد الراوي ومكان استيطانه.

3- توثيق من روى الراوي عنه أو طبقته.

4- توثيق من روى عن المترجم له.

ص: 498

5- توثيق روايات الراوي.

6- توثيق كتب الراوي ومؤلفاته.

7- توثيق السند إلى كتب وروايات الراوي.

8- توثيق الجانب الكمّي والكيفي من رواياته.

9- توثيق وثاقته وتوثيق ضعفه.

10- توثيق عقيدته.

وغير ذلك من الجهات التي لها الدخل في حال الراوي ومكانته العلمية ومعروفيته بين الشيعة وعلمائهم؛ كلّ ذلك لتثبيت الشخصية.

البحث الثاني: إنّ الرجالي الذي يبحث عن أحوال الرواة لا بُدَّ له أن يذكر تلك الجهات عن دراية تامة ولا إشكال في ذلك والجميع يعترفون بذلك، بل يتعهد كلّ مؤلف رجالي أن يكون كذلك في بداية عمله ومؤلّفه، ولكن الموجود في كتب الرجال أنّ ذكرهم لتلك الشواهد والجهات يكون على صنفين:

الصنف الأول: الإلتزام في بعضها بدقة وإتقان مقروناً بالإسناد والشواهد لا سيما الكتب المنسوبة لأصحابنا والروايات المنقولة عنهم ورواتها.

الصنف الثاني: ما يذكرونه كأمر مسلّم عندهم وينقلوها عن شيوخهم وأسلافهم. وهذا الصنف هو الأكثر مِمّا يذكرونه في كتبهم الرجالية، ومع ذلك فإنهم يتعاملون مع هذا الصنف كأمور مركوزة متداولة بينهم مِمّا يكشف على أنّ لهم سبيلاً معيناً غير ما هو المألوف في باب الشهادات.

ولا ريب أنّ هذا الصنف ينافي تصريحهم في بداية كلّ كتاب بأنه يتعهد ويلتزم بذكر طرقه إلى أرباب الكتب والروايات فلا بدّ أن يكون لهذا التفاوت العلمي نكتة علمية وليست هي إلا ما ذكرناه من أنّ لهم سبيلاً معيناً في ذلك وسيأتي مزيد بيان لذلك.

ص: 499

البحث الثالث: لا ريب أنّ الأساس الذي يبتني عليه علم الرجال في الإعتماد على نقل أحوال الرواة للأحاديث والكتب التي تضمنت تلك الأخبار هو التوثيق والوثاقة في النقل, وقد بذل علماء الرجال الجهد الكبير في هذا السبيل لا سيما بعدما مرت على الشيعة الإمامية مراحل متعددة في كلّ مرحلة كانت الوسيلة في الوصول إلى الحكم الشرعي تختلف عن المرحلة الأخرى.

ففي المرحلة الأولى؛ كانت الشيعة في غنى عن التوسيط لمعرفة الحكم الشرعي لأنَّه كما قال المحقق القمي قدس سره : (كانوا مشافهين لهم ومخاطبين بخطابهم وعارفين بمصطلحهم، واجدين للقرائن الحالية والمقالية، عالمين لبعض الأحكام بالضرورة والبداهة، آخذين مالا يعلمون من كلماتهم... فكان نقلهم الأخبار إلى الآخرين في زمانهم وعملهم عليه، فهو أيضاً لا يشبه الأخبار الموجودة عندنا فإنَّه كان أسباب الاختلال والاشتباه قليلاً)(1). ففي هذه المرحلة لم يكن همّهم سوى تعيين الثقة في روايته فكانت أسئلتهم عن الأئمة الهداة - علیهم السلام - عن ذلك كيونس بن عبد الرحمن, والعمري وابنه وغيرهما فلم نرَ في هذه المرحلة غير سرد الأسماء لبعض الرواة فقط كما اتصفت دراستهم بالسذاجة فقط.

وفي المرحلة الثانية؛ حيث اشتد الضغط السياسي وغيره على الشيعة ما استدعى أن تكون المحاولات من العلماء متصفة بالفنية من السرد والتمييز والتصنيف حيث ظهرت محاولات الكذب والدسّ في أحاديث أهل البيت علیهم السلام فكان الإهتمام الكبير في هذه المرحلة هو التشديد على عنصر الوثاقة في الراوي؛ حيث أصبح هذا العنصر هو الأساس في بناء هذه المرحلة وما بعدها، وهو وإنْ لم يخرج عمّا عليه بناء العقلاء والثوابت الشرعية، وكانت جميع المراحل التي مرّت عليها الشيعة الإمامية تعتمد على هذا العنصر المقوّم

ص: 500


1- . قوانين الأصول (طبع قديم)؛ ص272، القوانين المحكمة (طبع جديد)؛ ج2 ص72.

للعمل بأخبار المعصومين علیهم السلام إلا أنّ امتياز هذه المرحلة عن غيرها إنَّما كان في شدة التثبّت والتأكيد على هذا العنصر، فقد كان أثمة أهل البيت علیهم السلام يراقبون تراثهم الموروث ويحذّرون أصحابهم من فتن المعاندين وأباطيلهم ويبيّنون أهمية المرحلة وخطورتها ويحثّون أصحابهم إلى التمسّك بالثقات والأخذ منهم, والروايات في هذا المجال عديدة؛ ففي عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي حَيَّةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي خِدْمَتِهِ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُفَارِقَهُ وَدَّعْتُهُ وقُلْتُ: أُحِبُّ أَنْ تُزَوِّدَنِي. فَقَالَ: (ائْتِ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنِّي حَدِيثاً كَثِيراً فَمَا رَوَاهُ لَكَ فَارْوِهِ عَنِّي)(1).وفي التوقيع الرفيع عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرَاغِيِّ قَالَ: وَرَدَ عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ الْعَلَاءِ وذَكَرَ تَوْقِيعاً شَرِيفاً يَقُولُ فِيهِ: (فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي التَّشْكِيكِ فِيمَا يَرْوِيهِ (2) عَنَّا ثِقَاتُنَا قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّا نُفَاوِضُهُمْ سِرَّنَا ونُحَمِّلُهُمْ (3) إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ)(4).

وفي رواية عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُهْتَدِي وكَانَ وَكِيلَ الرِّضَا علیه السلام وَخَاصَّتَهُ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا علیه السلام فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَلْقَاكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَعَمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي فَقَالَ: (خُذْ عَنْ (5) يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ)(6).

وما رواه الكليني قدس سره عن أبي الحسن علیه السلام في حق العمري: (الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي ومَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ فَاسْمَعْ لَهُ وأَطِعْ فَإِنَّهُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ.

ص: 501


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص147.
2- . وفي بعض النسخ: يؤديه.
3- . وفي بعض النسخ: ونحمله.
4- . المصدر السابق؛ ص149-150.
5- . وفي بعض النسخ: من.
6- . المصدر السابق؛ ص148.

قَالَ وسَأَلْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ علیه السلام عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ: الْعَمْرِيُّ وابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ ومَا قَالا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ فَاسْمَعْ لَهُمَا وأَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ الْمَأْمُونَان)(1).

إلى غير ذلك من الأخبار التي تدلّ على ما ذكرناه, حتى صار من الأوليات المركوزة في نفوس الشيعة بما لا يقبل الشك كما أصبح من أولويات العمل الرجالي, قال شيخ الطائفة قدس سره : (إنّا وجدنا الطّائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، فوثّقت الثّقات منهم وضعّفت الضعفاء، وفرّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم وقالوا: فلان متّهم في حديثه، وفلان كذّاب، وفلان مخلّط، وفلان مخالف في المذهب والإعتقاد، وفلان واقفيّ وفلان فطحيّ، وغير ذلك من الطّعون الّتي ذكروها. وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم)(2).

وقال الشيخ ابن قولويه قدس سره : (وقد علمنا إنا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات عن أصحابنا رحمهم الله)(3).

وغير ذلك من أقوال العلماء والمستفاد من جميع ما ذكروه أنّ عنصر الوثاقة من أساسيات العمل بالروايات، وأولويات العمل الرجالي مِمّا يمكن القول بأنّ العملبأخبار غير الثقات من السفاهة تدلّ عليه فطرة العلم والعلماء. ومن جميع ذلك يظهر بطلان ما ادعي في المقام من المواعدة, وأنّ ما انتهت إليه كتب الرجال لم يكن على أساس عقلي أو شرعي فإنهما شبهتان مردودتان من جوانب عديدة.

ص: 502


1- . المصدر السابق؛ ص138.
2- . عدة الأصول؛ ج 1 ص366.
3- . كامل الزيارات؛ ص4.

أما الشبهة الأولى؛ وهي شبهة المواعدة فإنَّه لا يستحقّ ذكرها؛ إذ كيف تحصل المواعدة بين العصور المتمادية والأشخاص المتباعدة مع عدم إمكان التواصل بينهم مع وجود العنف والضغط السياسي على الطائفة. هذا مع أنّ المواعدة بين أهل الدين والورع والتقوى لا يمكن تصويرها بينهم؛ فادّعاء المواعدة ليس إلا من الزور والبهتان, ولعلّ من أرسلها اعتمد على كتب العامة وشاهد الطعن والتجريح فيها بالنسبة إلى رواتنا، ولكن مع كون هذا الطعن والتجريح مطعون فيه؛ إذ الأهداف منه واضحة وعدم كونها مهنيّة يتبع القواعد والأسس المتبعة في علم الرجال، ومع ذلك فليس كلّ رواتنا مطعون فيهم، بل الثقات منهم كثير في كتب العامة, وكلام الذهبي حول ما يترتب على عدم قبول هؤلاء الثقات معروفة, فراجع.

وأما الشبهة الثانية؛ فسوف تعلم بطلانها وأنها أوهن من بيت العنكبوت.

والحاصل؛ أنّ الطائفة قديماً مجتمعة على العمل بما يورده الثقات ويدلّ على ذلك أيضاً ما نقله الشيخ الطوسي قدس سره من عمل الطائفة بروايات من ثبتت وثاقته وإنْ خالفهم مذهباً.

وعلى هذا الأساس فقد عمل الأصحاب بما رواه بعض الفطحية؛ مثل عبد الله بن بكير, وبعض الواقفية؛ مثل سماعة بن مهران. ومن خلط بعد الإستقامة حيث يؤخذ بما رواه في حال استقامته, كما أنّ من بعض رواتنا من العامة مثل الفضيل بن عياض, ويحيى بن سعيد القطان.

البحث الرابع: بعدما اتضح من أنّ عنصر الوثاقة والتوثيق من الأوليات عند الطائفة المحقّة في نقل الروايات والأخبار، ومن أولويات علم الرجال، بل هو الأساس في هذا العلم الذي أراد أصحابه الحفاظ على منظومة أحاديث أهل البيت علیهم السلام وتراثهم إلا أنهم

ص: 503

قد أسسوا لهذا العلم قواعد وضوابط خاصة بها تميّز هذا العلم عن غيره من العلوم الدينية كالفقه وغيره، وتكون أكثر مهنيّة وأقرب إلى الواقع العلميّ, من أهمها:

الأولى: المحافظة على جميع أسماء من روى عن المعصومين علیهم السلام وتصنيفهم بحسب من يروي عنه, وقد عرفت آلية هذه القاعدة مِمّا ذكرناه في البحث الأول.

الثانية: تصنيف الرواة بحسب الطبقات.

الثالثة: تأليف الكتب المتخصصة بالمصنفين المسماة بالفهرست.

الرابعة: تأليف الكتب المتخصصة بالرواة وتحقيق حال الراوي المترجم له.

الخامسة: إستحداث آلية الإجازة وغيرها لتثبيت طرق تلقّي الرواية ونقلها.السادسة: تأسيس كليات القبول في الروايات والكتب كوثاقة الراوي ومقدار تثبته وحفظه ولقاءه بمن يروي عنه وسند روايته عنه وغير ذلك مِمّا هو مبيّن في هذا العلم.

كل ذلك وغيره من أجل التثبّت التام والتأكيد والمحافظة على أساس هذا العلم الذي بني عليه.

ومن هنا ظهر الفرق الكبير بين ما يمارسه علماء رجال هذه الطائفة الذين تنزّهوا عن التعصّب والتطّرف والتهمة والبهتان, وبين غيرهم ممن مارسوا هذه المهنة في بحوثهم الرجالية كما يشاهده كل من يراجع كتبهم فلم يتخلفوا بالأخلاق الفاضلة والنزاهة العلمية.

البحث الخامس: في ذكر العقبات التي واجهوها في سبيل نقل تراث أهل البيت علیهم السلام

وهي عديدة:

الأولى: إختلاف الشيعة مع أغلب المدارس والإتجاهات المذهبية التي انتحلت دين الاسلام وهو مِمّا أوجب تنافساً كبيراً؛ مِمّا كان يستدعي الحرص عند التقييم الرجالي وعند نسبة الرواية أو الكتاب.

ص: 504

الثانية: عدم امتلاك الشيعة القدرات الكافية الظاهرية لكبح جماح رواة أحاديث أهل البيت علیهم السلام إذا أرادوا الكذب علیهم السلام وهو مِمّا خلق تخوّفاً وهاجساً إزاء الأحاديث إلا من عرف واشتهر بالوثاقة منهم.

والشاهد على ذلك ما يظهر من التخوف في ترجمة الكثير من الرواة، وما عليه مدرسة قم الشيعية الروائية من التشدّد. ولعلّ ما استعمله ابن الغضائري في رجاله من هذا القبيل, ومن أمثلة ذلك ما قاله النجاشي عند ترجمة أحد الرواة: (رأيت هذا الشيخ وكان صديقاً لي ولوالدي وسمعت منه شيئاً كثيراً ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو عنه شيئاً وتجنبته, وكان من أهل العلم والأدب القوي وطيب الشعر وحسن الخط رحمه الله وسامحه)(1).

الثالثة: الداعي المعنوي والواقع الديني حيث اعتبروا الحفاظ على أخبار أهل البيت علیهم السلام من جميع جوانبها المادية والمعنوية والأمانة في نقلها عملاً دينياً ومن الضرورات الدينية, فلا بُدَّ أن يبذلوا غاية جهدهم ويحتاطوا أشدّ الإحتياط في هذا السبيل.

الرابعة: في مرحلة متأخرة بدأ الفقه يفترق عن الرجال حيث بدأ التخصّص العلمي لكلّ واحد منهما, ولا شك أنّ هذا الإفتراق وإن استلزم منه التخصّص والتطوّر في كلا العلمين؛ وهو أمر إيجابي ولكن استلزم منه الإبتعاد عن المنقول الروائي، وما خصّه من الإمتيازات؛ لا سيما بعد دخول علم الأصول وقواعدهبشكل هائل في الفقه كما حصل في الأزمنة المتأخرة, فاستلزم من ذلك ترك العمل الروائي مِمّا شكل هاجساً كبيراً عندهم في انزواء العمل الروائي لو لم ينهض رجال مخلصين لهذه المهمة، إلا أن يقال بأنّ المتأخرين لم يتركوا ذلك وإنما اعتمدوا على جهود المتقدمين في هذا العلم بعد معرفتهم صحة ما فعلوه فاستغنوا عن جهد آخر واعتبروه من صبّ الماء على الماء؛ فلم يزيدوا شيئاً على ما بيّنه المتقدمون وهو ما ستراه في البحوث البعدية.

ص: 505


1- . رجال النجاشي؛ ص86.

ومن جميع ذلك يظهر شدة ما لاقى هؤلاء الأعلام (رضي الله تعالى عنهم) في هذا السبيل، وعظيم ما بذلوه من الجهد والتضحيات الجليلة فإنهم إنَّما تحمّلوها من أجل الحفاظ على تراث أهل البيت علیهم السلام وإيصاله إلى الأجيال اللاحقة وبفعلهم هذا أزالوا الخطر العظيم الذي كان يحيط بأخبار آل البيت علیهم السلام كما أرشد إليه قول الإمام الصادق علیه السلام : (لَوْ لَا زُرَارَةُ ونُظَرَاؤُهُ لَظَنَنْتُ أَنَ أَحَادِيثَ أَبِي علیه السلام سَتَذْهَبُ)(1).

والنتيجة التي يمكن تحصيلها مِمّا تقدم أنّ من تلك القرائن الكثيرة والظروف العامة وما نتج منها من تخوّفات ودوافع، وبانضمام الدافع الديني الكبير عند أعلامنا المتقدمين بالنسبة إلى أخبار المعصومين علیهم السلام نشأت الأبعاد المدرسية لهذا العلم الذي كان أساسه وقوامه عنصر الوثاقة والتوثيق الذي عرفت أنّ لهما الأهمية الكبرى عقلاً وشرعاً وسيرة في موضوع هذا العلم مِمّا يمكن القول بكلّ دقة ومهنيّة بأننا على يقين تام أو نطمئنّ غاية الإطمئنان بأنّ ما بذلوه من الجهود العلمية والعملية في سبيل تهيئة حجية الأخبار والتقييمات الرجالية قائمة على أسس وقواعد رصينة ومجردة عن الأهواء وبعيدة عن الإهمال؛ فلا يتصور فيهم التقصير في جانب من جوانب هذا الموضوع المهم أو أهملوا أمراً منها غفلت عنه الأجيال اللاحقة من دون أن يحصل لهم الإلتفات إليه مع ما نراه من التمحيص والتحقيق فيما خلّفه هؤلاء الأعلام، وما ذكروه من النقود العلمية من أولئك الأعلام بعضهم على بعض.

وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر أنّ الإيراد على تلك التوثيقات الرجالية بأنها مرسلة فلا تكون حجة -كما ادّعاه بعض- فهو ليس إلا من الإبتعاد عن الحقّ, والإعراض عن الحقائق التي عليها الطائفة الحقّة لا سيما تلك التي تدور في الأوساط العلمية.

ص: 506


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27ص142.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ النجاشي الذي يعتبر من أعلام هذه الطائفة والخبير في هذا العلم قد التزم غاية الإلتزام بالضوابط التي تقدم ذكرها في جملة من الرواة وإنْ كان قد خرج عن التزامه وتعهّده في البعض الآخر، ولكن ليس ذلك من جهة الإهمال والغفلة منه قدس سره ، أو خروجه عن الأصل الذي ابتنى عليه علم الرجالوالعمل بالروايات، ولعله يظهر ذلك بوضوح أنه قدس سره يتعامل مع أحوال الرواة وما يتصل بهم من الشؤون الخاصة بطريقة معينة بينما يتعامل مع كتب وروايات أولئك الرواة بطريقة أخرى مختلفة فيهمل الإسناد في الأول ويلتزم بذكره في الثاني.

كل ذلك لأنَّه كان يمتلك طرقاً إلى أرباب الكتب والروايات كما يصرح به في موضع من كتابه، ولكنه يذكر بعضاً منها مِمّا يدلّ على اهتمامه الكبير بتحصيل الطرق إلى الروايات والتزامه بذكر البعض مِمّا يكشف على أنه لا إرسال ولا إهمال في البين, وإلا فكيف يفسّر عمله أنه في ما يتصل بالكتب والروايات فيلتزم جانب الإسناد وما يتصل بأحوال وشؤون الراوي بأخذ جانب الحكاية بلا إسناد إلا نادراً؛ حيث يذكر مصدرها, وهو أحد مشايخ هذه الطائفة ويتصف منهجه بالرصانة والتوثيق وشخصيته العلمية معروفة لا يمكن أن يصدر منه ما يخالف منهجه الرصين؛ فلا يذكر الإسناد في مورد أحوال الرواة حتى يمكن الإشكال عليه. وعلى نظيره الشيخ الطوسي قدس سره بالإرسال ويخفى ذلك قروناً ولم يستشعر به أحد, مع أنّ عدم اعتبار الرواية المرسلة كان معروفاً بين الطائفة ومتداولاً في مختلف بحوثهم من زمن بعيد فلا يمكن أن يكون قد غفل عنها فلا يحقّ احتمال ذلك في حقّ العلمين وغيرهما من العلماء ولا سيما إذا كان يرتبط بمقام الحجية والتمييز بين الحجة واللاحجة.

فلا اختلاف بين الروايات وكتب الأخبار والتقييمات الرجالية في أنها مبتنية على القواعد المتبعة في علم الرجال، وإنْ كان الإهتمام بذكر الطرق في الروايات والكتب أكبر من ذكرها

ص: 507

من التقييمات الرجالية, وسيأتي مزيد بيان الفرق بينهما من جهة أخرى.

فلا يصحّ أن يأخذ هذا الفرق بينهما من هذه الجهة ويحكم على الأخيرة بالإرسال مطلقاً وكلها داخلة في المنظومة الروائية الإمامية.

البحث السادس: بعدما تبين أنّ الأساس في المنظومة الروائية مطلقاً عند الشيعة الإمامية الوثاقة والتوثيق، ولا ريب أنّ الطرق إلى هذا الأصل الأصيل متعددة، بل تختلف باختلاف الآراء والمذاهب.

والذي ينبغي أن يقال أنّ الأمور التي ترتبط بموضوع بحثنا على أقسام:

القسم الأول: أن تكون من الحقائق المتأصلة في الوجود, وهي الموجودات الخارجية من قبيل الإنسان والذكر والأنثى, وكونه من قبيلة كذا، إلى غير ذلك من الأشياء.

وهذا القسم خفيف المؤونة في إمكان إثباتها من حيث نفسها وزمان وجودها لأنَّها داخلة تحت إحساس الإنسان فيشعر من يحسّ به فعلاً.القسم الثاني: أن تكون من الأمور القارّة في عمود الزمان؛ نظير العلم والصحة والجمال ونحو ذلك, فإنّ مثل هذا القسم يبقى موجوداً ومستمراً في عمود الزمان ما لم يطرأ عليه ما يوجب زواله.

القسم الثالث: أن لا يكون قارّاً في عمود الزمان، بل تكون متدرجة في الوجود فيوجد فرد أثر انعدام فرد آخر كالتكلم والأفعال, ومثل هذا القسم ضيق الإثبات لأنَّه لا يحسّ به إلا القليل، وتختلف ندرته حسب حالات الفرد المتكلم ككونه في مكان عام أو في مكان خاص أو كونه لا يجتمع بالناس, ولا يسمح باللقاءات وغير ذلك.

وكل هذه الأقسام في مقام الإثبات تحتاج إلى شواهد وبراهين إلا أنّ الأول أسهل إثباتاً من القسمين الآخرين, كما أنّ الثاني أسهل من الأخير, لفرض اختلافهما في سعة الإحساس به وكثرته وضيقه.

ص: 508

ولا ريب أنّ الوثاقة من القسم الثاني فهي من الأوصاف التي يكتسبها الفرد بالمداومة على ممارسة الصدق حتى يشتهر بها وتثبت هذه الصفة في نفسه وتستقر فيها والتي يعبّر عنها الفقهاء بالملكة.

والطريق إلى اكتشافه تارة يكون بالعِشرة مع الشخص ومعرفة صدقه، وأخرى يكون بشهادة آخرين معروفين على كونه متصفاً بالوثاقة والصدق, وثالثة بالإستشهاد عند أبناء جلدته وعشيرته؛ وهذا ما لا إشكال فيه من أحد، ولكن ذلك يختص بأفراد معدودين معاصرين للشخص, وإذا أرادت الأجيال اللاحقة معرفة وثاقة السلف لا بُدَّ أن يكون اكتشافه بطرق أخرى وهي: إما بالتواتر أو الإستفاضة أو نقل عدول عن عدول. وهذا أيضاً متحقق في بعض الأفراد وليس كلّ الرواة يكونون كذلك, وأما سائر الرواة وهم كُثر فإنّ إثبات وثاقتهم لا يكون إلا بأحد طريقين: إما بالشهادة الحسّية أو بالإجتهاد الحدسي، والأول منتفٍ وجداناً، والثاني لا يجدي نفعاً في مثل الوثاقة والصدق ونحوهما؛ إذ لا اعتبار بالاجتهاد الحدسي في مثل ذلك.

إذن؛ لا يمكن إثبات وثاقة كمٍّ كبير من رواة الأخبار.

ولكن المتتبع لكلمات أعلام الطائفة يستفيد أنّ إثبات وثاقتهم يكون بطرق أخرى توجب الإطمئنان بأحوالهم وليست هي من الشهادة الحسّية المحضة, ولا من الإجتهاد الحدسي كذلك، بل تثبت وثاقة الرواة من الملابسات والقرائن والشواهد التي تكتنف أحوالهم وسائر جوانب حياتهم. وعلى هذا الطريق نثبت الوثاقة في التقييمات الرجالية وكتب الأخبار بعد أن لم يتوقع أحد أن يكون لنا ديواناً عاماً بأسماء الرواة وأسماء من وثّقهم واحداً واحداً، وعلى التفصيل كما هو الموجود في العصر الحاضر بعد تقدّم وسائل التواصل وخزن المعلومات صوتاً وصورة وسائر الخصوصيات المرتبطة بالفرد, لا سيما أنّ الذي نريد الوصول إليه قد اقترن بأبشع صور الظلم والطغيان من السلطة الحاكمة

ص: 509

وابتلوا بالتشرد والكتمان،فلا بُدَّ من الرجوع في مثل ذلك إلى العقلاء وما يؤسسونه من طرق تضمن لهم الصحة ويحقق الهدف في تعاملهم مع هذه الأمور بشرط أن تتصف طريقتهم بالأمانة العلمية وتتضمن شروط البحث العلمي كما هو المعروف في البحوث المعاصرة, وهذا ما سنبينه في البحث البعدي.

البحث السابع: إثبات ما ذكرناه من أنّ المنظومة الروائية عند الشيعة الإمامية من الأخبار سنداً ومضموناً وكتب الروايات وأحوال الرواة والوسائط إنَّما تستند على أصل الوثاقة والتوثيق وأنّ الطريق والآلية في كسبهما ليست هي من الحسّية المحضة مطلقاً فإنها منتفية في أغلبها وجداناً.

كما أنها لم تدخل في الإجتهادات الحسية المحضة, إذ لا اعتبار بها في مثل موضوع بحثنا باتفاق الجميع.

ولكنها تثبت بالملابسات والشواهد والقرائن الكثيرة التي توجب الإطمئنان بحيث لا يدع شكّاً في المقام. وقد ذكرنا أنّ الرجوع إليها مشروط بأن تكون وفق الطرق العلمية وتتضمن شروط البحث العلمي فلا يمكن الإستناد إلى مجرد الإحتمال والأحلام والإلهام ونحو ذلك.

وقبل الدخول في بيانها لا بُدَّ من ذكر أمر مهم يرتبط بموضوع البحث؛ وهو أنه لا يمكن فصل هذه المنظومة الكبرى عن وضع الشيعة العام في عصور الخلفاء والأحوال السياسية التي مرت عليهم في تاريخ نضالهم المرير في العيش في هذه الحياة؛ فقد اضطهدوا من قبل السلطات الزمانية بأشدّ أنواع الظلم والطغيان وحرموا من أبسط حقوق الإنسان.

وقد بيّن الإمام الصادق علیه السلام الوضع الإجتماعي العام بقوله: (يَا مُفَضَّلُ الْخَلْقُ حَيَارَى عَمِهُونَ سُكَارَى فِي طُغْيَانِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وبِشَيَاطِينِهِمْ وطَوَاغِيتِهِمْ يَقْتَدُونَ بُصَرَاءُ عُمْيٌ لَا يُبْصِرُونَ نُطَقَاءُ بُكْمٌ لَا يَعْقِلُونَ سُمَعَاءُ صُمٌ لَا يَسْمَعُونَ رَضُوا بِالدُّونِ وحَسِبُوا أَنَّهُمْ

ص: 510

مُهْتَدُونَ حَادُوا عَنْ مَدْرَجَةِ الْأَكْيَاسِ ورَتَعُوا فِي مَرْعَى الْأَرْجَاسِ الْأَنْجَاسِ كَأَنَّهُمْ مِنْ مُفَاجَأَةِ الْمَوْتِ آمِنُونَ وعَنِ الْمُجَازَاةِ مُزَحْزَحُونَ يَا وَيْلَهُمْ مَا أَشْقَاهُمْ وأَطْوَلَ عَنَاءَهُمْ وأَشَدَّ بَلَاءَهُمْ؛ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً ولا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ قَالَ الْمُفَضَّلُ فَبَكَيْتُ لِمَا سَمِعْتُ مِنْهُ فَقَالَ لَا تَبْكِ تَخَلَّصْتَ إِذْ قَبِلْتَ ونَجَوْتَ إِذْ عَرَفْت)(1)؛ فبعد ارتحال زعيم الأمة إلى الرفيق الأعلى تكالبوا على صرف الحقّ عن أهله وانقلبوا على تعاليم نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم , وقد صور الإمام الباقر علیه السلام تلك الفترة بقوله: (بَاتَ آلُ مُحَمَّدٍ علیه السلام بِأَطْوَلِ لَيْلَةٍ حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لَا سَمَاءَ تُظِلُّهُم)(2)؛ فلا يمكن لأحد أن يبحث عن المنظومة الروائية عند هذه الطائفة وينسى تلك الأحوال والأوضاع التي مرّوا بها, فكيف يمكنه البحثوهو ينسى ما آل إليه أمر علي بن أبي طالب علیه السلام حيث اعتزل برهة من الزمن في بيته والقوم يخالفونه في كلّ ما يقوله علیه السلام . وقد أشار الصادق علیه السلام عنه عندما اوعز بالنظر إلى كلّ ما قاله علي علیه السلام وأنهم خالفوه. وهل يمكن نسيان حال الإمام المجتبى علیه السلام ومعاناته مع بني أمية ولا سيما معاوية، والإستهانة به وبأبيه علیهما السلام ونصب العداء لهم.

وهل يمكن التغاضي عن واقعة الطفّ الأليمة وقتل سيدهم وأهل بيته وأنصاره بأبشع صورة. وهل يمكن التغافل عما فعلته بني أمية بالشيعة واضطهادهم وقتلهم وتشريدهم طيلة مدة حكومتهم البغيضة. وهل يمكن نسيان ما فعلوه بأئمة الشيعة من الإضطهاد حتى صرّح الإمام زين العابدين علیه السلام بأنه لم يبق في المدينة بيتاً يحبنا أهل البيت.

حتى إذا تعدّينا حكم الأمويين وانتقل الحكم إلى بني العباس الذين كانوا أسوأ حالاً من نظرائهم؛ فإنهم وإن استدلوا على الحكم تحت شعار الرضا من آل محمد, ولكنهم أبدلوه بالبغض لآل محمد فاستبدوا بالحكم واضطهدوا أئمة الشيعة بأشدّ مِمّا اضطهده الأمويون

ص: 511


1- . توحيد المفضّل؛ ص93.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص445.

مع الفارق بين بني أمية وبني العباس من أنّ بني أمية أظهروا العداوة لآل البيت ونصبوا لهم العداوة جهاراً, وارتدوا إلى حكم الجاهلية من العصبية البغيضة؛ فلم يعبئوا بدين الإسلام وبنبيّه وأهل بيته، بل اتخذوا النصب والعداء شعاراً لهم وكان ذلك ظاهراً لا يمكن النقاش فيه وإنْ حاول المؤرخون ستره والتغاضي عنه.

وأما بنو العباس فتستروا بالدين وجعلوا أنفسهم خلفاء شرعيين واعتبروا أفعالهم من صميم الشرع الحنيف فجعلوا عداوة آل البيت علیهم السلام من مهمات خلافتهم الشرعية. وليس صنيع هارون مع موسى بن جعفر علیه السلام وخطابه للرسول والاستئذان منه في حبس ولده إلا لبيان هذه الظاهرة, فقد اضطهدوا الشيعة بأنواع الظلم والطغيان فلم يتمكن الشيعة من الإتصال بأئمتهم وكسب الفيض منهم مع انتشار المذهب الجعفريّ واتساع رقعة التشيع إلا برهة من حياة الإمام الصادق علیه السلام وليست فتنة الغيبة الصغرى والكبرى إلا برهان واضح على ذكرناه, ولا نريد الدخول في التفاصيل فإنّ له موضع آخر.

فلا يمكن لمن يريد البحث عن المنظومة الروائية التغاضي عن هذا الأمر المهم وقياس الماضي على الحاضر فيقول ويكتب بما يحسّه في هذا الوقت ويريد تطبيقه على الماضي؛ فإنَّه من الغباء العلمي المحض, فلا بُدَّ من ملاحظة معاناة الرواة وما لاقاه علماء الرجال في كسب ما يوجب توثيقهم مع ذهاب جملة كبيرة من القرائن الحالية والمقالية بسبب ظلم الظالمين وتقادم الزمن عليها، وقد تعاهدوامن أن يستوثقوا عن كلّ ما يذكرونه مع هذه الحالة فهي من أكبر الشواهد على صحة ما يقولونه والوثوق بما يسطرونه.

تمَّ بعون الله تعالى الجزء السابع؛ والحمدُ لله أولاً وآخراً

ص: 512

المصادر والمراجع

1- القرآن المجيد؛ كلام الله عز وجلّ.

2- نهج البلاغة؛ كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام .

3- أجود التقريرات؛ محمد حسين النائيني؛ الناشر: مطبعه العرفان؛ قم المقدسة؛ 1352 ه-.ش؛ الطبعة الأولى.

4- الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي)؛ أحمد بن علي الطبرسي؛ المحقق والمصحح: محمد باقر الخرسان؛ الناشر: نشر المرتضى؛ مشهد؛ 1403 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

5- الإستخارة من القرآن المجيد والفرقان الحميد؛ أبو المعالي الكلباسي؛ الناشر: مؤسسة الإمام المهدي علیه السلام ؛ 1411 ه-.ق؛ الطبعة الأُولى.

6- إستقصاء الإعتبار في شرح الاستبصار؛ محمد بن الحسن بن الشهيد الثاني؛ الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1419 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

7- الأسس المنطقية للاستقراء؛ السيد محمد باقر الصدر؛ الناشر: دار التعارف للمطبوعات؛ بيروت.

8- أصول الفقه؛ الشيخ محمد الخضريّ بك؛ دار إحياء التراث العربي؛ بيروت.

9- أصول فلسفه وروش رئاليسم؛ السيد محمد حسين الطباطبائي؛ الناشر: صدرا؛ طهران؛ 1364؛ الطبعة الأولى.

10- الإفصاح في الإمامة؛ أبو عبد اللّه العكبري المفيد؛ الناشر: دار المفيد؛ بيروت؛ 1414 ه-.ق.

ص: 513

11- إقبال الأعمال (ط. قديمة)؛ علي بن موسى ابن طاووس؛ الناشر: دار الكتب الإسلامية؛ طهران؛ 1409 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

12- الأمالي (للطوسي)؛ محمد بن الحسن الطوسي؛ الناشر: دار الثقافة؛ قم المقدسة؛ 1414 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

13- الأمالي (للمفيد)؛ محمد بن محمد المفيد؛ المحقق والمصحح: أستاذ حسين ولي وعلي أكبر غفاري؛ الناشر: مؤتمر الشيخ المفيد؛ قم المقدسة؛ 1413 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

14- أمل الآمل؛ الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي؛ تحقيق السيد أحمد الحسيني؛ الناشر: مطبعة الآداب؛ النجف الأشرف.

15- أوثق الوسائل في شرح الرسائل (طبع قديم)؛ موسى بن جعفر التبريزي؛ الناشر: كتبي نجفي؛ قم المقدسة؛ 1369 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

16- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (ط. بيروت)؛ محمد باقر بن محمد تقي المجلسي؛ الناشر: دار إحياء التراث العربي؛ بيروت؛ 1403 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

17- بحوث في علم الأصول؛ السيد محمد باقر الصدر (تقريرات السيد محمود الهاشمي الشاهرودي)؛ الناشر: مؤسسة دائرة المعارف؛ قم المقدسة؛ 1417 ه-.ق؛ الطبعة الثالثة.

18- بحوث في علم الأصول؛ السيد محمد باقر الصدر (تقريرات حسن عبد الساتر)؛ الناشر: الدار الإسلامية؛ 1417 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

19- بدائع الأفكار في الأصول؛ ضياء الدين العراقي (تقريرات ميرزا هاشم الآملي)؛ الناشر: المطبعة العلمية؛ النجف الأشرف؛ 1370 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 514

20- بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد صلّى الله عليهم؛ محمد بن حسن الصفار؛ المحقق والمصحح: كوچه باغي، محسن بن عباس علي؛ الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي؛ قم المقدسة؛ 1404 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

21- بيان الأصول؛ صادق الحسيني الشيرازي؛ الناشر: دار الأنصار؛ قم المقدسة؛ 1427 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

22- تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام؛ السيد حسن الصدر؛ ط. بغداد؛ 1370 ه-.

23- تذكرة الفقهاء (ط. الحديثة)؛ حسن بن يوسف بن مطهر الأسدي (العلامة الحلّي)؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش مؤسسه آل البيت علیهم السلام ؛ الناشر: مؤسسة آل علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1414 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

24- تشريح الأصول؛ على بن فتح الله النهاوندي النجفي؛ الناشر: ميرزا محمدعلي تاجر طهراني؛ طهران؛ 1320 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

25- التعارض؛ محمد كاظم بن عبد العظيم اليزدي؛ الناشر: مؤسسة انتشارات مدين؛ قم المقدسة؛ 1426 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

26- تفسير القمي؛ علي بن إبراهيم القمي؛ المحقق والمصحح: طيّب الموسوي الجزائري؛ الناشر: دار الكتاب؛ قم المقدسة؛ 1404 ه-.ق؛ الطبعة الثالثة.

27- تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة؛ الشيخ محمد بن حسن الحر العاملي؛ المحقق والمصحح: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1409 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

28- تمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع قواعد الأحكام الشرعية؛ الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي؛ الطبعة الحجرية.

ص: 515

29- تمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع قواعد الأحكام الشرعية؛ زين الدين بن علي العاملي (الشهيد ثاني)؛ المحقق والمصحح: عباس تبريزيان- سيد جواد حسينى- عبد الحكيم ضياء- محمد رضا ذاكريان؛ الناشر: انتشارات دفتر تبليغات اسلامى حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1416 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

30- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (المعروف بمجموعه ورّام)؛ مسعود بن عيسى بن أبي فراس ورام ؛ الناشر: مكتبة الفقيه؛ قم المقدسة؛ 1410 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

31- تهذيب الأحكام (تحقيق الخرسان)؛ محمد بن الحسن الطوسي؛ المحقق والمصحح: حسن الموسوي الخرسان؛ الناشر: دار الكتب الإسلامية؛ طهران؛ 1407 ه-.ق؛ الطبعة الرابعة.

32- تهذيب الأصول؛ الإمام روح الله الخميني (تقريرات جعفر سبحاني)؛ الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار امام خميني (ره)؛ طهران؛ 1423 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

33- تهذيب الأصول؛ السيد عبد الأعلى السبزواري؛ الناشر: مؤسسة المنار؛ قم المقدسة؛ الطبعة الثانية.

34- التوحيد (للصدوق)؛ محمد بن علي ابن بابويه؛ المحقق والمصحح: هاشم الحسيني؛ الناشر: جماعة المدرسين؛ قم المقدسة؛ 1398 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

35- توحيد المفضل؛ المفضل بن عمر؛ المحقق والمصحح: كاظم المظفر؛ الناشر: داوري؛ قم المقدسة؛ الطبعة الثالثة.

ص: 516

36- جامع أحاديث الشيعة (للبروجردي)؛ آغا حسين البروجردي؛ المحقق والمصحح: جمع من المحققين؛ الناشر: منشورات فرهنگ سبز؛ طهران؛ 1428 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

37- جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري)؛ محمد سلطان الواعظين؛ الناشر: دار المعرفة؛ بيروت؛ 1412 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

38- الجامع الصحيح (وهو سنن الترمذي)؛ محمد بن عيسى الترمذي؛ التحقيق والشرح: أحمد محمد الشاكر؛ الناشر: دار الحديث؛ القاهرة؛ 1419ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

39- جامع المقاصد في شرح القواعد؛ علي بن حسين العاملي الكركي (المحقق الثاني)؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1414 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

40- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام؛ الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر)؛ المحقق والمصحح: عباس قوچانى- على آخوندى؛ بيروت؛ الطبعة السابعة.

41- حاشية السلطان على معالم الدين؛ حسين بن محمد (سلطان العلماء)؛ الناشر: كتابفروشي داورى؛ قم المقدسة؛ الطبعة الأولى.

42- حاشية المكاسب؛ السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي؛ الناشر: مؤسسه اسماعيليان؛ قم المقدسة؛ 1421 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

43- حاشية كتاب المكاسب (ط. القديمة)؛ محمد حسين الكمپاني الإصفهاني؛ المحقق والمصحح: عباس محمد آل سباع القطيفي؛ الناشر: ذوي القربى؛ قم المقدسة؛ 1419 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 517

44- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة؛ يوسف بن احمد بن ابراهيم آل عصفور البحرانى؛ المحقق والمصحح: محمد تقي الأيرواني- السيد عبد الرزاق مقرم؛ الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1405 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

45- حكمة الإشراق (مجموعة مصنّفات شيخ الاشراق)؛ شهاب الدين يحيى السهرورديّ؛ الناشر: مؤسّسة العلوم الإنسانيّة والمطالعات الثقافيّة؛ 1380 ه-.ش؛ الطبعة الثالثة.

46- الخصال؛ محمد بن علي ابن بابويه؛ المحقق والمصحح: علي أكبر غفاري؛ الناشر: جماعة المدرسين؛ قم المقدسة؛ 1403 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

47- دراسات في علم الأصول؛ السيد أبو القاسم الخوئي؛ تقريرات علي هاشمي شاهرودي؛ الناشر: مؤسسة دائرة المعارف (فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت علیهم السلام )؛ قم المقدسة؛ 1419 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

48- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد؛ محمد كاظم بن حسين الآخوند الخراساني؛ الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي؛ طهران؛ 1410 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

49- الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية؛ يوسف بن أحمد بن ابراهيم آل عصفور البحراني؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش دار المصطفى لإحياء التراث؛ الناشر: دار المصطفى لإحياء التراث؛ بيروت؛ 1423 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 518

50- دروس في علم الأصول (طبع انتشارات اسلامى)؛ السيد ، محمد باقر الصدر؛ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي؛ قم المقدسة؛ 1418 ه-.ق؛ الطبعة الخامسة.

51- الرأي السديد في الإجتهاد والتقليد والإحتياط والقضاء؛ السيد أبو القاسم الخوئي (تقريرات غلامرضا عرفانيان يزدى)؛ الناشر: المطبعة العلمية؛ قم المقدسة؛ 1411 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

52- رجال الكشي- اختيار معرفة الرجال؛ محمد بن عمر الكشي؛ المحقق والمصحح: محمد بن الحسن الطوسي، حسن المصطفوي؛ الناشر: منشورات جامعة مشهد؛ مشهد؛ 1409 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

53- رجال النجاشي؛ أحمد بن على النجاشي؛ المحقق: موسى شبيرى زنجانى؛ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم المقدسة، 1365 ه-. ش؛ الطبعة السادسة.

54- رسالة الطوفي (ملحقة بكتاب «مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه»)؛ عبد الوهاب خلّاف.

55- رسالة في استصحاب العدم الأزلي؛ ضياء الدين العراقي؛ الناشر: جامعه مدرسين حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1414 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

56- رسالة في منجزات المريض؛ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري الدزفولي؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش در كنگره؛ الناشر: كنگره جهانى بزرگداشت شيخ اعظم انصارى؛ قم المقدسة؛ 1415 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

57- رسائل الشريف المرتضى؛ على بن حسين علم الهدى؛ الناشر: دار القرآن الكريم؛ قم المقدسة؛ 1405 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 519

58- زاد المعاد (مفتاح الجنان)؛ محمد باقر بن محمد تقي المجلسي؛ المحقق والمصحح: علاء الدين الأعلمي؛ الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات؛ 1423 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

59- زبدة الأصول؛ الشيخ محمد بن حسين البهائي؛ الناشر: شريعت؛ قم المقدسة؛ 1383 ه-.ش؛ الطبعة الأولى.

60- زبدة البيان في أحكام القرآن؛ أحمد بن محمد الأردبيلي؛ المحقق والمصحح: محمد باقر البهبودي؛ الناشر: المكتبة الجعفرية لإحياء الآثار الجعفرية؛ طهران؛ الطبعة الأولى.

61- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى؛ محمد بن منصور بن أحمد (إبن إدريس حلّي)؛ الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1410 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

62- سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار؛ الشيخ عباس القمي؛ الناشر: الأسوة؛ قم المقدسة؛ 1414 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

63- شرح ابن عقيل؛ بهاء الدين عبد اللّه بن عقيل العقيلي؛مطبعة سيّد الشهداء علیه السلام ؛ قم المقدسة، 1379 ه-.ش.

64- شرح الكافية؛ رضي الدين محمد بن الحسن الاسترآبادي؛ الناشر: دار الكتب العلميّة؛ بيروت؛ 1399 ه-.ق.

65- شرح المطالع؛ قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي البويهي؛ الطبعة الحجريّة؛ قم المقدسة؛ انتشارات كتبي نجفي.

66- شرح المنظومة؛ المولى هادي بن مهدي السبزواري؛ الناشر: مكتبة العلّامة؛ قم المقدسة؛ 1369 ه-.ش؛ الطبعة السادسة.

ص: 520

67- شرح مختصر الأصول؛ أصله لابن الحاجب وشرحه لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي؛ مطبعة العالم؛ 1307 ه-.ق.

68- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد؛ عبد الحميد بن هبة الله ابن أبي الحديد؛ المحقق والمصحح: محمد أبو الفضل إبراهيم؛ الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي؛ قم المقدسة؛ 1404 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

69- الشفاء (المنطق)؛ الشيخ الرئيس أبو عليّ حسين بن عبد اللَّه بن سينا؛ الناشر: مكتبة آية اللَّه المرعشي؛ قم المقدسة؛ 1405 ه-.ق.

70- العُدة في أصول الفقه؛ محمد بن حسن الطوسي؛ الناشر: محمد تقي علاقبنديان؛ قم المقدسة؛ 1417 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

71- عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية؛ محمد بن زين الدين ابن أبي جمهور؛ المحقق والمصحح: مجتبى العراقي؛ الناشر: دار سيد الشهداء للنشر؛ 1405 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

72- عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام ومهمات مسائل الحلال والحرام؛ المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي؛ الناشر: انتشارات دفتر تبليغات اسلامى حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1417 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

73- عيون أخبار الرضا علیه السلام ؛ محمد بن علي ابن بابويه؛ المحقق والمصحح: مهدي اللاجوردي؛ الناشر: نشر جهان؛ طهران؛ 1420 ه-.ق؛ الطبعة الأولى

74- عيون الحكم والمواعظ(لليثي)؛ علي بن محمد الليثي الواسطي؛ المحقق والمصحح: حسين الحسني البيرجندي؛ الناشر: دار الحديث؛ قم المقدسة؛ 1418 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 521

75- غاية المأمول؛ السيد أبو القاسم الخوئي (تقريرات محمد تقي الجواهري)؛ الناشر: مجمع الفكر الإسلامي؛ قم المقدسة؛ 1428 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

76- الفائق في غريب الحديث؛ محمود بن عمر الزمخشري؛ المحقق والمصحح: إبراهيم شمس الدين؛ الناشر: دار الكتب العلمية؛ بيروت؛ 1417 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

77- فرائد الأصول (مع حواشي أوثق الوسائل)؛ موسى بن جعفر التبريزي؛ الناشر: سماء قلم؛ قم المقدسة؛ 1388 ه-.ش؛ الطبعة الثانية.

78- فرائد الاُصول؛ مرتضى بن محمدأمين الأنصاري؛ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعه المدرسين بقم؛ قم المقدسة؛ 1416 ه-.ق؛ الطبعة الخامسة.

79- الفصول الغروية في الأصول الفقهية؛ محمدحسين بن عبد الرحيم الحائري الإصفهاني؛ الناشر: دار إحياء العلوم الإسلامية؛ قم المقدسة؛ 1404 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

80- الفصول المختارة؛ محمد بن محمد المفيد؛ المحقق والمصحح: علي مير شريفي؛ الناشر: مؤتمر الشيخ المفيد؛ قم المقدسة؛ 1413 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

81- الفصول المهمة في أصول الأئمة (تكملة الوسائل)؛ الشيخ محمد بن حسن الحر العاملي؛ المحقق والمصحح: محمد بن محمد الحسين القائيني؛ الناشر: مؤسسة الإمام الرضا علیه السلام للمعارف الإسلامية؛ قم المقدسة؛ 1418 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 522

82- فقه الشيعة- الإجتهاد والتقليد؛ السيد أبو القاسم الخوئي؛ المقرر: سيد محمد مهدي الموسوي الخلخالي؛ الناشر: چاپخانه نو ظهور؛ قم المقدسة؛ 1411 ه-.ق؛ الطبعة الثالثة.

83- الفهرست ( ابن نديم)؛ محمد بن إسحاق ابن نديم؛ الناشر: دار المعرفة؛ بيروت؛ الطبعة الأولى.

84- فوائد الاُصول؛ محمد حسين النائيني (تقريرات محمد علي كاظمي خراساني)؛ الناشر: جامعه مدرسين حوزه علميه قم المقدسة؛ 1376 ه-.ش؛ الطبعة الأولى.

85- الفوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية (طبع قديم)؛ رضا بن محمد هادي الهمداني؛ الناشر: كتاب فروشي جعفري تبريزي؛ طهران؛ الطبعة الأولى.

86- الفوائد المدنيّة؛ الأمين الاسترابادي؛ الناشر: دار النشر لأهل البيت علیهم السلام .

87- قاعدة لا ضرر؛ فتح اللّٰه بن محمد جواد نمازي الإصفهاني (شيخ الشريعة)؛ المحقق والمصحح: يحيى أبو طالبي العراقي؛ الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1410 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

88- قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام؛ حسن بن يوسف بن مطهر الأسدي (العلامة الحلّي)؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش دفتر انتشارات اسلامى؛ الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1413 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 523

89- القواعد الفقهية؛ سيد حسن بن آقا بزرگ الموسوي البجنوردي؛ المحقق والمصحح: مهدى مهريزى- محمد حسن درايتى؛ الناشر: نشر الهادي؛ قم المقدسة؛ 1419 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

90- القواعد والفوائد في الفقه والاُصول والعربية؛ محمد بن مكي العاملي (الشهيد الأول)؛ الناشر: كتاب فروشي مفيد؛ قم المقدسة؛ الطبعة الأولى.

91- القوانين المحكمة في الأصول (طبع جديد)؛ أبو القاسم بن محمد حسن (الميرزا القمي)؛ الناشر: إحياء الكتب الإسلامية؛ قم المقدسة؛ 1430 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

92- الكافي (ط. الإسلامية)؛ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني؛ المحقق والمصحح: علي أكبر غفاري ومحمد الآخوندي؛ الناشر: دار الكتب الإسلامية؛ طهران؛ 1407 ه-.ق؛ الطبعة الرابعة.

93- كامل الزيارات؛ جعفر بن محمد ابن قولويه؛ المحقق والمصحح: عبد الحسين الأميني؛ الناشر: دار المرتضوية؛ النجف الأشرف؛ 1397 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

94- كتاب الطهارة؛ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري الدزفولي؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش در كنگره؛ الناشر: كنگره جهانى بزرگداشت شيخ اعظم انصارى؛ قم المقدسة؛ 1415 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

95- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل؛ محمود بن عمر الزمخشري؛ المصحح: مصطفى حسين أحمد؛ الناشر: دار الكتاب العربي؛ بيروت؛ 1407 ه-.ق؛ الطبعة الثالثة.

ص: 524

96- كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء (ط. القديمة)؛ الشيخ جعفر بن خضر المالكي النجفي (كاشف الغطاء)؛ الناشر: انتشارات مهدوى؛ إصفهان؛ الطبعة الأولى.

97- كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع؛ أسدا لله بن اسماعيل الكاظمي؛ الناشر: احمد الشيرازي؛ طهران؛ الطبعة الأولى.

98- كفاية الأصول (با حواشى مشكينى)؛ أبو الحسن المشكيني الأردبيلي؛ الناشر: لقمان؛ قم المقدسة؛ 1413 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

99- كفاية الأصول (طبع آل البيت)؛ محمد كاظم بن حسين الآخوند الخراساني، الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1409 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

100- مباحث الدليل اللفظي؛ تقريرات لأبحاث السيد الصدر للسيد محمود الهاشمي؛ الناشر: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي؛ 1405 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

101- مباني الإستنباط (تقريراً لأبحاث آية اللَّه العظمى السيد الخوئيّ قدس سره )؛ الحاجّ السيّد أبي القاسم الباغميشهيّ؛ الناشر: مطبعة النجف.

102- المحاسن؛ أحمد بن محمد بن خالد البرقي؛ المحقق والمصحح: المحدث جلال الدين؛ الناشر: دار الكتب الإسلامية؛ قم المقدسة؛ 1371 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

103- محاضرات في أصول الفقه؛ السيد أبو القاسم الخوئي؛ الناشر: دار الهادي للمطبوعات؛ قم المقدسة؛ 1417 ه-.ق؛ الطبعة الرابعة.

ص: 525

104- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام؛ الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش مؤسسه معارف اسلامى؛ الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية؛ قم المقدسة؛ 1413 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

105- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل؛ حسين بن محمد تقي النوري؛ المحقق والمصحح: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1408 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

106- مستمسك العروة الوثقى؛ السيد محسن الطباطبائي الحكيم الناشر: مؤسسة دار التفسير؛ قم المقدسة؛ 1416 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

107- مستند الشيعة في أحكام الشريعة؛ المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي؛ الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ المحقق والمصحح: گروه پژوهش مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1415 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

108- مسند الإمام أحمد بن حنبل؛ أحمد بن محمد ابن حنبل؛ المحققين: عامر الغضبان، إبراهيم الريبق, محمد نعيم العرقسوسي, شعيب الأرنؤوط, سعيد محمد لحام، عادل مرشد, محمد رضوان العرقسوسي, إبراهيم الزيبق، جمال عبداللطيف، أحمد برهوم، كامل الخراط، هيثم عبد الغفور، عبد اللطيف حرز الله، محمد أنس خن، عبد الله بن عبد المحسن التركي، محمد بركات؛ الناشر: مؤسسة الرسالة؛ بيروت؛ 1416 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

109- مشارق الأحكام؛ محمد بن أحمد بن محمد مهدي النراقي؛ الناشر: كنگره بزرگداشت ملامهدي نراقي وملا احمد نراقي؛ قم المقدسة؛ 1422 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

ص: 526

110- مصباح الأصول (طبع مؤسسة إحياء آثار السيد الخوئي)؛ السيد أبو القاسم الخوئي (تقريرات محمد سرور واعظ الحسيني البهسودي)؛ الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي؛ قم المقدسة؛ 1422 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

111- مصباح الفقيه؛ آقا رضا بن محمد هادي همداني؛ المحقق والمصحح: محمد باقرى- نورعلى نورى- محمد ميرزائى- سيد نور الدين جعفريان؛ الناشر: مؤسسة الجعفرية لإحياء التراث ومؤسسة النشر الإسلامي؛ قم المقدسة؛ 1416 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

112- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي؛ أحمد بن محمد الفيومي؛ الناشر: مؤسسة دار الهجرة؛ قم المقدسة؛ 1414 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

113- مطارح الأنظار(طبع قديم)؛ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري (تقريرات أبو القاسم كلانتري)؛ الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ؛ قم المقدسة؛ 1404 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

114- معالم الدين وملاذ المجتهدين؛ حسن بن زين الدين ابن الشهيد الثاني؛ الناشر: دفتر انتشارات اسلامي( وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم)؛ قم المقدسة؛ الطبعة التاسعة.

115- معالم العلماء في فهرست كتب الشيعة وأسماء المصنفين منهم قديماً وحديثاً (تتمة كتاب الفهرست للشيخ أبي جعفر الطوسي)؛ محمد بن علي ابن شهر آشوب؛ الناشر: المطبعة الحيدرية؛ النجف الأشرف؛ 1380 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 527

116- المعتبر في شرح المختصر؛ جعفر بن حسن نجم الدين (المحقق الحلّي)؛ المحقق والمصحح: محمد علي حيدري- السيد مهدي شمس الدين- السيد أبو محمد مرتضوي- السيد علي الموسوي؛ الناشر: مؤسسة سيد الشهداء علیه السلام ؛ قم المقدسة؛ 1407 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

117- مقالات الأصول؛ ضياء الدين العراقي؛ الناشر: مجمع الفكر الإسلامي؛ قم المقدسة؛ 1420 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

118- من لا يحضره الفقيه؛ محمد بن علي ابن بابويه؛ المحقق والمصحح: علي أكبر غفاري؛ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم؛ قم المقدسة؛ 1413 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

119- مناهج الأحكام في مسائل الحلال والحرام؛ القاسم بن محمد حسن الگيلاني (الميرزا القمّي)؛ الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم؛ قم المقدسة؛ 1420 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

120- منتقى الأصول؛ محمد روحانى؛ تقريرات عبد الصاحب حكيم؛ الناشر: دفتر آيت الله سيد محمد حسيني روحاني؛ قم المقدسة؛ 1413 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

121- منتهى الأصول (طبع قديم)؛ حسن البجنوردي؛ الناشر: كتابفروشي بصيرتى؛ قم المقدسة؛ الطبعة الثانية.

122- منهاج الأصول؛ ضياء الدين العراقي؛ تقريرات محمد ابراهيم الكرباسي؛ الناشر: دار البلاغة؛ بيروت؛ 1411 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

ص: 528

123- منية الطالب في حاشية المكاسب؛ الميرزا محمد حسين الغروي النائيني؛ الناشر: المكتبة المحمدية؛ طهران؛ 1373 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

124- مهج الدعوات ومنهج العبادات؛ السيد علي بن موسى ابن طاووس؛ المحقق والمصحح: محمد حسن الكرماني، والمحرر أبو طالب؛ الناشر: دار الذخائر؛ قم المقدسة؛ 1411 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

125- نهاية الأصول؛ حسين البروجردي (تقريرات حسين علي منتظري)؛ الناشر: نشر تفكر؛ طهران؛ 1415 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

126- نهاية الأفكار؛ ضياء الدين العراقي (تقريرات محمد تقي البروجردي النجفي)؛ الناشر: دفتر انتشارات اسلامي( وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم)؛ قم المقدسة؛ 1417 ه-.ق؛ الطبعة الثالثة.

127- نهاية الدراية في شرح الكفاية (طبع قديم)؛ محمد حسين الإصفهاني؛ الناشر: سيد الشهداء؛ قم المقدسة؛ 1374 ه-.ق؛ الطبعة الأولى.

128- نهاية الدراية في شرح الكفاية؛ محمد حسين الإصفهاني؛ الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث؛ بيروت؛ 1429 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

129- النهاية في غريب الحديث والأثر؛ مبارك بن محمد ابن أثير الجزري؛ المحقق والمصحح: محمود محمد الطناحي؛ الناشر: مؤسسة إسماعيليان للمطبوعات؛ قم المقدسة؛ 1409 ه-.ق؛ الطبعة الرابعة.

130- نهج الحقّ وكشف الصدق؛ الحسن بن يوسف الحلي (العلامة الحلّي)؛ الناشر: دار الكتاب اللبناني؛ بيروت؛ 1982 م؛ الطبعة الأولى.

ص: 529

131- نهج الفصاحة (الكلمات القصار للنبي صلى الله عليه وآله)؛ أبو القاسم پاينده؛ الناشر: دنياى دانش؛ طهران؛ 1424 ه-.ق؛ الطبعة الرابعة.

132- الهداية الكبرى؛ حسين بن حمدان الخصيبي؛ الناشر: البلاغ؛ بيروت؛ 1419 ه-.ق.

133- هداية المسترشدين ( طبع جديد)؛ محمد تقى بن عبد الرحيم اصفهانى نجفى (ايوان كيفي)؛ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي؛ قم المقدسة؛ 1429 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

134- الهداية إلى غوامض الكفاية؛ محمد حسين مير سجادي؛ الناشر: محلاتي؛ طهران؛ 1379 ه-.ش؛ الطبعة الأولى.

135- الوافية في أصول الفقه؛ عبد الله بن محمد توني؛ الناشر: مجمع الفكر الإسلامي؛ قم المقدسة؛ 1415 ه-.ق؛ الطبعة الثانية.

ص: 530

الفهرست

خاتمة في النسبة بين الأمارات والأصول ونسبة الأصول بعضها مع بعض ....... 7

تمهيد .......................................................................... 7

المقام الأول: تقدم الأمارات على الأصول ...................................... 11

أمور ختامية ................................................................... 20

المقام الثاني: تقديم الأصول بعضها على بعض .................................. 22

تمهيد .......................................................................... 22

المورد الأول: في الأصلين المتوافقين أو المتنافيين ذاتاً ............................ 23

الموردالثاني: ما يتعلق بالأصلين العرضيين المتنافيين ............................ 26

المورد الثالث: التعارض بالعرض بين الأصول العملية ......................... 32

المورد الرابع: التعارض بين الأصلين في مرحلة الإمتثال ........................ 57

قواعد فقهية ................................................................... 36

قاعدة التجاوز والفراغ ........................................................ 41

المبحث الأول: في كون القاعدة من المسائل الأصولية أو القواعد الفقهية ........ 41

المبحث الثاني: في كون هذه القاعدة من الأمارات الحاكمة على الأصول مطلقاً ........ 41

المبحث الثالث: في أنهما قاعدتان أو قاعدة واحدة ............................... 44

المبحث الرابع : في ذكر الأخبار الواردة في الباب ............................... 54

المبحث الخامس: في معنى التجاوز والفراغ ..................................... 57

ص: 531

المبحث السادس: في اعتبار الدخول في الغير ................................... 62

المبحث السادس: في اعتبار الدخول في الغير ................................... 62

الجهة الأولى: في اعتبار الدخول في الغير من قاعدة الفراغ ....................... 62

الجهة الثانية: في اعتبار الدخول في الغير من قاعدة التجاوز ..................... 66

الجهة الثالثة: في المراد من الغير ................................................. 68

المبحث السابع: في السكوت بعد الفراغ أو في الأثناء ............................ 74

المبحث الثامن: في جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، بل في الطهارات الثلاث .. 81

المبحث التاسع: إعتبار إحراز أصل التكليف في الجملة في جريان القاعدتين ..... 84

المبحث العاشر: في أنّ المضي وعدم الإعتناء بالشك في القاعدتين على نحو العزيمة ..... 88

المبحث الحادي عشر: في البناء على كونهما من صغريات أصالة عدم السهو والغفلة والنسيان ..90

قاعدة أصالة الصحة .......................................................... 91

الجهة الأولى: في بيان الدليل عليها ............................................. 91

الجهة الثانية: لا وجه للبحث في أنها أمارة أو قاعدة أو أصل .................... 94

الجهة الثالثة: في المراد من الصحة .............................................. 97

الجهة الرابعة: يشترط في جران أصالة الصحة إحراز عنوان العمل .............. 100

الجهة الخامسة: لا فرق في مجرى هذه القاعدة بين كونها من العبادات أو غيرها مطلقاً .. 102

الجهة السادسة: لا يشترط في مجري هذه القاعدة البلوغ ......................... 112

الجهة السابعة: في أنّ مجرى قاعدة الصحة هو الشك في الغير .................... 114

الجهة الثامنة: في حاكمية القاعدة ............................................... 115

الجهةالثامنة: في حاكمية القاعدة ............................................... 115

قاعدة اليد .................................................................... 117

الأمر الأول: في المراد باليد في هذه القاعدة ..................................... 117

ص: 532

الأمر الثاني: في الدليل على اعتبارها ............................................ 119

الأمر الثالث: في تقدم اليد على الإستصحاب ................................... 124

الأمر الرابع: في سعة وضيق القاعدة ........................................... 125

قاعدة القرعة .................................................................. 135

الجهة الأولى: في الدليل على اعتبارها ........................................... 135

الجهة الثانية: في بيان مقدار دلالة النصوص على هذه القاعدة ................... 141

الجهة الثالثة: في شروط جريان القاعدة ......................................... 144

الجهة الرابعة: في أنّ القرعة أمارة أو أصل ...................................... 145

الجهة الخامسة: في أنّ المجهول ظاهري أم واقعي ............................... 148

الجهة السادسة: في أنّ القرعة رخصة أم عزيمة ................................. 153

ختام فيه أمران ................................................................ 157

كلام في الإستخارة ............................................................ 159

تنبيهان ........................................................................ 172

المقصد الخامس: تعارض الأدلة الشرعية ....................................... 177

تمهيد فيه أمور ................................................................. 178

التعارض ..................................................................... 181

المبحث الأول: معنى التعارض ................................................ 181

أنواع تنافي الدليلين ............................................................ 190

شروط تحقق التعارض ........................................................ 190

مناقشة ما ذكره الأصوليون في المقام ........................................... 194

ص: 533

المبحث الثاني: أسباب التعارض ومنشؤه ....................................... 199

المبحث الثالث: أقسام التعارض ............................................... 209

القسم الأول: التعارض غير المستقر ............................................ 209

الأمر الأول: أنه لا تكاذب فيه بين الدليلين ..................................... 209

الأمر الثاني: في نظرية الورود .................................................. 211

أحكام الورود ................................................................. 215

التزاحم ....................................................................... 217

المقام الأول: دخول التزاحم في الورود ......................................... 217

حكم المتزاحمين ................................................................ 222

المقام الثاني: مرجحات باب التزاحم ........................................... 223

المرجح الأول: تريح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية .... 223

المرجح الثاني: ترجيح المضيق .................................................. 232

المرجح الثالث: ترجيح الأسبق زماناً ........................................... 232

المرجح الرابع: ترجيح الواجب المعين على الواجب المخيّر ...................... 234

المرجح الخامس: ترجيح ما ليس له بدل على ما له بدل .......................... 234

المرجح السادس: الترجيح بالأهمية ............................................ 236

الجهة الأولى: في الفروض المتصورة ............................................ 236

الجهة الثانية: طرق إثبات الأهمية .............................................. 240

الجهة الثالثة: في سريان الترجيح بالأهمية إلى المشروطين بالقدرة الشرعية ........ 242

حكم التزاحم في حالة عدم الترجيح ........................................... 245

ص: 534

تنبيهات باب التزاحم ......................................................... 247

الموارد الخارجة عن باب التزاحم .............................................. 250

التزاحم بين المستحبات ........................................................ 276

القرينة ........................................................................ 278

الأمر الأول: الحكومة ......................................................... 278

الأمر الثاني: التقييد ............................................................ 285

الأمر الثالث: النص والظاهر والأظهر ......................................... 298

ختام فيه أمران ................................................................ 301

الشروط العامة للتعارض غير المستقر .......................................... 303

ثمرات الجمع العرفي ونتائجه .................................................. 308

القسم الثاني: التعارض المستقر ................................................ 311

تمهيد .......................................................................... 311

الأمر الأول: في كيفية تحصيل الأدلة الشرعية ................................... 313

الأمر الثاني: في استيعاب التعارض لمدلول الدليلين ............................. 319

البحث الأول: في تنقيح الموضوع .............................................. 321

البحث الثاني: البحث عن أحكام التعارض .................................... 326

الجهة الأولى: مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين الدليلين ................... 329

الجهة الأولى: مقتضى الأصل الأولي في التعارض بين الدليلين ................... 329

أقسام التنافي العرضي .......................................................... 333

الأمر الثالث: في إمكان نفي الحكم المخالف .................................... 343

الأمر الرابع: في التعارض بين أكثر من دليلين .................................. 349

ص: 535

الجهة الثانية: مقتضى الأصل الثانوي ........................................... 352

ختام في موارد اشتباه التعارض المستقر وغير المستقر ............................ 360

المورد الأول: تعارض الدلالة الوضعية كالعموم مع دلالة حكمية كالإطلاق ... 360

المورد الثاني: تعارض الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي ....................... 365

المورد الثالث: موارد انقلاب النسبة ............................................ 367

المورد الرابع: موارد النسبة من العموم من وجه ................................ 380

موارد أخرى في موارد متفرقة وعديدة ......................................... 381

المبحث الرابع: حكم المتعارضين من جهة الأخبار الخاصة ...................... 391

القسم الأول: أخبار الطرح .................................................... 391

الطائفة الأولى: ما ورد بلسان استنكار صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين علیهم السلام .... 391

الطائفة الثانية: ما يدل على إناطة العمل بالرواية ................................ 396

الطائفة الثالثة: ما يكون مفاده نفي حجية ما يخالف الكتاب الكريم أو السنة القطعية .. 401

القسم الثاني: أخبار العلاج .................................................... 414

الطائفة الأولى: أخبار التخيير .................................................. 415

الطائفة الثانية: أخبار الترجيح ................................................. 423

تمهيد .......................................................................... 423

الصنف الأول: الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ........................ 424

الصنف الثاني: أخبار الترجيح بالشهرة ......................................... 435

الصنف الثالث: أخبار الترجيح بالأحدث ..................................... 435

ختام .......................................................................... 442

ص: 536

الصنف الرابع: الترجيح بالصفات ............................................. 443

أمور ختامية ................................................................... 459

الطائفة الثالثة: أخبار التوقف والإرجاء ........................................ 465

الصنف الأول: ما ورد بلسان الأمر بالردّ إلى الأئمة علیهم السلام ......................... 465

الصنف الثاني: جملة من الأخبار التي وردت بلسان الأمر بالوقوف عند الشبهة .. 467

خاتمة؛ وفيها تنبيهات .......................................................... 469

التنبيه الأول: التعدّي في المزايا المنصوصة ....................................... 469

التنبيه الثاني: في بيان حكم المتعارضين بعد التكافؤ .............................. 477

التنبيه الثالث: في شمول أخبار العلاج لموارد الجمع العرفي ...................... 483

التنبيه الرابع: في شمول أخبار العلاج لموارد التعارض بالعموم من وجه ........484

التنبيه الخامس: تقدّم الترجيح بالمرجّحات السندية على المرجّح الجهتي .......... 488

التنبيه السادس: تعارض أخبار الطرح وأخبار العلاج .......................... 492

التنبيه السابع: في تخريج الترجيحات ........................................... 493

التنبيه الثامن: موارد تحصيل الوثوق بالصدور .................................. 495

أسس وقواعد علم الرجال .................................................... 497

المصادر والمراجع .............................................................. 513

الفهرست ..................................................................... 531

ص: 537

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.